الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي

حسين عطوان

مقدمة

مقدمة: اهتم المستشرقون بتاريخ خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي اهتماما كبيرا، فقد درس المستشرق الهولندي فان فلوتن في كتابه: "السيادة العربية" بيئة خراسان دراسة سياسية واجتماعية واقتصادية. وتحدث المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن في كتابه: "تاريخ الدولة العربية" عن القبائل العربية بخراسان حديثا مفصلا. وكتب الدكتور صالح العلي مقالة طويلة عن "استيطان العرب في خراسان". وليس يعنيني أن أحصر الدراسات والمقالات التي أفردها المستشرقون أو العرب المحدثون لدراسة تاريخ العرب بخراسان، أو للبحث عن تاريخ الدعوة العباسية في هذه الحقبة، فإنها أكثر من أن تحصى، وإنما الذي يعنيني هو أن دراساتهم ومقالاتهم لم يكن لها أثر قوي عند دارسي الأدب العربي. ولعل الدكتور شوقي ضيف هو أول من لفت الأنظار إلى بيئة خراسان وقيمتها في تاريخ الشعر العربي، فقد خصص لها فصلا في كتابه: "العصر الإسلامي": ولكن تنبيهه لم يدفع المشتغلين بالأدب إلى دراسة الشعر العربي بخراسان في هذا العصر دراسة علمية مستفيضة. وفي أثناء مراجعتي لكتاب: "معجم الشعراء" عثرت على طائفة من الشعراء وصفهم المرزباني بأنهم من شعراء خراسان. فأخذت أبحث عن أخبارهم وأشعارهم فيما تيسر لي من المصادر، فلما قرأت "تاريخ الرسل والملوك" للطبري وجدت فيه مادة

غزيرة من تاريخ العرب، ومن شعر شعرائهم بخراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي. ولكنني ظللت مترددا في تتبع الموضوع تتبعا وافيا، حتى عرضته على أخي الكبير الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري، فشجعني على المضي فيه، وزودني بكثير من الملاحظات المهمة، فمضيت أجمع كل ما أقع عليه من أخبار العرب وأشعارهم بخراسان في هذه الحقبة، حتى إذا أحسست أنني ظفرت بأكثر المواد من المصادر والمظان المتاحة، عكفت على النظر فيما جمعته منها، وعلى تبويبه ودراسته، وانتهيت إلى توزيعه بين ثلاثة فصول، جعلت أولها للجغرافية التاريخية، وثانيها لموضوعات الشعر وخصائصه، وثالثها لشعراء القبائل بخراسان. أما مصادر البحث ومراجعه فكثيرة متنوعة، فمنها الكتب الجغرافية، وأنفعها كتاب: "المسالك والممالك" للإصطخري، فإن فيه أدق المعلومات وأوفاها عن خراسان، وكتاب: "بلدان الخلافة الشرقية" للمستشرق الإنجليزي لي سترانج، فقد أفدت منه فوائد كثيرة في تحديد مواقع المدن والقرى. ومنها الكتب التاريخية: وأهمها كتاب: "الرسل والملوك" للطبري، فإنه أشمل مصدر لتاريخ العرب وشعرهم بخراسان. ومنها الكتب الأدبية، وأشهرها كتاب: "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، فإن فيه تراجم وافية لأكثر الشعراء الذين ترجمت لهم، وكتاب: "نقائض جرير والفرزدق" لأبي عبيدة ومعمر بن المثنى، وكتاب: "معجم الشعراء" للمرزباني، فإنهما يحتويان على أشعار لم تذكر في المصادر الأخرى، وهي أشعار لها قيمة كبيرة، لأنها تكشف عن بعض مواقف القبائل من الأحداث الداخلية. وأما الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري فهو صاحب الفضل الأول في ظهور هذا البحث، فهو الذي حثني على التوفر عليه، والعمل فيه، وهو الذي أمدني بفيض من ملاحظاته، وهو الذي تكرم بقراءة كل فصل كنت أكتبه قراءة متأنية متعمقة، وهو الذي جنبني بعض الهفوات والأوهام، وصحح بعض الآراء والأحكام، حتى خرج البحث على هذه الصورة. ومهما أعترف بفضله، وأقدر جميله، فأنا عاجز عن أن أوفيه حقه من الشكر والتقدير.

وأرجو أن أكون وضحت في هذا الكتاب شخصية خراسان الأدبية من الفتح إلى نهاية العصر الأموي، كما أرجو أن يكون فيه ما ينفع الباحثين المهتمين بالتاريخ والأدب. فإن قصرت أو أخطأت فعذري أنني اجتهدت، وأنني بذلت ما استطعت، فقد نحوت في دراسة الشعر والتاريخ نحوا يقوم على المزاوجة بينهما، بل على دراسة الشعر من خلال التاريخ، ودراسة التاريخ من خلال الشعر، دون تمحل أو تأول للتوفيق بينهما فهما يتواصلان في هذا الكتاب تواصلا دقيقا، ويتكاملان فيه تكاملا وثيقا. عمان في 15/ 1/ 1989 حسين عطوان

الفصل الأول: الجغرافية التاريخية

الفصل الأول: الجغرافية التاريخية "وصف خراسان": تتألف خراسان في اللغة الفارسية من كلمتين: "خر" ومعناها الشمس، و"آسان" ومعناها المشرقة، فهي بلاد الشمس المشرقة التي تشمل مساحة واسعة تقع إلى الشرق من بلاد فارس وتترامى إلى نهرجيحون، وهي مقسومة في الوقت الحاضر بين ثلاث دول هي الاتحاد السوفييتي، وأفغانستان، وإيران. أما ما أضيف منها إلى الاتحاد السوفييتي فيشمل المنطقة الممتدة من مرو الشاهجان إلى نهرج جيحون. وأما ما ضم منها إلى أفغانستان فهو الرقعة الواقعة إلى الشرق من خط يبدأ من سرخس في الشمال. ويمتد إلى الجنوب مارا بمنتصف المسافة بين طوس وهراة. وأما سائرها فتابع لإيران1. والقدماء مختلفون في حدودها بعض الاختلاف، إذ منهم من يدخل فيها قومس وقوهستان من جهة الجنوب الغربي، وخوارزم وما وراء النهر وطخارستان من جهة الشمال والشرق2، غير أن منهم من يفصل كل تلك المناطق عنها3. ولا سبيل إلى تعيين حدودها تعيينا دقيقا، وإن كان القدماء قد عينوها حسب مقاييسهم الجغرافية، وتحديدهم للجهات الأربع4.

_ 1 دائرة المعارف الإسلامية 8: 282، وبلدان الخلافة الشرقية للي سترنج ص: 423. 2 كتاب البلدان لابن الفقيه ص: 321، وسنشير إليه بابن الفقيه. 3 معجم البلدان لياقوت 2: 409، وسنشير إليه بياقوت. 4 المسالك والممالك للإصطخري ص: 145، وسنشير إليه بالإصطخري، وصورة الأرض، لابن حوقل ص: 358، وسنشير إليه بابن حوقل.

ولا تعني مسئولية عمال خراسان عن إدارة بعض المناطق التي أضافها القدماء إليها أنها كانت جزءا منها بالضرورة، كما أن بلاد ما وراء النهر لم تخضع للعرب خضوعا تاما في العصر الأموي، وإنما كانت موطن شغب دائم عليهم، على كثرة ما غزوها وفتحوها وعقدوا المعاهدات مع أهلها. بل إن الأتراك كانوا يجتاحون نهر جيحون ويهاجمون العرب بخراسان مرارا. وتقسم خراسان عند الجغرافيين العرب إلى أربعة أرباع، كان عمال خراسان يشرفون عليها، وهي نيسابور، ومرو الشاهجان، وهراة، وبلخ. أما الربع الأول منها فيشمل قسمها الغربي، وأكبر مدينة فيه نيسابور، التي تعرف حينا بأبرشهر، وحينا آخر بإيرانشهر. وهي بأرض سهلية، وأبنيتها من طين تنبسط في مساحة مقدارها فرسخ في فرسخ1. ولها قهندز وربض، أي قلعة وضاحية. أما القلعة فخارج المدنية، وأما الضاحية فتحف بالمدينة والقعلة. وكان للمدينة أربعة أبواب، وللقلعة بابان، وللضاحية أربعة أبواب، باب منها يؤدي إلى العراق وجرجان، وباب يؤدي إلى بلخ وما وراء النهر، وباب يؤدي إلى فارس وقوهستان، وباب يؤدي إلى طوس ونسا2. وكان أكثر أهل نيسابور يعملون في الزراعة، ويسقون مزارعهم من نهر سغاور. وقد شقوا له القنوات التي كانت تتخلل بلدهم ودورهم، وتمتد إلى ضياعهم. وكان له قوامون، وعليه حفظة. فانتعشت الزراعة لذلك انتعاشا كبيرا، وغلت لهم أراضيهم غلات وفيرة، وخيرات كثيرة من الحبوب والأقطان والفواكه. وكان بعضهم يشتغل بالصناعة، وخاصة بالمنسوجات القطنية والحريرية، وكان يرتفع من بلدهم من أصناف البز وفاخر ثياب القطن والقز إلى سائر بلدان الإسلام وغيرها لكثرته وجودته. وكان بعضهم يتعاطى التجار في أسواق المدينة المنظمة المقسمة، وكان كل تاجر ينزل بناحية معينة من السوق حسب تجارته وبضاعته وكانت التجارة في بلدهم رائجة، حتى ليقول ابن حوقل: "إنه بخراسان مدينة أدوم تجارة، وأكثر سابلة، وأعظم قافلة من

_ 1 الفرسخ: ثلاثة أميال أو ستة، فارسي معرب "انظر لسان العرب 4: 13". 2 ابن حوقل ص: 363.

نيسابور"1. وكان بالمدينة كثير من الحرفيين كالقلانسيين والأساكفة والخرازين والحبالين2: ولنيسابور حدود واسعة ورساتيق عامرة، والرستاق هو الأرض الزراعية. ويقال: إنه كان لها اثنا عشر رستاقا، ويقال بل ثلاثة عشر رستاقا3، كان ينتشر في كل منها قرى كثيرة قدرها ابن الفقيه بمائة وستين قرية في كل رستاق4. وإلى الغرب من نيسابور كانت ناحية بيهق، وهي كورة واسعة كثيرة البلدن والعمارة، تشتمل على ثلاثمائة وإحدى وعشرين قرية5 وإلى الشمال من نيسابور تقوم نسا بين الجبال. وهي خصبة كثيرة المياه والبساتين، ولأهلها مياه جارية في دورهم وسككهم، كما لها رساتيق شاسعة6. وإلى الشرق من نسا، وبينها وبين سرخس مدينة أبيورد، وهي تشتهر بخصبها ورخائها7. وفي الطريق بين نيسابور ومرو الشاهجان مدينة سرخس التي تقع بأرض سهلية ليس بها ماء جار إلا نهر يجري بعض السنة لا يدوم ماؤه. وهو فضل نهر هراة. ولذلك فإن أهلها يعتمدون على الآبار ويشتغلون بالرعي، إذ معظم أملاكهم الجمال والأغنام، وتقل الزروع عندهم إلا بعض الحبوب، ولا تكثر القرى حولهم، كما تنعدم الزراعة فيما تناثر من القرى، ويغلب عليها الرعي8. وعلى بعد عشرة فراسخ إلى الشمال الشرقي من نيسابور طوس. وهى تتألف من مدينتين مشهورتين هما الطابران ونوقان اللتان ينتشر حولهما أكثر من ألف قرية 9. والربع الثانى من خراسان هو القسم الشمالى منها، وحاضرته مرو الشاهجان وهي على نهر المرغاب الذي ينحدر من جبال الغور في شمال شرقى هراة، ثم بمرو الروذ

ويدور منها شمالا إلى مرو الشاهجان حيث تتفرع منه جملة أنهار، ثم يفنى ماؤه في رمال مفازة الغز 1. والمدينة بأرض مستوية بعيدة عن الجبال، لا يرى منها على مدى البصر جبل، وأرضها سبخة كثيرة الرمال، وأبنيتها من طين، وهي موزعة بين أربعة أقسام يسقي كل قسم منها نهر يأخذ من نهر المرغاب عند قرية الرزق أو الرزيق، حيث أقيم مقسم الماء. وتنهض عليها جميعا مباني المدينة وأرباضها. وهذه الأنهار هي نهر هرمز فره الذي يجري غربا، وفي شرقيه نهر الماجان، ثم نهر الرزق، وآخرها نهر أسعدي. وللمدينة حصن، وعلي أنهارها سور يحيط بها كلها، وعلى رساتيقها جميعها سور آخر يلتف حولها. ولها أيضا أربعة أبواب تفضي إلى جهات مختلفة. وهي من النظافة، وحسن الترصيف، وتقسيم الأبنية والمحال في خلال الأنهار والغروس، وتميز كل سوق من غيره، بحيث تفضل سائر مدن خراسان2. والزراعة قوام حياة أهل مرو الشاهجان، فهم يزرعون الحبوب والفواكه والكروم، كما تشتهر المدينة بعنبها وزبيبها وبطيخها، ويشتغل بعضهم بصناعة الحرير والقطن والثياب. ويقال إنه كان يصدر منها الإبريسم والقز الكثير والقطن اللين، والثياب الفاخرة التي كانت تجهز إلى الآفاق3. ولمرو الشاهجان قرى ومدن كثيرة، منها سنج، وهي تبعد عنها من جهة الغرب أربعة فراسخ، ودورها مبنية على النهر، وبها بساتين كثيرة4. وإلى الجنوب الغربي من مرو الشاهجان، وبينها وبين سرخس مدينة الدندانقان، وهي بمنطقة رملية تنتهي عندها مزارع مرو الشاهجان5. وفي الشمال الشرقي من مرو الشاهجان على الطريق إلى

_ 1 بلدان الخلافة الشرقية ص: 439. 2 اليعقوبي ص: 279، والإصطخري ص: 147، وابن حوقل ص: 364، والمقدسي ص: 310، وابن الفقيه ص: 320. 3 الإصطخري ص: 149، وابن حوقل ص: 365. 4 المقدسي ص: 312، وياقوت 3: 161. 5 المقدسي ص: 312، وياقوت 2: 610.

آمل مدينة كشمهين، وهي مشهورة ببساتينها وأعنابها وزبيبها1. وبعدها مدينة آمل على شط نهر جيحون، وهي مجمع طرق خراسان إلى ما وراء النهر، ولها ماء جار، وبساتين وزرع2. وبينها وبين مرو الشاهجان رمال صعبة المسلك، ومفازة أشبه بالمهلك3. وشرقي آمل بنحو مائة ميل بلدة زم، وهي أصغر من آمل في العمارة، وفيها المياه الجارية، والبساتين والزروع، وبها معبر ما وراء النهر4 وفي الجنوب الشرقي لمرو الشاهجان مدن القرينين، وجيزنج، ورزق5. وفي تلك الجهة، وعلى بعد مائة وستين ميلا من مرو الشاهجان مدينة مرو الروذ، وهي على نهر المرغاب، طيبة التربة والهواء، ولها بساتين وكروم كثيرة, تحيط بها الجبال من الغرب والشرق6. وعلى مجرى نهر المرغاب إلى مرو الشاهجان بما يبعد مسيرة يوم عن مرو الروذ بلدة قصر أحنف، فيها الماء الجاري، والبساتين والكروم والفواكة7. وثالث أرباع خراسان هو القسم الجنوبي منها، وعاصمته مدينة هراة، وهي على النهر المسمى باسمها، وهو ينبع من جبال الغور، ويجري من الشرق إلى الغرب، مارا بمدينة هراة فمدينة بوشنح، ثم ينعطف نحو الشمال منسابا إلى سرخس، ثم يغيض ماؤه بمفازة إلى الشمال منها. وبناء هراة من طين، وبها حصن وثيق به، به أربعة أبواب، ولها ربض، وعليها سور له أربعة أبواب بإزاء أبواب الحصن، باب في الشمال يخرج منه إلى بلخ، وباب في الغرب يخرج منه إلى نيسابور، وباب في الجنوب يخرج منه إلى سجستان، وباب في الشرق يخرج منه إلى الغوز. وعلى كل باب سوق، وفي داخل المدينة والربض مياه جارية. والجبل على طريق بلخ إلى الشمال من هراة، ليس به محتطب ولا مرعى، وإنما يرتفقون منه بالحجارة للأرحبة والفرش وغير ذلك. ويتشعب

_ 1 اليعقوبي ص: 280، وياقوت 4: 278. 2 الإصطخري ص: 157، وابن حوقل ص: 376. 3 ياقوت 1: 69. 4 الإصطخري ص: 157، وابن حوقل ص: 376، وياقوت 2: 946. 5 الإصطخري ص: 149، وابن حوقل ص: 365. 6 الإصطخري ص: 152، وابن حوقل ص: 369، وياقوت 4: 506. 7 الإصطخري ص: 152، وابن حوقل ص: 369.

من نهر هراة بالقرب من المدينة تسعة أنهر تروي رساتيقها ومزارعها1. ويقول اليعقوبي: إن هراة من أكثر بلاد خراسان عمارة2. ويقول ابن رسته: إنها مدينة عظيمة، وحواليها دور، وفي رساتيقها أربعمائة قرية كبار وصغار، وفيما بين هذه القرى سبع وأربعون دسكرة، تشتمل كل منها على عشرة أنفس إلى عشرين نفسا3. أما ياقوت فيقول: "إنها مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن خراسان، لم ير بخراسان مدينة أجل، ولا أعظم، ولا أفخم، ولا أكثر أهلا منها، فيها بساتين كثيرة، ومياه غزيرة، وخيرات وفيرة"4. وإلى الجنوب من هراة مدينة مالن، وهي صغيرة مشتبكة المياه والبساتين والكروم، عامرة مشهورة بزبيبها الذي يحمل إلى الآفاق5. وفي رساتيقها خمس وعشرون قرية6. وتليها كورة أسفزار، ولها أربع مدن، فيها الأراضي الخصبة، والبساتين والأعناب7. وفي شمالي هراة كروخ، وهي أكبر مدينة بعد هراة، تقوم في شعب بين الجبال، وتكثر حولها المياه والبساتين والأشجار، والقرى العامرة، ويرتفع منها المشمش8. وتليها كورة باذغيس، وبها مدن كثيرة، بعضها تجري فيها المياه، وتنتشر بها البساتين، وبعضها قليلة المياه. وأهلها أصحاب زروع وأغنام9. وهي ذات خير ورخص، ويكثر فيها شجر الفستق10. وبعدها رستاق كنج، ومدنه ببن، وكيف، وبغشور.

_ 1 الإصطخري ص149، وابن حوقل ص366. 2 اليعقوبي ص: 280. 3 ابن رسته ص: 173. 4 ياقوت 4: 958. 5 الإصخري ص: 151، وابن حوقل ص: 367. 6 ياقوت 4: 398. 7 الإصطخري ص149، وابن حوقل ص: 368. 8 الإصطخري ص151، وابن حوقل ص367. 9 الإصطخري ص: 152، وابن حوقل ص: 367. 10 ياقوت 1: 461.

والمدينتان الأوليان لهما مياه كثيرة جارية وبساتين وكروم، والمدينة الثالثة بمفازة، وماؤها من الآبار، وأهلها أصحاب زروع1. وبشرقي باذغيس عند منابع نهر المرغاب بلاد غرح الشار أو غرجستان. وهي بلاد جبلية، ولها مدينتان هما: نشين وشورمين، فيهما المياه والبساتين، ومن الأول يرتفع أرز كثير يحمل إلى البلدان، ومن الثانية يرتفع زبيب يصدر إلى كثير من النواحي2. وتليها بلاد الغور بجنوب نهر هراة وهي جبال حصينة منيعة، عامرة ذات عيون وأنهار وبساتين3. وتقع بعدها كورة الباميان التي يجري بين مدنها نهر كبير يسير نحو غرجستان. وأكبر مدينة بها الباميان، وهي على جبل، وليس لها سور، وليس بها بساتين. أما بقية مدنها ففي السهل، وكلها ذوات أنهار وأشجار وثمار4. وإلى الشرق من هراة مدن كثيرة منها باشان، وخيسار، وأستربيان، وماراباذ، وأوفه، وخشت. أما باشان فكثيرة المياه، قليلة البساتين. وفيها زروع. وأما خيسار فنادرة المياه والأشجار، وأما أستربيان فلها مياه، وبساتينها قليلة، والغالب على أهلها الزروع دون الكروم، وهي في الجبال، وأما ماراباذ فكثيرة المياه والبساتين، وترتفع منها كميات كبيرة من الأرز، وأما أوفه فلها مياه وبساتين5. وفي غربي هراة كورة بوشنج، وبها خمس مدن، أهمها وأكبرها بوشنج، وهي نحو النصف من هراة، وبناؤها من طين، ولها سور، وخندق، وثلاثة أبواب، باب يذهب منه إلى نيسابور، وباب يذهب منه إلى هراة، وباب يذهب منه إلى قوهستان. ومياها من نهر هراة، وبها من أشجار العرعر ما ليس بجميع خراسان، وخشبه يحمل إلى سائر البلاد. وأما المدن الأربع الأخرى فهي كوسوى، وخركرد وفركرد، وكره،

_ 1 الإصخطري ص: 152، وابن حوقل ص: 369. 2 الإصطخري ص: 153، وابن حوقل ص371. 3 الإصطخري ص: 153، وابن حوقل ص 371. 4 الإصطخري ص: 156، وابن حوقل ص: 375. 5 الإصطخري ص: 151، وابن حوقل ص: 367.

وأكبرها كوسوي وهي مدينة نحو الثلث من بوشنج، ولها ماء وبساتين قليلة. وأصغر منها خركرد. غير أن مياهها وبساتينها أكثر وأوسع. أما فركرد، وكره فهما دون خركرد في الكبر، كما أنهما متقاربتان في المساحة والعمران. وأولاهما قليلة الماء والبساتين، وأهلها أصحاب سوائم، وأخراهما كثيرة الماء والبساتين1. ورابع أرباع خراسان هو القسم الشرقي منها، وأعظم مدينة فيه بلخ، ومساحتها مع ربضها ثلاثة أميال في مثلها. وهي بأرض مستوية، وبناؤها من طين، وبينها وبين أقرب الجبال إليها نحو من أربعة فراسخ، وعليها سور له سبعة أبواب، وبها نهر دهاس، وهو يجري في ربضها، ويسقي رساتيقها، ويدير عشر أرحية، وتحف بأبوابها البساتين والكروم. وبعد السور الأول سور ثان يبعد عنه اثني عشر فرسخا، ويحيط بقراها وضياعها ومزارعها، وليس خارجه عمارة ولا ضيعة ولا قرية، وإنما وراءه الرمال2 وقد وصف المقدسي بهاء بلخ، وحسن موقعها، وسعة طرقها، وبهجة شوارعها، وكثرة أنهارها، والتفاف أشجارها، كما نوه بأعنابها وحبوبها3، ووصفها ياقوت بقوله: "إنها من أجل مدن خراسان وأذكرها وأكثرها خيرا، وأوسعها غلة، تحمل غلتها إلى جميع خراسان، وإلى خوارزم"4. وتقع إلى الغرب من بلخ ناحية الجوزجان، وهي عامة الخصب، كثيرة التجارة، وبها مدن كثيرة منها: الطالقان، وهي بمنطقة سهلية، تبعد عن مرو الروذ ثلاث مراحل، وبها مياه جارية، وبساتين قليلة، كما أنها صحيحة الهواء، ورساتيقها بالجبل كثيرة عامرة5. ومنها الجرزوان. وهي بين جبلين، بين مرو الروذ والطالقان، معمورة، وأهلها مياسير. وعلى بعد مرحلتين مما يلي الطالقان على طريق بلخ مدينة اليهودية، التي تعرف أيضا بميمنة. وهي في الجبل، ولها مياه وبساتين. وفيها صناعات

_ 1 الإصطخري ص: 151، وابن حوقل ص: 368، وياقوت 1: 758. 2 اليعقوبي ص: 288، والإصطخري ص: 155، وابن حوقل ص: 373. 3 المقدسي ص: 299/ 302. 4 ياقوت 1/ 713. 5 المقدسي ص: 303.

وتجارات. وإلى جنوابها مدينة كنددرم، وهي في الجبل وافرة المياه والكروم والجوز، ثم بلدة سان، وهي صغيرة، ولها مياه وبساتين، والغالب على ثمارها الأعناب والجوز. أما الفارياب فهي بين الطالقان وشبورقان، وهي صغيرة إلا أنها كثيرة المياه والبساتين، ومياها من الطالقان، وهي تجمع سائر ما يكون من الصناعات في المدن. وبعدها مدينة شبورقان، لها ماء جار، والغالب على أهلها الزروع، وبساتينهم قليلة، وإلى الشمال الغربي من شبورقان انخذرستاق، ومدينته أشترج، وهي صغيرة في مفازة. ولها سبع قرى، وبها بيوت للأكراد من شعر ومدر، وأهلها أصحاب أغنام وإبل. وجنوبي شبورقان، وشرقي اليهودية مدينة أنبار، وهي بالجبل، ولها مياه وكروم وبساتين1. ولخراسان طرق ومسالك كثيرة تربط مدنها الكبيرة والصغيرة، وتربط كذلك بينها وبين ما يجاورها من البلدان، عددها الجغرافيون العرب وحددوا المسافات بين كل مدينة وأخرى تحديدا دقيقا2. وعلى اتساع خراسان، وتباين طبيعتها بين سهول ورمال وجبال، فإنها في جملتها معتدلة المناخ، لطيفة الهواء، ليس فيها مناطق حارة متقدة الحرارة، ولا مناطق باردة شديدة البرودة إلا الباميان، فإنها أكثر خراسان بردا وثلجا. وتربتها صحيحة، وأزكى أرضها السقي نيسابور، وأحسن أرضها التي تجودها الأمطار وترويها ما بين هراة ومرو الروذ، وهي ما يعرف بالأعذاء، أي الأرض الطيبة التربة، الكريمة المنبت، البعيدة من المياه والسباخ3. ولذلك كانت خراسان غنية بخيرات الأرض، وأرزاق الدنيا، التي لم تكن تسد حاجات أهلها فحسب، وإنما كانت تفيض عن استهلاكهم فيضا كبيرا من الغلات الزراعية. والمواد الأولية والغذائية والمنتوجات الصناعية. فكانوا يصدرونه إلى كثير من الأقطار. وفي ذلك يقول الإصطخري: "بخراسان من الدواب والرقيق والأطعمة والملبوس وسائر ما يحتاج الناس إليه ما يسعهم فأنفس الدواب ما يرتفع من

_ 1 انظر في هذه المدن الإصطخري ص: 152، وابن حوقل ص: 369، 370، وياقوت 2: 149. 2 الإصطخري ص: 158، وابن حوقل ص:337. 3 الإصطخري ص: 158 وابن حوقل ص: 377، وابن الفقيه ص: 316، والمقدسي ص: 294.

نواحي بلخ، وأنفس ثياب الإبريسم ما يقع من نيسابور، ومرو الشاهجان، وأطيب البز ما يرتفع من مرو الشاهجان"1. واستقصى المقدسي ما ينتج في بلدان خراسان مادة مادة، فمن نيسابور ترتفع الثياب والعمائم والملاحم والحلل وثياب الشعر والغزل الجيد، ومن نسا الثياب وفرو الثعالب والبزاة، ومن طوس الثياب الملونة والحصر والحبوب، ومن رساتيق نيسابور ثياب كثيرة غليظة، ومن هراة البز الكثير والديباج والزبيب والفتسق، وأكثر حلاوات أهل خراسان. ومن مرو الشاهجان الملاحم ومقانع القز والإبريسم والقطن والبقر والجبن والنحاس، ومن سرخس الحبوب والجمال، ومن بلخ الصابون والسمسم والأرز والجوز واللوز والزبيب والسمن والعسل، والزاج والكبريت والرصاص والأبخرة، ومن غرج الشار الذهب واللبود والبسط الحسان والحقائب والخيل الجيدة والبغال2.

_ 1 الإصطخري ص: 157. 2 المقدسي ص: 324.

ولاة خراسان

ولاة خراسان: حمل القدماء إلينا ثلاث روايات عن فتح العرب لخراسان، أما الرواية الأولى فتفيد أنه كان سنة ثماني عشرة للهجرة1. وهي رواية ضعيفة مرفوضة، لأن العرب لم يقضوا على فلول الفرس، ولم يملكوا بلدهم إلا سنة إحدى وعشرين في موقعة نهاوند2، التي سموها "فتح الفتوح"، لأنه لم يكن للفرس بعدها اجتماع. وأما الرواية الثانية فتدل أنه حدث سنة اثنتين وعشرين وهي رواية صحيحة مقبولة، لأن العرب انطلقوا من فارس إلى الأقاليم المجاورة لها التي تمهد السبيل لاحتلال خراسان وفتحها، فاجتاحوا الري4، وقومس5 وطبرستان6، وجرجان7، وهمذان8، وأصبهان9، سنة اثنتين وعشرين، ثم اقتحموا خراسان من جهة الطبسين في السنة نفسها، وغلبوا

_ 1 تاريخ الرسل والملوك للطبري 5: 2680، وسنشير إليه بالطبري، والكامل في التاريخ، لابن الأثير 3: 33، وسنشير إليه بابن الأثر. 2 الطبري: 5: 2596، وابن الأثير 3: 5. 3 الطبري: 5: 2682، وابن الأثير 3: 33. 4 الطبري 5: 2653، وابن الأثير 3: 34. 5 الطبري 5: 2656، وابن الأثير 3: 25. 6 الطبري 5: 2659، وابن الأثير 3: 25. 7 الطبري 5: 2657، وابن الأثير 3: 25. 8 الطبري 5: 2635، وابن الأثير 3: 17. 9 الطبري 5: 2637، وابن الأثير 3: 18.

على أكثر نواحيها. وأما الرواية الثالثة فتنبئ بأنه وقع سنة إحدى وثلاثين1، وهي تكملة للرواية الثانية، لأن أهل خراسان نكثوا بعد وفاة عمر بن الخطاب، وثاروا على عمالهم، شأنهم في ذلك شأن أهل فارس2، وكرمان3، وسجستان4، فندب عثمان بن عفان، عبد الله بن عامر، أمير البصرة لقمع ثورتهم، واسترداد بلادهم، فتوجه إليها واستعادها من أدناها إلى أقصاها في سنتين. وقد ظلت السيادة العربية بخراسان قلعة مزعزعة منذ أن استكمل ابن عامر استرجاعها حتى انتهى الصراع بين علي ومعاوية على الحكم، وتولى معاوية الخلافة5، فأسند لابن عامر ولاية البصرة، وجعله مسئولا عن إدارة خراسان، فاستعمل عليها قيس بن الهيثم السلمي6، فكان بها حتى سنة ثلاث وأربعين، ثم عزله ابن عامر عنها، لتأخره في إرسال خراجها، وولاها عبد الله بن خازم السلمي، فوليها سنة7. ثم اعفى ماوية ابن عامر من إمارة البصرة، لعجزه عن ضبطها، ووكل شئون خراسان إلى عبد الله بن أبي شيخ، أو إلى طفيل بن عوف اليشكريين8، وفي سنة خمس وأربعين عين معاوية على البصرة زياد بن أبي سفيان، فجعل خراسان أرباعا، واستعمل على مرو الشاهجان أمير بن أحمر اليشكري، وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي، وعلى مرو الروذ، والفارياب، والطالقان قيس بن الهيثم السلمي، وعلى هراة. وباغيس، وبوشنج نافع بن خالد الطاحي الأزدي9.

_ 1 الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ص: 139، وسنشير إليه بالدينوري، وتاريخ اليعقوبي 2: 157. وفتوح البلدان للبلاذري ص: 394، والطبري 5: 2884، وابن الأثير 3: 123. 2 ابن الأثير 3: 121. 3 ابن الأثير 3: 127. 4 ابن الأثير 3: 128. 5 الطبري 5: 2906، وابن الأثير 3: 119، وتاريخ اليعقوبي 2: 157. 6 الطبري 7: 17، وابن الأثير 3: 416، وفتوح البلدان ص: 399. 7 7: 65، وابن الأثير 3: 417، وفتوح البلدان ص: 400. 8 الطبري 7: 67، وابن الأثير 3: 440. 9 الطبري 7: 79، وابن الأثير 3: 451، وفتوح البلدان ص: 400.

وفي سنة خمسين ولي الحكم بن عمرو الغفاري خراسان لزياد، فغزا طخارستان، وغنم غنائم كثيرة1، ثم إنه توفي، واستخلف قبل وفاته أنس بن أبي أناس الكناني، فصرفه زياد، وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بالولاية، وبعث الربيع بن زياد الحارث2 في خمسين ألفا من البصرة والكوفة بعيالاتهم، فسكنوا خراسان. وفتح أيضا قوهستان عنوة3. وقبل أن يموت الربيع أوصى بالولاية لابنه عبد الله، فعاجله الأجل، ومات بعد أبيه بشهرين، فقام مقامه خليد بن عبد الله الحنفي، فأقره زياد4. وفي سنة أربع وخمسين ولى معاوية على خراسان عبيد الله بن زياد، فقطع نهر جيحون إلى بخارى، وفتح راميتن، ونسف، وبيكند، وكلها من مدن بخارى، فأقام بخراسان سنتين5، حتى إذا ما توفي والده اختاره معاوية واليا للبصرة، فاستعمل على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي، فلم يغز، ولم يفتح6. ولم يلبث معاوية أن فصل خراسان عن البصرة، وإدارة عبيد الله بن زياد، وبعث إليها سعيد بن عثمان بن عفان، فعبر النهر إلى سمرقند، فخرج إليه الصغد فصالحوه ثم سار إلى الترمذ، ففتحها صلحا7. ثم عزله معاوية منها سنة ثمان وخمسين لأنه خاف أن يخلعه ويطالب بالخلافة8. وولى عليها بعد سنة عبد الرحمن بن زياد، فأخذ أسلم بن زرعة الكلابي، وحبسه، لأنه اتهمه بالخيانة، واستصفى منه ثلاثمائة ألف درهم، وكان عبد الرحمن ضعيفا فلم يغز غزوة واحدة، وبقي بخراسان سنتين9.

_ 1 الطبري 7: 81، وابن الأثير 3: 452، وفتوح البلدان ص: 400. 2 انظر ترجمته في طبقات خليفة بن خياط ص: 479، والتاريخ الكبير 2: 1: 268، والمعارف ص: 441، والجرح والتعديل 1: 2: 461، والاستيعاب ص: 488، وأسد الغابة 2: 164، والإصابة 1: 504، وتهذيب التهذيب 3: 243، وتقريب التهذيب 1: 244. 3 الطبري 7: 81، 155، وابن الأثير 3: 489، وفتوح البلدان ص: 401. 4 الطبري 7: 161، وابن الأثير 3: 493. 5 الطبري 7: 169، وابن الأثير 3: 499، وانظر فتوح البلدان ص: 401، وتاريخ اليعقوبي 2: 225. 6 الطبري 7: 172، وابن الأثير 3: 502. 7 تاريخ اليعقوبي 2: 225 والطبري 7: 177، وابن الأثير 3: 512. 8 أنساب الأشراف 5: 117، وفتوح البلدان ص: 403. 9 تاريخ اليعقوبي 2: 225، وفتوح البلدان ص: 403، والطبري 7: 189، وابن الأثير 3: 521.

وفي سنة إحدى وستين استعمل يزيد بن معاوية على خراسان سلم بن زياد، فظل عليها خمسة سنوات، أحسن فيها السيرة، وعدل بين الناس، وغزا ما وراء النهر، وافتتح مدينة مما يلي خارزم، عجز من سبقه من العمال عن فتحها، وأغار على سمرقند، ووجه جيشا إلى خجندة فانهزم1. وحين بلغ الناس بخراسان موت معاوية بن يزيد، اضطربوا، ونابذوا سلما وخلعوه، فتركهم، واستخلف على مرو الشهجان المهلب بن أبي صفرة، وعلى مرو والفارياب والجوزجان سليمان بن مرشد البكري، وعلى هراة أوس ابن ثعلبة البكري2. ثم غلب عبد الله بن خازم على خراسان ما يزيد على سبع سنوات، حارب في أولاها بكر بن وائل، وقتل زعماءها، وأفنى خلقا كثيرا منها بمساعدة بني تميم. وسرعان ما تنكر لبني تميم، ومنعهم من الاستقرار بهراة، فخالفوه وقتلوا ابنه محمدا بهراة، وقارعوه بمرو الشاهجان ومرو الروذ ونيسابور3. ثم قتله بحير بن ورقاء التميمي. وكان عبد الله بن مروان قد كتب إلى بكير بن وشاح التميمي أن يبايع له، ووعده ومناه، حين رفض ابن خازم الانصياع له، فحبس بحيرا، وادعى أنه هو الذي قتل ابن خازم، وظل مسيطرا على خراسان عاما وبعض عام. فانقسم بنو تميم على أنفسهم، فخشي العرب أن يستطير الشر بينهم، ويقهرهم عدوهم، فسألوا عبد الله أن يولي عليهم عاملا قرشيا لا ينفس عليه أحد. فأرسل إليهم أمية بن عبد الله الأموي فقدم إلى خراسان ولم يعرض لبكير بن وشاح بسوء، وبينما كان أمية مشغولا بغزو بخارى سنة سبع وسبعين ثار عليه بكير بمرو الشاهجان، فخف أمية إليها، وحاصره، فاصطلحا، ولكن بكيرا مضى يؤلب الناس للثورة على أمية، ولم يزل أمية متغافلا عنه، حتى إذا أثبت له أنه يحرض الناس عليه سجنه، وأمر بقتله، فقتله بحير بن ورقاء بسيفه4.

_ 1 الطبري 7: 399، 405، وابن الأثير 4: 96، وياقوت 2: 404. 2 تاريخ اليعقوبي 2: 239، وفتوح البلدان ص: 403، والطبري 7: 489، وابن الأثير 4: 155. 3 الطبري 7: 593، وابن الأثير 4: 208. 4 تاريخ اليعقوبي 3: 18، وفتوح البلدان ص: 405، والطبري 8: 831، وابن الأثير 4: 345.

وفي سنة ثمان وسبعين أقصى عبد الملك بن مروان عن خراسان وسجستان أمية بن عبد الله، وضمهما إلى الحجاج بن يوسف، عامل العراق، فعين على خراسان المهلب بن أبي صفرة، فسيرة المهلب ابنه حبيبا إليها، ثم قدمها، واستمر واليا عليها إلى أن وافته المنية سنة اثنتين وثمانين. وهو قافل من كس إلى مرو الشاهجان. وأغار في ولايته على كس والختل وبخارى1. واستخلف قبل مماته ابنه يزيد ففتح قلعة باذغيس، ثم نحاه الحجاج عن الإمارة سنة خمس وثمانين2. وعهد بها إلى أخيه المفضل، فكان بخراسان تسعة أشهر، غزا فيها باذغيس وشومان وآخرون، فظفر وغنم، وقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ3. ثم أقصى الحجاج جميع المهالبة عن خراسان، وسجنهم، وأهانهم، لأنهم كانوا خصومه السياسيين، الذين ينازعونه على السلطة، والذين يتعصبون للأزد، ويضيقون على قيس4. واستعمل عليها قتيبة بن مسلم الباهلي، فبقي بها حتى سنة ست وتسعين وفي السنة التي وصل فيها قتيبة إلى خراسان سار إلى الصغانيان فصالحه ملكها، ثم مضى إلى آخرون وشومان من طخارستان فصالحه ملكها، واستخلف على الجند أخاه صالحا، ورجع إلى مرو الشاهجان، ففتح صالح كاشان وأورشت وأخشيكت، وكلها من فرغانة5. وفي السنة الثانية صالح قتيبة ملك باذغيس6 واستعد للإغارة على بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى إلى نهر جيحون، ولم يكد يتقدم إليها حتى استغاث أهلها بالصغد، واستمدوا من حولهم، وأخذوا الطرق عليه، فأوشك أن ينهزم، غير أنه ظفر بهم في النهاية، ودخل المدينة بالقوة وقتل من بها من الجند، وأصاب من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يحصى كثرة7. وفي السنة التالية توجه إلى تونكث من

_ 1 تاريخ اليعقوبي 3: 22، وفتوح البلدان ص: 407، والدينوري ص: 280، والطبري 8: 1032، 1040، وابن الأثير 4: 488، 453. 2 الطبري 8: 1138، وابن الأثير 4: 502. 3 الطبري 8: 1144، وابن الأثير 4: 505، وفتوح البلدان ص: 407. 4 الطبري 8: 1138، وابن الأثير 4: 511. 5 الطبري 8: 1180، وابن الأثير 4: 523، وتاريخ اليعقوبي 3: 31، وفتوح البلدان ص: 408. 6 الطبري 8: 1184، وابن الأثير 4: 527. 7 فتوح البلدان ص: 410، والطبري 8: 1185، وابن الأثير 4: 258.

قرى الشاش فصالحه أهلها، كما صالحه أهل رامدين، إلى مرو الشاهجان، وخلف على الجند أخاه عبد الرحمن، فزحف إليه الصغد وأهل فرغانة، فناهضهم حتى كادوا يظهرون عليه. فرجع قتيبة إليه، وانهزم الترك شر هزيمة. وفي سنة تسع وثمانين أمره الحجاج بغزو بخارى، فعبر النهر من زم، فلقيه الصغد، وأهل كس ونسف في طريق المفازة، فقاتلوه فانتصر عليهم، ولكنه عجز عن التغلب على ملك بخارى، فعاد إلى مرو الشاهجان1. فكتب إليه الحجاج يعنفه. فانطلق سنة تسعين إلى بخارى وحاصرها، فاستنصر ملكها، بالصغد فنصروه، فقويت شوكته بهم، فلم ييأس قتيبة، بل ظل الأمل يغمر قلبه، فصبر، واحتمل هزيمة مقدمته من الأزد، وما سببته من ضعف جانبه، ولكنه أخذ يحمس بني تميم، فاستبسلوا في القتال، ولم يزالوا يجاهدون حتى انتصروا على أهل بخارى والصغد انتصارا عزيزا. ففتحت المدينة، وأذعن ملكها، وتقهقر الصغد إلى بلادهم2. ولما رأوا ما ألحقه قتيبة بأهل بخارى، وفد ملكهم عليه فصالحه3. وفي السنة نفسها نكث نيزك طخارستان، وفاوض ملوك بلخ، ومرو الروذ والطالقان، والفارياب، والجوزجان على التمرد، فثاروا معه، واستظهر بكابل شاه، وطلب إليه أن يلجأ إلى بلاده إذا هزم. ثم خلع النيزك جيغويه ملك طخارستان وقيده، وأخرج عامل قتيبة من طخارستان. وبلغ قتيبة ما فعل النيزك، فجمع قواته من البلدان، وسير أخاه عبد الرحمن في اثني عشر ألفا إلى البروقان، وأوصاه بالمقام فيها حتى ينتهي فصل الشتاء، ثم بالتوجه منها إلى طخارستان. وسار قتيبة بنفسه إلى الطالقان فأوقع بأهلها4، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخضع في السنة التالية الفارياب والجوزجان، واجتاز شعب خلم الصعب، وطوق حاميته وشتتها، وحصر النيزك بالقلعة التي تحصن فيها، ثم احتال عليه فأخرجه منها، وقتل ابن أخيه، ونائب

_ 1 فتوح البلدان ص: 410، والطبري 8: 1198، وابن الأثير 4: 535. 2 الطبري 8: 1201، وابن الأثير 4: 542. 3 الطبري 8: 1204، وابن الأثير 4: 543. 4 تاريخ اليعقوبي 3: 32، والطبري 8: 1204، وابن الأثير 4: 544.

ملك طخارستان، وكثيرين ممن انضموا إليهم وناصروهم1. ثم زحف إلى شومان فحاصرها وقتل ملكها، وإلى كس ونسف ففتحها، وأنفذ أخاه عبد الرحمن إلى الصغد، فقبض من ملكها المبلغ الذي صالح قتيبة من قبل عليه2. وفي سنة اثنتين وتسعين غزا سجستان، واقتحمها، فأرسل إليه زنبيل كابل يطلب الصلح فصالحه3. وفي السنة التالية أغار على خوارزم بالتواطؤ مع ملكها، لأن أخاه الأصغر غلبه عليها، واشترط عليه أن يدفع أخاه إليه إذا دخلها، فوافقه قتيبة، ومضى إلى خوارزم، فأسر خرزاذ، وسلمه للشاه مع غيره ممن خالفوه4، ولكن أهل خوارزم لم يلبثوا أن وثبوا بعامل قتيبة عليهم، فبعث إليهم أخاه عبد الرحمن، كما وجه إليهم فرقة أخرى عليها المغيرة بن عبد الله، فهرب الشاه إلى بلاد الترك، وقدم المغيرة، فقتل وسبى، وصالحه الباقون على الجزية5. وفي السنة ذاتها أرسل أخاه عبد الرحمن إلى سمرقند، لأن أهلها نكثوا بما عاهدوه عليه سنة إحدى وتسعين، فأحاط بهم، وشدد الطوق عليهم، فاستنجدوا بملك الشاش، وملك فرغانة، وخوفوهما أن العرب إذا قهروهم فإنهم سيثنون بهما، فدفعا إليهم جمعا من الفرسان، وأولاد الملوك، فانكسروا انكسارا منكرا، وذل الصغد، ورمى قتيبة مدينتهم بالمجانيق، حتى ثلم في سورها ثلمة احتلها جنوده بعد قتال مرير، فصالحوه على الجزية. وشرطوا عليه أن يبني بالمدينة مسجدا، ثم يخرج منها، فدخلها وأحرق الأصنام، وأبقى جالية عربية. ثم رجع إلى مرو الشاهجان6. وفي سنة أربع وتسعين اجتاز قتيبة نهر جيحون، وفرض على أهل بخارى وكس، ونسف وخوارزم عشرين ألفا من المقاتلين، فأتوه فوجههم إلى الشاش، وسار هو إلى فرغانة، فلما وصل إلى خجندة، استجاش أهلها وناهضوه في معارك متعددة كان له

_ 1 الطبري 8: 1218، وابن الأثير 4: 549. 2 الطبري 8: 1227، وابن الأثير 4: 553. 3 الطبري 8: 1235، وابن الأثير 4: 569. 4 فتوح البلدان ص: 410، والطبري 8: 1237، وابن الأثير 4: 570. 5 ابن الأثير 4: 575. 6 تاريخ اليعقوبي 3: 33، والطبري 8: 1241، وابن الأثير 4: 571.

النصر فيها، ثم صار إلى كاشان. وعندما أنجز الجنود الذين سيرهم إلى الشاش مهمتهم انصرف إلى مرو الشاهجان1. وفي العام اللاحق بعث إليه الحجاج جيشا من العراق، فغزا بهم، فلما كان بالشاش أو كشمين بلغه خبر وفاة الحجاج، فساءه وأحزنه، فعاد إلى مرو الشاهجان2. وفي آخر سنة من ولايته زحف نحو مدينة كاشغر، وهي أقرب المدن التابعة للصين، وحمل مع الناس عيالاتهم، ليضعهم بسمرقند، واجتاز فرغانة، وأمن الطريق إلى كاشغر وأنفذ إليها جيشا فتوغل فيها، وغنم وسبى3. وبينما كان قتيبة بفرغانة، مات الوليد بن عبد الملك، واستخلف أخوه سليمان وكان يكره الحجاج وموظفيه، ويقدم يزيد بن المهلب ومساعديه، فقدر قتيبة حينما بلغه كيد ابن المهلب له أن سليمان لا بد أن يبعده عن الولاية، ويمثل به، على نحو ما أبعد عمال الحجاج وعذبهم، فهم بخلع سليمان، إلا أن القبائل لم تقف بجانبه، بل مكرت له، وتواطأت مع الأعاجم على الغدر به. وكان مصيره أن لقي مصرعه بسيوف الخيانة، فاختفى بسقوطه عامل من أكبر العمال وأجدرهم، وقائد من أنجب القواد وأقدرهم، جعل همه الغزو، حتى دوخ الترك، وثبت السيادة العربية بما وراء النهر4. وتولى الإمارة بعد مقتله وكيع بن أبي سود التميمي، زعيم المؤامرة، فأقصاه سليمان عنها بعد تسعة أشهر، وأسندها إلى يزيد بن المهلب، فسبقه ابنه مخلد إلى خراسان، وقدمها هو سنة سبع وتسعين، فاستهل عهده بالإغارة على جرجان لكي يضاهي بفتحه لها فتوحات قتيبة فيما وراء النهر، التي طالما ذكره سليمان بها، وعظم أمامه أمرها. فسار إليها في جيش كثيف عداده مائة ألف، وقيل: مائة وعشرون ألفا من أهل الشام والعراق وخراسان سوى الموالي والمتطوعة. فبدأ بقوهستان فحاصرها حتى احتلها

_ 1 الطبري 8: 1256، وابن الأثير 4: 581. 2 الطبري 8: 1267، وابن الأثير 4: 583. 3 الطبري 8: 1275، وابن الأثير 5: 5. 4 نقائض جرير والفرزدق 1: 350، وتاريخ اليعقوبي 3: 40، وفتوح البلدان ص: 412، والطبري 8: 1282، وابن الأثير 5: 3.

وصالحه أهلها، ثم مضى إلى جرجان، فاستقبله أهلها وصالحوه دون قتال، فطمع في طبرستان، فأسرع إليها، وضرب عليها حصارا من ثلاث جهات، فطلب إليه إصبهبذها الصلح فرض، والتحم معه قواد يزيد في معركة حامية انتصروا عليه فيها، فصعد بمن بقي معه من الجنود إلى قمة جبل، فتعقبوه فهزمهم. وحينئذ كاتب الإصبهبذ أهل جرجان أن يقطعوا الطريق إلى دار الإسلام عن يزيد، وأن يمنعوا عنه المؤونة والمدد، فثاروا بجرجان، وقتلوا الحامية العربية بها، ولم يتمكن يزيد من النجاة بنفسه، واستنقاذ جيشه إلا بعد أن توسط بينه وبين الإصبهبذ حيان النبطي، قادد الفرقة الخراسانية في الجيش العربي، فوادعه الإصبهبذ، وسمح له بالانسحاب من بلاده1. وفي السنة نفسها صمم يزيد على فتح جرحان، لأن أهلها تمردوا عليه، وغدروا به، فزحف إليهم، ولم يتحول عنهم إلا بعد أن مزقهم وقتلهم، وصلبهم، ودمر مدينتهم، ثم رممها وعمرها2. ولكن ولاية يزيد لم تطل، فقد توفي سليمان، وخلفه عمر بن عبد العزيز، فصرفه عن خراسان، وزج به في الحبس، وطالبه بما اجتمع عنده من الأموال الضخمة التي كتب بها إلى سليمان، واستعمل على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي3. فكان عليها عاما وبعض عام، ثم نحاه عمر عنها، لأنه كتب إليه أن يضع الجزية عمن أسلم من أهل خراسان، وأن يفرض لجنودهم عطاء، بعد أن شكا إليه أبو الصيداء صالح بن طريف من ظلم الجراح لهم، وعدوانه عليهم، فلم يسقط الجزية عن مسلميهم، ولا أجرى رزقا على مقاتليهم، ورد على عمر بأنهم لم يسارعوا إلى الإسلام إلا تخلصا من الجزية، وأنهم لم يختتنوا. فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدا نبيا، ولم يبعثه خاتنا. واستقدمه، وعين مكانه عبد الرحمن بن نعيم الغامدي الأزدي على حرب خراسان، وعبد الرحمن بن عبد الله القسيري على خراجها، وأوصاهما بالعدل: فلم يزل عبد

_ 1 تاريخ اليعقوبي 3: 40، والطبري 9: 1318، وابن الأثير 5: 29. 2 الطبري 9: 1330، وابن الأثير 5: 34. 3 تاريخ اليعقوبي 3: 46، وفتوح البلدان ص: 415، والطبري 9: 1351، وابن الأثير 5: 48.

الرحمن بن نعيم الغامدي على خراسان حتى مات عمر، وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف1. وفي خلافة يزيد بن عبد الملك ارتفع شأن القيسية والمضرية بخراسان، إذ ولي يزيد أخاه مسلمة على العراق، فاستعمل على خراسان سعيد بن عبد العزيز الأموي، فأخذ عمال عمر بن عبد العزيز وحبسهم ثم أطلقهم، كما أخذ نفرا من موظفي يزيد بن المهلب اختانوا أموالا، فسجنهم وعذبهم حتى مات بعضهم، وأشفى غيرهم على الهلاك2. وفي سنة اثنتين ومائة اضطربت سمرقند، وكانت ملتاثة قبل مجيء سعيد إليها فقد جمع خاقان الترك، واستعان بالصغد، وحاصر قصر الباهلي، فهادنه من كان به من العرب، وصالحوه، وكانوا قبل ذلك قد استمدوا عثمان بن الشخير عامل سمرقند، فجاء المدد من جميع القبائل، واشتبكوا مع الترك واستردوا قصر الباهلي3. وفي السنة نفسها عبر سعيد النهر، وأغار على الصغد لأنهم نقضوا العهد وأعانوا الترك، فأوقع بهم، وأدبهم، ثم سار إلى الترك، فحطموا أولى كتائبه، التي تقدمت نحوهم، فحمل بنو تميم على الترك، وجاهدوهم جهادا عنيفا حتى قدم الأمير، فحققوا بعض النصر، ولكن المعركة لم تنته4. وحدث أن انكسر خراج العراق وخراسان، في أيام مسلمة، فعزله أخوه يزيد عنهما، وعين عليهما عمر بن هبيرة الفزاري5، فأعفى سعيد بن عبد العزيز من ولاية خراسان، وكان يقاتل الترك بسمرقند، وأوفد إليها سعيد ابن عمرو الحرشي، فوافهاها والجيش بإزاء العدو بسمرقند، فاستنهض همم الجنود، وحضهم على الاستبسال في النضال6 فخاف الصغد لأنهم كانوا قد ظاهروا الترك على العرب في عهد سعيد بن

_ 1 تاريخ اليعقوبي 3: 46، وفتوح البلدان ص: 415، والطبري 9: 1352، وابن الأثير 5: 51. 2 تاريخ اليعقوبي 3: 54، والدينوري ص: 232، وفتوح البلدان ص: 416، والطبري 9: 1418، وابن الأثير 5: 90. 3 الطبري 9: 1422، وابن الأثير 5: 92، والبداية والنهاية 9: 222. 4 الطبري 9: 1429، وفتوح البلدان ص: 416، وابن الأثير 5: 95. 5 الطبري 9: 1432، وابن الأثير 5: 98. 6 الطبري 9: 1438، وفتوح البلدان ص: 416، وابن الأثير 5: 103.

عبد العزيز. فخرجوا إلى خجندة وسألوا ملك فرغانة أن ينزلهم ببلاده، وأن يحميهم. وفي سنة أربع ومائة توجه الحرشي إليهم، وطوقهم بخجنده، ونصب عليهم المجانيق، وقتل أميرهم وجماعة منهم، لأنهم قتلوا الأسرى العرب الذين كانوا بأيديهم1. وكان الحرشي يستخف بابن هبيرة، ولا يتقيد بتعاليمه، ولا ينفذ أوامره. وكانا- وهما قيسيان- يتنافسان في السلطة والعظمة. فاغتنم ابن هبيرة قتل الحرشي للصغد، ونحاه عن خراسان، وولى عليها مسلم بن سعيد ابن زرعة الكلابي2. فغزا الترك سنة خمس ومائة، فلم يفتح ولم يفلح. ثم غزا مدينة أفشينة من مدائن الصغد، فصالحه ملكها وأهلها3. ثم أخذ يتأهب للهجوم على الترك والصغد، حتى إذا ما جهز حملة إلى فرغانة، وقطع النهر: تمردت عليه ربيعة والأزد ببلخ، فرد إليهم نصر بن سيار، فقضى على فتنتهم، وأمرهم باتباع أميرهم4، فساروا إليه، وحين وصل مسلم فرغانة تطورت الأحداث تطورا سريعا إذ مات يزيد بن عبد الملك، وبويع أخوه هشام، فصرف ابن هبيرة عن العراق، واستعمل عليها خالد بن عبد الله القسري، فولى أخاه أسدا على خراسان، وكتب إلى مسلم أن يتم غزوته. فتقدم حتى تخطى خجنده، واقتحم بلاد الترك، فحاربوه وفتكوا بجنده، فضعفت قوته، وعجز عن الانسحاب عبر نهر الشاش، وأصابت المجاعة جيشه، فمات عدد منهم بالجوع والعطش، ولم يعد إلى خجنده إلا بعد جهد جهيد5. ولم يوفق أسد القسري بخراسان لا في سياسته الداخلية، ولا في غاراته الخارجية، أي توفيق، بل أخفق أشد الإخفاق، فقد أقام الحسن بن أبي العمرطة الكندي على سمرقند بدلا من هانئ بن هانئ فهاجمه الترك، فردهم على أعقابهم، ورجع إلى أسد، وخلف على عمله ثابت قطنة الأزدي6. وحاول أسد الإغارة على الترك

_ 1 الطبري 9: 1442، وابن الأثير 5: 107. 2 تاريخ اليعقوبي 3: 56، وفتوح البلدان ص: 416، والطبري 9: 1454، وابن الأثير 5: 115. 3 الطبري 9: 1462. 4 تاريخ اليعقوبي 3: 56، والطبري 9: 1473، وابن الأثير 5: 127. 5 الطبري 9: 1477، وفتوح البلدان ص: 417، وابن الأثير 5: 129. 6 الطبري 9: 1484، وابن الأثير 5: 131.

مرتين، فرجع منهماخائبا1. فأخذ يغزو مناطق خراسان الشاقة الوعرة، فقد غزا غرجستان فصالحه ملكها، وغزا الغور، وغنم منها أموالا كثيرة2. وفي سنة تسع ومائة أمر هشام خالدا القسري بتنحيه أخيه أسد عن خراسان، لأنه تعصب لليمانية، حتى أفسد الناس، وأهان المضرية، وضرب نصر بن سيار، ونفرا معه من مضر بالسياط، وحلقهم وسيرهم إلى أخيه مدعيا أنهم أرادوا الوثوب به3. فاستدعاه خالد، فاستخلف على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، فأقام بها صيفا. ثم ولاها هشام أشرس بن عبد الله السلمي. وكان رجلا فاضلا خيرا، وكان يسمى الكامل بفضله4. فافتتح عهده بمحاولته إصلاح الأوضاع المتردية بسمرقند، فدعا أهلها إلى الإسلام على أن ترفع عنهم الجزية، ووجه إليهم أبا الصيداء صالح بن طريف، وساعده في مهمته الحسن بن أبي العمرطة الكندي، عامل سمرقند، فدخلوا فيه أفواجا، وشيدوا المساجد، فكتب غوزك إخشيد سمرقند إلى أشرس أن الخراج انكسر لكثرة الداخلين في الإسلام، وقلة ما يجبى ممن بقي من أهل سمرقند على دينه. فضيق أشرس على الذين أسلموا، وسقطت عنهم الجزية، وراح يطالبهم بالاختتان، وإقامة الفرائض، وقراءة سورة من القرآن. ثم أقصى الحسن بن أبي العمرطة الكندي عن سمرقند، وعين مكانه هانئ بن هانئ، وأمره بأخذ الجزية ممن كانت تؤخذ منه. فامتنع أهل سمرقند عليه، واعتزلوا في سبعة آلاف على مقربة من سمرقند، وانضم إليهم أبو الصيداء، وعدد من تميم والأزد وبكر. فقبض هانئ على رؤساء العرب الذين ناصروا الترك، وأرسلهم إلى مرو الشاهجان. وألح في جمع الجزية، واستهان بعظماء العجم والدهاقين، وأساء معاملتهم، فثار الصغد وأهل بخارى ثورة عارمة، واستنصروا الترك، فخرج أشرس إليهم غازيا، وأقام بآمل على شط نهر جيحون الغربي أشهرا. ثم قطع قطن بن قتيبة بن مسلم النهر، فأطبق عليه الصغد والترك وأهل بخارى، وشلوا قوته، فلم يستطع التقدم ولا التأخر، فوجه إليه أشرس كتيبة فكت عليه

_ 1 الطبري 9: 1492، وابن الأثير 5: 139. 2 الطبري 9: 1489، وابن الأثير 5: 139. 3 فتوح البلدان ص: 417، والطبري 9: 1497، وابن الأثير 5: 142. 4 الطبري 9: 1502.

الحصار. ثما اجتاز النهر إلى بيكند، فلم يصلها إلا بعد مشقة كبيرة. وبذل كل ما في وسعه لبلوغ بخارى، فلم يبلغها إلا بعد معارك طاحنة خاضها مع الترك، وقتل فيها جملة من فرسان العرب، ومات منهم سبعمائة عطشا. ومن بخارى سير أشرس حملة إلى كمرجة بالقرب من بيكند، فلاقاها خاقان في الترك وأهل فرغانة وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى، وسدد عليها الطوق، فأبلى جنودها بلاء حسنا في الدفاع عن أنفسهم، ورفضوا الاستسلام، فاحتال خسرو بن يزدجرد على الموقف، وأعطاهم الأمان على أن لا يلتحقوا بأشرس في بخارى، بل أن يعودوا إلى الدبوسية من أعمال الصغد1. وهكذا فشل أشرس فشلا ذريعا في تحسين أحوال سمرقند السيئة، إذ لم يشرع في تطبيق ما اقترحه من تغييرات مالية برفع الجزية عمن أسلم منهم، حتى أعلن كثيرون إسلامهم، فتضاءلت الأموال التي كان الدهاقين يجمعونها، والتي كان مفروضا عليهم أن يدفعوها دون نقص أو تأجيل، لأنه كان من شروط صلحهم حين فتحت بلادهم أن يؤدوا مبلغا محددا كل سنة للفاتحين. فأذن أشرس للدهاقين بتحصيل الجزية ممن كانت تحصل منهم قبل إسلامهم. فكان ذلك مبعث سخطهم وعصيانهم، مما اضطر أشرس إلى محاربتهم، لإرغامهم على دفع الجزية، فجلب لنفسه ولجيشه هزائم متوالية بمواقع متعددة، انتهت بضرب خاقان طوقا قويا عليه ببخارى، لم يقدر على كسره، ولم يستطع الانفلات منه. وعندئذ رأى هشام أن يعزله ويولي مكانه الجنيد بن عبد الرحمن المري، فسار إلى ما وراء النهر وشق طريقه إلى أشرس بصعوبة بالغة، لأن الترك والصغد انقضوا عليه عندما عبر النهر، فشتتهم بعد قتال ضار، وواصل تقدمه نحو أشرس، فلما كان ببيكند عاود الترك الانقضاض عليه، فكاد يهلك، ثم ظهر عليهم، فجمع خاقان الترك وهاجمه عند رزماق بالقرب من سمرقند، فدارت الدائرة على الترك، ونجح الجنيد في فك الحصار عن سمرقند، وفي انتزاع أشرس ومن كان معه من الجند، وقفل عائدا إلى مرو الشاهجان2.

_ 1 فتوح البلدان ص: 417، والطبري 9: 1507، وابن الأثير 5: 148. 2 الطبري 9: 1527، وفتوح البلدان ص: 418، وابن الأثير 5: 156.

وفي سنة اثنتي عشرة ومائة عزم الجنيد على غزو طخارستان، فبعث إليها كتائب عديدة تتقدم إليها من جهات مختلفة، ولم تكد تلك الكتائب تتفرق عنه حتى هاجم الترك سورة بن الحر التميمي بسمرقند، فاستمد الجنيد، ولم تكن لديه قوة، لأن معظم جيشه كان غازيا. فقرر إغاثته، فقطع النهر، ونزل بكس، ومنها سار إلى سمرقند سالكا إليها طريقا جبليا صعبا. فلما كان بشعب جبلي وعر قريب منها فاجأه خاقان في جيش ضخم من الترك والصغد، وأهل فرغانة والشاش، فأحاطوا به، وصارعوه صراعا شديدا، وقتلوا عددا كبيرا من جيشه. ولولا ثبات نصر بن سيار وفرسانه المغاوير، وتفاني جنود الفرقة الخراسانية في القتال لأبيد الجنيد وجيشه، لأن خاقان لم يتراجع بجنوده، بل استمر يحاصر الجيش العربي، فاستنجد الجنيد بسورة بن الحر التميمي، فتوجه إليه من سمرقند، وبينما هو غير بعيد منه هاجمه الترك وقتلوه. وتمكن الجنيد في النهاية من دحر الترك، ودخول سمرقند، فأسرع خاقان إلى بخارى، فتبعه الجنيد إليها، وضربه عند الطواويس ضربة قاضية، وبذلك كللت حملة الجنيد باسترداد سمرقند وبخارى، وبإجلاء عيالات الجنود العرب من سمرقند، إلى مرو الشاهجان1. وفي سنة ست عشرة ومائة خلع هشام الجنيد عن خراسان، لأنه تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب2. وكان هشام يكره يزيد، ويعتبره خارجا على بني أمية، لأنه ثار عليهم بالبصرة في مطلع القرن الثاني3. واستعمل عليها عاصم بن عبد الله الهلالي، فوصل إلى مرو الشاهجان، وقد مات الجنيد حتف أنفه، فحبس عمارة بن حريم، ابن عم الجنيد، وحبس موظفي الجنيد، وعذبهم4. ولم يكد عاصم يستقر بمرو الشاهجان حتى ثار الحارث بن سريج التميمي بالنخذ، بين الفارياب وزم واليهودية وآمل، ودعا إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله،

_ 1 الطبري 9: 1532، وابن الأثير 5: 162. 2 الطبري 9: 1564. 3 الطبري 9: 1414. 4 الطبري 9: 1565، وفتوح البلدان ص418، وابن الأثير 5: 182.

والبيعة للرضا. فكان لدعوته صدى واسع في صفوف العرب المتذمرين، وفي نفوس الأعاجم الذين طالما شكوا من الطغيان، وضجوا من الضرائب الباهظة التي لم تكن تسقط عنهم ولا تخف عليهم، حتى بعد إسلامهم، فاحتل الفارياب وبلخ والجوزجان والطالقان ومرو الروذ، وهم على مرو الشاهجان في جيش من الأعاجم ودهاقين المقاطعات التي استولى عليها، وانضم إليه بعض العرب الساخطين من الأزد وتميم. فصد عاصم هجومه الأول على المدينة فعسكر بباب مرو الروذ1. وفكر عاصم في ضخامة المسؤولية، وصعوبة المشكلات المالية التي أثارت أهل خراسان وما وراء النهر، وقدر أن يستقيل من الولاية، فكتب إلى هشام أن يعفيه، وأن يضيف خراسان إلى صاحب العراق، "فتكون موادها ومنافعها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قريب، لتباعد أمير المؤمنين منها، وتباطأ غياثه عنها"، فأضافها إلى خالد بن عبد الله القسري عامل العراق، وأشار عليه أن يبعث إليها أخاه أسدا، ليصلح ما اضطرب من شئونها، ويضع حدا للفتنة بها. فلما أقبل أسد حبس عاصما وحاسبه، لأنه كان اتفق مع الحارث على خلع هشام ومحاربته إذا رفض العمل بالكتاب والسنة، وأطلق سراح عمارة بن حريم، وأخلى سبيل موظفي الجنيد، وقاتل خالد بن عبد الله الهجري الذي والى الحارث بآمل، وعطف على معكسر الحارث، فلم يستطع اقتحامه، ومنع أهل الترمذ من الأعاجم المسلمين الحارث من دخول مدينتهم، فانتقل إلى طخارستان، ثم سار أسد إلى سمرقند، فصرف عنها الهيثم الشيباني، لأنه دخل في طاعة الحارث2، ورجع إلى بلخ، فسير منها جديع بن علي الكرماني الأزدي إلى قلعة التبوشكان، حيث لجأ الحارث عند أصهاره من التغلبيين فأنزل بهم جديع هزيمة ساحقة، وسبى من كان بالقلعة من العرب والموالي، والذراري، وباعهم فيمن يزيد بسوق بلخ. وأقام أسد ببلخ، وجعلها مقره الإداري، ونقل الدواوين إليها،

_ 1 الطبري 9: 1566، وابن الأثير 5: 183. 2 الطبري 9: 1589، وابن الأثير 5: 186.

وأسكن بها الجنود العرب الذين كانوا بالبروقان1. وغزا طخارستان ففتح وأصاب سبيا2. وفي سنة تسع عشرة ومائة هاجم الختل على الشاطئ الشرقي لنهر جيحون، مقابل بلخ، فاستعان أميرها بخاقان الترك، فأعانه، فأرسل الأمير إلى أسد يعلمه بقدوم خاقان، وينصحه بمغاردة بلاده لئلا يوقع الترك به، فتعاديه العرب. فعمل أسد بنصيحته، بعد تباطؤ، فقدم الأثقال، فقطعت النهر، وأدرك خاقان من تأخر من العرب، فقاتلهم، ثم عبر النهر إلى الضفة الغربية، وهاجم طليعتهم التي عسكرت بالأثقال في بطن واد، ونجا أسد هو ومن معه من المقاتلة بمشقة3. ولم يسكت خاقان عن أسد، فقد ذهب إلى المنطقة الشرقية من طخارستان ويقال: إن الحارث بن سريج استدعاه إليها، فأجلى أسد العرب من الجوزجان وأنزلهم ببلخ، وقاد بنفسه جيشا جرارا من أهل فلسطين، وقنسرين، وحمص، ودمشق، ومن الأزد، وربيعة، وتميم، ومن الجوزجان، وألحق بخاقان هزيمة ساحقة بعد جولات عديدة، وسبى وغنم. وبقي خاقان بفلوله في طخارستان مدة، ثم رجع إلى وطنه، ورحل معه الحارث بن سريج. وبعد رجوعه اغتاله رجل من أعوانه، وهو كورصول، فاختلف الترك وتشتتوا، وعاد أسد إلى بلخ4. ثم جدد أسد الإغارة على الختل، إذ وجه إليها مصعب بن عمرو الخزاعي، فقتل أميرها، وفرق جنوده في أوديتها، فامتلأت أيديهم بالغنائم والسبي5. وفي سنة عشرين ومائة توفي أسد ببلخ، فناب منابه جعفر بن حنظلة البهراني، فعمل أربعة أشهر، وفي السنة نفسها أعفى هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري من ولاية العراق، وقلدها يوسف بن عمر الثقفي، فوكل حكم خراسان لجديع بن علي الكرماني الأزدي، فلم يرض هشام عنه، فأقصاه وعين عليها نصر ابن

_ 1 الطبري 9: 1591، وابن الأثير 5: 197. 2 الطبري 9: 1591، وابن الأثير 5: 198 3 الطبري 9: 1593 4 الطبري 9: 1593 5 الطبري 9: 1629.

سيار الكناني، فجفا اليمانية وربيعة، وفصلهم من الوظائف، وأعطاها للمضرية أربع سنوات1. وعمرت خراسان في ولايته عمارة لم تعمرها من قبل، وأحسن السيرة والجباية، ووضع الخراج عمن أسلم2. واستهل نصر ولايته بمقاتلة الترك إذ غزا ما وراء النهر من جهة باب الحديد، ثم قصد سمرقند مارا بورغسر، ومنها اتجه إلى الشاش، فحال بينه وبين قطع نهر الشاش كورصول التركي، والحارث بن سريج، ولكن جيشه الكثيف الذي كان يتألف من العرب، ومن أهل بخارى وسمرقند وأشروسنة، سرعان ما تغلب على الترك، وقتل زعيمهم كورصول، فاقتحم نصر الشاش، فتلقاه ملكها بالصلح والهدية والرهائن. وكان من نصوص الصلح أن يخرج الحارث بن سريج من بلاده فأخرجه إلى فاراب. ومضى نصر إلى فرغانة، فصالحه صاحبها بعد محاصرة قاسية3. وكان نصر خبيرا بخراسان ومشكلاتها التي تهم العرب والأعاجم، إذ عاش بها أكثر عمره متنقلا في المناصب الرسمية الإدارية والعسكرية، فبذل جهدا كبيرا لإصلاح أوضاعها السيئة، إذ عدل عن العصبية القبيلة، لأنه أحس بعمق قيمة الوحدة، وأثرها في صيانة السيادة العربية وحمايتها من العدو الخارجي، فعامل القبائل بالإنصاف، مع أنه انحاز في صدر ولايته إلى مضر، واطرح الأزد وربيعة، كما غضب على قيس بعد أن حاول يوسف بن عمر الثقفي تنحيته عن الحكم4. وعمل على تحسين أحوال أهل خراسان الأصليين، وبين خطته الإصلاحية في خطبة ألقاها بجامع مرو الشاهاجان، قال فيها: "استعملت عليكم منصور بن عمر بن أبي الخرقاء، وأمرته بالعدل عليكم. فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه. أو ثقل عليه في خراجه، وخفف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك إليه، يحوله عن المسلم إلى المشرك". فما كانت الجمعة الثانية حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم،

_ 1 الدينوري ص: 351، وتاريخ اليعقوبي 3: 75. 2 الطبري 9: 1664، وابن الأثير 5: 227. 3 الطبري 9: 1694، وابن الأثير 5: 236. 4 الطبري 9: 1725.

وثمانون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحول ذلك عليهم، وألقاه عن المسلمين، ثم صنف الخراج حتى وضعه مواضعه، ثم وظف الوظيفة التي جرى عليها الصلح، فكانت مرو الشاهجان يؤخذ منها مائة ألف سوى الخراج، أيام بني أمية1. وبذلك كان يمكن أن تستقيم الأحوال بخراسان، ويتآلف العرب والعجم تآلفا قويا، ويستأنفوا حياة لا تفرقة ولا تسلط فيها. غير أن موت هشام بن عبد الملك، وقيام الوليد بن يزيد من بعده، وفتك ابن عمه يزيد بن الوليد به، وما صاحبه من تفكك الأسرة الأموية، وتصارع أبنائها على الخلافة حتى توفي يزيد بن الوليد، واستخلف مروان بن محمد، وما تعرض له نصر من الحسد والتآمر قد أضعف موقفه، إضعافا شديدا، وكانت الطامة الكبرى في تأثير الأحداث في الوضع بخراسان. فقد استفحل النزاع بين اليمنية والمضرية، وتعقد برجوع الحارث بن سريج إلى مرو الشاهجان ومحالفته الكرماني، ومخالفتهما نصرا. وازداد الوضع ترديا بظهور أبي مسلم على المسرح، وامتناع نصر عن موافقته على الدعوة للرضا من آل محمد، وما تبع ذلك من تعاظم الخطر الذي أخذ يحدق بنصر، وإخفاق القبائل العربية في التصدي لأبي مسلم بعد أن تهادنت من أجل التفرغ لقتاله، فأدى ذلك إلى غلبة أبي مسلم على مرو الشاهجان، واندحار نصر عنها2.

_ 1 الطبري 9: 1688، وابن الأثير 5: 236. 2 الطبري 9: 1855، وما بعدها، وابن الأثير 5: 307، وما بعدها.

القبائل العربية بخراسان

القبائل العربية بخراسان: ليس بين أيدينا صورة واضحة عن عدد العرب بخراسان، ولا عن منازلهم ووسائل معاشهم، وتنظيمهم الاجتماعي والعسكري، وتكتلهم السياسي، ولا عما شجر بين قبائلهم المتنافسة في السلطان من منازعات، ولا عن علاقاتهم بسكان خراسان الأصليين، وإنما كل ما لدينا عن ذلك كله مجموعة من الأخبار. وهي أخبار تكثر وتتسق في مبحث، وتقل وتتناقض في مبحث آخر. ومع ذلك فإنها تبقى الأساس الذي نقيم عليه تصورنا لكل تلك المباحث. وهو تصور يخضع في النهاية لمدى إحاطة الدارس بأحوال العرب بخراسان، ولاجتهاده في الاستنتاج والترجيح، أكثر مما يقوم على المعلومات الوافية المطردة. أما عدد العرب بخراسان فيتعذر أن نعرفه معرفة دقيقة، لأن المؤرخين لم يهتموا به كثيرا، وإنما اكتفوا بالإشارة السريعة إلى المقاتلين دون عيالاتهم، وتغاضوا عن المهاجرين والآخرين، الذين لم ينزحوا إلى خراسان للانتظام في صفوف الجند، بل للإقامة والعمل، أو للالتحاق بذويهم وأقاربهم. على أننا إذا تتبعنا ما ذكره المؤرخون من الهجرات الرسمية أمكن أن نقدر عدد العرب التقريبي من عهد إلى عهد، وأمكن أن نتبين أي قبائلهم كانت أكثر عددا، وأكبر قوة. وأخبار الحملة التي قادها ابن عامر لفتح خراسان، وعدد من اشترك فيها من الجند غامضة غموضا مطلقا، فكل ما نعرفه عنها أن القادة الذين استعان بهم كانوا يغزون في

ألوية متساوية، ويبلغ كل منها أربعة آلاف جندي. فقد بعث ابن عامر الأحنف بن قيس التميمي في أربعة آلاف إلى طخارستان1. ولما فتح الأحنف الجوزجان كان جيشه خمسة آلاف، أربعة آلاف من العرب، وألفا من مسلمي العجم2. وكان جيش عبد الله بن خازم السلمي الذي لقي به قارن التركي أربعة آلاف3. ولم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالحا من أهل خراسان، فإذا رجعوا خلفوا أربعة آلاف للعقبة. فكانوا على ذلك حتى كانت الفتنة بعد مقتل عثمان4. والمظنون أن العرب تضعضعوا بخراسان عندما احتدم الصراع على الخلافة بين علي ومعاوية، وأنهم أخلوا بعض المناطق التي احتلوها، وتجمعوا في الأقاليم التي كان سلطانهم لا يزال قويا فيها، غير أنهم لم ينسجوا من خراسان كلها، لأن المؤرخين لا يتحدثون عن فتحها مرة ثانية في أيام معاوية، وإنما يتحدثون عن إعادة تنظيمه لشئونها، وتعيينه ولاة جددا على أهم مقاطعاتها. ومهما يكن من أمر فإن مجموع العرب الذين كانوا بخراسان بعد فتحها مجهول، كما تنقطع أخبارهم حتى سنة خمس وأربعين، حين ولي زياد بن أبي سفيان البصرة لمعاوية، فولي أمير بن أحمر اليشكري مرو الشاهجان، وخليد بن عبد الله الحنفي نيسابور، وقيس بن الهيثم السلمي مرو الروذ، والطالقان، والفارياب، ونافع بن خالد الطاهي هراة وباذغيس وبوشنج. فكان أمير أول من أسكن العرب بمرو الشاهجان5. والنص السابق لا يدل على عدد الذين قدموا مع الولاة الأربعة إلى خراسان، كما أن البلاذري وحده هو الذي أشار إلى أن أمير بن أحمر اليشكري كان أول من أنزل العرب بمرو الشاهجان، أما الطبري6، وابن الأثير7، فأغفلا هذه

_ 1 الطبري 5: 2900، وتاريخ خليفة بن خياط 1: 173. 2 فتوح البلدان ص: 398. 3 الطبري 5: 2906، وتاريخ خليفة بن خياط 1: 178. 4 الطبري 5: 2906. 5 فتوح البلدان ص: 400. 6 الطبري 7: 79. 7 ابن الأثير 3: 451.

الإضافة. ولسنا ندري هل كان الذين أسكنهم ابن أحمر مرو الشاهجان من العرب السابقين، أو أنهم كانوا وافدين، ولكننا نفترض افتراضا أن بعضهم كانوا وافدين، لأن أخبار الولاة اللاحقين، تفيد أن كلا منهم، كان يستصحب معه عددا من المقاتلين والفرسان المشهورين. وفي أول سنة إحدى وخمسين عين زياد بن أبي سفيان الربيع بن زياد الحارثي على خراسان، وبعث معه خمسين ألفا من البصرة والكوفة، ويختلف القدماء في عدد من كل مصر من المصرين، فالطبري يقول: إن زيادا بعث مع الحارث خمسين ألفا، من البصرة خمسة وعشرين ألفا، وعليهم الربيع، ومن الكوفة خمسة وعشرين ألفا، وعليهم عبد الله بن أبي عقيل، وعلى الجماعة الربيع بن زياد1. فنقل الناس عيالاتهم إلى خراسان ووطنوها2، أما البلاذري3 وابن الأثير4 فيذكران العدد نفسه، ولكنهما لا يحددان نسبة من جاء من البصرة والكوفة. وشك الدكتور صالح العلي في أن العدد أخذ من أهل المدينتين بالتساوي والمناصفة، واستدل على ذلك، بأن الأخبار المتأخرة عن تنظيم العرب خراسان تظهر أن أهل الكوفة كانوا وحدة مستقلة لا تزيد عن سدس العرب هناك، وأن هذا التنظيم كان قائما على أساس الأخماس المتبع في البصرة، كما أن خراسان كانت متصلة بالبصرة أكثر من اتصالها بالكوفة5. ومع أن استدلال الدكتور صالح العلي صحيح، لأن أخبار العرب بخراسان تقطع بأن أهل الكوفة كانوا أقل بكثير من أهل البصرة، فإن البلاذري6، والطبري7، وابن الأثير8، يروون خبرا آخر يفيد أن هشام بن عبد الملك أمد الجنيد بن عبد

_ 1 الطبري 7: 81. 2 الطبري 7: 156. 3 فتوح البلدان ص: 400. 4 ابن الأثير 3: 452، 489. 5 استيطان العرب بخراسان ص: 38. 6 فتوح البلدان ص: 418. 7 الطبري 9: 1545. 8 ابن الأثير: 5: 168.

الرحمن المري، وهو يقاتل الترك بسمرقند سنة اثنتي عشرة ومائة بعشرين ألفا من الجنود، كان نصفهم من أهل البصرة، ونصفهم الثاني من أهل الكوفة، مما قد ينبئ بأن الخلفاء الأمويين كانوا يحرصون على تخفيف الضغط على أهل البصرة، الذي ألقي عليهم عبء إمداد خراسان بالجنود في أكثر الأحيان، فكانوا يجعلون بعض البعوث قسمة بين أهل المدينتين، ومما ينبئ بأن الخلفاء كانوا يبعدون العناصر المشاغبة في البصرة والكوفة إلى مناطق نائية، لكي يتخلصوا من خطرها، مع التمويه على هذه الغاية الخفية باختيار العناصر المبعدة شركة من المصرين1. وعلى كل حال، فهذا هو أول ذكر صريح لعدد المقاتلة بخراسان، وهذه هي أول مرة يشير المؤرخون فيها إلى أن المقاتلة نقلوا أسرهم إلى خراسان. ولا بد أن الجنود الذين كانوا بخراسان في النصف الثاني من القرن الأول كانوا أكثر من خمسين ألفا، فإن من قدموا مع الربيع بن زياد هم الذين يشكلون هذا العدد، أما من كانوا بخراسان من قبل فلم يضافوا إليه. وفي سنة أربع وخمسين ولى معاوية بن أبي سفيان على خراسان عبيد الله بن زياد، فقطع النهر في أربعة وعشرين ألفا2، وليس من ريب في أن قسما من هذا العدد وفد مع ابن زياد، ولم يكن من الجنود القدماء الذين كانوا يبلغون في ولاية الربيع بن زياد أكثر من خمسين ألفا. ولم تنقطع الهجرات والنجدات عن خراسان بعد ذلك. وإنما استمرت وتوالت، فكان كل عامل يعين عليها يستقدم معه إليها طائفة من القادة النابهين، والمقاتلين المعروفين، الذين يعتمد عليهم، وكان الخلفاء وأمراء العراق لا يتوانون في توجيه البعوث الضخمة إلى عمالهم بخراسان، لتعويض خسائرهم في الجند، وخاصة حين كان أولئك العمال يكثرون من غزو ما وراء النهر، ويمنون بالهزائم، أو يعجزون عن إكمال غزواتهم. ففي سنة ست وخمسين ولى معاوية بن أبي سفيان على خراسان سعيد بن عثمان بن

_ 1 تاريخ الدولة العربية، لفلهاوزن ص: 396. 2 فتوح البلدان ص: 401.

عفان، فخرج إليها، وخرج معه أوس بن ثعلبة التميمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، والمهلب بن أبي صفرة، وربيعة بن عسل، أحد بني عمرو بن يربوع، وأخرج معه قوما من الأعراب كانوا يصيبون الطريق ببطن فلج، فيهم مالك بن الريب المازني1. وفي سنة إحدى وستين عين يزيد بن معاوية على خراسان سلم بن زياد، فقدم البصرة، فتجهز وسار إلى خراسان، فشخص معه عمران بن الفصيل البرجمي، وعبد الله بن خازم السلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، والمهلب بن أبي صفرة، وحنظلة بن عرادة، وأبو حزابة الوليد بن نهيك، أحد بني ربيعة بن حنظلة، ويحيى بن معمر العدوي، حليف هذيل، وخلق كثير من فرسان البصرة وأشرافهم. فكان معه منهم ألفان، وقيل ستة آلاف2. وفي سنة خمس وستين كان من بقي مع الحريش التميمي بعد أن تفرق عنه أصحابه وهو يقاتل عبد الله بن خازم السلمي بمرو الروذ اثني عشر ألفا من بني تميم3. وإنما أوردنا هذا الخبر لندل به على حقيقة هامة، وهي أن بني تميم كانوا أكبر القبائل العربية بخراسان، لا في هذا الوقت فحسب، بل أيضا على مدار الحكم الأموي لخراسان. وفي سنة سبع وسبعين قضى أمية بن عبد الله الأموي على بكير بن وشاح التميمي، فكتب إلى عبد الملك ابن مروان، فضرب إليه بخراسان بعثا، فتجاعل الناس، فأعطى سليل الأسدي جعالته4 رجلا من جرم5.

_ 1 الطبري 7: 178. 2 الطبري 7: 393، وابن الأثير 4/ 96. 3 الطبري 7: 596، وابن الأثير 4: 209. 4 الجعالة: أن يكتب البعث على الغزاة، فيخرج من الأربعة والخمسة رجل واحد ويجعل له جعل. 5 الطبري 8: 1029.

وقبل سنة تسعين خرج الشمردل بن شريك اليربوعي هو وإخوته حكم، ووائل، وقدامة إلى خراسان، مع وكيع ابن أبي سود التميمي1. وفي سنة خمس وتسعين بعث الحجاج بن يوسف الثقفي جيشا من العراق إلى خراسان، فقدموا على قتيبة ابن مسلم، فغزا فلما كان بالشاش أو كشمهين أتاه موت الحجاج في شوال، فغمه، فقفل راجعا إلى مرو الشاهجان2. وفي سنة ست وتسعين كان بخراسان من مقاتلة أهل البصرة أربعون ألفا: من أهل العالية تسعة آلاف، ومن بكر سبعة آلاف، رئيسهم الحفين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف، عليهم ضرار بن حصين الضبي، ومن عبد القيس أربعة آلاف، عليهم عبد الله بن علوان، ومن الأزد عشرة آلاف، رأسهم عبد الله بن حوذان. وكان بها من مقاتلة أهل الكوفة سبعة آلاف. عليهم جهم بن زحر، أو عبيد الله بن علي3. واعتمادا على الجدول السابق، قدر المستشرق فلهاوزن مجموع العرب بخراسان بمائتي ألف4. ويبدو لنا أن الأرقام التي وردت في الجدول، والتي استند إليها فلهاوزن في تقديره غير دقيقة، فآية ذلك أن أبا عبيدة، معمر ابن المثنى، الذي كان له كتاب عن خراسان، يذكر أن مقاتلة بني تميم كانوا في تلك الفترة التي سجلت فيها الإحصائية السالفة أربعة وعشرين ألفا5. ويمكن أن نستنتج من الفرق الكبير بين عدد المقاتلين التميميين الذي ذكره البلاذري، والطبري، وابن الأثير، وبين عددهم الذي ذكره أبو عبيدة أن عدد جنود كل قبيلة من القبائل العربية حينئذ لا بد أن يكون أكبر، وأن جملة الجنود العرب الذين كانوا بخراسان في تلك الفترة كانت أكثر من خمسين ألفا بكثير،

_ 1 الأغاني "طبعة دار الكتب 13: 351". وأول مرة ذكر فيها اسم وكيع بن أبي سود التميمي بخراسان سنة تسعين، وما من ريب في أنه رحل إلى خراسان قبل ذلك. "انظر الطبري "طبعة دار المعارف 6: 443" 2 الطبري 8: 1298، وابن الأثير 4: 583. 3 فتوح البلدان ص: 413، والطبري 9: 1291، وابن الأثير 5: 15. 4 تاريخ الدولة العربية ص: 408، 468. 5 نقائض جرير والفرزدق 1: 368.

فقد روى خليفة بن خياط أنه كان بخراسان مائة ألف مقاتل، حين اغتيل قتيبة بن مسلم سنة ست وتسعين1. ويحتمل أن الجدول السابق لا يتضمن إلا مقاتلة القبائل المختلفة بمرو الشاهجان وحدها. ومما يقوي هذا الاحتمال أن يزيد بن المهلب غزا جرجان سنة ثمان وتسعين بمائة ألف مقاتل من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ووجوه أهل خراسان والري، سوى الوالي والمماليك والمتطوعين2وفي بعض الروايات أنه أغار عليها بأكثر من ذلك قال البلاذري: "غزا جرجان في مائة ألف وعشرين ألفا من أهل الشام والجزيرة والمصرين وخراسان"3. وقال الطبري: "يقال: كان يزيد بن المهلب في عشرين ومائة ألف، معه من أهل الشام ستون ألفا"4. وإذا افترضنا أن أهل خراسان كانوا يشكلون سدس جيشه، وهم على الترجيح لم يكونوا يشكلون أكثر من هذه النسبة، لأن أبا الصيداء صالح بن طريف شكا إلى عمر بن عبد العزيز سنة مائة من أن عشرين ألفا من الموالي يغزون مع العرب بلا عطاء ولا رزق5، فإن مجموع جنود القبائل العربية في جيشه كان مائة ألف. ولم تتوقف الهجرات والبعوث عن خراسان بعد ذلك، بل بقيت تتدفق عليها، ففي سنة إحدى عشرة ومائة استعمل هشام بن عبد الملك على خراسان الجنيد بن عبد الرحمن فقدمها في خمسمائة6. وبعد ذلك تكبد الجيش العربي خسائر فادحة في معركة الشعب بسمرقند، فاستمد الجنيد هشاما، فبعث إليه بعمرو بن مسلم في عشرة آلاف رجل من البصرة، وبعبد الرحمن بن نعيم في عشرة آلاف من أهل الكوفة7. ويزعم الشاعر خالد بن المعارك العبدي، المعروف بابن عرس، أن الذين هلكوا

_ 1 تاريخ خليفة بن خياط: 1: 421. 2 الطبري 9: 1319، وابن الأثير 5: 29. 3 فتوح البلدان ص: 331. 4 الطبري "طبعة دار المعارف" 6: 539. 5 الطبري 9: 1354. 6 الطبري 9: 1527. 7 الطبري 9: 1545، وفتوح البلدان ص: 418، وابن الأثير 5: 168.

من الجنود العرب سنة اثني عشرة ومائة في موقعة الشعب، والتي دارت بين الجنيد وخاقان، كانوا خمسين ألفا1، وهو رقم لا شك أنه بالغ فيه بعض المبالغة، ولكن المهم هو أن الجيش الذي حارب به الجنيد بسمرقند لم يكن يؤلف جميع الجنود العرب الذين كانوا بخراسان عندئذ، وإنما كان يؤلف قسما منهم، ذلك أن الجنيد تحرك إلى سمرقند في الوقت الذي اتجهت فيه أكثر فرق الجيش العربي إلى طخارستان، فقد وجه الجنيد عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفا، وإبراهيم بن بسام الليثي في عشرة آلاف في وجه آخر، وعبد الرحمن بن مسلم في لواء ثالث إلى النيروز2، كما كان بخراسان كتائب وألوية أخرى لم تغز طخارستان، ولم تتحرك مع الجنيد إلى سمرقند، وإنما كانت تعسكر بمواقعها مع رؤسائها في مدن خراسان الأخرى، فقد كان البختري بن أبي درهم لا يزال مقيما هو وجنوده بهراة، كذلك لم يحضر إلى الجنيد الجنود الذين كانوا مرابطين بالطالقان3، ويجب أن نزيد على كل هذه الكتائب والألوية الغازية وغير الغازية فرقا وسرايا أخرى كان بعضها بالمراقب والثغور الهامة لخراسان، وكان جنودها طلائع يراقبون العدو ويحرسون الحدود4، وكان بعضها ببلاد ما وراء النهر مثل سمرقند، وبخارى، وخوارزم، وبين أيدينا خبر واحد عن عدد المقاتلين الذين كانوا بسمرقند، مع سورة بن الحر التميمي، فقد سار معه منها اثنا عشر ألفا لإغاثة الجنيد بالشعب حين كان محاصرا مجهودا5 مما يدل من بعض الوجوه على أن الجيش العربي بخراسان لم يقل كثيرا في هذه الفترة عن مائة ألف جندي، وهو مقارب للعدد الذي كان في ولاية يزيد بن المهلب الثانية على خراسان. ويذكر الشاعر الكميت بن زيد الأسدي في قصيدة أرسلها من الكوفة إلى العرب بمرو الشاهجان، سنة سبع عشرة ومائة، حين اكتسح الحارث بن سريج التميمي أكثر

_ 1 الطبري 9: 1559. 2 الطبري 9: 1532. 3 الطبري 9: 1533. 4 الطبري 9: 1429، 1597، 1610، 1614، 1693، 1771، 1915، وانظر استيطان العرب بخراسان ص: 76، 77. 5 الطبري 9: 1540.

مدن خرسان، وكاد يستولي على مرو الشاهجان، في ولاية عاصم بن عبد الله الهلالي، أنه كان بمرو الشاهجان بمفردها سبعون ألفا1 ولسنا ندري هل كان هذا العدد يمثل الجنود وحدهم، أو أنه كان يشملهم ويشمل عيالاتهم. تلك هي أهم البعوث التي أرسلتها الدولة إلى خراسان منذ فاتحة العهد الأموي إلى خاتمته. وهي بعوث لم يحدد القدماء إلا عدد الجنود النظاميين الذين اشتركوا في كل بعث منها، أما المتطوعة فلم يهتموا بهم، ونحن نظن ظنا أنهم كانوا كثيرين، وأنهم كانوا يرتحلون إلى خراسان للمساهمة في الغزو مع الجيش النظامي، طمعا فيما يفوزون به من الغنائم والأسلاب. ومما يرجح هذا الظن أن الناس كانوا يتدافعون تدافعا، ويزحم بعضهم بعضا للانضمام إلى أحد البعوث، بحيث لم يستطع المشرفون على شؤون التعبئة أن يلبوا رغبة كل من تقدم إليهم للانتظام في ذلك البعث، فاختاروا واحدا من كل أربعة أو خمسة بالقرعة2. ولا بد أن نضيف إلى تلك البعوث الرسمية موجات أخرى من الهجرات الفردية والجماعية، كانت تحدث من حين إلى حين، إما لزيادة الأهل والأحباب بخراسان، والإقامة عندهم، وإما للاشتغال في المرافق الاقتصادية المتعددة، وإن كان المؤرخون لم يحتفلوا بهذه الموجات من الهجرات إلا نادرا، وآية ذلك أنهم إنما أشاروا إليها مرة واحدة في ولاية الربيع بن زياد الحارثي، إذ نصوا على أن الجنود نقلوا أسرهم إلى خراسان، وسكنوا دون النهر3. على أن البعوث الرسمية لم يكن كل جنودها يمكثون في خراسان، فقد كان بعضهم يتركونها ويعودون إلى بلدانهم، وخاصة بعد تقلص أمرائهم، كما كان كثيرون منهم يستشهدون في الحروب، ولذلك يصعب أن يعرف عدد من رجعوا منهم إلى أوطانهم، وعدد من استقروا استقرارا دائما، وعدد من قتلوا في المعارك، ويكون من الخطأ أن نجمع البعوث بعضها إلى بعض، ونستخرج منها عدد المقاتلين الكلي.

_ 1 الطبري 9: 1575. 2 الطبري 9: 1029. 3 الطبري 7: 81، 156، وفتوح البلدان ص: 400، وابن الأثير 3: 452، 489.

وثمة حقيقة أخرى يجدر التنبيه عليها، وهي أن تميما كانت على امتداد الحكم الأموي لخراسان أكبر قبيلة عربية هناك، ففي نهاية القرن الأول كانت أكثر خراسان عربية1، وفي بداية القرن الثاني كانت كذلك أكثر أهل خراسان2، ولا جدال في أن الأزد كانت القبيلة الثانية في الضخامة والكبر بخراسان. وإذا سلمنا بأن عدد المقاتلين في نهاية القرن الأول، وفي بداية القرن الثاني، أي في ولاية قتيبة بن مسلم، وولاية يزيد بن المهلب الثانية. وفي ولاية الجنيد بن عبد الرحمن المري كان مائة ألف، وافترضنا أن أسرة كل مقاتل كانت تتألف من أربعة أفراد، فإن جملة العرب بخراسان من المقاتلين والعيالات يمكن أن تكون قاربت نصف مليون نفس. وهو تقدير قد يكون فيه شيء من الزيادة، وقد يكون فيه شيء من النقضان. وأما الأماكن التي سكن فيها العرب بخراسان فالحديث عنها أكثر صعوبة، وأشد تعقيدا، فنحن لا نعرف على وجه الدقة هل كان العرب يستوطنون داخل المدن التي كانوا يفتحونها، أو أنهم كانوا يستقرون على مشارفها. فالأخبار عن ذلك متناقضة، إذ يدل بعضها على أنهم شاركوا أهل البلاد في مدنهم سواء بخراسان أو فيما وراء النهر. ومن ذلك ما يروى من أن عبد الله بن عامر حين صالح مرزبان مرو الشاهجان، كان في الصلح أن يوسع أهلها للعرب في منازلهم3. ومنه أن قتيبة بن مسلم عندما رأى أهل بخارى يقبلون الإسلام في الظاهر، ويعبدون الأصنام في الباطن، أمرهم أن يعطوا نصف بيوتهم للعرب، ليقيموا معهم، ويطلعوا على أحوالهم، فيظلوا مسلمين بالضرورة4. ولما فتح المدينة للمرة الرابعة، وسيطر عليها، وأخذ صلحها، قسمها بين العرب والعجم، فأعطى ربيعة ومضر من باب النون إلى باب العطارين، والباقي لأهل اليمن5. وبنى المسجد الجامع داخل حصنها6. ومنه أيضا أن أسد بن عبد الله

_ 1 نقائض جرير والفرزدق 1: 368. 2 الطبري 9: 1663. 3 فتوح البلدان ص: 396. 4 تاريخ بخارى ص: 73. 5 تاريخ بخارى ص: 80. 6 تاريخ بخارى ص: 84.

القسري نقل في مطلع القرن الثاني الجنود العرب الذين كانوا بالبروقان إلى بلخ، فأقطع كل من كان له مسكن بالبروقان بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن، أقطعه مسكنا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له إنهم يتعصبون، فخلط بينهم1. ويستدل من أخبار أخرى أن أهل البلاد الأصليين كانوا يرفضون مشاطرة العرب لهم في مدنهم، وأنهم كانوا يرون ذلك إجحافا بهم، وطغيانا عليهم، ومما يؤيد ذلك أنه حينما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، وظهر عدله، وفد عليه قوم من أهل سمرقند أملا في عدله، ورفعوا إليه أن قتيبة بن مسلم ظلمهم، واستولى على أرضهم، ودخل مدينتهم، وأسكنها العرب على غدر، فكتب عمر إلى عامله يأمره بأن ينصب قاضيا لهم فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج العرب أخرجوا لتعود الحال إلى ما كانت عليه قبل عهد قتيبة، فحكم القاضي بإخراجهم على أن ينابذوا أهل سمرقند الحرب، وأقروا الحرب، فأقاموا بين أظهرهم2. وأيا ما كان الأمر، فالذي لا شك فيه أن قسما من العرب نزل بداخل بعض المدن، وأن قسما آخر منهم، ولعله أكثرهم، أقام بالمناطق القريبة منها، لأن تلك المدن لم تكن لتحتمل أهلها الأصليين، والعرب الوافدين، ونحن نرجح ترجيحا أن الجنود كانوا يعسكرون خارج المدن، وعلى حدودها، حيث الأرض الخالية التي تتسع لهم ولعوائلهم ولخيولهم، وحيث المكان الفسيح الذي يلائم أمزجتهم وطبيعة حياتهم. ولما كانت مرو الشاهجان هي الحاضرة، وكان الولاة يتخذونها مركز إدارة مدني وحربي، فلا مفر من أن يكون لهم وجود فيها. غير أن أكثر ما نقل إلينا من الأخبار لا يدل على أنهم اختلطوا بسكانها المحليين، وامتزجوا بهم في فترة مبكرة، ولا يدل كذلك على أنهم كان لهم سككهم وأحياؤهم المستقلة، وإن كانت أخبار الفتنة الأخيرة بين اليمنية والمضرية تفيد أنه كان بالمدينة عدد من الأزد، وبكر، وتميم، وأن الكرماني حين

_ 1 الطبري 9: 1490، وابن الأثير 5: 138. 2 الطبري 9: 1364.

استولى عليها، هدم دور المضرية بها1. ولكننا لا نرتاب في أن والي خراسان وشرطته وقضاته والحامية التي كانت تقوم على حراسته، وغيرهم من المسؤولين الذين كانوا يشرفون على جمع الجزية والخراج، قد استوطنوا هم وأسرهم داخل المدينة. على أن الأخبار المتأخرة عن العرب بخراسان تشير إلى أنهم استقروا بكثير من القرى المحيطة بمرو الشاهجان، وأن سادتهم وأشرافهم كانوا يملكون أكثر أراضي تلك القرى، بحيث نسبت إليهم، وهي قرى كان معظمها منتشرا في سهل المدينة، وواحتها. وقد حفظ الطبري لنا أسماء بعضها، ومنها قرية لطئ يقال لها بونية2، وقرية حرب بن عامر3، وقرية بالين أو اللين4، وقرية سفيذنج5، وقرية فنين6، وكلها لخزاعة. ومنها قرية لكندة، وقرية لبني العنبر7، وقرية لخالد بن إبراهيم8. إلى غير ذلك من القرى التي عددها، وسماها بأسمائها9. وكان العرب الذين سكنوا هذه القرى يمارسون الزراعة ويدفعون الضرائب10. وكانت قيس هي الغالبة بنيسابور، في غربي خراسان، وخاصة في أواخر العصر الأموي11 وكانت بكر تمثل أكبر نسبة من القبائل العربية بهراة في جنوبي خراسان. ومعروف أنها كانت تنزل في أول الأمر بمرو الروذ، وأنها ظلت مقيمة بها حتى قتل عبد الله بن خازم السلمي سليمان بن مرثد فيها، وعمرو بن مرثد بالطالقان، فارتحل البكريون من مرو الروذ إلى هراة، ولحق بهم سائر أبناء قبيلتهم الذين كانوا مبثوثين بنواحي خراسان، فكان لهم بها جمع كثير12. وفي شرقي خراسان كانت أرض بكر، وأرض تميم متداخلتين، وكانت القبيلتان تتنازعان على بعض الأماكن، كل منهما تدعي أنها هي التي سبقت إليها واحتلتها قبل

_ 1 الطبري 9: 1934. 2 الطبري 8: 1026. 3 الطبري 9: 1862. 4 الطبري 9: 1952. 5 الطبري 9: 1952. 6 الطبري 9: 1914. 7 الطبري 9: 1579. 8 الطبري 9: 1952. 9 الطبري 9: 1957؟ 10 الطبري 8: 1029. 11 الطبري 9: 1929. 12 الطبري 7: 491، 496.

الأخرى1، كما كانت بعض القرى شركة بين قبائل عديدة مثل قرية خلم التي اقتسمها الأزد، وتميم، وقيس2. وإن كان المقدسي يرى أنها بلاد الأزد3، ولعله يقصد بذلك أنهم كانوا أكثر القبائل بها. كذلك كان العرب يقيمون بالبروقان التي تبعد فرسخين عن بلخ، وهي أكبر مدن الإقليم الشرقي. وكان الجنود يحتشدون فيها مع أمرائهم4. وفي نهاية القرن الأول أرسل إليها قتيبة بن مسلم اثني عشر ألف جندي، عليهم أخوه عبد الرحمن، ليقمع بهم ثورة نيزك طخارستان5. وفي مستهل القرن الثاني كان بها عشائر من قبائل مختلفة، من الأزد، وبكر، وتميم6. ثم حول أسد بن عبد الله القسري المقاتلة منها إلى بلخ، وبنى لهم فيها دورا، ونقل الدواوين إليها، وعمرها بعد أن كانت خرابا7. ومنذ ولاية أسد الأولى أهمل العرب البروقان، لأنها مكشوفة غير محصنة، وتجمعوا ببلخ فكان منهم بها سنة ثمانية عشرة ومائة ألفان وخمسمائة جندي من أهل الشام، بجانب الأزديين والبكريين والتميميين8. وقد نقل اليعقوبي إحصائية موجزة للقبائل العربية بمدن خراسان، تظهر أن العشائر المنتمية إلى غير قبيلة كانت تقيم في المدينة الواحدة، وتظهر أيضا أن العرب كانوا مختلطين بالعجم فيها. وهي إحصائية وإن كانت غير منقولة ولا مسجلة في العصر الأموي، بل في العصر العباسي، فإنها تكشف لنا عن بقايا التجمعات العربية في المدن الخراسانية لعهد بني أمية. ومن تلك المدن التي وصف اليعقوبي سكانها نيسابور، وأهلها

_ 1 تاريخ الدولة العربية ص: 395. 2 ياقوت 2: 465. 3 المقدسي ص: 303. 4 الطبري 9: 1490. 5 الطبري 8: 1207. 6 الطبري 9: 1473. 7 الطبري 9: 1490. 8 الطبري 9: 1590.

أخلاط من العرب والعجم1، وطوس، وبها قوم من العرب من طيئ وغيرهم، وأكثر أهلها من العجم2، ومرو الشاهجان، وأهلها أشراف من دهاقين العجم، وبها قوم من العرب، من الأزد وتميم وغيرهم3، وهراة، وبها قوم من العرب4، وبوشنج، وبها عرب يسير5، ويختتم اليعقوبي حديثه عن سكان مدن خراسان، وتحديده لنسبة العرب والعجم فيها، وتعيينه للقبائل العربية التي كانت في كل منها بقوله: "في جميع مدن خراسان قوم من العرب من مضر وربيعة، وسائر بطون اليمن"6. وأما الأسباب التي كان العرب بخراسان يكتسبون أرزاقهم منها، فالواضح أن المقاتلين المسجلين في ديوان العطاء كانوا يتقاضون رواتب دائمة من الدولة، كما كانت الدولة تفرض عطاء لبعض أفراد أسرهم، كان يشمل زوجة المقاتل وواحدا أو اثنين من أولاده. وكان المقاتلون يفوزون بأسهم، من الغنائم التي كانوا يحتازونها في غزواتهم المستمرة لما وراء النهر. وليس من السهل أن تحدد المبلغ الذي كانت الدولة تدفعه للمقاتل أو لزوجته أو لأولاده، ولكن يمكن أن نستأنس بما كانت تجريه على الجنود وعوائلهم وأطفالهم بالبصرة، لأن الكثرة المطلقة من مقاتلة خراسان كانت منها. فأعلى عطاء كانت الدولة تعطيه للجندي في البصرة ثلاثة آلاف درهم، وأدناه مائتان7. أما أغلبية الجند فكانت رواتبهم تتراوح ما بين مائتي درهم، وألف وخمسمائة درهم8. وكان عطاء النساء مائتي درهم، وعطاء الأطفال دون السابعة عشرة مائة درهم. ومن المشكوك فيه أن العطاء كان يخصص لكل الأطفال، لأن الميزانية لم تكن تساعد على ذلك9.

_ 1 اليعقوبي ص: 278. 2 اليعقوبي ص: 277. 3 اليعقوبي ص: 279. 4 اليعقوبي ص: 280. 5 اليعقوبي ص: 280. 6 اليعقوبي ص: 294. 7 التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة ص: 150. 8 المصدر نفسه: ص: 154. 9 المصدر نفسه ص: 163.

على أننا لا نعرف شيئا يذكر عن بقية العرب الذين نزحوا إلى خراسان، ولم يكونوا يقبضون أعطيات من الدولة، لأنهم لم يكونوا من الجند. ومن المحتمل أن نفرا منهم اشتغلوا بالتجارة، غير أننا لا نملك شاهدا واحدا يعطينا فكرة ما عن ثرواتهم وتجاراتهم وأرباحهم. ومن المؤكد أن كثيرين من العرب من الأزد، وبكر، وتميم، وقيس، تعاطوا الزراعة، وارتبطوا بالأرض، ويلاحظ أنهم لم يسكنوا القرى، ولم يعملوا في الزراعة بشكل واسع في القرن الأول، إذ لا يذكر من القرى التي نزلوا بها في هذا الزمن إلا عدد ضئيل1. أما في الربع الأول من القرن الثاني فازدادت ممارستهم للزراعة ازديادا كبيرا، يستخلص من كثرة القرى التي استقروا فيها والتي أحصينا بعضها قبل قليل. ويلاحظ كذلك أن القرى التي استقروا بها لم تكن مقصورة على إقليم بعينه، وإنما كانت منتشرة في سائر الأقاليم، سواء في منطقة مرو الشاهجان، أو في هراة2. ويروى أن بعض الولاة كان يفرض عليهم ضرائب باهظة، ويستوفيها منهم بالعنف، فكانوا يضجون بمر الشكوى، ويرفعون أصواتهم بالنقد، وخاصة في عهد أمية ابن عبد الله، إذ كان التميميون يرددون أنه أخذ الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، وأنه سلط عليهم الدهاقين في الجباية3. وهذه الصيحة المدوية ضد سياسية أمية المالية، إنما كان القصد منها الإساءة إلى أمية، وإثارة الناس عليه، وحملهم على مناوأته، أكثر من النقد الصحيح لسياسته المالية، لأن زعماء بني تميم، وعلى رأسهم بكير بن وشاح، وبحير بن ورقاء أرادوا أن يستبدوا بحكم خراسان، وأن يتصرفوا في شؤونها وفق مشيئتهم، لأن عبد الملك بن مروان تعهد لهم بذلك، قبل أن تخضع خراسان له، وهي بقبضة عبد الله بن خازم السلمي، فلما عرف أمية حقيقة نواياهم ومآربهم ضيق عليهم، فراحوا يتسقطون زلاته، ويختلقون الأخطاء له اختلاقا، ويلصقونها به إلصاقا، هذا من ناحية، ومن

_ 1 الطبري 8: 1026، 1029. 2 الطبري 8: 1026، وياقوت 2: 465. 3 الطبري 8: 1029.

ناحية أخرى فإن هذه هي المرة الوحيدة التي رفع فيها العرب شكوى على عامل من عمالهم على مدار العصر الأموي، بسبب سياسته المالية الجائرة. ويبدو أن لهذه الشكوى سببا آخر، وهو أن الحجاج بن يوسف فرض الخراج على الأرض التي امتلكها العرب بالعراق وخراسان، فصارت أرضا عشرية، وكانت قبل امتلاكهم لها أرضا خراجية، وإنما اضطر الحجاج إلى اتخاذ هذا الإجراء، لانكسار خراج العراق. وبذلك ارتفعت الضريبة التي أصبح على العرب أن يدفعوها للدولة. فنددوا بتدبير الحجاج وقاوموه، وثاروا عليه في العراق، مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وأحرقوا السجلات، وادعوا بعد إخماد الثورة أن أرضهم كانت في الأصل عشرية، لا خراجية1. وأما تنظيم العرب الاجتماعي والعسكري بخراسان فكان قائما على أساس الأخماس، وهو مماثل للترتيب الذي كان متبعا في البصرة، ومن المعلوم أن زياد بن أبي سفيان أعاد تنظيم مدينة البصرة، فقسمها بين خمس قبائل، كان كل منها يسمى خمسا، وكان يشتمل على عدد من العشائر، وكان عليه رئيس له سلطات واسعة، وكانت الغاية الأولى، من إيجاد نظام الأخماس عسكرية2. وهذا النظام نفسه هو الذي كان سائدا بخراسان، لأنها كانت من فتوح أهل البصرة، ولأن أكثر من هاجر إليها وسكن فيها، كان منهم، ولأن معظم ولاتها كانوا يختارون من بينهم. أما أهل الكوفة وأهل الشام الذين كان عمال العراق، أو الخلفاء بدمشق يوجهونهم إلى خراسان في فترات متباعدة، على شكل أمداد، فكانوا قلة قليلة بالقياس إلى أهل البصرة، وهم على كل حال لم يدمجوا في أهل البصرة، ولم يفرقوا على أخماسهم الأساسية، وقبائلهم الكبرى، وهم كذلك لم يقسموا وفق النظام الذي كانوا مصنفين عليه في الكوفة أو في الشام، وإنما كان أهل الكوفة مجموعة قائمة برأسها،

_ 1 مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي ص: 33، 49. 2 التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة ص: 53.

وأهل الشام مجموعة منفردة بذاتها، ونراهم دائما يوصفون في أحداث خراسان بأنهم أهل الكوفة1، وأهل الشام2. وتتضمن الأخبار المتأخرة عن أهل الشام بخراسان الإشارة إلى المدن والبلدان التي جاءوا منها، وتتضمن أسماء رؤسائهم، فحين لقي أسد بن عبد الله القسري خاقان الترك، والحارث بن سريج، خرج إليه في إحدى المعارك عامله على الجوزجان المقدام بن عبد الرحمن بن نعيم الغامدي في مقاتلته، "فجعل الأزد، وبني تميم، والجوزجان بن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بن عمرو الخزاعي، وأهل قنسرين، عليهم مغراء بن أحمر، وجعل ربيعة ميسرته، عليهم يحيى بن حضين، وضم إليم أهل حمص، عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، وأهل الأزد، عليهم سليمان بن عمرو المقري من حمير، وعلى المقدمة منصور بن مسلم البجلي، وأضاف إليهم أهل دمشق، عليهم حملة بن نعيم الكلبي، وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد"3. ويتردد ذكر الأخماس، أي القبائل الخمس العامة بخراسان في سنوات متعاقبة، وخاصة في أثناء الاستعداد للقتال، وغزوها وراء النهر4. ويظن الدكتور صالح العلي أن المصادر لا تذكر الأخماس بعد عهد أسد بن عبد القسري. ذاهبا إلى أن ذلك قد يرجع إلى نقص ما وردنا من الأخبار، أو لتعديل هذا النظام نتيجة لاندماج أهل الكوفة وأهل الشام والموالي. فحلت ربيعة محل عبد القيس وبكر، واليمن محل الأزد وغيرهم، ومضر محل تميم وأهل العالية. إذ نجد ربيعة واليمن ومضر تتكرر في أحداث الدعوة العباسية. ويظهر أنه لم يستقص أخبار العرب بخراسان بعد ولاية أسد بن عبد الله القسري، وإلا فإن المؤرخين أشاروا إلى الأخماس في ولاية نصر بن سيار سنة إحدى وعشرين

_ 1 الطبري 9: 1291، 1545، 1552، 1582، 7: 81. 2 الطبري 7: 168، 392، 9: 1313، 1318، 1690، 1704، 1707، 1710. 3 الطبري 9: 1609. 4 الطبري 8: 1254، 9: 1291، 1449، 1493، 1609، 1690. 5 استيطان العرب بخراسان ص: 41.

ومائة، حين غزا ما وراء النهر، وقتل كورصول1. ويوجب تطور الأحداث بخراسان بعد هذا التاريخ أن يختفي ذكر الأخماس، لأن نصر بن سيار توقف عن الإغارة على ما وراء النهر، وشغل بالأمور الداخلية إلى آخر أيامه، ولأن القدماء لم يذكروا الأخماس بخراسان قبل ذلك إلا في وقت الحرب، فقد كان الجيش العربي يتكون منها، وكانت كل قبيلة من القبائل الخمس تشارك في الغزو بعدد من الجنود حسب حجمها. ولكن هذا التغير الذي طرأ على الأخماس والذي لاحظه الدكتور صالح العلي صحيح، وهو يعود من جهة أخرى إلى انصهار قبائل كل حلف من القبائل الخمس المتنافسة، بحكم اتحاد مصالحها، وتطاول السنين على اجتماعها وتآلفها. والباحث يرى بوضوح أن المؤرخين مثل اليعقوبي2، والدينوري3 والطبري4، وابن الأثير5، أخذوا يذكرون، منذ نهاية العقد الثالث من القرن الثاني، أهل اليمن، وربيعة، ومضر، بدلا من الأزد، وبكر، وتميم، على التوالي. وكانت أخماس أهل البصرة بخراسان تتألف من خمس قبائل هي: أهل العالية، وبكر، وتميم، وعبد القيس، والأزد6. وكانت تميم أكبر الأخماس عددا، وأشدها قوة7، وكانت الأزد هي القبيلة الثانية المقابلة لتميم، والمزاحمة لها. وكان لكل خمس أو قبيلة رئيس، غير أن القدماء لم يحتفظوا بأسماء عدد كبير من رؤسائها، إما لأن تلك الوظيفة كانت محدثة، وإما لأن دور صاحبها كان ضعيفا، وإما لأن العرب توزعوا بخراسان في مناطق متباعدة8. وقد أحصى الدكتور صالح العلي رؤساء كل خمس، وتحدث عن بعضهم حديثا مفصلا، ووقف عند قبائلهم،

_ 1 الطبري 9: 1690. 2 تاريخ اليعقوبي 3: 75. 3 الدينوري ص: 351. 4 الطبري 9: 1934، 1935. 5 ابن الأثير 5: 227. 6 الطبري 9: 1291. 7 الطبري 9: 1693، ونقائص جرير والفرزدق 1: 368. 8 استيطان العرب بخراسان ص: 42.

وخاصة بكرا، وتميما، وأهل العالية، والأزد، وترك الكلام على عبد القيس لقلة الأخبار عنها1. وليس من غرضنا أن نعيد القول فيما عرض له، لأنه أدخل في البحث التاريخي الخالص ولأننا لن نزيد فيه شيئا جديدا كثيرا. وكل متتبع لأخبار العرب بخراسان يلاحظ بقوة أنهم افترقوا إلى كتلتين تتنافسان وتتصارعان طويلا، وتتوادعان وتتصافيان قليلا وقبل سنة خمس وستين لم يكن شيء من الخلاف قد دب بينهم، لأن قبائلهم لم تكن كثيرة وكبيرة، ولأنهم كانوا مهتمين بتأمين حياتهم، وسلامتهم في وطنهم الجديد، إلى أن كانت الفتنة بين بكر وعبد الله بن خازم السلمي، فانشقوا إلى مجموعتين، أما المجموعة الأولى فكانت تتكون من بكر، وأما المجموعة الثانية فكانت تتألف من تميم وقيس. وبعد سنة ثمان وسبعين كثر الأزد بخراسان، وعظم نفوذهم بمجيء المهالبة. وتوليهم مقاليد الحكم، وانحازوا إلى بكر بحكم ما كان يربط بين القبيلتين في البصرة من تحالف، فتغير ميزان القوة بين الحزبين المتسابقين، إذ أصبحت الأزد وبكر وعبد القيس في صف، وظلت تميم وقيس في الصف المعارض. ونحن نرجح أن ما انعقد بين قبائلهم بخراسان من معاهدات ومحالفات، وما نشب بينها من خصومات ومشاجرات يرجع إلى سببين أساسين، كان لكل منهما دوره في إثارة العصبية القبلية والحزبية، وفي إذكاء المنافسات السياسية. أما السبب الأول فهو اجتماعي وثقافي. فهو يعود من ناحية إلى تركيب المجتمع الأموي السكاني. فقد كان المجتمع الأموي مجتمعا بدويا قبليا2، لأن القبيلة كان وحدته الرئيسة في البادية والمدينة، وفي بلاد العرب والمدن التي استحدثوها، والبلاد التي فتحوها3. وقد أدرك الباحثون العرب القدماء هذه الحقيقة منذ زمن بعيد، ولعل أحدا منهم لم يعرفها معرفة

_ 1 استيطان العرب بخراسان ص: 42- 58. 2 العصر الإسلامي، للدكتور شوقي ضيف ص: 161، وتاريخ الدولة العربية ص: 203. 3 فتوح البلدان ص: 274، 345، وخطط الكوفة لماسنيون ص: 10، وتاريخ الحضارة العربية لبارتولد ص: 30، وانظر تفصيل ذلك في كتابنا الشعراء الصعاليك في العصر الأموي ص: 47- 60.

عميقة، ولم يشر إليها إشارة دقيقة كالجاحظ، فإنه وصف الدولة الأموية بأنها "دولة عربية أعرابية"1. وهو يعود من ناحية أخرى إلى ثقافة ذلك المجتمع المزدوجة، فقد ساد فيه تياران ثقافيان متناقضان، تيار الثقافة الجاهلية القبلية الموروث، الذي ظل العرب عامة يتمسكون به، ويخضعون له في تفكيرهم وسلوكهم خضوعا نسبيا متفاوتا2. وتيار الثقافة الإسلامية الحديث، الذي تغلغل في ضمائرهم قسم منهم، فآمنوا به، وحثوا على اتباعه. ومن أجل ذلك كان من الطبيعي أن ينتج عن هذا التركيب الاجتماعي البدوي، وعن هذه الثقافة الجاهلية الواسعة الثابتة ضعف إيمان العرب في هذه المرحلة التاريخية بمبدأ الأمة الواحدة، وقلة إدراكهم لفكرة الدولة، وضآلة استجابتهم لها، وإذعانهم لقوانينها، لأن كل هذه المبادئ والأفكار لم تكن قد تغلغلت في نفوسهم، ولا اتضحت في أذهانهم، ولم تكن قد رسخت في قلوبهم، ولا نفذت إلى وجدانهم، لجدة عهدهم بها، وحداثة ممارستهم لها، ولقربهم من الحياة الجاهلية، واستبداد تقاليدها ومثلها بعقولهم وأفئدتهم. ولذلك بقيت كل قبيلة منهم تستشعر كيانها ومصالحها، ومنافع حلفائها، وتحرص على أن تكون الرئاسة فيها والسيادة لها، تشبثا بالسلطة، وحبا فيما تجلبه من فوائد مادية ومعنوية. وأما السبب الثاني فسياسي، وهو يرد إلى موقف الخلفاء الأمويين من القبائل العربية التي عدت -كما دعا القرآن- أمة واحدة، فقد استعانوا بها على أنها جماعات قبلية متحاسدة، لا على أنها أمة واحدة متساوية في الحقوق، متكافئة في الواجبات. وكان الخليفة منهم إذا مال إلى القبائل اليمنية، أو القيسية يحابيها، ويقدمها ويغلبها وينيط برجالها أهم الوظائف في معظم الولايات، ومنها خراسان. فأدى هذا الأسلوب في معاملة القبائل والاعتماد عليها بقصد أو بغير قصد، إلى إحساس كل قبيلة

_ 1 البيان والتبيين 3: 217. 2 انظر كتابنا: الشعراء الصعاليك في العصر الأموي ص: 54.

منها بذاتها، وسعيها للمحافظة على وجودها، كما زاد من تعصبها لنفسها، ومنافستها لغيرها. والأمثلة الدالة على هذه السياسة بخراسان كثيرة، فعندما قضى عبد الملك بن مروان على مناوئيه من القيسيين والزبيريين، وحد من خطر الخوارج بمساندة القبائل اليمنية له، حاول بسط سلطانه على خراسان، فعين عليها أمية بن عبد الله الأموي، لأن القبائل هناك أهابت به أن يولي قيادتها رجلا قرشيا لا يحسد، ولا يتعصب عليه، لما قاست من سياسة عبد الله بن خازم الغاشمة. ولما نشأ عن قتل بحير بن ورقاء التميمي له من تفكك ومصادمات وسخائم وثارات بين عشائر بني تميم1. ولكنه لم يلبث أن عزله عنها، ووكل إدارتها للحجاج بن يوسف، أمير العراق، فبعث إليها كارها المهلب بن أبي صفرة، فعلت مكانة الأزد وحلفائها علوا بعيدا، وانحطت مكانة قيس وتميم انحطاطا شديدا، مما آذى الحجاج. ومع ذلك فإنه ظل عاجزا عن صرف المهلب عن خراسان2، لأنه كان يعلم مبلغ تقدير عبد الملك له، لما أسدى إليه من فضل لا ينكر بصده الخوارج عن العراق، وتحطيمه لهم بفارس. فلما توفي عبد الملك، وخلفه ابنه الوليد، وكان هواه مع قيس، أطلق يد الحجاج المغلولة، فكان أول ما فعله أن نحى يزيد بن المهلب عن خراسان، وولى عليها قتيبة بن مسلم الباهلي، فقبض على المهالبة، وأشخصهم للحجاج فحبسهم وعذبهم3. وفي عهد سليمان بن عبد الملك ارتفعت منزلة الأزد وحلفائها، وانخفضت منزلة تميم وقيس، لأنه نقم من الحجاج موافقته الوليد بن عبد الملك على إبعاده عن ولاية العهد، واختياره ابنه عبد العزيز لها. فقرب يزيد بن المهلب، ودفع إليه أصحاب الحجاج وأمره أن ينكل بهم، ففكر قتيبة بن مسلم في خلع سليمان، فلقي مصرعه، وعين سليمان على

_ 1 الطبري 8: 860. 2 الطبري 8: 1032، 1040، وابن الأثير 4: 448، 454. 3 تاريخ اليعقوبي 3: 32، والطبري 8: 1138، وابن الأثير 4: 511.

خراسان يزيد بن المهلب1. وفي ولاية يزيد بن عبد الملك تعاظم نفوذ قيس لأنه كان منحازا لها، فأسند ولاية العراق إلى عمر بن هبيرة الفزاري، فاستعمل على خراسان غير قيسي2، فضيقوا على الأزد وأعوانهم. وفي زمن هشام بن عبد الملك انكسرت شوكة قيس بالعراق وخراسان، إذ عزل هشام عن العراق ابن هبيرة، وولاها خالد بن عبد الله القسري، فبعث إلى خراسان أخاه أسدا، ولم يلبث هشام أن أقصاه عنها، ثم أعاده إليها، فتعصب للأزد، وتشدد على قيس وتميم3. وفي أيام الوليد بن يزيد استردت قيس سلطانها، فقد ولي العراق يوسف بن عمر بن هبيرة، فثبت نصر بن سيار على خراسان4. وما هي إلا أن يطيح يزيد بن الوليد بابن عمه الوليد بن يزيد حتى استرجعت القبائل اليمنية نفوذها، وحتى دبر يزيد لإقصاء نصر بن سيار عن خراسان، فامتنع عليه5. وفي عهد مروان بن محمد استأثرت قيس بالسلطة، إذ كان يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق، ونصر بن سيار على خراسان6. فحابى المضرية في مطلع ولايته، وعادى اليمنية. ويصح أن نضيف إلى السببين السابقين سببا ثالثا، وهو طبيعة العلاقة التي كانت تربط في البصرة بين القبائل المضرية والقيسية، وبين القبائل اليمنية والربعية، ولما كانت العلاقة بينها سيئة متوترة، بسبب تباين أهوائها ومواقفها ومنافعها القبلية والسياسية والاقتصادية، فقد كان من شأنها أن تؤثر تأثيرا قويا في عشائرها وفروعها التي رحلت إلى خراسان. ومعروف أن الشقاق في البصرة بدأ بين بكر وتميم، ثم انضمت عبد القيس إلى بكر. ومع ذلك ظلت القبائل المضرية تكثر القبائل الربعية. وعندما هاجر أزد عمان

_ 1 نقائض جرير والفرزدق 1: 350، وفتوح البلدان ص: 412، وتاريخ اليعقوبي 3: 40، 73، والطبري 8: 1283، وابن الأثير 5: 3. 2 الطبري: 1442، 1454، وتاريخ اليعقوبي 3: 56، وفتوح البلدان ص: 416، وابن الأثير 5: 107، 115. 3 الطبري 9: 1477، وفتوح البلدان ص: 417، وابن الأثير 5: 129. 4 التنبيه والإشراف ص: 280، والطبري 9: 1766، وابن الأثير 5: 269. 5 الطبري 9: 1845، وابن الأثير 5: 297. 6 الطبري 9: 1917، وابن الأثير 5: 342.

في آخر خلافة معاوية، وأول خلافة يزيد إلى البصرة، لم تبادر تميم إليهم، لأن سيدها الأحنف بين قيس رفض أن يسارع إليهم، ويتحالف معهم، لأنه كان يعتقد أنه إذا أتاهم أصبح قومه أذنابا لهم. فاستقبلهم مالك بن مسمع رئيس بكر، فتعاقدت الأزد وبكر، وأحيت القبيلتان ما كان بينهما من حلف في الجاهلية1. فآذن ذلك بتبدل الموقف بين القوتين المتنافستين في البصرة، فقد قويت بكر بانضمام الأزد إليها، وظلت قوة تميم على حالها. وحدث أن مات يزيد بن معاوية سنة خمس وستين، وكان على العراق عبيد الله بن زياد، فدعا أهل البصرة إلى مبايعته، حتى ينجلي الأمر، ويختار الناس خليفة لهم، فبايعوه، ثم إنهم تمردوا عليه وخلعوه، فاستجار بمسعود بن عمرو زعيم الأزد، فأجاره ومنعه إلى حين، ثم خرج ابن زياد إلى الشام، واستخلف على البصرة مسعود بن عمرو الأزدي، فرفضته تميم وقيس، وأصرت القبيلتان على أن يتولى أمرهم رجل ترضاه الجماعة، ودخل مسعود دار الإمارة فثارت ثائرة بني تميم، فلما دخل المسجد هاجوا فقتلوه. فاجتمعت الأزد وعليها زياد بن عمرو العتكي وخرج إليها مالك بن مسمع في بكر، واجتمعت تميم إلى الأحنف بن قيس، ومالت قيس إليها، واقتتل الفريقان، وقتل منهم خلق كثير، فرأى الأحنف بن قيس أن يجعلوا بينهم كتاب الله، وأن يحكموا بينهم من يرتضونه جميعا، وأن تدفع تميم دية مسعود إن كان للأزد عليه بينة. فاصطلحوا وودت تميم مسعودا بعشر ديات2. وهكذا اتسعت شقة الخلاف بين هاتين المجموعتين المتزاحمتين من القبائل بالبصرة، وأصبحت الأزد وبكر وعبد القيس في جانب، وتميم وقيس في جانب آخر، وكان لما شجر بينهما من صدام أثره فيمن انتقل منهم إلى خراسان، إذ اتحدت هنالك قبائل كل مجموعة وتنافست، على نحو ما تكتلت في البصرة وتنابذت. حتى إذا توفي يزيد بن معاوية، واضطربت الأمصار، وبلغت وفاته العرب بخراسان، ثاروا، فاضطر سلم بن زياد إلى إعلانها وتوثيقها، ثم ناشدهم أن يطيعوه حتى يجتمع الناس على خليفة،

_ 1 الطبري 7: 450. 2 أنساب الأشراف 4: 97، ونقائض جرير والفرزدق 1: 111، 2: 740، والطبري 7: 461.

ويستقيم له الأمر. فأطاعوه شهرين، ثم نكثوا به، فخرج عن خراسان، وخلف عليها المهلب بن أبي صفرة. فلما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد البكري، فسأله عمن استخلف؟ فقال له: المهلب بن أبي صفرة، فقال سليمان: ضاقت عليك نزار حتى وليت رجلا من أهل اليمن. فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولى أوس بن ثعلبة البكري هراة. ومضى فلما صار بنيسابور لقيه عبد الله بن خازم السلمي، فقال له من وليت على خراسان؟ فأخبره، فقال له ابن خازم: أما وجدت في مضر رجلا تستعمله، حتى فرقت خراسان بين بكر بن وائل، ومزون عمان. وسأله أن يكتب له عهدا عليها. فأبى سلم. فألح ابن خازم عليه، فأجابه إلى ما سأل. وأقبل ابن خازم على مرو الشاهجان، وعلم المهلب بن أبي صفرة بقدومه إليها. فتركها وأناب عليها رجلا من بني جشم من تميم، فلما وصل ابن خازم إليها، منعه الجشمي من دخولها، فجرت بينهما مناوشة جرح الجشمي فيها، ثم غلب ابن خازم على مرو الشاهجان. وسار إلي سليمان بن مرثد البكري، وهو بمرو الروذ فاحتلها وقتله، ثم اتجه إلى عمرو بن مرثد، البكري، وهو بالطالقان، فاقتحمها وصرعه، ثم رجع إلى مرو الشاهجان. وفر أصحاب عمرو بن مرثد البكري من الطالقان، والتحقوا بأوس بن ثعلبة البكري بهراة، وأسرع إليه البكريون الذين كانوا بمدن خراسان الأخرى، والتفوا حوله, وحرضوه على أن يسير إلى ابن خازم ويطرد مضر من خراسان. فاتهمهم بالتعصب والتقلب، وطلب إليهم أن يكتفوا بهراة إن أبقاهم ابن خازم بها. ولكن بني صهيب لم يقتنعوا بنصيحته. فقد هتفوا أنهم يستحيل عليهم أن يكونوا مع المضريين في بلد واحد، بعد أن قتلوا بني مرثد، وهددوه بالعزل وانتخاب رئيس غيره لهم، إذا هو لم ينفذ رغباتهم، فأذعن لهم. فزحف ابن خازم نحوهم، فخندقوا خندقا دون هراة استعدادا لملاقاته، وقبل أن يهجم عليهم سفر السفراء بينه وبينهم، لأن التميميين أجبروه على مفاوضتهم، فتشدد البكريون، وأصروا على إخراج جميع مضر من خراسان كلها، فهاجمهم، فانهزم البكريون، وقتلوا قتلا ذريعا، ولاذ أوس بن ثعلبة بسجستان، وبه جراحات فمات بها، وعين ابن خازم محمدا على هراة1. وإنما سقنا هذه الحادثة على طولها لكي نوضح أن النزاع بين بكر بن وائل وبين

_ 1 الطبري 7: 488، وابن الأثير 4: 155.

قيس وتميم كان عصبيا سياسيا. فقد كان البكريون يريدون الانفراد بالسلطان، والسيطرة على خراسان، في حين كان ابن خازم والتميميون يبتغون الاستئثار بالحكم من دونهم. وسقناها لكي نبين أن الخلاف كان إلى هذا التاريخ بين ربيعة ممثلة في بكر، وبين قيس وتميم، الأولى ممثلة في سليم، والثانية في تميم. أما الأزد فلم ينحازوا إلى بكر، ولم يشتركوا في القتال، لأنه لم يكن لهم قوة كبيرة مؤثرة، ولذلك فضل زعيمهم المهلب بن أبي صفرة السلامة، فنزل عن خراسان وعاد إلى البصرة. وتستقر الأوضاع بخراسان، ولا تشتبك القبائل العربية في معارك عنيفة إلا بعد أربعين عاما. ولكن ميزان القوى اختلف هذه المرة اختلافا كبيرا، فقد تكاثر الأزد بخراسان، بعد ولاية المهلب بن أبي صفرة، وولاية ولديه يزيد والمهلب من بعده، ومالوا بثقلهم إلى بكر، لما كان يجمع بينهم وبينها من تحالف في البصرة، فأصبح الصراع بين الأزد وبكر من جهة، وبين قيس وتميم من جهة ثانية. ففي سنة ست ومائة كانت وقعة البروقان بين اليمنية والربعية، وبين المضرية، وذلك أن الأزد وبكر ثاروا ببللخ، وتأخروا عن اللحاق بمسلم بن سعيد بن زرعة الكلابي أمير خراسان، وقد قطع النهر على رأس حملة إلى فرغانة، متذرعين في الظاهر بأنه لم يدفع لهم أعطياتهم، ومضمرين في الحقيقة التمرد والعصيان. فوجه إليهم نصر بن سيار، فأجرى عليهم رواتبهم. وأمرهم بالسير إلى أميرهم. فرفضوا، حينئذ دارت معركة حامية بينه وبينهم، انتهت بهزيمتهم هزيمة نكراء1. وتهدأ الأحوال بخراسان ثانية، ولا تجدد الحرب فيها إلا بعد عشرين عاما، ولم تنحصر أطراف الأزمة في عناصرها التقليدية من اليمن وربيعة ومضر، بل انضاف إليها، واندس بينها طرف ثالث جديد، وهو أبو مسلم الخراساني، الذي استغل تناحر العرب وضعفهم، وعمل في توسيع الخلاف بينهم، واستطاع في النهاية أن يطيح بآخر ولاة بني أمية على خراسان. ففي سنة ست وعشرين ومائة ثارت الفتنة بمرو بين الأزد وبكر، وبين مضر، وكان

_ 1 الطبري 9: 1472، وابن الأثير 5: 127.

من أسبابها أن نصر بن سيار تباطأ في دفع العطاء إلى مقاتلة الأزد وبكر، فهاجوا وتذمروا، فدفع لهم جزءا من أعطياتهم، ونهاهم عن الفوضى، ودعاهم إلى نبذ خلافاتهم، وذكرهم بأنهم أشبه بكتيبة متقدمة تقف على خط المواجهة الأمامي مع العدو، وأن أي شرخ في صفوفهم يفقدهم قوتهم وهيبتهم، ويطمع أعداءهم فيهم، فلم يستبن جديع بن علي الكرماني الرشد، بل أعمته الأحقاد الشخصية، وضللته العصبية القبلية1، فمضى يزاحم نصرا ومضر على الرئاسة. ثم إنه حالف الحارث بن سريج بعد أن عاد من بلاد الترك إلى مرو الشاهجان، وقاتلا نصرا، وسيطرا على المدينة. ففر نصر إلى نيسابور. وعلى الرغم من غاراته العديدة، واستغاثته المتكررة بابن هبيرة، ومروان بن محمد، ومناوراته الإعلامية الكثيرة، فإنه لم يستطع حصر الأزمة، وحل المعضلة. فقد تدهور الموقف تدهورا شديدا، وبعد قتل الكرماني للحارث، واغتيال ابن الحارث له، وانتهاز أبي مسلم للوضع، وسعيه للاستيلاء على المدينة. ومع أن العرب التفتوا إلى خطره الداهم، ووادع بعضهم بعضا، من أجل التصدي له والقضاء عليه، فإنه أوقع في روع ابن الكرماني أن نصرا تآمر على أبيه وقتله، فرجع إلى معاداة نصر ومحاربته. وبذلك تمكن أبو مسلم من احتلال المدينة، وباحتلاله لها انهارت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية2. وبجانب الوقائع الحربية التي دارت بين قبائل الجانبين الساعيين إلى الزعامة، والمتسابقين إلى السلطة بخراسان، مظاهر أخرى للعصبية القبلية السياسية، لم يشهر فيها السيف، وهي تتضح في أن كلا منهما كان حينما تسند إليه الولاية يملأ المراكز الكبيرة بالموظفين من إخوانه وأبنائه، وأقربائه، وحلفائه، ويحرم الطرف الثاني المعارض منها، ويظلمه ظلما شديدا، ويعنف به عنفا زائدا. فعندما ولي المهلب بن أبي صفرة خراسان، ووليها أبناؤه من بعده كانت الوظائف الهامة بأيديهم3. وليس أدل على استبداد المهالبة والأزد بالمناصب والمنافع من قول يزيد بن المهلب للأزد، وقد عين على خراسان بعد مقتل قتيبة بن مسلم، وانتخاب

_ 1 الاشتقاق ص: 503، وجمهرة أنساب العرب ص: 381. 2 الطبري 9: 1855، وما بعدها وابن الأثير 5: 307، وما بعدها. 3 الطبري 8: 1047، وابن الأثير 4: 511.

الأزد وغيرهم وكيع بن أبى سود التميمى أميرا: يا معشر الأزد،كنتم أذل خمس بخرسان، حتى إن الرجل من الحي الآخر ليشتري الشئ فيتسخركم فتحملونه له، حتى قدم المهلب، وقدمت، فلم ندع موضعا يستخرج منه درهم إلا استعملناكم عليه، وحملناكم على رقاب الناس، حتى صرتم وجوها 1 ولما تقلد أسد بن عبد الله القسرى خراسان صنع صنيع المهالبة، إذ تعصب للأزد تعصبا كبيرا 2. وفي مقابل ذلك كان القيسيون والتميميون حين يلون الحكم يجردون الأزد وربيعة من الوظائف، ومن أبرزها يروى في هذا الصدد أن سعيد بن عبد العزيز الأموي، عندما استعمل على خراسان، في خلافة يزيد بن عبد الملك، ضيق على الأزد إذ سعى إليه عبيد بن الله بن عبد الحميد الأموي بجهم بن زحر بن قيس الجعفي، وبعده من اليمانية، وقال: إنهم ولوا ليزيد بن المهلب، وعندهم أموال احتجنوها واختانوها، وسماهم له. فأرسل إليهم، فحبسهم في قهندز مرو الشاهجان. فقيل له: إنهم لا يؤدون بالحبس دون البسط عليهم. فأمر بإحضار جهم، ثم دفعه وجماعة من اليمانية إلى الزبير بن نشيط، مولى باهلة ليستأديهم، فعذبهم، فمات جهم في الحبس 3 ويقال إن الجنيد بن عبد الرحمن المري لم يستعمل إلا مضريا على الكور بخراسان 4. ويبالغ الدينورى 5، واليعقوبي 6، في اتهام نصر بن سيار بالعصبية إذ يقولان: إنه كان متعصبا على اليمانية، مبغضا لهم فكان لا يستعين بأحد منهم، وعادى ربيعة بميلها إلى اليمانية. والصحيح أنه تحامل عليهم في السنوات الأولى من ولايته، ثم عدل عن ذلك 7. على أن التحالف بين القبائل في كل مجموعة من المجموعتين المتنافستين كان عرضة

_ 1 نقائض جرير والفرزدق 1: 367. 2 الطبري 9: 1500. 3 أنساب الأشراف 5: 162. 4 الطبري 9: 1529. 5 الدينوري ص: 351. 6 تاريخ اليعقوبي 3: 75. 7 الطبري 9: 1664.

للتفسخ في أحيان كثيرة، كما كان التمزق يصيب عشائر القبيلة الواحدة، وكان التسابق إلى السيادة، والتحاسد على المنافع الشخصية. والطمع في الفوائد المادية وراء كل تصدع في صفوفهم، سواء في قبائل الحلف الواحد، أو في عشائر القبيلة الواحدة. فقد خالفت تميم عبد الله بن خازم السلمي في السنة التي ناصرته فيها على بكر بن وائل، لأنه جفاها، وعين ابنه محمدا على هراة، ووظف بكير بن وشاح التميمي على شرطته، وأمره بصدها إذا هي حاولت اقتحام المدينة، فلما عزمت على دخولها أغراها ابن وضاح بذلك، ودفع لها أموالا طائلة فزادها تصرفه تزمتا وتعنتا، فاحتلت هراة، وقتلت محمد بن عبد الله بن خازم بها1. وخرجت إلى مرو الروذ، فقاتلها ابن خازم لسنتين، فتفرقت جماعات وبقيت جماعة منها بقصر فرتنا بالقرب من المدينة، فحاصرها حصارا شديدا حتى استسلمت له، فقتل كل من وقع بيديه منها2. فناصبته تميم العداء، وانتفضت عليه بنيسابور، وكان يقودها بحير بن ورقاء الصريمي. فاستخلف ابن خازم على مرو الروذ ابن وشاح وسار إلى نيسابور، وبينما كان يقارع بحير بن ورقاء، أرسل إليه عبد الملك بن مروان أن يبايع له، على أن يطعمه خراسان سبع سنين، فاستشاط غضبا، ووبخ حامل الرسالة. فكتب عبد الملك إلى ابن وشاح بولاية خراسان، فقبلها، فضعف موقف ابن خازم ووقر في نفسه أنه عاجز عن مصارعة ابن وشاح، وابن ورقاء معا، فقرر اللحاق بابنه موسى في الترمذ، وكان يحثه إليها قبل مسيره إلى نيسابور. وعندما كان يحاول الفرار أدركه ابن ورقاء فقتله3، فانتحل ابن وشاح قتله، وقيد ابن ورقاء، فكان ذلك سببا في افتراق تميم، إذ تعصبت مقاعس والبطون لابن ورقاء، وانحاز بنو عوف والأبناء لابن وشاح، واصطدم الفريقان، ولم تزل الأحوال مضطربة بخراسان حتى عين عبد الملك عليها أمية بن عبد الله الأموي، فتلطف إلى ابن وشاح، وعرض عليه أن يوليه قائدا لشرطته، فرفض، فأعطى المنصب لابن ورقاء، فاستاء ابن وشاح، وتمرد على أمية، وهو بالغزو، فرجع إلى مرو

_ 1 الطبري 7: 593. 2 الطبري 8: 696. 3 الطبري 8: 834، وتاريخ اليعقوبي 3: 18.

الشاهجان، وعفا عنه، ثم صح له أن يحرض الناس للثورة عليه، فحبسه وأعدمه1. وفي سنة ست وتسعين خالفت أغلبية القبائل قتيبة بن مسلم، وشاركت في قتله، ذلك أنه كان عامل الحجاج على خراسان، فلما توفي الوليد بن عبد الملك، وكان قيسيا لحما ودما، وبويع سليمان بن عبد الملك، وكان يمني الهوى، انتقم سليمان لنفسه من خصومه الذين وافقوا الوليد على إقصائه عن ولاية العهد، فقبض على عمال الحجاج، وساقهم إلى يزيد بن المهلب، وألبه يزيد على قتيبة. وعلم قتيبة بما جرى، وكان غازيا بفرغانة، فخشي أن يعزل ويعذب ويقتل، فشهر بسليمان بن عبد الملك، وبيزيد بن المهلب، وذكر العرب بما حققه لهم، وما أصابوه في عهده من الخير والغنى، ودعا الجيش إلى تأييده ومساعدته، فنفروا جميعا منه، وخافوا مغبة سياسته، فاغتاظ، وخطبهم خطبة طويلة، لام فيها كل القبائل، وأهانها، ونال من شرفها، فانفضت من حوله، وأخذت تدبر لخلعه، ووجد الأزد أن الوقت مناسب للتخلص منه، لأنه كان شديد الوطأة عليهم، ولأنه صفى مكاسبهم التي فازوا بها أيام المهالبة، فاتفقوا مع حلفائهم من ربيعة على خلعه، ثم فاوضوا تميما. لأنها كانت حاقدة بدورها عليه، لأنه قتل نفرا من بني الأهتم، ولأنه صرف وكيع بن أبي سود عن رئاستها، وولاها رجلا من ضبة. وهكذا التقت كافة القبائل على عزله، وتزعمها وكيع بن أبي سود التميمي، وقتل قتيبة2. وقام وكيع بولاية خراسان، ولم يزل عليها حتى أبعده سليمان بن عبد الملك عنها وأسندها إلى يزيد بن المهلب. وبذلك أسهمت تميم أكبر الإسهام في قتل قتيبة، وهو الذي رفعها بعد أن ذلت في ولاية المهالبة. أما قيس فلم يكن لها ضلع في التآمر عليه، بل إنها وقفت عاجزة عن الأنصار له والدفاع عنه. وواضح أن القبائل القيسية والتميمية التي كانت مجتمعة في حلف واحد كانت كلمتها تتفرق، وصفوفها تتمزق، كما كانت تلتحم في معارك طاحنة على السلطة،

_ 1 الطبري 8: 1022، وابن الأثير 4: 443. 2 نقائض جرير والفرزدق 1: 350، وتاريخ اليعقوبي 3: 40، والطبري 9: 1283، والأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 293.

وكانت القبيلة الواحدة منها تتصدع وتتوزع شعبا يعادي بعضها بعضا. أما الحلف الذي كان مؤلفا من الأزد وبكر وعبد القيس فلم ينقل المؤرخون أنها اختلفت هذا الاختلاف، ولا أنها اصطدمت هذا الاصطدام. وأكبر الظن أنهم أغفلوا بعض منافراتها وحروبها. وآية ذلك أن أبا الفرج الأصفهاني ذكر أن الأزد وعبد القيس تنابذوا في ولاية المهلب، واقتتلوا قتالا عنيفا، وأن شعراءهم تهاجوا هجاء فاحشا، حتى توسط المهلب بينهم، فتوقف فرسانهم عن الحرب، وكف شعراؤهم عن التهاجي1. ولكن المحقق أن تلك القبائل كان بعضها يحسد بعضا ويسيء إليه. وأن كل قبيلة منها كانت تود أن تكون مستقلة بشئونها الداخلية، محفوظة الحقوق، مرعية الجانب من حلفائها. والأدلة على تباغضها وتصارعها كثيرة، ومنها أن يزيد بن المهلب ولى رجلا من اليحمد الزم بشط جيحون، فلقيه كعب الأشقري الأزدي، فقال له: أنت شيخ الأزد يوليك الزم، ويلي ربيعة الأعمال السنية، وهجاه2. ومنها أن نهار بن توسعة البكري ندد بيزيد بن المهلب حين رآه يصد عن قبيلته ويهملها ويقرعها3. ومنها أن أبا البريد البكري انتقد الأزد وأسدا القسري اليمني عندما أبصرهم يتنكرون لبكر، ويحتازون المراكز والمنافع من دونها4. وكأنما كانت خراسان بركانا يغلي بالقبائل العربية، فيثور ثم يهدأ، ولا يلبث أن يثور وهكذا. وكان التناحر على النفوذ، والتنافس في الرئاسة، والتزاحم على المنفعة حمم ذلك البركان التي كانت تزيد وتلتهب في بعض الأحيان، فيضيق بها فتتفجر تارة منازعات دامية، وتارة اضطهادات سياسية. ولكن الظاهرة اللافتة للنظر بقوة، هي أن الأزد وبكرا كانوا ضائقين بوضعهم في خراسان أكثر من القبائل الأخرى، لأن الولاة لم يكونوا منهم في الأغلب، بل من قيس. وكان الأزد خاصة قلقين متبرمين، لأنهم كانوا يكونوا منهم في الأغلب، بل من قيس. وكان الأزد خاصة قلقين متبرمين، لأنهم كانوا يشعرون بأنهم غبنوا دورهم وحقهم السياسي، فأثر ذلك في نفوسهم تأثيرا سيئا. وكان البكريون يحسدون المضريين، لأن الخلافة كانت فيهم، فعكر هذا الحسد أمزجتهم،

_ 1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 287. 2 الأغاني 14: 294. 3 نقائض جرير والفرزدق 1: 368، والطبري 9: 1313، وابن الأثير 5: 25. 4 الطبري 9: 1497.

وجعلهم يحالفون الأزد في البصرة وخراسان، ويشكلون معهم جبهة معارضة للمضريين، لم تكتف بمنافستهم منافسة عملية نزيهة، وإنما دأبت على مناهضتهم مناهضة شديدة حاقدة. والملاحظ أيضا أن بعض ولاة خراسان من أهل اليمن، ولا سيما المهالبة، كانوا دهاة بارعين. فنجحوا في إخفاء أحاسيسهم وغاياتهم السياسية، ونهوا المتطرفين من أبناء قبيلتهم عن إعلان همومهم وأهدافهم، وحاولوا كبح جماح المتهورين منهم، لأنهم كانوا يؤثرون العمل سرا لتحقيق مطالبهم ومآربهم. ولكن بعض الشعراء الأزد كانوا متسرعين متعجلين1، فكانوا لذلك لا يكتمون عواطفهم القبلية ولا يتسترون على مطامعهم السياسية2. وعلى الرغم من انقسام العرب بخراسان، وتصارعهم بها على السلطان، فإنهم كانوا يتحدون اتحادا مؤقتا، يدعوهم إليه المصير الواحد، والضرورة العامة، والمنفعة العاجلة، مثلما كانوا يختلفون ويقتتلون بسبب تصادم مصالحهم القبلية والسياسية تصادما حادا. ولكنهم على كل حال لم يكونوا يحسون فكرة المواطنة وأنهم غرباء في أرض نائية عن وطنهم الأصلي، يحيط بها الأعداء إلا إحساسا ضعيفا متقطعا، كما أنه كان لبعض قبائلهم أهداف سياسية من مواقفها التي كانت تزعم أن شعورها بمصلحة الأمة، وطاعة الخليفة هو الذي حفزها على اتخاذها. ومن أشهر المواقف التي تنم عن اعتقادهم بالوحدة وأهميتها مبادرة كافة زعماء القبائل إلى مطالبة عبد الملك بن مروان أن يتدارك الوضع المتفجر بخراسان، ويرسل إليهم واليا قرشيا محايدا، حين اشتد النزاع بين فرعي تميم على الزعامة، بعد مقتل عبد الله بن خازم، لأنهم قدروا خطورة استمرارهم في التنازع، وما قد ينجم عنه من انهيار نفوذهم كله بخراسان. فاستجاب عبد الملك لهم، وبعث إليهم أمية بن عبد الله الأموي3. ولقبيلة بكر موقفان آخران مماثلان بادأت بهما حين تدهور الأمر بخراسان في فترتين

_ 1 الأغاني 13: 91، 14: 288، 290، 15: 384. 2 البيان والتبيين 3: 252، والأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 294. 3 الطبري 8: 860.

متباعدتين، وادعت أن إيمانها بوحدة العرب، ومستقبل وجودهم هو الذي أداها إلى اتخاذها، وهما موقفان يستحقان الذكر والنظر، لأننا نعتقد بأنها تصرفت فيها تصرفا قبليا سياسيا، موهته بما أذاعته في كل منهما من أن حرصها على مصلحة الجماعة ومصيرها، وموالاتها للخلافة، وتأييدها لها، وحفاظها عليها هي التي دفعتها إليها دفعا قويا. أما الموقف الأول فعمدت إليه عندما صالح عاصم بن عبد الله الهلالي الحارث بن سريج التميمي بمرو الروذ، على أن يسألا هشام بن عبد الملك العمل بالكتاب والسنة، فإن أبى اجتمعا عليه، ووافقهما أكثر رؤساء القبائل، وختموا الكتاب الذي بعثاه إلى هشام. فقد رفض يحيى بن الحضين، سيد بكر التوقيع على الكتاب، وأشاع أن الصلح الذي تم بين عاصم والحارث لا يصون عزة الأمة وكرامتها، ولا يحفظ للخلافة حقها وحرمتها1. ومع أن موقفه نقل إلى الخليفة، فحظي به عنده، وزاد في عطائه، وفرض لأهل بيته، وبلغ الدرجة الرفيعة2. وأصبح بعده أثيرا عند بني أمية3، فإننا نظن أنه اتخذه كيدا للمضرية من قيس وتميم، وإيقاعه بهم عند هشام. وأما الموقف الثاني فسارعت إلى إعلانه بعد اغتيال جديع الكرماني، وتمادى ابنه علي في معاداة نصر بن سيار، واحتدم الخلاف بين القبائل العربية، واستفادة أبي مسلم الخراساني من تفككها. فقد انسحب يحيى بن نعيم البكري، أضخم خلفاء الأزد من صفوفهم، وعطل تحالفه معهم4، ونادى بالموادعة بين القبائل المتنابذة المتقاتلة، حتى تتمكن من ملاقاة أبي مسلم، الذي أخذ يهدد كيانها، ولك أبسط ما نسجله عليه أنه تأخر كثيرا في الانفصال عن الأزد، والاتصال بنصر ومضر، بحيث لم يغن قراره النهائي شيئا. ومن مظاهر إحساسهم القصير بأنهم أمة واحدة، وأن مصيرهم مشترك أن القبيلة

_ 1 الطبري 9: 1577. 2 الطبري 9: 1662. 3 جمهرة أنساب العرب ص: 317. 4 الطبري 9: 1966.

المنافرة لقبيلة أخرى كانت تساهم في الدفاع عنها إذا حاصرها الأعداء، وأحكموا الطوق عليها، يشهد لذلك أنه عندما أغار الترك على قصر الباهلي من أعمال سمرقند، وضيقوا الخناق على العرب المقيمين فيه، وكان أكثرهم من تميم، اشترك بعض الأزد، وفيهم ثابت قطنة، مع المسيب بن بشر الرياحي التميمي في تحرير تميم، ورد الترك عنهم1. ومع أن غاراتهم على ما وراء النهر تدل على اتحادهم وتضامنهم، لأن كل قبيلة منهم كانت تنضم إلى القبائل الأخرى الغازية في أكثر الحملات، وكانت تجهد جهدها لتقوم بدورها خير قيام، كما كانت تفوز بنصيب من الأسلاب والغنائم، فإن النصر كان يحسب لقبيلة الوالي القائد، ومن أجل ذلك كان شعراء الأزد وبكر خاصة ينقسمون على الولاة القيسيين انتصاراتهم في غزواتهم. وما اكتسبوا بها من مآثر، كما كانوا إذا مجدوا فتوحات الولاة القيسيين في أثناء حكمهم لا يلبثون أن يتخلوا عن تمجيدهم لها بعد عزلهم أو موتهم. وأما سكان خراسان الأصليون فكانوا في جملتهم من الجنس الآري، فهم يتصفون بتمام الخلقة، وقوة البنية، وطول القامة، وعرض الصدر، وكثاقة الشعر، وحسن الوجوه2. وقد أخذ عليهم بخلهم، وربما كان الجاحظ هو الوحيد الذي رماهم به، معتمدا على رواية حملها عن ثمامة بن أشرس، أحد المعتزلة البصريين، وهي أن ديكة مرو الشاهجان تطرد الدجاج عن الحب، وتنزعه من أفواها3 وهذه الرواية إن كانت صحيحة غير موضوعة، فإنها تختص بديكة مرو الشاهجان، لا بأهلها، كما أنه لا يجوز تعميم هذا المأخذ على جميع أهل خراسان. ومن أجل ذلك انبرى بعض القدماء للرد عليه، ذاهبين إلى أن ما رواه كذب ظاهر، لأن ديكة مرو الشاهجان كالديكة في

_ 1 الطبري 9: 1426، وابن الأثير 5: 94. 2 ابن الفقيه ص: 316، والمقدسي ص: 294، والسيادة العربية لفان فلوتن ص: 44. 3 الحيوان 2: 149، وياقوت 4: 508.

جميع الأرض، ولأن أهل خراسان كان فيهم الأجواد المبرزون، والأنجاد المشهورون الذين لا يجارون، ولا يبلغ شأوهم1. ومعلوم أن خراسان كانت تابعة للدولة الساسانية قبل فتح العرب لها، وأنه كان بكل ولاية من ولاياتها حاكم فارسي يعرف بالمرزبان. أما الشؤون المحلية والمالية فكانت توكل في الأعم إلى الدهاقين من أهل خراسان، وهم أصحاب الضياع والمزارع الكبيرة2، وكان الفرس يكلفون الزراع بدفع ضريبة التاج، وبدفع ضريبة أخرى ترمز إلى عبوديتهم وخضوعهم للغالب3. ويحاول فان فلوتن جاهدا أن يثبت أن العرب أساءوا إلى أهل خراسان بعد فتحهم لبلادهم، وأنهم ظلموهم ظلما فادحا، سواء بإرهاقهم بالضرائب الباهظة، أو بمعاملتهم شر المعاملة4، وهو يبرهن على ذلك بقليل من المخالفات التي ارتكبها بعض العمال، الذين تشددوا في استخراج الجزية، ومضوا يجمعونها ممن أسلم منهم وذلك بين في شكاية أبي الصيداء إلى عمر بن عبد العزيز حين قدم إليه من خراسان، وتظلم من أن عشرين ألفا من الموالي يغزون مع العرب بلا عطاء ولا رزق، وأن مثلهم قد أسلموا من أهل الذمة تؤخذ منهم الجزية، كما استغاث به من جفاء الأمير وعصبيته5 ويبرهن عليه بثورة الحارث بن سريج التميمي، وباتباع جماعة من الموالي له، ومناصرتهم إياه6. ويحتج له أيضا بما أصاب أهل سمرقند من إجحاف، لأن العرب فرضوا عليهم خراجا عاليا، واستمروا يجبون الجزية من مسلميهم7. وأهم ما يؤخذ على فان فلوتن في كل ما ذهب إليه، ودلل عليه أنه يفرط في التعميم، ويتوسع في استنتاج الأحكام، بحيث يتخذ من المخالفة اليسيرة وسيلة إلى

_ 1 ابن الفقيه ص: 317، وياقوت 4: 508. 2 السيادة العربي ص: 45، 47، والطبري 9: 1036، 1206، 1219، وابن خرداذبة ص: 39. 3 مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، للدكتور عبد العزيز الدوري ص: 71. 4 السيادة العربية ص: 48. 5 الطبري 9: 1352. 6 السيادة العربية ص: 60. 7 المرجع نفسه ص: 49، 52.

التهويل والتضخيم، ويحكم بها لا على فترة بعينها، ولا على عامل بمفرده، بل على كل العهود، وعلى جميع الولاة. ومما يؤخذ عليه أنه يقيس أحوال خراسان بأحوال سمرقند وبخارى قياسا فاسدا مردودا، لأن سمرقند1 وبخارى تختلفان كل الاختلاف عن خراسان، إذ كانتا مصدر شغب لا ينقطع، وموطن ثورة دائمة. بحيث اضطر معظم عمال خراسان إلى تسيير الحملات المتكررة إليها، لإعادة فتحها، والتمكين للوجود العربي فيهما تمكينا شديدا، وكان من نتائج ذلك أن تجبر العرب على أهلها، وتعسفوا بعض التعسف في جمع الجزية والخراج من سكانها، كما أن من أسلموا من هذين المصرين من أهل الذمة لم يسلموا حبا في الإسلام، بل رغبة في أن تسقط الجزية عنهم. أما الحال بخراسان فكانت مباينة لذلك أوضح المباينة إذ لم يتمرد أهلها، ولم يتظلموا إلا قليلا، بل نادرا، مما كان يستدعي بالضرورة أن يترفق العرب بهم، ويتسامحوا معهم. وثمة ملاحظتان أخريان جديرتان بالتنويه، الأولى أن العرب لم يفرضوا على أهل خراسان ضرائب جديدة، وإنما اتبعوا النظام الذي كان مطبقا في أثناء حكم الفرس لهم، فضريبة التاج التي كان ملاك الأرض يدفعونها للفرس تساوي الخراج الذي كانوا يدفعوه للعرب، وضريبة الرأس التي كانوا يؤدونها للفرس تقابل الجزية التي كانوا يؤدونها للعرب، فكأن العرب لم يستحدثوا شيئا، ولم يكلفوا أهل خراسان أكثر مما كلفهم به الفرس2. يضاف إلى ذلك أنهم كانوا إذا فتحوا مقاطعة أو مدينة يستبقون ملكها أو دهقانها عليها، ويعهدون إليه بتصريف أمورها، مع تعيين عامل عربي لها3. ويشبه أن يكون هذا التدبير إجراء إداريا مؤقتا، قصد منه إلى تيسير حكم العرب لخراسان، عند فتحهم لها، ولا يرتفع إلى أن يكون حلا سليما تاما دائما لمشكلات أهل خراسان الموروثة. وكان على العرب، بعد استقرارهم بخراسان، وطال عهدهم بها، وعرفوا مشكلات أهلها، أن يصلحوا قوانينها الاقتصادية، وأن يغيروا تقاليدها الاجتماعية، وفقا لمبادئ الإسلام السديدة، وتعاليمه الرشيدة.

_ 1 الطبري 9: 1512. 2 مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص: 71. 3 الطبري 8: 1209، وابن الأثير 4: 544.

وأما الملاحظة الثانية فهي أن بعض الولاة إذا كانوا قد تسلطوا على أهل خراسان، فقد كان بعض الخلفاء يستجيبون لشكواهم، ويعملون جادين لرفع الظلم عنهم، وأصدق مثال على ذلك أن عمر بن عبد العزيز حينما تشكى إليه أبو الصيداء، أمر بإعفاء الموالي الذين كانوا يحاربون مع العرب من الجزية، كما خصص لهم أعطيات وأرزاقا، وأمر كذلك بوضع الجزية عمن أسلم، وكتب إلى عامله يعده بإرسال الأموال إليه إن كان خراج خراسان لا يفي بنفقاتها ومصروفاتها1. وقد تكررت هذه المحاولة الإصلاحية في ولاية نصر بن سيار2. ثم إن الحيف الذي كان نفر من العمال يوقعونه على أهل خراسان، لم يكن مقصورا عليهم، وإنما كان يمتد إلى العرب أنفسهم3. إلى ما كان يلحق الأزد وبكرا من ضيم العمال القيسيين، وما كان يصيب قيسا وتميما من أذى العمال الأزديين. ومن عجيب الأمر إن فان فلوتن وحده هو الذي بالغ في اتهام العرب بالتعدي على أهل خراسان، مع أن أغلب الباحثين من القدماء والمحدثين4 يجمعون على أنهم تساهلوا لا مع أهل خراسان فحسب، بل أيضا مع جميع أهالي البلدان التي فتحوها، وأن أهل خراسان كانوا بصفة خاصة هادئين مسالمين. وفي ذلك يقول ابن قتيبة: "خراسان أهل الدعوة، وأنصار الله، لما أتى الله بالإسلام كانوا فيه أحسن الأمم رغبة، وأشدهم إليه مسارعة، منا من الله عليهم، أسلموا طوعا، ودخلوا فيه أفواجا، وصالحوا عن بلادهم صلحا، فخف خراجهم، وقلت نوائبهم، ولم يجر عليهم سبي، ولم يسفك فيما بينهم دم، مع قدرتهم على القتال، وكثرة العدد، وشدة البأس"5. ولقول ابن قتيبة أهمية كبيرة، لا لأنه يدعم ما نرجحه، بل لأنه لم يصدر فيه عن ميل وهوى، ولم يحاول الدفاع به عن الإسلام، ولأنه يتفق مع الوقائع التاريخية، فكل

_ 1 الطبري 9: 1354، 1365. 2 الطبري 9: 1688، وابن الأثير 5: 236. 3 الطبري 8: 1029. 4 الحضارة العربية، ص: 53، وتاريخ الحضارة الإسلامية، لبارثولد ص: 17. 5 المقدسي ص: 293، وياقوت 2: 411.

من يستقرئ تاريخ الحكم العربي لخراسان في العصر الأموي يستخلص ما قرره ابن قتيبة، فقد كان أهل خراسان، وادعين طائعين لولاتهم، فلم يثوروا عليهم، ولم يثبوا بهم، كما أن الولاة كانوا بدورهم يجنحون إلى سياسة هينة لينة، لا استبداد فيها ولا استعباد ولا اضطهاد. ولعل أحدا من الدارسين لم يحكم حكما عادلا على العلاقة بين العرب وسكان خراسان مثل فلهاوزن. وهو حكم لم يتعجل فيه، ولم يطلقه مستندا إلى بضعة من الأخبار اختطفها اختطافا، مثل فان فلوتن، وإنما أصدره بعد أن توفر على دراسة تاريخ العرب في العصر الأموي زمنا، وعكف على المصادر والأصول حينا، فجاء حكمه لذلك دقيقا منصفا. وهو يقول: "لم يكن العرب والأعاجم منفصلين في الحياة الظاهرة. وقد بقي في مدن الجيوش العربية مثل نيسابور، وأبيورد، وسرخس، ونسا، ومرو الروذ، وهراة سكانها الأصليون، أما القلاع والحصون فاحتلها الفاتحون. وأيضا لم يظل العرب متجمعين في نقط قليلة خاصة لهم، وهم لم يكونوا يعيشون فقط في المدن التي كانوا قد اختاروها لتكون بمثابة مستعمرات حربية، بل كانت لهم أملاك وضياع، وأهل في القرى، ومنهم من كانوا يقطنون هناك خصوصا في واحة مرو الشاهجان. وكان للعرب بطانة وموال من الأعاجم، كما أنهم تزوجوا نساء أعجميات. وقد تأقلم العرب في وطنهم الجديد، وكانوا يشعرون أنه لا فرق بيهم وبين أبناء البلاد في الوطن المشترك بينهم، فكانوا يحسون أنهم خراسانيون، وكانوا يلبسون السراويل، كما يلبسها أهل خراسان، وكانوا يشربون النبيذ، ويحتفلون بعيد النيروز والمهرجان، وأخذ أشراف العرب يظهرون بمظهر المرازبة وأسلوبهم في الحياة، وكان الاشتراك في الحياة العلمية مما دعا إلى التفاهم بين العرب والأعاجم، حتى كانت الفارسية في الكوفة والبصرة لغة يتكلمها الناس في السوق، كما يتكلمون العربية على الأقل. كذلك لم يقف الأعاجم من جانبهم إزاء العرب في خراسان كتلة واحدة، ولا هم وقفوا من العرب موقف العداء أو النفور، ولم يكن تأثر الأعاجم بعملية المزج بين العنصرين أقل من تأثر العرب بها، وخصوصا أن الفتح لم يغير أحوال المغلوبين، وهو لم

يزدها سوءا. وقد أفلح العرب في حماية البلاد من الخارج من غزو الترك، أحسن مما أفلح في ذلك ملوك الساسانيين. ولم يتدخل العرب كثيرا في الأمور الداخلية، بل تركوا إدارة البلاد في أيدي المرازبة والدهاقنة، وأيضا ظلت السلطات المحلية السابقة في المدن العسكرية العربية، وفي حواضر الدولة باقية إلى جانب السلطات العربية. وكان للسلطات المحلية جباية الخراج بنوع خاص، وكانت هي المسؤولة أمام الفاتحين عن دخوله بيت المال على المقدار الصحيح، المتفق عليه، أما سواد الشعب البائس الذي كان عليه أن يدفع فلاشك أنه لم يكن يدفع من الخراج في عهد الساسانيين أقل مما كان يدفع في عهد العرب. هذا إلى أن العرب لم يتدخلوا في المسائل الدينية للأعاجم، فقد كان الأساس في المعاهدات التي يفرض فيها دفع إتاوات أن يبقى أهل البلاد على دينهم، بل كان للأعاجم أن يبقوا على دينهم حتى في المدن التي كان يسكنها العرب"1. ولكننا لا ننكر أن العرب فرقوا بين أنفسهم وبين أهل خراسان، إذ كانت السلطة بأيديهم، وكانت المناصب الأساسية لهم. وهذه السياسة على ما فيها من مجافاة لتعاليم الإسلام، ومنافاة لمبدأ العدل والمساواة بين الناس، الذي نادى به الإسلام، فإنها تبدو طبيعية، لأن الفاتح الغالب له السيادة والنفوذ، وله أرفع الوظائف، وهو دائما لا يستعين إلا بأبناء جلدته، وإلا بمن يثق فيهم، ويطمئن إليهم من أهل البلاد المفتوحة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن تلك السياسة العربية تبدو طبيعية مع ظروف العرب السياسية والفكرية في الفترة الأموية2. على أن أهل خراسان كانت لهم فرقة خاصة في الجيش العربي، كان لها في قادتها، وكانت تشترك مع العرب في غزوها وراء النهر، ومجاهدة الترك. ومن أشهر قادتها حريث بن قتبة3 وأخوه ثابت4، وحيان النبطي5، وابنه مقاتل6.

_ 1 تاريخ الدولة العربية ص: 468- 469. 2 الجذور التاريخية للشعوبية، للدكتور عبد العزيز الدوري ص: 160. 3 الطبري 8: 1027، 1082، 1150. 4 الطبري 8: 1023، 1081، 1150. 5 الطبري 8: 1204، 1203، 9: 1300، 1582. 6 الطبري 7: 65، 189، 9: 1286، 1330، 1998.

وأخطر ما يسجل على العرب أنهم لم يعملوا على تحسين نظام الضرائب، ولم يهدموا الفوارق الطبقية بين الدهاقين وجماهير الفلاحين والحرفيين. ويجب أن لا يحتج لهم بأنهم لم يبتدعوا ضرائب أخرى، وبأنهم لم يزيدوا قيمة الضرائب التي فرضوها على امتداد وجودهم بخراسان، ولا بأنهم لم يتدخلوا في الأحوال الاجتماعية لأهل خراسان، لأن الخطأ لا يسوغ بمثله، بل يصحح بإلغائه، وبإيجاد نظام سليم بديل منه. ولو أصلح العرب النظم المالية، وخففوا الضرائب على الزراع والصناع، وساووا بين الطبقات، لما أسرع بعض الخراسانيين إلى الانضمام إلى دعاة العباسيين، ولما تكتموا على أخبارهم وتجمعاتهم وتحركاتهم، ولما قاتلوا بني أمية معهم، ولما أدالوا منهم لبني العباس. وعسى أن يعطي ما قدما صورة واضحة بعض الوضوح عن خراسان وأقاليمها ومدنها، وعن فتح العرب لها، وولاتهم عليها، وسياستهم الداخلية، وغزواتهم الخارجية، وعن عدد العرب بها، ومنازلهم فيها، ووسائل رزقهم وتنظيمهم السياسي والعسكري، وما نشب بينهم من خلافات وتكتلات ومصادمات، وعن صلتهم بالأعاجم، ومعاملتهم لهم.

الفصل الثاني: موضوعات الشعر وخصائصه

الفصل الثاني: موضوعات الشعر وخصائصه تصوير الأحوال السياسية: لم يترك الشعراء العرب حادثة صغيرة ولا كبيرة وقعت بخراسان إلا ألموا بها، وبينوا مواقف قبائلهم منها، فقد كانوا يقظين على الأحداث الداخلية وتطوراتها، بصيرين بخفايا السياسة الأموية ونتائجها، مقدرين لانعكاساتها على قبائلهم وحلفائهم، عارفين بتأثيراتها في مقدرتهم الذاتية، إزاء القوى الخارجية التركية التي كانت تتحين الفرص للانقضاض عليهم، والفتك بهم، بحيث لا نبالغ إذا قلنا: إنهم عرضوا لكل المسائل الإدارية والسياسية، والمشكلات العصبية والقبلية، والفتن الداخلية، بكل تفاصيلها ودقائقها، سواء كانوا من أنصار الوحدة والتضامن، أو من دعاة الفرقة والتطاحن. ونحن نورد كل ما ظفرنا به من أشعارهم في هذا الجانب، مرتبا على السنوات لا مبوبا في موضوعات، حتى يتسق مع القضايا التي أحطنا بها في الفصل السابق، ويكون موضحا لها. ولما كان الوجود العربي بخراسان لم يتأكد ولم يتوطد إلا بعد أن انتهى النزاع بين علي ومعاوية على الحكم، وصفا الجو لمعاوية، وفاز بالخلافة، وسير ولاته على الأمصار، وازداد عدد العرب من القبائل المختلفة بخراسان، ونظموا تنظيما سياسيا وعسكريا، وأصبح لكل منهم دوره الإداري والحربي، كما أصبح لكل منهم أطماعه في السلطة والنفوذ، فقد خلت الفترة الأولى من أي شعر فيه إشارة إلى الأوضاع الداخلية التي لم تكن صورتها قد استقرت، ولم تكن اتجاهاتها قد تحددت. أما بعد ذلك فيكثر الشعر، ويحمل في تضاعيفه كل ما دار من أحداث.

ففي سنة إحدى وخمسين مات الحكم بن عمرو الغفاري1 عامل خراسان لزياد بن أبي سفيان، أمير العراق، وكان قد استخلف قبل وفاته أنس بن أبي أناس الكناني2 وكتب بذلك إلى زياد، فعزل أنسا، ووليد خليد بن عبد الله الحنفي، فغضب أنس غضبا شديدا، وهتف بهذه الأبيات مصورا سخطه على سياسة زياد، ورأيه في بني حنيفة، وكيف أنهم لم يكونوا يصلحون للولاية والحكومة، بل للحرث والزرع وفيها يقول3: ألا من مبلغ عني زيادا ... مغلغلة يخب بها البريد4 أتعزلني وتطعمها خليدا ... لقد لاقت حنيفة ما تريد عليكم باليمامة فاحرثوها ... فأولكم وآخركم عبيد ولما توفي يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، وقتل يزيد بن زياد بسجستان، وأسر أخوه أبو عبيدة بها أيضا5، أخفى سلم بن زياد هذه الأخبار السيئة عن العرب بخراسان، لكيلا يموجوا ويضطربوا. فبلغت بعضهم، ومنهم ابن عرادة الشاعر، فصاح بمقطوعة أخذ فيها على سلم إخفاءه الأخبار والأسرار عنهم، وإيصاده بابه من دونهم، وأعلمه أنهم يعرفون كل ما وقع، وما بدا معه، أن دولة بني أمية انتقضت أركانها انتقاضا، إذ يقول له فيها6: يا أيها الملك المغلق بابه ... حدثت أمور شأنهن عظيم قتلى بجنزة والذين بكابل ... ويزيد أعلن شأنه المكتوم7

_ 1 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 366، والتاريخ الكبير 1: 2: 328، والجرح والتعديل 1: 2: 119، والاستيعاب ص: 356، وأسد الغابة 2: 36، والبداية والنهاية 8: 47، والإصابة 1: 346، وتهذيب التهذيب 2: 436، وتقريب التهذيب 1: 192. 2 انظر ترجمته في الشعر والشعراء ص: 737، والإصابة 1: 69، وخزانة الأدب 3: 120. 3 الطبري 7: 155. 4 المغلغة: الرسالة. يخب: يسرع. 5 الطبري 7: 488. 6 الطبري 7: 488، وابن الأثير 4: 154. 7 جنزة: مدينة بأرمينية. وكابل: ولاية من ثغور طخارستان.

أبني أمية إن آخر ملككم ... جسد بحوارين ثم مقيم1 طرقت منيته وعند وساده ... كوب وزق راعف مرثوم2 ومرنة تبكي على نشوانه ... بالصنج تقعد مرة وتقوم3 وكان من نتائج إذاعة هذا الشعر في الناس، وانتشاره بينهم، أن أظهرهم سلم على ما حجبه عنهم، وفاوضهم في مبايعته ومساندته حتى يجتمع العرب على خليفة. فوالوه وأيدوه شهرين، ثم وثبوا به، فرجع إلى دمشق، وخلف عليهم المهلب بن أبي صفرة. وفي سنة خمس وستين قاومت بكر بن وائل عبد الله بن خازم4 حين هجم عليها بهراة، بعد أن قتل سليمان بن مرثد بمرو الروذ، وأخاه عمرا بالطالقان، وكان بنو تميم يساعدونه في هجومه عليها، فاحتل المدينة، وقتل من بكر مقتلة عظيمة. وفي ذلك يقول المغيرة بن حبناء التميمي معيرا بكرا بانهزامها ومذلتها، وبفتك ابن خازم بعليتها وسراتها5: وفي الحرب كنتم في خراسان كلها ... قتيلا ومسجونا بها ومسيرا ويوم احتواكم في الحفير ابن خازم ... فلم تجدوا إلا الخنادق مقبرا ويوم تركتم في الغبار ابن مرثد ... وأوسا تركتم حيث سار وعكسرا6 وسرعان ما تضاربت مصالح بني تميم الاقتصادية والسياسية مع مصالح عبد الله بن خازم، فقد منعهم من الاستقرار بهراة استقرار الفاتحين7. فخرجوا عليه في السنة

_ 1 حوارين: قرية من قرى حمص، وبها مات يزيد بن معاوية. وثم: هناك. 2 الراعف: السائل. والمرثوم: المكسور الذي تتقطر الخمر منه. 3 المرنة: المرأة النائحة الصالحة. والنشوات: جمع نشوة، وهي السكر، وفي الأصل: "نشوانه" بالنون، والنشوان: السكران. والصبخ: الدف. 4 انظر ترجمته في الحبر ص: 221، والمعارف ص: 418، والاستيعاب ص: 886، وأسد الغابة 3: 148، والبداية والنهاية 8: 326، والإصابة 1: 301، وتهذيب التهذيب 5: 194، وتقريب التهذيب 1: 411. 5 الطبري 7: 496. 6 أوس: هو أوس بن ثعلبة البكري، فر إلى سجستان وبها مات بعد احتلال ابن خازم لهراة. 7 الطبري 7: 593.

التي أيدوه فيها على بكر، واجتاحوا المدينة، وقتلوا ابنه محمدا، واستمروا ينازعونه عليها، ويناهضونه فيها سنتين كاملتين1 فقال موسى2 بن عبد الله بن خازم يتحسر لاغتيال تميم أخاه محمدا، وما نجم له من تفرق صفوف تميم وقيس وتناحرهم، بعد أن كانوا متحالفين متعاونين على خصومهم من بكر، ويحتج كذلك لاقتصاص أبيه منهم، وملاحقته لهم، فإنهم هم الذين نكثوا العهد، ونقضوا الحلف، وهم الذين عادوه وقاتلوه، وهم الذين أصروا على مخالفتهم له ومنازعتهم إياه. وهو لذلك حين ينتقم منهم، فإنه لا يجور عليهم، بل يجزيهم سوءا بسوء3: ومن عجب الأيام والدهر أصبحت ... تميم وقيس بالرماح تشاجر وكنا يدا حتى سعى الدهر بيننا ... ففرقنا والدهر فيه الدوائر4 يفرق ألافا ويترك عالة ... أناسا لهم وفر من المال وافر5 هم بدأونا بالقطيعة وارتضوا ... له خطة لا يرتضيها المعاشر6

_ 1 الطبري 7: 595. 2 جاء في معجم الشعراء للمرزباني في ذكر من اسمه مرداس ص: 274: "مرداس ... تميم بخراسان، وكانت تميم قتلت ابنه محمد بن عبد الله". ففي النص نقص وتخليط، لأن المعروف أن عبد الله بن خازم كان له خمسة أبناء، وهم "موسى، ومحمد، ونوح، وخازم، وإسحاق" "انظر جمهرة أنساب العرب ص: 262". أما محمد فقتله بنو تميم بهراة سنة خمس وستين. "انظر الطبري 7: 59" وأما موسى فقتله المفضل بن المهلب بن أبي صفرة بالترمذ سنة خمس وثمانين "انظر الطبري 7: 1154" وأما أبناؤه الثلاثة الآخرون فلم يكن لهم شأن ولا ذكر بخراسان. ولعل الصحيح أن الأبيات لموسى بن عبد الله بن خازم، ومما يقوي ذلك أنه كان شاعرا، "انظر معجم الشعراء ص: 287" ولعل النص يستقيم على هذا النحو: "قال موسى بن عبد الله بن خازم، وكانت تميم قتلت أخاه محمد بن عبد الله بخراسان". 3 معجم الشعراء ص: 274. 4 في الأصل: فصرفنا، وهو تحريف ظاهر. والدوائر: الدواهي والهزيمة والسوء والشر. 5 العالة: الذي يتكفل غيره به، وينفق عليه. والوافر: الكثير وفي الأصل داثر. والدثر: المال الكثير من الإبل، ولم يستعمل داثر بهذا المعنى. 6 المعاشر: القريب والصديق.

فما كان ظلما قتلنا القوم إذ بغوا ... وضاقت عليهم في البلاد المصادر1 وللأبيات أهمية تاريخية كبيرة، لأنها تكشف كشفا دقيقا عن تحالف قيس وتميم في هذه الفترة المبكرة، لاتفاق مصالحهم المختلفة، ولأنها تبين عن معاداتهم جميعا لبكر، ومما لم يطلعنا عليه المؤرخون. بمثل هذا الوضوح المطلق. وعندما ضيق ابن خازم على بني تميم بهراة، تفرقوا في مدن خراسان، فمضى بحير بن ورقاء إلى نيسابور، واتجه دثار بن شماس العطاردي ناحية أخرى، وقيل: أتى سجستان، وأخذ عثمان بن بشر بن المحتفر إلى فرتنا، فنزل قصرا بها، وسار الحريش بن هلال ناحية مرو الروذ، فاتبعه ابن خازم، فلحقه بقرية من قراها يقال لها: قرية الملحمة، أو قصر الملحمة، فتنازلا طويلا، صمد الحريش لابن خازم صمودا شديدا، وصده صدا عنيفا. وفي ذلك يقول الخريش يصف قوة بأسه وصلابته، وحسن بلائه في مقارعته لابن خازم عامين متصلين، ويصف سهره وحذره، وامتشاقه لرمحه، وسله لسيفه، ومعالجته لفرسه2: أزال عظم يميني عن مركبة ... حمل الرديني في الإدلاج والسحر3 حولين ما اغتمضت عيني بمنزلة ... إلا وكفي وساد لي على حجر بزي الحديد وسربالي إذا هجعت ... عني العيون محال القارح الذكر4

_ 1 المصادر: المواضع. 2 الطبري 7: 598، وابن الأثير 4: 210,. 3 الرديني: الرمح. والإدلاج: سير آخر الليل. 4 البز: السلاح التام يدخل فيه الدرع والمغفر والسيف. والسربال: الدرع. والمحال: الكيد والتدبير وروم الأمر بالحيل، والقارح: الفرس في الخامسة. والذكر من الحديد: أيبسه وأشده وأجوده. ولعله استعار هذا الوصف للفرس.

نهايتهم، يتألم لفقدهم، ويعتذر من تقصيره من إغاثتهم، بأنه بذل كل ما في وسعه، وينعي على قومه تخاذلهم وجبنهم، ويرثي أبطال قبيلته، الذين لاقوا مصارعهم، ويصور ما انتابه من غم وهم، وما أصابه من قنوط ويأس1: أعاذل إني لم ألم في قتالهم ... وقد عض سيفي كبشهم ثم صما2 أعاذل ما وليت حتى تبددت ... رجال وحتى لم أجد متقدما أعاذل أفناني السلاح ومن يطل ... مقارعة الإبطال يرجع مكلما3 أعيني إن انزفتما الدمع فاسكبا ... دما لازما لي دون أن تسكبا دما4 أبعد زهير وابن بشر تتابعا ... وورد أرجي في خراسان مغنما5 أعاذل كم من يوم حرب شهدته ... أكر إذا ما فارس السوء أحجما6 1 وهكذا استمر ابن خازم يتعقب بني تميم بنواحي خراسان، التي تبعثروا فيها، ولجأوا إليها، وينكل بمن يقع بيديه منهم أبشع التنكيل، ويمثل بهم أشنع التمثيل، حتى كسر شوكتهم، وحطم كبرياءهم، وقتل زعماءهم، وحتى أرغم الحريش بن خلال على الاستسلام والإذعان له بقرية الملحمة. فهادنه الحريش وصالحه على أن يخرج من خراسان كلها، ولا يعود إلى قتاله، ووصله بن خازم بأربعين ألف درهم، وضمن له قضاء دينه.

_ 1 الطبري 8: 700، وابن الأثير 4: 256. 2 لم ألم: لم آت من الأفعال ما ألام عليه. والكبش: سيد القوم، يريد به ابن خازم، وكان الحريش ضربه برأسه ضربة أطارات فروته على وجهه. وعض السيف: جرح وصمم: مضى في العظم وقطعه. 3 المكلم: المجرح. 4 أنزفت العين: ذهب ماؤها ونضب. واللازم: المفروض. 5 زهير: هو زهير بن ذؤيب وابن بشر: هو عفان بن بشر بن المحتفر، وورد: هو ورد بن الفلق العنبري، وكلهم من فرسان بني تميم وسادتهم. 6 فارس السوء: فارس الهزيمة والشر، ضد فارس الصدق.

فكان لما حاق ببني تميم من الهزائم المتلاحقة أثر بالغ في نفوس أبنائهم وشعرائهم، فأخذوا يتلاومون، وجعل كل فريق يلقي التبعة على الفريق الآخر، كما مر بنا في أبيات الحريش السابقة، وكما يتضح من هذين البيتين لأحد شعرائهم، وهو يشيد فيها بالحريش وبطولته وغنائه في القتال، ويرمي غيره بالتقاعس والانهزام، ويردد أنهم لو صبروا صبره لما قدر ابن خازم عليهم،، ولما استطاع البطش بهم، بل لتغلبوا عليه، وأذاقوه مر الهزيمة، وشر الانكسار1. فلو كنتم مثل الحريش صبرتم ... وكنتم بقصر الملح خير فوارس إذا لسقيتم بالعوالي ابن خازم ... سجال دم يورثن طول وساوس2 ومع كل ما لحق بني تميم من الكرب بهراة حتى تقهقروا عنها واستبد ابن خازم بها، وتشتتوا في مدن خراسان، ومع كل ما حل بهم من التفرق والتمزق بمرو الروذ حتى سيطر ابن خازم عليها، وفتك بهم فتكا ذريعا فيها، فقد بقيت منهم بقية بنيسابور كان بحير بن ورقاء على رأسها، فأشعلت هناك ثورة على ابن خازم سنة اثنتين وسبعين، فأسرع إليها، وأناب على مرو الروذ بكير بن وشاح التميم. وبينما كان يحارب بحيرا طلب إليه عبد الملك بن مروان أن يبايع له على أن يفوض إليه حكم خراسان سبع سنين، فأنف من قبول هذا العرض، فكاد عبد الملك له، وكتب إلى ابن وشاح أن ينضوي تحت لوائه، ويدخل في طاعته على أن يوليه على خراسان، فوافق ابن وشاح على ذلك. وهنا ضعف مركز ابن خازم، فقرر التوجه إلى الترمذ، والانضمام إلى ابنه موسى بها، فاتبعه ابن ورقاء وقتله أحد الموالي الذين كانوا معه، وهو وكيع بن الدورقية الخوزستاني، وكان ابن خازم قتل أخاه لأمه من قبل. فقال وكيع يذكر صرعه لابن خازم، وأخذه بثأره منه3:

_ 1 الطبري 7: 597. 2 السجال: جمع سجل وهي الدلو الضخمة المملوءة ماء، وجعلها هنا مملوءة دما. 3 فتوح البلدان ص: 406.

ذق يا بن عجلى مثل ما قد أذقتني ... ولا تحسبني كنت عن ذاك غافلا1 وكتب ابن ورقاء إلى عبد الملك أنه أحبط تمرد ابن خازم، وسفك دمه، وأرسل رسولا من بني غدانة ليحمل إليه الخبر، ولم يبعث معه بالرأس، فاغتصبه ابن وشاح، وحبس ابن ورقاء، وأرسل إلى عبد الملك، فحار في الأمر، ولم يتبين حقيقته. فقال رجل من بني سليم يأسف الهلاك ابن خازم، ويأسف لبعده عن قومه، وانقطاعه عنهم، مما هيأ الفرصة لأعدائه، فأطاحوا به، وحزوا رأسه:2 أليلتنا بيسابور ردي ... علي الصبح ويحك أو أنيري3 كواكبها زواحف لا غبات ... كأن سماءها بيدي مدير4 تلوم على الحوادث أم زيد ... وهل لك في الحوادث من نكير5 جهلن كرامتي وصددن عني ... إلى أجل من الدنيا قصير فلو شهد الفوارس من سليم ... غداة يطاف بالأسد العقير6 لنازل حوله قوم كرام ... فعز الوتر في طلب الوتور7 فقد بقيت كلاب نابحات ... وما في الأرض بعدك من زئير

_ 1 ابن عجلى: عبد الله بن خازم السلمي، وأمه عجلى، وكانت سوداء، أحد غربان العرب في الإسلام: "انظر الكامل للمبرد 1: 241، والمحبر ص: 308". 2 الطبري 8: 834. 3 ويحك: كلمة تقال رحمة لمن تنزل به بلية، وتنصب على المصدرية. 4 البيت لمهلهل بن ربيعة. "انظر أمالي القالي 2: 127". والزواحف: المعييات التي لا تقدر على النهوض والاغبات مثلها، كررها توكيدا لما اختلف اللفظ. "كأن سماءها بيدي مدير". يريد أن سماءها أثقل من أن يديرها مدير، فهو إذا تكلف إدارتها لم يقدر عليها. 5 النكير: النكران والرد. 6 العقير: المعقور المجروح. 7 الوتر: الثأر. والوتور: كثير الجناية على غيره.

ونشأ عن سجن ابن وشاح لابن ورقاء، ونسبته قتل ابن خازم إلى نفسه، واستئثاره بالسلطة من دونه أن تشعب بنو سعد التميميون إلى شعبتين، إذ ساعدت عوف بن وشاح، وأيدت مقاعس والبطون ابن ورقاء، فاستطار الشر بين المجموعتين المتناحرتين على السلطة، واستمر الخلاف بينهما على أشده سنتين. وفي سنة أربع وسبعين تفاقم العداء بينهم، وتعاظم خطره، فاتفق العرب بخراسان على أن يكتبوا إلى عبد الملك بن مروان أن يعين عليهم واليا قرشيا، حتى يخلصهم من الفتنة والهلكة، فانتخب أمية بن عبد الله الأموي وسيره إليهم. فقال رجل من بكر بن وائل يصف ما ثار من الخصام والصدام بين عشائر بني تميم، وما نجم عنه من تسلط ابن وشاح عليهم، ويعلن انتهاء الأزمة وانفراجها، بقدوم أمية إليهم1: أتتك العيس تنفخ في براها ... تكشف عن مناكبها القطوع2 كأن مواقع الأكوار منها ... حمام كنائس بقع وقوع3 بأبيض من أمية مضرحي ... كأن جبينه سيف صنيع4 وحاول ابن ورقاء الانتقام لنفسه، فخف لاستقبال أمية، وحذره من غدر ابن وشاح، فلم يستمع أمية إليه، بل ثبت موظفي ابن وشاح في مناصبهم وجرب أن يستميله ويصانعه بتوليته قيادة شرطته، فأبى فولاها ابن ورقاء5، فسخط وراح يتربص بأمية. وفي سنة سبع وسبعين غزا أمية بخارى والترمذ، وأقام ابنه زيادا عنه بمرو الشاهجان، وكلف ابن وشاح بملازمته، حتى يعنى به ويضبط عمله. فانتهز فرصة غياب أمية، وأخذ ابنه فحبسه، ودعا الناس إلى خلعه فأجابوه. وبلغ أمية النبأ،

_ 1 الطبري 8: 861. والأبيات في الأغاني "طبعه الساسي" 12: 69، وفي اللسان 3: 358، 10: 156 لعبد الرحمن بن الحكم يمدح معاوية بن أبي سفيان وفي اللسان 10: 156، للأعشى أو لزياد الأعجم. 2 البري: جمع برة، وهي الحلقة في أنف البعير. والمناكب: جمع منكب، وهو مجتمع عظم العضد والكتف. والقطوع: جمع قطع، وهي النمرقة والطنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير. 3 الكور: الرحل، والبقع: التي خالط بياضها لون آخر. 4 المضرحي: السيد السري الكريم، والصنيع: السيف المجلو المصقول اللامع. 5 الطبري 8: 862.

فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع إلى مرو الشاهجان، فقضى على الفتنة، وصفح عن ابن وشاح. وعندما تأكد من أنه لم ينصرف عن الكيد له، والتحريض عليه، سجنه، وأمر بقتله، ووكل به ابن ورقاء، فضرب عنقه، وقال له قبل أن ينفذ الحكم فيه "لا يصلح بنو سعد ما دمنا حيين"1. فتصدعت صفوف بني سعد، وامتلأت صدور بني عوف والأبناء غضبا على ابن ورقاء، وأخذ شعراؤهم يحضونهم على الأخذ بثأر ابن وشاح. ومما قيل في ذلك هذه الأبيات لعثمان بن رجاء، أحد بني عوف ابن سعد2: لعمري لقد أغضيت عينا على القذى ... وبت بطينا من رحيق مروق3 وخليت ثأرا طل واخترت نومة ... ومن يشرب الصبهاء بالوتر يسبق4 فلو كنت من عوف بن سعد ذوابة ... تركت بحيرا من دم مترقرق5 فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا ... بعوف فعوف أهل شاء حبلق6 دعوا الضأن يوما قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثا بين غرب ومشرق7 وهبوا فلو أمسى بكير كعهده ... صحيحا لغاداهم بجأواء فيلق8 وقال عثمان بن رجاء أيضا يستنهض بني عوف والأبناء ويحمسهم لإدراك ثأرهم ونفي العار عنهم9:

_ 1 الطبري 8: 1022، 1031. 2 الطبري 8: 1048، وابن الأثير 4: 457. 3 القذى: المكروه والعار. والبطين: عظيم البطن. والمورق: المصفى. 4 طل: أهدر. 5 ذؤابة القوم: أعلاهم وأشرفهم. 6 الحبلق: الغنم الصغار لا تكبر. 7 في الأصل: دع. 8 الجأواء: الكتيبة التي يعلو لونها السواد لكثرة الدروع. 9 الطبري 8: 1048، وابن الأثير 4: 458.

فلو كان بكر بارزا في أداته ... وذي العرش لم يقدم عليه بحير1 ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ... وفي الله طلاب بذاك جدير وعلم ابن ورقاء أن الأبناء يهددونه، فقال يعتد بقوة عزيمته، ومقدرة أنصاره، ويفتخر بدقه عنق ابن وشاح بسيفه2: توعدني الأبناء جهلا كأنما ... يرون فنائي مقفرا من بني كعب رفعت له كفي بحد مهند ... حسام كلون الملح ذي رونق عضب3 ولم تنته الخصومة بين عشائر بني سعد إلا سنة إحدى وثمانين، حين تعاقد سبعة عشر رجلا من بني عوف ابن كعب بن سعد على الطلب بدم ابن وشاح4. فخرج أحدهم من بادية البصرة إلى خراسان، وهو صعصعة بن حرب العوفي، واغتال ابن ورقاء بآخرون، وهو غاز مع المهلب بن أبي صفرة5، بعد أن غير اسمه ولقبه، وانتحل شخصية رجل من بكر بن وائل. فأهدر المهلب دم صعصعة وقتله. فثار بنو عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره، فنازعتهم مقاعس والبطون، حتى خاف العرب أن يعظم الأمر فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم ابن ورقاء بواء وسواء بدم ابن وشاح. فودوا صعصعة. فقال رجل من الأبناء بمدحه، وينوه بما تجشم من الصعاب والعقاب، وما بذل من الجهد حتى قتل ابن ورقاء6:

_ 1 أداته: سلاحه. 2 الطبري 8: 1048، وابن الأثير 4: 458. 3 الحسام والعضب: السيف القاطع. الرونق: الماء واللمعان. 4 الطبري 8: 1049. 5 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 129، وطبقات خليفة بن خياط ص: 478، والمحبر ص: 216، والتاريخ الكبير 4: 2: 25، والمعارف ص: 399، وشرح نهج البلاغة 4: 144، والجرح والتعديل 4: 1: 369، ووفيات الأعيان 5: 350، والبداية والنهاية 9: 43، وشذرات الذهب 1: 90. 6 الطبري 8: 1051.

لله در فتى تجاوز همه ... دون العراق مفاوزا وبحورا ما زال يدأب نفسه ويكدها ... حتى تناول في خرون بحيرا وفي سنة خمس وثمانين فصل الحجاج بن يوسف، أمير العراق، يزيد بن المهلب1 عن ولاية خراسان، وكلف بها أخاه المفضل، فجعل يستحث يزيد على السفر إلى العراق، فقال له: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى توليتك مخافة أن أمتنع عليه. فظن المفضل أن أخاه حسده. فخرج يزيد عائدا إلى العراق، فاستغنى الحجاج عن المفضل، فقال أحد الشعراء هذه الأبيات للمفضل وأخيه عبد الملك، يتهمهما فيها بقصر النظر، مما جعل الحجاج يطرد المهالبة جميعا من خراسان2: يا ابني بهلة إنما أخزاكم ... ربي غداة غدا الهمام الأزهر أحفرتم لأخيكم فوقعتم ... في قعر مظلمة أخوها المعور3 جودوا بتوبة مخلصين فإنما ... يأبى ويأنف أن يتوب الأخسر وكان يزيد بن المهلب استشار الحضين بن المنذر الرقاشي البكري4 قبل أن يرحل عن خراسان، فنهاه عن السفر، ونصحه أن يقيم ويعتل، وأن يكتب إلى عبد الملك بن مروان ليقره، فإنه حسن الرأي فيه. فلم يعمل يزيد بمشورته، وقال له: "إنما نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره الخلاف" فقال الحضين فيه هذين البيتين، شامتا به، وساخرا منه، وقد جرد من منصبه، وراجعته نفسه فيه5: أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما وما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما

_ 1 انظر ترجمته في المعارف ص: 300، ووفيات الأعيان 6: 278. 2 الطبري 8: 1142. 3 المعور: أعمى العين. 4 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 155، وطبقات خليفة بن خياط ص: 487، والتاريخ الكبير 2: 1: 128، والجرح والتعديل 1: 2: 311، وتهذيب التهذيب 2: 395، وتقريب التهذيب 1: 185. 5 الطبري 8: 1142، وابن الأثير 4: 504.

وفي سنة ست وتسعين أراد الوليد بن عبد الملك أن يجعل ولاية العهد لابنه عبد العزيز، وأن يخلع أخاه سلمان عنها، فأيده الحجاج بن يوسف، وقتيبة بن مسلم1، فمات الوليد في السنة نفسها، واستخلف سليمان، فخافه قتيبة2، وتوقع منه غدرا وشرا، فغزا فرغانة، وهناك حث مقاتلة القبائل على رفض الانصياع له، فلم يؤيدوه في هذه المغامرة السياسية الخطيرة، واستغل رؤساء الأخماس من الأزد، وبكر، وتميم الموقف، وراحوا يخططون لخلعه، وكان الأزد هي التي بدأت بالكيد له، ثم اجتمع زعيمها بحلفائه من بكر، فصوبوا رأيه. لكنهم كانوا يعرفون أن تميما أضخم الأخماس وأقواها، وأنها إن لم تشترك معهم في المؤامرة، فإنها ستأخذ جانب قتيبة، وستنكل في النهاية بهم3. فمشوا إلى رئيسها وكيع بن أبي سود التميمي4، وكان ناقما على قتيبة، لأنه نحاه عن رئاسة بني تميم، ولم يحترمه حين استشفع عنده للأهاتم من بني قومه، فوافقهم، فأسندوا إليه قيادتهم، ثم وثبوا بقتيبة فقتلوه، فادعى شعراء كل قبيلة أن سادتها وفرسانها هم الذين اغتالوه جزاء وفاقا لتجبره عليهم. وظلمه لهم. فهذا ثابت قطنة الأزدي، يصور حال قتيبة بفرغانة، وما آل إليه من المذلة قبل أن يقتل، وما انتهى إليه من مصير مروع فظيع، فقد قطعت رأسه، ولطخ الدم جبينه تلطيخا، بعد أن كان في حياته عاتيا متسلطا5: ألم تر أن الباهلي بن مسلم ... بفرغانة القصوى بدار هوان تمور أسابي الدماء بوجهه ... وقد كان صعبا دائم الخطران6 وهذا نهار بن توسعة يفتخر بأن قومه من بكر هم الذين سفكوا دمه، لأنه طغى وبغى. يقول:7

_ 1 الطبري 8: 1284. 2 انظر ترجمته في المعارف ص: 406، ومعجم الشعراء ص: 212، ووفيات الأعيان 4: 86، والبداية والنهاية 9: 167، وخزانة الأدب 3: 657. 3 الطبري 8: 1289. 4 جمهرة أنساب العرب ص: 226. 5 نقائض جرير والفرزدق 1: 364. 6 الأسابي: طرائق الدم، ودائم الخطران: كثير الوعيد والتهديد. 7 الطبري 9: 1301.

ولما رأينا الباهلي بن مسلم ... تجبر عممناه عضبا مهندا1 وهذا الحضين بن المنذر الرقاشي، سيد بكر، يتمدح بأن حلفاءه من الأزد هم الذين فتكوا به، وأنهم هم الذين ساعدوا تميما على الأخذ بثأرها منه، إذ اختاروا لقتله رجلين جبارين، وانتخبت هي رجلا هزيلا، أسود الأنف، مختوم الذراعين، أصم الأذنين، قبيح الخلقة، بشع الوجه، وهو وكيع بن أبي الأسود، يقول2: وإن ابن سعد وابن زحر تعاورا ... بسيفهما رأس الهمام المتوج3 وما أدركت في قيس عيلان وترها ... بنو منقر إلا بالازد ومذحج عشية جئنا بابن زحر وجئتم ... بأدغم مرقوم الذراعين ديزج4 أصم غداني كأن جبينه ... لطاخه نقس في أديم ممجمج5 أما بيهس بن حاجب التميمي فيذهب إلى أن وكيعا هو الذي ثار لقتلى عشيرته من الأهاتم، وانتصر للخلافة، ولسليمان بن عبد الملك، إذ لم يكد ينادي شجعان قومه حتى لبوا نداءه، لأن من عادتهم أن يسرعوا إلى المستغيث، ويتسابقوا إلى المعالي، مع إعداد العدة للحرب، والفوز فيها بالنصر. يقول6: ورد على سعد وكيع دماءها ... حفاظا وأوفى للخليفة بالعهد ولما دعى فينا وكيع أجابه ... فوارس ليسوا بالرباب ولا سعد فوارس من أبناء عمرو بن مالك ... سراع إلى الداعي سراع إلى المجد

_ 1 تقول العرب للرجل إذا سود قد عمم. وكانوا إذا سودوا رجلا عمموه عمامة حمراء. "اللسان 15: 320" ونهار يشاكل بين تعميم الرجل بالعمامة الحمراء إذا سود، وبين تعميمه بالسيف إذا قتل. 2 نقائض جرير والفرزدق 1: 362، والطبري 9: 1297. 3 ابن زحر: هو جهم بن زحر بن قيس الأزدي. وابن سعد هو سعد بن نجد الأزدي "الاشتقاق ص: 407". 4 الديزج: الأدغم. 5 اللطاخة: البقعة. والنفس: الحبر. والممجمج: كثير اللحم. 6 نقائض جرير والفرزدق 1: 365.

ميامين لا كشف اللقاء لدى الوغى ... ولا نكد إن حشت الحرب بالنكد1 وتمجد وكيع بن أبي سود تمجدا كثيرا بنفسه، فيه العجب والكبر، وفيه الصلف والغرور، إذ يقول مصورا ازورار العرب عنه، وتحاميهم له، لبذاءة لسانه، وكثرة شره وأذاه2: قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئين3 حتى إذا شبت وشيبوني ... خلوا عناني وتنكبوني ويقول معتزا بنسبه وأصالته4: أنا ابن خندف تنميني قبائلها ... للصالحات وعمي قيس عيلانا وعلى نحو ما تمدح القبائل العربية في خراسان بالثورة على قتيبة، وعزا كل منهم قتله إلى قبيلته أو إلى حلفائها، تمدح الشعراء في العراق من القبائل نفسها بذلك. فالطرماح بن حكيم الطائي القحطاني الكوفي يكرر المعاني التي رجعها شعراء الأزد كثيرا بخراسان، مع الإفاضة فيها، والتعظيم لأمرها، ومع الإحساس القوي بالعصبية لأهل اليمن والتعالي بهم على العرب كافة، ومع المن على المسلمين والخلفاء الأمويين. فقومه هم الذين صانوا للعرب وحدتهم وسيادتهم، وهم الذين وفوا للخليفة، لأنهم حماة الإسلام في أول عهده، وأنصار الأمويين، الذائدين عنهم، الموطدين لحكمهم، وذلك قوله5: لولا فوارس مذحج ابنة مذحج ... والأزد زعزع واستبيح العسكر

_ 1 الميامين: المباركون، والكشف: الذين لا تروس معهم في الحرب والنكد: المسئومون. وحشت: اسعرت وهيجت. 2 الطبري 9: 1298. 3 الغلوة: الغاية قدر رمية بسهم. 4 الطبري 9: 1298، ونقائض جرير والفرزدق 1: 363. 5 ديوانه ص: 248، والطبري 9: 1302.

وتقطعت بهم البلاد ولم يؤب ... منهم إلى أهل العراق مخبر واستطلقت عقد الجماعة وازدري ... أمر الخليفة واستحل المنكر1 قوم هم قتلوا قتيبة عنوة ... والخيل جانحة عليها العثير2 بالمرج من مرج الصين حيث تبينت ... مضر العراق من الأعز الأكثر إذ حالفت جزعا ربيعة كلها ... فتفرقعت مضر ومن يتمضر وتناقلت أزد العراق ومذحج ... للموت يجمعها أبوها الأكبر3 من مذحج والازد حين تجمعت ... للحرب زمزمة تغط وتهدر4 كفت الذين تغيبوا من قومهم ... من كان يعرف منهم أو ينكر والأزد تعلم أن تحت لوائها ... ملكا قراسية، وموت أحمر5 والأزد تعلم ما يقال ضحى غد ... تحت اللواء فتستحد وتصبر6 قحطان تضرب رأس كل متوج ... وعلى بصائرها وإذ لا تبصر في عزنا انتصر النبي محمد ... وبنا تثبت في دمشق المنبر# أما الفرزدق شاعر بني تميم في البصرة فينسب كل ما حدث بخراسان إلى قومه، ويستشعر مكانة قبليته استشعارا عارما. ويبدئ ويعيد في المعاني التي رددها شعراء تميم بخراسان، مع الإسهاب فيها، والتضخيم لها، فإذا قومه هم الذين أراقوا دم قتيبة، ومنعوا أخاه ضرارا من الموت، وإذا هم الذين جاهدوا جهادا قويا لإعلاء كلمة الله في الأرض، فانتشر الإسلام في كل ناحية، وارتفع صوت المؤذن في كل

_ 1 استطلقت عقد الجماعة: اختل نظامها وانحلت وتفرقت. 2 جانحة: مائلة على شق في جريها حين الغارة من فرط النشاط. والعثير: الغبار. 3 تناقلت: أسرعت. 4 الزمزمة: الصوت البعيد تسمع له دويا، وتغط: تهدر. 5 الملك القراسية: القوي العظيم. وموت أحمر: أي وثم مت أحمر، رفعه على الابتداء. 6 تستحد: تغضب وتثور للحرب.

زاوية، وإذا وكيع بن أبي سود هو الذي انتصر للأمة والدين والخليفة فاستحق جنات الخلد، يقول1: ومنا الذي سل السيوف وشامها ... عشية باب القصر من فرغان عشية لم تمنع بنيها قبيلة ... بعز عراقي ولابيمان عشية ود الناس أنهم لنا ... عبيد إذ الجمعان يضطربان عشية ما ود ابن غراء أنه ... له من سوانا إذ دعا أبوان2 عشية لم تستر هوازن عامر ... ولا غطفان عورة ابن دخان3 رأوا جبلا يعلو الجبال إذا التقت ... رؤوس كبيريهن ينتطحان رجال على الإسلام إذ ما تجالدوا ... على الدين حتى شاع كل مكان4 وحتى دعا في سور كل مدينة ... مناد ينادي فوقها بأذان فيجزى وكيع بالجماعة إذ دعا ... إليها بسيف صارم وسنان جزاء بأعمال الرجال كما جزى ... ببدر وباليرموك فيء جنان وواضح من كل الأبيات والمقطوعات التي استشهدنا بها، والتي نظمها الشعراء في خراسان والعراق، بعد هلاك قتيبة أن ما يشيع فيها من المنافسة والمفاخرة والمكاثرة يعود إلى سببين أساسيين: الأول استبداد الروح الجاهلية، والعصبية القبلية بنفوس قبائلهم، وقوة إحساسهم بالفردية والذاتية، وضعف تمثلهم لفكرة الوحدة والأمة. والثاني رغبة كل قبيلة في منافقة سليمان بن عبد الملك ومصانعته، فقد أعلن شعراء كل قبيلة أن قومهم رفضوا الخروج عليه، وعدوا عصيان قتيبة له عبثا وجرما كبيرا، ولذلك فإنهم انفصلوا عن قتيبة، وفتكوا به، إيمانا منهم بحق سليمان في الخلافة، واعتقادا منهم بأن الفتنة يجب أن توأد مهدها، لما تنذر به من أخطار جسيمة.

_ 1 ديوانه 2: 331، ونقائض جرير والفرزدق 1: 351، والطبري 9: 1301. 2 ابن غراء: هو ضرار بن مسلم أخو قتيبة بن مسلم، وأمه غراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة. 3 ابن دخان: لقب باهلة. 4 تجالدوا: جاهدوا وصبروا.

تهدد الدين، وتوهن جانب المسلمين ولسنا نشك في أنهم إنما كبروا هذه المعاني، وجهروا بها، لأن كل قبيلة كانت تطمع في أن يكافئها سليمان بالولاية لقاء تعلقها به، ووفائها له. وقام وكيع بن أبي سود التميمي بالولاية، بعد ذلك الاضطراب وتلك الفوضى، ففرح العرب واستبشروا خيرا، حتى إن نهار بن توسعة البكري نفخ في رأسه، وعظم دوره، ومضى يحبب للناس شخصيته، معلنا أنهم أسلموا إليه زمام أمرهم، لأنه مشهور بفنائه في الحروب، مذكور بوفائه للخليفة، وأنه قادهم قيادة سليمة، وساسهم سياسة عادلة، فاجتمعت كلمتهم، والتأمت صفوفهم، واتحدوا بزعامته تحت راية الإسلام، وفي ذلك يقول1: أراد بنو عمرو لتهلك ضيعة ... فقد تركت أجسادهم بمضيع ستبلغ أهل الشام عنا وقيعة ... صفا ذكرها للحنظلي وكيع وقد أسندت أهل العراق أمورها ... إلى حامل ما حملوه منيع له راية بالثغر سوداء لم تزل ... تفض بها للمشركين جموع مباركة تهدي الجنود كأنها ... عقاب نحت2 من ريشها لوقوع على طاعة المهدي لم يبق غيرها ... فأبنا وأمر المسلمين جميع على خير ما كانت تكون جماعة ... على الدين دينا ليس فيه صدوع ولكن وكيعا أخلف ظنون العرب به، وخيب آمالهم فيه، فقد تحكم برقابهم، وبطش بهم، ولم يقف عند اضطهادهم والتعدي عليهم، بل خرج على حدود الشرع وقواعده، فإذا هو لا يقنع بجلد السكران جلدا، بل يسفك دمه سفكا. فلما روجع في ذلك "وقيل له: ليس عليه القتل، إنما عليه الحد، قال أنا لا أعاقب بالسياط،

_ 1 نقائض جرير والفرزدق 1: 364. 2 نحت: اعتمدت.

إنما أعاقب بالسيف"1. فساءت سيرته في ولايته التي لم تتجاوز تسعة أشهر، ورجع نهار بن توسعة البكري عن رأيه الأول فيه، وراح يندد به، ويشهر بحكمه الغاشم، إذ يقول2: وكنا نبكي من الباهلي ... فهذا الغداني شر وشر وحين ولي يزيد بن المهلب خراسان لسليمان بن عبد الملك، وغزا جرجان وطبرستان، كان على خزائنه شهر ابن حوشب الأشعري3، فرفع عليه أنه أخذ خريطة، فسأله عنها فأتاه بها، فدعا يزيد من رفع عليه فشتمه، ووهبها لشهر فقال: لا حاجة لي فيها، فقال القطامي الكلبي، أو سنان بن مكحل النميري: يغمز شهرا، ويستهجن أن يسرق شيئا بخسا، وهو من كبار القراء، مما حط من قيمته، ودنس سمعته4: لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر أخذت به شيئا طفيفا وبعته ... من ابن جرير إن هذا هو الغدر وقال مرة النخعي يتهم يزيد بن المهلب بإفساد خيرة القراء من كبار موظفيه5: يا بن المهلب ما أردت إلى امرئ ... لولاك كان كصالح القراء وفي إمارة سعيد بن عبد العزيز على خراسان وشى عبيد الله بن عبد الحميد بن عامر بن كريز بجهم بن زحر الجعفي وجماعة من أهل اليمن، ونقل إلى سعيد أنهم

_ 1 الطبري 9: 1301، ونقائض جرير والفرزدق 1: 364. 2 نقائض جرير والفرزدق 1: 364، والطبري 9: 1301. 3 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 449، وطبقات خليفة بن خياط ص: 794، والتاريخ الكبير 2: 2: 259، والمعارف ص: 448، والجرح والتعديل 2: 1: 382، وحلية الأولياء 6: 59، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 345، وتاريخ الإسلام: 4: 13، وتذكرة الحفاظ 1: 103، والبداية والنهاية 9: 304، والنجوم الزاهرة 1: 271، وغاية النهاية في طبقات القراء 1: 329، وتهذيب التهذيب 4: 369، وتقريب التهذيب 1: 355، وشذرات الذهب 1: 119. 4 الطبري 9: 1329، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 346، وانظر المعارف ص: 448، وتهذيب التهذيب 4: 370. 5 الطبري 9: 1329.

احتجنوا أموالا في أثناء عملهم مع يزيد بن المهلب، فسجنهم، ثم عذبهم، حتى يؤدوا الأموال التي طولبوا بها، فهلك جهم، فثار ثابت بن قطنة الأزدي له، وأخذ يتوعد عبد الله وأتباعه بالقتل، يقول1: أتذهب أيامي ولم أسق ترفلا ... وأشياعه الكأس التي صبحوا جهما2 ولم يقرها السعدي عمرو بن مالك ... فيشعب من حوض المنايا لها قسما ويدل هذا الخبر مع شعر مرة النخعي على سياسة يزيد بن المهلب المالية، وكيف أنه كان يختان الأموال، ويعرض هبات على المسؤولين عنها، لكي يغضوا الطرف عما كان يستولي عليه منها، وكيف أنه كان يوظف أبناء عشيرته وأهل اليمن، ويطلق أيديهم في أعمالهم دون محاسبة أو مراقبة. وعندما اندلعت الفتنة بالبروقان بين المضرية، وبين اليمنية والربعية، وانهزم الأخيرون، وقتل بنو تميم عمرو بن مسلم الباهلي الذي اجتمعوا إليه، وولوه قيادتهم، قال بيان العنبري التميمي يصف حرب بني تميم، وكيف أنهم محقوا رؤوس الفتنة من الأزد وبكر، وأوقعوا في قلوبهم الذعر، فإذا البكريون كلما ذكروا ذلك اليوم يبكون ويتألمون، ويعير البكريين بالجبن والتخاذل، لأنه ليس من طبعهم الثبات في الميدان حين يشتد القتال3: أتاني ورحلي بالمدينة وقعة ... لآل تميم أرجفت كل مرجف4 تظل عيون البرش بكر بن وائل ... إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف5 هم أسلموا للموت عمرو بن مسلم ... وولوا شلالا والأسنة ترعف6 وكانت من الفتيان في الحرب عادة ... ولم يصبروا عند القنا المتقصف7

_ 1 أنساب الأشراف 5: 162. 2 ترفل: هو عبيد الله بن عبد الحميد بن عامر بن كريز. 3 الطبري 9: 1477. 4 ارجفت: أفزعت. والمرجف: الذي يولد الأخبار الكاذبة التي يكون معها اضطراب الناس. 5 البرش: جمع أبرش، وهو الذي في لونه نقطة حمراء وأخرى سوداء أو غبراء. 6 ولوا شلالا: أي مطرودين متفرقين. وترعف: تقطر دما. 7 المتقصف: المتكسر.

وقال نصر بن سيار الذي قاد بني تميم يذكر إيقاعه ببكر، شامتا بهم، لأنهم لم يقتنعوا بمحالفة الأزد في موقعة البروقان فحسب، بل حالفوا أيضا عمرو بن مسلم الباهلي، وكانوا يرجون أن يحقق لهم النصر العظيم، فجروه وجروا أنفسهم إلى معركة خاسرة، متشفيا بخالد بن عبد الله القسري، لما آل إليه من الحبس على يد يوسف بن عمر الثقفي بالعراق، سنة عشرين ومائة1: أرى العين لجت في ابتدار وما الذي ... يرد عليها بالدموع ابتدارها وما أنا بالواني إذا الحرب شمرت ... تحرق في شطر الخميسين نارها ولكنني ادعو لها خندف التي ... تطلع بالعبء الثقيل فقارها وما حفظت بكر هنالك حلفها ... فصار عليها عار قيس وعارها فإن تك بكر بالعراق تنزرت ... ففي أرض مرو علها واوزرارها2 وقد جربت يوم البروقان وقعة ... لخندف إذ حانت وآن بوارها اتتني لقيس في بجيلة وقعة ... وقد كان قبل اليوم طال انتظارها وفي ولاية أسد بن عبد الله القسري3 الأولى على خراسان أحس البكريون إحساسا قويا أنه تنكر لهم، وأبعدهم عن المراكز الهامة، وأنه مال للأزد ميلا شديدا، فقدمهم وخصهم بأرفع الوظائف، فتضجروا وتسخطوا، وجعل أبو البريد البكري ينطق في شعره عن تذمرهم وتبرمهم، ويلوم الأزد، ويأخذ عليهم أنهم تحللوا من الحلف المعقود بينهم وبين قومه في البصرة، على أن يكونوا متساوين متساندين، إذ يقول4: إن تنقض الأزد حلفا كان أكده ... في سالف الدهر عباد ومسعود5

_ 1 الطبري 9: 1475، 1654. 2 العل: الشربة الثانية، وعل الضارب المضروب: تابع عليه الضرب. 3 انظر ترجمته في التاريخ الكبير 1: 2: 50، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2: 461 وابن الأثير 5: 216، وميزان الاعتدال 1: 206، والبداية والنهاية 9: 325، وتهذيب التهذيب 1: 259، وتقريب التهذيب 1: 63. 4 الطبري 9: 1497. 5 مسعود: هو مسعود بن عمرو الأزدي: ومالك: هو مالك بن مسمع البكري.

ومالك وسويد أكداه معا ... لما تجرد فيها أي تجريد1 حتى تنادوا أتاك الله ضاحية ... وفي الجلود من الإيقاع تقصيد2 فمشى به أحد الأزد، إلى عبد الرحمن بن صبح، عامل أسد على بلخ، فأنكر ما نسب إليه، وأنشد عبد الرحمن بيتا من شعره يؤكد فيه تمسك قومه بمحالفة الأزد، وحرصهم على صداقهم، يقول3: الأزد إخوتنا وهم حلفاؤنا ... ما بيننا نكث ولا تبديل ولم يقف أسد في ولايته الأولى عند حرمان بكر من المناصب الكبيرة، فقد تخطاه إلى التضييق على مضر، وحبس أنصارها، فسجن نصر بن سيار، ونفرا من مضر، وجلدهم، فتحرك بنو تميم، وحاولوا إطلاق سراح نصر بالقوة، فنهاهم نصر عن اللجوء إلى السلاح في كل مشكلاتهم، فساقه أسد وبقية المضريين إلى أخيه خالد بالعراق، وكتب إليه أنهم فكروا في الثورة عليه. فلما قدم بهم عليه لام أسدا واتهمه بأنه تساهل في معاقبتهم، لأنه اكتفى بضربهم دون قتلهم4. فقال نصر يستهجن اعتقال أسد له، ويذم كل من تحدروا من قسر، ويدمغهم بالصغار والمهانة، وبالدهاء والخيانة، لأنهم يتسلطون على الناس، ويضطهدون أشرافهم، ويتنقصون أقدارهم5: بعثت بالعتاب في غير ذنب ... في كتاب تلوم أم تميم إن أكن موثقا أسيرا لديهم ... في هموم وكربة وسهوم رهن قسر فيما وجدت بلاء ... كإسار الكرام عند اللئيم أبلغ المدعين قسرا وقسر ... أهل عود القناة ذات الوصوم6

_ 1 التجريد: انتضاء السيف، وإخراجه من غمده. 2 التقصيد: التكسير. 3 الطبري 9: 1498. 4 الطبري 9: 1498، 1499. 5 الطبري 9: 1500. 6 الوصوم: جمع وصم وهو الصدغ في العود دون بينونة، والعيب في النسب.

هل فطتم عن الخيانة والغد ... ر أم أنتم كالحاكر المستديم1 وقال عرفجة الدارمي التميمي يستغرب أن يكون دعاة الخليفة وحماته من أمثال نصر بن سيار مقيدين يسامون العذاب في الحبس، وخصومه الحقيقيون أحرارا يعيشون ويفسدون2: فكيف وأنصار الخليفة كلهم ... عناة وأعداء الخليفة تطلق3 بكيت ولم أملك دموعي وحق لي ... ونصر شهاب الحرب في الغل موثق4 كذلك هاج بنو تميم في البصرة، وكشف الفرزدق عن حنقهم وتحفزهم في أبيات هدد بها خالد بن عبد الله القسري، إذ يقول فيها: إن قومه إنما أحجموا عن إنقاذ نصر بالعنف، لأنهم اعتصموا بحبل الله، ولاذوا بالصبر، كراهية لمخالفة بني أمية، وخشية من تطور الأحداث وتفجرها5: أخالد لولا الله لم تعط طاعة ... ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا إذا للقيتم دون شد وثاقه ... بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا6 والقصيدة طويلة، وقد ندد في آخرها ببني أمية وأنذرهم وخوفهم7. وحين أمعن أسد في محاباة الأزد، وأفرط في العصبية حتى أفسد الناس8، استدعاه هشام بن عبد الملك من خراسان، وولى عليها أشرس بن عبد الله السلمي،

_ 1 الحاكر: من حكر إذا ظلم وتنقص وأساء المعاشرة. 2 الطبري 9: 1500. 3 العناة: جمع عان، وهو الأسير. 4 الغل: القيد. 5 الطبري 9: 1500. 6 الكشف: الذين لا تروس معهم، أو الذين لا يثبون في الحرب ولا يصدقون القتال. الضجر: جمع ضجور، وهو ضيق النفس القلق المتبرم. 7 ديوان الفرزدق 1: 323. 8 الطبري 9: 1501.

فارتاح أكثر العرب من قيس وتميم لتعيينه أميرا لهم، واعتدوه نعمة، أسبغها الله عليهم، إذ حباهم بقائد قوي تقي، مبارك ميمون، وذلك قول رجل منهم1: لقد سمع الرحمن تكبير أمة ... غداة أتاها من سليم إمامها إمام هدى قوى لهم أمرهم به ... وكانت عجافا ما تمخ عظامها2 وللأشعار التي قيلت في موقعة البروقان، وفي سياسة أسد بن عبد الله القسري الداخلية قيمة تاريخية عظيمة، لأنها تعرض العلاقات القبلية والمحالفات السياسية بين القبائل العربية بخراسان عرضا غاية في البساطة والدقة، ولأنها تؤكد جملة الحقائق التي استخلصناها من الأخبار التاريخية، حين تحدثنا في الفصل الأول عن طبيعة تلك العلاقات والمحالفات، فهي من ناحية ترجح أن التحالف بين قبائل كل مجموعة كان يدور في دائرة المصالح المشتركة، بل كان يقوم في جوهره على أساسها، وأن قبائل كل مجموعة من المجموعتين المتسابقتين كانت تتضافر وتتعاون على قبائل المجموعة الثانية، ما دامت مصالحها ملتقية متفقة. وهذا واضح أشد الوضوح في موقف تميم ونصر بن سيار من الأزد وبكر في معركة البروقان. وفي انتقام أسد للأزد وبكر من تميم وأعوانها فيما بعد. وهي من ناحية ثانية تقطع بأن التعاضد أو التساند بين قبائل الحلف الواحد لم يكن قويا ولا متصلا، وإنما كان يضعف، وكانت تمر به فترات من التخلخل والفتور، لأن القبيلة المحالفة لقبيلة أخرى إنما كانت تدعمها وتشد أزرها ما دامت ترعى لها حقوقها ومنافعها، وتنحاز إليها، فإذا ما تعصبت إحداهما لنفسها، وجارت على الأخرى، أخذت القبيلة المضطهدة المغبونة تتململ وتنتقد القبيلة الباغية المستبدة، لعلها تثوب إلى الرشد والسداد، وتفيء إلى الحق والصواب. وهذا ظاهر على أكمل وجه في تعصب أسد للأزد وإهماله لبكر. ومع أن القدماء وصفوا أشرس بن عبد الله السلمي بالخير والفضل والكمال3.

_ 1 الطبري 9: 1502. 2 العجاف: جمع عجف وهو المهزول: وأمخ العظم: صار فيه مخ. وهو دليل القوة. 3 الطبري 9: 1502.

فإن يجيى بن الحضين، سيد بكر، لم يسعده اختياره واليا لخراسان، لأنه كان من قيس، فملأت عليه المخاوف والشكوك نفسه، بحيث لم تؤثر في عقله الواعي فحسب، بل أثرت أيضا في عقله الباطن، فإذا هو يهجس بكرهه له في الأحلام، وإذا هو ينشر في قبيلته أنه رأى في المنام قبل قدوم أشرس قائلا يقول له: "أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر"1 وإذا هو يتكهن بفشل أشرس تكهنا، ويتنبأ بأنه سيورط الجيش العربي في التهلكة، إذ يقول2: لقد ضاع جيش كان جغر أميرهم ... فهل من تلاف قبل دوس القبائل3 فإن صرفت عنهم به فلعله ... وإلا يكونوا من أحاديث قائل وخرج الحارث بن سريج التميمي4 بالنخد في إمارة عاصم بن عبد الله الهلالي، وسيطر على أكثر مدن خراسان الشرقية والجنوبية، وكاد يستولي على مرو الشاهجان، لولا ثبات عاصم في مجابهته، وصدق بكر بقيادة يحيى بن الحضين في مواجهته5. ولكنهم لم ينتصروا عليه انتصارا حاسما، فأقام بقرية زرق على مقربة من المدينة، ثم عاد إلى محاربة عاصم. وكان الحارث يرى رأي المرجئة، فحمل عليه نصر بن سيار حملة شديدة، ليصد الناس عن الانضمام إليه، ويصرف أشياعه عنه، وهي حملة أذاعها في قصيدته النونية الطويلة التي تجري على هذا النمط6: دع عنك دنيا وأهلا أنت تاركهم ... ما خبر دنيا وأهل لا يدومونا إلا بقية أيام إلى أجل ... فاطلب من الله أهلا لا يموتونا

_ 1 الطبري 9: 1505. 2 الطبري 9: 1505. 3 جغر: لقب أشرس بخراسان. 4 انظر ترجمته وأخبار ثورته في الطبري "طبعة دار المعارف" 7: 117- 125، 329- 342، والعيون والحدائق 3: 188، والملل والنحل 1: 40، وابن الأثير 5: 128، والبداية والنهاية 10: 26، ولسان الميزان 2: 142، والسيادة العربية ص: 123، وتاريخ الدولة العربية ص: 442، 459، والفرق الإسلامية في الشعر الأموي ص: 273. 5 الطبري 9: 1571. 6 الطبري 9: 1575.

وأكثر تقى الله في الأسرار مجتهدا ... إن التقى خيره ما كان مكنونا واعلم بأنك بالأعمال مرتهن ... فكن لذاك كثير الهم محزونا إني أرى الغبن المردى بصاحبه ... من كان في هذه الأيام مغبونا تكون للمرء أحيانا فتمنحه ... يوما عثارا ويوما تمنح اللينا بينا الفتى في نعيم العيش حوله ... دهر فأمسى به عن ذاك مزبونا1 تحلو له مرة حتى يسر بها ... حينا وتمقره طعما أحايينا2 هل غابر من بقايا الدهر تنظره ... إلا كما قد مضى فيما تقضونا3 فامنح جهادك من لم يرج آخرة ... وكن عدوا لقوم لا يصلونا واقتل مواليهم منا وناصرهم ... حينا تكفرهم والعنهم حينا والعائبين علينا ديننا وهم ... شر العباد إذا خابرتهم دينا والقائلين سبيل الله بغيتنا ... لبعد ما نكبوا عما يقولونا4 فاقتلهم غضبا لله منتصرا ... منهم به ودع المرتاب مفتونا إرجاؤكم لزكم والشرك في قرن5 ... فأنتم أهل إشراك ومرجونا لا يبعد الله في الأجداث غيركم ... إذ كان بينكم بالشرك مقرونا6 ألقى به الله رعبا في نحوركم ... والله يقضي لنا الحسنى ويعلينا كيما نكون الموالي عند خائفة ... عما تروم به الإسلام والدينا وهل تعيبون منا كاذبين به ... غال ومهتضم حسبي الذي فينا يأبى الذي كان يبلى الله أولكم ... على النفاق وما قد كان يبلينا فهو يسفه الحارث ويكفره لأنه اتبع مذهب المرجئة، ويحثه على ترك الاعتقاد

_ 1 المزبون: المدفوع الممنوع. 2 تمقره: من مقره إذا جعله مرا، ويريد تذيقه مر العيش. 3 الغابر هنا: الباقي. 4 نكبوا: مالوا. 5 لزكم: شدكم وألصقكم. والقرن: الحبل الذي يقرن به بعيران. 6 الأجداث: جمع جدث، وهو القبر.

به، وينقض مبادئ المرجئة وما تقوم عليه من القول بأن العمل لا يدخل في الإيمان، لما في قولهم من شرك، وإلحاد، وتعطيل للفروض ويبرهن له على فساد معتقده بأن الدنيا لا تستقر على حال، وأن زينتها لا تدوم مهما تكثر وتعطل وتتصل. ويدعوه في النهاية إلى ندب نفسه لمكافحة من لا يقيمون الصلاة. ولكن دعاية ضد الحارث والمرجئة لم تجد نفعا، كما أن عاصما لم يتمكن من التغلب عليه، فاختلت الأوضاع بخراسان واضطربت، فعزل هشام بن عبد الملك عاصما عن إدارتها، وأرسل إليها أسد بن عبد الله القسري. فلما علم عاصم بفصل هشام له، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتابا على أن ينزل الحارث أي كور خراسان شاء، وعلى أن يناشدا هشاما العمل بالكتاب والسنة، فإن امتنع اتفقا عليه1، وحارباه معا. وساندته أكثر القبائل إلا بكرا فإنها خالفته وقال سيدها يحيى بن الحضين: "هذا خلع لأمير المؤمنين"2. فقال خلف بن خليفة البكري في موقف يحيى3: أبى هم قلبك إلا اجتماعا ... ويأبى رقادك إلا امتناعا بغير سماع ولم تلقني ... أماول من ذات لهو سماعا حفظنا أمية في ملكها ... ونخطر من دونها أن تراعا4 ندافع عنها وعن ملكها ... إذا لم نجد بيديها امتناعا أبى شعب ما بيننا في القديم ... وبين أمية إلا انصداعا5 ألم نختطف هامة ابن الزبير ... وننتزع الملك منه انتزاعا جعلنا الخلافة في أهلها ... إذا اصطرع الناس فيها اصطراعا نصرنا أمية بالمشرفي ... إذا انخلع الملك عنها انخلاعا

_ 1 الطبري 9: 1577. 2 الطبري 9: 1577. 3 الطبري 9: 1577- 1579. 4 نخطر: نخرج للقتال نشيطين. 5 الشعب: أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم.

ومنا الذي شد أهل العراق ... ولو غاب يحيى عن الثغر ضاعا على ابن سريج نقضنا الأمور ... وقد كان أحكمها ما استطاعا حكيم مقالته حكمة ... إذا شتت القوم كانت جماعا عشية زرق وقد أزمعوا ... قمعنا من الناكثين الزماعا ولولا فتى وائل لم يكن ... لينضج فيها رئيس كراعا1 فقل لأمية ترعى لنا ... أيادي لم نجزها واصطناعا أتلهين عن قتل ساداتنا ... ونأبى لحقك إلا اتباعا أمن لم يبعك من المشترين ... كآخر صادف سوقا فباعا أبى ابن حضين لما تصنـ ... ـعين إلا اضطلاعا وإلا اتباعا ولو يأمن الحارث الوائلين ... لراعك في بعض من كان راعا وقد كان أصعر ذا نيرب ... أشاع الضلالة فيما أشاعا2 كفينا أمية مختومة ... أطاع بها عاصم من أطاعا فلولا مراكز راياتنا ... من الجند خاف الجنود الضياعا وصلنا القديم لها بالحديث ... وتأبى أمية إلا انقطاعا ذخائر في غيرنا نفعها ... وما إن عرفنا لهن انتفاعا ولو قدمتها وبان الحجا ... ب لارتعت بين حشاك ارتياعا فأين الوفاء لأهل الوفاء ... والشكر أحسن من أن يضاعا وأين ادخار بني وائل ... إذا الذخر في الناس كان ارتجاعا ألم تعلمي أن أسيافنا ... تداوي العليل وتشفي الصداعا إذا ابن حضين غدا باللوا ... ء وأسلم أهل القلاع القلاعا إذا ابن حضين غدا باللوا ... ء أثار النسور به والضباعا3

_ 1 يقال للضعيف الدفاع: فلان لا ينضج الكراع، والكراع: ما دون من الدواب. 2 الأصعر: المعرض بوجهه كبرا. ذو نيرب: أي ذو شر ونميمة. 3 أثار النسور به والضباعا: كناية عن ظفره بأعدائه، وقتله لهم في كل حرب يقاتلهم فيها.

إذا ابن حضين غدا باللوا ... ء ذكى وكانت معد جداعا1 وإنما أنشدنا القصيدة بتمامها. لأنها تشرح مواقف قبيلة بكر ومطالبها، وأخفى أحاسيسها وعواطفها، ولأنها توضح موقف الخلفاء الأمويين منها. فمن ناحية كان زعماء بكر يتصرفون في المحن والشدائد تصرفا بارعا فيه كثير من الدهاء، بحيث كانوا يبدون معه، وكأنهم لم يتأثروا بالإحن والضغائن القبلية، ولم يراعوا منافعهم الشخصية، ولم ينساقوا وراء المحالفات السياسية. ويظهر هذا في رفض يحيى بن الحضين البكري الموافقة على المعاهدة التي أبرمت بين الحارث وعاصم، والتوقيع على الكتاب الذي كتباه إلى هشام، وارتضته بقية القبائل، لأنه رأى في ذلك خروجا على الخليفة، وخلعا له، فقدر أن الواجب يفرض على عاصم أن يواصل قتاله للحارث، حتى يقضي عليه قضاء مبرما، لا أن يسالمه ويساومه، ثم يلتقي معه على عصيان الخليفة. ولذلك فإنه حثه على متابعة نضاله للحارث، وجاهده معه قبل أن يتفقا مجاهدة قوية2. ولكننا نشك في نزاهة موقف يحيى بن الحضين، ونعتقد بأنه كان موقفا سياسيا قبليا، لا نضاليا قوميا، وإذا استذكرنا أن عاصما بن قيس، وأن الحارث بن تميم، وأن هاتين القبيلتين كانتا أكثر القبائل منافسة لبكر، وأنه كان يخشى أن تغلبا على خراسان، فتستبعدا قبيلته وتستذلاها، اتضح لنا كيف أن موقفه لم يكن بوازع من ضميره، ولا بدافع من حرصه على مصلحة الأمة وطاعة الخليفة، وإنما كان موقفا مبنيا على انتهاز الأحداث واستغلالها لمنفعة قبيلته، وكان أيضا موقفا قائما على المكر بتميم وقيس والدس عليهما عند هشام، وقد نجح في تحقيق هذه الغاية، إذ عين هشام أسد بن عبد الله القسري واليا على خراسان، فعاقب عاصما، وقمع قيسا وتميما. ومن ناحية أخرى لم يكلف الخلفاء الأمويون رجلا من سادة بكر بولاية خراسان، على امتداد حكمهم لها، ولم يصانعوها إلا نادرا. ومع أنها نكبت في عهد عبد الله بن

_ 1 الجداع: الموت والهلال. 2 الطبري 9: 1571. 3 الطبري 9: 1692.

خازم نكبة عظيمة، إذ قتل منها عددا كبيرا، ويقدر في بعض الروايات بثمانية آلاف1، فإنها ظلت تساهم في الغزوات الخارجية، وتشارك في الأحداث الداخلية وفق ارتباطاتها وظروفها ومصالحها، دون أن يثق الأمويون بها، أو يعترفوا بفضلها. وخلف بن خليفة البكري يذكر هشاما بذلك كله في قصيدته، ويدعوه دعوة صريحة إلى تغيير مواقفه القديمة الثابتة من القبائل، وتقديره لها تقديرا جديدا، وتمييزه بينها تمييزا عادلا، يعتمد على إيمانها به، وذيادها عنه، بحيث يولي السلطة في النهاية أصدقها موالاة له، وأصلبها مدافعة عنه. غير أن هشاما كان سيء الظن لا في قبيلة بكر وحدها، بل في قبائل ربيعة كلها، كما كان يرى أنها لا تصلح للإمارة، إذ كان يقول: "إن ربيعة لا تسد بها الثغور"2. وإذا استرجعنا تعليل عبد الله بن خازم للخصومة بين بكر ومضر، عندما طلبت بكر من أوس بن ثعلبة أن يخرج مضر كلها من خراسان، حتى تنقاد له، وتصالح ابن خازم، وقد قتل سادتها بمرو الروذ والطالقان، وتقدم إليها بهراة في جيش من تميم، وهو "أن ربيعة لم تزل غضابا على ربها منذ بعث الله النبي من مضر"3 انجلى الغموض الذي يكتنف موقف الخلفاء الأمويين من بكر، وانكشف لنا أنهم كانوا يعلمون مدى حقدها عليهم، وحسدها لهم، وأنهم لذلك كانوا يفسرون مواقفها المؤيدة لهم، على أنها مناورات سياسية فيها الخبث والدهاء والبراعة، لا على قرارات نزيهة خالصة من أجلهم. وكان من نتائج خروج عاصم بن عبد الله الهلالي على طاعة الخليفة أن حبسه أسد بن عبد الله القسري، بعد وصوله إلى خراسان، وحاسبه حسابا عسيرا، فتبرم من عنفه به، معتقدا بأنه ليس من العدل والإنصاف في شيء أن يكون أسد العدو الذي يخاصمه، والقاضي الذي يحاكمه، إذ يقول4:

_ 1 الطبري 7: 496. 2 الطبري 9: 1662. 3 الطبري 7: 493. 4 معجم الشعراء ص: 118.

تخاصمني بجيلة ثم تقضي ... لأنفسها لبئس الحكم ذاكا إذا ما كان خصمك يا بن عمرو ... هو القاضي الذي يقضي علاكا1 وحسبك من بلاء أن تولى ... قضاء في أمورك من دهاكا2 ويظهر أن أسدا لم يهتم لصرخات احتجاجه، ولم يرحمه، بل مضى يسومه سوء العذاب، فكبر عليه المصاب، وتمنى لو هلك قبل أن يقبض عليه وذلك قوله3: أضحت بجيلة من خوفي مسلطة ... خطب جليل لعمري شأنه عجب يا ليتني مت لم تظفر بجيلة بي ... كذلك الدهر بالإنسان ينقلب وفي سنة عشرين ومائة مات أسد ببلخ، وأقصى هشام أخاه خالدا عن العراق، واستعمل عليها يوسف بن عمر الثقفي، فولى على خراسان جديع بن علي الكرماني الأزدي، فلم يتقبله هشام، ولم يرض عنه، فأعفاه وأبعده، وعهد بالولاية إلى نصر بن سيار4، فقال يعبر عن فرحته، لاختياره لها، وظفره بها، ويفتخر بشخصيته، وكيف أن قوته وبسالته في الحرب، وما عرف عنه من حفظه للعهود، وإخلاصه للخليفة، وامتثاله لأوامره، هي التي زكته لهذا المنصب الرفيع، ويمدح أيضا هشاما، مشيدا بشجاعته وأصالته، وكيف أنه ورث الخلافة عن أجداده الأنجاد الأمجاد5. أبت لي طاعتي وأبى بلائي ... وفوزي حين يعترك الخصام وإنا لا نضيع لنا ذماما ... ولا حسبا إذا ضاع الذمام6 ولا نغضي على غدر وإنا ... نقيم على الوفاء فلا سلام خليفتنا الذي فازت يداه ... بقدح الحمد والملك الهمام نسوسهم به ولنا عليهم ... إذا قلنا مكارمه جسام

_ علاكا: أي عليك. 2 دهاه: ختله وأصابه بمنكر. 3 معجم الشعراء ص: 118. 4 الطبري 9: 1663. 5 الطبري 9: 1665، وابن الأثير 5: 228. 6 الذمام: الحرمة، وكل ما يلزمك حفظه.

أبو العاصي أبوه وعبد شمس ... وحرب والقماقمة الكرام1 ومروان أبو الخلفاء عال ... عليه المجد فهو له نظام وبيت خليفة الرحمن فينا ... وبيتاه المقدس والحرام ونحن الأكرمون إذا نسبنا ... وعرنين البرية والسنام2 فأمسينا لنا من كل حي ... خراطيم البرية والزمام3 لنا أيد نريش بها ونبرى ... وأيد في بوادرها السمام4 وبأس في الكريهة حين نلقى ... إذا كان النذير بها الحسام فاصطنع نصر المضريين، واستعان بهم، ولم يستعمل في السنوات الأربع الأول من ولايته إلا مضريا5، فاستاء الأزد، وقال رجل من أهل الشام من اليمانية: "ما رأيت عصبية مثل هذه"، فقال نصر: "بلى، التي كانت قبل هذه"6، يعني انحياز أسد بن عبد الله القسري للأزد وأهل اليمن. وازدهرت الحياة بخراسان في إمارته، وعمرت البلاد عمارة لم تعمر قبل مثلها، وصلحت أحوال العرب والعجم. فقال سوار بن الأشعر يمدحه، موازنا بين عهده وما عم فيه من الطمأنينة، والاستقرار والانتعاش، وعهد أسد وما ساد فيه من الرعب والقلق والكساد7: أضحت خراسان بعد الخوف آمنة ... من ظلم كل غشوم الحكم جبار لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت ... اختار نصرا لها نصر بن سيار وهو يدعي أن يوسف بن عمر الثقفي هو الذي انتخب نصرا أميرا لخراسان، لينقذ العرب بها من مفاسد سياسة أسد السابقة، ويرفع عنهم الحيف والعسف. وهو بذلك يزيف وقائع التاريخ وحقائقه، إذ الصحيح أن يوسف لم يزك نصرا، بل تشكك

_ 1 القماقمة: جمع قمقام، وهو من الرجال السيد الكثير الخير، الواسع الفضل. 2 العرنين: أول الأنف حيث يكون فيه الشمم. 3 الخراطيم: جمع خرطوم، وهو الأنف أو مقدمه، وخراطيم القوم سادتهم ومقدموهم في الأمور. 4 السمام: جمع سم. والبوادر: جمع بادرة، وهي أول ما يسبق من الإنسان عند الغضب. 5 الطبري 9: 1664. 6 الطبري 9: 1664. 7 الطبري 9: 1665، والبداية والنهاية 9: 326.

في أمره في رسالة بعث بها إلى هشام، وعرض فيها عليه أسماء عدد من سادة العرب بخراسان، ليختار منهم واليا لها، وقدم القيسية وأطراهم، وأخر نصرا، وطعن عليه، زاعما أنه "قليل العشيرة بخراسان"1. وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة أرسل نصر وفدا من أهل الشام وأهل خراسان إلى العراق، وصير عليهم مغراء ابن أحمر النميري القيسي2، وكان على العراق حينئذ يوسف بن عمر الثقفي القيسي، وكان يتعصب لقيس، ويكره نصرا ويحسده، لأن خراسان دانت له، واستقامت في ولايته، وكان يود لو جعلت إليه، فولى عليها قيسيا. فلما وفد مغراء عليه، ساءه أن يستأثر نصر بن سيار الكناني بحكم خراسان، من دون قيس، وأن يغلبها على منطقة نفوذها وسلطانها3. فأطعمه إن هو تنقص نصرا عند هشام بن عبد الملك أن يوليه السند. وأشار عليه أن يعيبه بالشيخوخة والضعف، فتردد مغراء في أول الأمر، لأن نصرا أسدى إليه جميلا لا يجحد، "إذ "كان مغراء رأس أهل قنسرين بخراسان، فآثره نصر، وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بن نميلة على الجوزجان، ثم عقد له على أهل العالية"4. ولكنه لم يلبث أن وافقه، ونفذ ما أغراه به، ودفعه إليه، فعاب نصرا عند هشام، ولم تخف المكيدة عليه، فقد عرف أنها من تدبير يوسف، ثم علم نصر بما حدث، "فتغير لقيس، وأوحشه ما صنع مغراء". وفي ذلك يقول أبو نميلة، صالح بن الأبار، مولى عبس، معرضا بمغراء، وواصما له بالغدر والخيانة، والتنكر لمن أحسن إليه، ورفع مكانته، ومشيدا بنصر وسياسته العادلة، وأن كل ما أرجف به المرجفون عنه لم يضر به، ولم يحط من شأنه5: فاز قدح الكلبي فاعتقدت ... مغراء في سعيه عروق لئيم6

_ 1 الطبري 9: 1663. 2 الطبري 9: 1719. 3 الطبري 9: 1720. 4 الطبري 9: 1723. 5 الطبري 9: 1724. 6 الكلبي: هو حملة الكلبي، وكان من أعضاء الوفد. وحين نقص مغراء نصرا عند هشام بأنه شيخ متهالك، كذبه حمله، وقال: "كذب والله ما هو كما قال، هو هو" "انظر الطبري 9: 1721".

فأبيني نمير ثم أبيني ... ألعبد مغراء أم لصميم فلئن كان منكم لا يكون ... الغدر والكفر من خصال الكريم ولئن كان أصله كان عبدا ... ما عليكم من غدره من شتيم وليته ليت وأي ولاة ... بأياد بيض وأمر عظيم اسمنته حتى إذا راح مغبو ... طا بخير من سيبها المقسوم كاد ساداته بأهون من ... نهقة عير بعفرة مرقوم1 فضربنا لغيرنا مثل الكلب ... ذميما والذم للمذموم وحمدنا ليثا ويأخذ بالفضل ... ذوو الجود والندى والحلوم فاعلمن يا بني القساورة الغلب ... وأهل الصفا وأهل الحطيم2 أن في شكر صالحينا لما يد ... حض قول المرهق المرصوم3 قد رأى الله ما اتيت ولن ... ينقص نبح الكلاب زهر النجوم فاعتذرت القيسية لنصر، فلم يقبل اعتذارهم، بل أسرف في إبعادهم وإهانتم، فقال في ذلك بعض الشعراء، يأخذ على نصر تجبره على القيسية، وإذلاله لأشرافهم النابهين، وتقريبه لرجال القبائل الأخرى، وإجلاله للمغمورين منهم4: لقد بغض الله الكرام إليكم ... كما بغض الرحمن قيسا إلى نصر رأيت أبا ليث يهين سراتهم ... ويدني إليه كل ذي والث غمر5 ومنذ سنة ست وعشرين ومائة استفحل الخلاف بين أبناء البيت الأموي على السلطة، إذ قتل يزيد بن الوليد ابن عمه الوليد بن يزيد، وظل الخلاف مستحكما

_ 1 المرقوم: المخطط المزين. 2 القساورة: جمع قسورة، وهو العزيز الذي يقهر غيره. والغلب: الغالبون. والصفا: أحد جبلي المسعى. والحطيم: حجر مكة، أو جدار الكعبة. 3 المرهق: الذي يغشى المحارم، والموصوم: المعيب في نسبه. 4 الطبري 9: 1725. 5 السراة: جمع سري، وهو الشريف، والوالث: الذي لا يحكم العهد أو العقد ولا يؤكده، والغمر: المغمور الذي لا يجرب الأمور، ولم تحنكه التجارب.

بينهم حتى سنة ثمان وعشرين ومائة، حين غلب مروان محمد على الخلافة. فكان لذلك الصراع العنيف المتصل آثاره السيئة في خراسان، فقد عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر الثقفي عن العراق، وقلدها منصور بن جمهور الكلبي1، فسعى إلى تولية أخيه منصور على خراسان، فامتنع عليه نصر2. وأشاعت الأزد أن منظورا قادم، فهدد نصر بقتله، واتخذ مجموعة من التدابير، ليضبط أمور خراسان، ويسيطر على مقاليد الحكم فيها، أهمها أنه تخلى عن العصبية القبلية، وأشرك أكثر القبائل في الوظائف، فولى ربيعة واليمن، وولى يعقوب بن يحيى بن الحضين البكري على طخارستان، ومسعدة بن عبد الله اليشكري على خوارزم، ثم أتبعه بأبان بن الحكم الزهراني، واستعمل المغيرة بن شعبة الجهضمي على قوهستان، وأمرهم جميعا بحسن السيرة3. فدعا المغيرة قومه من بكر بقوهستان إلى مبايعة نصر فبايعوه، فقال يصف موالاتهم له، وينوه بموقفه السليم الحازم، ويثني عليه لتمكينه للعرب بخراسان ومساواته بينهم، وبره بهم، ويعلن أن قومه واثقون به، مطمئنون إليه، ثابتون على عهدهم له، حتى ينجلي الأمر، وينتهي الصدام بين بني أمية، ويلتئم شملهم، وتستقيم سياستهم4: أقول لنصر وبايعته ... على جل بكر وأحلافها يدي لك رهن ببكر العرا ... ق سيدها وابن وصافها أخذت الوثيقة للمسلمين ... لأهل البلاد وألافها إذ آل يحيى إلى ما تريد ... أتتك الرقال بأخفافها5 دعوت الجنود إلى بيعة ... فأنصفتها كل إنصافها وطدت خراسان للمسلمين ... إذا الأرض همت بإرجافها6

_ 1 الطبري 9: 1836. 2 الطبري 9: 1846. 3 الطبري 9: 1847. 4 الطبري 9: 1847. 5 الرقال: جمع مرقل ومرقال، وهي الناقة السريعة. 6 الإرجاف: التزلزل.

أجار وسلم أهل البلا ... د والنازلين بأطرافها فصرت على الجند بالمشرقين ... لقوحا لهم در أخلافها1 فنحن على ذاك حتى تبين ... مناهج سبل لعرافها وحتى تبوح قريش بما ... تجن ضمائر أجوافها فأقسمت للمعبرات الرتا ... ع للغزو أوفى لأصوافها2 إلى ما تؤدي قريش البطا ... ح أحلافها بعد أشرافها فإن كان من عز بز الضعيـ ... ف ضربنا الخيول بأعرافها4 إذا ما تشارك فيه كبت ... خواصرها بعد إخطافها5 فنحن على عهدنا نستديم ... قريشا ونرضى بأحلافها سنرضى بظلك كنا لها ... وظلك من ظل أكنافها لعل قريشا إذا ناضلت ... تقرطس في بعض أهدافها6 وتلبس أغشية بالعراق ... رمت دلو شرق بخطافها7 وبالأسد منا وإن الأسود ... لها لبد فوق أكتافها فإن حاذرت تلفا في النفا ... ر فالدهر أدنى لإتلافها فقد ثبتت بك أقدامنا ... إذا انهار منهار أجرافها8

_ 1 اللقوح: الناقة الحلوب. 2 المعبرات: النوق كثيرة الوبر. والرتاع: الراعية. 3 أعراف الخيل: منابت الشعر في أعناقها. 4 العلائف: جمع عليف، وهي الناقة التي تعلف للسمن. والأواري: المعالف. 5 الإخطاف: السرعة. 6 تقرطس: تصيب. 7 الخطاف: الحديدة التي تعقل بها البكرة من جانبيها، فيها المحور. 8 الأجراف: جمع جرف، وهو ما أكل السيل من أسفل شق الوادي أو النهر.

وجدناك برا رؤوفا بنا ... كرأمة أم وإلطافها1 وتشابه هذه القصيدة في الأغراض المشروحة فيها، والغايات المتوخاة منها، قصيدة خلف بن خليفة البكري، التي تمثلنا بها قبل قليل على وقوف يحيى بن الحضين البكري إلى جانب الخلافة، ورفضه التوقيع على الميثاق الذي أبرم بين عاصم بن عبد الله الهلالي، والحارث بن سريج التميمي. فإن المغيرة انضم إلى نصر، واتخذ جانب الخلافة في وقت مبكر. بل منذ اللحظة الأولى التي بدأ الأزد يتصدون فيها لنصر ويناوئونه، ويسعون للعبث بولايته، وإفساد الأمر عليه، إذ وهب نفسه للذب عن نصر، ونذر قبيلته للدفاع عن الخلافة دون أن يعبأ بمحالفة قومه للأزد، أو يمالئ جديع بن علي الكرماني، لأنه استشرف أن الظرف لا يحتمل التردد والتأجيل، ولا يسمح بالمماطلة والمراوغة. وتمنى لو حذا يحيى بن الحضين البكري حذوه، وحالف نصرا، فشد من أزره، وقوى موقفه، وهو يراجع الأمويين في تغافلهم عن قبيلته، وعدم انتفاعهم لها، وقلة اعتمادهم عليها، وتجاهلهم لقيمتها، وجحودهم لخدماتها، مع أهميتها وقدرتها، ومع ما لها من الأفضال العظيمة عليهم، والمواقف الكريمة منهم. ولكن البكريين الذين كانوا بمرو الروذ، ومرو الشاهجان، كان لهم موقف آخر من الأحداث، إذ لم يكفوا عن معارضة نصر، ولم يعزفوا عن معاونة جديع بن علي الكرماني، ولم يتمثلوا مصلحة الأمة إلا في زمن متأخر، فلم تغن مسالمتهم لنصر شيئا، ولم تجد مصافاتهم له نفعا، ولم يمنع تأييدهم له من تردي الأمر بخراسان، وانهيار الدولة الأموية. فقد تشغبت جماعة من الأزد على نصر بمرو الروذ سنة ست وعشرين ومائة، مدعين أنه لم يدفع لهم عطاءهم، فحذرهم من الفرقة، وذكرهم بأنهم "مسلحة2 في نحور العدو"3، فلم يهتموا لنصحه، ولم يطيعوا لرأيه، بل زادوا من عنادهم له، ومعاداتهم إياه. فتعمق الشعور بالمأساة المرتقبة نفوس بعض الشعراء

_ 1 الرامة: العطف، وإلطاف الأم: رفقها وبرها وتحفيها وإتحافها. 2 المسلحة: القوم الذين يحفظن الثغور من العدو، لئلا يطرقهم على غفلة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم به، ليتأهبوا له. 3 الطبري 9: 1857.

القيسيين، فإذا الحارث بن عبد الله بن الحشرج الجعدي يهيب بالعرب من القبائل المختلفة أن يتحدوا، ولا يألوا جهدا في تبصيرهم بعواقب الفتنة، فإنه يقول1: أبيت أرعى النجوم مرتفقا ... إذا استقلت تجري أوائلها2 من فتنة أصبحت مجللة ... قد عم أهل الصلاة شاملها من بخراسان والعراق ومن ... بالشام كل شجاه شاغلها فالناس منها في لون مظلمة ... دهماء ملتجة غياطلها3 يمسي السفيه الذي يعنف ... بالجهل سواء فيها وعاقلها والناس في كربة يكاد لها ... تنبذ أولادها وحواملها يغدون منها في ظل مبهمة ... عمياء تغتالهم غوائلها4 لا ينظر الناس في عواقبها ... إلا التي لا يبين قائلها كرغوة البكر أو كصيحة ... حبلى طرقت حولها قوابلها فجاء فينا أزرى بوجهته ... فيها خطوب حمر زلازلها على أن عزل يزيد بن الوليد لمنصور بن جمهور الكلبي عن العراق، وتوليته عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، لأن أهلها كانوا يميلون إلى أبيه5، وتثبيت الأخير لنصر على خراسان، أزعج الأزد، وحملهم على إظهار بغضهم لنصر، وتحديهم له، كما أثار الكرماني، الذي كان يكره نصرا، لأنه أحسن إليه، وحقن دمه في ولاية أسد ابن عبد الله القسري، ولأن نصرا لما ولي صرفه عن رئاسة الأزد، وصيرها لحرب بن عامر الواشجي، فمات حرب، فأعاد الكرماني عليها، فلم يلبث إلا يسيرا حتى عزله،

_ 1 الطبري 9: 1857. 2 مرتفقا: متكئا على مرفقه. 3 الدهماء: الفتنة السوداء المظلمة. والغياطل: جمع غيطلة، وهي الظلمة المتراكبة. والملتجة: الشديدة الكثيفة. 4 الغوائل: الدواهي. 5 الطبري 9: 1854.

وصيرها لجميل بن النعمان1، وكان الكرماني يسعى للزعامة بكل الوسائل، حتى ليقال فيه: "إنه لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية، لتنصر وتهود"2. فجعل يتربص بنصر، فهاجت المضرية، وألحت على نصر أن ينفيه أو يعتقله أو يقتله3، فلم يمتثل لعواطفها الملتهبة، بل هدأ من غضبها، وتركه طليقا، حتى لا يتضاعف الموقف توترا وتفجرا، ثم إنه قبض عليه وحبسه، حين توثق من أنه يترصد له، ويذيع في الأزد أنه كان يخطط منذ زمن طويل للثورة على بني أمية، وأن غايته من طاعتهم أن يكبر ولداه ويقلدا السيوف، فيطلب بثأر المهالبة منهم4. ففر بعد وقت قصير من حبسه، ومضى يستثير الأزد. حتى إذا تكاثروا انتحى بهم في مرج نوش، فقال خلف بن خليفة البكري5: أصحروا للمرج أجلى للعمى ... فلقد أصحر أصحاب السرب6 إن مرج الأزد مرج واسع ... تستوي الأقدام فيه والركب ومن غريب الأمر أن يؤلب هذا الشاعر البكري الأزد على الوثوب بنصر، وهو نفسه الذي دعا قبل عشر سنوات إلى ضرورة تضامن العرب من القبائل المختلفة وترابطهم، من أجل حماية الوجود العربي بخراسان، وفي سبيل المحافظة على الخلافة، ولكن استغرابنا سرعان ما يزول، فبكر خراسان لم تقطع صلاتها بالأزد، ولا تخلت عن أسلوب المناورة، فمن جهة ظلت تفي في هذه الفترة من الأزمة لحلفها مع الأزد، ليكون لها نصيب في السلطة إن انتصروا على مضر، ومن جهة ثانية ظلت ترقب تطور الفتنة، حتى إذا رأت أن من مصلحتها أن تتخذ قرارا بالانفصال عن الأزد، فعلت ذلك، لتحظى بغنيمة، وتفوز بحظ في الحكومة القائمة. وخلف بن خليفة إنما يلتزم بمنهج قبيلته السياسي، ويصدر عن خطتها المرحلية،

_ 1 الطبري 9: 1859. 2 الطبري 9: 1859. 3 الطبري 9: 1858. 4 الطبري 9: 1858. 5 الطبري 9: 1862. 6 أصحر: خرج. والسرب: الإبل الكثيرة.

فقد استمرت بكر تساند الأزد على نصر ومضر منذ ابتداء النزاع إلى سنة تسع وعشرين ومائة، حين قتل الكرماني، فاختلف ميزان القوى، وانعكس اتجاه الأحداث، وأخذ الموقف يتمخض عن نتائج لم تكن متوقعة، حينئذ نظر زعيم بكر إلى موضعها وفائدتها، وقرر تبديل موقعها وموقفها، فانحاز إلى نصر ومضر، ليعزز مكانة قبيلته، ويضمن مستقبلها. ونزل نصر بباب مرو الروذ بإزاء الكرماني، واجتمع إليه أنصاره، غير أنهما لم يصطدما، بل جنحا للسلم وتصافيا1. ولكن عودة الحارث بن سريج التميمي إلى مرو الشاهجان سنة سبع وعشرين ومائة فجرت الأزمة ثانية، إذ كان الكرماني يضمر العداء لنصر، وإن أظهر أنه صالحه، فتعاقد مع الحارث على مقارعته معا إذا لم يعمل بالكتاب والسنة ولم يستمل أهل الخير والفضل2. وزاد من تفجر الموقف أن فاز مروان بن محمد بالخلافة، فعين على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، فكتب لنصر بعهده على خراسان، فبايع لمروان بن محمد، فثار الحارث، ونابذ نصرا، زاعما أن يزيد بن الوليد هو الذي أمنه، وأنه أصبح يتوجس من مصيره، فاقتتلا، واستولى سلم بن أحوز، قائد نصر، على أكثر أبواب المدينة ونواحيها3، فقال المنذر الرقاشي البكري، ابن عم يحيى بن الحضين البكري يصف صبر القاسم الشيباني في قتاله لسلم4: ما قاتل القوم منكم غير صاحبنا ... في عصبة قاتلوا صبرا فما ذعروا هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا ... حتى أتاهم غياث الله فانتصروا فقاسم بعد أمر الله أحرزها ... وأنت في معزل عن ذلك مقتصر فهذا الشاعر البكري لا يزال يفصح عن مناهضة قومه بمرو الشاهجان لنصر ومضر، ويعتد بصمود بعض قادتهم أمام سلم بن أحوز التميمي، لأنه يصدر عن رأي

_ 1 الطبري 9: 1863. 2 الطبري 9: 1889. 3 الطبري 9: 1917. 4 الطبري 9: 1923.

قبيلته، ويسوغ سياستها، ويؤيد موقفها، شأنه في ذلك شأن خلف بن خليفة البكري. فتزلزل مركز الحارث، فساعده الكرماني، فاختل جانب نصر اختلالا شديدا فتقهقر إلى نيسابور، وانفرد الحارث والكرماني بالمدينة، ثم إنهما تنازعا فقتل الكرماني الحارث وصلبه، فخلت المدينة لأهل اليمن، فهدموا دور المضرية، ونهبوا أموالهم1. فقال نصر يعرب عن فرحته بمقتل الحارث، لما ألحق بالعرب من الضرر، ولما أنزل بمضر من المكروه والشر2: يا مدخل الذل على قومه ... بعدا وسحقا لك من هالك شؤمك أردى مضرا كلها ... وعض على قومك بالحارك3 ما كانت الأزد وأشياعها ... تطمع في عمرو ولا مالك ولا بني سعد إذا الجموا ... كل طمر لونه حالك4 وكان لغلبة الكرماني على المدينة، وتدميره لمنازل المضريين، واغتصابه لأموالهم، وإهانته لهم وقع بالغ على نفوسهم، عبر عنه شعراؤهم من النساء والرجال بمرارة وحسرة. فهذه أم كثير الضبية تأخذ على بني تميم تقاعسهم وإحجامهم، وتتوجع لما تردت إليه أحوالهم، بحيث تحكم الكرماني فيهم، وتسلط عليهم، وتهددهم بالتبرؤ منهم إذا لم يهبوا لاسترداد المدينة، ولم يثوروا لشرفهم. فإنها تقول لهم5: لا بارك الله في أنثى وعذبها ... تزوجت مضريا آخر الدهر أبلغ رجال تميم قول موجعة ... أحللتموها بدار الذل والفقر إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم ... حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر

_ 1 الطبري 9: 1934. 2 الطبري 9: 1935، والبداية والنهاية 10: 27. 3 عض: كسر. والحارك: أعلى الكاهل. 4 الطمر: الفرس الجواد المستفز للوثب، المستعد للعدو، وبنو عمرو ومالك وسعد من عشائر بني تميم. 5 الطبري 9: 1935.

إني استحيت لكم من بذل طاعتكم ... هذا المزوني يجبيكم على قهر وهذا عباد بن الحارث يطالب نصرا بالمبادرة إلى استرجاع المدينة، ويشرح له وضعهم البائس، وموقفهم الحرج، فقد بطش بهم الأزد بطشا عنيفا، وقتلوهم تقتيلا، ويدعو على مضر بالهلاك إن لم تغضب لهم، ولم تسارع إلى إنقاذهم، يقول1: ألا يا نصر قد برح الخفاء ... وقد طال التمني والرجاء2 وأصبحت المزون بأرض مرو ... تقضي في الحكومة ما تشاء3 يجوز قضاؤها في كل حكم ... على مضر وإن جار القضاء وحمير في مجالسها قعود ... ترقرق في رقابهم الدماء فإن مضر بذا رضيت وذلت ... فطال لها المذلة والشقاء وإن هي أعتبت فيها وإلا ... فحل على عساكرها العفاء4 وقال ينبه المضريين اللاهين عن خطر الأزد، ويظهرهم على استبعادهم لقومهم، لعلهم يتيقظون5: ألا يا أيها المرء الذي ... قد شفه الطرب6 أفق ودع الذي قد كنت ... تطلبه ونطلب فقد حدثت بحضرتنا ... أمور شأنها عجب الأزد رايتها عزت ... بمرو وذلت العرب فجاز الصفر لما كا ... ن ذاك وبهرج الذهب7

_ 1 الطبري 9: 1935، والبداية والنهاية 10: 27. 2 برح: زال وانقشع. 3 المزون: اسم من أسماء عمان. والمزون: الملاحون. ويعني بهم الأزد. لأنهم كانوا ملاحين "انظر معجم البلدان 4: 522، واللسان 17: 294". 4 أعتبت: تركت ما كنت أجد عليها من أجله، ورجعت إلى ما أرضاني عنها، بعد إسخاطها إياي عليها. 5 الطبري 9: 1936. 6 شفه: لذعه وأنحله وذهب بعقله. 7 الصفر: جمع صفراء، وهي الذهب، وبهرج الذهب: زيف وغش.

فاستفزت هذه الصيحات والصرخات نصرا، فتحفز لاستخلاص المدينة من أيدي الأزد، ووجه إليها خيرة جيشه وقادته، فاصطدموا في حرب بطيئة مع الأزد وربيعة بقيادة الكرماني. وعلى الرغم من أنهم حاولوا اقتحام المدينة واحتلالها مرارا، واستماتوا في القتال، فإنهم لم يتمكنوا من دخولها واستعادتها. فاستمد نصر يزيد بن عمر بن هبيرة، والي العراق، ووصف له في أبيات من شعره ما شاع بخراسان من الاضطراب خلال العامين الماضيين، وحذره من خطورة الوضع، وأنه ينذر بعاقبة وخيمة إذا استمر في التدهور، ولم يعالج معالجة حكيمة حازمة، إذ يقول مستصرخا له1: أبلغ يزيد وخير القول أصدقه ... وقد تبينت ألا خير في الكذب إن خراسان أرض قد رأيت بها ... بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجب فراخ عامين إلا أنها كبرت ... لما يطرن وقد سربلن بالزغب2 فإن يطرن ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهب3 فلم يمده بأحد، لأنه كان مشغولا بمجالدة الخوارج بالعراق4، فاستغاث بمروان بن محمد في الشام، وأعلمه، "حال أبي مسلم، وخروجه، وكثرة من معه، ومن تبعه". وكتب إليه بهذه الأبيات يصور له الفتنة القائمة، والكارثة المحتومة، إن لم ينجده بمدد من عنده، وفيها يقول5:

_ 1 الطبري 9: 1973، ومروج الذهب 3: 257، والبداية والنهاية 10: 33. 2 سربلن: اكتسين، والزغب: أول ما يبدو من ريش الفرخ. 3 ويقول الدينوري إن نصرا بعث تلك الأبيات إلى مروان بن محمد. ويضيف إليها بيتين هما: يا أيها الملك الواني بنصرته ... قد آن للأمر أن يأتيك من كتب أضحت خراسان قد باضت صقورتها ... وفرخت في نواحيها بلا رهب "الدينوري ص: 360". 4 الطبري 9: 1944، 1974، ومروج الذهب 3: 257. 5 الدينوري ص: 357، والعقد الفريد 4: 478، ومروج الذهب 3: 255، والطبري 9: 1973، والأغاني "طبعة دار الكتب 7: 56، والعيون والحدائق 3: 189، وابن الأثير 5: 365، والبداية والنهاية 10: 32.

أرى خلل الرماد وميض جمر ... فيوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب مبدؤها الكلام فإن لم تطفئوها تجن حربا ... مشمرة بشيب لها الغلام فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام فإن يقظت فذاك بقاء ملك ... وإن رقدت فإني لا ألام فإن يك أصبحوا وثووا نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام ففري عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السلام1 ويقال: إن مروان لم ينجده، وإنما أشار عليه أن يعتمد على قوته، ويتصرف على قدر طاقته2. ويقال: بل أرسل إلى هبيرة "يأمره أن ينتخب من جنوده اثني عشر ألف رجل، مع فرض يفرضه بالعراق من عرب الكوفة والبصرة، ويولي عليهم رجلا حازما، يرضى عقله وإقدامه، ويوجه بهم إلى نصر بن سيار". فاعتذر له، وكتب إليه "أن من معه من الجنود لا يفون باثني عشر ألفا، ويعلمه أن فرض الشام أفضل من فرض العراق، لأن عرب العراق ليست لهم نصيحة للخلفاء من بني أمية، وفي قلوبهم إحن"3. وعندما عجز نصر عن السيطرة على الوضع بمرو الشاهجان، وقطع الأمل من مساعدة ابن هبيرة له، وفقد الرجاء في ضرب مروان بعثا إليه، أخذ يبث حملة إعلامية إلى العرب بالمدينة، مستثيرا لعواطفهم الدينية والقومية، فقد حث ربيعة على الانفصال عن الكرماني والأزد، والكف عن مناصرتهم على إخوتهم المضريين، وناشدهم أن يتآلفوا ليقفوا في وجه أبي مسلم الذي أصبح يهدد وجودهم ومصيرهم، وحذرهم كذلك من شيعته إذ وصفهم بأنهم غرباء دخلاء، لا ينتمون إلى العرب المشهورين، ولا إلى الموالي المعروفين، وراح يردد أنهم يعتنقون مذهبا مخالفا للإسلام، ومنافيا لكل ملة ونحلة مألوفة، وأنهم لا يبتغون سوى إبادة العرب، يقول4:

_ 1 فري عن رحالك: ابحثي عنها، وانظري إليها. 2 الطبري 9: 1973. 3 الدينوري ص: 360. 4 الدينوري ص: 361، والعقد الفريد 4: 479، وابن الأثير 5: 367.

أبلغ ربيعة في مرو وإخواتها ... أن يغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب ما بالكم تلقحون الحرب بينكم ... كأن أهل الحجا عن فعلكم غيب1 وتتركون عدوا قد أظلكم ... فيمن تأشب لا دين ولا حسب ليسوا إلى عرب منا فنعرفهم ... ولا صميم الموالي إن هم نسبوا2 قوم يدينون دينا ما سمعت به ... عن الرسول ولا جاءت به الكتب فمن يكن سائلي عن أصل دينهم ... فإن دينهم أن تقتل العرب فلم تكترث ربيعة لدعايته، ولم تبال بندائه، بل استمرت تدعم الأزد، وتشدد الكرماني في مخالفته لنصر، واحتياله للانتصار عليه، بتردده على معسكر أبي مسلم، وتواطئه معه، فخاف نصر أن ينحاز الكرماني بمن معه من الربعية واليمنية إلى أبي مسلم، فتكون نهايته، فلجأ إلى موادعته ومصالحته، ليفرق بينه وبين أبي مسلم، وبدءا يتفاوضان، فلما آنس نصر منه غفلة دس إليه ابن الحارث بن سريج في طائفة من الفرسان فقتله. وقد تباينت الآراء في مقتله. فمن قائل: إنه كان بإيعاز من نصر3، ومن قائل: إنه لم يكن له علم به4. ولكن نصرا يعترف في شعره بأنه دبر مقتله، ويصرح بأنه لم يرض عن مؤازرة ربيعة له، وانسلاخها عن الأزد، بعد أن استفحل الخطر المطبق عليه، واهتز موقفه، لأنها ناهضته في أول الأمر، وأعانت الكرماني، عن إصرار، يدفعها إلى ذلك منافستها للمضريين، وسعيها للاستيلاء على السلطة منهم، ورغبتها في قهرهم وتحطيمهم، إذ يقول5: لعمري لقد كانت ربيعة ظاهرت ... عدوي بغدر حين خابت جدودها6 وقد غمزت منا قناة صليبة ... شديدا على من رامها الكسر عودها

_ 1 الحجا: العقل والفطنة. 2 فيمن تأشب: أي انضم إليه، والتف عليه من أخلاط الناس. 3 الدينوري ص: 362، والطبري 9: 1975، وجمهرة أنساب العرب ص: 381. 4 تاريخ الدولة العربية، الحاشية ص: 465. 5 الدينوري ص: 363. 6 في الأصل: ظافرت.

وكنت لها حصنا وكهفا وجنة ... يؤول إلى كهلها ووليدها فمالوا إلى السوءات ثم تعذروا ... وهل يفعل السوءات إلامريدها فأوردت كرمانيها الموت عنوة ... كذاك منايا الناس يدنو بعيدها1 فتأزم الوضع بعد هلاك الكرماني تأزما شديدا، وحين رأى العرب أن أبا مسلم هو الذي استفاد من انقسامهم واقتتالهم، تعاقدت عامة قبائلهم على المسالمة. ليشتغلوا بمجاهدة أبي مسلم. فتحللت ربيعة من حلفها مع الأزد، ومالت إلى نصر ومضر، تأمينا في أغلب الظن لمنفعتها وتمكينا لمصيرها. وراح يحيى بن نعيم بن هبيرة البكري يتوسط بين شيبان بن سلمة الحروري، حليف الكرماني، وبين نصر، ووفق في وساطته، فقد تهادنا، كما سالم علي بن جديع الكرماني نصرا. غير أن أبا مسلم نجح في تحريض ابن الكرماني على نصر، بتذكيره بقتل نصر لأبيه، وتعييره بمسالمته له، وسكوته عن المطالبة بثأره منه، فعاد إلى مقاتلة نصر2، فتزلزت قوته، فانهزم إلى نيسابور، سنة ثلاثين ومائة، وخلصت مرو الشاهجان لأبي مسلم. ويقال إن نصرا بعث قبل وفاته بمدينة ساوه بين الري وهمذان بكتاب إلى مروان بن محمد، ضمنه أبياتا من شعره أنبأه فيها بخروجه عن خراسان، بعد أن بذل كل ما استطاع للسيطرة على الأمر، وضبطه وإحكامه، وأخبره أيضا بقيام الدولة العباسية: وبخطرها الذي أصبح ينذر بسقوطه وزواله بين يوم وآخر. وفيها يقول له3: إنا وما نكتم من أمرنا ... كالثور إذ قرب للناخع4 أو كالتي يحسبها أهلها ... عذراء بكرا وهي في التاسع

_ 1 يبدو أن نصرا كان ينظم بعض مقطوعاته بعد الأحداث التي يتكلم فيها عليها، كهذه المقطوعة فإنه يشير فيها إلى قتله للكرماني، وإلى تحول ربيعة عن الأزد، مع أن ربيعة إنما انحازت إليه بعد مقتل الكرماني. ومثل هذه المقطوعة مقطوعة ثانية سبق أن استشهدنا بها على واقعة البروقان التي حدثت سنة ست ومائة، فإنه ذكر فيها إيقاعه بربيعة، كا ذكر فيها أيضا حبس يوسف بن عمر الثقفي لخالد بن عبد الله القسري، سنة عشرين ومائة. 2 الطبري 9: 1975. 3 الدينوري ص: 360، ومروج الذهب 3: 258. 4 الناخع: من نخع الشاة أو الثور إذا ذبحه حتى بلغ القطع إلى النخاع.

من مبلغ عني الإمام الذي ... قام بأمر بين ساطع إني نذير لك من دولة ... قام بها ذو رحم قاطع والثوب إن أنهج فيه البلى ... أعيا على ذي الحيلة الصانع1 كنا نداريها فقد مزقت ... واتسع الخرق على الراقع2 وبذلك باءت بالفشل الخطوة السياسية العميقة التي اتخذها يحيى بن نعيم بن هبيرة البكري، بموادعته لنصر، ولم ترد على قبيلته شيئا من المكاسب التي توخاها منها، على نحو ما آتت خطوة يحيى بن الحضين البكري ثمارها حين أيد الخليفة على عاصم بن عبد الله الهلالي، والحارث بن سريج التميمي، وحققت لقبيلته أكبر الفائدة، لأنه غامر بوقوفه بقبيلته مع الكرماني زمنا طويلا، واستغل رجوعه إلى نصر ومضر في ظرف متأخر، ووضع متدهور فجنى على قبيلته وحلفائها، وقضى على مضر وحلفائها. ولو أن حرصه على وجود العرب وسيادتهم هو الذي أملى عليه أن يتخذ قراره النهائي بالانقطاع عن الأزد، لكان ينبغي عليه أن يتخذه منذ اشتعال الفتنة الأخيرة بين اليمنية والمضرية. ومما يرجع تفسيرنا لمواقف بكر تفسيرا سياسيا قبليا، ويغري به، هذا الالتحام الوثيق الذي نبصره بين مواقف قادتها من الأحداث وسيرها، ومواقف شعرائها. فقد كانوا عصبة واحدة متراصة متعاونة، لا يخالف أحدهم الآخر ولا يشذ عنه. ومرد ذلك فيما نعتقد وضوح تمثلهم لسياسة قبيلتهم، وصدورهم جميعا عنها، ودقة علمهم بمصلحتها، وإخلاصهم في العمل لها. فعندما كانت بكر ضالعة مع الأزد، دافع شعراؤها عن موقفها، وصوبوا رأي زعمائها، كما مر بنا عند خلف بن خليفة، والمنذر الرقاشي، وحينما آلت إلى نصر ومضر تشبث شعراؤها بخطتها، وانتصروا لها. ويظهر ذلك في قطعة من قصيدة رواها المرزباني لعمارة بن فراس الحنفي قالها بعد تحول قبيلته عن

_ 1 انهج: انتشر. 2 ويقول الدينوري: إن نصر نظم الأبيات قبل أن يهرب من خراسان، وأنه أرسلها يستعجل نجدة مروان بن محمد. ولكن مضمون الأبيات يدل على أنه قالها بعد أن غادر خراسان، وخرج الأمر عن سلطانه. "انظر الدينوري ص: 360".

الأزد والتحاقها بنصر. فهو ينعي فيها على العرب من ربيعة ومضر اصطدامهم وتصارعهم على السلطة، فإذا هم يفني بعضهم بعضا، وإذا النتيجة المحققة لتنازعهم استهلاكهم لقوتهم، وانحطاط مكانتهم، وسهولة وقوعهم فريسة في أيدي أعدائهم، وذلك قوله1: أمست ربيعة في مرو وإخوتها ... على عظيم من الأحداث والخطر يا ليت شعري بمرو الشاهجان غدا ... أي الأميرين من بكر ومن مضر يصلي بقتل ذريع في مغمضة ... حتى يصير ذليلا غير ذي نفر2 أما قيس فكان رأيها في الأزمة غاية في الصراحة والصرامة، فقد وقفت بجانب تميم، ولم تشمت بها، لتغلب الأزد وبكر عليها، ولم تتردد في مناصرتها مع أنها قتلت عبد الله بن خازم السلمي، كما أنها مالت إلى نصر، ولم تفرح بانهزامه أمام الكرماني، ولم تتأخر عن مساندته3، مع أنه جفاها وأبعدها4 بعد أن رماه مغراء بن أحمر عند هشام بن عبد الملك بأنه شيخ متهالك لا يصلح للولاية5. وكان موقف شعرائها مماثلا لموقفها، فقد تعالوا عن الحزازات والثارات، وقدمنا أن عبد الله بن الحشرج الجعدي حذر من النتائج الوخيمة للفتنة منذ بدايتها، ونضيف إلى ذلك أبياتا للمفضل بن خالد السلمي يعلن فيها أنه نهى الأزد عن التمادي في الفوضى والشغب حتى ينجوا جميعا من الهلاك، وأنه حين تبين له أنهم يتعظوا ولم يعتبروا انتقدهم، واتهم الكرماني بالتورط في المغامرة والمؤامرة، إذ يقول فيها6: قد قلت للأزد قولا ما ألوت به ... نصحا وأعدت القول لو نفعا7

_ 1 معجم الشعراء ص: 78. 2 المغمضة: الأمر العظيم الذي يركبه الرجل، وهو يعرفه، فكأنه يغمض عينيه عنه تعاميا وهو يبصره. ويصلي: يحرق. 3 الطبري 9: 1929. 4 الطبري 9: 1723. 5 الطبري 9: 1721. 6 معجم الشعراء ص: 298. 7 ما ألوت به نصحا: أي لم أدع نصحا.

يا معشر الأزد إني قد نصحت لكم ... فلا تطيعوا جديعا أيما صنعا فما تناهوا ولا زادتهم عظة ... إلا لجاجا وقالوا الهجر والقذعا1 يا معشر الأزد مهلا قد أظلكم ... ما لا يطاق له دفع إذا وقعا وواضح أن المنازعات التي احتدمت بين القبائل العربية بخراسان هي التي استغرقت أكثر الشعر الذي تصايح به الشعراء وهم يصفون مواقف قبائلهم منها. فقد استفرغوا معظم ما نظموه في الحديث عن معاداة عبد الله ابن خازم لبكر، ومخالفة تميم له، وفتكها به، وما نشأ عنه من تطاحن عشائرها، وفي الحديث عن اجتماع الأزد وبكر وتميم على خلع قتيبة بن مسلم، واغتيالها له، وما نجم عنه من ادعاء كل قبيلة منها أنها هي التي وثبت به، لأنها كانت أحرص على طاعة الخليفة، وفي الحديث عن الفتنة الأخيرة بين اليمنية والمضرية وأخطارها، وآثارها ونتائجها. ويؤكد هذا الشعر بمجموعه الحقائق التي أسسنا عليها تصورنا للمنافسة التي اشتدت بين تلك القبائل في الحكم، وهي أن العصبية القبلية والمحالفات الحزبية، وما ارتبطت به من المنافع السياسية والمادية كانت سبب كل خلاف وتباغض واقتتال، فقد سيطرت كل هذه العوامل على وجدان كل قبيلة، وحددت اتجاهها وسياستها، وحملتها على إهمال فكرة الأمة والوحدة، وإيثار مصلحة الجماعة على مصلحتها. فقلما أنار هذا الإحساس قلوب زعمائها وشعرائها، وقلما خفف من حميتهم لقبائلهم وحلفائها. وحتى من كانوا يتخلون عن عصبيتهم في بعض الأحيان، فقد كانوا لا يلبثون أن يعودوا إليها. ولكن لابد من التمييز بين موقف الأزد وبكر، وموقف تميم وقيس، فقد كانت القبيلتان الأوليان موتورتين، وكانتا مصدر الشغب والفوضى باستمرار، لأنهما كانتا تسعيان للسلطة، وتريدان استبعاد القبيلتين الأخريين.

_ 1 اللجاج: التمادي في الشر. والهجر: القبيح من القول. والقذاع: الفحش من الكلام الذي يقبح ذكره.

تسجيل الغزوات الحربية

تسجيل الغزوات الحربية: مر بنا أن السيادة العربية لم تتثبت بخراسان إلا بعد أن استأثر معاوية بالخلافة، وعين عماله على الأمصار، والتفت إلى تنظيم شئون الدولة المختلفة. وقد ظل العمال العرب مشغولين ببسط نفوذهم على مقاطعات خراسان، وتوطيد سلطانهم على نواحيها التي لم تذعن لهم حتى بداية النصف الثاني من القرن الأول. وبعد ذلك شرعوا يعدون العدة للفتوحات في إقليمين ملاصقين لخراسان، كانا يشكلان ثغريها الهامين، وهما إقليم ما وراء النهر1، وإقليم طخارستان2. وكان الإقليم الأول هدفا شنوا عليه أكثر غاراتهم وأشدها، لسعته، وكثرة بلدانه، وتمرد أهله، ونقضهم للمواثيق التي طالما عقدوها مع العرب. وعلى نحو ما أوردنا الشعر الذي قيل في الأحداث الداخلية، والأزمات السياسية، منظما على الأعوام، لا مصنفا في أغراض فإننا نصنع الصنيع نفسه في الشعر الذي لهج به الشعراء والفرسان في الغزوات الحربية الخارجية، لكي يتلاءم مع المباحث السابقة، ويكون مكملا لها، ولكي نتتبع من خلاله سير حركة الفتوحات تتبعا تاريخيا، ونتبين مواقف الشعراء منها، وهل أهملوا بعضها، أو اهتموا بها جميعا، بحيث سجلوها في أشعارهم تسجيلا دقيقا، وعرضوا لكل تفاصيلها عرضا صادقا، في لحظة النصر، وساعة الشدة والهزيمة التي مني بها بعض القادة، وهل وضحوا دور كل قبيلة

_ 1 الإصطخري ص: 161 وتاريخ الدولة العربية ص: 410. 2 الإصطخري ص: 156.

وقائد فيها، وهل طبعت أشعارهم في هذا الموضوع بطابع القبلية والفردية، أو أنهم تناسوا قبائلهم وذواتهم، وتغلغلت في نفوسهم فكرة الأمة والوحدة، بحيث نوهوا بالقائد المظفر الموفق، ونقدوا القائد المغلب المخفق، سواء كان من قبائلهم وحلفائهم، أو من القبائل المنافسة لهم. وقبل أن نمضي في استقصاء هذه الأشعار، نود أن نقف قليلا عند الأشعار التي جرت على ألسنة الجند، وهم يكتسحون خراسان، ويحتلون مدنها، لما لها من أهمية تاريخية كبيرة، بل لأنها تفوق في دقتها واتساقها الروايات التي نقلها المؤرخون عن فتح العرب لخراسان، فهي تعطينا صورة واضحة لبداية الفتح، وأحداثه، وتطوراته، ونهايته، دون تخليط أو تقطع. وأول ما تشير إليه أشعار المقاتلين أن الفتح تم بقيادة الأحنف بن قيس التميمي، سنة اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأنهم غلبوا فيه على نيسابور، ومرو الروذ، ومرو الشاهجان، وطوس، وهراة، وبلخ، وقاتلوا الأتراك الذين أعانوا يزدجرد عليهم، وطاردوهم إلى حدود بلادهم. وفي ذلك يقول ربعي بن عامر التميمي1. وهو أحد الجند الأبطال الذين اشتركوا في القتال2: ونحن وردنا من هراة مناهلا ... رواء من المروين إن كنت جاهلا3 وبلخ ونيسابور قد شقيت بنا ... وطوس ومرو قد أزرن القنابلا4 أنخنا عليها كورة بعد كورة ... نفضهم حتى احتوينا المناهلا5 فلله عينا من رأى مثلنا معا ... غداة أزرن الخيل تركا وكابلا وحين زحف خاقان في جموع الترك لمساعدة يزدجرد، واحتل بلخ، وتقدم إلى

_ 1 انظر أخباره في الطبري 3: 440، 464، 518، 535، 4: 38، 85، 94، 127، وابن الأثير 2: 463، 554، 3: 64. 2 ياقوت 2: 410. 3 المناهل: جمع منهل، وهو كل مورد يطؤه الطريق، والماء الرواء: الكثير المروي، والماء الرواء: العذب 4 القنابل: جمع قنبلة، وهي الطائفة من الخيل. 5 أناخ البعير: أبركه.

مرو الروذ، وعسكر على مشارفها، لاقاه الأحنف بن قيس التميمي1، وقتل ثلاثة من فرسانه، كانوا طليعة يضربون بالطبول، إيذانا بتحرك الجيش التركي، ليبدأ المعركة، وارتجز أبياتا وهو يتجسس على الترك، ويردي كل من خرج من معسكرهم، صور فيها دور القائد، وواجبه الذي ينبغي عليه أن ينهض به. ومنها قوله2: إن الرئيس يرتبي ويطلع ... ويمنع الخلاء إما أربعوا3 وقوله4: إن على كل رئيس حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا5 إن لنا شيخا بها ملقى ... سيف أبي حفص الذي تبقى وبعد سنتين من خلافة عثمان بن عفان، تزايد بنو كنازا، وهم أخوال كسرى بنيسابور، فثاروا، وثنى أهل مرو الشاهجان، وثلث نيزك التركي فاستولى على بلخ، وألجأ من بها من العرب إلى مرو الروذ، وكان عليها عبد الرحمن بن سمرة، فكتب إلى عثمان بخلع أهل خراسان، وبالمثل وصف الشعراء الفرسان ثورة أهل خراسان، ونصحوا الخليفة أن لا يستهين بها. وسألوه أن يمدهم ببعث حتى يتمكنوا من قمع الخارجين عليهم، وفي ذلك يقول6 أسيد بن المتشمس التميمي7: ألا بلغا عثمان عني رسالة ... فقد لقيت عنا خراسان بالغدر

_ 1 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 93 والتاريخ الكبير 1: 2: 50، والمعارف ص: 433، والجرح والتعديل 1: 1: 321، والاستيعاب ص: 144، وأسد الغابة 1: 55، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7: 13، والبداية والنهاية 8: 326، وفيات الأعيان 2: 499، والإصابة 1: 100، وتهذيب التهذيب 1: 191، وتقريب التهذيب 1: 49، وشذرات الذهب 1: 78. 2 الطبري 5: 2687. 3 يرتبي: يعلو الرابية، وهي المكان المرتفع. والخلاء: المخيلون الفارغون، وأربعوا: اطمأنوا. 4 الطبري 5: 2687، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7: 17، والبداية والنهاية 7: 128. 5 الصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك ولا تحتاج إلى تثقيف. واندق: انكسر. 6 ياقوت: 2: 412. 7 انظر ترجمته في طبقات خليفة بن خياط ص: 462، والجرح والتعديل 1: 1: 316، وتهذيب التهذيب 1: 347، وتقريب التهذيب 1: 78.

فأذك هداك الله حربا مقيمة ... بمروى خراسان العريضة في الدهر ولا تفترز عنا فإن عدونا ... لآل كنازءا الممدين بالجسر1 فندب عثمان عبد الله بن عامر عامله على البصرة، لنجدة العرب المحاصرين، فخرج على رأس حملة، وتولج خراسان من جهة الطبسين، وبث الجنود في كورها، فافتتحها في سنتين، وأعاد الولاة العرب عليها. فقال أسيد بن المتشمس التميمي يذكر استردادهم لخراسان، وخضوع أهلها لهم، وتجديدهم الصلح معهم2: ألا أبلغا عثمان عني رسالة ... لقد لقيت عنا خراسان ناطحا رميناهم بالخيل من كل جانب ... فولوا سراعا واستقادوا النوائحا3 غداة رأوا الخيل العراب مغيرة ... تقرب منهم أسدهن الكوالحا4 تنادوا إلينا واستجاروا بعهدنا ... وعادوا كلابا في الديار نوابحا بل إن الشعراء أحاطوا بنهاية يزدجرد، فهم يذهبون إلى أنه انخلع قلبه من الخوف، حين رأى أبطالهم مقبلين على مرو الشاهجان، يتعقبونه ويلاحقون فلوله، فلجأ إلى طاحونة على نهر رزيق، فلقي حتفه بها، مما سهل الأمر لهم، ويسر عليهم استرجاع المدينة. وذلك قول5 أبي بجيد نافع بن الأسود التميمي6: ونحن قتلنا يزدجرد ببعجة ... من الرعب إذ ولى الفرار وغارا7 غداة لقيناهم بمرو نخالهم ... نمورا على تلك الجبال ونارا

_ 1 افترز: اعتزل وانقطع. والممدين: المتكاثرين. والجسر: موضع على الفرات قرب الحيرة، كانت فيه وقعة بين العرب والفرس في خلافة عمر بن الخطاب، دارت فيها الدوائر على العرب. "انظر ياقوت 2: 82". 2 ياقوت 2: 412. 3 استقادوا النوائح: سألوا نساءهم المفجوعات أن ينتقمن بهم من قاهريهم. 4 الخيل العراب: العربية العتيقة السليمة من الهجنة: والكوالح: جمع كالح، وهو العابس. 5 ياقوت 2: 777. 6 انظر أخباره في الطبري 4: 10، 34، وابن الأثير 2: 514. 7 البعجة: من بعجه الأمر إذا حزبه.

قتلناهم في حربة طحنت لهم ... غداة الرزيق إذ أراد جوارا ضممنا عليهم جانبيهم بصادق ... من الطعن ما دام النهار نهارا فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لعادت عليهم بالرزيق بوارا وكل ذلك يوضح أن الشعراء الذين ساهموا في فتح خراسان واستعادتها كانوا أدق من المؤرخين الذين نقلوا وقائع الفتح إلينا. فقد رووها منظمة متوالية دون نقص أو تحريف أو تخليط. ولا غرابة في ذلك، فهم الذين صنعوها وبلوها، ومن أجل ذلك فإن أشعارهم ترتفع إلى مرتبة الوثائق الدقيقة التي يعتد بها أكثر من الروايات التاريخية التي حملها المؤرخون إلينا، فإن تلك الأشعار خالية من التناقض، بل إنها تصحح بعض الأوهام التاريخية، وتؤكد أن الفتح إنما كان سنة اثنتين وعشرين، وأن الفتح الثاني إنما كان استرجاعا لخراسان، وتمكينا للوجود العربي بها، بعد أن نكث أهلها. وأول ما يلقانا من شعر الغزوات الخارجية بيتان لمالك بن الريب التميمي1، الذي خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان إلى خراسان، وغزا معه الصغد وسمرقند. ويبدو أن سعيدا تخاذل بعض التخاذل في مجابهة الصغد، وفضل الراحة على الجهاد، والصلح على الفتح، فلم تعجب سياسته مالكا، وهو الصعلوك الفتي الأبي، بل غاظته وأحنقته، فحثه على القتال حثا، ولكن يظهر أنه لم يستمع إليه، فازداد برما به، ونقمة عليه، وانبرى يعرض به تعريضا لاذعا، راميا له بالوهن، ورقة العقيدة، ونافيا إياه عن والده عثمان، صاحب الرأي السديد، والهمة العالية، والعزيمة القوية، ففيه يقول2: ما زلت يوم الصغد ترعد واقفا ... من الجبن حتى خفت أن تنتصرا وما كان في عثمان شيء علمته ... سوى نسله في رهطه حين ادبرا

_ 1 انظر أخباره وأشعاره في المحبر ص: 230، والشعر والشعراء ص: 353، وأنساب الأشراف 5: 120، وفتوح البلدان ص: 403، والطبري 7: 179، والأغاني 22: 285، ومعجم الشعراء ص: 265، وذيل الأمالي ص: 135، وسمط الآلي ص: 418، وحماسة ابن الشجري ص: 21، والأنساب للسمعاني 4: 155، ومعجم البلدان 3: 138، 338، 5: 141، 6: 4، 309 وخزانة الأدب 1: 317، وشرح شواهد المغني ص: 215. 2 الطبري 7: 179، وفتوح البلدان ص: 403.

فلم يلق سعيد بالا إليه، بل استمر يسالم الصغد ويساومهم، فاتهمه مالك بقلة الفضل والخير، لكي يحمسه حتى ينقض على الصغد، ويحتل بلادهم، باعثا في نفسه الأمل باستعراضه للانتصارات العظيمة التي أحرزها جنوده في يوم طاسى ويوم النهر، اللذين أبلى فيهما مالك وغيره من المقاتلين أحسن البلاء، وتغلبوا على أعدائهم، يقول1: يا قل خير أمير كنت اتبعه ... أليس يرهبني أم ليس يرجوني أم ليس يرجو -إذا ما الخيل شمصها ... وقع الأسنة- عطفى حين يدعوني2 لا تحسبنا نسينا من تقادمه ... يوما بطاس ويوم النهر ذا الطين ولم يزل به يحرضه على النضال حتى لاقى الصغد، وقارعهم مقارعة عنيفة انتهت بانتصاره عليهم، ودخوله مدينتهم. وأغار سلم بن زياد3 على سمرقند إحدى وستين، ففتحها، وأنقذ فرقة إلى خجندة، وهي مدينة على شاطئ نهر جيحون، فانهزمت، وكان أعشى همدان أحد الجنود الغازين المغلوبين. فقال يصف أسفه لانكساره مع غيره من الجنود، ويتمنى لو أسر واستشهد ولقي وجه ربه4: ليت خيلي يوم الخجندة لم تهزم ... وغودرت في المكر سليبا تحضر الطير مصرعي وتروحت ... إلى الله بالدماء خضيبا وفي سنة أربع وثمانين هاجم يزيد بن المهلب قلعة باذغيس بمقاطعة هراة، وكان نيزك ينزل بها. فتحين يزيد غرة منه، ووضع العيون عليه، فلما علم أنه خرج منها، خالفه إليها، فرجع نيزك وصالحه على أن يدفع إليه ما في القلعة من الخزائن، ويرتحل بعياله عنها. فقال كعب بن معدان الأشقري يصور علو القلعة الشاهق، الذي يطاول

_ 1 ياقوت: 3: 488. 2 شمصها: نفرها. والعطف: الكر والإقدام. 3 انظر ترجمته في تهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 237. 4 فتوح البلدان ص: 403، وياقوت 2: 404، وابن الأثير 4: 97.

عنان السماء، حتى إن أضواءها لتتراءى في الليل المظلم، كأنها النجوم المتلألئة، وكيف أن من تحصن بها امتنع على كل مهاجم. فلما تقدم إليها وطوقها وقع الذعر في قلوب أهلها، فأذعنوا له كارهين، وأدوا ما فرضه عليهم من الجزية صاغرين. ثم مضى يشيد بيزيد وغنائه في الملمات والحادثات، ذاهبا إلى أن الله هو الذى وفقه في محاصرة القلعة واقتحامها، وأنه شديد النكاية بأعدائه، كثير البر والرحمة بسائليه. يقول:1: وباغاديس التى من حل ذروتها ... عز الملوك فإن شا جار أوظلما 2 منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلا إذا واجهت جيشا له وجما 3 تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما لما أطاف بها ضاقت صدورهم ... حتى أقروا له بالحكم فاحتكما فذل ساكنها من بعد عزته ... يعطي الجزى عارفا بالذل مهتضما 4 وبعد ذلك أياما نعددها ... وقبلها ما كشفت الكرب والظلما أعطاك ذاك ولي الرزق يقسمه ... بين الخلائق والمحروم من حرما يداك أحدهما تسقي العدو بها ... سما وأخرى نداها لم يزل ديما فهل كسيب يزيد أو كنائله ... إلا الفرات وإلا النيل حين طما ليسا بأجود منه حين مدهما ... إذ يعلوان حداب الأرض والأكما 5 وفي سنة خمس وثمانين غزا المفضل بن المهلب باذغيس مرة ثانية، ففتحها وأصاب مغنما، فقسمه بين الناس، فنال كل منهم ثمانية دراهم. ثم أغار على آخرون وشومان بما وراء النهر، فظفر وغنم، وفرق ما احتواه على الناس فقال كعب الأشقري قصيدة شخص فيها رجاحة عقله، وسماحة خلقه، وجلالة أعماله، وجوده الغمر، مما

_ 1 الطبرى 8: 1129، وابن الأثير 4: 499. 2 شا: شاء. 3لم يكدها: لم يقهرها. ووجم: سكت على غيظ واشتد حزنه. 4 الجزى: جمع جزية، وهي المال الذي يؤخذ من أهل الذمة والمهتضم: المرتضي. 5 المد: زيادة ماء النهر. والحداب: جمع حدب، وهو الغليظ المرتفع من الأرض. والأكم: جمع أكمة وهي ما دون الجبل.

جعله قبلة العرب من كل قبيلة، يغدون إليه يطلبون معروفه مستبشرين، وينصرفون عنه راضين بما أخذوا من نواله، ومما ممكنه من تحقيق النصر بشومان، فكان خير خلف لأبيه الذي بلغ شأوا لم يبلغه أحد1: ترى ذا الغنى والفقر من كل معشر ... عصائب شتى ينتوون المفضلا فمن زائر يرجو فواضل سيبه ... وآخر يقضي حاجة قد ترحلا إذا ما انتوينا غير أرضك لم نجد ... بها منتوى خيرا ولا متعللا إذا ما عددنا الأكرمين ذوي النهي ... وقد قدموا من صالح كنت أولا لعمري لقد صال المفضل صولة ... أباحت بشومان المناهل والكلا صفت لك أخلاق المهلب كلها ... وسربلت من مسعاته ما تسربلا أبوك الذي لم يسع ساع كسعيه ... فأورث مجدا لم يكن متنحلا وواضح أن كعبا ركز في قصيدتيه السابقتين على شخصية يزيد، وشخصية الفضل، وأثنى على سياستهما ومقدرتهما العسكرية الفائقة، وتغافل عن الجيش الذي احتمل أعباء الزحف إلى باذغيس وشومان وآخرون، وتكلف التضحيات حتى دخل تلك المدن، وتناسى كذلك القادة ورؤساء الأخماس الذين اشتركوا معهما في تلك المغازي الناجحة، مدفوعا إلى ذلك بعصبيته للأزد، الذين ينتمي هو ويزيد والمفضل إليهم. ولا تظنن أن تقاليد المدحة وما جرى عليه العرف فيها من الإشادة بالممدوح وأصله وعراقته، وتميزه لذلك من غيره هي التي جعلته يبرز دور المهالبة، ويهمل أدوار غيرهم من القادة والمقاتلين فنحن على شبه اليقين من أن تحزبه للأزد كان له التأثير الأكبر في لجاجته في إظهار دور المهالبة وتكبيره له، وفي تنويهه بوالدهم، واعتزازه به، وإعلائه إياه فوق كل العاملين، لمساعيه الجليلة، ومحامده الأصيلة، بل لأمجاده العظيمة التي لم تكن متنحلة لأننا حين درسنا شخصيته من خلال أخباره وأشعاره في الفصل الأخير، صح لنا أنها كانت تنطوي على عصبية جامحة للأزد.

_ 1 الطبري 8: 1144.

ولعل أحدًا من ولاة خراسان لم يغز ولم يفتح مثلما غزا قتيبة بن مسلم، وفتح. فقد كان في كل عام من أعوام ولايته العشرة يتأهب في الربيع للإغارة على بلاد ما وراء النهر، وكانت الكتائب العسكرية العربية تأتيه من سائر مقاطعات خراسان ومدنها، وتتجمع بمرو الشاهجان، ثم تخرج للغزو تحت إمرته. وكان قائدا شجاعا لبقا بإدارة العمليات العسكرية وتوجيهها، فانتصر لذلك في أكثر المعارك التي خاضها في طخارستان، وخوارزم، وبخارى، وسمرقند، وفرغانة، واستعد في آخر سنة من ولايته للزحف نحو الصين. بل لقد أشرفت أول فرقة سيرها إليها على حدودها، إذ وصلت مدينة كاشغر، فكان الوالي الوحيد الذي مكن للعرب ببلاد ما وراء النهر، فقلده شعراء تميم، وقيس مدحا باقية على الدهر، مجدوا فيها فتوحاته، وخلدوا بها انتصاراته، واعترفوا له بالفضل والمقدرة الجبارة، وعدوه المحامي عن حقيقة العرب، المعلي لشأنهم، المدافع عن الإسلام، والناشر لكلمة الله في أنحاء الأرض القاصية، كما أكره بعض شعراء الأزد وبكر على الإقرار بكفاءته والمشاركة في الثناء على بطولاته. ففي سنة سبع وثمانين هاجم بيكند، وهي أقرب مدن بخارى إلى نهر جيحون، فاستجاش أهلها الصغد عليه، فكادوا يوقعون به، ولكن جنوده صبروا، وراح هو يستنهض هممهم فقاتلوا قتالا ضاريا، حتى غلبوا أعداءهم، وأدخلوهم في مدينتهم، فوضع الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح، فصالحهم. ثم إنهم نقضوا الصلح، بعد أن ارحل عنهم، وقتلوا عامله عليهم، فعاد إليهم، وقارعهم شهرا حتى ظفر بهم، وفتح مدينتهم عنوة، وقتل كل من لاذ بها في جيشهم، فقال الكميت بن يزيد1: ويوم بيكند لا تحصى عجائبه ... وما يخاراء مما أخطأ العدد وفي سنة تسع وثمانين أغار على بخارى، ففتح راميشن، ورجع إلى مرو الشاهجان. فكتب إليه الحجاج يأمره بالهجوم على بخارى، فارتد إليها، ولم يكد يقطع النهر حتى تكاثف عليه الصغد، وأهل كس ونسف في طريق صحراوي، فناهضوه، فتغلب عليهم، ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السفلى، فلقيه أهلها بجمع كثير، فجاهدهم.

_ 1 الطبري 8: 1189.

يومين ثم انتصر عليهم، ولكنه لم يتمكن من وصول بخارى واحتلالها. فقال نهار بن توسعة البكري يذكر صبرهم، وصبر أعدائهم في القتال بخرقانة1: وباتت لهم منا بخرقان ليلة ... وليلتنا كانت بخرقان أطولا ولم يحفظ القدماء شعرا نظمه الشعراء في مهاجمة قتيبة لبيكند وبخارى، مع ما صادفه من مصاعب ومعاطب، حتى كاد يهزم، ومع أنه لم يحقق الغاية التي خطط لها قتيبة عندما زحف إلى بخارى. ومن السهل أن نتعلل بما به الباحثون في مثل هذه الحال، فنفترض أن الشعر الذي قيل في هاتين المعركتين ضاع غير أننا نضيف إلى ذلك أن الشعراء لم يكونوا قد ارتبطوا بقتيبة ارتباطا وثيقا، لجدة صلتهم به، وضعف معرفتهم له. وفي سنة تسعين تمرد نيزك طخارستان، وحرض ملوك بلخ، ومرو الروذ، والطالقان، والفارياب، والجوزجان على العصيان فأخذهم قتيبة بالعنف والشدة، حتى استرد بلادهم، وتوغل في طخارستان يتعقب نيزك إلى أن دخل شعب خلم المهلك، فمزق الجنود القائمين على حراسته، وطوق نيزك بالقلعة التي احتمى بها. وحينما عجز عن اقتحامها فاوضه في الصلح، فلما خرج إليه فتك به، وبابن أخيه، وبصول ولي عهد طخارستان فاستاء بعض العرب، واتهموا قتيبة بالمكر، ووجد ثابت قطنة شاعر الأزد المتعصب الموتور في ذلك فرصة، لكي ينصحه نصحا مشوبا بالطعن عليه، والهجاء له. إذ دعاه أن لا يركن إلى الخديعة في حروبه، لأنه إذا استفاد منها مرة فقد تهلكه مرة أخرى، فإنه يقول له2: لا تحسبن الغدر حزما فربما ... ترقت به الأقدام يوما فزلت أما المغيرة بن حبناء التميمي فمدح قتيبة مدحا معجبا، لقمعه ثورة نيزك وقتله إياه، واسترسل يصفه بالعظمة والبطولة في النائبات والأهوال، وأنه الذائد عن ديار الإسلام المختار لكل خطب، المفرج لكل شدة، الذخر لكل كارثة، العدة لكل

_ 1 الطبري 8: 1198. 2 الطبري 8: 1225، وابن الأثير 4: 552.

حادثة. وأودع ذلك قصيدتين أولاهما تائية طويلة لم ينقل الطبري إلا مطلعها، وهو قوله1: لعمري لنعمت غزوة الجند غزوة ... قضت نحبها من نيزك وتعلت وثانيتهما ميمية سردها الطبري برمتها، وهي تجري على هذا النمط2: لمن الديار عفت بسفح سنام ... إلا بقية أيصر وثمام3 عصف الرياح ذيولها فمحونها ... وجرين فوق عراصها بمدام دار لجارية كأن رضابها ... مسك يشاب مزاجه بمدام أبلغ أبا حفص قتيبة مدحتي ... واقرأ عليه تحيتي وسلامي يا سيف أبلغها فإن ثناءها ... حسن وإنك شاهد لمقامي يسمو فتتضع الرجال إذا سما ... لقتيبة الحامي حمى الإسلام4 لأغر منتجب لكل عظيمة ... نحر يباح به العدو لهام5 يمضي إذا هاب الجبان وأحمشت ... حرب تسعر نارها بضرام6 تروى القناة مع اللواء أمامه ... تحت اللوامع والنحور دوامي والهام تفريه السيوف كأنه ... بالقاع حين تراه قيض نعام7 وترى الجياد مع الجياد ضوامرا ... بفنائه لحوادث الأيام

_ 1 الطبري 8: 1223. 2 الطبري 8: 1226. 3 سنام: جبل مشرف على البصرة، وجبل لبني دارم بين البصرة واليمامة. والأبصر: حبل صغير قصير يشد به أسفل الخباء إلى وتد. والنمام: نبت ضعيف له خوص يحشى به خصاص البيوت ويسد. 4 تتضع: تتطامن وتخفض رؤوسها. 5 الأغر: أبيض الوجه مستبشرة، والنحر: الحاذق الماهر العاقل المجرب، واللهام: الجيش الكثير كأنه يلتهم كل شيء واللهم من الرجال: الرغيب الرأي، العظيم الكافي، والمنتجب: المختار من كل شيء وقد انتجب فلان فلانا إذا استخلصه واصطفاه اختيارا على غيره. 6 أحمشت: ألهبت. 7 الهام: جمع هامة، وهي الرأس أو أعلاها، وتفريه: تقطعه. والقيض: قشرة البيضة اليابسة التي خرج فرخها أو ماؤها كله فتصدعت وتشققت.

وبهن أنزل نيزكا من شاهق ... والكرز حيث يروم كل مرام1 وأخاه شقرانا سقيت بكأسه ... وسقيت كأسهما أخا باذام وتركت صولا حين صال مجدلا ... يركبنه بدوابر وحوام2 فنحن نرى المغيرة بن حبناء التميمي يعظم اغتيال قتيبة لنيزك، ويزهو به، ويصوب ارتكابه له، وينفي أن يكون جرما وإثما كبيرا، ويقرر أنه كان نصرا باهرا للعرب والمسلمين، في حين نرى ثابت قطنة الأزدي، يأخذه على قتيبة، ويعيبه به، ويهون من قدره لإقدامه عليه. كذلك امتدح نهار بن توسعة البكري قتيبة لقضائه على الناكثين، وسوغ شدته عليهم، وعسفه بهم، فإنه إنما جازاهم ما يستحقون من العقاب، يقول3: أراك الله في الأتراك حكما ... كحكم في قريظة والنضير قضاء من قتيبة غير جور ... به يشفى الغليل من الصدور فإن ير نيزك خزيا وذلا ... فكم في الحرب حمق من أمير وفي سنة ثلاث وتسعين استعان خوارزم شاه بقتيبة، ليؤازره في تثبيت عرشه، ويبطش بأخيه خرزاد الذي ثار عليه، ويقمع ملك خام جرد الذي ناصبه العداء، فسار قتيبة إلى خوارزم، فقتل أخوه عبد الرحمن ملك خام جرد، واستباح بلاده، وقبض هو على خرزاد، ودفعه إلى الشاه، ودخل مدينة فيل عاصمة خوارزم. فقال كعب الأشقري يسجل هذه الغزوة الموفقة، وكان يزيد بن المهلب حاصر المدينة في ولايته الأولى، فلم يقدر على فتحها، واستعصت عليه4 فهجاه لذلك أقذع هجاء، ودمغه بالتقصير، وغمزه بأنه هو وإخوته وآباءه وأجداده لا يغنون في الحروب، لأنهم مزارعون محترفون، لا محاربون متمرسون، وأعلى قتيبة عليهم،

_ 1 الكرز: فارسي معرب، وهو المدرب المجرب من الرجال. 2 المجدل: المصروع، والدوابر: الأعقاب. والحوامي: ميامن الحافر ومياسره. 3 الطبري 8: 1226. 4 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 299.

لرجولته ومضاء عزيمته، مما أتاح له إدراك ما عجزوا عن إدراكه، فقد قهر الترك، وغنم غنائم كبيرة وزعها بين جنوده، ورجا له طول العمر، حتى يفتح سمرقند مثلما فتح خوارزم1: رمتك فيل بما فيها وما ظلمت ... ورامها قبلك الفجفاجة الصلف2 لا يجزئ الثغر خوار القناة ولا ... هش المكاسر والقلب الذي يجف3 هل تذكرون ليالي الترك تقتلهم ... ما دون كازة والفجفاج ملتجف4 لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا ... فهم ثقال على أكتافها عنف منهم شناس ومرداذاء نعرفه ... وفسخراء قبور حشوها القلف5 إني رأيت أبا حفص تفضله ... أيامه ومساعي الناس تختلف قيس صريح وبعض الناس يجمعهم ... قرى وريف فمنسوب ومقترف6 لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا ... سبعين ألفا وعز الصغد مؤتنف7 وفي سمرقند أخرى أنت قاسمها ... لئن تأخر عن حوبائك التلف8

_ 1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 299، والطبري 8: 1239، وياقوت 3: 933. 2 الفجفاجة والفجفاج: الكثير الكلام والفخر لما ليس عنده. والصلف: الذي يجاوز القدر في الظرف والبراعة ويدعي فوق ذلك تكبرا. 3 يجزئ: يكفي ويغني. وخوار القناة وهشم المكاسر: الضعيف الذي لا يعتمد عليه في الشدائد ويجف: يضطرب ويخفف من الفزع. 4 كازة: من قرى مرو الشاهجان. 5 شناس: اسم أبي صفرة، فغيرة، وتسمى ظالما. ومرداذاء: أبو أبي صفرة: وسموه بسراق لما تعربوا وفسخراء: جده. وهم قوم من الحوز من أهل عمان، نزلوا الأزد ثم ادعوا أنهم صليبة صرحاء منهم "انظر الأغاني 14: 299" والقلف: جمع قلافة، وهي القشرة، ولحاء الشجرة والقلفة: جلدة الذكر التي ألبستها الحشفة هي التي انقطع من ذكر الصبي. 6 المنسوب: معروف النسب خالصة. والمقترف: المعيب المتهم الدعي. 7 مؤنتف: شامخ لم يوطأ ولم يستبح. 8 الحوباء: النفس. والتلف: الهلاك.

ما قدم الناس من خير سبقت به ... ولا يفوتك مما خلفوا شرف وفي السنة نفسها أغار على سمرقند، وخاض على مشارفها وحدودها معركة طاحنة ضد الصغد، وأهل الشاش وفرغانة، فانكسروا أمامه أسوأ انكسار، فنزل مدينتهم، ولم يفارقها إلا بعد أن حطم الأوثان، وشيد مسجدا، وترك بها رابطة عربية. فقال كعب الأشقري يمجد بطولته وسطوته على أعدائه، ويعجب من كثرة غزواته التي لم يخذل في غزوة منها، ويعجب أيضا من وفرة ما يفوز به من النهاب فيها، ويصف ما ألحقه بالصغد من هزائم متتالية، فإذا هم مشردون عن ديارهم، وإذا هم بين والد جريح الفؤاد يتفجع لموت ولده، وابن كسير النفس، يصرخ لغياب أبيه1: كل يوم يحوي قتيبة نهبا ... ويزيد الأموال مالا جديدا باهلي قد ألبس التاح حتى ... شاب منه مفارق كن سودا دوخ الصغد بالكتائب حتى ... ترك الصغد بالعراء قعودا فوليد يبكي لفقد أبيه ... وأب موجع يبكي الوليدا كلما حل بلدة أو أتاها ... تركت خيله بها أخدودا وقد تزين لنا مقطوعتا كعب الظن بأنه تحول عن انحيازه لقبيلته تحولا شديدا، وأنه نزل عن تعاطفه السابق مع الأزد نزولا واضحا. ذلك أنه لم يقف فيها عند التفخيم لقتيبة فحسب، بل تعداه إلى التعريض بالمهالبة تعريضا قبيحا أزرى فيه بشرفهم وكرامتهم. وربما كان في ظننا شيء من الصحة، وربما عاد موقف كعب المفاجئ إلى فترات الهدوء القصيرة التي كانت تخف فيها جدة المنافسة بين القبائل العربية. وهي

_ 1 الطبري 8: 1252، وابن الأثير 4: 575، وهما يقولان إن المقطوعة تنسب أيضا لرجل من جعفى، وقد سماه البلاذري: المختار بن كعب الجعفي. "انظر فتوح البلدان ص: 411".

السنوات التي كانت تقطعها بالإعداد للحرب، والانهماك في قتال الأتراك. فكانت المعارك تستولي على أوقاتها، وتسيطر على عقولها وأفئدتها وقلوبها، وتشغلها عن المسابقة والمشاحنة. ولكننا نحمل موقفه على أنه انحراف مؤقت وتخل قصير عن عقيدته، وفلسفته القبلية. فهو شاعر أزدي متعصب مغرور، كما استقام لنا بعد تحليلنا لشخصيته، وما يبدو من تغيره الطارئ يمكن أن يرد إلى انفعاله انفعالا شديدا، بانتصارات قتيبة الباهرة، لأنه "شاعر فارس خطيب معدود في الشجعان"1، ومثل هذه البطولات الرائعة لا بد أن تستثيره، وتخرجه عن طوره. وهذا هو الذي حدث، فيما نرجح، فقد سحرته فتوحات قتيبة سحرا أفضى به إلى هيجان عاطفي نسي معه شخصيته وفلسفته، ولم يتذكر فيه انتماءه لقبيلته. ومما يؤيد هذا التفسير أنه حينما رجع يزيد بن المهلب واليا على خراسان للمرة الثانية. وعلم أنه غضب عليه، وأضمر شرا له، لانتقاصه إياه، هرب إلى عمان، وأخذ يرسل القصائد إليه، يعتذر فيها عما فرط منه، ويعترف بأنه أذنب ذنبا عظيما، لجهله وتسرعه ويقرر أن قتيبة الذي كان يكره المهالبة، هو الذي استعداه عليه، وأغراه بعيبه2. ولا بد من الإشارة إلى أن كعبا لم يفهم المديح والموازنة بين قتيبة ويزيد إلا فهما قبليا، ومن هنا انطلق يقارن بينهما مقارنة نعت الأول فيها بأنه صريح النسب، معروف العشيرة، وطعن في نسب الثاني، وسخر منه، كما وصف الأول بالفروسية، ورمى الثاني بطروئه عليها، وقلة خبرته بها. ثم نقض ما ادعاه من أن المهلب "لم يسع ساع كسعيه" وأنه "أورث مجدا لم يكن متنحلا". ورفع قتيبة عليه، زاعما أنه سبق بخيره ما قدمه الناس من خير، وفاق بشرفه ما خلفوه من شرف. وفي سنة أربع وتسعين اقتحم قتيبة الشاش، ووصل إلى خجندة وكاشان، وهما مدينتا فرغانة، فقال سحبان وائل القيسي يصور جهاده بخجندة، وكيف أنه كان

_ 1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 283. 2 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 292.

يشرف على رفاقه من المقاتلين، ويعيد تنظيمهم إذا تفرقوا، ويتقدمهم إلى حومة الوغى، ويحتز بسيفه رؤوس الأعداء. ولم ينس قتيبة فقد جعله سيد قيس، وأشاد بعطائه الجزيل الذي بز به أمثاله من رجال قيس، كما بزهم والده من قبل، وأشاد أيضا بسياسته الحكيمة، وعطفه على قيس، ورفقه برجالها، وأخذه لهم أخذا رحيما في كل الظروف. فباهت به غيرها من القبائل، وطاولت بمجده أعلى الجبال1: فسل الفوارس في خجندة تحت مرهفة العوالي2 هل كنت أجمعهم إذا ... هزموا وأقدم في القتال أم كنت أضرب هامة العا ... تي واصبر للعوالي هذا وأنت قريع قيس ... كلها ضخم النوال3 وفضلت قيسا في الندى ... وأبوك في الحجج الخوالي4 ولقد تبين عدل حكمك ... فيهم في كل حال تمت مروءتكم ونا ... غى عزكم غلب الجبال5 وفي سنة ست وتسعين بلغ قتيبة فرغانة، وأقام بها، وفتح كاشغر، وهي أقرب المدن الخاضعة للصين، وأرسل لملك الصين وفدا من عشرة رجال، انتخبهم من خيرة جنده، عليهم مشمرج الكلابي، وأمرهم أن ينقلوا إليه أنه "قد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ بلاد الصين، ويختم ملوكها، ويجبي خراجها". فقابلوا الملك، وأبلغوه الرسالة، فهددهم وخوفهم، ثم استراضهم وأجازهم، وبعث معهم بتراب من تراب الصين، وبأربعة من أبنائها، وبجزية من حرير وذهب. فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمان، وردهم، ووطأ التراب6 فقال سوادة بن عبد الله السلولي يمدح أعضاء

_ 1 الطبري 8: 1257، وابن الأثير 4: 581. 2 المرهفة: الرقيقة الحادة. والعوالي: جمع عالية، وهي سن الرمح. 3 القريع: خير القوم. 4 وأبوك: أي وفضلها أبوك. 5 ناغي الجبال: كاد يرتفع إليها. والغلب: الباذخة. 6 الطبري 8: 1277- 1279.

الوفد، لما تجشموا من الأخطار والشدائد، خاصا هبيرة بالثناء من دونهم، لأنه نهض بالمهمة التي كلف بها أحسن نهوض، وحقق الآمال التي عقدها قتيبة عليها1: لا عيب في الوفد الذين بعثهم ... للصين إذ سلكوا طريق المنهج2 كسروا الجفون على القذى خوف الردى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج لم يرض غير الختم في أعناقهم ... ورهائن دفعت بحمل سمرج3 أدى رسالتك التي استرعيته ... وأتاك من حنث اليمين بمخرج وكان لهذه المغازي المتصلة الموفقة التي ملأت أنباؤها الأسماع أصداؤها وآثارها في القبائل بالعراق، فقد عظمت بها منزلة القيسية، وسائر المضرية، وأخذت تكاثر بها اليمنية. وقد احتفظ الطبري بقصيدتين للكميت بن زيد الكوفي الذي عرف بعصبيته الشديدة لمضر4. أما القصيدة الأولى فروى الطبري بيتا منها يباهي فيه الكميت بفتح قتيبة لسمرقند، لأنه رد الاعتبار والمكانة للقيسية والمضرية بالمدينة، بعد أن كانت منطقة نفوذ لليمنية، ومنذ أن أغار عليها سلم بن زياد بمعاونة المهلب بن أبي صفرة سنة إحدى وستين، يقول5: كانت سمرقند أعقابا يمانية ... فاليوم تنسبها قيسية مضر وأما القصيدة الثانية فسرد قطعة منها، تحدث فيها الكميت عن غارات قتيبة على أهل خوارزم والصغد، وانتصاره عليهم، واحتيازه الأموال منهم، وتفريقه لها بين

_ 1 الطبري 8: 1280، وابن الأثير 5: 7. 2 في الأصل: إن. 3 السمرج: فارس معرب، وهو يوم الخراج. 4 الأغاني "طبعة الساسي" 15: 109. 5 الطبري 8: 1252، وابن الأثير 4: 575.

جنوده. ورفعه درجات على سائر الناس الذين لا يجلبون على أقوامهم إلا المصائب والويلات. وامتدح إرادته الصلبة واجتياحه قلاع المشركين الحصينة، وتفانيه في سبيل نشر الدين الحنيف، وانتهى إلى الاعتداد بأعماله المجيدة، ومفاخرة الخليفة بضخامتها، وإلى التغني باخلاص القبائل المضرية للخلافة، وتأهبها الدائم لبذل كل ما تستطيع من قوة، وما تملك من مال من أجل إعلاء كلمة الله في جنبات الله يقول1: وبعد في غزوة كانت مباركة ... تردى زراعة أقوام وتحتصد2 نالت غمامتها فيلا بوابلها ... والصغد حين دنا شؤبوبها البرد3 إذ لا يزال له نهب ينفله ... من المقاسم لا وخش ولا نكد4 تلك الفتوح التي تدلي بحجتها ... على الخليفة أنا معشر حشد5 لم تثن وجهك عن قوم غزوتهم ... حتى يقال له بعدا وهم بعدوا لم ترض من حصنهم إن كان ممتنعا ... حتى يكبر فيه الواحد الصمد ويجدر التنويه بأن الشعراء ألحوا على باهلية قتيبة، وأبرزوا قيسيته وضخموها، سواء في ذلك شعراء الأزد، مثل كعب الأشقري، أو شعراء بكر مثل نهار بن توسعة، أو شعراء مضر مثل الكميت بن يزيد، وكأنما كانوا يعرفون ما يعتمل بنفسه، ويؤذيها من ضعة باهلة وخمولها بالقياس إلى القبائل الكبيرة النابهة التي تحدرت من قيس6، فحاولوا حل عقدته النفسية، وتعويض ما يحسه من النقص، فعظموا باهلة، وأكدوا انتسابها إلى قيس، وجعلوها من خير قبائلها، ووصفوه بأنه خير رجالها، أو "باهلي قد ألبس التاج" و"قيس صريح" و"قريع قيس"، كما قالوا.

_ 1 الطبري 8: 1281. 2 تردي: تزيد. 3 فيل: عاصمة خوارزم. والوابل: المطر الغزير. والشؤبوب: الدفعة من المطر. 4 ينفله: يجعله للجنود. والوخش: الرذل الصغير. والنكد: الذي يجلب الشؤم على أهله. 5 الحشد: الذين لا يدعون عند أنفسهم شيئا من الجهد والنصرة والمال. 6 جمهرة أنساب العرب ص: 244.

وهو على التحقيق كان من أكبر السادة الذين أنجبتهم باهلة، لا لأنه كان رجلا طموحا فحسب بل لأنه قرن طموحه أيضا بالسعي الموصول لبلوغ أقصى غايات المجد، فقام لذلك بدور بارز في خراسان، ولم يقم به عامل من العمال الذين سبقوه أو خلفوه عليها، إذ وطد السيادة العربية بها، كما ثبتها بما وراء النهر. ومن أجل ذلك وصفه ابن حزم بأنه "صاحب خراسان" ذو الآثار المشهورة"1. ويظهر بجلاء من المقطوعات والقصائد التي أنشدناها أن شعراء المضرية بخراسان والعراق ابتهجوا بغزوات قتيبة الداخلية، وفتوحاته الخارجية، ومجدوها، لأنهم اعتدوها نصرا لهم، وتعزيزا لمكانة قبائلهم. أما بعض شعراء الأزد وبكر فلم يستطيعوا التغاضي عنها، ولا نكران أهميتها، ولذلك رأينا كعبا الأشقري، ونهار بن توسعة البكري يشاركان في الإشادة بها، ولكنهما لم يتشبثا بتعظيمهما لها، وإنما تنصلا منه، فقد تنازل كعب كما قلنا عن موقفه من قتيبة، واعتذر منه، لأنه كان موقفا انفعاليا عاطفيا، وبالمثل تحلل نهار من مديحه له، ولم يتمسك به، لأنه كان مديحا مؤقتا اضطراريا2. أما ثابت قطنة الأزدي فلم يصطنع أسلوب التقية، ولم يخف عداوته لقتيبة، ولذلك فإنه لم يرفع صوته بالثناء على أعماله ومنجزاته التي لا تجحد، وإنما ظل ساكتا عن الكلام، ووقف موقف المتفرج المشدوه المغيظ. حتى إذا علم أنه غدر بنيزك طخارستان وقتله، احتسب اغتياله له خطأ في الحرب، وراح يلومه ويقرعه، لكي ينفس عن حقده الدفين عليه. وفي سنة ثمان وتسعين هاجم يزيد بن المهلب جرجان، ومهد لاحتلالها بمحاصرة دهستان، إحدى نواحيها محاصرة شديدة، ثم نازل أهلها حينا، فلم يفلح في احتلالها، فأحكم الطوق عليها، وبث الجنود في كل جانب منها، وقطع المواد عن أهلها، فلما جهدوا ونهكوا بعث صول دهقانها إليه يسأله المصالحة على أن يؤمنه على نفسه وأهل بيته وماله، ويدفع إليه المدينة وما فيها. فصالحه ووفى له بما اشترطه

_ 1 المصدر نفسه ص: 246. 2 الشعر والشعراء 1: 537، وأمالي القالي 2: 195.

عليه، ودخل المدينة، فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز والسبي شيئا لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرا1. وفي خلال مقاتلة جيشه لأهلها اشترك بنفسه في إحدى المعارك، وأبى أن يعتزل القتال، فباغته الترك، وكادوا يقضون عليه، فدافع عنه فرسان الأزد دفاعا مستميتا، وفيهم الحجاج بن جارية الختعمي، الذي ناضل من ورائه، وحمى ظهره حتى سلم، وانتهى إلى ماء، وكان عطش هو وجنوده فشربوا، وانصرف عنهم العدو، فقال سفيان بن صفوان الخثعمي يمن بذب الحجاج عنه حتى حماه وأنجاه من الهلاك، ومكنه من ورود عين الماء2: لولا ابن جارية الأغر جبنه ... لسقيت كأسا مرة المتجرع وحماك في فرسانه وخيوله ... حتى وردت الماء غير متعتع3 وفي سنة اثنتين ومائة استضعف الترك سعيد بن عبد العزيز، والي خراسان الملقب بخذينة، أي الدهقانة ربة البيت، لأنه كان رجلا لينا سهلا متنغما4، فطمعوا فيه، وأغاروا على قصر الباهلي، وكان تابعا لوالي سمرقند، فاحتجزوا به مائة أهل بيت من العرب بذراريهم. فخافوا أن يبطئ عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة. فندب عثمان بن عبد الله الشخير، أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة. فندب عثمان بن عبد الله الشخير، والي سمرقند الناس للجهاد، وانتخب المسيب بن بشر الرياحي التميمي، وبعث معه أربعة آلاف من جميع القبائل، فسار معه منهم سبعمائة فارس، بعد أن عسكروا قبل مسيرهم، وعرضهم مرات، وبصرهم بهدفهم، وعرفهم بقوة عدوهم، إذ قال لهم: "إنكم تقدمون على حلبة الترك، حلبة خاقان وغيرهم، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب النار إن فررتم، فمن أراد الغزو والصبر فليتقدم". فمضى بمن بقي معه منهم إلى القصر، فالتحموا مع الترك في موقعة ضارية استشهد فيها عدد من فرسانه المعدودين ولم يزالوا بالترك حتى هزموهم، ودخلوا القصر، وحملوا من فيه من

_ 1 الطبري 9: 132. 2 الطبري 9: 1320. 3 غير متعتع: أي دون أن يلحقه أذى يقلقه ويزعجه. 4 الطبري 9: 1417.

العرب وعادوا إلى سمرقند. فقال ثابت قطنة، وكان أحد الفرسان الذين ساهموا في استرداد القصر، كما قتل عظيما من عظماء الترك، يفتخر ببلائه في ساحة القتال، افتخارا صاخبا، ويذكر الحفاظ المر لفرسان بني تميم، وخلقهم الوعر في الحرب، خاصا رئيسهم المسيب بن بشر بأعطر الثناء1: فدت نفسي فوارس من تميم ... غداة الروع في ضنك المقام فدت نفسي فوارس اكنفوني ... على الأعداء في رهج القتام2 بقصر الباهلي وقد رأوني ... أحامي حيث ضن به المحامي بسيفي بعد حطم الرمح قدما ... أذودهم بذي شطب حسام3 أكر عليهم اليحموم كرا ... ككر الشرب آنية المدام4 أكر به لدى الغمرات حتى ... تجلت لا يضيق بها مقامي فلولا الله ليس له شريك ... وضربي قونس الملك الهمام5 إذا لسعت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخذام6 فمن مثل المسيب في تميم ... أبي بشر كقادمة الحمام كذلك تهاون سعيد بن عبد العزيز بعض التهاون في مجابهة الصغد، حتى اشتدت ثورتهم، وعم أذاهم العرب بسمرقند، فاستحثه جنوده وقادته على مقاتلتهم، واتهموه بأنه ترك الغزو7. فتحفز وعبر النهر إلى سمرقند، وواجه الثائرين بها متخاذلا متراخيا، فلم يحرز نصرا كبيرا، فاستخفوا به، وكادوا يفنون كتيبة من بني تميم لولا استبسال من نجا من فرسانها في مقارعتهم، فضاق الجنود به، وسخطوا عليه

_ 1 الطبري 9: 1426، وابن الأثير 5: 94. 2 أكنفوني: حفظوني وأعانوني. والرهج والقتام: الغبار. 3 الشطب: الطرائق التي في متن السيف. 4 اليحموم: الفرس الأسود اللون. 5 القونس: مقدم الرأس. 6 الخذام: جمع خذمة، وهي الخلخال. 7 الطبري 9: 1428.

وضاعف برمهم به أنه كان إذا بعث سرية فأصاب جنودها وغنموا وسبوا، رد الذراري السبي، وعاقب السرية. فقال الهجري يهجوه هجاء مقذعا، فيه التحقير له، والتشنيع عليه، والتشهير به. وما من ريب في أن هجاءه يدل على حقيقة الرجل وسياسته، ويكشف عن رأي جنوده في قيادته العكسرية، وإدارته المدنية1: وأنت لمن عاديت عرس حفية ... وأنت علينا كالحسام المهند2 فلله در الصغد لما تحزبوا ... ويا عجبا من كيدك المتردد فأقصاه عمر بن هبيرة الفزاري عن خراسان، وولاها سعيد بن عمرو الحرشي3، فوصل إلى سمرقند والجنود العرب مطوقون، فحمسهم وشجعهم، ووعدهم بقيادة حازمة فخشي الصغد أن يفتك بهم، لأنهم تمرودا وأعانوا الترك في ولاية سعيد بن عبد العزيز، فرحلوا إلى فرغانة، ونزلوا بخجندة. فأسرع إليهم سنة أربع ومائة، وأوقع بهم، فاستسلموا له فقتل منهم ثلاثة آلاف، فيهم بعض رؤسائهم وأمرائهم، لأنهم غدروا ببعض الأسرى العرب، فقال ثابت قطنة يعبر عن سروره لما أنزل الحرشي بالصغد من العذاب4: أقر العين مصرع كارزنج ... وكشين وما لاقى بيار وديواشني وما لاقى جلنج ... بحصن خجند إذ دمروا فباروا5 وأعدم الحرشي كذلك دهقانا من دهاقين الصغد بمرو الشاهجان، وصلبه في الميدان. فقال أحد الرجاز يصف همة الحرشي القوية، وما أصاب الترك من البلاء على يديه، بعد أن ضيقوا على العرب6:

_ 1 أنساب الأشراف 5: 161، والطبري 9: 1431، وابن الأثير 5: 96. 2 في الطبري: عرس خفية. والعرس: الزوجة. والحفية: المبالغة في بر زوجها وإكرامه. 3 انظر ترجمته في تهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 164. 4 الطبري 9: 1446، وابن الأثير 5: 109. 5 ديواشي: دهقان أهل سمرقند. وكارزنج وكشين: من عظماء الصغد. 6 الطبري 9: 1449.

إذا سعيد سار في الأخماس ... في رهج يأخذ بالأنفاس دارت على الترك أمر الكأس ... وطارت الترك على الأحلاس1 ولو فرارا عطل القياس ولما ولي أسد بن عبد الله القسري، قصر عن متابعة حركة الغزو والفتح فيما وراء النهر، فاكتفى بمهاجمة نواحي هراة الجبلية. ففي سنة سبع ومائة غزا الغور، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق. فأمر باتخاذ توابيت، ووضع فيها الرجال، ودلاها بالسلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه. فقال ثابت قطنة يمدحه3: أرى أسدا تضمن مفظعات ... تهيبها الملوك ذوو الحجاب3 سما بالخيل في أكتاف مرو ... توفزهن بين هلا وهاب4 إلى غورين حيث حوى أزب ... وصك بالسيوف وبالحراب5 هدانا الله بالقتلى تراها ... مصلبة بأفواه الشعاب ملاحم لم تدع لسراة كلب ... مهاترة ولا لبني كلاب فأوردها النهاب وآب منها ... بأفضل ما يصاب من النهاب وكان إذا أناخ بدار قوم ... أراها المخزيات من العذاب ألم يزر الجبال ملع ... ترى من دونها قطع السحاب بأرعن لم يدع لهم شريدا ... وعاقبها الممض من العقاب6 وفي السنة التالية قطع النهر إلى الختل، فاستجلب أميرها خاقان، فتقهقر أسد إلى

_ 1 الأحلاس من الخيل: التي لونها بين السواد والسمرة. 2 الطبري 9: 1489. 4 المفظعات: الشدائد الشنيعة. 5 هلا: زجر للخيل لتسرع في العدو. وهاب: دعاء لها لكي تقبل وتتقدم. والقوفز: الوثوب. 5 الأزب: الداهية. والصك: الضرب الشديد. 6 الأرعن: الجبل الشاهق. والممض: المؤلم الموجع.

ما دون النهر، فاتبعه خاقان، وأصاب الجند في الغزاة جوع شديد. ويقال: إنه رجع مغلولا إلى خراسان، فتغنى عليه الصبيان بأبيات من الرجز فضحوه بها، وتهكموا عليه فيها1. ويقال: بل ظهر على الختل، واكتسحها فأسر وسبى وغنم. ثم عطف على غورين سنة تسع ومائة فأوقع بأهلها. فقال ثابت قطنة يمدحه2: أرى أسدا في الحرب إذا نزلت به ... وقارع أهل الحرب فاز وأوجبا3 تناول أهل السبل خاقان ردؤه ... فحرق ما استعصى عليه وخربا4 أتتك وفود الترك ما بين كابل ... وغورين إذ لم يهربوا منك مهربا فما يغمز الأعداء من ليث غابة ... أبى ضاريات حرشوه فعقبا5 أزب كأن الورس فوق ذراعه ... كريه المحيا قد أسن وجربا6 ألم يك في الحصن المبارك عصمة ... لجندك إذ هاب الجبان وأرهبا بنى لك عبد الله حصنا ورثته ... قديما إذا عد القديم وأنجبا ويبدو أن أسدا شن تلك الغارات على المنطقة الجنوبية الشرقية من خراسان، وما يجاروها من الختل، ليطهرها تطهيرا تاما، لأنه كان يعد للانتقال من مرو الشاهجان إلى بلخ. ومع أن غاراته لم تسفر عن نتائج هامة فإنها حركت ثابت قطنة، وأنطقته بعد أن صمت عن النظم ما يربو على عشرين عاما، وقعت فيها معارك كبيرة، وأحداث خطيرة، فإذا هو يهلل لغزوات أسد ويضخمها، ويكيل له المديح عليها، لما سبق إليه بها من مكاسب عسكرية ومادية، مدعيا أنه حطم جيوشا

_ 1 الطبري 9: 1492، 1494. 2 الطبري 9: 1496. 3 أوجب: عمل عملا يدخله الجنة. 4 السبل: أمير الختل. والردء: المعين. 5 في الأصل: "فما يغمز الأعداء" وهو تحريف ظاهر. وغمز: عصر، من الغمز، وهو العصر والكبس باليد. "انظر اللسان: غمز" وحرشوه: أثاروه وأغروه. وعقب: كر ورجع. 6 الورس: صبغ أصفر.

جرارة، قادها إليه السبل وخاقان، وحقق انتصارات غريبة نادرة، عجز عن تحقيقها من سبقوه من الولاة. وهي انتصارات بعضها حقيقي يتمثل في ظفره بنمرون ملك غرجستان، وفي ظفره بأهل الغور والغورين، ولكنها تظل صغيرة، لا شأن لها بالنسبة إلى انتصارات قتيبة بن مسلم الكبيرة. وبعضه فيه شيء من التهويل، إن لم يكن ملفقا مختلفا، ولا سيما ما يتصل بهجومه على الختل، فإن المؤرخين لم يتفقوا على أن أسدا هزم السبل، وقهر خاقان، وإنما هم مختلفون في ذلك، فمنهم من يقول إنه قفل من الختل مدحورا، ومنهم من يقول: إنه عاد منصورا. وإنما فخم ثابت قطنة غزوات أسد ونفخ فيها، لأنه كان متحزبا له ولليمنية، ولأنه كان يريد أن يكاثر به القيسية، فقد رفع أسد مكانة الأزد بعد انحطاطها في ولاية قتيبة بن مسلم، والجراح الحكمي، وسعيد بن عبد العزيز، وسعيد الحرشي، كما أنه أحرز لهم مناصب عظيمة حازوا بها فوائد جليلة لم يستطع يزيد بن المهلب تحقيقها لهم، حين ولي خراسان بعد هلاك قتيبة بن مسلم، لأن ولايته كانت قصيرة لم تتجاوز السنتين. وفي سنة عشر ومائة خرج أشرس بن عبد الله السلمي إلى سمرقند ليقضي على فتنة الصغد والترك، فنزل بآمل، وأقام بها ثلاثة أشهر، وعبر قطن بن قتيبة الباهلي النهر في عشرة آلاف، فاندفع إليه الترك وحاصروه، فوجه إليه أشرس كتيبة ساعدته، وطردت الترك عنه، واستنقذت الأسرى من أيديهم. ثم اجتاز أشرس النهر إليه، وسير أمامه سرية بقيادة رجل اسمه مسعود أحد بني حيان، لتكون طليعة له، فأكمن الترك له كمينا، وقتلوا عددا من فرسانها. فرجع مسعود إليه مهزوما. فقال أحد الشعراء من الجند يهزأ به، ويسجل فضله1:

_ 1 الطبري 9: 1513.

خابت سرية مسعود وما غنمت ... إلا أفانين من شد وتقريب1 حلوا بأرض قفار لا أنيس بها ... وهن بالسفح أمثال اليعاسيب2 وفي العام ذاته ارتد أهل كردر من خوارزم عن الإسلام، فحاربهم رجال المسلحة العربية هناك، وبعث إليهم أشرس كتيبة من ألف رجل عونا لهم، فصاروا إليهم، وتمكنوا جميعا من ملاحقة الترك، وإخضاع أهل كردر. فقال عرفجة الدارمي التميمي هذين البيتين يبين دور بني تميم في مناجزة الترك، وفي رد أهل كردر إلى الإسلام، ويعجب من استيلاء سواهم من جنود القبائل الأخرى على غنائمهم وأسلابهم3: نحن كفينا أهل مرو وغيرهم ... ونحن نفينا الترك عن أهل كردر فإن تجعلوا ما قد غنما لغيرنا ... فقد يظلم المرء الكريم فيصبر وفي سنة اثنتي عشرة ومائة كانت وقعة الشعب على مشارف سمرقند بين خاقان والجنيد بن عبد الرحمن المري4. فانخذل الجيش العربي في بدايتها انخذالا مروعا، وفقد من جنوده أعدادا كبيرة لم يفقدها من قبل، واستشهد سورة بن الحر التميمي، عامل سمرقند، وهو في طريقه لإنقاذ الجنيد، وتخفيف وطأة الترك عليه. ومع أن الجنيد انتصر في نهايتها على خاقان، واقتحم سمرقند، وأخلى ذراري العرب منها، وحملهم إلى مرو الشاهجان، وأبقي المقاتلين فيها وحدهم، فإن نشوة النصر لم تنس العرب مرارة الهزيمة، لكثرة من هلكوا منهم، إذ يذكر الشعراء أن القتلى بلغوا خمسين ألفا، ولما لحق بهم، رجالا ونساء وأطفالا من العذاب. ومن أجل ذلك هتف الشعراء بالجنيد لائمين وناقدين وحاقدين لأنه لم يحتط للأمر، ولم يقدر قوة

_ 1 الشد: العدو السريع. والتقريب: أن يرفع الفرس يديه ويضعهما معا إذا عدا عدوا دون الإسراع. 2 اليعاسيب: جمع يعسوب، وهو طائر دون الجرادة أو أعظم منها، طويل الذنب لا يضم جناحيه إذا وقع تشبه به الخيل في الضمر. 3 الطبري 3: 1513، وابن الأثير 5: 154. 4 انظر ترجمته في تهذيب ابن عساكر 3: 415، وابن الأثير 5: 182. والبداية والنهاية 9: 312.

خصمه، فباء لذلك بالخسران في أول معركة، واقرأ هذه الأبيات لابن السجف المجاشعي، فإنها تكشف عما عاناه العرب هناك من الكرب والأذى والهوان، إذ يقول مخاطبا هشام بن عبد الملك1: أذكر يتامى بأرض الترك ضائعة ... هزلى كأنهم في الحائط الحجل2 وارحم وإلا فهبها أمة دمرت ... لا أنفس بقيت فيها ولا ثقل3 لا تأملن بقاء الدهر بعدهم ... والمرء ما عاش ممدود له الأمل لاقوا كتائب من خاقان معلمة ... عنهم يضيق فضاء السهل والجبل4 لما رأوهم قليلا لا صريخ لهم ... مدوا بأيديهم لله وابتهلوا5 وبايعوا رب موسى بيعة صدقت ... ما في قلوبهم شك ولا دغل6 فابن السجف يرفع تقريرا إلى هشام بن عبد الملك عن بداية معركة الشعب، يوضح فيه ما حاق بهم من الهزيمة والعار، وكيف أنهم كانوا قلة ضعيفة بالقياس إلى عدوهم وضخامته، حتى أحبط كل محاولاتهم للخلاص منه، وشد عليهم، فإذا هم لا يملكون له دفعا، ولا يستطيعون منه انفكاكا، وإذا هم يتضرعون إلى الله أن ينجيهم ويكتب لهم السلامة، كما يطلب إلى هشام أن يتدبر الأمر مليا، ويتخذ قرارا حازما يحفظ من سلموا منهم، ويبقيهم على قيد الحياة، ويحذره من أنهم إذا هلكوا كان هلاكهم نذيرا بفنائه بعدهم. أما الشرعبي الطائي فرفع تقريرا آخر عن نتائج المعركة إلى خالد بن عبد الله

_ 1 الطبري 9: 1547. 2 الحجل: الكروان. 3 الثقل: المتاع والحشم. 4 معلمة: بارزة معلوم مكانها. 5 الصريخ: المغيث. 6 الدغل: الفساد.

القسري والي العراق، بين فيه قوة خصمهم، ونكايته بهم، وما أصاب النساء من الفزع والهلع، وما وقع على بعضهن من الأسر والسبي، حتى أخذن يستغثن ولا من مغيث، وبين فيه كذلك تخاذل الجنود وتقاعسهم، ووصم قائدهم بالخسة والدناءة وهو تقرير حزين مؤثر، تكاد النفس تذوب منه حسرة وألما، وهو يتوالى على هذه الشاكلة1: تذكرت هندا في بلاد غريبة ... فيا لك شوقا هل لشملك مجمع تذكرتها والشاس بيني وبينها ... وشعب عصام والمنايا تطلع بلاد بها خاقان جم زحوفه ... وجيلان في سبعين ألفا مقنع إذا دب خاقان وسارت جنوده ... أتتنا المنايا عند ذلك شرع هناك هند ما لنا النصف منهم ... وما إن لنا يا هند لفي القوم مطمع2 ألا رب خود خدلة قد رأيتها ... بسوق بها جهم من الصغد أصمع3 أحامي عليها حين ولى خليلها ... تنادي إليها المسلمين فتسمع تنادي بأعلى صوتها صف قومها ... ألا رجل منكم يغار فيرجع ألا رجل منكم كريم يردني ... يرى الموت في بعض المواطن ينفع فما جاوبوها غير أن نصيفها ... بكف الفتى بين البرازيق أشنع4 إلى الله أشكو نبوة في قلوبها ... ورعبا ملا أجوافها يتوسع فمن مبلغ عني الوكا صحيفة ... إلى خالد من قبل أن نتوزع5

_ 1 الطبري 9: 1554. 2 النصف: الانتصاف. 3 الخود: الفتاة الحسنة الخلق الشابة. والخدلة: غليظة الساق مستديرتها. والجهم: الغليط الكريه. والأصمع: صغير الأذنين. 4 النصيف: كنصف الخمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والبرازيق: الفرسان. 5 الألوك: الرسالة.

بأن بقايانا وأن أميرنا ... إذا ما عددناه الذليل الموقع1 هم أطمعوا خاقان فينا وجنده ... ألا ليتنا كنا هشيما يزعزع وأما خالد بن المعارك العبدي المعروف بابن عرس، فرفع تقريرا ثالثا مفصلا إلى خالد، ضمنه أساه ولوعته لما حل بالجيش العربي من الدمار، فإذا أفراده مقتلون مصرعون، وإذا نساؤهم يبكين ويستصرخن. وعاب فيه على الجنيد جهله وتعجله. وفجاجة رأيه، وسوء تدبيره، وهجاه هجاء مقذعا، وشهر بأخطائه تشهيرا، ودعا عليه بالموت، لأنه ورطهم في معركة لا قبل لهم بها يقول2: أين حماة الحرب من معشر ... كانوا جمال المنسر الحارد3 بادوا بآجال توافوا لها ... والعائر المهمل كالبائد4 فالعين تجري دمعها مسبلا ... ما لدموع العين من ذائد انظر ترى للميت من رجعة ... أم هل ترى في الدهر من خالد كنا قديما يتقى بأسنا ... وندرأ الصادر بالوارد حتى منينا بالذي شامنا ... من بعد عز ناضر آبد5 كعاقر الناقة لا ينثني ... مبتدئا ذي حنق جاهد فتقت ما لا يلتئم صدعه ... بالجحفل المحتشد الزائد6 تبكي لها إن كشفت ساقها ... جدعا وعقرا لك من قائد7 تركتنا اجزاء معبوطة ... يقسمها الجازر للناهد8

_ 1 الموقع: المذلل الذي أصابته البلايا. 2 الطبري 9: 1566. 3 المنسر: القطعة من الجيش تمر أمام الجيش الكبير. والحارد: الجاد الغاضب المانع. 4 العائر: الأعور. 5 في الأصل: "ناصر". وهو تحريف ظاهر. والناضر: الحسن فيه غنى ونعمة، وفيه بهاء ورونق وشامنا: أخزانا وجلب علينا العار. والآبد: الدائم المقيم. 6 الجحفل: الجيش الكثير. والمحتشد: المجتمع. 7 جدعا وعقرا: يقال في الدعاء على الإنسان جدعا وعقرا، نصبوهما بفعل مضمر لا يظهر. 8 معبوطة: مذبوحة. والجازر: الذابح. والناهد: الصامد للعدو والشارع في قتاله.

ترقت الأسياف مسلولة ... تزيل بين العضد والساعد تساقط الهامات من وقعها ... بين جناحي مبرق راعد إذ أنت كالطفلة في خدرها ... لم تدر يوما كيدة الكائد1 إنا أناس حربنا صعبة ... تعصف بالقائم القاعد أضحت سمرقند وأشياعها ... أحدوثة الغائب والشاهد وكم ثوى في الشعب من حازم ... جلد القوى ذي مرة ماجد2 يستنجد الخطب ويغشى الوغى ... لا هائب غس ولا ناكد3 ليتك يوم الشعب في حفرة ... مرموسة بالمدر الجامد4 تلعب بك الحرب وأبناؤها ... لعب صقور بقطا وارد طار لها قلبك من خيفة ... ما قلبك الطائر بالعائد لا تحسبن الحرب يوم الضحى ... كشربك المزاء بالبارد5 أبغضت من عينك تبريحها ... وصورة في جسد فاسد جنيد ما عيصك منسوبه ... نبعا ولا جدك بالصاعد6 خمسون ألفا قتلوا ضيعة ... وأنت منهم دعوة الناشد7 لا تمرين الحرب من قابل ... ما أنت في العدوة بالجامد قلدته طوقا على نحره ... طوق الحمام الغرد الفارد8

_ 1 الطفلة: الجاية رقيقة البشر ناعمتها والطفلة: حديثة السن. والخدر: الخباء والبيت. 2 ذي مرة: ذي قوة. 3 يستنجد الخطب: يستصغر الأمر العظيم ولا يبالي به، أخذه من قولهم: استنجد فلان بفلان، إذا ضري به واجترأ عليه بعد هيبته إياه. والغس: الضعيف اللئيم. والناكد: المشؤوم. 4 مرموسة: مطمورة. 5 المزاء: الخمر اللذيذة الطعم. 6 العيص: الأصل، ومنسوبه: بدل اشتمال مما قبله. والجد: الحظ والنبع: شجر تتخذ منه القسي. 7 الدعوة: القرابة والإخاء. 8 الفارد: المنقطع عن غيره، المنتبذ بنفسه.

قصيدة حبرها شاعر ... تسعى بها البرد إلى خالد وفي سنة تسع عشرة ومائة غزا أسد بن عبد الله القسري في ولايته الثانية الختل، فاستغاث أميرها بخاقان، فأقبل في جموع الترك، وخاض النهر إلى الجوزجان، بعد أن قطعه أسد راجعا إلى خراسان، فدارت بين الفريقين معارك متصلة ساعد فيها الحارث بن سريج التميمي خاقان، فكسر أشد شوكتهما في إحداهما، فوليا الأدبار إلى طخارستان العليا، ومنها إلى بلاد الترك. فارتجز ابن السجف المجاشعي هذه الأرجوزة يمدح بها أسدا، وينوه بما أنجز من انتصار رائع. وهو يقول فيها1: لو سرت في الأرض تقيس الأرضا ... تقيس منها طولها والعرضا لم تلق خيرا مرة ونقضا ... من الأمير أسد وأمضى أفضي إلينا الخير حين أفضى ... وجمع الشمل وكان رفضا ما فاته خاقان إلا ركضا ... قد فض في جموعه ما فضا يا بن سريج قد لقيت حمضا ... حمضا به يشفى صداع المرضى وقال أبو الهندي التميمي2، وكان رحل إلى خراسان بأخرة من عمره، يمدح أسدا، مثنيا على سلامة تقديره، وحسن تأتيه للأمور، ومبرزا ما كان لهزيمته خاقان من أثر في صيانة أمن العراق، وحماية بيت الله الحرام، وواصفا إيقاعه بالترك، وكيف لم ينصرف عن قتالهم إلا بعد أن شتت جموعهم، وخلفهم بين عظيم مصروع، وجرح مطروح، يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأسير صاغر ينتظر العقاب،

_ 1 الطبري 9: 1611، والبداية والنهاية 9: 323. 2 قال الطبري 9: 1671، وابن الأثير 5: 206، إنه من أسد، والصحيح أنه من تميم وقد هاجر إلى خراسان في ولاية أسد القسري، وظل ينزل بها في ولاية نصر بن سيار، ثم استوطن سجستان بأخرة من عمره. وبها مات "انظر الشعر والشعراء ص: 682، والكامل للمبرد 3: 42، وطبقات ابن المعتز ص:136" والأغاني "طبعة الساسي" 21: 177، وسمط الآلي ص: 168، 208، وفوات الوفيات 3: 169، ومسالك الأبصار 1: 389، وقد جمع شعره عبد الله الجبوري، ونشره ببغداد سنة 1970، وانظر كتابنا، شعراء الدولتين الأموية والعباسية ص: 307.

وفار مذعور يخشى الموت، ناعيا على القبائل المضرية المختلفة تخاذلها وترددها، حتى أغرت خاقان بالهجوم على غرب خراسان3: أبا منذر رمت الأمور فقستها ... وساءلت عنها كالحريص المساوم فما كان ذو رأي من الناس قسته ... برأيك إلا مثل رأي البهائم أبا منذر لولا مسيرك لم يكن ... عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم ولا حج بيت الله مذ حج راكب ... ولا عمر البطحاء بعد المواسم فكم من قتيل بين سان وجزة ... كثير الأيادي من ملوك قماقم1 تركت بأرض الجوزجان تزوره ... سباع وعقبان لحز الغلاصم2 وذي سوقة فيه من السيف خطة ... به رمق حامت عليه الحوائم3 فمن هارب منا ومن دائن لنا ... أسير يقاسي مبهمات الأداهم4 فدتك نفوس من تميم وعامر ... ومن مضر الحمراء عند المآزم هم اطمعوا خاقان فينا فأصبحت ... حلائبه ترجو احتواء المغانم ومن الغريب أن يتغاضى ابن السجف المجاشعي التميمي عن تعصب أسد للأزد5، ويحمد له معروفه، وتأليفه بين العرب، ويمجد إراداته وبسالته وردعه لخاقان والحارث بن سريج. والأغرب أن لا يقف أبو الهندي التميمي عند تعظيمه له، فقد تجاوزه إلى تقريع تميم وغيرها من القبائل القيسية، متهما لها بالتهاون وقلة المبالاة. ولكن إذا عرف السبب، بطل العجب، كما يقولون. فشعراء تميم إنما وقفوا هذا

_ 1 الطبري 9: 1617، ابن الأثير 5: 206. 1 القماقم: جمع قمقام، وهو السيد الكثير الخير، الواسع الفضل. وسان: من قرى بلخ. 2 الغلاصم: جمع غلصمة، وهي اللحم الذي بين الرأس والعنق. 3 الحوائم: الطيور التي تدور حول الجريح تنتظر موته حتى تنقض عليه وتنهشه. 4 الأداهم: الدواهي. 5 الطبري 9: 1664.

الموقف من قبيلتهم وحلفائها، لأنهم قصدوا به إلى التكفير عما ارتكبته من خطأ جسيم حين أيدت المعاهدة التي عقدت بين عاصم بن عبد الله الهلالي، والحارث بن سريج، وارتضت ما اقترحاه على هشام بن عبد الملك من شروط حتى يظلا تابعين لحكومته، طائعين لسلطته، كما أنهم لجوا في انتقادهم للحارث بن سريج، الذي ينتسب إلى قبيلتهم، ليتبرأوا من جرائمه، ويتحللوا من مسؤولية مخالفته لخاقان، واشتراكه معه في محاربة العرب بخراسان. ولم يحفظ القدماء شعرا كثيرا في غزوة نصر بن سيار آخر ولاة خراسان لما وراء النهر، بالقياس إلى ما حفظوه من أشعار غزيرة في غزوات الولاة السابقين، مع أنه شن حملة قوية على سمرقند والشاش وفرغانة، وقتل كورصول خليفة خاقان. فكل ما عثرنا عليه من الشعر الذي قيل في حملته الناجحة بيتان لأبي نميلة صالح بن الأبار، هتف بهما عند رجوع نصر سالما بعد أن قاومه كورصول التركي مقاومة عنيفة، ومنعه من عبور نهر الشاش، وهو يقول فيهما1: كنا وأوبة نصر بعد غيبته ... كراقب النوء حتى جاده المطر أودى بأخرم منه عارض برد ... مسترجف بمنايا القوم منهمر2 وصفوة القول في الأشعار التي لهج بها الشعراء في الوقائع الحربية بخراسان وطخارستان والختل، وخوارزم، وبخارى، وسمرقند، والشاش، وفرغانة، أن تيار العصبية يلتقي فيها بتيار القومية التقاء ضعيفا متقطعا، فإن الفردية والقبلية والحزبية هي الصفات الغلابة عليها، والظواهر المميزة لها. وهي صفات وظواهر تتضح بصورة عامة في اعتداد الشعراء الفرسان ببطولاتهم في القتال، وأدوار قبائلهم وحلفائهم في النضال. ولكنها تظهر بقوة عند شعراء الأزد وبكر وعبد القيس، فقد رأينا كعبا الأشقري، وثابت قطنة الأزديين يكبران أعمال يزيد بن المهلب، وأخيه المفضل، وأسد القسري تكبيرا استعراضيا أرادا به على أقل تقدير إحداث شيء من التوازن بين

_ 1 الطبري 9: 1693. 2 أخرم: فارس تركي، ومسترجف: خافق مضطرب.

منجزات الولاة الأزديين واليمنيين، وبين منجزات الولاة القيسيين، وأرادا به كذلك مباهاة القبائل القيسية ومضاهاتها، ووجدنا الشاعر الأول يفخم فتوحات قتيبة بين مسلم، ثم يتخلى عن تفخيمه لها، ويرى أنه زلة وقع فيها، أما الشاعر الثاني فوقف منها ذاهلا ضائقا حاسدا. حتى إنه لم يقل شيئا في الثناء عليها، بل سعى لتشويهها، والتشنيع على صاحبها. وبالمثل تنصل نهار بن توسعة البكري حليف الأزد من إشادته بها. ولا بد أن نسجل على شعراء هذا الحلف أنهم هولوا الخسائر والأضرار التي لحقت بالعرب في معركة الشعب، وشكوا الجنيد بن عبد الرحمن المري إلى خالد بن عبد الله القسري، والي العراق، وشككوا في كفاءته ومقدرته، مع أنه ظهر في النهاية على خاقان، وانتصر عليه انتصارا عزيزا. وكأنما كان ابن عرس العبدي، والشرعبي الطائي يبتغيان من التهويل والتشكك الطعن في الجنيد، وحمل خالد القسري على نصح هشام بن عبد الملك بإعفائه من ولاية خراسان. وصحيح أننا رأينا عند شعراء قيس وتميم شيئا من العصبية في إشادتهم بانتصارات قتيبة بن مسلم، وخاصة عند سحبان وائل، وسوادة بن عبد الله السلولي القيسيين، غير أنهم لم يبالغا فيها، ولم يكاثرا اليمنية والربعية لها. وأكثر من ذلك فقد لاحظنا في تمجيد المغيرة بن حبناء التميمي لفتوحات قتيبة وانتصاراته أبعادا قومية إسلامية، فقد اعتد قضاءه على نيزك طخارستان تمكينا للعرب، ودفاعا عن المسلمين. ونادرا ما كان شعراء الحلفين المتنافسين يفيئون إلى الرشد والصواب. ويرتفعون إلى مستوى التفكير في المصلحة العامة، ولا يخضعون لعصبيتهم لقبائلهم، وهم يقدرون النتائج المهمة الناجمة عن غزوات الولاة الناجحة وآثارها في المحافظة على سيادة أمتهم. بل إنهم كانوا إذا اهتدوا إلى هذه الأفكار ولمعت بخواطرهم وخيالاتهم، يستشرفونها من خلال انفعالاتهم العاطفية بالمعارك الحربية الموفقة التي كانت ترضي في نفوسهم نزعات الحرب والفروسية، كما مر بنا عند ثابت قطنة الأزدي، حين مدح سعيدا الحرشي لبطشه بالصغد، أو من خلال مصالح قبائلهم وحلفائهم، كما مر بنا عند ابن السجف المجاشعي التميمي، وأبي الهندي التميمي، حين مدحا أسدا القسري، ونوها بصده لخاقان وللحارث بن سريج.

موضوعات أخرى تقليدية

موضوعات أخرى تقليدية: وفي الشعر الذي أنشأه الشعراء العرب بخراسان في أيام بني أمية أربعة فنون قديمة لم نتحدث عنها حتى الآن، وهي المديح، والهجاء، والفخر، والرثاء. ويلاحظ أن المقطوعات والقصائد التي أفردها الشعراء لكل فن منها قليلة، كما أن كل الأشعار التي خصصوها لها لا تعدل نصف الأشعار التي نظموها في الحديث عن الأحوال الداخلية، والغزوات الخارجية. أ- المديح: أما المديح فهم يحتذون فيه على المثال الجاهلي، إذ يرددون فيه المعاني التي رددها الشعراء الجاهليون في مدائحهم، ويخلعون على ممدوحيهم الصفات التي خلعها الجاهليون على سادتهم وأشرافهم. فهم يشيدون بأصل الممدوح العريق، وكرمه الغمر، وشجاعته في الحروب، وسماحته وحلمه. ولكنهم يضيفون إلى هذه المعاني التقليدية معاني جديدة مستمدة من الحياة الإسلامية وقيمها، إذ يضفون على ممدوحيهم صفات التقوى والعدل والصلاح، والتفاني في سبيل نشر الدين، والفتك بالأعداء المشركين، وطبيعي أن هذه المعاني الجاهلية والإسلامية لا تجتمع في كل مدحة، فقد يلح الشاعر في مدحته على المعاني الجاهلية، وقد يركز على المعاني الإسلامية، وقد يراوح بينهما جميعا، خضوعا لحالته النفسية، وثقافته الشخصية، التي كانت تقوم في أصلها على عنصر الثقافة الجاهلية، وعنصر الثقافة الإسلامية.

ففي هذه المقطوعة يظهر كعب الأشقري بسالة يزيد بن المهلب، وقد لقيه الترك في خمسمائة فارس، وقطعوا عليه الطريق، وهو يسير في ستين فارسا من كس بما وراء النهر، وكان أبوه يقيم بها سنتي إحدى وثمانين واثنتين وثمانين، إلى مرو الشاهجان، حيث مات أخوه المغيرة، خليفة أبيه، والقائم بأعماله. فجالدهم أشد جلاد وأعنفه، دون أن يتغلب عليهم، أو يتغلبوا عليه، ولم يزل كل فريق منهم يهاجم الآخر، ويكر عليه، حتى أسدل الظلام أستاره، تفرق الترك عنه وواصل سيره. وكعب لا يطلعنا على بطولة يزيد فحسب، وإنما يطلعنا على بطولة فرسانه، فهو يكبر فيه صلابته، ويكبر في فرسانه عزيمتهم، وكيف أنهم لم ينكصوا عن مقاتلة الترك مع كثرة عددهم، فقد صمدوا لهم، وصدقوا في منازلتهم، معرضين أنفسهم للخطر، ورامين أفراسهم على الهلاك. يقول1: والترك تعلم إذ لاقى جموعهم ... أن قد لقوه شهابا يفرج الظلما2 بفتية كأسود الغاب لم يجدوا ... غير التأسي وغير الصبر معتصما3 نرى شرائج تغشى القوم من علق ... وما أرى نبوة منهم ولا كزما4 وتحتهم قرح يركبن ما ركبوا ... من الكريهة حتى ينتعلن دما5 في حازة الموت حتى جن ليلهم ... كلا الفريقين ما ولى ولا هربا

_ 1 الطبري 8: 1079. 2 الشهاب: النجم بالليل. ويقال للرجل الماضي في الحرب: شهاب حرب، أي ماض فيها على التشبيه بالكواكب في مضيه. 3 التأسي: أن يواسي بعضهم بعضا، أو أن يقتدي بعضهم ببعض. 4 الشرائج: جمع شريج، وهي القوس المنشقة من عود انشقت منه قوس أخرى. والنبوة: التباعد والتجافي. والكزم: الهيبة من التقدم والعلق: لعلها القوس أو جعب السهام. 5 القرح: جمع قارح، وهو الفرس الذي انتهت أسنانه. والكريهة: النازلة والشدة في الحرب. وينتعلن دما: لعله من انتعل إذا لبس النعل، أي حتى يلطخ الدم حوافرها، فيكون لها كالفعل التي تقي حوافرها الحجارة. ولعله من انتعل الثوب إذا وطئه، أي حتى يجري الدم في الأرض فيطأنه ويخضنه وفي الأصل: يبتلعن.

ويثني عبد الملك بن سلام السلولي على يزيد بن المهلب أيضا لكثرة ما ساقه إليه من النوال حتى أغناه، ولطول ما رعى الضعفاء، وواسى البؤساء في أيامه حتى انتعشوا؛ قارنا ثناه عليه بالدعاء له باليمن والخير جزاء لما قدم من معروف يقول1: ما زال سيبك يا يزيد بجوبتى ... حتى ارتويت وجودكم لا ينكر2 أنت الربيع إذ تكون خصاصة ... عاش السقيم به وعاش المقتر3 عمت سحابته جميع بلادكم ... فرووا وأغدقهم سحاب ممطر فسقاك ربك حيث كنت مخيلة ... ريا سحائبها تروح وتبكر4 ويقول حاجب بن ذبيان المازني يمدح يزيد بشدة بأسه، وتمرسه بالقيادة والقتال في الصغر والكبر، وينوه بقهره لأعدائه، وترفقه بأصدقائه5: كم من كمي في الهياج تركته ... يهوى لفيه مجدلا مقتولا6 جللت مفرق رأسه ذا رونق ... عضب المهزة صارما مصقولا7 قدت الجياد وأنت عز يافع ... حتى اكتهلت ولم تزل مأمولا كم قد حربت وقد جبرت معاشرا ... وكم امتننت وكم شفيت غليلا8 أما الفرات الشني9 العبدي فيشيد بجرأة قتيبة بن مسلم، وصحة شكيمته،

_ 1 الطبري 9: 1313. 2 الحوبة: الحاجة والهم والحزن. 3 الخصاصة: الفقر. 4 المخيلة: السحابة نفسها. 5 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 266. 6 الكمي: الشجاع المستتر في سلاحه، المتعطي به، والمجدل: المصروع. 7 جلله بالسيف: علاه وضربه به. والعضب: القاطع. 8 حربه: أخذ ماله كله وتركه بلا شيء. 9 في معجم الشعراء ص: 190 "السني". والصواب الشني. "انظر جمهرة أنساب العرب ص: 295".

وكبر همته، وقلة مبالاته بالموت، واكتراثه للحياة في الحرب، حين يجبن المترددون، ويعتمدون على غيرهم، مما هيأ له الظفر بأعدائه من الصغد ظفرا مستمرا باهرا، والسبق إلى أبعد غايات المجد والسؤدد، وإدراك ما لم يدركه غيره من العلا والرفعة، فإذا بطولاته وفتوحاته حديث الناس في كل مجلس. يقول1: يرى الموت من عادى قتيبة مجهرا ... وليس بوقاف ولا بمواكل2 ولكنه سمح بنفس كريمة ... بذول لها يوم التفاف القنابل3 حوى الصغد حتى شاع في الناس ذكره ... ونال التي أعيت على المتطاول4 والأغلب أن الفرات يشهر بيزيد بن المهلب في قوله: "ونال التي أعيت على المتطاول"، لضآلة غزواته وانتصاراته بالقياس إلى قتيبة بن مسلم، ولكثرة ادعائه وغروره من ناحية، وكيدا له، ونكاية به، لأنه فضل الأزد عن حلفائها من بكر من ناحية أخرى. وظل الفرات يفي لقتيبة، ويجهر بتقديره له، حتى بعد اغتياله، وقيام يزيد بن المهلب بالولاية، مع ما كان يعرضه له إخلاصه لقتيبة من احتمال بطش ابن المهلب به. فقد سئل عنه وعن يزيد، فرفض ذمه، وتقديم يزيد عليه، لأنه كان يؤمن بعظمته، وبوجوب الثبات على المبدأ مهما تكن العواقب، فاعترف لذلك بفضل الرجلين دون خشية من لوم، أو رهبة من عذاب، وإن كان قد تخلص من المأزق تخلصا بارعا بتسويته بينهما، وجعله كلا منهما نظيرا لصاحبه، فهما عنده جوادان مشهوران يلوذ بهما كل محتاج، وفارسان مغواران يرمي كل منهما بنفسه في معترك

_ 1 معجم الشعراء ص: 190. 2 المواكل: كل عاجز كثير الاعتماد على غيره. 2 القنابل: جمع قنبلة، وهي الطائفة من الخيل. 4 أعيت: استعصت.

الحرب. ويقاتل قتال الأبطال، لاتصافهما بالشهامة والإباء، وحرصهما على العمل الصالح. يقول1: سأنطق حقا فيهما إذ سألتني ... وليس أخو حق كحيران جاهل هما البحران للعافين والمبتغي القرى ... وليثا عرين عند وقع المناصل2 هما يردان الموت لا يرهبانه ... إذا ضج منه كل أشوس باسل3 حياء وبذلا للنفوس وحسبة ... بكل سريجي وأسمر عاسل4 والأرجح أن الفرات وقف موقفه الجسور الناقد ليزيد، لأنه عير الأزد وبكرا في ولايته الثانية بخيرات المهالبة وأفضالهم عليهم، لسكونهم عن قيام وكيع بن أبي سود التميمي بالحكم بعد مقتل قتيبة بن مسلم، وعدم احتجاجهم عليه، ولأنه تحزب للأزد تحزبا بينا، وأطرح بكرا، وقرب أهل الشام وخراسان5. وحين أعمر أسد بن عبد الله القسري مدينة بلخ، وأسكن بها الجنود العرب الذين كانوا ينزلون من قبل بالبروقان، مدحه أبو البريد البكري لبنيانه إياها، وتأمينه الجنود بها، مما نفى عنهم الخوف والفزع، وأدخل في قلوبهم الطمأنينة والسكينة، بعد أن كانوا ظاهرين للعدو بالبروقان، ورجا أن تكون له دار عز ومنعة وبركة، ومضى يشيد بسياسته العادلة لرعايته الجنود ومحافظته على أرواحهم، وعنايته بشؤون الناس، وتلبية حاجاتهم، فنال بذلك رضوان ربه. يقول6: إن المباركة التي أحصنتها ... عصم الذليل بها وقر الخائف

_ 1 معجم الشعراء ص: 190. 2 العافين: الأضياف، وطلاب المعروف. والمناصل: جمع منصل، وهو السيف. 3 الأشوس: الرافع رأسه كبرا. 4 الحسبة: احتساب الأجر على الله، والسريجي: السيف المنسوب إلى ابن سريج، وهو قين معروف كان يصنع السيوف. والعاسل: الرمح شديد الاهتزاز للدونته. 5 نقائض جرير والفرزدق 1: 368، والطبري 9: 1313، وابن الأثير 5: 25. 6 الطبري 9: 149.

فأراك فيها ما أرى من صالح ... فتحا وأبواب السماء رواعف1 فمضى لك الاسم الذي يرضى به ... عنك البصير بما نويت اللاطف يا خير ملك ساس أمر رعية ... إني على صدق اليمين لحالف الله آمنها بصنعك بعدما ... كانت قلوب خوفهن رواجف2 ومع ما سدده شعراء اليمن وربيعة إلى الجنيد بن عبد الرحمن المري من سهام الهجاء الجارحة، وما صبوه عليه من اللعنات لأنه ورط الجيش العربي في فاتحة معركة الشعب، ثم هزم خاقان في خاتمتها، فإننا نرى بعض شعراء عبد القيس يمدحونه مستشعرين فيما يبدو دقة الظرف الذي ناهض فيه الترك وصعوبته، ومقدرين أنه لم يزحف إلى سمرقند بمحض إرادته بل سار إليها مرغما، وجر إليها جرا، ليحرر العرب المحاصرين بها، وممن مدحوه منهم أبو الجويرية عيسى بن عصمة العبدي، وهو ينوه في مقطوعة حبرها فيه بأصالة محتده، وشرف أسرته، وما عرف به بنو مرة على طول التاريخ من صفح عند المقدرة، وغناء في الشدة، واستشهاد في ميادين القتال، وبذل للأموال. يقول3: بيت بناه سنان ثم شيده ... بحيث طنب في أثنائه الكرم الصافحون بأحلام إذا قدروا ... والضاربون إذا ما اعصوصب القتم4 القتل ميتتهم والجود عادتهم ... والحلم والعزم من أخلاقهم شيم ومن الشخصيات الممدحة نصر بن سيار. فهذا ثابت قطنة يطوقه مدحة كفاء عطفه عليه، ذلك أن المجشر بن مزاحم السلمي، أمير حرب سمرقند لأشرس بن

_ 1 رواعف: منهلة المطر. 2 خوفهن: أي بخوفهن. 3 معجم الشعراء ص: 95. وفيه أن اسمه عيسى بن أوس بن عصية بن عبد القيس. وفي الطبري 9: 1565، عيسى بن عصمة. وانظر ياقوت 2: 857. وله فيه مدحة أخرى "انظر المصون في الأدب ص: 96، وديوان المعاني 1: 24" وله فيه مدحة ثالثة "انظر الأغاني "طبعة دار الكتب" 20: 410، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 3: 416". 4 اعصوصب: اجتمع وتكاثف والقتم: الغبار.

عبد الله السلمي، حبس ثانيا، لأنه ساند الأعاجم عندما ثاروا منادين بإسقاط الجزية عنهم بعد إسلامهم، ولم يزل في السجن حتى قدم نصر واليا على المجشر بسمرقند، فألطفه وأحسن إليه. ثم حمله إلى أشرس بمرو الشاهجان، فجدد حبسه بها. وهو يقرر في مدحته له أنه كان دائما يثق به، ويرجو الخير منه، ويبجل موهبته الإدارية الفذة، وخبرته العسكرية الواسعة، مما أتاح له أن يعود من كل غزوة غانما. ويعترف بأنه أغاثه حين تخلت عشيرته عن نصرته، وتنكر له أقرب رفاقه. بل تربصوا به الدوائر، معلنا أنه لم يسيء ولم يجرم ولم يخرج على السلطان لتضامنه مع الأعاجم المطالبين بحقوقهم المشروعة، حتى يزج به في ظلمات الحبس. يقول1: إذ كان ظني بنصر صادقا أبدا ... فيما أدبر من نقضي وإمراري2 لا يصرف الجند حتى يستفيء بهم ... نهبا عظيما ويحوي ملك جبار وتعثر الخيل في الأقياد آونة ... تحوي النهاب إلى طلاب أوتار حتى يروها دوين السرح بارقة ... فيها لواء كظل الأجدل الضاري3 لا يمنع الثغر إلا ذو محافظة ... من الخضارم سباق بأوتار4 إني وإن كنت من جذم الذي نضرت ... منه الفروع وزندي الثاقب الواري5 لذاكر منك أمرا قد سبقت به ... من كان قبلك يا نصر بن سيار ناضلت عني نضال الحر إذ قصرت ... دوني العشيرة واستبطأت أنصاري وصار كل صديق كنت آمله ... ألبا علي ورث الحبل من جاري

_ 1 الطبري 9: 149. 2 النقض: إفساد ما أبرم من عهد أو عقد. والإمرار: الإحكام والشد. وفي الأصل: إن. 3 السرح: المال الراعي. والأجدل: الصقر. 4 الخضارم: جمع خضرم، وهو الجواد الكثير العطية، والسيد الخمول. 5 الزند: العود الأعلى الذي تقتدح به النار. والثاقب: المضيء. والواري: المتقد الملتهب.

وما تلبست بالأمر الذي وقعوا ... به علي ولا دنست أطماري1 ولا عصيت إماما كان طاعته ... حقا علي ولا قارفت من عار ومع إقراره بفضل نصر عليه، وتعريضه بالمجشر لأنه أساء إليه فإن استعلاءه نفسه لم يغب عن خاطره، لأن عقدة الشخصية الكاملة ينميها شعوره بالأصل الأزدي الكريم، والعز اليمني القديم، تملكت على فكره وتحكمت بخياله ولذلك فإنها لم تكن تقفز إلى خلده وهو يشيد بالمهالبة، ويفاخر بهم، بل كانت تقفز إليه وهو يمدح أنصار المضريين، ويعترف بجميلهم عليه، كأنما لم يكن يريد أن يطأطئ رأسه لهم، ولا أن يكون أقل منهم، حتى وهو يشكر لهم ما قدموا إليه من خير، وما أسبغوا عليه من عطف. وهذا خالد بن المعارك العبدي المعروف بابن عرس يقلد نصرا مدحة أخرى، إجلالا له، وتقديره لبلائه، فقد ناضل خاقان وجيشه عن الجنيد بن عبد الرحمن المري نضالا شديدا حتى وزعهم عنه، وكفهم عن سائر الجنود العرب الذين كانوا معه، ونجاهم من الدمار، فاستحق لهذا الموقف العظيم أن يلقب "بفتى نزار كلها" أو كما يقول2: يا نصر أنت فتى نزار كلها ... فلك المآثر والفعال الأرفع3 فرجت عن كل القبائل كربة ... بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا يوم الجنيد إذ القنا متشاجر ... والنحر دام والخوافق تلمع4 ما زلت ترميهم بنفس حرة ... حتى تفرج جمعهم وتصدعوا فالناس كل بعدها عتقاؤكم ... ولك المكارم والمعالي أجمع

_ 1 الأطمار: جمع طمر، وهو الثوب الخلق البالي. 2 الطبري 9: 1554، وابن الأثير 5: 171. 3 الفعال: اسم للحسن والقبيح من الأفعال، ولذلك يقال: فلان كريم الفعال، وفلان لئيم الفعال. 4 الخوافق: السيوف.

وهذا أبو نميلة صالح بن الأبار، مولى بني عبس يمدح نصرا بعد أن عين واليا على خراسان، وكان أبو نميلة خرج مع يحيى بن يزيد العلوي، ولم يزل معه حتى قتل بالجوزجان، فوجد عليه نصر لذلك. فأتى عبيد الله بن بسام صاحب نصر، فأنشد بين يديه هذه القصيدة مصورا فرقه وقلقه حتى استشفع له ابن بسام عنده، ومنوها بخصال نصر الحميدة من شهامة، وصرامة، وصلابة، ووقارة، ورزانة، يقول1: قد كنت في همة حيران مكتبئا ... حتى كفاني عبيد الله تهمامي نايدته فسما للمجد مبتهجا ... كغرة البدر جلى وجه إظلامي فاسم برأي أبي ليث وصولته ... إن كنت يوم حفاظ بامرئ سامي تظفر يداك بمن تمت مروءته ... واختصه ربه منه بإكرام ماضي العزائم ليثي مضاربه ... على الكريهة يوم الروع مقدام لا هذر ساحة النادي ولا مذل ... فيه ولا مسكت إسكات أفحام2 له من الحلم ثوباه ومجلسه ... إذا المجالس شانت أهل أحلام وحينما استولى الأزد وأهل اليمن على مرو الشاهجان، وطردوا نصرا عنها، واشتطوا في تعذيب المضريين وتقتيلهم واغتصاب أموالهم، امتدح أبو بكر بن إبراهيم عليا، وعثمان، ابني جديع الكرماني، بقصيدة طويلة، أثنى فيها عليهما، لأنهما اقتديا بأبيهما، وحاولا بلوغ شأوه، ووصفهما بالكرم والسماحة والتقى والورع والكمال والبأس، مما سهل لهما قهر نصر، وقتل الحارث بن سريج، يقول3: إني لمرتحل أريد بمدحتي ... أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما سبقا الجياد فلم يزالا بخعة ... لا يعدم الضيف الغريب قراهما يستعليان ويجريان إلى العلا ... ويعيش في كنفيهما حياهما

_ 1 الطبري 9: 1724. 2 المذل: الضجر. القلق. 3 الطبري 9: 1936.

أعني عليا إنه ووزيره ... عثمان ليس يذل من والاهما جريا لكيما يلحقا بأبيهما ... جري الجياد من البعيد مداهما فلئن هما لحقا به لمنصب ... يستعليان ويلحقان أباهما1 ولئن أبر عليهما فلطالما ... جريا فبذهما وبذ سواهما فلأمدحنهما بما قد عاينت ... عيني وإن لم أحص كل نداهما فهما التقيان المشار إليهما ... الحاملان الكاملان كلاها وهما أزالا عن عريكة ملكه ... نصرا ولاقى الذل من عاداهما نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته ... وتقسمت أسلابه خيلاهما والحارث بن سريج إذ قصدوا له ... حتى تعاور رأسه سيفاهما أخذا بعفو أبيهما في قدرة ... إذ عز قومهما ومن والاهما ومزاوجة الشعراء في هذا النماذج من المدائح بين معاني المديح الموروثة والمستحدثة واضحة، وإن غلبت عنايتهم بالصفات الجاهلية على عنايتهم بالصفات الإسلامية في مدحه دون أخرى. فمثلا تطغى المعاني التقليدية في مدحتي كعب الأشقري، وحاجب بن ذبيان المازني ليزيد بن المهلب، ومدحة أبي الجويرية للجنيد، ومدحتي ابن عرس وأبي نميلة لنصر بن سيار. فقد اهتم هؤلاء الشعراء بإبراز شدة احتمال ممدوحيهم في النزال والطعان، ومروءتهم وكرمهم في قرى الضيفان، وأنسابهم التي تميزوا بها عن الأقران، وتظهر المعاني التجديدية في مدحتي الفرات الشني لقتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب، ومدحة عبد الملك بن سلام السلولي لابن المهلب، ومدحة أبي البريد لأسد القسري، ومدحة ثابت قطنة لنصر بن سيار، إذ كشفوا فيها عن مواساة هؤلاء العمال للفقراء، وبرهم بالضعفاء، وعن اشتغالهم بأمر الناس والجنود، وعملهم من أجل توفير الضرورات لهم، وحمياتهم من خطر العدو، وعن سهرهم على حراسة الثغور، وذبهم عن المسلمين، وجهادهم لتحقي هذه الغايات جهادا

_ 1 المنصب من الخيل: الذي يغلب على خلقه نصب عظامه حتى ينتصب منه ما يحتاج إلى عطفه.

صادقا، لم يكونوا يبتغون منه عرض الدنيا، بل كانوا يرجون به رضا الله وثواب الآخرة. ولا بد من التنبيه على أن شعراء الأزد وربيعة تعصبوا في مدائحهم للولاة وكبار الرجال اليمنيين، سواء في تضخيمهم لفروسيتهم، وتهويلهم لمنجزاتهم. كما يستخلص ذلك من مدحة كعب الأشقري ليزيد بن المهلب، أو في قيامهم بالترويج لهم، والدعاية الحزبية لسياستهم، كما يستنتج ذلك من مدحة أبي البريد البكري لأسد القسري، إذ وصفه فيها بأنه "خير ملك ساس أمر رعية"، مع أنه كان منحازا للأزد انحيازا استطار شره في آخر ولايته حتى إن أبا البريد نفسه، لم يستسغه ولم يطق الصبر عليه، فشكا منه، وندد به1، أو في إعرابهم عن سرورهم لظفرهم بالمضريين، كما يبدو ذلك في مدحة أبي بكر بن إبراهيم لابني الكرماني. ولم يمدح شعراء الأزد الولاة القيسيين وأشياعهم، إلا ثابت قطنة، فإنه أشاد بنصر بن سيار، لأنه أسعفه في الشدة، إشادة رد بها بعض معروفه إليه، وطاوله فيها مطاولة واضحة صريحة. ونوه شعراء ربيعة بالولاة القيسيين وأتباعهم، إما استفزازا للولاة الأزديين لأنهم تحزبوا للأزد، وأغفلوا حلفاءها من بكر، كما يستظهر ذلك من مدحتي الفرات الشني لقتيبة بن مسلم، وإما لمنافقتهم واسترضائهم، حتى يغفروا لهم ميلهم للولاة اليمنيين كما يستشف ذلك من مدحة أبي البريد البكري لنصر بن سيار، فقد مدح أسدا القسري قبله. ولم يثن شعراء مضر على الولاة والقيسيين وحدهم، بل أثنوا عليهم، وعلى الولاة الأزديين، على نحو ما يتضح في مدحتي عبد الملك بن سلام السلولي، وحاجب بن ذبيان المازني ليزيد بن المهلب، مما يدل على نقاء نفوسهم، وخلوها من الأحقاد والضغائن.

_ 1 الطبري 9: 1497.

ب- الهجاء: وأما الهجاء فتعددت أنواعه، لاختلاف أسبابه وغاياته. فنوع منه سلطه الشعراء على العمال المترددين المتاونين الذين كانوا ينتوون الغزو، ويتجهزون له، ويشرعون فيه، ثم يعودون مدحورين منه. وكأنما كان الشعراء بالمرصاد لهؤلاء الولاة الخائبين، يراقبون خططهم العسكرية، ونتائج معاركهم، فإذا نجحوا فيها احترموهم، وقدروا ما حققوه من مكسب حربي، ومغنم مادي، وإذا فشلوا فيها صبوا عليهم جام غضبهم، وسلقوهم بألسنة حداد، معيرين لهم، ومشهرين بهم. والأغلب أن الشعراء لم يبتغوا من هذا النوع من الهجاء الحط من قيمة مهجويهم فحسب، وإنما كانوا يبتغون منه أيضا إلهاب عزائمهم واستثارة عواطفهم، ليتلافوا أسباب ضعفهم وتقصيرهم، ويضاعفوا استعدادهم وجدهم، ويحتاطوا لكل طارئ، من أجل أن ينتصروا في المعارك اللاحقة، وليكون هجاؤهم لهم عبرة ونكالا للولاة والقادة في المستقبل. وسبق أن أنشدنا أبياتا لمالك بن الريب التميمي هجا فيها سعيد بن عثمان بن عفان، عندما هادن الصغد، وجنح إلى مفاوضتهم، دون أن يجدد مهاجمته لهم، أو يشدد حصاره لمدينتهم1. وأنشدنا مقطوعة ثانية للشاعر الهجري هجا فيها سعيد بن عبد العزيز حينما قطع النهر، وقد تجمع الترك باشتيخن من قرى سمرقند، فحاربهم وانتصر عليهم، ثم كف عن محاربتهم خوفا وجبنا، فصالوا عليه وهزموه وأكثروا القتل في أصحابه2. ونضيف إلى هذين الشاهدين مقطوعتين أخريين في هجاء أمية بن عبد الله، الذي لم يفلح في غزو ما وراء النهر فلاحا كبيرا، لعجزه وتخاذله من ناحية، ولاشتغاله بإخماد فتن بكير بن وشاح التميمي من ناحية أخرى. ففي سنة سبع وسبعين تهيأ للإغارة على بخارى، وعلى موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، واجتاز النهر، فبلغته أخبار ثورة ابن وشاح عليه بمرو الشاهجان، وخلع الناس له، فقفل إلى مرو

_ 1 الطبري 7: 179، وفتوح البلدان ص: 403، وياقوت 3: 488. 2 أنساب الأشراف 5: 161، والطبري 9: 1430، وابن الأثير 5: 96.

الشاهاجان، وأهدر دم ابن وشاح، ثم أعدمه، وهدد عقاب اللقوة الغداني التميمي1، لأنه حرض وشاح على الثورة. فهجاه اللقوة بهذه المقطوعة هجاء فاحشا عرض فيه به لانهزامه أمام أبي فديك الخارجي بالبحرين قبل أن يلي خراسان، وتخاذله في مجابهة الصغد ومكافحة موسى بن عبد الله بن خازم السلمي، وتنمره على العرب، وتحكمه في رقابهم، وحذره من مغبة إسرافه في تهديده له، واستخفافه به، معلنا أنه إذا استمر فيهما فإنه سيقود إليه جيشا ضخما يودي به. يقول2: إن الحواضين تلقاها مجففة ... غلب الرقاب على المنسوبة النجب3 تركت أمرك من جبن ومن خور ... وجئتنا حمقا يا ألأم العرب4 لما رأيت جبال الصغد معرضة ... وليت موسى ونوحا عكوة الذنب5 وجئت ذيخا مغذا ما تكلمنا ... وطرت من سعف البحرين كالخرب6 أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ... تحت الخوافق دون العارض اللجب7 يخب بي مشرف عار نواهقه ... يغشى الكتيبة بين العدو والحبب8 وفي السنة نفسها عبر أمية النهر للغزو، فحوصر حتى جهد، وأشرف جنوده على

_ 1 في الطبري 8: 1025، ومعجم الشعراء ص: 106: عتاب اللقوة، وفي معجم الشعراء: العدواني بدل الغداني، والصواب من الاشتقاق لابن دريد ص: 230. 2 الطبري 8: 1025، ومعجم الشعراء ص: 106. 3 الحواضن: جمع حاضنة وهي الدجاجة، لأن أمية قال: وهل عقاب إلا دجاجة حاضنة "انظر الطبري 8: 1025" والحاضنة: التي تربي الطفل والمجففة: التي ليس في ثدييها حليب. 4 الحمق: قلة العقل. وفي معجم الشعراء: جمعا. 5 عكوة الذنب: أصله ومعظمه. 6 الذيخ: ذكر الضباع كثير الشعر، والمغذ: المسرع. والخرب: مصدر الأخرب، وهو العبد مثقوب الأذن. وفي معجم الشعراء: كالجرب. 7 الخوافق: السيوف. والعارض: الجيش الذي يسد الأفق لكثرته، واللجب: الذي له صوت وصياح وجلبه. 8 يخب: يعدو، والناهقان: عظمان بارزان في وجه الفرس أسفل من عينيه، وفي معجم الشعراء: أقود مستشرقا عار نواهقه.

الهلاك، فانصرف إلى مرو الشاهجان، فقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجوه بهذه المقطوعة هجاء وخزه به وخزا لأنه استهان به فيه، وحقره، حتى إنه لم يجد فائدة في مراجعته أو لومه1: ألا بلغ أمية أن سيجزى ... ثواب الشر إن له ثوابا ومن ينظر عتابك أو يرده ... فلست بناظر منك العتابا محا المعروف منك خلال سوء ... منحت صنيعها بابا فبابا ومن سماك إذ قسم الأسامي ... أمية إذ ولدت فقد أصابا ونوع ثان من الهجاء كانت بواعثه وأهدافه شخصية، كأن يتعقب الوالي المنحرف من الشعراء ويحده، أو أن يقطع لأحدهم عهدا على نفسه ثم ينقضه ويغدر به، فحينئذ كان الشاعر ينقض على الوالي انقضاضا يقطعه به تقطيعا، إذ كان يسلبه كل فضيلة يتغنى بها العربي، وينسب إليه كل رذيلة ينفر منها السيد الأبي، انتقاما لنفسه منه. ومثال ذلك أن أبا السفاح عمرو بن قرثع التغلبي2، راود امرأة لأمية بن عبد الله عن نفسها، فجلده أمية، فهجاه أبو السفاح هجاء وصمه فيه بالعبودية والخسة والشح إذ يقول له3: قريش كرام يا أمية سادة ... وأنت بخيل يا أمي مسود تجود لمن تخشى شذاة لسانه ... وغيرك يعطي راغبا ويجود4 إذا راغب يوما أتاك منعته ... وإن خفته بالجود منك عتيد5 وأنت إذا حرب تسامت فحولها ... حيود هيوب للقاء ندود فغضب أمية عليه وطارده، فاستخفى أبو السفاح منه، ولم يزل متواريا عنه، حتى عزل وقدم المهلب بن أبي صفرة، فأمنه، فظهر، فقتله مولى لأمية، ولم يطلب

_ 1 الطبري 8: 1031. 2 انظر نسبه في الاشتقاق ص: 335، وجمهرة أنساب العرب ص: 303. 3 معجم الشعراء ص: 50. 4 الشذاة: الحد. 5 عتيد: معد حاضر.

المهلب بدمه فكان ذلك مدعاة لهجاء عمرو بن عمرو بن قرثع المهلب وابنه يزيد، وكان هجاء خبيث اللسان، فشنع على المهالبة تشنيعا مقذعا، ومنه قوله في المهلب1: فهلا منعت من قد أجرته ... ولم يمس لحما بينهم يتمزع أأعطيته الميثاق ثم خذلته ... وكنت لئيما من خيالك تفزع فلا تذكرن فجرا فلست بأهله ... وجارك ثاو عرضه يتضعضع فلو كنت حرا يا مهلب لم تكن ... ذليلا وفي كفيك عضب موقع2 ولكن أبى قلب أطيرت بناته ... عليك فما تخزى ولا تتقنع تجللت عارا يا مهلب فالتمس ... لنفسك عذرا والعذور مجدع غدرت أبا السفاح عمرو بن قرثع ... واسلمته لما بدا الموت يلمع ولو مت دون التغلبي حفيظة ... لقلنا كريم جاره ما يروع أرأيت إليه كيف جرد المهلب من كل صفة حميدة يعتد بها العربي الكريم؟ أرأيت إليه كيف عراه من الإباء والوفاء، وجعله عاهرا لا يتستر ولا يتحفز؟ أرأيت إليه كيف أظهر لؤمه، لتهاونه في منع جاره من الموت، وتخاذله عن المطالبة بدمه بعد أن قتل؟ وإنه مهما يعتذر عن جرمه، ومهما يحتل لتسويفه فلن يمحو ما لحقه من الخزي والعار. وحتى لو اعتذر عنه فإنه يظل صغيرا، فثمة فرق كبير بين المدافع عن حرمة جاره، الهالك من دونه، وبين المقصر عن حمايته، المعلل لتقصيره فالأول معظم مذكور، والثاني مذموم محقور. وعلى هذا النحو مضى ابن قرثع يتصرف في هجائه للمهلب وولده، ويشقق في

_ 1 معجم الشعراء ص: 50. 2 العضب الموقع: السيف المحدد المسنون.

معاني هجائه لهما، ويفتن في عرضها، حتى فضحهما، إذ يقول ليزيد بن المهلب1: أنت كز اليدين منتخب القلب ... لئيم الفعال غير نضار2 وأبوك الذي تضاف إليه ... عاجز الرأي زنده غير واري لستما فاعلما إذا القوم نادوا ... لنزال وبارزوا في الغرار3 بصبورين حين تحتد الحر ... ب ولا سابقين في المضمار4 ويقول له5: جدك يرعى غنما حزتها ... فانعم ولا تشق أبا خالد ونم على فرشك مستضعفا ... لأشهدن يوما مع الشاهد وإذا كان ابن قرثع ألح في المقطوعة الأولى على تقليد الجوار، وما يتكلفه العربي الشهم من تضحية في سبيل الحفاظ على من اعتصم به، وبسط هذا التقليد بسطا، واتخذه أساسا للإزراء بالمهلب، فإنه ركز في المقطوعة الثانية على قيمة الكرم، إذ نفاها عن المهلب وولده، ودمغهما بالبخل والدناءة، والتخلف عن غايات العظماء، كما استغل في المقطوعة الثالثة فكرة المنزلة الاجتماعية، فوصف ابن المهلب بوضاعة مكانته، وجعله معنيا برعاية الأغنام، شأنه في ذلك شأن جده، مشغولا بالقيام عليها، قاعدا عن السعي إلى المعالي. وما من ريب في أن ابن قرثع عرف كيف ينفس عن حقده على المهالبة، وكيف يثأر لأبيه منهم، لأنهم لم يهبوا لحمايته، ولم يطالبوا بدمه، فقد جرحهم تجريحا، بل لقد مزقهم تمزيقا بسهام هجائه التي راشها نحوهم، ووقعت منهم في الصميم.

_ 1 معجم الشعراء ص: 50. 2 منتخب القلب: جبار، والنضار: اسم الذهب. 3 الغرار: حد السيف. 4 المضمار: غاية الفرس في السباق. 5 معجم الشعراء ص: 51.

ويصح أن ندخل في الهجاء الشخصي الأهاجي التي تراشق بها الشعراء بسبب تنافسهم في الجوائز والمراكز عند الأمراء. وأشهر ما يروى من ذلك الهجاء الذي اتصل بين المغيرة بن حبناء التميمي، وزياد الأعجم مولى عبد القيس. فقد اجتمعا مع كعب الأشقري عند المهلب بن أبي صفرة، ومدحوه جميعا، فوهب زيادا غلاما فصيحا لينشد عنه شعره، لأنه كان ألكن لا يفصح، فظن المغيرة أنه فضله عليه، فراجعه، وبلغ زيادا ما كان منه فهجاه بقوله1: أرى كل قوم ينسل اللؤم عندهم ... ولؤم بني حبناء ليس بناسل2 يشب مع المولود مثل شبابه ... ويلقاه مولودا بأيدي القوابل ويرضعه من ثدي أم لئيمة ... ويخلق من ماء امرئ غير طائل3 تعالوا فعدوا في الزمان الذي مضى ... وكل أناس مجدهم بالأوائل لكم بفعال تعرف الناس فضله ... إذا ذكر الأملاء عند الفضائل4 فغازيكم في الجيش ألأم من غزا ... وقافلكم في الناس ألأم قافل وما أنتم من مالك غير أنكم ... كمغرورة بالبو في ظل باطل5 بنو مالك زهر الوجوه وأنتم ... تبين ضاحي لؤمكم في الجحافل6 فأجابه المغيرة بقوله7: أزياد إنك والذي أنا عبده ... ما دون آدم من أب لك يعلم

_ 1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 90. 2 ينسل: يسقط. 3 غير طائل: خسيس، وضيع. 4 الأملاء: جمع ملأ، وهم الأشراف. 5 كمغرورة بالبو: أي كمخدوعة بالجلد الذي حشي تبنا، فتحن له. والمراد أن هذه القبيلة تتوهم أن نسبها إلى مالك نسب حقيقي. 6 الجحافل هنا: الشفاه. 7 الأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 92.

فالحق بأرضك يا زياد ولا ترم ... ما لا تطيق وأنت علج أعجم1 أظننت لؤمك يا زياد يسده ... قوس سترت بها قفاك واسهم علج تعصب ثم راق بقوسه ... والعلج تعرفه إذا يتعمم ألق العصابة يا زياد فإنما ... أخزاك ربي إذ غدوت ترنم واعلم بأنك لست مني ناجيا ... إلا وأنت ببظر أمك ملجم نهجو الكرام وأنت ألأم من مشى ... حسبا وأنت العلج حين تكلم ولقد سألت بني نزار كلهم ... والعالمين من الكهول فأقسموا بالله ما لك في معد كلها ... حسب وإنك يا زياد مؤذم2 لقد حاول زياد أن يعيب المغيرة من جهة نسبه وحسبه، ففتح له بابا واسعا يهجوه منه، إذ كان زياد أعجميا مولى لعبد القيس، وكان المغيرة عربيا تميميا، وابن عبد القيس من تميم شرفا وعظمة! ولم يزل المغيرة يأتيه من هذا الباب معرضا بعجميته، وأنه لا يمكن أن يبلغ مبلغ العرب الأصلاء الصرحاء، مهما تعرب، وكيفما اصطنع التعرب، وكيفما شد العمامة على رأسه، ومهما يحمل من الأقواس والسهام، لأن لسانه يفضحه ويدل على أصله، حتى لم يبق فيه بقية من كرامة أو عزة، وحتى أذل مواليه من عبد القيس، لأنهم شجعوه على هجائه، فرضخوا له، وتبرأوا إليه منه، على أن يكف عن هجائهم3. واحتدمت منافرة ثانية بين ثابت قطنة الأزدي، وحاجب بن ذبيان التميمي، في مجلس يزيد بن المهلب، لتسابقهما إلى الصلات السنية والمكانة الأدبية. ذلك أن حاجبا وفد على يزيد فمدحه، فأمر له بدرع وسيف ورمح وفرس4، فاستاء

_ 1 العلج: الرجل من كفار العجم. 2 الموذم: المقطع، وكلب موذم: أي في عنقه قلادة. 3 الأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 95. 4 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 264.

ثابت، ثم إنه مدح يزيد مرة أخرى، وسأله، فلبى له ما طلبه1، فحسده ثابت، وهجاه بقوله2: أحاجب لولا أن أصلك زيف ... وأنكم مطبوع على اللؤم والكفر وإني لو اكثرت فيك مقصر ... رميتك رميا لا يبيد يد الدهر فقل لي ولا تكذب فإني عالم ... بمثلك هل في مازن لك من ظهر فإنك منهم غير شك ولم يكن ... أبوك من الغر الجحاجحة الزهر3 أبوك ديافي وأمك حرة ... ولكنها لا شك وافية البظر4 فلست بهاج وابن ذبيان إنني ... سأكرم نفسي عن سباب ذوي الهجر5 فهو يقذفه بسقوط النسب، وخبث الطبع، وفساد الدين، ويعبث به عبثا ظاهرا في سائر هجائه له، فهو يوثق نسبه في مازن، ولكنه ينفي أن يكون أبوه من سادتها النابهين المقدمين، أو أن يكون له فيها سند قوي، ويستمر في العبث به، زاعما أن أباه نبطي، وأن أمه عربية، غير أنه ينكر عليها أن تكون مسلمة، لأنها لم تختتن. فهاج حاجب، ولم يقنع بهجاء ثابت والأزد وحدهم، بل عمم بهجائه أهل اليمن جميعهم، راميا لهم بالضعف والخمول، ومفضلا عليهم الزنج نسبا ومكانة، وواصفا إياهم بالصغار، وأنهم يهتضمون القهر، ويستنيمون للهوان، ولا يطيرون لنجدة جيرانهم، بل يتركونهم للغزاة، وأفحش في هجائه لهم، إذا اختتمه باتهام نسائهم بأنهن رغيات يأتيهن كل من أرادهن، يقول6:

_ 1 المصدر نفسه ص: 267. 2 المصدر نفسه ص: 267. 3 الجحاجحة: جمع جحجح: وهو السيد. 4 دياف: من قرى الشام أو الجزيرة، وأهلها نبط، وإذا عرضوا برجل أنه نبطي نسبوه إليها. 5 الهجر: القبيح من الكلام. 6 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 268.

دعوني وقحطانا وقولوا لثابت ... تنح ولا تقرب مصاولة البزل1 فللزنج خير حين تنسب والدا ... من ابناء قحطان العفاشلة الغرل2 أناس إذا الهيجاء شبت رأيتهم ... أذل على وطء الهوان من النعل نساؤهم فوضى لمن كان عاهرا ... وجيرانهم نهب الفوارس والرجل ولم يزل بثابت يهجوه كلما أخطأ أو أساء حتى لطخه بكثير من النقائص، وحد من غلوائه وكبريائه. ونوع ثالث من الهجاء دوافعه أو مقاصده قبلية أو حزبية، فهو يعود من ناحية إلى تناقض مصالح الحلف الواحد، وتفسخ قبائله، وتصارعها وتعازلها وانطواء كل قبيلة منها على نفسها. ومن الشواهد على ذلك الهجاء الذي تقاذف به كعب الأشقري، وزياد الأعجم بسبب شر وقع بين الأزد وعبد القيس، وحرب سكنها المهلب، وأصلح بينهم، وتحمل ما أحدثه كل فريق على الآخر، وأدى دياته3. ومنه قول كعب يهجو عبد القيس بالخمول، ويتنصل من انتسابه إليها عن طريق أمه4: إني وإن كنت فرع الأزد قد علموا ... أخزى إذا قيل عبد القيس أخوالي فهم أبو مالك بالمجد شرفني ... ودنس العبد عبد القيس سربالي وقوله يسمها بضعة منزلتها، وضعفها، وأنها لا تثور للدفاع عن محارمها وأعراضها، ولا تغني في المحن5: لعل عبيد القيس تحسب أنها ... كتغلب في يوم الحفيظة أو بكر6 يضعضع عبد القيس في الناس منصب ... دني وأحساب جبرن على كسر

_ 1 البزل: جمع بازل، وهو الرجل الكامل في تجرته. 2 العفاشلة: جمع عفشل، وهو الثقيل الوخم. والغرل: جمع أغرل، وهو الذي لم يختن. 3 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 287. 4 المصدر نفسه ص: 288. 5 المصدر نفسه ص: 289. 6 الحفيظة: الذب عن المحارم، والمنع لها عند الحرب.

إذا شاعر أمر الناس وانشقت العصا ... فإن لكيزا لا تريش ولا تبري1 ففند زياد أقواله، وألصق بالأزد كل العيوب التي ألصقها بعبد القيس، وغلا في تحقيره لهم، إذ ادعى أنه لا يعلم بوجودهم على وجه الأرض، وأنهم إن وجدوا، فهم قليلون منسيون لا يزيدون ولا يتكاثفون، بل يبقون ثابتين على قلتهم وضياعهم، وهم أيضا ليس لهم نسب يذكر، ولا أثر يعرف، ولا خير يعجب، بل لقد جعلهم لا يساوون نعلا من نعال عبيد عبد القيس. يقول2: نبئت أشقر تهجونا فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا لا يكثرون وإن طالت حياتهم ... ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا قوم من الحسب الأدنى بمنزلة ... كالفقع بالقاع لا أصل ولا ورق3 إن الأشاقر قد أضحوا بمنزلة ... لو يرهنون ببغلي عبدنا غلقوا4 وعلى الرغم من أن زيادا ليس عربيا أصلا، وإنما هو مولى، فكانت أعجميته موطن ضعفه الذي وجه إليه المغيرة بن حبناء التميمي هجاءه، فأصابه في مقتله، وخفف من سلاطته وغطرسته، حين اختلفا وتهاجيا، كما قدمنا، فإن زيادا هو الذي استفاد في هجائه لكعب من فكرة العروبة والأصالة، إذ راح يعيب الأزد بأنهم موال، وأنهم أعجام، أسلموا، واستعربوا، واستلحقوا ببعض القبائل العربية ليعرفوا وينبه ذكرهم، يقول5: هل تسمع الأزد ما يقال لها ... في ساحة الدار أم بها صمم إختتن القوم بعدما هرموا ... واستعربوا ضلة وهم عجم6

_ 1 لكيز: هو لكيز بن أقصى بن عبد القيس، وراش السهم: ركب عليه الريش. 2 المصدر نفسه ص: 288. 3 الفقع: نوع من الكمأة يطلع من الأرض، فيظهر أبيض، وهو رديء سريع الفساد. والجيد ما حفر عنه واستخرج، ويشبه الرجل الذليل بالفقع. 4 غلق الرهن: استحقه المرتهن، إذا لم يفك في الوقت المشروط. 5 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 288. 6 ضلة: حيرة.

واستمر يستعلي على كعب بعراقة عبد القيس، ومفاخرها الصادقة الذائعة بين الناس، يقول1: لئن نصبت لي الروقين معترضا ... لأرمينك رميا غير ترفيع2 إن المآثر والأحساب أورثني ... منها المجاجيع ذكرا غير موضوع3 والمهم أن كلا منهما كان يؤمن بأنه يناضل عن نفسه وقومه، فحين شكا كعب زيادا إلى المهلب، فدعاه وعاتبه. قال له4: "اسمع ما قال في وفي قومي، فإن كنت ظلمته فانتصر، وإلا فالحجة عليه، ولا حجة على امرئ انتصر لنفسه وحسبه وعشيرته! ". وهو يعود من ناحية أخرى إلى محافظة كل قبيلة من قبائل الحلف الواحد في أوقات السلم على كيانها، وشعورها بأنه ينبغي أن يكون لها احترامها ووزنها، وأن لا تتحكم القبيلة معها في سياستها، ولا تزور عنها، ولا يعيرها رجالها بما حققوا من المكاسب لها. وانصع مثال على ذلك، هذه المقطوعة لنهار بن توسعة البكري في هجاء يزيد بن المهلب5: لقد صبرت للذل أعواد منبر ... تقوم عليها في يديك قضيب رأيتك لما شبت أدركك الذي ... يصيب رجال الأزد حين تشيب بخفة أحلام وقلة نائل ... وفيك لمن عاب المزون معيب فقد فهم نهار أن ابن المهلب تطاول على بكر، ومن عليها، ووقف منها موقف المراقب والمحاسب. لأنها بايعت -كما بايع الأزد- وكيع بن أبي سود التميمي، بعد اغتيال قتيبة بن مسلم. فتصدى له وسخر منه سخرية موجعة، ذاهبا إلى أنه تنفخ

_ 1 المصدر نفسه ص: 289. 2 غير ترفيع: غير سار. 3 المجاجيع: يعني مجاعة بن مرة الحنفي، ومجاعة بن عمرو بن عبد القيس. 4 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 288. 5 نقائض جرير والفرزدق 1: 368.

وادعى الفضل لأنه شاخ، فإن من تقدمت به السن من الأزد يفسد عقله، ويخلط تفكيره، ولذلك فإن الناس لا يحملون ما يهذي به محمل الحد، بل يصفحون عنه، ويشفقون بسببه عليه. وهو يعود من ناحية ثالثة إلى اعتقاد أفراد كل قبيلة أو حلف بوجوب تحزب الوالي لهم، وخصه إياهم بالمناصب، لأنه ينتسب إليهم، ولأن فترة حكمه هي الفرصة المتاحة لهم، لتعويض ما فقدوه من المراكز والمنافع في الفترات الماضية. وأسطع شاهد على ذلك هذه المقطوعة لثابت قطنة في هجاء أسد القسري1: أرى كل قوم يعرفون أباهم ... وأبو بجيلة بينهم يتذبذب إني وجدت أبي أباك فلا تكن ... ألبا علي مع العدو تجلب2 أرمي بسهمي من رماك بسهمه ... وعدو من عاديت غير مكذب أسد بن عبد الله جلل عفوه ... أهل الذنوب فكيف من لم يذنب أجعلتني للبرجمي حقيبة ... والبرجمي هو اللئيم المحقب3 عبد إذا استبق الكرام رأيته ... يأتي سكيتا خاملا في الموكب4 إني أعوذ بقبر كرز أن أرى ... تبعا لعبد من تميم محقب ذلك أن أسدا قلد ثابتا ولاية سمرقند في إمارته الأولى، ثم أعفاه منها وولاها عيسى بن شداد البرجمي التميمي، وجعله المسؤول الأول عنها، وثابتا الرجل الثاني بعده. فثار لنقص أسد درجته، لأنهما يتحدران من أصل واحد، ما يقضي أن يثبته ويرفعه لا أن يخفض منزلته. وهذه المقطوعة لأبي الأنواح مطرف الهجيمي5، في هجاء نصر بن سيار6:

_ 1 الطبري 9: 1503. 2 الألب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان. 3 الحقيبة: التبع والردف. والمحقب: الثعلب. 4 السكيت: الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل. 5 انظر الاشتقاق ص: 201، وجمهرة أنساب العرب ص: 207، 209. 6 معجم الشعراء ص: 306.

ألا أبلغ أبا ليث رسولا ... علانية وليس من السرار أإن أدنيت أو أعطيت قصرا ... ووافقت المعيشة في قرار ظللت علي من أشر تنزى ... ستعلم في الكريهة من تجاري1 فذر أهل الحروب فلست منهم ... وراجع صفق كفك في التجار2 فتلك تجارة إن قلت فيها ... صدقت حديثها ليست بعار وإنما ذم أبو الأنواح نصرا بأنه حديث النعمة، طارئ على الرئاسة، هيوب في القتال، بارع في التجارة، لأنه أهمله، ولم يبوئه المنصب الذي كان يستحقه أو الذي كان يطمع فيه، ولأنه كان رأس بني تميم في أيامه بخراسان، كما أنه كان ينتظر منه أن يقربه أو يحابيه، لأنه من كتلة بني تميم وأعوانهم. وظاهر أن أسلوب الهجاء عند العرب بخراسان لم يختلف عن أسلوب شعراء العراق، فكلهم اتكأوا في جانب كبير من أهاجيهم على المثالب التي اتكأ عليها الشعراء الهجاؤون في الجاهلية، إذ عابوا مهجويهم بوضاعة النسب، ودناءة الحسب، وبالبخل وشدته، وبالإحجام وقلة البلاء في الحروب، وبالجهل وخفة العقول، وبالغدر والتحلل من المواثيق، وإن كان بعض شعراء خراسان قد طعنوا في إسلام بعض مهجويهم، واتهموهم بضعف العقيدة، كما مر بنا عند مالك بن الريب التميمي في هجائه لسعيد بن عثمان، شأنهم في ذلك شأن شعراء العراق، الذين تشككوا في إسلام بعض مهجويهم، ورموهم بفساد الدين. ويحسن أن نشير إلى أن شعراء الحلفين المتعارضين لم يشتبكوا في معارك هجائية لأسباب قبلية أو حزبية، بل لأسباب شخصية وفنية، نشأت عن تسابقهم إلى المكانة الأدبية، كما رأينا في الخصومة التي احتدمت بين زياد الأعجم، والمغيرة بن حبناء التميمي وفي الخصومة التي ثارت بين ثابت قطنة الأزدي، وحاجب بن ذبيان التميمي. ولكن شعراء الحلف الواحد، وخاصة شعراء الأزد، وبكر وعبد

_ 1 الأشر: البطر. تنزى: تثب. 2 الصفق: التبايع: وضرب اليد على اليد.

القيس هم الذين شجر الخلاف بينهم، واختصموا، وبالغ بعضهم في هجاء بعض، وفي هجاء زعمائهم، لأن قبائل هذا الحلف، وإن اتحدت لاشتراكها في الهدف السياسي، وهو منافسة قيس وتميم، فإنها كانت متباغضة متحاسدة، وكانت كل قبيلة منها تحس ذاتها، وتقدم مصلحتها على مصلحة غيرها، وفي اصطدام كعب الأشقري بزياد الأعجم، وفي هجاء نهار بن توسعة البكري ليزيد بن المهلب، وهجاء ثابت قطنة لأسد القسري ما يفصح عن تنافرها وتناحرها. أما شعراء قيس وتميم فلم يشتبكوا في معارك هجائية، ولم يهاجموا أمراءهم إلا نادرا، كما يتضح في سخط أبي الأنواح الهجيمي على نصر بن سيار، لأنه جفاه، ثم إنهم هم الذين انتقدوا الولاة المترددين الخائبين في الحروب، لاستنهاض هممهم وتحميسهم، حتى يفوزوا في الغزوات التالية، على نحو ما استظهرنا ذلك من هجاء مالك بن الريب التميمي لسعيد بن عثمان بن عفان، ومن هجاء عقاب اللقوة التميمي، وعبد الرحمن بن خالد القرشي لأمية بن عبد الله الأموي. جـ- الفخر: وأما الفخر فتطور به الشعراء بخراسان تطورا فرقه عما كان عليه في الجاهلية، فهم لم يتمجدوا فيه بأنسابهم وقبائلهم ومآثرهم، ولا بمنعتها وعزتها ولا بأخذها الثأر لأبنائها، ولا بنجدتها للمستصرخين، ولا بحمايتها للمستجيرين، ولا بإطعامها للمحتاجين، وإنما تمجدوا فيه بمواقف قبائلهم من الأحداث العظام التي كانت تؤثر في حاضر الأمة، وتقرر مصيرها، فقد تغنوا فيه بنضالها في سبيل العرب والمسلمين، وبإخلاصها للجماعة والخليفة، وإن سقطت إلى قصائدهم بعض عناصر الفخر الجاهلية، فإنها تكون قليلة ضيئلة، كما أن الشاعر الذي كان يبدأ بالمكاثرة بنسبه وماضي قومه، هو الذي كان يقود خصمه إلى مفاخرته بأصوله، وأحساب قبيلته. ولا مفر من التنويه بأن شعراء القيسية والمضرية لهم أكثر القصائد الفخرية، وأنهم هم الذين أعطوا القصيدة الفخرية العربية بخراسان مضمونها الجديد، وهو

مضمون يعود إلى إحساس شعراء هذه القبائل بأنهم لا يعيشون وحدهم، ولا لقبائلهم، ولا للدفاع عن حماها وذمارها، بل لأنفسهم ولغيرهم، وللحفاظ على حقيقتهم، وحقيقة القبائل الأخرى، وإن اختلفت معهم وزاحمتهم. ثم إن القبائل العربية بخراسان، وإن ظلت منظمة تنظيما قبليا، وبقيت كل قبيلة منها متمسكة بكيانها، فإن وظيفة هذا التنظيم القبلي كانت في جوهرها وظيفة عسكرية فكل قبيلة كانت أشبه بلواء عسكري تصارع مع سواها من ألوية القبائل جيش الترك في حروب مستمرة طاحنة، كانت تلتهم كل متراجع ومحجم. وهي حروب لم يكن النسب أو الحسب يقدم فيها للإنسان شيئا، وإنما الذي كان يغني عنه حقا قتاله واستبساله وصموده في المآزق، وتفانيه مع أفراد قبيلته، وتعاونه مع سائر أفراد الألوية الأخرى. ومن أجل ذلك صفت هذه الحروب الدائمة الضارية نفوس شعراء المضرية ونفوس جنودها من رواسب الفخر الجاهلية، وفتحت أمامهم آفاقا جديدة للفخر، هي آفاق الاعتداد بمصارعة الأعداء، والثبات في ميدان التضحية والفداء، وآفاق التمجد بما يحرزه الجندي وأفراد لوائه من نصر عزيز للجماعة. وحتى إن افتخر الشاعر الفارس من القيسية وسائر المضرية بشخصيته، لتنافسه مع غيره من كبار الشخصيات في المجد والسعي إلى السلطة، فإنه كان يفتخر بجهاده من أجل الأمة، وحرصه على تجنيبها الأخطار والدمار، وإن تمدح بقبيلته لتسابقها مع سواها من القبائل إلى الإمارة، فإنه كان يتمدح بدفاع فرسانها عن وجود العرب وما اضطلعوا به من أعمال ماجدة، وما حققوه من فتوحات خالدة نفعت جميع العرب، ورفعت من مكانتهم. ومهما تضق دائرة الفخر، وتبد فيها بعض مظاهر الفردية والعصبية، فإنها لا تتحول عند شعراء المضرية كافة إلى صورة ثانية عن الفخر الجاهلي، وإنما تصبح من قبيل الرد المشروع على تبجح شاعر مغرور موتور من الأزد، استحكمت في نفسه الكراهية لهم، وتمكنت منها الأطماع، فانزلق إلى التنفخ القبلي، وجاوزه إلى الوعيد والتهديد.

ومن أدق القصائد تمثيلا لصورة الفخر الجديدة، هذه القصيدة للأصم بن الحجاج الباهلي، وهي تتوالى على هذا النمط1: ألم يأن للأحياء أن يعرفوا لنا ... بلى نحن أولى الناس بالمجد والفخر نقود تميما والموالي ومذحجا ... وأزد وعبد القيس والحي من بكر نقتل من شئنا بعزة ملكنا ... ونجبر من شئنا على الخسف والقهر سليمان كم من عسكر حوت لكم ... أسنتنا والمقربات بنا تجري2 وكمن من حصون قد أبحنا منيعة ... ومن بلد سهل ومن جبل وعر ومن بلدة لم يغزها الناس قبلنا ... غزونا نقود الخيل شهرا إلى شهر مرن على الغزو الجرور ووقرت ... على النفر حتى ما تهال من النفر3 وحتى لو ان النار شبت وأكرهت ... على النار خاضت في الوغى لهب الجمر تلاعب أطراف الأسنة والقنا ... بلباتها والموت في لجج خضر4 بهن أبحنا أهل كل مدينة ... من الشكر حتى جاوزت مطلع الفجر ولو لم تعجلنا المنايا لجاوزت ... بنا ردم ذي القرنين ذي الصخر والقطر ولكن آجالا قضين ومدة ... تناهى إليها الطيبون بنو عمرو فمع أن الشاعر كان ممزق النفس، مفرق العواطف، موزع الفكر، لما كان يحسه من الألم والحزن الشديد، بعد مقتل قتيبة بن مسلم الباهلي غيلة بفرغانة، فإنه لم يفتخر في قصديته إلا بسياسة قتيبة الحازمة وقيادته الصارمة، فإذا كل القبائل بخراسان تذعن له، لأنه كان يقوم المعوج منها، ويعاقب المذنب فيها، وإذا هو ينجز بها ولها الانتصار. وهو يذكر سليمان بن عبد الملك بما أحرز قتيبة من الفتوحات في أثناء ولايته، فلقد جعل غايته فيها غزو ما وراء النهر فأباد الجيوش الجرارة،

_ 1 الطبري 9: 1303، وانظر معجم الشعراء ص: 241، ففيه شاهد آخر على هذا النوع الجديد من الفخر، لكثير ابن العزيرة النهشلي. 2 المقربات من الخيل: هي التي تدني وتكرم وتصان للغزو. 3 وقرت على النفر: وطنت عليه، وصلبت. 4 اللبات: جمع لبة. وهي وسط الصدر والمنخر. واللجج: جمع لجة: وهي معظم كل شيء.

واجتاح القلاع الحصينة، واجتاز من الأرض سهلها وجبلها، وافتتح من المدن والبلدان ما لم يخطر ببال من سبقه من العمال أن يزحف إليه، ولم يفكر في الإغارة عليه. وجعل ديدنه إعداد الخيول وتدريبها، فإذا هي لطول التمرين، ولكثرة ما بلت الحرب، لا تبالي بالمهالك، ولا تهاب الردى، حتى إنها لو أريدت على النار المستعرة لاقتحمتها، ولاحتملت وقع الرماح بنحورها وأعناقها، دون أن تحيد عنها أو تخاف منها. فبهذه الخيول الأصيلة الكريمة استباح قتيبة وجنده حصون الترك وهزم عساكرهم ولو تأخرت عنه المنية حينا من الدهر، لبلغ مطلع الشمس، ولاحتل كل بلاد الصين، بل لتعداها. فالشاعر لم يفاخر بأصل قتيبة، ولا بماضي قبيلته، وإنما فاخر القبائل كلها، وطاول الخليفة نفسه بإدارته الحكيمة، ومنجزاته العظيمة، مما كان فيه الخير والقوة للعرب أجمعين، وما جعله أهلا لأن يكون بطلا من الأبطال الخالدين على مر الأجيال والسنين. ولم تنحصر آثار هلاك قتيبة في مطاولة القبائل بعضها لبعض، ولا في عزو كل منها الدور الأساسي في قتله لنفسها، ولا في تصريحها أو تلويحها بأنها إنما أودت بحياته لأنه عصا الخليفة، وإنما أغرت بعض شعراء اليمنية بالكشف عن دخائل نفوسهم وعدائهم الدفين لتميم، فإذا شاعر كالزغل الجرمي ينذر بني تميم بأن اليمنية سينتقمون منهم لأنهم ناصروا عبد الله بن خازم على الأزد وربيعة، إذ يقول1: أبعد قتيلينا بمرو تعدنا ... تميم نسينا أو ترجي لنا نصرا فنحن مع الساعي عليكم بسيفه ... إذا نحن آنسنا لعظمكم كسرا ربيعة لا تنسى الخنادق ما مشت ... ولا الأزد قتلتم سراتهم قسرا فرد عليه جرير بن عرادة التميمي بقصيدة فخرية منها قوله2: وقد قلت للزغلي لا تنطق الخنا ... فإني لم أفخر عليك بباطل3

_ 1 نقائض جرير والفرزدق 1: 369. 2 المصدر نفسه ص: 369- 370. 3 الخنا: أفحش الكلام وأقبحه.

متى تلقنا عند المواسم تحتقر ... سليما وتغمرك الذرى والكواهل1 وترجع وقد قلدت قومك سبة ... يعضون من مخزاتها بالأنامل ومنا رسول الله أرسل بالهدى ... وأنت مع الجحاد سحار بابل ولم يجعل الله النبوة فيكم ... ولا كنتم أهلا لتلك الرسائل ولكنكم رعيان بهم وثلة ... تردون للمعزى بطون المسايل3 إذا الخيل ألوت بالنهاب فزعتم ... إلى حفل الضرات قمر الجحافل4 إلى حرة سوداء تشوي وجوهكم ... وإقدامكم رمضاؤها بالأصائل فإن كنت أزمعت المهاداة فالتمس ... مساعي صدق قبل ما أنت قائل فإنك مجرى في الجياد فمتعب ... إلى أمد لم تخشه متماحل5 وأنت حديث السن مستنبط الثرى ... سقطت حديثا بين أيدي القوابل وذاك ولم تسمع بأعور سابق ... دقيق الشوى أرساغه كالمغازل6 نصبتم لبيت الله ترمون ركنه ... وكان عظيما رميه بالجنادل ونحن حززنا من قتيبة رأسه ... وذاق ابن عجلى حد أبيض فاصل7 عشية نحدو قيس عيلان بالقنا ... وهم بارزو الإستاة حدل الكواهل8 فابن عرادة لم يبدأ المكاثرة والوعيد، فقد هب للدفاع عن قومه، لأنه استشف أن الزغل الجرمي لم ينطلق في تهديده لهم من ذاته المريضة الحاقدة فحسب، وإنما

_ 1 الذرى: جمع ذروة، وهي أعلى كل شيء. والكواهل: جمع كاهل، وهو أعلى مقدم ظهر البعير. 2 سحار بابل: يعني المختار الثقفي. 3 البهم: جمع بهمة، وهي الصغير من أولاد الغنم. والثلة: جماعة الغنم. 4 القمر: جمع أقمر وقمراء. والقمرة لون إلى الخضرة، أو بياض فيه كدرة، والحجافل: جمع جحفلة، وهي ما تتناول به الدابة العلف. أي هي بمنزلة الشفة للإنسان، والمشفر للبعير. 5 المتماحل: المتباعد. 6 الشوى: اليدان والرجلان والرأس. الأرساغ: جمع رسغ، وهو مفصل ما بين الكتف والذراع، أو مجتمع الساقين والقدمين. 7 ابن عجلى: عبد الله بن خازم السلمي. والفاصل: القاطع. 8 الحدل: جمع أحدل، وهو المائل.

انطلق فيه أيضا من السياسة الحقيقية للأزد وبكر، وما كانت تقوم عليه من إضمار الشر والعدوان لبني تميم، وانتظار الفرص المواتية لاضطهادهم وإذلالهم. ولذلك فإنه رد عليه ردا عنيفا، عمد فيه إلى استعراض تاريخ الأزد وبني تميم في الجاهلية والإسلام استعراضا عميقا نفاذا، لينتهي إلى إخراسه، ووضع قومه في الوضع اللائق بهم، وليعري موقفهم الخبيث اللئيم، لا من بني تميم وحده بل من القبائل الثائرة على بني أمية، والأحزاب المناوئة لهم. فقد هاجمه هجوما مضادا من ناحيتين: أولاهما منزلة الأزد وبني تميم في الماضي والحاضر، وأخراهما موقف كل منهم بعد الإسلام. فمن الناحية الأولى لا يقاس الأزد ببني تميم أصلا وجاها، وغنى وبأسا، فهم رعاة أغنام، يجيدون تربيتها وخدمتها، ولا يحسنون القتال، ولا يفيدون في الشدائد والنوازل، بل هم إذا اشتعلت نار الحرب، وخرج الفرسان منها منتصرين، وعادت خيولهم تحمل الأسلاب، اختفوا عن أعين الناس، وانزووا في أرضهم المجدبة القاحلة، وعكفوا على قطعان أغنامهم، فرحين بها، مكتفين بألبانها، وبنو تميم عظماء أصلاء يضربون بجذورهم في أعماق التاريخ، ومقاتلون أشداء يفتكون بأعدائهم فتكا، وفي قتلهم لعبد الله بن خازم، وقتيبة بن مسلم دليل لا يدفع على جبروتهم وسطوتهم. ومن الناحية الثانية لم يكن الأزد أهل تقوى وصلاح، حتى يظهر فيهم عظيم، أو يؤثر عنهم موقف كريم، فهم خلو من الاستقامة والنزاهة، طارئون على مسرح السياسة ومعترك الأحداث، متلونون متقلبون، انحازوا إلى المختار الثقفي السحار الدجال ليشتهروا، فلما قضى مصعب بن الزبير عليه، أصبحوا أدوات وصنائع للأمويين، فبطشوا بالقبائل المتمردة، وانتهكوا الحرمات والمقدسات، واجترأوا على ضرب مكة والمسجد الحرام بالمجانيق. وبنو تميم من المضرية، أصحاب القدر والخطر، وبيت النبوة، وهم أرباب العقائد والمبادئ الراسخة، والمواقف الشريقة المعروفة. فالفخر في قصيدة ابن عردة التميمي يرتكز في جانب من جوانبه على ماضي قومه المرموق، وأصلهم العريق، لانتسابهم إلى المضرية، أولي الفضل، بل أهل النبوة

والرسائل، ويرتكز في جانب آخر من جوانبه على حاضرهم الإسلامي المشرق، وعملهم الخير، فقد كانوا متشبثين بالدين، في مواقفهم من الدولة، متصلبين في انتصارهم للحق والعدل. ويصح أن نحمل على هذا الوجه مقطوعة أخرى لمنقذ بن عبد الله القريعي التميمي قالها في ظلال الخلاف الأخير بين اليمنية والربعية، وبين المضرية، وهي تجري على هذا النحو1: سائل ربيعة والأحياء من يمن ... عن حربنا إنهم قوم بنا خبر ترى فوارس سعد غير ناكلة ... بيض الوجوه إذا ما اسودت الصور2 فازوا بحظوتها عفوا وأحرزها ... منهم بهاليل والأخطار تبتدر3 وكل أيامنا غرة مشهرة ... إذا تذوكرت الأيام والغرر رامت ربيعة والأحياء من يمن ... أن يقهرونا فهم بالله ما قهروا وحقا هو يفتخر بصلابة فرسان قومه، وإقدامهم في الحرب، وصبرهم على المكروه، وسبقهم غيرهم في المجد والشرف، ولكنه يبرز حقيقتهم، وفضلهم في أنفسهم، ومبادراتهم المستمرة إلى حماية العرب بخراسان. فقد يسرت لهم هذه الصفات الأصيلة إخماد كل الفتن التي أثارها اليمنية والربعية، والتي خططوا في كل فتنة منها لاستبعاد المضرية، ومكنتهم من الحفاظ على حريتهم، وحرية البقية الباقية من العرب. وهم في الفتنة الأخيرة لا يكافحون عن أنفسهم وقومهم، بل يكافحون كذلك ذبا عن الوالي الشرعي، ودعما لسيادة العرب التي أخذت تتعرض للانهيار منذ بداية الفتنة، ثم لم تلبث أن انقضت واندثرت بعد زمن قصير. ولو أخذنا المقطوعة أخذا خاطفا دون أن نحيط بالظرف التاريخي الذي نظمت

_ 1 معجم الشعراء ص: 329. 2 الناكل: الجبان الضعيف. 3 البهاليل: جمع بهلول، وهو العزيز الجامع لكل خير، والأخطار: جمع خطر وهو السبق الذي يترامى عليه في التراهن. وبادر الخطر وابتدره غير إليه: عاجله.

فيه، لخفي علينا فهمها فهما دقيقا، ولقلنا إنه يستكبر فيها على اليمنية والربعية استكبارا ممقوتا، ويتنفخ عليهم تنفخا فارغا. واستمع إلى نصر بن سيار يتمدح ببطولته في معركة الشعب تمدحا يقول فيه1: إني نشأت وحسادي ذوو عدد ... يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا إن تحسدوني على حسن البلاء لكم ... يوما فمثل بلائي جر لي الحسدا يأبى الإله الذي أعلى بقدرته ... كعبي عليكم وأعطى فوقكم عضدا2 نرمي العدو بأفراس مكلمة ... حتى اتخذن على حسادهن يدا3 من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا ... لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا فما حفظتم من الله الوصاة ولا ... أنتم بصبر طلبتم حسن ما وعدا ولا نهاكم عن التوثاب في عتب ... إلا العبيد بضرب يكسر العمدا هلا شكرتم دفاعي عن جنيدكم ... وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا وضربي الترك عنكم يوم فرقكم ... بالسيف في الشعب حتى جاوز السندا فهو يجابه منافسيه الذين اهتضموا دوره الكبير في صد الترك الذين كادوا يفنون الجيش العربي، وهو يعتمد في مجابهته لهم على قتاله الباسل، حين انكسرت عزائم الجنود العرب، وولوا الأدبار إلى نسائهم وأمتعتهم، دون أن يردعهم عن الفرار من ساحة المعركة تفكير في مصيرهم، أو في مستقبل غيرهم، أو يرغبهم في الجهاد والاستشهاد عزة في الدنيا أو ثواب في الآخرة. ولعل في الشواهد القليلة السابقة ما يبين كيف أن الشعراء العرب بخراسان اتجهوا بالفخر اتجاها جديدا، غيروا به مضمونه الجاهلي، لأنهم اعتدوا فيه اعتدادا

_ 1 الطبري 9: 1546، 1553، وابن الأثير 5: 170. 2 العضد: القوة، والمعين. 3 المكلمة: المجروحة. 4 السند: ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح.

قويا بحاضر قبائلهم ومواقفها المؤيدة للمصلحة العامة، واستمدوا فيه استمدادا محدودا من ماضيها وتاريخها القديم. د- الرثاء: وأما الرثاء فبث فيه الشعراء أحزانهم وآلامهم لفقد عظام الولاة، وضخام الشخصيات، أو لهلاك أشقائهم وأبنائهم، ووصفوا ما أصاب العرب عامة، وما حل بأهل الموتى والقتلى خاصة من الرزء الفادح لغيابهم. بل هم قد جمعوا فيه بين الندب والتأبين، وأضافوا إليهما العزاء، إذ بكوا المفقودين والهالكين، وناحوا عليهم، ودعوا بالرضوان لهم. وعددوا فضائلهم، وأحصوا محامدهم، وتطرقوا إلى التعزية فيهم، مرددين أن الموت قدر محتوم. وأقل ما نقل من شعر الرثاء بخراسان يتعلق برثاء الشهداء الذين جادوا بأرواحهم وهم يفتحون خراسان، أو وهم يغيرون على بلاد ما وراء النهر، ومن أقدمه بيتان من قصيدة طويلة لكثير بن الغريزة النهشلي يستنزل فيهما رحمة الله الواسعة على الفرسان الذين استشهدوا مع الأقرع بن حابس التميمي في فتح الجوزجان، وهو يقول فيهما1: سقى مزن السحاب إذا استهلت ... مصارع فتية بالجوزجان2 إلى القصرين من رستاق خوط ... أقادهم هناك الأقرعان3 ومن أندره وأشرفه وأبلغه ثلاث قصائد طوال للشمردل بن شريك اليربوعي

_ 1 فتوح البلدان ص: 398، والطبري 5: 2902، وابن الأثير 3: 126، وياقوت 2: 149، والبداية والنهاية 7: 160، والإصابة 3: 312، وخزانة الأدب 4: 118. 3 المزن: جمع مزنة، وهي المطرة، والسحابة ذات الماء. 3 خوط: قرية من قرى بلخ وأقادهم: تقدمهم.

التميمي1، في رثاء إخوته الثلاثة الذين استشهدوا في جهاد الفرس والترك، على حدود خراسان في آخر القرن الأول. قال أبو الفرج الأصفهاني2. "كان الشمردل بن شريك شاعرا من شعراء بني تميم في عهد جرير والفرزدق، وكان قد خرج هو وإخوته: حكم، ووائل، وقدامة إلى خراسان، مع وكيع بن أبي سود، فبعث وكيع أخاه وائلا في بعث إلى سجستان، فقال له الشمردل: إن رأيت أيها الأمير أن تنفذنا معا في وجه واحد، فإنا إذا اجتمعنا تعاونا وتناصرنا وتناسبنا فلم يفعل ما سأله، وأنفذهم إلى الوجوه التي أرادها". قال أبو عبيدة معمر بن المثنى3: "ولم ينشب أن جاءه نعي أخيه قدامة من فارس، قتله جيش لقوهم بها، ثم تلاه نعي أخيه وائل بعده بثلاثة أيام" فقال يرثيهما4: أعاذل كم من روعة قد شهدتها ... وغصة حزن في فراق أخ جزل5 إذا وقعت بين الحيازيم أسدفت ... علي الضحى حتى تنسيني أهلي6 وما أنا إلا مثل من ضربت له ... أسى الدهر عن ابني أب فارقا مثلي7 أقول إذا عزيت نفسي بإخوة ... مضوا لاضعاف في الحياة ولا عزل8

_ 1 انظر أخباره وأشعاره في الحيوان 3: 91، والشعر والشعراء ص: 704، وحماسة البحتري ص: 71، 433، والكامل للمبرد 1: 57، وأمالي اليزيدي ص: 31، 45، والأغاني 13: 351، وأمالي القالي: 1: 238، والمؤتلف والمختلف ص: 205، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص: 666، 869، 1611، وأمالي المرتضى 1: 97، وسمط الآلي ص: 544، 608، 784، وحماسة الشجري ص: 310، 361، والحماسة البصرية 1: 223، ومجموعة المعاني ص: 116، وخزانة الأدب 3: 663، 4: 550. 2 الأغاني 13: 351. 3 الأغاني 13: 352. 4 الأغاني 13: 352. 5 الروعة: الفزعة: والجزل: الكريم العطاء، والعاقل الأصيل الرأي. 6 الحيازيم: جمع حيزوم، وهو ما استدار بالظهر والبطن، أو صليع الفؤاد وما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر: أسدفت: أظلمت. 7 الأسى: جمع اسوة، وهي ما يتأسى به الحزين ويتعزى. 8 العزل: جمع أعزل، وهو من لا سلاح معه.

أبى الموت إلا فجع كل بني أب ... سيمسون شتى غير مجتمعي الشمل سبيل حبيبي اللذين تربصا ... دموعي حتى أسرع الحزن في عقلي1 كأن لم نسر يوما ونحن بغبطة ... جميعا وينزل عند رحليهما رحلي فعيني إن أفضلتما بعد وائل ... وصاحبه دمعا فعودا على الفضل2 خليل من دون الأخلاء أصبحا ... رهيني وفاء من وفاة ومن قتل فلا يبعدا للداعيين إليهما ... إذا أغبر آفاق السماء من المحل3 فقد عدم الأضياف بعدهما القرى ... وأخمد نار الليل كل فتى وغل4 وكانا إذا أيدي الغضاب تحطمت ... لواغر صدر أو ضغائن من تبل5 تحاجز أيدي جهل القوم عنهما ... إذا اتعب الحلم التترع بالجهل6 كمستأسدي عريسة لهما بها ... حمى هابه من بالحزونة والسهل7 فهو حزين مكلوم، قد أظلمت عليه الدنيا، وأخذ يتجرع الحياة غصصا مريرة، ويذرف الدموع الغزيرة، حتى كاد يجن لموت أخويه. ولا يلبث أن يعزي نفسه بهما، ويخفف عنها الخطب فيهما، فقد كانا بطلين مغوارين جبارين، قتلا في ساحة الوغى، واستشهدا في النضال عن حوزة الإسلام، ولا سبيل إلى الخلود، والبقاء السرمدي فيها. ثم ينتقل إلى تأبينهما، منوها بخصالهما الحميدة من كرم فياض في الحدب، وحلم عند الغضب، وسداد في الرأي، وجلالة ومهابة في قومهما. وقال يرثي أخاه وائلا، وهي من مختار المراثي، وجيد شعره8:

_ 1 تربصا دموعي: استنزفاها قليلا قليلا. 2 أفضلت العين الدمع: أبقت منه بقية، وتركت منه شيئا. 3 المحل: الجدب وانقطاع المطر. 4 الوغل: النذل الساقط المقصر في الأشياء. 5 الوغر: التوقد من الغيظ. والتبل: العداوة. 6 تحاجز: تتحاجز. والتترع: التسرع. 7 المستأسد: الجريء عنى به الأسد. والعريسة: مأوى الأسد. الحزونة: الأرض الغليظة. 8 الأغاني 13: 353، وأمالي اليزيدي ص: 31، وحماسة ابن الشجري ص: 310، والحماسة البصرية=

لعمري لئن غالت أخي دار غربة ... وآب إلينا سيفه ورواحله1 وحلت به أثقالها الأرض وانتهى ... بمثواه منها وهو عف مآكله2 لقد ضمنت جلد القوى كان يتقى ... به جانب الثغر المخوف زلازله3 وصول إذا استغنى وإن كان مقترا ... من المال لم يحف الصديق مسائله4 ملح لأضياف الشتاء كأنما ... هم عنده أيتامه وأرامله رخيص نضيح اللحم مغل بنيئه ... إذا بردت عند الصلاء أنامله5 أقول وقد رجمت عنه فأسرعت ... إلي بأخبار اليقين محاصله6 إلى الله أشكو لا إلى الناس فقده ... ولوعة حزن أوجع القلب داخله وتحقيق رؤيا في المنام رأيتها ... فكان أخي رمحا ترفض عامله7 سقى جدثا أعراف غمرة دونه ... ببيشة ديمات الربيع ووابله8 بمثوى غريب ليس منا مزاره ... بدان ولا ذو الود منا مواصله إذا ما أتى يوم من الدهر دونه ... فحياك عنا شرقه وأصائله سنا صبح إشراق أضاء ومغرب ... من الشمس وافى جنح ليل أوائله تحية من أدى الرسالة حببت ... إليه ولم ترجع بشيء رسائله

_ = 1 1: 223، ومنها أبيات في حماسة البحتري ص: 71، والمؤتلف والمختلف ص: 205، وأمالي المرتضي 1: 97، وسمط اللآلي ص: 608، 784، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص: 666، ومجموعة المعاني ص: 116. 1 غالت: أهلكت. 2 حلت به أثقالها الأرض: معناه أنه لما مات حل عنها بموته ثقل لسؤدده وشرفه، أو زينت موتاها به. 3 الزلازل: الشدائد. 4 المقتر: القليل المال. وأحفاه: برح به الإلحاح عليه، أو سأله فأكثر عليه الطلب. 5 الصلاء: اسم للنار أو للوقود. 6 الترجيم: من الرجم وهو القذف بالغيب والظن. 7 عامل الرمح: صدره وهو ما يلي السنان. وترفض: تكسر وتحطم. 8 الجدث: القبر، والأعراف: جمع عرف، وهو ظهر الجبل وأعاليه، وغمرة: جبل، وبيشة: واد يصب سيله من الحجاز حجاز الطائف، ثم ينصب في نجد حتى ينتهي في بلاد عقبل.

أبى الصبر أن العين بعدك لم يزل ... يخالط جفنيها قذى لا يزايله1 وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله يذكرني هيف الجنوب ومنتهى ... مسير الصبا رمسا عليه جنادله2 وهتافة فوق الغصون تفجعت ... لفقد حمام أفردتها حبائله من الورق بالإصباح نواحة الضحى ... إذا الفرقد التفت عليه غياطله3 وسورة أيدي القوم إذ حلت الحبا ... حبا الشيب واستعوى أخا الحلم جاهله4 فعيناي إذ أبكاكما الدهر فابكيا ... لمن نصره قد بان منا ونائله5 إذا استعبرت عوذ النساء وشمرت ... مآزر يوم ما توارى خلاخله6 وأصبح بيت الهجر قد حال دونه ... وغال امرأ ما كان يخشى غوائله7 وثقن به عند الحفيظة فارعوى ... إلى صوته جاراته وحلائله8 إلى ذائد في الحرب لم يك خاملا ... إذا عاذ بالسيف المجرد حامله9 كما ذاد عن عريسة الغيل مخدر ... يخاف الردى ركبانه ورواحله10

_ 1 القذى: ما يقع في العين، وما ترمي به العين من غمص ورمص. 2 الهيف: ريح حارة تأتي من نحو اليمن. والصبا: ريح طيبة مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. والرمس: القبر. والجنادل: الحجارة. 3 الورق: جمع ورقاء، وهي الحمامة في لونها سواد وبياض. والغياطل: جمع غيطلة، وهي الشجر الكثير الملتف، وكذلك العشب وقيل هو اجتماع الشجر والتفافه. 4 الحبا: جمع حبوة، وهي الثوب يحتبى به، وحل الحبا: كناية عن الاستعداد للحرب. واستعوى فلان جماعته: نعق بهم إلى الفتنة. 5 النائل: العطاء. 6 استعبرت: جرت عبراتهن. والعائذ: كل أنثى إذا وضعت مدة سبعة أيام، لأن ولدها يعوذ بها 7 غال: أهلك. والغوائل: الدواهي. 8 الحفيظة: المحافظة على العهد، والمحاماة على الحرم ومنعها من العدو، وارعوى: رجع إليه، واجتمع عليه. والحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة. 9 الذائد: المدافع المحامي. 10 العريسة: مأوى الأسد. والغيل: الأجمة والشجر الكثير الملتف. والمخدر: الأسد في خدره، أي عرينه.

فما كنت ألفي لامرئ عند موطن ... أخا بأخي لو كان حيا أبادله وكنت به أغشى القتال فعزني ... عليه من المقدار من لا أقاتله1 لعمرك إن الموت منا لمولع ... بمن كان يرجى نفعه ونوافله2 فما البعد إلا أننا بعد صحبة ... كأن لم نبايت وائلا ونقايله3 سقى الضفرات الغيث ما دام ثاويا ... بهن وجادت أهل شوك مخايله4 وما بي حب الأرض إلا جوارها ... صداه وقول ظن أني قائله وهذه هي أطول قصيدة في رثاء شهيد لقي وجه ربه راضيا مرضيا، وهو يقاتل في سبيل الله بخراسان. وهو يسترسل في تعداد محاسن أخيه، فقد كان كالطود الشامخ الراسخ لكثرة خيره وفضله، فزينت به الأرض موتاها حين لبى نداء ربه، وكان طاهر النفس، شديد البأس يجاهد عن حياض المسلمين، ويسد ثغورهم المخوفة. وكان برا بالسائلين في اليسر والعسر، وعطوفا عليهم، متهللا للمحتاجين، رحيما بهم، كأنهم أهله وأقاربه، بل أيتامه وأرامله. وكان صبورا رزينا، كأنه الشيخ المجرب المحنك. وكان فتى قومه المنصور، وفارس قبيلته المظفر، تفزع إليه، وتأمن به المكاره والمهالك، وتتقي به الأخطار والأهوال. وكان سند أخيه الذي يعتمد عليه، وسيفه الذي يضرب به، لا نظير له بين الرجال في غنائه وبلائه في المحن والشدائد، فلما قضى نحبه ضعف وذل. ثم مضى إلى وصف حرقته عليه، ولوعته به، فقد أضناه الوجد به وأهزله وبكاه بكاء حارا، ووقف دموعه للبكاء عليه. ومما زاد من ألمه وحسرته أنه مات بمكان قصي، يصعب الوصول إليه، وتستحيل زيارته لأنه من بلاد الأعداء، وتلهف على الأيام الماضية التي قضاها معه، حتى لقد خيل إليه بعد أن غاب عنه أنهما لم

_ 1 عزني: غلبني. 2 النوافل: جمع نافلة، وهي العطية. 3 بايته: بات معه، وقايله: نام معه وقت القائلة، وهي الظهيرة. 4 الضفرات: جمع الضفرة، وهي أرض سهلة مستطيلة. وشوك: ناحية نجدية قريبة من الحجاز.

يهجعا في الليل. ولم يقيلا في الظهيرة سويا. وأخذ يدعو لقبره بالسقيا، ويحييه على البعد تحيات دائمة أناء الليل وأطراف النهار. ثم قتل أخوه حكم أيضا في وجهه وبرز بعض عشيرته إلى قاتله فقتله، وأتى أخاه الشمردل أيضا نعيه فقال يرثيه1: يقولون احتسب حكما وراحوا ... بأبيض لا أراه ولا يراني2 وقبل فراقه أيقنت أنني ... وكل ابني أب متفارقان أخ لي لو دعوت أجاب صوتي ... وكنت مجيبه أنى دعاني فقد أفنى البكاء عليه دمعي ... ولو أني الفقيد إذا بكاني مضى لسبيله لم يعط ضيما ... ولم ترهب غوائله الأداني قتلنا عنه قاتله وكنا ... نصول به لدى الحرب العوان3 قتيلا ليس مثل أخي إذا ما ... بدا الخفرات من هول الجنان4 وكنت سنان رمحي من قناتي ... وليس الرمح إلا بالسنان وكنت بنان كفي من يمين ... وكيف صلاحها بعد البنان وكان يهابك الأعداء فينا ... ولا أخشى وراءك من رماني فقد أبدوا ضغائنهم وشدوا ... إلى الطرف واغتمزوا لباني5 فداك أخ نبا عنه غناه ... ومولى لا تصول له يدان فهو متألم لفقد أخيه، على الرغم مما استقر في نفسه من أن الحياة لا تدوم، وأن الموت غاية كل حي، وأن كل أخوين لا بد أن تعدو المنية على أحدهما قبل الآخر.

_ 1 الأغاني 3: 355، وأمالي اليزيدي ص: 45. 2 احتسب عند الله خيرا إذا قدمه، ومعناه اعتده فيما يدخر. 3 العوان من الحروب: التي قوتل فيها مرة بعد مرة. 4 الخفرات: جمع خفرة، وهي الشديدة الحياء. الجنان: القلب. 5 الطرف: الكريم من الخيل. واغتمزوا لباني: استضعفوا اللين مني.

وهو لا يكاد يصبر على موت أخيه، لعظم رزئه به، فقد كانا أخوين متحابين متراحمين، إذا أصاب أحدهما أذى واساه الآخر، وإذا حاق به خطر هب لنجدته. وكان أخوه سمحا رفيقا بعشيرته، كثير الإحسان إليها، واسع المعروف فيها، مخلصا في الدفاع عنها. فلما مات هان على الناس، إذ أصبح وحيدا لا نصير له، كأنه الرمح لا سنان له يطعن به، واليد اليمنى القوية لا أصابع لها تغني بها. بل لقد تألب الأعداء عليه، واستهانوا به، لضعفه وعجز مواليه! وأكثر ما حفظ من شعر الرثاء بخراسان يتصل برثاء الأشقاء والأبناء والأمراء، الذين قتلوا في الفتن السياسية، أو الذين لاقوا حتوفهم على فرشهم. ومن أول الشعر الذي صاح به الشعراء على صرعى الحروب القبلية مقطوعة لموسى بن عبد الله بن خازم، ناح بها على أخيه محمد، وقد أهلكه بنو تميم بهراة، يقول1: ذكرت أخي والخلو مما أصابني ... يغط ولا يدري بما في الجوانح2 دعته المنايا فاستجاب دعاءها ... وأرغم أنفي للعدو المكاسح3 فلو ناله المقدار في يوم غارة ... صبرت ولم أجزع لنوح النوائح ولكن أسباب المنايا صرعته ... كريما محياه عريض المنازح4 بكف امرئ كز قصير نجاده ... خبيث نثاه عرضه للفضائح5 فهو موجع الفؤاد، ملتاع النفس، لأن بني تميم سفكوا دم أخيه هدرا، وهو يرى أنه لو خر صريعا في ميدان الحرب، لكان في موته بها ما يعزيه عنه، وما يخفف

_ 1 معجم الشعراء ص: 287. 2 الخلو: الفارغ. وغط في نومه: نخر. والجوانح: أوائل الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر. 3 المكاشح: العدو الذي يضمر عداوته ويطوي عليها كشحه أي باطنه. 4 عريض المنازح: بعيد الضرب في الأرض. 5 في الأصل: خبيث ثناه. بتقديم الثاء، وهو تحريف ظاهر. والكزم: البخيل الذي لا ينبسط وجهه. وقصير نجاده: أي حمائل سيفه قصيرة، وهي كناية عن قصر القامة. والنثا: الحديث عن الشخص بالشر أو بالخير.

مصابه فيه. ولكن الذي يؤذيه ويسوؤه أنه قتل غدرا، ففقد شقة نفسه، وأهينت كرامته، ووهنت قوته، وأذعن صاغرا لخصومه الذين يدارون عداوتهم له، ولا يجهرون بها جهرا. ومما زاد من هول الكارثة التي نزلت به أن من اغتال أخاه الأريحي الجريء، شخص لئيم بخيل، قصير، ناقص الخلقة، فاسد السيرة، سيئ السمعة. ومثل أبيات ابن خازم في حرارتها وصدقها أبيات لعبد الرحمن بن جمانة الباهلي1 في رثاء قتيبة بن مسلم الباهلي، فكلاهما فجع في إنسان تربطه به روابط الدم ووشائج القريي، وكلاهما روع في شخص له مكانته وقيمته، بل إن أبيات ابن جمانة تفوق أبيات ابن خازم شجا وحزنا، فإنه لم ينكب في قريب له، عزيز عليه فقط، وإنما نكب في بطل له تاريخه وماضيه، وفي رجل كان رأس قبيلته، وسيدها العظيم، الذي ارتفعت بحياته، وانحطت بمماته، يقول2: كأن أبا حفص قتيبة لم يسر ... بحيش إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والقوم حوله ... وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه ... وراح إلى الجنات عفا مطهرا فما رزئ الإسلام بعد محمد ... بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا3 فقد تملك عليه الحزن قلبه وحرقه، واستبد به الذهول من شدة الصدمة التي صدم بها بعد اغتيال قتيبة، حتى إنه لم يصدق أن ذلك الفارس المغوار، والقائد المظفر، والخطيب الساحر أصبح جثة هامدة تحت التراب، لا حياة فيها، ولا حول لها. ولم يزل إحساسه بالفاجعة الأليمة يتضخم في نفسه حتى تصور أنه أكبر شخصية امتحن العرب بفقدها بعد الرسول الكريم ولكنه لم يلبث أن صحا من سكرته،

_ 1 في نقائض جرير والفرزدق 1: 363، جمانة بن عبد الملك، وهو رجل من بني أوس بن معن بن مالك. وفي المؤتلف والمختلف ص: 109، عبد الملك بن جمانة الباهلي. 2 الطبري 9: 1303، ونقائض جرير والفرزدق 1: 363، والبداية والنهاية 9: 68. 4 عبهر: يعني أم ولده.

فقد لبى قتيبة نداء ربه، وانتقل من الحياة الدنيا إلى جنات الخلد لينزل مع الأبرار والصديقين جزاء جهاده وعفته. وصرخ نصر بن سيار صرخة مدوية حين أردي ابنه تميم في الحرب الأخيرة بين اليمنية والمضرية بمرو الشاهجان، يقول1: نفى عني العزاء وكنت جلدا ... غداة جلا الفوارس عن تميم2 وما قصرت يداه عن الأعادي ... ولا أضحى بمنزلة اللئيم وفاء للخليفة وابتذالا ... لمهجته يدافع عن حريم فمن يك سائلا عني فإني ... أنا الشيخ الغضنفر ذو الكليم3 نمتني من خزيمة باذخات ... بواسق ينتمين إلى صميم فعندما قتل ابنه انهد ركنه، وخارت قواه، ولم يعد به طاقة على التصبر والتجلد، وهو الشيخ الحليم الصبور، الذي عركته الأيام، وصلبته المحن. ولكن ما سلاه عنه بعض التسلية، أنه قتل قتلة مشرفة يتمناها غيره من الشبان، إذ استشهد في ساحة الوغى، ولم يغمد سيفه إلا بعد أن قاوم مقاومة الفتيان، إلى آخر رمق، انتصارا للخليفة، وحماية لعرضه وحوزته، وسرعان ما تماسك نصر أشد التماسك، وصبر أجمل الصبر، وعاد يعلن أنه الكهل الأصيل الحمول، وأنه كالأسد المتوحش إذا جرح حمي أنفه، وشمخ برأسه، وزادته الجراح حدة وقوة، واستجمع عزيمته ليثب على خصمه، ويثأر لنفسه منه. وفارق الحياة بخراسان غير وال وشخصية بارة، فأقام الشعراء المآتم لهم باكين عليهم، وذاكرين مآثرهم، وواصفين جسامة الخسارة فيهم. وأول من توفي منهم

_ 1 الدينوري ص: 355. 2 يقال للقوم إذا كانوا مقبلين على شيء محدقين به ثم انكشفوا عنه: قد افرجوا عنه وأجلوا عنه. 3 الغضنفر: الأسد الغليظ الخلق متغضنه. والكليم: الأسد إذا طعن هاج.

المهلب بن أبي صفرة، إذ مات حتف أنفه بمرو الروذ، وهو عائد من كس بما وراء النهر إلى مرو الشاهجان. فأبنه نهار بن توسعة البكري تأبينا مؤثرا بقوله1: ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والحزم بعد المهلب أقام بمرو الروذ رهن ترابه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب إذا قيل أي الناس أولى بنعمة ... على الناس؟ قلناه ولم نتهيب2 أباح لنا سهل البلاد وحزنها ... بخيل كأرسال القطا المتسرب3 يعرضها للطعن حتى كأنما ... يجللها بالأرجوان المخضب4 تطيف به قحطان قد عصبت به ... وأحلافها من حي بكر وتغلب وحيا معد عوذ بلوائه ... يفدونه بالنفس والأم والأب فهو يفرد المقطوعة للثناء عليه وتجسيم المصيبة فيه، فقد تعطلت الغارات بوفاته، وهو الذي استفرغ حياته، وأفنى عمره في الإغارة حتى فتح الفتوحات الكثيرة، وحاز الانتصارات الكبيرة، وحتى احتل المدن الجبلية، والبلدان السهلية، بطوائف الأفراس التي كان يفرقها في النواحي المختلفة، فتندفع بفرسانها لا تخاف الطعن، ولا تخشى العطب، بل تتقدم بهم نحو الأعداء، وترجع سالمة، وآثار الدماء لا تزال تصبغ هواديها وأجسادها. وانتهى الكرم المعروف بانطوائه، وأفل من سماء العرب نجم ساطع كان يضيء لهم على تعدد أحيائهم، وتباين أهوائهم، فقد كان ملاذ الأزد، وحلفائهم من بكر وتغلب، كما كان ملجأ مضر وقيس. والمبالغة في نعيه له، وإطرائه عليه واضحة، وهي لا تنبثق من منجزاته العسكرية الضخمة، لأن المهلب لم يحرز هذه الانتصارات العظيمة، وإنما تنبثق من تحيز نهار له، وهو حليف الأزد الذي تقوى بقوتهم، وتضعف بضعهم.

_ 1 التعازي والمراثي ص: 135، والطبري 8: 1084، وابن الأثير 4: 476، ووفيات الأعيان 4: 435، وسنشير إليه بابن خلكان. 3 قلناه: أي قلنا: هو. 3 الأرسال: جمع رسل، أي قطيع بعد قطيع. 4 الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة.

وتوفي هبيرة بن مشمرج الكلابي بقرية من فارس، وهو في طريقه من مرو الشاهجان إلى دمشق، وقد أوفده قتيبة بن مسلم إلى الوليد بن عبد الملك بعد أن عاد من الصين، فرثاه سوادة بن عبد الله السلولي بقوله1: لله قبر هبيرة بن مشمرج ... ماذا تضمن من ندى وجمال وبديهة يعيا بها أبناؤها ... عند احتفال مشاهد الأقوال كان الربيع إذا السنون تتابعت ... والليث عند تكعكع الأبطال2 فسقت بقرية حيث أمسى قبره ... غر يرحن بمسبل هطال بكت الجياد الصافنات لموته ... وبكاه كل مثقف عسال3 وبكته شعث لم يجدن مؤسيا ... في العام ذي السنوات والامحال4 فهو يبكي فيه حسنه وفصاحته وإنسانيته وشجاعته، ويستسقي لقبره، ويبين عظم البلية فيه، بحيث تألم لوفاته كل النساء الفقيرات اللاتي كان يشملهن بعطفه وبره في الضائقات، وبحيث شاركت في الحزن عليه الخيول التي كان يركبها، ويغزو بها، والرماح التي كان يستخدمها ويطاعن فيها، فإذا هي تسكب الدموع حسرة لفراقه، وإجلالا لذكراه. واختطفت يد المنية الجنيد بن عبد الرحمن المري بمرو الشاهجان، فنعاه أبو الجويرية عيسى بن عصمة العبدي بقوله5: هلك الجود والجنيد جميعا ... فعلى الجود والجنيد السلام أصبحا ثاويين في أرض مرو ... ما تغنت على الغصون الحمام

_ 1 الطبري 8: 1280، وابن الأثير 5: 7. 2 تكعكع الأبطال: جبنهم وإحجامهم. 3 الصافنات: جمع صافن، وهو من الخيل القائم على ثلاث، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر. والمثقف، المقوم المصقول. والعسال: الرمح اللدن المضطرب. 4 الشعث: مغبرة الشعور. والأمحال: جمع محل. وهو الشدة والجوع. 5 الطبري 9: 1565، ومعجم الشعراء ص: 95، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 3: 416، والبداية والنهاية 9: 312.

كنتما نزهة الكرام فلما ... مت مات الندى ومات الكرام والمهم في المقطوعة أن صاحبها كان جريئا شجاعا، وكان وفيا للجنيد، فقد صور حزنه وتفجعه عليه، ورفع صوته بالدعاء له، مع أنه توفي بعد أن أعفاه هشام بن عبد الملك من منصبه، ومع أن الوالي الجديد، وهو عاصم بن عبد الله الهلالي كان يبغضه بغضا شديدا، وتعقب عماله وأقرباءه وسجنهم. فجر عليه رثاؤه للجنيد، بل وفاؤه له حيا وميتا أن تحاماه عاصم، وتحامل عليه خالد بن عبد الله القسري1، أمير العراق، لأن الأخير كان يريد من أبي الجويرية، وهو من حلفاء الأزد وأهل اليمن أن يجرح الجنيد، ويطعن في شخصيته، وينتقد الولاة القيسيين الذين خلفوا أخاه أسدا على خراسان. ومات أسد بن عبد الله القسري بقرية من قرى بلخ، فرثاه ابن عرس العبدي بقوله2: نعى أسد بن عبد الله ناع ... فريع القلب للملك المطاع ببلخ وافق المقدار يسري ... وما لقضاء ربك من دفاع فجودي عين بالعبرات سحا ... ألم يحزنك تفريق الجماع أتاه حمامه في جوف صيغ ... وكم بالصيغ من بطل شجاع3 كتائب قد يجيبون المنادي ... على جرد مسومة سراع4 سقيت الغيث إنك كنت غيثا ... مريعا عند مرتاد النجاع5 فالشاعر وإن استسلم للقضاء وأذعن للقدر، فإنه عاجز عن التجلد على الفجيعة بأسد، فقد كبرت الرزية به، ولذلك فإنه يبكيه، ويعول في البكاء عليه، بل على خلاله النبيلة من الإباء والمضاء والجود، والنخوة والمروءة.

_ 1 الطبري 9: 1565. 2 الطبري 9: 1638، وابن الأثير 5: 217، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2: 464. 3 صيغ: ناحية من نواحي خراسان، كان بها ملك أسد القسري. 4 الجرد من الخيل: القصيرات الشعر، وذلك من علامات العتق والكرم. والمسومة: المعلمة. 5 المريع: الخصيب.

وكان سليمان بن قتة، مولى بني تميم بن مرة القرشيين، صديقا لأسد، فرثاه بدوره رثاء حارا تحرق فيه عليه، واستسقى لقبره، وأشاد به. فقد كان أسد في رأيه حاميا لحقيقتهم، قائما بأمورهم، حاملا لهمومهم، ساعيا لانتزاع حقوقهم، آخذا بثاراتهم، وكان فارسهم المشهور، الذي طالما حز بسيفه رؤوس أعدائهم حزا، وطعنهم برمحه طعنا، يقول:1: سقى الله بلخا سهل بلخ وحزنها ... ومروي خراسان السحاب المجمما2 وما بي لتسقاه ولكن حفرة ... بها غيبوا شلوا كريما وأعظما3 مراجم أقوام ومردى عظيمة ... وطلاب أوتار عفرنا عثمثما4 لقد كان يعطي السيف في الروع حقه ... ويروي السنان الزاغبي المقوما5 وتتضح من النصوص السابقة ظاهرتان: الأولى أن الشعراء العرب بخراسان، لم يبتدعوا معاني في الرثاء، على كثرة ما نظموا فيه، ولم يعدلوا في أسلوبه أي تعديل، وإنما احتذوا فيه بالمرثية الجاهلية أدق الاحتذاء، بحيث أبدأوا وأعادوا في معانيها وقوالبها التعبيرية، وهم يندبون أو يؤبنون أو يعزون6. والظاهرة الثانية أنهم لم يرثوا إلا أولى القربى من الإخوة والأولاد والولاة، وأنهم لم يرثوا إلا العمال الذين كانوا يحابونهم، ويمالئون قبائلهم. وذلك بين في رثاء الشمردل بن شريك التميمي لإخوته قدامة، ووائل، وحكم، وفي رثاء موسى بن عبد الله بن خازم السلمي لأخيه محمد، وفي رثاء نصر بن سيار لابنه تميم، وفي رثاء عبد الرحمن بن جمانة الباهلي لقتيبة بن مسلم، وفي رثاء نهار بن توسعة البكري

_ 1 الطبري 9: 1639، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2: 464. 2 المجمم: الكثير. 3 الشلو: الجلد أو الجسد. 4 الرجم: القتل، وراجم عن قومه: ناضل عنهم، والعفرني: الداهية النافذ في الأمر. المبالغ فيه مع خبث. والعثمثم: الأسد القوي الطويل في غلظ. 5 الزاعبي: الرمح اللين إذا هز تدافع كله كأن آخره يجري في مقدمه. 6 الرثاء للدكتور شوقي ضيف ص: 12، 54، 86.

للمهلب بن أبي صفرة الأزدي، وفي رثاء سوادة بن عبد الله السلولي القيسي لهبيرة بن مشمرج الكلابي القيسي، وفي رثاء ابن عرس العبدي لأسد بن عبد الله القسري البجلي اليمني. ولم يخرج على ذلك إلا أبو الجويرية العبدي وسليمان بن قتة، فقد رثى أولهما الجنيد بن عبد الرحمن المري، ورثى ثانيهما أسدا القسري. ومرجع ذلك إلى الصداقة الحميمة التي انعقدت بين الشاعرين والواليين، وما نالاه من هباتهما وصلاتهما، مما يدل على عصبية الشعراء ومواقفهم العدائية من الأشخاص والولاة الذين لم يكونوا من قبائلهم ولا من حلفائهم، وعلى ضيقهم بهم، وحقدهم عليهم لا في حياتهم فحسب، بل بعد مماتهم أيضا.

خصائص موضوعية وفنية ولفظية

خصائص موضوعية وفنية ولفظية: أهم ما يميز شعر الشعراء العرب بخراسان أنهم لم يصوغوه في مطولات، بل في مقطوعات، ومرد ذلك إلى أنهم لم ينظموا أكثره لا في الأغراض المألوفة التي تفرض عليهم أن يسهبوا في قصائده، ويحتفظوا فيها بالأجزاء التقليدية، ولا في الأجواء الهادئة التي تتيح لهم مد قصائده وتطويلها، وتنقيحها وتهذيبها وإنما نظموه في موضوعات جديدة، نابعة من طبيعة حياتهم السياسية والعسكرية، وفي ظروف عاجلة طارئة. فشعرهم هو مجموعة "إعلانات سياسية" عن مواقف قبائلهم من الأحداث الداخلية المفاجئة، و"بلاغات عسكرية" عن نتائج الوقائع الحربية التي خاضوها، داخل خراسان وخارجها. وطبيعي أن الشاعر المرتبط بقبيلته، الفاني في كيانها، الناطق الرسمي بلسانها، لا يستطيع أن يتريث طويلا في الأحداث الكبيرة السريعة لكي يصدر بيانا عن رأي قبيلته فيها، ويتوفر على صياغته ومراجعته وتدقيقه، حتى يخرج خلقا فنيا كاملا مفصلا، لأنه إن فعل ذلك، فإن الأحداث تكون قد سبقته، وحينئذ لا يكون لبيانه أهمية ولا قيمة فهو يجري مع الأحداث ويسابقها، ليذيع قرارات قبيلته فيها في الأوقات المناسبة لها. وأيضا فإن الشاعر المقاتل الذي يشهد المعركة ويخرج منها، لا يصبر كثيرا حتى يعبر عن دوره، ودور قبيلته فيها، وإنما يتعجل القول لينشر بلاغه العسكري في الظرف الملائم، كذلك كان أكثر الشعراء، وهكذا كانت أكثر أشعارهم. وما دام شعرهم قد أخذ شكل المقطوعات، فإن ذلك أفضى بهم إلى أن يسقطوا منه معظم التقاليد الفنية التي تلقانا في القصائد الطويلة. فهم لم يفتتحوا

مقطوعاتهم بالمقدمات المعروفة، كالمقدمة الطللية أو المقدمة الغزلية، أو مقدمة وصف الظعن، أو مقدمة وصف الطيف، أو غيرها من المقدمات، وهم لم يصفوا الرحلة والراحلة، ولا حمر الوحش، ولا مناظر الصيد. فمقطوعاتهم تدور على موضوعات محددة لا يصح التفريع ولا الاستطراد فيها، بل يجب تكثيفها وتركيزها. أما القصائد الطويلة القليلة التي نظفر بها والتي تأنوا في نظمها، بحكم اتساع الوقت وانفساحه، فهي التي تطالعنا في أوائلها بعض المقدمات، مثل المقدمة الطللية، والمقدمة الغزلية، ومقدمة الحديث عن النفس وهمومها، وعن الجماعة وغاياتها. على أنهم تحولوا بالمقدمة الطللية من مرتبة الحذق والمهارة الفنية والبراعة في وصف الديار الدائرة، وبقاياها العافية، وما غيرها من عوامل الفناء، إلى صورة تنبض بالحنين إلى الوطن، والاشتياق إلى ديار الأهل في البصرة والكوفة. ومن أول الشواهد على هذا التحول مقدمة للمغيرة بن حبناء التميمي مهد بها لمديحه لقتيبة بن مسلم1، فقد نزع فيها نزوعا فياضا إلى بلاد قومه بالبصرة واغترابه عنها بفارس وهو يحارب الأزارقة مع المهلب بن أبي صفرة2، وقد استشهدنا بهاتين المقدمتين في موضعين آخرين، ونضيف إليهما مقدمة ثالثة لثابت قطنة، استهل بها مدحة له في نصر بن سيار، فإنهما توضح هذا التطور الذي أصاب المقدمة الطللية على أيدي شعراء العرب بخراسان: فهو يصور فيها حنينه إلى مسارح شبابه، ومراتع صاحبته، ويتألم لابتعاده عنها، واستقراره بخراسان، حيث تفصل بينه وبينها مسافات شاسعة وقفار وبحار، وحيث نزل بموطن مخوف نذر نفسه فيه لمصارعة الترك، وقاتلهم في معارك حامية متصلة، كان لهم الغلبة فيها تارة، وكان النصر حليف الترك فيها تارة أخرى، وبكت نساؤهم لاستشهاد فرسانهم مرة، وناحت نساء الترك على قتلاهم مرة ثانية، يقول3: ما هاج شوقك من نؤي وأحجار ... ومن رسوم عفاها صوب أمطار4

_ 1 الطبري 8: 1226. 2 الأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 87. 3 الطبري 9: 1510. 4 النؤي: الحفير حول الخيمة يقيها للسيول.

لم يبق منها ومن أعلام عرصتها ... إلا شجيج وإلا موقد النار1 وماثل في ديار الحي بعدهم ... مثل الربيئة في أهدامه العاري2 ديار ليلى قفار لا أنيس بها ... دون الحجون واين الحجن من داري3 بدلت منها وقد شط المزار بها ... وادي المخافة لا يسري بها الساري بين السماوة في حزم مشرقة ... ومعنق دوننا آذيه جاري4 نقارع الترك ما تنفك نائحة ... منا ومنهم على ذي نجدة شادي كذلك تحولوا بالمقدمة الغزلية من وصف التذلل والخضوع للمرأة، وتشخيص محاسنها ومفاتنها الجسدية التي تسحر الألباب، إلى الحديث للمحبوبة عن أدوارهم البطولية في القتال، وثباتهم في النزال، وبثوها آلامهم لما يطبق عليهم في بعض المواقع من خطر، يحمل معه نذر الموت، كما يظهر في مقدمة الشرعبي الطائي لقصيدته العينية التي ذم فيها الجنيد بن عبد الرحمن المري، لانهزامه في أول معركة الشعب5. ومثلها مقدمة لجرير بن عرادة التميمي أدار فيها حوارا بينه وبين صاحبته، سألته فيه أن يخف للذب عن بني تميم إزاء تصغير الزغل الجرمي لهم، فرد عليها بأنه نهاض دائما إلى الدفاع عنهم، في النائبات، يقول6: ألم ترني أن الثريا تلومني ... وقبلك ما عاصبت لوم العواذل ألا حين كان الرأس لونين منهما ... سواد ومخضوب به الشيب شامل تقول أنى يوم القيامة فاصطنع ... لنفسك خيرا قلت إني لفاعل7

_ 1 الشجيج: الوتد المشقوق الرأس. 2 الماثل: الرماد. والربيئة: طليعة القوم الذي ينتظر لهم حتى لا يدهمهم للعدو. ولا يكون إلا على جبل، أو مرتفع ينظر منه. 3 الحجون: جبل بأعلى مكة. 4 الحزم: ما غلظ من الأرض وكثرت حجارته. والمشرقة: الشرقية. المعنق: المرتفع، والآذي: الموج. 5 الطبري 9: 1554. 6 نقائض جرير والفرزدق 1: 369. 7 في الأصل: أتى. وأنى: حان.

كريمة قوم حملوني مجدهم ... وإني لهم ما دمت حيا لحامل ورمز بعض شعرائهم بالغانية المحبوبة المطلوبة في مقدمته الغزلية، إلى أماني قبيلته السياسية، وآمالها في السلطة1. وفي الجملة فإنهم لاءموا بين مقدمات قصائدهم وموضوعاتها ملاءمة دقيقة، وتأثروا الظروف التي نظمت فيها، والأهداف التي قيلت من أجلها. فهم إن وصفوا انكسارهم، ورثوا صرعاهم افتتحوا هذا الوصف والرثاء بالحديث عن الموت والحياة2، وإن أفردوا بعض قصائدهم لتصوير مطالب قبائلهم وحقوقها الضائعة صدروا هذا التصوير بالحديث عن الأرق والهم الشاغل3. وعلى هذا النحو كلما استقصينا مطولاتهم التي استهلوها بمقدمات، وجدنا اتساقا قويا بين مقدماتها وموضوعاتها ومناسباتها. ونجم عن صبهم أكثر شعرهم في مقطوعات اختفاء التصريع من مطالعها إلا في مقطوعات وقصائد معدودة4، ونتج عن تسرعهم في نظمها انتشار الجوازات النحوية في بعضها، مثل جزم الفعل المضارع دون عامل يوجب جزمه5، أو رفع الاسم الذي ينبغي نصبه، مع أنه لا وجه لرفعه6. وعممت في بعضها الضرورات العروضية، حتى إن أكثرهم ومشاهيرهم أقووا مرات في مقطوعاتهم ومطولاتهم، كبيان العنبري التميمي7 وجرير بن عرادة التميمي8، وعرفجة الدارمي

_ 1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 282، 284، 295. 2 الطبري 9: 1556. 3 الطبري 9: 1577. 4 الطبري 8: 1226، 9: 1414، 1490، 1510، 1577، 1935. 5 الطبري 9: 1558. 6 الشعر والشعراء 1: 433. 7 الطبري 9: 1477. 8 نقائض جرير والفرزدق 1: 369.

التميمي1، وأبي الهندي التميمي2، وثابت قطنة الأزدي3، ونهار بن توسعة البكري4، وأبي البريد البكري5، وزياد الأعجم6، ونصر بن سيار7. أما أساليبهم فمتينة ناصعة، فألفاظهم فصيحة، وتراكيبهم صحيحة، وهي تشبه أساليب الجاهليين شبها قويا، وتسود في مقطوعاتهم وقصائدهم كلمات صعبة تحتاج إلى الاستخراج، وتتناثر في بعضها أشطار وأبيات، تخفى معانيها، وتستغلق مقاصدها. ومع أنهم أقاموا بخراسان زمنا طويلا، يل قرنا كاملا، واختلطوا بأهلها، فإنهم لم يكثروا من استعمال الكلمات الفارسية، فنحن لم نعثر في كل ما جمعناه من شعرهم إلا بخمس كلمات فارسية عربوها واستخدموها، وهي ديزج8 ومعناها الأدغم9، وأصلها ديزه10، والكرز11، ومعناها المدرب المجرب، واللئيم، والنجيب، والحاذق12، وأصلها كرز13، والسمرج14، ومعناها يوم جباية الخراج، أو استخراج الخراج في ثلاث مرات15، وأصلها سمرج16، والبرازيق17، ومعناها الجماعات والفرسان18، وأصلها بروز19.

_ 1 الطبري 9: 1526. 2 الطبري 9: 1617. 3 الطبري 9: 1503. 4 نقائض جرير والفرزدق 1: 364، والشعر والشعراء 1: 537. 5 الطبري 9: 1497. 6 الشعر والشعراء 1: 433، والأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 92. 7 الطبري 9: 1935. 8 نقائض جرير والفرزدق 1: 362. 9 اللسان 3: 95. 10 الألفاظ الفارسية المعربة لإدي شير ص: 63، واللسان 3: 95. 11 الطبري 8: 267. 12 اللسان 7: 267. 13 اللسان 7: 267. 14 الطبري 8: 1279. 15 اللسان 3: 125. 16 الألفاظ الفارسية المعربة ص: 93. 17 الطبري 9: 1555. 18 اللسان 11: 300. 19 الألفاظ الفارسية المعربة ص: 19.

على أن الظاهرة اللافتة للنظر والداعية إلى الاستغراب أنهم لم يعيروا بيئة خراسان الطبيعية والسكانية أي اهتمام، فنحن لم نجد أحدًا منهم وصف أنهارها، ولا أمطارها، ولا جبالها ولا ثلوجها، ولا أهلها، ولا أي جانب من جوانب الحياة فيها، وليس لها من تفسير إلا أحد احتمالين، فإما أن شعرهم في هذه الموضوعات ضاع، وإما أنهم كانوا منهمكين في حياتهم القبلية والسياسية والعسكرية انهماكا شديدا، شغلهم عن العناية بهذه الموضوعات.

الفصل الثالث: شعراء القبائل بخراسان

الفصل الثالث: شعراء القبائل بخراسان شاعر أزدي متعصب موتور ... شاعر أزدي متعصب موتور: ثابت قطنة 1: هو ثابت بن كعب من بني العتيك الأزديين. ويقال: بل هو مولى لهم، والأرجح أنه منهم صليبة لا ولاء. ومما يؤكد ذلك أنه كان يحس انتماءه إليهم إحساسا قويا، وأنه كان يتعصب لهم تعصبا طاغيا. وإنما لقب قطنة لأن سهما أصابه في إحدى عينيه، فذهب بها في بعض حروب الترك، فكان يجعل عليها قطنة. ومع أن القدماء لم يحددوا تاريخ ميلاده ومكانه, فالظاهر أنه ولد بالبصرة ونشأ بها، حتى إذا شب واشتد عوده أوى إلى المهلب بن أبي صفرة، وانخرط في عداد جيشه، وحارب معه الأزارقة2، وكان ثابت مقاتلا صلبا، وفارسا شجاعا، فظل لذلك بالمهلب، فلما ولاه الحجاج بن يوسف إمارة خراسان سنة ثمان وسبعين، ارتحل معه إليها، واشترك في مناجزته للترك بما وراء النهر3، وحين توفي المهلب انضوى تحت راية ابنه يزيد، وانقطع إليه، ودبج فيه بعض المدائح4، وكان ابن

_ 1 انظر أخباره في الشعر والشعراء 2: 630، والاشتقاق ص 483، والأغاني طبعة دار الكتب 14: 263، وابن خلكان 5: 350 وشرح شواهد المغني للسيوطي 1: 90، وخزانة الأدب للبغداد 4: 184، والفرق الإسلامية في الشعر الأموي للدكتور النعمان القاضي ص 724. 2 الأغاني 14: 280. 3 البيان والتبيين 3: 252. 4 رسائل الجاحظ 2: 83.

المهلب واثقا به، محبا له، فكان يوليه بعض أعمال الثغور، فيحمد فيها مكانه لكفايته وشجاعته1، فارتفعت منزلته لعهده. وقد اصطدم في هذه الفترة من حياته بشاعر تميمي هو حاجب بن ذبيان المازني، لأن حاجبا مدح ابن المهلب، فأسنى له العطاء والهدية، فحسده ثابت فتهاجيا طويلا2. وعندما أقصى الحجاج المهالبة عن خراسان، واستعمل عليها قتيبة بن مسلم الباهلي، جرب ثابت الاتصال به، فمدحه، وسأله حاجته، فلم يقضها له3. فابتعد عنه، وحقد عليه، لا لأنه خذله وأهمله فحسب، بل أيضا لأنه كان يبغضه بغضا شديدا لملاحقته المهالبة، واعتقاله لهم، وتجريد الأزد من المناصب، وتضييقه عليهم. فانحطت مكانته في عهده انحطاطا عمليا وفنيا، إذ لم يكن له دور في غزواته بما وراء النهر، كما أنه صمت عن النظم، ولم يرو له شيء من الشعر سوى أبيات معدودة هجا في بعضها قتيبة4، وشمت في بعضها بمقتله5. وليس من شك في أن نجمه سطع في ولاية ابن المهلب الثانية على خراسان، وإن سكتت المصادر عن أخباره فيها. ولما استبد ابن المهلب بالبصرة، سنة إحدى ومائة، وأعلن بها العصيان المسلح على الأمويين، حرضه ثابت على الاستمرار في عصيانه6. ويذهب بعض القدماء إلى أنه رجع من خراسان إلى البصرة، وساهم مع ابن المهلب في مناهضته للجيش الأموي الذي قاده مسلمة بن عبد الملك، وقمع به المهالبة ومن التف حولهم7. وأكبر الظن أنه لم يرجع إليها، وإنما بقي بخراسان، ويدل على ذلك شاهدان: الأول أنه كان بخراسان سنة اثنتين ومائة، وأنه اشترك في

_ 1 الشعر والشعراء 2: 630، والأغاني 14: 263، وأمالي المرتضي 2: 105، وخزانة الأدب 4: 185. 2 الشعر والشعراء: 2: 631، والأغاني 14: 365، وأمالي المرتضى 2: 105. والطبري 9: 1480، 1486، وابن الأثير 5: 132، 150، وابن خلكان 5: 351. 3 الأغاني 14: 281. 4 الطبري 8: 1225، والأغاني 14: 274. 5 نقائض جرير والفرزدق 1: 364. 6 الطبري 9: 1391، والحماسة البصرية 1: 90. 7 الأغاني 14: 279.

دحر البرك عن قصر الباهلي من أعمال سمرقند1، وهي السنة التي فتك فيها مسلمة بابن المهلب. والثاني أنه يتحسر في مراثيه للمهالبة، لأنه لم يكن بجوارهم ولأن سائر قبيلتهم كانوا غائبين عنهم بخراسان. وتتدنى منزلته بعد إخفاق ثورة المهالبة وسحقها، ويعتزل الحياة العسكرية والأدبية، ويصبح خائفًا ضائقًا في ولاية سعيد بن عبد العزيز على خراسان، بل إن سعيدًا هَمَّ بقتله حين بلغه رثاؤه للمهالبة وما بث في تضاعيفه من تهديد للأمويين2. ولا يلبث أن يظهر على المسرح الحربي سنة أربع ومائة في ولاية سعيد الحرشي3. ثم يختفي عنه في ولاية مسلم بن سعيد الكلابي، ويعيِّر حاجب بن ذبيان المازني بذلك4. ويلي أسد القسري إمارة خراسان، فتلمع شخصية ثابت، ويسترد مكانته، وتحل عقدة لسانه، ويصبح من المسؤولين، فبمجرد أن قدم أسد صحبه إلى سمرقند، ومكث فيها مدة بعد مفارقة أسد لها. فعينه الحسن بن أبي العمرطة الكندي نائبًا له بها5. ولكنه سرعان ما تركها وعاد إلى مرو الشاهجان، ورافق أسدًا في غاراته على جبال الغور والغورين، ونوه بانتصاراته6. وعندما ثار أهل سمرقند على أشرس بن عبد الله السلمي، لأنه وعدهم بإلغاء الجزية عمن يسلم منهم، فدخلوا في الإسلام أفواجًا، فقلت جزيتهم عن المبلغ الموظف عليهم، ففرض أشرس الجزية ثانية على مسلميهم، وعسف بهم، فانتصر ثابت لهم، فسجنه المجشر بن مزاحم السلمي، ولم يزل في السجن حتى أسندت إدارة سمرقند لنصر بن سيار، فأرسله إلى أشرس بمرو الشاهجان، فزجه في الحبس.

_ 1 الطبري 9: 1422، وابن الأثير 5: 93. 2 الأغاني: 14: 271. 3 الطبري 9: 1446، وابن الأثير 5: 109. 4 الطبري 9: 1480. 5 الطبري 9: 1486. 6 الطبري 9: 1489، 1496.

وحدث أن قاد أشرس حملة إلى سمرقند ليبطش بالثائرين من أهلها، فنزل بآمل، فانقض عليه الترك، فأطلق سراح ثابت بكفالة1، فحارب الترك مع عبد الله بن بسطام حتى استخلصوا من وقع من العرب بأيديهم، فاجتاز أشرس النهر، فتصدى له الترك، ودارت بينهم وبينه معركة استشهد فيها ثابت وعدد من الفرسان، سنة عشر ومائة2. وهو ينزع في شعره عن دائرة العصبية لقومه من الأزد، فقد خص بمدائحه الولاة اليمنيين، ولم ينظم بيتا واحدا في مديح الولاة القيسيين الذين تناوبوا على حكم خراسان. ومن شعره في مديح المهلب، قوله الذي يشيد فيه بسيرته العاطرة، وسياسته السديدة، وكرمه الذي لا يبارى، وعفوه عند المقدرة3: أبا خالد زدت الحياة محبة ... إلى الناس أن كنت الأمير المتوجا وحق لهم أن يرغبوا في حياتهم ... وبابك مفتوح لمن خاف أو رجا تزيد الذي يرجو نداك تفضلا ... وتؤمن ذا الإجرام إن كان محرجا وقدمنا في الفصل الثاني أنه امتدح أسدا القسري بمقطوعتين حين هاجم جبال الغور والغورين من نواحي هراة4. وعندما لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، واستولى عليها، وحبس عاملها عدي بن أرطأة الفزاري، وخلع يزيد بن عبد الملك، اندفع ثابت يستفزه لكي يمضي في ثورته، مشجعا له على التحرك السريع، واغتنام الوقت قبل أن تضيع الفرصة منه، ونافخا فيه من روح أبيه، وروح قومه من الأزد، وحلفائهم من ربيعة، الذين أحاطوا به، وصمموا على مساندته لاعتقادهم بصحة مذهبه، وبحقه في الخلافة، ومتمنيا لو كان بالعراق هو ومن كان من الأزد بخراسان ليظاهره. يقول5:

_ 1 الطبري 9: 1512. 2 الطبري 9: 1514، وابن الأثير 5: 15. 3 رسائل الجاحظ 2: 83. 4 رسائل الجاحظ 2: 83، والطبري 9: 1489، 1496. 5 الأغاني 14: 277.

إن امرءا حدبت ربيعة حوله ... والحي من يمن وهاب كئودا لضعيف ما ضمت جوانح صدره ... إن لم يلف إلي الجنود جنودا أيزيد كن في الحرب إذ هيجتها ... كأبيك لا رعشا ولا رعديدا3 ما كان في أبويك قادح هجنة ... فيكون زندك في الزناد صلودا4 إنا لضرابون في حمس الوغى ... رأس المتوج إن أراد صدودا5 وقر إذا كفر العجاج ترى لنا ... في كل معركة فوارس صيدا6 يا ليت اسرتك الذين تغيبوا ... كانوا ليومك بالعراق شهودا وترى مواطنهم إذا اختلفت القنا ... والمشرفية يلتظين وقودا7 وأقبل مدرك بن المهلب لينضم إلى أخيه يزيد بالبصرة، فلاقاه فرسان بني تميم بمفازتها، مضمرين قتله، فعلمت الأزد بأمرهم، فخرجت إليهم ومنعتهم من التعرض له، فمدحها ثابت ومجد صنيعها. يقول8: ألم تر دوسرا منعت أخاها ... وقد حشدت لتقتله تميم رأوا من دونه الزرق العوالي ... وحيا ما يباح لهم حريم9 شنوءتها وعمران بن حزم ... هناك المجد والحسب الصميم فما حملوا ولكن نهنهتهم ... رماح الأزد والعز القديم رددنا مدركا بمرد صدق ... وليس بوجهه منكم كلوم

_ 1 الكئود: المرتقي الصعب. 2 ما ضمت جوانح صدره: كناية عن القلب. 3 العرش والرعديد: الجبان. 4 الهجنة: العيب. والهجين: العربي ابن الأمة. وصلد الزناد: صوت ولم يور فهو صالد، وصالود. 5 الحمس: الشدة. 6 كفر: ستر وغطى. والصيد: جمع أصيد، وهو الرافع رأسه كبرا. 7 القنا: الرماح. والمشرفية: السيوف. والتظت: تلهبت وتوقدت. 8 الطبري 9: 1391. 9 العوالي: أسنة الرماح. والزرق: الصافية.

وخيل كالقداح مسومات ... لدى أرض مغانيها الجميم1 عليها كل أصيد دوسري ... عزير لا يفر ولا يريم بهم تستعيب السفهاء حتى ... ترى السفهاء تردعها الحلوم2 فانتدب يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة في جيش من أهل الشام لمحق الخارجين على طاعته، فاستعاد البصرة، وفر ابن المهلب إلى واسط، وكان أهلها بايعوا له3. وضرب ابنه معاوية أعناق ثلاثين أسيرا كانوا في يده، منهم عدي بن أرطأة، وابنه محمد، ومالك وعبد الملك ابنا مسمع البكري، فلم يجوز ثابت فعلته القبيحة، بل عدها طيشا منه، فقد أفسدت عليه الناس، ونفرتهم عنه. يقول4: ما سرني قتل الفزاري وابنه ... عدي ولا احببت قتل ابن مسمع ولكنها كانت معاوي زلة ... وضعت بها أمري على غير موضع واستمر مسلمة يطارد ابن المهلب حتى قتله يوم العقر قرب كربلاء بالكوفة، ومزق جنوده تمزيقا. فجن ثابت، وخابت كل الآمال التي عقدها على الثورة، والتي كان يرجو أن تتوج بفوز ابن المهلب بالخلافة. فتحول يرثيه ويرثي الهالكين من أسرته. وتتضح في مراثيه لهم عصبيته الحادة للأزد، ويتضح فيها عداؤه السافر للأمويين، فهو لا ينفث فيها أناته وزفراته التي ضاق بها صدره لمصرعهم، بل يحملها كذلك دفاعا عن ثورتهم، وافتخارا بماضيهم في الجاهلية، وبحاضرهم في الإسلام، مما يجعلهم أهلا للخلافة، ويرى أن قتلهم كان جرما عظيما، كما يحملها وعيدا للأمويين، وأنه لن يغتفر لهم ذنوبهم مهما تمتد الأيام بهم، بل سينتقم منهم. ويسخط سخطا شديدا على العشائر الشامية اليمنية التي دعمتهم، وأتاحت لهم التغلب على

_ 1 القداح: السهام: شبه بها الخيل في ضمورها. والمسومات: المرعية، أو المعلمة، أو المرسلة وعليها فرسانها. الحميم: النبت الكثير الذي طال ولم يتم. 2 استعتب: رجع عن الإساءة وطلب الرضا. 3 ياقوت 3: 695. 4 الطبري 9: 1409.

المهالبة، لأنه كان يفترض فيما يظهر أن تعدل عن مساندتههم، وتنحاز للمهالبة في هذا الظرف العصيب، وتؤيدهم لما يربط بينها وبينهم من أواصر النسب. ومن مراثيه ليزيد بن المهلب هذه القصيدة التي يقرن فيها وصف مواجعه وآلامه الممضة لفقده بوعيده لبني أمية وقصاصه لهم، وغضبه على القبائل اليمنية التي ناصرتهم، يقول1: ألا يا هند طال علي ليلي ... وعاد قصيره ليلا تماما2 كأني حين حلقت الثريا ... سقيت لعاب أسود أو سماما3 أمر علي حلو العيش يوم ... من الأيام شيبني غلاما مصاب بني أبيك وغبت عنهم ... فلم أشهدهم ومضوا كراما فلا والله لا أنسى يزيدا ... ولا القتلى التي قتلت حراما فعلي أن أبؤ بأخيك يوما ... يزيدا أو أبؤ به هشاما4 وعلي أن أقود الخيل شعثا ... شوازب ضمرا نقص الإكاما5 فأسبحهن حمير من قريب ... وعكا أو أرع بهما جذاما ونسقي مذحجا والحي كلبا ... من الذيفان أنفاسا قواما6 عشائرنا التي تبغي علينا ... تحربنا زكا عاما فعاما7 ولولاهم وما جلبوا علينا ... لأصبح وسطنا ملكا هماما فهو يصف تبدل حاله، وما يقاس من المواجد، وما يتجرع من الغصص بل من السموم القاتلة، ويعترف بأنه كان غائبا عن مسرح الأحداث، وينذر بني أمية،

_ 1 الطبري 9: 1414. 2 هند: بنت المهلب. وليل التمام: أطول ما يكون من ليالي الشتاء. 3 الأسود: العظيم من الحيات. 4 باء به: قتل قاتله به. 5 الشوازب: الضوامر. وتقص: تكسر. والإكام: الحجارة. 6 الذيفان: السم الناقع القاتل. 7 تحربنا: تغضبنا. والزكا: الزوج من العدد، أي مرتين.

والعشائر اليمنية والشامية التي ساعدتهم، والتي دمروا بها المهالبة الأزديين اليمنيين تدميرا. فقد كان ينتظر منها أن تتخلى عن بني أمية، وتبايع المهالبة، وتقاتل معهم، لكي يكتب لهم النجاح في ثورتهم، ويكي يظفر يزيد بن المهلب بمنصب الخلافة. وفي مرثية ثانية يبكي ابن المهلب، ويعلن أن ما يضاعف توجعه أنه كان بعيدا عن ميدان المعركة الفاصلة التي دارت بينه وبين مسلمة بن عبد الملك، ويوعد مسلمة بأنه سيتربص به حتى يغتاله. ويفتخر بالأزد، أصحاب العقول الراجحة، والشجاعة الخارقة، الحامين للجار، المطعمين للضيف خيار إبلهم في الجدب، ويعتد بفضلهم على الإسلام، وأنهم ناصروا الرسول حين وفد عليهم بالمدينة مهاجرا من مكة، ويتمدح بمجدهم التليد في الجاهلية ممثلا في دولة الغساسنة العزيزة القوية يقول1: أبى طول هذا الليل أن يتصرما ... وهاج لك الهم الفؤاد المتيما أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولا مجرما على هالك هد العشيرة فقده ... دعته المنايا فاستجاب وسلما على ملك يا صاح بالعقر جبنت ... كتائبه واستورد الموت معلما2 أصيب ولم أشهد ولو كنت شاهدا ... تسليت إن لم يجمع الحي مأتما وفي غير الأيام يا هند فاعلمي ... لطالب وتر نظرة إن تلوما3 فعلي إن مالت بي الريح ميلة ... على ابن أبي ذيان أن يتندما أمسلم إن تقدر عليك رماحنا ... نذقك بها قئ الأساود مسلما وإن نلف للعباس في الدهر عثرة ... نكافئه باليوم الذي كان قدما قصاصا ولا نعدو الذي كان قد أتى ... إلينا وإن كان ابن مروان أظلما ستعلم إن زلت بك النعل زلة ... وأظهر أقوام حياء مجمجما من الظالم الجاني على أهل بيته ... إذا أحصرت أسباب أمر وأبهما

_ 1 الطبري 9: 1414- 1416، وابن الأثير 5: 88. 2 المعلم: الفارس إذا علم مكانه في الحرب. 3 غير الأيام: أحواله المتغيرة المتبدلة، وتلوم: انتظر وتلبث.

وإنا لعطافون بالحلم بعدما ... نرى الجهل من فرط اللئيم تكرما وإنا لحلالون بالثغر لا نرى ... به ساكنا إلا الخميس العرمرما1 نرى أن للجيران حاجا وحرمة ... إذا الناس لم يرعوا لذي الجار محرما وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى ... إذا كان رفد الرافدين تجشما2 أبونا أبو الأنصار عمرو بن مالك ... وهم ولدوا عوفا وكعبا وأسلما وقد كان في غسان مجد يعده ... وعادية كانت من المجد معظما3 وفي مرثية ثالثة يؤنب القبائل التي دخلت في طاعته، واجتمعت إليه عندما أظهر الخلاف ليزيد بن عبد الملك،، وخلعه ودعا لنفسه، لأنها انسلت من حوله حين تفاقم الخطر المحدق به، ويأسى فيها لأن البقية الباقية من الأزد كانت بخراسان، إذ لو كانت قريبة منه لسارعت إليه، وشدت من أزره، يقول4: كل القبائل بايعوك على الذي ... تدعو إليه وتابعوك وساروا ولقد بسطت لهم يمينك بالندى ... مثل الفرات تمده الأنهار حتى إذا شرق القنا وجعلتهم ... نصب الأسنة اسلموك وطاروا5 شهدتك من يمن عصائب ضيعت ... ونأى الذين بهم يصاب الثار إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عليك وبعض قتل عار وبعد أن أجلت الحرب عن قتل يزيد بن المهلب، التفت البقية الناجية من المهالبة حول أخيه المفضل، وخرجوا إلى كرمان، وكان بها منهم شراذم، فانضموا إليه، فبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في أثر الفل وفي طلب

_ 1 العرمرم: الكثير. 2 القمع: جمع قمعة، وهي أعلى السنام. والتجشم: التكلف. 3 العادية: الخيل تعدو. 4 الشعر والشعراء 2: 631، والأغاني 14: 279، وحماسة ابن الشجري ص: 90، والحماسة البصرية 1: 276، وابن خلكان 5: 350، وخزانة الأدب 4: 184. 5 شرق القنا: احمرت الرماح بالدم.

المهالبة، فأدركهم بفارس، والتحم معهم في معركة انتهت بهلاك المفضل. فرثاه ثابت بقصيدة عزى فيها أخته هند، وصور ما سببه له موته من بلاء دائم وهم مقيم، وأعرب عن أمله لأنه لم يشترك في الذب عنه، وهدد بأخذ الثأر له من قاتليه، وافتخر بنفسه وأخلاقه. يقول1: يا هند كيف بنصب بات يبكيني ... وعائر في سواد العين يؤذيني2 كأن ليلي والأصداء هاجدة ... ليل السليم وأعيا من يداويني3 لما حنى الدهر من قوسي وعذرني ... شيبي وقاسيت أمر الغلظ واللين4 إذا ذكرت أبا غسان أرقني ... هم إذا عرس السارون يشجيني5 كان المفضل عزا في ذوي يمن ... وعصمة وثمالا للمساكين6 غيثا لدى أزمة غبراء شاتية ... من السنين ومأوى كل مسكين7 ما زلت بعدك في هم تجيش به ... نفسي وفي نصب قد كان يبليني8 إني تذكرت قتلى لو شهدتهم ... في حومة الحرب لم يصلوا بها دوني9 لا خير في العيش إن لم أجن بعدهم ... حربا تبيء بهم قتلى فتشفيني10 لا خير في طمع يدني إلى طبع ... وغفة من قوام العيش تكفيني11

_ 1 أمالي الزجاجي ص: 130، وأمالي المرتضي 1: 407، والأغاني 14: 275. 2 النصب: الداء والبلاء والشر. والعائر: الرمد والقذى. 3 الأصداء: الأصوات: والسليم: الملدوغ. وأعيا: أعجز. 4 عذرني: شيبني من جانبي وجهي، أو هدني وهدمني. 5 عرس السارون: نزلوا في آخر الليل للاستراحة. 6 الثمال: الغياث الذي يقوم بأمر الناس فيطعمهم ويسقيهم. 7 الأزمة: القحط. وشتا القوم: أجدبوا في الشتاء خاصة، والعرب تسمي القحط شتاء لأن المجاعات أكثر ما تصيبهم في الشتاء البارد. 8 جاشت النفس: ارتفعت من حزن أو فزع. 9 صلى النار، وصلى بها: قاسى حرها. 10 تبيء بهم: تسفر عن قتل قاتليهم. 11 الطبع: الدنس. والغفة: البلغة من العيش.

لا أركب الأمر تزرى بي عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني لا يغلب الجهل حلمي عند مقدرة ... ولا العضيهة من ذي الضغن تبكيني1 كم من عدو رماني لو قصدت له ... لم يأخذ النصف مني حين يرميني وعلى نحو ما تبدو عصبيته القبلية والسياسية لقومه في مدائحه ومراثيه، فإنها تبدو أيضا في أهاجيه، فهو يدافع في قسم كبير منها عنهم، ويرد على خصومهم، بل إنه كان شديد الحمية والأنفة لهم، فقد كان يستثار ويخرج عن طوره، إذ تعرض أحد للأزد، أو أصابهم بأقل سوء. والأمثلة على ذلك كثيرة، فحين حارب المهلب الشراة، وكان ابن الكواء اليشكرى فيهم، وكان بعض بني أخيه شاعرا، فهجا المهلب، والأزد، طلب المهلب من ثابت أن يرد عليه، فراح يحقر بني يشكر، ويتهمهم بأنهم أذل عشائر بكر، بل ملصقون بها إلصاقا، يقول2: كل القبائل من بكر نعدهم ... واليشكريون منهم ألأم العرب أثرى لجيم وأثرى الحصن إذ قعدت ... بيشكر أمه المعرورة النسب3 نحاكم عن حياض المجد والدكم ... فما لكم في بني البرشاء من نسب4 أنتم تحلون من بكر إذا نسبوا ... مثل القراد حوالي عكوة الذنب5 نبئت أن بني الكواء قد نبحوا ... فعل الكلاب تتلى الليث في الأشب6 يكوى الابيجر عبد الله شيخكم ... ونحن نبري الذي يكوى من الكلب وكانت ربيعة لما حالفت اليمن وحشدت مع يزيد بن المهلب تنزل حواليه هي والأزد بخراسان، فاستبطأته ربيعة في بعض الأمر، فشغبت عليه، حتى أرضاها فيه، فحنق ثابت عليها، وانطلق يهجوها بأنها تحذق تهييح الشر، وتأجيج الفتنة، وأنها

_ 1 العضيهة: الإفك والبهتان. 2 الأغاني 14: 277. 3 لجيم: هو لجيم بن صعب بن بكر بن وائل، والحصن: هو ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل. 4 البرشاء: لقب أم ذهل وشيبان وقيس بني ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل. والبرش: البرص. 5 العكوة: أصل الذنب ومعظمه. 6 الأشب: شدة التفاف الشجر وكثرته حتى لا مجاز فيه.

تختفي عند الشدة، وتقل عند الفزع، وأنها تتنكر للصديق، وتقعد عن منازلة العدو، غامز أرجالها بأنهم ليسوا من أولي الأصول العريقة المعروفة، ولا من ذوي العزائم الكبيرة، ولذلك فإنه لم يعد يرى جدوى في محالفة الأزد لهم. يقول1: عصافير تنزو في الفساد وفي الوغى ... إذا راعها روع جماميح بروق2 أأحلم عن ذبان بكر بن وائل ... ويعلق من نفسي الأذى كل معلق ألم أك قد قلدتكم طوق خزية ... وأنكلت عنكم فيكم كل ملصق3 لعمرك ما استخلفت بكرا ليشغبوا ... علي وما في حلفكم من معلق4 ضممتكم ضما إلي وأنتم ... شتات كفقع القاعة المتفرق5 فأنتم على الأدنى أسود خفية ... وأنتم على الأعداء خزان سملق6 فالبكريون في نظره عيال على الأزد، لا يغنون في الأزمات، ومع ذلك فإنهم ينافرونهم وينازعونهم. وهو يردد هذا المعنى في بيتين آخرين، إذ يأخذ على البكريين قلة وفائهم بالعهود، وتقصيرهم فيما يوجبه الحلف المعقود بينهم وبين الأزد من التزامات. بل إنه يصرح بأنهم إنما يفزعون إلى الأزد في المآزق. فإذا ما فرجوها عنهم، واستأنفوا حياتهم مطمئنين، عادوا إلى سيرتهم الأولى مع الأزد، وابتعدوا منهم. يقول7: بكر أخونا إذا نابته نائبة ... وليس منا إذا ما خوفه أمنا إني لأرمي بنبلي من ورائهم ... ولا أرى الأمر شجانا لهم شجنا

_ 1 الأغاني 14: 280. 2 تنزو: تثب. والجماميح: جمع جماح، وهو ما نبت على رؤوس القصب مجتمعا، فإذا دق تطاير، وبروق: نبت ضعيف. 3 أنكل: دفع، أي دفعت عنكم كل ملصق فيكم. 4 من معلق: أي من شيء يتعلق به ويعتمد عليه. 5 الفقع: الكمأة البيضاء الرخوة. والقاعة: الأرض المطمئنة السهلة الرخوة. 6 خفية: أجمة في سواد الكوفة تنسب إليها الأسود. والسملق: الأرض المستوية الجرداء. وخزان: جمع خزن، وهي ذكر الأرنب، وهي معروفة بالجبن. 7 حماسة البحتري ص: 80.

ومدح قتيبة بن مسلم فلم يجزه، فانبرى يشهر به، بل يعبر عن عدائه الدفين له، ولكن في حذر واحتياط، إذ اتخذ من مديح يزيد بن المهلب وسيلة إلى تجريحه، يقول1: أبا خالد لم يبق بعدك سوقة ... ولا ملك ممن يعين على الرفد2 ولا فاعل يرجو المقلون فضله ... ولا قائل ينكا العدو على حقد3 لو أن المنايا سامحت ذا حفيظة ... لأكرمنه أو عجن عنه على عمد وانهزم قتيبة وقومه عن الترك في إحدى المعارك، وثبت بنو تميم في الميدان، فوجد ثابت الفرصة سانحة لذم الباهليين، فعرض بهم، ومدح التميميين، وفضل الأزد عليهم أجمعين. يقول4: توافت تميم في الطعان وعردت ... بهيلة لما عاينت معشرا غلبا5 كماة كفاة يرهب الناس حدهم ... إذا ما مشوا في الحرب تحسبهم نكبا6 تسامون كعبا في العلا وكلابها ... وهيهات أن تلقوا كلابا كعبا فأفشى عليه روايته الأبيات، وكان استكتمه إياها. فقال يصف فزعه من انتشارها، وخشيته من معاقبة قتيبة له عليها، ويعلن أنه كثيرا ما نوى أن يهجر راويته، ولكنه لم ينفذ قراره، لأنه من ربيعة حلفاء قومه7: يا ليت لي بأخي نضر أخا ثقة ... لا أرهب الشر منه غاب أو شهدا أصبحت منك على أسباب مهلكة ... وزلة خائفا منك الردى أبدا

_ 1 الأغاني 14: 281. 2 الرفد: العطاء. 3 ينكا: يقهر ويذل. 4 الأغاني 14: 274. 5 عردت: هربت. وغلب: جمع أغلب، وهو الغليظ الرقبة. وهم يصفون أبدا السادة بغلظ الرقبة وطولها. 6 النكب: جمع نكباء وهي كل ريح انحرفت ووقعت بين ريحين، وهي تهلك المال، وتحبس القطر. 7 الأغاني 4: 274.

ما كنت إلا كذئب السوء عارضه ... أخوه يدمي ففرى جلده قددا1 أو كابن آدم خلى عن أخيه وقد ... أدمى حشاه ولم يبسط إليه يدا2 أهم بالصرف أحيانا فيمنعني ... حيا ربيعة والعقد الذي عقدا ووشى به حميد الرؤاسي، وعبادة المحاربي إلى سعيد بن عبد العزيز الأموي وقد ولي خراسان، وجلس يعرض الناس، إذ أبلغاه أنه افتخر في شعره بالأزد، وأنهم قادرون على قتل الخليفة إن عاداهم، فاستدعاه سعيد وقال له: أنت القائل3: إنا لضرابون في حمس الوغى ... رأس الخليفة إن أراد صدودا فاعترف بأن البيت له، واتهم الرجلين بأنهما استبدلا رأس الخليفة برأس المتوج في بيته السابق، وأتبعه ببيت ثان، دافع فيه عن نفسه وقومه، فقد بين فيه أنهم إنما يغضبون دفاعا عن الدين والخليفة، فقال: إنا لضرابون في حمس الوغى ... رأس المتوج إن أراد صدودا عن طاعة الرحمن أو خلفائه ... إن رام إفسادا وكر عنودا فعفا عنه. وعلم أن حميدا وعبادة هما اللذان سعيا به عند سعيد، فسخط عليهما. فأتاه عبادة معتذرا، واستعلى حميد عليه، فهجاه بأبيات وصمه فيها بأنه ساقط ذليل، دعي خامل، يقول4: وما كان الجنيد ولا أخوه ... حميد من رؤوس في المعالي

_ 1 فرى: مزق وقطع. والقدد: الطرائق. 2 يشير إلى ابني آدم قابيل وهابيل، إذ قربا قربانا إلى الله، وهو زرع لقابيل وكبش لهابيل فتقبل من هابيل فنزلت نار من السماء فأكلت قربانه، ولم يتقبل من قابيل، فغضب وقتل أخاه. 3 الأغاني 14: 271. 4 الأغاني 14: 271.

فإن يك دغفل أمسى رهينا ... وزيد والمقيم إلى زوال1 فعندكم ابن بشر فاسألوه ... بمرو الروذ يصدق في المقال ويخبر أنه عبد زنيم ... لئيم الجد من عم وخال2 بل إنه كان لا يتورع عن هجاء زعماء قبيلته إذا انحرفوا عن محاباة أفرادها بعض الانحراف، وأشركوا غيرهم في أصغر الوظائف، فقد كان يعتقد بوجوب احتكار الأزد لكل منصب وسلطان، ونفع، ما دام الأمير منهم. وخير شاهد على ذلك أن المهلب استعمل وكيع بن الدورقية الخوزستاني على عمل من أعمال خراسان، فاحتج ثابت عليه، وسفه رأيه، مدعيا أنه قدم مولى من الموالي على ابني قبليته، ووضعه في مركز لا يستحقه، يقول3: ما زال رأيك يا مهلب فاضلا ... حتى بنيت سرادقا لوكيع وجعلته ربا على أربابه ... ورفعت عبدا كان غير رفيع لو را أبوه سرادقا أحدثته ... لبكى وفاضت عينه بدموع كذلك كان يؤمن بأن وحدة الدم بين أفراد قبيلته تفرض عليهم أن يكونوا متعاونين متناصرين، وتلزم القبيلة نفسها بمساندة أي فرد منهم سواء كان ظالما أو مظلوما. وأصدق دليل على ذلك أنه استنصره في حال بعض أفراد قبيلته، فلم ينصره، فعتب عليه، وراح يلوح بأنه إنما تسامى عن الطعن فيه، وهو ابن قبيلته، تأسيا بأبيه الذي كان يمسك عن توبيخها إذا فرط أحد أبنائها في حقه، وإلا فإنه لا يحتمل الأذى من أي إنسان، يقول4: تعففت عن شتم العشيرة إنني ... وجدت أبي قد عف عن شتمها قبلي

_ 1 دغفل: هو دغفل بن حنظلة من بني حنظلة من بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل. كان أعلم أهل زمانه بالأنساب. وزيد: هو زيد بن الكيس النمري. وهو يقارب دغفلا في العلم بالأنساب. 2 الزنيم: الدعي. 3 البيان والتبيين 3: 252. 4 الأغاني 14: 281.

حليما إذا ما الحلم كان مروءة ... وأجهل أحيانا إذا التمسوا جهلي ومن هجائه ما كانت حوافزه شخصية خالصة، ترجع إلى اعتزازه بذاته، وإحساسه بأنه ينبغي أن يعظم ويكرم. ومن أجل ذلك فإنه هجا كل من تخلف عن الاحتفال به، وهجا بعض الشعراء الذين كانوا ينافسونه، والذين فازوا بالجوائز من دونه. ففي أخباره أنه اجتاز في بعض أسفاره بمدينة كان أميرها محمد بن مالك الهمذاني الخيواني، فنزل به، فلم يهتم له، ولا أمر له بقرى، ولا هيأ له ما يهيأ للضيف أن ينزل عليه، فلما رحل عنه، هجاه بأبيات وازن فيها بين بطون همدان من بكيل وخيوان، مادحا الأولين الذين لا ينتمي محمد إليهم، ومجرحا الأخيرين الذين تحدر منهم، كما عيره بأنه دعي في خوان على هوانهم، مغمور بينهم على وضاعتهم، وأنه حقير منبوذ، ولذلك ردته كندة حين خطب إليها، يقول1: لو ان بكيلا هم قومه ... وكان أبوه أبا العاقب2 لاكرمنا إذ مررنا به ... كرامة ذي الحسب الثاقب ولكن خيوان هم قومه ... فبئس هم القوم للصاحب وأنت سنيد بهم ملصق ... كما ألصقت رقعة الشاعب3 وحسبك حسبك عند النثا ... بأفعال كندة من عائب4 خطبت فجازوك لما خطبت ... جزاء يسار من الكاعب5

_ 1 الأغاني 14: 273. 2 العاقب: الذي يخلف سيدا. 3 السنيد: الدعي. والشاعب: المصلح. 4 النثا: الحديث عن الشخص بالشر والخير. 5 الكاعب: الجارية. ويسار: عبد أسود دميم كان النساء إذا رأينه يضحكن منه: فكان يظن أنهن يضحكن من إعجابهن به. فدخل يوما على امرأة مولاه، فراودها عن نفسها، فقطعت أنفه أو مذاكيره. فضرب المثل به فقيل: لقي ما لاقى يسار الكواعب "انظر سرح العيون ص: 270، ومجمع الأمثال 2: 248".

كذبت فزيفت عقد النكاح ... لمتك بالنسب الكاذب1 فلا تخطبن بعدها حرة ... فتثني بوسم على الشارب2 وأنشدنا له مقطوعة من قبل هجا بها حاجب بن ذبيان المازني، لأن يزيد بن المهلب فضله عليه، وأجزل له العطاء لمدحة مدحه بها. وقد كرر فيها تلك المعاني التي كررها في أهاجيه القبلية والسياسية والشخصية، فقد رماه بأنه خسيس دني مغمور في نسبه، وأنه ضعيف لا سند له في قومه3. ومن تتمة الحديث عن شعوره بعظمة شخصيته، أنه يصف نفسه في شعره بالجلال والوقار، وأنه لا يلغو ولا يطيل الكلام، بل يوجز في القول، ويجتزئ بأقله، يقول:4 لا أكثر القول فيما يهضبون به ... من الكلام قليل منه يكفيني5 وأداه اعتداده بشخصيته إلى أن يأخذ نفسه بالمثالية، ويطالب صاحبه بأن يكون على شاكلته. فهو يحرص على الصديق، ويدافع عنه، ويفي له، في كل الأحوال، أما الصديق الذي كان يتقرب إليه في اليسر، ويزور عنه في العسر، ويبدي له المودة إذا لقيه، ويمزق عرضه إذا فارقه، فكان ينفر منه، ويقطع صلته به، يقول6: أنبئت بشرا وللأنباء محصلة ... وعامرا قد أراد النقض لو نقضا7 وكان بشر بن قيس لي أخا ثقة ... وكنت أجعل نفسي دونه غرضا8

_ 1 المت: التواصل بقرابة. 2 الوسم: أثر الكي. 3 الأغاني 14: 268. 4 حماسة البحتري ص: 230. 5 هضب فلان في الحديث: اندفع فيه فأكثر، أو خاض فيه وارتفع صوته. 6 حماسة البحتري ص: 80. 7 المحصلة: النتيجة والبقية. 8 الغرض: الهدف.

وما أخي بالذي يرضى بمنقصتي ... ولا الذي يظهر البغضاء والمرضا ولا الذي إن حلا عيشتي تنصفني ... وليس مني إذا ما مر أو حمضا كما كان يسر حوائجه، ويتكتم على أموره، بل إنه كان ينكر بعض أعماله إذا رأى فيها عارا عليه، أو سبة له. فقد خطب امرأة كان يميل إليها، وجعل السفير بينه وبينها جويبر بن سعيد المحدث، فاندس فخطبها لنفسه، وتزوجها، ودفعه عنها. فكذب ثابت أنه اختاره، ليكون رسوله إليها، ودعا عليه أن يشقى بها، وأن يضطر إلى تطليقها، بعد أن تقبض منه مهرها. يقول1: أفشى علي مقالة ما قلتها ... وسعى بأمر كان غير سديد إني دعوت الله حين ظلمتني ... ربي وليس لمن دعا ببعيد أن لا تزال متيما بخريدة ... تسبي الرجال بمقلتين وجيد حتى إذا وجب الصداق تلبست ... لك جلد أغضف بارز بصعيد2 وهو ينحو في فخره نحو الشعراء الجاهليين، إذ يتمجد فيه بفروسيته، وهي تتمثل في إنفاقه كل ما يملك من الأموال، وفي طرحه لنفسه مطارح الردى، كما يدل على ذلك قوله3: المال نهب الدهر ما أخرته ... ويكون حظك منه ما يتقدم أمضي وظل الموت تحت ذؤابتي ... ويظن صحبي أنني لا أسلم فسلمت والسيف الحسام وصعدة ... سمراء يجري بين أكعبها الدم4

_ 1 الأغاني 14: 279. 2 الأغضف: الكلب. والصعيد: المرتفع من الأرض. 3 الحماسة البصرية 1: 20. 4 الصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى تثقيف. والأكعب: جمع أكعب، وهو ما بين كل عقدتين من أنبوب القناة.

وأنا ابن عمك يوم ذلك دنية ... وأنا البعيد إليك منك المجرم1 وتتمثل أيضا في بلائه وغنائه في الحروب، كما تصور ذلك أبيات أثبتناها في مكان سابق2. ويضيف إلى فخره بنفسه فخره بقبيلته، ومنعتها وجبروتها، فهي تظلم القوي، وتستخف به وتنصف العاجز وترد عليه حقه، وهي متوافرة في نفسها، حفيظة على أبنائها الصرحاء وغير الصرحاء، بل إنها لتطير إلى نجدة مواليها، وإن كانوا مسيئين إليها، أو معتدين على غيرها. يقول3: وإنا لنعطي النصف ذا الحق إن غدا ... ضعيفا ونلويه الأبي الغشمشما4 ولا نخذل المولى وإن كان ظالما ... ونبدي له عذرا وإن كان ألوما5 وله قصيدة طويلة في الإرجاء6 ضمنها أهم مبادئ المرجئة، فهم لا يكفرون أحدا من المسلمين مهما يعظم ذنبه، لأنهم يفصلون بين الإيمان والعمل، فالمسلم مؤمن وإن لم يؤد الفروض، لأن أساس الإيمان عندهم الاعتقاد بالقلب لا بالعبادة والطاعة. وهم يرفضون الحكم على أعمال الناس، ويتركون الحكم عليهما لله يوم القيامة, إلا الجور البين أو العناد الواضح، فإنهم يصدرون أحكامهم عليه. وهم لا يستبيحون دماء الناس إلا دفاعا عن أنفسهم، ولا يكفرون عثمان وعليا، بل يسفهون رأي الخوارج، لأنهم كفروهما، فهما عبدان مؤمنان، وما حدث من شقاق بينهما لا يلغي إيمانهما، والحكم الأخير عليهما متروك لله، يقول7: يا هند إني أظن العيش قد نفدا ... ولا أرى الأمر إلا مدبرا نكدا إني رهينة يوم لست سابقه ... إلا يكن يومنا هذا فقد أفدا8

_ 1 دنية: عن قرب. 2 الطبري 9: 1426. 3 حماسة البحتري ص: 155. 4 الغشمشم: الجريء الماضي. 5 ألوم: أتى ذنبا يلام عليه. 6 انظر في الإرجاء فجر الإسلام ص: 279، وضحى الإسلام 3: 316. 7 الأغاني 14: 270. 8 أفد: قرب ودنا.

بايعت ربي بيعا إن وفيت به ... جاورت قتلى كراما جاوروا أحدا يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا ... أن نعبد الله لم نشرك به أحدا نرجي الأمور إذا كانت مشبهة ... ونصدق القول فيمن جار أو عندا المسلمون على الإسلام كلهم ... والمشركون أشتوا دينهم قددا1 ولا أرى أن ذنبا بالغ أحدا ... م الناس شرما إذا ما وحد الصمدا لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا ... سفك الدماء طريقا واحدا جددا2 من يتق الله في الدنيا فإن له ... أجر التقي إذا وفى الحساب غدا وما قضى الله من أمر فليس له ... رد وما يقض من شيء يكن رشدا كل الخوارج مخط في مقالته ... ولو تعبد فيما قال واجتهدا أما علي وعثمان فإنهما ... عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا وكان بينهما شغب وقد شهدا ... شق العصا وبعين الله ما شهدا3 يجزى علي وعثمان بسعيهما ... ولست أدري بحق آية وردا الله يعلم ماذا يحضران به ... وكل عبد سيلقى الله منفردا فشخصية ثابت قطنة كما يكشف عنها ما بقي من أخباره وأشعاره شخصية أثرت فيها التيارات والحركات الفكرية والسياسية الإسلامية، كما أثرت فيها النزعات والاتجاهات الاجتماعية والثقافية العربية التي ظللت عصره، فهو من ناحية استجاب للتيارات الفكرية الإسلامية التي نشطت في مجتمعه، فقد جالس الشراة والمرجئة بخراسان4، واستمع إلى مجادلاتهم ومحاوراتهم في مسائل الدين، وأصول العقيدة، فمال إلى المرجئة، وفضل ذهبهم السياسي الديني على مذهب الخوارج، فاعتنقه ونظم قصيدة طويلة تحدث فيها عن آرائهم ومبادئهم.

_ 1 أشتوا: فرقوا. والقدد: الفرق المختلفة الأهواء. 2 الجدد: الطريق المستوية. 3 الشعب: التصدع. وشق العصا: تفرق الجماعة. 4 الأغاني 14: 269.

وهو من ناحية أخرى صدر في بعض مواقفه عن روح الإسلام الصافية وتعاليمه السمحة، وانضم إلى بعض الثائرة التي دعا زعماؤها إلى ضرورة تساوي المسلمين من العرب والعجم، فقد انفصل عن قومه العرب، واتصل بالأتراك المتمردين على أشرس السلمي بسمرقند، لأنه فرض الجزية على مسلميهم، بعد أن كان مناهم بإزالتها عنهم إذا دخلوا الإسلام، فلما تضاءلت المبالغ المجموعة منهم، تراجع عن منهجه الإصلاحي الذي اقترحه لمعالجة أوضاعهم السيئة، وأخلف وعوده لهم، كما تسلط عليهم، فاستصوب ثابت ثورتهم، وأيدها إيمانا منه بسلامتها وشرعيتها، واعتقادا منه بحتمية تكفائهم مع العرب في الحقوق والواجبات، بعد إسلامهم فاعتقل في سبيلهم، وقضى مدة في السجن من أجلهم. وهو من ناحية ثالثة تعمقته العروبة والقومية فجاهد أهل خراسان وأهل ما وراء النهر مرارا، كما تخلى عن مناصرته لأهل سمرقند، وحاربهم مع أشرس حربا لا هوادة فيها، وقتل وهو يساهم في القضاء على ثورتهم! ويدل ذلك من غير شك على أنه كان مشتت الفكر، متناقض السلوك، متأرجحا بين النزعة الإسلامية والنزعة القومية، ولكننا نقطع استئناسا بأشعاره أن كل تلك الاتجاهات الفكرية الدينية، والإنسانية والقومية كانت طارئة على ثقافته وشخصيته، ضعيفة التأثير في نفسيته. ولذلك فإنها إنما حملته على الالتزام ببعض المواقف النظرية، أو العملية القليلة إلى حين قصير. أما العامل الأساسي الذي شكل ثقافته وشخصيته وسلوكه فهو التراث الجاهلي القبلي، فقد اتخذ على طوال حياته جانب قومه من الأزد، وتطوع للدفاع عن مصالحهم ومنافعهم وأهدافهم، فكان دائما متحيزا لهم، مفتخرا بهم، مقدما إياهم على كل القبائل، كما حث المهالبة على العمل الجاد لهدم دولة بني أمية، ولم يقف به تحيزه لهم عند التصدي لمنافسيهم من قيس وتميم فحسب، وإنما ساقه إلى التنديد بحلفائهم من بكر حين تضاربت مطامع الطرفين وتباينت، وغلا في عصبيته لهم حتى دعا المهلب بن أبي صفرة إلى قصر الوظائف عليهم، وعنف أسدا القسري حين عزله عن إدارة سمرقند. ولا يتضح تأثير التراث الاجتماعي والثقافي الجاهلي القبلي في سلوكه العملي

فحسب، بل يتضح كذلك في فنه. فشعره في أكثر موضوعاته يكاد يكون صورة عن الشعر الجاهلي، إذ يرجح فيه المعاني والألفاظ والتراكيب الجاهلية، فهو إن مدح فإنما كان يمدح بكرم النسب، ونباهة الذكر، وعظم الشأن، وبالمروءة ومقوماتها من شجاعة وجود وحماية للجار، وإغاثة للملهوف. وهو إن هجا فإنما كان يهجو بوضاعة الأصل، وخمول المنزلة، بل إنه ركز في كل أهاجيه على النسب، ورمى جميع الذين هجاهم بأنهم أدعياء لا أصلاء. وهو إن رثى فإنما كان يرثي على الطريقة القديمة، فينوح على الفقيد، ويذكر القذى والعوار، والسهر والسهم الناقع، والثريا، وليل التمام، ويقرظ الهالك تقريظا جاهليا، ويحمل رثاءه له التهديد وأخذ الثأر. وهو إن افتخر فإنما كان يفتخر ببسالته واستهانته بالحياة، وإتلافه لثروته، وبمجد قبيلته وعزتها وانتاصفها لنفسها، وعسفها بأعدائها. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن ثابت قطنة كان مثالا للشاعر الأموي الخراساني الذي استظهر الحياة الجاهلية بكل قوانينها وتقاليدها الفنية، وأنه كان متحزبا للأزد إلى أبعد حدود التحزب، دون مراعاة للوضع الاجتماعي والسياسي الجديد، أو اعتبار بأن قبيلته مثل القبائل الأخرى، وأن لها من الامتيازات ما لها، وعليها من المسئوليات ما عليها. فهمه هم فردي وقبلي. وهو يعكس في النهاية ما تضخم في خيالات الأزد وأهل اليمن من إحساس بعزهم القديم، وشرفهم التليد، ومجدهم الجاهلي الأزلي، وما انطوت عليه نفوسهم من مرارة وتبرم بحالهم في الإسلام1، وحزن على دورهم البطولي الإسلامي الذي ذهب هدرا، وكيف أنهم احتضنوا الرسول بالمدينة، ومكنوا له، وساعدوه على أعتى خصومه، ثم لم يخرجوا من المعركة السياسية بنصيب الأسد، ولا بأمير منهم، وأمير من قريش! وهو يعكس أيضا موقف الأزد وأهل اليمن بخراسان، وطموحهم السياسي، واجتهادهم ما وسعهم الاجتهاد للاستواء على عرش الإمارة والسلطان، وقلة مبالاتهم في سبيل تحقيق هذه الغاية بمصلحة الجماعة، أو بمنفعة حلفائهم، أو بطاعة الخليفة.

_ 1 حديث الأربعاء للدكتور طه حسين 1: 261.

شاعر أزدي مفتون متهور

شاعر أزدي مفتون متهور: كعب بن معدان 1: هو من الأشاقر، وهم قبيلة من الأزد، وأمه من عبد القيس. وأخباره في الشطر الأول من عمره قليلة، بل ضائعة مجهولة. ونحن نظن ظنا أنه بصري المولد والمربى، وأنه حين بلغ سن الفتيان اتصل بالمهلب بن أبي صفرة، وكافح معه الخوارج بفارس، إذ يقول أبو الفرج الأصفهاني: "إنه شاعر خطيب معدود في الشجعان من أصحاب المهلب. والمذكورين في حروبه للأزارقة"2. وعندما عين المهلب واليا على خراسان رافقه كعب، وجاهد معه الترك بما وراء النهر3. وشجر خلاف بين الأزد وحلفائهم من عبد القيس في ولاية المهلب، فاندلعت الحرب بينهم، وأوقع كل فريق منهم بالآخر خسائر وأضرارا، واشتبك شعراؤهم في معركة هجائية، فكان كعب يهجو عبد القيس، وينال منهم، وزياد الأعجم مولى عبد القيس يجيبه، وينسب إلى الأزد كل مثلبة وسوءة. ولم تزل

_ 1 انظر أخباره في الكامل للمبرد 3: 403، والاشتقاق ص: 501، وجمهرة أنساب العرب ص: 381. والأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 283، وأمالي القالي 1: 261، ومعجم الشعراء ص: 236، وسمط الآلي 1: 588، وزهر الآداب 2: 787، ولكعب بن معدان الأشقري ترجمة وافية في الجزء الرابع عشر من تاريخ دمشق المخطوط. 2 الأغاني 14: 283. 3 الطبري 8: 1079.

القبيلتان تتقاتلان، والشاعران يتناقضان، حتى فض المهلب النزاع الحربي بينهما، ودفع ديات القتلى لكل منهما، وأمر الشاعرين بالكف عن الهجاء فكفا واصطلحا، ولكن بعد أن قطع زياد عرض كعب تقطيعا، ولطخ وجوه الأزد بالمعايب تلطيخا1. ولما توفي المهلب حف كعب بأولاده، وقاتل معهم، ومدحهم، فقد شهد فتح يزيد بن المهلب لقلعة باذغيس سنة أربع وثمانين2، ومدحه، وحضر احتلال المفضل بن المهلب للقلعة مرة ثانية سنة خمس وثمانين، وسجل اكتساحه لها في مقطوعة من شعره3. وبعد أن عزل الحجاج بن يوسف المهالبة عن إدارة خراسان، وأسند حكمها لقتيبة بن مسلم، لم ينزو كعب عنه، ولم ينكب على نفسه، كثابت قطنة، وإنما قصده، وحارب الترك معه، وكأنما وجد في عهده الحافل بالمعارك ما يرضي نزعة الحرب والفروسية في نفسه، وما يشغله عن التفكير في مشكلات قبيلته، وفي أحوال المهالبة. فخاض بجانبه أكثر الوقائع التي نازل فيها الترك، إذ كان معه سنة ثلاث وتسعين، حين غزا خوارزم، وفتح عاصمتها4، وكان معه في السنة نفسها، يوم أن زحف على سمرقند وافتتحها5. وانفعل ببطولاته وانتصاراته، فخرج عن طبيعته، وخلد اجتياحه لخوارزم في مقطوعة لام فيها يزيد بن المهلب، لأنه كان وجه إليها حملة فلم يتمكن من احتلالها6. وبلغت مقطوعته ابن المهلب فغضب عليه. وما هي إلا أن يغتال قتيبة، ويقبل ابن المهلب واليا على خراسان للمرة الثانية، فإذا كعب يتوجس منه ريبة. وهنا يختلف الرواة في أخباره، فمن قائل: إنه بقي

_ 1 الأغاني 14: 287، 289. 2 الطبري 8: 1129. 3 الطبري 8: 1144. 4 الطبري 8: 1239. 5 الطبري 8: 1252. 6 الأغاني 14: 299.

بخراسان، فحبسه، ثم دس إليه ابن أخ له كان يبغضه، فقتله1. ومن قائل: إنه هرب إلى عمان، ونزل بها مدة، ثم كرهها، فأرسل إلى ابن المهلب قصيدة اعتذر له فيها، وسأله العفو عنه فلم يقبل اعتذاره، بل ظل ناقما عليه، ثم أغرى به ابن أخيه المذكور، وجعل له مالا على قتله، فضرب رأسه بفأس وهو بعمان2. والأرجح عندي أنه أقام بخراسان في ولاية ابن المهلب، فسجنه، ثم أطلق سراحه، وفي أخباره ما يشير إلى ذلك إشارة واضحة3. واستمر يقيم بخراسان بعد إقصاء عمر بن عبد العزيز لابن المهلب عنها. وأقوى برهان على ذلك أنه ضج بالشكوى من عمال الخراج بخراسان في خلافه عمر بن عبد العزيز، وبعث إليه قصيدة دعاه فيها إلى محاسبة الخونة منهم حسابا شديدا4. ثم فر إلى عمان بعد أن نمي إليه أن المهالبة يدبرون لقتله، وظل ينزل بها حتى أغرى به ابن المهلب ابن أخيه فقتله سنة اثنتين ومائة. وأكثر ما وصل إلينا من شعره يدور على مديح المهالبة، وذكر حروبهم للأزارقة بفارس، والإشادة بأصولهم العريقة التي زكتهم للنهوض بتلك المهمة، ومكنتهم من تحقيق الانتصارات العظيمة، والافتخار بأفضالهم على أهل البصرة والكوفة، لوقايتهم إياهم من عبث الأزارقة وخطرهم. ومنه هذه القصيدة الرائية يصف فيها قتال المهلب وأولاده للأزارقة بكرمان والأهواز وهي تتوالى على هذا النمط5: طربت وهاج لي ذاك ادكارا ... بكش وقد أطلت به الحصارا6 وكنت ألذ بعض العيش حتى ... كبرت وصار لي همي شعارا

_ 1 الأغاني 14: 293. 2 الأغاني 14: 292، 298. 3 الأغاني 14: 298. 4 البيان والتبيين 3: 213. 5 الأغاني 14: 282، 287، 295. 6 كش: قرية بأصبهان.

رأيت الغانيات كرهن وصلي ... وأبدين الصريمة لي جهارا1 غرضن بمجلس وكرهن وصلي ... أوان كسيت من شمط عذارا2 زرين علي حين بدا مشيبي ... وصارت ساحتي للهم دارا3 أتاني والحديث له نماء ... مقالة جائر أحفى وجارا4 سلوا أهل الأباطح من قريش ... عن العز المؤبد أين صارا5 ومن يحمي الثغور إذا استحرت ... حروب لا ينون لها غرارا6 لقومي الأزد في الغمرات أمضى ... وأوفى ذمة وأعز جارا هم قادوا الجياد على وجاها ... من الأمصار يقذفن المهارا7 بكل مفازة وبكل سهب ... بسابس لا يرون لها منارا8 إلى كرمان يحملن المنايا ... بكل ثنية يوقدن نارا9 شوازب لم يصبن الثأر حتى ... رددناها مكلمة مرارا10 ويشجرن العوالي السمر حتى ... ترى فيها عن الأسل ازورارا11 غداة تركن مصرع عبد رب ... يثرن عليه من رهج عصارا12

_ 1 الصريمة: القطيعة. 2 غرضن بمجلسي: مللنه، وضجرن منه. والشمط: بياض بالرأس يخالط سواده. والعذار: جانبا الرأس. 3 زرى عليه: عابه. 4 يقال في كلام فلان إحفاء، وذلك إذا ألصق بك ما تكره وألح في مساءتك، كما يحفى الشيء: أي ينتقض. 5 المؤبد: الخلد. 6 لا ينون لها: لا يتوانون عنها ولا يفترون. والغرار: جمع غار، وهو الغافل. 7 الوجى: الحفا. والمهار: جم مهر، وهو ولد الفرس. 8 المفازة والسهب والبسبس: كلها بمعنى الأرض الواسعة المقفرة المخوفة المهلكة. 9 الثنية: الطريق في الجبل. 10 الشوازب: الضوامر. ومكلمة: مجرحة. 11 العوالي: أسنة الرماح. والسل: الرماح المعتدلة الطويلة المستوية الدقيقة. 12 الرهج: الغبار. والعصار: الغبار الشديد.

ويوم الزحف بالأهواز ظلنا ... نروي منهم الأسل الحرارا1 فقرت أعين كانت حزينا ... ولم يك نومها إلا غرارا2 صنائعنا السوابغ والمذاكي ... ومن بالمضر يجتلب العشارا3 فهن يبحن كل حمى عزيز ... ويحمين الحقائق والذمارا4 طوالات المتون ويصن إلا ... إذا سار المهلب حيث سارا فلولا الشيخ بالمصرين ينفي ... عدوهم لقد تركوا الديارا ولكن قارع الأبطال حتى ... أصابوا الأمن واجتنبوا الفرارا إذا وهنوا وحل بهم عظيم ... يدق العظم كان لهم جبارا ومبهمة يحيد الناس عنها ... تشب الموت شد لها الإزارا شهاب تنجلي الظلماء عنه ... يرى في كل مبهمة منارا بل الرحمن جارك إذ وهنا ... بدفعك عن محارمنا اختيارا براك الله حين براك بحرا ... وفجر منك أنهارا غزارا بنوك السابقون إلى المعالي ... إذا ما أعظم الناس الخطارا5 كأنهم نجوم حول بدر ... دراري تكمل فاستدارا6 ملوك ينزلون بكل ثغر ... إذا ما الهام يوم الروع طارا7 رزان في الأمور ترى عليهم ... من الشيخ الشمائل والنجارا8

_ 1 الحرار: جمع حران، وهو العطشان. 2 الحزين: المحزونة. والغرار: القليل. 3 الصنائع: جمع صنيعة، وهي المعروف والإحسان. والسوابغ: الدروع التامة الطويلة. والمذاكي: الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان. والعشار: النوق التي مضى لحملها عشرة أشهر. 4 الذمار: ما يلزمك حفظه وحمياته. 5 الخطار: المراهنة. 6 الكوكب الدري: المضيء. 7 الهام: الرؤوس. 8 النجار: الأصل. والشمائل: جمع شمال، وهو الطبع.

نجوم يهتدى بهم إذا ما ... أخو الظلماء في الغمرات حارا والقصيدة توضح ما كان بنفس الشاعر بل بنفوس الأزد من سخط وضيق بمصيرهم بعد الإسلام، وكيف أنهم حرموا حقهم في الرئاسة1، وتفصح عن آمالهم العراض فيها. فهو معتد بالأزد أقصى الاعتداد، شامخ بالمهالبة منهم أعلى الشموخ. وهو يستند في اعتداده وشموخه إلى أساسين: الأول عزهم الجاهلي المؤثل الباقي على الدهر، والثاني مجدهم الإسلامي الأصيل النامي على مر السنين، والمتمثل في مساهمتهم القوية في القضاء على الثورات العنيفة، التي كاد أصحابها يديلون من الخلفاء الأمويين، لولا مساعدة الأزد لهم. وهو يريد الخلفاء الأمويين القرشيين أن يعترفوا بمكانة الأزد وعظمتهم، ويريدهم أن يردوا إليهم نصيبهم في الحكم. وهو لذلك لا يكاثر القبائل التي ليس لها حظ كبير في الملك، وإنما يختار القرشيين على وجه التخصيص، ويطاولهم ويستعلي عليهم. فهم الذين يستأثر الأمويون منهم بالخلافة، وهم الذين كان للأزد وأهل اليمن دور في تأييدهم وتعضيدهم في أول عهد الإسلام، وهم الذي تنكروا لمن ساعدهم وجحدوهم حقهم. وهم الآن عاجزون عن حماية أنفسهم من الخارجين عليهم، مقصرون عن توفير الأمن والاستقرار في الأمصار التي تغلي بالثورة عليهم، فعادوا إلى التماس العون من الأزد، فسارعوا إلى دعمهم، وثبتوا سلطانهم. وهو لا يريد أن تتكرر المأساة من جديد، ولا أن يغمط الأزد حظهم في المشاركة الفعلية في الزعامة. وبعد أن فتك المهلب بالأزارقة فتكا ذريعا، أرسل كعبا إلى الحجاج بن يوسف، ليقدم إليه تقريرا عن سير العمليات ونتائجها، ويزف إليه بشرى انتصاره الساحق في كل عملية منها. فإذا هو لا يقدم إليه تقريرا موجزا في مقطوعة، بل ينشد بين يديه قصيدة مطولة تبلغ ثلاثة وثمانين بيتا، وتكاد تكون ملحمة قصيرة. لسرده فيها سردا قصصيا حماسيا وقائع المهلب مع الأزارقة، وهو يقول فيها بعد المقدمة الغزلية ومديح الحجاج، واصفا حال الناس بالبصرة، واستخفافهم بأمر الأزارقة، حتى تكاثفوا وتعاظم خطرهم، فاختبأ الرجال في منازلهم، وأحجموا عن

_ 1 حديث الأربعاء 1: 261.

قتالهم، وأصبحوا كالنساء يرتجفون رعبا ورهبا. حتى إذا هب المهلب لنضالهم، لبت قبيلته نداءه، وخرجت في كتائب جرارة لمكافحتهم1: واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ... فما لأمرهم ورد ولا صدر وما تجاوز باب الجسر من أحد ... وعضت الحرب أهل المصر فانجحروا وأدخل الخوف أجواف البيوت على ... مثل النساء رجال ما بهم غير واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا ... أمر تشمر في أمثاله الأزر نظل من دون خفض معصمين بهم ... فشمر الشيخ لما أعظم الخطر كنا نهون قبل اليوم شأنهم ... حتى تفاقم أمر كان يحتقر لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ... واستنفر الناس مرات فما نفروا نادى امرء لا خلاف في عشيرته ... عنه وليس به في مثله قصر تلبسوا لقراع الحرب بزتها ... فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا ساروا بألوية للمجد قد رفعت ... وتحتهن ليوث في الوغى وقر ومضى يفصل في منازلة المهلب والأزد للأزارقة في رام هرمز، وسابور، وكازرون، ودشت بارين، وجييرين، وكرمان، وما تكبده الفريقان من الضحايا، حتى نفاهم المهلب عن كل تلك الأماكن نفيا، وخسفهم بها خسفا: تأتي علينا حزازات النفوس فما ... نبقي، عليهم وما يبقون إن قدروا ولا يقبلوننا في الحرب عثرتنا ... ولا نقيلهم يوما إذا عثروا ولا عذر يقبل منا دون أنفسنا ... ولا لهم عندنا عذر إذا اعتذروا صفان بالقاع كالطودين بينهما ... كالبرق يلمع حتى يشخص البصر2

_ 1 الطبري 8: 1007- 1017، وانظر مقتطفات من القصية في الأغاني 14: 284، وسمط الآلي1: 589. 2 شخص البصر، سما وارتفع وطمح.

على بصائر كل غير تاركها ... كلا الفريقين تتلى فيهم السور يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا ... مشي الزوامل تهدي صفهم زمر1 وشيخنا حوله منا ململمة ... حي من الأزد فيما نابهم صبر2 من موطن يقطع الأبطال منظره ... تشاط فيه نفوس حين تبتكر ما زال منا رجال ثم تضربهم ... بالمشرفي ونار الحرب تستعر وباد كل سلاح يستعان به ... في حومة الموت إلا الصارم الذكر ندوسهم بعناجيج مجففة ... وبيننا ثم من صم القنا كسر3 يغشين قتلى وعقري ما بها رمق ... كأنما فوقها الجادي يعتصر4 قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها ... تشفي صدور رجال طال ما وتروا مجاورين بها خيلا معقرة ... للطير فيها وفي أجسادهم جزر5 في معرك تحسب القتلى بساحته ... أعجاز نخلٍ زفته الريح ينعقر6 وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت ... قد كان للأزد فيها الحمد والظفر وفي كل يوم تلاقي الأزد مفظعة ... يشيب في ساعة من هولها الشعر والأزد قومي خيار الناس قد علموا ... إذا قرومهم يوم الوغى خطروا7 فيهم معاقل من عز يلاذ بها ... يوما إذا شمرت حرب لها درر8 حي بأسيافهم يبغون مجدهم ... إن المكارم في المكروه تبتدر9

_ 1 الأبدان: الدروع. والزوامل: جمع زاملة، وهو البعير يحمل المتاع والطعام. 2 الململة: الكتيبة المجتمعة. 3 العناجيج: جمع عنجوج، وهو من الخيل الجواد الطويل العنق. والمجففة من الخيل: التي عليها التجفاف وهو ما يجلل به الفرس من السلاح وآلة تقيه الجراح. 4 الجادي: الزعفران. 5 المعقرة: المجرحة المصروعة. والجزر: اللحم الذي تأكله السباع والطير. 6 زفته: رفعته. وتنعقر: تنقلع من أصلها. 7 القروم: جمع قرم، وهو السيد المعظم. وخطروا: خرجوا للحرب نشيطين معجبين بأنفسهم. 8 الدر: جمع درة، وهي في الأمطار أن يتبع بعضها بعضا. 9 تبتدر: تسرع.

لولا المهلب للجيش الذي وردوا ... أنهار كرمان بعد الله ما صدروا إنا اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا ... بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا ... دينا يخالف ما جاءت به النذر فعقدة العز اليمني الجاهلي التالد، والمجد الأزدي الإسلامي الصاعد، لا تزال تؤرقه فتدفعه دفعا بعد وصفه الحي الرائع لمعارك المهلب مع الأزارقة إلى اختتام قصيدته بالزهو والعجب بحسب الأزد، وأفعالهم الكريمة، وجانبهم المنيع، وسعيهم المتصل إلى المعالي، تنفيسا عما يتعمقه من الشعور بحقهم الضائع في تزعم العرب، مع ما يبذلونه من التضحيات، وما يسجلونه من الانتصارات، التي تحفظ للأمويين عروشهم في الأزمات. وهو لذلك لا يكتفي بالتغني بهموم قومه السياسية، بل يفاخر بالأزد كافة القبائل العربية ويطاولها، ويصدر في النهاية حكمه بتفضيلهم عليها، جاعلا المهلب عنوانا لعزهم الحديث المؤكد، ورمزا لمجدهم الخالد المتجدد. وله يمدح المهلب مصورا ما حققه لأهل البصرة والكوفة من أمن واطمئنان، وما أغدقه عليهم من العطاء، دون تمييز بين قبائلهم، يقول1: شفيت صدورا بالعراقين بعدما ... تجاوب فيها النائحات الصوادح مددت الندى والجود للناس كلهم ... فهم شرع فيه صديق وكاشح2 ويقول في مديح يزيد بن المهلب، وقد احتل قلعة باذغيس3: ثنائي على حي العتيك بأنها ... كرام مقاريها، كرام نصابها4 إذا عقدوا للجار حل بنجوة ... عزيز مراقيها منيع هضابها5

_ 1 معجم الشعراء ص: 236. 2 شرع فيه: داخلون فيه، شاربون منه. 3 الطبري 8: 1130، وابن الأثير 4: 499. 4 المقاري: القدور والجفان التي يقرى فيها الأضياف. والنصاب: الأصل. 5 النجوة: المكان المرتفع لا يعلوه السيل.

نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك ... بمنزلة أعيا الملوك اغتصابها محلقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زل عنها سحابها ولا يبلغ الأروى شماريخها العلى ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها1 وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحث إلا النجوم كلابها تمنيت أن ألقى العتيك ذوي النهى ... مسلطة تحمى بملك ركابها كما يتمنى صاحب الحرث عطشت ... مزارعه غيثا غزيرا ربابها2 فأسقي بعد اليأس حتى تحيرت ... جداولها ريا وعب عبابها3 لقد جمع الله النوى وتشعبت ... شعوب من الأفاق شتى مآبها ويقول المرزباني: "إنه استفرغ شعره في مدح المهلب وولده"4. ولعله وثابت قطنة، اقتصرا عن عمد ووعي على مديح المهالبة، ليضخما شخصياتهم، ويغلباها على شخصية أي مسؤول في الدولة الأموية، مهما يكن مركزه، وأيا كان منصبه. وإلا فما معنى صمتهما عن نظم بيت واحد يذكران فيه الخلفاء الأمويين؟ وما معنى عزوفهم عن التنويه بأعمال الولاة القيسيين بخراسان، إلا ما كان من مديح كعب لقتيبة بن مسلم بمقطوعتين، ينازعه في مقطوعة منهما شاعر آخر؟ وعلى نحو ما ناضل ثابت قطنة في قسم كبير من أهاجيه عن الأزد والمهالبة، ناضل كعب أيضا في كثير من أهاجيه عنهم. فقد كان لا يهتضم المساس بهم، ولا التشكك في مقدرتهم الحربية، ولا النقد والتوجيه لهم حتى من المشرفين عليهم. ففي أثناء محاربة المهلب للأزارقة، كتب إليه الحجاج يأمره بمناجزتهم، ويستبطئه، ويضعفه ويعجزه في تأخيره أمرهم ومطاولتهم. فرد عليه المهلب بأنه المسؤول عن كل ما يفعل، وأنه يدبر أمر الحرب كما يرى، فإن أمكنته الفرصة انتهزها، وإن لم تمكنه

_ 1 الأروى: اسم جمع للذكر والأنثى من الوعول. والشماريخ: رؤوس الجبال. 2 الرباب: السحاب المتعلق الذي تراه دون السحاب. 3 تحيرت: امتلأت. وعب: كثر وارتفع. والعباب: معظم الماء وكثرته. 4 معجم الشعراء ص: 236.

توقف. فاستلهم كعب إجابة المهلب له، وراح يسخف رأيه ويرميه بأنه لا يحسن القتال، وينصحه في كثير من السخرية بالعكوف على ملاهيه وجواريه، فتلك صناعته التي يبرع فيها. يقول1: إن ابن يوسف غره من غزوكم ... خفض المقام بجانب الأمصار لو شاهد الصفين حين تلاقيا ... ضاقت عليه رحيبة الأقطار من أرض سابور الجنود وخيلنا ... مثل القداح بريتها بشفار2 من كل خنذيذ يرى بلبانه ... وقع الظباة مع القنا الخطار3 ورأى معاودة الرباع غنيمة ... أزمان كان محالف الإقتار4 فدع الحروب لشيبها وشبابها ... وعليك كل خريدة معطار5 وكما هجا ثابت قطنة بكرا، وأخذ عليها أنها لا تؤازر حلفاءها مع الأزد في الأزمات، وإنما تطالبهم بالحقوق والامتيازات، وتستغيث بهم في النازلات، كذلك هجا كعب عبد القيس بكرا، وشكا من أنهما لا تغنيان في النائبات. وفي القبيلة الأولى يقول، وقد اختلفت مع الأزد وحاربتهم في ولاية المهلب6: ثوى عامين في الجيف اللواتي ... مطرحة على باب الفصيل7 أحب إلي من ظل وكن ... لعبد القيس في أصل الفسيل8

_ 1 الأغاني 14: 291. 2 القداح: السهام، تشبه بها الخيل في الضمور. والشفار: جمع شفرة، وهي السكين العريضة العظيمة المحددة. 3 الخنذيذ من الخيل: الجواد الطويل. واللبان: الصدر. والظباة: جمع ظبة، وهي حد السيف. والقنا الخطار: الرماح شديدة الاهتزاز لرقتها. 4 الرباع: جمع ربع، وهو ربع الغنيمة يأخذه الرئيس في الغزو دون أصحابه. 5 المعطار: التي اعتادت أن تتعهد نفسها بالطيب، وتكثر منه. 6 الأغاني 14: 289. 7 الثواء: الإقامة الطويلة، والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه. 8 الكن: الستر. والفسيل: جمع فسيلة، وهي النخلة الصغيرة.

إذا ثار الفساء بهم تغنوا ... ألم تربع على الدمن المثول تظل لها ضبابات علينا ... موانع من مبيت أو مقيل أرأيت إلى تهكمه بالعبديين حلفاء قومه؟ إنه يؤثر أن يقيم بين الجيف المتعفنة، على أن يقيم بين مزارع نخيلهم، توقيا من فسائهم الكثيف، وروائحه الكريهة التي تطرد الطارق لهم، والوافد عليهم طردا، فلا يأمل في الاستراحة وقت الهاجرة عندهم، ولا يرجو قضاء ليلة بينهم! بل إنه شكا تقاعس بعض العشائر اليمنية، وتذمر من أنها أصبحت عبئا يثقل كاهل الأزد، وحث يزيد بن المهلب على الاستغناء عنها، وعلى اسقاط عبد القيس معها، وفي ذلك يقول1: لا ترجون هنائيا لصالحة ... واجعلهم وهدادا أسوة الحمر2 حيان ما لهما في الأزد مأثرة ... غير النواكة والإفراط في الهذر3 واجعل لكيزا وراء الناس كلهم ... أهل الفساء وأهل النتن والقذر قوم علينا ضباب من فسائهم ... حتى ترانا له ميدا من السكر4 أبلغ يزيدا بأنا ليس ينفعنا ... عيش رغيد ولا شيء من العطر حتى تحل لكيزا فوق مدرجة ... من الرياح على الأحياء من مضر5 ليأخذوا لنزار خط سبتها ... كما أخذنا بخط الحلف والصهر ويقول في بكر موبخا لرجالها الذين يقبلون سيادة أغنيائهم عليهم، لا أهل

_ 1 الأغاني 14: 290. 2 هناء: حي من طيء: وهداد: حي من اليمن. 3 النواكة: الحمق. والهذر: سقط الكلام. 4 الميد: جمع مائد، وهو المترنح من السكر. 5 لكيز: حي من عبد القيس، والمدرجة: الطريق.

الحمية والحفيظة فيهم، فإذا هم يجبرونهم على الاستكانة للظلم، واستساغة الضيم1: لقد خاب أقوام سروا ظلم الدجى ... يؤمون عمرا ذا الشعير وذا البر يؤمون من نال الغنى بعد شيبة ... وقاسى وليدا ما يقاسي ذوو الفقر فقل للجيم يا لبكر بن وائل ... مقالة من يلحى أخاه ومن يزري2 فلو كنتم حيا صميما نفيتم ... بخيلكم بالرغم منه وبالصغر3 ولكنكم يا آل بكر بن وائل ... يسودكم من كان في المال ذا وفر هو المانع الكلب النباح وضيفه ... خميص الحشا يرعى النجوم التي تسري4 ومثلما حرض ثابت قطنة المهلب بن أبي صفرة على حجر المناصب الإدارية الرفيعة والتافهة للأزد، وعنفه حين رآه يوظف بعض الموالي في مركز صغير، وهاج حين أعفاه أسد القسري من حكم سمرقند، ولامه، فإننا نرى كعبا يسلك سلوكه. وآية ذلك أنه عذل عمرو بن عمير اليحمدي، وهو شيخ من شيوخ الأزد، لأنه رضي بمنصب متواضع أسنده إليه يزيد بن المهلب، وهو إدارة بلدة الزم على شط جيحون، وشجعه على المطالبة بمنصب أرفع يليق بمقامه، لأنه ليس أقل من شيوخ بني ربيعة الذين كانوا يشغلون أكبر المراكز، ولم يزل يهيجه حتى رد عهد يزيد عليه، فحرمه الوظيفة سنة. يقول5: لقد فازت ربيعة بالمعالي ... وفاز اليحمدي بعهد زم فإن تك راضيا منهم بهذا ... فزادك ربنا غما بغم

_ 1 الأغاني 14: 297. 2 زرى عليه: عابه. 3 الصغر: الذل. 4 خميص الحشا: ضامر البطن. 5 الأغاني 14: 294.

إذا الأزدي وضح عارضاه ... وكانت أمه من حي جرم1 فثم حماقة لا شك فيها ... مقابلة فمن خال وعم2 ويقول مخاطبا عمر بن عبد العزيز ومنددا بموظفي الخراج والجزية بخراسان في خلافته، تنديدا قصد منه دون ريب إلى مهاجمته مباشرة، لأنه اتهم يزيد بن المهلب بسرقة المبالغ الطائلة من بيت المال بخراسان، وأعفاه من ولاتها، وسجنه3: إن كنت تحفظ ما يليك فإنما ... عمال أرضك بالبلاد ذئاب لن يستجيبوا للذي تدعو له ... حتى تجلد بالسيوف رقاب بأكف منصلتين أهل بصائر ... في وقعهن مزاجر وعقاب والهجاء في المقطوعات السالفة هجاء قبلي سياسي، إذ الهدف منه الذب عن الأزد، ونقض تخرصات خصومهم التي عابوا بها زعماءهم. والهدف منه أيضا المحافظة على مصالح الأزد والدعوة إلى احتجاز كل فائدة وسلطة لهم، والمناداة بإعادة النظر في سياستهم لحلفائهم، والبحث عن أسلوب جديد في معاملتهم، يلائم موقف كل حليف منهم ويعادله ويكافئه. وليس في شعره من الهجاء الذاتي إلا بيتان، قالهما يذم ابن أخيه الذي كان بينه وبينه عداوة وتباعد، والذي قتله فيما بعد بالتواطؤ مع المهالبة. وهو يعيره فيهما بأنه ابن أمة سوداء، وأنه ورث الخبث من أخواله4: إن السواد الذي سربلت تعرفه ... ميراث جدك عن آبائه النوب5 أشبهت خالك خال اللؤم مؤتسيا ... بهدية سالكا في شر أسلوب

_ 1 وضح عارضاه: شاب جانبا وجهه. 2 مقابلة: أي من كلا طرفيها، من الأب والأم. 3 البيان والتبيين 3: 213. 4 الأغاني 14: 298. 5 النوب: جمع نوبي، وهم سكان بلاد النوبة جنوبي مصر.

ومع تهوره في تحيزه للأزد، ولجاجته في التمدح بل التبجح بهم، فإنه لم يتجاهل بني تميم، ولم يقلل من مكانتهم وقيمتهم، فقد كانوا أضخم كتلة عربية بخراسان، وكانوا يخلصون في قتالهم الترك مع جميع الولاة، في كل الغزوات، ويصدقون في دفاعهم عن العرب في الضائقات، وكان هو يبصر بعينيه حفاظهم الصلب، وجهادهم العنيد عن العرب أيا ما كانت قبائلهم وأهواءهم، فأرغمته حقيقتهم وأفعالهم على الإقرار بضخامتهم وشجاعتهم، خاصة يوم أن أسرعوا لإغاثة العرب المحاصرين بقصر الباهلي من أعمال بسمرقند، ونجحوا في فك الطوق الذي ضربه الترك عليهم، وتمكنوا من تحريرهم. وفي عظمتهم وبطولتهم يقول معترفا معجبا1: أتاك أتاك الغوث في برق عارض ... دروع وبيض حشوهن تميم2 أبوا أن يضموا حشو ما تجمع القرى ... فضمهم يوم اللقاء صميم ورزقهم من رائحات يزينها ... ضروع عريضات الخواصر كوم3 ولكنه عاد فحقد عليهم، لانتقاصهم المهالبة عند قتيبة بن مسلم، كما فرح بنكبة قتيبة لهم لأنهم أثاروا عليه الجند، وحملوهم على سوء الطاعة له، فاستأذن الحجاج في قتلهم، ثم قطع رؤوسهم. وراح يذكرهم بحسن معاملة المهالبة لهم، وكيف أنهم استشفعوا لهم عند الحجاج، واستوهبوا دماءهم منه، يوم أن كتب إلى المفضل ويزيد ابني المهلب بإعدامهم. وفي رعاية المهالبة لهم، وفتك قتيبة بهم يقول4: قل للأهاتم من يعود بفضله ... بعد المفضل والأغر يزيد ردا صحائف حتفكم بمعاذر ... رجعت أشائم طيركم بسعود ردا على الحجاج فيكم أمره ... فجزيتم إحسانه بجحود

_ 1 الطبري 7: 493. 2 العارض: الجيش الذي يسد الأفق لكثرته. 3 الكوم: جمع كوماء، وهي الناقة الضخمة السنام. 4 الأغاني 14: 293.

فاليوم فاعتبروا فعال أخيكم ... إن القياس لجاهل ورشيد ونظم بأخرة من عمره مقطوعات صور فيها آلامه النفسية، وهمومه الذاتية، وما جلبه عليه ذمه للمهالبة في ولاية قتيبة بن مسلم من خوف وتشرد وانكسار، وضياع وافتقار. وفي إحداها يقول واصفا عزمه على الرحيل من مرو الشاهجان إلى عمان، للاختفاء بها، فرارا من ابن المهلب، وهربا من كيده، ونجاة من غدره، وإفلاتا من عقابه1: وإني تارك مروا ورائي ... إلى الطبسين معتام عمانا2 لآوي معقلا فيها وحرزا ... فكنا أهل ثروتها زمانا وفي مقطوعة ثانية يقول معبرا عن سوء حاله بعمان، ومكفرا عما ارتكبه من جرم شنيع بتشويهه سيرة المهالبة، معلنا أن قتيبة هو الذي خدعه وغرر به، فعابهم وثلبهم، بعد انقطاعه إليهم بخمسين عاما، يدعو لهم، ويثني عليهم، وطالبا العفو منهم، حتى يعود إليهم، ويستأنف حياته بجوارهم3: بئس التبدل من مرو وساكنها ... أرض عمان وسكنى تحت أطواد يضحي السحاب مطيرا دون منصفها ... كأن أجبالها علت بفرصاد4 يا لهف نفسي على أمر خطلت به ... وما شفيت به غمري وأحقادي5 أفنيت خمسين عاما في مديحكم ... ثم اغتررت بقول الظالم العادي أبلغ يزيد قرين الجود مألكة ... بأن كعبا أسير بين أصفاد فإن عفوت فبيت الجود بيتكم ... والدهر طوران من غي وإرشاد وإن مننت بصفح أو سمحت به ... نزعت نحوك أطنابي وأوتادي

_ 1 الأغاني 14: 292. 2 اعتام: اختار. 3 الأغاني 14: 292. 4 المنصف: الوسط من كل شيء. وعلت: سقيت مرة بعد مرة. والفرصاد: صبغ أحمر. 5 خطل: تسرع. والغمر: الحقد والغل.

وفي مقطوعة ثالثة يشكو ويبكي لغربته وبؤسه، فقد بلغ من العمر عتيا، واصطلحت عليه الأسقام والأدواء، فأصبح يعاني همين: اعتلال صحته، وفناء ثروته، واحتاج وأملق، وأخذ يترقب الموت بين لحظة وأخرى، يقول1: يا قوم غيرني وأذهب قوتي ... دهر ألح بطارفي وتلادي2 فكأنما في المال نار باشرت ... حرثا قد آذن أهله بحصاد كبر ووقع حوادث نزلت بنا ... والفقر بعد كرامة ومهاد3 تغتال كل مؤجل أيامه ... وتصير بهجة ما ترى لنفاد فشخصية كعب -كما توضحها أشعاره- شخصية متعصبة للأزد، ولا سبيل إلى التفريق بينه وبين ثابت قطنة، ولا إلى القول بأنه كان أقل منه حقدا، ولا أصفى نفسا. بل لقد كان كعب أشد ميلا للأزد، وأكثر إحساسا بحقيقتهم ومجدهم المخلد، وأحد استشعارا لدورهم الإسلامي المهمل، وأكثر اعتزازا بالسادة فيهم، والقادة منهم، وأبين إبانة عما احتبسوه في ضمائرهم من المطامع السياسية، وأدل دلالة على ما اعتصر نفوسهم من التغيظ والتذمر بوضعهم في الدولة الأموية، حتى إنه كاثر الخلفاء الأمويين، وأهل الأباطح القرشيين بما تكلفه الأزد من الأعباء في سبيل الذود عنهم، وقمع الثائرين بهم، وتنفخ على القبائل العربية في البصرة والكوفة بحماية الأزد لها، ووثوبهم وحدهم لإبعاد خطر الأزارقة عنها. وكان يمكن أن نذهب إلى أن انحيازه للأزد، واغتراره بهم، ومفاخرته الخلفاء والقبائل العربية كانت جميعا من نزوات الشباب، وأنه أسرف فيها، وهو يصارع الأزارقة مع المهلب في عنفوان صباه لو أنه تخفف من حميته لقومه بخراسان. غير أنه استمر يتحزب لهم، حينا يذم البكريين والعبديين، وحينا ينتقد المهالبة ويدعوهم إلى الاقتصار في الوظائف على الأزد، ويستشيط غضبا لتقلد البكريين بعض المناصب

_ 1 حماسة البحتري ص: 152. 2 الطارف: المال المستحدث. والتلاد: المال الموروث. 3 المهاد: الفراش الوثير الناعم.

الكبيرة. أما مديحه لقتيبة بن مسلم، واستحسانه لفتوحاته، وتقديمه إياه على المهالبة، فكانت من أخطائه القبيحة التي انحرف إليها، وسقط فيها، لتضليل قتيبة له، وتغريره به، كما صرح هو بذلك في شعره. أما من الناحية الفنية فهو يتفوق على ثابت قطنة تفوقا كبيرا، فبعض قصائده أطول وأجود، واحتذاؤه فيها على التقاليد أظهر وأتم، فقد كانت عنده القدرة على الاستفاضة في الوصف والمديح، والوقوع فيهما على المعاني الطريفة، والصور اللطيفة، وقصيدتاه الرائيتان اللتان مدح بهما المهلب وبنيه، ونقل فيهما معاركهم مع الأزارق خير شاهد على ذلك. وقد أعجب عبد الملك بن مروان1، وأبو جعفر المنصور بقصيدته الرائية الأولى إعجابا شديدا، وسألا الشعراء أن يمدحوهما بمثلها1، واعتده الفرزدق أنبغ الشعراء الذين أنجبهم الأزد، وأخرجتهم عمان3، وجعله نظيرا له ولجرير والأخطل4.

_ 1 الأغاني 14: 283. 2 معجم الشعراء ص: 236. 3 الأغاني 14: 283. 4 الأغاني 14: 283.

شاعر بكري مضطرب متحزب

شاعر بكري مضطرب متحزب: نهار بن توسعة 1: هو أشعر بكر بخراسان، ولسنا نعلم شيئا عنه قبل ارتحاله إلى خراسان. ولكننا نفترض افتراضا أنه بصري المولد والمنشأ. وأول خبر بنيء بوجوده بخراسان يرجع إلى سنة اثنتين وثمانين، فقد توفي المهلب في هذه السنة، فرثاه بمقطوعة طارت في الآفاق، وتناقلها أكثر القدماء1، مما قد يستنتج منه أنه هاجر إلى خراسان في ولاية المهلب أو قبلها بقليل. ولم يخبرنا القدماء بشيء عنه في إمارة المفضل بن المهلب، ولا في إمارة أخيه يزيد. غير أنهم نقلوا بعضا من شعره يدل على ضيقه بصرف الحجاج بن يوسف المهالبة عن خراسان، وتعيينه قتيبة بن مسلم عليها، وأنه تشاءم بعهده وهجاه3. وليس صحيحا ما يزعمه أبو علي القالي من أن قتيبة سخط عليه لرثائه المهلب، وأنه دخل عليه وهو يعطي الناس العطاء، فراجعه ثم تحاماه وأسقط اسمه من ديوان

_ 1 انظر أخباره في الشعر والشعراء 1: 537، والمؤتلف والمختلف ص: 296، وأمالي القالي 2: 194، وجمهرة أنساب العرب ص: 315، وسمط الآلي 2: 817، ولنهار بن توسعة البكري ترجمة ضافية في الجزء السابع عشر من تاريخ دمشق المخطوط. 2 الطبري 8: 1084، وأمالي القالي 2: 192، وابن الأثير 4: 476، وياقوت 4: 506 وابن خلكان 4: 435. 3 الشعر والشعراء 1: 537، وفتوح البلدان ص: 402، والمؤتلف والمختلف ص: 296، وسمط الآلي ص: 817، وياقوت 1: 843.

الجند، فلزم بيته حتى قتل قتيبة، وولي يزيد بن المهلب ولايته الثانية1، وإنما الصحيح أنه وجد عليه عند قدومه لندبه المهلب، وتعريضه به، وتطير منه، فطلبه فهرب، واستجار بأمه، فترضت له ابنها، فرضي عنه2. وأصدق دليل على ذلك أنه كان في عداد جيشه، وأنه ساهم في معظم غزواته، إذ كان معه يوم أن أغار على بخارى سنة تسع وثمانين3، وكان معه عندما سار إلى طخارستان وقتل نيزك طرخان سنة إحدى وتسعين4. وكان معه كذلك حين فتح سمرقند سنة ثلاث وتسعين5. وكان في كل غزوة من تلك الغزوات يقلده مدحة يكبر فيها عظمته، ويصور بها بطولته. وعندما غدر بقتيبة، وعاد يزيد بن المهلب إلى حكم خراسان، أحاط نهار به، ولكنه يقبل منه تسفيهه للأزد، لما انطوى عليه من تسفيه لبكر، ولم يحتمل خيلاءه وصلفه، ولم يعجب بسياسته وما قامت عليه من تقريب لأهل الشام، واتكال على أهل خراسان، فتصدى له ينقده ويهجوه6. ويستفاد من أشعاره أنه كان مهملا قاعدا في ولاية سعيد بن عبد العزيز الأموي، ولذلك فإنه عبر عن اغتباطه بعزل عمر بن هبيرة الفزاري له، واستعماله سعيد بن عمرو الحرشي بدلا منه7. وتقل أخباره في الفترة الأخيرة من حياته، ولا يحمل القدماء منها إلا أطرافا يسيرة، منها أنه شهد مع الجنيد ابن عبد الرحمن المري موقعة الشعب بسمرقند سنة

_ 1 أمالي القالي 2: 194. 2 الشعر والشعراء 1: 538، وسمط الآلي 2: 817. 3 الطبري 8: 1198. 4 الطبري 8: 1226. 5 الطبري 8: 1251. 6 نقائض جرير والفرزدق 1: 368، والطبري 9: 1313. 7 الطبري 9: 1437.

اثنتي عشرة ومائة، وأن الجنيد أرسله على رأس وفد إلى هشام بن عبد الملك بدمشق، ليشرح له حقيقة المعركة، وطبيعة الوضع بخراسان1. ويبدو أنه مكث بدمشق زمنا، ثم رجع إلى خراسان، إذ نراه مع أسد القسري ببلخ سنة عشرين ومائة2. ثم تنقطع أخباره مما يستنبط منه أنه توفي بعد هذا التاريخ. وما بقي من شعره الذي كان مجموعا في ديوان مفرد3 مقطوعات ومختارات موزعة على عدة موضوعات. فمنه ما استغرقه في المديح، ومن ممدوحيه مسمع بن مالك بن مسمع من وجوه بكر وأعيانهم بالبصرة4 وفيه يقول واصفا له بأنه عصمة السائلين، وغياث المكروبين، وأنه صفوة النزاريين، وأشهر أجوادهم وأشرافهم المذكورين، وداعيا إياه أن يأخذ بأيدي البكريين5: إظعني من هراة قد مر فيها ... حجج مذ سكنتها وشهور إظعني نحو مسمع تجديه ... نعم ذو المنثنى6 ونعم المزور سوف يكفيك إن نبت بك أرض ... بخراسان أو جفاك أمير من بني الحصن عامل بن بريح ... لا قليل الندى ولا منزور والذي يفزع الكماة إليه ... حين تدمى من الطعان النحور7 قلدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تهلك السراة البحور1 فاصطنع يا بن مالك آل بكر ... واجبر العظم إنه مكسور

_ 1 الطبري 9: 1544. 2 الطبري 7: 1638. 3 المؤتلف والمختلف ص: 296. 4 جمهرة أنساب العرب ص: 320، والطبري 8: 882، 1125. 5 الأغاني "طبعة دار الكتب" 16: 19، وخزانة الأدب 2: 485. 6 المثنى: الرجل الذي ينثني عنه قاصده بخير كثير. وفي خزانة الأدب: المنتأى، وهو المكان البعيد. 7 الكماة: جمع كمي، وهو الشجاع المقدام الجريء الذي لا يحيد عن قرنه، ولا يروغ عن شيء كان عليه سلاح أو لم يكن. 8 السراة: جمع سري، وهو الشريف.

ومنهم قتيبة بن مسلم، وفيه يقول مسحورا بشخصيته الجبارة، وانتصاره على الترك بسمرقند، ومأخوذا بكثرة ما يحوز من الأسلاب التي كان يوزعها على جنوده1: ولا كان مذ كنا ولا كان قبلنا ... ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم أعم لأهل الشرك قتلا بسيفه ... وأكثر فينا مقسما بعد مقسم ومنهم يزيد بن المهلب، وفيه يقول منوها بمعروف أبيه الذي كان يشمل به كل المستضعفين واليتامى، ومستعيضا عن بخل قتيبة وحفائه بيزيد وابنه مخلد، فإنهما كافياه ومغنياه2: فإن يك ذنبي يا قتيبة انني ... بكيت امرءا قد كان في الجود أوحدا أبا كل مظلوم ومن لا أبا له ... وغيث مغيبات أطلن التلددا3 فشأنك أن الله إن سؤت محسن ... إلي فقد أبقى يزيد ومخلدا فأعطاه مائة ألف درهم. ومن شعره ما خصصه للهجاء. وهو يصدر فيه عن عصبية لقومه ولحلفائهم من الأزد، وذلك بين في هجائه لقتيبة بن مسلم، إذ يقول فيه وقد أقبل إلى خراسان، وزايلها يزيد بن المهلب4:\

_ 1 الشعر والشعراء 1: 538، والتعازي والمراثي ص: 136، والطبري 8: 1251، وأمالي القالي 2: 194، وابن الأثير 4: 575، وابن خلكان 4: 87. 2 التعازي والمراثي ص: 136، وأمالي القالي 2: 199. 3 المغيبات: جمع مغيب ومغيبة، وهي المرأة التي غاب عنها زوجها أو أحد من أهلها وفي الأصل مغيثات. والتلدد: من تلدد إذا تلف يمينا وشمالا، وتحير متلبدا. 4 الشعر والشعراء 1: 537، وسمط الآلي 2: 817، ويقال: إن هذا البيت من أبيات لعبد الله بن همام السلولي. "انظر اللسان 6: 291، ومجموعة المعاني ص: 171". والأرجح أنه لنهار بن توسعة، لأن عبد الله بن همام السلولي لم يرحل إلى خراسان، ولأنه من قيس فلا يحتمل أن يهجو قتيبة بن مسلم الباهلي القيسي.

أقتيب قد قلنا غداة لقيتنا ... بدل لعمرك من يزيد أعور1 ويقول مستهينا به، ومفضلا أيام ابن المهلب على أيامه في يمنها وبركتها وعموم خيرها2: كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوح فبدلت بعده قتبا نطيف به ... كأنما وجهه بالخل منضوح3 فهو يعيب قتيبة بعد مصرعه، ويطري المهالبة، زعماء الأزد، لأنهم حلفاء بكر، غير أنه لم يكن يتعصب لهم باستمرار، وإنما كان يميل إليهم، ويثني عليهم ما داموا يتمسكون بالحلف المعقود بينهم، ويحترمونه، وما داموا يخلصون لقومه، ويراعون مصالحهم، أما إذا تباعدوا عنهم، أو أهدروا حقوقهم، فكان ينبري لتجريحهم وتهديدهم، فقبيلته هي الأصل، ومنافعها هي الأهم. فحين أخر يزيد بن المهلب البكريين بعض التأخير، وعرض بهم أخف التعريض، صب نهار عليه ألذع هجائه صبا4. وحين أسرف في قطيعتهم، واحتجب عنهم، وعبس في وجوههم، واصطنع أهل الشام وخراسان واعتمد عليهم، لم يعاتبه عتابا رقيقا، ولم يلمه لوما لبيقا، بل وبخه توبيخا فاحشا، كما أنذره بتمرد البكريين عليه، وعملهم من أجل الإطاحة به إذا هو لم يطرح الشاميين والخراسانيين، يقول5: وما كنا نؤمل من أمير ... كما كنا نؤمل من يزيد فأخطأ ظننا فيه وقدما ... زهدنا في معاشرة الزهيد

_ 1 بدل أعور: مثل يضرب للمذموم يخلف بعد الرجل المحمود. 2 الشعر والشعراء 1: 537، وفتوح البلدان ص: 402، والعقد الفريد 2: 146، والمؤتلف والمختلف ص: 296، وسمط الآلي 2: 817، وياقوت 1: 834. 3 ينسب بعض الرواة البيتين مع ثلاثة أبيات أخرى إلى مالك بن الريب "انظر فتوح البلدان ص: 402، وياقوت 1: 843" والأرجح أن البيتين الأولين لنهار بن توسعة لأن مالكا لم يشهد عهد قتيبة بن مسلم، فقد توفي سنة ثمان وخسمين. 4 نقائض جرير والفرزدق 1: 368. 5 الطبري 9: 1313، وابن الأثير 5: 25.

إذا لم يعطنا نصفا أمير ... مشينا نحوه مثل الأسود فمهلا يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد نجيء فلا نرى إلا صدودا ... على أنا نسلم من بعيد ونرجع خائبين بلا نوال ... فما بال التجهم والصدود وندد أيضا باليمنيين من أصحاب أسد القسري عندما أبصرهم يتهالكون على الهدايا يوم المهرجان ببلخ، ويجتمعون لها، ويختفون في المآزق ويتضاءلون فيها، يقول1: تقلون إن نادى لروع مثوب ... وأنتم غداة المهرجان كثير2 إما الرثاء، فقليل فيما وصل إلينا من شعره، إذ لم يرو القدماء منه سوى مقطوعته البائية في رثاء المهلب، وسوى أبيات أخرى رثى بها أخاه، وهو يصف فيها حرقته ولهفته عليه، وما أصابه من الانكسار والهوان بعد وفاته، فقد كان له السند والمرشد في كل نازلة ونائبة، يقول3: عتبان قد كنت امرءا لي جانب ... حتى رزيتك والجدود تضعضع4 قد كنت أشوس في المقامة سادرا ... فنظرت قصدي واستقام الأخدع5 وفقدت إخواني الذين بعيشهم ... قد كنت أعطي من أشاء وأمنع فلمن أقول إذا تلم ملمة ... أزني برأيك أم إلى من أفزع فليأتين عليك يوم مرة ... يبكى عليك مقنعا لا تسمع6

_ 1 الطبري 9: 1638. 2 المثوب: الراجع من المعركة. 3 شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 2: 952. 4 الجدود: الحظوظ. وتتضعضع: تنحط بعد ارتفاع، وتعوج عقب الاستواء. 5 الأشوس: الرافع رأسه كبرا. والأخدع هنا: العنق. 6 مقنعا: مسجى مستور الوجه.

والفخر فيما بقي من شعره أقل من الرثاء، إذ لم نعثر على شيء إلا ما بثه في ثنايا بعض مقطوعاته السابقة، وتمدح فيه بقبيلته ومضائها وبأسها، وإلا هذه المقطوعة التي نظمها عندما اختاره الجنيد بن عبد الرحمن المري ليكون رسوله إلى هشام بن عبد الملك. وكان انتخب قبل سيف بن وصاف العجلي فجبن عن السير، وخاف الطريق، فاستعفى الجنيد فأعفاه. وهو يتمجد فيها بشدته وجرأته، وتجشمه للمكاره، واقتحامه للأهوال، ولباقته في السفارة، لأن هذه الوظيفة ليست محدثة في قومه، ولا طارئة عليهم، وإنما هي أصيلة فيهم، إذ لهم فيها سابقة وقدمة في أيام عثمان بن عفان وقبلها، يقول1: لعمرك ما حابيتني إذ بعثتني ... ولكنما عرضتني للمتالف دعوت لها قوما فهابوا ركوبها ... وكنت امرءا أركابة للمخاوف فأيقنت إن لم يدفع الله أنني ... طعام سباع أو لطير عوائف2 قرين عراك وهو أيسرها لك ... عليك وقد زملته بصحائف3 على عهد عثمان وقدنا وقبله ... وكنا أولي مجد تليد وطارف وله مقطوعتان يمكن أن نقول إنه صدر فيهما عن روية وأناة، وتريث وتثبت، متجردا من العاطفة، ومتخلصا من العصبية. وهو في الأولى يحذر قتيبة بن مسلم من خطورة الموقف بعد أن عزم على خلع سليمان بن عبد الملك بفرغانة، ناصحا له بأن لا ينخدع عن الشاغبين عليه، والماكرين به من جميع القبائل، من تميم والأزد، ومن بكر أيضا، فكلهم خونة غدرة يتحفزون لاغتياله، وإلا فإنه سيلاقي المصير الذي لاقاه عبد الله بن خازم قبله يقول4: تنمر وشمر يا قتيب بن مسلم ... فإن تميما ظالم وابن ظالم

_ 1 الطبري 9: 1545. 2 العوائف: جمع عائف، وهي الطير التي تحوم على الماء وعلى الجيف، وتتردد. 3 عراك: هو ابن عم الجنيد، وكان مع نهار في الوفد. 4 نقائض جرير والفرزدق 1: 359.

ولا تأمنن الثائرين ولا تنم ... فإن أخا الهيجاء ليس بنائم ولا تثقن بالأزد فالغدر منهم ... وبكر فمنهم مستحل المحارم وإني لأخشى يا قتيب عليكم ... معرة يوم مثل يوم ابن خازم وفي الثانية يتنصل من العصبية القبلية، ومن التكثر بالآباء، والتمدح بالأنساب والأحساب، ويعلن أن الإسلام سوى بين الناس كافة، وأن التقوى هي أساس التفاضل بينهم. يقول1: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم دعي القوم ينصر مدعيه ... ليلحقه بذي النسب الصميم2 وما كرم ولو شرفت جدود ... ولكن التقي هو الكريم فشخصية نهار تشبه شخصية ثابت قطنة في كثير من الوجوه، فهو مرتبط بقومه، متحزب لهم، وهو يأبى أن يظلموا، ويرفض أن يبخسوا أفضالهم وأقدارهم، ولا يصبر على عطل مصالحهم. ولذلك كان الناطق الرسمي بأهوائهم، والمكافح الحقيقي عن منافعهم، ولم يكن يجد غضاضة ولا حرجا في هجاء حلفائهم من الأزد، إذا تنكروا لهم أو اعتدوا عليهم. وهو من ناحية أخرى كان متشبثا بمحالفة الأزد، حريصا على التعاون معهم، مخلصا في مساندتهم على خصومهم. وكان يستحسن أن يكون الوالي منهم على أن يكون من غيرهم. ومن أجل ذلك استاء حين أبعد يزيد بن المهلب عن خراسان، واستخلف عليها قتيبة بن مسلم، وانتقد قتيبة، وأظهر الشماتة بمقتله. أما مدائحه فيه فكانت من قبيل المنافقة والمداراة والتقية. وهو من ناحية ثالثة كان يثوب إلى الحق، ويؤوب إلى الصواب، ناظرا إلى الأمور نظرة فيها الدقة والعمق، وفيها التخلي عن الحمية الأعرابية، والمصلحة

_ 1 الشعر والشعراء 1: 537، والكامل للمبرد 3: 179. 2 الدعي: المستلحق المتهم في نسبه. والمدعي: الذي استلحقه وضمه إلى نفسه وتبناه.

القبلية، وفيها الاستشراف للأبعاد الإنسانية والإسلامية، ولاهجا بدعوة سليمة أو فكرة صالحة، كأن ينبه قتيبة ابن مسلم على وجوب الاحتراس من كل القبائل، حتى من قبيلته، أو كان يتحلل من النعرة القبلية، وينبذ المفاخرة الجاهلية. ومع ذلك كله فإنه كان لا يخفي انحيازه لقومه، وإنما كان يظهره ويهتف به. والذي يبدو لنا أنه كان يتمثل المسائل الإنسانية والإسلامية تمثلا نظريا سلبيا، لا تمثلا عمليا إيجابيا، وأنه كان يستوحيها في القول لا في الفعل. وهو في آخر المطاف جانب من جوانب سلوكه إلا الاتجاه القبلي. وهو يصور دون ريب حقيقة بكر وواقعها، وما كان ينتابها من القلق والتخبط والتمرد على وضعها في العصر الأموي، وما أداها إليه الحنق والنقمة على الحكام الأمويين من معاداة مكشوفة لهم، وممالأة مقصودة للخارجين عليهم، سواء كانوا من الأزارقة أو العلويين1. ويوضح ما ساقها إليه الحقد والحسد للقبائل المضرية من محالفة للأزد في البصرة وخراسان لتتقوى بهم عليها، لعلها تتعلق بسبب من أسباب السلطة عن طريقهم، أو تنجح في وقت من الأوقات في إخضاع المضرية، ورغباتها السياسية الخفية في تحديها لعبد الله بن خازم وتميم بهراة، فقد أبت أن تجنح للسلم والموادعة إلا إذا غادر كل المضرية جميع خراسان2! ويكشف كذلك عن تقلبها وتذبذبها في مواقفها من حلفائها من الأزد وأهل اليمن، لما كان يعتريها من اضطراب نفسي، لعجزها عن إدراك مطامحها القبلية في السيادة، وتقصيرها عن بلوغ مراميها السياسية في السلطة. ولو سلم ديوانه من الضياع، لأمكن أن نستبين شخصيته استبانة أعمق وأشمل، ولأمكن أن نجلو حقيقة قبيلته جلاء أدق وأكمل، لأنه كان أكبر شعراء بكر بخراسان3.

_ 1 الطبري 6: 3312، 3316، وخزانة الأدب 1: 90. 2 الطبري 7: 493. 3 الشعر والشعراء 1: 537، وخزانة الأدب 1: 90.

وليس للقدماء أحكام نقدية مفصلة متداولة على شعره، إلا ما قاله الآمدي الذي رأى ديوانه من أنه كثير الجيد1. ولعل ابن قتيبة الذي وصفه بأنه أشعر بكر بخراسان وقع على ديوانه ونظر فيه، قبل أن يطلق حكمه السابق عليه، ولكن ما حفظ من شعره لا يؤكد ذلك، فهو فيه قصير النفس متعجل، لا يحتفل بإطالة القصيدة، ولا يهتم بالمعاني والصور، ولا يعني بالتقاليد الفنية إلا قليلا.

_ 1 المؤتلف والمختلف ص: 296.

شاعر تميمي سوي متبصر

شاعر تميمي سوي متبصر: المغيرة بن حبناء 1: هو شاعر بني تميم بخراسان، ومن أسرة عرفت بنظم الشعر، فأبوه جبير بن عمرو شاعر، وأخواه صخر ويزيد شاعران، وثانيهما من الخوارج. وحبناء لقب غلب على أبيه لورم أصابه في بطنه2، ويزعم الآمدي أن حبناء أمه3. ويقول المرزباني إن اسمها ليلى4. والمغيرة من مواليد البصرة، حيث كان أبوه ينزل بها مع قومه، ويروي أنه غضب عليهم في بعض الأمر، فجلا إلى نجران، وحمل معه أهله وعياله، وأقام بها مدة اعتدى فيها غلام على ابنه المغيرة، فناقشته زوجته في مقامهم بنجران وما لحقهم من الذل، لاغترابهم عن قومهم وديارهم، فاستجاب لها ورجع إلى البصرة5.

_ 1 انظر أخباره في الشعر والشعراء 1: 406، والاشتقاق ص: 220، والأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 84، والمؤتلف والمختلف ص: 148، ومعجم الشعراء ص: 273، وسمط الآلي 2: 715، وشرح شواهد المغني 1: 497، وخزانة الأدب 3: 600. 2 الاشتقاق ص: 220، والأغاني 13: 84، وسمط الآلي 2: 715، وشرح شواهد المغني 1: 497. 3 المؤتلف والمختلف ص: 148. 4 معجم الشعراء ص: 273، وقد ذكر المغيرة في شعره أن اسم أمه هو ليلى "الأغاني 13: 97". 5 الأغاني 13: 98.

وعندما كبر المغيرة انتظم في سلك الجندية، وغدا فارسا من فرسان المهلب بن أبي صفرة، في أثناء منازلته للأزارقة، وشاعرا من شعرائه، فمدحه مديحا معجبا سجل فيه فتوته، وما نهض به من عمل ضخم، وهو يجالد الأزارقة، ويوقع بهم في الأهواز وسابور1. فأكرمه، وأجزل له العطاء، فرجع إلى أهله وقد ملأ كفيه بجوائزه وصلاته والفوائد منه2. ولما ولي المهلب خراسان خرج معه إليها، وأصبح هو وكعب الأشقري، وثابت قطنة وزياد الأعجم شعراءه المقربين، الذين يحيطون به، ولا يفارقون مجلسه. وكررنا مرارا أنه امتعض لتقديم المهلب زيادا عليه، وعلى كعب الأشقري، مع أنه لم يكن أغناهم في الحرب، ولا أفضلهم شعبا، ولا أصدقهم ودا، ولا أفصحهم لسانا3. فتحدى زيادا واصطدم به، فاستعر الهجاء بينهما، فأكثر كل واحد منهما على صاحبه وأفحش، ولم يغلب أحد منهما صاحبه، كانا متكافئين في مهاجاتهما، ينتصف كل واحد منهما من صاحبه"4. واستمر المغيرة يعيش بخراسان بعد وفاة المهلب، والتف حول ولديه: يزيد والمفضل، ومحضهما محبته وإخلاصه5، ومدحهما، حتى سماه المرزباني "شاعر المهلب الذي أنفذ شعره في مدحه ومدح بنيه، وذكر حروبهم للأزارقة"6. وحين أقصي المهالبة عن خراسان، واستعمل عليها قتيبة بن مسلم، تحول المغيرة إليه، وصار من مغاويره البارزين، المتحمسين، إذ اشترك في عدد من حملاته على طخارستان وما وراء النهر، ونوه به في قصيدتين يوم أن قضى على نيزك طرخان، سنة إحدى وتسعين7.

_ 1 الأغاني 13: 86، 87. 2 الأغاني 13: 96. 3 الأغاني 13: 90. 4 الأغاني 13: 84. 5 الأغاني 13: 100. 6 معجم الشعراء ص: 273. 7 الطبري 8: 1223، 1226.

ويجمع القدماء على أنه استشهد يوم نسف1. ومعروف أن قتيبة أغار على نسف سنة إحدى وتسعين2، مما يقطع بأنه جاد بروحه في تلك السنة. ويمكن أن نقسم شعره قسمين: الأول الشعر التقليدي، هو يحتوي على مدائحه، والثاني الشعر الذاتي، وهو يحتوي على كل ما عبر به عن علاقته بغيره من الشعراء، أوبأفراد أسرته، وكل ما أفصح فيه عن تجربته في الحياة، وما اكتسبه من الحكمة. ومن أول ممدوحيه طلحة بن عبد الله الخزاعي: "أجود أهل البصرة في زمانه غير مدافع"3. ونراه يتضجر في قصيدة من تناسيه له، وتجاهله عليه، ويجهر بأنه إن كان سكت على تقصيره في مكافأته تقصيرا أزرى به، فإنه لن يسكت على ذلك طويلا، بل سيعامله معاملة الند للند، فإن أحسن إليه أخلص له، وإلا فإنه لن يحرص على صداقته، يقول1: لقد كنت أسعى في هواك وأبتغي ... رضاك وأرجو منك ما لست لاقيا وأبذل نفسي في مواطن، غيرها ... أحب، وأعصى في هواك الأدانيا حفاظا وتمسيكا لما كان بيننا ... لتجزيني ما لا إخالك جازيا5 رأيتك ما تنفك منك رغيبة ... تقصر دوني أو تحل ورائيا6 أراني إذا استمطرت منك رغيبة ... لتمطرني عادت عجاجا وسافيا7 وأدليت دلوي في دلاء كثيرة ... فأبن ملاء غير دلوي كما هيا ولست بلاق ذا حفاظ ونجدة ... من القوم حرا بالخسيسة راضيا فإن تدن مني تدن منك مودتي ... وإن تنأ عني تلفني عنك نائيا

_ 1 الاشتقاق ص: 220، والأغاني 13: 101، وسمط الآلي 2: 715. 2 الطبري 8: 1227. 3 الاشتقاق ص: 475. 4 الأغاي 13: 84. 5 التمسيك: الصيانة. 6 تقصر دوني: لا تصل إلي. 7 استمطر رغيبة: طلب. والعجاج: الغبار. والسافي: الريح تحمل التراب. أو الغبار نفسه.

فحباه طلحة عطية سنية، وهدية نفيسة، فمدحه بمقطوعة أشاد فيها بشرف قومه، واتصال معروفهم، وأنفتهم وحميتهم، وتفوقهم على غيرهم، يقول1: أرى الناس قد ملوا الفعال ولا أرى ... بني خلف إلا رواء الموارد إذا نفعوا عادوا لمن ينفعونه ... وكائن ترى من نافع غير عائد إذا ما انجلت عنهم غمامة غمرة ... من الموت أجلت عن كرام مذاود2 تسود عطاريف الملوك ملوكهم ... وماجدهم يعلو على كل ماجد وفرق كبير بين المقطوعتين السالفتين اللتين لهج بهما المغيرة في أول عهده بالشعر، فبدا فيهما التكلف والضعف وبين مديحه للمهلب الذي يتصف بالقوة والنصاعة، وتتجلى فيه موبهته الفنية، وخياله الرائع. واستمع إليه يمدحه، وقد هزم قطري بن الفجاءه بسابور، وجلس للناس، فدخل إليه وجوههم يهنئونه، وقامت الخطباء فأثنت عليه، ومدحته الشعراء، ثم قام المغيرة في أخرياتهم يقول معارضا قصيدة كعب الأشقري الرائية التي أنشدها الحجاج بن يوسف معارضة تظهر تأثره به، وأخذه عنه، ولكنها تظهر كذلك تحويره في كثير مما استوحى منه، وصياغته له صياغة جديدة متميزة، وإضافته إليه إضافات بديعة في المعنى، يقول3: حال الشجا دون طعم العيش والسهر ... واعتاد عينك من إدمانها الدرر واستحقبتك أمور كنت تكرهها ... لو كان ينفع منها النأي والحذر4 وفي الموارد للأقوام تهلكة ... إذا الموارد لم يعلم لها صدر5 ليس العزيز بمن تغشى محارمه ... ولا الكريم بمن يجفى ويحتقر حتى انتهى إلى قوله:

_ 1 الأغاني 13: 85. 2 الغمرة: الشدة. والمذاود: جمع مذود، وهو الكثير الذود والدفع عن العشيرة. 3 الأغاني 13: 86. 4 استحقب: ادخر. 5 موارد الأمور: مداخلها. والصدر: المخرج.

أمسى العباد بشر لا غياث لهم ... إلا المهلب بعد الله والمطر كلاهما طيب ترجى نوافله ... مبارك سيبه يرجى وينتظر لا يجمدان عليهم عند جهدهم ... كلاهما نافع فيهم إذا افتقروا هذا يذود ويحمي عن ذمارهم ... وذا يعيش به الأنعام والشجر واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ... فلا ربيعتهم ترجى ولا مضر وأنت رأس لأهل الدين منتخب ... والرأس فيه يكون السمع والبصر إن المهلب في الأيام فضله ... على منازل أقوام إذا ذكروا حزم وجود وأيام له سلفت ... فيها يعد جسيم الأمر والخطر ماض على الهول ما ينفك مرتحلا ... أسباب معضلة يعيا بها البشر1 سهل الخلائق يعفو عن قدرته ... منه الحياء ومن أخلاقه الخفر شهاب حرب إذا حلت بساحته ... يخزى به الله أقواما إذا غدروا تزيده الحرب والأهوال إن حضرت ... حزما وعزما ويجلو وجهه السفر ما إن يزال على أرجاء مظلمة ... لولا يكفكفها عن مصرهم دمروا2 سهل إليهم حليم عن مجاهلهم ... كأنما بينهم عثمان أو عمر كهف يلوذون من ذل الحياة به ... إذا تكنفهم من هولها ضرر3 أمن لخائفهم فيض لسائلهم ... ينتاب نائله البادون والحضر فما أتى على آخرها حتى خلب لبه، فإذا هو يردد "هذا والله الشعر، لا ما نعلل به". وإذا هو يأمر له بعشرة آلاف درهم، ويزيده في عطائه خمسمائة درهم4. وواضح أنه تحدث في قصيدته عما نزل بالناس في البصرة من شقاء على أيدي

_ 1 مرتحلا: راكبا. 2 يكفكفها: يردها: ودمروا: هلكوا. 3 تكنفهم: أحاط بهم. 4 الأغاني 13: 87.

الأزارقة، وكيف أن جميع القبائل قعدت عن مجابهتهم، حتى بادر المهلب إليهم، فطاردهم وقهرهم ووقى الناس بلائهم كما تحدث عن صفات المهلب الخلقية الرفيعة من إباء في النفس وقوة في الإرادة وصلابة في العزيمة، وسماحة في الطبع، فإذا هو عنده نظير عثمان أو عمر في سياسته لرعيته، إذ كان يصفح عن المخطئ، ويجير المذعور، ويواسي البائس. وله قصيدة ثانية طويلة في مديح المهلب، كان سبب قوله إياها أن المهلب كان أنفذ بعض بنيه في جيش لقتال الأزارقة، وقد شذت منهم طائفة تغير على نواحي الأهواز، وهو مقيم يومئذ بسابور. فلما طال مقام المغيرة، واسقر الجيش، ولحق بأهله، فألم بهم، وقضى عندهم شهرا، ثم عاد وقد قفل الجيش إلى المهلب. فقيل له إن الكتاب خطوا على اسمه، وحذفوه من ديوان الجنيد، وكتبوا إلى المهلب أنه عصا وفارق مكتبه بغير إذن فسار إلى المهلب، حتى لقيه فاعتذر إليه، فعذره وأمر بإطلاق عطائه، وإزالة العتب عنه. فأنشده قصيدته التي ذكر في مقدمتها أن حنينه إلى موطنه وأهله قد غلبه، وأنه إنما رجع من الأهواز إلى البصرة لتشوقه إلى زوجته، فهو إنسان كغيره من الناس له عاطفته وغريزته، وهو لا يصبر على التجمير في الغزو طويلا. ثم انتقل منها، وأخذ يغني المهلب بأسه وجوده، وانتصاراته، وقيامه بحماية الناس في الفتن والمحن، وتحقيقه الأمن والسلامة لهم في النائبات والضائقات، يقول1: أمن رسوم ديار هاجك القدم ... أقوت وأقفر منها الطف والعلم2 وما يهيجك من أطلال منزلة ... عفى معالمها الأرواح والديم بئس الخليفة من جار تضن به ... إذا طربت أثافي القدر والحمم3 دار التي كاد قلبي أن يجن بها ... إذا ألم به من ذكرها لمم4

_ 1 الأغاني 13: 87، والكامل للمبرد 3: 413. 2 أقوت: خلت واندثرت. والطف: ما أشرف من أرض العرب على رديف العراق. والعلم: جبل. 3 الحمم: جمع حمة، وهي الفحم. 4 اللمم: الجنون.

والبين حين يروع القلب طائفه ... يبدي ويظهر منهم بعض ما كتموا1 إني امرؤ كفني ربي وأكرمني ... عن الأمور التي في غبها وخم2 وإنما أنا إنسان أعيش كما ... عاش الرجال وعاشت قبلي الأمم ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا ... عي بما صنعوا حولي ولا صمم ولو أردت قفولا ما تجهمني ... إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا إني ليعرفني راعي سريرهم ... والمحدجون إذا ما ابتلت الحزم3 والطالبون إلى السلطان حاجتهم ... إذا جفا عنهم السلطان أو كزموا4 فسوف تبلغك الانباء إن سلمت ... لك الشواحج والأنفاس والأدم5 إن المهلب إن أشتق لرويته ... أو امتدحه فإن الناس قد علموا إن الكريم من الأقوام قد علموا ... أبو سعيد إذا ما عدت النعم والقائل الفاعل الميمون طائره ... أبو سعيد وإن اعداؤه زعموا6 كم قد شهدت كراما من مواطنه ... ليست بغيب ولا تقوالهم زعموا7 أيام أيام إذ عض الزمان بهم ... وإذ تمنى رجال أنهم هزموا وإذ يقولون ليت الله يهلكهم ... والله يعلم لو زلت بهم قدم أيام سبور إذ ضاعت رباعتهم ... لولاه ما أوطنوا دارا ولا انتقموا8 إذ ليس شيء من الدنيا نصول به ... إلا المغافر والأبدان واللجم9

_ 1 الكظم: مخرج النفس. 2غبها: عاقبة فعلها. والوخم: المكروه. 3 المحدجون: الذين يشدون الأحداج وهي الهوادج على الإبل. 4 كزموا: هابوا. 5 الشواحج: البغال. والأدم: النوق. 6 رغموا: ذلوا كارهين. 7 ولا تقوالهم زعموا: القول المزعوم زورا وبهتانا. 8 رباعتهم: أمرهم الذي كانوا عليه. 9 المغافر: جمع مغفر، وهو زرد ينسج على قدر الرأس، يلبسها الرجل تحت البيضة، وتسبغ على العنق فتقيه. والأبدان: الدروع القصيرة.

وعاترات من الخطي محصدة ... نفضي بهن إليهم ثم ندعم1 ويقول في يزيد بن المهلب مثنيا على كماله الجسمي والخلقي، وأنه من أسرة مشهورة برزانة عقولها، وكبر هممها، وتعويل الناس في المحن عليها2: جميل المحيا بختري إذا مشى ... وفي الدرع ضخم المنكبين شناق3 شديد القوى من أهل بيت إذا وهى ... من الدين فتق حملوا فأطاقوا مراجيح في اللأواء إن نزلت بهم ... ميامين قد قادوا الجيوش وساقوا ويقول في المهالبة مشيدا بأصالة أنسابهم وعراقتها، ومتانة عزائمهم وشدتها، وعظم انتصاراتهم وروعتها، مما أثار الحاسدين لهم، وأغضب الحاقدين عليهم4: إن المهالب قوم إن مدحتهم ... كانوا الأكارم آباء وأجدادا إن العرانين تلقاها محسدة ... ولن ترى للئام الناس حسادا5 وأما شعره الذاتي فمنه ما افتخر فيه بشخصيته، كهذين البيتين رد بهما على المفضل بن المهلب حين عيره بالبرص، معتدا بنسبه، ومحتجا لبرصه، وأنه من محاسنه لا من معايبه، وغامزا المفضل في نسبه من جهة أمه وأبيه، إذ يقول فيها6: إني امرؤ حنظلي حين تنسبني ... لام العتيك ولا أخوالي العوق7

_ 1 العاترات: الرماح المضطربة للينها. والمحصدة: المحكمة الصنعة. وندعم: نتكئ فيها ونتخذها دعامة. 2 الأغاني: 13: 100. 3 البختري: حسن المشي. والشناق: الطويل. 4 معجم الشعراء ص: 273. 5 عرانين الناس: وجوههم وأشرافهم. 6 الحيوان 5: 165، والشعراء 1: 406 وعيون الأخبار 4: 66، والأغاني 13: 91، وأمالي القالي 2: 231، والمؤتلف والمختلف ص: 149، وسمط الآلي 2: 716. 7 العتيك: قبيلة من الأزد. والعوق: قوم من بني يشكر كانوا أخوال المفضل، كما يقول أبو الفرج الأصفهاني "الأغاني 13: 91" وهم من عبد القيس، كما يقول ابن دريد "الاشتقاق ص: 333". ويزعم الآمدي أنهم قوم من أزد عمان. "والمؤتلف والمختلف ص: 149".

لا تحسبن بياضا في منقصة ... إن اللهاميم في ألوانها بلق1 وله قصيدة رائية يتمدح فيها بسعة صدره وأخذه قريبه أو مولاه بالعنف، إن كان في أخده به فائدة، ونجدته له في الشدة، ومجازاته لغيره بمثل ما يجازيه به، وصفحه عن المسيء إليه إن كان في صفحه عنه مكرمة، وإخراسه للأحمق وقهره له، وصبره على المكروه، ونجاته منه، وتوسله لإدراك غايته، واحتياله لبلوغ ما يصعب عليه بلوغه من أمانيه، يقول2: إذا أنت عاديت امرءا فاظفر به ... على عثرة إن أمكنتك عواثره3 وقارب إذا لم تجد لك حيلة ... وصمم إذا أيقنت أنك عاقره إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هوانا وإن كانت قريبا أواصره فإن أنت لم تقدر على أن تهينه ... فذره إلى اليوم الذي أنت قادره وقد يعلم المولى على ذاك أنني ... إذا ما دعا عند الشدائد ناصره وإني لأجزي بالمودة أهلها ... وبالشر حتى يسأم الشر حافره وأغضب للمولى فأمنع ضيمه ... وإن كان عشا ما تجن ضمائره واحلم ما لم ألق في الحلم ذلة ... وللجاهل العريض عندي مزاجره5 وإني لخراج من الكرب بعدما ... تضيق على بعض الرجال حظائره حمول لبعض الأمر حتى أناله ... صموت عن الشيء الذي أنا ذاخره ويدخل في شعره الذاتي الهجاء الذي سلطه على زياد الأعجم، في الخصومة

_ 1 اللهاميم: جمع لهموم، وهو الجواد من الخيل. 2 أمالي القالي 2: 228، ومعجم الشعراء ص: 273، والتنبيه على أوهام أبي علي في أماليه ص: 119. 3 أظفر به: أعلق ظفرك به. ويروى: اطفر له، وهو بنفس المعنى. أو من الطفر، وهو الوثب. 4 الوغم: القهر. وأخاصره: أبطله. وألبس المولى: أحتمله وأقبله. 5 العريض: الذي يتعرض الناس بالشر.

الفنية التي هاجت بينهما بمجلس المهلب، لتسابقهما إلى المكانة الأدبية. ومنه قوله وقد استعدى العبديون زيادا عليه1: يقولون ذبب يا زياد ولم يكن ... ليوقظ في الحرب الملمة نائما ولو أنهم جاءوا به ذا حفيظة ... فيمنعهم أو ماجدا أو مراغما2 ولكنهم جاءوا بأقلف قد مضت ... له حجج سبعون يصبح رازما3 لئيما ذميما أعجميا لسانه ... إذا ما نال دنا لم يبال المكارما وما خلت عبد القيس إلا نفاية ... إذا ذكر الناس العلا والعظائما إذا كنت للعبدي جارا فلا تزل ... على حذر منه إذا كان طاعما أناسا يعدون الفساء لجارهم ... إذا شبعوا عند الجباة الدراهما من الفسو يقضون الحقوق عليهم ... ويعطون مولاهم إذا كان غارما لهم زجل فيه إذا ما تجاوبوا ... سمعت زفيرا فيهم وهماهما4 أظن الخبيث ابن الخبيثين أنني ... أسلم عرضي أو أهاب المقاوما لعمرك لا تهدى ربيعة للحجا ... إذا جعلوا يستنصرون الأعاجما فهو يستهين به وبمواليه استهانة لاذعة، إذ أنكر عليه أن يكون ذا شأن في الحرب والسلم، وقذفه بارتكاب الكبائر، لإدمانه الخمر، ثم عطف على العبديين الذين استصرخوه عليه، وأغروه به، وهم يعلمون أنه لن يقدم لهم نفعا، فجرحهم تجريحا، إذ دمغهم بأنهم من أرذال الناس، وأنهم لا يحفظون حرمة، وشنع عليهم باتهامه إياهم بأنهم يسدون بفسائهم حاجات جيرانهم، ويدفعون من مغارمهم، ويؤدون ديونهم!! وبذلك أذل المغيرة العبديين، وفضحهم بين الناس، وأضحكهم منهم، فأتوه

_ 1 الأغاني 13: 94. 2 المرغم: المغاضب. 3 الأقلف: الذي لم يظهر. والرازم: الذي لا يقدر على النهوض ولا يتحرك هزالا وإعياء. 4 الزجل: الصوت. والهماهم: تردد الزئير في الصدر.

معتذرين وراجين أن يقلع عن التعريض بهم، وعرفوه أنهم خلعوا زيادا حتى لا يسبوا به. فاستغل تحللهم منه، وراح يعيره بأنه هان عليهم حتى لفظوه، وأن تنصلهم منه، شاع في معسكرات الجنود، وفشا في المساجد، فاحتقره الناس وتحاموه. ثم هجم عليه من ناحية نسبه وأصله، فغمزه بأنه نصراني بل مشرك، وأن بناته لم يختتن، وأنهن جوار ممتهنات مبتذلات، فقيرات معدمات، وأنهن يعملن لكي يتعيشن، وبعد كل هذه السخرية ادعى أنه يكرم نفسه ويجلها عن الرد عليه، فهو ذمي لا قيمة له، وإن قتله لم يقتل به. وذلك قوله1: لعمرك إني لابن زروان إذ عوى ... لمحتقر في دعوة الود زاهد وما لك أصل يا زياد تعده ... وما لك في الأرض العريضة والد ألم تر عبد القيس منك تبرأت ... فلاقيت ما لم يلق في الناس واحد وما طاش سهمي عنك يوم تبرأت ... لكيز بن أفصى منك والجند حاشد ولا غاب قرن الشمس حتى تحدثت ... بنفيك سكان القرى والمساجد2 فاصبحت علجا من يزرك ومن يزر ... بناتك يعلم أنهن ولائد وأصبحت قلفا يغتزلن بأجرة ... حواليك لم تجرح بهن الحدائد نفرن من الموسى وأقررن بالتي ... يقر عليها المقرفات الكواسد3 باصطخر لم يلبسن من طول فاقة ... جديدا، ولا تلقى لهن الوسائد وما أنت بالمنسوب في آل عامر ... ولا ولدتك المحصنات المواجد ولا ربيتك الحنظلية إذ غذت ... بنيها ولا جيبت عليك القلائد4 ولكن عذاك المشركون وزاحمت ... قفاك وخديك البظور العوارد5

_ 1 الأغاني 13: 95. 2 رفع المساجد لأنه جعل الفعل لها أي وتحدثت المساجد. 3 المقرفات: الهجينات. 4 ولا جيبت عليك القلائد: أي لم توضع. 5 العوارد: الغليظة الشديدة المنتصبة.

ولم أر مثلى يا زياد بعرضه ... وعرضك يستبان والسيف شاهد ولو أننى غشيتك السيف لم يقل ... إذا مت إلا مات علج معاهد وله أشعار تحدث فيها عن مشاكل أسرته وعلاقته بأخيه صخر، فحين عاد المغيرة من فارس إلى البصرة، وقد اغتنى بما أغدقه عليه المهلب من الهبات حسده أخوه صخر واتهمه بالبطر والأشر، وضج من كثرة تأنيبه له. فأجابه بأبيات لامه فيها لإهماله في العناية بضيفه، وتخاذله في الدفاع عن أبيه وأخذ عليه أنه يستمع أباطيل أمثاله من أقران السوء. ويصدق ما يرجفون به عن أخيه. يقول:1 لحا الله أنآنا عن الضيف بالقرى ... وأقصرنا عن عرض والده ذبا وأجدرنا أن يدخل البيت باسته ... إذا القف دلى من مخارمه ركبا2 أأنبأك الأفاك عني أنني ... أحرك عرضي إن لعبت به لعبا وكان للمغيرة أخت، فشكت إليه أخاها صخرا، وذكرت له أنه أسرع في مالها وأتلفه، وأنها منعته شيئا يسيرا بقي لها فضربها، فوجه إليه المغيرة هذه الأبيات يذكره بحسن رعايته له، وشدة بره به، وأن من واجبه أن يصون أخته، ويصلها لا أن يسلبها مالها، ويتسلط عليها. وتمنى أن يمتثل لبعض نواهيه. يقول3: ألا من مبلغ صخر بن ليلى ... فإني قد أتاني من نثاكا4 رسالة ناصح لك مستجيب ... إذا لم ترع حرمته رعاكا وصول لو يراك وأنت رهن ... تباع بماله بوما فداكا يرى خيرا إذا ما نلت خيرا ... ويشجي في الأمور بما شجاكا فإنك لا ترى أسماء أختا ... ولا ترينني أبدا أخاكا

_ 1 الشعر والشعراء 1: 407، والأغاي 13: 96، وسمط الآلي 2: 716. 2 الموقف: ما غلظ من الأرض. والمخارم: الطرق في الجبل. 3 الأغاني 13: 97، والمؤتلف والمختلف ص: 149. 4 النثا: الحديث عن الرجل بالخير والشر، وهو هنا يقصد الشر.

فإن تعنف بها أو لا تصلها ... فإن لأمها ولدا سواكا يبر ويستجيب إذا دعته ... وإن عاصيته فيها عصاكا وكنت أرى بها شرفا وفضلا ... على بعض الرجال وفوق ذاكا جزاني الله منك وقد جزاني ... ومني في معاتبنا جزاكا وأعقب أصدق الخصمين قولا ... وولى اللؤم أولانا بذاكا فلا والله لو لم تعص أمري ... لكنت بمعزل عما هناكا وعندما أسرف صخر في سيرته السيئة، ولم يعزف عن مناقضه أخيه ومهاجمته، عجب المغيرة من صلاحه واستقامته، وفساد أخيه وانحرافه، وهما أخوان لأبوين، يقول1: أبوك أبي وأنت أخي ولكن ... تفاضلت الطبائع والظروف وأمك حين تنسب أم صدق ... ولكن ابنها طبع سخيف2 ثم إنه ضاق به، وراح يفكر في الهجرة من البصرة، والنزوح إلى الحجاز ليبتعد عنه، ويسلم من شره وأذاه، يقول3: سأترك منزلي لبني يميم ... وألحق بالحجاز فأستريحا ومن شعره الذاتي ما أودعه حكمه التي استقاها من خبرته في الحياة. وهي تدور على ما يجب أن تكون عليه الصلة بين الفرد وعشيرته، والصديق وصديقه، وما ينبغي أن يكون عليه تصرف الإنسان بين أهله وجيرانه. فهو حريص على قبيلته، معتصم بانتسابه إليها، حفيظ على شرفها، لا ينبت منها ولا يجرؤ على انتقاصها، ولا يعيب قريبه، ولا يبغي عليه، ولا ينفذ أمرا من أموره

_ 1 الشعر والشعراء 1: 406، والأغاني 13: 100، والمؤتلف والمختلف ص: 149. 2 الطبع: دنيء الخلق الذي لا يستحي من سوءه أو عيب. 3 شرح شواهد المغني 1: 497، وخزانة الأدب 3: 600.

في الخفاء، ولا يختلس النظر إلى بيوت الناس، ولا يذمهم، خشية من عقاب الله، فإنه مطلع على كل شيء، محيط بكل غيب، يقول1: أعوذ بالله من حال تزين لي ... لوم العشيرة أو تدني من النار لا أقرب البيت أحبو من مؤخره ... ولا أكسر في ابن العم أظفاري2 إن يحجب الله أبصارا أراقبها ... فقد يرى الله حال المدلج الساري3 وهو يدعو الرفيق إلى التغاضي عن هنات رفيقه وسقطاته، فليس من إنسان كامل في الوجود، والصاحب يحتاج إلى صاحبه، ولكنه يحترز من الخليل المتغير المتقلب، الذي يبدي خلاف ما يضمر، يقول4: خذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه ... ولا تك في كل الأمور تعاتبه فإنك لن تلقى أخاك مهذبا ... وأي امرئ ينجو من العيب صاحبه أخوك الذي لا ينقض النأي عهده ... ولا عند صرف الدهر يزور جانبه وليس الذي يلقاك بالبشر والرضا ... وإن غبت عنه لسعتك عقاربه ويضرب مثلا على ذلك معاملته لصديقه، فهو ينزل به منزلة نفسه، وهو يقسم له في راحلته ومؤونته، وهو يذهب إلى أن إحسانه إليه لا يجعل له يدا عليه، فإن اليد إنما تكون لصديقه لأنه قبل المعروف منه، يقول5: إذا ما رفيقى لم يكن خلف ناقتى ... له مركب فضل فلا حملت رحلى ولم يك من زادي له نصف مزودي ... فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا رحل

_ 1 الكامل للمبرد 1: 103، والحماسة البصرية 2:55. 2 لا أقرب البيت أحبو من مؤخرة: أي لا أتيه لريبة. ولا أكسر في ابن العم أظفاري: أي لا أغتابه. 3 المدلج: الذى يسير أول الليل. 4 أمالي القالى: 2: 227، والحماسة البصرية 2: 70. 5 الحماسة البصرية 2: 38. 6 المزود: وعاء الزاد.

شريكين فيما نحن فيه وقد أرى ... علي له فضلا بما نال من فضل وله مقطوعة طريفة يصف فيها حزنه على جارية له، اضطر إلى بيعها لعمر بن عبيد الله والي البصرة لابن الزبير، لأنه افتقر وابتأس، يقول1: لولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا سوى الموت فاعذري أروح بهم في الفؤاد مبرح ... أناجي به قلبا قليل التصبر عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر فشخصية المغيرة -كما تصورها أشعاره- شخصية قويمة في تركيبها وسلوكها، فهو بريء من العقد القبلية المؤرقة، سليم من الأهواء السياسية المقلقة. فنحن لم نعثر له على موقف حابى فيه قومه أو تحامل على غيرهم إلا في القليل النادر2. وكأنما هذبت الجندية نفسه من رواسب العصبية الطائشة، والأنفة الزائدة، والحمية الفارغة، التي تستحيل مرضا نفسيا يشوش الذات ويمسخها، وشدته إلى الجماعة شدا، وربطته بالجهاد في سبيلها ربطا، إلا إذا استفر أو جرح في كرامته، فإنه كان يندفع للرد على من استثاره أو اعتدى عليه. أما بعد ذلك فهو شاعر فارس لا يفكر في نفسه، ولا في قبيلته، بل يفكر في الجهاد، ولا يقدر الرجال إلا بحقائقهم وأعمالهم. ولا جدال في أن وفاءه للمهالبة، واستهلاكه شعره في مديحهم حتى قيل إنه شاعرهم لا يدفع على تخليه عن العصبية القبلية، وشاهد لا يرفض على سماحة نفسه، ونضوج رأيه، فقد ناضل الأزارقة مع المهلب، وفيهم أبناء قبيلته أروع نضال، وقلده أبدع المدائح، وقاتل الترك مع قتيبة بن مسلم أبسل قتال، ونوه به أجمل تنويه. بذل دمه من أجل أمته وعروبته وعقيدته، كما أنه لم يكن مقتصدا منصفا شفافا في سلوكه العام، بل كان كذلك في سلوكه الخاص، في عائلته، وبين أصدقائه3.

_ 1 أنساب الأشراف 5: 227، والأغاني 15: 389، دون هزو. 2 الطبري 7: 496. 3 الطبري 8: 1223، 1226.

ويدل ما بقي من شعره على أنه كان شاعرا موهوبا، فقد كان يعرف كيف يسترسل في قصائده المختلفة، سواء في المديح أو الهجاء، أو في الحديث عن ذاته وآرائه، مع مقدرته على عرض معاني المديح عرضا فخما يروع النفس، ويمتع الفؤاد، وإخراجه معاني الهجاء إخراجا فنيا ساخرا يلذع مهجوه لذعا، ومع استنباطه أندر المعاني وأطرفها في الرفقة والرفيق. ولا شك في أن بشارا استلهم منه أبياته البائية في الصداقة والصديق، بل إنه أخذ عنه أكثر معانيها وألفاظها1.

_ 1 ديوان بشار 1: 306.

شاعر تميمي منافق متقلب

شاعر تميمي منافق متقلب: حاجب بن ذبيان 1: هو من بني مازن التميميين. وأخباره في كل أطوار حياته ناقصة نادرة. ولكننا إذا ضممنا ما حفظ منها، إلى ما سلم من شعره استطعنا أن نرسم لسيرته صورة تقريبية. ولعله ولد بالبصرة، وترعرع فيها. ويشير شعره إلى أنه نشأ نشأة بائسة، فمن ناحية كان أخوه زرارة يكرهه ويزور عنه2. ومن ناحية أخرى تردت أحواله، وازداد فقرا فوق فقر بعد أن تزوج، وكثر أطفاله، حتى إنه عجز عن توفير القوت لهم، حين أصاب العرب جدب، فقصد عبد الملك بن مروان بدمشق سائلا ومستجديا3. ويظهر أنه لم يطق سوء وضعه العائلي والمالي، فقرر الرحيل إلى خراسان التماسا للحياة الهادئة، وسعيا وراء أسباب الرزق. ففيما يرويه أبو الفرج الأصفهاني من أخباره أنه كان بخراسان في عهد يزيد بن المهلب4. ولسنا ندري هل وصل إليها في ولايته الأولى، أم في ولايته الثانية، لأن أبا الفرج الأصفهاني لم يحدد ذلك، ولأن ما بقي من أخباره وأشعاره لا يعين على تبين الفترة التي هاجر فيها إلى خراسان.

_ 1 انظر أخباره في الشعر والشعراء 2: 631، والأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 264، وأمالي المرتضي 2: 105، وجمهرة أنساب العرب ص: 211، وابن خلكان 5: 351. 3 البيان والتبيين 3: 154. 3 ياقوت 2: 657. 4 الأغاني 14: 264.

وقد حسنت حاله بعد نزوله بخراسان، إذ أخذ يمدح المهلب ويحظى بجوائزه1، كما أصبح جنديا نظاميا يتقاضى راتبا ثابتا، ويفوز بنصيب من الغنائم. واشتبك في معركة هجائية مع ثابت قطنة، كان سببها حسد ثابت له على اهتمام ابن المهلب به، وسوقه الصلات الكبيرة إليه. ولقبه بحاجب الفيل2. واستمرا يتبادلان الهجاء إلى سنة ست ومائة3. وبعد هذا التاريخ لا نظفر بشيء من أخباره، ولا نعرف نهايته ومصيره. ولم يذكر القدماء أن حاجبا كان له ديوان مفرد، ولكنهم ذكروا أن شعره كان مجموعا في أشعار بني مازن4. واحتفظ ياقوت الحموي بمختارات منه، دون أن ينص على جامعه أو جامع أشعار بني مازن. والمعروف أن أبا سعيد السكري هو الذي صنع أشعار بني تميم5. ويصح أن نوزع ما بقي من شعره مفرقا في المصادر المختلفة بين موضوعين كبيرين: الأول الشعر القبلي والسياسي، وهو يشتمل على مدائحه وفخرياته، والثاني الشعر الذاتي، وهو يشتمل على كل ما قاله في العتاب، والاستنجاد، والرثاء والهجاء، والحنين إلى الوطن. أما مدائحه فأكثر ما نقل إلينا منها في الثناء على يزيد بن المهلب، ولعله أنشده أولها وأطولها بعد وصوله إلى خراسان. فهو يصف فيها رحلته الطويلة إليه، وما أمله من الخير فيه، وهو فرس، ودرع، وسيف، ورمح، ويقول أبو الفرج الأصفهاني إنه وهبه كل ما طلب، وأمر له بألفي درهم. وهي تتوالى على هذا النحو6:

_ 1 الأغاني 14: 265. 2 الأغاني 14: 264، وجمهرة أنساب العرب ص: 211. 3 الطبري 8: 1480، 1486، وابن الأثير 5: 132، 150. 4 ياقوت 2: 657، 3: 590. 5 مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، للدكتور ناصر الدين الأسد ص: 546. 6 الأغاني 14: 264.

إليك امتطيت العيس تسعين ليلة ... أرجي ندى كفيك يا بن المهلب1 وأنت امرؤ جادت سماء يمينه ... على كل حي بين شرق ومغرب فجد لي بطرف أعوجي مشهر ... سليم الشظا عبل القوائم سلهب2 سبوح طموح الطرف يستن مرجم ... أمر كإمرار الرشاء المشذب3 طوى الضمر منه البطن حتى كأنه ... عقاب تدلت من شماريخ كبكب4 تبادر جنح الليل فرخين أقويا ... من الزاد في قفر من الأرض مجدب فلما رأت صيدا تدلت كأنها ... دلاة تهاوي مرقبا بعد مرقب5 فشكت سواد القلب من ذئب قفرة ... طويل القرا عاري العظام معصب6 وسابعة قد أتقن القين صنعها ... وأسمر خطي طويل محرب7 وأبيض من ماء الحديد كأنه ... شهاب متى يلق الضريبة يقصب8 وقل لي إذا ما شئت في حومة الوغى ... تقدم أو اركب حومة الموت أركب فإني امرؤ من عصبة مازنية ... نماني أب ضخم كريم المركب وله مقطوعة ثانية في مديحه، ينوه فيها بسياسته العادلة الحازمة التي تتمثل في ردعه للعابثين والخارجين، وعطفه على الضعفاء والبائسين، يقول9:

_ 1 العيس: الإبل البيض يخالط بياضها شقرة. 2 الطرف: الكريم من الخيل. وأعوجي: نسبه إلى أعوج، وهو فرس كريم سابق كان لبني هلال، وإليه تنسب الخيل الكرام. والشظا: عظم لاصق بالركبة. وعبل: ضخم. والسلهب: ما عظم وطالت عظامه. 3 السبوح: الذي يسبح بيديه في السير. واستن افرس في المضمار: جرى في نشاطه على سنته في جهة واحدة. ومرجم: يرجم الأرض بحوافره. والإمرار: إحكام الفتل. والرشاء: الحبل. 4 كبكب: جبل بعرفات. والشماريخ: رؤوس الجبال. 5 الدلاة: الدلو. تهاوى: تساقط. المرقب: الموضع المشرف يرتفع عليه الرقيب. 6 سواد القلب: بته. والقرا: الظهر. والمعصب: الجائع. 7 المحرب: المحدد المسنون. 8 الأبيض: السيف. والشهاب: شعلة من نار ساطعة. والضريبة: ما يضرب. ويقضب: يقطع. 9 الأغاني 14: 267.

شم الغيث وانظر ويك أين تبعجت ... كلاه تجدها في يد ابن المهلب1 يداه يد يخزي بها الله من عصى ... وفي يده الأخرى حياة المعصب2 وله مقطوعة ثالثة في مديحه أنشدناها في الفصل السابق3. وإنما عددنا مدائحه من شعره القبلي والسياسي، لأنها تكشف عن موقفه من المهالبة في أثناء حكمهم لخراسان، وكيف أنه لم ينفر منهم، ولم يظهر بغضا لهم، غضبا لقبيلته، أو احتجاجا على نهوضهم بالولاية. ولكنه سرعان ما غير رأيه فيهم، وخاصة بعد تمرد ابن المهلب على الأمويين، وفتك مسلمة بن عبد الملك به، مما نستنبط منه أنه لم يشد بسياسته وأسرته، لأنه كان غافلا عن العصبية القبلية، أو لأنه كان جاهلا بطبيعة العلاقات السياسية بين القبائل العربية بخراسان، بل لأنه كان يبتغي المنفعة العاجلة التي يصلح بها أموره. فنحن نستشف من شعره الذي قاله في القضاء على ثورة المهالبة، شماتة بهم، ومطاولة لمسلمة بن عبد الملك، وبني أمية بمؤازرة بني تميم لهم، وانتقادا لسياستهم، وما بنيت عليه من اعتماد على المهالبة، وتقوية لهم، فإذا هم حين اشتدت شوكتهم يغدرون بأولي نعمتهم، ويحاولون الإطاحة بهم. ونستشف منه مراجعة للأمويين، لعلهم يبدلون موقفهم من بني تميم، ويقرون بقدرتهم وضخامتهم، ويعترفون بإخلاصهم ووفائهم. وقد عبر عن كل ذلك في قصيدة لامية طويلة ضاع أكثرها، ووصل أقلها وأدلها على عصبيته القبلية ومنها قوله4: أمسلم إنا قد فصحنا فهل لنا ... بذاكم على أعدائكم عندكم فضل حقنتم دماء المصلتين عليكم ... وجر على فرسان شيعتك القتل وفاتهم العريان فساق قومه ... فيا عجبا أين البراءة والعدل

_ 1 شام البرق: نظر إليه أين يمطر. وي: اسم فعل بمعنى أعجب، والكاف للخطاب. تبعج السحاب بالمطر: انفرج عن الوبل الشديد. وكلية السحاب: أسفله. 2 المعصب: الذي عصبته السنون أي أكلت ماله. والذي يتعصب بالخرق من الجوع. 3 الأغاني 14: 266. 4 ياقوت 3: 590، والحيوان 1: 191، والبيان والتبيين 2: 148.

وكم من عدو قد أعنتم عليكم ... بمال وسلطان إذا سلم الحبل كذي الكلب لما أسمن الكلب رابه ... بإحدى الدواهي حين فارقه الجهل1 ونحن بنو الفحل الذي سال بوله ... بكل بلاد لا يبول بها فحل أبى الناس والأقلام أن يحسبوهم ... إذا حصل الأخماس أو يحسب الرمل2 فإن غضبوا شد المشارف منهم ... ملوك وحكام كلامهم فصل كذلك مضى حاجب يصرح بسروره لفناء من فني من المهالبة، وحبس من نجا منهم من الموت، وفي ذلك يقول3: فإن أرحل فمعروف خليلي ... وإن أقعد فما بي من خمول لقد قرت بقندابيل عيني ... وساغ لي الشراب إلى الغليل4 غداة بنو المهلب من أسير ... يقاد به ومستلب قتيل أرأيت إلى تقلبه وتلونه؟ لقد مدح المهالبة وأطراهم، وهم في مواقع السلطة، وهو بحاجة إليهم، ثم ذمهم وقدح فيهم، حين اضمحل نفوذهم، وبطش بهم وانطلق يفاخر بقبيلته ودورها في قمع المهالبة، وسفك دمائهم، وتجاوز ذلك إلى معاتبة الأمويين، بل إلى تقريعهم لتفريطهم في قبيلته، واتكالهم على المهالبة. ويؤكد ما نقل عن فخرياته شموخه بقبيلته، واعتداده بها، وانحيازه لها. ومنه قوله يعتز بثروتها وكثرة إبلها، وخشية الناس من التعرض لها، أو التفكير في الإغارة عليها5:

_ 1 رابه: تعرض له وأزعجه. 2 الأخماس: القبائل العربية الخمس الكبيرة في البصرة وخراسان. وحصل ميز، أخذه من قوله: حصلوا الناس في الديوان: أي ميزوا بين شاهدهم وغائبهم وحيهم وميتهم. 3 ياقوت 4: 183. 4 قندابيل: مدينة بالسند، كانت فيها وقعة لهلال بن أحوز المازني التميمي على آل المهلب "انظر ياقوت 4: 183". 5 ياقوت 3: 602.

ما إبل في الناس خير لقومها ... وأمنع عند الضرب فوق الحواجب من الإبل الحادي عضيدة خلفها ... من الحزن حتى أصبحت بعباعب1 ومنه قوله يتمدح بعظمتها وسطوتها، وأن أحدا لا يجرؤ على تحديها، بل على المطالبة بثأره منها2: فإن بفلج والجبال وراءه ... جماهير لا يرجو لها أحد تبلا3 وإن على حوف اللهابة حاضرا ... حرارا يسنون الأسنة والنبلاء4 ومنه قوله يكاثر بشدة رجالها، وأنهم لا تنبو ضربات سيوفهم، بل تقع في الصميم، وتقطع رؤوس أعدائهم5: وقائلة وباكية بشجو ... لبئس السيف سيف بني رباب ولو لاقى هلال بني رزام ... لعجله إلى يوم الحساب6 وأما شعره الذاتي فلم يسلم منه على كثرة موضوعاته إلا أبيات ومقطوعات معدودة، منها هذا البيت الذي يستعطف به أخاه زرارة مبينا له ما تعمقه من الحزن والأسى، وما لحقه من الهوان والأذى، بعد أن انفصل عنه، ومفضلا الهلاك على أن يظل متحاميا له، متحاملا عليه7: عجلت مجيء الموت حين هجرتني ... وفي القبر هجر يا زرار طويل

_ 1 عباعب: ماء لبني قيس بن ثعلبة قرب فلج. 2 ياقوت 4: 372. 3 التبل: العداوة التي يطلب لها. 4 اللهابة: موضع في ديار بني ضبة من تميم، والحاضر: الحي العظيم المقيم. والحوف: الناحية والجانب والحرف. ومنه حوف الوادي والموضع. 5 الأغاني "طبعة دار الكتب" 3: 58. 6 هلال بن رزام: هو هلال بن الأسمر المازني التميمي. "انظر الأغاني 3: 52" وقال: نسب بيتيه السابقين لقوم من بني رباب من بني حنيفة في شيء كان بينهم فيه أربع ضربات بالسيف "الأغاني 3: 58" 7 البيان والتبيين 3: 154.

ومنها قطعة من قصيدة وفد بها على عبد الملك بن مروان، ووصف له بها مجاعة عمت العرب، واشتدت على قومه، كما استغاث به، ورجاه أن يجري عليه بعض المال، ليقيم به رمق أهله وعياله. وفيها يقول1: وما أنا يوم دير خناصرات ... بمرتد الهموم ولا مليم2 ولكني ألمت بحال قومي ... كما ألم الجريح من الكلوم بكوا لعيالهم من جهد عام ... خريق الريح منجرد الغيوم أصابت وائلا والحي قيسا ... وحلت بركها ببني تميم3 أقاموا في منازلهم وسيقت ... إليهم كل داهية عقيم سواء من يقيم لهم بأرض ... ومن يلقي اللطاة من المقيم4 أعني من جداك على عيال ... وأموال تساوك كالهشيم5 أصدت لا يشيم لها حوارا ... عقيلة كل مرباع رؤوم6 ومنها بيتان نعى بهما أخاه معاوية، وصور فيهما ما أصابه من الهم والأرق لوفاته، يقول7: تطاول بالبيضاء ليلي فلم أنم ... وقد نام قساها وصاح دجاجها8 معاوي كم من حاجة قد تركتها ... سلوبا وقد كانت قريبا نتاجها9

_ 1 ياقوت 2: 657. 2 المليم: الذي أتى ذنبا يلام عليه. 3 البرك: الصدر: ومعظم الشيء. 4 ألقى بلطاته: أقام بموضعه. وألقى لطاته: طرح نفسه. والمعنى الثاني هو المقصود في البيت. 5 تساوك: تسير سيرا ضعيفا مضطربا لهزالها وإعيائها. والهشيم: النبت اليابس المتكسر. 6 شام: تطلع نحو الشيء يبصره منتظرا له. والحوار: الجواب. وعقيلته كل شيء: خيرته والمرباع: الناقة التي ولدها معها، أو التي تلد في أول الربيع. 7 ياقوت 1: 794. 8 البيضاء: ماء لبني عقيل ثم لبني معاوية بن عقيل، ومعهم فيها عامر بن عقيل. وقسا: جبل بالعالية في بلاد بني تميم. 9 الناقة السلوب: التي ألقت ولدها لغير تمام.

ومن أهاجيه لثابت قطنة. وفيه يقول ساخرا منه، ومعيرا له حصره، وقد صعد المنبر بسمرقند يوم جمعة في ولاية أسد القسري الأولى، وخطب الناس فارتج عليه1: أبا العلاء لقد لقيت معضلة ... يوم العروبة من كرب وتخنيق2 أما القران فلم تخلق لمحكمه ... ولم يسدد من الدنيا لتوفيق لما رمتك عيون الناس هبتهم ... فكدت تشرق لما قمت بالريق تلوي اللسان وقد رمت الكلام به ... كما هوى زلق من شاهق النيق3 وله يقول، وقد تغيب عن حضور معركة بفرغانة في عهد مسلم بن سعيد الكلابي، يتهكم به، زاعما أن أصله مغمور، وأنه لا قبل له بالحرب، وإنما هو ملاح ماهر، يحسن أن يحرك المجاذيف، ويراقب آلات السفينة4: نقضي الأمور وبكر غير شاهدها ... بين المجاذيف والسكان مشغول5 لا يعرف الناس منه غير قطنته ... وما سواها من الأنساب مجهول وآخر ما نستشهد به من شعره الذاتي قطعة في الحنين، ينزع فيها إلى ديار قومه، ولعله قالها، وهو بخراسان6: هل رام نهي حمامتين مكانه ... أم هل تغير بعدنا الأحفار7 ليت شعري غير منية باطل ... والدهر فيه عواطف أطوار

_ 1 الشعر والشعراء 2: 631، والطبري 9: 1486، والأغاني 14: 264، وأمالي المرتضي 2: 105، وابن خلكان 5: 351. 2 يوم العروبة: يوم الجمعة. 3 النيق: أرفع موضع في الجبل. 4 الطبري 9: 1480، والأغاني 14: 266. 5 السكان: مؤخرة السفينة وذنبها. 6 ياقوت 1: 153، 2: 330. 7 النهي: الغدير: وحمامتين: مثنى حمامة. وهي ماء لبني سعد. والأحفار: علم لموضع في بادية العرب.

هل ترسمن بي المطية بعدها ... يحدى القطين وترفع الأخدار1 فشخصية حاجب -كما تحددها أشعاره- شخصية منافقة متذبذبة، فإنه كان إذا انفك من قيود العصبية في فترة من الفترات، لا يلبث أن يخضع لها ويكبل نفسه ومدائحه وفخرياته تطلعنا على تأرجحه وتحزبه، وذلك أنه صانع المهالبة وهم أحياء يسبغون عليه من خيرهم، كما تناسى قبليته وهو فقير مشرد يلوذ بهم، فلما نكبوا انحرف عنهم، وطعن فيهم، وأحس ضخامة قبيلته ومكانتها، وراح يطاول بها، ويفصح عن تحيزه لها، وهو بذلك يقترب اقترابا شديدا من نهار بن توسعة البكري، ويماثله في منافقته وتقلبه وعصبيته. وإذا كان حاجب يصور تمجد بعض عشائر بني تميم بعظمتها وسيادتها، وشعورها بحقيقتها ومقدرتها، ويعكس أمانيها وطموحها وشغبها وتمردها، فإن المغيرة بن حبناء يصور صلاح بعض عشائر بني تميم واستقامتها، ويعكس إيمانها بالجماعة، وتلاحمها معها، وانقيادها للحق، وعملها مع جميع القادة الذين كانوا يولون عليها.

_ 1 رسمت الناقة: أثرت في الأرض من شدة وطئها. والقطين: المقيمون في الموضع لا يكادون يبرحونه. والخدر: ستر يمد للجارية في ناحية البيت.

شاعر مولى جوال متكسب

6- شاعر مولى جوال متكسب: زيادة الأعجم 1: هو من موالي عبد القيس وسمي الأعجم لأنه كان يرتضخ لكنة أعجمية يبدل فيها السين شينا والطاء تاء، والعين همزة2. وفي أصله بعض الاختلاف، ولكن الأرجح أنه أصفهاني المولد والمنشأ3، وأنه أسلم على أيدي عبد الله بن عتبان، وأبي موسى الأشعري، سنة إحدى وعشرين، حين فتحا أصفهان4، ثم التحق بالجيش العربي، واشترك في فتح إصطخر سنة ثلاث وعشرين5. ويقال: إنه كان من رواة الحديث، روى عن أبي موسى الأشعري، وعثمان بن أبي العاص الثقفي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وروى عنه طاوس بن كيسان اليماني، وهشام بن قحذم6، وفي ذلك خلاف كثير استقصى ابن حجر العسقلاني وجوهه المختلفة،

_ 1 انظر أخباره في طبقات فحول الشعراء، لابن سلام ص: 557، والشعر والشعراء 1: 430، والاشتقاق ص: 333، والأغاني "طبعة دار الكتب" 15: 380، والمؤتلف والمختلف ص: 193، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5: 401، ومعجم الأدباء 11: 168، وتهذيب التهذيب 3: 370، وتقريب التهذيب 1: 268، وشرح شواهد المغني 1: 206، وخزانة الأدب 4: 192، والعصر الإسلامي للدكتور شوقي ضيف ص: 228. 2 البيان والتبيين 1: 74، والكامل للمبرد 2: 226، والأغاني 15: 380. 3 الأغاني 15: 380، وخزانة الأدب 4: 194. 4 ابن الأثير 3: 18، وشرح شواهد المغني 1: 206، وخزانة الأدب 4: 194. 5 ابن الأثير 3: 40، وشرح شواهد المغني 1: 206، وخزانة الأدب 4: 194. 6 تهذيب التهذيب 3: 370، وشرح شواهد المغني 1: 206، وخزانة الأدب 4: 194.

وفصل بينها فصلا دقيقا، وأبان أن المقصود هو زياد بن سيمين كوش العجمي اليماني، لا زياد الأعجم العبدي1. وظل زياد الأعجم ينزل باصطخر2، حتى إذا ولي صديقه: عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي فارس سنة ثمان وستين، تحول إليه ولزمه، ومدحه، ونال منه جوائز ضخمة3. فلما توفي ابن معمر ارتحل إلى عبد الله بن الحشرج القيسي، وكان موظفا كبيرا، تنقل بين أعمال خراسان، وفارس، وكرمان، وقوهستان، وسابور4، كما كان جوادا ممدحا، ففاز منه بصلات كثيرة5. وفي ولاية المهلب بن أبي صفرة على خراسان، خرج إليه، وامتدحه، ونوه ببنيه، ورثى من مات منهم6، وقدمنا أنه خاض في هذه المرحلة معركتين هجائيتين: الأولى مع المغيرة بن حبناء التميمي، وكان مبعثها تنافسهما في المركز الأدبي7، والثانية مع كعب الأشقري، وكان المحرك لها انفجار الحرب بين عبد القيس والأزد، لتباين مصالحهم القبلية والسياسية8، ثم اتصل بيزيد بن المهلب، وأثنى عليه9. ويقول أبو الفرج الأصفهاني: "إنه لم يزل بخراسان حتى مات10. ويزعم ياقوت الحموي أنه توفي في حدود المائة الأولى11. غير أن عبد القادر

_ 1 تهذيب التهذيب 3: 371- 373، وانظر التاريخ الكبير 2: 1: 356، والجرح والتعديل 1: 2: 551. 2 طبقات فحول الشعراء ص: 693، والأغاني 15: 380، وتهذيب التهذيب 3: 371، وخزانة الأدب 4: 194. 3 الطبري 8: 753، والأغاني 15: 385. 4 الأغاني 12: 23، 24، 34. 5 الأغاني 15: 387. 5 الأغاني 15: 383، وخزانة الأدب 4: 194. 7 الأغاني 13: 89. 8 الأغاني 14: 287. 9 حماسة البحتري ص: 220. 10 الأغاني 15: 380، وانظر طبقات فحول الشعراء ص: 693. 11 معجم الأدباء 11: 171.

البغدادى يروي أنه وفد على هشام بن عبد الملك 1. ويضيف السيوطي أنه شهد وفاته بالرصافة 2 ومعلوم أن هشاما توفي سنة خمس وعشرين ومائة ومعنى ذلك أن زيادا قد عمر أطول من هذا التاريخ. على أننا إذا فحصنا ما بقى من شعره لم نطمئن إلى أن الأجل امتد به إلى بداية المائة الثانية3، إلا أن يكون شعره الذى نظمه في آخر حياته قد ضاع. واستفرغ زياد شعره في المديح والهجاء، ولم يعدوهما إلى غيرها من الموضوعات إلا نادرا أما المديح فلم يكن يقدمه إلى الممدوح محبة له ولا إعجابا به، وإنما يقدمه إليه رغبة في عطائه ولذلك كان إذا زار موظفا في كورة من الكور، أو أميرا من مصر من الأمصار، وأقام عنده مدة، ومدحه، ثم لم يعجل الجائزة له يأخذ في استبطائه واستنجازه ولومه. ومن ممدوحيه عبد الله بن عامر، والي البصرة لعثمان بن عفان ومعاوية بن سفيان وفيه يقول مصورا كرمه الذى لاينقطع 4: أخ لك لا تراه الدهر إلا ... على العلات بساما جوادا أخ لك ما مودته رياء ... إذا ما عاد فقر أخيه عادا ومنهم عمر بن عبيد الله معمر التيمى، فقد قصده عندما ولي فارس لمصعب بن الزبير، ومدحه مهنئا له بمنصبه، ومؤملا منه خيرا وفيرا، وراجيا أن لا يعود من رحلته إليه مخذولا، يقول 5: أبلغ أبا حفص رسالة ناصح ... أتت من زياد مستبينا كلامها فإنك مثل الشمس لا ستر دونها ... فكيف أبا حفص علي ظلامها لقد كنت أدعو الله في السر أن أرى ... أمور معد في يديك نظامها

_ 1 خزانة الأدب 4: 194، وانظر تهذيب التهذيب 3: 372. 2 شرح شواهد المغني 1: 206. 3 انظر تهذيب التهذيب 3: 372. 4 تهذيب تاريخ ابن عساكر 5: 402. 5 الأغاني 15: 385.

فلما أتاني ما أردت تباشرت ... بناتي وقلن: العام لا شك عامها فإني وأرضا أنت فيها ابن معمر ... كمكة لم يطرب لأرض حمامها إذا اخترت أرضا للمقام رضيتها ... لنفسي ولم يثقل علي مقامها وكنت أمني النفس منك ابن معمر ... أماني أرجو أن يتم تمامها فلا أك كالمجرى إلى رأس غاية ... يرجي سماء لم يصبه غمامها فلبى له كل ما سأله فيه، وجعله في كل عام. وفيه يقول مبينا كيف كان لا يرده خائبا، مع كثرة تردده عليه، ووفرة ما حباه به، وكيف كان يلقاه في كل مرة متهللا له، مرحبا به1: سألناه الجزيل فما تأبى ... فأعطى فوق منيتنا وزادا وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا مرارا ما دنوت إليه إلا ... تبسم ضاحكا وثنى الوسادا وتأخر ابن معمر في دفع ما فرضه له، فذكره به بقوله2: أصابت علينا جودك العين يا عمر ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر3 أصابتك عين في سماحك صلبة ... ويا رب عين صلبة تفلق الحجر سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... فإن لم تفق يوما رقيناك بالسور وبلغته الأبيات فأرضاه وسرحه. ومن ممدوحيه جبير بن الزبعرى النميري، وكان من سروات العرب، وله يقول معظما أصله وبسالته وجوده4:

_ 1 الأغاني 15: 379، 385، ويقول ياقوت الحموي: إنه مدح بتلك الأبيات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. "انظر معجم الأدباء 11: 170". 2 الأغاني 15: 389. 3 النشر: جمع نشرة، وهي ضرب من الرقية. 4 المؤتلف والمختلف ص: 195، وانظر ص: 110، وانظر شرح شواهد المغني 1: 206.

وجدت العامري ابن الزبعرى ... جبيرا خير مختبط لساري1 وجدتك إذ بلاك الأمر صلبا ... كريم العرق من عود نضار2 وزندك حين تنسب من نمير ... كريم في زناد المجد واري3 لعمرك ما رماح بني نمير ... بطائشة الكعوب ولا قصار4 ومن ممدوحيه عبد الله بن الحشرج القيسي، فقد وفد عليه، وهو يدير أمور سابور، وله يقول مثنيا عليه، لكرمه ومواساته المحرومين والسائلين، ولفصاحته وورعه5: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج ملك أغر متوج ذو نائل ... للمعتفين يمينه لم تشبج6 يا خير من صعد المنابر بالتقى ... بعد النبي المصطفى المتحرج لما أتيتك راجيا لنوالكم ... ألغيت باب نوالكم لم يرتج7 وفيه يقول أيضا8: إن كنت مرتاد السماحة والندى ... فسائل تخبر عن ديار الأشاهب9 واحتفظ أبو حنيفة الدينوري له بأبيات مدح بها المهلب بن أبي صفرة، وهو

_ 1 مختبط: من اختبطه إذا طلب الرفد والمعروف من غير سابق معرفة ولا وسيلة. 2 النضار: الأثل، وهو من أجود الخشب. 3 الزند: العود الأعلى الذي يقتدح به النار، والزناد مثله. ووري الزند: اتقد. ويقال: هو واري الزند إذا رام أمرا نجح فيه وأدرك ما أراد. 4 طائشة الكعوب: ضعيفة. والكعب: انبوب القناة وما بين كل عقدتين منها. 5 الأغاني 12: 34، 15: 387. 6 تشبج: تنقبض، أي تبخل. 7 ارتج الباب: أغلقه إغلاقا وثيقا. 8 الأغاني 12: 23. 9 الأشاهب: يريد جره الأشهب بن ورد.

يحارب الأزارقة دفاعا عن أهل البصرة، حين جبنت كافة القبائل عن محاربتهم، وفيها يقول1: جرى الله خيرا والجزاء بكفه ... أخا الأزد عنا ما أذب وأحربا2 ولما رأينا الأمر قد جد جده ... وألا تواري دوننا الشمس كوكبا دعونا أبا غسان فاستك سمعه ... وأحنف طاطا رأسه وتهيبا3 وكان ابن منجوف لكل عظيمة ... فقصر عنها حبله وتذبذبا4 فلما رأينا القوم قد كل حدهم ... لدى حربهم فيها دعونا المهلبا ولم يصل إلينا من مدائحه فيه بخراسان إلا بيت واحد. وهو قوله5: فتى زاده السلطان في الخير رغبة ... إذا غير السلطان كل خليل ويروى أنه طلب منه مكافأة عليه مائة ألف درهم فأعطاه ثلاثين ألفا. كذلك لم ينقل إلينا من مدائحه ليزيد بن المهلب إلا بيتان. وهو يقول فيها مشيدا بجوده وبسالته6: يزيد يزيد الخير لولا سماحه ... لعاد الزمان وهو أربد أسفع تقبل أخلاق المهلب نجدة ... ومكرمة والبجم من حيث يطلع ويظهر أنه لم يمدحه كثيرا، فإن ابن المهلب استنكر تشبهه بالأعاجم، وضربه7 وزياد نفسه يخبرنا بأنه لم يكن حفيا به ولا راغبا فيه8.

_ 1 الأخبار الطوال ص: 272. 2 ذب: دافع. أحرب: اشتد غضبه. 3 الأحنف: الأحنف بن قيس التميمي. 4 ابن منجوف: هو سويد بن منجوف السدوسي الشيباني "انظر المعارف ص: 113". 5 البيان والتبيين 1: 74، والكامل للمبرد 2: 226، والعقد الفريد 2: 478، والأغاني 15: 391. 6 حماسة البحتري ص: 220. 7 الأغاني 15: 384. 8 الشعر والشعراء 1: 433.

ولما كان زياد لا يمدح إلا من أجل العطاء، فإن كثيرين ممن اختلف إليهم لم يهتضموه ولم يكافئوه، بل استثقلوه ومطلوه. فلم يسلم أحد تباطأ في عطائه من هجائه. والأمثلة على ذلك كثيرة. فقد سار إلى الحضين بن المنذر الرقاشي البكري، وهو عامل لعلي بن أبي طالب بإصخطر، فازور عنه، ولم يصله، فقال يهجوه بالبخل لا في وقت الجدب، بل في أيام الرخاء والخصب1: يسد حضين بابه خشية القرى ... بإصطخر والشاة السمين بدرهم وممن مدحهم وصدوه عباد بن الحصين الحبطي التميمي، وكان على شرطة عبد الله بن معمر التميمي، نائب مصعب بن الزبير بالبصرة. وفيه يقول هاجيا له بوضاعة نسبه، وسوء أخلاقه2: لعمرك إنني وأبا حميد ... كما النشوان والرجل الحليم أريد حباءه ويريد قتلي ... وأعلم أنه الرجل اللئيم فإن الحمر من شر المطايا ... كما الحبطات شر بني تميم وله يقول وقد امتدحه وسأله حاجته فخذله3: سألت أبا جهضم حاجة ... وكنت أراه قريبا يسيرا فلو أنني خفت منه الخلا ... ف والمنع لي لم أسله نقيرا4 وكيف الرجاء لما عنده ... وقد خالط البخل منه الضميرا أقلني أبا جهضم مدحتي ... فإني امرؤ كان ظني غرورا5

_ 1 خزانة الأدب 1: 90. 2 خزانة الأدب 4: 280. 3 الأغاني 15: 390. 4 النقيرة: النقرة في ظهر النواة تنبت النخلة منها. 5 أقاله مدحته: تركها وردها إليه.

وهجا يزيد بن المهلب، لأنه كان يهمله ويتشاغل عنه، على طول تذكيره إياه، ملمحا حينا، ومصرحا حينا آخر، وله يقول مراجعا ومستنجزا1. هل لك في حاجتي حاجة ... أم أنت لها تارك طارح أمتها لك الخير أم أخيها ... كما يفعل الرجل الصالح إذا قلت قد أقللت أدبرت ... كمن ليس غاد ولا رائح ويقول متهما إياه بالخداع والتسويف2: أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تفعل ما تقول لا خير في كذب الجوا ... د وحبذا صدق البخيل يا بن المهلب حاجتي ... عجل فقد حضر الرحيل وله أبيات لم يسم القدماء الذين هجاهم بها، ولكنها تفيد أنه إنما ذمهم، لأنهم لم يكترثوا لها، ولم يؤتوه شيئا. ومنها قوله3: أتينا أبا عمرو فأشلى كلابه ... علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل ومن هجائه للمغيرة بن حبناء قوله يرمي بني تميم بالخنوع، وأنهم مفطورون على الخضوع، وأنهم لمذلتهم يستلحقون بمن لهم المحامد، ليكتسبوا الشرف منهم، وأنهم لا سيد لهم، بل هم عبيد لغيرهم4: ألم تر أنني وترت قوسي ... لأبقع من كلاب بني تميم5

_ 1 الشعر والشعراء 1: 433. 2 الشعر والشعراء 1: 433. 3 خزانة الأدب 3: 290. 4 الأغاني 13: 92، وانظر طبقات فحول الشعراء ص: 694، وشرح شواهد المغني 1: 205، واللسان: غمز. 5 الأبقع: الذي في لونه سواد وبياض، وأراد به الأبرص. ووتر قوسه: شد وترها إعدادا لرمي الصيد.

عوى فرميته بسهام موت ... كذاك يرد ذو الحمق اللئيم وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيم1 هم الحشو القليل لكل حي ... وهم تبع كزائدة الظليم2 فلست بسابقي هرما ولما ... يمر على نواجذك القدوم فحاول كيف تنجو من وقاعي ... فإنك بعد ثالثة رميم3 فقد قدمت عبودتكم ودمتم ... على الفحشاء والطبع اللئيم وظل المغيرة يتراسل معه الهجاء، حتى عيره وأخويه بأمراضهم التي ورثوها عن أبيهم المريض بقوله4: إن حبناء كان يدعى جبيرا ... فدعوه من لومه حبناء ولد العور منه والبرص والجذ ... مى وذو الداء ينتج الأدواء فعف عن إجابته ومناقضته، لأنه انتقصه من جهة لا يد له فيها. وكان زياد عصبي المزاج، حاد الطبع، إذ كانت أبسط كلمة تؤلمه، وأقل مفارقة تزعجه، فجرفه ذلك إلى التسرع في التعرض للناس بالشر، والعبث بهم. ومن ذلك أن يزيد بن حبناء نهاه عن تمزيق أعراض الناس، والتمادي في الضلال، بعد أن علت به السن، وأصبح على أبواب القبر. لم يعتبر بنصحه، وإنما هاج، وراح يدعوه إلى إرشاد نفسه قبل إرشاد سواه، فقد ضل السبيل، وشذ عن الجماعة بانضمامه إلى الخوارج. يقول5:

_ 1 غمز القناة: تليينها وتلطيفها حتى يذهب اعوجاجها وتصير إلى الاستقامة. والقناة: الرمح. 2 زائدة الظليم: هنة وراء الظلف. 3 بعد ثالثة: أي بعد ليلة ثالثة. 4 الأغاني 13: 99. 5 الأغاني 15: 390.

يحذرني الموت ابن حبناء والفتى ... إلى الموت يغدو جاهدا ويروح وكل امرئ لا بد للموت صائر ... وإن عاش دهرا في البلاد يسيح فقل ليزيد يا بن حبناء لا تعظ ... أخاك وعظ نفسا فأنت جنوح تركت التقى والدين دين محمد ... لأهل التقى والمسلمين يلوح وتابعت مراق العراقين سادرا ... وأنت غليظ القصريين صحيح1 وقدم عراك بن محمد الفقيه من مصر على عمر بن عبيد الله بن عمر التيمي بفارس، فكان يحدثه بحديث الفقهاء. فقال زياد يهجو عراكا، لأنه لم يطق التباين بين قوله وعمله، فهو ينفر من الدنيا، ويأمر بالزهد فيها، وهو في الوقت نفسه طامع في متاعها وبهجتها2: يحدثنا أن القيامة قد أتت ... وجاء عراكا يبتغي المال من مصر فكم بين باب النوب إن كنت صادقا ... وإيوان كسرى من فلاة ومن قصر وكل الشواهد السابقة من الهجاء الشخصي، ترجع إما إلى تقتير ممدوحيه عليه، وإما إلى اعتداده بذاته وفنه، وضيقه بمزاحمة الشعراء له، وإما إلى تأذيه من أسلوب الوعظ. وله مقطوعات أخرى من الهجاء القبلي والسياسي. فقد كان كغيره من شعراء القبائل يتقمص شخصية مواليه العبديين، ويعتز بانتسابه إليهم، وينصب نفسه للدفاع عنهم. وقد اصطدم بغير شاعر من شعراء يشكر البكريين، وهم عبد القيس من جذم واحد، فهم جميعا من قبائل ربيعة، وقد كانوا متحالفين في البصرة وخراسان، ولكن تناقض مصالح الطرفين هو الذي جره للالتحام بهم. وفي بني يشكر يقول متهما لهم بأنهم أدعياء في بكر، ألصقوا أنفسهم بهم إلصاقا، وانتحلوا نسبها انتحالا، وأنهم كالذنب للدابة، لا خير فيهم3:

_ 1 القصريان: مثنى قصري، وهي آخر ضلع في الجنب أسفل الأضلاع. 2 الأغاني 15: 385. 3 طبقات فحول الشعراء ص: 699.

لو أن بكرا براه الله راحلة ... لكان يشكر منها موضع الذنب ليسوا إليه ولكن يعلقون به ... كما تعلق راقي النخل بالكرب1 وفيهم يقول هاجيا له هجاء يخز وخز الإبر، فقد رماهم بالغدر وقلة الخير، وقذفهم بالنجس والدنس، مخرجا لهم من جماعة المسلمين الأطهار، ومدخلا لهم في زمرة المشركين الأقذار2: إذا يشكري مس ثوبك ثوبه ... فلا تذكرن الله حتى تطهرا فلو أن من لؤم تموت قبيلة ... إذا لأمات اللؤم لا شك يشكرا فاستنجد اليشكريون بشاعرهم سويد بن أبي كاهل، ليحامي عن أعراضهم، وينافح عن شرفهم. فصب عليه وعليهم فاضح هجائه، قبل أن يشرع سويد في التصدي له، إذ دمغه بالهوان، واهتضام العار، كما لمزه بأنه ضائع بين بني ذبيان، وبني يشكر يقول3: أنبئتهم يستصرخون ابن كاهل ... وللؤم فيهم كاهل وسنام فإن يأتنا يرجع سويد ووجهه ... عليه الخزايا غبرة وقتام دعي إلى ذبيان طورا، وتارة ... إلى يشكر ما في الجميع كرام4 وهاجي بخراسان قتادة بن مغرب اليشكري، وفيه يقول واصفا له ولقومه بأنهم أذلاء جبناء5: يشكر لا يستطيع الوفاء ... وتعجز يشكر أن تغدرا

_ 1 الكرب: أصول السعف الغلاظ التي تيبس فتصير مثل الكتف. 2 الأغاني 23: 103. 3 الأغاني 23: 103، وخزانة الأدب 2: 548. 4 كانت أم سويد قبل أبي كاهل عند رجل من بني ذبيان، فمات عنها فتزوجها أبو كاهل، وكانت فيما يقال حاملا، فلما ولدت استلحق أبو كاهل ولدها، وسماه سويدا، فكان سويد إذا غضب على بني يشكر ادعى إلى بني ذبيان، وإذا رضي عنهم أقام على نسبه فيهم "1 انظر الأغاني 13: 103" 5 الشعر والشعراء 1: 430، والأغاني 15: 384.

ولم يكد يسمع أن الفرزدق هم بهجاء عبد القيس، حتى انبرى له يهجوه متهما إياه بأنه مغلب، وأن من هجوه لم يدعوا معطنا يهجم عليه منه، وأنه إن هجا العبديين فلن يؤثر عليهم، فهم كالبحر يظل له صفاؤه مهما قذف فيه يقول1: وما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحا أراه في أديم الفرزدق ولا تركوا لحما يرى فوق عظمه ... لآكله أبقوه للمتعرق2 سأكسر ما أبقوا له من عظامه ... وأنكت مخ الساق منه فأنتقي3 وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق فامتنع الفرزدق عن هجائهم، خوفا من معرة لسانه. كذلك اشتبك بكعب الأشقري في خراسان، حين تضاربت منافع الأزد وعبد القيس، واشتعلت الحرب بينهم، فسلط على كعب أسواط هجائه، ولم يزل به وبالأزد حتى وضع من كبريائهم وفيه يقول4: إذا عذب الله الرجال بشعرهم ... أمنت لكعب أن يعذب بالشعر ويقول في الأزد ساخرا منهم5: أتتك الأزد تعثر في لحاها ... تساقط من مناخرها الجواف6 ويقول فيهم نافيا عنهم كل صفات الخير والصدق7:

_ 1 طبقات فحول الشعراء ص: 695، والشعر والشعراء 1: 431، والأغاني 15: 393، ومعجم الأدباء 11: 169، وخزانة الأدب 4: 192. 2 المتعرق: الذي يأخذ اللحم من العظم بأسنانه. 3 نكت العظم: جذب طرفه بشيء ليخرج مخه. وانتقى العظم: استخرج نقيه: أي مخه. 4 الشعر والشعراء 1: 432، والأغاني 15: 393. 5 الشعر والشعراء 1: 432، والأغاني 15: 394. 6 الجواف: نوع من السمك. 7 الشعر والشعراء 1: 433، والأغاني 15: 393.

قبيلة خيرها شرها ... وأصدقها الكاذب الآثم وضيفهم وسط أبياتهم ... وإن لم يكن صائما صائم ولم يكتف بهجاء الأزد وحدهم، انتقاما لمواليه منهم، فقد هجا أيضا بعض القبائل اليمنية مثل جرم. وفيها يقول متهما لها بالخمول والصغار، وكثرة المعايب، وفشو المثالب، ومترفعا عن الرد عليها، والتصدي لها1: إني لأكرم نفسي أن أكلفها ... هجاء جرم وما يهجوهم أحد ماذا يقول لهم من كان هاجيهم؟ ... لا يبلغ الناس ما فيهم ولو جهدوا ويقول هاتفا بمجونها، وإدمانها الخمر بعد إسلامها:2 تكلفني سويق الكرم جرم ... وما جرم وما ذاك السويق فما شربوه إذ كانت حلالا ... وما غالوا بها في يوم سوق فأوتي ثم أولى ثم أولى ... ثلاثا يا بن جرم أن تذوقي ولما نزل التحريم فيها ... إذا الجرمي عنها لا يفيق ويقول في أبي قلافة الجرمي واصما له بأنه مثير للفتن، وأن قومه من أوباش الناس وأرذالهم، فهم محدثون منبوذون مهينون3: قم صاغرا يا كهل جرم فإنما ... يقال لكهل الصدق قم غير صاغر فإنك شيخ ميت ومورث ... قضاعة ميراث البسوس وقاشر4 قضى الله خلق الناس ثم خلقتم ... بقية خلق الله آخر آخر

_ 1 طبقات فحول الشعراء ص: 698. 2 طبقات فحول الشعرا ص: 698، والشعر والشعراء 1: 433، ووفيات الأعيان "تحقيق إحسان عباس" 2: 486، واللسان: سوق. 3 الأغاني 15: 394، وشرح الشواهد الكبرى لعيني محمود 2: 420. 4 قاشر: فحل مشئوم.

فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم ... ولم تدركوا إلا مدق الحوافر1 وأنتم أولى جئتم مع البقل والدبى ... فطار وهذا شخصكم غير طائر2 ومن أنتم إنا نسينا من أنتم ... وريحكم من أي ريح الأعاصر فلو رد أهل الحق من مات منكم ... إلى حقه لم تدفنوا في المقابر وله مرثية واحدة تبلغ خمسين بيتا رثى بها المغيرة بن المهلب، وقد مات حتف أنفه بمرو الشاهجان. ويقول أبو الفرج الأصفهاني: "إنها من نادر الكلام، ونقي المعاني، ومختار القصيد، وإنها معدودة من مراثي الشعراء ومقدمها في عصر زياد"3 ويصفها ابن خلكان بأنها "من غرر القصائد ونخبها"4. وقد أوردها أبو علي القلي كاملة. وهو يتفجع فيها على المغيرة ويحصي مناقبه من إباء ومضاء وسخاء، ويعزي أباه عنه. ومنها قوله5: قل للقوافل والغزي إذا غزوا ... والباكرين وللمجد الرائح6 إن المروءة والسماحة ضمنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكل طرف سابح7 وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح يا من بمهوى الشمس من حي إلى ... ما بين مطلع قرنها المتنازح8

_ 1 لم تدركوا إلا مدق الحوافر: أي كنتم أذلة يطؤكم كل حافر. 2 الدبى: صغار الجراد. وهو يرميهم بأنهم لا أصل لهم. 3 الأغاني 15: 381. 4 ابن خلكان 4: 426. 5 ذيل الأمالي ص: 7-9 وابن خلكان 4: 426، والأغاني 15: 381، ومعجم الأدباء 11: 170، وخزانة الأدب 4: 192. 6 الغزي: اسم جمع للغازي. 7 الكوم: جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السنام. والهجان: البيض الكرام. والطرف: الكريم من الخيل. 8 المتنازح: المتباعد.

مات المغيرة بعد طول تعرض ... للموت بين أسنة وصفائح والقتل ليس إلى القتال ولا أرى ... حيا يؤخر للشفيق الناصح فشخصية زياد -كما تظهرها -أشعاره- شخصية غريبة، فيها التناقض والغموض والتمرد. فهو من ناحية تمثل الحياة العربية بكل تقاليدها، وحذق تاريخ العرب في الجاهلية، وألم بمحامدهم ومثالبهم إلماما واسعا، وانتسب إلى عبد القيس وافتخر بموالاته لهم، وندب نفسه للمحاماة عنهم، ووبخ كل من أساء إليهم، سواء من الأزد وبكر أو من تميم. وهو من ناحية ثانية كان يتزيا بزي وطنه، فكان يخرج بخراسان، وعليه قباء ديباج، تشبها بالأعاجم1، وتمسكا بأصله القديم، وإحياء لتراث بلده وأهله، كما كان مولعا بالشرب، مستهترا بمعاقرة الخمر2. وهو من ناحية ثالثة كان فيه حدة وثورة وتطرف. فكان لا يتلبث، ولا يتريث، ولا يتأدب ولا يتعفف حتى مع أكبر الشخصيات من الولاة والأمراء. فقد كان إذا مدحهم وسألهم وقصروا في صلته يتحول إلى هجائهم أشنع هجاء. ولعل نزقه وحمقه، وتبدله وتقلبه تكشف عن قلقه وتشككه في وضعه ووضع أمثاله من الموالي، ولعل إفحاشه في الهجاء، وإسفافه فيه، واستخدامه أبذأ الألفاظ، وأبشع السباب، تعكس ما كان يعتمل في صدره من الغضب على العرب، وقصده إلى تحقيرهم وإهانتهم بطريقة ملتوية. أما شعره فواضح أنه استغرقه في المديح والهجاء. والقدماء يقولون: "إنه كان شاعرا جزل الشعر، فصيح الألفاظ، على لكنة لسانه، وجريه على لفظ أهل بلده"3. وهو حكم فيه شيء من المبالغة، إلا إذا كان أكثر شعره الجيد قد فقد. فإن ما بقي من شعره قصير مهلهل، إلا مرثيته الحائية لابن المهلب. وليس من شك

_ 1 الأغاني 15: 384. 2 الأغاني 15: 383، 384، وخزانة الأدب 4: 194. 3 الأغاني 15: 380، وفحوله الشعراء، للأصمعي ص: 31، وخزانة الأدب 4: 193.

في أن توتره وقلقه وتعجله لم تسمح له بتطويل مقطوعاته، ولا بتنقيحها وتمحيصها، ومن أجل ذلك جاءت صغيرة ركيكة، وكثرت فيها الضرورات، بل انتشرت بها الأخطاء النحوية، والعروضية القبيحة المزرية. وكما كان أسلوبه ضعيفا، كذلك كانت معانيه في المديح والهجاء محدودة. بل إن المديح قليل في شعره1، على الرغم من أنه كان بضاعته التي طوف بها في الآفاق، وعلى الرغم من أنه جعله متجرا يتنقل به في الأمصار والولايات ليصيب منه مكسبا وربحا كبيرا. فهو يرجع فيه معاني ضئيلة متداولة، قوامها النسب والنجدة والكرم. أما الهجاء فهو أكثر شعره2. ومع مهارته فيه، فإنه يؤخذ عليه أنه عمد إلى معان معدودة كررها في معظم أهاجيه، فهو دائما يهجو بالضعة والطروء، واللؤم، والبخل، والجبن، والهوان.

_ 1 طبقات فحول الشعراء ص: 693. 2 طبقات فحول الشعراء ص: 693.

خاتمة

خاتمة: كان من الطبيعي أن أبدأ الكتاب بالحديث عن بيئة خراسان الجغرافية، لقلة معرفتنا بها، وغموض صورتها عندنا، وحاجتنا إلى دليل يكشف لنا عن مواقع الأحداث وأماكنها. وكان من الطبيعي أن أعرض لوجود العرب بخراسان منذ الفتح إلى نهاية العصر الأموي عرضا تاريخيا، أقف فيه عند فتحهم لها، وولاتهم عليها، وسياستهم الداخلية والحربية بها، وانتقالهم من البصرة والكوفة إليها، واستيطانهم لها، حتى أتبين تاريخ هجراتهم وقبائلهم وأحجامها وتحزبها، وما ثار من خلافات ومصادمات بينها، كان مبعثها غلبة الثقافة الجاهلية على نفوسها، وتسابقها إلى السلطان والحكم، وحتى أتبين طبيعة حياتها المعاشية، وحقيقة تنظيمها السياسي والعسكري، وعلاقاتها بأهل البلاد الأصليين، فجردت الفصل الأول لها. وقد وصفت بيئة خراسان ومدنها وقراها وأنهارها وطبيعة الحياة فيها. ووقفت عند ولاة خراسان منذ الفتح العربي إلى نهاية العصر الأموي، وأبنت عن عهد كل وال منهم، وعن سياسته الداخلية والخارجية. وذكرت كل ما عثرت عليه من الروايات التي تتعلق بهجرة القبائل العربية إلى خراسان، وقدرت أن مجموع العرب من المقاتلة والعيالات يمكن أن يكون قد بلغ في بداية القرن الثاني نصف مليون نفس. وتحدثت عن أماكن إقامة المهاجرين، وأسباب رزقهم، واستخلصت أن قلة قليلة منهم سكنت بداخل المدن المفتوحة، وأن الكثرة الكاثرة أقامت بمعسكرات على مشارف المدن وفي الثغور. واستنتجت أن العطاء الذي فرضه الولاة للجنود وأزواجهم وبعض

أولادهم كان عماد معاشهم، إلا جماعات من المستوطنين امتلكت الضياع، واحترفت الزراعة. وعرضت لتنظيم العرب الاجتماعي والعسكري بخراسان، واستقام لي أنهم كانوا منظمين على أساس الأخماس، كما كان الشأن بالبصرة، فإن أكثر النازحين كانوا منها. وتكلمت على انقسام العرب بخراسان إلى مجموعتين هما: مجموعة الأزد وبكر وعبد القيس، ومجموعة تميم وقيس. ورجح عندي أن التحزب في جوهره يرجع إلى طغيان العصبية القبلية، واحتدام المنافسة السياسية، وأن الغاية منه كانت التسابق إلى المناصب الإدارية، والطمع في النفوذ والسلطان، والتصارع على المنافع المادية. وألممت بعلاقة العرب بالسكان المحليين، وصح عندي أنها كانت علاقة مودة وامتزاج، وإن استأثر العرب الفاتحون بمقاليد الحكم، وعجزوا عن إحداث إصلاحات في نظام الضرائب الذي كان مطبقا في العهد الفارسي، وقصروا عن إعادة بناء التركيب الاجتماعي الطبقي الموروث. فلما فرغت من الإلمام بهذه المسائل الهامة التي كان لابد من بسطها، لكي أستظهر حياة العرب بخراسان من الناحية التاريخية والسياسية التي تتصل اتصالا وثيقا بحياة الشعر، بل التي تشرح الظروف والأجواء القبلية والحزبية والسياسية التي قيل فيها وعبر عنها، انتقلت إلى استقصاء موضوعات الشعر وخصائصه، فأفردت الفصل الثاني لها، ووجدت أن الشعراء استنفذوا أكثر ما نظموه في تصوير الأوضاع الداخلية، تصويرا يكشف عن العلاقات القبلية المتناقضة، والاتجاهات الحزبية المتعارضة، وما قامت عليه من التنافس الشديد في المراكز السياسية، والفوائد الاقتصادية. واستفرغوا شطرا كبيرا منه في تسجيل الغزوات الخارجية، تسجيلا اتضحت فيه النزعات القبلية والحزبية اتضاحا بينا، إذ ضخم شعراء الأزد وبكر وعبد القيس أعمال الولاة اليمنيين تضخيما ظاهرا، ليضاهوا بها أعمال الولاة القيسيين. ولم يتطرقوا للموضوعات التقليدية من مديح وهجاء وفخر ورثاء إلا قليلا، فإن ما نظموه فيها لا يساوي نصف ما نظموه في الموضوعين السابقين. وأهم ما يستخلص من أشعارهم فيها أن شعراء الأزد وبكر وعبد القيس تعصبوا في مدائحهم ومراثيهم للولاة اليمنيين، أحياء وأمواتا، وأنهم هاجموا في أهاجيهم الولاة القيسيين. ويستشف منها كذلك أن شعراء تميم وقيس نهضوا بالفخر نهضة رائعة فصلته عن

جذوره القبلية الجاهلية، ووصلته بحاضرهم ووجودهم بخراسان، إذ تمدحوا فيه بمواقف قبائلهم العملية من مصير العرب عامة، وبدفاعهم المر عن كيانهم ومستقبلهم. ولما كانت أشعارهم في جملتها وليدة الأحداث الطارئة، والغزوات المفاجئة، فقد غلبت المقطوعات عليها، وقلت المطولات فيها، ونشأ عن ذلك أن أهدروا أكثر التقاليد الفنية المرعية عند الشعراء الرسميين، كالمقدمة، ووصف الناقة والصحراء، وتصوير مناظر الصيد، سوى قصائد قليلة احتفظوا فيها بالمقدمة الغزلية والمقدمة الطللية، ولكنهم تحولوا بالمقدمة الأولى إلى ما يشبه مقدمة الفروسية والبطولة، وبالمقدمة الثانية إلى ما يشبه مقدمة الحنين إلى الوطن والأهل بالبصرة. وخصصت الفصل الثالث لشعراء القبائل العربية بخراسان فترجمت فيه لستة من مشاهيرهم وأعلامهم وهم ثابت قطنة، وكعب الأشقري وهما أزديان كانا متحزبين للأزد تحزبا حادا، ونهار بن توسعة البكري، وكان بدوره متعصبا لبكر تعصبا جامحا، والمغيرة بن حبناء وحاجب بن ذبيان، وهما تميميان، كان أولهما أكثر شعراء القبائل اعتدالا واتزانا وتجردا من العصبية، وكان ثانيهما مترددا متحزبا، وزياد الأعجم، وهو وإن بدا أنه كان متشبثا بولائه للعبديين، حريصا على الذب عنهم، فإنه جعل غايته من شعره الاتجار به، كما كان قلقا هجاء خبيثا، وربما كان هدفه من لجاجته في هجاء الأمراء والشعراء العرب السخرية منهم، والإذلال لهم. وكان التخطيط النظري الأولي يقتضي أن أترجم لشاعر من قيس، غير أنني لم أظفر بشاعر قيسي كبير، له شعر كثير، ومصدر ذلك أن قيسا لم تكن تقارب في ضخامتها سائر القبائل، ومما يقطع بذلك أنها لم تقو على منع عبد الله بن خازم السلمي من اغتيال بني تميم له، وأنها لم تتمكن من المحافظة على حياة قتيبة بن مسلم الباهلي، حين تآمرت بقية القبائل عليه، كما أن شعراءها الكبار لم يهاجروا إلى خراسان، ولذلك كان أكثر شعرائها هناك مقلين، ليس لكل منهم سوى مقطوعة أو مقطوعتين، أو قصيدة طويلة. وقد حرصت على أن أجمع في تراجم أولئك الشعراء كل أخبارهم، وأن أتتبع جميع أشعارهم، حتى أتبين شخصياتهم تبينا صحيحا، وحتى أستظهر استظهارا

واضحا، وقد رأيت أن شعراء الأزد وبكر وعبد القيس كانوا متعصبين لقبائلهم تعصبا شديدا، وإن تحزب شعراء الأزد لقبيلتهم تحزبا جامحا، استشعروا فيه دورها الإسلامي المهضوم، ومكانها الضائع العظيم، وصرحوا فيه برغبتها في السلطان تصريحا قويا. وبالمثل تحيز حاجب بن ذبيان لتميم، واعتد بها، ولكن المغيرة بن حبناء كان أضعف منه تحيزا لها، وأكثر تحررا من العصبية القبلية، بل ربما كان أشد شعراء القبائل وعيا ونضوجا، وأعمقهم إيمانا بفكرة الأمة والمصلحة العامة.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع: 1- الآمدي: أبو القاسم، الحسن بن بشر "- 370هـ"، المؤتلف والمختلف، تحقيق عبد الستار أحمد فراج، طبع دار إحياء الكتب العربية 1961. 2- ابن الأثير: عز الدين، علي بن محمد "630 هـ": 1- أسد الغابة في معرفة الصحابة، نشر المكتبة الإسلامية. ببيروت. 2- الكامل في التاريخ، تحقيق تورنبرج، طبع ليدن 1851. 3- أحمد أمين: 1- ضحى الإسلام، طبع دار الكتاب العربي ببيروت، الطبعة العاشرة. 2- فجر الإسلام، طبع مكتبة النهضة المصرية، الطبعة العاشرة 1965. 4- إدي شير، الألفاظ الفارسية المعربة، طبع المطبعة الكاثوليكية ببيروت 1908. 5- الإصطخري: أبو القاسم، إسحاق بن إبراهيم، المسالك والممالك، تحقيق الدكتور محمد جابر الحيني، طبع وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر 1961. 6- الأصمعي: أبو سعيد، عبد الملك بن قريب "-216هـ"، فحولة الشعراء، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي وطه محمد الزين، طبع المطبعة المنيرية بالأزهر 1953. 7- البحتري: أبو عبادة، الوليد بن عبيد الطائي "-284هـ"، الحماسة، تحقيق الأب لويس شيخو، طبع دار الكتاب العربي ببيروت 1967. 8- البخاري: أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل "-256هـ"، التاريخ الكبير، طبع حيدر آباد الدكن 1361هـ. 9- بشار بن برد: ديوانه، شرح محمد الطاهر بن عاشور، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 1950.

11- البغدادي: عبد القادر بن عمر "-1093هـ"، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، طبع المطبعة الأميرية ببولاق 1299هـ. 12- البلاذري: أبو جعفر، أحمد بن يحيى بن جابر "279هـ": 1- أنساب الأشراف، تحقيق س. غويتين، طبع القدس 1936. 2- فتوح البلدان: مراجعة رضوان محمد رضوان، طبع المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة 1959. 13- ابن تغري بردي: جمال الدين أبو المحاسن يوسف "874هـ"، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، طبع دار الكتب المصرية. 14- الجاحظ: أبو عثمان، عمرو بن بحر بن محبوب "-255هـ": 1- البيان والتبيين، شرحه وحققه حسن السندوي، طبع مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1932. 2- الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون، طبع مكتبة الخانجي بمصر 1965. 15- ابن الجزري: أبو الخير، محمد بن محمد "-833هـ"، غاية النهاية في طبقات القراء، عنى بنشره ج. برجستراسر، طبع مكتبة الجانجي بمصر 1932. 16- ابن أبي حاتم الرازي: أبو محمد، عبد الرحمن بن أبي حاتم "-327هـ"، الجرح والتعديل، طبع حيدر آباد الدكن 1952. 17- ابن حبيب: أبو جعفر، محمد بن حبيب البغدادي "245 هـ"، المحبر، تصحيح الدكتورة ايلزة ليخنن شتيتر، منشورات المكتب التجاري ببيروت. 18- ابن حجر العسقلاني: أبو الفضل، أحمد بن علي "-852هـ": 1- تقريب التهذيب: حققه عبد الوهاب عبد اللطيف، طبع دار المعرفة ببيروت- الطبعة الثانية 1975. 2- تهذيب التهذيب، طبع حيدر آباد الدكن 1325هـ. 3- لسان الميزان، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ببيروت 1970. 19- ابن أبي حديد: أبو حامد بن هبة الله بن محمد "655 هـ"، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم طبع عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر. 20- ابن حزم: أبو محمد، علي بن سعيد "-456هـ"، جمهرة أنساب العرب، تحقيق عبد السلام هارون، طبع دار المعارف بمصر 1962.

21- الحصري القيرواني: أبو إسحاق، إبراهيم بن علي "453هـ"، زهر الآداب وثمر الألباب، تحقيق علي البجاوي، طبع دار إحياء الكتب العربية 1953. 22- أبو حنيفة الدينوري: أحمد بن داود "-282هـ" الأخبار الطوال، تحقيق عبد المنعم عامر، طبع وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر 1960. 23- ابن حوقل: أبو القاسم، صورة الأرض، نشر مكتبة دار الحياة ببيروت. 24- ابن خرداذبة: أبو القاسم، عبيد الله بن عبد الله "-300هـ"، المسالك والممالك، طبع مكتبة المثنى ببغداد. 25- ابن خلكان: شمس الدين أحمد بن محمد "-681هـ"، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، طبع مكتبة النهضة المصرية 1948. 26- ابن خياط: خليفة بن خياط العصفري "-240هـ"، تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق سهيل زكار، طبع وزارة الثقافة بدمشق 1966. 27- ابن دريد: أبو بكر، محمد بن الحسين "321هـ"، الاشتقاق، تحقيق عبد السلام هارون، طبع مؤسسة الخانجي بمصر 1958. 28- الذهبي: أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن عثمان "-748هـ": 1- تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام، نشر مكتبة القدسي بالقاهرة 1383هـ. 2- تذكرة الحفاظ، طبع دار إحياء التراث العربي ببيروت. 3- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي البجاوي، طبع عيسى البابي الحلبي وشركاه 1963. 29- ابن رستة: أبو علي، أحمد بن محمد، الأعلاق النفسية، طبع ليدن 1891. 30- ابن سعد: محمد بن سعيد "230" الطبقات الكبرى، طبع دار صادر ببيروت 1960. 21- ابن سلام: محمد بن سلام الجمحي "231هـ"، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر، طبع دار المعارف بمصر 1952" وطبع مطبعة المدني 1974. 22 السمعاني: عبد الكريم بن محمد بن منصور "-562هـ"، الأنساب، طبع ليدن 1912.

33- السيوطي: جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر "911هـ"، شرح شواهد المغني، تصحيح الشيخ محمد الشنقيطي، طبع لجنة التراث العربي بدمشق 1966. 34- ابن شاكر الكتبي: محمد بن شاكر بن أحمد "764هـ"، فوات الوفيات، تحقيق الدكتور إحسان عباس، طبع دار الثقافة ببيروت 1973. 35- ابن الشجري: هبة الله بن علي بن محمد - 542هـ"، الحماسة، طبع حيدر آباد الدكن 1345هـ. 36- الشريف المرتضي: علي بن الحسين "-436هـ"، غرر الفوائد ودرر القلائد "أمالي المرتضي"، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، طبع دار إحياء الكتب العربية 1954. 37- الشهرستاني: أبو الفتح، محمد بن عبد الكريم "-548هـ"، الفرق بين الفرق، تحقيق محمد سيد الكيلاني، طبع مصطفى البابي الحلبي وشركاه 1961. 38- شوقي ضيف: 1- الرثاء، طبع دار المعارف بمصر 1955. 2- العصر الإسلامي، طبع دار المعارف بمصر 1963. 39- صالح العلي: 1- استيطان العرب في خراسان، مقالة بمجلة كلية الآداب بجامعة بغداد -العدد الأول 1959. 2- التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة، طبع دار الطليعة ببيروت 1959. 40- طه حسين، حديث الأربعاء، طبع دار المعارف بمصر 1965. 41- الطبري: أبو جعفر، محمد بن جرير "-310هـ"، تاريخ الرسل والملوك، طبع ليدن 1879، وطبع دار المعارف بمصر. 42- الطرماح: الحكم بن حكيم الطائي، ديوانه، تحقيق الدكتور عزة حسن، نشر وزارة الثقافة بدمشق 1968. 43- ابن عبد البر: أبو عمر، يوسف بن عبد الله بن محمد "-463هـ"، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق علي البجاوي، طبع مكتبة نهضة مصر. 44- ابن عبد ربه: أحمد بن محمد "-327هـ"، العقد الفريد، تحقيق أحمد أمين ورفاقه، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 1948.

45- عبد العزيز الدوري: 1- الجذور التاريخية للشعوبية، طبع دار الطليعة ببيروت 1962. 2- مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، طبع المطبعة الكاثوليكية ببيروت 1961. 46- أبو عبيد البكري: عبد الله بن عبد العزيز "-487هـ": 1- التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه، طبع مطبعة السعادة بالقاهرة 1953. 2- الآلي في شرح أمالي القالي "سمط الآلي" تحقيق عبد العزيز الميمين، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 1936. 47- أبو عبيدة: معمر بن المثنى، نقائض جرير والفرزدق، تحقيق بيفان، طبع ليدن 1905. 48- ابن عساكر: أبو القاسم، علي بن الحسن "- 571هـ": 1- تاريخ دمشق الجزء الرابع عشر، مخطوطة المكتبة، الظاهرية رقم: 3378، والجزء السابع عشر، مخطوطة المكتبة الظاهرية رقم: 3381. 2- تهذيب تاريخ ابن عساكر، تصحيح عبد القادر بدران، طبع مطبعة روضة الشام. 49- العسكري: أبو أحمد، الحسن بن عبد الله "-382هـ"، المصيون في الأدب، تحقيق عبد السلام هارون، طبع الكويت 1960. 50- العسكري: أبو هلال، الحسن بن عبد الله بن سهل "-395هـ"، ديوان المعاني، طبع مكتبة القدسي بالقاهرة 1352هـ. 51- ابن العماد الحنبلي: أبو الفلاح، عبد الحي بن العماد "-1089هـ"، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، طبع المكتب التجاري ببيروت. 52- العيني: أبو محمد، محمود بن أحمد، الشواهد الكبرى، على هامش خزانة الأدب للبغدادي، طبع المطبعة الأميرية، ببولاق 1299هـ. 53- فان فلوتن: السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية، ترجمة الدكتور حسن إبراهيم، ومحمد زكي إبراهيم طبع مطبعة السعادة بمصر 1934. 54- ف: بارتولد: تاريخ الحضارة الإسلامية، ترجمة الدكتور حمزة طاهر، طبع دار المعارف بمصر 1942.\

55- أبو الفرج الأصفهاني: علي بن الحسين "-356هـ"، الأغاني، طبع دار الكتب المصرية. 56- الفرزدق: همام بن غالب "-114هـ"، ديوانه، طبع دار صادر ببيروت 1966. 57- ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، تحقيق أحمد زكي باشا، طبع دار الكتب المصرية 1924. 58- ابن الفقيه: أبو بكر، أحمد بن محمد الهمذاني، كتاب البلدان، طبع ليدن 1302هـ. 59- القالي: أبو علي، إسماعيل بن عيذون "-356هـ": 1- كتاب الأمالي، طبع مطبعة السعادة بالقاهرة 1953. 2- ذيل الأمالي والنوادر، طبع مطبعة السعادة بالقاهرة 1953. 60- ابن قتيبة: أبو محمد، عبد الله بن مسلم "-276هـ"، الشعر والشعراء، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، طبع دار المعارف بمصر 1966. 61- ابن كثير: أبو الفداء، إسماعيل بن عمرو "- 774هـ"، البداية والنهاية في التاريخ، طبع مطبعة السعادة بمصر 1932. 62- لي سترانج: بلدان الخلافة الشرقية، ترجمة بشير فرنسيس، وكوركيس عواد، طبع مطبعة الرابطة ببغداد 1954. 63- ماسينبون: خطط الكوفة، ترجمة المصعبي، طبع مطبعة العرفان بصيدا 1946. 64- مالك بن الريب التميمي: ديوانه: جمعه الدكتور نوري حمودي القيسي، مجلة معهد المخطوطات العربية، المجلد الخامس عشر، الجزء الأول 1969. 65- المبرد: أبو العباس، محمد بن يزيد "-285هـ"، التعازي والمراثي، حققه محمد الديباجي، طبع مجمع اللغة العربية بدمشق 1869. 66- مجهول: العيون والحدائق، طبع بريل. 67- مجهول: مجموعة المعاني، طبع مطبعة الجوائب بالقسطنطينية 1301هـ. 68- المرزباني: محمد بن عمران "-384هـ"، معجم الشعراء، تحقيق عبد الستار فراج، طبع دار إحياء الكتب العربية 1960. 69- المرزوقي: أحمد بن محمد بن الحسن "-421هـ"، شرح ديوان الحماسة، تحقيق

أحمد أمين، وعبد السلام هارون، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 1951. 70- المسعودي: علي بن الحسين "-346هـ": 1- التنبيه والإشراف، تصحيح عبد الله إسماعيل الصاوي، طبع دار الصاوي للطبع والنشر والتأليف 1938. 2- مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، طبع المطبعة التجارية الكبرى بالقاهرة 1958. 71- ابن المعتز: عبد الله بن المعتز بن المتوكل "-296هـ" طبقات الشعراء، تحقيق عبد الستار فراج، طبع دار المعارف بمصر 1956. 72- المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، طبع ليدن 1906. 73- ابن منظور: محمد بن مكرم بن علي "-711هـ"، لسان العرب، طبع المطبعة الأميرية ببولاق 1300هـ. 74- الميداني: أبو الفضل، أحمد بن محمد النيسابوري "-518هـ"، مجمع الأمثال، طبع المطبعة الخيرية 1310هـ. 75- ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، طبع دار المعارف بمصر 1962. 76- النرشخي: أبو بكر، محمد بن جعفر "-348هـ"، تاريخ بخاري، ترجمة الدكتور أمين عبد المجيد بدوي، ونصر الله مبشر الطرازي، طبع دار المعارف بمصر. 77- النعمان القاضي: الفرق الإسلامية في الشعر الأموي، طبع دار المعارف بمصر 1970. 78- أبو نعيم الأصبهاني: أحمد بن عبد الله "-430هـ"، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء طبع دار الكتاب العربي ببيروت 1967. 79- أبو الهندي: غالب بن عبد المؤمن التميمي. شعره، جمعه عبد الله الجبوري، طبع بغداد 1970. 80- ياقوت الحموي: أبو عبد الله، ياقوت بن عبد الله "-626هـ": 1- معجم الأدباء، طبع دار المأمون بالقاهرة 1355هـ. 2- معجم البلدان، تحقيق واستنفيلد، طبع ليبزج 1866. 81- اليزيدي: أبو عبد الله، محمد بن عباس "-310هـ"، الأمالي، طبع مكتبة عالم الكتب ببيروت، ومكتبة المتنبي بالقاهرة.

82- اليعقوبي: أحمد بن أبي يعقوب "-292هـ": 1- تاريخ اليعقوبي، نشر المكتبة الحيدرية ومكتبتها بالنجف 1964. 2- كتاب البلدان، طبع ليدن 1891. 83- يوليوس فلهاوزن: تاريخ الدولة العربية، ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 1958. 84- ي، هل: الحضارة العربية، ترجمة الدكتور إبراهيم العدوي، طبع مكتبة الأنجلو المصرية.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: الصفحة الموضوع 5 مقدمة الفصل الأول: الجغرافية التاريخية 11 وصف خراسان 21 ولاة خراسان 39 القبائل العربية بخراسان الفصل الثاني: موضوعات الشعر وخصائصه 81 تصوير الأحوال السياسية 130 تسجيل الغزوات الحربية 164 موضوعات أخرى تقليدية 164 المديح 175 الهجاء 188 الفخر 196 الرثاء 211 خصائص موضوعية وفنية ولفظية

الصفحة الموضوع الفصل الثالث: شعراء القبائل بخراسان 219 شاعر أزدي متعصب موتور: ثابت قطنة 241 شاعر أزدي مفتون متهور: كعب بن معدان 259 شارع بكري مضطرب متحزب: نهار بن توسعة 269 شاعر تميمي سوي متبصر: المغيرة بن حبناء. 285 شاعر تميمي منافق متقلب: حاجب بن ذبيان 294 شاعر مولى جوال متكسب: زياد الأعجم. 310 خاتمة 314 المصادر والمراجع 322 الفهرس

§1/1