الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق

عبد العزيز صالح

مقدمة

مقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم تتطلب وقائع المعاصرة النسبية بين الحضارات الكبرى في الشرق الأدنى القديم، ومجالات التعامل والتكامل، أو التقابل والتنافس، بين إنجازات شعوبها وثقافاتها، إيثار تضمين المعالم الرئيسية لتاريخها العريض في مؤلف واحد، ذي خطة شمولية متجانسة، يتناول مراحل التطور والتأثير في حضارات مصر والعراق والشام وشبه الجزيرة العربية، وبعض أنحاء شمال إفريقيا وشرقها وشمال السودان، إن صعودًا، وإن توقفًا أو هبوطًا، خلال عصورها القديمة وفي عالمها الكبير. وذلك هدف لا ينتقص من قيمة ما صدر عن تاريخ هذه أو تلك من مؤلفات فردية، باللغة العربية أم بغيرها من اللغات. وبدأت خطة الإصدار الأول لهذا الكتاب في عام 1967 لتحقيق الفكرة المسبقة، فكرة تقديم تاريخ حضارة الشرق الأدنى القديم متواصلًا في مؤلف شامل كبير. ولكن ما أن تمت به ابتداء الخطوط العريضة لحضارتي مصر والعراق، حتى تأكد ما توقعناه من أن مختصر الحديث العلمي عنهما، أضخم من أن يسع معهما بحوثًا أخرى. واقتضى هذا إفرادهما بجزء أول، على أن يخصص لبقية الحضارات جزء آخر، أو جزءان يصدران بعده. وندع التمهيد بالعوامل الموجهة لمسيرة الحضارات الرئيسية لهذا الشرق القديم، وصور التشابه أو التنوع بين إمكانياتها واتجاهاتها الثقافية الخاصة، للفصل الأول من هذا الكتاب. وحسب المقدمة الراهنة أن تعرض موجزًا لبعض المذاهب الفكرية الحديثة في تعليل البواعث والمضامين ذات الأثر في تشكيل طابع الحضارات الكبرى، ومصادرها المتنوعة. وللشرق الأدنى مكانة عريقة، في فلك تواريخ الشعوب الكبرى، وفي مراكب الحضارة الإنسانية بعامة، في عصوره القديمة، وبعض عصوره الوسيطة. وقد تداولت على أممه الكبرى، عصور استمسكت خلالها بمراتب الريادة أو القيادة في عدد من مجالات الفكر والمادة، وعصور أخرى انفلتت منها زعامتها والتزمت فيها بالتبعية الضمنية أو الكلية لغيرها. ولهذا كان من البدهي أن تشغل علل أحداثها وخواصها جانبًا مما تدارسه كبار المفكرين منذ الازدهار الإغريقي وحتى الآن، عن فلسفة المسببات لازدهار الحضارات العالمية، وعلل ضعفها أو انهيارها، في العصور المتعاقبة. وإذا عدونا آراء مفكري العصور الكلاسيكية القديمة، ومؤرخي العصور الوسطى، إلى آراء رواد الفكر الحديث، بحسبانها أقرب مما سواها إلى مفاهيم الثقافة المعاصرة، ألفينا محاولات عدة لرد نوعية الحضارات وطبيعة تطوراتها، إلى جذور وفروع قد يرتب بعضها بنواميس الكون وسنن الحياة وبداهة التطور حينًا، ويتصل بعضها بإيحاءات البيئات الطبيعية حينًا آخر، ويتأثر بعضها بالروح الشعوبية حينًا ثالثًا. دون أن تنفي حداثة هذه الآراء وجود أصول مهدت لها، من عصور سابقة عليها. ففي المدرسة الإيطالية، ذهب "فيكو" في دفاعه عن منهجية علم التاريخ إلى أن لحضارات الشعوب قواعد مطردة جرت على مقتضاها، تستوي في ذلك أمور العمران، وتصرفات الجماعات، وقيم الأخلاق والسلوك، وما عداها. وأقر "فيكو" بأن ما يجعل فترة تاريخية ما جديرة بالدراسة، لا يتمثل فيما حققته من أمجاد تقاس بمقاييسها الذاتية فحسب، وإنما تتحدد قيمتها الجوهرية أساسًا بوضعها في نسيج التاريخ العام.

وقصرت المدرسة الإنجليزية تطورات تاريخ الحضارة على إيحاء عبقريات فردية جبارة فرضت نتائج فكرها على جموع الناس. وقدرت بالتالي أن نصيب الحضارات من الازدهار أو التخلف أو التدهور إنما يرتبط بوفرة أو ندرة ما يظهر من العقليات المبدعة في كل مرحلة من مراحلها. وتجاوبت هذه الآراء مع ما حققه أفذاذ عصرها من تقدم علمي وانقلاب صناعي وانطلاق عالمي منذ القرن الثامن عشر وما تلاه. وفي المدرسة الفرنسية تداولت النهضة الفكرية في القرن الثامن عشر، مذهبين أساسيين: فرد "مونتسكيو" الفوارق بين الحضارات على فوارق بيئاتها المناخية وظروفها الخاصة، بمعنى أنه إذا تشابهت الطبيعة البشرية في كل زمان ومكان، إلا أنها تسلك مسالك متباينة بوحي البيئات التي تعايشها. وذهب "جان جاك روسو" في أولية أثر الإنسان على أثر البيئة، إلى أن عامل الزمن في مسيرة الحضارة، وتأثير الظروف الخاصة المحيطة بأهلها، ثم مدى وضوح إرادة المجموع، ومدى فاعلية التربية في بنيان المجتمع، كل ذلك له تأثيره في تطور تواريخ الشعوب. ونادى بالاعتراف لكل حضارة، أيامًا كانت مرتبتها، بجهودها وقيمتها الذاتية، مع اعتبار كل منها حلقة من سلسلة تطور طويلة لا تزال الملكات البشرية تنتجها في مختلف الدهور والظروف. ومع النهضة البروسية الجرمانية، ذهب "هيردر" إلى أن تاريخ كل شعب هو حصيلة للفعل المتبادل بين مجموعتين من القوى: القوى الخارجية التي تشكل محيطه الجغرافي، والقوى الباطنية التي يعبر عنها بروح الشعب. وهذه الأخيرة هي الأهم والأبقى. فلكل شعب روح من نوع معين توارثها في تكوينه فأصبحت تترجم عنه وتعبر عن نفسها في كل ما خرج أهلها به من نظم وتقاليد، ومثل عليا للحياة. كما غدت بالتالي هي المسئولة عن صورة تاريخ شعبها. وعدل "هيجل" هذا الرأي إلى رأي آخر، قال فيه إن لكل شعب عبقريته الخاصة التي تنعكس على ما يأتيه من أعمال في عالم الفكر والمادة، وبهذه العبقرية يساهم كل شعب مساهمة خاصة قدرت له في نطاق إمكانياته، في صنع تاريخ العالم. ثم أخذ برأي للفيلسوف "كانت" مؤداه أن التاريخ هو تاريخ المجموع، ينظر المفكر إليه ككل ويتغاضى فيه عن الجزيئات، ويرى فيه لكل شعب مكانًا في مسيرة عالمية تتيح الدنيا في نهاية أمرها تحقيق أسمى معانيها، وهو معنى التوازن عند "كانت" ومعنى الوعى الكامل بالحرية عند "هيجل". وكان "كانت" قد استهل فلسفته التاريخية بفكرة مسبقة خلاصتها أنه ما من شيء في الكون إلا ويسعى إلى غاية عظمى ينتهي إليها. ومن هذا المنطلق رأى أن وقائع الماضي التي قد تبدو متناثرة بغير قيمة تذكر – تتجلى في مجملها وكأنها تخدم هدفًا أعظم. ذلك لأن التاريخ يكاد يتبع خطة طويلة المدى غايتها البعيدة هي الأنواع الإنسانية ككل، ولو أدت إلى التضحية بمنفعة الجزء أو الفرد. وارتأى "كانت" أن السلام والعداء وإن كانا طرفين متناقضين، إلا أنه لا مندوحة عن تواجدهما معًا لتحقيق التوازن، والحض على التفوق. وما من شك أن لكل رأي من هذه الآراء قيمًا كبيرة لا تجحد. وإذا كان ثمة ما يضاف إليها، فهو أنه تحت الظروف الخاصة بكل أمة، وروحها أو عبقريتها، هي المؤثرة وحدها في تطورات تاريخها، فقد تبقى

روحها الخاصة كما هي، وتظل في بيئتها كما هي، ولكن قد تتغير الظروف الخارجية المحيطة بها تغيرًا جذريًّا لا دخل لها به ويتغير تاريخها تحت تأثيرها إن قليلًا أو كثيرًا. وردد "شبنجلر" آراء سابقيه من الحرمان من أمثال هيردر وهيجل بأن لكل حضارة طابعًا خاصًّا تعبر عنه، وهو في الوقت نفسه يتداخل في كل تفاصيلها وكل تطوراتها. ورأى أن كل حضارة أسيرة مصيرها، وأن اتجاهها لا يمكن أن يتحول؛ لأنه اتجاه حدده المصير وحددته الصيرورة. ثم إن كل الحضارات على الرغم من تنوعها تشترك في عملية واحدة تخضع لقانون ملحوظ من قوانين الطبيعة، وهو أن كلا منها تقطع دورة تشبه دورة حياة الكائن الحي، فيها طفولة وشباب ورجولة وشيخوخة، وهذه الدورة تبدأ بالبربرية التي تطبع المجتمعات البدائية، ثم تتطور إلى مرحلة تعمل الحضارة فيها على بدء التنظيم السياسي وبدء مقومات العلوم والفنون ولكن في صورة أولية. وفي شبابها تزداد الحضارة نقاء وصفاء وتحقق كينونتها. وأخيرًا تنتقل إلى مرحلة المدنية، فإذا بلغت غايتها من هذه المرحلة جمدت واستهلكت كل إمكانياتها واستنزفت عصارة حياتها، وأصبح ذلك إيذانًا ببداية انهيارها الذي يقترن عادة باتجاهها إلى لون آخر من ألوان البربرية يصطبغ كل شيء فيه بصبغة الاستغلال والضعة، وهذه هي نهاية حياتها، ولن يخلفها شيء بعد لأنها قد ماتت ونضب معين الابتكار فيها. وتلك سنة لا يستطاع معها تحديد عدد مراحل الدورة الحضارية فحسب، بل ويمكن تحديد زمنها أيضًا. وليس من اعتراض على فكرة الدورة الحضارية أو التاريخية في حد ذاتها، ولم يكن القول بها من ابتداع شبنجلر، وإنما ... إلى القول بها كثيرون ومنهم ابن خلدون في الشرق وفيكو في الغرب. ولكن ينصب نقد آرائه على ما ارتآه من إمكان التنبوء الصحيح بمستقبل الحضارات وإمكان تحديد زمن دوراتها وتحديد أمد كل مرحلة من مراحلها، وما قال به من أن انهيار حضارة ما يعني موتها موتًا لا نشور بعده. وقبل الإدلاء ببعض ما يمكن تعديل نظريته به ينبغي التقديم بأمرين، وهما: أن قوانين الدورات الحضارية قوانين اعتبارية مرنة ليست كالقوانين الطبيعية جامعة ولا مانعة، وأن تعبير الدورة لا يعني الحركة الدائرية بالضرورة، وإلا لعادت الحضارات إلى حيث بدأت وسارت في نفس خطوطها القديمة، وظلت في حلقة مقفلة، وهذا يخالف سنة التطور. كما أنها لا تعني الحركة الحلزونية، كما ظنها "فيكو" فالحركة الحلزونية قد تعني الاتساع إلى الخارج باطراد، وهذا إن حدث مرة قد لا يحدث مرة أخرى. وفي ظل هذه المقدمات يمكن القول بأن الدورات الحضارية والدورات التاريخية للأمم المتحضرة لا تكاد تخلو من وجوه شبه ظاهرية مع دورة الحياة التي يمر بها الكائن الحي، لا سيما الكائن العاقل الذي يؤثر في غيره ويتأثر بغيره، ويختار بعض أمره ويجبر على بعض أمره. وعلى هذا الاعتبار تعاقبت الحضارات الكبرى مراحل طفولة ونشأة، ومراحل فتوة وشباب، ومراحل كهولة وشيخوخة. وكثيرًا ما طالت في الحضارات مراحل نشأتها وتلونت فيها بلون بيئتها، وتعثرت فيها بين الفشل وبين النجاح في تجارب تناسبها خلقت فيها بمجهوداتها أشياء من العدم، وقلدت فيها أشياء أخرى من غيرها. وكثيرًا كذلك ما تأثر شباب الحضارات

بمدى استمرار الإمكانيات البكر في أرضها، ومدى ما توفر لشعبها من قدرة على الإبداع المادي والمعنوي في فتوتها، ومدى ونوع التحديات والأزمات التي واجهتها وأظهرت قيمة معدنها. وتتفاوت مصائر الحضارات في مراحل شيخوختها تبعًا لما أسست به بنيانها في مراحل نشأتها وشبابها وازدهارها. وتتعاقب عليها خلال المراحل السابقة كلها ظروف داخلية وظروف خارجية قد تشجعها على الطفرة حينًا، وتجبرها على التراخي حينًا، وتدفعها إلى الانطواء أحيانًا. ودورتها لا تكاد تختلف في ذلك كله عن دورة الحياة للكائن الحي إلا فيما جرت به سنة الخلق من انتهاء الكائنات الحية بعد الشيخوخة إلى زوال، على حين استطاعت بعض الحضارات والشعوب أن تسترجع شبابها بعد شيخوختها مرة ومرات، ونجحت في أن تفيق من نهاية دورة تاريخية لتستأنف دورة أخرى مزودة بعزمات جديدة ومستعينة ببعض خبراتها القديمة التي تغنيها عن الرجوع إلى تجارب النشأة والبدء بها مرة أخرى. وكان حضارات وشعوب الشرق الأدنى، على رأس هذا البعض من الحضارات والشعوب، فتعددت دوراتها واستعادت شبابها عدة مرات. سبتمر 1967 أغسطس 1973 ديسمبر 1980 عبد العزيز صالح

الشرق الأدنى القديم

الشرق الأدنى القديم الفصل الأول: التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله مدخل ... الشرق الأدنى القديم: الفصل الأول: التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله تعبير الشرق الأدنى القديم تعبير اصطلاحي تأثر إلى حد ما بالتعبير الأوروبي " The Ancient Near East" وقد امتدت معالم الحضارات القديمة فيه امتدادا عميقا واسعا، على الرغم من غلبة الطابع الصحراوي على معظم أراضيه. فانتشرت خلال عصور ازدهارها من أعالي الشام وأعالي العراق شمالا حتى سواحل بحر العرب "أو المحيط الهندي" جنوبًا، ومن شمال إفريقيا وشمال السودان غربًا حتى الخليج العربي شرقًا، وشغلت ما يشغله الشرق العربي في حدوده الحالية. وبعد أن سايرت الحضارات الأولية الدهور الحجرية في هذا الشرق الأدنى بقية حضارات العالم المسكون التي عاصرتها، تميزت عنها بالسبق الحضاري منذ فجر تاريخها، أي منذ الألف السادس ق. م فصاعدًا، حين تمايزت بين حضارات وديان أنهارها الكبرى حضارتان أصليتان توافر لهما أثر عميق على أغلب ما تعاقب بعدهما من حضارات، ونعني بهما حضارة مصر وحضارة العراق، اللتين بدأ فيهما الانقلاب الرئيسي الثاني في مجالات الحياة المادية للإنسان القديم، وهو بدء حرفة الزراعة "بعد معرفة سر إيقاد النار" كما بدأ فيهما التطور المعنوي الكبير الثاني لثقافات الشعوب القديمة وهو بدايات الكتابة "بعد معرفة بدايات الفنون". ثم ظهرت في الشرق الأدنى مع نضج ثقافات القديمة تشريعات وضعية متكاملة، وعقائد أخروية واعية، وبذور الوحدانية، وأسس العلوم، كما أشرقت فيه ديانات سماوية ساهم بعض أهله في نشرها وكانت ولا تزال هدى للعالمين القديم والحديث. وظلت آثار حضارات الشرق المادية والفنية أوفر عددا وأعظم ضخامة مما عداها من آثار بقية الحضارات القديمة. كما استمرت تطوراته أوسع وأوضح من تطوراتها حتى أواسط الألف الأول قبل ميلاد المسح، حين أدت ظروفه وظروفها إلى انتقال موازين القوى وزعامة الحضارة من بلاده إلى أمة الفرس في شرقه وإلى بلاد الإغريق ومن تلاهم في شماله الغربي، وإن لم يكن هذا قد حرم الشرق الأدنى من أن يظل رمزا باقيا للأصالة، برغم كل ما تعاقب عليه من نكبات وشدائد، كما لم يحرمه من النهوض بعد قرون طويلة عملاقًا قويًّا في ثوب حضاري جديد بعد ظهور الإسلام على أرضه وبين أهله. وربطت بين مواطن العمران الأولى في الشرق الأدنى القديم عدة روابط طبيعية وجنسية وحيوية بقيت آثارها المحسوسة حتى الآن. ومعروف ما للعوامل المناخية والبيئية من تأثير في نفسيات الشعوب وملامحها ومعايشها وأخيلتها، لا سيما في عصورها التكوينية الأولى التي كان ارتباط الإنسان فيها ببيئته وخضوعه لإيحاءاتها أكبر مما هو عليه الآن بكثير، وظلت الظروف المناخية التي سادت العصور التاريخية

للشرق الأدنى متشابهة المظاهرة ومتشابهة النتائج إلى حد واضح. وكانت ولا تزال تميل إلى الجفاف في معظم أحوالها، فيما خلا مناطق قليلة اتصفت بمناخها الخاص على سواحل البحر المتوسط وإلى حد ما على سواحل البحر الأحمر وبحر العرب أو المحيط الهندي. وظلت معابر الشرق الأدنى البرية التي استخدمها أهله القدماء في تنقلاتهم واتصالاتهم مفتوحة مطروقة في غالب الأحيان إلى حيثما تطلبت المصالح الإقليمية زيادة تحصيناتها وتشديد الرقابة عليها في فترات الغزوات الخارجية والهجرات العنيفة. وترتب على هذين العاملين أن ظلت أغلب الجماعات ذات الأثر في عمران الشرق الأدنى وتحضره من السلالات التي عرفت اصطلاحا باسم السلالات السامية الحامية، وقد تحدرت في بداية نشأتها من عائلة جنسية واحدة ذات أرومة لغوية متقاربة، ثم انضافت إلى هوامشها من حين إلى آخر هجرات شعوبية دخيلة وفدت من أواسط آسيا ومرتفعاتها ومن جزر البحر المتوسط، ولكنها وفدت في أغلب حالاتها قليلة الأعداد وعلى فترات متباعدة، وذلك مما شجع اللبانة السامية الحامية على أن تتشربها وأن تصبغها بصبغاتها ثم تذيبها تدريجيًّا في كيانها الجنسي واللغوي والفكري الكبير وقد نتج عن ذلك أن استمرت مظاهر التشابه في لغات شرقنا الأدنى القديم واتجاهات عقائد شعوبه وأساطيرهم أكثر وأوضح من مظاهر الاختلافات الإقليمية بينها. وقد استشهدنا على ذلك بنماذج عدة تخيرناها من صور التقارب اللغوي بين المصريين القدماء وبين جيرانهم من أصحاب اللغات السامية والحامية في كتابنا السابق عن "حضارة مصر القديمة وآثارها"، ولهذا نحيل القارئ إلى ما ذكرناه فيه عنها. وحسب هذا الفصل من صورة ذلك التقارب أنه أمكن التعرف على ما يقرب من مائتي كلمة مصرية قديمة لا تزال أمثالها حية في مفردات اللغة العربية الفصحى، وهي مجرد قلة من كثرة اندثر بعضها، وانزوى بعضها الآخر في بطون المعاجم نتيجة للتطور الزمني والحضاري لمفردات الكتابة والحديث. ولعل الأكثر دلالة على صلة الرحم القديمة هو وجود صلات جوهرية بين قواعد النحو في كل من اللغة المصرية القديمة واللغة العربية بخاصة، على الرغم من اختلاف صور الكتابة بينهما، ومن ذلك وجود حروف الحاء والعين والقاف في اللغة المصرية القديمة، وشيوع المصدر الثلاثي بين أفعالها، وغلبة الفعل المعتل الآخر فيها، وما أخذت به من سبق الفعل للفاعل، وإلحاق الصفة بالموصوف، واستخدام صيغة المثنى، وإضافة تاء التأنيث في نهاية بعض أسمائها وصفاتها المؤنثة، واستخدام ياء النسبة، وتمييز البعض من الكل، واستخدام كاف المخاطب وميم المكان ونون الجمع، مثلها في ذلك مثل اللغة العربية، وذلك فضلًا عن كتابة الحروف الساكنة وشبه اللينة في كلماتها دون حروف الحركة، وتشابه عدد من ضمائرها مع ضمائر بعض لهجات اليمن ولهجات العراق ولهجات جنوب الشام في العصور القديمة، مع اختلاف في طريقة النطق بين كل واحدة والأخرى، ولا شك في أن التقارب في قواعد النحو بين اللغات لا يتأتى إلى عن طريق وحدة أصولها القديمة. غير أنه كان من البديهي أن يترتب على شدة انفساح رقعة الشرق الأدنى القديم، وتباعد المواقع الجغرافية لأطرافه، وتباين التكوينات التضاريسية لأجزائه، بعض التنوع الإقليمي في الأوضاع المعيشية والاجتماعية والسياسية لشعوبه ومجتمعاته. وتتضح بعض صور هذا التنوع فيما ستتناوله الصفحات التالية من اختلاف ظروف البيئات النهرية والصحراوية والساحلية، ومدى توافر فرص الاختلاط والاتصالات، على تكوين القوميات القديمة وخصائص الشعوب هنا وهناك.

في وادي النيل

في وادي النيل: إذا بدأنا بمصر، فلعل أقرب ما يتبادر إلى الخاطر من نصيبها في التمايز الإقليمي عن جيرانها، هو أن جريان نهر النيل في أرضها قد خفف نتائج جفافها المناخي إلى حد كبير، على الرغم من دخولها في النطاق الصحراوي العظيم الذي يمتد في أغلب بقاع الشرق الأدنى من الخليج إلى المحيط. ثم استطاع أن يطبعها بطابع خاص من الكفاية والاستقرار، وأن يوجه معايش أهلها وجهة زراعية غالبة مترابطة منذ أن أنس أجدادهم إلى ضفافه وزاد استقرارهم عليها في فجر تاريخهم القديم، ومنذ أصبحوا يستغلونه ويقدرون جوانب نفعه أكثر ما يتهيبون مظاهر جبروته وطغيان فيضاناته. وأدت خاصية الامتداد الرأسي الطويل لنهر النيل من الجنوب إلى الشمال مع ندرة فروعه الطبيعية الجانبية في مصر، إلى توزيع مواطن العمران فيها على جانبيه توزيعا رأسيا أكثر منه أفقيًّا، وهي ظاهرة أدت فيما هو معروف إلى تكاثف سكانها في مناطق محدودة المساحات نسبيًّا، وإن سمحت في مقابل ذلك بتيسير الاتصالات المكانية ووسائل النقل المائية بينهم. وترتب على هذه الاتصالات البشرية والمكانية المتاحة بعض الأثر في الإيحاء إلى الحكام والمفكرين المصريين القدماء بواقع الترابط الطبيعي بين أجزاء أرضهم ومدى اتصال مصالحها ومقومات حياتها وقوميتها. وأفضى هذا الأثر أو هذا الإيحاء، مع غيره من مجريات الأحداث القديمة في مصر، إلى التبكير فيها بظهور أول وحدة سياسية كبيرة مستقرة معروفة في تاريخ البشرية كلها. ولم تخل البيئة المصرية من مشكلات تطلبت أن يوجهها سكانها بالتحدي العملي والفكري حتى يتغلبوا عليها أو ييسروها ويقللوا من أخطارها. وغالبًا ما كانت التحديات ولا تزال من أهم الحوافز إلى الرقي والإبداع الحضاري. والواقع أن أمور النيل والزراعة لم تكن هينة دائمًا في أوائل عصور التحضر المصري القديم، وإنما تخللتها مصاعب وظواهر ظلت تتطلب من أهلها كثيرًا من الصبر والجهد المتصل، وإن يكن جهدا منتجا في حد ذاته. ففيضانات النهر كانت ولا تزال، على الرغم من جودها وانتظام مواسمها، تستدعي اليقظة الجماعية لمواجهتها، وتتطلب التعاون لتقليل أخطارها، وتحتاج إلى كثير من بذل الجهد وتطوير المهارة لتيسير الانتفاع بها وتوصيلها إلى الأراضي المرتفعة عن مستوياتها. وبقيت بعض ضفاف النيل ومناطق دلتاه بخاصة، على الرغم من خصوبتها الفطرية، موطنا للأحراج النباتية والمناقع المائية طوال دهور ما قبل التاريخ وخلال أوائل العصور التاريخية ذاتها، وبهذا ظلت هي الأخرى تحتاج إلى تكاتف بشري وجهد متصل في سبيل استصلاحها وتهذيبها واستغلالها. وأدت جهود المصريين في الحالين إلى تزكية إحساسهم الجماعي بضرورة الارتباط بحكم مركزي مستقر يشرف على جهودهم العامة وينسقها وينظم الانتفاع بنتائجها. وإذا كانت الصحراوات المصرية الواسعة قد شابهت غيرها من صحراوات الشرق الأدنى، في مظاهر فقرها الطبيعي، وفي أن هذا الفقر كثيرًا ما دفع بدوها المحليين إلى تعكير أمن حواف المناطق الزراعية وطرق التجارة البرية، وظلت نتيجة لذلك تستدعي اليقظة الدائمة من الحكومات المصرية القائمة لكسر شرة بدوها

وإلزامهم حدود الطاعة قدر المستطاع، إلا أنه بقي لهذه الصحراوات من الخصائص ما تميزت به إلى حد ما عن غيرها. فعلى نحو ما ظل النيل أبًا حانيًا لحضارة المصريين القدماء، على الرغم من الجبروت الظاهر لفيضاناته كانت صحراواتهم الجافة الموحشة أمًّا لحضاراتهم من حيث لم يحتسبوا. فقد أدى اتساع فيافيها الداخلية الخطرة إلى التقليل من إمكانية استخدامها سبيلًا للغزوات الشعوبية الخارجية التي كان يمكن أن تهدد استقرار وادي النيل الأخضر، وبذلك تحقق للمصريين نصيب كبير من الوحدة الجنسية النسبية ومن الأمن الدولي القديم. وكفلت لهم صحاراهم ومرتفعاتها، على الرغم من وحشتها، بعض مقومات مدنيتهم المادية، نتيجة لوفرة معادنها وفرة نسبية، وكثرة أحجارها مع تعدد أنواع هذه الأحجار وألوانها وضخامة بحورها مما سمح لهم بأن يقيموا على مر الزمن أضخم وأروع عمائر حجرية عرفها العالم القديم قبل نهضة الإغريق. بل إن رمال الصحراء القريبة من وادي النيل لم تكن بدورها بغير أثر في تزكية آمال المصريين في الخلود حيت استغلوا جفافها لصيانة رفات موتاهم ومقتنيات مقابرهم سليمة لآماد طويلة. وما من بأس في أن يضاف إلى كل ذلك أن ما لقيه المصريون الأوائل من متاعب بيئتهم يقل كثيرًا عما عاناه بعض جيرانهم الشرقيين من مشكلات بيئاتهم، لا سيما إذا قدرنا أن البيئة المناخية في مصر كانت ولا تزال غير ذات تأثير معاكس على وجدان أهلها على الرغم من جفافها وقلة أمطارها، فهي إذا قورنت بكثير غيرها بيئة مأمونة العواقب هينة الحدة قليلة التقلب، ليس فيها من صراع الظواهر الطبيعية أو مظاهر الرهبة والصخب العنيف ما يوجه أهلها إلى اعتياد الصخب والعنف أو يطبعهم بطبعهم بطابع التمرد والقلق وتقلب الأهواء والمشاعر والعادات. ولهذا لم يكن من الغريب، أن يترتب على ما ألفه المصريون القدماء من غلبة الخير على الشر في أحوال نيلهم وواديهم وصحراواتهم ومناخهم بعض الأثر في صبغ حضاراتهم الطويلة بصبغة غالبة من مظاهر الاستقرار والاتصال، وصبغ حياتهم السياسية بطابع الهدوء والاستمرار، ثم الإيحاء إليهم بنوع من الشعور التلقائي بالكفاية، كفاية الجهد المنتج في الأرض، وكفاية الموارد النسبية بها، فضلًا عن كفاية مقومات الحضارة في بلدهم بوجه عام وبغير حاجة إلى مدد خارجي كبير. ولم يكن انطباع المصريين بيسر البيئة واستقرارها ووضوح معالمها بغير أثر مرة أخرى في ثبات تقاليدهم الاجتماعية والثقافية، وصبغ إنتاجهم الفني القديم بصبغة غالبة من بساطة الخطوط ووضوح التعبير وسماحة الهيئة والطابع إذا قورن بغيره من الفنون القديمة، وذلك فضلًا عن ثبات عقائدهم الدينية التي استوحوها من بيئتهم، وبعدهم عن مظاهر التعصب المذهبي وتغليبهم طابع الرحمة في أربابهم على طابع العنف والنقمة. بل ولم يكن بغير أثر كذلك في تزكية آمالهم في عالم أخروي مستقر يجدون فيه أحسن ما استحبوه من الطمأنينة والكفاية والاستقرار في دنياهم. وعلى أية حال، فليس في كل هذا ما يؤدي بالضرورة إلى تفضيل بيئة مصر على بيئة غيرها أو تفضيل حضارة شرقية على أختها، وإنما يكفي الاستشهاد به على ما يمكن أن يتأتى من تبادل التأثر والتأثير بين البيئة وبين أهلها، هنا وهناك، وما قد يترتب على ذلك من اصطباغ حياة الشعوب بخصائص معينة تحتسب لها أحيانًا أو تحتسب عليها أحيانًا أخرى.

في بلاد النهرين

في بلاد النهرين: تشابهت تأثيرات الأنهار الكبيرة والصحراوات الواسعة في العراق القديم مع تأثيرات أمثالها في مصر في بعض أمورها واختلفت عنها في بعض آخر. فقد كفل نهرا دجلة والفرات لأهل العراق الأقدمين خصبًا وكفاية، ووفرا لهم نصيبًا كبيرًا من الاستقرار في المعيشة والسكن، الأمر الذي ساعد حضاراتهم الأولى على أن تنضج في عصور مبكرة لا تبعد كثيرًا عن العصور التي نضجت فيها الحضارة المصرية الأولى. وعمل النهران وفروعهما على تيسير الاتصالات المكانية والمواصلات المائية وإتاحة فرص الارتقاء بصناعة السفن منذ فجر التاريخ العراقي القديم أو في أواخر الألف الرابع ق. م. ولكن الملاحة في النهرين لم تكن على الرغم من ذلك مأمونة دائمًا، وذلك نتيجة لشدة انحدارهما وسرعة جريان تياراتهما في أجزائهما العليا بعامة، وبطء جريانها وكثرة مناقعهما في أجزائهما الدنيا بخاصة، وذلك بحيث ظلت عملية عبور النهرين في بعض أجزائهما تحتسب من الأمور الشاقة التي رددت النصوص العراقية القديمة مخاطرها حتى في العصور الآشورية المتأخرة ذاتها1. يضاف إلى هذا أن فيضانات النهرين مع ما حملته للعراق من خصب ورخاء واستقرار ظلت قبل أن تخفف الجسور ومشاريع الري والصرف من وطأتها وحدتها، عنيفة مخشية الجانب في غالب أمرها، لعدم انتظام مواسمها ولشدة اندفاعاتها، وذلك إلى حد أن أصبحت عبارة "زوبعة الفيضان" مثلًا استخدمه أدباء العراق القدماء للتعبير عن كل أمر كاسح مدمر. وقد تشتد هذه الفيضانات في غير فترات الحاجة الملحة إليها، بحيث قد تعنف خلال مواسم الحصاد، أو تعنف في أوائل الصيف حيث تؤدي شدة الحر والبخر إلى سرعة تسرب ماء الري وجفافه من الأرض. وأفضت خاصية الامتداد العرضي الكبير للأراضي التي تتوسط النهرين والأراضي الواقعة على جانبيهما والمترامية على روافدهما وفروعهما "مثل الزاب الأكبر والزاب الأصغر وديالي والكرخة وبالخ والخابور .. "، فضلًا عن ظاهرة الامتداد الطولي الكبير للمناطق العراقية الواقعة بين الخليج العربي وبين جبال أرمينيا وزاجوراس، إلى إمكانية قيام وحدات سياسية وحضارية كثيرة متفرقة مستقلة بعضها عن بعض، نعمت كل منها بأسلوب حكمها الخاص في ظل دويلات المدن لفترات طويلة، ولكن تفرقها هذا أدى من ناحية أخرى إلى قلة إحساس أهلها بالضرورة الملحة إلى التكاتف السياسي والترابط القومي فيما بينها، إلا بوحي المطامع الإقليمية الطارئة التي تمثلت في أغلب أحوالها في رغبة بعض دويلات المدن في تعويض شح مواردها على حساب جيرانها، وتأمين طرق تجارتها إذا سلكت سبلها في أقاليم أخرى قريبة منها. وعملت هذه الأوضاع مع غيرها، على ما شهد به تاريخ العراق القديم من أن سياسته العالمة لم تتطور من الإقليمية إلى مرحلة الوحدة السياسية الكاملة والقومية الشاملة والاتساع الخارجي إلا في عصور متأخرة نسبيًّا "منذ عصر الأكديين" وبغير استقرار

_ 1 See, D.D. Luckenbill, Ancient Records Of Assyria And Babylonia, I, 287, 475, 558, 633, Etc.; A. Leo Oppenheim, "Babylonian And Assyrian Historical Texts", In Ancient Near Eastern Texts "Ed. By J. B. Pritchard", Princeton, 1955, 275 F.

سليم طويل، ثم ما شهد به من استمرار المشاحنات الداخلية بين أمثال البابليين وجيرانهم الآشوريين على الرغم مما كان بينهما من صلة الجنس وقرب الجوار ووحدة الديار. واتصلت ببلاد النهرين من الغرب والجنوب صحراوات وبوادي واسعة لم تخل من نفع كبير ومن متاعب كثيرة في الوقت نفسه. فكان من وجوه الخير فيها أن قامت على أطرافها أسواق تجارية رائجة، وخرجت منها هجرات سامية كبيرة نزلت أراضي العراق القريبة منها على فترات متقطعة، وكانت تشتد على أهلها الزراع في بداية اندفاعها ثم لا تلبث أن تطمئن بعد ذلك إلى أسلوب معايشهم وتكفل التجديد في دمائهم وتؤدي إلى التنويع في حضاراتهم، بل ونجحت أحيانًا في ضم شملهم وتوسيع حدودهم تحت راية زعمائها، كما فعل الأكديون الساميون الذين حققوا وحدة معظم العراق لأول مرة في القرن الرابع والعشرين ق. م، ثم اتسعوا بنفوذه الخارجي لأول مرة في تاريخه. وقلدهم بعد ذلك البابليون الساميون. كما أن بعض من عاشوا في واحات البوادي المتناثرة بين العراق وبين الشام ظلوا من أدوات الاتصال التجاري والتبادل الحضاري بين بلاد النهرين وبين ما أحاط بها من مواطن الحضارات القديمة الأخرى. ومعنى ذلك كله أن انكشاف حدود العراق للهجرات السامية الصحراوية لم يكن شرًّا كله "على خلاف ما تصفه به عادة أغلب المؤلفات التاريخية الحديثة". ولكن صحراوات العراق وبواديه ظلت من وجه آخر شحيحة في مواردها الطبيعية من المعادن والأحجار، ولم تجد بما جادت به الصحراوات المصرية منهما. كما ظلت حوافها المطلة على أرض الزراعة تتطلب جهدًا عسكريًّا متصلًا لمراقبة تحركات وتحرشات قبائلها البدوية الرعوية التي لم تكن تنقطع. وجاور بلاد العراق من الشرق شعب كبير قوي لا يقل عن شعبها قدمًا وحضارة وطموحًا، ألا وهو شعب عيلام في هضبة إيران. وكان من منطق الحوادث ألا ينقطع التنافس بينهما لاتصال الحدود واختلاف الجنس وتضارب المصالح وشهوة الغلبة, وبلاد العراق بلاد قارية داخلية ليست لها سواحل بحرية غير سواحل الخليج العربي في مناطقها الجنوبية، وأدى هذا بها إلى أن تتطلع دائمًا إلى مخرج غربي على ساحل البحر المتوسط يخدم مصالحها، سلمًا أو حربًا. وعوضت المرتفعات الشمالية والشمالية الشرقية سهول العراق القريبة منها ببعض ما أعوز غيرها من المواد الأولية لا سيما الأحجار، لولا أن شعابها كثيرًا ما اجتازتها هي الأخرى هجرات آرية رعوية كاسحة، وكثيرًا ما جاست في وديانها أقليات متفرقة خشنة عز على أفرادها أن ينسجموا في معايشهم وعاداتهم مع الزراعين العراقيين المستقرين على السهول، وعز عليهم التوطن بسهولة معهم. وترتب على ذلك أنه كثيرًا ما فاجأت هذه الأقليات وتلك الهجرات دويلات العراق المتحضرة المعاصرة لها بين كل حين وآخر وقطعت عليها نضجها السياسي وحرمتها نعمة الاستقرار الطويل. وينطبق ذلك على ما فعلته هجرات الجوتين والكاسيين والحوريين والميتانيين فصلًا عن غزوات العيلاميين والخاتيين "الحيثيين" على التوالي. ومرة أخرى لم تكن الهجرات الآرية التي نزلت أرض العراق شرًّا كلها، فقد توفرت لها جوانب أخرى

نافعة، وقد لا يكون من قبيل المصادقة أن أقدم تشريعات آشورية معروفة حتى الآن يغلب على الظن أنها ظهرت في عصر امتداد هجرات الحوريين الآريين إلى أرض آشور1. ولعله كان لتعدد الجنسيات والهجرات التي نزلت العراق في عصوره القديمة بعض الأثر في ظهور تشريعات عراقية متعددة تنظم العلاقات بين الطوائف المختلفة من السكان، وظهور فكرة معاجم المفردات المقارنة باللغات القائمة في حينها لتيسير انتفاع الجماعات المتنوعة بها. وأخيرًا قد لا يكون من المستبعد أنه ترتب على ما تعوده أهل العراق القديم من الظواهر الغالبة لفيضاناتهم وصحراواتهم وجبالهم من حيث غلبة المشكلات فيها إزاء المنافع، فضلًا عن تقلبات المناخ وحدة الفوارق فيه، بعض الأثر في صبغ حياتهم القديمة بغير قليل من الحدة والتوتر، وهي صبغة توفرت لها مزاياها أحيانًا، كما توفرت لها عثراتها أحيانًا أخرى. بل وتوفر لها بعض الأثر كذلك فيما رددته أساطيرهم عن شدة عداء بعض أرباب بيئتهم لبعض ومنافسة بعضهم بعضا، وبعض الأثر أيضًا في توجيه فنون النحت والتصوير، في عصورها الأولى بخاصة، إلى إيثار المبالغة والميل إلى إشاعة الرهبة، ثم صرف معظم جهودهم الفكرية القديمة إلى توفية مطالب دنياهم والتشريع لمعاملاتها دون اهتمام صريح عميق بأمور الآخرة وفلسفات الحساب والثواب المعنوية، على خلاف المصريين القدماء، وذلك رغم ما تدل عليه بعض الآداب العراقية من رغبة حكمائهم الملحة في تحصيل الخلود الدنيوي ودفع الموت والفناء بكل سبيل "في مثل قصص جلجميش وغيرها"2، ومع ما تدل عليه نصوصهم الدينية من حرصهم على إرضاء أربابهم في دنياهم وطمعهم في أن يدع هؤلاء الأرباب أرواح موتاهم آمنة في عوالمها البعيدة الغامضة3.

_ 1 Th. J. Meek, "The Middle Assyrian Laws", In Ancient Near Eastern Texts, 1955, 180. 2 S.N. Kramer, "Sumerian Myths And Epic Tales", Ibid. 44, 48 F,; E.A. Speiser, "Akkadian Myths And Epica", Ibid., 79 F., 90, 95, 96. 3 S.N. Kramer, Op. Cit., 50 F., 52 F,; Speiser, Op. Cit., 87 F., 107, 109.

في بلاد الشام

في بلاد الشام: خضعت بلاد الشام في تاريخها القديم لإيحاءات بيئتها وخصائص موقعها، شأنها في ذلك شأن غيرها من مواطن الحضارات القديمة. وكان أوضح هذه المظاهر والخصائص تأثيرًا فيها هو وضوح التنوع في تضاريسها وتعاقب الفواصل الجبلية فيها، وتباعد مناطقها الخصبة بعضها عن بعض. فقد ترتب على تنوع تضاريسها كثرة التباين بين ميول أهلها، أهل الجبال، وأهل السواحل، وأهل السهول والوديان، وأهل البوادي والصحاري، وصعوبة اتحادهم في وحدة قومية صريحة خلال الغالبية العظمى من عصورهم القديمة. وأفضى قيام الفواصل الجبلية في بلاد الشام وتباعد مناطقها الخصبة بعضها عن بعض إلى النتيجة نفسها، فتوزعت الوحدات السياسية والاقتصادية في طول البلاد وعرضها على هيئة دويلات صغيرة أسهمت كل منها بدورها المجيد في ركب الحضارة، ولكنها ظلت متفرقة الإمكانيات، محدودة المساحات، محدودة وسائل الهجوم والدفاع، ولم يلتئم شملها في وحدة سياسية كبيرة طوال عصورها القديمة.

وتوسطت بلاد الشام بين حضارة النيل وبين حضارة النهرين، فكانت من أدوات الوصل بينهما واستفادت منهما. وظلت مناطقها الشرقية والشمالية الشرقية أكثر تجاوبًا مع حضارات بلاد النهرين، بينما ظلت مناطقها الساحلية الغربية ومناطقها الجنوبية أكثر تجاوبًا مع حضارة النيل منذ مراحلها العتيقة الأولى. وأفضى هذا إلى نتيجة أخرى، وهي أن مناطق الاحتكاك في بلاد الشام كثيرًا ما غدت ميدانًا للتنافس السياسي بين جارتيها القويتين مصر والعراق. ووقعت أعالي سوريا في الوقت ذاته بين الكتلة السامية في الشرق الأدنى وبين المجموعة الآرية التي تحف بها في آسيا الصغرى وأعالي النهرين، فكانت ميدانًا للاتصال الحضري بينهما واستفادت بذلك منهما، ولكنها بقيت في الوقت نفسه ميدانا للتنافس المسلح بينهما، فشقيت بذلك بهما. وظلت بوادي الشام من أهم مناطق الجذب والدفع البشريين في الشرق الأدنى، ولم تهدأ الحركة فيهما في أغلب عصورها القديمة. وقد اكتسبت خاصية الجذب نتيجة لتميزها عن صحراوات شبه الجزيرة العربية المتصلة بها في جنوبها، بوفرة عشبها الطبيعي وفرة نسبية وصلاحية بعض واحاتها للإقامة والتكاثر صلاحية نسبية، فترتب على ذلك أن أصبحت منطقة إغراء بالنسبة لقبائل هذه الصحاري كلما ازدادت كثافتهم عن طاقة مواردهم المحدودة، وكلما طالت موجات الجفاف واشتدت على مراعيهم، وكلما مزقت الخلافات الداخلية شمل قبائلهم وبطونهم وأجبرتهم على ترك مواطنهم. واكتسبت هذه البوادي خاصية الدفع، من ناحية أخرى، نتيجة لوقوعها بين منطقتين غنيتين تمتازان عنها من مناطق الهلال الخصيب، وهما ضفاف الفرات شرقًا والسهول المطلقة على سواحل البحر المتوسط غربًا، وذلك مما جعل هاتين المنطقتين مطمحا دائمًا لأهلها، فتسربوا إلى دولهما في تحركات بطيئة صغيرة عديدة خلال عهود تماسكها السياسي وقوتها العسكرية، كما اندفعوا إليها في هجرات كبيرة غالبة في عهود تخلخلها السياسي وضعفها الحربي. ولم تقم البادية وحدها بعمليتي الجذب والدفع البشريين في تاريخ الشام، وإنما شابهتها في ذلك إلى حد ما بعض المناطق الجبلية الساحلية، مثل مرتفعات لبنان. فقد حفلت هذه المرتفعات بغابات متسعة من أشجار الأرز والصنوبر استغلها السكان في تنشيط الملاحة البحرية وضمنوا بها موردًا تجاريًّا ضخمًا في تعاملهم مع كل من مصر وبلاد النهرين، ولكن غناها النسبي هذا بمواردها الطبيعية جعلها مناطق إغراء في الوقت ذاته لطمع الهجرات والغزوات الهندوآرية ذات الصلة بأمثال الحوريين والميتانيين، الذين اندفعوا عليها على فترات مختلفة عن طريق ثغرة حلب وجنوبي الأناضول، وذلك فضلًا عن إغراء السيطرة الاقتصادية أو السياسية عليها من الدول القوية المحيطة بها. واكتسبت نفس المناطق المرتفعة خاصية الدفع من جهة أخرى، نتيجة لأن غناها النسبي ليس من شأنه أن يوفر الحياة الرغدة لغير الأعداد المحدودة من السكان، بينما هو يعجز عن توفيرها بكفاية كلما تكاثفت أعدادهم وتضخمت فوق طاقة مواردها الطبيعية، فلا يكون أمام بعضهم حينذاك إذا شاءوا أن يستعيدوا رغد الحياة إلا أن يلتمسوا أسباب الرزق الواسع بالهجرة إلى أرض أخرى تستوعب طموحهم وترضيه. وامتدت سواحل الشام امتدادًا طويلًا على البحر المتوسط، ومثلت جزءًا كبيرًا من النهاية الغربية لمنطقة غرب آسيا. وأدى هذا الوضع الطبيعي إلى عدة نتائج حيوية، فكان له أثره في ازدهار عدة مواني طبقت

شهرتها آفاق العالم القديم وأصبحت عصبًا لدويلات مدن مستقلة ثرية. وكان له أثره في توجيه نشاط أهلها وجهة بحرية وتجارية غالبة وقيامهم بدور الوسيط الاقتصادي والثقافي بين المناطق الداخلية في غرب آسيا وبين جزر الحوض الشرقي للبحر المتوسط من ناحية، وبين سواحل إفريقيا الشمالية من ناحية أخرى، كما كان له أثره في تشجيع بعض طوائفهم على الهجرة إلى الخارج عن طريق البحر المفتوح. ثم كان له أثره في استقبالهم هجرات كثيرة وفدت عليهم عن طريق البحر وكانت لها منافعها كما كانت لها أخطارها. وقد أدت هذه العوامل كلها إلى وضوح الاختلاط الجنسي بين أهل السواحل وتزويدهم بنصيب كبير من المهارة التجارية مع المرونة في التعامل وقدرة ملحوظة على التأقلم السريع بخصائص المجتمعات التي عاشروها أو التي اضطرتهم الظروف إلى الانتقال إليها والتماس الإقامة القصيرة أو الإقامة الطويلة فيها.

في شبه الجزيرة العربية

في شبه الجزيرة العربية: حمت ضخامة الكتلة الصحراوية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية أهلها من أخطار الغزوات الكثيفة، فكفلت لهم نعمة الاستقلال آمادًا طويلة، وساعدت على نقائهم الجنسي واللغوي إلى حد مناسب، وجعلتهم وسطاء لا غنى عن الاستعانة بهم في عمليات الوصل التجاري البري بين سواحل المحيط الهندي وسواحل شرق إفريقيا من ناحية، وبين ضفاف الفرات في العراق وسواحل البحر المتوسط في الشام وحدود مصر الشمالية الشرقية من ناحية أخرى. وربما أسبغت عليهم طبيعتهم الطلقة الرحبة القاسية في الوقت نفسه شيئًا من صفاء الذهن وتوقد القريحة، وإن لم يصلنا للأسف من آثارها الحضارية الأولى حتى الآن غير قليل مما أثر عن عشية ميلاد المسيح وصبحه بالنسبة لمناطقهم الجنوبية، وقليل مما أثر عن عشيرة الإسلام وصبحه بالنسبة لمناطقهم الشمالية. ولكن ضخامة الكتلة الصحراوية الجافة في شبه الجزيرة عملت في الوقت ذاته على تضييق آفاق الاستثمار القديمة أمام أهلها فيما أقامت شعوب الهلال الخصيب القريبة منها حضاراتها المادية عليه، سواء من حيث وفرة الإنتاج الزراعي ورواج الصناعة، أم من حيث اتصال العمران وكثرة السكان. كما قللت تفاعلهم مع هذه الحضارات تفاعلًا إيجابيًّا عميقًا، وإن لم تحرمهم تمامًا من الاحتكاك بها والاستفادة منها استفادة متقطعة عن طريق مناطق الحواف الحدودية وعن طريق الاتصالات التجارية. وفرضت الظروف الطبيعية لشبه الجزيرة على حياة أهلها نصيبًا من التنوع. وترتب هذا التنوع على ضخامة مساحتها وتباين تضاريسها واختلاف مواقع أطرافها وبطء الاتصالات بينها ثم تفاوت نوعية فرص الاستفادة التي تهيأت لكل جماعة من جماعاتها. فشبه الجزيرة العربية من أكبر أشباه الجزر القارية مساحة كما هو معروف، وقد توزعت فيها تلال عادية الارتفاع وجبال شاهقة الارتفاع. وامتدت حولها سواحل صخرية يصعب الانتفاع بها وسواحل أخرى سهلية يتيسر استغلالها. وانتشرت في بعض أماكنها حرار وبراكين صغيرة ظلت ترمي بالحمم ويصدر عنها نيران ودخان حتى ظهور الإسلام، وشغلت أواسطها صحراويات شاسعة مترامية تنوعت هيئات كثبانها وأشكال رمالها. كما توزعت فيها مناطق تنزلها السيول العنيفة، وأخرى خصبة

تصلح للاستغلال، وثالثة قاحلة تعز عليها موارد الماء من الأرض ومن السماء على السواء، وأدى هذا التباين الإقليمي والتنوع البيئي في شبه الجزيرة إلى اختلافات ضمنية في معايش واتجاهات سكانها القدامى، البدو منهم والحضر، والجبليين والمزارعين، والشرقيين والغربيين والشماليين والجنوبيين، مع اتساع المسافات الفاصلة بينهم، وكان لذلك بعض الأثر أيضًا في حرمان شبه الجزيرة من الوحدة السياسية الكاملة إلا حين وحد الإسلام بين جماعاتها وأطرافها، ثم حين ظهرت الوحدات والدول الكبيرة في العصر الحديث. وكان أهم ما تداولته المناقشات التاريخية عن توجيهات بيئة شبه الجزيرة العربية لأهلها، هو دفعها لأغلب قبائلهم القديمة إلى التحركات الداخلية من منطقة إلى أخرى بين كل حين قصير وآخر، ثم دفعها لبعضهم في هجرات كبيرة إلى ما يجاورهم من مناطق الهلال الخصيب بين كل حين طويل وآخر. وتمثلت دوافع التحركات الداخلية القديمة، فيما هو معروف، تفرق موارد الماء، وتغير مناطق العشب والرعي، وتسابق القبائل، والعشائر إلى استغلال هذه الموارد، والمناطق ومحاولة التحكم فيها كلما استطاعت سبيلًا إلى ذلك، فضلًا عن كثرة المنازعات والحروب الداخلية التي تغذيها الطبيعة البدوية والروح القبلية، واضطرار الجماعات المستضعفة إلى النزوح خلالها عن مواطنها المحلية إلى حيث تبحث عن الأمن والاستقرار ولو بعيدًا عنها. وترتبت على هذه التحركات الداخلية مزايا وعيوب. وتمثلت مزاياها في اعتياد البدوي القديم على حرية السعي والانتقال، وتجدد رغبته في أن تظل مسالك الأرض العربية مسالكه يسعى فيها أنى شاء ويتلمس رزقه فيها حيثما شاء، طالما توفرت له الوسيلة والجرأة وطالما اطمأن إلى مساندة عشيرته وكثرتها. وذلك على حين تمثلت عيوبها في أنها كثيرًا ما شلت أيدي رؤساء القبائل الكبيرة القديمة عن توحيد كلمتهم داخل وحدات سياسية مستقرة واسعة تستطيع أن ترسي مقومات الحضارة الثابتة وتطورها وتنميها، إلا لمرات معدودة ولفترات محدودة، وذلك نتيجة لتباعد مواطن بعض هذه القبائل عن بعض، واختلاف مصالحها الخاصة، وتضارب الحريات التي افترضتها لأنفسها، ثم حرص أوفرها عددًا وبأسًا على توسيع مجالات نفوذها وحرياتها وأرزاقها على حساب غيرها، دون كبير اعتبار منها لفكرة الصالح القومي العام ودون التزام كبير منها بحقوق بقية القبائل الغريبة عنها أو العشائر المستضعفة إزاءها، على الرغم من وحدة الجنس واللغة والديار بين الجميع. ولم تقتصر مظاهر التحركات الداخلية على المناطق الصحراوية الشمالية في شبه الجزيرة، وإنما امتدت مسبباتها ونتائجها كذلك إلى بعض المناطق الصالحة للاستقرار الطويل في الجنوب العربي، فكثيرًا ما أفضت منازعات أمراء القبائل الجنوبية هناك، وأطماع الدول الجنوبية فيما بينها، بل ومنافسات أقاليم الدولة الواحدة منها، كمنافسات الهمدانيين والريدانيين والسبأيين بعضه لبعض، إلى استهلاك قوى دولهم ودويلاتهم وإمارتهم وتقصير أمدها وتشتيت بعض أهلها. وكثيرًا ما دفعت هذه المنافسات بطونا إلى ترك أمهاتها إلى أطراف الجنوب والرحيل عنها إلى مواطن أخرى شمالية بالحجاز وما وراءه، بل وإلى نجد أحيانًا على الرغم من فقر بيئتها الداخلية عن بيئة الجنوب. وانشعبت الآراء في تعليل دفع شبه الجزيرة العربية لبعض سكانها في هجرات خارجية كبيرة إلى مناطق الهلال الخصيب في العراق والشام ومصر، إلى ثلاثة:

رأي تصور أصحابه "ومنهم كايناتي" أن شبه الجزيرة كانت أشبه بمستودع بشري كبير للساميين، وأن نوبات الجفاف الشديدة الطويلة التي تعاقبت عليها في دورات مناخية ثابتة ظلت عاملًا أساسيًّا في ضيقها بسكانها الزائدين عن طاقة مواردها الطبيعية وظلت سببًا في دفعها إياهم إلى الهجرة الكثيفة منها على حقب متباعدة يفصل بين الواحدة منها والأخرى نحو ألف عام1. ورأي آخر عارض تعليل الرأي الأول، وهون أصحابه "ومنهم موزيل" من أهمية تأثير نوبات الجفاف في عملية الدفع الكثيف إلى الخارج. ورأوا أن تحديد الدورة المناخية وما بين فترات الهجرة بألف عام ليس له ما يزكيه. وقدروا من ناحيتهم أن أسباب الهجرات العربية الكبيرة القديمة انحصرت أساسًا في عاملين بشريين وهما: تعاقب الضعف السياسي على إمارات شبه الجزيرة العربية من حين إلى آخر، ثم تحول الطرق التجارية عن مسالكها الداخلية لسبب أو لآخر. وأقام هذا الرأي حجته عن أساس أن الإمارات المستقرة القوية تستطيع أن تذود عن ديارها وأن تحمي مواردها الطبيعية وتنميها، وتستطيع أن تحسن استغلالها وتنظم الانتفاع بها، وتستطيع أن ترعى أسباب العمران في أرضها، وتستطيع أن توفر السلام لأهلها وتيسر الرزق لأعدادهم المتزايدة، طالما احتفظت بقوتها، فإذا ما اعتراها التمزق السياسي أدى إلى عجزها عن حماية أرضها ومواصلة مشاريع التنمية والاستغلال ومسايرة العمران فيها، والعجز عن حفظ الأمن والسلام الداخلي، حتى ينتهي الأمر إلى شيوع الفتن والفرقة في أقاليمها، وإلى بوار أرضها وإهمال موارد الري فيها والعجز عن تنظيم استغلالها، والعجز بالتالي عن توفية مطالب سكانها. ولم يقل أثر تحول الطرق التجارية الرئيسية، في نظر أصحاب هذا الرأي، عن أثر ضعف الإمارات في عمليات الهجرة الكثيفة على أساس أنه كان من شأنه كلما حدث أن يفضي إلى كساد التعامل وبوار الأرزاق وانتشار الفقر والمجاعات على امتداد الطرق التجارية الداخلية وفي محاط القوافل التي يقل نشاطها، ثم يؤدي في نهاية أمره إلى ضيق أهلها بأرضهم وضيق مواردها بهم. وهكذا إذا اشتد تأثير أحد العاملين، تمزق الإمارات، أو تحول طرق التجارة ومواردها، أو ازدوج هذان العاملان، لم يكن هناك مناص من أن تترك جماعات كثيرة من السكان مواطنها وتهاجر منها إلى مواطن خارجية أخرى تطمع أن تأمن فيها على أهلها وتطمع أن تضمن فيها معاشها2. ويبدو أن هذا الرأي كان أكثر التفاتًا إلى ظروف الجنوب العربي حيث قامت دول وانهارت، وحيث اشتدت المنافسات الداخلية والخارجية على تحويل طرق التجارة من مسار إلى مسار بين كل حين وآخر. وجمع رأي ثالث بين وجهتي النظر السابقتين، واعتقد أصحابه "ومنهم حزين" أن العوامل السياسية التي

_ 1 Caetani, "L'arabia Preistorica E L'essi Camento Della Terra…", Studi Di Storia Orientale. L, Milan, 1911, 51 F. And 289 F. "After Alois Mum, Northern Negd, Appendix X". 2 Alois Musil, Northern Negd, A Topographical Itinera "The Oriental Expleraien And Studies, V", New York, 1928, 304 F. And 311 F.

تمثلت في ضعف الإمارات وعجز الحكام عن رعاية مصالح أرضهم، كما تمثلت في نشوب الفتن والمنازعات، هي عوامل يشتد أثرها في دفع الهجرات فعلا، ولكنها غالبًا ما تكون عوامل مباشرة وليست عوامل أصيلة. أما العوامل الأصيلة فتتمثل في الجفاف الطبيعي نفسه، وذلك بمعنى أن منازعات القبائل على الماء والمرعى تشتد عادة بعد ظهور الجدب البيئي فعلًا، وأن ضعف الإمارات يشتد بدوره بعد بوار مواردها وبعد حدوث القحط فعلًا، لا سيما وأن نزوح الهجرات كان يبدأ عادة من المناطق المعرضة للجفاف الشديد أكثر مما يبدأ من غيرها1. ونرى تزكية آراء هذا الاتجاه الأخير، مع إضافة ملاحظة رئيسية عليه، وهي أنه مع منطقية اعتبار شبه الجزيرة العربية مصدرًا أوليًّا لكثير من العناصر السامية القديمة التي انتشرت في الشرق الأدنى القديم، إلا أنه ليس ثمة ما يؤكد اتجاه هجراتهم الكثيفة منها إلى الأراضي الزراعية في بلاد الهلال الخصيب رأسًا وفي دفعات كبيرة أو فترات قصيرة، وذلك لأمرين: أولهما أن نزوح هجرات كثيفة متماسكة من أرض ما يتطلب عاملًا أساسيًّا وهو أن تسمح موارد هذه الأرض في أحوالها العادية بشدة تكاثف سكانها، حتى إذا نزل القحط بها واشتد وطال أمده ونضبت معه مواردها، اضطرت أعداد كبيرة من سكانها الكثيرين إلى أن تنشد لنفسها حياة أفضل من حياة أرضها، وذلك على نحو ما حدث في مناطق الإستبس الأورو آسيوية أكثر من مرة في تاريخها القديم وتاريخها الوسيط. أما موارد شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة، فلم تكن تسمح بالتكاثف السكاني الكبير، في حدود المعلومات المعروفة عنها حتى الآن وبغض النظر عن الدهور الحجرية المطيرة التي سبقت عصور الهجرات التاريخية بعشرات الآلاف من السنين. وإنما الأقرب إلى الظن فيما يبدو هو أن الهجرات السامية الكبيرة لم تكن تصل من شبه الجزيرة إلى مناطق الهلال الخصيب دون أن تمر ببضع مراحل تمهيدية. وذلك بمعنى أن عوامل القحط والجفاف الشديد وضعف الإمارات ونشوب الخصومات وتغير مسالك التجارة كان من شأنها أن تدفع جماعات قبلية صغيرة أو كبيرة إلى التحرك في هجرات بطيئة متقطعة من شبه الجزيرة إلى بوادي الشام وبوادي العراق حيث المعيشة أنسب وآثار القحط أخف وحيث البيئة أقرب إلى بيتها الأصيلة، وحيث هي معتادة عليها في هجراتها الفصلية. فإذا نجحت أمثال هذه الهجرات القبلية المتقطعة في الإقامة بمواطنها الجديدة مع سكانها الأصليين بناء على تراض واتصالات سابقة، أو بناء على القسر والغلبة، تشجعت جماعات قبلية أخرى من جاراتها وألحقت بها، أو مرت جماعات أخرى بنفس ظروفها وكررت فعلتها ... وتبدأ مرحلة تالية إذا طال توطن هذه الجماعات في بيئتها الجديدة، وساعدتها ظروفها على التكاثر الجنسي والتكاثف المعيشي النسبي، واقترب أهلها شيئًا فشيئًا من أطراف الهلال الخصيب بعد أن سمعوا بخيراتها أو دفعتهم ظروفهم إليها، ثم تعاملوا معها ونهلوا بعض الشيء من أرزاقها ولمسوا رخاءها وطمعوا في أن ينعموا بنصيب منه. وترتبط هذه المرحلة بالأمر الآخر الذي بنينا عليه ما أضفناه على المذهب الثالث في تعليل الهجرات العربية الكبيرة، وهو أنه لم يكن من اليسير على أصحاب هذه الهجرات وأغلبهم من البدو الرعاة أن يسارعوا بتغيير حياتهم إلى مزارعين مستقرين في الهلال الخصيب بعد وقت قصير من نزوحهم عن صحراواتهم.

_ 1 S.A. Hazayyin, Arabia And The Far East, Cairo, 1942, 3 F.

وجدير بالذكر، على سبيل التشبيه الضيق، أن طغيان العوامل البيئية على مقومات الحياة البشرية في بعض مناطق شبه الجزيرة وعمله على تقليل فرص الاستقرار والاستثمار الطبيعي أمام سكانها بقيت بعض آثاره حتى العصر الحديث فيما قبل استغلال النفط. فإقليم الأحساء على سبيل المثال، وهو إقليم ساحلي سبخة كثير المياه والزروع في أحواله العادية، كثيرًا ما تعرضت أرضه المحيطة بالعقير والقطيف، وهي من مناطق الاتصال الرئيسية بين المنطقة الشرقية لشبه الجزيرة العربية وبين جيرانها على الخليج العربي وفي جنوب العراق، لزحف الكثبان الرملية الكثيفة التي قد تغطي مزارعها أحيانًا وتطويها، بل إنها لتكسو حين شدتها أشجار الأثل والنخيل النامية في المنخفضات بحيث لا تظهر منها غير أطرافها1. وتكرار مثل هذه الظاهرة أو اشتدادها في عهود ما قبل الثراء البترولي الحديث، كان من شأنه أن يضيق مجالات الزرق أمام أهل المنطقة ويدفع بعضهم إلى الهجرة منها. ولما كانوا أصحاب مزارع ومياه، فإن العراق الجنوبي الزراعي هو أنسب لهجراتهم من غيره. ولكن يغلب الظن أن أمثالهم ما كانوا يتركون أرضهم في شكل هجرة جماعية كبيرة بسهولة، فأرض الوطن عزيزة على أهلها مهما بلغ من فقرها الطارئ. ولنا أن نفترض أن جماعاتهم الصغيرة كانت تتسرب ببطء تدريجي إلى الشمال مدفوعة بقسوة الظروف. وما كانت مثل هذه الجماعات مهما بلغ عددها لتسمح بتشكيل هجرة تاريخية تجتاز العراق مثلًا وتستقر فيه دفعة واحدة، أو تؤثر فيه تأثيرًا جذريًّا، وإنما كان أهلها يتلاحقون وراء بعضهم البعض على فترات، أسرًا وعشائر، ثم يتفرقون على أطراف العراق أو بالقرب منها، إلى أن تكتمل لهم مقومات مرحلة جديدة يمكن أن تجعل منهم أصحاب هجرة فعلية مؤثرة. وتبدأ مرحلة ثالثة للهجرات الكبيرة حين يتعرف المهاجرون الطامحون على مواطن الضعف في حدود دويلات الهلال الخصيب المستقرة المجاورين لها، فيبدءوا من ثم يترقبون الفرص، حتى إذا تفككت وحدتها وضعفت قوتها وخفت قبضتها عن حماية ذمارها، لأسباب داخلية أو لأسباب خارجية، تسربوا إليها أسرًا وعشائر وشاركوا أهلها معايشهم، أو اندفعوا إليها قبائل وجيوشًا إذا توافرت لهم الزعامات القوية، ثم تغلبوا على أهلها وسيطروا على أرضهم وحكمهم. ويمكن افتراض ما يشبه هذه المراحل المتتالية بالنسبة للهجرات الأكد: والبابلية والآرامية حتى نزولها أرض الزراعة بالعراق، وبالنسبة كذلك لهجرات الأموريين "والساتو والأخلامو والخابيرو والعابيرو" والكنعانيين والآراميين حتى نزولهم مناطق الخصب في بلاد الشام. هذا ولم تخل طبيعة شبه الجزيرة من تأثير في عقائد سكانها الأوائل، فقد ترتب على صفاء سمائها في أغلب أحوالها، وتطلع أهلها إلى طيب السماء وأمطارها، واعتماد قوافلهم السارية بالليل على هادية القمر والنجوم، أن اتجه تدينهم إلى السماء أكثر من غيرها، وحاولوا أن يتقربوا من القوى المتحكمة فيها، وجعلوا القمر والشمس والشعرى على رأس أربابهم العديدين، أو هم بمعنى آخر قدسوا أربابًا تخيلوهم يتحكمون في هذه الكواكب الثلاثة وأطلقوا عليهم ما شاءوا من الأسماء والصفات. وظلت ديانتهم في جوهرها ديانة قمرية

_ 1 See, P. B. Corawall, "Explorations In Hasa", The Geographical Journal, Jan-Feb., 1946, 3 F.

أكثر منها شمسية1، ربما لشدة هجير الشمس وقلة نفعها بالنسبة لأهل الصحاري بخاصة، وإن لم يصرفهم هذا عن إجلال ربتها ورهبتها. وأخيرا فليس من شك في أن التنوع البيئي والمعيشي والوجداني والسياسي الذي أوجزناه لأجزاء شرقنا الأدنى القديم داخل وحدته الجنسية واللغوية القديمة الكبيرة، كان مسئولًا إلى حد كبير عن مظاهر التنافس السياسي والحربي التي نشبت بين شعوبه من حين إلى آخر وقطعت عليها سلامها واطمئنانها لفترات، وكان مسئولًا كذلك عن سوء فهم فريق منها للفريق الآخر أحيانًا، ليس على مستوى الشعوب وحدها بل وبين طوائف الشعب الواحد أيضًا في بعض الأحوال، لا سيما في مناطق العراق وبلاد الشام. ولكن ليس من ريب كذلك في أن ذلك التنوع لم يكن في الوقت نفسه بغير قيم وفوائد حيوية لشعوبه. فقد كان من شأنه أن يحفظ لكل شعب منها شخصيته الإقليمية واضحة، وأن يكفل لكل شعب منها خبراته الخاصة التي اعتز بها واشتهر بها، وأن يطلق العنان لخيال أصحابه كي يشيدوا بعراقتهم وأصالة موطنهم كيفما شاءوا، أن يؤدي إلى ثراء فنون المنطقة في مجملها، وإلى تعدد صناعاتها، باختلاف مقوماتها واختلاف أذواق أصحابها، وإلى فتح مجالات المنافسات الاقتصادية والفنية المشروعة بينها في الأسواق الداخلية والخارجية وكان من شأنه كذلك أن يفتح مجالات الاتصال الحيوية بين حضارات أهله، حين كان يلزم أصحاب كل حضارة بأن يستكملوا ما ينقص بيئتهم من المواد الأولية والكمالية ومن الخبرات الصناعية والفنية من أصحاب الحضارة الأخرى. ولا زال مدى تأثير كل حضارة من الحضارات الشرقية في أختها، موضعا لمجادلات تاريخية وأثرية طويلة ولكنها مجادلات لا تنفي إطلاقًا عمق صلات هذه الحضارات بعضها ببعض منذ فجر تاريخها البعيد2. وذلك ما سوف تناقشه الفصول التالية في سياق بحثها لمراحل التطور في كل حضارة من حضارات الشرق الأدنى القديم على حدة.

_ 1 ديتلف نيلسن: "الديانة القديمة" "فصل من التاريخ العربي القديم – تعريب فؤاد حسنين" – القاهرة 1958 – ص172. 2 See, V. G. Cailde New Light On The Most Ancient East, 1952, 111 F.; H. Frankfort, Ajsl. 1941, 23" F.; The Birth Of Civilization, 1951, 110 F.; Scharff-Moortegat, Die Frukhulturcn A Egyotens Und Mesopotamiens, 1941; H. Kantor, Jnes, 1942, 174 F.; 1952, 239 F.; R. Weill, Recherches Sur La Lre Dynastie Et Les Temps Prepharaoniques, 2 Partie, Paris, 1961, 279 F.

الفصل الثاني: الشرق الأدنى القديم ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ

الفصل الثاني: الشرق الأدنى القديم ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ مدخل ... الفصل الثاني: الشرق الأدنى ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ تعبير "ما قبل التاريخ" تعبير زمني اصطلاحي مرن، يطلق عادة على كل الأزمنة السحيقة التي سبقت عصور اهتداء الأمم القديمة إلى الكتابة وإلى تكوين الوحدات السياسية المستقرة والقوميات الكبيرة. ويرادفه إلى حد ما تعبير حضاري اصطلاحي آخر يقل عنه امتدادًا في الزمن، وهو تعبير "الدهور الحجرية" وتقصد به الدهور التي بدأت معها حضارة الإنسان البدائي، أو التي بدأت بمعنى أصح بالدهر الذي استطاع الإنسان الأول أن يصنع فيه شيئًا بيده عن قصد وهدف، والتي لم يستخدم أهلها معادن مصنوعة، وإنما اعتمدوا أساسًا على أدوات حجرية بدائية كانوا يشكلونها بما يناسب مطالبهم المحدودة ويستخدمون إلى جانبها أدوات أخرى أقل بقاء منها اتخذوها من فروع الشجر ومن عظام الحيوانات الكبيرة النافقة وقرونها وأنيابها الضخمة. ومن الأصداف البحرية الكبيرة حيثما توفرت لهم. ولا يزيد المعروف من الآثار الحضارية لدهور ما قبل التاريخ وما تضمنته من دهور حجرية طويلة، عن آثار متواضعة ضئيلة خشنة متفرقة لا تكاد ترضي غير المتخصصين في دراستها وبحثها، ولكنها على الرغم من ضآلتها وخشونتها، على الرغم من بطء تطورها واستمرار مظاهرها المتواضعة عشرات الآلاف من السنين، آثار لا يستطيع التاريخ أن يتجاهلها إلا إذا تنكرت البشرية لأصولها الأولى وتناست شقاء أسلافها المبكرين الذين واجهوا وحشية البيئات القديمة وعملوا على أن يستغلوها، وواجهوا جبروت كائناتها العديدة وكافحوها ما استطاعوا، وذلك على الرغم من أنهم كانوا حينذاك لا يزالون قلائل متفرقين، وكانوا لا يزالون عزلًا إلا من عقليات طفلية حائرة وتجارب محدودة متعثرة، في عالم كان البقاء فيه للأقوى دائمًا.

في الدهر الحجري القديم الأسفل

في الدهر الحجري القديم الأسفل: بدأت بواكير النشاط الحضاري البدائي لإنسان الشرق الأدنى، وما عداه من المناطق الصالحة للإقامة في العالم القديم، في دهر يسمى اصطلاحًا باسم الدهر الحجري القديم الأسفل1، وهو دهر مديد للغاية، لن نطيل في مناقشة امتداده وخصائصه، ولكن يكفي أن نذكر أن الفوارق الزمنية بين النظريات المختلفة في توقيته تبلغ وحدها عشرات الآلاف من السنين، وأنه تعاقبت فيه على مناطق العروض الوسطى والمدارية التي يقع الشرق الأدنى فيها، حقب مطيرة طويلة جدا، وحقب أخرى جافة طويلة جدا2.

_ 1 O. Menghin, Welt Geschichte Der Steinzeit, Wien, 1931, 88 F. 2 See, K. S. Sandford And W.J. Arkell, Palaeolithic Man…, Ii, 83 F.; S. A Huzayyin, The Place Of Egypt In Prehistory, Cairo, 1941, 94 F., 112, 329 F.

وكانت خطوات بواكير الحضارة في هذا الدهر بطيئة للغاية بحيث تشابهت مظاهرها المتواضعة حيثما وجدت آثار البشر في دهرها. واستخدم الإنسان فيها أدواته اليدوية البدائية في الدفاع عن نفسه ضد الحيوان وضد أخيه الإنسان. وكان يستعين بها في تحصيل معاشه، وذلك كأن يستخدمها في صيد الحيوانات الصغيرة وتهشيم عظامها وتقطيع لحومها وسلخ جلودها، ويستخدمها في اقتلاع ما يستسيغ أكله من جذور النباتات، وما يود إسقاطه من ثمار الشجر. واتخذ الإنسان أدواته تلك من الأحجار وفروع الأشجار ومن العظام والمحار، ولكنه حرص حيثما استطاع على أن يتخذ أكثرها استعمالًا في حياته اليومية مما يتوفر في بيئته من قطع الأحجار الصلبة، وقد هدته التجارب إلى أن أصلح الأحجار لأغراضه قطع الظران، فكانت أداته المفضلة عبارة عن زلطة غليظة من الظران1 كان يحرص حين يتخيرها على أن تكون قاعدتها مناسبة لقبضة يده، ويترك هذه القاعدة بشكلها الطبيعي وبقشرتها الطبيعية ما دامت ملساء نوعًا لا تؤذي كفه، ثم يشكل قمتها وجوانبها بما يسمح له بأن يستخدمها في أغراضه المحدودة التي أسلفناها. ويمكن تسمية الواحدة من مثل هذه الأدوات باسم الفهر. ومرة أخرى لن نتعرض لتفاصيل خصائص الفهر وتطوراته ونحيل من شاء الاستزادة من المعلومات عنه إلى كتابنا عن "حاضرة مصر القديمة وآثارها". وكل ما يعنينا هنا أن فريقًا من الباحثين يفترضون منطقة قديمة واسعة منبسطة متوسطة الموقع معتدلة المناخ مفتوحة المداخل والمخارج تمرس الإنسان الأول فيها على صناعة الفهر الحجري وتطويره، ثم انتشر به منها إلى بقية المناطق الصالحة للسكنى في العالم القديم. ويعتقد بعضهم أن هذه المنطقة ذات الميزات الخاصة كانت ضمن مناطق الشرق الأدنى، وربما في شمال إفريقيا وغرب آسيا بخاصة، وكان منها هضاب مصر وما يحيط بها شرقًا وغربًا2، وهي هضاب كانت تتلقى نصيبًا كافيًا من الأمطار، وتنمو عليها نباتات تشبه نباتات السفانا الحالية ولا زالت شواهد صلاحيتها المناخية القديمة ماثلة في بقاء عدد من الوديان والأخاديد والينابيع شقتها المياه الغزيرة وجرت فيها، ثم جفت أو تحجرت. ولا زالت شواهد سكناها القديمة ماثلة كذلك في وجود أعداد من الأدوات الحجرية البدائية التي خلفها إنسانها الأول في مواضع متفرقة على سطحها. وقسم الباحثون الحضارات البدائية في الدهر الحجري القديم الأسفل إلى قسمين متعاقبين، وهما: الحضارة الشيلية، أو الأبيفيلية، نسبة إلى قريتين في فرنسا وجدت فيهما نماذج كثيرة لأقدم أدوات الإنسان الأول. ثم الحضارة الأشيلية نسبة إلى قرية أخرى في فرنسا أيضًا عثر الباحثون فيها على نماذج عدة لأدوات حجرية امتازت بتطور نسبي عن الأدوات الشيلية التي سبقتها. ويتلخص هذا التطور بين الحضارتين في بداية اهتمام الإنسان بتصغير سمك وحجوم أدواته الحجرية بعض الشيء ربما ليسهل عليه استعمال أكبر عدد منها، ثم اهتمامه بتحديد حوافها وبتهذيب سطوحها بحيث تصبح مستوية بقدر الإمكان وبحيث ترضي ذوقه بعد أن أرضت مطالبه.

_ 1 انظر عن صناعتها: إبراهيم رزقانة: الآلات الحجرية – القاهرة – ص50. 2 Huzayyin, Op. Cit., 302 F.

واهتدى الإنسان في خواتيم هذا الدهر، وفي بقعة أو بقاع ما من العام القديم، إلى طريقة إيقاد النار اهتداء عفويًّا في الأغلب، وكان اهتداؤه إليها مبشرًا بأول انقلاب مادي فعال في تاريخ الحضارة البشرية، انقلاب تميز به طعام الإنسان بعد طهيه بالنار عن طعام الحيوان، وأصبح الإنسان بفضله أكثر اطمئنانًا على نفسه وعلى عياله حين يستعين بدفء النار على مقاومة البرد والصقيع، وحين يستعين بنورها على مخاوف ظلام الليل عدوه المخيف، وحين يستعين بأثرها في حفظ لحم الصيد وعدم فساده سريعا. وليس من المستبعد أنه حين لم يعد فكه وأسنانه يتطلبان المجهود الذي كان يبذله في أكل اللحم النيئ كان لذلك بعض الأثر في أن تهذبت خلقته وخفت وحشيته.

في الدهر الحجري القديم الأوسط

في الدهر الحجري القديم الأوسط: أعقبت حضارتي الدهر الحجري القديم الأسفل، حضارة الدهر الحجري القديم الأوسط، وهذه نكتفي بأن نذكر عن خصائصها هي الأخرى أن مناطق الشرق الأدنى عاشت في أغلب دهرها في ظل حقب مطيرة طويلة، وإن تكن أقل أمدًا واتصالًا من الحقب المطيرة التي سبقتها خلال الدهر الحجر القديم الأسفل. وأن الاصطلاح العلمي جرى على تسمية الأدوات الشائعة في أجزاء العالم المعمور خلالها باسم الأدوات الموستيرية "نسبة إلى أدوات كهف موستييه في فرنسا". وقد ميزها توسع أصحابها في صناعة كان أهل الدهر السابق قد بدءوا بها، وقامت على أساس استخدام الشظايا التي تنفصل عن جوانب الفهر حين صناعته. وقد زادت مهارتهم في فصلها بعناية وسهولة وتشكيلها بأشكال مختلفة، بحيث إذا حددوا جانبي الشظية استخدموها استخدام المدية، وإذا حددوا أحد جانبيها استخدموها استخدام المبشر أو المكشط، وإذا دببوا أحد طرفيها استخدموها استخدام المثقاب أو المخراز. وعلى الرغم من شيوع الخصائص العامة لهذه الصناعات الحجرية في أغلب المناطق المعمورة من العالم القديم، دون تغيير كبير، إلا أن بعض جهات الشرق الأدنى استطاعت أن تنحو بصناعتها الحجرية المتواضعة نحو التخصص، ومنها مصر التي نهج بعض أهلها نهجًا إقليميًّا في صناعة النصال والأفهار "الليفلوازية" مم ميز بعض الشيء بين إنتاجهم المتواضع منها وبين إنتاج الأدوات والشظايا الموستيرية العامة الشائعة عند من سواهم من أهل العالم القديم1.

_ 1 Sh. Beuil, L’afrique Prehistorique, 1931, 71,; S. Huzayyin, Bull. Soc. De Geogr. D’egypt, Xx, 210f.; E. Massoulard, Prehistoire Et Protohistoire D’egypt, 1949, 13.

في الدهر الحجري القديم الأعلى

في الدهر الحجري القديم الأعلى: تغيرت بانتهاء الدهر الحجري القديم الأوسط صورة الشرق الأدنى القديم إلى حد كبير، فانتهت بانتهائه فترات الأمطار الكثيفة المتصلة في العروض المدارية والوسطى، وتضاءلت بانتهائه فرص نمو نباتات السفانا الوفيرة، وقلت بذلك فرص الحياة للحيوانات الضخمة التي تحب وفرة الماء ووفرة النباتات كالفيل، والخرتيت والثور البري، فانقرض بعضها، ولجأ بعضها الآخر إلى المناطق الاستوائية أو المناطق الشمالية الباردة. وأخذت ظروف الجفاف تسود الشرق الأدنى شيئًا فشيئًا، وظهرت معها حضارات بدائية جديدة هي حضارات الدهر الحجري القديم الأعلى، وفيها حاول الإنسان أن يتطور بوسائله المادية إلى ما يناسب ظروف حياته

قرائن العمران

قرائن العمران: وجدت آثار النشاط البشري خلال الدهور الحجرية الثلاثة القديمة وافرة في أغلب بقاع الشرق الأدنى القديم. فتفرقت في مصر، على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، في مناطق العباسية والجبل الأحمر وجبل المقطم ودهشور وسقارة وسفوح مرتفعات الأقصر وقرب أسوان، وفي الطرق المؤدية إلى الواحات، خلال الدهرين الحجري القديم الأسفل والحجري القديم الأوسط. كما وجدت على أطراف الدلتا، وحول وديان وعيون كان لا يزال يجري بها نذر من الماء كعيون حلوان، ووادي الطميلات، ووادي العنجبية، وفي الجيزة، والفيوم، وحوض كوم أمبو، وقرية السبيل، والواحة الخارجة، خلال الدهر الحجري القديم الأعلى1. وتوزعت آثار الدهور نفسها في بلاد النهرين في مناطقها الشمالية أكثر من مناطقها الجنوبية التي غطت الرواسب الطبيعية الكثيفة على آثارها، إن كانت بها آثار. فوجدت نماذجها في الشمال على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر أيضًا، في كهف بردايلكا قرب جمجمال خلال الدهر الحجري القديم الأسفل أو الأوسط، وفيما بين كهف شانيدار وبالي جاورا خلال الدهر الحجري القديم الأوسط أيضًا. ووجدت غيرها في مثل كهف هزارمرد وكهف زرزى، في أواخر الدهر القديم الأوسط وخلال الدهر الحجري القديم الأعلى2. ووجدت أمثالها في الشام في كهوف عدلون ومنطقتي نهر إبراهيم ونهر الكلب وفي رأس الشمرا، في الشمال، وفي جبل الكرمل وأم قطفة والزطية وقرب مجرى نهر الأردن في الجنوب، خلال الدهرين القديم الأسفل والقديم الأوسط. ثم وجدت غيرها في كهوف أنطلياس، ونهر الكلب، ومغارة الأميرة قرب بحيرة طبرية خلال الدهر الحجري القديم الأعلى3.

_ 1 A. Huzayyin, The Place Of Egypt In Prehistory, 1941; E. Massoulard, Op. Cit. 2 R.J. Braidwood, Prehistoric Man…; H.E. Wright, Basor, 1952, 11f. مجلة سومر 1951 – وانظر طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة – ج1 ص29. 3 G. Zumoffen, In Anthropos, Iii, 431 F.; D.A.E. Darrod And Others, The Stone Age Of Mountain Carmal, 1937; Th. D. Mc. Cown And A. Keith, The Stone Age…, 1939; W.F. Albright, From The Stone Age…, 1946; The Archaeology Of Palestine, 1961, Ch. 3; D.R., Hughes-Brothwell, “The Earliest Populations Of Man In Europe, Western Asia And Northern Africa”, C.A.H., Vol. I, Part I, 156f. وانظر فيليب حتى: تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين – ص9؛ لبنان في التاريخ ص53+

ولا تزال شبه الجزيرة العربية أقل حظًّا من غيرها في نتائج البحوث الأثرية لأدوات الدهور الحجرية القديمة. ولو أنه يلاحظ من جهة أخرى أن ما عثر عليه من أدوات الدهر الحجري القديم الأسفل في جنوب الأردن قد يعني أن هذه المنطقة وما يتصل بها من شمال شبه الجزيرة العربية معها على أقل تقدير، كانا صالحين للنشاط البشري منذ أواخر الدهر الحجري القديم الأسفل. كما أنه ليس من المستبعد أن الأودية الجافة الكبيرة التي لا تزال تقطع شمال الجزيرة ويجري بعضها ناحية البحر الأحمر، بينما يجري بعضها الآخر ناحية الخليج العربي، قد شقتها أمطار كثيفة خلال فترات مطيرة طويلة ساعدت على قيام النشاط البشري في شبه الجزيرة خلال الدهر الحجري القديم الأسفل أو الدهر الحجري القديم الأوسط1. أما عن أدوات الدهر الحجري القديم الأعلى فيها، فقد عثر عليها في الشمال، وفي مناطق الأحساء والعروض تحت مستوى سطح الأرض الحالي، وكذلك في حضرموت ومناطق متفرقة من اليمن. أي أنها وجدت في كل من شرق شبه الجزيرة وجنوبها وجنوبها الغربي. وذهب بعض الباحثين إلى أن بعض الأدوات الحجرية البركانية التي عثر عليها في الأحساء والعروض، كان أصحابها يجلبون أحجارها البركانية من المناطق الغربية لشبه الجزيرة نظرًا لعدم توافرها في بيئتهم. وقد يصعب تأييد هذا الرأي نظرًا لاتساع الشقة بين شرق شبه الجزيرة وغربها، مع تفاهة الأدوات نفسها وبطء الإنسان القديم، ولكنه إذا صح احتمالًا أمكن أن ترتب عليه بداية قيام الاتصالات وتبادل المنافع بين أجزاء شبه الجزيرة منذ ذلك الحين، على أن تفترض أن هذه الاتصالات كانت تجري بطرق غير مباشرة، إذ أنه من الصعب أن نتصور رجالًا يرحلون من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب من أجل أحجار صغار يمكن أن تحل محلها إلى حد ما أحجار بيئتهم. وذهب نفس الرأي إلى ما هو أبعد من ذلك، فرجح تبادل التأثير الحضاري بين مناطق جنوب شبه الجزيرة وبين المناطق التي تقابلها على سواحل إفريقيا الشرقية2. وقد يكون هذا التأثير المتبادل صحيحا، غير أنه ينبغي أن نضيف إليه أن تحديد زمن أدوات الدهر الحجري القديم الأعلى في شبه الجزيرة، وشرق إفريقيا، بالنسبة لتطور الصناعات الحجرية في المناطق الخصيبة من الشرق الأدنى أمر غير يسير. فهي قد تعاصر أدوات الدهر الحجري القديم الأعلى في مصر وبلاد النهرين والشام فعلا، أو تتأخر عنها بعصور طويلة وهذا هو المرجح نظرًا لاتساع خطى التطور وسرعتها في وديان الأنهار الكبيرة عنها في شبه الجزيرة، مع احتمال بقاء أدوات الدهور الحجرية في شبه الجزيرة لأزمان متأخرة نوعا.

_ 1 Caetani, Op. Cit., I, 64f.; Ii, 53f.; A. Musil, Northern Negd, 1928. 2 G. Caton-Thompson And E.W. Gardner, “Climate Irrigation And Early Man In The Hadramout”, Geog. J., 93 “1939” 18f,; S. Huzayyin, Nature, Sep. 18, “513”; Arabia And The Far East, 1942, 36; A.H. Masry, Prehistory In North-Eastern Arabia, 1974.

من السلالات البشرية

من السلالات البشرية: ليس من اليسير الحديث عن أصحاب حضارات الدهور الحجرية القديمة، والدهر الأسفل بخاصة، كأجناس أو سلالات أو قوميات، فكل ما يمكن استنتاجه مما أتى به علم الأنثروبولوجي عن أقدم البقايا

البشرية في العالم القديم، هي الصفات التي استنتجها بعض الباحثين من بقايا ما يسمونه إنسان جاوة ثم إنسان بكين أو الصين وإنسان شرق إفريقيا. وهي صفات صورت لكل منهم قامة قصيرة وقدرة على انتصاب الجذع مع ميل الرأس الضخمة قليلًا إلى الأمام، وشدة تراجع الفك الأسفل، وبروز عظام الحاجبين وغلظهما واتصالهما ببعضهما. وذلك مع ملاحظة تطور الجبهة من الضيق والتراجع في جمجمة إنسان جاوة إلى البروز الخفيف في جمجمة إنسان بكين أو الصين. واستمر سلالات هذه الأجناس آمادًا طويلة، ثم ظهرت معها سلالات أخرى في أواخر الدهر القديم الأسفل مثلتها في أوروبا بقايا إنسان هدلبرج الذي اتصف باتساع عظمة الصدغ وقوة عضلات الوجه المتصلة بعملية المضغ، مع غلظ الفك وتراجعه من ناحية الذقن1. وانتشرت في الدهر الحجري القديم الأوسط سلالات من جنس جرى الاصطلاح على تسميته باسم الإنسان النياندرتالي "نسبة إلى وادي نياندر بألمانيا". وهو جنس ذو جسم ممتلئ لم يكتمل انتصاب قامته تمامًا، ورأس كبيرة قليلة الاستدارة لا زالت تميل قليلًا إلى الأمام، وجمجمة ضخمة عريضة سميكة العظام، وحاجبين شديدي التقوس سميكي العظام، وفك ضخم بارز، وأنف متسعة المنخرين. وإن تميز هذا الجنس في الوقت نفسه بتناسق أطرافه بالنسبة للأجناس التي سبقته. وتضمنت حفريات الشرق الأدني بقايا من سلالات هذه الإنسان، فكان منها ما وجد في كهف شانيدار بالعراق، كما كان منها ما وجد في مغارات بجبل الكرمل وجنوب الناصرة وشمال غرب بحيرة طبرية بالشام، وما وجد من حفريات هوافتيح في شمال إفريقيا2. وهذه وإن كانت جميعها من السلالات النياندرتالية العامة إلا أنها اتصفت بخصائص إقليمية، مثل وضوح كبر الذقن في رأس إنسان جبل الكرمل. وكان الجنس الغالب لإنسان الدهر الحجري القديم الأعلى جنسًا مهجنًا وبداية لما يسمى باسم الإنسان العاقل Homo Sapiens جد الإنسان الحالي. وقد ظهرت في بقايا الهياكل البشرية التي عثر عليها في مناطق قنا وقاو الكبير وكوم أمبو في مصر، من الدهر الحجري القديم الأعلى، وجوه شبه جنسية قريبة من الهياكل التي تخلفت من فجر التاريخ المصري القديم3. وذلك مما يعني وحدة الجنس واتصال العمران بين هذين الزمنين. كما رأى بعض الباحثين في بعض هياكل جبل الكرمل المتطورة حلقة وصل بين الخصائص التشريحية لإنسان الدهور الحجرية القديمة والإنسان الحالي. ولعل الخصائص التشريحية والذهنية المميزة لهذا الجنس من بني الإنسان كانت مسئولة إلى حد كبير عن نجاحه في تطوير أدواته وتنويعها خلال ظروف الجفاف القاسي الدهر الحجري القديم الأعلى، ثم نجاحه في ابتداع حرفة الزراعة وحرفة الرعي وما ترتب عليها في بداية العصر الحجري الحديث. ولم تكن الحدود الإقليمية لجماعات الإنسان القديم وتنقلاتها، ذات أثر واضح خلال الدهور الحجرية القديمة إلا إذا وقفت دونها البحار الواسعة أو الجبال الشاهقة. وكانت شعاب الأرض مفتوحة للأقوى ولمن

_ 1 See, P. Rivet, L’origine De L’homme, 1954. 2 راجع حاشية 2، وحاشية 3 ص22. 3 Sandford And Arkell, Op. Cit., Iii “1934”, 86.

يستطيع أن يطرقها، سواء للأفراد والأسر أم للجماعات التي انتشرت تبحث عن الأراضي المعشبة المطيرة التي يتيسر الصيد فيها وتتوفر قطعان الماشية البرية على مراعيها. وكان في هذا ما أدى إلى تشابه أغلب أدوات الدهور الحجرية القديمة مع بعضها البعض إلى حد ما، سواء وجدت في الشرق أم وجدت في الغرب وبعد أزمان طويلة أخذت كل من هذه الجماعات تألف الإقامة تدريجيًّا في البقاع التي ناسبتها طبيعتها الجغرافية وأحست بالأمن النسبي فيها. وأعقب هذه الدهور دهر رأى فيه بعض الباحثين من الخصائص ما يسمح بتسميته باسم الدهر الحجري الوسيط، بينما أنكر باحثون آخرون أهميته بالنسبة للشرق الأدنى بخاصة. وعلى أية حال، فإنما نود قبل أن ننتهي من استعراض أحوال الدهور الحجرية القديمة، أن نشير إلى أنه ليس من ضرورة للمغالاة في تصوير ما بلغه إنسانها البدائي من قدرة على التطور بحضاراته الأولى والابتداع فيها. فقدرة الإنسان الأول على التفكير والابتداع لم تتعد كثيرًا دائرة حياته الفردية الخشنة ودائرة مطالبه المحدودة. ولم يكن التطور في آفاق حياته ومطالبها يسير في غالب أمره إلا بجهد وبطء شديد، وذلك إلى الحد الذي رتب معه الأستاذ فلندرز بتري أن ألف عام من حياة البشر في الدهور الحجرية القديمة لا تكاد تعادل في تطورها الفكري ما كان يتم من تطوير خلال عمر شخص واحد في العصور التاريخية القديمة. وهذا بطبيعة الحال لا يكاد يعادل ما يتم خلال أعوام قلائل أو حتى بضعة شهور من حياة الإنسان وإمكانياته في عصوره التاريخية الحديثة. زد على ذلك أن الأدوات التي كان الإنسان القديم يستخدمها في عصر ما لم تكن تجب الأدوات التي اعتاد أسلافه عليها فيما تقدمه من عصور، وإنما كانت تستخدم معها جنبًا إلى جنب وإن زادت عنها في شيوعها وأعدادها وأنواعها.

بداية الزراعة في فجر التاريخ أو العصر النيوليثي

بداية الزراعة في فجر التاريخ أو العصر النيوليثي: شهد الشرق الأدنى القديم طفرته الحضارية المنتجة حقًّا منذ أوائل الألف السادس قبل ميلاد المسيح، وتلك هي طفرة الاهتداء إلى بداية حرفة الزراعة قبل معرفة المناطق الأوروبية بها بنحو ألفي عام. وكان من منطق التطور أن تنشأ أولى خطواتها وتنضج في وديان الأنهار الكبيرة أو بقربها. وقد اشتركت بلاد الهلال الخصيب في معرفتها بممهدات الزراعة الأولية. ومن ذلك معرفة المصريين وأهل العراق والشام منذ أواخر الدهر الحجري القديم الأعلى بانتقاء أنواع الحبوب الغذائية المفيدة كالشعير البري والحنطة البرية وبطرق جرشها والانتفاع بها، بدليل العثور على بعض مناجل الحصاد ومراحي جرش الحبوب في منطقة عيون حلوان وحوض كوم أمبو في مصر، وفي مغارة الناطوف وما حولها في فلسطين1. وربما تولدت عندها حينذاك

_ 1 Ed. Vignard, Bifao, Xx, 24; Huzayyin, The Place Of Egypt In Prehistory, 257f.; H. Farnkfort, The Natufian Of Palestine” T.R.A. I, Lxii, 257f.; H. Farnkfort, The Birth Of Civilization In The Near East, 1951.

معرفة فطرية بظواهر الإنبات الطبيعية عن طريق ما كانوا يشهدونه من خروج النبت من الحبوب البرية والبذور التي تلقيها الرياح والمصادفات أمام أعينهم فوق سطح الأرض اللينة، أو التي تسقط منهم وهم في طريقهم إلى حيث يقيمون، كلما أصابها البلل والمطر. ولم تكن مهمة جمع الحبوب الغذائية البرية يسيرة دائمًا لتفرق عيدانها في الطبيعة على مساحات واسعة، ولتقدم الجفاف شيئًا فشيئًا خلال الدهر الحجري القديم الأعلى وما كان يستتبعه من شح نمو النباتات الطبيعية تدريجيًّا أيضًا، وذلك مما كان من شأنه أن يولد الرغبة لديهم في محاولة الاهتداء إلى وسيلة يضمنون بها تواجد هذه الحبوب المفيدة في مساحات متصلة قرب أماكن إقامتهم بقدر الإمكان. ووجدت مصر ميلًا كبيرًا من أغلب الباحثين لافتراض تحقيق هذه الرغبة ومعرفة الزراعة لأول مرة على أرضها. وذلك على أساس أن اشتداد الجفاف على هضابها الشرقية والغربية في أواخر الدهر القديم الأعلى كان من شأنه أن يدفع أهلها إلى أن يتتبعوا انتشار النباتات والحبوب الطبيعية على ضفاف مورد الماء الدائم في أرضهم، وهو نهر النيل، فاقتربت جماعاتهم من مدرجاته في دفعات متتالية وشجعتهم أحوالها الآمنة على الاستقرار عليها، ولما طالت إقامتهم في أرجائها ابتغاء الانتفاع بنباتاتها الطبيعية وأسماك الماء والحيوانات التي تقصد ضفاف النهر وفروعه التماسا للشرب، أصبحت ملاحظاتهم لنمو بذور النباتات الطبيعية في أرضها الخصبة مستقرة مضطردة، نتيجة لما كانوا يشهدونه من أثر التعاقب السنوي المنتظم لفيضان النيل وانسياب مائه عليها ثم انحساره، في النمو التلقائي السنوي الجديد للنباتات والحبوب كلما توفرت لها الأرض الطميية السوداء على وجه الخصوص. ولما استرعت هذه الظواهر الطبيعية أنظار المصريين جيلًا بعد جيل واستوعبوها، وأدركوا بها العلة في نمو النباتات في أعقاب الفيضانات مع انتشار البذور في الأرض الخصبة، كما أدركوا معها العلة في ذواء النباتات وجفافها حين قلة الماء وجفافه وصلابة التربة، حاولوا أن يستفيدوا مما استخلصوه فائدة إيجابية، وبمعنى آخر حاولوا أن يباشروا عملية النمو الطبيعية للنباتات والحبوب الغذائية بأنفسهم، وأن يصبحوا منتجين لغذائهم متحكمين فيه بأنفسهم وسواء طالت محاولاتهم هذه أم قصرت، فقد انتهت باهتدائهم إلى أساليب الزراعة البسيطة منذ أكثر من سبعة آلاف عام أو ثمانية آلاف، وقبل غيرهم من أهل العالم القديم المسكون1، أو قبل أغلب أهل العالم القديم المسكون إن نظرنا بعين الاعتبار إلى ما يراه أنصار حضارات وديان الأنهار الكبرى الأخرى مثل أنصار حضارة بلاد النهرين، وأنصار حضارة سوريا وفلسطين وأنصار حضارة إيران، بل والباحثين في حضارات جنوب شرق آسيا، من أن كلا منها قد عرفت الزراعة في عصر قريب من العصر الذي اهتدت مصر فيه إلى معرفة الزراعة2.

_ 1 See Also, S. Huzayyin, Op. Cit., 231. تاريخ الحضارة المصرية – القاهرة 1962 – المجلد الأول – ص15 - 16. عبد العزيز صالح: حضارة مصر القديمة وآثارها – القاهرة 1962 – ص81 - 86. 2 See, Peake, The Origins Of Agriculture, 1928; The Beginning Of Agriculture, 1931; R.J. Baidwood, “The World’s First Farming Villagea”, Lllustrated London News, April, 28, 1956, 410f.; Etc.

وترتبت على بدايات معرفة الزراعة في الشرق الأدنى نتائج اجتماعية وعمرانية واقتصادية متعددة كانت أساسًا لبعض ما تلاها من مظاهر الحضارات التاريخية: فقد ترتب على الاشتغال بالزراعة زيادة التماسك الأسري بين الأفراد نتيجة لإمكان انتفاع رب كل أسرة بمجهودات أولاده وبناته وزوجاته في عمليات الزراعة، ثم زيادة الاستقرار السكني بين الزارعين نتيجة لحرصهم على الإقامة بجوار مزروعاتهم لرعايتها وحمايتها ثم للانتفاع بها، وزيادة الاستقرار المعيشي بينهم نتيجة لإمكان تحكم الإنسان في محصول أرضه بقدر ما يبذله فيها من الجهد، وزيادة تعوده على الادخار للاستعانة بمحصوله المدخر على المعيشة في غير فصول الإنبات وفي مواسم الجفاف. مع زيادة التعاون بين الأقارب في استصلاح المزيد من الأرض واستغلالها. وازدياد الميل إلى التجمع بين الجيران في سبيل حماية المناطق المزروعة ودرء أخطار الفيضانات عنها. ثم التماس الفرد للأمن وسط الجماعة وفي حماية المجموع، مع زيادة إحساسه بفرديته وشخصيته نتيجة لما أصبح يمتلكه من الأرض الزراعية وما يستغله عليها من الحيوانات الأليفة، وإن وضحت الفوارق الاقتصادية في الوقت نفسه مع حياة الزراعة بين المالك وبين الأجير وبين الغني وبين الفقير.

تعدد الحرف وبدايات الفنون

تعدد الحرف وبدايات الفنون: عرف أهل الشرق الأدنى، وأهل مصر وبلاد النهرين بخاصة، مع الزراعة نوعا من ضمان الرزق لم يعرفه أسلافهم من قبل. واتسعت مطالبهم الفردية والجماعية بعض الشيء. وبدأ تعدد الحرف بينهم في الوضوح. فظهرت لديهم إلى جانب حرف الزراعة والصيد واستئناس الحيوان ورعيه وصناعة الأدوات الحجرية، حرف الصناعة أدوات الزراعة من فئوس ومناجل، وأخرى لتضفير الحبال وعمل الزنابيل والسلال "من الخوص ونباتات الحلفا وألياف البردي" لخزن الحبوب وعمل الحصير، ونسج الكتان، وحرف غيرها لصناعة أواني الفخار والقليل من الأواني الحجرية1. ولم يكن الإنسان ليستطيع أن يهتدي إلى صناعة من هذه الصناعات بسهولة وفي وقت قصير، وإنما لعبت عوامل المصادفة والملاحظة والصبر ثم رغبة الابتداع دورها في كل واحدة منها. ففي عوامل الاهتداء إلى صناعة الأواني الفخارية على سبيل المثال ليس من المستبعد أن يكون الإنسان القديم قد هيأ لنفسه منذ الدهر القديم الأعلى أوعية بدائية خشنة يسيرة يحتفظ فيها بقوت يومه ويأكل فيها حبوبه المجروشة ويشرب فيها الماء واللبن. وإذا صح هذا الظن، صح التساؤل معه، وكيف وفر هذا الإنسان الأول أوعيته هذه وكيف كانت هيئتها؟ هناك احتمالان للإجابة على هذا السؤال وهما: أن يكون الإنسان قد اتخذ أوعيته تلك من بيض النعام على نحو ما فعل أصحاب الحضارة القفصية في شمال إفريقيا. أو يكون قد صنع أواني الطعام من ألياف النخيل والدوم وما يشبهها، واتخذ أواني الشراب من جيوب الجلد التي تشبه السقاء، على نحو ما تفعل بعض الجماعات البدائية المتخلفة حتى الآن2.

_ 1 انظر أيضًا: مصطفى عامر: في تاريخ الحضارة المصرية – المجلد الأول – القاهرة 1962 – ص51، عبد العزيز صالح: المرجع السابق – ص68 - 92. 2 Caton-Thompson, Ma, Xxxii “1932”, 131f,; H. Frankfort, Studies In The Early Pottery, 1924, 12; J. Meyrs, In Cambridge Ancient History, I. 79.

ومنذ استقر الإنسان على مدرجات وضفاف الأنهار استقراره الطويل، اهتدى إلى صلاحية الطمي لصناعة أوانية، ثم استعمالها بعد حرقها. ومرة أخرى يصح التساؤل عن المقدمات التي سمحت له بأن يتبين خواص الطمي وفوائد حرقة، وفي تخمين هذه المقدمات احتمالان أيضًا، وهما: أن يكون الإنسان قد لحظ صلابة الطمي واحمراره تحت مواقد النار التي كان يستعملها منذ دهوره القديمة، وأطال ملاحظته حتى أدرك أثر الحرارة في هذه الصلابة وذاك الاحمرار، ثم تعمد أن ينتفع بهذا الأثر في حياته العملية وجريه في صناعة أواني الفخار حتى أتقنها. أو أنه اعتاد على أن يغشي أوعيته الليفية القديمة بغشاء خفيف من الطمي يسد مسامها ثم لاحظ بعد مرات ومرات، أن أوعيته تلك إذا تعرضت لحرارة الشمس جف سطحها الخارجي وإذا تعرضت لحرارة النار احترقت أليافها واحمر طميها أو اسود وتماسك. فلما أطال الملاحظة في هاتين الظاهرتين أدرك أنه يستطيع أن يستغني عن استعمال الليف في صناعة أوانيه، ويستطيع أن يكتفي في صناعتها بالطمي المحروق وحده1. وظل الصناع يصنعون أوانيهم الفخارية يدويًّا أمدًا طويلًا "دون معرفة عجلة الفخراني". وكان الصانع يبدأ بتنقية من الشوائب العالقة به، ويعجنه بالماء بقدميه، ويضيف إليه أحيانًا بعض التبن الدقيق الخفيف أو الروث المسحوق، ليقلل به لزوجته ويزيد من تماسكه. ثم يشكل آنيته ويسوي سطحها بيده المبللة حتى يقلل من سعة مسامها، ويجففها في حرارة الشمس قبل أن يحرقها حتى لا تؤثر النار المتوهجة على شكل عجينتها الطرية أو تعمل على تبخير مائها بسرعة فتتشقق جوانبها. وكانت هذه الخطوات تكفي لصناعة الأواني العادية قبل حرقها، فإذا شاء الصانع أن يزيد عنايته بها غشى سطوحها قبل أن تجف بغشاء خفيف من صلصال ناعم؛ ليسد مسامها ويقلل رشحها ويجعل سطوحها ملساء تصلح للرسم والزخرفة. وإذا شاء أن يصقلها، حكها قبل تمام حرقها بصدفة أو حصاة ناعمة، حتى يزيد تماسك مسامها ويقلل خشونة سطحها ويجعلها أكثر قابلية للتلون بعد حرقها في النار2. وفي ظل الرزق المكفول مرة أخرى، وفي ظل أوقات الفراغ التي سمحت بها ظروف الدورة الزراعية الواحدة، مع نمو عادة الادخار وتنوع الحرف، وفي ظل الرخاء النسبي المترتب على ذلك كله، بدأت خيوط التحضر في الشرق تتزيد في الوضوح قليلا قليلا، وأخذت أذواق الرؤساء وأهل اليسار تتحسس سبل الاستمتاع بالجمال، ومضت صناعة أدوات الزينة وأساليب الزخرفة وراءها تتلمس لأصحابها الجزاء المقبول ورواج الصنعة. وبمعنى آخر كان من الطبيعي بعد أن نجح الإنسان القديم في تحسن حياته المادية أن يتجه إلى إشباع ذوقه وإرضاء تطلعاته المعنوية. وبدأت طفولة الفن حينذاك بصناعة تماثيل صغيرة من الصلصال "والخشب والعظم والعاج"، قلد الصناع فيها

_ 1 J. Meyers, Op, Cit., 70. 2 الفرد لوكاس: المواد والصناعات عند قدماء المصريين – معرب بالقاهرة – ص597 - 601. H. Frankfort, Op. Cit., 6.

الكحل "الملاخيت" بجوار مواقد الأكواخ عن غير قصد، فإذا اشتدت نار المواقد وصهرتها خلصتها من لونها الأخضر وأبقت منها رواسبها المعدنية البارقة. ولما تكررت هذه الظواهر وأمثالها، والتفتت الأنظار إليها وظهر من الصناع من أدركوا مسبباتها، أصبحوا يكررونها عن قصد ويبحثون عن أخلاط النحاس في مواطنها القريبة والبعيدة ثم يصرونها بوسائلهم البدائية اليسيرة1. وتعتبر العهود الأولى لاستخدام النحاس في الشرق الأدنى جزءًا من فجر تاريخه، ولكنها توصف على الرغم من ذلك بثلاث تعريفات خاصة بها، وهي: تعريف زمني يسميها العصر الإنيوليثي بمعنى العصر الحجري الأحدث، وتعريف حضاري يسميها العصر الخالكوليثي بمعنى العصر النحاسي الحجري "وتعرب تجاوزا باسم عصر بداية المعادن"، ثم تعريف تاريخي يسميها باسم عصر ما قبل الأسرات في مصر بخاصة. وبدأ الانتفاع بالنحاس على نطاق ضيق، ولم يزد استخدامه في بداية أمره عن صناعة مجموعات من الخرز الصغير تستخدم في أغراض الزينة، ومثاقب طويلة دقيقة استخدمت في ثقب حبات الخرز الحجرية، ودبابيس طويلة استخدمت في شبك أرديتهم الجلدية أو الكتانية. ثم اتسع استخدام النحاس اتساعًا نسبيًّا مع مرور الزمن، وصنعت منه بعض المدى والأسلحة الصغيرة، وتطلب هذا التوسع مزيدًا من النشاط في استخراج المعدن وتنقيته، ومزيدًا من النشاط في البحث عن مصادره. وكان أمر هذا النشاط في مصر أمرًا ميسرًا بعض الشيء، فقد توفرت مصادر النحاس فيها في شبه جزيرة سيناء وبعض مناطق الصحراء الشرقية، وذلك على العكس من حال أهل بلاد النهرين، الذين قلت مصادر النحاس في أرضهم وتوفرت فيما حولهم في إيران والأناضول وعمان، وكان عليهم بذلك أن يبذلوا المجهود في استيراده.

_ 1 A. Lucas, Jea, Xxxi, 96-97; Coghian, Man, July 1939. الفريد لوكاس: المرجع المعرب السابق – ص281 - 283، 246.

وضوح التجمعات

وضوح التجمعات: صحب التطور الحضاري في فجر التاريخ بشقيه، العصر النيوليثي والعصر الخالكوليثي، اتجاه إلى تكوين المجتمعات القروية ثم بداية التطور نحو المجتمعات المدنية. وقد مر بنا كيف دعت حياة الزراعة أصحابها إلى الاستقرار بالقرب من زراعاتهم لرعايتها وحمايتها، وإلى التعاون في سبيل استصلاح الأرض واستغلالها، ثم في سبيل دفع أخطار الفيضانات وتيسير الانتفاع بمائها، كما دعتهم إلى التقارب والتماس الأمن للفرد وأسرته وملكيته وسط الجماعة وفي حماية المجموع. وأدت هذه العوامل إلى تجمع سكان المناطق الزراعية في قرى صغيرة كانوا ينشئونها على مناطق الحواف، أي الحواف الزراعية والحواف الصحراوية، أو المناطق المرتفعة بعض الشيء عن مناطق الزراعة المنخفضة؛ بغية الابتعاد عن رطوبة أرضها، وبغية توفير مساحاتها للإنتاج الزراعي بقدر الإمكان. وكان المادة الميسرة في إنشاء مساكن القرى الزراعية هي الطين، الذي بدأ استخدامه في البناء على هيئة الجواليص، أي الكتل غير منتظمة الشكل، ثم تطور إلى هيئة قوالب اللبن المستطيلة المنتظمة الشكل مع تدعيم الطين فيها بالحشائش الجافة والمواد العضوية حتى يزداد تماسكه، ومع تدعيم أساسات المساكن نفسها بقطع الدبش الغفل، ونشأت أمثال هذه القرى في بداية أمرها متواضعة

متفرقة متباعدة، ولكن لم يكن من منطق الأشياء أن تظل على التفرق طويلًا أو تستقل كل منها دائمًا عن الأخرى، وإنما كانت عرضة لأن تستجيب من حين إلى آخر إلى دواعي التقارب والتضام بعضها من بعض، وهذه الدواعي قد تكون دواعي سليمة كاتصال المصالح التجارية وصلات النسب، والاشتراك في الديانة، والتحالف من أجل تحقيق منفعة أو دفع خطر عدو مشترك. أو تكون دواعي قسرية تتأتى من سعي بعض القرى القوية إلى بسط نفوذها على القرى الضعيفة القريبة منها وضمها تحت رايتها عن طريق القسر والغلبة. وكانت كل من الطريقتين تؤدي في العادة إلى تميز قرية معينة ضمن كل مجموعة من القرى، سواء بميزات الموقع الطبيعي والرخاء النسبي ووفرة الإنتاج واتساع المساحة، أو بميزات الكثرة العددية وشدة البأس. ومثل هذه القرية القوية بأهلها وبرئيسها وبإنتاجها وبموقعها غالبًا ما كانت تتحول إلى بلدة عامرة محصنة بأسوارها، ومتميزة بأسواقها وصناعها، أي إلى مدينة أولية، وهنا قد يصحب الرقي المادي في هذه المدينة رقي فكري نسبي يماثله، ثم يؤدي هذا الرقي الفكري إلى تنظيم سياسي معين أو إلى تحقيق زعامة دينية أو ما أشبه ذلك مما تختلف به كل بلدة عن أخرى. وهذا التمايز فيما بين بلدان فجر التاريخ في الشرق الأدنى القديم، المتعاصرة مع بعضها البعض، أو المتتابعة بعد بضعها البعض، سوف نؤجل بحثه لحين بحث التطور التاريخي والحضري لكل شعب من شعوب الشرق القديم على حدة في الفصول التالية. وإذا كان لا بد من عودة إلى شبه الجزيرة العربية وأحوالها فيما يعاصر حضارات عصر بداية المعادن في المناطق المحيطة بها، فإن كل ما يمكن تقديمه بشأنها أمرين، وهما: أنه ليس من المستبعد أن أهل أطرافها الشمالية الغربية قد عرفوا النحاس وعرفوا استخدامه على نطاق ضيق بحكم مجاورتهم لشبه جزيرة سيناء المورد الرئيسي لمعدن النحاس في مصر، ثم بحكم مجاورتهم لجنوب الشام الذي عرف أهله النحاس في وقت قريب من وقت معرفة المصريين به. ويمكن ترتيب مثل هذا الرأي احتمالًا كذلك بالنسب للمناطق الشرقية القريبة من حدود العراق والخليج العربي. أما الأمر الآخر، فهو مبني على ما لوحظ من وجود شيء من التشابه بين بعض المصنوعات والمظاهر الحضارية في مصر وبين أمثالها في العراق خلال ما قبل العصور التاريخية وفي بدايتها1. ونم هذا التشابه الذي سنشرح تفاصيله في فصول تالية، عن اتصال حضاري وتجاري قديم بين أصحاب الحضارتين. غير أنه لم يكن من الضروري أن يتم مثل هذا الاتصال بين الفريقين بطرق مباشرة دائمًا، بحيث يرتحل من أجله عراقيون إلى مصر بالضرورة أو يرتحل فيه مصريون إلى العراق، وإنما يبدو أن أغلب الاتصالات بينهما كانت تتم عن طريق وسطاء تلقائيين يرتادون المناطق التي تفصل بينهما. وغالبًا ما كان بعض هؤلاء الوسطاء من أهل الشام، ولكن لا يستبعد في الوقت نفسه أن بعضهم الآخر كان من أهل شبه الجزيرة العربية، سواء من أهل أطرافها الشمالية أم من أهل أطرافها الجنوبية. وإذا صح هذا الفرض الأخير، وهو فيما يبدو فرض محتمل، أمكن أن نرتب عليه أن بعض أهل هذه الأطراف العربية قد انتفعوا بالحضارتين وقلدوا بعض أوجه نشاطهما في حدود ما كانت تسمح به بيئتهم وما يسد مطالبهم.

_ 1 انظر مراجع حاشية 2 ص18 وحاشية 1 ص21، سليمان البدر: الخليج العربي ... أثناء الألف الرابع ق. م – 1972. وراجع المؤلف: الرحلات والكشوف الأثرية في شبه الجزيرة العربية – الكويت 1981 – ص63.

تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها

تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها: هيأت لمصر طريقها الحضاري القديم عوامل طبيعية وبشرية عدة، كان منها موقعها الجغرافي المتميز، وضخامة نصيبها من نهر النيل، وتجدد خصوبة أرضها، وانبسط سطحها، وقلة العوائق الطبيعية الحادة فيها، واعتدال مناخها بما لم يعق نشاط إنسانها القديم، وتوفر عدد من المواد الأولية الأساسية في ساحتها، وتميز حدودها بحصانة طبيعية نسبية على الرغم من شدة اتساعها وطول امتدادها. ولم يقل أثرًا عن ذلك كله في دفع مسيرة الحضارة المصرية كثافة أعداد أهلها كثافة نسبية، مع جلدهم ووحدة لغتهم وندرة الفوارق الجنسية بينهم، وسهولة الاتصالات بين جماعاتهم، وقدم إدراكهم لوحدة وطنهم، فضلًا عن استقرار نظم الحكم الداخلية بينهم في أغلب عصورها، وكلها عوامل ساعدت على نمو الحضارة المصرية في عصور مبكرة واستمرار نضجها واتصال حلقات تطورها. ولسنا نعني بتعداد كل هذه العوامل أنها حققت "المثالية" في تاريخ مصر وحضارتها بحكم الضرورة، ولكننا نعني بتقديمها أنها كانت من المقومات الأولية لتكييف التربة التي نشأ تاريخ مصر القديم فيها، وأنها كان من العوامل المساعدة على إظهار الجوانب الطيبة فيه، بغير أن ننفي قيام عوامل أخرى مضادة لها من داخل مصر ومن خارجها. سمى المصريون القدماء أرضهم باسم "كيمة"، بمعنى السوداء أو السمراء؛ إشارة إلى سمرة تربتها الطينية وخصوبتها. وكثيرًا ما عبروا عنها باسم "تاوي" أي الأرضين، أرض الدلتا وأرض الصعيد. وارتبط الاسم الشائع "مصر" في اللغة المصرية واللغات السامية القديمة بمترادفات تدل على معاني الحد والحاجز والمكان الحصين فضلًا عن البلد المتمدين. كما يحتمل أن تسميتها باسم إيجبت الشائع في اللغات الأجنبية منذ أيام الكُتاب الإغريق في تحرف في أصله عن اسم آجبة المصري بمعنى الفيضان. وذلك إلى جانب أسماء أخرى وكنيات يمكن مراجعة مدلولاتها في الفصل الأول من كتابنا عن حضارة مصر القديمة وآثارها. تقسم عصور الحضارة المصرية القديمة تقسيمًا اصطلاحيًّا إلى ثمان وحدات اعتبارية كبيرة، تمايزت كل وحدة منها عن أختها من حيث أمدها الزمني وطاقتها البشرية ومستوياتها الحضارية، ولكن اتصلت كل واحدة منها اتصالًا تطويريًّا وثيقًا بسابقتها كما مهدت بتطوراتها للاحقتها. وقد تعاقبت بمصادرها القديمة على النحو التالي الذي نصوره ها هنا في إيجاز: أولًا- دهور ما قبل التاريخ: وهذه أسلفنا في صفحات سابقة ما اتصفت به من امتداد زمني طويل وظواهر مناخية متمايزة، ومصنوعات متواضعة بطيئة التطور، خلال بحثنا لما قبل التاريخ في الشرق الأدنى القديم بوجه عام، ولم نستثن منها للدراسة التفصيلية بكل قطر على حده سوى خصائص آخر عصورها،

وهو العصر الحجري الحديث، وذلك باعتباره البداية الواضحة للتخصص الإقليمي بين أقطار الشرق القديم بعامة، وباعتباره ممثلًا لمرحلة فجر التاريخ في كل من مصر والعراق بخاصة، وممهدًا لبداية العصور التاريخية التي أعقبته فيهما. وانحصرت مصادر الدهور الحجرية القديمة فيما مر بنا، فيما تركه إنسانها الأول من أدوات بدائية، كان أغلبها من الحجر، وما تركه في مناطق سكناه العتيقة من آثار المواقد وبقايا أسنان المناجل وقطع المراحي، ثم ما خلفه من رسوم بدائية تغني باحثها من حيث اتصالها بطفولة الفن الأولى، وبعقائد الدين وتخيلات السحر القديم، فضلًا عن أنها احتفظت في مناظرها بما يصور بعض حيوانات البيئات القديمة ووسائل الإنسان في مواجهتها وفي صيدها. أما عصر فجر التاريخ بخاصة، فقد زادت مصادره المادية نتيجة لاستقرار حياته الزراعية، فتعددت آثار الحرف الأولية التي مارسها أهله وتخصص بعضهم فيها، مثل أدوات الزراعة والأواني الفخارية والحجرية والصلايات والسلال والمنسوجات البسيطة، وبدايات المصنوعات النحاسية المتواضعة، ونماذج الرسوم والنقوش والتماثيل الصغيرة. وقد استمرت كل هذه الآثار غفلًا من الكتابة، وظل أولاها بالدراسة في نظر الأثري والمؤرخ للدلالة على التتابع الزمني والتطور الصناعي والتطور الفني خلال العصر الحجري الحديث، هي الأواني الفخارية، تستوي في ذلك الأواني الغفل ذات الأشكال المتطورة، والأواني ذات الرسوم والنقوش المعبرة. ثانيًا- بداية العصور التاريخية: وتسمى اصطلاحًا كذلك باسم عصر بداية الأسرات، والعصر العتيق. وقد بدأ عصرها حوالي القرن الثاني والثلاثين ق. م، وامتد إلى عام 2780ق. م أو نحوه، وامتاز تاريخيًّا ببداية استقرار وحدة مصر السياسية الكاملة منذ أوائله، وبمعرفة الكتابة منذ بدايته، وبظهور المصادر التاريخية المكتوبة فيه لأول مرة تبعًا لذلك. كما يعتبر عصر التكوين بالنسبة لنظم الحكم وأوضاع الإدارة، وقد تعاقبت خلاله على عرش مصر الأسرتان الحاكمتان الأوليتان من الأسر الفرعونية في مصر القديمة. ثالثًا- عصور الدولة القديمة: وهي عصور بدأت بعض الأسرة الحاكمة الثالثة في أوائل القرن الثامن والعشرين ق. م، وامتدت حتى نهاية عصر الأسرة السادسة "أو بعده بقليل" في أواخر القرن الثامن والعشرين ق. م. واتصفت أغلب عهودها بالاستقرار السياسي النسبي ومركزية الحكم. وتميزت مظاهر الحضارة فيها بالنمو الداخلي المتصل في شئون العمارة والفنون وتنظيمات الإدارة وعقائد الآخرة. واستقرت مبادئ ذلك كله دونما تأثيرات خارجية ملموسة. وتمثلت أغلب آثار هذه العصور في مقابرها الفخمة وأهرامها الرائعة التي انتشرت حول عاصمتها منف، فيما يمتد بين ميدوم ودهشور وسقارة والجيزة جنوبي القاهرة الحالية، فضلًا على ما تناثر من آثارها في بقية مناطق القطر الأخرى. رابعًا- عصر الانتقال الأول "أو عصر اللامركزية الأولى": وكان عصر انتقال من وحدة الحكم إلى تفرق وجهات الحكام، ومن الاستقرار إلى القلقلة، ومن ضخامة إمكانيات الدولة إلى قلتها، وإن

انتعشت خلال هذا العصر في الوقت ذاته أحوال الطبقة الوسطى ونمت فيه روح الفردية، وظهرت خلاله مبادئ سياسية وعقائد دينية متحررة. وقد امتد العصر من أعقاب نهاية عصر الأسرة السادسة حتى نهاية عصر الأسرة العاشرة في أواسط القرن الحادي والعشرين ق. م. خامسًا- عصور الدولة الوسطى: وهي عصور تميزت باستعادة مركزية الحكم ووحدة السياسة في الداخل وفي الخارج، مع الإبقاء على ازدهار الفردية. واتسعت مجالات التأثير والتأثر فيها بين مصر وبين جيرانها في الشرق الأدنى وجزر البحر المتوسط. واعتبرت العصر الذهبي لكل من اللغة المصرية وآدابها. وقد استمرت نحو ثلاثة قرون، ابتداء من عصر الأسرة الحادية عشرة حتى أوائل عصر الأسرة الثالثة عشرة أوائل القرن الثامن عشر ق. م. وكانت من عواصمها طيبة في الصعيد، واللشت عند مدخل مصر الوسطى، ومنف قرب رأس الدلتا. سادسًا- عصر الانتقال الثاني "أو عصر اللامركزية الثانية": وكان انتقالًا اضطراريًّا من حال الوحدة إلى التفكك ومن الاستقرار إلى القلق، وامتد بمشكلاته فيما بين أواخر عصر الأسرة الثالثة عشرة وبين أواخر عصر الأسرة السابعة عشرة، وشغلت أغلب أيامه محنة الهكسوس، وانتهى في أوائل القرن السادس عشر ق. م. بإجلاء الهكسوس وتشتيتهم وتحرر البلاد منهم. سابعًا- عصور الدولة الحديثة: وقد بدأت بعودة الاستقرار والاستقلال القومي الكامل ومركزية الحكم ثانية، وتميزت ببلوغ الذروة في الرخاء العام وفي الفنون ورقي مذاهب الدين ومرتبة الوحدانية، كما تميزت بالانطلاق الواسع في مجالات السياسة الدولية والتوسع الخارجي. وبدأت خصائصها ببداية عصر الأسرة الثامنة عشرة حوالي عام 1575ق. م، وعمرت نيفا وستة قرون، حتى بلغت خواتيمها بنهاية عصر الأسرة الحادية والعشرين خلال القرن العاشر ق. م. ثامنًا- العصور المتأخرة "أو خواتيم العصور الفرعونية": وهذه بدأت مظاهرها منذ القرن العاشر ق. م، وتذبذب النشاط المصري خلالها بين مد وجذر في مجالات السياسة والحروب واختلطت فيها العناصر الدخيلة بالمصريين اختلاطًا ملحوظًا. وتأثرت مصر فيها بتأرجح موازين القوى بين ... الشرق والغرب القديمة، وابتدأت مقاليد الحضارة والسيادة تنفلت منها إلى غيرها، بل وتعرضت أرضها لأكثر هجوم خارجي، ثم انتهت بانتهاء الحكم الفرعوني القومي بعد عصر الأسرة الثلاثين، مع فتح الإسكندر المقدوني لمصر في خريف 332ق. م، إلى جانب غيرها من أقطار الشرق القديم. تعددت المصادر المادية والمكتوبة والمصورة للعصور التاريخية المصرية القديمة السابقة بما يعبر عن آداب أهلها، وعلومهم، وعقائدهم، وفنونهم، وحرفهم، وأوضاعهم السياسية، واتصالاتهم الخارجية، تعددًا واسعًا فعبر عن الجوانب الفكرية والأدبية والعلمية القديمة من التراث المصري ما تضمنته مخطوطات البردي ونصوص

اللوحات الحجرية واللخاف المكتشفة، من قصص وأساطير، وتعاليم وقصائد وفلسفات، وطب وفلك ورياضيات، ودروس تعليمية، فضلًا عما أمكن استنتاجه من عمليات التحنيط من الجثث الباقية، وما أمكن استخلاصه عن مبادئ الهندسة النظرية والتطبيقية من المنشآت المعمارية الكثيرة القائمة. وعبر عن عقائد مصر القديمة الروحية، التعبدية منها والأخروية، ما تضمنته مخطوطات البردي أيضًا ونقرش المعابد والمقابر ومناظرها، من نصوص الدعوات والأناشيد وهيئات التعبد وصور الحساب والتصورات عن الآخرة، وتميزت منها تراتيل نصوص الأهرام ومتون التوابيت وكتب الموتى، فضلًا عما رمزت إليه تماثيل المعبودات وصورهم، والصفات التي نسبت إليهم، والألقاب التي حملها كهنتهم. وعبر عن فنون مصر الإنشائية وفنونها الصغرى والتطبيقية، ما بقي من عمائر أهرامها ومعابدها ومساكنها وحصونها ومقابرها، ومناظرها المنقوشة المصورة، وتماثيلها، فضلًا عن أدوات الترف والزينة التي عثر عليها في مقابرها وبقايا مساكنها. أما شئون الحياة اليومية العادية في العصور المصرية المتعاقبة، فقد صورت جوانبها النظرية، مناظر الزراعة والصناعة والتبادل التجاري والمناظر الأسرية المسجلة على جدران المقابر. وعبر عن جوانبها العملية الفعلية ما عثر عليه من أدوات الاستعمال اليومي في المساكن والمقابر، والنماذج الصغيرة التي قلد الصناع بها وجسموا فيها هيئات مصانعهم ومخازنهم ورمزوا بها إلى سيل العمل فيها. ثم الرسائل الشخصية وصيغ الشكاوى ونصوص القضايا التي صورت انفعالات أهلها ومشاعرهم، وعلاقات بعضهم ببعض. ثم عبر عن اتصال ما بين هذه الحياة القديمة بين المجتمع المصري الحديث من أواصر، ما بقي حتى الآن من ألفاظ ومسميات وعادات يمكن ربطها بما جاءت به المصادر السابقة جميعها، مما هو مكتوب وما هو مصور ومرسوم. ومن مصادر الحياة السياسية الداخلية والخارجية في تلك العصور التاريخية المتتالية، التواريخ الرسمية التي سجلها الكتبة والمؤرخون المصريون بأمر حكامهم وبأسمائهم، منذ أوائل عصورهم التاريخية على جذادات من البردي والخشب والعاج بأحداث مفردة أحيانًا، ثم في قوائم متصلة منقوشة على النصب الحجرية وجدران المعابد، وقوائم أخرى مخطوطة على صفحات البردي أحيانًا أخرى. ومن أهم ما عرف حتى الآن من هذه وتلك ما يسمى اصطلاحًا بأسماء قائمة حجر بالرمو من القرن 25ق. م، وقائمة الكرنك من القرن 15ق. م، وقائمة أبيدوس وبردية تورين من القرن 13ق. م. وقد اكتفت بعض هذه القوائم بتسجيل تتابع أسماء الملوك، بينما أضاف بعضها إلى أسمائهم ذكر فترات حكمهم بالأعوام والشهور والأيام، كما تضمن بعضها الآخر وهو الأهم ما اشتهرت به عهودهم من منشآت خاصة وعامة، وأعياد وحروب وبعثات تجارية1. وإلى جانب هذه القوائم التاريخية الرسمية، عمل الكتاب والمؤرخون والفنانون في عهد كل فرعون على أن يسجلوا مآثره وأعماله وحروبه، فضلًا عن آيات تقواه، على جدران المعابد التي أنشئت في عهده

_ 1 راجع عن التفاصيل: عبد العزيز صالح: التاريخ في مصر القديمة – مفهومه وعناصره وبواعث القومية فيه – القاهرة 1957 – وحضارة مصر القديمة وآثارها – جـ1 – ص233 - 244.

وعلى نصب حجرية كبيرة أقيم بعضها في رحاب المعابد والدواوين، وأقيم بعضها على حدود القطر وعلى حدود الأملاك الخارجية. ولم يكتفوا بالكتابة التاريخية وحدها على هذه وتلك، وإنما جعلوا مما سجلوه عليها معرضا للتاريخ المصور أيضًا. وساهمت النصوص والمناظر الفردية لكبار الموظفين والأدباء في التعبير عما اشترك أصحابها فيه من أعمال عامة وحروب وبعثات ومنشآت، وما ولوه من مناصب. اصطبغت بعض تسجيلاتهم الفردية هذه بصبغة تقليدية ردت الأمر كله فيها إلى إيحاءات الملوك ووصفتهم بما كانوا يستحبون أن يوصفوا به دائمًا من قداسة وعدل وقوة بأس، ولو لم يكن لبعضهم نصيب من ذلك كله بينما اصطبغ بعضها الآخر بنصيب أكبر من الواقعية، فصورت نصوصها الأحداث قريبة مما جرت به فعلا. بغير تضخيم كبير ولا تنميق كثير، وردت بعض الفضل فيها إلى أصحابها الفعليين. وتكتمل صورة المصادر المصرية القديمة عن العصور التاريخية الطويلة بما كتبه عنها المؤرخ المصري مانيتون السمنودي الذي عاش في القرن الثالث ق. م. وحاول أن يؤرخ به للحياة الاجتماعية والحياة السياسية معا، منذ أقدم العصور حتى أيامه، فنجح حينا واشتط أحيانًا. أما المصادر غير المصرية فمنها ما روته الكتب السماوية من إشارات قصيرة عن مصر ومن عايشها من الأنبياء. وعبارات متفرقة عن مصر أيضًا تضمنتها بعض نصوص حكام البلاد الشرقية القديمة ورسائلهم إلى الفراعنة مثل رسائل العمارنة. هناك أخيرا كتابات الرحالة والمؤرخين الإغريق والرومان الذين زاروا مصر وكتبوا عنها منذ أواخر القرن السادس ق. م. على أقل تقدير، من أمثال هيكاتيوس الميليتي، وهيرودوت الهاليكارناسي، وهيكاتيوس الأبديري، وديودور الصقلي، وأسترابون البونتي، وبلينوس الجغرافي، وبلوتارخ الخايروني. فضلًا عمن أقاموا منهم في مصر والإسكندرية بخاصة وأصبحوا مواطنين فيها وكتبوا عن تاريخها وأحوال مجتمعها من أمثال إراتوستينوس، وأبوللودوروس، وهورابوللو، ويوسيفوس، ويوليوس أفريكانوس، ويوسيبيوس، وجيوجرجيوس، وغيرهم. واختلف نصيب كل مؤرخ وجغرافي ورحالة من هؤلاء وهؤلاء عن زميله في مدى تحريه الأمانة فيما رواه عن مصر، ومدى معرفته الصحيحة بتاريخها، ومدى إقامته بها، ومدى فهمه لتقاليد أهلها. بل إن ما كتبه كل منهم جمع في طياته بين المنطق وبين الخرافة، وبين الصدق حينا والافتراء حينا آخر، وبين أدلة الذكاء وقرائن الغفلة، وبين صور المدح وصور الذم في آن واحد. وكل ذلك مما يحول دون الحكم على أحدهم بحكم عام، أو الحكم على كفاياتهم كلها بحكم شامل، سواء فيما يختص بكتاباتهم عن العصور القديمة التي سبقتهم والتي جمعوا أغلب أخبارها البعيدة من أفواه الرواة أو الأدلاء والكهان ومن منطوق الأساطير، أم فيما يختص برواياتهم عن العصور المتأخرة التي زاروا مصر إبانها ووصفوا ما رأوه فيها رأي العين، فأصابوا في وصفه أحيانًا، وخدعوا عنه أو أخطئوا تصويره أحيانًا أخرى. ووضحت لحركة وصف الآثار المصرية الظاهرة في العصر الحديث مرحلتان، مرحلة تكفل بها العلماء الفرنسيون الذين صحبوا نابليون إلى مصر، ونشروا نتائجها بن أعوام 1809 - 1813 ضمن مجلداتهم الضخمة عن وصف مصر " Description De L' Egypte"، ومرحلة أخرى تكفلت بها بعثات أجنبية

منظمة منذ عام 1828، وكان من روادها روسليني1، ولبسيوس، وواصل هذا الأخير عمله ونشر مجلدات ضخمة منذ عام "1849"2. صور ورسم فيها طائفة كبيرة من الآثار الظاهرة في مصر والنوبة، وآثارا أخرى كشف بنفسه عنها في سقارة ومصر الوسطى. ومنذ ذلك الحين سار وصف الآثار ورسمها وتصويرها جنبا إلى جنب مع التنقيب عن الآثار المدفونة، ودراسة اللغة المصرية القديمة. وبدأت دراسة اللغة المصرية وجهتها العلمية بعد العثور مصادفة على حجر رشيد في عام 1799، ومحاولة قراءة نصوصه، وهو حجر من البازلت الأسود عثر عليه خلال حفر خندق حول قلعة قايتباي "أو سان جوليان" برشيد، وحاول الفرنسيون أن يخرجوا به من مصر مع غيره من الآثار التي وجدوها في أرضها، ولكن هزيمتهم في أبي قير أدت إلى انتقال هذه الآثار ومن بينها حجر رشيد إلى المتحف البريطاني بلندن. نقشت على واجهة حجر رشيد سطور كثيرة، بقي منها 14 سطرا كتبت بالخط الهيروغليفي في أعلاه، و32 سطرا كتبت بالخط الديموطي في وسطه، و54 سطرا كتبت باللغة اليونانية في أسفله. وحاول قراءة هذه الخطوط عدد من الباحثين، منذ عام 1802، وكان أكثرهم مثابرة أربعة: Akerblad, T. Young, S. De Sacy, And J.F. Champollicn كما كان أكثرهم توفيقا وحظا واستمرارا هو جان فرنسوا شامبليون وانتهت دراساتهم المتفرقة عام 1821 إلى أن نقوش الحجر تضمنت قرارا أصدره المصريون المجتمعون في منف في عام 196ق. م، وشكروا فيه الملك البطلمي إبيفانس على إعفاء معابدهم من تكاليف فرضها أسلافه عليها. وما نود أن ندع شكر الكهنة هذا بغير أن نعقب عليه بحقيقتين، وهما: أن الكاتب المصري كاتب الحجر تعمد أن يجعل كتابته الهيروغليفية المقدسة في أعلى الحجر، وسجل كتابته الديموطية الشعبية في وسطه، ونحى الكتابة الإغريقية لغة الملك البطلمي وبطانته إلى أسفله، وذلك مما قد يعني أن عجز المصريين المادي إزاء حكامهم البطالمة الأجانب لم يمنعهم من أن يتلمسوا كل سبيل يعبر عن قوميتهم الدفينة وينتقم لكرامتهم المغلوبة على أمرها، وذلك على الرغم من أن الحجر قد أقيم في منطقة غلب عليها النفوذ الإغريقي سواء أكان ذلك في رشيد نفسها أم كان قد نقل إليها من منطقة سايس. أما الحقيقة الثانية فتتمثل في أن ثناء الكهنة المصريين على الملك الأجنبي لم يمنعهم من أن يلمزوه في سياق النص بعبارات ضمنية، كانت منها عبارة تقول "إن الملك ثبت للمعابد ومصر تقاليدها وفقا للقانون" وكأنهم بعبارتهم هذه التي ضمنوها عامدين في سياق شكر الملك لم يروا فيما أثابهم به هذا البطلمي غير تسليم بما يأمر به التقليد أو العرف الواجب والقانون3. فقد حجر رشيد عددا كبيرا من سطوره الهيروغليفية، ولكنه تضمن سطوره الديموطية والإغريقية شبه كاملة، ويسر على الباحثين قراءة نصوصه معرفتهم السابقة باللغة الإغريقية، وورود عبارة في النص

_ 1 I. Rosellini, L Monumenti Dell’ Egitto E Della Nubia,… Pisa, 1832-44. 2 K.R. Lepsius, Denkmaeler Aus Agypten Und Aethiopien, Berlin, 1849 F. 3 عبد العزيز صالح: دراسات في التاريخ الحضاري لمصر القديمة – القاهرة 1957 – ص53 - 58.

الإغريقي توصي بكتابة القرار بالكتابة المقدسة أي الهيروغليفية، والكتابة العامة أي الديموطية، فضلًا عن الكتابة الإغريقية، وذلك مما نم عن أن الكتابات الثلاث ليست غير ثلاث نسخ لقرار واحد. ووجد أولئك الباحثون ألفاظا كررت عدة مرات في النص الإغريقي وحاولوا التعرف على مرادفاتها في الكتابة المصرية، ومنها اسم بطلميوس نفسه، وألفاظ المعابد، والكهنة، إلخ. ولما كانت أسماء الأعلام لا تتغير حروفها تغيرا كبيرا بين لغة وأخرى، بدءوا بالتعرف على مرادف اسم الملك بطلميوس في الكتابة المصرية، ويسر ذلك لهم أن المصريين اعتادوا على تضمين أسماء الملوك في إطارات مستطيلة ملفوفة الأركان يطلق عليها اصطلاحا اسم الخراطيش. وبمقارنة هذا الاسم في نصي اللغتين الإغريقية والمصرية اهتدوا إلى التعرف على مدلول بضع علامات وحروف مصرية. ثم تكررت المحاولة على نقوش مسلة مصرية نقلت إلى بريطانيا في عام 1819 ونشرت صور نقوشها الهيروغليفية ونقوش أخرى إغريقية سجلت على قاعدتها، في عام 1821. وتضمنت هي الأخرى اسم بطلميوس واسم كليوباترة. وبالجمع بين الحروف المشتركة في الاسمين، وضح ثلاثة عشر حرفا ذات اثني عشر صوتا. وكانت محاولات أولئك الباحثين بمثابة مفاتيح أسرار اللغة المصرية التي استغلقت على من سبقوهم قرونا طويلة. واستمرت المحاولات حينذاك لقراءة أسماء مصرية وإغريقية ورومانية، مثل تحوتمس والإسكندر وبرينيكي ودوميشان وتراجان. واتصلت الدراسات بعد ذلك على الآثار وصفحات البردي جيلا بعد جيل، حتى أصبحت اللغة المصرية تعرف اليوم بما لم تعرف به لغة قديمة أخرى من الصحة والوضوح1. مر التنقيب عن الآثار الدفينة في عدة مراحل خلال القرن الماضي والقرن الحالي2. فبدأ بمرحلة شغلت النصف الأول من القرن التاسع عشر، واستغلها طائفة من الأجانب كان أقلهم من المتخصصين العلماء وأكثرهم من الهواة وتجار الآثار بل ومن الأفاقين الذين اجتذبتهم شهرة كنوز مصر وفنونها وعجائبها، وشجعهم استعداد المتاحف الدولية وكبار الأثرياء العالميين على شراء كل ما يعرضونه عليهم منها. وعن طريقهم انتقلت كنوز كثيرة إلى الخارج. وأخذت الحكومة المصرية تهتم بالآثار منذ الربع الثالث للقرن 19، وتنبت فكرة إنشاء إدارة تُعنى بها منذ عهد محمد علي، ولكن هذه الفكرة تعثرت واكتفى الولاة بتخزين الآثار المكشفة في دار بالأزبكية حينا، وفي القلعة حينا آخر، حتى أحيا أوجست مارييت الدعوة من جديد في عهد سعيد، وأنشأت مصر متحفا منظما لأول مرة كان مقره في بولاق عام 1859، وانتقل منها إلى الجيزة، ثم استقر في موضعه الحالي منذ عام 1903، ونشط التنقيب عن الآثار في هذه الفترة بموافقة الدولة، وظهر جيل من الآثاريين واللغويين والمؤرخين، راعوا الحرص حين التنقيب عن الآثار وحين تجميعها، وراعوا الحرص على التعجيل بتسجيلها ونشر أوصافها ودراسة نصوصها. وقدروا الأهمية لكل شيء براقا كان أم غير براق.

_ 1 Jea, 1958, 123; A.H. Gardiner, Egyptian Grammer, 1957, 12-15. أدولف إرمان وهرمان رانكه: مصر والحياة المصرية – المقدمة ج – د 2 Glanyille, The Growth And Nature Of Egyptoloy, 1947, G.E. Daniel, A Humdred Yaers Of Archaeology, 1949; F. Li. Griffith, “The Decipherment Of The Hiercglyphs” Jea, Xxxii, 38f.; J.A. Wilson, Sings And Wonders Upon Pharach. 1964; M. Pepe, The Story Of Archaealogical Decipherment, 1975, 60f.

وتوالت بعثات المؤسسات العلمية والجامعات الأجنبية منذ عام 1890 إلى مصر، وزاد نشاطها العلمي خلال القرن العشرين. وأسهم معها وبعدها نفر من الباحثين المصريين في مجال الكشف الأثري والنشر العلمي والتحليل التاريخي ممن يعرفهم الجيل الحاضر من خلال سمعتهم ومؤلفاتهم. وعن طريق كل هذه الجهود، أصبح التاريخ المصري القديم بكل ما فيه من سياسة واجتماع ودين وأدب وعلم وفن، يعرف اليوم بنصيب من الترابط والدقة يزيد إلى حد ملحوظ عن نصيب غيره من تواريخ وحضارات الأمم القديمة الأخرى.

الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية

الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية الفصل الثالث: مصر في فجر تاريخها مدخل ... الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية الفصل الثالث: مصر في فجر تاريخها كاد يصرفني عن تقديم هذا الفصل عاملان، وهما: أن تفاصيله تعني المتخصصين في الآثار أكثر مما تعني غيرهم، وأن المحصول الحضاري لعصره، عصر فجر التاريخ، ليس غير محصول متواضع بالنسبة إلى ما ألفه العالم عن المظاهر الضخمة للحضارة المصرية في عصورها الفرعونية. ولكن عاودني بعد ذلك إحساس آخر ملح بضرورة كتابته، بناء على دافعين أيضًا، وهما: أن عصره قد امتد أكثر من عشرين قرنا وهذه فترة لا يمكن إغفالها من عمر الحضارة المصرية بحال من الأحوال، وأن آثاره وتطوراته على الرغم من بساطتها كانت هي الأساس الغفل للآثار التاريخية التي أتت بعدها. وللتوفيق بين الأمرين، تكتفي الصفحات التالية بمعالجة الخطوط العريضة في تصوير هذا العصر، أما تفاصيله فيمكن الرجوع إلى ما نشرناه عنها في كتابنا الأول في "حضارة مصر القديمة وآثارها"، وقد شغلت فيه نيفا ومائة وخمسين صفحة1. وقد مر بنا كيف وضح تعامل الإنسان مع بيئته في عصر بداية الزراعة، أو عصر فجر التاريخ، أكثر مما وضح في العصور السابقة له، وكيف وضح هذا التعامل في أظهر صوره على هيئة تحد بطيء متتابع، تحد بين الزارعين الجدد الذين رغبوا في الانتفاع بما يستطيعون استغلاله من أرضهم الخصبة وفيرة الماء والقادرة على الإنتاج، وبين وحشية هذه الأرض في أغلب أحوالها واحتياجها إلى جهد طويل وتهذيب وسيطرة حتى تؤتى أكلها حسبما يود أهلها2.

_ 1 راجع: عبد العزيز صالح: حضارة مصر القديمة وآثارها – الجزء الأول – القاهرة 1962 – ص78 - 230. 2 See Also, E. Meyer, Chronologie Egyptienne "Tr. By. A. Moret", 165; Ehernberg, Zu Heredot "Klio XVI", 318f. سليمان حزين: في تاريخ الحضارة المصرية – المجلد الأول – القاهرة 1962 - ص17.

في الفترة النيوليثية الحجرية الحديثة

في الفترة النيوليثية الحجرية الحديثة مدخل ... في الفترة النيوليثية الحجرية الحديثة: أخذ المصريون في بداية فجر تاريخهم بما أخذ به غيرهم من أصحاب المجتمعات الزراعية، فيما يختص بعلاقاتهم المكانية ووسائلهم الاقتصادية، فظلت جماعاتهم تحيا لفترات طويلة في وحدات صغيرة متفرقة، يتصل البعض منها بالبعض الآخر ولكن بمقدار، ويأخذ البعض منها عن البعض الآخر ولكن بمقدار، وإن كانت على الرغم من تفرقها لم تعدم في الوقت ذاته ملامح مشتركة قربت بينها، ولم تعدم فنونها على الرغم من بداءتها روحا من التشابه يؤاخي بينها، وذلك بحيث أصبح التنوع بينها تنوعا داخل وحدة كبيرة، ألا وهي وحدة الجنس ووحدة البيئة ووحدة المطالب المحدودة والكماليات المحدودة أيضًا، وعلى هذا الاعتبار نجد من التسميات الحضارية الاصطلاحية عن أوائل العصر النيوليثي أو العصر الحجري الحديث في مصر:

حضارة مرمدة بني سلامة في جنوب غرب الدلتا، وحضارة الفيوم في مدخل مصر الوسطى، ثم حضارة دير تاسا في أسيوط أي في قلب الصعيد. ولا تعني هذه التسميات أن النشاط في مصر اقتصر أمره على هذه القرى فحسب، وإنما هي تعني قبل كل شيء أن قراها "وقليلا غيرها"1 هي التي تم الكشف عن آثارها كشفا منظما حتى الآن. وقد أخذت كل حضارة منها بالخطوط العامة لتنوع حرف عصرها، من حيث الجمع بين الزراعة وتربية الحيوان والصيد، وصقل الأدوات الحجرية، وصناعة الفخار، وصناعة الحصير والسلال وغزل الكتان. ولكن تميزت كل منها عن الأخرى في أساليب صناعتها، وفي طرق بناء المساكن والمقابر فيها، وفي مدى ما بلغه أهلها من النجاح في أساليب الزينة والزخرف. وذلك ما سوف نوجزه فيما يلي:

_ 1 See, J. Vandier, Manu El D' A Rcheologie Egyptienne, T. I,. Paris, 1952, 64f.

في مرمدة بني سلامة:

في مرمدة بني سلامة: اتصفت آثار مرمدة بني سلمة بخصائص أربع، وهي: أنها عرفت نوعين من المساكن أحدهما بيضي القاعدة يُبنى من جواليص الطين في حفرة متسعة بحيث يظل ربعه تقريبا تحت مستوى سطح الأرض مما يؤدي إلى ثبات جدرانه وإلى حمايته من هبات الرياح. وينزل صاحبه إليه من خارجه على درجة من ساق فرس النهر أو قطعة غليظة من فرع شجرة. والنوع الآخر عبارة عن دروة بيضاوية القاعدة أيضًا تشيد من البوص قرب المزارع، ويلجأ الزارعون إلى مثلها في أوقات الراحة نهارا. ويبيتون فيها في ليالي الصيف ومواسم الحصاد1، كما يفعل أضرابهم من المزارعين حتى الآن. وظهرت الخاصية الثانية لمرمدة بني سلامة في أن أهلها اعتادوا على أن يدفنوا أغلب موتاهم بين مساكنهم ويرقدوهم على الجانب الأيمن بحيث يتجهون بوجوههم ناحية الشرق وناحية بيوتهم، دون أن يزودهم بقربان خاص فيما عدا حفنة من الحبوب قد توضع أحيانًا قرب أفواههم2؛ اعتقادا منهم بأن دفنهم بين المساكن يغنيهم عن القربان ويهيئ لأرواحهم أن تشارك أهلها فيما يطعمونه ويشربونه في بيوتهم. ولا تكاد تشارك مرمدة في هذه الخاصية في عصرها غير قرية العمري قرب حلوان3. أما بقية قرى القطر المعاصرة لها فقد اعتاد أهلها على دفن موتاهم خارج مساكنهم واهتموا بتوفير قرابينهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيل. وتمثلت الميزة الثالثة لمرمدة في أن بعض مساكنها التي اكتشفت آثارها الطفيفة "من النوع الأول" قد التزمت صفين شبه مستقيمين يفصل بينهما طريق ضيق4 وذلك هو أقدم تخطيط عرف للقرى المصرية

_ 1 H. Junker, Merim Le-Benisalame, 1930, 46, Abb. 4; 1932, 48, Abb. 2, Taf. Ii, 52f., Taf. Iii; 1933, 67f., Abb. 2, 3; 1940, 11f. 2 Ibid., 1933, 72f., 74f. 3 Chronique D'egypte, 1946, 51, Fig. 6-7; Asae, Xlviii, 564-65. 4 H. Junker, Op. Cit., 1933, 58f.

حتى الآن، وأقدم دليل على نشأة نوع من التفاهم الاجتماعي، ووجود سلطة في القرية استحبت التنظيم وعملت على تنفيذه. واتصلت الخاصية الرابعة لمرمدة ببدايات الفنون، فقد فتح أصحاب الذوق الفني البدائي من أهلها مجالات جديدة لتشكيل الفخار والأحجار، وعثر لهم على جزء من آنية صغيرة شكلت قاعدتها على هيئة قدم بشرية دقيقة، وقدم أخرى كانت جزءًا من آنية مماثلة، وقطعة من الصلصال المحروق مثلث الجذع الأعلى لأنثى ترتدي قلادة "في بداءة كبيرة"1. وتعتبر هذه النماذج أقدم الخطوات المعروفة لتشكيل التماثيل المصرية الصغيرة في فجر التاريخ. وعثر لهم على نموذج صغير من الفخار لقارب2، يغلب على الظن أن قاربه الأصيل كان يصنع من حزم البردي، ويعتبر بدوره من أقدم الشواهد على اعتياد أهل الفترات الأولى من العصر الحجري الحديث على ركوب متن النيل. ثم عثر لهم على كأس صغيرة نحتها صانعها من حجر البازلت3، وتعتبر من ناحيتها من أقدم الأواني الحجرية الصلبة المعروفة.

_ 1 Junker, Op. Cit., 1934, 131; Mdaik, I, 169; L. Keimer, Asae, Xxxv, 162f., Fig. 1, 3. 2 H. Junker, Op. Cit., 1933, 82 C. 3 Ibid., 1929, Taf. 7, 1.

في الفيوم

في الفيوم: تعتبر حضارة الفيوم نموذجًا لحضارات بداية العصر الحجري الحديث في مصر الوسطى. وتشغل الفيوم منطقة من مناطق الحواف الصحراوية، وقد يسرت لها حياتها وعوضتها عن بعدها عن النيل في عصورها القديمة، بحيرتها الكبرى التي كانت عذبة الماء كثيرة الأسماك تستهوي صنوفًا عدة من الحيوانات، وتتصل بالنيل بفروع مائية، وذلك فضلًا عن خصوبة مدرجاتها التي سمحت بنمو النباتات الطبيعية فيها وصلاحيتها للزراعة. وشهدت هذه المنطقة حضارتين متواضعتين متعاقبتين في العصر الحجري الحديث: حضارة عاش أهلها فوق مدرج متسع عاصر مرحلة بلغ ارتفاع مستوى ماء البحيرة فيها عشرة أمتار فوق مستوى سطح البحر، أو نحو 180 قدمًا فوق مستوى مائها الحالي، وهي حضارة الفيوم1. ثم حضارة أخرى أعقبتها وعاش أهلها فوق مدرجين متسعين عاصرا مرحلتين بلغ ارتفاع مستوى ماء البحيرة فيهما أربعة أمتار ومترين على التوالي فوق مستوى سطح البحر، وهي حضارة الفيوم ب. وكشف في مدرج الحضارة أوهي الأهم، عن منطقة السكن وحدها دون منطقة المقابر، ولم يعثر فيها على أطلال ... ظاهرة، وإنما عثر فيها على مواقع المواقد التي كانت تتوسط المساكن، وعلى عدد كبير من أدوات الاستعمال اليومي مثل الأواني الفخارية ومراحي الحبوب وأدوات الزينة المتواضعة وبعض أدوات الزراعة والصيد.

_ 1 G. Caton-Thompson & E.W. Gardne The Desert Fayuum, London, 1934, Pls. Iii,. 4, Xxi, Xxxii; Huzayyin, Op. Cit., 296, 298. وهبط المستوى الحالي للبحيرة إلى 147.19 من الأقدام تحت سطح البحر "حتى عام 1929" Sandford & Arkel, Op. Cit., I. 73.

ولوحظ من العادات الزراعية لأهل الفيوم أنهم خرجوا بمطامير غلالهم عن منطقة المساكن وحفروها فوق ربوة عالية بعض الشيء بعيدة عن مساكنهم، ورتبوها في ساحتين ترتفع إحداهما عن مستوى الأخرى بنحو تسعة أمتار1. وحفروا كل مطمورة منها على هيئة مستديرة تفاوت قطرها بين القدم وبين الأربعة أقدام، وتفاوت عمقها بين القدم وبين الثلاثة أقدام، وكسوا قاعها وجوانبها بأغشية من الخوص والقش والحصير وأعواد الأثل، كانوا يلصقونها بها بملاط من الطين. واحتفظت مطاميرهم ببقايا نادرة من الحنطة والشعير وبذور الكتان وبذور نباتات أخرى تفحم بعضها وبقي بعضها الآخر بحالة مقبولة حتى الآن2. ونشب الجدل حول هذه المطامير بناء على ظاهرتين وهما: أنها تجمعت مع بعضها البعض في منطقتين متقاربتين، وأنها استقلت بنفسها عن منطقة السكن، وذلك على خلاف مطامير مرمدة التي عثر عليها فردية متفرقة بين المساكن أحيانًا وداخل المساكن نفسها أحيانًا أخرى. وحاول الأستاذ هرمان يونكر أن يفسر أسباب الاختلاف بين مطامير الحضارتين، مطامير الفيوم ومطامير مرمدة، فكان من رأيه أن اجتماعها مع بعضها في الفيوم يدل على شيوع الملكية الزراعية ومحاصيلها بين أصحابها، في حين يدل تفرقها في مرمدة على استقلال كل فرد من أصحابها بملكيته الزراعية ومحاصيلها3، أو هو يدل على استقلال كل أسرة صغيرة بملكيتها. وقد يزكي فرض شيوع الملكية في الفيوم ما رواه بعض الرحالة عن قدم شيوعية الأرض والقوت لدى بعض الجماعات البدائية المتخلفة، وأن أرض الفيوم كانت ضيقة المساحة نسبيًّا ولا تتيح فرصًا كثيرة للتملك الفردي والأسري. ومع ذلك فثمة فرض آخر أبسط منه وأكثر منطقية وهو أن أهل الفيوم اضطروا إلى الابتعاد بمطاميرهم عن منطقة السكن خوفًا عليها من رطوبتها وانخفاض مستوى أرضها وقربها من شواطئ البحيرة4، وأنهم تعمدوا جمع مطاميرهم في مكانتين متقاربين لتسهل عليهم حراستها.

_ 1 Caton Taompson & Gardner, Op. Cit., 41f. Pl. Xxv, 2. 2 Ibid., Pl. Xxxi, 1. F., 46f. 3 Merimde, 1933, 5 F. 4 Caton-Thompson & Gardner, Op. Cit., 91.

في دير تاسا

في دير تاسا: مثلت حضارة دير تاسا في مديرية أسيوط حضارات الصعيد في بداية العصر الحجري الحديث، وقد عمل أهلها فيما عمل فيه بقية أهل القطر من حرف متواضعة، ثم امتازوا عمن سواهم بعدة أمور كان منها: أولًا- أن فخارهم كان أرقى نسبيًّا من فخار أهل المناطق الأخرى التي عاصرتهم، سواء من حيث الشكل أم من حيث الزخرف. فمن حيث الشكل صنعوا بعض كئوسهم على هيئات لطيفة تشبه هيئة زهرة اللوتس أو زهرة التبوليب "بغير ضرورة إلى الظن بأنهم عرفوا هذه الزهرة بالذات وقلدوا صورة كأسها". ومن حيث الزخرف تكونت زخارف هذه الكئوس من مثلثات وأشكال تخطيطية صوروها على سطوحها بطريقتين:

فرسموا بعضها بخطوط مستقيمة ومائلة كانت تحفر على سطح الكأس ثم تملأ بعجينة بيضاء، ورسموا بعضها الآخر بنقط محفورة متجاورة كانت تملأ كذلك بنفس العجينة البيضاء1. ثانيًا- أن عادات الدفن وعقائد الآخرة اتضحت في مقابرهم أكثر مما اتضحت به في مقابر المناطق الأخرى التي عاصرتهم. وكان المقبرة لديهم عبارة عن حفرة بيضية صغيرة ذات أركان ملفوفة، يكفن المتوفى فيها بلفائف من الجلد أو الكتان أو الحصير بما يتفق مع ثراء أهله، ويوسد على جانبه الأيسر في هيئة الإنشاء بحيث يتجه وجهه ناحية الغرب، وتوضع رأسه فوق وسادة من القش أو الكتان. وتوضع معه آنية أو أكثر من الفخار، وبعض الأدوات التي كان يستخدمها في حياته، فضلًا عن بعض الحلي وأدوات الزينة التي تخصه، والتي كان منها بالنسبة للنساء لوحات حجرية صغيرة رقيقة كن يستخدمنها في صحن الكحل الأخضر لتزجيج العيون وصحن المغرة الحمراء لتجميل الحدود2. ويمكن تفسير العقائد المتصلة بهذه العادات بتعليلين وهما: أن وضع رأس المتوفى فوق وسادة يعني أن أهله أرادوا له أن يتخذ في قبره وضع النوم العادي، وقد يتصل بهذه الفكرة اتخاذه وضع القرفصاء أيضًا3، أو أن هذا الوضع الأخير قد أوحى به ضيق مساحة الحفرة التي كانوا يستطيعون حفرها من أجله بأدواتهم المتواضعة في طبقات الحصباء والرمل بل وفي الصخر نفسه أحيانًا. ولا ضرورة مع هذا لرأي ثالث شاء أصحابه أن يمثلوا وضع القرفصاء للمتوفى في قبره بوضع الجنين في بطن أمه، فذلك رأي فاسق يصعب تصوره لأهل فجر التاريخ. أما وضع بعض أدوات المتوفى وأوانيه معه في قبره، فقد يدل على نوع من إعزار الأحياء له عن طريق التضحية من أجله ببعض متاعه وبعض متاعهم، أو يدل على أملهم في أن ينتفع بها بعد موته بطريقة تناسبه وبفضل ما يتلونه عليها من دعوات وتعاويذ. وعثر في بعض المقابر التاسية على ما يمكن أن يعتبر بداية التطور إلى استخدام التوابيت؛ إذ كان الطفل المتوفى يوسد أحيانًا في سلة شبه مستطلية من البوص والأغصان يغطيها حصير4.

_ 1 G. Brunton, Mostagedda And The L Asian Culture, London, 1937, Pls. Xii, Xxvi; Jea, Xiv, Pl. Xxvi; Asae, Xxxiv, 94 F., Pl. I. 2 Brunton, Op. Cit., 6, 30, 34. 3 Ibid., 26. 4 Ibid., Pl. Vi, 5.8.

في الفترة الخالكوليثية النحاسية الحجرية

في الفترة الخالكوليثية النحاسية الحجرية: في البداري: استمر التطور في طريقه خلال فجر التاريخ المصري، وكانت خطوته التطورية الرئيسية بعد معرفة الزراعة، هي معرفة استخراج النحاس من أخلاطه الطبيعية واستخدامه في صناعة أدوات صغيرة "كما أسلفنا في صفحة 31". وأقدم الأماكن الأثرية التي عثر فيها على مصنوعاته في مصر هي قرية البداري

في مديرية أسيوط، ولو أن مصنوعاتها تلك كانت لا تزال في مراحلها المتواضعة الأولى، فاكتفى أهلها بأن صنعوا من النحاس مجموعات من الخرز الصغير استخدموها في صناعة الحلي، ومثاقب دقيقة طويلة استخدموها في ثقب الخرز الحجري، ودبابيس طويلة استخدموها في شبك أرديتهم الجلدية والكتانية1. ويذهب الرأي إلى رد حضارة البداري إلى النصف الثاني من الألف الخامس قبل ميلاد المسيح. وقد ورث أهلها مهارة أهل دير تاسا في زخارف فخارهم وفي عاداتهم وعقائدهم، ثم تطوروا بها إلى ما يناسب أذواقهم وأحوال عصرهم. ففي الفخار صنعوا أواني رقيقة الجدران للغاية لا يكاد يدانيها في رقتها فخار آخر سابق لها. وفي زخارف الفخار اتخذوا من أشكال ورق الشجر وغصون النبات بديلًا عن خطوط الرسم المستقيمة والمائلة التي عرفتها دير تاسا من قبلهم، وقللوا غور الرسوم المحفورة على سطوح أواني الزينة واكتفوا بأن أخرجوها في حفر مسطح بسيط يكاد يستوي مع سطح الآنية المصقول بحيث لا تلحظ العين عمقه إلا بعد تدقيق2. وفي عادات الدفن استمر أهل البداري على العناية بموتاهم وبالأدوات التي توضع معهم، ثم بدءوا عادتين جديدتين وهما: وضع المتوفى على لوحة مسطحة، وتبطين جوانب المقبرة بالحصير3. ويعتبر وضع المتوفى على اللوحة المسطحة مرحلة من مراحل التطور إلى فكرة وضعه داخل تابوت "وقد سبقتها مرحلة أخرى في دير تاسا بالنسبة لتوابيت الأطفال"، كما كان تبطين جوانب المقبرة بالحصير مرحلة من مراحل التطور إلى تبطينها بالخشب وتحديدها باللبن فيما تلا ذلك من عصور. وشغف البداريون بأدوات الزينة والترف المناسبة لعصرهم، ولم تكن هذه قاصرة على نسائهم، وإنما اعتاد رجالهم أيضًا أن يتزينوا بالأساور في المعاصم والدمالج4. واستحبوا الأصداف والخرز في زينتهم، وسلكوا حبات الخرز في خيوط الكتان وشعر البقر واستخدموها قلائد وأساور ورصعوا بها أساور العاج، وتزينوا بقليل من الخواتم العاجية والعظيمة وشنوف الآذان وربما شنوف الأنوف أيضًا5. وصنعوا أمشاطهم من العظم والعاج بأسنان طويلة وتفننوا في هيئاتها وشكلوا أجزاءها العليا على هيئة رءوس الطيور6. وصنعوا إبرهم من النحاس فضلًا على العظم والعاج، واهتدوا إلى طريقة ثقبها7، ولم يكن ذلك الاهتداء بالأمر الهين في شئون حياتهم اليومية على الرغم من بساطته. وكان أمتع ما خلفوه من الأدوات الرقيقة ملاعق من العاج، فقد صنعوها بأشكال لا تكاد تختلف عن أشكالها الحالية، ونوعوا تجاويفها بين هيئة المستطيل والبيضاوي

_ 1 G.Brunton & Caton-Thompsob, The Balarian Civilistion, 1928, 7, 27, 33, 41, Pl. Xxvi. 2 Ibid., 20. F., Pls. Xii, Xiv, Xviii, Etc. 3 Ibid., 18, 20. 4 Ibid., 27, 28, 30, 40 F., 5 Ibid., 30, Pls. Xxiii, 21, Xxiv, 7-12, 13; Mostagedda, Pl. Xxv, 12, 13, 33. 6 Bad. Civil.. Pls. Xxiv, 4, 18; Mostagedda, Pl. Xxiv, 2. 7 Mostagedda, Pls. Xxv; Bad. Civil., 32-33, Pls. Xx, 16, Xxiii, 26-28; Xxvi, I, Xxix, 4.

والمربع، وشكلوا مقابضها بأشكال حيوانية وحلزونية طريفة1، وكل ذلك على الرغم من أنهم عاشوا قبل عصرنا الحاضر بأكثر من ستة آلاف عام. واتجهت أذواقهم إلى الفن التشكيلي، أي فن التماثيل، وتخلفت في مقابرهم سبعة تماثيل نسائية صغيرة: أربعة من الصلصال واثنان من الفخار، وسابع من العاج. وقد اختلفت صناعتها بين البداوة وبين الإتقان باختلاف مهارة صناعها واختلاف أغراضها واختلاف المواد التي صنعت منها. وأبرعها تمثال من الفخار الملون لفتاة عارية بلغ تناسق جسمها حدًّا واضحًا من الإبداع لولا بروز عجزها الذي يحتمل أنه قصد لذاته، ولولا عدم تشكيل كفيها2. وكان تمثالها فيما يغلب على الظن واحدًا من التماثيل التي اقتناها أصحاب الذوق السليم لوجه الفن وحده. وقد ضاع للأسف رأسه وجزء من ساقيه. وتمثال من العاج لفتاة عارية أيضًا كانت عيناه مرصعتين بمادة أخرى مثل المحار الأبيض أو قشر بيض النعام، وحاول صاحبه أن يظهر تفاصيله الدقيقة مثل فتحتي الأنف وإنسان العين وفارق الشعر من الخلف3. وقد نرى في صناعة البداريين لبعض تماثيلهم من العاج ما يدل على رخاء مجتمعهم رخاءً نسبيًّا، وما يتفق مع رقي أذواقهم الذي دل عليه ما تخلف لهم من الملاعق والأمشاط، لولا أن تمثالهم العاجي الباقي هذا، تنقصه سلامة النسب التي ظهرت في تمثال الفخار، وتعيبه ضخامة الرأس وكبر الأنف واتساع محجري العينين بالنسبة إلى بقية جسمه. وقد يرجع ذلك إلى حداثة اشتغال صاحبه بنحت العاج. وقلد البداريون تشكيل هيئة الحيوان كما قلدوا هيئة الإنسان واستغلوا العاج، ويحتمل أنه عاج فيلة كانت لا تزال تغشى أرضهم، في صناعة أواني صغيرة، بعضها أسطواني، وبعضها كري، وبعضها مستطيل، وبعضها مزخرف بصفين من الحبيبات البارزة الدقيقة. وكانت أمثالها على الرغم من بساطتها، تعتبر في عصرها من تحف الزينة وتخصص لحفظ المساحيق والعجائن الثمينة. ونسبت إليهم آنية صغيرة ممتعة من العاج شكلوها على هيئة فرس النهر وجعلوا فتحتها فوق ظهرها. وعلى أية حال، فإن ما يمكن الخروج به من ذكر ما أسلفناه للتاسيين والبداريين في عادات الدفن وزخارف الفخار وحلي الزينة وتشكيل التماثيل، هو أن ما اشتهرت به العصور التاريخية المصرية من الإيمان بحياة أخرى، ومن المهارة الصناعية والذوق الفني المرهف وحب الزخرف، كل هذا نبتت بذوره في أرض مصر وبأيدي أهلها وامتدت جذوره إلى ما قبل عصورها التاريخية بقرون طويلة.

_ 1 Bad. Civil., Pl. Xxii; Mostagedda, Pl. Xxiv. 2 Bad. Civil, 28, Pl, Xxv, 6-7. 3 Ibid, 29, Pl. Xxv, 3-4.

في حضارة نقادة الأولى

في حضارة نقادة الأولى: استمر التطور الحضاري في طريقه بعد عهد البداري، فزاد المصريون من استخدامهم للنحاس وارتقوا رقيًّا نسبيًّا بمساكنهم وبزخارف فخارهم، ومارسوا فن النقش، كما ارتقوا بصناعة الخناجر والأسلحة من

الظران. وتركزت أغلب الآثار التي تنم عن هذه التطورات في المنطقة المحيطة بنقادة بمحافظة قنا بالصعيد. وبدأت هذه المنطقة نشاطها الحضاري بطابع محلي خاص بها خلال عهد يسمى اصطلاحًا باسم عهد نقادة الأول، ثم اشتركت بهذا النشاط المحلي في نشاط حضاري آخر واسع شملها هي وأغلب مناطق الصعيد والدلتا في عهد يسمى اصطلاحًا باسم عهد نقادة الثاني. وقد تميز كل عهد منهما بخصائص وميزات نترك تفاصيلها لمجالات التخصص ويمكن الرجوع إليها في الجزء الأول من كتابنا عن حضارة مصر القديمة وآثارها، وحسبنا أن نستشهد هنا على رقي الحضارة النقادية في عهديها المتتابعين، الأول والثاني، بعرض نماذج مختارة من تطور أهلها المناسب لعصرهم بفنون الرسم والنقش، والمساكن والمقابر. كانت نقادة التي نسبت الحضارتان إليها مجرد جبانة لمدينة متحضرة ابتعدت عنها شمالًا بسبعة كيلومترات وهي مدينة نوبت "ربما بمعنى الذهبية لقربها من مصادر الذهب في الصحراء الشرقية" وقامت على أطلالها بلدة طوخ الحالية على الضفة اليسرى للنيل في محافظة قنا وفي مواجهة مدينة قفط. وليس من شيء مؤكد عن الأوضاع السياسية والدينية في هذه المدينة خلال عهد حضارتها الأولى، وكل ما يعرف عنها هو أن الأساطير القديمة احتفظت لمعبودها "ست" بذكرى واسعة واعتبرته ربًّا للصعيد كله، وذلك مما يحتمل معه أن أقاليم الصعيد أو أغلبها اعترفت بزعامة نوبت وسيادة معبودها في فترة من الفترات القديمة البعيدة. وظهرت الأهمية الأثرية لهذه المنطقة في القرن الماضي منذ اتخذ الأستاذ فلندرز بترى من أعداد أواني الفخار الكثيرة التي وجدها في مقابرها سبيلًا إلى رسم التتابع الزمني1 " Sequence Of Date" لآثار المنطقة وما يماثلها من آثار القطر المعاصرة لها، بعد أن تبين أنه ما من مقبرة من مقابرها خلت من الفخار وأنه ما من صناعة من صناعتها يمكن أن تعبر عن التطور المستمر أفضل من الفخار. واستعان في ترتيب أواني هذا الفخار بملاحظة التطورات الدقيقة في ألوانها وأشكالها ورسومها السطحية والمحفورة. وعمل على تقسيم أنواعها إلى تسع مجموعات رئيسية تتضمن كل منها في داخلها تقسيمات أخرى فرعية، ثم انتهى إلى تقسيم مراحل التطور فيها إلى خمسين مرحلة بدأها بالرقم 30 وانتهى بها إلى رقم 79، وتعمد أن يترك ما قبل الرقم الثلاثين لما يمكن أن يستجد الكشف عنه من آثار حضارات أخرى سبقت حضارة نقادة، واعتبر الرقم 79 بداية للتطور الحضاري في أول العصور التاريخية خلال عصر الأسرة الفرعونية الأولى. وتعرضت تقسيماته هذه لتعديلات كثيرة، ولكن لا زالت فكرتها مقبولة في جملتها حتى الآن. كانت رسوم الفخار في نقادة الأولى رسومًا تخطيطية في مجملها اعتمدت على الخطوط المستقيمة والمائلة وملئت فراغاتها بخطوط أخرى بيضاء متقاطعة، وذلك مما دعا إلى تسمية فخارها باسم White Cross-Lined Pottery وصنعت هذه الأواني ذات الرسوم على هيئات عدة، كانت أطرافها أواني وكئوس بشعبتين، وثلاث شعب، بعضها بأربعة قوائم، وبعضها بقاعدة مرتفعة على هيئة2 حرف" Y". واستأنف صناعها مراحل

_ 1 راجع دراستنا التفصيلية لها في حضارة مصر القديمة وآثارها – ج1 – ص127 - 132. 2 W.F. Petrie, Prehistoric Egypt, Pls. X, 7, Xv, 51, 54-55; Corpus, Pls. Xx, 14, Xxiv, 81, Xxv, 91.

التطور في الرسوم التي سبقتهم، فاستخدموا الطريقة التخطيطية والخطوط اللينة في تصوير طائفة من حيوانات بيئتهم وطائفة من مجالات نشاطهم البشري، وطائفة من التكوينات الزخرفة اللطيفة، ونماذج من قواربهم، في أشكال مختصرة سريعة أخرجوها في حيوية مقبولة. وبقي من مجموعاتها الناجحة ما يصور أربعة من أفراس النهر تدور خلف بعضها حول دائرة في قاع إناء مرة، وما يصورها تدور خلف بعضها حول أربع أسماك في قاع إناء آخر، وتتعاقب بعد بعضها في إطار إناء ثالث1. وصوروا بعض عاداتهم الاجتماعية تصويرًا بدائيًّا، فصوروا راقصين وراقصات يرقصون فرادى وجماعات ويؤدون حركات تمثيلية، ويزين رجالهم رءوسهم بريش طويل2. ولكن ظل نجاحهم في تقليد ملامح الإنسان أقل من نجاحهم في تصوير هيئة الحيوان، فكانوا يعبرون عن رأس الإنسان بنقطة بيضاء لا تتضمن شيئًا من التفاصيل غير تصوير الشعر القصير للرجل وتصوير الشعر المرسل للأنثى، وعبروا عن الجذع العلوي للرجل بما يشبه هيئة المثلث المقلوب، وعبروا عن ساقيه بخطين متجاورين، وكان عجزهم عن تصوير تفاصيل الجسم البشري تصويرًا سليمًا يشبه عجز أهل العصور البدائية في الحضارات القديمة كلها عن تصوير أنفسهم. وصوروا صيد البر، ومن أطراف ما يستشهد به من مناظرهم، منظر صغير في قلب صفحة يصور صيادًا يحمل قوسه ويشد خلفه أربعة كلاب وينطلق في سبيله لصيد الظباء. وجمع الرسام في تنفيذ هذا المنظر الصغير بين الخطوط الحادة والخطوط اللينة، واتضحت له خلاله عدة محاولات لتوضيح مفردات رسمه، فرتب الكلاب في صف رأسي حتى يظهر كل كلب منها بصورته كاملة، عوضًا عن رسمها على حالها في الطبيعة يختلط بعضها ببعض ويخفى بعضها بعضًا، وعبر عن بيئة الصيد بوسائله البسيطة فصور في محيط منظره مثلثات صغيرة تعبر عن التلال، وصور في طريقه فروعًا نباتية صغيرة تعبر عن الأشجار، وحاول أن يظهر أكبر قسط من جسم الصياد، فصوره من زاويتين، بأن رسم صدره وكتفيه من الأمام، ورسم بقية جسمه من الجانب3. وجرت أغلب الرسوم الناقدية على المنوال نفسه، في تصوير الإنسان والحيوان، فظلت تصور مفردات رسمها مستقلة عن بعضها، الواحد منها فوق الآخر أو بجانب الآخر، دون أن يخفيه أو يقاطعه. واعتادت على أن تصور ذوات الأربع من الجانب فيما خلا القرنين إذا كانا مقوسين مثل قرون الثيران فقد اعتادت على تصويرهما من الأمام4. وعلى الرغم من بساطة هذه الوسائل، أصبح بعضها من مستلزمات الرسم المصري في أغلب عصوره، فظل الرجل يصور من أكثر من زاوية واحدة في آن واحد، وظل الرسامون يحرصون على إظهار مفردات رسمهم مستقلة بعضها عن بعض، عن طريق ترتيبها خلف بعضها أو تصويرها على مبعدة من بعضها. وسوف نرى أمثال هذه الوسائل لبقية فنون الأمم الشرقية الأخرى.

_ 1 Prehistoric Egypt, Pl. Xviii, 71-72; Jea, Xv, Fig. 1, O. 261. 2 Prch. Eg., Pl. Xviii, 74; Jea, Xiv, Pl. Xxviii; Baumgartel, The Cultures Of Prehistoric Egypt, 30, 64. 3 Zaes, Lxi, 21, Taf. Ii, 2. 4 Jea, Xiv, Pl. Xxviii; Corpus, Pl. XXV.

وبدأ النقاديون تصوير الدوائر المنتظمة في زخارفهم، وارتقوا برسم الإطارات حول صورهم1. وامتاز بعضهم بدقة الملاحظة وبراعة التسجيل في تصوير قواربهم، وبقيت من صور هذه القوارب صورة قارب رسمه الرسام بمجاديفه في وضع جانبي كامل، وصورة قارب آخر رسمه بمجاذيفه في مسقط أفقي كامل2، كما لو كان قد وقف فوق الشاطئ ورسم أجزاءه الظاهرة فوق الماء دون أجزائه المختفية تحته. ولم يكن تصوير هذه المساقط بالأمر الهين بالنسبة لعصره. واستغل الفنانون سطوح الصلايات لممارسة فن النقش على الحجر، فنقشوا وخدشوا على بعض سطوحها هيئات الفيلة والتماسيح وغيرها، نقشًا غائرًا أوليًّا متواضعًا3. ثم واصلوا الخطى البسيطة البطيئة في سبيل النقش البارز والمجسم، فجسموا هيئات أفراس النهر والتماسيح والعظايا الكبيرة على جوانب بعض أوانيهم الفخارية وعلى أغطيتها، وعلى الأطراف العليا لبعض صلاياتهم4. وحملوا بعض هذه المجسمات عقائدهم الدينية، ومما يستشهد به منها آنية طويلة جسمت على جوانبها رأس وقرن بقرة وذراعان بشريتان تقدمان ثديين، رمزًا لربة الخصب أو ربة مدينة نوبت5. واعتاد أهل نقادة على أن يميزوا بعض أوانيهم بعلامات مفردة مختصرة تمثل حيوانات ونباتات وخطوطًا مستقيمة ومتقاطعة. ورمزت أغلب هذه العلامات إلى أصحاب الأواني وصناعها، ورمز بعضها إلى معبودات أصحابه6. كما نم بعضها عن الأوضاع السياسية في عصره، فجسم أحدها هيئة تاج الوجه البحري على وجه آنية لأول مرة في الآثار المصرية7. وصور آخر صقرًا ينهض فوق إطار مستطيل أصبح يرمز في العصور التالية إلى واجهة قصر الملك الحاكم. واستمرت صناعة التماثيل الصغيرة من الصلصال والفخار، وظل أغلبها لنساء، ربما لأن صناعها الرجال كانوا يؤثرون تمثيل الجنس الآخر شأنهم شأن كل فنان مبتدئ، أو لأن عقائد ما بعد الموت تطلبتها، كما تطلبتها منذ حضارة البداري، كي ترمز إلى الزوجات والجواري اللائي يتمنى المتوفى أن يكفلن له الذراري

_ 1 Corpus, Pls. Xviii, 72, Xx, 10, 12, Xxi, 35, Xxii, 36, 41; Steindorff, Die Kunst, 256, A. راجع عبد العزيز صالح: الفن المصري القديم "في تاريخ الحضارة المصرية" – القاهرة 1962 – ص274. 2 Prehistoric Egypt, Pls. Xxiii, 2, Xv, 49. 3 Op. Cit., Pls. Xliii, 7 M; Xliv, 91 M; Capart, Les Debuts…, Figs. 58-59; Bad. Civil., Pl. Lii, 4. 4 Jea, Xiv, Pl. Xxvii, 2, 4, Mahasna, Pl. Xi; Archaic Objects, Pl. 24 No. 11570; Zaes, Lxi, Taf. Xi, 1; Mostagedda, Pl. Xliii, 3-4; Preh. Eg., Pls. Xliii 4, R, Xliv, 91t, U; Corpus, Pl. Lviii. 5 Baumgartel, Op. Cit., 31, Pl. 3. 6 Petrie, Nagada, Pls. Li-Lvii; Preh. Eg., 48; A. Scharfi, Ahertumer…, I, 102, 169; J. Capart, Les Debute… Fig.77; E. Massoulard, Prehistoire Et Protobistoire D’egypte, 1940, Pl. 38, 2. 7 Wainwright, Jea, Ix, 26 F., Pl. Xx, 3.

في حياته الثانية، أو ترمز إلى الراقصات اللائي يتمناهن لمتعته في الآخرة، أو ترمز إلى الربات اللائي يتمنى أن يسبغن عليه الحماية حين يبعث ثانية. وصنع أهل نقادة تماثيل بدائية أخرى لرجال، مثلوا فيها أسرى قيدت سواعدهم خلف ظهورهم. واستغلوا ليونة الصلصال وسهولة عمل الفخار في تشكيل مجموعات صغيرة متواضعة تمثل ما يقوم به الخدم والأتباع1. وكانوا يضعونها مع المتوفى في قبره أملا في أن تحقق له بعض الفوائد في عالمه الآخر. ثم مارسوا فنهم التشكيلي بأسلوب آخر، فشكلوا بعض صلاياتهم على هيئة أفراس النهر والسلاحف والأسماك، واكتفوا في تشكيلها بتحديد الخطوط العامة للحيوان الذي تمثله2. ونحتوا من أنياب العاج تماثيل رجال ونساء تبدو ملامح وجوههم أكثر وضوحًا من أمثالها في تماثيل الصلصال. وتمتاز التماثيل النسوية منها باختلاف أوضاع أيديها، فقد تكون اليدان على الجانبين أو تحت الثديين أو تستران العورة في حياء لطيف3، غير أنها في مجملها تتصف بالنحافة والاستطالة، ربما بما يناسب قطع العاج المستطيلة التي صنعت منها. كما تتصف بالتصاق الساقين بحيث لا يفصلهما في أغلب أحوالهما غير حز طويل أو شق ضيق، رغبة فيما يبدو في تقليل تعرضهما للكسر. وطعم النقاديون عيون بعض تماثيلهم بخرزات ملونة من حجر الدهن وقطع المحار الأبيض وقشر بيض النعام4، وصوروا قلائدها على أجسامها بالألوان. وهكذا تعددت مجالات الإنتاج أمام صناع الفخار المزخرف والنقوش وصناع التماثيل الأوائل في نقادة وإذا كان المعروف من إنتاجهم لا يصل على حج الإجادة، فإن ذلك قد يرجع إلى عامل الصدفة، وقد تؤدي الكشوف المستقبلة إلى معرفة المزيد من وجوه نشاطهم. والمرجح أن تعدد مجالات إنتاجهم في الكماليات كان يقابله نشاط مماثل في إنتاج الضروريات أيضًا. وصنع النقاديون في أواخر عهدهم خناجر لا تختلف عن خناجر العصور التاريخية في شيء كثير، سواء من حيث هيئتها المسلوبة، أم من حيث تثبيتها في مقابض تناسب قبضة اليد، أم حفظها في قراب من الجلد. وظل أصحابها يصنعون أغلب نصالها من الظران، ولكنها لم تعد كنصال الظران التي صنعها أسلافهم حتى عهد البداري، وإما أصبحت نصالًا ينتقي لها صناعها المحترفون أجود أنواع الظران عن قصد ويسوونها ويرققونها بعناية كبيرة. وصنعوا مع الخناجر سكاكين رقيقة جميلة على هيئة المعين خصصوها للاستعمال الخاص، وبدءوا يصنعون سكاكين أخرى ذات أطراف مقوسة تقويسًا قليلًا وسطوح مموجة على هيئة أوراق الشجر5. وأمكن ترسم علاقات نقادة الأولى بجيرانها في مصر وخارجها، فدل تجسيم هيئة التاج الأحمر الشمالي

_ 1 J. De Morgan, Recherches…, Fig. 372: Scharff, Altertumer, Ii, 43. 2 Petrie, Corpus, Pl. Lii, 8 A, 14 D, G; Pl. Liv. 3 Capart, Les Debus…, Figs. 116-117. 4 Petrie, Preh. Eg., 9, Pl. Ii, 20, 22. 5 Ibid, P. 25; Mostagedda, 9; Bad. Civil., Pl. Xxix, Baumgartel, Op. Cit., 28; Huzayyin, The Place Of Egypt In Prehistory, 311, N. 3.

على إحدى أوانيها، على استمرار الصلات بينها في الصعيد وبين حضارات الوجه البحري ووحداته السياسية. وكان سبيل الاتصال ميسرًا بينهما عن طريق البر وعلى متن النيل الذي كانت تسلكه زوارق الفريقين. ورأى هورنبلاور في التماثيل العاجية النقادية شبهًا بتماثيل حضارات فجر التاريخ في بلاد النهرين ودليلًا على قيام الصلات بينهما "وإن سمى هذه الحضارات خطأ باسم الحضارة السومرية"، واستشهد على اعتقاده بتصوير مركب ذات مقدمة مرتفعة على آنية نقادية، وكانت المراكب ذات المقدمات المرتفعة مراكب عراقية في رأيه. وقد لا تستقيم حرفية هاتين القرينتين، ولو أن سبل الاتصال بين مصر وبين الحضارات الآسيوية القريبة كانت ممكنة نظريًّا عن طريق وادي الحمامات والبحر الأحمر بالنسبة لأهل الصعيد، وعن طريق برزخ السويس بالنسبة لأهل الوجه البحري. واعتبر فنكلر رسل هذه الاتصالات من الجانب المصري جماعات من سكان الصحراء الشرقية سماهم باسم أهل الجبال المحليين وتمثلهم في أجداد العبابدة والبشاريين الحاليين وعقد الأواصر بينهم وبين أهل حضارة نقادة الأولى على أساس ظهورهم في صورهم يرتدون قراب العودة مثلهم1.

_ 1 Winkler, Rock Drawings Of Southern Upper Egypt, 1938; Massoulard, Op. Cit.. 93.

في حضارة نقادة الثانية

في حضارة نقادة الثانية: اتسعت مجالات العمل الإقليمي في إقليم نقادة وما حولها في عهدها الثاني اتساعًا نسبيًّا، ثم انتشرت تقاليدها الصناعية والفنية بين بعض جيرانها في شمال الوادي وجنوبه حتى بلغت النوبة. واتسعت اتصالات مصر ببلاد الشرق القديم حينذاك اتساعًا نسبيًّا كذلك وأخذت منها وأعطت لها، وتخلفت حتى الآن من شواهد تعاملها معها تعاملًا مباشرًا أو غير مباشر، قطع من السبج "الأوبسديان" الأسود الثمين الذي يحتمل أنه وصلها من الحبشة، وقطع من اللازورد الذي يحتمل أنه وصلها من الحبشة أيضًا أو من أعالي الفرات، وخرزات من السنباذج والفضة والذهب تختلف الآراء فيما إذا كانت معادنها من مصر أو من خارجها، فضلًا عن أدوات صغيرة عثر عليها في ميناء جبيل "ببلوس" بلبنان تشابهت خصائصها مع خصائص الأدوات المصرية، ويمكن أن يفهم منها قيام التبادل، بين مصر وبين بعض مدن الشام في عهد الحضارة النقادية الثانية1. وتوسع النقاديون في استخدام النحاس في صناعاتهم المحلية، فصنعوا منه ملاعق ومدى وأواني صغيرة وأغطية لبعض القدور وأزاميل ورءوس فئوس وخناجر ورءوس حراب، ونسبت إلى عهدهم رأس فأس نحاسية تزن أكثر من كيلوجرم2. وعاد نشاد العهد الجديد على أهله برخاء مناسب ظهر أثره في ثراء مقابر نقادة بعض الشيء عن مقابر العهود السابقة، وظهر أثره في ارتقاء أذواق أهلها وتطور مهاراتهم في الرسم والنقش وصناعة التماثيل الصغيرة وصناعة الأسلحة وبناء المساكن والمقابر، وابتداع وسائل تسلية مهذبة.

_ 1 Petrie, Prch. Egypt. 41, 43-44: Naqada, 45, 48; Diospolis, Pl. Iv; Scharff, Grundeuge, 36; Wainwright, In Anc. Egypt, 1927, 77 F.; H. Kantor, Jnes, 1942, 201 وراجع ألفرد لوكاس: المواد والصناعات عند قدماء المصريين – الفصل الحادي عشر والفصل السادس عشر. 2 المرجع السابق ص327+

فلقد ميز أهل نقادة الثانية رسوم أواني الزينة الفخارية بأن زادوا فيها صور الأحياء والنباتات والمراكب، وزخارف حلزونية ومتموجة، وخطوطًا متموجة مفردة ومتشابكة، وملئوا فراغات المثلثات باللون الأحمر عوضًا عن الخطوط البيضاء المتقاطعة التي اعتاد أسلافهم عليها. واستخدموها في أغراض الزخرفة، وفي أغراض أخرى لها صلتها بعقائد الدين وعالم الموتى1. واستمروا يصورون الرجال والنساء في هيئات تخطيطية مختصرة، ولكنهم أضافوا إليها تجديدات يسيرة مثل تصفيف شعر الأنثى على هيئة مستديرة، والتعبير عن نشاط الرجل في حياته العملية بتقديم إحدى ساقيه عن الأخرى "والساق اليسرى بخاصة"، وذلك على عكس ساق الأنثى المتجاورتين، وتصوير يده اليسرى تقبض على عصا أو قوس أو رمح أو مجذاف2، ثم صوروا النساء والرجال في مجالات الرقص الديني والدنيوي، وكانت الراقصة ترفع يديها حين الرقص فوق رأسها أو تضع يديها على خاصرتها، أو تضع يدًا على خاصرتها وتتماسك بالأخرى مع زميلها أو زميلتها، وترقص منفردة أو مع رفيقاتها ورفاقها. وترقص بغير أصوات تصاحبها، أو ترقص على أصوات المصفقات التي يصفق بها رجال ونساء، وترقص على الأرض أو ترقص على سطح مركب أو داخل قمرتها3. وأخرج الرسام النقادي فيما بقي من صوره الممتعة الناجحة منظرين: منظرًا مثل راعيًا يسوق قطيعًا من الماعز الجبلي رسمه حول مسطح آنية لا يزيد أوسع قطر لها عن ستة سنتيمترات، والتزم في تصوير القطيع خاصية ترتيب المفردات التي التزمها فنان نقادة الأولى، فصور الماعز تسير واحدة منها تلو أخرى على الرغم من سيرها في الطبيعة جنبًا إلى جنبًا أو مختلطة ببعضها في غير نظام4. ومنظر لكبشين أقرنين واجه كل منهما الآخر في تحفز وفي حيوية ممتعة وقد وقفا معًا فوق ربوة تنبت الأشجار فوقها داخل نطاق الصورة، وصور على معبدة منها عنزة صغيرة فوق خط يمثل الأرضية التي تقف عليها، عوضًا عن رسمها في الفراغ على نحو ما اعتاد أغلب الرسامين في عهده5. وظهرت في رسوم نقادة إلى جانب حيواناتها الأليفة طيور مائية طويلة العنق طويلة الساقين، وهي طيور النحام أو البشروش، كانت تعيش بوفرة في البحيرات المصرية الشمالية، وغالبًا ما صورت في مجموعات وفي وضع الوقوف وبخطوطها العامة دون تفصيل6. وزاد تصوير المراكب على أواني الفخار، ونم ذلك عن زيادة حاجة أهلها إليها وكثرة استخدامهم لها في أغراض السفر في النيل وترعه، وأغراض نقل المنتوجات، فضلًا عن نقل الأفراد ونقل رفات الموتى

_ 1 Scharff, Die Altertumer, I, 143; Baumgartel, Op. Cit., 59 F. 2 H. Schaffer, Von Aeg. Kunst, 260; Petrie, Arts And Crafts, Fig. 66; Capart, Op. Cit., Fig. 85; Baumgartel, Op. Cit., Pl. Ix, 3-4, P. 81, Fig. 29. 3 Petrie, Corpus, Pl. Xxxiv, 46 D; Diospolis Parva, Pl Xx, 11 B; Edgerton, Ajsl, Xxxix Fig. 86; Scharff, Op. Cit., I, 142 F., Vandier, Manuel D’archeologie, I, 350 F. 4 Naville-Peet, The Cemetries Of Abydos, I, Pl. V. 5 Petrie, Abydos I, 23, Pl. L. 6 See, L. Keimer, Asae, Xxxiv, 190 F.

من ضفة إلى أخرى. وأضاف W.F. Petrie, Ch. Boreux And H. Kantor، أنها بدأت تستخدم منذ ذلك الحين في الملاحة البحرية أيضًا. وظهرت المراكب في صورها بقمرتين أو "كابينين" من سيقان الغاب والنباتات المجدولة كان يفصل بينهما ممر ضيق مكشوف أو مسقوف، وبجريدة نخل طويلة تراوحت أعداد فروعها من واحد إلى خمسة، وهذه كانت تضفي نصيبًا من الزينة المتواضعة على المركب، وتميز بين كل مركب وأخرى، وتضفي الظل على الملاح الذي يجلس تحتها فوق مقعد متواضع صغير. وكان يميز كل مركب منها صار طويل يرفع فوق قمته رمزًا صغيرًا مشكلًا على هيئة حيوان أو طائر أو نبات أو أداة صيد أو أداة حرب أو مظهر بيئي مثل التلال، ويرمز إلى صاحب المركب أو يرمز إلى بلده ومعبودها1. وبلغت صناعة الأسلحة من الظران ذروة رقيها في عهد نقادة الثاني، وازدادت فيها السكاكين مموجة السطوح ذات الطرف المقوس على هيئة ورق الشجر رقة وجمالًا، وكان بعضها يثبت في مقابض من العاج والخشب، وقد ينقش المقبض بصورة تناسبه ثم يغشى برقائق الذهب2. واستخدم النقاديون رءوس حراب أو رءوس مزاريق مشرشرة الحواف تنفرج نهايتها في شعبتين على هيئة ذيل السمكة3. وسايرت الخناجر النحاسية صناعة الخناجر من الظران وسارت في تطورها من القصر والاستعراض إلى الدقة والطول ولكنها ظلت أقل شيوعًا من أسلحة الظران حتى أوائل العصور التاريخية على أقل تقدير. وما لبثت النقوش النقادية حتى طغت على الرسوم واحتلت مكانتها في إشباع أذواق أهلها وفي التعبير عن أفكارهم وأساطيرهم، وحدث ذلك نتيجة لأمرين، وهما: انصراف أذواق الطوائف الثرية والمتوسطة عن أواني الفخار المرسومة إلى أواني الحجر إيثارًا لمتانتها وبعد أن اكتسب صناعها خبرة وافية فصنعوها بوفرة وإتقان. وأن الأواني الحجرية الجدية لم تكن بحاجة إلى التحلية بالرسم وكانت تكفيها جودة الحجر وجودة الصقل وسلامة الذوق. وقد أبدع صناعها نماذجها الغالية بالفعل، وصنعوها من الأحجار دقيقة الحبيبات ذات التموجات متعددة الألوان، وشكلوها على هيئات أسطوانية وشبه بيضية وشبه كرية، وهيئات تشبيهها هيئات القناني الحالي، وهيئات الحمام والأسماك والسلاحف والفيلة وأفراس النهر والكلاب4. وربما بما

_ 1 Petrie, Preh. Eg., 18-19, 49; Corpus, Pls. Xxxiv, 46 D;Xxxvii, 77; Diospolis, Pl. Xx, 133; Naqada, Pl. Xlii, 14; Ch. Boreoux, “Etude De Nautique Egyptienne”, Bifao,L. 17, 20 F. J. Vandier, Op. Cit., I. 340-341. And. See, Andre Servin, Asae, Xlviii, 55 F. 2 M.C. Currelly, Stone Implements, Pls. Xlv-Xlvii; Petrie, Preh. Eg., Pl. Xlviii, 3-4; Naqada, P. 57 F.; Diospolis, 23 F.; Capart, Les Debuts…, 66-67, Fig. 32. 3 M.C. Currelly, Op. Cit., Pls. Lix-Lx; Petrie, Preh. Eg., 25; Naqada Pl. Lxxiii, 61, 62; Massoulard, Rev. D’eg., Ii, 135 F. 4 Petrie, Preh, Eg. Pls. Xxxiv-Xlii; Capart, Les Debuts…, 92 F., Figs. 67-70; Glanville, Jea, Xii, Pls. Xii-Xiii.

يشبه هيئة الجمل البارك أيضًا وإن لم يخل هذا الشكل الأخير من الشك1. وكان لا بد لوسائل التعبير التصويرية أن تتلمس سبيلًا آخر غير سطوح الفخار وسطوح الأواني الحجرية، وقد وجد أصحابها مسطحات تناسبها على سطوح أمشاط عريضة فاخرة من العاج كانوا يزخرفون بعض رءوسها على هيئات الطيور والحيوانات ووجه الإنسان، وعلى سطوح مقابض عاجية صغيرة كانوا يثبتوت خناجرهم فيها، وعلى سطوح الصلايات الأردوازية الرقيقة، وعلى سطوح رءوس مقاطع القتال الكبيرة الفاخرة. وعبر مهرة الفنانين عن كفايتهم في النقش على هذه السطوح، فنقس أحدهم 218 صورة دقيقة لحيوانات مختلفة في صفوف أفقية على مقبض سكين لا يتعدى عرضه سنتيمترات قليلة2. ونقش آخر صورة فيل يطأ ثعبانًا ضخمًا ضمن مجموعة من الحيوانات، فأظهر تفاصيل جسده في دقة بالغة وحيوية فياضة على الرغم من صغر مساحة السطح الذي نقش صورته عليه3. ومن أمتع ما نقشه الفنان النقادي على سطوح الصلايات صورة ظبيين متقابلين يتناجيان، صورهما في حيوية فريدة وخطوط متمكنة بسيطة4. ثم صورة صائد يتعقب ثلاث نعامات، وقد تقنع بقناع يشبه رأس النعام ليضللها أو يطمئنها، وأمسك عصا بيسراه وسارت النعامات أمامه في غير خوف وكأنه يرعاها. وصور صانع هذه الصلاية أشكاله في غير تفصيل كبير ولا إتقان كبير، ولكنه أزال طبقة من الأرضيات التي تتخللها فبدت هيئاتها ممتلئة بارزة واضحة، وطعم عيونها بأصداف صغيرة، وشكل حافة الصلاية فوقها على هيئة طائر عظيم مرتفع الجناح واضح الريش وطعم عينيه وريشه بأصداف صغيرة أخرى5. واستمر الفنانون يعتبرون عالم الحيوانات والنباتات مجالًا خصبًا للتعبير عن أفكار عصرهم وأحداثه وخيلاته وأذواقه. فكرروا نقش صور النخيل والظراف على الصلايات6، وتفننوا في تصوير آكلات اللحوم بشراستها وبطشها، وتصوير آكلات العشب في مرحها وفي حالات فزعها وضعف حيلتها7. ثم أضافوا

_ 1 لم يستخدم المصريون الإبل إلا في أواخر عصورهم القديمة، وربما في أوائل العصور البطلمية، ولكنهم كانوا على معرفة بهيئاتها لاحتكاكهم بجيرانهم البدو، ووجدت الآنية المشار إليها في أبو صير الملق، وصعنت من الحجري الجيري، ويرى شارف أن صانعها قلد بها هيئة الجمل عن نموذج سوري " Abusir, Taf. Xxiv,209" ولكن جلانفيل لاحظ أن هيئة الجمل لم تظهر في الفن السوري إلا في القرن الحادي عشر ق. م، أي عبد العهد النقادي بآلاف السنين " Op.Cit" ولهذا يصعب تخمين الأصل الذي استوحاه المصري. ووجدت رأس من الفخار الملون في المعادي تشبه رأس الجمل إلى حد ما " Maadi, Pl. Xx, 2-3" وجمع شارف 14 حالة لتمثيل هيئة الجمل في الفن المصري القديم، وأرجع إحداها إلى عصر الأسرة السادسة، وثلاثة على الدولة الحديثة، وأرجع بقيتها إلى العصور المتأخرة " Cp. Cit., 40-41"، وأضاف فاندييه إليها مثلًا آخر من عصر الأسرة الثانية عشرة " Cp. Cit., 314, N. 3". 2 G. Benedite, Jea, V, Pl. Xxxiv. 3 Ibid., P. 3 F., Pl, I, Also Pl. Xxxiii. 4 Petrie, Preh. Egypt, Pl. Xliii, 2. 5 W.M. Cormpton, Jea, V, 57 F., Pl. Viii. 6 Benedite In Monuments Piot, Pl. Xi; Scharff, Altertumer, Ii, 74 F., 76, Abb. Xxii, 54, 107. 7 Legge, “The Carved Slates…”, P.S.B.A., Xxii, Pl. Iii; Benedite, Op. Cit., Figs. 3-4, Pl. Xi.

إليها من بنات أفكارهم كائنات خرافية توهموها تغشى الفيافي الواسعة المحيطة بواديهم، وتخيلوها بحسوم الأسود والفهود وأعناق الزراف والثعابين وأجنحة العقبان، وتخيلوا منها كائنات مخيفة تروع حيوانات بيئاتهم، وكائنات أخرى حارسة أحاطوا بصورها إطارات الموضوعات التي نقشوها على صلاياتهم. وظلت أكثر الخطوط والصور شيوعًا في لوحاتهم هي تصوير حيوانين خرافيين حول بؤرة الصلاية يحيطانها بعنقيهما الطويلتين وتنعقد رأساهما فوقها، أو تصوير حيوانين حول إطاري الصلاية بحيث يطلان برأسيهما فوق حافتيها وكأنهما يحميان مناظرها1. وكان من الطبيعي أن يساير رقي النقاديين النسبي في الصناعة والفن رقي آخر نسبي في بناء مساكنهم وحفر مقابرهم، وفي وسائل التسلية في مجتمعهم. فقد عثر في قبر بالمحاسنة على نموذج صغير من الصلصال الجاف لمسكن مستطيل الشكل مبني من اللبن2، يذهب الرأي إلى أن بعديه الحقيقيين كانا 8 أمتار طولًا 5.70 من الأمتار عرضًا. وكانت واجهته مائلة الجوانب يزداد اتساعها في أسفلها عن اتساعها في أعلاها لمساعدة رصات اللبن على الثبات وتخفيف الضغط العلوي عليها. وتوسطها مدخل ضيق صنع قائماه الجانبيان وعتبه العلوي من الخشب وظهرت له شراعة علوية لإدخال الضوء، ثبتت تحتها طيلة أسطوانية من الخشب كان أصحاب المسكن يلفون عليها حصيرًا يجذبونه إلى أسفل ليستر المدخل وليقوم فيه مقام الباب. وتوسطت الجزء العلوي من الواجهة الخلفية للمسكن نافذتان ضيقتان دعمت كل منهما بعارضة سفلية وعارضة علوية من الخشب. وكان داخل المسكن عبارة عن فناء وبضع حجرات جانبية، وربما قامت في حجراته أعمدة خشبية متواضعة للمساعدة في حمل السقوف المسطحة. وكان تشييد المساكن من قوالب اللبن المنتظمة الشكل مرحلة تقدمية في فن البناء، وظلت هي المادة المفضلة للمساكن العادية خلال العصور التاريخية، لرخص تكاليفها وتوافر موادها الأولية وصلاحيتها للبيئة الحارة. واستمرت المساكن المسدية من البوص وفروع الأشجار تخدم أغراضها إلى جانب البيوت من اللبن ولكنها لم تقتصر على أشكالها المتواضعة القديمة وإنما ظهرت معها مساكن مربعة المساحة مرتفعة مسطحة السقوف صورت نقوش مقبض سكين فاخرة واحدًا منها، فظهر بثلاث مداخل، وتداخلت في تكوين واجهته ألياف البردي مع سيقان الغاب طولًا وعرضًا على هيئة نسيج الحصير، وبرزت الأطراف العليا لسيقان الغاب عمودية فوق الواجهة بشكل لطيف3. ونسب فلندرز بترى إلى أهل نقادة صورًا طريفة من الرقي الفكري قد لا يبرأ بعضها من الشك والنقد فهو يعتقد على سبيل المثال أن العلامات التي خطوها على أوانيهم الفخارية لترمز إلى أصحابها أو صانعيها،

_ 1 Legge, Op. Cit., I, Iii.- وقد تظهر أربعة حيوانات على حافتي الجانبين بحيث يتدابر كل اثنين منها ويطلان على قمة الصلاية وقاعدتها " Be'ne'dite, Op. Cit., Pl. Xi."، أو بقيع حيوان فوق الصلاية كأنه يحميها " Capart, Les Debuts ... , F G. 157. 2 عثر عليه في مقبرة يحتمل ردها إلى ما بين المرحلتين 44, 64 من التوقيت المتتابع، ولم يعثر فيها على عظام أصحابها. El-Amrah, 22, 42, Pl. X, 1-2. 3 W.C. Hayes, The Scepter Of Egypt, New York, 1953, Fig. 21.

لم تكن مجرد رموز عشوائية، وإنما كانت علامات كتابية تخطيطية بدأت شخصية ثم شاع بعضها وأصبح أداة خطية من أدوات التفاهم بين الناس. وظهرت30 علامة من هذه العلامات فيما يرى بترى، خلال عهد نقادة الأول، ثم اختفت ست منها في عهد نقادة الثاني وحلت محلها 14 علامة جديدة. وعلى حين استخدم بعض أهل نقادة هذه العلامات التخطيطية في تفاهمهم الكتابي، اتجه بعضهم الآخر إلى التعبير عن أغراضه برسوم تصويرية مثل صورة الشمس وهيئة الذراعين المرفوعتين إلى أعلى وهيئة التلال الثلاثة المتجاورة، واستمرت صورهم الكتابية هذه في طريقها حتى طغت على العلامات التخطيطية وأصحبت أكثر قبولًا عنها وأكثر شيوعًا منها، ثم جدت عليها علامات هجائية قليلة منذ أواخر حضارة نقادة الثانية، وورثتهما العصور التاريخية فيما ورثته من تراث العصور السابقة لها. وأضاف بترى أن العلامات التخطيطية لم تختف تمامًا على الرغم من انزوائها، وإنما اقتصر استعمالها على بعض الطبقات العادية وبلغ عددها خلال عصر الأسرة الأولى 53 علامة، واستمرت في هذه الطبقات فيما يعتقد حتى الدولة الوسطى على أقل تقدير، وظهرت معها في تخطيطات عصر الأسرة الثانية عشرة ثلاث علامات جديدة، وكتب بها رجال المناجم في شبه جزيرة سيناء ثم فارقت هذه العلامات موطنها المصري، واحتضنها الكنعانيون الذين تعلموها شيئًا فشيئًا من نصوص سيناء وتعلموا معها النظرية المصرية في استخدام شكل معين للتعبير عن أول حرف هجائي من اسمه، ثم خرجوا مما تعلموه باثنتين وعشرين علامة هجائية كتبوا بها نصوصهم وتعلمها عنهم أهل جنوب شبه الجزيرة العربية، كما اقتبس بعضها منهم قدماء الإغريق وزودوا بها كتابتهم المقطعية القديمة1. وكشفت حفائر المحاسنة عن لوحة من الطين استخدمها صاحبها للعب الدامة "أو السيجة". وقسم سطحها إلى ثلاثة صفوف، وقسم كل صف إلى ستة مربعات، ووضعها فوق قوائم طينية منفصلة2. وأضاف بترى إلى هذه الوسيلة المتواضعة للتسلية، قوائم مستطيلة صغيرة وجدها في المقابر وصنعها أصحابها من الكوارتز والألباستر والسماق والعقيق الأحمر والحجر الجيري، وعددًا من الكرات الحجرية الصغيرة "تشبه البلي" وقطعًا حجرية صغيرة شكلت على هيئة الأواني المصمتة "وتشبه قطع الشطرنج"، واعتبرها جميعها تؤلف لعبة راقية تنصب فيها ثلاثة قوائم على هيئة البوابة وترص القطع الصغيرة التي تشبه الأواني وراءها، ثم يرمي اللاعب بالكرات من أمام البوابة الصغيرة ليسقط عددًا من الأواني في المرة الواحدة3. ولا تخلو هذه الصورة التي رسمها بترى لأذواق أهل نقادة ووسائل تسليتهم من شك كبير، لولا أن يبدو أنه ما من سبيل لتخمين الغرض منها على غير النحو الذي تخيله لها. وتنوعت أساليب مقابر نقادة الثانية كما تنوعت أساليب بيوتها. فظلت المقابر العادية على حالها القديم لا تعدو حفرة العمق بيضية أو دائرية أو شبه مستطيلة. بينما سلك التطور سبيلًا آخر في المقابر الثرية.

_ 1 Sec, Petric, The Wisdom Of Egyptions, London, 1940, 4lf.; Also, J. Capait, Les Debuts ….. 135 F.; A. H. Gardiner, Jea, Iii, I F. Cowely, Jea, Iii, 17 F. 2 El – Mahasma, Pl. Xviii, 1. 3 Petrie. Preh. Eg., 32; Ballas, Pl. Viii, P. 14, 19, 20.

نوعًا والمتأخرة في الزمن نوعًا، واتجه أكثر ما اتجه نحو تحديد جوانب حفرة المقبرة وتقويتها. واتبع أصحاب المقابر في سبيل تنفيذ هذا الغرض وسائل كثيرة كانت منها تكسية جدرانها الداخلية بطمي سميك ثم بالبوص أو الحصير، أو تكسيتها بألواح خشبية. وتتابعت الخطوات بعد ذلك لتدعيم جوانب الحفرة عن طريق تحديدها من الداخل بجواليص الطين أو قوالب اللبن ثم كساء الجدران نفسها بألواح خشبية أحيانًا1. وأفضت هذه الخطوات إلى تحويل الحفرة إلى حجرات. ثم عاد النقادون الأواخر فاستحبوا تقسيم الحجرة المبنية بقوالب اللبن تحت سطح الأرض إلى حجرات، وبدءوا تقسيمها قبيل بداية العصور التاريخية حجرتين: حجرة كبيرة للجثة وحاجياتها الثمينة، وأخرى صغيرة للأواني العادية2. وانتقلوا من ذلك إلى تقسيم الحجرة الصغيرة نفسها إلى حجرتين، فأصبحت حجرات المقبرة ثلاثًا3.

_ 1 See, Abuser, Pl. 3 C.; El- Mahasna, Pl. Ix; Pls. Viii, 42, Ix, 46, 47; Burunton, Motamar, Lonodon, 1948, 17. 2 Al-Amrah, Pls. Iii, 2, 4, Iv, 6. 3 Lbid., Iv, 7.- وعثر في أبو صير الملق على حفر متأخرة مستطيلة قسمت بقواطع عرضية من اللبن والخشب إلى أربع حجرات أو خمس ولم يعثر فيها على عظام موتى، ويحتمل أنها كانت أضرحة رمزية. Abusir, Pl. V, And See, Vandier, Op. Cit., 256.

بين الصعيد وبين الدلتا

بين الصعيد وبين الدلتا: تشعبت آراء المؤرخين عن أصحاب الحضارة النقادية الثانية وعن موطنهم الأصلي وعن الطريقة التي فرضوا بها حضارتهم على أصحاب الحضارة الأولى. ولن نطيل هنا في عرض هذه الآراء ومناقشتها وإنما يكفي أن نقول إنها اتجهت اتجاهين رئيسيين: اتجاهًا افترض أن أصحابها وفدوا على وادي النيل من منطقة قريبة منه مثل جبال البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء وشمال الحجاز1. واتجاهًا آخر افترض أن أصحابها كانوا من أهل الوجه البحري أي من أهل مصر نفسها2. وقد أيدنا هذا الاتجاه الأخير في الجزء الأول من كتابنا عن حضارة مصر القديمة وآثارها، بأدلة من نماذج الرسوم وأشكال الأواني الحجرية والفخارية وصور المراكب ورموزها وطرز مقاطع القتال وغيرها3، ويؤدي بنا هذا الرأي إلى حديث قصير عن الوجه البحري وظروفه القديمة. فقد ظلت مناطق الوجه البحري أقل حظًّا من مناطق الوجه القبلي فيما بقي من آثارها الحضارية القديمة، يستوي في ذلك حظها من آثار فجر التاريخ وحظها من آثار العصور التاريخية نفسها. وترجع أسباب هذه

_ 1 See For Exaples, W. F. Petrie, Prehistric Egypt, 16 F.; The Marking Of Egypt, 47: R. Weill, Recherches Sur La Ler Dynastie Et Les Temps Prepharaoiques, Le Caire, 1961, Ii 279 F. 2 See For Exaple, P. Newberry, In Liverpool Ann. Of Arch. And Anthrop., V, 232; "Egypt As A Filed Ofr Anthropological Research", 446; Ancient Egypt , 1914, 7-8; Foucart, Sphinx, Xviii, 51 F.; Loret, Rev. ?g., Xi, 75f.: A. Moiet, Des Clans Aux Empires, 142. 3 عبد العزيز صالح: حضارة مصر القديمة وآثارها – الجزء الأول – القاهرة 1962، ص163 - 168.

القلة إلى الظروف الطبيعية والبيئية التي أحاطت بالدلتا القديمة، من حيث انخفاض أرضها، وكثرة فروعها المائية، وشدة طغيان الفيضانات عليها، وكثرة ترسيب الطمي فيها، وانتشار المناقع في مناطقها الشمالية، وما ترتب على ذلك كله من ارتفاع نسبة الرطوبة في تربتها وسرعة تحلل الآثار فيها. ولكن ظروف الدلتا القديمة كان ذات شقين ولم تكن شرًّا كلها، فليس من المستبعد أن كثرة تعرض أراضيها لأخطار الفيضان كانت حافزًا لأهلها على مداومة الكفاح والأخذ بأسباب التعاون والتقارب لدرء هذه الأخطار عن أراضي الزراعة وأراضي المساكن. وليس من المستبعد كذلك أن طمع بدو الصحراوين الشرقية والغربية في خصوبة الدلتا كان دافعًا آخر لأهلها على التعاون لدرء شرهم، وحافزًا لهم على التجمع في وحدات سياسية مبكرة متكاتفة. ويبدو أن قلة المواد الأولية في الدلتا كانت دافعًا ثالثًا شجع أهلها على التعاون لتيسير الحصول عليها من مصادرها، مثل الظران من جنوب الدلتا، والنحاس من شبه جزيرة سيناء والأحجار الملونة من جبال البحر الأحمر، والأصداف من سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط1. وأضاف بعض الباحثين عوامل أخرى نسوقها على شك فيها، ومنها أن اتساع رقعة أراضي الدلتا وانفساحها أديا إلى نوع من رحابة أفق التفكير عند أهلها، بعكس أراضي الصعيد الزراعية الضيقة التي تحدها التلال والجبال. وأن سهولة اتصال الدلتا ببقية حوض البحر المتوسط كانت من دوافع تقدمها على عكس الصعيد قليل الاتصالات2، "وإن كنا نعلم من جهة أخرى أن حضارات الدلتا والصعيد ظلت في مجموعها أكثر رقيًّا من حضارات البحر المتوسط كله خلال فجر التاريخ، وذلك ما يعني ضعف احتمال استفادة الدلتا منها". وإلى جانب منطقة مرمدة بني سلامة التي نشأت على الحافة الجنوبية الغربية للدلتا في أوائل العصر الحجري الحديث، أدى البحث الأثري إلى الكشف عن مناطق عمران أخرى عند رأس الدلتا القديمة، في عين شمس والمعادي وطرة، وكانت ثلاثتها نقطًا متصلة في سلسلة من مناطق العمران لا تزال أغلب آثارها دفينة في الأرض حتى الآن، وكانت المعادي أهمها3. ومضت كل من الحضارتين الصعيدية والبحيرية في سبيلها، وتطورت كل منهما بما يناسب بيئتها وثراء أرضها، ومدى الاتصال والترابط بين أقاليمها، ومدى توافر المواد الأولية فيها أو قرب أرضها، حتى انتظمت الأحوال السياسية لأهل الحضارة الشمالية وتجمعت سلطاتها أو سلطات أكبر أقاليمها في يد ملك

_ 1 انظر عن آراء أخرى تعارض هذه الاحتمالات: Basmgartel, Op. Cit., 3 F., 8, 18; H. Kees, Das Alte Agypten, 11, Etc …….. 2 ت. إريك بيت: في تاريخ العالم "نشرة هامرتون" – معرب بالقاهرة، ص510، دريوتون وفاندييه: مصر – معرب بالقاهرة – ص47 - 48. 3 راجع عن المعادي: O. Menghin & M. Amer, The Excacations Of The Egyption Unversity In The Neolithic Site At Maadi, Vols. I-Iii. مصطفى عامر: بعض نتائج الحفر في المواسم الخمسة الأولى بالمعادي – 1936 وانظر ما كتبناه عنها في مرجعنا السابق – ص151 - 156.

وتتوج بتاج أحمر ذي شكل خاص، وصور صناع مملكته تاجه على بعض أوانيهم الفخارية، ووصلت هذه الأواني إلى بعض مناطق الصعيد. ثم ازداد التفوق الحضاري والسياسي لأهل المملكة الشمالية، وشجعهم هذا التفوق على مد نفوذهم إلى الصعيد، وسنحت لهم الفرصة في ظروف نقدم احتمالاتها بعد قليل، فبسطوا نفوذهم على أهله وسودوا حضارتهم على حضارته، واتخذوا عاصمته نوبت مركزًا رئيسيًّا لنفوذهم الحضاري السياسي، وعندما استقرت أمورهم اشتركوا مع الصعايدة أصحاب الحضارة النقادية الأولى في تطوير حضارتيهما وشاركوهم بعض ميراثهم القديم وإن اختلفوا عنهم في بعض آخر.

التطور السياسي

التطور السياسي: أسلفنا أن مواطن الاستقرار الزراعية الأولى لم تكن أكثر من قرى متواضعة متفرقة على مناطق الحواف لا ندري عن تصريف الأمور فيها إلا ما دلت عليه ظاهرة تنظيم بعض المساكن في مرمدة من انفعال أهلها بالوعي الجماعي واحتمال خضوعهم لسلطة في القرية استحبت التنظيم وأوصت بتنفيذه. وما دلت عليه مساكن حلوان القديمة من اشتراك أهلها في تمهيد منطقة مساكنهم فوق ربوة يأمنون فيها على أنفسهم من أخطار السيول ويأمنون فيها من غارات جيرانهم. وما دلت عليه مطامير الفيوم من اطمئنان أهلها إلى تجميع محاصيلهم في منطقة واحدة يتعاونون في حراستها أو يعهدون بحراستها إلى رئيسهم وأعوانه. ثم ما دلت عليه مخازن الغلال الجماعية في قرية المادي من احتمال وجود سلطة في القرية أشرفت على تموينها وحمت محاصيلها. ولم يكن من شأن القرى المصرية الأولى أن تستمر متفرقة عهودًا طويلة، وإنما المرجح أنه شجعها على التقارب من بعضها البعض وانضمام بعضها إلى بعض عوامل المصالح المشتركة التي تفرضها البيئات الزراعية على أهلها، وعوامل الرغبة في تبادل المواد الأولية التي قد تتوفر في منطقة دون أخرى، فضلًا عن تبادل المصنوعات النامية التي قد تجود في قرية أكثر مما تجود في أخرى، ومناسبات الزواج والمصاهرة في بيئة قلت فيها موانع الاتصالات ولم يظهر فيها ما يدل على الطبقية المانعة أو العصبيات الغالية، وعوامل التحالف والتكاتف لدرء خطر عدو قريب أو بعيد، وعوامل الرغبة في بسط النفوذ التي تراود الجماعات القوية وتدفعها إلى ضم الجماعات القريبة منها تحت زعامتها ثم عامل الاشتراك في تقديس مظهر إلهي معين يتضح أثره في منطقة واسعة تشترك في سكناها أكثر من جماعة واحدة. وليس من نصوص ولا مناظر قديمة تصور نتائج العوامل السابقة في حياة أهلها واحدة فواحدة، وكل ما يمكن تقديمه بشأنها هي مجموعة احتمالات منطقية توائم البيئة المصرية ولا تنبو عن ذكريات العصور التاريخية عنها. فمن الاحتمالات المقبولة لتفسير تحول الجماعات المصرية القديمة من الحياة القروية إلى الحياة المدنية، أنه ترتب على انضمام بعض القرى إلى بعض أن نشأ عدد من الأقاليم ذات الحدود الاعتبارية والحدود الطبيعية، ثم تهيأ للفريق الأقوى في كل إقليم أن يجعل قريته الكبيرة حاضرة لإقليمه مادامت تتوفر لها الحصانة الطبيعية والمقومات المادية والكثرة العددية، كما تهيأ له أن يسود كلًّا من حاكمه ومعبوده على بقية الجماعات المشتركة معه في نطاق إقليمه، وبهذا أصبح لكل إقليم حاكمه وعاصمته، ومعبوده الأكبر، وأصبح له رمزه الذي

يقوم عند أهله مقام اللواء والعلم، وقد يكون هذا الرمز ذا صلة بهيئة المعبود الأكبر في عاصمته، أو ذا صلة بخصائص بيئة إقليمية، أو ذا صلة بالمهنة الغالبة في مجتمعه، أو ذا صلة بالصفات التي يعتقدها أهله في أنفسهم واستمرت ذكريات هذه الرموز باقية فيما احتفظت به العصور التاريخية من شعارات الأقاليم ومسمياتها القديمة. ويغلب على الظن أنه تكرر بين الأقاليم ما حدث بين القرى، فنما بعضها نموًا حضاريًّا سلميًّا، أي باستصلاح أراضٍ زراعية جديدة، وبالتوسع في الإنتاج والتبادل، والتوسع في الاتصالات والمحالفات. بينما اتسع بعضها عن طريق القوة وبسط النفوذ على حساب جيرانه المستضعفين. ثم أدى هذا الطريق وذاك إلى نشأة بضعة أقاليم كبيرة قامت في زمنها مقام الممالك الصغيرة. وحاول كل من العلماء كورت زيته وألكسندر موريه وإدوارد ماير وجيمس هنري برستد وغيرهم إكمال المراحل المحتملة لتطور الحياة الاجتماعية والسياسية في فجر التاريخ، بافتراض تسع مراحل أفضت في نهاية أمرها إلى توحيد مصر في مملكة مستقرة كبيرة1. واستعانوا في تصوير هذه المراحل بما دلت عليه نقوش الصلايات ومقاطع القتال، وما دلت عليه رموز الأقاليم المصرية وشعاراتها، وما تضمنته القصص والأساطير الدينية والأدبية في مصادر العصور التاريخية، وما تضمنته متون الأهرام من تلميحات عن أحداث بعيدة وعقائد عتيقة وأسماء قومية ودينية، ثم ما جاءت به قوائم الملوك التي سجل كتبة العصور التاريخية فيها تاريخ أوائل حكامهم القدماء بأسلوبهم الخاص، وما دلت عليه الألقاب التقليدية التي توارثها الملوك المصريون في بداية العصور التاريخية. ويمكن أن نرتب من ناحيتنا هذه المراحل المقترحة على النحو التالي: باشرت أقاليم الوجه البحري نضجها السياسي منذ أن تجمع أغلبها في مملكتين محليتين خلال مرحلة قديمة من مراحل ما قبل الأسرات: مملكة لشرق الدلتا قامت في إقليم عنجة واتخذت عاصمتها في مدينة سميت بنفس اسم إقليمها، قرب سمنود الحالية على فرع دمياط. وجعلت لواءها على هيئة الحربة. وقدست معبودها الأكبر عنجتي الذي صورته متون الأهرام بصورة بشرية وميزته بريشتين فوق رأسه وبمذبة أصبحت تعبر عن الصولجان، وعصا معقوفة الطرف تشبه عصا الرعاة أصبحت بدورها رمزًا للحكم والسلطان2، ويحتمل أن هذه المملكة امتدت جنوبًا حتى عين شمس الحالية. ثم مملكة أخرى في غرب الدلتا، اتخذت عاصمتها فيما يعتقد الأستاذ زيته في مدينة قامت على أطلالها مدينة دمنهور الحالية، وقدست ربها الأكبر حور ورمزت إليه بهيئة الصقر ورفعت صورته فوق ألويتها، ويحتمل أنها امتدت جنوبًا حتى أوسيم الحالية3.

_ 1 See Especially, K. Sethe, Beltraege Zur Altesten Geschichte, Untersuchungen, Iii, Leipzig, 1905; Nachichten Der Kgl. Gesell. Der Wis., G?ttingtn, 1922, 197-252; Urgeschicht And Alieste Religion Der Aegypter, Leipzig, 1930; Ed. Mayer. Geschichte Des Alterumer; A. Moret, Des Cans Aux Empires. Paris, 1923; Le Nil Et Al Civilisation Egyptienne, Paris, 1926; J. H. Braested, Bifao, Xxx, 709 F. 2 A. Moret, Le Nil ….., 91. 3 See, R. Weill, Recherches …., 321.

وتمت الخطوة السياسية الثانية فيما يرجح حتى الآن باتحاد مملكتي الدلتا في مملكة واحدة اتخذ حكامها عاصمتهم في مدينة ساو، أو سايس، التي قامت على أطلالها صا الحجر على فرع رشيد في غرب الدلتا. واعتبروا المعبودة نيت حامية لهم، وهي معبودة رمزوا إليها بسهمين متقاطعين حينًا، وقوسين متشابكين حينًا وجعبة سهام حينًا آخر، باعتبارها من رعاة الحرب، كما اتخذوا هيئة النحلة "بيت" شعارًا لدولتهم سواء للتشبه بما تتميز به من نشاط متصل وإنتاج مستحب بصورتها أو بلفظها، وتتوجوا بتاج أحمر. وقامت خطوة ثالثة في الصعيد لعلها كانت معاصرة للخطوة الثانية في الدلتا، فاجتمع شمل أكبر أقاليم الصعيد تحت زعامة مدينة نوبت في منطقة قنا، واعترف الصعيد بزعامة ربها "ست" الذي رمز أصحابه إليه بصورة حيوان أسطوري1، واعتبروها من أرباب السماء والأمطار ووصفوه بأنه يهز الأرض هزًّا ويرسل العواصف وله صريخ في السماء كأنه الرعد2. وازدهرت حضارة نقادة الأولى في ظل مملكة نوبت الناهضة ودل على عمرانها النسبي ورخائها النسبي كثرة مقابرها التي تدل بالتالي على كثرة أهلها، ورقي أذواق الأدوات التي وجدت فيها. واتصلت أسباب التبادل التجاري بين المملكتين، مملكة الصعيد ومملكة الدلتا، ودل عليها وجود أدوات تجمع بين خصائص حضارتيهما في نقادة. وفي المرحلة الرابعة انتقلت عاصمة الوجه البحري من غرب الدلتا إلى شرقها أي من مدينة ساو إلى مدينة عنجة القديمة التي سميت بعد ذلك باسم جدو، واعترف حكامها بزعامة أوزير "أوزيريس" الذي خلعوا عليه ألقاب عنجتي وبعض صفاته، وقدسوه أكثر منه في مدينته. وترتب على ذاك أن نسبت المدينة إليه في العصور التاريخية وسميت برأوزير، وقامت على أطلالها واحتفظت باسمها بلدة أبو صير بنا الحالية. وحاول من أسلفناهم من الباحثين أن يفسروا خطوة انتقال عاصمة الوجه البحري من غرب الدلتا إلى شرقها فافترضوا قيام نوع من التنافس بين مملكتي الصعيد والدلتا، وأن هذا التنافس تطور إلى نزاع حربي، وأن الحرب انتهت بغلبة الوجه البحري على الصعيد، وأن حكام الدلتا نقلوا عاصمتهم بعد النصر إلى شرق الدلتا تحت زعامة أزير وسلطانه. والواقع أنه ليس ما يزكي صحة هذه الخطوة الرابعة، غير قرائن نظرية وأسطورية، وهي: ما ذكرته القصة الأوزيرية في عصورها التاريخية من أن أوزير كان أول من ولي عرش مصر من البشر المؤلهين، وتصويره في صوره وتماثيله على هيئة ملك متوج بتاج مزدوج يجمع بين تاج الصعيد وبين الريشتين اللتين ورثهما عن عنجتي رب مدينة عنجة بالوجه البحري، ثم ما أكدته الأساطير ونصوص الدين من الربط بين

_ 1 Zaes, Xlvi 90, L, 84; Lxi, 18; P.S.B.A., Xxviii, 123; Sethe, Op. Cit., 86 F.; Ayrton, Mahasna, Pls. Xii, 2, Xvii, 2; Vandien, Religion, 27. وعن زعامته للصعيد وعلو مكانته وعن انتشار عبادته في أربع مدن أو خمس بالصعيد والواحات فضلًا عن نوبت: See Pyr. 203 B, 204, 270b; Gurdiner, Onomastica, Ii, 31, 110-111, 116. 2 Pyr. 581, 1855, 208, 115c; Pap. Sall. Iv, 13, 5; Book Of The Dead, Xxxix, 14-15; Rhind Math. Pap., No. 87 B.

طائفة من أرباب الدلتا ورباتها بأوزير وقصته، لا سيما رابطة الأخوة والزواج بينه وبين المعبودة إيسة "إيزيس"، وهو ربط يدل على التقارب بين مواطن عبادتهم وبين جدو مدينته في عهد توفر لها فيه من السلطان السياسي ما دفع غيرها إلى التودد إليها والارتباط بها. وذهب كورت زيته في تصوير ممهدات المرحلة الخامسة إلى أن دولة الوجه البحري لم تكتف بانتصارها على الصعيد وإنما بسطت سلطانها عليه لبعض الوقت. ولكن الصعيد ثار عليها وانسلخ عنها وقلب الآية عليها فانتصر عليها وأضعفها، وتعصب لمعبوده ست أكثر مما كان يتعصب له من قبل. وليس من دليل يؤكد هذه المرحلة الخامسة هي الأخرى غير ما ذكرته القصة الأوزيرية عن نقمة أخيه ست "رب نوبت" عليه وعمله على إقصائه عن ولاية البلاد والعباد، وقتله إياه. وفي المرحلة السادسة سعت مملكة الشمال إلى توحيد مصر تحت لوائها مرة أخرى، ونجحت في مساعها، ولكن حكامها لم يتخذوا عاصمتهم هذه المرة في شرق الدلتا أو في غربها، وإنما اتخذوها في مدينة تتوسط بين نهاية الدلتا وبين نهاية الصعيد، وهي مدينة أونو "عين شمس وما يمتد منها إلى المطرية"، وظلوا أوفياء فيها لأوزير ربهم القديم، إلى جانب اعترافهم بربها المحلي أتوم ثم برب آخر أصبح أكثر شهرة منهما وهو رع رب الشمس. ونسب إلى فلاسفة هذه المدينة الخروج بأقدم مذهب ديني لتفسير نشأة الوجود. وقد مر هذا المذهب بتطورات فكرية كثيرة، وبدا بصورة مادية ثم مال إلى المعنويات شيئًا فشيئًا، ولم يسجله المصريون كتابة إلى بعد تأليفه بقرون طويلة، وفي إحدى صوره رد أصحابه عناصر الكون وأسباب عمرانه إلى تسعة أرباب. وتخيلوا في بداية الأمر محيطًا مائيًّا أوليًّا لا حس فيه ولا حياة، وأطلقوا عليه اسم نون. ومن هذا المحيط ظهر الإله أتوم الذي أوجد نفسه بنفسه وعاش فريدًا أمدًا بعيدًا حتى ذرأ من نفسه عنصرين ذكرًا وأنثى، وهما شو روح الهواء والفضاء والنور، وتفنوت روح الرطوبة والندى. وتولد عن اجتماع هذين العنصرين القدسيين، ذكر وأنثى آخران، وهما: جب رب الأرض ونوت ربة السماء، وظل هذان متصلين حتى أذن ربهما بانفصالهما، فرفع شو السماء بربتها إلى أعلى عليين وملأ ما بينها وبين الأرض وربها بنوره وأنفاسه، ولكن بعد أن تولد عن روحي الأرض والسماء في فترة اتصالهما أربعة أبناء، ذكران وأنثيان: أوزيروست، وإيسة ونبت حت "أو على حد التعبير الشائع أوزيريس وست، وإيزيس ونفتيس". وأصبح هؤلاء الأربعة يمثلون الرعيل الأول الذي جمع بين الألوهية وبين البشرية وبدأ به عمران الكون، كما تم بهم كيان تاسوع عين شمس الأكبر. ولم يجد أغلب المؤرخين بأسًا في أن يقربوا بين عهد هذه الوحدة الجديدة، وبين عهد نقادة الثاني الذي نشأت حضارته في الوجه البحري ثم زحف أصحابها بها إلى الصعيد وصبغوا حضارته بصبغتها وتطوروا بها في رحابه. ولكن يبدو أن أمور دولة عين شمس لم تسر هينة دائمًا، ولم تسلم من منازعات قامت في مدينة عين شمس نفسها. وروت الأساطير عن هذه المنازعات بأسلوبها الخاص، فزعمت أن قتالًا دار بين الإله رع

وبين أحد أعدائه قرب شجرة مقدسة فيها، وأن عدوه تنكر له في هيئة أفعوان فاتك، فتنكر له هو الآخر على هيئة قط نافر وفتك به. ويحتمل من هذا التصوير الرمزي أن أتباع الشمس كانت لهم موقعة فاصلة مع أعدائهم قرب شجرة مقدسة، فلما كتب النصر لهم وقتل زعيم أعدائهم تحت الشجرة، ردوا ذلك إلى تأييد ربهم واشتراكه معهم على صورة خفية لا تمت إلى صورة البشر في قليل أو كثير1. وصورت الأساطير وجوه نزاع أخرى حدثت بين أرباب عين شمس وبين أرباب منطقة الأشمويين في مصر الوسطى2، وكان لا بد لأمثال هذه المنازعات أن تؤدي إلى نهاية، وقد أدت إلى غير ما أراده حكام الدولة المتحدة، فتفتتت وحدتهم وزال ملكهم. ويفهم من متون الأهرام أن ضياع نفوذ زعماء الوجه البحري لم يكن بغير رد فعل في الدلتا، وترتب عليه أن اتحد حلفاء أوزير القدامى، أتباع الأرباب المتصلين به، وابتغوا القصاص لمقتله وتمزيقه على حد قول الأساطير، وبمعنى آخر ابتغوا القصاص لضياع نفوذهم القديم وتمزيق وحدة دولتهم. فجعلوا زعامتهم الدينية والرمزية للمعبود حور "حورس" الذي قامت عبادته قرب مدينة دسوق، وأعلنوه ولدًا روحيًّا لأوزير من زوجته إيسة، وأطلقوا عليه لقب المدافع عن أبيه أو المنتقم لأبيه. وبدءوا جهودهم لتنفيذ رغبة القصاص وتوحيد البلاد تحت زعامتهم، وطالت المواقع بينهم وبين أتباع ست رب الصعيد، وظل النصر دولة بين هؤلاء وهؤلاء، ويبدو أن كلًّا منهما أضر بالآخر ضررًا بليغًا3. ولكن لم ينته النزاع بينهما إلى نتيجة حاسمة، وهنا تدخل بينهما زعماء الأشمونيين أتباع المعبود تحوتى، وكانوا قد اتخذوا موقفًا مائعًا في النزاع، فتوسطوا ونجحوا في عقد هدنة بينهما. وشجعت الهدنة أنصار حور على عرض الأمر كله على حكماء البلاد، أو أرباب البلاد كما روت الأساطير، فبرأ الأرباب الحكماء أوزير من تهمة العدوان، وتشجع أنصار ولده حور بهذا الحكم فعاودوا العمل على نشر نفوذهم. بيد أنهم اكتفوا في هذه المرة بنشر نفوذهم الديني ونجحوا إلى حد ما في مسعاهم فأصبحت هيئة الصقر رمز ربهم علمًا على أرباب مدن كثيرة في الدلتا وفي الصعيد أيضًا4، ولكن هذا لم ينفعهم سياسيًّا، وظل زعماء الصعيد يصرون على استقلالهم فيه. وعادت مصر بهذا الوضع مملكتين: مملكة في الشمال استقر حكامها في مدينة "به" التي قامت على أنقاضها قرية إبطو أوتل الفراعين قرب دسوق، واحتفظ ملوكها بميراث مملكة غرب الدلتا القديمة التي قامت عاصمتها في مدينة ساو، فتتوجوا بتاجها الأحمر وانتسبوا إلى رمزها المصور على هيئة النحلة، وتلقب كل منهم بلقب

_ 1 راجع بعد العزيز صالح: التاريخ في مصر القديمة "مفهوم – عناصره – وبواعث القومية فيه" – القاهرة 1957 – ص8 - 10، "قصة الدين في مصر القديمة" – المجلة العدد 23 – نوفمبر 1958 – ص51. 2 See, Grapow, Religiose Urkunden, 1951. 6f.; Plyte And Rossi, Pap. Turin 118, 11; H. Kess, Zaes, Lxxviii. 41 F.; Anthes, Felsinschiften, 23, 7; 24, 10 F. وانظر عن احتمال فتنة أخرى في قفط: Massoulard, Pretohistoire Et Protohistoire D'egype, Paris, 1949, 434. 3 Pyr. 1463, 141 D. 4 مثل نخن وإدفو وأرمنت وقوص وقفط وقاو الكبير وبني حسن والعطاولة ... "انظر حضارة مصر القديمة وآثارها – جـ1 – ص207 - 208".

"بيتي"، وذلك إلى جانب اعتبارهم ورثة حور "حورس" على الأرض1. أما مملكتهم نفسها فاتخذت نبات البردي شعارًا لها. وجاورت مدينة به ضاحية دينية تسمى "دب" عبد أصحابها معبودة أطلقوا عليها اسم واجة ورمزوا إليها بهيئة الحية، فانتسب الملوك إليها واعتبروها حاميتهم واعتادوا على وضع رمزها على جباههم تبركًا به والتماسًا لحمايته. ثم مملكة الصعيد وقد استقر زعماؤها في "نخن" وهي مدينة قامت على أطلالها قرية الكوم الأحمر الحالية شمالي إدفو، ويحتمل أنهم استمسكوا بها باعتبارها مسقط رأس كبارهم، واحتفظوا بزعامتها الدينية للمعبود حور الصعيدي ورمزوا إليه بالصقر أيضًا. وكشفت التنقيبات الأثرية في أطلال نخن عن بقايا سور أقامه أصحابه على هيئة بيضيَّة أو شبه مستديرة داخل المدينة ودعموه بأحجار غفل غير منتظمة من الدبش، وذهب الرأي حتى الآن إلى أنه كان يحيط بتل صناعي من الرمال شيد أهل المدينة فوقه معبد ربهم حور2. وتتوج ملوك هذه المملكة بتاج أبيض طويل، واتخذوا نباتًا يسمى "سوت" رمزًا لهم، قد يكون من البوص أو الأسل أو الخيزران ربما للرمز إلى صلابتهم مثله، وانتسبوا إليه فأصبحوا يلقبون بين قومهم بلقب "سوتي" أو "نيسو"3. أما مملكتهم نفسها فاتخذت زهور اللوتس أو الإبريس أو الزنبق شعارًا لها. وجاورت العاصمة نخن ضاحية دينية سميت نخاب قامت على أطلالها واحتفظت باسمها بلدة الكاب الحالية، وعبد أصحابها ربة نسبوها على بلدتهم فسموها نخابة ورمزوا إليها بأنثى العقاب، فاعتبره الملوك راعيتهم وحاميتهم. ومن هذه المملكة الصعيدية خرج أوائل دعاة الوحدة التاريخية الذين سنذكر منهم كلًّا من الملكين العقرب "ص73"؛ ونعرمر "ص74 - 76"، وإن كان يبدو أن عاصمتها كانت قد انتقلت حينذاك من نخن في أقصى الصعيد إلى ثني في أواسطه.

_ 1 Pyr. 724; Zaes, Xxx, 113. 2 J. E. Quibell – F. W. Gteen; Hierakonpolis, Ii, 3 F; Sethe, Op. Cit.; Urgeschichte, 188. 3 Zaes, Xlix, 15, 18; Rec. Trav., XXXVIII, 69; Asae, Li, 308 F.

من تطورات الفنون وتعبيراتها

من تطورات الفنون وتعبيراتها: اعتاد الرسامون المصريون على تصوير رسومهم بلون واحد على سطوح الفخار حتى أواسط حضارة نقادة الثانية، ثم خطوا خطوة جديدة عدلوا فيها وسائل الرسم ومسطحاته وموضوعاته، وعملوا فيها على الرسم بألوان متعددة على جدران واسعة شادوها من اللبن وكسوها بالملاط، وبدءوا يعبرون على سطوحها عن أساطيرهم وأخبارهم وأفكارهم تعبيرًا أكثر صراحة ووضوحًا من تعبيرات رسوم الفخار القديمة. واحتفظت بلدة نخن ببناية صغيرة من اللبن تحت سطح الأرض كُسي جداران منها بطبقة من الملاط وصورت عليهما مناظر قتال ومناظر صيد ومناظر أسطورية ومناظر ملاحية، بألوان بيضاء وخضراء وحمراء وسمراء1.

_ 1 J. E. Quibell –F. W. Green, Op. Cit., Ii, 20-21 Pls. Lxxxv-Lxxxix; L. G. Brunton, In Studies Prtsented To Griffih, I, 272 F.; And See, H. Schaefer, Von Aeg. Junst, 158, 244; Vandier, Manuel …., I, 56 F.

ونجح الرسامون في تصوير ملامح حيواناتها وحركاتها أكثر مما نجحوا في تصوير ملامح إنسانها وحركاته، وصورت مناظر الصيد فيها بيئة صحراوية وحيوانات سريعة من حيوانات الصحراء والحواف الزراعية، وأبدع فنانها تصوير خمسة ظباء علقت سيقانها بفخ كبير نصبه صائد، وخلع روح الفن على صورته، فرتب الظباء حول الفخ في دائرة كاملة وجعلها تبدو كما لو كانت قد استسلمت لمثيرها وتمددت على جنوبها، ولونها بألوان مختلفة، حتى لقد صور بعضها بثلاثة ألوان. وتضمنت المناظر الأسطورية فيها مجموعتين: مجموعة لبطل يواجه أسدين بمقمعة حرب طويلة أو عصا ذات رأس كرية، ومجموعة أخرى لبطل يحاول أن يفصل بين أسدين أو يحاول أن يصرعهما بيديه المجردتين. وليس من المستبعد أن تكون كل من المجموعتين، والأخيرة منهما بخاصة، قد رمزت إلى فئتين قويتين حاول أحد الزعماء الأبطال أن يفصل بينهما أو يخضعهما لسلطانه. وتألفت مناظر الملاحة من ست مراكب، تساوى ارتفاع المقدمة والمؤخرة في خمس منها، بينما ارتفعت مقدمة السادسة عن مؤخرتها ارتفاعًا كبيرًا. وأدى طراز هذه المركب السادسة إلى كثير من الجدل، وقد صور الرسام على سطحها مقصورة مقبية السقف. وذهب أغلب الباحثين إلى اعتبار طرازها طرازًا دخيلًا يشبه طراز المراكب السومرية ويتعلق بغزاة أو مهاجرين من بلاد النهرين. ولسنا نجادل في غرابة هذا الطراز عن طراز مراكب الصعيد العادية في عصرها، ولكنا نود الإشارة إلى ثلاث حقائق تتعلق بها، وهي: أن قمرتها أو "مقصورتها" مقبية السقف تشبه مقاصير بعض ما عثر عليه من نماذج المراكب الصعيدية التي صنعها أصحابها من الصلصال. وأن تصويرها بمفردها بين خمس مراكب مصرية ينفي عن أصحابها صفة الغزاة الأغراب. وأن الحضارة السومرية لم تكن قد بدأت حينذاك في بلاد النهرين، وإنما كان العراق لا يزال يعيش في حضارة الوركاء التي لا ندري مدى صلاحية سفنها للإبحار من العراق إلى مصر عن طريق الخليج العربي والمحيط الهندي ثم البحر الأحمر1، وهو طريق صعب. وكل ذلك مما يحملنا على الاعتقاد بنسبتها إلى منطقة ما في مصر مثل شمال الدلتا كما سيتضح لنا من مثل آخر تالٍ.

_ 1 يعترف كونتينو بأن مصر حين بدأت عصورها التاريخية كانت العراق لا تزال في مرحلة الانتقال من حضارة الوركاء إلى حضارة جدة نصر G. Conteneau, Manuel D'archeologia Orentale, Iv, 1947 على الرغم من أنه من القائلين بتأثير الحضارة السومرية في الحضارة المصرية عن طريق الهجرة الجنسية على حد قوله. See Also, Hi Storie De L'orient, 1936, 169-172.

سكين جبل العركي

سكين جبل العركى: سابق فن النقش فن الرسم في خدمة أغراض قومه، وتعدت نقوش مقابض السكاكين والخناجر تصوير صفوف الحيوانات إلى تصوير موضوعات أسطورية وتاريخية. وأوضح ما يستشهد به منها نقوش مقبض سكين وجدت في منطقة جبل العركي تجاه نجع حمادي فسميت اصطلاحًا باسمه1. وصور فنانها على أحد وجهي

_ 1 Louver E. 11517 ; And For Other References See, R, Well, Recherches…, 1961, Ii, 206 F.

مقبضها معركة جرت على البر والماء بين فريقين اتخذ أحدهما هيئة المصريين واتخذ ثانيهما هيئة الليبيين، وكانت الغلبة للفريق الأول. وصور في معركة الماء ثلاث مراكب على الطراز المصري المعتاد، وتعاقبت هذه المراكب خلف بعضها ولكن أطرافها تداخلت مع بعضها. ثم صور مركبين في صف مستقل على طراز آخر مختلف ارتفعت فيه مقدمة المركب ومؤخرتها ارتفاعًا كبيرًا. وعبر عن نتيجة المعركة بصور رجال غرقى صورهم في أوضاع مختلفة بين صفي المراكب. ونقش الفنان على الوجه الثاني للمقبض موضوعات أخرى، بدأها في الصف العلوي بتصوير شيخ كبير ملتح يشبه هيئة الساميين القدماء ويرتدي رداء كثيفًا يمتد من وسطه حتى منتصف ساقيه، ويلبس عمامة فوق رأسه، ويفصل بيديه المجردتين بين أسدين ناهضين عظيمين أو يحاول إخضاعهما لسطوته، وصور تحته بيئة صيد كبيرة تضمنت حيوانات برية تميزت منها صورة لبؤة تهاجم ثورًا وحشيًّا من خلفه. هذا عن موضوعات مقبض السكين، أما دلالتها، فيغلب الظن أن صاحبها أراد أن يعبر بها عن أحداث قديمة وأفكار معينة، وإن ظلت هذه الأحداث والأفكار موضعًا لتفسيرات شتى، فرأى أغلب الباحثين وضوح التأثير الآسيوي، والعراقي بخاصة، في موضوعاتها، واستدلوا على ذلك بتصوير الشيخ ذي العمامة والرداء السميك، وفكرة الفصل بين الأسدين، ومهاجمة اللبؤة لفريستها من خلفها، وتصوير المركبين الغريبتين عن الطراز المعتاد للمراكب المصرية، مع شيوع هذه العناصر كلها في الطراز العراقي خلال حضارات الوركاء وسومر1. بينما رأى باحثون آخرون تداخل عنصر الصحراء الغربية في موضوعات النقوش واستدلوا على ذلك بصور أحد الفريقين المتقاتلين وصور الحيوانات التي عاشت أمثالها في الصحراء الغربية سواء البرية منها أم الأليفة. ولكننا نرى من ناحيتنا أن العنصر المصري هو العنصر الغالب على نقوش المقبض من حيث الأسلوب ومن حيث الموضوع. فأسلوب النقش فيها أسلوب مصري صريح، سواء في تصوير الإنسان أم في تصوير الحيوان. والفريق المنتصر في معركة البر ومعركة الماء هو الفريق المصري، ولم يكن من المنتظر أن يصور نصر المصريين فنان غير مصري. ورموز المركبين الغريبتين يمكن تقريبها إلى الرموز المصرية المقدسة المعروفة، ويمكن أن نعتبر المركبين الغريبتين من مراكب السواحل المصرية الشمالية الغريبة القريبة من الحدود الليبية، والتي لم تتبق من صورها باقية، لا سيما وقد لوحظ أن بعض آثار هذه السواحل لم تخل من تشابه مع آثار حضارة نقادة الثانية2، وأن أحد الفريقين المتقاتلين على البر تغلب عليه الهيئة الليبية كما أسلفنا. وتتبقى صورة الشيخ ذي العمامة واللحية والثوب الكثيف، وهذه إذا صح أنها تشبه صور العراقيين الأوائل، فلا بأس من أن نفترض أن الفنان المصري استوحاها من أثر عراقي وصل إليه عن طريق التجارة وقلدها على مقبض

_ 1 For References See, A. Scharff, Die Fruhkulturen Aegypten Und Mesoptamiens, 1941 ; R Weill, Op, Cit., 2e Pautie, 297 F. 2 See, O. Bates, "Archaic Burials Marsa Matruh", Ancient Egypt 1915, 158. Compare Also, Moret, Op. Cit.

سكينة. هذا ويضاف من حيث الموضوع أن مقاتلة الأبطال المصريين للوحوش يدًا بيد لم تقتصر على الأسود، وإنما تعدتها إلى مصارعتهم لأفراس النهر أيضًا1. وكانت هذه الأفراس حيوانات مصرية محلية. وإذا ندر تصوير هذه الفكرة في عصور الأسرات التاريخية، فلعل ذلك لأن المصريين في عصورهم التاريخية صدفوا عامدين عن تصوير الأوضاع الفنية العنيفة بعد أن تبينوا أنها لا تتفق مع تحضرهم المستمر2. وأضاف R. Hamann تفسيرًا طريفًا لموضوعات الوجه الثاني من المقبض، فرآها تعبر عن سلسلة متصلة من عوالم الأرباب والحيوان والإنسان، واعتبر الشيخ الملتحي إلهًا للرعاة وحاميًا لقطعانهم استأنس الأسود الضارية وأخضعها لسلطانه، واعتبر الكلاب المصورة تحته كلابه الأمينة على قطعانه، واعتبر بقية المناظر تعبر عن بيئة الصحراء بما يعيش فيها من أكلة اللحوم وآكلات العشب، وبما يتداول فيها من خير وشر كما تعبر عن عالم الصيادين والرعاة بما يكتنفه من مكاسب ومتاعب في سبيل تحصيل الرزق والقوت3. ومضت نقوش الصلايات في تطورها وانتقلت من تصوير الرموز والأفكار الصغيرة إلى تصوير الأساطير والحوادث التاريخية بنقوش بارزة وغائرة تشغل وجهها كله أو وجهيها كليهما. ومن أهم ما يستشهد به منها، صلايتان ترجعان إلى أواخر حضارة نقادة الثانية، ويطلق على إحداهما اصطلاحًا اسم صلاية صيد الأسود وعلى الأخرى اسم صلاية الأسد والعقبان. صلاية صيد الأسود4: هذه نقشها فنانها من وجه واحد، وصور عليها مجموعتين من الرجال انتظموا في صفين على حافتيها العريضتين، وحملوا أسلحة متنوعة مثل الأقواس الشديدة من قرون التياتل والحراب ومقامع القتال والعصى المعقوفة وحبال الصيد والبلط ذات الحدين والحراب ذات الرأسين والتروس البيضاوية التي تشبه ظهور السلاحف المائية. وأظهر الفنان بين صفيهما ساحة صيد واسعة تفرقت فيها الوعول والنعام والأرانب البرية والأسود والثعالب وحيوانات أخرى صورها له خياله. ورصع عيون الرجال والحيوانات الكبيرة بمواد أخرى ضاعت معالمها. وفاقت الأهمية التاريخية والأسطورية لمناظر الصلاية أهميتها الفنية بكثير، فقد ظهر من الفريقين ثلاثة رجال أو أربعة يحملون ألوية خاصة، فرفع اثنان منهم لواءين تعلو كلًّا منهما هيئة الصقر رمز المعبود حور، وكان رمز أكبر أقاليم غرب الدلتا في فجر التاريخ كما مر بنا، ورفع واحد أو اثنان آخران رمزًا يمثل حربة يتدلى منها شريط ويعترض جزأها العلوي عارض

_ 1 Petrie, Royal Tombs, Ii, Pt. Vii, 6: L. Borchardt, Die Annalen…, 36,Abb.,6. 2 H. Kees, Das Alte Aegypten, 1958, 7; Zaes, Lxvii, 56 F. وانظر ألكسندر شارف: تاريخ مصر منذ فجر التاريخ – معرب بالقاهرة – ص52. 3 R. Hamann, Aeg. Kunsl, 81.F ; H. Kees, Op. Cit., 6-7. 4 Legge, P.S.B.A., Xxi, Pls. Ii, Ix ; Benedite, Cp. Cit, Fig. 5 ; H. Ranke, "Lowenjagd-Palette' Sitzb. Heidel. Ak. Wiss. 1924-1925 ; Vandiel, Op. Cit., 584 F. And See, L. Keime, Zas, Lxxii, 121 F. ;Bull. Inst. Eg., 1950, 76 F. عبد العزيز الصالح: حضارة مصر القديمة وآثارها – ج1 – 191 - 192.

أفقي، وكان رمزًا لأكبر أقاليم شرق الدلتا في العهد نفسه، ويستدل من اجتماع الرمزين الكبيرين في صعيد واحد على اتحاد شرق الدلتا وغربها في مملكة واسعة خلال العهد الذي نقشت الصلاية فيه أو فيما قبله بقليل. ولعله كان يحدث من حين إلى آخر أن يخرج عظماء الإقليمين الكبيرين في هذه المملكة في رحلة صيد يحيون بها ذكرى كفاح أسلافهم الأوائل في إبادة الوحوش التي كانت تهدد أرضهم. صلاية الأسد والعقبان: نقشت هذه الصلاية على وجهها وظهرها1. وتوسط وجهها، أو بمعنى أصح توسط ساحة القتال المصورة على وجهها أسد ضخم غضوب يمزق صدر عدو عار يتلوى جسده على الأرض في قسوة بالغة، وتوزعت حول الأسد وفريسته بقية مفردات المعركة. فترامى بجانبه ومن تحته أفراد من الأعداء، عراة بلحى طويلة وشعور مفلفة، وظهر منهم من تلوى جسده على الأرض وكأنه لا يزال يعاني سكرات الموت، وظهر منهم من أسلم الروح وتمدد على الأرض جثة هامدة. وانقضت على جثثهم جميعًا أسراب من كبار الجوارح وصغارها، عبر الفنان عنها بعدد من العقبان وعدد من الغربان، فأخذت تنهش أيديهم وأرجلهم وتفقأ عيونهم وتنقر رءوسهم .. ثم جمع مفردات مناظره في وحدة تصويرية واحدة توسطها الأسد وفريسته، دون أن يفصل بين جزء منها وآخر بفواصل أو خطوط، على الرغم من أنه احتفظ لكل شكل فيها بفرديته واضحة، واحتفظ لكل مجموعة صغيرة فيها بدلالتها واضحة، ونجح في التعبير عن قسوة الأسد في ملامح وجهه، وعن ألم المنهزمين في تلوي أجسادهم، وعبر عن فكرته في زعيم قومه أو ملك قومه أروع تعبير، وجعل صوره رسومًا مقروءة تفهم العين مدلولها بأقل مجهود، ثم خصص ظهر الصلاية لوحدة زخرفية ألف فيها بين نخلة باسقة وزرافتين وطائرين في توفيق لطيف2. تركت التطورات السياسية أثرها في حياة ممالك ما قبل الأسرات، ووجدت الفنون مجالات طيبة في رحاب ملوكها الصغار، فارتقت رقيًّا نسبيًّا من حيث الصناعة والذوق والمهارة وحسن اختيار المادة، كما وجدت في أخبار حروبهم ومشروعاتهم مادة دسمة لموضوعاتها. فواصل فن التماثيل طريقة في حدود إمكانيات مجتمعه، وتجرأ أصحابه على نحت بعض تماثيلهم الصغيرة من الحجر، اللين منه والصلب، وكان الحجر أصلح المواد من غير شك لضمان خلودها؛ فذللوا صخر البازلت لصناعة تماثيل إنسانية صغيرة، عثر على تمثال منها بلغ طوله نحو 40سم، مثل رجلًا وافقًا ذا لحية مستعارة طويلة، يرتدي حزامًا يتدلى منه قراب سميك لستر العورة. ولم يستطع صانع التمثال أن يحقق التناسب بين أجزاء تمثاله، ولكنه حاول أن يعبر عن تفاصيلها، فمثل عظام الركبتين وأظافر اليدين واستدارة

_ 1 Legge, Op. Cit., Pl. Vi ;Bénédite, Op. Cit., Figs. 8-18; E. Peet, Jea, Ii, 93 F.; Cottevielle-Givandet, Bifao, 1933, Pl. Xiii; Vandior, Op. Cit. 2 شاع أسلوب هذه الزخارف الشجرية والحيوانية في فن بلاد النهرين، وأوحى ذلك باحتمال استيحاء الفنان المصري صوره من نموذج عراقي، ولكن P. Gilbert دفع هذا الاحتمال بملاحظة أن الزراف الذي استحب المصريون تصويره على صلاياتهم حيوان إفريقي غير آسيوي. Chr. D' Egypte, 1947, 37 F.

الكتفين وبروز العجز بقدر ما سمحت له صلابة الحجر1. وتطلع بعض المثالين إلى الأحجار الكريمة، فنحتوا من اللازورد تماثيل نسوية صغيرة رقيقة، بقي منها تمثالان لأنثيين صور أحدهما أنثى عقدت ذراعيها أسفل صدرها، ونبض ثدياها وبدت ملامح وجهها واضحة على الرغم من صغر حجم تمثالها, وكانت عيناها مطعمتين بالعاج2. ثم استغلوا صلابة الظران ووفرته وشكلوا قطعه العريضة الرقيقة على هيئات الطيور والأسماك والحيوانات، واستخدموا الإرذواز للغرض نفسه3. ونجحوا في تشكيل الهيئات الحيوانية أكثر مما نجحوا في تمثيل هيئة الإنسان. وبلغوا مستوى راقيًا من دقة التعبير في نحت تماثيل صغيرة من الحجر الجيري لكلاب وأسود وقرود عثر عليها في منطقة أبو صير الملق4، وكانت تستخدم لألعاب التسلية وتؤدي غرض التمائم فضلًا عن اعتبارها من المقتنيات الفنية. وختم فنانو ما قبل الأسرت محاولاتهم في نحت التماثيل بأن نحتوا ثلاثة تماثيل كبيرة من الحجر الجيري للمعبود مين رب السيول والإخصاب وحامي القوافل، وعبروا فيها عن عظمة معبودهم تعبيًرا بدائيًّا بأن نحتوها بأحجام ضخمة، بحيث بلغ أطولها نحو ثلاثة أمتار، ولكنهم شكلوها بخطوط عامة، وحاولوا إظهار التفاصيل في مثل عظام الركبتين وزخارف حزام الوسط فلم ينجحوا غير نجاح ضئيل. ولم يستطيعوا التعبير عن كفايتهم إلى في نقش صور معبرة على بدن معبودهم وحزامه لأصداف وفيلة وثيران برية كانت تعيش على الطريق الذي يحميه والذي يمتد بين قفط وبين البحر الأحمر، فضلًا عن بضعة رموز دقيقة تخص المعبود نفسه5. وتعتبر هذه التماثيل أقدم تماثيل مصرية معروفة أظهرت المعبودات في هيئات بشرية. استفادت نقوش العصر من خبراتها القديمة، وتطورت بأشكالها ومواضيعها على مقابض الخناجر والسكاكين الفاخرة وعلى سطو الصلايات ورءوس المقامع. وكانت مقابض خناجر الزعماء وأهل اليسار تنقش وتغشى بالذهب وكان لا يزال عزيزًا حينذاك. ومن نماذجها الممتعة الباقية مقبضان مذهبان منقوشان في متحف القاهرة6.

_ 1 J. Capart, Les Debuts De I' Art En Egypte, 44-45, Fig. 20; Vandier, Op. Cit., I, 961-62. 2 Quibell, Hierakonponlis, I, Pl. Xviii, 3, P. 7, Vol. Ii, P. 38: E. D. Ross, The Art Of Egypt Through The Ages, 84, 3. 3 J. Capart, Op. Cit., 147 F., 106-108. 4 A. Scharff, Abusir El-Meleq, Taf. 38. 5 Petrie, Koptos, 7 F., Pls. Iii-V: Capart, Op. Cit., 216 F., Figs. 150-151; And See, Baumg?rtel, Asae, 1948, 553-553. 6 Cairo 64737 = Currelly, Stone Implaments, Pl. Xlvii, 251; E. Jea, Ii, Pl. Xii, Fig 4; Cairo 64868; Quibell, Asae, Ii, Pl. I. 3.5, P. 131-132; ……. Currely, Op. Cit., Pl. Xlvii, P. 272.

من آثار العقرب

من آثار العقرب: بدأت النقوش تسجل أحداثًا بعينها وتنقش بأسماء أشخاص بعينهم، وأقدم المعروف منها في هذا السبيل، نقوش رأس مقمعة حجرية لملك صعيدي لقبه أتباعه بلقب العقرب1. وقد صورته نقوشه ملكًا يولي مشروعات الزراعة والري حقها، ويولي مشروعات الحرب والفتح حقها. فصورته في هيئة كبيرة فارعة يتوسط مناظر المقمعة بتاج الصعيد ورداء قصير يغطي كتفًا واحدة ويمتد حتى الركبة ويتدلى منه ذنب طويل، ويقبض بيديه على فأس كبيرة يهم أن يشق الأرض بها في حفل افتتاح مشروع للري أو للزراعة. وظهر أمامه مجموعة من حامل الألوية كانوا يتقدمون موكبه، وكاهن برداء قصير ذي حملات من جلد الفهد، يتقدم إليه بمجموعة من سنابل الغلال، وتابع ينحني أمامه بمكتل من الخوص يحتمل أنه كان يتضمن كمية من البذور أو كمية من تراب الأرض. وظهر خلفه تابعان آخران يرفعان مروحتين عاليتين لتخفيف حدة الحر أو حرارة الشمس عنه. ثم مجموعة إناث، جلست بعضهن في محفات، ووقفت الأخريات يصفقن ويرقصن؛ مشاركة منهن في مراسيم الحفل، وظهرت إلى جانبهن مجموعة من سيقان البردي. وحاول الفنان أن يصور معالم البيئة الزراعية التي جرى الحفل فيها، وفصور شبه جزيرة يحيطها النهر بذراعيه ويعمل بها نفر من المزارعين وأظهر فيها نخلة وكوخًا من البوص، رمزًا بطبيعة الحال على عدد أكبر من النخيل والأكواخ. وصور معبدين صغيرين متباعدين على ضفة النهر "أو فوق جزيرتين أخريتين"، يعتبر تصويرهما من أقدم صور المعابد المصرية العتيقة المعروفة. وعلى نحو ما رمز بنقوشه إلى النشاط المدني لمولاه، رمز بها على جهوده الحربية، فصور في أعلاها مجموعة من رموز الأرباب تدل على تأييدهم له في حروبه وعلى تحالف أنصارهم تحت رايته، كما صور رموزًا لبعض الجماعات التي أخضعها، وفي ذلك ما يوحي بدوره في الكفاح لتحقيق الوحدة التاريخية المرتقبة. وخدم فنان المقمعة فنه كما خدم ملكه، فصوره في هيئة فارعة متكاملة تعتبر السلف الصادق لصور الملوك المصريين في عصورهم التاريخية. وأظهر أتباعه حوله في حيوية لطيفة، وصورهم وهم يؤدون أعمالهم تصويرًا جانبيًّا سليمًا فيما خلا العين التي صورها كاملة. ولم ينس أن يعبر عن بيئة الحفل بما يدل عليها من ماء وزرع ورقص ومساكن ومعابد، على الرغم من صغر المساحة التي صورها عليها، وعلى الرغم من قدم العهد الذي صورها فيه2.

_ 1 Hierakanpolis, I, Pls. XXV, 2, XXVI, C. 2 راجع مناقشة أكثر إسهابًا لهذه النقوش وبقية نقوش العقرب لدى: عبد العزيز صالح: المرجع السابق – ص216 - 220.

صلاية الفحل

صلاية الفحل: امتازت من صلايات الكفاح للوحدة صلاية تعرف اصطلاحًا باسم صلاية الفحل1، بقي جزء منها، تصدر نقوشه فحل عنيف نفرت عروقه وهجم بقرنيه العظيمين على عدوه فألقاه على وجهه وضغط بحافره

_ 1 Capat, Op. Cit., Figs. 165-166; Legge, Op. Cit. Iv; Bénédite, Op. Cit., Figs. 6-7.

على فخذه ليشل حركته ويجبره على الاستسلام. وأبدع فنان الصلاية تمثيل القوة البدنية للفحل وإظهار تفاصيل جسده وعضلات سيقانه، ولكنه تصرف في تشكيل رأسه وعينيه، فكسا جبهته ومقدمة رأسه بشعر مموج مرتب وأظهر خطوطًا حول عينيه وأنفه توحي بأن وجهه قد كُسي بغطاء مزخرف. ولم يرمز به إلى ثور حقيقي أو معبود، وإنما رمز به إلى ملكه الذي تخيله ذا بطش شديد. والفحول فيما هو معروف أكثر الحيوانات الأليفة في البيئات الزراعية نفعًا حين هدوئها وأكثرها احتمالًا حين عملها ثم أكثرها بطشًا حين غضبها، ولهذا ظل تشبيه الملوك المصريين بالفحول قرينًا لتشبيههم بالأسود1. وأدت نقوش الأختام الأسطوانية المهمة نفسها، وكانت الأختام عبارة عن قطع أسطوانية صغيرة من العاج أو الحجر أو الخشب تنقش عليها صور وعلامات يختم صاحبها بها على الطين فتؤدي غرض الختم ذي التوقيع2. واستغل الفنانون أهمها سجلوا عليها بعض أحداث عصرهم تسجيلًا يناسبها. وبقيت منها ثلاثة أختام نقشت على سطوحها صورة حاكم يأخذ بناصية أسير مقيد ويهم بضربه بمقمعته على أم رأسه. وكررت الصورة على سطح كل ختم أحيانًا بحيث إذا ختم به ودار دورة كاملة طبع تسع صور أو اثنتي عشرة صورة من صوره.

_ 1 لم يكن تشبيه الأبطال وكبار الشعراء بالفحول غريبًا عن العقلية العربية، والطريف أن أهل كسلا في السودان يمجدون أحد أولياء مدينتهم بقولهم "ياثور كسلا ياذا اللبن الأبيض"، ولو أن هرمان كيس يعتبر الفحول التي رمز المصريون بها إلى ملوكهم ثيرانًا وحشية، ويراها من ذكريات عصور الصيد القديمة. " Kee, G?tter., 6; Das Alte Aegypten, 5" 2 وجد ختمان أسطوانيان من أواسط عهد حضارة نقادة الثانية " Harageh, 14 Pl. Vi, 3" ويذكر شارف أنهما من نوع الأختام التي عرفت في حضارة الوركاء بالعراق. " Zaes, 1935, 10 Lf."

آثار نعرمر

آثار نعرمر: صورت آثار الملك نعرمر مرحلتين متمايزتين في عهده، مرحلة واصل خلالها كفاح أسلافه لضم الدلتا إلى سيطرة الصعيد، وأخرى استمتع فيها بنتائج جهوده وجهود أسلافه بعد أن حقق وحدة البلاد كاملة تحت حكمه. وبقي نقش من نقوش مرحلته الأولى، حل اسمه فيه محل صورته، وهو أول اسم معروف كتب بمقطعين صوتيين، على هيئة صورة سمكة وصورة إزميل. وصورت السمكة "نعر وهي المقطع الأول من اسمه" بيدين بشريتين تمسك عصا ضخمة وتهبط بها على رءوس مجموعة من الأسرى الموثقين بالحبال، وسجل الفنان فوق اسم ملكه رمز المعبود ست رب الصعيد القديم، ورمز المعبود حور رب الدولة القائمة، ورمز المعبودة نخابة ربة الكاب1؛ ليؤكد التقارب بين المعبودات الثلاثة ويؤكد مؤازرتهم للملك في كفاحه. وسجلت صلاية نعرمر آخر مراحل كفاحه ونتائجها، وهي من الصلايات الكاملة النادرة، وقد وجدت في معبد نخن2. واشتركت نقوش وجهها وظهرها في مناظر معينة واختلفت في مناظر أخرى. فظهر

_ 1 Hewakonpolis, I, Pl. XV, 7. 2 Ibid, 10, Pl. XXIX.

على الجزء العلوي لكل منهما اسم نعرمر داخل إطار مستطيل يرمز إلى واجهة قصره ويسمى عادة باسمه المصري القديم "سرخ" ويظهر على جانبي الاسم "على الوجهين" رأسان للمعبودة حتحور مثلاها بوجه سيدة مليحة وقرني البقرة وأذنيها، وكان من المرات الأولى التي صور المصريون فيها رباتهم بصورة تجمع بين البشرية والحيوانية. واختلف وجه الصلاية وظهرها في بقية المناظر، ولكن مهدت مناظر أولهما لمناظر الآخر. فتصدرت نقوش الوجه صورة نعرمر في قوام فارع وحجم كبير يزيد عن أحجام المصورين حوله، تأكيدًا لجلاله وعظم قدره. وأظهرته بتاج الصعيد يأخذ بناصية زعيم خصومه، ويهم بضربه مقمعته. وواجه الملك صقر عظيم يرمز إلى المعبود حور آخذًا في كفه البشرية اليمنى بخطام رأس كبيرة تخرج من أرض تنمو فيها سيقان البردي وترمز فيما هو مأخوذ به حتى الآن إلى أرض الوجه البحري، كأنه يقدمها إليه ويسلس قيادها من أجله ويتم بها وحدة ملكه. وظهر أسفل الملك قتيلان سجل الفنان مع كل منهما اسم مدينته، وظهر خلف الملك رجل من رجال حاشيته يتقلد بقلادة عريضة، ويحمل له نعليه وقدرًا تحوي ماء الغسيل أو التطهير. ووفق الفنان توفيقًا كبيرًا في إظهار تفاصيل صوره، لا سيما وجه حتحور اللطيف وشفتيها الممتلئتين البضتين وأذنيها ذواتي التفاصيل الدقيقة، وريش الصقر المهيب، وعضلات ساعدي الملك وساقيه، وعظام ركبتيه، وتفاصيل ردائه وهو رداء قصير يغطي كتفًا واحدة ويصل إلى ما قبل الركبة، مشدودًا إلى وسطه بحزام عريض مرقش تتدلى منه حليات على هيئة رءوس حتحور -بأهداب كتانية طويلة- ويتدلى من خلفه ذيل طويل. وتمتاز كفاية الفنان في هذه الصور عن الكفايات المحدودة التي سبقت عهده. وأكملت نقوش ظهر الصلاية قصة الملك مع الوجه البحري، فصورته متوجًا بتاج الدلتا، يسير في موكبه بمقمعته ومذبته إشارة إلى اجتماع روح الحرب وروح السلام فيه، ويتقدمه أحد عظماء بلاطه. وسار أمامه أربعة من حملة الألوية في جيشه. وسار في معيته ومن خلفه حامل نعليه بقدره. وقد خرج الملك حافيًا على الرغم من تاجه وصولجانه إشارة إلى قداسة الحفل الذي يقصده. وعبر الفنان قبالة الموكب عن غايته التي كان يقصدها بصور صغيرة قد ترمز إلى رحلة الملك بقاربه إلى مدينة "به"، وسجل صورًا أخرى غريبة تمثل عشرة أشخاص موثقين بالجبال قطعت رءوسهم، ووضعت رأس كل منهم بين رجليه، ويبدو أنه رمز بها إلى مناسبة الزيارة، وهي الاحتفال بذكرى نصر قديم انتصر الملك أو أحد أسلافه فيه على عشرة زعماء أو أحلاف من مناهضيه. واستغل الفنان وسط الصلاية لتنفيذ تصميم استحبه أسلافه، وهو تصوير حيوانين خرافيين تتعانق عنقاهما حول بؤرة الصلاية المستديرة وتتلاقى رأساهما فوقها. ونفذ تصميمه بيد متمكنة مجربة وأظهر كل حيوان بجسم أسد "؟ " وعنق تشبه عنق الثعبان ورأس فهد، وأظهرهما ممتلئتين قويين يرفعان ذيليهما في غضبة هائلة، ولكنه أضاف شيئًا جديدًا، فصور رجلين على جانبي الحيوانين، يجذب كل منهما عنق حيوانه بحبل

غليظ ليبعده من مقاتلة الآخر، وذلك مما يرمز في الغالب إلى ما كان من مصادمة جماعتين قويتين ومحاولة كبح جماحهما على أيدي رجال العهد الجديد. وفي أسفل الصلاية، نقش الفنان هيئة فحل شديد يهدم بقرنيه سور مدينة محصنة، ويطأ بحافره ذراع زعيمها الذي تمدد مستسلمًا على الأرض. وقد رمز الفحل إلى الملك، ولم يكن في تصويره على هيئة الفحل شيء جديد، ولكن الجديد هنا هو تقليل وحشيته في الفتك بعدوه وتصويره على شيء من الهدوء، وكأنه يبتغي السيطرة على أهل المدينة التي فتحها دون الفتك بهم، وكان ذلك فيما يبدو رمزًا لآخر أدوار الكفاح المسلح من أجل تحقيق الوحدة السياسية الكاملة المستقرة التي بدأت العصور التاريخية بها.

الفصل الرابع: بداية العصور التاريخية

الفصل الرابع: بداية العصور التاريخية مدخل ... الفصل الرابع: بداية العصور التاريخية "أو عصر بداية الأسرات – منذ أواخر الألف الرابع ق. م." تبدأ العصور التاريخية لكل شعب قديم ببداية اهتداء أهله إلى علامات واصطلاحات محددة يتفاهمون بها عن طريق الكتابة ويستخدمونها في تسجيل أخبار حوادثهم الرئيسية وتدوين بعض معارفهم الدنيوية وعقائدهم الدينية ولو بطريق الإيجاز، عوضًا عن الاكتفاء بتداولها عن طريق الرواية أو الاكتفاء بالتلميح إليها عن طريق الرسم والرمز إليها عن طريق الأساطير. أو هي تبدأ بمعنى آخر ببداية العصر الذي يحاول أهله أن يكتبوا فيه تاريخهم بأنفسهم ويصفوا فيه أعمالهم للأجيال التي تليهم. وتقترن هذه البداية عادة بأحد اعتبارين آخرين أو بكليهما، وهما: بداية اصطباغ حضارة شعبها بصبغة قومية متجانسة، ثم بداية ائتلاف بلدها في وحدة سياسية مستقرة تهتم بالكتابة وتسجل بها شئونها وتنظم أمور الحكم والإدارة وترسيها على أسس مستقرة صريحة، وبناء على هذه الاعتبارات الثلاثة، وبناء على الاعتبار الأول منها بخاصة، أصبحت بداية العصور التاريخية لكل شعب قديم بداية اعتبارية محضة، تخصه وحده، ويختلف زمنها فيه عن زمنها عند غيره من الشعوب. وعن طريقها تميزت مصر من غيرها من الشعوب في قدم تاريخها المكتوب ووفرته1.

_ 1 تذكر على سبيل المثال أن أهل بلاد النهرين بدءوا الكتابة التصويرية في أوائل الألف الثالث ق. م. ثم تطوروا منها إلى الكتابة المسمارية بعد عهود قليلة، وبدأ أهل كريت كتابتهم التصويرية في أوائل الألف الثاني ق. م. ثم بدءوا كتابتهم الخطية في القرن السادس عشر ق. م. أو قبله بقليل. وعرف أهل ميكيناي في شبه الجزيرة الإغريقية الكتابة في القرن الخامس عشر أو الرابع عشر ق. م. وكتب أهل رأس الشمرا "أوجاريت" في الشام بحروف هجائية وخط مسماري منذ القرن الخامس عشر أو الرابع عشر ق. م. وكتب أهل جبيل "بيلوس" الفينيقيون نصوصهم بالحروف الهجائية منذ القرن الحادي عشر أو العاشر ق. م. وربما بدأت مرحلة الكتابة في اليمن في نفس الوقت أو بعده بقليل. واستعاد الإغريق كتابتهم واستخدموا فيها الحروف الهجائية منذ القرن التاسع ق. م. على وجه التقريب. ويمكن أن نضيف على سبيل المقارنة بين الشرق وبين الغرب، أن عصور الكتابة في الجزر البريطانية تأخرت حتى القرن الأول الميلادي وهو القرن الذي ... الرومان خلاله حروفهم اللاتينية إليها.

الكتابة وتوابعها

الكتابة وتوابعها: توافرت الاعتبارات الثلاثة السابقة لدى المصريين منذ أواخر الألف الرابع ق. م، وكانوا قد بشروا بمقدمات الكتابة منذ أواخر فجر تاريخهم القديم، وبدءوها فيما يحتمل بطريقتين: طريقة تخطيطية لم يقدر لها الشيوع "راجع ص59"، وأخرى تصويرية استمروا عليها، وكانت طريقة تعبر عن الشيء بصورته التقريبية، وتصلح للتعبير عن الماديات دون المعنويات "فيما خلا حالات معنوية قليلة عبرت فيها صورة الذراع

عن القوة، وصورة الساقين عن الحركة، وصورة الأذن عن السمع، والعين عن الرؤية، وهلم جرًّا". ثم جمعوا إليها علامات تصورية اصطلاحية تؤدي غرض المقاطع الصوتية، أي تعبر كل علامة منها عن مقطع صوتي ذي حرفين أو ثلاثة حروف، يمكن استخدامه في التعبير عن الأوصاف والمعنويات حين يشترك لفظه مع كلمة معنوية تماثله في النطق، مع إضافة رمز أو مخصص يحدد معناها في سياق الكتابة. واستمروا يزيدون أعداد هذه وتلك وأنواعها لتفي بمطالب كتابتهم. ثم أصافوا إليهما حروفًا هجائية يدل كل شكل منها على حرف واحد، وقد بلغت عدتها عند اكتمالها أربعة وعشرين حرفًا، وكان ابتداعهم لها هو الخطوة الحاسمة في اكتمال كتابتهم وامتيازها عن غيرها، وتصادف أن بدأت معها عصورها التاريخية. وقد اصطلحوا على الكتابة منذ ذلك الحين بخطين دفعتهم روح المحافظة على أن يجمعوا فيهما صور الأشياء والمقاطع الصوتية التصورية والحروف الهجائية والرموز التخصيصية في آن واحد. وظل أول الخطين يغلب عليه طابع التصوير المتقن وروح الزخرف، وقد نقشوا به نصوصهم على سطوح اللوحات الحجرية وما يقوم مقامها مما يصلح للنقش عليه كالخشب والأبنوس والعاج، وعلى جدران المعابد والمقابر والتوابيت، كما دونوا به بعض النصوص الدينية على صفحات البردي. ونشأ الخط الثاني سريع الأداء يعتمد على الصور المختصرة التي تطور بعضها مع الزمن إلى أشكال خطية، وقد سجلوا به الشئون الحكومية ودونوا به الرسائل والآداب والعقود الشخصية وبقية شئون الحياة اليومية. ولم يزد الفارق بين الخطين كثيرًا عن الفارق الحالي بين خطوط اللافتات والعناوين وبين خط الرقعة اليدوي السريع. وقد عبر المصريين عن الخطين بكلمة "سش" بمعنى الكتابة، وإن ميزوا أولهما فأدمجوه فيما أطلقوا عليه تعبير "مدونثر" بمعنى أقوال الرب أو الأقوال المقدسة؛ إشارة إلى قداسة أصله وإكبارًا لأصحاب الفضل الأول في اختراعه. وعندما وفد الإغريق إلى مصر أطلقوا على الخط الأول اسم الخط الهيروغليفي بمعنى الخط المقدس، وأطلقوا على الخط الثاني اسم الخط الهيراطي1 بمعنى الخط الكهنوتي، "فضلًا عن خط ثالث استحدثه المصريون في أواخر عصورهم القديمة خلال القرن الثامن أو السابع ق. م وجعلوه أكثر إيحازًا في تخطيطاته وصوره من خطهم الثاني، وأطلق الإغريق عليه اسم الخط الديموطي بمعنى الخط العام أو كتابة الجمهور". وأصبحت المسميات الإغريقية لخطوط الكتابة المصرية هي الشائعة بين الباحثين، ثم خط رابع استخدمه المصريون بعد اعتناقهم المسيحية، واستعاروا أشكال أغلب حروفه من صور الحروف اليونانية، وهو الخط القبطي. والواقع أنه مهما يبدو للعين المعاصرة من غرابة صور الكتابة المصرية القديمة التي بدأها أصحابها منذ نيف وخمسة آلاف عام، وسبقوا بها أمم العالم المتحضر القديم، فإن هذه الغرابة يمكن أن تقل إذا قدرنا أن الحروف التي نكتبها اليوم، عربية كانت أم لاتينية، ليست غير تطورات أخيرة لصور قديمة عرف علماء اللغات بعضها وعزت عليهم معرفة أصول بعضها الآخر، وحسبنا منها حرف F وحرف G في الكتابة الإفرنجية السريعة، والحرف الأول من الأبجدية العربية الذي هو عبارة عن كلمة من ثلاثة حروف أو أربعة وهي

_ 1 يبدو أن تعريب كلمتي Hieratic And Demotic بكلمتي هيراطي وديموطي، أصح من تعريبهما الشائع بكلمتي هيراطيقي وديموطيقي، حيث تكفي ياء النسبة العربية للتعبير عن مقطع النسبة Ic في التسمية الإغريقية أو الأوروبية.

"ألف" أو "أليف"، وكان يرمز بصورته الأولى إلى رأس ثور، والباء حرفها الثاني الذي رمزت صورته الأولى إلى هيئة بيت، وحرف الجيم حرفها الثالث الذي لم يكن غير اختصار لكلمة جمل واختصار لهيئة رأس الجمل ... وهلم جرًّا. واهتدى المصريون المبدعون من أهل الفترات الأخيرة للألف الرابع ق. م إلى جانب علامات الكتابة وحروفها إلى تصوير رموز مفردة مبسطة عبروا بها عن العشرات الحسابية ومضاعفاتها أي المائة والألف وعشرة الآلاف ومائة الألف وألف الألف "أو المليون"1. وأفضى استخدامهم لها إلى سهولة ضرب وقسمة العشرات ومضاعفاتها، وسهولة تسجيل المجاميع العددية الكبيرة في وحدة مرتبة متصلة تستطيع العين أن تلم بها في نظرة واحدة. واقترن التطور الفكري لابتداع الكتابة والعلامات الحسابية، بتطور صناعي لصناعة صفحات البردي البيضاء من لحاء نبات البردي، واستخدام المداد وفرش البوص الرفيع للكتابة عليها وعلى لحاف الأحجار وكسر الفخار، فضلًا عن استمرار نقش النصوص التقليدية على اللوحات والجدران الحجرية وعلى بطاقات ولوحات الخشب والأبنوس والعاج. وأفضى ذلك كله إلى تيسير تناقل معارفهم من جيل إلى جيل، وإلى تنظيم أعمالهم الحكومية وحفظ معاملاتهم الشخصية، وتيسير تصميم مشروعاتهم المعمارية.

_ 1 K. Sethe, Van Zahlen And Zahlworten Bel Den Aegyptern …., 1916; K. Vogel, Dle Grwdlagen Der Aegyptischen Arithmetik, 1929; O. Neugebauer, Arithmetik And Rechentechnik Der Aegypter, 1931; Etc ….

الحكام والإدارة

الحكام والإدارة مدخل ... الحكام والإدارة: توفرت لمصر معرفة الكتابة، في نفس الوقت الذي توفر لها فيه الاعتباران الآخران اللذان أسلفناهما، وهما تجانس الحضارة ووحدة الحكم والسياسة في الدولة، خلال القرن الثاني والثلاثين ق. م أو نحوه، وبدأ فيها منذ ذلك الحين عصر جديد سمي بعدة أسماء اصطلاحية، وهي اسم عصر "بداية العصور التاريخية"، على أساس وجود المصادر التاريخية الخطية بين آثاره نتيجة لبداية شيوع الكتابة فيه، وبداية استقرار الوحدة السياسية والنظم الإدارية في أيامه كأساس لما أتى بعدها. واسم "عصر بداية الأسرات" على اعتبار أنه أول عصر يمكن تأكيد استقرار وراثة عرش مصر منذ أيامه بين أسرات حاكمة ارتبط ملوكها بعضهم ببعض بروابط القرابة وصلة الدم. ثم اسم "العصر العتيق" إشارة إلى قدمه البعيد وسبقه لعصور الدولة القديمة. واسم "العصر الثني" نسبة إلى مدينة ثني التي يبدو أنها كانت مسقط رأس أوائل ملوكه وأكبر عواصم ملكهم المتحد في الصعيد بعد مدينة نخن. وتضمن العصر عهود الأسرتين الحاكمتين الأوليين من أسرات مصر الفرعونية. وارتبط تأسيس حكم الأسرة الأولى منهما بثلاثة أسماء ملكية، وهي أسماء: نعرمر وعحا ومنى. وقد دارت حولها مناقشات تاريخية حديثة نتجاوز عن تفاصيلها ونكتفي هنا عنها بما انتهينا إليه بشأنها في كتابنا عن حضارة مصر القديمة

وآثارها، وهو احتمال دلالة الأسماء الثلاثة على ملك واحد بدأ حكمه باسم نعرمر "وقام بما صورته له مناظره المنوه عنها في ص74 - 76"، ثم تلقب بلقب عحا أي المحارب اعتزازًا بجهوده الحربية في توطيد ملكه، كما تقلب أخيرًا بلقب منى، ربما بمعنى المثبت أو الراعي أو الخالد؛ تنويهًا بنجاحه في تثبيت ملكه ورعايته له وخلود اسمه فيه. ثم تتابع بعده ستة ملوك من أسرته عرفوا بأسماء: جر، وواجى، ودن، وعنجاب، وسمرخت، وقاي عا، مع مترادفات كثيرة لألقابهم لا تزال هي الأخرى موضعًا للجدل اللغوي والجدل التاريخي حتى الآن. وتتابع بعد هؤلاء ملوك الأسرة الحاكمة الثانية، وكانوا ثمانية ملوك على أقل تقدير إن لم يكن أكثر اشتهروا على الترتيب بأسماء: حوتب سخموي، ونبي رع، وني نثر، وبر إبسن، وونج، وسنج، وخع سخم، وخع سخموي، وكان لكل اسم تعبيره الذي يدل به على شخصية صاحبه وعلى روح عصره1. وسلك أوائل أولئك الفراعنة سياسة حكيمة في الربط بين الصعيد وبين الدلتا بعد اتحادهما، عن طريق المصاهرة وحسن السياسة وازدواج الألقاب والاشتراك في عبادة الأرباب. فتزوج أولهم "نعرمر" بإحدى سليلات البيت الحاكم القديم في الدلتا، وهي نيت حوتب، وتزوج رابعهم دن باميرة أخرى من الدلتا تدعى مربت نيت. وتمتعت كل من الملكتين بمكانة طيبة دلت عليها الآثار الباقية باسميهما من عهديهما، وربما تكرر الأمر نفسه بالنسبة لملوك آخرين وزوجاتهم. وسمح الفراعنة للوجه البحري بشخصية متميزة في إدارته تحت ظل التاجين، فخصصوا له بيت مال وحامل أختام وأهراء غلال ودار وثائق ... ، وانتسبوا إلى ربته الحامية "واجة" وإلى شعاره شاعر النحلة "بيت" جنبًا إلى جنب مع انتسابهم إلى ربة الصعيد "نخابة" وشعاره "سو". وشغف أغلبهم بإقامة الأعياد الدينية الملكية والتقليدية، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من مؤسسي الدول الجديدة؛ رغبة في اتخاذ مناسباتها سبيلًا لاكتساب الشهرة وتجميع الخواص حولهم وتذكير الناس بهم، مع إظهار تقواهم وكرمهم خلال احتفالهم بها. فرددت حولياتهم احتفاءهم بأعياد آلهة كثيرة مثلت أغلب مناطق دولتهم ورمزت إلى أغلب وجوه النشاط في عصرهم. وكان أهم أعيادهم الخاصة أعياد ارتقاء العرش وأعياد التجلي كل عامين2. وأعياد ذكرى توحيد الوجهين. ثم عيد السد أو "حب سد" على حد تعبير المصريين، ربما بمعنى عيد النهاية، وكان من المفروض أن يحتفل الفرعونية بعد ثلاثين عامًا من بداية حكمه أو من بداية اختياره لولاية العهد3، ويقيم فيه مراسيم وطقوسًا يشكر أربابه بها على ما وهبوه من طول العمر وطول الحكم، ويعتقد هو أو يعتقد رعاياه أنه يستطيع عن طريق هذه الطقوس والمراسيم أن يجدد بأسه ويستزيد من القدرة على مواصلة الحكم. وجرت العادة على أن يتحين الفرعون مناسبة هذا العيد ويقيم لأربابه معابد وهياكل جديدة ويقدم لهم تماثيل جديدة عساهم يحققوا أمله ويؤيدوا حكمه. ولم يكن الفراعنة يلتزمون بفترة الثلاثين عامًا دائمًا، وإنما كانوا يتحينون لإقامة هذا العيد فرصة كل نصر عظيم، أو خلاص من شدة خطيرة. وربما أعادوه أكثر من مرة طالما توافر لهم امتداد الحكم وسعة الإمكانيات.

_ 1 راجع مناقشتنا لها في: حضارة مصر القديمة وآثارها – جـ1 – ص251 - 258. 2 Palermo Rt. II, 9, III, 3, IV, 5, 9; Urk. I, 239; Breasted, Ancient Records, I, 99, 105, 114, 116, 119, 121, Etc. 3 K. Satbe, Untersuchungen, I, 10; Zaes, XXXVI, 64.

أوضاع الحكم

أوضاع الحكم: يعتبر عصر بداية الأسرات عصر تكوين لنظم الإدارة المصرية. ويعني التكوين هنا معنيين: أحدهما أن العصر كان محدود المطالب والوسائل بالنسبة إلى العصور التي تلته، ولهذا اكتفى بما ناسب دنياه الخاصة من النظم والمناصب والإدارات. وثانيهما أن تنظيمات العصر على الرغم من بساطتها أصبحت أساسًا لأغلب التنظيمات التي قامت بعدها وتطورت عنها في عصور الدولة القديمة. الفرعون: كان الفرعون هو رأس الدولة قولًا وعملًا، يرأس الإدارة والجيش وأمور الدين، وتنسب السلطات العليا إلى قصره المسمى "برعو" أو "برنيسو". وصورت النصوص سلطانه مطلقًا بما يزيد عما عبر به بعد آلاف السنين لويس الرابع عشر ملك فرنسا في عهد "الملكية المقدسة" بمثل قوله "أنا الدولة والدولة أنا". على أنه ليس من الضروري أن تؤدي هذه السلطة المطلقة للفرعون المصري إلى الإسراف في الربط بينها وبين ربوبية لازمة أو سلطة غاشمة كما يتردد أحيانًا. فلفظ "فرعون" لم يكن في بدايته أكثر من تعريف اصطلاحي إداري، كتب في صيغته المصرية "برعو" بمعنى البيت العالي أو القصر العظيم، قصر الحكم الأعلى الذي يتجه شعبه إليه بمشاعر الأمل والرهبة والولاء. ثم امتد مدلول لفظ "برعو" على القصر وساكنه. ويمكن فهم هذا بمقارنته بما شاع في العصر العثماني، بعد عشرات القرون، من التعبير بلفظ "الباب العالي" عن قصر السلطنة، وبالتالي عن السلطان نفسه "مع تقدير معنى "باب" في اللغتين الفارسية والتركية"، بل ومقارنته لما تذكره لغة الصحافة الحديثة عن سياسة "البيت الأبيض" في الولايات المتحدة وتعني بها سياسة رئيس الدولة فيها وجهازه الأعلى. وأخيرًا شاع لفظ "فرعون" مع الاسم الشخصي لكل ملك مصري "كما شاع فيما بعد لقب "قيصر" على كل حاكم أعلى للرومان والبيزنطيين، وشاع لقلب "نجاشي" لكل ملك حبشي". وحرفت النصوص العبرية لفظ برعو إلى "فرعو" "نظرًا لاختلاط نطق الباء مع الفاء في بعض اللغات القديمة"، ثم أضافت اللغة العربية إليه نونًا أخيرة. وهكذا لم يكن لفظ فرعون "وجمعه فراعنة" يدل على جنس أو على طغيان الحكم، كما يشيع خطأ أحيانًا. وإذا وصف القرآن الكريم والتوراة الفرعون الذي عاصر موسى عليه السلام بالتجبر والطغيان وادعاء الربوبية، فعلينا أن نصدق ونؤمن بكل ما وصف به، ولكن ليس علينا أن نعمم صفاته هذه على كل الفراعنة، لا سيما وأن القرآن الكريم لم يأب أن يصف عزيز مصر وملكها اللذين آويا يوسف عليه السلام بأوصاف طيبة. وما من شك في أن الحكام في كل مجتمع وكل زمان، وأيًّا ما كانت ألقابهم، يتعاقب منهم العادل والظالم، الصالح والطالح. وأخيرًا وعلى الرغم من أن تسمية "الفراعنة" بهذا المفهوم العلمي لا ضير فيها، وأن الفراعنة قد مثلوا جزءًا من صميم الشعب المصري فعلًا إلا أنه لم يكن من المنطق تعميم هذه التسمية على المصريين القدامى جميعهم. فمن المسلم به أن تسمية "القياصرة" لم تطلق على الرومان والروم كلهم، كما لم تطلق تسمية "الأكاسرة" على الفرس كلهم، وإنما على ملوكهم. وتلقب كل فرعون بعدة ألقاب وتسميات عقد الصلة بها بين شخصه وبين مقدسات وطنه؛ لتأكيد شرعية سلطانه الديني والدنيوي. واستقر من هذه الألقاب والتسميات خلال عصر بداية الأسرات،

ثلاثة قد يختارها الفرعون على صورة واحدة أو يجعل كل واحد منها مختلفًا عن الآخر1، وهي: الاسم الحوري: وكان يؤكد صلة الفرعون بالمعبود حور ويجعله وريثًا له، يحكم باسمه ويتجسد شخصيته. والاسم النبتي: وكان يؤكد صلة الفرعون بالربتين الحاميتين القديمتين، نخابة حامية الصعيد التي رمزوا إليها بأنثى العقاب، وواجه حامية الوجه البحري التي رمزوا إليها بحية ناهضة. ثم الاسم النسوبيتي: وكان يؤكد صلة الفرعون بالشعارين المقدسين القديمين، "سو" شعار مملكة الصعيد القديمة، و"بيت" شعار مملكة الدلتا القديمة، ويؤكد بالتالي اعتباره الوارث الشرعي لكل من المملكتين القديمتين صاحبتي الشعارين. وأدى تعدد أسماء الملوك وألقابهم إلى صعوبة تعيين تتابعهم وصعوبة التثبت من شخصياتهم عن يقين، فقد تحتفظ قائمة من قوائم الملوك باسمائهم الحورية وحدها، وتذكرهم قائمة أخرى بأسمائهم النبتية وحدها، بينما تهتم الآثار القائمة بذكر أسمائهم النسوبيتية أكثر من غيرها2. وتشتد هذه الصعوبة في عصر بداية الأسرات بالذات، نظرًا لقدمه البعيد وقلة الآثار المتبقية من أيامه، فضلًا عن إيجاز نصوصه. واعتمد الإشراف الإداري خلال هذا العصر على بعض طوائف من كبار الموظفين تداخلت اختصاصاتهم بعضها مع بعض، واعتاد أفرادها على أن يجمعوا بين أكثر من لقب واحد من ألقابها، وكان منهم تبعًا لأهم ألقابهم التي سجلوها على بطاقاتهم الصغيرة وعلى أختامهم ومختومات مقابرهم: حملة الأختام ورجال بيت المال، وحكام الأقاليم، وكبار رجال البلاط، ورؤساء الكتاب3. وعرف العصر بيتين للمال سمي أحدهما برحج بمعنى بيت الفضة أو البيت الأبيض أو بيت المال الأبيض "مع تقدير أن المال بمعنى النقود لم يكن معروفًا"، واختص بضرائب الصعيد ودخله وخرجه. وسمي الآخر بردشر أي البيت الأحمر، واختص بضرائب الوجه البحري ودخله وخرجه. ووجود بيتين للمال في ذلك العصر يمكن أن يفسر بأحد فروض ثلاثة وهي: الرغبة في تيسير الإشراف على موارد البلاد الواسعة بتوزيع مسئولية هذا الإشراف على إدارتين كبيرتين تختص إحداهما بموارد الصعيد وتختص الأخرى بموارد الوجه البحري، أو ما يحتمل من أن ملوك العصر الأوائل حرصوا على أن يحتفظوا للوجه البحري بشخصية اسمية ترضي أهله وتنسيهم أنهم ذابوا في وحدة البلاد الكبيرة، ولهذا أفردوا لهم بيت مال خاص نسبوه إلى اللون الأحمر "رمزًا فيما يحتمل إلى لون تاجهم القديم". أو أن البيتين كان لهما وجودهما المستقل فعلًا قبل توحيد البلاد في بداية عصر الأسرة الأولى، فأبقى الملوك عليهما مراعاة للتقاليد التي حتمت عليهم الاحتفاظ بالتاجين

_ 1 See, A.Moret, Du Carcutért Religieux De La Royalité Pharaonique, Paris, 1912 ; A.H. Gardiner, Egyption Grammar, 71-76, H. Muller -Die Formale Entwicklung De, Titulatu, Der Aegyptischen Koenige, 1938. 2 See, K, Sethe, Zaes,. XXXV, 1 F. 3 See, Pctrie, Royal Tombs, I, Ii: R. Weill, Les Lle Et Liie Dynasties Egyptiennes, Paris, 1908; W. B. Emery, Great Tombs Of The First Dynasty, Cairo, 1949 F; With Zaki Saad, The Tomb Of Hemaks, Cairo, 1938; Hor –Aha, Cairo, 1939; And Paitly, J. Pitenbe, Historire Das Institutions Et Du Droit Privé De L'anc. Egypte, I, Bruxeller, 1932.

والانتساب إلى الربتين والشعارين. واعتمدت موارد بيتي المال على تحصيل الضرائب العينية من محاصيل الأرض وإنتاج المصانع وتاج الماشية وجلودها ومحصول المصايد، فضلًا عما كانت الحكومة تستثمره بواسطة رجالها من المحاجر ومناجم النحاس والذهب، وما تتولى أمره من المتاجر الخارجية أو تعود به جيوشها من الأسلاب والمغانم. ثم يتولى البيتان الإنفاق من هذه الموارد على مشروعات الدولة ومشروعات الفرعون ومرتبات الموظفين العينية بناء على توجيهات القصر الملكي لكبار موظفيه بطبيعة الحال. وقام حكام الأقاليم بدورهم في تنفيذ سياسة حكومتهم المركزية ومشروعاتها، وحمل كل منهم لقب "عج مر" بما يعني معنى القائم على حفر الترع ليؤكد أن إشراف الحاكم على شئون الري والزراعة من أهم ما يتكفلون به ويسألون عنه من أعمال. ولم يكن الإشراف على شئون الري والزراعة من واجبات حكام الأقاليم وحدهم، وإنما حرص الملوك أنفسهم على أن يجعلوه من أولى مهام حكومتهم المركزية "وانظر ص73". وأشرف رجال البلاط الملكي على إحصاء عام كانوا يجرونه كل عامين، ويخرجون في السفن حين إجرائه ويتنقلون في النيل من إقليم إلى إقليم في موكب عبرت الحوليات عنه باسم موكب حور أو موكب مراكب حور1. كان إحصاء لا زلنا على غير بينة من أمره، فقد يكون إحصاء لمساحات الأراضي المنزرعة وموارد المناجم كما يفهم من نصر في حوليات حجر بالرمو، أو إحصاء للسكان "وممتلكاتهم" كما يظن الأستاذ برستد، أو إحصاء للماشية لتقدير نصيب الدولة منها ومن جلودها، كما نصت على ذلك نصوص الدولة القديمة فيما بعد2. وعنيت الحكومة المركزية برصد ارتفاع فيضان النيل عامًا فعامًا، حتى تتخذ الإجراءات المناسبة لمواجهة ارتفاعاته، وتنظيم الانتفاع بمياهه، وحتى تقدر الضرائب الزراعية العينينة على أساس مدى انتفاع الأراضي الزراعية به. ويحتمل أن عملية الرصد الرئيسية كانت تتم على أساس مقياس للنيل يجاور العاصمة منف "وربما في حي الروضة أو في حي مصر العتيقة حاليًا، أي حيث تعاقبت فيما بعد مقاييس النيل في العصور الإسلامية". وعرف الكاتب المصري القديم بلقب "سش" وكان لقبًا يحمل في طياته معنى المثقف ومعنى من يحسن الكتابة فضلًا عن معنى الموظف، وكان للكتبة دورهم الرئيسي في بيوت المال بما تستدعيه أعمالها من جباية وتسجيل وحساب وتوزيع، وفي القصور الملكية لكتابة الأوامر والرسائل وتسجيل الدخل والخرج فيها، وفي المعابد الكبرى. ولم يرد النشاط الداخلي إلى جهود الموظفين الإداريين وحدهم، وإنما كان للفنيين والمعماريين أثرهم

_ 1 Palermo, Rt. Iv, 3, 5, 7, 9, 11, 13, 15, And See R. T. I, XVII, 26, 29; Unters., III, 64, F., 68. 2 Palermo, V, 4, 5; J. H. Breasted, Ancient Records, I, 6, 106; Gardiner –Peet, Sinal. Pl. VII, 13; Urk. I, 16, 55; Rec. Tr., XXV, 73; Sethe, Unters, III. 79f.

في أعمال الإنشاء والتعمير. وقد اتخذ المعماريون ربة راعية سميت "سشات"، وكانت في الوقت نفسه راعية للكتاب والحاسبين، وقيل عنها إنها كانت "أول من خط وحسب". وتدل رعايتها للمعماريين والكتبة والحاسبين على حاجة المنشآت إلى مجهودات هذه الطوائف جميعها. وتضمنت نصوص العصر ألقابًا مدنية كثيرة أخرى حملها نظار القصور الملكية والسكرتاريون أو المطلعون على الأسرار على حد التعبير المصري القديم، والمشرفون على المزارع والحدائق الحكومية. وذلك إلى جانب ألقاب ومراتب دينية كثيرة جعلت للكهنوت أهمية كبيرة تحت إشراف الدولة ورعاية الفرعون. واستمتع كبار الموظفين في عصر بداية الأسرات بمكانة لا بأس بها إلى جانب فراعنتهم. وكان أكبر لقب ظهر لهم في نهاية هذا العصر هو لقب "نبي خرنيسو" أي الأول لدى الملك أو الأول بعد الملك. ونم عن ثرائهم ما تركوه من مقابر ضخمة لا زالت أطلاها باقية في سقارة وغيرها. فاحتوت مقبرة "حماكا" أمين أختام الوجه البحري في عهد "دن" رابع ملوك الأسرة الأولى، بسقارة، على اثنتين وأربعين حجرة فوق سطح الأرض وتحتها، وتضمنت من المحتويات ما دلت به على ثراء صاحبها ورفاهية أيامه1 "راجع ص92". رأينا كيف تمتع ملوك عصر بداية الأسرات بقداسة نظرية واسعة وسلطان سياسي عريض، نمت عنهما ألقابهم وتمجيد كبار موظفيهم لهم. بيد أنه على الرغم من ذلك كله لم تخل عهودهم من خصومات خفية ومنازعات صريحة بين المستحقين للعرش والطامعين فيه، وربما لم تخل من اضطرابات حدودية أيضًا. فقد شهدت أواخر أيام الأسرة الأولى خصومة أو أكثر من خصومة أسرية في عهود فراعنتها الثلاثة الأواخر: عنجاب وسمرخت وقاي عا. وكانت خصومة نم عنها أن رجال سمرخت أزالوا بإذنه أسماء سلفه عنجاب مما وصلت أيديهم إليه من آثاره وآثار أمه مريت نيت. ثم تعمد رجال قاي عا بدورهم أن يمحوا أسماء سلفه سمرخت من أغلب آثاره2. وليس من المستبعد أن الملوك الثالثة كانوا إخوة من أمهات مختلفات، أو كانوا ينتمون إلى فروع مختلفة من الأسرة الحاكمة ادعى كل فرع منها أحقيته في العرش دون غيره من الفروع. ولم تهدأ المطامع على الحكم إلا ببداية عصر الأسرة الثانية التي تسمى أول فراعنتها باسم يؤكد عودة الاستقرار والهدوء في عهده، وهو "حوتب سخموي" الذي يعني "رضي القويان" أو "استقر القويان"، ويرمز إلى رضا الربين القويين حور وست بما انتهت إليه أحوال البلاد في عهد صاحبه. وافترض الباحثون فيي وإدوارد ماير ونيوبري3 أن خصومة من نوع آخر حدثت في النصف الأخير من عصر الأسرة الثانية، وكانت فيما رأوا خصومة سياسية دينية تعصبية في آن واحد، شذ فيها الملك بر إبسن عن سنة أسلافه الذين اعتادوا على أن يصوروا الصقر رمز المعبود حور فوق أشكال واجهات القصور التي

_ 1 W. Emery-Zaki Saad, The Temb Of Hemaka, Cairo, 1938. 2 W. F. Petrie. The Royal Tombs, I, P. Iv, 5; VI, 9-10. 3 R. Weill, Rec. Tr., XXIX, 29 F.; Ed. Mayer, Geschichte, 213; Newberry, Anc. Egypt, 1922, 40 F.

تضمنت أسماءهم، وتخلى عن الانتساب إليه، وتعصب للإله ست رب الصعيد القديم، وسمح لرجاله بأن يصوروا ست هذا بتاج الصعيد وصولجانه وبيئة شبه بشرية على أختامه. ويصوروا رمزه فوق صورة قصره عوضًا عن رمز حور، وذلك مما يعني في اعتقاد أولئك الباحثين أنه أراد أن يؤكد للناس أنه وريث ست دون غيره وأنه لا يعترف بالفضل لمن سواه، وأنه تخلى عن الانتساب إلى حور نتيجة لخصومة عنيفة بينه وبين مناطق الدلتا التي تعصب أهلها لربهم القديم حور. ولا تخلو هذه التخريجات من وجاهة، ولكن نضيف إلى جانبها أننا استشهدنا في كتابنا عن حضارة مصر القديمة وآثارها، بآثار أخرى متفرقة يمكن إرجاعها إلى عهد بر إبسن نفسه قد توحي بأنه لم يكتف بأن ينتسب في صوره إلى المعبود ست وحده، وإنما انتسب كذلك في أحد أسمائه إلى المعبود حور، ولو لفترة ما من حكمه، ومجد إلى جانبهما إله الشمس أيضًا1 باعتباره أحد من تولوا رعاية عرش البلاد المقدس القديم، ولو أننا لا نستطيع أن نقف بقضية بر إبسن عند هذا الحد، فقد ظلت شبهاتها باقية بعد وفاته، وأرخ رجال خليفته "خع سخم" لأحد أعوام حكمه باسم عام الحرب وإخضاع الدلتا، وصوروا الربة نخابة حامية الصعيد تستقر بساقها اليسرى فوق دائرة تشبه الختم، وتقبض بمخلبها الأيمن على نباتي الصعيد والدلتا متعانقين، وتتقدم بهما إلى اسم الملك الذي حل في المنظر محل صورته ونقش داخل سرخ وقف فوقه صقر يرمز إلى المعبود حور متوجًا بتاج الصعيد؛ دلالة على سيطرته على الوجهين واجتماعهما تحت طاعته وطاعة ربته الحامية2. وصور أحد فناني هذا الملك على قاعدتي تمثالين صغيرين له أعدادًا من أسراه وقتلاه، وصور معهم نبات البردي الذي يرمز عادة إلى أراضي الدلتا. وبالجمع بين أطراف هذه المشكلة في عهدي كل من بر إبسن وخع سخم ظهر رأي جديد3 يمكن أن نرتب من ناحيتنا الجوانب المقبولة منه بأنه حدث في عهد الملك في نثر السابق لعهد بر إبسن والذي حكم ما بين عشرين وثلاثين عامًا وكان مصلحًا، أن هاجمت بعض قبائل سكان الصحراء الغربية أرض الدلتا واحتلوها عنوة، وانفصلوا بها عن الصعيد. فلما أعقبه بر إبسن لم يحكم غير الصعيد، ولكنه اعتزم الكفاح وتسمى باسم "سخم إب" أي الجسور، وتلقب بلقب يعني معنى "الذي خرج للحق" أو معنى "انبعث النظام"، واستمسك في أغلب أحواله برب الصعيد ست باعتباره من أرباب الحرب "وربما استنصر معه من أرباب مصر الكبار الإلهين رع وحور"، واحتفظ لنفسه بلقب نيسو بيتي ولقب نبتي، أي ظل يحتفظ بانتسابه إلى شعار الدلتا وربتها إلى جانب شعار الصعيد وربته4. ولكنه لم ينته في كفاحه إلى شيء، فخلفه خع سخم واتخذ

_ 1 Abydos, Iii, Pl. Ix, 3; Petrie, History Of Egypt, 10 Ed., 32-33; Asae, Xxviii, Pl. Ii. 2, 3; Maspero, Revue Archeologique, 1898, 307, L. R. I, 24; G. Mueller, Die Formale Entiwicklung Der Titulatur Der Asgyptischen Koenige, 1938; M. B. Grdsloff, Asae, Xliv, 295; Spiegel, Das Werdender Alt-Aegyptischen Hoch-Kulur, 216. 2 Hierakompolis, I, Pls. Xxxviii, Xxxix-Xli. 3 See, J. Spiegel, Op. Cit., 216. 4 Royal Tombs, I, Pls. Iv, 7; Xxii, 190: Xxxix, 97.

ثوب ممثل حور واستنصره، ولم يجد بأسًا في أن يعترف بالأمر الواقع في بداية حكمه، فظهر في تماثيله بتاج الصعيد وحده، وصور رجاله المعبود حور متوجًا بتاج الصعيد تارة وبلقب حور السماء مرة أخرى1. ثم هاجم أراضي الدلتا وقاتل قبائل البدو المسيطرين عليها قتالًا عنيفًا حتى انتصر عليهم في نهاية عهده، وعندما أراد رجاله أن يعبروا عن انتصاره عليهم أشاروا إلى الدلتا باعتبارها الأرض التي كان بدو الحدود الغربية يحتلونها وليس باعتبارها وطنهم الأصيل أو أرض الخصوم الفعليين. وأخيرًا أكد الفرعون خع سخموي آخر فراعنة الأسرة الثانية إتمام وحدة البلاد في عهده، بأكثر من وسيلة، فصور له رجاله المعبودين حور وست فوق أشكال واجهة القصر التي تضمنت اسمه؛ دلالة على تآلفهما وتأكيدًا لانتسابه إليهما. وتصرف الفنانون في تصويرها عنده بأوضاع مختلفة، فصوروهما متقابلين متقاربين يكاد كل منهما يقبل الآخر دلالة على المحبة بينهما، وصوروهما على هيئة صقرين إشارة إلى أن صورة كل منهما يمكن أن تدل على صورة الآخر، أو إشارة إلى اجتماع شمل حور الصعيد وحور الدلتا مرة أخرى. وقد سجل خع سخموي وحدة الربين والوجهين عن طريق اسمين من أسمائه، وهما: "خع سخموي" الذي يمكن ترجمته بمعنى شع القويان أو تجلي القويان، وقد يكون القويان هما الصعيد والدلتا أو معبوديهما، والاسم الآخر اسم مركب يمكن ترجمته بمعنى "اطمأن السيدان به". والسيدان هنا هما حور وست ربا الصعيد والدلتا2. غير أنه على الرغم من منطقية القرائن السابقة عن أحداث النصف الثاني من عصر الأسرة الثانية، لا ننكر أن حقيقة الأوضاع فيه لا زالت مشوبة بشيء من الغموض، ولا زالت تتطلب قرائن أثرية جديدة تجلو غموضها. وعلى أية حال فإنما ننتهي من هذه المشكلات كلها إلى أن الفراعنة الأوائل الذين نسبتهم نصوصهم إلى الأرباب وصوبت لهم قداسة واسعة، لم تخل أيامهم مما يحدث عادة في مختلف الشعوب ومختلف العصور من تنازع أسري وشقاق داخلي ومتاعب قومية. لولا أن أيام ذلك التنازع وهذا الشقاق وتلك المتاعب كانت لحسن الحظ قصيرة وقليلة إذا قورنت بأمثالها في حياة الشعوب القديمة الأخرى. وظلت أيام الاستقرار والسلام والوحدة هي الغالبة، وبلغت البلاد في ظلها بحكامها ومحكوميها ما بلغته من الرقي النسبي في الفكر والمادة، والاتساع النسبي في النشاط الداخلي والخارجي معًا.

_ 1 Hierakonopolis, I, 48, Pl. LVIII. 2 But Cf. R. Weil, Recherches …, I, 318-319; "Lever Des Deux Scepitre", Et "Don't L'essence Est Consitiuée Par Les Deux Horus Réunis".

في العمران والفكر

في العمران والفكر: تركزت وجوه النشاط السياسي والديني في عصر بداية الأسرات، في ثلاث مدن كبيرة، وهي نخن وثني وإنب حج1. وسوف نكتفي هنا بالحديث عن "إنب حج" التي اشتهرت فيما بعد باسم "منف"، وسوف نستخدم هذا الاسم الأخير للتعبير عنها فيما يلي نظرًا لشيوعه.

_ 1 راجع المؤلف عن هذه المدن الثلاثة: حضارة مصر القديمة وآثارها – ج1 ص279 - 287.

كانت إنب حج أو "منف" ثالثة المدن الكبرى في عصر بداية الأسرات من حيث الزمن، ولكنها ظلت أوفرها مجدًا وأبقاها شهرة. وتعددت الاحتمالات حول ترجمة اسمها الأول إنب حج، فهو قد يعني الجدار الأبيض، أو الحصن الأبيض، أو السور الأبيض، أو الأسوار البيضاء، ويمكن التعبير به عنها كمدينة بألفاظ شعرية، مثل الحوراء1، والحصن الأبلق، ... إلخ. أما اسم منف فكان تحريفًا لاسم "مننفر" الذي جد على المدينة بعد هذا العصر بعدة قرون خلال عصر الأسرة السادسة، وكان يخص هرم الملك ببي الأول القريب منها ويصفه بأنه الأثر الجميل أو الاستقرار الأخير، ثم أطلق فيما بعد على المدينة كلها. نشأت المدينة قرب منطقة ذات تاريخ حضاري قديم، قامت فيها في فجر التاريخ حضارات حلوان وطرة والمعادي إلى جنوب القاهرة الحالية. ووقعت غربي النيل وكانت تصلها مياه فيضانه، وقامت لها ميناء نهرية لعلها كانت قرب محطة البدرشين وإن بعدت عنها أطلالها المتأخرة في قرية ميت رهينة الحالية بنحو ثلاثة كيلومترات. ودل على تحول أغلب النشاط الإداري إلى منف منذ أوائل عصر بداية الأسرات، ثلاث قرائن، وهي: احتفال ملوك العصر ببعض أعيادهم الرسمية وأعياد أربابهم فيها، وتأكيد نصوص المذهب المنفي في خلق الوجود "انظر ص88" أنها كانت مركزًا رئيسيًّا للفصل في منازعات العرش والفصل في قضايا الأرباب منذ الأزل القديم، ثم وجود عدد كبير من المقابر الضخمة لكبار موظفي عصر بداية الأسرات في جبانتها سقارة، وقد أنشئوها بطبيعة الحال قرب مقر أعمالهم، وامتازت عن هذه المقابر خمس أخرى تحتمل نسبتها إلى ثلاثة ملوك من الأسرة الأولى وملكين من الأسرة الثانية. وليس من شك في أن العامل الرئيسي في اختيار موقع منف مركزًا للنشاط الحكومي في عصر بداية الأسرات هو توسطها بين النهاية الشمالية للصعيد وبين النهاية الجنوبية للدلتا. وسهولة الإشراف منها على شئون الوجه البحري بخاصة. واستنتج الأستاذ كورت زيته مما ذكرته النصوص الدينية عنها، ومما رواه المؤرخان هيرودوت وديودور بشأنها وسمعاه من المصريين الذين عاصروهما2، أن أحد فروع النيل كان يطغى على منطقتها فيجعلها كالمستنقع الكبير ويجعلها أرضها أشبه بالجزيرة الطافية أو الأرض الناهضة التي سميت "تاثنن" في النصوص المصرية القديمة. فعمد أول ملوك العصر، أو عمد مهندسوه وعماله بمعنى أصح، إلى تحويل فرع النيل عنها ناحية الغرب، ثم شقوا قناة أخرى عن قرب منها ناحية الشمال، وبذلك جفت منطقتها، وتوفرت لها حماية طبيعية مناسبة، فأصبح النيل يحميها من الشرق وفرعه يحميها من الغرب والقناة الجديدة تحميها من الشمال, ولم يكتف منشئ المدينة لها بالحماية الطبيعية وحدها، وإنما سورت بسور أو أسوار كبيرة أحاطتها من كل جانب فيما خلا ناحية الجنوب التي واجهت الصعيد، فقد ظلت مفتوحة. ويمكن تعليل تحصينها حينذاك بأحد غرضين، فهو قد يكون مجرد إجراء عادي لتعيين حدودها وتمييزها

_ 1 Papyrus Sallier, Iv, Vs., I, 1 F. 2 Herodotus, Ii, 4, 99; Diodorus, I, 50; Sethe, Unters, Iii, 125. ويختلف هذا التصوير عما تذكره بعض المؤلفات من أن منى أول ملوك الأسرة الأولى قد حول مجرى النيل عن منف. إذ إن تحويل مجرى النيل ليس بالأمر اليسير ويصعب تخيله لأهل ذلك العصر البعيد.

عن المجتمع الريفي المحيط بها، شأنها في ذلك شأن غيرها من المدن الرئيسية في عصرها، أو يكون تحصينًا مقصودًا لذاته، جعله أوائل ملوك الأسرة الأولى ضمانًا لأمن العاصمة من الانتقاضات المحتملة من الوجه البحري الذي كان قد أدمج لتوه في الوحدة السياسية الجديدة تحت زعامة ملوك من الصعيد. ونسب المصريون الألوهية الكبرى في منف إلى بتاح، وكان من أوائل المعبودات التي صورت بصورة بشرية منذ ما قبل عصر بداية الأسرات، وظل محتفظًا بها حتى نهاية عصور التاريخ المصري القديم. وكان يشاركه شهرته في مدينته معبود آخر وهو "سكر" الذي اعتبره أتباعه من رعاة الحرث والزراعة وتوهموه يسكن تحت الأرض فأصبح من ثم راعيًا كذلك لمن يسكنون تحتها في منطقته وهم الموتى، وكان له مزاره في جبانة سقارة التي سميت باسمه. وضرب فقهاء المدينة بسهم وافر في رقي الفكر والعقيدة، وصور هذا الرقي نص لوحة حجرية عرفت اصطلاحًا باسم لوحة شاباكا، وهي لوحة نقش نصها خلال عصر الأسرة الخامسة والعشرين في نهاية القرن الثامن ق. م. وجدد كاتبها بإذن ملكه شاباكا نصًّا قديمًا كتبه أصحابه على الجلد أو البردي وأوشكت الأرضة أن تأتي عليه، وكان نصًّا تضمن مذهب مفكري منف في نشأة الوجود، وعرف اصطلاحًا تبعًا لذلك باسم المذهب المنفي. وربما تجدد كتابته عدة مرات منذ بداية الأسرات حتى ما قبل عهد شاباكا، وإن لم يعثر بعد للأسف على أي من نسخه القديمة. وود زعماء منف أن يكفلوا لمدينتهم زعامة الفكر والدين والأدب إلى جانب ما توافر لها من زعامة الإدارة والسياسة، وابتغوا أن يقنعوا الناس بأنه كان لإله مدينتهم الأثر الأصيل القديم في نشأة الوجود والموجودات، وهو الإله بتاح الذي قد يعني اسمه معنى الصانع أو الخلاق، ولقبوه بلقب "تاثنن" بمعنى "رب" الأرض العالية أو الناهضة. فأدلوا برأيهم في منافسة وتعديل مذهب الخلق القديم الذي نادت به مدينة أونو المجاورة لمدينتهم، والذي تحدث علماؤها فيه عن ماض بعيد لم تكن فيه أرض ولا سماء ولا بشر، وما من دودة أو علقة، وما من حس أو حسيس، وما من موت أو حياة، وما من نزاع أو خصام، وإنما خضم مائي أزلي واسع حوى بين طياته عنصر الحياة لكل شيء، وهو "نون" الذي خرج منه الإله الخالق أتوم ثم تعاقب بعده بقية التاسوع المقدس "راجع ص65". وتدبر مفكرو منف عقائد أخرى تتصل بديانة عصرهم وسياسته، ثم خرجوا على الناس بمذهب جديد يصطبغ بالمعنوية أكثر مما يصطبغ بالمادية، وجعلوا صلبه الدين وأكسبوه إهاب التاريخ. وردوا فيه خلق الوجود وما احتواه إلى قدرة عاقلة مدبرة آمرة، وتمثلوا هذه القدرة العاقلة الآمرة في إلههم بتاح، وأكدوا أنه أوجد نفسه بنفسه، وأبدع الكون ومعبوداته وناسه وحيواناته وديدانه عن قصد منه ورغبة، وأن سبيله إلى الخلق كله كان هو سبيل القلب واللسان. أي الفكر والكلمة، فكرة تدبرها قلبه أو عقله وأصدرها لسانه فكان من أمر الخلق ما كان. وكان لفظ القلب يعني عندهم ما يشمله مثله في اللغة العربية من معاني العقل والفكر والإرادة والضمير، كما عنى لفظ اللسان معنى أداة النطق والأمر والكلام. وأكدوا أنه عن

سبيل القلب واللسان، أو الفكر والكلمة، بدأ سعي الأرجل وحركات الأذرع وخلجات الأعضاء، وصدرت الشرائع وتهيأت الموارد وتعينت العبادات، وحق الأمان لأهل السلام وحق العقاب على أهل الآثام1. وهكذا اتجهوا بفكرة الخالق والخلق في مذهبهم إلى التجريد والمعنوية وعدلوا بها عن مادية التجسيد في مذهب عين شمس، وأوشكوا أن يرهصوا ببعض ما أكدته الكتب السماوية، حين ردوا الخلق إلى القلب واللسان بمعنى الإرادة والأمر، واقتربوا بذلك من قول التنزيل الحكيم {اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولم يعتبروا ربهم خالقًا فحسب وإنما اعتبروه مشرعًا وعادلًا أيضًا. ولم يفسد عليهم سمو تفكيرهم إلاأنهم اعترفوا بوجود أرباب كثيرين إلى جانبه وبرروا ذلك بأنه خلقهم من نفسه وتعهدهم وأمر بعبادتهم والاهتمام بمعابدهم باعتبارهم صورًا منه أو أقانيم له. وإن كان الحقيقة أنهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا مما ألفه أسلافهم وورثوه عنهم من عبادتهم. حفلت مدن عصر بداية الأسرات بعمرانها، وتمثلت قرائن هذا العمران فيما ذكرناه عن أطلال أسوارها وحصونها ومعابدها، كما تمثلت في رسول ونقوش مختصرة صورها أهل العصر على آثارهم الصغيرة، ورمزوا ببعضها إلى واجهات قصور ملوكهم وواجهات أسوارها. وكانت قصورًا كبيرة فخمة، شيدت من اللبن، واستخدم الحجر فيها على نطاق ضيق لإقامة أعتاب الأبواب وأكتافها وللأعمدة. وتعاقبت في أسوارها دخلات عميقة "تسمى اصطلاحًا باسم المشكاوات" تمتد رأسيًّا بارتفاع جدرانها وتتعاقب على جوانب الأبواب، وتبعد كل دخلة منها عن الدخلة التي تليها بمسافة متساوية. وكان الهدف منها أن تقلل حدة الاستقامة في واجهات الأسوار المتسعة، وإذا لونت جوانبها وسطوحها الداخلية وزخرفت برسوم النباتات والزهور احتفظت بألوانها أطول مدة ممكنة وخلعت على مبناها صورة بهيجة مستحبة. ومن المحتمل أن الحراس كانوا يستظلون فيها من الشمس ويحتمون فيها من برد الليل حين الضرورة. وتوسط واجهة كل قصر من هذه القصور مدخلان يرمز أحدهما إلى الصعيد ويرمز الآخر إلى الدلتا؛ أو ثلاثة مداخل: مدخل ملكي رئيسي واسع ومدخلان صغيران على جانبيه2. ويغلب على الظن أن مباني قصور الأمراء وكبار الموظفين، كانت على شيء قريب من فخامة قصور الفراعنة، أو على الأقل لم تكن تقل فخامة وضخامة عن مباني قبور أصحابها التي لا تزال أطلالها باقية. ويبدو أن جدران حجراتها الرئيسية كانت تكسى من الداخل بالحصير الملون الفاخر الذي يقوم مقام الستائر أو

_ 1 See, A. Erman, Ein Denkmal Memphitischer Theologie, 1911; K. Sethe, Dromatische Texte, 1928; H. Breasted, The Dawn Of Concience, 1933, 29 F. ; H. Junker, Die Gotter;Ehre Von Memphls, 1940. وراجع: عبد العزيز صالح: "فلسفات نشأة الوجود في مصر القديمة" – المجلة – فبراير 1959، ص39 - 41. 2 Ajex. Badawy, Le Dessin Architectural Chez Les Anciens Egyptiens, Le Cairo, 1948, 76 F.; Jequier, L'archiecture, 1924; H. Baicz, Die Altogyptische Wandgiederung, 54 F.; W. Wolf, Zaes, Lvii, 129 F.

الطنافس الحالية، وأنها كانت ذات حدائق وأحواض ماء داخلية، وتطل على شوارع متقاطعة ممهدة عبرت عن تناسقها رموز المدن المصورة على آثار عصرها. ولم تبق من أمثال هذه المساكن باقية، ولا تقتصر هذه الظاهرة على مساكن عصر بداية الأسرات وحده، وإنما تنطبق كذلك على أغلب المباني الدنيوية في عصور مصر القديمة، وفيما يعاصرها من مباني الحضارات الأخرى أيضًا؛ نتيجة لعدة أسباب، كان من أهمها: بناء غالبية هذه المباني من اللبن سريع التهدم، وكثرة استعمالها مما كان يؤدي إلى استهلاكها، ثم بناء مساكن العصور المتتالية على أنقاض مساكن العصور السابقة لها. وهكذا لم يتبق شيء منها إلا حيث أدت الظروف على هجران بلدة ما لأسباب قاهرة ثم تغطية الرمال والرديم عليها بعد هجرها أو نسيانها. وكان لاستخدام اللبن في بناء المساكن ما يبرره في دنيا الفقراء ودنيا الأغنياء على السواء، فيبرره للفقراء توافره وقلة الكلفة في البناء به، ويبرره للأغنياء ملاءمته لبيئة الشرق الحارة قليلة الأمطار، واللبن عازل جيد لا تتسرب الحرارة الداخلية منه بسهولة ولا يمتص الحرارة الخارجية بسهولة. ثم هي العادة أخيرًا اعتادها الناس في بناء مساكنهم أغنياء وفقراء. غير أنه لم يكن من الطبيعي بناء المسكن كله من اللبن، وإنما كانت أعتابه وأكتافه أبوابه وأعتاب نوافذه تصنع من الحجر كما أسلفنا، وأعمدته الداخلية كانت تنحت من الحجر كذلك إذا حملت فوقها ثقلًا كبيرًا. أو تصنع من الخشب إذا حملت ثقلًا خفيفًا، أو تبنى من اللبن المكسو بالملاط إذا كان الثقل فوقها بين بين. أما عن بيوت الآخرة وهي المقابر التي كانت تستخدم للدفن لمرة واحدة أو لمرات معدودات، وتشيد في مناطق الحواف الصحراوية الجافة وتنحت أجزاؤها السفلى على أقل تقدير في باطن الصخر، ثم تكتسب بعد ذلك شيئًا من الحرمة أو القداسة، فلا زال الباقي منها أكثر من غيرها. وانتشرت بقاياها الحالية من عصر بداية الأسرات في مناطق كثيرة من الصعيد وأطراف الوجه البحري1. واختلف طرازها بعض الشيء في كل من الوجهين عن الآخر. وظلت أكثرها احتفاظًا بأجزائها العلوية هي مقابر سقارة التي سوق نكتفي فيما يلي بعرض خصائصها العامة. امتازت مقابر سقارة بضخامتها واتساعها وبقاء أغلب أجزائها العلوية المبنية باللبن، وتضمنت حجرات قليلة منحوتة في الصخر حول حجرة الدفن تحت سطح الأرض وحجرات أخرى كثيرة داخل بناء المصطبة فوق سطح الأرض. وتعاقبت في واجهاتها الأربع دخلات "أو مشكاوات" رأسية تفاوتت في اتساعها وفي مدى إتقان بنائها وزخارفها من مصطبة إلى أخرى. ويستنتج من أطلال المصاطب الكبيرة منها أنه كان يحيط بكل واحدة منها سوران، وأن ما بين السورين كان يستخدم لأداء الشعائر الدينية للموتى وتقديم القرابين واجتماع الأهل في المواسم الدينية والتقليدية. وأن بعض هذه المصاطب كانت تحفر بجانبه حفرة على هيئة مركب تليس بالطين أو تكسى بقوالب اللبن. وربما وضعت فيها مركب خشبية حقيقية، وفي هذه الحالة

_ 1 See G.A. Reisner, The Development Of The Egyptian Tomb Down To The Accession Of Cheops, 1936; W. B. Emary, Excavations At Saqqara, 1938, 1939, 1949, 1952; J. Vandier, Manual D'archologie Egyptienne, I, 1952.

قد تكون المركب الخشبية هي المركب التي نقل أهل المتوفى جثته فيها على النيل ثم آثروه بها وحرموا ركوبها على غيره، أو تكون مركبًا صنعت ليوم وفاته ليستخدمها في عالمه الآخر استخدامًا يناسبه، كأن يتنقل بها في أنهار الجنة أو يحج بها إلى مدن الحج العتيقة. ومن الاستثناءات اللطيفة في هذه المصاطب أن البعض منها غرست في الأرض أمام واجهاتها رءوس ثيران ضخمة شكلت من الطمي وزودت بقرون حقيقية، فبدت كما لو كانت تخرج من عالم آخر بعيد أو من محيط مائي عميق. ويبدو أن أمثال هذه الرءوس كانت تعلو أسوار بعض المصاطب أيضًا، وأنها كانت ترمز إلى المعبود حاب أحد أرباب منف وسقارة. وثمة استثناء آخر نفذه أحد المعماريين في مصطبة ثرى يدعى "نبت كا" حيث بنى جزأها العلوي على هيئة مسطح أفقي متسع تؤدي إليه درجات متعاقبة ضيقة من جهاته الأربع بحيث جعلت المقبرة على هيئة المصطبة المدرجة. ثم اهتدى غيره من المعماريين في عهده أو بعده بقليل إلى مرحلتين أخريين من التطور في بناء المصطبة، وتعمدوا في المرحلتين أن يدعموا جوانبها ويعملوا على حماية المدخل المؤدي إلى جزئها الأسفل. ونفذوا المرحلة الأولى ببناء إضافة من اللبن أحاطت بالمصطبة من كل جهاتها ولكنها قلت ارتفاعًا عنها وازادت سمك أسافل جدرانها. ثم أتموا المرحلة الثانية ببناء إضافة جديدة تشبه الإضافة الأولى وتعتمد عليها وتقل ارتفاعًا عنها. ولما أدت الإضافتان غرضهما العملي، وهو تقوية جوانب المصطبة وحماية مدخلها، ظهر لهما في مخيلة المعماريين غرض آخر فني، وهو إظهار المصطبة ذات السطح الواحد بمظهر المصطبة المدرجة ذات السطوح الثلاثة أو ذات الدرجات الثلاث، وذلك مما سيصبح أساسًا فيما بعد لفكرة الهرم المدرج. "راجع ص". ونسب الأثري ولتر إمري خمس مقابر من مقابر سقارة، إلى خمسة ملوك من ملوك بداية الأسرات، كما أسلفنا، على الرغم من أن منهم من شادوا لأنفسهم مقابر أخرى في جبانة أبيدوس المجاورة لمدينة ثني بالصعيد. وبرر إمري ذلك بأنه كان لكل ملك مصري قبران، قبر باعتباره ملكًا للوجه البحري وقبر باعتباره ملكًا للوجه القبلي، وأن كل قبر منهما كان يبنى بأسلوب العمارة وتقاليد الدفن الشائعة في أحد الوجهين. ولما لم يكن من المعقول دفن الملك في قبرين، كان لا بد أن يكون أحدهم قبرًا فعليًّا والآخر ضريحًا رمزيًّا. ودهب عدد من الباحثين، في شيء من التردد، إلى أن مقابر سقارة كانت هي المقابر الفعلية؛ لاتصالها بمدينة منف عاصمة الحكم الرئيسية، وأن مقابر أبيدوس كانت مقابر رمزية تشبه المزارات والأضرحة، أقامها ملوك عصر بداية الأسرات قرب مدينة ثني عاصمة الحكم القديمة وفاء لها وتأكيدًا لاعتزازهم بالانتساب إليها1. وللرأي السابق منطقيته؛ نظرًا لضخامة مقابر سقارة وفخامتها عن مقابر أبيدوس، ولكثرة الأتباع المدفونين حولها عن مقابر أبيدوس، وإن أمكن أن يعترض عليه في الوقت نفسه بعدة قرائن ومنها: أ- أن مقابر سقارة نفذت بطراز معماري متشابه في مجموعها، فيما خلا تعديلات فردية قليلة، ولو صح

_ 1 W. Emery, Hor-Aha, I, Great Tombs, Ii, 1954; Vanier, Op. Cit., Ii, 142 F. وراجع: دريوتون – فاندييه: مصر – ص153.

أن بعضها كانت مقابر ملكية فعلًا لتميزت هذه المقابر الملكية عما سواها باتساعها وبأسلوب بنائها. ب- أن المقابر الأبيدية تضمنت نصبًا حجرية نقشت عليها أسماء أصحابها، وامتازت الملكية منها بضخامتها وصلابة أحجارها ووضوح نقوشها، ودل بعضها على ذروة عالية في براعة النقش ومهارة الصناعة1، ولم تتضمن مقابر سقارة أمثالها. ج- ما سنذكره بعد قليل من أنه عثر داخل المقبرة المنسوبة إلى الملك جر ثاني ملوك الأسرة الأولى في أبيدوس، على ذراع آدمية كفنت بالكتان وتحلت بأربع أساور، ومن المرجح أنها كانت ذراع زوجة جر وأنها هي كل ما تبقى من جسدها، كما أن بعض أختام المقبرة حملت اسمها وألقابها2. وإذا صح هذا الترجيح، كان معناه أن المقبرة الأبيدية خصصت للدفن فعلًا، ولم تكن مجرد ضريح رمزي، وربما دفن جر نفسه فيها أو بقربها، حيث لم يكن من المقبول أن تدفن زوجته في أقاصي الصعيد، ويدفن هو قرب رأس الدلتا. واحتفظت بعض المقابر السابقة بما عبرت به عن الشوط الواسع الذي قطعته المهارات الفنية في عصرها. فاحتفظت مقبرة حماكا في سقارة بعدد من أقراص كبيرة وصغيرة من الألباستر والشست تعتبر بصناعتها ورقتها وزخارفها آية لرقي الصناعة في عصرها، وصناديق صغيرة مطعمة، وسهام وحراب، وأوان للمشروبات والزيوت التي اعتقد صاحبها أنه سوف ينتفع بها في أخراه. واحتفظت مقابر أخرى في حلوان من نهاية العصر نفسه بكئوس وطاسات من الصخر البللوري تكاد تكشف سطوحها الخارجية عن دواخلها، وانثنت أطرافها إلى الداخل والخارج كما تنثني أوراق الرسم المقواة الحالية، وبلغت حدًّا من الرقة والروعة قل أن فاقته صناعة أمثالها في العصور الأخرى، واحتفظت أيضًا بكأس صغيرة مصمتة قلدت هيئة زهرة اللوتس الملونة، وصحاف من الشست قلدت هيئة أوراق التين، وأخرى قلدت هيئة صحاف الخوص المحدولة، وكل ذلك مما ينم عن حذف صناعتها وسلامة أذواقها كما ينم عن ترف أصحابها. وقطعت صناعة الحلي نفس الشوط، وأمتع ما يستشهد به من روائعها هي الأربع الأساور التي وجدت في أبيدوس ونسبت إلى زوجة الملك جر، وقد صيغت حباتها ووحداتها من الذهب والفيروزج والجمشت على هيئة زهيرات رقيقة وحبيبات كرية وحبيبات قلدت قطرات الماء، ووحدات قلدت هيئة واجهات القصور الملكية. ثم حليات أخرى ذهبية رقيقة وجدت في نجع الدير وقدت هيئات وعول وعجول مدللة أحاط أصحابها أعناقها بتمائم لطيفة. والخلاصة أن وسائل أهل عصر بداية الأسرات في النشاط الداخلي كانت وسائل عدة، اتجهوا فيها إلى استغلال موارد البلاد الطبيعية استغلالًا يفوق ما كانت تستغل به قبلهم, وحولوا توحيد طابع الحضارة الفنية والمعمارية لمصر كلها وصبغها بصبغة واحدة متجانسة، وعملوا على تجميع الكفايات الإدارية والفنية

_ 1 Petrie, Royal Tombe, I, Frontispiece, Ii, XXXI; Abydos, I, Pls. V, XIII. 2 Petrie, R. T. Ii, Frontispiece, Pp. 16-17, Pl. Iv, 7.

في عاصمتهم، والارتقاء بالكتابة وتوسيع استخدامها في شئون الإدارة والعقائد، وإرساء أسس مشاريع الري والزراعة وتنظيمات الضرائب وحكم الأقاليم. وكان من صور استغلال الموارد الطبيعية في عصرهم استغلال المحاجر والمناجم، فاستخدموا الديوريت والجرانيت والأحجار الجيرية لرصف أرضيت المقابر الملكية وتسقيفها وعمل نصبها، واستخدموها في بناء بوابات بعض المعابد الكبيرة، وربما واجهاتها أيضًا، وإذا استشهدنا باستخدام الحجر في المقابر والمعابد دون غيرها، فمرجع ذلك إلى ما أسلفناه من أن المقابر والمعابد هي التي بقيت حتى الآن دون المساكن ومن المحتمل أن أنواع الأحجار نفسها استخدمت في بناء أكتاف أبواب القصور وأساطينها وأرضياتها كما أشرنا من قبل. ونجح أهل العصر فيما أرادوه من صبغ الحضارة المادية المصرية بصبغة متجانسة، فتشابهت آثارهم التي تركوها عند رأس الدلتا، مع آثارهم التي تركوها في مصر الوسطى، وآثارهم التي تركوها في الصعيد، في خصائصها الرئيسية وإن تنوعت في أذواقها وتفاصيلها المحلية. وكان فنانو البلاط الملكي وتلاميذهم هم أدوات التجانس في هذه الآثار، فعملوا بأسماء ملوكهم في أنحاء الوادي كله، وعملوا بإذن ملوكهم في خدمة رجال بلاطهم حيثما استقر مقامهم وأقيمت مقابرهم.

النشاط الحدودي والخارجي

النشاط الحدودي والخارجي: لم تقتصر مصادر عصر بداية الأسرات على تصوير وجود النشاط الداخلي وحده، وإنما صورت نقوش العصر وآثاره وجوه نشاط أخرى حدودية وخارجية، سلمية وحربية. فمن أدلة الامتدادات الجنوبية أنه عثر على اسم الملك جر ثاني ملوك الأسرة الأولى مسجلًا على صخور جبل الشيخ سليمان قرب وادي حلفا، وذلك ما يحتمل تفسيره باتساع التبادل التجاري لدولته مع منطقة النوبة التي لم تكن قد اكتمل تمصرها حضاريًّا بعد، أو ببلاد السودان التي تقع وراءها، واتساع نشاط حكومته في استغلال مناجم الذهب في وادي حلفا، وقيام جيشه بحماية هذا الاستغلال أو ذلك التبادل. وقد استمرت جهود العهود التالية له على نفس السبيل1. وتعين على حكام العصر أن يتيقظوا للحدود الصحراوية الشرقية والغربية، وأن يكفلوا حماية المتاجر والقوافل وبعثات المناجم والمحاجر التي تجوس خلالها، عن طريق تعويد بدوها الرحل على الطاعة والتعاون والسلام. وأثرت لأغلب فترات العصر جهود في هذا السبيل منذ عهد الملك عحا الذي رمزت مناظر صلايته إلى كثرة من واردات الواحات الغربية دلت على أنها كانت حينذاك وفيرة المراعي والشجيرات والأنعام: ونقش اسم الملك "واجي" على صخرة قريبة من البحر الأحمر في نهاية واد يصل بينه وبين إدفو2، وذلك مما يعني استغلال أحجار ومعادن الوادي في عهده واستغلاله كطريق تجاري بين النيل والبحر الأحمر3.

_ 1 J. Capart, Les Debuts ….., Figs. 159-160. 2 Clere, Asae, XXXVIII, 85 F. 3 Zaes, XXXV, 7 F.

وسجلت بطاقة من عهد "دن" أخبار نصره على أهل الشرق لأول مرة، كما قال كاتبها1، كما سجلت بطاقات من عهد ولده عنجاب نشاطًا مماثلًا ضد قوم أطلقت عليهم اسم "الإنتيو"1 ربما بمعنى "أصحاب العمد". ويغلب على الظن أنهم كانوا من الأقوام الشرقيين الذين أشارت إليهم بطاقة أبيه، أي من بدو الصحراء الشرقية وبدو سيناء وربما ما وراءها أيضًا. وتأكدت اتصالات مصر بأطراف غرب آسيا، فاستورد المصريون أخشاب الأرز والصنوبر من فينيقيا واستخدموها في تسقيف مقابر ملوكهم لا سيما في منطقة أبيدوس، وربما استخدموها كذلك في صناعة السفن الكبيرة منذ عهد عحا. واستوردوا الزيوت والخمور في أوانٍ فخارية فاخرة من جنوب سوريا، واعتبرت H. Kantoi هذه الواردات بمثابة جزى وردت إلى مصر من المناطق الخاضعة لها حينذاك في سوريا وفلسطين3. وذهب الباحثون De Rouge', R. Weill, And Y. Yadin إلى أن مصر كانت لها حصون وعمليات دفاعية في المناطق الآسيوية منذ عهد نعرمر وخلال عهود خلفائه جر، ودن، وقاي عا. واستدلوا على نشاطها هناك من صورة حصن نقشت على صلاية نعرمر، ومن ذكر اسم حصن يدعى "باب عن" وآخر يدعى "ونة" في جنوب الشام، على آثار العصر نفسه، ووجود اسم نعرمر على أثر صغير في فلسطين. ويصعب تأكيد هذه الاستنتاجات بأدلة قاطعة، وإن وجدت قرائن لها في نقوش الملوك وفي حوليات حجر بالرمو4. وعثر في مقابل هذه الواردات على صادرات مصرية في ميناء جبيل بلبنان الحالية5، وكانت أكبر مركز للتبادل التجاري مع مصر في غرب آسيا، وأصبحت بعض السفن المصرية المتعاملة معها أو المصنوعة بأخشابها تُسمى أحيانًا "الكبنية" أي "الجبيلية". ويرى الأستاذان بترى وشارف6 أن هذه الميناء ظلت واسطة لاتصال التجار المصريين ببحر إيجه وبالتجار الكريتيين في نفس العصر. وعثر بترى في أبيدوس على أوانٍ تشبه زخارفها زخارف الأواني الإيجية. وإن كان يبدو أن تأكيد التبادل مع الكريتيين في ذلك العصر البعيد لا يخلو من الشك، لا سيما بالنسبة لأهل كريت الذي لم تكن حضارتهم ذات شأن حينذاك. "وقد زاد شارف فذكر أن المصريين قد وصلوا إلى كريت رأسًا بوسائلهم البحرية الخاصة". ورتب عدد من الباحثين نشاط التأثير بين بلاد النهرين وبين مصر في أوائل هذا العصر على أساس وجود شيء من التشابه بين بعض الأساليب المعمارية والزخرفية والأسطورية في إنتاج كل من البلدين. مثل أسلوب

_ 1 Plaermo, Rt., III, 2. 2 Reyal Tombs, I, Pls. LXII, IXV, LXVII; Jea, XII, 83,; Kees, Das Alte Aegypten, 58. 3 H. Franfort, Studies In The Early Pottery …., 108 F. ; M. W. Prausinitz, "Abydos And Combed Ware, Palestine Expl. Qart, London, 1954, 91 F. ; H. Kantor, Jnes, 1942, 174 T. ; 201 F. 4 See, Petrie, Royal Tombs, I, Pls. XV, 16-18, XVII, 30; Vol. II, Pl. XVII, 30; Abydos, I, Pl. XI, 8; Y. Yadin, Israel Exploreation Journal. 1955, 1-16; R. Weill, Recherches … I, 15 F. 5 P. Montet, Byblos Et I' Egypte, 271; Dunand, In Syria, 1928, 18, Fig 1. 6 Petrie, Royal Tombe, II, 46, Pl. LVI - ألكسندر شارف: تاريخ مصر من فجر التاريخ – معرب بالقاهرة – ص48.

المشكاوات "أي الدخلات الرأسية العميقة المتعاقبة على مسافات متساوية" في واجهات المباني اللبنية، وفكرة تصوير أبطال أسطوريين يفصلون بين حيوانات مفترسة ويخضعونها، وفكرة استخدام أختام أسطوانية صغيرة منقوشة للختم بها على سدادات الأواني الفاخرة وربما على الوثائق أيضًا، وفكرة نقش وتصوير حيوانات خرافية ذات أعناق طويلة مقوسة لغرض الزخرف أو للتعبير عن الأساطير. واستنتج بعض أولئك الباحثين من صور هذا التشابه استنتاجات شتى لا يخلو بعضها من إسراف، وقد ناقشناها بتفصيل في كتابنا الأول عن حضارة مصر القديمة وآثارها "ص262 - 267"، وانتهينا من مناقشتها إلى أن الأساليب والأفكار السابقة وإن تشابهت من حيث دواعي نشأتها في كل من البلدين، إلا أنها تمايزت في كل منهما في طريقة تنفيذها وفي أغراضها وفي مجالات استعمالها، مما يوحي بأن كلًّا منهما قد نمت وتطورت في أحضان حضارة أهلها المحلية وسايرت تقاليدهم الخاصة في الصناعة والزخرف والتعبير، بغير ضرورة إلى الظن بتأثير لازم من أحد البلدين فيها على البلد الآخر، وإن لم يحل هذا إطلاقًا دون افتراض استمرار الصلات الحضارية العادية بين الطرفين بطرق مباشرة أو عن طريق وسطاء، أو افتراض تقليد بعض الصناع والفنانين في كل من البلدين زخارف البعض الآخر تقليدًا شخصيًّا حرًّا. وانقضى عصر بداية الأسرات بمظاهره الحضارية حوالي عام 2780ق. م. بعد انتقال أزمة الحكم من أسرته الثانية إلى فرع حاكم جديد يتصل بها برابطة الدم والنسب، وانقضت بعده قرون طويلة ظل المصريون خلالها يردون إليه بعض معارفهم وعلومهم القديمة، فتضمنت بردية طبية من الدولة الحديثة فصلًا طبيًّا فيها لردته إلى عهد الملك دن "الذي ذكرته باسم سمتى"1. وذكرت كتب الموتى أن فصلًا منها وجد في زمن قديم في البهو الكبير لقصر الملك نفسه2. وذكر المؤرخ المصري مانيتون أن الملك جر "الذي ذكره باسم أثوثيس" ألف كتابًا في التشريح وكان بارعًا في الطب3. وذكر المؤرخ ديودور الصقلي أن الكهان أخبروه بأن منى كان أول من علم الناس أسلوب الحياة المهذبة وطقوس العبادة وأرشدهم إلى فوائد البشنين وكيف يصنعون الخبز منه4. وليس من ضرورة بطبيعة الحال إلى الأخذ بحرفية هذه الأخبار، فقد يكون الغرض منها هو رغبة أصحابها المصريين في صبغ معارفهم بصبغة القداسة عن طريق ردها إلى أصول قديمة عريقة. ولكن حسبنا منها أن ذكريات عصر بداية الأسرات ظلت ماثلة في أذهان المصريين، يعتزون بها وينسجون القصص والأساطير حولها.

_ 1 Der Grose Medizinisch Papyrus Des Berlin Museums, XVI, 1 F. 2 B. D., Ch., Cxxx, "Zaes, 1857, 54". 3 Maneto, In Cory, Ancient Fragments …., 894. 4 Diosorus, I, 45.

الفصل الخامس: عصور الأهرام في الدولة القديمة

الفصل الخامس: عصور الأهرام في الدولة القديمة أولا: الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة مدخل ... الفصل الخامس: عصور الأهرام في الدولة القديمة تعرف عصور الدولة القديمة أحيانًا بتعريفين اصطلاحيين وهما: "العصور المنفية" إشارة إلى استمرار استقرار فراعنتها وحكوماتهم المركزية في مدينة منف؛ ثم "عصور بناة الأهرام العظام" كناية عن فخامة ما شيد فيها من أهرام لا تزال مفخرة لعصورها وشاهدًا على كفاية من تكفلوا بإنشائها. أولًا: الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة 2780 - 2680ق. م. بدأت عصور الدولة القديمة بعصر الأسرة الثالثة، وبدأ الحكم فيها بولاية فرعون ذكرته نصوص عهده باسم "نثررخت" وهو اسم يقرأ بتمرادفات ومعانٍ كثيرة1، ثم اشتهر باسم جسر أو زوسر، ربما بمعنى المقدس، واعتادت الكتب التاريخية على ترديد هذا الاسم الأخير نظرًا لشيوعه وسهولة نطقه، وسوف نجري على طريقتها في ذلك. ويغلب على الظن أن زوسر كان ولدًا للفرعون خع سخموي آخر فراعنة الأسرة الثانية من زوجة تدعى "ني ماعت حاب" ولا بأس هنا من أن نبدأ بهذه البنوة، بنوة زوسر لآخر فراعنة الأسرة الثانية؛ لنعقب عليها بما يصور بعض الأسباب التي كانت تفرق بين كل أسرة وأخرى من الأسر الفرعونية المتعاقبة، ولنجيب على تساؤل يسهل تبادره إلى الذهن، وهو: إذا صح أن زوسر كان ولدًا للفرعون خع سخموي، فما الذي دعا إلى اعتبار عهده بداية لأسرة حاكمة جديدة ولِمَ لَمْ يسلك ضمن فرعنة الأسرة الثانية التي انتسب أبوه إليها؟ سجلت بردية تورين اسم زوسر بالمداد الأحمر بين أسماء ملوك الدولة القديمة؛ تأكيدًا لتميزه وأهمية عهده. وصوره كاتب مصري من القرن الثاني عشر ق. م، مع كل من مؤسس الأسرة الخامسة ومؤسس الأسرة السادسة، باعتباره رأس أسرة حاكمة جديدة مثلهما. ثم سجل المؤرخ المصري مانيتون رأيه في الملك نفسه فاعتبره بداية لملوك منف كلهم2. ويبدو أن المصادر التي أخذ منها هؤلاء الثلاثة، تأثرت باحتمالات أربعة وهي: أولًا- أنه تدخل بين عهد خع سخموى وبين عهد ولده زوسر بعض المغتصبين للعرش من أبنائه الآخرين أو من بقية فروع أسرته. فإذا استرد زوسر العرش منهم أصبح في نظر قومه بداية لفرع جديد

_ 1 راجع للمؤلف مناقشة أربعة منها في: حضارة مصر القديمة وآثارها – ج1 ص299. 2 Turin Rap. III, 5; Cairo 33258 = Bifao, V, 41 F.

تميز به عن فروع إخوته وعن فروع أقاربه. ويزكي هذا الاحتمال أن القوائم التاريخية للملوك أضافت أسماء ملوك يتراوح عددهم بين الاثنين وبين الأربعة، بين اسم خع سخموي واسم والده، على الرغم من أنه لم يعثر لهؤلاء الملوك على آثار تدل على أهمية عهودهم أو استقرارها أو طول أمدها. ثانيًا- كان زوسر أكثر اهتمامًا بمدينة منف، وأكثر استقرارًا فيها من الملوك الذين سبقوه، وشيد هرمه المدرج في جبانتها ففسر خلفاؤه المصريون ذلك برغبته في اختيار أرضها مقرًا لدنياه وآخرته، واعتبروه رأسًا لملوكها، ثم عبر مانيتون عن رأيهم باحتسابه رأس الملوك المنفيين. ثالثًا- أن نجاح زوسر في تشييد هرمه المدرج، وهو أول هرم في الوجود، أظهره بين مواطنيه بمظهر المبشر ببداية عصر حضاري جديد يتميز بمظاهره عن عصر الأسرة الثانية الذي عاش أبوه فيه. رابعًا- تضمن اسم الملكة "ني ماعت حاب" أم زوسر، اسم "حاب" وهو معبود قديم من معبودات منف، وذلك مما يحتمل معه أنها كانت من مواليد مدينته التي يقدس فيها، وأن ابنها اهتم بمسقط رأسها، وتشيع له فنسبه مواطنوه هو وفرعه إليه. ارتبطت بعهد زوسر معالم وذكريات حضارية كثيرة، نكتفي بأن نذكر منها فيما يلي مجموعته المعمارية بسقارة، وفكرة ابتداع التقويم السنوي المدني المرتبط بدورة الشعرى والتقويم الشمسي في عهده، ثم قصة المجاعة التي تنسب أحداثها إلى أيامه.

إيمحوتب وشواهد العمارة والفن

إيمحوتب وشواهد العمارة والفن: كان لحسن الحظ أن احتفظت الأيام باسم مهندس مجموعة زوسر المعمارية في سقارة وصاحب الفصل في تصميمها وهو إيمحوتب الذي سجل من ألقابه في عهد ملكه ألقابًا تدل على أنه كان أمينًا لأختام الوجه البحري، وتاليًا للملك أو الأول لدى الملك، وناظرًا على القصر العالي، ومهندسًا، ومسجلًا للحوليات، وكبيرًا للرائين. وكان اللقب الأخير لقبًا مميزًا لكبار كهنة مدينة عين شمس ذات الشهرة الفكرية القديمة1. واحتفظت أجيال المصريين بذكرى إيمحوتب قرونًا طويلة، وجعله المتعلمون في الدولة الحديثة على رأس أهل الحكمة والتعاليم، واعتبروه من رعاة المثقفين، واستحبوا أن يسكبوا قطرات من الماء من الأواني الصغيرة المتصلة بمحابرهم مع التمتمة باسمه؛ تبركًا به كلما هموا بكتابة أمر خطير. ثم زادوا فقدسوه في عصورهم المتأخرة واعتبروه ولدًا للإله بتاح رب الفن والصناعة, وأخيرًا ذكره الإغريق المتمصرون باسم إيموتس واعتبروه ربًّا للشفاء. وشاد له مريدوه على هذا الاعتبار مقصورة فوق المسطح العلوي لمعبد حاتشبسوت في الدير البحري. وشبهوه كما روى مانيتون بالمعبود الإغريقي أسخليبيوس راعي الطب والحكمة عندهم. ومجدوه لمهارته الطبية، ولمهارته في الأدب والكتابة، ولأنه كان أول من استخدم الحجر المنحوت

_ 1 Urk. I, 153; Firth –Quibell,, The Step Pyramis, I, Pl. 58. - وسجل له أحد أحفاده البعيدين ألقابًا أخرى نعته فيها بلقب الوزير واعتبره مدير المنشآت العامة في الصعيد والدلتا وكاهنًا مرتلًا عظيمًا، وذكر أباه باسم كانفرو وذكر أمه باسم عنخ خردو. " See, Sethe, Lmhotep 14". ولم يكن منصب الوزير قد ابتدع رسميًّا في أيام إيمحوتب.

في البناء كما قالوا. وقدسوه على هذه الاعتبارات في "أسكلبيون المجاور لمنف" وهو معبد أقاموه فوق ما ظنوه قبره القديم جنوبي السيرابيوم1. وفي كل هذا ما يعني أن مجد الشهرة في مصر القديمة لم يقتصر على الفراعنة وحدهم، وإنما كان لبعض الأفراد الأفذاذ نصيب منه قد يزيد عن نصيب الفراعنة أحيانًا. أشرف إيمحوتب على بناء مقبرة ملكه زوسر وتوابعها في منطقة سقارة، وأجرى فيها ثلاث محاولات كبيرة، وهي: استخدام الحجر على نطاق واسع لأول مرة في بناء الجزء العلوي من المقبرة وتوابعها، والانتقال بهيئة جزئها العلوي من شكل المصطبة المستطيلة على هيئة الهرم المدرج. ثم تقليد وتخليد خصائص العمارة النباتية واللبنية التي عرفها أسلافه، في عمارته الحجرية الجديدة2. وبدأ بمراحل البناء الثلاث التي انتهى إليها بعض أسلافه في بناء المقابر: مصطبة وإضافتين. ولكنه بناها جميعها بالحجر وليس من اللبن كما كانت تبنى قبل عهده، ولعله تبين حينذاك أنه يستطيع أن يستعين بالحجر الذي استخدمه على نطاق واسع لأول مرة، على تنفيذ مشروع كبير يتفق مع جلال فرعونه ورخاء عهده، فعمل على زيادة إضافات حجرية جديدة جانبية مائلة، تعتمد كل إضافة منها على الأخرى، وتعتمد كلها على المبنى الأصيل للمصطبة الذي كان يزيد ارتفاعه قبل كل إضافة. وأتم ذلك في ثلاث مراحل أخرى، حتى تحولت المصطبة المدرجة القديمة إلى شكل هرمي مدرج ظهر في هيئته الأخيرة كما لو كان ذا ست درجات، بلغ ارتفاعه معها نحو ستين مترًا، وبلغ طولها من أسفل نحو 130 مترًا، وعرضها نحو مائة متر وعشرة. احتل هرم سقارة مركزًا متوسطًا في مجموعة معمارية كبيرة أحاطت به وشغلت معه مساحة تزيد على 251 ألف متر مربع. وأحاط به وبها سور ضخم كبير بلغ ارتفاعه نحو عشرة أمتار، وبلغ سمكه في بعض مواضعه نحو ستة أمتار، وكساه المعماريون بالحجر الجيري الأبيض الأملس، وشادوا فيه نفس الدخلات الرأسية المتعاقبة التي ظهرت قبل عهده في عمارة اللبن، بعد أن زادوها في العمق والسعة بما يتناسب مع ضخامة بنائها ومادة بنائها حتى حققت لعمارتها الجديدة طابع الزخرف والفخامة كاملًا، فقللت حدة الاستقامة المطلقة في الواجهة الضخمة للسور، وسمحت تضاعيفها الداخلية بتعاقب الأضواء والظلال فيها بين الجوانب والسطوح، وقللت شدة انعكاس أشعة الشمس على واجهة السور ذي الكساء الحجري الأبيض المصقول. وتضمنت مجموعة زوسر ست عمائر دنيوية ودينية خلاف الهرم والسور. فأطلق إيمحوتب ورجاله أيديهم في هندسة هذه العمائر وقلدوا فيها ما أرادوا تقليده وتخليد هيئته من مظاهر العمارة النباتية واللبنية القديمة. فأقاموا فيها أساطين ذات أضلاع محدبة متجاورة تقلد هيئة سيقان الغاب المحزومة ذات العقل التي استخدمها أسلافهم لرفع سقوف المباني الخفيفة القديمة. وشكلوا أساطين ذات أضلاع مقعرة متجاورة تقلد أساطين شجرية تناولها إزميل النجار القديم بالتشذيب والتجويف الخفيف. كما نحتوا أساطين ثلاثية المقطع تقلد هيئة سيقان البردي بتيجانها وأوراقها. ونحتوا أساطين أخرى نصف دائرية المقطع تقلد نباتًا اتخذه أهل الصعيد

_ 1 H. Schafer,Zaes, Xxxvi, 147; K. Sethe, Op. Cit. ;H. Kess, Op. Cit., 88. 2 See, M. Firth –J. E. Quibell, The Step Pyramid, I-II, Cairo, 1935; J. P. Lader, La Pyramid A Degrees, I-III, Le Caire, 1936-39; I. E. Edwards, The Pyramid Of Egypt, London, 1947, Ch. II.

رمزًا لأرضهم في فجر تاريخهم القديم. ثم امتد التقليد إلى الأبواب والسقوف، فنحت المعماريون بإرشاد إيمحوتب أبوابًا من الحجر على هيئة الدلف الخشبية المفتوحة. وشكلوا السطوح الداخلية لبعض السقوف على هيئة فلوق النخيل ذات المقطع نصف المستدير، وجعلوا هذه الفلوق الحجرية متعاقبة الواحد منها بجانب الآخر، حتى بدت كأنما حملت سقفًا من بوص وخشب وليس من حجر. ولم يقتصر المجهود المعماري في الهرم المدرج على جزئه العلوي وحده، وإنما امتد إلى جزئه الأسفل. فشاد المعماريون حجرة دفنه من أحجار جرانيتية ضخمة على عمق ثمانية وعشرين مترًا. ولا شك في أن نقل هذه الأحجار الجرانيتية الضخمة من محاجر أسوان أو جبال البحر الأحمر يدل على مجهود كبير بالنسبة لعصره وقطع الصناع فيما يجاور سطح حجرة الدفن سراديب وغرفًا كثيرة، كسوا بعض جدرانها بقراميد صغيرة، محدبة من القاشاني الأزرق ثبتوا كلًّا منها في ملاط جدارها بثقبين صغيرين يمر فيهما خيط من الكتان أو الجلد، ورصوا كلًّا منها إلى جوار الأخرى؛ لكي يقلدوا بها هيئة الحصير الفاخر المجدول الذي كانوا يتخذونه في البيوت ستارًا وزينة. وتضمنت سراديب الهرم وحجراته ما يزيد عن 40 ألفًا من أواني الفخار والألباستر والشست والبرشيا، حقق صناعها في تشكيلها مهارتهم التي اكتسبوها وورثوها عن أسلافهم أهل عصر بداية الأسرات، ثم زادوها دقة حتى بلغوا بصناعة بعضها حدًّا من الرقة جعل سطوحها الخارجية تكاد تكشف عن سطوحها الداخلية كأنها البللور الشفاف. وكان بعضها متاعًا وميراثًا لصاحب الهرم وأسرته، وبعضها الآخر هدايا من أقاليم دولته تقرب إليه بها كبار موظفيها. وعثر في مقابر أسرة زوسر التي غطى هرمه عليها على بقايا توابيت فاخرة من الحجر الجيري والمرمر المصري، كانت تثبت فوق قواعد حجرية تناسبها، وتعلوها أغطية مقبية. ووجدت معها قطع خشبية صغيرة تخلفت عن تابوت طفل، صنعت من ست طبقات متلاصقة من الخشب المضغوط ولم يزد سمكها في مجملها عن ملليمترات قليل، ثم غشيت سطوحها برقائق ذهبية ثبتت فيها بوصلات ذهبية قامت مقام المسامير. يبدأ المدخل الرئيسي في سور مجموعة زوسر بباب مفتوح على مصراعيه كأنما يرحب بالوافدين، لولا أنه باب من حجر قلد فيه بناؤه تفاصيل الأبواب الخشبية العادية. ويفضي الباب إلى البهو الكبير وهو بهو طويل تحف به الأساطين الحجرية التي تقلد حزم الغاب، وهي أساطين دقيقة في بنائها وفي مظهرها تستند على حواجز خلفية وتتخذ هيئة انسيابية يقل قطرها من أسفل إلى أعلى، وتزينها في أعلاها حليات شكلت على هيئة أوراق الشجر العريضة المقلوبة. ويعلوها السقف ذو الجذوع الحجرية. وكانت تحلي أبواب البهو زخارف هندسية على هيئة أقواس كبيرة رشيقة دلت على يد متمكنة في رسمها ونحتها، وعلى هيئة رموز دينية تُسمى رموز "جد" وتعني معنى الدوام والاستقرار وتعتبر من رموز المعبود أوزير. وينتهي البهو بقاعة تطل على فناء الهرم الكبير وترفع سقفها ثمانية أساطين يصل بين كل أسطونين منها جدار خفيض. وكان للفرعون وحاشيته سبيل آخر حين احتفاله بعيد السد بالقرب من هرمه، فكان يسلك طريقًا قصيرة جانبية تبدأ من أول البهو وتمتد حتى فناء العيد، وهو فناء رحب واسع حفت بجانبيه مقاصير فخمة، بنيت الغربية منها بأسماء أرباب الصعيد، وشيدت الشرقية منها بأسماء أرباب الوجه البحري، أولئك الأرباب

الذين تخيل أتباعهم أنه لا بد لهم من أن يشاركوا الفرعون في عيده ويباركوه فيه ويتقبلوا صلواته. وتصدرت الفناء منصة حجرية متسعة ترتفع عن الأرض بنحو المتر، ويؤدي إلى سطحها درجان في واجهتها الشرقية. وكانت تعلوها مظلتان تضم إحداهما عرش الصعيد وتضم الأخرى عرش الدلتا. وكان الفرعون يتجه في بعض مراسيم الحفل من عرشه إلى المقاصير واحدة فوحدة ويقدم في كل منها دعاء أو قربانًا يناسب إلهها، وربما اصطحب معه في كل مرة شارة تتفق مع رموز بها. ولم يتبق من مقاصير العيد غير أطلال تنم على الرغم من قلتها عن مهارة صانعيها وعن فخامة مظهرها القديم. وكانت تتصدر واجهاتها أساطين محدبة المقطع تحليها في أعلاها دلايات مشكلة في الحجر على هيئة أوراق الشجر. وتبقت فيا ثقوب كانت تثبت فيها قوائم خشبية تحمل رموز أرباب مقاصيرها. ولما كان العيد عيد الفرعون قبل كل شيء، أقيم له تمثالان كبيران على منصتين مرتفعتين في مقدمة المقاصير، وربما أن له كذلك تمثال صغير في كل مقصورة مع تمثال ربها تدليلًا على اتصال الروابط بينهما. وتبقت أجزاء متناثرة من تماثيل أخرى كان بعضها يمثل الفرعون بحجم ضخم يفوق حجمه الطبيعي بكثير، واستند بعضها إلى صفات مبينة في فناء العيد وشارك في حمل سقفها، واستند بعض آخر إلى أساطينها واعتمد عليها. ثم مثل الفرعون مع زوجته وابنتيه في مجموعة أسرية مترابطة لم يتبق من تماثيلها غير أربعة أزواج من الأقدام في المقصورة الأخيرة الغربية لفناء العيد. وجاور مباني العيد بناء صغير رشيق ذهب الاحتمال على أنه كان مخصصًا للفرعون ليستبدل فيه ملابسه وشاراته خلال أداء الطقوس وكانت للعيد مرحلة أخيرة تجري في ساحة جنوبي الهرم حددت بنصب حجرية كبيرة، ولسنا ندري تفاصيل ما كان يتم فيها، ولكن ليس من المستبعد أنها ارتبطت بصورة ما بما سمي باسم عيد الطواف وجرى الفحل. وتعامد معبد الشعائر على واجهة الهرم الشمالية، وكان ضخمًا كثير الحجرات قلد بناؤه به هيئة قصر الفرعون في دنياه. قامت لدى مدخله حجرة مغلقة سميت اصطلاحًا باسم السرداب، واتخذت جوانبها نفس الميل الانسيابي الذي اتخذته جوانب قاعدة الهرم لتنسجم خطوطها مع خطوطه. وتضمنت في داخلها التمثال الكامل الوحيد الباقي للفرعون زوسر، وتقدمها جناحان حجريان قلدا هيئة باب مفتوح بدلفتين يستقبل ناحية الشمال، وهي نفس الناحية التي استقبلها التمثال الموجود فيها بوجهه، ونفس الناحية التي قام فيها معبد الشعائر وانفتح عليها باب الهرم. وربط أحد الآراء بين هذه المظاهر كلها وبين عقيدة مصرية آمن أصحابها بأن أرواح ملوكهم وأرواح أبرارهم تستقر في الناحية الشمالية من السماء بين النجوم الخالدة، وخرج من هذا الربط بأن تمثال الملك في سردابه لم يكن أكثر من هادٍ لروح صاحبه عندما تهبط من شمال السماء فتستهدي به ثم تتجه على معبد الشعائر لتنعم بالقرابين والدعوات المقدمة فيه نعيمًا يناسبه ويناسب العالم غير المنظور الذي تعيش فيه، وتقصد بعد ذلك حجرة دفن صاحبها. ويختلف هذا الغرض الذي خدمه تمثال زوسر عن أغراض أخرى خدمتها التماثيل في عهود تالية لعهده، حين اعتبرها أصحابها مقرًا للروح تتلبسها إذا شاءت وحين تفنى الجثة، واعتادوا على تقديم القرابين أمامها باسم صاحبها، وليس من المستبعد أيضًا تفسير اتجاه المداخل ناحية الشمال بتقليد البنائين لما جروا عليه من تفضيل الواجهة الشمالية للبيوت الدنيوية. هذه مجرد صورة عامة لمجموعة زوسر في سقارة، يفهم منها أنها لم تكن مجرد جبانة، وإنما كانت

أشبه بمدينة عامرة يطرقها أهلها في مناسبات كثيرة تتعلق بدنياهم ودينهم وموتاهم. ويسكن فيها القائمون على شعائرهم وإدارتها والمتكفلون بحراستها، ويتردد عليها الزائرون المعجبون بفخامتها وفن بنائها. وألحقت بها مخازن غلال كبيرة لعلها استخدمت في تموين العمال والصناع أثناء بناء الهرم وتوابعه، ثم استخدمت لتموين كهنة المنطقة وموظفيها بعد ذلك. وإذا كنا قد قدمنا لمجموعة زوسر ببعض التجديدات الفنية في أسلوب بناء أساطينها وأبوابها وسقوفها فما من بأس في أن نعقب بخصائص أخرى مبسطة تعمدها المعماريون في بنائها ونترك بقيتها لكتاب آخر عن العمارة والفنون بمعناها الصريح. ومن هذه الخصائص استخدامهم أحجارًا صغيرة الحجم والاتساع. وتشييدهم مداميك الحجر في الهرم مقوسة إلى أسفل جريًا على عادة بنائي اللبن الذين يخشون انزلاق صفوفه وتشقق الجدران لو بنوا مداميك اللبن أفقية مسطحة. وعدم إقامتهم أسطونًا بقطره كاملًا. واكتفاؤهم بإقامة الأساطين نصف أسطوانية تعتمد على واجهات مبانيها أو تعتمد على جدران نصفية ساندة. وقد يرجع هذا وذاك على ذوق فني استحبوه أو يرجع إلى أنهم وهم لا يزالون في بداية عهدهم ببناء العمائر الحجرية لم يكونوا مطمئنين تمامًا إلى استخدام الأحجار الكبيرة أو ترك الأساطين منفردة بذاتها. ومن الخصائص كذلك استمرارهم على تقليد عمارة الخشب واللبن القديمة ولو لم تكن لها ضرورة إلا إظهار البراعية واستخدامها في الزينة. فقد زخرفوا الأجزاء العليا من واجهة السور الضخم بمربعات صغيرة محفورة قليلة العمق تصل بين كل حجر والحجر الذي يعلوه، ونحتوها لغرض الزخرف أولًا وليقلدوا بها وصلات وتعاشيق العمارة الخشبية القديمة ثانيًا. وبنوا سقوفًا حجرية مقبية قلدت أقبية اللبن والنبات القديمة. وجعلوا الأطراف العليا لواجهات بعض المقاصير مائلة في جانبيها لكي يقلدوا بها هيئة أطراف أعواد الغاب وجريد النخيل التي كانت تتداخل في بناء أكواخ العبادة القديمة وأسوارها، وبدءوا بها عنصرًا معماريًّا مميزًا يطلق عليه اصطلاحًا اسم الكورنيش المصري. وزخرفوا واجهات أخرى بما يمثل عقودًا معمارية مقوسة مفتوحة. وأقاموا جدرانًا منخفضة تقلد ستائر البوص والحصير الفاخرة التي كانوا يقيمونها مقام الحواجز بين مقاصير العبادة الإقليمية ويعقدون أطرافها العليا في هيئات زخرفية لطيفة. واستعاضوا عن بعض الأركان الرأسية في واجهات مبانيهم بأركان ملفوفة تكفل التنوع المعماري وتقلل الاحتكاك والتآكل من ناحية، وتوفر المساحة إلى جانبها من ناحية أخرى، وتظهر براعة النحت من ناحية ثالثة. وشكلوا أركانًا أخرى على هيئة سيقان الغاب التي كان أجدادهم الأقدمون يدعمون بها جوانب أكواخهم النباتية ويشدون جدرانها إليها بالحبال. وإلى هذا الحد يتضح كيف كان معماريو عصر الأسرة الثالثة فنانين ولم يكونوا مجرد بنائين، وكيف كانت مشاعرهم ذواقه وأذهانهم مشحونة بحب التنويع، ولم تكن مجرد أذهان ومشاعر آلية عملية تسير على وتيرة جامدة. وكيف كانت أيديهم تهتم بكل تفصيل كما لو كان وحدة قائمة بذاتها دون أن تكتفي بالمظهر العام بسيط التنفيذ. لم يكن المجد الفني قاصرا على المعماريين وحدهم وإنما شاركهم فيه فنانو النقش والنحت أيضًا. ونقش الفنانون ست لوحات أسفل الهرم وأسفل مقبرة تجاوره تسمى المقبرة الجنوبية. صوروا فيها فرعونهم يؤدي

طقوسًا أمام مقاصير أربابه، مشدود العضلات وافقًا متزنًا حينًا، ومسرعًا تكاد أطراف أصابعه لا تلمس الأرض حينًا آخر. وجعلوا لسطوح صوره تموجات خفيفة تعبر عن تكوين عظامه وشدة عضلاته ونحافة خصره وامتلاء شفتيه. وقد عبرت الصور عن كل ذلك بوضوح على الرغم من أنها لا تبرز عن مسطح لوحاتها بأكثر من ملليمترات قليلة. ونقشوا على قواعد بعض تماثيله عبارات وأشكالًا هيروغليفية بلغت حد الروعة في رقتها ونعومة مظهرها. وأظهر تمثال زوسر الكامل صاحبه في وقار وجدية، واكتفى المثال في نحته بالخطوط العامة، ولكنه تجاوز هذه الخطوط في تماثيله الأخرى التي أقامها في فناء العيد، فأظهر فيها إلى جانب البساطة في هيئتها العامة نصيبًا بارعًا من العناية بالتفاصيل في تمثيل جدائل العشر المستعار وتفاصيل نسيج الثياب وزخارف أهدابها، وتفاصيل الحلي ذات الوجوه الحتحورية التي تتوسطها، وتفاصيل الخرز المنظوم في شرائط الأحزمة التي كان الملك يتمنطق بها. وسايرت فنون الأفراد في عصر الأسرة الثالثة آثار الملوك في حدود إمكانياتها. وأبرع ما بقي من نقوشها هي نقوش الكاتب العالم "حسي رع" وقد نفذها فنانوها على إحدى عشرة لوحة خشبية كست مشكاوات واجهة مقبرته. وأظهروا فيها صوره وعلامات الكتابة التي سجلوا بها ألقابه بنفس الرقة وقلة البروز وخاصية النحافة التي أظهروا بها صور الملك زوسر ونقوشه. واستعانوا بتموجات السطوح على إظهار رشاقة صاحبها وعظام خديه وترقوتيه بل أو شفافية جلد وجهه. وأنفقوا الجهد والصبر وأظهروا البراعة في تمثيل شعوره المستعارة بتفاصيل دقيقة تختلف من لوحة إلى أخرى. وشاركهم رسام بارع سجل رسومه على جدار دهليز داخلي بُني من اللبن بنفس المقبرة وكسيت واجهته بالملاط، واستخدم فيها ستة ألوان زاهية صور بها ستائر الحصير الفاخرة، ورسم أسرة ومقاعد بمساقط أفقية ورأسية وجانبية سليمة. وجمع في الشكل الواحد منها بين أكثر من مسقط واحد رغبة في إظهار خصائصها على أوضح ما تكون. وعلى أساس هذه الرغبة رسم أواني ومرايا ومغارف داخل صناديق. ولكنه رسمها بتفاصيلها واضحة ظاهرة كأنما صنعت صناديقها من مادة شفافة أو كأنما نزعت عنها جوانب صناديقها وأغطيتها1. وبقي من تماثيل كبار الأفراد في عصر الأسرة الثالثة نحو ثمانية تماثيل يرجع أغلبها إلى ما بعد عهد زوسر بقليل. ويمتاز الجالس منها بجلوس صاحبه على مقعد حجري بسيط يقلد مقعدًا خشبيًّا بمسند منخفض أو بغير مسند وله قوائم ملتوية من الخيزران قلدت في الحجر بالنقش البارز، وتفاوتت قيم هذه التماثيل من حيث إتقانها ونجاح النحت فيها. وأفضلها ثلاثة: اثنان لرجل يدعى سبا، والثالث لزوجته. وقد صنعها مثالها من الحجر الجيري وأظهر نسبها سليمة وأظهر تفاصيل شعورها وثيابها، ولون بعض أجزائها بألوان لا يزال باقيًا منها لون الكحل الأخضر حول العيون. ومثل عصا سبا في جسم تمثاله بما يشبه النقش البارز أو النقش المجسم2.

_ 1 J. E. Quibell, Tomb Of Hesy, Ciro, 1913. 2 W. S. Smith, A History Of Egyptian Sculpture And Painting, 17 F.

قصة المجاعة

قصة المجاعة: أشادت بعهد زوسر وحكمة إيمحوتب نقوش صخرة كبيرة باقية في جزيرة سهيل جنوبي مدينة أسوان، ويطلق عليها اصطلاحًا اسم لوحة المجاعة. وتقص نقوشها أنه حدث في العام الثامن عشر من حكم زوسر وفي أيام الحاكم "مادير" رئيس معابد الجنوب وأمير النوبيين في آبو، أن زاد ضيق البلاد بعد أن عز الفيضان عليها سبع سنين، فقلت الحبوب وتضاءلت المحاصيل، واستشعر شيوخ البلاد وشبابها وأطفالها بآلام المجاعة. حتى الفرعون نفسه لحقه الهم وأراد أن يتحرى الأصول والأسباب لما لحق ببلده من بلاء، فاستدعى رئيس الكهنة المرتلين إيمحوتب وطلب إليه أن يتعرف على منبع النهر والإله الذي يجمع ماءه. فاختلى إيمحوتب بمخطوطاته، وعاد إلى الفرعون يخبره بأن ثمة قرية تسيطر على النهر والنبع تسمى آبو، تعتبر بداية البداية وحاضرة الإقليم الأول، وعندها يوجد المنبعان اللذان يصدر عنهما كل خير، وهي المهد الذي ينشأ الفيضان عنده ويتجمع. ولما سمع زوسر هذه الفتوى سارع بتقديم الأضاحي والقرابين لأرباب وربات آبو "أسوان الحالية وإن اقتصر اسمها بعد ذل على جزيرة أسوان". غير أنه لما جن الليل عليه رأى فيما يرى النائم الإله خنوم مشكل البشر من صلصال يحدثه جهرة ويقول له: "أنا خنوم خالقك، أنا من يرسل يديه من ورائك لأكفل لك التأييد وأهب بدنك العافية، أنا الذي أوجدت اليابسة، ووهبتك أحجار الجرانيت منذ القدم فشاد الناس بها المعابد وجددوا بها المتهدم، أنا نون العظيم الموجود منذ الأزل. أنا الفيضان الذي يرتفع حينما يشاء". ولما أفاق الفرعون آمن بأن صاحب السيطرة في منطقة آبو هو "خنوم" دون غيره، وأمر بأن توقف بعض خيرات المنطقة لصالحه وحده، وأن يجعل لمعبده الحق في الحصول على ضريبة العشر من صيد السمك والطيور وأعمال المحاجر والمتاجر بمنطقته. وأصدر مرسومًا خاصًّا يحدد دائرة نفوذ الإله وخاطب فيه خنوم قائلًا: "جعلت حدك الغربي جبال مانون، وحدك الشرقي جبال بخت، من آبو إلى المحرقة اثني عشر فرسخًا، لما في ذلك الضفة الغربية، من أراضي الزراعة ودروب الصحراء ومجرى النهر وكل مكان يقع في دائرة الفراسخ المذكورة آنفًا ... ". نقشت نقوش لوحة المجاعة أو صخرة سهيل هذه في صورتها الحالية في عصر البطالمة وقد تعمد كاتبها أن يحدد عام اشتداد المجاعة وفترتها ليوحي بالثقة في روايته. ولعل في تحديد فترة السبع سنوات العجاف فيها ما يماثل فترة المجاعة في مصر أيام يوسف عليه السلام، كما أن في ذكر الرؤيا والاهتمام بتفسيرها ما يشبه رؤيا الملك، وإن فيما روته القصة عن نشأة الفيضان عند أسوان ما يشير إلى غموض أسبابه عند معاصريها، كما أن في تحديد نصيب معبد خنوم بعشر الدخل ما قد يوحي بأن نسبة العشر كانت نسبة مقبولة في تحصيل الضرائب. وقد اتجه الباحثون في شأن القصة وجهتين: وجهة ارتأى أصحابها ومنهم ماسبروا أنها قصة مختلفة ابتدعها كهنة خنوم في المنطقة لاستدرار عطف البطالمة بعد أن طغت عليهم شهرة معبد للمعبودة إيسة أقيم عن قرب منهم في جزيرة فيلاي وانصرفت إليه هدايا الملوك وقرابينهم. ثم وجهة أخرى ارتأى أصحابها ومنهم كورت زيته أن للقصة أصلًا قديمًا. وأن الأسلوب الذي كتبت به في عصر البطالمة لا يخلو من تعبيرات ترجع إلى الدولة القديمة ذاتها. وأنه يحتمل لذلك أنه كان لها متن قديم مكتوب على الحجر أو غيره ولكنه

تعرض للتلف بمرور الزمن، فلما زار أحد الملوك البطالمة المنطقة، وهو بطلميوس الخامس أو بطلميوس العاشر، قص الكهان عليه القصة كاملة، فأمر بنقشها من جديد وتجديد معبد خنوم في جزيرة سهيل، مع تنفيذ ما جاء في القصة لصالح معبده. ولا يزال هذا التفسير هو المقبول حتى الآن1.

_ 1 See, J. Vandier, La Famine Dans L'egypt Ancienne, Le Caire, 1936, 39 F., 132f.

التقويم

التقويم: زاد الاهتمام في عهد زوسر بمدينة أونو "أو عين شمس" مقر عبادة الشمس، وحمل كبير مهندسيه إيمحوتب لقبًا قد يقرأ "كبير المتطلعين "إلى السماء" لرصد حركات الكواكب والنجوم فيها، باعتباره رئيس الفلكين في مدينته، أو يقرأ بما يعني أنه "المتطلع إلى "رب الشمس" الكبير" باعتباره رئيس كهنته. وارتبطت رعاية زوسر للمدينة بخطوة حضارية جديدة اهتدى علماؤها فيها إلى ابتداع تقويم سنوي مدني يجمع بين خصائص التقويم الشمسي والتقويم النجمي ونفذوه منذ عام 2773ق. م. على وجه التقريب، واحتسبوا أيام السنة على أساسه 365 يومًا وقسموها اثني عشر شهرًا، ضمنوا كل شهر منها ثلاثين يومًا، ثم اعتبروا الأيام الخمسة الأخيرة أيام أعياد تحتفل الدولة فيها بموالد الأرباب: أوزير، وإيسة، وست، ونبت حت، وحور "أي أوزيريس وإيزيس وست ونفتيس وحورس". وهي أيام النسيء الخمسة التي تحتفظ السنة الزراعية بها حتى الآن. وكان كل من الباحثين العلماء كورت زيته، ولودفيج بورخارت، وإدوارد ماير، قد ردوا هذه الخطوة الحضارية إلى أيام مجد عين شمس السياسي خلال فجر التاريخ وبدءوا التقويم السنوي على هذا الأساس في فترة تقع بين عامي 4241 - 4236ق. م. ثم قام جدل طويل اعترض اعتقادهم، وهو جدل لا يخلو من منطقية ووجاهة1، ومؤداه أن ابتداع المصريين لهذا التقويم لم يكن بالأمر الهين، وأنه كان يتطلب ملاحظة طويلة ويعتمد على نضج عقلي واسع لم يكن من السهل أن يتوفر في دنياهم قبل عهد زوسر. وأنه إذا كان المصريون قد اهتدوا إلى تقويم سنوي قبل عهده، فهو التقويم النيلي، أو التقويم الذي يبدأ ببداية وصول فيضان النيل إلى منطقة معينة ذات أهمية سياسية أو قيمة حيوية، وهي منطقة برحعبي التي توسطت إقليمي عين شمس ومنف وتقرب من جزيرة الروضة أو مصر العتيقة الحالية. وإذا كان المصريون قد اهتدوا على التأريخ بالشهور قبل عهد زوسر، وهذا مؤكد، فهو تأريخ اعتمد على الدورة القمرية الشهرية التي يمكن ترسم بدايتها ونهايتها في يسر وسهولة. ولكن شيئًا فشيئًا لحظ المصريون المحتفلون بوفاء نيلهم أن فجر وصول فيضانه إلى ما يجاور عين شمس ومنف يقترن بظاهرة سماوية معينة، وهي أنه بعد اختفاء نجم الشعرى

_ 1 Neugebauer, "Die Bedeutungslos'gkeit Der Sothisperiode" Acta Orientalia, Xviii "1938", 175 F.; A. Scharff "Die Bedeutungslos'gkeit Des Songenonnten ?ltester Datums" In Hist. A., 1940, 3 F. ; Kees, Gottergl., 259 F. ; R. W. Sloley, "The Origir Of The 365-Day Egyptiar Calendar", Asae, Xlviii, 261 F., Parket, The Calendars Of Ancient Egypt, 1950; W. Smith, Jnes, 1952, 122-123; Jea 1969, 36 F.

ذي الضوء الساطع، الذي اعتبروه أنثى وسموه سوبدة، عن مجال الرؤية نحو سبعين يومًا، يعود فيتألق في أفق السماء ويبقى حتى مطلع الشمس المبكر كأنما ليبشر ببداية الفيضان. ولما استقرت هذه الظاهرة في أذهانهم، ولحظوها زمنًا، أصبحوا يترقبون اجتماع هذه الظواهر الطبيعية عن قصد، وأطلقوا على الشعرى لقب جالبة الفيضان، واعتبروا بداية ظهورها في الأفق الشرقي عند الفجر "حوالي 17 يوليو من التقويم اليولياني" أول يوم في أول شهر في أول فصل، وهو فصل الفيضان. ثم حسبوا ما بين كل ظهور صادق وظهور صادق آخر للشعرى مع مطلع الشمس، فوجدوه 365 يومًا، ووجوده يتضمن اثني عشر شهرًا قمريًّا وكسورًا لا تصل إلى نصف شهر، فأكملوا عدة كل شهر ثلاثين يومًا وتبقت خمسة أيام احتسبوها نسيئًا وأعيادًا. ثم اعتبروا السنة ثلاثة فصول: فصل الفيضان "آخة"، وفصل خروج النبت "من الأرض" "برة" وهو يوازي فصل الشتاء، ثم فصل التحاريق "شمو". وكان من المتوقع أن تتم هذه الخطوة البارعة في عهد نشاط ينزع أهله إلى التجديد ويسعون إليه، وكان فيما يرجحه المعترضون على رأي زيته وزملائه عهد زوسر. ولم يسجل المصريون شيئًا عن مراحل هذه الخطوة في حينها أو في عهد آخر من عهود الدولة القديمة، ولكنهم أرخوا بالفصول والشهور الاثني عشر بالفعل بعد عهد زوسر1. ثم أشار خلفاؤهم إلى دورة الشعرى في وثائقهم ثلاث مرات على أقل تقدير على فترات متباعدة2. غير أن هذه الخطوة التي ربط المصريون بينها وبين دورة الشعرى، كما ربطوا بينها وبين الانقلاب الشمسي قصدًا أو اتفاقًا، وقسموا الشهور على أساسها اثني عشر شهرًا، وسبقوا بها كل شعوب العالم القديم التي ظلت تؤرخ بالتقويم القمري وحده لم تكن بغير نقيصة تؤخذ عليها، فهم قد احتسبوا سنتهم 365 يومًا وليس 365 يومًا وربع يوم، وكان من شأن ربع اليوم أن يصبح يومًا كل أربع سنوات، ويصبح شهرًا كل 121 عامًا وربع عام تقريبًا، وبمعنى آخر كان من شأن بداية السنة المدنية الفلكية "الشمسية الشعرية" أن تتأخر عن بداية الفيضان الفعلية شهرًا بعد كل 121 عامًا وربع عام، ثم لا تعود لتتفق معها إلا بعد أن يبلغ الفارق بينهما حولًا كاملًا، بعد كل 1456 عامًا. ولم تتكرر ظاهرة الاتفاق بين البدايتين، بداية السنة المدنية أو الفلكية وبداية الفيضان، غير ثلاث مرات منذ أن بدأ المصريون توقيتهم: عام 2773ق. م وهو عام البداية3، وعام 1317ق. م وهو عام تو سيتي الأول، ثم عام 139م – وقد سجل هذه المرة الأخيرة الروماني المتوطن كنسورينوس وأثبت أن نجم سوبدة ظهر في موعده4.

_ 1 ذكر فصل "شمو" في حوليات سنفرو رأس الأسرة الرابعة. وتأكد اعتبار السنة 365 يومًا في حوليات الأسرة الخامسة، ولو أن هذا لا يمنع من أنه بدأ قبلها. 2 في وثائق من العام السابع لحكم سنوسرت الثالث حوالي عام 1872، وفي العام التاسع من حكم أمنحوتب الأول حوالي 1536، وخلال عهد تحوتمس الثالث حوالي عام 1469. 3 أو عام 2776 كما يظن شارف، أو بين 2770، 2798 كما يظن سيدني سميث، أو بين 2773 - 2770 كما يظن ... J. Arch., Xlix, 1945, 24. 4 أما في عرف من رجعوا ببداية التوقيت على فجر التاريخ فقد حدث التوافق أربع مرات بدأت أولاها بين "4241، و6 ... ق. م. أو بين 4229 و4226ق. م.

وأدرك المصريون هذا الفارق وتندر أدباؤهم به، ولكنهم لم يعملوا على تلافيه، في حدود ما تدل عليه وثائقهم المعروفة حتى الآن، إلى أن أشار قرار كانوب "أبو قير" الذي أصدره مجمع الكهنة المصريين عام 237ق. م إلى اتجاه النية حينذاك إلى إضافة يوم على أيام النسيء الخمسة "حتى لا تأتي أعياد الشتاء في الصيف نتيجة لتغير الشمس يومًا كل أربع سنوات، وحتى تصبح أعياد الصيف الحالية أعيادًا شتوية في المستقبل كما كان عليه حالها في الماضي". غير أن التجديد لم يستمر، ولم يتعدل التقويم بصورة دائمة إلا في عهد أوجسطوس عام 30ق. م. حين ظهر التقويم اليولياني وثبت العام بمقتضاه 365 يومًا وربع يوم. والطريف أن كلًّا من إسترابون وديودور الصقلي قد ردا الفضل الأصيل في هذا التعديل الأخير إلى المصريين أنفسهم واعتبراه اختراعًا ذكيًّا قديمًا1. وعلى أية حال فلا زال التقويم المصري القديم مأخوذًا به في أساسه حتى الآن في السنة الزراعية، أو ما يعرف خطأ باسم السنة القبطية. ويفضله المزارعون عادة على التقويم الميلادي وشهوره الإفرنجية، ويرونه أنسب لتعيين مواقيت الحرث والبذر والري والحصاد على الرغم من نقص ربع اليوم الفلكي فيه. ولا زال بعض الفلاحين يحتفظون بذكريات أجدادهم في تسمية ليلة الفيضان "ليلة النقطة" أو "ليلة سقوط الدمعة" في 12 بوونة، أي الليلة التي دمعت فيها الربة إيسة "إيزيس" المرموز إليها بنجم الشعرى على زوجها أوزير فجرى الفيضان من دمعتها. وظل المصريون القدماء يميزون الشهور بأرقامها، إلى أن ربطوا بينها وبين أسماء ومناسبات مقدسة خلال الدول الحديثة، ثم استقرت هذه الأسماء، منذ القرن السادس ق. م. وبقيت حتى الآن مع قليل من التحريف اللفظي مثل: توت وكان يوافق عيد الإله تحوتي، وهاتور وكان يوافق عيد الربة حتحور، وهلم جرًّا. تعاقب بعد زوسر عدد من الفراعنة، جعلتهم القوائم الملكية بين الأربعة والستة، وجعلهم مانيتون ثمانية، واحتفظت الآثار القائمة بأسماء ما بين الثلاثة والخمسة منهم. ثم انتهت أيام الأسرة بالملك حوني، وهو ملك ذكرت بردية تورين أنه حكم أربعة وعشرين عامًا. وقد شاد له مهندسوه هرمًا ضخمًا في منطقة ميدوم غيروا تصميمه أكثر من مرة وجعلوه في نهاية أمره على هيئة هرم مدرج ذي ثمان درجات كاملة. وبدءوا في كساء درجاته بأحجار جيرية بيضاء، ولكن ملكهم مات قبل أن يتموه، فأتموه في عهد ولده سنفرو أول ملوك الأسرة الرابعة، واستفادوا من تجارب عهده لإنشاء هرم كامل حاد الزوايا مستوي الخطوط، وعملوا بإذنه، أي بإذن سنفرو، على تنفيذ هذا التجديد في هرم أبيه، فملئوا الفراغات بين درجاته بالأحجار وكسوه ببلاطات جيرية كبيرة ليكون مستوى الجوانب أو ليتخذ هيئة الهرم الكامل، ولسنا ندري مدى نجاحهم في تحقيق هذه الغاية؛ إذ تهدمت أغلب أجزاء الهرم ولم يتبق منه غير نحو ثلث ارتفاعه الأصلي.

_ 1 See, Strabo, XVII, 29; Diodorus, I, 50.

ثانيا: الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة

ثانيا: الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة تجديدات عهد سنفرو ... ثانيًا: الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة 2680 - 2560ق. م تجديدات عهد سنفرو: بدأ عصر الأسرة الرابعة بعهد "سنفرو" أو "بتاح سنفروي" كما سماه أبواه، بمعنى الإله "بتاح جملني"، وكان العهد منذ بدايته بشيرًا بنهضة جديدة اتسع خلالها نشاط مصر التجاري مع جيرانها، وامتد نشاطها العسكري إلى نهايات حدودها، وتطورت فيها عمائرها وفنونها تطورًا واسعًا. فاتسع نطاق تبادلها التجاري مع فينيقيا بحيث سجلت حوليات سنفرو في قائمة بالرمو ورود أربعين سفينة منها محملة بأخشاب "عش" خلال عام واحد من أعوام حكمه1، وهي أخشاب من فصيلة الأرز أو الصنوبر استخدمها رجال في تشييد سفن كبيرة بلغ طول بعضها مائة ذراع، أي نحو اثنين وخمسين مترًا، كما استخدموها في صناعة أبواب قصوره وفي بعض الأجزاء الداخلية من هرمه. ويبدو أن عهده كان ذا اهتمام خاص بالملاحة؛ إذ ذكرت حولياته مشروعًا لصناعة ستين سفينة لكل سفينة منها ستة عشر مجذافًا، دفعة واحدة2. وقد زكت ضخامة المركب النيلية التي عثر عليها بجوار هرم ولده خوفو "ص118" صدق ما روته حوليات حجر بالرمو عن ضخامة السفن البحرية في عهده. وسجلت الحوليات نفسها نشاطًا عسكريًّا واسعًا في سبيل تأمين الحدود الجنوبية والغربية وتعويد أهلها على النظام والطاعة واشتدت عليهم بعض الشيء في هذا السبيل. وتوفر للعهد نشاط مماثل على الحدود الشرقية وفي شبه جزيرة سيناء، وكانت لسيناء كجزء من مصر أهمية في اقتصاديات البلاد وصناعتها؛ إذ ظلت المورد الرئيسي للفيروز والدهنج والنحاس، وسمي جزء منها باسم مدرجات الفيروز، ثم هي بموقعها تحف بطرق التجارة البرية بين مصر وبين جنوب الشام، غير أنها لتطرفها واتساعها وصحراويتها وجدبها كثيرًا ما دفع الفقر قبائلها البدوية من حين إلى حين إلى تهديد بعثات الاستثمار وقوافل التجارة والاعتداء عليها ونهب مؤنها وبضائعها،. وتعين لذلك على الحكومات القائمة في مصر القديمة أن تباشر حماية بعثاتها وقوافلها بقوات عسكرية تصحبها وتكفل لها الأمان والهيبة. ولم يكن الأمر يخلو من اشتباكات بين قوات الحكومة وبين البدو.

_ 1 Palermo, Rt. Vi, 2 And See, Wb. I, 228 Fo. "Abies Cilicica" Cedar Wood. 2 Urk. I, 236.

وحرص قادة هذه القوات على أن يسجلوا أخبار نشاطهم على صخور سيناء ولا سيما صخور "وادي" مغارة، وينسبوها إلى فرعونهم ويصوروه على وجه الصخر وهو يؤدب كبير شيوخ البدو ويكاد يهوي على رأسه بمقمعته. واحتفظت صخور "وادي" مغارة بصورة من هذا القبيل للملك سنفرو، تعتبر آية من آيات الفن في عهده، على الرغم من أنها نقشت على صخر رديء1. وظلت ذكرى سنفرو ماثلة في شبه جزيرة سيناء أجيالًا طويلة، حتى اعتبره خلفاؤه من حماتها، وقدسوه فيها، وضموه إلى رعاتها من الأرباب2. وظلت بعض نقط الحراسة على الحدود الشمالية الشرقية تعرف باسمه حتى الدولة الوسطى على أقل تقدير. تطور بناء الهرم: وضحت نتائج النشاط التجاري والسياسي في عهد سنفرو، في آثاره وآثر أسرته، وفي نصوص رعاياه3. وسمح رخاء عهده لرجاله بأن يشيدوا له هرمين عظيمين بمعابدهما في منطقة دهشور، وأن يكملوا هرم أبيه حوني في ميدوم. ومثلت هذه الأهرام وملحقاتها مرحلة جديدة من مراحل العمارة المصرية. فقد شاد له مهندسه هرمه في دهشور ليكون هرمًا كامل الشكل منذ بدايته، وبدأ بناءه بزاوية ميل مقدارها 54.14 درجة، ولكنه بعد أن بلغ بهذا الميل ما يزيد ارتفاعه عن تسعة وأربعين مترًا، أدرك أنه لو واصل البناء على أساسه فلسوف يرتفع الهرم إلى أكثر مما قدره له أو أكثر مما تحتمل قاعدته، ولحظ أن بعض الجدران الداخلية للهرم بدأت تتشقق بالفعل، فغير زاوية الميل إلى 53.210، وأكمل بناء الهرم حتى بلغ ارتفاعه 101.15 من الأمتار، ولكنه ظهر في هيئته الأخيرة منكسر الزاوية في منتصفه على غير ما أراده صاحبه ومهندسه. ولهذا استغل المهندس سعة إمكانيات عهده في تشييد هرم آخر شمالي الهرم الأول بما يقل عن الكيلومترين واستفاد في تصميمه من تجاربه في الهرم السابق، فبدأ بزاوية ميل مناسبة تبلغ 43.40 درجة. وعندما أتمه أصبح أول هرم كامل صحيح النسب حاد الزوايا مستوي الجوانب، بلغ ارتفاعه نحو 99 مترًا. وقد كُسي هو والهرم الأول بأحجار جيرية بيضاء ملساء4. وأطلق الكهنة برضاء الملك أو بوحيه، على كل هرم من الهرمين اسم "خع سنفرو" ربما بمعنى شع سنفرو، أو تجلي سنفرو5. وليس من المستبعد أنهم جعلوا بين هذا الاسم وبين كساء الهرمين وصاحب الهرمين نوعًا من الارتباط المقصود، فقد كان من شأن الكساء الأبيض الناصع لكل هرم أن يستقبل أشعة الشمس القوية ويعكس نورها على ما حوله، فيبدو النور في أسفل الوادي وكأنما يصدر عن الهرم نفسه، أو بمعنى آخر كأنما يشع عن صاحبه الثاوي فيه.

_ 1 Petrie, Researches In Sinai, Pls. 50, 51. 2 Breasted, Ancient Records. I, 722; L. D., Ii, 137 G. Ibid., I, 165, 5; 312, 21. 3 A. Fakry, The Monuments Of Sneferu, Cairo, 1959; G. Reisner. Development ….., 197, F., 4 199 F. ; Edwards, Pyrmids Of Egypt, 68 F., 82. 1.; Lauer, Le Probléme Des Pyramides, Patis, 1949. 5 Gauthier, L.R., 65. – ولكنهم ميزوا بين كل منهما بقولهم الأمامي والخلفي أو القبلي والبحري.

كان الشكل الهرمي ثمرة أخيرة للتطور المعماري الطويل الذي بدأ في عصر بداية الأسرات بالمصطبة ماثلة الجوانب ذات المسطح الواحد وانتقل منها إلى المصطبة ذات المسطحين أي ذات الإضافة الواحدة المحيطة بها، والمصطبة ذات المسطحات الثلاثة أي ذات الإضافتين المحيطتين بها. ثم تطور في عصر الأسرة الثالثة على هرم زوسر المدرج، وبعده إلى هرم ميدوم الذي حاول مهندسوه أن يجعلوه كاملًا مستويًا في مظهره مدرجًا في مخبره. وارتقى في بداية عصر الأسرة الرابعة إلى هرم دهشور الجنوبي الذي أظهر نواحي الخطإ والصواب في التجارب المعمارية لمنشئيه، وانتهى أخيرًا إلى هرم دهشور الشمالي نجح مهندسه في تنفيذ هيئته الهرمية كاملة. وليس ما يمنع من أن نفترض أن أصحاب هذا التطور الهرمي قد استرشدوا في بعض مراحله بنموذج طبيعي مائل في بيئتهم وهو مظهر التلال الهرمية أو المخروطية التي تحف بالوادي من شرقه وغربه والتي كان المعماريون يرونها رأي العين كلما جالوا في الصحراء التي تحيط بمناطق الجبانات نفسها. ألحق رجال سنفرو بهرمه الجنوبي معبدين، معبدًا صغيرًا يلاصق الواجهة الشرقية للهرم، وينفتح ناحية الشرق، ويسمى اصطلاحًا باسم معبد الشعائر، ومعبدًا آخر عند اتصال الهضبة التي شادوا الهرم فوقها بالوادي المنزرع، ويسمى اصطلاحًا باسم معبد الوادي. ويصل بين المعبدين طريق ممهد صاعد. وجرت العادة على تخصيص المعبد الأول لأداء الدعوات والشعائر اليومية والموسمية لصالح الملك المتوفى وتقديم القرابين باسم روحه لتنعم بها وتستفيد منها فائدة معنوية تناسبها وتناسب عالمها الذي تعيش فيه "ولهذا أسميناه معبد الشعائر وليس المعبد الجنازي كما تسميه أكثر المؤلفات، حيث تقل صلته بالجنازة". وقد أسلفنا في حديثنا عن عصر الأسرة الثالثة ما يحتمل من ارتباط وجود معبد الشعائر ناحية الشمال من هرم زوسر بعقائد أهل عصره عن انتقال أرواح ملوكهم وأخيارهم بعد الموت إلى السماء وحياتها بين النجوم النيرة الشمالية الخالدة وهي مجموعة النجم القطبي. أما اتجاه معبد سنفرو إلى الشرق فيمكن تعليله بأحد تعليلين وهما: أن تشييد معابد الأهرام في الصحراء الغربية في أغلب الأحوال أثار رغبة أصحابها في أن تستقبل واجهاتها ومداخلها دنيا الأحياء في الشرق أي في الوادي المنزرع، وتستقبل مواكب الكهنة ومواكب القرابين الآتية منه. وكانت هذه هي نفس الرغبة التي حدث بكبار أصحاب المصاطب القديمة على بناء مقاصير قربان مقابرهم ناحية الشرق منذ عصر الأسرة الأولى. أما التعليل الثاني فهو رغبة منشئ المعبد أو صاحبه في أن يتجه بمدخله ناحية الشمس عند شروقها، إما تعبدًا لرب الشمس، أو بناء على اعتقاد جديد بأن روح الملك سوف تصحب رب الشمس في تجواله في سماء الدنيا نهارًا وسماء الآخرة ليلًا. ولما كان من المفروض أن تظهر معه في الشرق كل صباح وجب أن ينفتح باب معبدها إلى ناحية الشرق أيضًا ليستقبلها كلما رنت إلى زيارة هذا المعبد حين تقدم القرابين فيه باسمها كل صباح، وبعد أن تكون قد أتمت رحلتها الليلية مع ربها. وأصبح تشييد معبد الشعائر شرقي الهرم سنة متبعة منذ عهد سنفرو، بينما اقتصر الاتجاه ناحية الشمال على مداخل الأهرام دون مداخل معابدها. "وإن كان هرم سنفرو الجنوبي قد تضمن مدخلين، مدخلًا شماليًّا وآخر غربيًّا". ويبدو في هذا الازدواج بين الشمال وبين الشرق ما يتصل بخاصية لازمت الحضارة المصرية في كل أطوارها، وهي خاصية المحافظة ومسايرة الجديد للقديم دون أن يقضي عليه.

معالم أخرى: وضعت مظاهر الرفاهة والغنى والحياة الرغدة في مقابر أسرة سنفرو في ميدوم ودهشور والجيزة، ومنها مقبرة زوجته حوتب حرس التي يعتقد الأثري ريزنر أن أغلب محتوياتها قد نهبت في دهشور في عهد ولدها العظيم خوفو، وإذا صح هذا كان معناه أن التقديس الرسمي للملوك لم يكن يمنع بعض رعاياهم من الاعتداء على آثارهم إذا سنحت لهم الفرصة ودفعهم دافع الطمع. ولا زال القليل الباقي من آثار حوتب حرس التي نقلت إلى مقبرة أخرى في الجيزة، ينم عن ذوق رفيع في صناعة وزخرفة سريرها ومقعدها ومحفتها، وتطعيم أخشابها بالأبنوس وتصفيحها برقائق الذهب، وصناعة حليها الفضية وملاعقها الذهبية وأوانيها المرمرية وأباريقها وقناني دهونها الأنيقة، ثم في تنفيذ نقوشها الصغيرة التي صورت الملكة وسجلت ألقابها، وصورت زوجها على عرشه، وصورت عدة زخارف على هيئة الفراشات والحيات في روعة وإتقان بالغين. ثم نقوش الأميرين نفرماعت ورع حوتب في ميدوم وقد صورت بعض وجوه العمل اليومي في الزراعة وتربية الحيوان والملاحة والصيد فضلًا عن بعض وسائد المرح الخفيف. ورسوم مقبرة الأميرة إتت زوجة الأمير نفرماعت التي تعتبر من أفضل رسوم الدولة القديمة، وأهم ما بقي منها هي اللوحة المشهورة بلوحة الأوز، وتتميز بدقة تفاصيلها وألوانها ووضوح نسيج ريش طيورها، مع طرافة توزيع ظلالها، وتصوير الحشائش وحبات الحصى الصغيرة تحت أقدام هذه الطيور. وأخيرًا تمثالًا الأمير رع حوتب وزوجته نفرة، وكل منهما غني عن التعريف بما اكتمل فيه من سلامة النسب والحيوية المتدفقة التي زاد منها احتفاظ كل منهما بألوانه الأصيلة وتطعيم عينيه، مع الاهتمام البالغ بتصوير ملامح الوجهين والنجاح في التعبير عن مشاعر صاحبيهما1، ولا زال المتحف المصري بالقاهرة يفخر باحتوائهما. ولم تقتصر مظاهر الرخاء في عهد سنفرو على آثاره وآثار أسرته، وإنما دلت نصوص فردية من عهده على أن مجال الثراء ومجال الترقي في المناصب الحكومية كانا متاحين للنابهين من أفراد شعبه. ومن هذه النصوص نص رجل يدعى مثن، ذكر فيه أنه لم يرث عن أبيه غلالًا ولا أثاثًا، وإنما قليلًا من المدخرات والأتباع، وأنه بدأ حياته الوظيفية باشكاتبًا لإدارة التموين وأمينًا على محتوياتها، ثم ترقى في الوظائف حتى ولي إدارة بعض أقاليم الوجهين، القبلي والبحري، فضلًا عن رئاسة عدد من مدنهما الكبيرة. وذكر أنه كوفئ بإقطاعية واسعة من الأرض، واستغل اثنتي عشرة ضيعة لحسابه، وشاد لنفسه دوارًا أحاطت به حدائق غناء، وبلغت مساحته معها نحو عشرة آلاف متر مربع. وذلك فضلًا عن خمسين فدانًا "سثاة" كان قد ورثها عن أمه. ولم تقتصر إنعامات الدولة عليه على شئون دنياه وحدها، وإنما كفلت له رزق آخرته، فخصصت لمقبرته مائة رغيف يوميًّا قربانًا من معبد شعائر أم ولد الملك "ني ماعت حاب" "وهي أم زوسر"2.

_ 1 توجد هذه النماذج بالمتحف المصري. 2 Urk., I, Lf. "2, 4, 9".; Mdaik 1965, L F.

تلقب سنفرو بلقب معبر، وهو "نب ماعت"، أي رب العدالة. وامتازت الأوضاع السياسية في عهده بإنشاء منصب الوزارة رسميًّا لأول مرة، وقد أسنده إلى أمير كبير من أولاده أو من أسرته وهو نفرماعت. وظلت الوزارة في الأمراء الكبار وحدهم حتى نهاية عصر الأسرة الرابعة. ويعتقد الأستاذ ريزنر أن الملوك. جعلوها في البداية في أكبر أبناء الملكات الثانويات تعويضًا لهم عن وراثة العرش وإرضاء لأمهاتهم1. ذكرت بردية تورين أن سنفرو حكم أربعة وعشرين عامًا. وقد توفر له بين قومه نصيب وافٍ من مدلول لقبه "نب ماعت". فاحتفظ له الأدب الشعبي بذكرى عطرة قلما احتفظ بها لملك سواه، وتضمنت هذه الذكرى ثلاث روايات صورته جميعها على وتيرة واحدة، فوصفته بأنه "ملك فاضل"، وصورته متواضعًا يميل إلى المعرفة ويكرم العلماء ويحسن الاستماع ويكتب بنفسه ولا يأبى أن يسأل عما لا يعرفه، كما صورته يميل إلى المرح والاستمتاع. وسوف نستشهد بروايتين منها في فصل الأدب المصري القديم.

_ 1 A. Weil, Die Vaziere Des Pharonenre: Ches, I; G. Reisner, The Tomb Of Hetep Heres, I, 9.

عهد خوفو

عهد خوفو: ورث عرش سنفرو ولده "خنوم خوفوي"، أو خوفو كما اختصر اسمه قديمًا ولا زال يعرف به، واستفاد خوفو من خبرات رجال أبيه وجهود عهده، وتوفر له من سعة السلطان أكثر مما توفر لأبيه كما توفر لمصر في عهده من الإمكانيات المادية والكفايات الفنية أكثر مما توفر لها في عهد أبيه. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من شهرته كصاحب الهرم الأكبر، فليس ما يعرف عن أخبار عهده غير القليل. ومن هذا القليل أنه عثر على اسمه منقوشًا على محاجر منطقة جنوبية بعيدة تقع في الصحراء الغربية شمال شرق أبي سنبل وشمال غرب توشكا. وقد استغل رجاله منجم الجمشت فيها، كما قطعوا أحجار الديوريت منها ونقلوا عددًا من كتلها الضخمة نحو 750 ميلًا إلى عاصمتهم ليصنعوا منها تماثيل مولاهم، وليرصفوا بها وأرضية معبده أيضًا فوق هضبة الجيزة، وخلدوا بذلك آيات جلدهم مثلما استطاع مولاهم أن يخلد سلطانه بضخامة هرمه. وظهر اسم خوفو على بعض آثار معبد قديم في ميناء جبيل بلبنان، ووجدت معه أسماء ملوك مصريين آخرين سبقوه ولحقوا به من العصر العتيق ومن الدولة القديمة1. وليس ما يعرف حتى الآن عن الصورة

_ 1 Asae,XXXVIII, 369 F, ;Kees, Das Alte Aeg., 179. – ويفهم من حوليات خوفو أنه نحت له 14 تمثالًا دفعة واحدة تمثله واقفًا، ووجدت بقايا متناثرة كثيرة لتماثيله قرب هرمه. Urk., I, 238, I; W. S. Smith, A History Of Egyption Sculpture …, 20-21. P. Montet, Byblos't L'egypte, 1928, 29 T., 68 T.; Nelson, In Beyruts, 1934, 19 F. أطلق المصريون على جبيل في نصوص الدولة القديمة اسم "كبن"، وفي نصوص الدولة الوسطى "كبني"، وفي نصوص الدولة الحديثة "كبنا"، وذكرها الآشوريون باسم "جوبلا". H. Gauthier, Dict. Géeg., V, 197f. ; Gardiner Ancient Egyptian Oncmastica, I, 257.

الأولى التي نشأ هذا المعبد عليها، فهو قد يكون معبدًا أموري الأصل، أراد الملوك المصريون أن يجاملوا أصحابه فأهدوهم هدايا ثمينة تحمل أسماءهم، وبهذا لم يمنعهم تمسكهم بدينهم المصري من أن يتسامحوا مع أرباب جيرانهم ويعملوا على إثراء معابدهم. وقد يكون معبدًا مصري الأصل شادته جالية مصرية تجارية أقامت في جبيل وعكفت فيه على عبادة أربابه المصريين وسجلت أسماء ملوكها على مقتنياته، أو يكون أخيرًا معبدًا مصريًّا كذلك أقامه أمراء جبيل مجاملة للمصريين المقيمين في مدينتهم، وتقبلوا له الهدايا من الفراعنة المصريين.

تعبيرات الهرم الأكبر

تعبيرات الهرم الأكبر: ليس من شك في أن الهرم الأكبر الذي أقيم باسم خوفو فوق هضبة الجيزة شمال العاصمة القديمة منف، هو الشاهد الصريح على عظمة عهد صاحبه، وليس من شك كذلك في أن مهندس هذا الهرم قد استفاد من المحاولات والتجارب التي سبقت عهده والتي حاول أصحابها أن يتموا بها هيئة الهرم الكامل لمقابر ملوكهم لولا أن أنه بز محاولاتهم جميعها بضخامة هرمه الهائلة والدقة البالغة التي أتم بها بنيانه. فهرم خوفو قد شغل مساحة تقرب من 13 فدانًا، وبلغ ارتفاعه الأصلي نحو 146 مترًا1 "أنقصتها العوامل الجوية إلى 139 مترًا"، واستخدم البناءون في بنائه نحو مليونين وثلاثمائة ألف كتلة حجرية تراوحت زنة الواحدة منها بين الطنين والنصف والثلاثة أطنان وما هو أكثر2، وقد قطعوها جميعها من محاجر هضبة الجيزة التي شيدوا الهرم فوقها، فيما عدا الكساء الخارجي للهرم فقد قطعوا لوحاته السميكة الضخمة من محاجر طرة والمعصرة التي امتازت بأحجارها الجيرية الناصعة البياض، قرب ضفة النيل الشرقية المقابلة للضفة التي أقاموا الهرم على مقربة منها، وذلك فضلًا عما ذكرناه عن احتمال استخدامهم أحجار الديوريت في رصف أرضية معبد شعائره. بُني الهرم أساسًا ليصبح ملجأ أمينًا لجثة الفرعون ومقتنياته الخاصة، وشاهدًا على ثرائه وسعة سلطانه، ووسيلة لخلود ذكره وذيوع شهرته، ودليلًا على رفعة شأنه في الدنيا وفي الآخرة، وصورة من صور رقي العمارة والفن في عهده. أي أنه لم يكن مجرد مقبرة في جبانة، ولم يكن مجرد جبل من الأحجار يشهد بجبروت صاحبه، وإنما كان ولا يزال عملًا فنيًّا في داخله وخارجه. وقد أطلق عليه صاحبه، أو أطلق عليه كهنته، اسم "آخت خوفو" بمعنى مشرق خوفو أو أفق خوفو، بناء على نفس الدافع الذي دعاهم إلى تسمية هرم أبيه "خع سنفرو" أي شع سنفرو "ص108". وقد تصمن الهرم ثلاث حجرات كبيرة للدفن، حجرة أسفله نحتت في باطن الصخر وهجرت قبل أن ينتهي العمل فيها، وأخرى في باطنه تسمى خطأ باسم غرفة الملكة وهجرت هي الأخرى بعد أن أوشك العمل فيها على الانتهاء، وثالثة في نصفه العلوي دفن الفرعون فيها. وأدى تعدد هذه الحجرات إلى رأي مقبول، مؤداه أن الهرم بُني على ثلاث مراحل انتقل المهندس من

_ 1 بلغ ارتفاعه وفقًا للمقاييس المصرية 280 ذراعًا، وبلغ طول قاعدته 440 ذراعًا. 2 قدرت زنة أحجار الهرم بنحو ستة ملايين وربع مليون طن، وقيل إنها تكفي لبناء سور يحيط بفرنسا ويبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار وعرضه مترًا، أو سور يحيط بثلثي الكرة الأرضية عند خط الاستواء ارتفاعه قدمًا واحدًا.

مرحلة منها إلى أخرى نتيجة لازدياد خبراته وازدياد إمكانيات عهده ونتيجة لامتداد أجل فرعونه. فبنى الهرم في مرحلته الأولى ليكون هرمًا متوسط الحجم مائل الجوانب حاد الزوايا متساوي الخطوط يشبه هرم دهشور ولكن تقع حجرة دفنه في أسفله. ثم أزاد حجمه بعد فترة ما وقبل أن يتم بناءه وشاد حجرة دفن جديدة في باطنه، ثم أزاده للمرة الأخيرة وشاد حجرة الدفن الثالثة في نصفه العلي من أحجار جرانيتية هائلة وكان بارعًا حين أقام فوقها خمسة سقوف يتعاقب كل منها فوق الآخر بعد ارتفاع قليل، رغبة منه في تخفيف الضغط عن سقفها الأول الذي تألف من تسعة ألواح تزن في مجموعها نحو 400 طن. وجعل أربعة من هذه السقوف مسطحة، وبنى خامسها "وهو العلوي" مثلثًا على هيئة الجمالون لتوزيع ضغط البنيان العلوي من الهرم على جوانب الحجرة وسقوفها دون وسطها. ويصل بين غرفة الدفن الوسطى وغرفة الدفن العليا في باطن الهرم دهليز صاعد يعتبر آية من آيات الفن المعماري لعصره. ويبلغ طوله 153 قدمًا وارتفاعه 28 قدمًا، وقد كسيت الأجزاء السفلى من جانبيه بأحجار مصقولة ضخمة، وبرز كل مدماك من مداميكه العليا، وعددها سبعة في الجانبين، عن المدماك الذي يرتكز عليه بمقادير ثلاث بوصات، والتصق كل مدماك منها بالآخر وكل حجر منها بالآخر في إتقان شديد دفع بعض العلماء إلى المبالغة في تقديره بقولهم إن ما بين كل حجر وآخر لا يكاد يسمح للشفرة بالنفاذ منه. ومن الأوصاف الممتعة في تصوير مدى الدقة في بناء الهرم، ما يقال من أن متوسط الخطإ في طول جوانبه لا يعدو 1: 4000، وأن الخطأ في عمليات التربيع التي استخدمت فيه لا يعدو كسرًا عشريًّا يساوي دقيقة واثنتي عشرة ثانية، وأن معدل الخطإ في ضبط ضلعيه الشرقي والغربي لا يزيد عن 3: 100، أن الفواصل بين بعض أحجاره لا تزيد عن نصف ملليمتر. ويتضح لخاصية الصخامة الفريدة مع البراعة الفائقة التي امتاز الهرم الأكبر بها أكثر من معنى ومدلول، فهي من الناحية السياسية تنم عن نظام من الحكم كان يسمح للفرعون صاحب الهرم بتصرف واسع في إمكانيات البلاد المادية والبشرية. وهي من الناحية المعمارية تشهد لمهندس الهرم أو مهندسيه1 بدراية واسعة بمبادئ الهندسة وفن العمارة، وذلك بحيث لا يكاد العلم الحديث يجد خطأ واضحًا فيما أتموه. وهي من الناحية العملية تشهد للصناع الفنيين بمهارة أصلية في نحت الأحجار الضخمة وتسويتها وتثبيتها فيما يلائمها من جسم الهرم، ومهارة أصلية مماثلة في تنفيذ ما خططه المهندسون بنجاح كبير. وهي من الناحية البشرية تشهد لآلاف العمال العاديين الذين اشتركوا في بناء الهرم بجلد شديد وقوة احتمال كبيرة في قطع أحجاره الضخمة من محاجرها ونقلها ثم رفعها إلى مواضعها من بنائه. ثم هي من الناحية الإدارية تشهد لرجال الإدارة المشرفين على نظام العمل في الهرم بحظ كبير من الكفاية في رسم الخطط لتجميع آلاف العمال وتموينهم وحسن

_ 1 يعتقد يونكر وريرنر أن مهندس الهرم هو الأمير حم أونو ابن أخ خوفو أو ابن عمه، وكان أميرًا دلت ملامحه في تمثاله على أنه كان ذا شخصية قوية آمرة، وذلت سعة سيطرته وفخامتها على مكانته في عصره – وتلقب بألقاب المهندس الملكي ومدير المنشآت المقدسة كلها "أو مدير أعمال الرب كلها" وربما ولي الوزارة. G. Reisner, The Tomb Of Herep - Hetes, I, 1955, 9. واعتقد برستد أن مهندس الهرم أمير آخر يحتفظ المتحف المصري بتابوته وهو "خوفو عنخ".

الاستفادة بهم وضمان استمرار قوتهم البدينة على مواصلة العمل، مع تنظيمهم وتقسيمهم فرقًا لا زالت بعض أسمائها مسجلة على أحجار متفرقة من جوانب الهرم1. ومن أمتع تعليقات المؤرخين القدامى عن الأهرام المصرية قول المؤرخ ديودور الصقلي في القرن الأول ق. م: "واتفقت الآراء على أن الأهرام لم تحظ في مصر بذلك المركز الممتاز لضخامة بنائها وباهظ تكاليفها فحسب، بل ولدقة بنائها أيضًا، ومهندسو المشروع أولى بالإعجاب فيما يقال من الملوك الذين دبروا المال لإنجازه؛ لأن المهندسين استنفذوا في إنجاز المشروع أرواحهم وهممهم، بينما استغل الملوك الأموال التي ورثوها ومجهودات الآخرين "الكتاب الأول: 64". ولم يكن المؤرخ الرحالة المسلم عبد اللطيف البغدادي أقل توفيقًا في القرن الثالث عشر الميلادي عن ديودور الصقلي في تعليقه على الأهرام المصرية بقوله: "فإنك إذا تبحرتها وجدت الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها لها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثلًا هي غاية إمكانها، حتى إنها تكاد تحدث عن قومها وتخبر بحالهم، وتنطق عن علومهم وأذهانهم، وتترجم عن سيرهم وأخبارهم". والواقع أن الهرم الأكبر لا يكاد يذكر إلا ويظهر معه التساؤل عما إذا كان المصريون قد شادوه وشادوا أمثاله، راضين أم مجبرين، مأجورين أم مسخرين. وإذا تركنا آراء الأقدمين إلى آراء الباحثين المحدثين، وجدنا كل عدد منهم قد ذهب مذهبه وتحمس له. فأكد هرمان يونكر أن روح الرضا والرغبة في الإبداع وإشباع المزاج الفني كانت غلابة على من تكفلوا ببنائه، وربما استطاعت عوامل التسخير والإجبار أن تبني الهرم الأكبر، وما هو أعظم من الهرم الأكبر، ولكنها لم تكن لتستطيع أن تبلغ به إلى ما بلغه بنيانه من الإتقان بحال ممن الأحوال. وأخذ برأي يونكر كثيرون وحوروا فيه. وأكد أكلسندر شارف من ناحيته أن تأليه المصريين لملوكهم وعبادتهم بعد موتهم هي التي دفعتهم إلى التفاني في بناء أهرامهم ومعابده، وأن حرص أفراد الطبقات الكادحة على أن يدفنوا حول هرم خوفوا حتى بعد أربعة قرون من وفاته يؤكد بقاء ذكراه الطيبة بينهم وتبركهم بمنطقته ويبعد عنه سمة العتاة المستبدين. وأخذ برأيه هو الآخر كثيرون وحوروا فيه. بينما ظهرت آراء أخرى ذهبت إلى النقيض، فلم تر في هرم خوفو وأمثاله سوى أثرة الفراعنة المصريين واستبدادهم وسوء استغلالهم للقوة البشرية والإمكانيات المادية في أرضهم، ولم تر غير عوامل التسخير وحدها هي القادرة على إقامة الأهرام وتوابعها. ونعتقد من جانبنا أنه من الإسراف أن يقتصر القول على عامل واحد يسر لخوفو بناء هرمه أيًّا ما كان هذا العامل، أو افتراض وسيلة واحدة أو عقيدة واحدة خضع لها كل القائمين على بناء هرمه. فليس من. اليسير أن نفترض، كما ذهب يونكر، أن كل من كدحوا في سبيل بناء الهرم كانوا يشبعون مزاجهم الخاص، وإن أمكن أن نفترض مثل هذا المزاج الخالص لكبار المهندسين ورؤساء الصناع ذوي الأجور العالية.

_ 1 عن فرق أخرى العمال ليست إلى اسم خوفو. Reisner, Op. Cit., 8; Smith, Jnes, 1952, 125.

وليس من اليسير كذلك أن نفترض، كما ذهب شارف، أن كل من حشدوا لبناء الهرم كانوا يهللون لما جمعوا له باسم الدين وتأليه الفرعون كما يقول، وأكثرهم من الفقراء الكادحين في سبيل لقمة العيش. وليس من اليسير أخيرًا أن نجعل القسوة أو السخرة علمًا على سلطان الفراعنة المصريين على الإطلاق ودون استثناء، كما ذهب أصحاب الرأي الثالث لمجرد ضخامة آثارهم. ونرى أنه من الأفضل أن نتصور للقضية كل أطرافها المحتملة على ضوء من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والروحية التي عاش في ظلها صاحب الهرم والقائمون على تشييد الهرم. فقد اعتمد مصر القديمة في أغلب حياتها الزراعية على دورة زراعية سنوية رئيسية واحدة كانت تؤدي إلى تعطل المزارعين عدة شهور من كل عام. وفي هذه الشهور، أو في البعض منها، اعتاد الحكام أن يعملوا على تجميع أعداد كبيرة من عمال الأرض وزراعها؛ ليقوموا بخدمة مشاريع الحكومة العامة ومنشآت الفرعون الخاصة أساسًا، ثم ليتكسبوا من العمل في هذه المشاريع والمنشآت مورد رزق مناسب لهم في مواسم تعطلهم عن العمل ضمنًا "وذلك إلى جانب الصناع الفنيين الدائمين". وأشار المؤرخون الإغريق الذين زاروا مصر في أواخر عصورها القديمة إلى مثل هذا الوضع. فذكروا أنهم سمعوا أن العمل في الهرم كان يجري "وعلى الأصح كان يشتد" في مواسم الفيضان بخاصة، وفي مواسم التعطل عن الزراعة كل عام. وترتب على ذلك فيما رووه أن بناء الهرم الأكبر وتوابعه قد استغرق نحو عشرين عامًا ولم يتم في وقت قصير. واعترفنا من قبل بأنه توفر للفراعنة المصريين نظام من الحكم المطلق أتاح لهم إشرافًا واسعًا وهيمنة كبيرة على موارد البلاد وإمكانياتها المادية والبشرية، ونضيف إلى ذلك أن نفس هذا النظام من الحكم أتاح لحكوماتهم سلطانًا إداريًّا واسعًا، وجعل لها الحق في أن تكلف من تشاء من القادرين على العمل من السكان، بالعمل في مشروعاتها ومشروعات الفراعنة الدنيوية والدينية، حيثما أرادت وهو تكليف "أو تسخير" لم يكن يُعفى منه فيما يرجح غير طوائف المتعلمين من موظفي الدولة وكهنة المعابد الكبار وربما كبار أعيان المدن والقرى أيضًا. وإلى جانب السيطرة السياسية والاقتصادية والإدارية الواسعة التي توافرت للفراعنة وحكوماتهم، استحب الفراعنة لأنفسهم، وأكد لهم أشياعهم، قدرًا كبيرًا من القداسة الروحية والسيادة الدينية على رعاياهم "وإن لم يصل هذا القدر إلى حد التأله الصريح". فالفرعون رأس الحكومة، كان يعتبر بالتالي رأس الديانة ووريث الأرباب. وكان فيما صورته مذاهب الدين يعتبر من المتحكمين في شئون الآخرة والمهيمنين على مصائر أهلها. وآزر رجال الحاشية والكهان فراعنتهم فيما ادعوه لأنفسهم من قداسة وسيادة، ورددوه في نصوصهم الدنيوية والدينية مرارًا وتكرارًا. فآمنت بهذا الذي ادعاه الفراعنة والكهان وأهل البلاط عهود، وكفرت به عهود أخرى. وسلمت بصحته طوائف وتجاهلته طوائف عداها. غير أن الفراعنة استطاعوا في أغلب أحوالهم أن يستغلوا سلطانهم الديني والروحي التقليدي أوسع استغلال واستطاعوا أن يوجهوه لتنفيذ رغائبهم وإقامة منشآتهم. وليس من المستبعد أن الكهان كانوا يتعمدون في مواعظهم أن ييسروا على الكادحين

في سبيل تحصيل الرزق شقاءهم. ويخففوا عن المكلفين بمشروعات الفرعون متاعبهم، بشيء من الأمل فيما ينتظرهم في الآخرة من الشفاعة والرضا وحسن الجزاء من فراعنتهم الذين أوهموهم أنهم سوف يتحكمون في شئون الحياة الثانية كما تحكموا في شئون الحياة الدنيا سواء بسواء. ولكن ألم يكن أولى بفراعنة البلاد أن يعملوا على توجيه الجهود التي بذلها رعاياهم في تشييد أهرامهم ومعابدها إلى أنواع عمرانية أخرى يعم نفعها على جمهرة شعبهم؟ ليس من شك في أننا لو حكمنا منطق عصرنا الحالي، لأجبنا بالإيجاب، وأن ذلك كان أولى بهم وأنفع لشعبهم فعلًا. ولكن علينا أن نعترف من ناحية أخرى أنه كان للدولة مشاريعها لعمرانية العامة فعلًا وهي ما كلفت لها الثراء العريض، وأن نقدر من ناحية أخرى أن لكل عصر منطقه، وأن المبادئ التي يتبينها أو يعتنقها عصر معين ليس من الضروري أن يتبينها عصر آخر أو يسلم بها. ثم إنه ليس أيسر على أنصار الحاكم في كل مجتمع وكل زمان من أن يقنعوا أنفسهم أو يخدعوا أنفسهم ويخدعوا الناس معهم، بأن حاكمهم يعتبر دائمًا رمزًا لشعبه، وأنه ما من بأس في أن تبذل الدولة والشعب في سبيله كل مرتخص وغال، وأنه سوف يرفع من سمعة أهل عهده أن يشيدوا له آثارًا تفوق ما شيده أسلافهم لسلفه، ويرفع ذكرهم كذلك أن تتعجب الأجيال التالية لعهدهم مما أنفقوا جهودهم في تشييده والارتفاع ببنيانه. والواقع أنه إذا كان لكل طائفة من الحكام آفة، وكان من آفة حكام آشور والفرس القدماء مثلًا حب البطش والنهم إلى الجبروت، وكان من أمر الحكام الرومان الأقدمين مثل أمرهم من القسوة والفساد، وكان من آفة حكام العصور الوسطى الشرقيين بذل جانب كبير من موارد أممهم وبيوت أموالها في سبيل بناء القصور وحياة الاستمتاع ومدائح الشعراء، فقد كان من آفة الفراعنة المصريين أنهم وجهوا جانبًا كبيرًا من موارد أرضهم إلى صالح المعابد والتماثيل والأهرام فضلًا عن القصور، وابتغوا بذلك تكريم الأرباب، ونعيم الآخرة، واستمالة الكهان، وحسن الثواب، وأن يظهروا في سمات التقوى والصلاح، كما ابتغوا به الجري وراء التقليد وخلود الذكر والتفاخر فيما بينهم في أغلب الأحيان. ومهما يكن من أمر، فقد اشترك آلاف العمال والصناع فعلًا في بناء هرم خوفو وبناء معبديه وملحقاته، سواء عن رغبة في تحصيل الرزق، أو بناء على تكليف "أو تسخير" من الحكومة، أو طاعة منهم للفرعون ذي القداسة التقليدية في الدنيا، أو تصديقًا لما أوهمهم الكهان به عما ينتظرهم منه في الآخرة من الشفاعة وحسن الجزاء، ولكن كيف كانوا يعاملون؟ وهل كانوا يؤجرون؟ ليس من آثار أو نصوص باقية لخوفو بالذات تكشف عن طريقة معاملة رجاله لعماله، ولكن يمكن أن نستشهد في سياق ذلك عن طريق غير مباشر بما عرفناه عن تخصيص شون للغلال في مجموعة زوسر بسقارة لتموين العمال وقت بناء الهرم ثم تموين الكهنة بعد بنائه، وما سوف نذكره عن تخصيص عدد من المساكن للعمال بجوار هرم خفرع لإيوائهم عوضًا عن تركهم يبيتون في العراء. وقد تخلفت نصوص لأثرياء من عصر الأسرة الرابعة نفسها وأثرياء عهود مختلفة أخرى بعدها من الدولة القديمة، تعمد أصحابها أن يصوروا بها الظروف التي شيدوا فيها مقابرهم، والأساليب التي عاملوا بها من استأجروهم فيها، فقال رجل

من عصر الأسرة الرابعة: "كل صانع عمل في مقبرتي أرضيته". وردد آخرون في نصوصهم قولهم: "أنفقت على قبري هذا من متاعي الحلال، ولم يحدث إطلاقًا أني اغتصبت متاع شخص ما". وقال غيرهم في نصوصهم: "أرضيت كل الصناع الذين أتموا لي عملًا في هذا القبر بالطعام والشراب وكل شيء طيب". وقال بعض من تولوا رياسة الأتباع والصناع: "لم أضرب إنسانًا وقع تحت يدي، ولم أستعبد أحدًا في العمل"1. وليس من شك في أن أمثال هذه الأقوال لا تخلو من مبالغات يستقبل الشخص بها حياته الأخرى، ولكن ليس من شك كذلك في أنها لا تخلو من إثارات صدق، وأنها تدل على وجود وازع ديني كان يدعو الأثرياء إلى حسن معاملة الأتباع والأجراء واكتساب الصيت الطيب من وراء ذلك. فهل كان الفراعنة بدورهم ينفقون على دور أخراهم، أي أهرامهم ومعابدها بسخاء ومن متاع حلال؟ وهل كانوا يعملون عن طريق ممثليهم من رؤساء العمل على إرضاء من يعملون في أهرامهم ويحرصون على إحسان معاملتهم، مثل رعاياهم الأتقياء الأغنياء؟ ذلك أمر لا نستطيع أن نؤكد جوابًا معينًا بشأنه، في ضوء النصوص المعرفة حتى الآن، ولكن يمكن أن نشير من ناحية أخرى إلى أن النصوص الدينية التي سجلت في أهرام الفراعنة منذ نهاية عصر الأسرة الخامسة وعرفت باسم متون الأهرام قد ألمحت مرات إلى أن الفرعون إنما كان يندمج بين أرباب الآخرة وحكامها على أساس ما يثبت عن قيامه بالعدل في أرضه ودنياه وعمله على صوالح رعاياه2. كان هرم خوفو جزءًا من مجموعة معمارية واسعة، خدمت صاحبها وخدمت فن العمارة وخدمت عقائد الدين، وكان من الضروري أن يتناسق كل عنصر فيها مع بقية العناصر، ويكمل كل جزء منها بقية الأجزاء. وتألفت هذه المجموعة من نفس العناصر الرئيسية التي تألفت منها مجموعة أبيه في دهشور، أي من معبد الشعائر ومعبد الوادي والطريق الواصل بينهما، فضلًا عن عناصر أخرى فرعية، مثل هرم صغير إلى الجنوب الشرقي من الهرم الأكبر. لا يزال غرضه غير معروف حتى الآن، وسور كبير يحيط بالهرم وتوابعه القريبة، وعدة أهرام لزوجات الملك، وعدد من مقابر كبار رجال المملكة حرص أصحابها على أن يدفنوا حول هرم فرعونهم؛ تقربًا منه، وإرضاء لولي عهده، ودلالة على ولائهم والتفافهم حوله، ورغبة منهم في أن يبعثوا في معيته في الحياة الثانية على نحو ما كانوا في معيته في الحياة الأولى، ورغبة منهم في انتفاع موائد قرابينهم بخيرات المعبدين الملحقين بهرمه. ورغبة منهم كذلك في انتفاع مقابرهم بحالة الأمن والعمران التي كانت تكفلها كثرة الحراس والكهان والأتباع الذين يعيشون حول هرمه ويعملون في معبديه. وخضعت مصاطب كبار رجال الدولة حول الهرم لتخطيط مرسوم، فخصص شرقي الهرم لمصاطب

_ 1 Urk., I, 23, 8; 49; 50, 1-2; 70, 5-7; 236; 269, 11; 271; D. Dunham, Jea, XXIV, 5-6. 2 A. Morete, "Le Jugement Du Roi Dans Les Texres Des Pyramides" L'annuaire De L' Ec. Det Hautes Etudes, 1922-23, 1-32; La Nil ….., 215; Breasted, The Daw Of Conscience, 127-128.

الأمراء، وغريبه لمصاطب كبار الموظفين "فيما خلا استثناءات قليلة". وشيدت أغلب هذه المصاطب على نسق متشابه، ورتبت في صفوف تفصل بينها طرقات مستقيمة، وتجمعت على جانبي الهرم ومن تحته، فزادت من جلاله وأكدت ضخامته وجبروته، حتى بدا الهرم بينها وكأنه يشرف عليها من عل كما كان صاحبه يشرف على أصحابها في دنياه من عل. وشاد عظماء الأسرة الرابعة مصاطبهم من الحجر لأول مرة بعد أن كان أسلافهم يشيدونها من اللبن خلال عصور الأسرات الثلاث الأولى، وشادوها صماء لا فراغ فيها إلا فتحة من أعلاها تخترق وسطها وتخترق الأرض من تحتها حتى تصل إلى حجرة الدفن في باطن الصخر. وكان المعماريون يكسون جدران حجرة الدفن الصخرية أحيانًا بألواح من الحجر الجيري الأبيض ويلونونها بنقط حمراء ليقلدوا بها هيئة الجرانيت في مدافن ملوكهم. وألحقوا بالواجهة الشرقية لكل مصطبة مقصورة للقرابين ينتفع الزائرون بها في المواسم والأعياد ويقدمون القرابين فيها باسم المتوفى، ويدخلها الكاهن ليرتل دعواته وتعاويذه لمصلحة صاحبها. وكانوا يثبتون في صدر جدارها الداخلي لوحة صغيرة مستطيلة من الحجر الجيري تنقش عليها هيئة المتوفى جالسًا أمام مائدته، وينقش حوله اسمه وألقابه وأنواع القرابين التي يرجو أن تتوافر له في حياته الثانية. وتعتبر نقوش هذه اللوحات من أروع مظاهر الإنتاج الفني في عهد خوفو. وكانوا يضعون على سطح الأرض أسفل اللوحة مائدة للقرابين، يقوم على جانبيها قائمان من الفخار تعلو كلًّا منهما مبخرة لحرق البخور. ولعل أقرب ما لفت الأنظار من آثار خوفو في السنوات الماضية، هي مراكبه. فقد عثر له حتى الآن على خمسة مواضع لمراكب، ثلاثة منها تقع إلى الشرق من هرمه، وقد نزعت منها مراكبها الخشبية أو بطانتها الخشبية في عصور سابقة، واقتصرت في حالتها الراهنة على مجرد حفر طويلة عميقة نحتت في الصخر على هيئة المراكب، وتتجه اثنتان منها اتجاهًا موازيًا للضلع الشرقي للهرم بين الشمال والجنوب، وتتعامد الثلاثة على هذا الضلع بين الشرق والغرب. ثم عثر له في عام 1954 على موضعين جديدين لمركبين كبيرتين منحوتتين في الصخر على جنوب هرمه. وتم كشف أحد الموضوعين بالفعل ولا زال الآخر مغطى بسقفه الحجري المحكم حتى الآن. ووجدت في الموضع المكتشف ألواح كثيرة لمركب خشبية، لم يبلغ طولها 43.20 من الأمتار ويبلغ أكبر عرض لها نحو ستة أمتار، وقد فككت أجزاؤها ورتبت إلى حد ما مع بعضها البعض بحيث يسهل تجميعها، ووضعت معها مجاذيفها وحبالها وجوانب مقاصيرها "أو كبائنها" وأساطينها الخشبية التي شكلت تيجانها على هيئة سعف النخيل وزهور اللوتس. وذهب الرأي في حينها على تسمية مركب خوفو هذه وأخواتها، باسم مراكب الشمس، والربط بينها وبين رحلتين يقوم إله الشمس بهما كل يوم ويصحب الفرعون معه فيهما، رحلة يجوب بها سماء الدنيا بالنهار، وأخرى يجوب سماء العالم السفلي فيها بالليل. ولكن صعب تأكيد هذه التسمية لعدة أسباب، أهمها سببان وهما: أن أشكال الحفر التي نحتت لمراكب خوفو أشكال متباينة تختلف من واحدة إلى أخرى، وذلك مما يخالف القول بأن مراكبها كانت تخدم غرضًا واحدًا وهو رحلة الملك مع إله الشمس في سماء الدنيا أو سماء الآخرة. وأن المراكب التقليدية التي صورتها المناظر

المصرية لرحلة إله الشمس، تمتاز عادة برموز خاصة، لم يعثر على واحد منها في المركب التي كشف عنها، على الرغم من أن أجزاءها وجدت كاملة كلها. ولهذا افترضت عدة احتمالات لأغراض هذه المراكب، وهي: أن واحدة منها على الأقل استخدمت في نقل جثة خوفو بعد وفاته، من قصره إلى قرب هرمه، ثم وضعت في حفرتها وغطيت بأحجارها. ولعل المراكب الباقيات كان شأنها شأن غيرها من الأثاث الفاخر الذي اعتاد المصريون على أن ينتفعوا به في دنياهم ثم يضعوه في مقابرهم أو أهرامهم لينتفعوا به في العالم الآخر، لولا أن ضخامتها، أي ضخامة المراكب، حالت دون وضعها مع بقية الأثاث داخل الهرم نفسه، فوضعت حوله. ومن المحتمل كذلك أن خوفو استخدم بقية مراكبه في حياته في مناسبات دينية ورسمية، ومن هذه المناسبات مناسبة تتويجه "وكانت بعض مراسيم التتويج تجري على السفن فعلا"، ومناسبات تردده على معابد الأرباب الكبار في طول البلاد وعرضها، وزياراته لمدن الحج المقدسة القديمة، فضلًا عن جولاته الإدراية التي كان يقوم بها بين مراكز القطر من حين إلى حين على متن النيل، وذلك إلى جانب رحلاته الفردية والأسرية الخاصة. كان الاسم الكامل لخوفو هو "خنوم خوفوي" كما ذكرنا، وهو اسم يعني "خنوم يحميني" "أو يرعاني" ويدل على الإيمان بحاجة الملك خوفو إلى معبود أكثر قدرة منه يرعاه ويحميه، وقد يكون هذا الإيمان إيمان أبويه اللذين سمياه باسمه، ولكن ليس من المستبعد أن يكون خوفو قد آمن كذلك بمثله. وصور أديب مصري الجانب الإنساني من خوفو في قصة شعبية نتخيله فيها يسامر أولادة ويستمع إلى قصصهم ويحترم العلماء ويجهل بعض ما يعرفه عالم من أهل عهده "راجع فصل الأدب". هزات مؤقته – في عهد جد فرع: رتب خوفو أمره على أن يخلفه ولده الأكبر "كاوعب" على عرشه، ويبدو أنه نشأه تنشئة طيبة شجعته على أن يظهر في بعض تماثيله على هيئة الكاتب العالم، وكانت هي المرة الأولى فيما نعلم، التي ظهر فيها أمير عظيم متربعًا على هيئة الكُتَّاب1. غير أن كاوعب هذا مات قبل وفاة أبيه بقليل بعد أن بلغ مبلغ الرجال، وكانت وفاته فاتحة لانقسام الأسرة الحاكمة إلى فروع، تربص كل فرع منها بفرع آخر وحاول أن يستأثر بالحكم دونه. وكانت هذه الفروع ثلاثة: فرع أبناء الزوجة الرئيسية أم كاوعب وبقي منه أميران صغيران لم يستطيعا الوصول إلى العرش أو المطالبة به، وهما جدف حور "أو ددف حور أو حور ددف" وباوفرع، وفرعًا من زوجة ثانية ترأسه جد فرع، ثم فرعًا من زوجة ثالثة ترأسه خفرع2. واستطاع جد فرع أن يبلغ العرش بعد أبيه ووفى لذكراه فأشرف على شعائره حين دفنه ووجد اسمه مسجلًا على سقف مركبه. إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لأغلب أمراء أسرته، فاكتفى بأن تزوج من أرملة أخيه

_ 1 Boston Nos. 34-4-1; 25-1-393 "Bull. Mus. Boston, XXXIII, 75". 2 Papyrus Westcar. IV, 17-18; VI.2; Vii 9,8; Tombx: G 7210-7310-7320; Reisner, Mycerinus. 241.

هزات مؤقتة في عهد جدف رع

هزات مؤقتة في عهد جدف رع ... هزات مؤقته في عهد جد فرع: رتب خوفو أمره على أن يخلفه ولده الأكبر "كاوعب" على عرشه، ويبدو أنه نشأه تنشئة طيبة شجعته على أن يظهر في بعض تماثيله على هيئة الكاتب العالم، وكانت هي المرة الأولى فيما نعلم، التي ظهر فيها أمير عظيم متربعًا على هيئة الكُتَّاب1. غير أن كاوعب هذا مات قبل وفاة أبيه بقليل بعد أن بلغ مبلغ الرجال، وكانت وفاته فاتحة لانقسام الأسرة الحاكمة إلى فروع، تربص كل فرع منها بفرع آخر وحاول أن يستأثر بالحكم دونه. وكانت هذه الفروع ثلاثة: فرع أبناء الزوجة الرئيسية أم كاوعب وبقي منه أميران صغيران لم يستطيعا الوصول إلى العرش أو المطالبة به، وهما جدف حور "أو ددف حور أو حور ددف" وباوفرع، وفرعًا من زوجة ثانية ترأسه جد فرع، ثم فرعًا من زوجة ثالثة ترأسه خفرع2. واستطاع جد فرع أن يبلغ العرش بعد أبيه ووفى لذكراه فأشرف على شعائره حين دفنه ووجد اسمه مسجلًا على سقف مركبه. إلا أنه لم يكن كذلك بالنسبة لأغلب أمراء أسرته، فاكتفى بأن تزوج من أرملة أخيه

_ 1 Boston Nos. 34-4-1; 25-1-393 "Bull. Mus. Boston, XXXIII, 75". 2 Papyrus Westcar. Iv, 17-18; Vi.2; Vii 9,8; Tombx: G 7210-7310-7320; Reisner, Mycerinus. 241.

ولي العهد القديم كاوعب ليزكي حقه في العرش عن طريقها ويضمها إلى صفه، واصطفى بعض أمراء أسرته دون بعض آخر، وتعمد أن يبتعد بهرمه عن منطقة الجيزة بما تتضمنه من مقابر الأمراء الكبار الذين لم يرض عنهم، وشاد هرمه ومعبديه إلى الشمال الغربي منها بنحو ثمانية كيلومترات في منطقة أبو رواش1 وتبعه في ذلك أنصاره وأفراد حاشيته، وشرعوا في تشييد مقابرهم حول هرمه. وسرى الإهمال في منطقة الجيزة بضع سنين، واضطر أمراؤها إلى وقف العمل في مقابرهم بعد أن شرعوا في توسيعها ونقش جدرانها في أواخر عهد أبيه، وأتموا بناء مقاصيرها على عجل باللبن والدبش وليس بالججر الكبير2. شغل هرم جد فرع مساحة تقل عن نصف المساحة التي قام عليه هرم أبيه م ولم يبق من جزئه العلوي غير القليل، وربما كان مكسوًّا كله بأحجار الجرانيت. وانصرف المهندس في حفر جزئه المنحوت في باطن الأرض عن أسلوب الأسرة الرابعة وعاد به إلى أسلوب الأسرة الثالثة فحفره على هيئة خندق مكشوف وبئر عمودية. وشاد معبد شعائره إلى شرقه كالعادة ولكنه بنى بعض أجزائه باللبن. وجعل الطريق الصاعد إلى شماله وليس إلى شرقه ومده نحو كيلو متر ونصف. ويغلب على الظن أن هذه التعديلات رجعت إلى طبيعة سطح الهضبة التي شيد الهرم وتوابعه عليها. وإن كان إدواردز قد أضاف احتمالًا آخر وهو رغبة جد فرع في الانصراف عن طراز الهرم الكامل إلى طراز الهرم المدرج مخاصمة منه للكهنة أنصار عقيدة الهرم الأول وإرضاء للكهنة أنصار عقيدة الهرم الثاني بعد أن ساعدوه على بلوغ العرش دون إخوته. ولكن ليس من أساس قوي لقبول هذا الرأي. لم يطل حكم جد فرع أكثر من ثمان سنين، غير أنه يبدو أن عهده لم يكن خاملًا كل الخمول، وإنما استمر نشاط الفن خلاله ماضيًا قدمًا في طريقه. ونحت له الفنانون عدة تماثيل رائعة أظهروا فيها ملامح وجهه بأسلوب واقعي صارم حزين3, وابتدعوا في عهده. فيما يظن، أول نموذج لتماثيل أبو الهول برأس إنسان وجسم أسد رابض. وظهر وجه هذا النموذج دقيق التقاطيع ملونًا بلون أصفر وبغير لحية، ولهذا افترض Vcn W. Federn أنه وجه أنثى. وافترض يواقيم شبيجل أنه يمثل العدالة ماعت ولا يمثل الملك بالذات ويبدو أن جد فرع تعهد أولاده بتربية طيبة سمحت لهم بأن يظهروا في تماثيلهم على هيئة الكُتَّاب والقراء في ساحة معبده4، ولكنهم ظلوا بعيدين عن الحكم في عهود خلفائه حتى قدر لأمير من فرعهم أن يعتلي العرش في بداية عصر الأسرة الخامسة وأن يجمع شمل الفروع المتناحرة من بقية أسرته "راجع ص130".

_ 1 Reisnel, The Tomp Of Hetep-Heres, I,8 "G 2120, 7430-7440". 2 Boreux, Guile-Cataloge "Muse Du Louver" Pl. Lxi; Smith A History Of Egyptian Sculp-Ture…, Pl. Xl A-D. 3 Cairo 35137; V. W. Featcrn Drchuluv For Aeg, Wien, 1938,60; Spiegel, Op. Cit., 528. But See, Smith, Op. Cit. 33. 4 E. Chassinat, Found, Poit. Xxv. 64f.; Cairo36; Von Walter Federn, Op. Cit. 57.

آثار عهد خفرع

آثار عهد خفرع: تولى العرش بعد جد فرع أخوه خفرع "حرفيًّا: خعفرع"1، في ظروف غير معروفة، وأعاد للجيزة أهميتها، وأعاد لبقية أفراد الأسرة الحاكمة مكانتهم، وربما ضمن ولاء أسرة أخيه كاوعب ولي العهد القديم بأن تزوج ابنته. وطال عهده خمسة وعشرين عامًا أو تزيد، ولكننا لا ندري للأسف عما تم في عهده من مشاريع عمرانية أو جهود حربية غير النادر القليل، ولا ندري معها غير أمرين، وهما أن لقبًا ملكيًّا جديدًا تأكد ظهوره في عهده، وأن آثار العمارة والنحت التي تخلفت من أيامه تشهد بأن الفن خطا في ظل سلام عهده خطوات واسعة لا تقل عن الخطوات التي مر بها في عهد أبيه وعهد جده. فقد تلقب خفرع بلقب "سا رع" أي ابن رع، وكانت من المرات الأولى التي يصرح فرعون فيها ببنوته للإله رع إله الشمس، ثم أصبحت سنة ثابتة بعد عهده، واكتملت بها ديباجة الألقاب الملكية الخمسة. وكان للفرعون هدفان من لقبه الجديد أحدهما هو مسايرة مذهب الشمس في نشاطه الواضح السافر الممتد حتى عهده، وهي مسايرة بدأها الملوك منذ عصر الأسرة الثانية وفي أوائل عصر الأسرة الثالثة، وربنا سايرها كذلك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة حين شاد رجاله معبد شعائر أبيه إلى الشرق من هرميهما بدلًا من ناحية الشمال التي شاد ملوك الأسرة الثالثة معابدهم فيها. ثم استمر خوفو على هذه السياسة حين سمى ثلاثة من أبنائه على أقل تقدير بأسماء يتداخل فيها اسم رع، وهم: جد فرع، وباو فرع، وخفرع. أما الهدف الثاني من اللقب الجديد فهو رغبة الفرعون في التدليل على أنه يعتلي العرش بناء على بنوته للإله رع صاحب العرش المقدس القديم وبتفويض منه2، كما تروي الأساطير الدينية، وربما عن رغبة منه كذلك في أن يتبرك باسمه وأن يكتب له دوام مثل دوامه ولو خلال حياته الثانية3. تألفت أهم آثار العمارة الباقية من عهد خفرع، من هرمه ومعبديه والطريق الواصل بينهما. ويقل هرم خفرع عن هرم أبيه من حيث الضخامة والارتفاع حيث بلغ ارتفاعه 136 مترًا وبلغ ارتفاع هرم أبيه 146 مترًا أو أقل قليلًا. وبلغ طول ضلعه 210 من الأمتار وبلغ طول ضلغ هرم أبيه 215 مترًا ونصف المتر، ولكن مهندس هرم خفرع شاده على جانب من هضبة الجيزة أكثر ارتفاعًا بقليل من الجانب الذي بنى عليه هرم أبيه فعوضه بعض الشيء عن قلة ارتفاعه عنه. وسماه صاحبه أو سماه كهنته "ور خفرع" بمعنى عظيم خفرع أو جلال خفرع. ويمتاز الهرم في حالته الراهنة باحتفاظ قاعدته بكساء من حجر الجرانيت، واحتفاظ قمته بأجزاء من ألواح الحجر الجيري الأبيض الصخمة التي كانت تكسوه. تبدأ ملحقات الهرم بمعبد الوادي، وهو معبد ضخم يعتبر أكمل معبد من عصره وجد حتى الآن، ولهذا نتخذ وصفه نموذجًا لأمثاله. وقد شيد من أحجار هضبة الجيزة، وارتفعت واجهته نحو ثلاثة عشر مترًا

_ 1 ذكره هيرودوت باسم خفرن، وذكره مانيتون باسم سوفيس أو ساوفيس. ويرى رانكه قراءة اسمه رع خعف " Ranke, Op. Cit." Ranke, Op. Cit. ولكن دون قرائن مقدمة. 2 H. Junker, Die Politische Lehre…., 63-4, Cf. Zaes, 1946, 129. 3 Cf. Wainwright, Jea, XV, 30 F.

وكسيت بألواح صخمة سميكة من الجرانيت، وهي ظاهرة لا تقتصر أهميتها على الدلالة على ما كان يكسو المعبد من جلال وروعة في عهد صاحبه، وإنما تمتد كذلك إلى تمجيد من قطعوا ونقلوا كل هذه الألواح الضخمة من محاجرها من أسوان حتى الجيزة على الرغم من بساطة إمكانياتهم في عصرهم البعيد. وتستقبل واجهة المعبد ناحية الشرق بمدخلين، يرمزان إلى الوجهين. الوجه القبلي والوجه البحري، ويرمزان إلى اجتماع شمل أهلهما في طاعة الفرعون وفي ساحة معبده. وكانت مواكب الحاشية في حياة الفرعون، ومواكب الزائرين بعد وفاته، تصل إلى المعبد عن طريق قناة تربط بينه وبين النيل، وتنتهي هذه القناة بمرساة يصعدها الزائرون والكهان ليقفوا قليلًا خاشعين في مواجهة المعبد ومواجهة تمثال للفرعون كان يستقر داخل ناووس حجري كبير لم يتبق مما يدل عليه حتى الآن غير موضع القاعدة التي كان مثبتًا فيها. ثم يعبرون مدخلي المعبد، وكان يحرس كل مدخل من هذين المدخلين، تمثالان متقابلان "من الجرانيت" يمثلان الملك على هيئة أبو الهول، بوجه إنسان وجسم أسد، حراسة رمزية بطبيعة الحال1. ويفضي كل من المدخلين إلى ردهة مستطيلة تتصدرها مشكاة ضخمة عالية، كان يستقر فيها تمثال خفرع بتاج الصعيد، أو بتاج الدلتا، مع ربة من الربات الأثيرات لديه مثل حتحور أو باستة التي وصفته نقوش معبده بأنه كان حبيبها وأظهره أحد تماثيله الباقية يجلس بجانبها2. وتجتمع الوفود في البهو الداخلي للمعبد، وهو بهو رحب كسيت أرضيته بالألباستر الأبيض وكسيت جدرانه بالجرانيت الوردي، ورفع سقفه ستة عشر عمودًا ضخمًا من الجرانيت. وكان يستقر على جوانبه ثلاثة وعشرون تمثالًا للفرعون مثلته جالسًا في مهابة يضم يمناه إلى صدره ويرسل يسراه على فخذه، وقد نحت بعضها من الألباستر الأبيض، ونحت بعضها من الديوريت الأزرق، ونحت بعضها الشست الأخضر. وكان في اجتماع ألوانها مع ألوان الجدران والأرضية والأعمدة تحت أشعة الشمس الذهبية التي تندفع إليها من فتحات السقف الحجري وتنعكس عليها من الأرضية البيضاء الناصعة، ما يضفي على بهو المعبد جلالًا وبهاء. وتهشم أغلب هذه التماثيل وبقي أقلها سليمًا، ومن هذا القليل تمثال من الديوريت "نقل إلى المتحف المصري" خلع الفنان على ملامح وجهه مهابة وقداسة تليقان بصاحبه، وظلل مؤخرة رأسه بصقر شامخ يرمز إلى المعبود حور ويفرد جناحيه حول رأس الفرعون كأنه يظله ويحميه. واستطاع الفنان أن يذلل صخر الديوريت بسهولة في تمثاله، وهو من أشد الصخور قساوة، فأظهر تقاطيع خفرع فيه دقيقة ناطقة وأظهر فيه عضلات بدنه مشدودة قوية واضحة. نشأت بشأن أغراض معبد الوادي آراء عدة، منها ثلاثة محتملة، وهي: أن جانبًا منه كان يعتبر استراحة مؤقتة للفرعون في حياته كلما زار منطقة الجيزة ليشرف على بناء هرمه فيها. وأن جانبًا منه جرت فيه طقوس تحنيط جثة الملك وبعض مراسيم جنازته. وأنه أصبح يستخدم بعد ذلك لاجتماع وفود كبار

_ 1 Holscher, Grcbdenkm Al Des Chephren, Abb. 5. 2 Borchardt, Statuen.

الزائرين خلال المواسم والأعياد، يقصدونه من كل حدب وصوب، حتى إذا اكتملت أعدادهم فيه. وحيوا تماثيل الفرعون الموجودة به، وتلوا دعواتهم عند بعض آثاره الشخصية الباقية. خرجوا بين تراتيل الكهان وأنغام الموسيقى الدينية من بابه الخلفي، وبدءوا مسيرتهم على الطريق الصاعد، وهو طريق يمتد نحو نصف كيلومتر "494.60 من الأمتار" وخمسة أمتار عرضًا، وكان يحف به جداران سميكان مرتفعان يميلان في الخارج ويستقيمان في الداخل، وتكسوهما من الداخل بلاطات جيرية بيضاء ومن الخارج بلاطات جرانيتية حمراء. وليس ما يمكن تأكيده حتى الآن عما إذا كان هذا الممر مسقوفًا أم غير مسقوف، ولكن يتجه الظن إلى أنه كان مسقوفًا بإحكام بحيث لا ينفذ الضوء إليه إلا من فتحات ضيقة في أعلاه؛ رغبة في توفير الرهبة وطابع السرية والغموض فيه وبما جعله ممثلًا للصراط المستقيم المؤدي إلى الآخرة. وتنتهي الوفود من الطريق إلى مدخل معبد الشعائر، وهو معبد يجاور الهرم من ناحيته الشرقية كما علمنا، ولا يقل في ضخامته عن ضخامة معبد الوادي، لولا أن التهدم أصاب جانبًا كبيرًا منه، وكان يتألف في صورته القديمة من عناصر كثيرة، يمكن إجمالها في قسمين متصلين: قسم أكبر يغلب عليه طابع العمومية. وقسم أصغر تغلب عليه صفة الخصوصية وطابع السرية. ويتلو القسم الأكبر باب الدخول، وإليه تنتهي الوفود بعد خروجها من الطريق الصاعد، ويتألف من ثلاثة أجزاء: فيبدأ بصالة أعمدة تتدرج من الاتساع إلى الضيق نحو الداخل، بحيث يتسع عرضها في بدايتها لثمانية أعمدة جرانيتية كبيرة متجاورة، ويتسع عرضها في منتصفها لأربعة أعمدة، ويقتصر عرضها في نهايتها على عمودين فحسب. ويتلو الصالة بهو أعمدة مستطيل كان يتضمن تماثيل لخفرع تصوره في ملابسه الدنيوية الرسمية. وحده تارة ومع زوجته تارة أخرى. وينتهي البهو إلى فناء رحب متسع تتعدد الممرات حوله وتوجد عدة أبواب على جانبيه. وتتعاقب بين الأبواب تماثيل لخفرع تصوره بردائه الأخروي "وهو عباءة محبوكة" متوجًا بتاج الصعيد على الجانب الأيسر ومتوجًا بتاج الدلتا على الجانب الأيمن. وتتوسط الفناء مائدة قربان ضخمة تضع الوفود هداياها عليها باسم صاحب المعبد. ويتألف القسم الأصغر للمعبد من ثلاثة أجزاء أيضًا، تُؤدى فيها الشعائر اليومية والموسمية لصالح صاحبها، وهي خمس حجرات مستطيلة، يذهب الظن إلى أنها كانت تتضمن خمسة تماثيل ملكية يتقدم الكهنة أمام كل تمثال منها بالدعوات والقرابين باسم من أسماء الملك الخمسة أو ألقابه الخمسة. ثم حجرات أخرى تضمنت كنوز المعبد وذخائره وأدوات طقوسه. وأخيرًا قدس الأقداس أو الحرم المقدس الذي لم يكن يقربه غير الفرعون الحاكم وكبار الكهان. وهو عبارة عن مقصورة بسيطة مستطيلة يتصدرها باب وهمي عظيم من الجرانيت ومائدة كبيرة للقرابين. وبقيت مجموعات متصلة من المساكن الصغيرة إلى الغرب من هرم خفرع، بلغ عددها 91 مسكنًا، وبنيت من الدبش ثم كسيت بملاط من الطين والطفل أو الجير، وكانت مقببة السقف ودكت أرضها بالطير وقامت كل مجموعة منها في صف متصل يستند على جدار ساند واحد. وكانت في مجملها مساكن متواضعة لا يزيد كل مسكن منها عن حجرة واحدة يبلغ عرضها نحو ثلاثة أمتار وارتفاعها مترين أو أكثر قليلًا. ويفترض الأستاذ بترى أنها كانت تتسع لنحو أربعة آلاف عامل من العمال في منطقة الهرم1، وقد نرى بمنطق عصرنا الحالي أن تكديس مثل هذا العدد في مساكن قليلة لا يخلو من امتهان لكرامة الإنسان، وهذا حق، ولكنه كان بالنسبة لأهل عصره خيرًا من المبيت في العراء.

_ 1 S. Hasan, The Grat Sphinx And Its Secrets, Cairo, 1935.25 F, 157, 221, F.

أبو الهول

أبو الهول: امتاز فن النحت في عهد خفرع بأثر كبير آخر، طغت شهرته على شهرة هرمه ومعبديه، وهو أبو الهول. ولأبي الهول جسم أسد رابض ورأس إنسان ناهض كما هو معروف، جمع الفنان بينهما في انسجام عجيب لا يكاد الرائي يشعر معه أنه أمام كائن مفتعل غريب. ونحت الفنان الرأس فيما يرجح حتى الآن على هيئة رأس فرعونه خفرع تزينه شارات الملك، وهي عصابة رأس مخططه عريضة تصنع من قماش مقوى لتغطي الرأس ومؤخرته، وحية حارسة تنهض على الجبين، ولحية دقيقة طويلة مستعارة ترمز إلى إلتحاء أوائل الملوك الأقدمين "وقد سقطت الحية واللحية من موضعيهما لتطرفهما". وعبر الفنان في تمثاله عن رأي أهل عصره في مثالية فراعنتهم، أو على الأقل عن رأي أهل الحاشية في مثالية فراعنتهم، وهي مثالية جمعوا إليهم فيها سمو التفكير البشري وبأس الأسد، واستمروا يرددونها لهم طوال عصورهم القديمة، على نحو ما استمروا يلقبونهم بالأسود والفحول. ينهض تمثال أبو الهول فوق قاعدة مرتفعة نحت معها في الصخر الطبيعي للهضبة، ولكنها كسيت بأحجار جيرية ملساء، وبلغ ارتفاعه معها نحو اثنين وعشرين مترًا. وقام في مواجهته معبد كبير، لا زالت الآراء مختلفة في تحديد أغراضه، ومن هذه الآراء رأي يعتقد أصحابه أنه أعد لتقديم القرابين والدعوات باسم صاحب التمثال نصفه، وأن التمثال بعد أن كان يرمز إلى خفرع أصبح في نفس عهده أو بعده بقليل، يعتبر حارسًا لمدينة الموتى في منطقته أي منطقة الجيزة ويستحق التمجيد والتقديس تبعًا لذلك. وقرنًا فقرنًا نسي المصريون أصل تمثال أبو الهول2 أكثر فأكثر، واعتبره أهل الدولة الحديثة صورة من صور إله الشمس، وظلوا يتعبدونه على هذا الاعتبار، وأقاموا النصب باسمه بين يديه وفي معبده، واستوى في ذلك الفراعنة ورعاياهم وأضاف شبيجل رأيًا عن تمثال أبو الهول، مؤداه أنه رمز منذ بدايته إلى "ماعت" بمعنى العدالة المستقرة أو النظام المستقر، وذلك في مقابل دلالة الهرم على النظام الهرمي الدنيوي الذي كان الفرعون يحتل أرفع مكانة فيه. أما عن اسمه فمن الآراء في تعليله أنه سكن منطقة الجيزة قوم من الكنعانيين خلال الدولة الحديثة، فتعبدوا التمثال باعتباره صورة أصلية من معبود كنعاني قدسوه في وطنهم باسم "حورون"، وأطلقوا اسمه على

_ 1 آثرنا في حديثنا أن نعتبر اسم "أبو الهول" اسمًا مبنيًّا، حيث لا أبوة فيه ولا بنوة. 2 وعن آراء أخرى عنه وعن معبده، راجع: Holscher, Op, Cit, 70; Perie, The Pyranids And Temples Of Gizeh, 101.

التمثال1. ولعل المصريين قد أجازوا ما أتى الكنعانيون به، ثم حرف الاسم الكنعاني إلى حورنا، وأخيرًا إلى "حول". ورأى أخر قرب بين اسم التمثال وبين أسم ورد له في النصوص المصرية المتأخرة بمعنى الأسد "با حو"2. وانتهت أسماء التمثال إلى اسمه الحالي أبو الهول، وهو اسم يعبر في اللغة العربية عن طابع الرهبة أو طابع الهول الذي اكتسى التمثال به وظنه الناس فيه، ولكنه لا يخلو في الوقت نفسه من صلة تربطه بأحد الأسماء القديمة "جو أو حورون أو حول" بعد إحلال الهاء محل الحاء؛ وبعد إضافة كلمة أبو وهي كلمة تطورت فيما يبدو عن أحد لفظين مصريين قديمين، لفظ "بو" بمعنى مكان، أو أداة التعريف المذكرة المفردة "با". وظل تمثال أبو الهول طوال عصوره مثارًا للإعجاب حينًا، ومثارًا للرهبة حينًا آخر، وظن فيه مؤرخو العصور الوسطى قدرة سحرية، وسموه بأسماء غربية، فذكره المقريزي باسم بالهيب، وحكى أن شيخًا يدعى صايم الدهر أراد أن يمسخ وجهه باعتباره أثرًا من آثار الوثنية الأولى، فهبت على زروع الجيزة ريح عاتية أتلفتها، فظن صايم الدهر أنها كرامة من صاحب التمثال واضطر إلى العدول عن محاولته. وظهر من المؤرخين المسلمين من تجاوز هذا التصوير الساذج لأبو الهول، ومنهم عبد اللطيف البغدادي في القرن الثالث عشر الميلادي حيث قال عنه: " ... وسألني بعض الفضلاء ما أعجب ما رأيت، فقلت تناسب وجه أبو الهول، فإن أعضاء وجهه كالأنف والعين والأذن متناسبة كما تصنع الطبيعة الصورة متناسبة، والعجب من مصوره كيف قدر أن يحفظ نظام التناسب في الأعضاء مع عظمها وأنه ليس في أعمال الطبيعة ما يحاكيه ... ".

_ 1 See Posener, Jnes, IV "1945", 240 F. 2 Wb., III, 45.

عواقب الإسراف

عواقب الإسراف: أعقب خفرع على عرشه ولده منكاورع، وبدأت بعد سنوات قليلة من حكمه فترة جديدة في تاريخ أسرته، اختلفت في إمكانياتها وأحجام عمائرها وعلاقات حكامها بمحكوميها عن الفترة التي سبقتها والتي انتهت بحكم خفرع وامتدت سنوات قليلة في عهد منكاورع. ويتجلى اختلاف الإمكانيات واختلاف الأوضاع بين الفترتين بمقارنة عمائر منكاورع وخلفائه بعمائر أسلافهم. فأهم الآثار الباقية من عهده هو هرمه ومعبد شعائره. ويبلغ الارتفاع الحالي لهرمه نحو 62 مترًا ولم يزد ارتفاعه الأصلي عن 66 مترًا، أي أقل من نصف ارتفاع هرم أبيه خفرع وأقل من نصف هرم جده خوفو1. وإن امتاز في حالته الراهنة بأن ستة عشر مدماكًا من مداميكه السفلى كسيت بأحجار

_ 1 قدر بعض المهندسين أن هرم خوفو تضمن أحجارًا تبلغ نحو مليونين ونصف مليون من الأمتار المكعبة، وتضمن هرم خفرع نحو 1.8 مليون متر مكعب، وتضمن هرم منكاورع ربع مليون متر مكعب فقط. " Cf., Spiegel, Op. Cit., 528".

جرانيتية ضخمة، وذلك مما دعا المقريزي إلى أن يصفه في أيامه باسم الهرم الملون. وللهرم معبدان وطريق صاعد شأنه شأن بقية أهرام الأسرة الرابعة: معبد شعائر كبير ضخم معقد التركيب، بدأ المهندسون بناءه بأحجار ضخمة هائلة وأنفقوا فيه جهدًا كبيرًا1، ولكنهم لم يتموه في عهد صاحبه، على الرغم من أنه حكم أكثر من واحد وعشرين عامًا، فبقي ناقصًا إلى عهد الفرعون شبسكاف حيث أتموا بعض أجزائه من اللبن دون الحجر. وطريق صاعد كان شأنه شأن معبد الشعائر، وصف رجال منكاورع جزءًا من أرضيته بالحجر ثم أتمه رجال شبسكاف فبنوا بقية أرضيته وجدران من اللبن. ثم معبد الودي ولم يكن منكاورع قد أنشأ منه شيئًا ذا بال حتى وفاته، فأمر شبسكاف بتشييده باللبن أيضًا فيما خلا أعمدته وأعتاب أبوابه التي كان لا بد من أن تُبنى بالحجر2. وفي ذلك كله ما يباعد بين حال آثار منكاورع وإمكانيات خليفته، وبين فخامة آثار سنفرو وخوفو وخفرع وضخامة عمارتها وضخامة الجهود التي بذلت فيها. غير أن آثار منكاورع لم تخل على الرغم من ذلك مما يشهد لأهل العمارة والفن في عهده بالبراعة والقدرة على التجديد. وكان من صور تصرف المعماريين في بناء هرمه أنهم شقوا ثلاث قنوات رأسية كبيرة على جانبي أحد دهاليزه الداخلية لتنزلق فيها ثلاثة متاريس حجرية ضخمة ظلت مرفوعة على مساند حجرية أو خشبية حتى تم الدفن ثم أسقطت في قنواتها وسدت الدهليز سدًّا محكمًا "ولو أن إحكام سده لم يحل دون سرقة كنوزه". وشكلوا تابوت منكاورع من البازلت وزخرفوا جوانبه بما يشبه هيئة المشكاوات الرأسية التي كانت تتعاقب في واجهات القصور وواجهات أسوارها، وذلك على عكس توابيت أسلافه التي كانت عاطلة من الحلية3. ونحتوا له بضعة تماثيل، مثله بعضها وحده، ومثله أحدها مع زوجه. ومثلته عدة مجموعات منها يقف مشدود القامة مع معبودين، المعبودة حتحور على جانب ومعبود آخر يرمز إلى إقليم من الأقاليم المصرية على جانب آخر4، وكانت لحتحور منزلة خاصة في عهده تشبه منزلة باستة في عهد أبيه، فوصفته بعض أختامه بأنه حبيبها، وأظهرت في بعض تماثيلها معه تحيط خصره بذراعها وتلمس ذراعه بكفها. وبلغ الفنانون في نحتها جميعها مبلغًا طيبًا من دقة النحت ودقة التعبير وسلامة التنفيذ. وتهيأ لكبار الأفراد في عهد منكاورع من الثراء وحرية التصرف في طرز مقابرهم وعناصرها أكثر مما تهيأ لهم ولأسلافهم في عهد أبيه وعهد جده. فكثرت تماثيلهم في مقابرهم، وزادت نقوشهم ومناظرهم على جدرانها، ونحتوا بعض هذه المقابر داخل الجدار الصخري لهضبة الجيزة عوضًا عن تشييدها من الحجر فوق سطح الأرض. ومارسوا شعائرهم فيها بحرية أوسع مما سمح لهم به أبوه وجده. واستن منكاروع سنة سياسية جديدة، فسمح بفتح قصره لأبناء المقربين إليه من كبار موظفيه، وعهد بتربيتهم إلى كبار رجال القصر مع أبنائه؛ ليشبوا أوفياء له مخلصين لبلاطه، وكان منهم شاب يدعى شبسبتاج. وصور صلات

_ 1 يقال إن بعض الكتل التي استخدموها فيه بلغت زنة الواحدة منها 30 طنًا. 2 دعا إلى نسبة ... المعبد إلى عهد شبسكاف نص وجد في المعبد ذكر على لسان شبسكاف أنه شيده تذكارًا لأبيه ملك الصعيد والدلتا منكاورع – راجع قرار شبسكاف عن هرم منكاورع " Urk. I. 160" وقرار آخر لصالحه وصالح كهنته " Urk. I. 277" 3 غرق هذا التابوت، خلال نقله، في خليج بسكاي. Lepeius, Auswahl, Taf. Vii; L. D., Ii, 2 E. 4 Smith, A History Of Egyptan Sculpture.., Pl. 13; Urk., I, 15 G.

منكاورع بكبار أهل العاصمة وعمله لاكتساب ولائهم عن العطايا وطريق السماحة، نص سجله رجل يدعى دبحن، وقص فيه أن منكاورع كان في طريقه ذات مرة ليتفقد أعمال البناء في هرمه، فاعترض موكبه ولفت نظرة إليه، وحادثة ورجاه أن يأذن له بتشييد مقبرته قرب هرمه، فقبل منكاورع رجاءه، وأذن له بتشييد مصطبة كبيرة طولها مائة ذراع وعرضها خمسين، وعهد لصالحه بخمسين عاملًا من عمال الخاصة الملكية وأذن بإعفائهم من كافة الأعباء فيما خلا أعباء بناء المصطبة وتمهيد الأرض حولها، وأمر بأن يشرف على تشييدها مهندسه الخاص واثنان من كبار أهل الفن في عهده. وسمح له بأن يستورد من أحجار طرة والمقطم ما يكفي لكسائها وبناء مقصورتها وصناعة بابين وهميين فيها ونحت تمثال يمثله بحجم كبر من حجمه الطبيعي بكثير، فضلًا عن نحت تمثالين لمساعديه1. وكانت أمثال هذه اللفتات من منكاورع لكبار رجال رعيته وتساهله في الإذن لهم بإقامة التماثيل في مقابرهم وممارسة الشعائر فيها في حرية مطلقة، أصلًا فيما يبدو لما سمعه هيرودوت في العصور المتأخرة من أن المصريين أحبوا منكاورع أكثر مما أحبو أباه وجده، وفي قصة دبحن ما يعني كذلك أن الدفن في الجبانة الملكية كان لا يزال يعتبر امتيازًا خاصًّا يمنح من قبل القصر الملكي، وان المحاجر الممتازة كانت احتكارًا حكوميًّا أو ملكيًّا، وأن التماثيل الكبيرة التي تفوق الحجم الطبيعي أصبحت متاحة لكبار الشخصيات. أشادت نصوص ما بعد منكاورع باسم شبسكاف، وشاد له مهندسوه قبرًا في جنوب سقارة، يعرف الآن باسم مصطبة فرعون. وقد انصرفوا ببنيانه عن طراز الهرم، وشيدوه على هيئة تابوت ضخم مستطيل مائل الجوانب "100 متر طولًا، و72 متر عرضًا، 18متر ارتفاعًا" ترتفع جوانبه فوق مستوى سقفه، وأقاموه فوق قاعدة منخفضة، ثم كسوه بأحجار بيضاء وأحاطوا قاعدته بإزار من الجرانيت، وشادوا له معبدين صغيرين وطريقًا صاعدًا بنوا جداريه الجانبيين من اللبن. واتبع شبسكاف سياسة منكاورع في اكتساب ود عظماء قومه عن طريق رعاية أبنائهم في قصره. ويذكر له من ذلك أنه زوج ابنته من الشاب شبسبتاح الذي رباه منكاورع في قصره وواصل رعايته2، ولعل زواج الأمراء بغير الأميرات كان قد أصبح حينذاك أمرًا مألوفًا، ولكن كانت هذه هي المرة الأولى فيما نعلم التي زوج فيها فرعون ابنته من أحد كبار أفراد رعيته، ولعلها كانت الأولى في العالم القديم كله. وسلك شبسكاف سياسة مماثلة في سبيل اكتساب ود كبار كهنة المعابد في عهده عن طريق إعفائهم وإعفاء معابدهم من بعض التكاليف التي كانت مفروضة عليهم لحساب خزائنه، وبدأ في ذلك بمجموعة هرم منكاورع وكهنتها ومواردها. وبعد نحو أربع سنوات، انتهت وراثة عرش الأسرة الرابعة إلى الأميرة خنتكاوس. وطال نقاش الباحثين في نسبها، وفي مدى استغلالها لحقها الوراثي في العرش، وفيما إذا كانت أختًا لشبسكاف وزوجة له

_ 1 Urk., I, 18 F.; Breasted. A. R., I, 211 F. 2 Urk., I, 51 F. ; Breasted, Op. Cit., I, 257.

أم لم تكن، وفيما إذا كانت شهدت ملكًا آخر يحكم بعد شبسكاف أم لم تشهد، وفي مدى تأثيرها في توجيه أمور الدولة في عهد زوجها "وسركاف" الذي سوف يكون رأسًا لأسرة حاكمة جديدة، وعهد ولدها ساحورع الذي اعتلى العرش بعده. ويتجه الترجيح حتى الآن إلى اعتبار ختنكاوس ابنة لمنكاورع، وأختًا لشبسكاف. ويعتقد يونكر أنها ابنة منكاورع من زوجته مرس عنخ الثالثة، وأن هذه الزوجة كانت من سلالة جد فرع. وأضاف أن شبسكاف كان أخاها غير الشقيق وكان من فرع ثانوي1. وقد شاد المهندسون مقبرتها على هيئة تابوت ضخم فوق قاعدة صخرية مربعة عالية، أي بما يشبه مقبرة أخيها إلى حد كبير، وجوفوا معبد شعائرها في صلب قاعدة المقبرة، وبنو معبد واديها قريبًا من معبد وادي أبيها منكاورع. ووصلوا بين معبديها بطريق يمتد من معبد شعائرها ناحية الشرق ثم ينحرف ناحية الجنوب في زاوية قائمة. وتلقبت خنتكارس في نصوص مقبرتها بلقب قرأه يونكر: " ... ملكة الصعيد والدلتا أم ملك الصعيد والدلتا، بنت الرب". واستنتج منه أن انحصار شرعية وراثة العرش في خنتكاوس سمح لها بأن تتلقب بلقب الملكة، وأنه من المحتمل أن تكون قد حظيت بتأثير واسع على ولدها حين تولى العرش في صغره2، وأن تلقبها بلقب بنت الرب يشير إلى اعتبارها الابنة البكر لأبيها أو إلى دورها في نقل شرعية الحكم إلى زوجها. انتهت شجرة نسب الأسرة الرابعة بختنكاوس، كما أسلفنا، وتمايزت لهذا الأسرة فيما رأينا فترتان: فترة انتهت بعد حكم خفرع، وفترة بدأت بعد سنوات قليلة من حكم منكاورع. ونمت آثار الفترة الثانية ونصوصها عن ظروف تختلف عن ظروف الفترة الأولى إلى حد كبير، ظروف اتصفت بضعف الموارد الحكومية إلى حد ما، وقلة الضخامة والفخامة في آثار الفراعنة بالنسبة إلى آثار أسلافهم الأقربين، وإن اتصفت في الوقت نفسه بظاهرة مستحبة، وهي حرص فراعنتها على اكتساب ود كبار موظفيهم وكبار كهنتهم. ويمكن إيجاز أسباب الاختلاف بين ظروف الفترتين في ثلاثة عوامل، وهي: أولًا- أن الأسرة بدأت عصرها برخاء عظيم واستقرار مكين وجهد كبير في تنمية موارد البلاد عن طريق تنشيط الاستثمار الداخلي وتوسيع التجارة الخارجية، ونمت عن رخائها حينذاك مصادر وآثار عهد سنفرو وعهد خوفو على وجه الخصوص، لولا أن الأهرام الضخمة ومعابدها وتماثيلها التي أسرف سنفرو وخوفو وعهد خوفو وخفرع في إنشائها لأنفسهم، وألحقوا بخدمتها الأعداد الكبيرة من الكهنة والأتباع ووقفوا عليها الأوقاف الواسعة من الأراضي والأنعام، وزادوا إلى جانبها إنشاء الأهرام الصغيرة لزوجاتهم، والمقابر الضخمة لأبنائهم، مع متطلباتها من النفقات، قد أدت كلها إلى استنفاذ أنصبة كبيرة من إمكانيات البلاد

_ 1 H. Junker, Mitt. Kairo, III, 142., F., 136. 2 Cf. Asae, Xxxviii, 209 F.: Juker, Op. Cit., 129, 131, 143.

ومواردها، واستنزفت جانبًا كبيرًا من موارد الخزائن الملكية ومدخراتها، وجعلت الملكية أقرب إلى أن تفقد إحدى وسائلها الرئيسة للتعبر عن مجدها وسلطانها وممارسة السيطرة الكاملة على البلاد وأهلها، وهي الوسيلة المادية "أو المالية". ثانيًا- ما يحتمل من أن فترات التنافس الداخلي بين كبار الأمراء على العرش، التي بدأت عقب وفاة خوفو، وربما كذلك عقب وفاة منكاورع وعقب وفاة شبسكاف، قللت بعض الشيء من هيلمان الفراعنة وأسرتهم، وأشعرتهم وأشعرت الناس بحاجتهم إلى تأييد كبار رعاياهم وضرورة كسب ودهم ولو على حساب خزائن حكومتهم التي كان تعتبر خزائنهم. ثالثًا- أن فراعنة الأسرة عملوا على مسايرة دين الشمس وزيادة تشجيعه في مراحل عدة. ولم يكن دين الشمس في حد ذاته جديدًا في حياة شعبهم، وإنما كان الجديد هو اعتراف دولتهم به رسميًّا على نطاق واسع. بل إن اعتراف دولتهم به لم يكن في حد ذاته أمرًا ذا خطر، ولكن الخطر كان من أن يعقبه أمران، وهما: أن ينصرف جانب من ولاء الرعايا على الإله رع رب الشمس، وهو المعبود الظاهر لكل الناس والقريب من كل الناس، على حساب ولائهم القديم شبه المطلق للفراعنة وربهم الملكي الخفي حور، وأن ينصرف بالتالي جانب كبير من الموارد المادية إلى الديانة الجديدة، ديانة الشمس، على هيئة أوقاف وهبات وإعفاءات لمعابدها ومرتبات لكهنتها الذين أخذت أعدادهم تتزايد باستمرار، على حساب بقية موارد الحكومة وخزئنها وبمعنى آخر على حساب موارد الملكية وخزائنها. وشهدت أواخر عصر الأسرة الرابعة عواقب هذه الظروف كلها بخيرها وشرها، فشهدت تسرب جزء من الموارد الملكية إلى مصارف جديدة، واضطرار الملوك إلى بناء أهرام صغيرة ومقابر على هيئة التوابيت، وشهدت اتجاه الملوك إلى كسب ود كبار رعاياهم، وشهدت انصراف جانب من ولاء الرعية وجانب من الموارد الملكية إلى المعابد وكهنتها. ويبدو أن أكثر المستفيدين من هذه الظروف كانوا من أنصار كهنة ديانة الشمس بالذات، وأنهم أخذوا يتطلعون إلى مزيد من الدالة على حكومتهم، ومزيد من التأثير على العرش وصاحبه. وتهيأت لهم فرص هذه الدالة وهذا التأثير منذ أن انتهت وراثة عرش الأسرة الرابعة إلى الأميرة خنتكاوس بعد وفاة أخيها، فشجعوا أحد خاصة قومهم المؤيدين لهم على الزواج منها، وهو "وسركاف"، وكان فيما يعتقد جردسلوف أميرًا حفيدًا للملك جد فرع، ورث الإمارة عن أمه نفر حوتبس بنت جد فرع1، ولم يرثها عن أبيه الذي يحتمل أنه كان من أنصار الشمس أو كبار كهنتها. وعندما تزوجها اكتسب عن طريقها شرعية الحكم التي ورثها عن أبيها وأخيها، واشتركت معه في تأسيس أسرة حاكمة جديدة وهي الأسرة الخامسة. ويبدو رأي جردسلوف مقبولًا إلى حد كبير، وإن لم يصل بعد إلى مرتبة اليقين.

_ 1 Asae, 1942, 64 F. – وذلك على عكس رأي يونكر الذي خمن فيه أن خنتكاوس هل التي انحدرت من سلالة جد فرع.

ثالثا: التقوى والرفاهية في عصر الأسرة الخامسة

ثالثا: التقوى والرفاهية في عصر الأسرة الخامسة مدخل ... ثالثًا: التقوى والرفاهة في عصر الأسرة الخامسة 2560 - 2420ق. م يعتبر عصر الأسرة الخامسة فاتحة زمن زاهر جديد، اتسعت فيه آفاق دين الشمس وشملت أمور الدنيا والآخر، وازداد التقارب خلاله بين الملوك وبين كبار أفراد الشعب، ومضى التطور الطبقي يسير فيه بخطى صرحية، وبلغت فنون العمارة والنحت والتصوير والنقش فيه ذرى عالية، استأنفت مصر خلاله صلاتها التجارية الخارجية على نطاق واسع، مع فينيقيا في شمالها الشرقي وبلاد بوينة في جنوبها الشرقي. وإن لم يمنع هذا من وجود عيوب ونقائص في أيامه وحكامه. جمعت الأسرة الجديدة بين فرعي الأسرة الرابعة الكبيرين المتنافسين كما أسلفنا، فرع خفرع الذي مثلته خنتكاوس ورفع جد فرع الذي مثله وسركاف، وحققت الوئام بينهما. غير أن أنصار الملوك الأوائل لهذه الأسرة لم يقنعوا لفراعنتهم بحق الحكم عن طريق زواج أبيهم بسليلة الفرع الحاكم من الأسرة الرابعة، وابتغوا أن يردوا شرعية حكمهم إلى إرادة ربانية قديمة وأصل مقدس، فخرجوا على الناس بداعاية ناسبت الأفكار الدينية في عصرها، واعتمدت على القول بأسطورة نسبتهم على "روح" الإله رع رب الشمس وإن أنجبتهم أمهم من رجل مبارك من كهنته. وبقيت من صورها المكتوبة نسخة من الدولة الوسطى، سجلت على بردية عرفت اصطلاحًا باسم بردية فستكار. ولسنا ندري مدى قبول الناس لما روته هذه الدعاية أو هذه الأسطورة، إن كانوا قد تقبلوه عن إيمان وتصديق، أم اعتبروه مجرد مبالغة من الكهان وأهل البلاط لصالح ملوكهم1، ولكننا ندري أن ملوك الأسرة ظلوا أوفياء للإله رع الذي اعتبروه صاحب الفضل في ارتقائهم العرش، وظلوا كرماء مع كهنته الكبار الذين آزروهم في حكمهم2. تلقب وسركاف أول ملوك الأسرة بلقب معبر يناسب وضعه كمؤسس لأسرة جديدة وهو "إرماعت" أي واضع النظام أو محق الحق. وتعاقب بعده ثمانية ملوك تداخل اسم رع في الأسماء الشخصية لستة منهم على أقل تقدير، وهم: ساحورع، ونفراركارع، وشبسكارع، ونفرفرع، وني وسرع، ومن كلوجور وجد كارع، وونيس. وقد اهتم أغلبهم بمعبد إله الشمس في مدينته المختارة: "عين شمس"، ثم أقاموا له ستة معابد على مثاله. وبدأ هذه المعابد رأس الأسرة، وسركاف، وبنى معبده متواضعًا من اللبن، ولأمر غير معروف شيده في منطقة أبي غراب جنوبي الجيزة، وليس في عين شمس نفسها. كما بنى هرمه ومعبداه إلى الجنوب منه في سقارة. وقد تهدم جزء كبير من الهرم ومعبديه، وإن تبقى من صور الطيور والزهور التي

_ 1 راجع عن تفاصيل هذه القصة وما يستنتج منها عن العادات المصرية القديمة: عبد العزيز صالح: الأسرة في المجتمع المصري القديم – القاهرة 1962. 2 الغريب أن المؤرخ مانيتون نسب مؤسس الأسرة الخامسة إلى إلفنتيني "أي أسوان".

تزين جدران معبد شعائره ما ينم عن أيد فنية متثبتة وإحساس مرهف بجمال الطبيعة الطلقة وكائناتها. كما بقيت رأس ضخمة رائعة من الجرانيت لوسركاف، يذهب الظن إلى أنها كانت رأسًا لتمثال كامل، وإذا صح هذا الظن وكان التمثال جالسًا، لم يكن ارتفاعه ليقل عن خمسة أمتار1. ويبدو أن ضخامة التماثيل كانت تستهدف عن قصد لمؤسسي الأسر الحاكمة؛ إذ أثرت نفس الضخامة لبعض تماثيل زوسر مؤسس الأسرة الثالثة، وأمنمحات مؤسس الأسرة الثانية عشرة، كنوع من الدعاية لعظم شأنهم. وقد بنى خلفاء وسركاف أهرامهم ومعابدها في منطقة أبو صير2 التي لا تبعد عن أبي غراب بأكثر من ميل واحد.

_ 1 Firth, Asae, Xxix, Pis. Iii; Zaes, 1955, 140-144 2 سنعتبر اسم "أبو صير" اسمًا مبنيًّا باعتباره تحريفًا لاسم "بو أوزير" أو "بر أوزير".

خصائص معابد الشمس

خصائص معابد الشمس: لعل أكثر معابد الشمس بقاء حتى الآن هو معبد ني وسررع سادس ملوك الأسرة. وهو معبد ضخم شيد هو وملحقاته من الحجر1. وتكونت عمارته معها من ثلاثة عناصر متمايزة: مبنى ضخم ينهض على حافة الهضبة ويطل على الوادي، ويعتبر مدخلًا إلى منطقة المعبد، ويشبه معبد الوادي بالنسبة لمناطق الأهرام. ويليه طريق صاعد مكشوف لأشعة الشمس تعبره الوفود وهي تهلل لربها نور السماء والأرض. ثم معبد الشمس الرئيسي ذاته، وهو بناء ضخم ولكنه بسيط التكوين، يتألف من فناء رحب مرصوف عظيم الاتساع ينكشف لنور إله الشمس ويتضمن رموزه التي رأى الناس آياته فيها ورمزوا بها إليه. وأهم هذه الرموز مسلة حجرية ضخمة بلغ ارتفاعها الأصلي في عهد ني وسررع فيما يعتقد بورخارت، نحو ستة وثلاثين مترًا، واتخذت قمتها هيئة الشكل الهرمي الصغير، وكانت فيما يرجح مكسوة بصفائح النحاس أو مموهة بالذهب ليتألف نورها ويتوهج حين تنعكس عليها أشعة ربها كل صباح، ولعلها لهذا سميت "بنين" ربما بمعنى المشعة2. ويرى شبيجل أن قمة المسلة كانت ترمز على ما رمزت إليه قمم الأهرام من حيث اعتبارها رمزًا للنظام العالمي الذي يحتل الرب أو الفرعون قمته وأعلى وأرفع مكان فيه. وكان يتقدم المسلة من ناحيتها الشرقية مائدة متسعة من المرمر، تقدم القرابين عليها ويحرق بعضها ليتصاعد عبيرها إلى إله الشمس في سمائه. ويتضمن المعبد موضعين آخرين لنحر الضحايا، تجري الدماء منهما في مجار مكشوفة إلى أحواض حجرية مستديرة واسعة. وجاورت المعبد من الخارج قرب جداره الجنوبي هيئة مركب مشيدة من اللبن، كانت تتضمن مركبًا خشبية يبلغ طولها نحو ثلاثين مترًا، ترمز إلى مركب إله الشمس. ويحتمل أنه كانت تقابلها مركب أخرى، بحيث ترمز إحداهما إلى مركب النهار "معنجة" التي اعتقد المصريون أن رب الشمس يعبر بها سماء الدنيا لينيرها للأحياء، وترمز الأخرى إلى مركب الليل "مسكتة" التي يعبر بها سماء العالم السفلي لينيرها للموتى، موزعًا

_ 1 1 - F.W. Von Bissing-L. Borcherdt, Das Re-Heiliglum Des Konigs Ne-Woser-Re "Rathures", 1-Iii, Berlin 1905-1928; Von Bissing-H, Kess, Unters, 2u Den Reliefs Dem Re-Heiling Des Rathres, Munich, 1922. 2 J. Spieegel, Op. Cit., 606; Orientalis, 1970, 398 F.

فضله على هؤلاء وهؤلاء، وكأنهم اعتبروا زرقة السماء بحرًا وسيلة العبور فيه هي المراكب أهم وسائل الانتقال في دنياهم. ومن خصائص معابد الشمس أنه لم تجر عادة المصريين على أن يضمنوها تماثيل لربها أو محاريب مغلقة يعبد فيها. واتجهوا بدعائهم إلى كوكبه في سمائه، وقدموا قرابينهم إلى الشرق من مسلته، ونزهوه عن أن يختفي في أرضهم داخل تمثال أو خلف جدران وأستار. واستمرت هذه المظاهر تميز معابد الشمس المصرية عن معابد بقية الأرباب في أغلب العصور القديمة. وحرص أتباع الشمس على أن يسجلوا في معابد ربهم مظاهر فضله على ملوكهم، فصوروهم يحتفلون بأعياد السد في ظله. ثم سجلوا فيها نعمته على عبادة بعامة، فزينوا بعض قاعاتها وممراتها الجانبية بمناظر ذات ألوان زاهية ورمزوا فيها إلى مظاهر الحيوية في الدنيا ووجوه النشاط التي تتعاقب خلال فصول السنة بفضل الشمس وربها، من حرث وبذر وجني وحصاد، وتناسل الحيوانات وتكاثرها، وحياة الطيور في الطبيعة الطلقة حين تغرد وحين تمرح وحين تفزع وحين يعتدي كبارها على صغارها، وحين تعطف الأم على أفراخها، ثم تعبئة عسل النحل وتخمير العنب ... ، وهلم جرًّا. وبلغ فنانو عصر الأسرة الخامسة في ذلك النجاح كله، من حيث حيوية التصوير ووضوح الألوان ودقة التفاصيل1.

_ 1 Wresz, Atlas, Iii, 106; Von Bissing, Asae, 1955-1956, 319 F.

أهرام العصر ومعابدها

أهرام العصر ومعابدها: اهتم فراعنة الأسرة الخامسة ببيوت خلودهم، أي أهرامهم ومعابدها، شأن أسلافهم وعلى نحو ما اهتموا بمعابد ربهم. وتوزعت أهرامهم في سقارة وأبو صير، ولكن ظلت الفوارق واضحة بين أهرامهم وبين أهرام الأسرة الرابعة في الجيزة، وأهم هذه الفوارق ثلاثة، وهي: أولًا- أنها قلت كثيرًا عن أهرام الأسرة الرابعة من حيث الضخامة وأحجام الأحجار، وبالتالي من حيث مغالبة عوادي الزمن، كما قلت عنها في فخامة مظهرها. ويمكن أن ترد قلة الضخامة فيها إلى ذوق معماري خاص ساد عصرها، ولكن قلة المتانة فيها وبساطة البناء وقلة الفخامة الظاهرية أقرب إلى أن تعلل بأن سيطرة ملوك العصر على موارد البلاد أصبحت أقل نوعًا من سيطرة الأسرة الرابعة عليها، وأن نصيبًا من موارد الخزانة الحكومية تسرب على معابد رع وأنصاره، فضلًا عن معابد بقية الأرباب الأخر الذين احتفظ المصريون بالولاء لهم جنبًا إلى جنب مع معبودهم الأكبر رع. ثانيًا- اهتم الأسلوب الفني للمعابد الملحقة بها، أي معابد الشعائر ومعابد الوادي فضلًا عن الطرق الواصلة بينها، بعنصر الزخرف أكثر مما اهتم به الأسلوب الفني لمعابد الأسرة الرابعة. ووضح هذا الاهتمام في تشكيل أساطينها على هيئة النخيل والبردي، أو على الأصح تشكيل تيجانها أي أجزائها العلوية على هيئة سعف النخيل وزهور البردي، ووضح كذلك في كثرة المناظر المنقوشة على جدرانها الداخلية، كثرة

جعلت بورخارت يقدر أن مساحات الجدران التي أعدت للنقش في مجموعة ساحورع ثاني ملوك الأسرة بلغت نحو عشرة آلاف متر مربع "لم يبق منها حتى الآن للأسف عبر مائة وخمسين مترًا مربعًا"، وصورت هذه المناظر انتصارات الفراعنة، علاقاتهم بأربابهم، وبعض أعيادهم الرئيسية، وصورت جوانب من حياتهم الخاصة، وجوانب من أعمال شعبهم، كما صورت السفن النيلية الكبيرة تفد من أسوان إلى منطقة المعابد محملة بالكتل الجرانيتية الضخمة، والسفن البحرية الكبيرة التي ترددت في عصرهم بين مصر وبين وفينيقيا تحمل الرسل والمتاجر والمصنوعات والحيوانات الغريبة كالدببة. ولم تخل التفاصيل المعمارية الصغيرة في معابد الأسرة الخامسة من تجديدات. واهتمت بعض هذه التفاصيل بتنظيم وسائل تصريف المياه من سطوح المعابد وأرضياتها فضلًا عن أرضيات الطرق الواصلة بينها. وكانت وسائل تصريف المياه قد بدأت في مباني عصر الأسرة الرابعة على أقل تقدير، ولكنها بلغت درجة واضحة من الذوق المعماري في مباني عصر الأسرة الخامسة، فأصبحت مياه السطوح تنساب إلى ميازيب شكلت نهاياتها على هيئة رءوس أسود ضخمة تتناسب هيئاتها مع ضخامة المباني وفخامتها، ويمر المجرى عادة من تحت ذقن الأسد. أما مجاري الأرضية فكانت تنحت ضيقة في الأرضية الحجرية أحيانًا، وتجري في مواسير من النحاس أحيانًا أخرى، ثم تنتهي إلى حوض كبير من الحجر. ثالثًا- متون الأهرام: حفلت جدران حجرة الدفن والقاعة المؤدية إليها في آخر أهرام ملوك الأسرة الخامسة زمنًا وهو هرم ونيس "وليس أوناس كما تذكره بعض المؤلفات عادة"، بمتون دينية وأسطورية كشف عنها في أواخر القرن الماضي. وقد نقشها الفنانون بالكتابة التصويرية الهيروغليفية، فخرجت معجزة في إتقان نقشها ورقة حروفها ودقة التفاصيل الصغيرة في صورها البشرية والحيوانية والطبيعية التي تداخلت في تكوين مقاطع جملها ومخصصاتها. ثم لونوها بألوان ممتعة لا زالت تحتفظ بجانب كبير من رونقها وبريقها وجمالها حتى اليوم على الرغم من مرور ما يقرب من أربعة وأربعين قرنًا عليها. وزخرفوا معها سقف حجرة الدفن بأشكال النجوم حتى بدا كأنه سماء تظل جثة الفرعون وتحتويها1. نقشت متون الأهرام لأول مرة في هرم ونيس كما ذكرنا، في أواخر القرن الخامس والعشرين ق. م. على وجه التقريب. غير أن ذلك لا يعني أنها ألفت في عهده لأول مرة، أو أنها كانت من وضع فرد بعينه، أو أنها اقتصرت على عقائد عصر بعينه. وإنما هي على الأرجح من حصيلة عصور وقرون طويلة، وإنتاج كفايات فكرية متباينة، ومذاهب دينية متعددة، ظلت نصوصها وأفكارها متفرقة قبل عهد ونيس في صدور الكهان وعلى أفواه الرواة والمحدثين وعلى صفحات البردي ولخاف الفخار والأحجار عهودًا طويلة، حتى

_ 1 كتب عن متون الأهرام باحثون كثيرون، ومن أوضحهم في كتابته عنها الأستاذ جيمس هنري برستد في كتابيه: 2 J.H Breasted, Development Cf Religion And Thought In Ancient In Ancient Egypt. London, 1912 ; And The Dawn Of Conscience, New Yourk, 1933. See Also. S. Mercer, The Pyramid Texts; Lodon, 1970.

صحت الرغبة في عهد ونيس في تسجيلها في باطن هرمه، تأكيدًا لاستفادته الأخروية من تراتيل الدين التي تضمنها، وربما تعويضًا لفخامة هرمه عن صغر حجمه. وحينذاك توافد على المشرفين على بناء هرمه كل من ظن أنه يعرف من التعاويذ والتراتيل ما ينفع الفرعون في أخراه، وكل من ظن أنه يعرف عن عقائد الأقدمين وأساطيرهم ما لا يعرفه سواه، توافدوا جميعهم على المشرفين على إعداد الهرم؛ رغبة منهم في إظهار علمهم حينًا، وتقربًا منهم إلى صاحب الأهرام حينًا، وطمعًا في خيراته في أغلب الأحيان. فتقبلوا منهم كل ما تتسع له المسطحات المعدة للنقش في باطن الهرم فيما خلا الجدار الغربي لحجرة الدفن حيث يوضع التابوت عادة، وحيث يصبح بوسع الفرعون الثاوي فيه على جانبه أن يرى ويقرأ ما يمتد إليه بصره مما حوله من التراتيل والدعاوت والأقاصيص. وترتب على تنوع مصادر متون الأهرام وتعدد مؤلفيها أن خرجت في نهاية أمرها تحمل أكثر من دلالة على أصحابها وتحمل أكثر من دلالة للباحثين فيها. فظهرت فيها أخيلة عدة صورت بعث الفرعون وخلوده وأشادت بتمجيده. وظهرت فيها صيغ كثيرة كانت تتلى عند تقديم القرابين باسم الفرعون لتحويل نفعها إلى روحه. وظهر فيها كثير من أسماء الأرباب وصفاتهم. وكثير كذلك من الصفات القدسية المسرفة التي اعتاد الكهان والساسة وأهل البلاد أن يخلعوها على ملوكهم تقربًا منهم. وكثير من تصورات المفكرين عن الخلق الأول ونشأة الوجود. وكثير من قصص الرواة عن الحوادث القومية القديمة، وكثير من تصورات رجال الدين عن العلاقات بين أرباب التاسوع الأكبر لا سيما أتوم ورع وأوزيروست وإيسة وحور. وكثير من أماني المؤمنين في الآخرة وجناته، وكثير من مخاوفهم من أخطارها وعقباتها. وكثير من تصوراتهم عن سلطان الفراعنة فيها.

الاتصالات الخارجية

الاتصالات الخارجية: وضحت علاقات مصر ببلاد بوينة "أو بونت" خلال عصر الأسرة الخامسة أكثر مما وضحت من قبله. وبلاد بوينة بلاد قصد المصريون بها منطقة الصومال وإريتريا وربما صموا إليها ما يقابلها من الجنوب الغربي لبلاد اليمن في بعض عصورهم1. وكانت بعثاتهم تتجه إليها في الدولة الوسطى على الأقل عن طريق وادي الحمامات ثم تنزل البحر الأحمر عند القصير أو مرسى جواسيس، أو تسلك طريق وادي الطميلات ثم خليج السويس والبحر الأحمر2، لتستورد منها البخور واللبان والمر والصموغ لطقوس المعابد وضرورات التحنيط، والمعادن شبه الكريمة والعاج وبعض الأخشاب الثمينة لصناعة الحلي وأدوات الترف، وربما استوردت عن طريقها أقزامًا وجلود الفهود والنمور وحيوانات نادرة مما يليها جنوبًا، وذلك في مقابل مبادلة أهلها بالمصنوعات المصرية التي تروج بينهم وترضي أدواقهم. وسجلت حوليات الفرعون ساحورع

_ 1 Cf. Abdel-Aziz Saleh, "The Gnbryw Of Thutmosis Iii's Annals And The Gebbanitae Of The Classical Writers", Bifao, Lxxii, 145-262; "Some Problems Relating To The Pwens Reliefs At Deir El-Bahari" Jea, Lviii "1972", 140-158. 2 ولو أن كيس يعتقد أن رحلات الدولة القديمة إلى بلاد بوينة كانت تركب البحر من السويس فقط.

ثاني فراعنة الأسرة الخامسة من صور هذه الاتصالات أنه وردت في عهده كميات هائلة من منتجات بوينة، وصور فنانوه أفرادًا من هذه البلاد في مناظر معبده بأبو صير على هيئة الخاضعين لسطوته1، وإن كانوا في الأغلب ممن يتاجرون مع دولته. واتسعت اتصالات مصر التجارية بفلسطين عن طريق البر، وبفينيقيا عن طريق البحر. وظهر من قرائنها أن صور الفنانون في معبد الفرعون ساحورع بضع مراكب بحرية كبيرة استقبلها الفرعون وحاشيته حين عودتها من فينيقيا محملة بالرسل والخيرات والحيوانات، وكان من الشخصيات البارزة فيها شخصية المترجم الذي كان يقوم مقام السفير. ومن الباحثين من يظن أنها حملت عروسًا فينيقية أي سامية كذلك على الملك، ولهذا استقبلها بنفسه وأكرم مرافقيها، وإذا صح هذا الظن كان أقدم دليل على اتخاذ المصاهرات، سبيلًا إلى تدعيم العلاقات بين الدول المتجاورة وحكامها2. واستمرت الجهود الاقتصادية المألوفة، والجهود العسكرية المعتادة، لاستغلال مناطق الحدود في الجنوب والغرب والشرق وشبه جزيرة سيناء، وتأمينها من شغب البدو. ووصلت المتاجر المصرية جنوبًا حتى منطقة بوهن على أقل تقدير، وصحبها في الأغلب نوع من النفوذ السياسي3. وتوفر لعهد سا حورع نشاط عسكري خاص ضد فريق من عصاة القبائل في الصحراء الغربية. وشجعت انتصارات جيوشه فنانيه على تصوير أمراء هذه القبائل وزوجاتهم وأولادهم على جدران معبده على هيئة المستسلمين لسطوته، وتصوير مصادرة جيوشه لآلاف كثيرة من مواشيهم وأنعامهم تدل على أن واحاتهم ومناطقهم الساحلية كانت وفيرة العشب والمرعى4.

_ 1 L. Borchardt, Sahure…, Taf. Vi, 19f.; Urk, I, 246. 2 Borchardt, Op. Cit., Taf. Xiii; Urk., I, P. Montel, Dans Melang Dussaud, 191 F. وعثر على كأس باسم وسركاف في إحدى جزر بحر إيجه، غير أن هناك شكًّا في وصولها إليها في عصر الأسرة الخامسة. K. Seethe, Zaes, Liii, 55f. "Athene Mus. 4578". 3 W. Emery, Egypt In Nubia, Iii, 127. 4 L. Borchardt, Op. Cit., Taf. I, F.

التطور السياسي والاجتماعي

التطور السياسي والاجتماعي: سارت الأوضاع السياسية والاجتماعية بخطى واسعة في سبيل التطور المحمود خلال عصر الأسرة الخامسة، ورأى الملوك أنهم يعملون في ظروف تختلف بعض الشيء عن الظروف التي حكم فيه أسلافهم، فأزادوا التزاماتهم المادية والأدبية لكبار كهنة الشمس ومعابدهم رغبة في أن يضمنوا ولاءهم ويضمنوا استمرارهم على التسبيح بفضلهم والدعاية لهم بين الناس، وأعفوا بعض معابد الأرباب الآخرين من جانب من التكاليف المفروضة عليه1. وأزادوا التزاماتهم المادية والأدبية كذلك لغير الكهنة من أهل الطبقة العليا. وسمحوا لكبار أفرادها أن يبلغوا منصب الوزارة، أكبر مناصب الدولة، بعد أن كان قاصرًا منذ إنشائه في عهد

_ 1 W.F. Petrie, Abydos, Ii, XIV, XVII; Urk., 170.

سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة على كبار الأمراء وحدهم1. وتصاهروا معهم وزوجوا كثيرًا منهم بأميرات أسرتهم الحاكمة2. ومصوا على تربية أبناء الكبراء في قصورهم3، وسمحوا لعدد من هؤلاء الأبناء بأن يرثوا مناصب آبائهم ما داموا أهلًا لها، وما دامت تتوفر لديهم الكفاية لشغلها. وظهر من فراعنة الأسرة ملوك متعلمون، كانوا يتفقدون دور الكتب ودور المحفوظات بأنفسهم، ويراسلون وزراءهم بعبارات المودة ويردون بخطهم على رسائلهم إليهم4. ومن أمتع ما بقي من رسائلهم رسالة كتبها الفرعون إسسي إلى وزيره شبسرع يقول له فيها ردًّا على رسالة منه إليه في أحد أعياده وكان قد وصفه فيها بما يحب أن يوصف به: "اطلع جلالتي على الحديث الممتع الذي أرسلته إلى القصر في هذا اليوم الجميل، ... وسررت به لأنك تعرف كيف تتحدث بما يستحبه جلالتي، وأن كل ما تقوله ليروق لي إلى أقصى حد .. وهأنذا أقول الآن وأردد باستمرار، يا حبيب مولاه، يا من أنعم عليه مولاه، يا مسشار مولاه، الحق أن رع أكرمني بأن وهبني إياك، وبحق حياتي الخالدة لئن أبديت لي أية رغبة بكتاب اليوم لقضيتها لك في التو"5. وظهر من فراعنة الأسرة من لم يكن يأبى أن يترضى رجاله عما أصابهم منه أو من جرائه عن قصد أو عن غير قصد. وحكى رجلان من عهد نفر إركارع ثالث فراعنة الأسرة شيئًا من ذلك. فقص "رع رو" أحد من عملوا في خدمة القصر وفي سلك الكهنوت أن ملكه وكز ساقه بمنسأته "عن غير قصد" خلال حفل كبير، ثم لم يأب أن يطمئنه على سلامة العقبى ويخصه بوداده ويسمح له بأن ينقش طمأنته له في مقبربته6. وقص آخر أن أباه الوزير واشتباح "أو بتاح واش" دهمه الموت فجأة وهو يمشي بجوار الفرعون في حفل افتتاح إحدى المنشآت الملكية، وأن الفرعون حاول إسعافه واستعان في ذلك بمخطوطاته الطبية الخاصة أو عقاقيره الخاصة، ولكنه فشل وعاد إلى مقصورته ودعا الأرباب من أجله أي ترحم عليه، وسمح لولده بأن يسجل ذلك كله نقشًا في مقبرته7. وكان في ذلك ما فيه من الدلالة على معرفة الملك ببعض مبادئ الطب أو التطبيب، إلى جانب إظهاره التعاطف مع من حوله. واعتق الأستاذ فيكنتيف أن حدوث الحادثتين في عهد ملك واحد يدل على أنه كانت له مصلحة فيهما وأنه كان يود أن يتخلص من الرجلين فنخس أحدهما بعصاه التي يحتمل أنها كانت مسمومة وسم الآخر بطريقة ما ثم أظهر حزنه عليه، ولو صح ذلك لدل على ضعف سلطان الملك واضطراره إلى سلوك طرق

_ 1 لم يل الوزارة من الأمراء في عصر الأسرة الخامسة غير أميرين: سخم كارع، ونفر سشم سشات. See, A. Weil, Op. Cit., 5 F. 2 Junker, Giza, Iii, 211; V, 9 F., 12 F. 3 Ibid., Vii, 230 F.; Mariette, Mastabas, 402; Borchardt, Stathen Und Statuetten, 76. 4 Urk., I. 60-62; Quibell, Saqqara, 1907-8, 79f., Pl.61; Giza, Vii, 233. 5 Urk; I, 179. 6 S. Hassan, Excavations At Giza, 1929-1930,I,18. 7 Breasted, A. R., I, 257 F.

ملتوية للتخلص ممن لا يطمئن إليهم. ولكن الأستاذ شارف فسر الحادثة الأولى بتفسير آخر واعتقد أن الملك وكز رع ور عن غير قصد فعلًا ولكن إيمان رع ور بأن عصا الملك كانت عصا مقدسة شأنها شأن بقية شاراته جعله يتخوف العاقبة ويتوقع حلول غضب الأرباب عليه، فطمأنه الملك وأفرخ روعه. واتسعت تنظيمات الإدارة خلال عصر الأسرة الخامسة بما ينسجم مع ما بلغه أهلها من رقي الفكر والمادة في نواحي حياتهم1. وترأس الوزير جهاز الحكومة المركزية بعد الفرعون، وكان قد بدأ عمله خلال عصر الأسرة الرابعة، بمثل ما بدأ به فيما بعد أوائل الوزراء في العصور الإسلامية القديمة، أي باعتباره حامل الوزر ومسئولًا عن شئون الدولة أمام مولاه. وظلت النصوص الرسمية تثبت له هذه الصفة باستمرار. ولكن الوزراء ما لبثوا حتى أصبحوا في نظر جمهرة الناس شيئًا آخر بعد أن ولي الوزارة رجال من كبار الشعب في عصر الأسرة الخامسة، وبعد أن اضطر الفراعنة إزاء اتساع شئون دولتهم أو إزاء التطور الطبقي في دولتهم، إلى أن ينقلوا بض سلطاتهم الفعلية إلى وزرائهم ويركزوها في أيديهم. وترتب على ذلك أن انتقل إليهم نصيب من قداستهم أو مهابتهم. ونسب الناس إلى وزيرين منهم الحكمة وتأليف تعالم تهذيبية. وعندما اكتملت للوزير اختصاصاته أصبحت تعرض عليه أمور الدولة الهامة، ثم يتولى هو عرضها على الفرعون، وأصبح يعتبر محافظًا للعاصمة ورئيسًا لبلاط وللديوان الملكي، ويتولى الإشراف الأعلى على الخزائن وشون الغلال والمنشآت العامة والأشغال المعمارية الكبيرة، لا سيما الملكية منها. ويتولى الإشراف الأعلى على دور القضاء ودور المحفوظات ودور السلاح. وكان يتلقب منذ عصر الأسرة الرابعة بلقب قضائي يجعله كبير خمسة دار تحوتي2، ربما بمعنى كبير الرؤساء القضائيين الذين ينسبون عدالتهم على المعبود تحوتي رب العدالة والكتابة والحساب. ثم تلقب خلال عصر الأسرة الخامسة بلقب "حم ماعت" أي "خادم العدالة"، ولقب رئيس الدواوين الست الكبيرة3. ولسنا على بينة من الاختصاصات الفعلية لهذه الدواوين، أو المناطق التي كانت توجد فيها، وإن يكن من المحتمل أنها كانت تمثل دور القضاء العليا في العواصم الكبيرة، أو مجالس القضاء العليا في الدولة. وسرى شيء من ارتفاع شأن الوزارة إلى بعض الوظائف المندرجة تحتها. وترتب على كل ما أسلفنا أن توافر لأهل الطبقة العليا وربما كبار أهل الطبقة الوسطى أيضا منذ عصر الأسرة الخامسة، من الإمكانيات المادية والقيم الاعتبارية أكثر مما توفر لأسلافهم، ولم يعودوا يتقيدون كثيرًا بتشييد مقابرهم حول أهرام ملوكهم كما كان شأن أمثالهم في عصر الأسرة الرابعة، فتوزعت مقابرهم في سقارة والجيزة. ولم يتردد بعض حكام الأقاليم في أن يعملوا

_ 1 See Especially, M.A. Murray-K Sethe, Index Of Names And Titles Of The Old Kingdom, 1908, 1937; J. Pirenne, Histcire Des Institfution Et Des Droit Prive De L'ancienne Empire, T. I-Iii, 1935; A. Weit, Die Veziere Des Pharonemreiches, 1908; H. W. Helck, Untersuchungen Zu Den Beamtentiteln Den Aegyptischen Alten Riches, 1954; K. Baer, Ranks And Titles Of The Old Kngdom, 1960. 2 A. Weil , Op. Cit., Nr. 2, 3, ; Mariette, Masrabas, 125. 3 Weil, Op. Cit., 10-12, Etc. ; Marietc, Op. Cit., 228, 407-409; L.D., II, 103; Zaes, XX, If.; XXVIII, 43 F. ;P.S.B.A., XIII. 121 F.

على نحت مقابرهم في سفوح التلال في مناطق حكمهم بعيدًا عن جبانة العاصمة. وشيد بعض هؤلاء وهؤلاء لأنفسهم مقابر واسعة ذات حجرات عدة وأبهاء ذات عمد، وضمنوها عددًا من تماثيلهم الكبيرة والصغيرة ووضعوا في جزئها الأسفل عددًا كبيرًا آخر من التماثيل الصغيرة لأتباعهم وخدمهم الذين تمنوا أن يقوموا بخدمتهم في دنياهم الثانية، وعنوا بزخرفة جدران مقابرهم بنصوص ومناظر كثيرة اتسمت في مجملها بطابع الزخرف والألوان البهيجة، وشاعت فيه النقوش الهادئة متوسطة البروز، وغلبت الحيوية والنضارة على صور ناسها وطيورها وحيواناتها، وتنوعت موضوعاتها ورمزت إلى ما كانوا يملكونه من ضياع وأنعام ومراكب للصيد والنزهة والانتقال، وأشارت إلى من كانوا يتبعونهم من جماعات الكتبة وجماعات الصناع "وهي جماعات محدودة العدد بطبيعة الحال"، ورمزت إلى ما كانوا ينعمون به من حياة رغدة ومن رعاية الخدم والأتباع. ومن أمتع ما يستشهد به من مقابرهم من حيث أسلوبها المعماري وأسلوبها الفني، ومن حيث تنوع مناظرها التي تصور الحياة اليومية داخل البيوت وخارجها، مقبرة "تي" أحد رؤساء دواوين الكتاب في عصره، وأخرى للوزير "بتاح حوتب" الذي عاصر الفرعون إسسي. وقد توفر لهذا الوزير "بتاح حوتب" نصيب واسع من الشهرة، وقدر لاسمه أن يخلد في عالم الأدب المصري القديم قرونًا طويلة، حيث سجلت له نصائح في آداب المعاملة والسلوك نصح ولده بها، وابتغى أن يتأدب بها بقية الشبان في مثل سنه، وحاول خلالها أن ينظم علاقة ولده بقرارة نفسه وأسرته وعمله ومجتمعه، وأن يجعله على تقى من ربه. فدعاه فيما دعاه إلى أن يراعي التوسط في اختيار مناسبات صمته ومناسبات كلامه، ويراعي التوسط في معاملته لنفسه ومطالب بدنه، ويراعي التوسط في معاملته لرئيسه ومرءوسه، مما سنعالجه بتفصيل في حديث الأدب.

رابعا: البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة

رابعا: البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة مدخل ... رابعًا: البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة 2420 - 2230ق. م. كان رأس الأسرة السادسة فرعونًا يدعى تتي أقيم هرمه في سقارة وتضمن نصوصًا لا تختلف عن نصوص هرم ونيس إلا في زيادة اهتمامها بذكر المعبود أوزير وتأكيدها تشبيه الملك المتوفى به. وأقيمت بعض مقابر أتباعه حوله في طرقات يمكن ترسمها. وشاءت المصادفات أن تحتفظ بردية طبية مصرية كبيرة بتفاصيل عقاقير لتقوية بصيلات الشعر صنعت أحدها أمه شيشي "أو صنع من أجلها"، وألف بقيتها كبير أطبائه خوي1. ويبدو أن التخصص في العلاج الطبي خلال عصر الأسرة السادسة كان قائمًا فعلًا؛ إذ ظهر من أطباء العصر من اشتهر بطب العيون، وكان لأطباء القصر الملكي رئيس مما يدل على تعددهم. وشهدت مصر بعد عهد تتي تطورات متصلة في حياتها السياسية والاجتماعية، وفي علاقاتها بالنوبة وبجيرانها في فلسطين. واشتهر خلال العصر من الشخصيات ذات الأثر في مجالات السياسة والحرب والاقتصاد، ثلاثة من الفراعنة، وهم ببي الأول، وولداه مرنرع، وببي الثاني، ثم ثلاثة من خاصة أفراد الشعب، وهم وني، وحرخوف، وببي نخت.

_ 1 Papyrus Ebers, 62, 4; Spiegal Berg, Zaes, LVIII, 152.

نمو البيروقراطية

نمو البيروقراطية: أسلفنا في عرضنا للأوضاع السياسية خلال عصر الأسرة الخامسة أنه توافر لكبار الأفراد حينذاك، أي كبار الموظفين والكهنة بخاصة، نصيب واسع من القيم الاعتبارية والإمكانيات المادية، وأن أسباب التقارب بينهم وبين فراعنتهم ازدادت شيئًا فشيئًا، دون أن يؤثر هذا التقارب في هيبة الفراعنة تأثيرًا ذا بال، ودون أن يؤثر في ولاء كبار الموظفين والكهان الفراعنة تأثيرًا ذا بال، وأن الفراعنة لم يجدوا بأسًا في أن يعهدوا إلى أبناء كبار موظفيهم المقربين بمناصب آبائهم من حين إلى حين. وقد ازدادت سياسة التقارب هذه بين الفريقين في عصر الأسرة السادسة، فازداد سماح بعض فراعنتها بتزويج بناتهم من كبار موظفيهم1، بل وتزوج أحدهم من ابنتي أحد كبار ولاته "راجع ص141"، وتوسعوا في تربية أبناء كبار موظفيهم في قصورهم2. وأزادوا مراسيم الإعفاء التي كانوا يحررون المعابد بها من بعض التكاليف المفروضة عليها3، ويكتسبون ولاء الكهنة وحسن السمعة عن طريقها، وإن خسروا بها جانبًا غير قليل من موارد خزائنهم، وكان منهم من يبدأ مرسومه بإعفاء أوقاف تماثيله وقرابينه في معبد معين من التكاليف المفروضة عليها، أي أنه يبدأ بمراعاة صالحه أولًا، ثم يعمم الإعفاء على أوقاف المعبد كله.

_ 1 من الموظفين الذين تزوجوا أميرات: كايجمني ومرروكا، وكان الأخير زوج ابنة الفرعون تتي. 2 Urk., 1, 251 F., 296 F. ; Zaes, Lxiv, 93. 3 A. Morst, Jwrwal Assist., 1916, 232 F. ; Hayes, Jea, 1946, 3 F.

وتضخمت مكانة كبار الموظفين في هذا العصر خلال توليهم منصب الوزارة، ومناصب حكام الأقاليم الكبيرة، ومنصب والي الصعيد، فضلًا عن مناصب أخرى كثيرة كانت تندرج تحت اختصاصات هذه المناصب الثلاثة ويحتفظون بالإشراف الأعلى عليها. وظهر أكثر التطوير في سلطات حكام الأقاليم، وقد اختلف نفوذهم تبعًا لشخصياتهم وشخصيات الفراعنة الذين عملوا في عهودهم أو عملوا في خدمتهم. فاستمر أغلبهم يرد وجوه نشاطه في إقليمه إلى أمر الفرعون وتوجيهه وفضله، بينما امتاز منهم عدد قليل آخر حرص أفراده على أن يصفوا مجهوداتهم الشخصية ومآثرهم الفردية في نقوش مقابرهم، فشرحوا كيف عملوا على تعمير أقاليمهم ووطدوا الأمن فيها، وكيف ساروا بالعدل بين أهلها وأسعدوهم، وإن لم يأبوا في الوقت نفسه أن يوفوا التقاليد الشكلية حقها، فسجلوا على جانب مآثرهم صورًا من طاعتهم لفرعونهم وحرصهم على التقرب منه وإرضائه. ومن هؤلاء الحكام المتميزين هنقو، وقد عاش خلال عصر الأسرة السادسة وحكم منطقة في إقليم أسيوط تدعى جوفية، وافتخر في نقوش مقبرته بأنه أغدق الطعام والشراب والكساء على فقراء إقليمه، وأنه بلغ من كرمه أنه أشبع ذئاب الصحاري وعقبان السماء بلحوم الماعز التي كان يضحي بها. وافتخر برعايته لاقتصاديات إقليمه، وذكر من وسائله إلى هذه الرعاية ما يعتبر مفخرة لعهده حيث شجع هجرة أهل الأقاليم الأخرى إلى إقليمه لتعمير القرى المهجورة فيه، ثم جعل مزارعيه ملاكًا، وزاد أعداد الماشية على شواطئه وأعداد الماعز على مراعيه1 بما ينحو منحى الإصلاح الزراعي وتنمية الثروة الحيوانية على نطاق ضيق. وبلغ من طيب سمعة بعض حكام الأقاليم حينذاك أن رفعهم رعاياهم إلى مصاف الأولياء وقدسوهم2. ورضى الفراعنة بنشاط أصحاب الشخصيات القوية من ولاة الأقاليم، أو هم اضطروا إلى مسايرته، ولكنهم تخوفوا أن يؤدي ازدياده إلى انفلات السلطان من أيديهم، أو يؤدي إلى تهاون الولاة في أداء التبعات والضرائب المفروضة عليهم، أو يشجع بعضه على الاستقلال بحكم أقاليمهم، وتفادوا هذه التوقعات عن طريق التوسع في استخدام وسيلتين قديمتين, وهما: التوسع في تربية أبناء كبار الولاة في قصورهم ليتشربوا حبهم وأملًا في أن يشبوا أوفياء لهم ولأولادهم، ويخلصوا لطاعتهم إذا تولوا حكم أقاليمهم3. ثم إعادة منصب والي الصعيد الذي استحدثته الأسرة الخامسة وعهدت إلى أصحابه بالرقابة باسم الفرعون على ضرائب الصعيد وشئون حكامه، وكان قد ألغي فيما يبدو في عهد تتي أول ملوك الأسرة السادسة، ثم أعيد في عهد مرنوع رابع ملوكها وزاد نفوذه4. صور بعض مشاكل قصور الأسرة السادسة، ومكانة بعض كبار الموظفين فيها، مواطن كبير يدعى "وني" دونت قصة حياته في نقوش مقبرته بأبيدوس، ثم نقلت الجدران التي دونت عليها هذه النقوش

_ 1 Urk., I, 76-79. – وتوجد مقبرته في دير الجيراوي. 2 انظر عن إيسي والي أدفو في بداية عصر الأسرة السادسة: Alliot. Bull. Inst. Frs., Xxxvii, 93 F. 3 Urk. I, 251 F. Kees, Zaes, Lxiv, 93. 4 دريوتون وفاندييه: مصر – ص263.

لمتحف القاهرة منذ القرن الماضي. وقص فيها أنه بدأ حياته الوظيفية في عهد تتي وأنه ارتقى في مناصب البلاط حتى اشتغل محققًا فيه خلال عهد ببي الأول، وأنه شارك الوزير في كل قضاياه الخاصة، أو على الأصح ساعد الوزير في القضايا الخاصة. وعمل في دور القضاء الستة. ثم حدث أن اتهم الملك ببي زوجته الملكة إمتس في أمر أتته، وربما اشتركت فيه مع وزير عهدها، وهو أمر لا ندري شيئًا مؤكدًا عن حقيقته، وقد يكون خيانة زوجية، أو تآمرًا على إحدى ضرائرها المحبوبات عند زوجها، أو تآمرًا على أحد أبناء ضرائرها لمنع بلوغه العرش بعد زوجها، أو تآمرًا على زوجها الفرعون نفسه. ويبدو أن ببي لم يشأ أن يأخذ زوجته بالظن أو ينفرد بإدانتها، فعهد إلى وني بأن يتولى التحقيق معها، فقام به منفردا ورفع نتيجته إلى فرعونه1. ولم يسجل التاريخ شيئًا عن هذه النتيجة ولا عن قرار ببي فيها، ولكنه سجل من ناحية أخرى أنه تزوج غيرها، ولم يجد بأسًا في أن يصهر إلى أحد عظماء مدينة جربها في عهده، وكان يدعى "خوي" فتزوج ابنته، وأنجب منها ولي عهده مرنرع، ثم تزوج أختها "بعد وفاتها" وأنجب منها ولدًا آخر ولي العرش بعد أخيه باسم ببي "الثاني"2. وكانت هي المرة الأولى، فيما نعلم حتى الآن، التي تزوج فرعون فيها واحدة من غير الأميرات خلال توليه الحكم ثم رفعها إلى مكانة الزوجة الرئيسية واعترف بولدها وليًّا شرعيًّا لعهده.

_ 1 A.R. I, 294, 309 F. H. Goedicke, J.A.O.S., 1954, 88-89. 2 Urk., 117-119; Mariette, Cat. Des Mon. D'abydos, No. 253.

أحداث الشمال الشرقي والتنظيمات العسكرية

أحداث الشمال الشرقي والتنظيمات العسكرية: أدت الظروف الخارجية إلى أن يعمل وني باسم فرعونه واسم بلده خارج الحدود فيما هو أهم من عمل الحاشية وتحقيقات البلاط. فقد توافدت على أراضي فلسطين خلال عهد ببي أو قبله، هجرات بدوية متقطعة سماها المصريون باسم "عامو حريوسع" بمعنى بدو الرمال، أو القبائل التي تعيش على الرمال، ويحتمل أنها كانت فرعًا من الهجرات الأمورية التي انتشرت آنذاك على حدود الهلال الخصيب، فهددت سبل التجارة بين مصر وجيرانها، وحاولت أن تثير الاضطرابات وتعبر حدود مصر الشمالية الشرقية. فعهد ببي إلى وني بحماية تجارة مصر وحماية حدودها، فخرج في خمس حملات على أقل تقدير، أربع عن طريق البر وخامسة عن طريق البر والبحر، حصر العدو بها بين فكي كماشة، وتكللت حملاته كلها بالنجاح على حد قوله. ويكفينا من النصوص التي سجلها عنها، بضع عبارات تكشف عن سياسة الحرب وتجييش الجيوش في أيامه. فقد قص وني أن ملكه جند تحت إمرته عشرات الآلاف الكثيرة من حاميات المدن وأهل الأقاليم الجنوبية والشمالية ومن جانبي الدلتا فضلًا عن بعض أهل النوبة الموالين لمصر من قبائل إرثة ومجا وإيام وواوات وكاو، وبعض سكان الصحراوات الغربية من قبائل ثمحو، وأوفد معه طائفة من المترجمين والموظفين ورجال الدين. وعقب وني على ذلك بأنه نظم مسيرة الجنود على خير وجه، وأنه ترتب على حكمته في رسم خطته أنه لم يحدث أن تنازع جندي مع زميله، أو اغتصب جندي كسرة خبز

من عابر سبيل أو اغتصب نعله، ولم يحدث أن نهب أحد جنوده خرقة من قرية، أو سلب عنزة من عشيرة، حتى جاوز بجيشه مناطق الحدود الشمالية الشرقية، أو جاوز على حد تعبيره الجزيرة الشمالية، وبوابة إيمحوتب، وساقة حورنب ماعت1. وترتب على المعارك التي خاضها وني ما يترتب على الحروب عادة في كل آن، من أسر وتقتيل، ونهب وتدمير. ولما تكللت مساعيه بالنصر، وعاد بعسكره إلى أرض مصر، رفع إلى فرعونه تقرير الحرب، وعقب عليه بسبعة أبيات من الشعر أكد خلالها سلامة جيشه سبع مرات، وبدأ كل شطر فيها بعبارة تقول: عاد الجيش سالمًا ... بعد أن فعل كذا وكذا ... ، فقال على سبيل المثال: "عاد الجيش سالمًا بعد أن دمر أرض أهل الرمال ... ، عاد سالمًا بعد أن أسقط حصونهم، عدا سالمًا بعد أن خرب مزارع التين واقتلع الكروم". لم يبرأ تقرير وني من المبالغة في تصوير كثافة جيوشه، حين ادعى أنها بلغت عشرات الآلاف، ولم يبرأ من المبالغة حين ادعى أن جنوده لم يحيدوا عن جادة الصواب في أي كبيرة وصغيرة. غير أن روايته على الرغم مما تضمنته من مبالغات، لا تخلو من دلالات تنم عن التنظيمات العسكرية في عصره، ومنها أن الحكام تعودوا على أن يجندوا قطاعًا واسعًا من إمكانيات البلاد لأغراض الدفاع والهجوم كلما آن أوانها، وأنهم اطمأنوا على إخلاص بعض النوبيين وبدو الصحراء الغربية واستعانوا بهم في جيوشهم، وأن رجال الدين كان لهم نصيب من المشاركة حين الخروج إلى الحرب، ولعلهم كانوا يثيرون حماس الجنود ويذكرونهم بآلاء الأرباب وضرورة الولاء للفراعنة والرؤساء والحرص على تقاليد الدين. وأن التراجمة كانوا يعاونون القادة على التفاهم مع أهل المدن التي يفتحونها أو تفتح لهم أبوابها من تلقاء نفسها. ونم وصف وني لمسلك جنوده الحميد داخل مناطق الحدود، وافتخاره به، عن أن رؤساء عهده ممثلين في شخصه، كانوا يقدرون من تبعات القيادة أربعة واجبات، وهي: العمل على تغليب روح الطاعة في الجيش، وتقليل دواعي الشقاق بين الجنود، وتغليب روح التراحم بينهم وبين مواطنيهم المدنيين، والعمل على تزويد الحيش بمئونة مناسبة تصرف رجاله عن الدنية وعن محاولات النهب والعدوان. ونم وصفه لمنطقة حروبه، وذكره مزارع التين والكروم فيها، عن أنه توغل بجيشه في فلسطين، وقد ذكر منطقة منها باسم "أنف الغزال"، وهذا يراها الأستاذ جاردنر قريبة من جبل الكرمل. ويبدو أن سلامة الجيش التي رددها وني في نهاية تقريره المنظوم عددًا من المرات لم تكن من مستلزمات الشعر وحده، وإنما تضمنت خبرًا مرويًّا عما حدث للجنود فعلًا، أو هي على الأقل عبرت عن أمل كان المقيمون يرجونه لجيشهم فعلًا2.

_ 1 حورنب ماعت هو لقب سنفرو، وتسمية المنطقة باسمه تعني تحصينها في عهده. See, Erman, Zaes, 1891, 120; A. R., 317 D. 2 راجع عبد العزيز صالح: "التربية العسكرية في مصر القديمة" – تاريخ الحضارة المصرية – القاهرة 1962، ص189.

العمارة والفن والمجتمع

العمارة والفن والمجتمع: تجمعت أهرام فراعنة الأسرة السادسة في منطقة سقارة، فيما عدا هرم ببي الثاني الذي شيد إلى الجنوب منها بقليل. وشاهبت هذه الأهرام أهرام الأسرة الخامسة في بساطة أحجامها وصغر أحجارها الخارجية،

وبالتالي قلة متانتها ومقاومتها نسبيًّا وإن تألفت بعض أجزائها الداخلية من كتل ضخمة. وجرت هذه الأهرام على سنة هرم ونيس في نقش متون الأهرام على جدران حجرات الدفن فيها وبعض الحجرات الملحقة بها، ثم ما لبثت هذه المتون أن وجدت سبيلها إلى أهرام الملكات أيضًا، فنقشت في هرم الملكة إبوة زوجة تتي مؤسس الأسرة، وهرمي نبت ووجبتن زوجتي ببي الثاني آخر الملوك الكبار في الأسرة1 مما قد يعني زيادة مكانتهن عما كانت عليه من قبل. ولم يتبق من تماثيل فراعنة الأسرة السادسة غير القليل، ومن هذا القليل أربعة تماثيل معبرة للفرعون بني الأول، مثله أحدها وهو صغير عاريًا في سن الرضاعة، ومثله آخر جالسًا على حجر أمه في سن الطفولة، ومثله ثالث حاثيًا على ركبتيه في سن الرجولة يقدم قربانًا لربه، ومثله رابع كهلًا يدفع عصاه بيده وبجواره ولي عهده مرنرع عاريًا في سن الطفولة. ولم يجرأ فن النحت على تمثيل هذه الأوضاع للملوك قبل عهد ببي وإنما اعتاد على أن يمثلهم في سن الرجولة الناضجة دائمًا وفي سمات أبناء الأرباب، تكسوهم القداسة ويحف بهم الجلال والوقار حيت يعتلون عروشهم في تعال وأبهة، وحين يقفون في انتصابة وشموخ، وحين يظهرون مع أربابهم في زمالة حبيبة أو بنوة رفيقة. ولم يحرم فنان ببي تماثيله من مظاهر الأبهة حتى وهو يمثله صغيرًا رضيعًا، ولكنه بدأ في الوقت نفسه ينفعل بآراء جديدة عرفها عصره ونشرحها بعد قليل، وبدأ يحس معها بأنه يمثل إنسانًا قبل كل شيء، وإن يكن إنسانًا ملكًا، فمثله عاريًا، ومثله يحن إلى حجر أمه. وبدأ يشعر بأنه لا ضير عليه في التعبير عن العلاقة بين الإنسان الملك وبين ربه بتعبيرها الصحيح فصوره جاثيًا يبتغي من خالقه الرضا وقبول قربانه وإن يكن بطبيعة الحال إنسانًا مميزًا أو إنسانًا مقدسًا2. وانعكس ثراء كبار الأفراد وازدياد مكانتهم السياسية والاجتماعية على آثارهم، ففاقت مقابرهم مقابر أمثالهم في عصر الأسرة الخامسة من حيث السعة والفخامة وتعدد النقوش وموضوعات المناظر. وتفرقت هذه المقابر بين جبانة العاصمة منف في سقارة وما حولها وبين جبانات حواضر الأقاليم، وكانت أفخمها هي مقابر رجال البلاط قرب العاصمة أي في سقارة والجيزة. وأشهر ما يستشهد به منها مقبرتان، مقبرة مرروكا، مقبرة كايجمني. وتضمنت أولاهما 33 حجرة فوق سطح الأرض، وامتلأت أغلب جدرانها بالمناظر المنقوشة الملونة. واستحب أثرياء العصر طابع الامتلاء في حياتهم وفي نقوشهم، وأسرف عظماؤهم في الاستمتاع برفاهية حياتهم، وتعمد الفنانون حشو مناظر المقابر بتفاصيل ما كان يتحلى الأثرياء به من الشعور المستعارة والقلائد، وزادوا من تصوير تفاصيل الغدران التي كانوا يرتادونها للتريض وتفاصيل نباتاتها وأسماكها وأفراسها وتماسيحها، بل ولم يجدوا بأسًا من تسجيل تفاصيل الجنازات أيضًا ومناظر العويل والبكاء والحزن فيها. واستمتع مجتمعهم بنصيب واسع من التحرر الفكري والتحرر المعيشي، فلم يتردد

_ 1 G. Jequier, La Pyramide D'oudjabten, Le Caire, 1928; Les Pyramides Des Relnes Neit Et Apouit, Le Caire, 1933. 2 عبد العزيز صالح: "الفن المصري القديم" – في تاريخ الحضارة المصرية – ص237 لوحة 30؛ دراسات في التاريخ الحضاري لمصر القديمة – 1957 – ص8.

فن التصوير في أن يعكس مظاهر هذا التحرر على مناظر الحياة اليومية التي صورها الفنانون على جدران القبور. ويتضح بعض هذا التحرر في ثلاث لوحات صورها الفنانون لراقصين وراقصات في مناظر الجيزة وسقارة. فقد صورت اللوحة الأولى فتياتها يرتدين ملابس نصفية ويرفعن سيقانهن في رشاقة واتزان يشبهان بعض أوضاع الباليه. وصورت الثانية جواريها بملابس نصفية شفافة هفهافة تكشف عما تحتها، وصورتهن ينثنين إلى الخلف في دلال لإظهار رشاقتهن. وأظهرت الثالثة جواريها عاريات في مجموعات ثلاثية ترفع الواحدة فيها ساقها العارية حتى تلامس بها كتف أختها1. ويتضح من المقارنة بين هذه اللوحات الثلاث، إلى أي حد تدرجت حرية الفنانين حينذاك في التعبير عن أوضاع الراقصات، وإلى أي حد تدرجت الراقصات في تأدية الحركات الجريئة وفي التخفف من الثياب، بعد أن كانت لوحات الرقص في مناظر النصف الأول من الدولة القديمة تتوخى الحشمة في تصوير الراقصات وتسجيل حركاتهن البطيئة الرتيبة.

_ 1 عبد العزيز صالح: الفن المصري القديم – لوحة 29.

رحلات الكشف في الجنوب

رحلات الكشف في الجنوب: عبر المصريون في الدولة القديمة عن أهل النوبة باسم عام وهو "نحسيو" "ومنه أتى اسم بانحسي أي النوبي وخرج به العبرانيون ونطقوه فنحاس". واعتادوا على أن يعبروا عن مناطقها بأسمائها المحلية مثل: واوات وإيام، وإرثة، ومعخز، ومجا، وكاو1. وازدادت علاقاتهم بها باستمرار نتيجة لاعتبارات كثيرة، أهمها: اعتبار المصريين منطقة النوبة السفلى الممتدة جنوب أسوان جزءًا متممًا لحدودهم الجنوبية، ورغبتهم في تأمين الحياة عندهم والحد من شغب قبائلها غير المستقرة التي كثيرًا ما دعاها الفقر إلى الاعتداء على مراكز الحدود وقوافل التجارة، وعملهم على استغلال محاجرها الممتازة، كمحاجر الديوريت التي بدأ استخدامها منذ عصر الأسرة الرابعة على أقل تقدير، وربما استغلال مناجم الذهب في مناطقها الشرقية "2، ورغبتهم في فتح أسواق للتبادل التجاري في مناطقها المسكونة، ثم رغبتهم في اتخاذها سبيلًا ووسيطًا للاتصال بأراضي السودان الغنية بمنتجاتها الطبيعية ونباتاتها وحيواناتها. وكانوا يصدرون إليها فيما تذكر نصوصهم الدهون العطرة والعسل الأبيض والمنسوجات والزيوت ومصنوعات القاشاني، ويستوردون منها وعن طريقها الماشية والعاج والأبنوس وريش النعام وجلود الضباع والفهود وربما الذهب والغلال أيضًا، ووضحت هذه الصلات والرغبات خلال عصر الأسرة السادسة على هيئة بعثات كشفية ورحلات تجارية وحملات تأديبية. وتكفل بأعمال الكشف وترويج التجارة حينذاك، عدد من كبار حكام أسوان، جمعوا فيما يحتمل بين الدم المصري والدم النوبي وعرفوا اللهجات النوبية والسودانية وتفاهموا بها مع أهلها، وحملوا

_ 1 A. H. Gardiner, Anc. Eg. Onomastica, I, 47 F. ;Junker, Jea, Vii, 121 F. J. Yoyott, Bifao, Lii, 176 ;D. Dixon, Jea, 1958, 40, 120 ; F. Edel, Age. Stud., 51 F. Kush, Vi, 39 F. Gardiner, Op. Cit., 134. 2 هناك رأي بأنهم لم يستغلوا ذهب النوبة قبل الدولة الوسطى.

لذلك لقب رؤساء المترجمين "إميراعو"، وسجلت النصوص من أسمائهم أسماء: إري، وحرخوف، ومخو، وسابني، وببي نخت. وكان أكثرهم أثرًا اثنان، هما: حرخوف، وببي نخت. قام حرخوف بأربع رحلات إلى الجنوب في عهدي الملكين مرنرع وببي الثاني، سلك خلالها طريقين: طريقًا يوازي النهر والدروب القريبة منه، وطريقًا يصل إلى الواحات عبر الصحراء الغربية. وبدا أولى رحلاته في صحبة أبيه إري، وبلغ معه منطقة إيام "أو يام أو إيما" وهي منطقة قريبة من مجرى النيل حول الشلال الثاني1، وذكر في نصوصه عن رحلته أنه أراد أن "يكتشف بها طريقًا إلى تلك الفيفاي"2 وذلك مما يدل على وضوح نية الكشف عنده، وهو وإن كان كشفًا تجاريًّا وإداريًّا قبل كل شيء، إلا أن ذلك لا يعيبه في عصره البعيد إذا قدرنا أن الاكتشافات الأوروبية حتى في العصر الحديث، كانت على الرغم من نتائجها العلمية، تستهدف التجارة والاستغلال بل والاستعمار أساسًا. وقضى حرخوف في رحلته سبعة شهور. ثم قام برحلته الثانية، وبدأها من أبيدوس وسلك فيها طريقًا سمي طريق العاج، وقطع هو وقافلته فيما يظن إيدل وديكسون نحو 1725 كيلومتر على ظهور الحمير بلغ فيها دنقلة الأرودي قرب الشلال الثالث، وعاد بعد ثمانية شهور قضاها في ذهابه وإيابه3. وسلك في رحلته الثالثة "طريق الواحة" من أبيدوس4، وهو طريق يحتمل أنه نفس طريق درب الأربعين الذي تسلكه القوافل حتى اليوم، ويصل بين منطقة دارفور والواحة الخارجة ثم يمتد منه إلى أسيوط. وقص حرخوف في أخباره عن رحلته هذه أنه صادف نزاعًا بين قبائل إيام وبين قبائل الثمحو، وكانت الأخيرة منهما قبائل تنتشر في طريق الواحات غرب النيل وتمتد حتى واحة سليمة على أقل تقدير. فعمل على إصلاح ما يبنهما؛ رغبة منه في إظهار مسعاه الحميد لدى الطرفين، وحرصًا منه على تأمين سبل التجارة التي انتدبه فرعونه إليها. وأتم حرخوف رحلته الرابعة في عهد بني الثاني الذي ولي العرش طفلًا. وكان قد اعتاد في عوداته من رحلاته السابقة أن يؤكد لملكه انتشار نفوذه على المناطق الجنوبية التي زراها أو اكتشف سبل الوصول إليها، واعتاد على أن يقدم لبلاطه خير متاجرها وخير هداياها وخير جزاها، كما اعتاد على أن يتلقى المكافآت العينية والتشريفية جزاء عمله في كل مرة، وكان يصف نفسه بأنه المشرف على الجنوب وعلى كل البراري في رأس الصعيد5. ثم عاد من رحلته الرابعة بما اعتاد أن يعود به من غيرها، وزاد عليه قزمًا ربما حصل عليه من أسواق الجنوب

_ 1 يراها ديكسون جنوب بطن الحجر ولا تتعدى جنوب خط 22، ويراها يويوت في واحة دنقل، ويراها جاردنر جنوب الشلال الثاني وفيما بينه وبين الشلال الثالث. See, Dixon, Op. Cit., 40 F. 53-54 ; J. Yoyotte, Op. Cit., 176 F. ;Gardiner, Egypt Of The Pharaos, 101 ;See Also, Kees, Das Alte Aegypten, 70. 2 سبقه وسبق أباه إلى رغبة الكشف مصري آخر سجل اسم فرعونه ببي الأول على صخور توماس شمال كورسكو، وذكر أنه أراد أن يكتشف منطقة إرثة. See, Dixoo, Op, Cit., 47 F. 3 Ibid., 44,54 – 55. 4 أو من بلدة "هو" كما يعتقد هرمان كيس " Op. Cit., 177". 5 Ancient Records, I, 333, 334, 336.

وكتب بخبره إلى بلاط مولاه، فاهتم الملك الطفل به أكثر من اهتمامه بنتائج الرحلة نفسها، ورد على كتاب حرخوف برسالة ساذجة تتبدى فيها روح الطفولة وانفعالاتها، وتتبدى فيها في الوقت نفسه مساوئ النظام الوراثي المطلق الذي لا يأبى أن يضع أزمة أمور دولة بأسرها في يد طفل صغير, وأوصى ببي حرخوف في رسالته بالعجلة في الحضور إليه والحرص على سلامة القزم، وشدد عليه في أن يخصص له حرسًا يحوطونه على جانبي المركب خشية أن يسقط في الماء، ويتفقدونه خلال نومه عشر مرات في كل ليلة، وصرح له بأنه أصبح يهتم بهذا القزم الذي أتى له به من عالم الأرواح "سكان الأفق" أكثر من اهتمامه بمنتجات أرض المناجم ومنتجات بلاد بوينة نفسها، ووعده إن وصل به سالمًا أن يكافئه مكافأة لا يحلم بها، مكافأة يعتز بها أولاده وأحفاده1. وكان الأقزام يقومون بأدوار مختلفة في قصور الفراعنة والأثرياء وفي المعابد. فعمل بعضهم في مجالات الرقص والفكاهة، وأؤتمن بعضهم على المقتنيات الخاصة لمواليهم ورؤسائهم، وعمل بعضهم في الصناعات الدقيقة كصناعة الحلي، واشترك بعضهم في أداء طقوس المعابد ورقصاتها، وكان لهم دور معلوم يؤدونه في بعض مراسيم الجنازات الكبيرة2. وكان بعضهم يجلبون من بلاد السودان أو مما وراءها كما حدث على يد حرخوف في عهد ببي، ومن بلاد بوينة كما حدث في أيام الفرعون إسسي من الأسرة الخامسة حيث أحضر رجل يدعى "باور جدي" قزمًا من أسواق إيام، وذكر أنه استورده من "أرض الأرواح"3. على حين كان بعضهم الآخر يختارون من بين قصار القامة وناقصي التكوين من المصريين أنفسهم4. ولم تكن أوضاع هؤلاء وهؤلاء مهينة دائمًا، لا سيما إذا كانوا من المصريين، فقد ولي القزم المصري سنب مناصب كبيرة في البلاط والكهنوت في نهاية عصر الأسرة الخامسة أو بداية عصر الأسرة السادسة، وتزوج من سيدة نبيلة، وأصبح يخرج في مواكبه يصحبه ما لا يقل عن أربعة أتباع يحملون محفته وعصاه ويرفعون له مظلته5. وأكمل والي أسوان ببي نخت مجهودات سلفه حرخوف في أعمال الكشف وتأمين سبل التجارة في الأقطار الجنوبية في أوائل عهد ببي الثاني، وكان يكنى "حقا إب" أي المتحكم "في" قلبه. واستعان على تنفيذ أغراضه بالشدة حينًا وبالسياسة حينًا آخر6. وترتب على ذلك كله أن استمرت التجارة المصرية في التوغل في الجنوب، وربما وصلت حينذاك إلى أسواق كراما في أقصى مديرية دنقلة7، وكانت من أكبر الأسواق التي توسطت بين النوبة وبين السودان.

_ 1 A.R. I, 351 F. 'Urk. I, 129 F. 2 H. Junker, Giza, V, Abb., I, 1-11. 3 Urk., I, 128. 4 See, Jea, Xxiv, 185 F. 5 Junker, Op. Cit., Abb., 26. 6 A. R. I, 358, 359. 7 Reianer, Zaes, Lii, 34 F. ;Dixon, Op. Cit.

واستمرت اتصالات مصر التجارية القديمة ببلاد بوينة "بونت" وسواحل فينيقيا، وتبقى من قرائن هذه الاتصالات أن سجل ملامح مصري يدعى خنوم حوتب، أنه تردد بمركبه مع رئيسيه ثثي وخوي على ميناء جبيل من ناحية، وعلى سواحل بوينة من ناحية أخرى، إحدى عشرة مرة، واستمتع بما شاهده هنا وهناك1. ونود أن نشير قبل أن نختم هذه المرحلة من عصر الأسرة السادسة، إلى أن التطور الطبقي فيها لم يقتصر على كبار الموظفين وحدهم وإنما امتد إلى الطبقة الوسطى أيضًا، وبقيت من صوره الطريفة رسالة رد بها قائد صغير على وزير عصره، ويفهم منها أن الوزير كان قد طلب منه أن يوافيه إلى العاصمة بجانب من فرقته التي تعمل في طرة، حتى توزع الكساوي عليهم في حضرته. فرد القائد عليه بما يدل على أنه لم يهتم بأن يجاري كبرياء رئيسه في أن يظهر فضله على الجند وجهًا لوجه، وأبدى له أن تحقيق طلبه يقتضي التضحية بستة أيام كاملة، هو أحوج إليها لأداء ما أوكل إليه من المهام، أما توزيع الملابس على الجند، فيمكن أن يتم في يوم واحد على حد قوله، إن هو أرسلها إليها من رجال البريد2.

_ 1 Urk., 140-141. 2 Gardiner, Jea, Xiii, 75 F. ;B Gradseloff, Asae, Asae, Xlviii, 505 F.

الفصل السادس: عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى

الفصل السادس: عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى نهاية دورة ... الفصل السادس: عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى من أواخر القرن 23ق. م إلى أواسط القرن 21ق. م" نهاية دورة: ورث ببي الثاني العرش طفلًا، فسانده اثنان، أمه وخاله، ويحتمل أن يكون قد حكم أكثر من تسعين عامًا وهي أطول مدة حكمها ملك مصري قديم. وقد سارت أمور البلاد في أوائلها على النهج العادي الذي سارت عليه في عهود أسلافه، وذلك من حيث النشاط الداخلي والخارجي ومن حيث الثراء الملكي من جهة، ثم من حيث ازدياد سلطات حكام الأقاليم واتساع ثرواتهم وثروات رجال البلاط من جهة أخرى، وميلهم جميعًا إلى التحرر في العادات وسبل الحياة، ويحتمل كما يعتقد شتوك أنه أصبح لمصر في عهد ببي وزيران، وزير للصعيد وآخر للوجه البحري. ولم يخل ازدياد سلطان حكام الأقاليم وازدياد ثرائهم من الدلالة على مظاهر الضعف في الحكم المركزي، فهذا السلطان وإن أدى إلى إبراز شخصياتهم وفردياتهم إلى جانب شخصية فرعونهم وأدى على استفادة الأقاليم بمجهودات المصلحين منهم، وهو أمر محمود، إلى أنه لم يكن خيرًا كله، فقد كان من شأنه لو زاد عن حده أن يجرأهم على أن يختطوا لأنفسهم سياسة ضيقة ينشغلون فيها بأنفسهم وبتوطيد سلطانهم في أقاليمهم، ولو أدى ذلك إلى الانصراف قليلًا أو كثيرًا عن رعاية مصلحة الدولة في مجموعها والصالح العام ككل، وعن مراعاة حقوق الحكومة المركزية في العاصمة. ولم يكن من المنتظر أن يظل كل الحكام على سواء في عدالة الحكم ورعاية شئون الأقاليم، ما داموا بمأمن من رقابة الحكومة المركزية وعقابها، وكان من منطق الحوادث أن تستأثر بعض أسرهم بخيرات أقاليمها دون الغالبية العظمى من أهل هذه الأقاليم. ومعنى ذلك كله أنه كان لازدياد سلطان حكام الأقاليم وجهان، وجه طيب ووجه سيئ، ولم يكن هناك مجال للخوف من وجهه السيئ ما دامت الحكومة المركزية في العاصمة قوية تعمل لصالح الدولة ككل وترعى شئونها، وما دام الحكام يعرفون واجباتهم نحوها ويدينون بالطاعة لها، وقد استمر الحال كذلك خلال العهود الأولى من حكم الأسرة السادسة، ثم تبدل حال الحكومة المركزية وحال حكام أقاليمها في عهودها الأخيرة، وتضخمت العيوب بوجه خاص منذ أواخر عهد ببي الثاني حين طال حكمه واستبدت به شيخوخته فدب الضعف في حكومته وقلت هيبتها وبدأ الزمام ينفلت من يدها. وكان أغلب حكام الأقاليم قد مضوا في طريقهم، فزاد استمساكهم بتوريث مناصبهم لأبنائهم واعتبروه حقًّا مكتسبًا لهم وليس مجرد منحة من ملوكهم. وجعلوا منصب والي الجنوب الذي ابتدعته الحكومة المركزية للإشراف على مصالحها في الصعيد والإشراف على

سياسة حكامه منصبًا غير ذي موضوع بعد أن انتحله نفر منهم لأنفسهم في وقت واحد. ومنع بعض حكام الصعيد القصي عن حكومة الدولة نصيبها من موارد أقاليم، فأصبحت شبه عاجزة عن تنفيذ أوامرها وممارسة تبعاتها وحقوقها، وأخذت ظواهر السخط تتجمع ضدها، واستعدت بعض طوائف الشعب للثورة عليها وعلى أوضاع الحياة كلها، لا سيما بعد أن عاث الجنود المرتزقة الذين استعانت بهم في جيشها فسادًا في الأرض دون خشية منها. ولم يتأت الخطر على الدولة حينذاك من الظروف الداخلية وحدها، وإنما دهمها كذلك من خارج حدودها، فتجددت أخطار الهجرات الأمورية بعد أن كانت قد خفت حدتها وانكسرت شرتها مؤقتًا على يدي ونى وجيشه، وتجرأ بدو سيناء وبدو فلسطين على حدود الدولة وهددوا أمن سبل تجارتها مع بقية بلاد الشام، وحرموها بذلك كثيرًا من دخول التجارة وضرائبها، ثم تسرب بعضهم إلى أراضي الدلتا وقراها وحاولوا الاستقرار فيها، وعجزت الحكومة القائمة عن تأديبهم وإلزامهم حدود الطاعة لها.

الثورة الطبقية

الثورة الطبقية: صور نتائج هذه الأوضاع التي انتهت إليها أمور الحكام والمحكومين في أواخر عصر الأسرة السادسة حكيم مصري يدعى إيبوور "أو إبو العجوز". ويغلب على الظن أنه عاش في أواخر عهد ببي الثاني أو في عهد أحد خلفائه الضعاف. ويغلب على الظن أيضًا أنه كان ذا صلة بمناصب الدلتا، وأنه نجح بعد لأي في أن يبلغ صوته إلى أهل البلاط، وربما نجح في مقابلة الفرعون نفسه، وحاول أن يحمله هو وحكومته تبعة ما انتهت إليه أحوال البلاد على أيامه من ضعف ودمار. وحفظ الوطنيون المصريون آراء إيبوور ووصفه لأحداث عصره1 مما سنعود إلى تفصيله وتحليل عناصره في فصل الأدب. ويكفي أن نذكر هنا أن الرجل صور ثورة عنيفة عارمة ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي اشتد فسادها في أيامه. ويفهم من حديثه أنها بدأت بالعاصمة وأنه صحبها في بدايتها شيء من العنف ورغبة التنفيث والانتقام، فنزع الثوار عن ملكيتهم القائمة ما تبقى لها من قداسة شكلية، وأباحوا لأنفسهم أن يتقاسموا أملاكها ومواردها وأملاك أنصارها، وقلبوا أوضاع العاصمة رأسًا على عقب واقتحموا دواوينها ومزقوا وثائقها، "وانقلبت العاصمة في ساعة" على حد قوله، "وانكشفت أسرار ملكية الصعيد والدلتا"، وجرى بعض أهل الأقاليم مجرى أهل العاصمة فهاجموا المتسيطرين عليهم "وقالت كل مدينة دعونا نقصي العتاة من بيننا". ولم تقتصر حملات الناقمين على الأثرياء الأحياء وحدهم، وإنما امتدت كذلك إلى مقابر الأثرياء الموتى الذين نعموا في دنياهم لما لم ينعم به سواهم، ثم رصدوا على أهرامهم ومقابرهم ومعابدهم من الخيرات والأوقاف ما كان الأحياء من أفراد الشعب أولى بمثله. بيد أنه على الرغم من السوءات التي صاحبت تلك الثورة في بدايتها، ترتبت عليها نتائج أخرى طيبة صور إيبوور بعضها، وكانت أوضحها ثلاثة، وهي:

_ 1 Papyrus Laiden, I, 344 Rt, ; A.H. Gradiner, The Admonitions Of An Egyptian Sage, Leipzing, 1909.

أنها استثارت نوعًا من الوعي القومي لدى المفكرين الذين عز عليهم عجزهم عن دفع البلاء عن وطنهم قبل وقوعه، وعز عليهم أنهم لم ينشطوا للتصرف عند ظهور بوادر الخطر ولم يتلافوها، وصعب عليهم أن تنتهك حرمات البلاد وتبتذل مقدساتها الدينية والتقليدية تحت أبصارهم وأسماعهم، سواء بأيدي المهاجرين أم بأيدي المواطنين الموتورين. وعبر إيبوور عن هذا الوعي في صحوة ضميره فقال: "وما أشق ذلك على نفسي، بل وعلى كلي، وليتني رفعت صوتي في ذلك الحين، وإذن لأنقذني ذلك من عذاب لا زلت أعانيه". وحين قابل إيبوور ملكه صور له جهله وحيرة شعبه قائلًا له: "كان من الممكن أن يرتاح قلب الملك لو بلغته الحقيقة، فهذه كل بدل أجنبية "تجرأت علينا"، وهذا ماؤنا "أمامنا"، وهذه سعادتنا "في أرضنا"، ولكن ما الذي نستطيع أن نفعله من أجلها والكل آيل إلى الدمار؟ "، بل وقال له: " ... إن ما يروي لك هو الباطل، فالبلاد تشتعل والناس قد أهلكوا ... " ثم تجرأ الرجل عن الملك وحاسبه قائلًا: "لديك الوحي والبصيرة و"أسباب" العدالة، ولكنك بعثت الفوضى في البلاد مع أهل الفتن". وقص عليه بلاء الناس ثانية، ثم عنف عليه قائلًا له: "وليتك تذوقت بعض هذه المصائب وإذن لرويت "خبرها بنفسك". ونتيجة أخرى ترتبت على الثورة، وهي أنها دفعت المفكرين إلى تخيل صورة واضحة للحاكم الصالح الذي يتمناه وطنهم بعد أن جرب الحكم المطلق طوال العصور السابقة، وجرب بعدها سيطرة العوام. وعبر إيبوور عن هذه الصرة المرجوة وهو يخاطب أهل الحاشية، فوصف لهم الحاكم المنتظر بأنه: من يعمل للبناء، ولا يفرق بين جريء وهياب، وصوره "رجلًا يستطيع أن يحيل اللهب بردًا وسلامًا، ويمكن أن يعتبره قومه راعيًا للناس أجمعين، ليس في قلبه ضغينة، وإذا تفرقت رعيته قضى يومه يجمعها"1. أما النتيجة الثالثة التي ترتبت على الثورة بعد أن هدأت وقر قرارها، فهي نشأة طبقات جديدة لم تعد تعتز بالحسب والنسب بقدر ما تمجد العصامية، ويعتز الفرد منها في نصوصه بأنه مواطن قادر يتكلم بفمه "أي يتكلم بوحي نفسه وليس بايعاز من غيره"، ويفخر بأنه يعمل بساعده ويحرث بمواشيه ويتنقل بقاربه "أي يعتمد في عمله وحله وترحاله على ما تمتلكه يداه وليس على ما يمتلكه سواه"2.

_ 1 راجع عن أرقام سطور العبارات المقتبسة من بردية إييوور ومراجعها مؤلفنا عن: حضارة مصر القديمة وآثارها – ج1 ص394 - 399. 2 Cf, J. Clere, J. Vandier, Textes De La Premier Periode Intermediaire,… 1948.

الغموض

الغموض: طال تطلع المصريين في أواخر الدولة القديمة إلى ملك صالح يرعى البلاد جميعها ويسوس الحكام والمحكومين ويلزمهم جادة الصواب. وتوالى على عرش الأسرة السادسة في خواتيم أيامها فراعنة ضعاف، ظهر من أسمائهم في بردية اسم لشخصية تدعى "نيت إقرتي"، اختلف المؤرخون في شأنها اختلافًا كبيرًا، فاعتبرها بعضهم أم ببي الثاني أو زوجته أو أخته، واعتبرها بعضهم رجلًا أتى بعده، واعتبرها

بعضهم امرأة انتهت إليها وراثة العرش في آخر أيام الأسرة السادسة1. ويعتقد أصحاب هذا الرأي الأخير أن هذه السيدة هي التي اشتهرت لدى المؤرخين المتأخرين باسم نيو كريس، وأنها استطاعت أن تنفرد بالحكم عامين، غير أن أيامها انتهت أثر يذكر لها إلا انهيار العرش الفرعوني بعدها. ثم دخلت ذمة الأساطير. ويبدو أنها تلقبت بلقب منكارع، فخلط المؤرخون المتأخرون بينها وبين منكاروع ونسبوا إليها إكمال هرمه. وعرفت أميرة أخرى بنفس اسم نيت إقرت في الأسرة السادسة والعشرين، وكانت ابنة بسماتيك الأول. ويحتمل أن سمعتها اختلطت في أذهان الناس والمؤرخين الأواخر بسمعة نيت إقرتي القديمة. وروى مانيتون أنها كانت أنبل وأجمل أهل زمانها. وروى هيرودوت أنه سمع من المصريين عنها أنها كانت ذات جمال طاغ، وأنها وليت العرش بعد مقتل زوجها، فاتجهت بكليتها إلى محاولة التعرف على قاتليه والفتك بهم، وكادت لهم طويلًا ولجأت في خطتها الأخيرة إلى أن أعدت بهوًا فخمًا ضخمًا في باطن قصرها، وأمرت بحفر سراديب خفية حوله تصله بنهر النيل، واستبقت أمر هذه السراديب سرًّا لا يعلمه إلا خاصة المقربين إليها، ثم دعت من حامت الشبهات حولهم في مقتل زوجها إلى افتتاح البهو الجديد، فلما اكتملت أعدادهم فيه وانصرفوا إلى اللهو والشراب، أمرت بفتح السراديب عليهم وأغرقتهم أجمعين. وحين ثابت الملكة إلى رشدها وهدأت الحمية فيها، تخوفت نقمة شعبها وثورته على فعلتها، فرمت نفسها في أتون متأجج من النار وقضت على نفسها بنفسها. قد تكون قصة "نيت إقرتي" هذه، أو نيتوكريس، أسطورة مختلفة في معظمها، ولكنها على الرغم من ذلك لا تخلو من مغزى، فترديد الرواة المصريين لها أمام الإغريق ينم في أغلب الظن عن اعتزازهم بعصر قديم كان الملوك يخشون فيه انتقام رعاياهم ويفضلون أن يلاقوا حتفهم بأيديهم عن ملاقاة ثورتهم وبطشهم. لم يكتنف الغموض أواخر الأسرة السادسة وحدها، وإنما اكتنف عصرًا طويلًا تلاها استمر نحو قرن ونصف قرن وامتد من أعقاب الأسرة السادسة حتى نهاية الأسرة العاشرة وهو ما يعرف اصطلاحًا باسم عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى، وبدا فيما يظن في أواخر القرن الثالث والعشرين ق. م2. وظل النزاع على العرش بين أدعياء الحكم والطامعين فيه مستمرًا في أوائله وذلك بحيث روى مانيتون أنه تولى الحكم في عصر الأسرة السابعة سبعون ملكًا لمدة سبعين يومًا. ومع وضوح الغرابة في هذه الرواية، حاول بعض الباحثين المحدثين أن يستشفوا شيئًا منها" فافترضوا أن السبعين ملكًا كانوا مجموعة من كبار الموظفين كونوا من أنفسهم حكومة بيروقراطية ترأسها كل منهم يومًا واحدًا، أو جماعة من الأشراف وكبار حكام الأقاليم كونوا فيما بينهم حكومة أرستقراطية وأرادوا إقامة حكم مشترك يتعاقبون في رئاسته على التناوب ولكنهم فشلوا. ولكن ليس ما يمنع من أن نفترض من ناحيتنا أن السبعين يومًا

_ 1 Turin Pap Iv, 7 "Or Iv, 8" ; Herodotus, Ii, 100 ; P.E. Newberry, Jea, 1942, 51 F; Gaidner, Egypt Of The Pharaohs, 102. 2 For Further Discussions, Jnes, 1952, 113 F.

كانت فترة اضطراب شامل خلا العرش فيها من صاحبه فانتحل كل حاكم من حكام الأقاليم الكبار السلطان المطلق لنفسه، مع اعتبار عدد السبعين ملكًا مجرد مبالغة عديدة لتصوير كثرتهم وحيرة الناس بينهم. وبدأت أيام الأسرة الثامنة واستمرت على نفس الضعف الذي انتهت إليه أيام الأسرة السادسة وقامت عليه الأسرة السابعة, ولا يكاد يعرف من آثارها المكتوبة غير عدة نصب عثر عليها في منطقة قفط لأسرة حاكمة سيطرت فيها على سبعة أقاليم من جنوب الصعيد لمدى أربعين عامًا فيما يعتقد الأستاذ كورت وزيته1. ثم ما لبثت أن تسربت زعامة الصعيد منها إلى أيدي حكام إقليم طيبة في نفس الوقت تقريبًا الذي انتقلت فيه زعامة مصر الوسطى من أيدي من بقي من ملوك منف الضعاف إلى أيدي حكام أهناسيا غربي بني سويف الحالية. وهكذا استمر تطلع أهل العواصم المصرية إلى حاكم أعلى يجمع شمل البلاد ويحقق الأمل الذي نادى بمثله إيبوور، عهودًا طويلة، وإن ظهر عدد من حكام الأقاليم حاول كل منهم أن يقوم بدور الحاكم الصالح في إقليمه، في إقليمه، واعتبر نفسه شبه ملك في حدود منطقته، وأرخ بعضهم نصوصه باسمه وبفترة ولايته. وافتخر أغلبهم في نصوصهم بمحاولة حل ثلاث مشكلات كانت تقلق بال الناس في عهودهم، وهي: مشكلة اضطراب الأمن، ومشكلة تطهير الترع القديمة وحفر ترع جديدة وإصلاح الأراضي البور التي هجرها أصحابها، ثم مشكلة المجاعات التي تسببت فيها المشكلتان الأوليتان. وافتخر أغلبهم في نقوش مقابرهم بأنه اعتبر نفسه زوجًا للأرمل وأبًا لليتيم، وأنه آوى من لا عائل له ودفن من لا أهل له. وقد لا تخلو هذه العبارات من مبالغات، ولكنها لا تخلو في الوقت ذاته من دلالة على محاولة الحكام اكتساب السمعة الطيبة لأنفسهم واكتساب محبة الرعية لحكمهم عن طريق الظهور بمظهر الآخذين بتعاليم الدين والعاملين بدعوات المصلحين. وحين استأثر أولئك الحكام الكبار بالسلطة الواسعة في أقاليمهم، من النواحي الإدارية والقضائية والدينية، جعل بعضهم وراثة الحكم في أعقابهم قضية مسلمًا بها، وترتب على ذلك ما يترتب على نظام الحكم الوراثي عادة من احتمال ولاية وريث الحاكم منصبه في سن الطفولة، فكان من رواية تفيبي حاكم أسيوط عن إيكاله الحكم إلى ولده قوله: " ... خلفني ولدي، وخضع له الموظفون، وحكم منذ أن كان طفلًا في طول الذراع ورحبت به المدينة التي تحفظ الجميل ... "2. وكون كل حاكم من أولئك الحكام جيشًا محليًّا وأسطولًا محليًّا بما يناسب إمكانيات إقليمه، وصورت مناظر مقابرهم كثيرًا من مناظر الحرب والاستعداد لها3، وعثر على مجموعتين من تماثيل صغيرة أو نماذج خشبية تمثل بعض الجيش الإقليمي لحاكم من أسيوط يدعى مسحتى. وتألفتا من مجموعة تسلح أفرادها بالحراب والتروس الكبيرة، ومجموعة أخرى تسلح أفرادها بالأقواس والسهام. وكان أفراد هذه الحاميات يلقون معاملة طيبة من حكامهم، ويدربون تدريبًا مناسبًا، ويضمون أحيانًا مرتزقة من النوبيين لحراسة الحواف الصحراوية غير أن وجودهم تحت إمرة حكام الإقليم مباشرة كان يشجع هؤلاء الحكام على التنافس المسلح فيما بينهم ويدفع أقوياءهم إلى محاولة السيطرة على أصحاب الإمكانيات المحدودة من جيرانهم.

_ 1 K. Sethe. In Gottingen Gelehrte Anzeigen, 1912. 705 F. 2 Siut, Iii ;A. R., I, 395, See Alseo 413. 3 Ibid., I, 410-11 ; Winlock, Bull. Metr. Mus., 1928, Ii, 11 F.

انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية

انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية: قامت أعنف أدوار التنافس التي سجلتها أخبار هذا العصر بين حكام طيبة وبين حكام أهناسيا. وكان حكام طيبة الذين يبدو أنهم انتقلوا إليها من مسقط رأسهم أرمنت، قد حاولوا أن يرثوا زعامة الصعيد بعد أن ولت عنه زعامة فقط، واشتهر أوائلهم باسم الأناتفة، نظرًا لتسمي أغلبهم باسم إنتف، أو إينتوف "راجع ص163". وكانوا على جانب من الحذر، فلم يدعوا لأنفسهم في بداية أمرهم ملكًا صريحًا ولم يتلقبوا بألقاب الملوك واكتفوا لأنفسهم بألقاب الإمارة. وبلغ من حيطتهم أن هادنوا تلك الأسرة القوية التي أسلفنا أنها ظهرت وحكمت في مدينة أهناسيا بمصر الوسطى، وربما اعترفوا اعترافًا ضمنيًّا بسيادتها أو على الأقل لم ينازعوها سيادتها بعد أن تبينوا أنها فاقتهم سلطانًا وقوة وأنها استطاعت أن تمد نفوذها إلى منطقة منف ذاتها. وشجع هذا الوضع حكام أهناسيا على أن يتخذوا صفة الفراعنة، واعتبروا أنفسهم خلفاء لملوك منف، واستحبوا تعظيم الإله رع والإله أوزير. وتعاقبت فيهم على هذا الوضع أسرتان حاكمتان، تعرفان اصطلاحًا باسم الأسرتين التاسعة والعاشرة. وأسس أولاهما الفرعون خيتي "الأول"، ويبدو أنه بدأ حكمه بنوع من الشدة، قصد به تأييد ملكه والذود عنه، شأنه في ذلك شأن أغلب مؤسسي البيوت الحاكمة. وروى عنه أحد أحفاده أنه كان يبرر شدته بقوله: "إن الرب نفسه ينتقم ممن يعادي معبده"1. ورددت أجيال المناهضين له من المصريين أخبار قسوته وضخمت فيها، إلى حد أن وصفه المؤرخ المصري مانيتون بأنه كان أكثر الملوك المصريين ظلمًا وأنه كان متجبرًا، وأنه لقي جزاءه بأن جن في نهاية عمره وافترسه تمساح. ومهما يكن في هذه الرواية الأخيرة من خيال، فهي لا تخلو من دلالة على إيمان راويها بأن عواقب القسوة أو الظلم لا بد وأن تعود بالشر على رءوس أصحابها. وظل حكام مصر الوسطى وما حولها على حالهم من الاستقلال الداخلي، في ظل ملوك أهناسيا، وظلوا على تفاخرهم بأعمالهم في الوقت نفسه، وأشبع فيهم أهل أقاليمهم حبهم للشهرة، فمدح أحد كتبة أسيوط خيتي بن تفيبي الذي كان يتفاخر بأنه سليل حاكم وابن بنت حاكم، وبقوله: "ما أجمل ما تم في عهدك، لقد رضيت المدينة بك، وما كان مستغلقًا على الناس جعلته مكشوفًا مباحًا من تلقاء نفسك، عن رغبة منك في إسعاد أسيوط، لقد جعلت كل موظف يستقر في منصبه، وما عاد أحد يقتتل أو يطلق سهمه، ولم يعد

_ 1 Pap. Petersburg, 1116 A, Rt, 109-110.

الطفل يلقى حتفه بجوار أمه ولا مواطن بجوار زوجته، بعد أن هداك رب مدينتك الذي أحبك1. وقد حدث ذلك في أغلب الظن بعد فترة ما من الفوضى تكررت فيها المشكلات التي أعلن نجاحه في وقفها. وربط ملوك أهناسيا حكام الأقاليم بهم عن طريق مرونة السياسة، واتبعوا في ذلك وسيلة بعض ملوك الدولة القديمة في تربية أبناء الحكام الكبار في قصورهم بغية أن يشربوهم ولاءهم وأن يشبوا أوفياء لهم. وكانوا يجاملون أولئك الحكام في الملمات ويشاركونهم المسرات؛ بغية أن يردوا الجميل مضاعفًا. فأشار أحد نصوص أسيوط إلى أنه عندما توفي حاكمها "بكى الملك "في أهناسيا"، وبكى أهل مصر الوسطى والدلتا، واجتمع الملك والنبلاء حين دفنه". بل وسمح الملك لابنة المتوفى بأن تتولى شئون أسيوط في طفولة ولدها وحفيده، ثم ربى هذا الحفيد في قصره. وقال الحفيد وكان يدعى خيتي2: "سمح الملك لي بأن أتولى الحكم ولم أكن قد تعديت الذراع طولًا، ورفع منزلتي في شبابي، وسمح بأن أتعلم السباحة مع الأمراء، ولهذا أصبحت رجلًا صادق الرأي براء مما يسيء إلى مولاه الذي رباه طفلًا. ونعمت أسيوط بحكمي وأثنت على أهناسيا "نفسها"، وقال عني أهل مصر الوسطى والدلتا: تربية ملك ... "، ثم وصف نتيجة تربية الملوك هذه بنشاطه الاقتصادي في حفر الترع وزيادة أنصبة المزارع من المياه مع إشرافه على تنظيمها، وتعيين سقاءين لتوزيع المياه على البيوت في المدينة، وتموين أهلها في أوقات العسر وتخفيف الضرائب عنهم. أعقب خيتي الأول ملك أهناسيا، عدة ملوك يصعب تعيين عددهم عن يقين. ثم أعقبهم فرع آخر من أسرتهم عرف اصطلاحًا باسم الأسرة العاشرة، وعندما تبلورت آمال هذه الأسرة ومضت تبغي الاتساع وازدادت أطماعها، كان حكام طيبة بدورهم قد أحسوا البأس والقوة من أنفسهم، فتخلوا عن حذرهم القديم وتطلعوا إلى اتخاذ ألقاب الملوك عوضًا عن ألقاب الإمارة القديمة. وهنا انتقل التنافس بين طيبة وبين أهناسيا من طوره السلبي إلى طوره الإيجابي، واستمر نحو ثمانين عامًا. وكانت سياسة أهناسيا إزاء حكام الأقاليم الموالين لها قد آتت ثمارها، فنفعوها في تنافسها، واعتادوا على أن يؤكدوا في نصوصهم ولاءهم للقصر الملكي وإن لم يذكروا اسم الملك غير مرات نادرة. وكان من أكبر أولئك الحكام: حكام أسيوط، وبني حسن، وأخميم، والأشمونين، وحتنوب، وحاول هؤلاء الحكام بدورهم أن يحببوا فيهم أهل أقاليمهم بغية اتخاذهم عونًا حين الشدائد، فقال حاكم أسيوط تفيبي في نصوص مقبرته: "استمعوا إلى أهل الغد، لقد كنت سخيًّا مع الناس جميعهم ... سديد الرأي، نافعًا لبلده، سمحًا مع الشاكي، إذا جن الليل "اطمأن" النائم في الطريق ودعا لي وأصبح شأنه شأن من نام في داره تحرسه هيبة عسكري ... " وأعلن الرجل مبدأ أهم من هذا، فأعلن إيمانه بأن الشخص النبيل هو الذي يستطيع أن يتفوق بمآثره على مآثر أبيه،

_ 1 A.R., I, 404. 2 Ibid., 407-413 ; Bruner, Die Texte Aus Den Graben Der Hierakleopoliten Zeit Von Siut, V, 20 F.

وأن جزاءه على ذلك سوف يكون الرحمة في الآخرة، وتمكين الحكم في أسرته بحيث يرثه ولده في قصره، فضلًا عن حسن سمعته في بلده، وتعظيم الناس لتمثاله بعد موته "حين يحمل في المواكب العامة"1. وعملت طيبة من ناحيتها على أن تجمع الأحلاف حولها، وربما نجحت في ذلك بعض الشيء، ولكنها اعتمدت أكثر ما عتمدت على حصانتها الطبيعية وعلى صلابة رجالها الصعايدة وعلى إذكاء روح الأمل والطمع فيهم، إلى جانب وفائهم لإله الحرب مونتو وعملهم على إعلاء شأن الإله أمون. وبدأ النزاع بين البيتين الطيبي والأهناسي على صورة مستترة، ثم اتخذ صورة عدائية مكشوفة، وتخللته معارك متقطعة على البر وعلى متن النيل. وظلت الحدود بين الطرفين خلافه بين مد وجذر. ولا زالت خطوات هذه المعارك غامضة إلى حد كبير2. ولكن يبدو أن مراحلها الأولى انتهت بانتصار خيتي الثالثة "أو الرابع" ملك أهناسيا على معاصره ملك طيبة مونتوحوتب "الأول" بعد أن دارت بين جيشيهما معارك عدة في منطقة ثني أدت إلى تخريب جبانتها القديمة أبيدوس وبعض أماكنها المقدسة وانتهت بسيطرة أهناسيا عليها حوالي عام 2065ق. م. وشجع هذا النصر خيتي على نشاط حربي آخر أوسع أثرًا وأكثر أهمية، حاول أن يطهر به أراضي الدلتا من البدو والأموريين الذين تسربوا إليها منذ أواخر الدولة القديمة وحاولوا أن يتخذوا مصر دار إقامة، وتطبعوا بالعادات المصرية، وجمعوا بين أسمائهم وبين الأسماء المحلية، وربما انتحل كبارهم لأنفسهم ألقاب الفراعنة وقد عبر عن هذه الوضع اسمان لحاكمين لا يخلوان من لكنة أمورية، وهما "خندي" الذي تلقب باللقب المصري نفر كارع و"ترورو" أو تلولو الذي تلقب باللقب نفسه3. واستخدم أولئك المهاجرون المتمصرون أختامًا خشنة الصناعة والنقش هرمية الشك تشبه الأزرار، وجد لها ما يماثلها في الشام والحوض الشرقي للبحر المتوسط4. ولكن ظل المصريون خارج الدلتا وربما في الدلتا نفسها، ينكرون على البدو المتمصرين سيادتهم، فاستغل خيتي هذه الروح، ونجح مع جيشه في إبعاد الأموريين وكسر شوكة بعضهم الآخر. ولما أحس الرجل دنو أجله استجمع تجاربه في الحرب مع الطيبيين وتجاربه في الحرب مع البدو الأموريين وتجاربه في الحكم والسياسة، وآراءه في الدين، وجعلها على هيئة التعاليم ونصح ولده وولي عهده مريكارع بأن يأخذ بأفصلها ويتجنب مواطن الزلل فيها5.

_ 1 A.R., I, 395. 2 See. Winlock, The Ries And Fall Of The Middle Kingdom In Thebes, 10 F. ;Baly, Jea, Xviii, 173 F. 3 وانظر للمؤلف: حضارة مصر القديمة وآثارها – ج1 ص407 - 408. 3 Abydos List, 45, 49 ; Jea, Xii, 92, Fig. 6 ;Petrie, Scarabs And Cylinders, Pl. X, 7, 10. 4 H. Frankfort, 'Egypt And Syria In The First Intermediate Period', Jea, Xii, 88. 5 Pap. Perersburg 1116 A, Rt ; Gardiner, Jea, I, 20 F. ; A. Scharff, Der Historische Abschniff Der Lehre Fur Kanig Merlkare, 1938; A. Volten, Zwel Alteg. Politische Schriften, 1945 ; Chr, D'egypt. 1947, 89 F. ; Zaes, 1967, 117 F.

روى خيتي لولده مريكارع قصة حربه مع الطيبيين في منطقة ثني وجبانتها أبيدوس. وندم على ما أتاه فيها وما ترتب عليه من تهديم أماكنها المقدسة، واعترف بخطئه، وكان أسلافه ينزهون أنفسهم دائمًا عن الخطإ. ودعا ولده ألا يفعل مثل فعلته، وأوصاه بأن يهادن الصعيد حرصًا على الهدوء الداخلي في مملكته، ورغبة في تأمين سبل التبادل وسبل المواصلات وسبل التجارة مع أهل الجنوب، وحتى لا يستغل الآسيويون فرصة انشغاله بالحرب الداخلية ويثورون ضده أو يهاجمونه في عقر داره، على حد قوله1. وصور خيتي الطريقة التي اتبعها لإضعاف البدو المهاجرين وإجلائهم عن الدلتا، ودعا ولده إلى أن يترسمها، وجعل لهذه الطريقة شقين، أولهما الاهتمام ببث الروح الحربية في البلاد والعناية بمجنديها الشبان، وقال له في ذلك: "انهض بجماعة الشبان تحبك العاصمة، وزد أتباعك من الرعية، ولاحظ أن بلدك عامر بنشء غض في سن العشرين، وأن الجيل الناشئ ليسعد بمن يستوحي ضميره، "فإن فعلت ذلك وحكمت ضميرك" قلدك العامة وأتاك رب كل أسرة بأبنائه راضيًا، فبهذه السياسة حارب القدماء من أجلنا منذ أن رفعت أنا شأنهم، فارفع إذن شأن نبلائك، وعظم محاربيك، واسبغ الخير على جيل الشباب من أتباعك، واحرص على أن يتزودوا بالعطايا ويطمئنوا بامتلاك الأرض، ويكافئوا بالأنعام"2. ولا ندري هل كانت سن العشرين التي أشار خيتي إليها هي سن التجنيد أم لا، ولكننا نتبين في سياسة تزويد الجنود الشبان بالأراضي والنعم سياسة حكيمة تجعلهم يدافعون عن أرض لهم نصيب فيها وتطمئنهم على مستقبل أهلهم إن استشهدوا من أجلها. أما الشق الآخر من سياسة خيتي في مكافحة البدو، فهو التضييق عليهم والحد من أخطارهم عن طريق إنشاء مدن محصنة على حواف الصحراء وعلى الحدود وتعميرها بخير الرجال يسكنونها ويزرعون ما حولها ويتحصنون بها حين الشدة ويصدون منها غارات أهل البادية، وقال له في ذلك: "لا تتهيب العدو فهو لا يغير إلا على الموطن المنعزل ولا يجرأ على مهاجمة مدينة عامرة بالسكان". ثم شجعه على اتباع سياسته وقال له: "أقم الحصون في كل المناطق الشمالية. ولاحظ أن سمعة الرجل فيما يفعله ليست بالشيء الهين، والبلد العامر بالسكان لن يمسه سوء، فابن مدنًا". ثم هون عليه شأن أعدائه البدو وضعف حيلتهم في عبارات أخرى تدل على معرفته بعاداتهم وأحوال المناطق التي يعتصمون بها وتتوافد هجراتهم منها، قائلًا له: "هذا هو شأن البرابرة، فالعدو اللعين موطنه وعر، وماؤه آسن، حزون بكثرة غاباته، سيئة طرقاته بما يكتنفها من المرتفعات، ولذلك لم يستقر في مكان واحد، واستمر دائم الترحال، وظل يشاغب منذ عهد "الإله" حور، فلا هو يغلب ولا هو يغلب"3.

_ 1 Pap. Petersburg 1116 A, Rt., 71 F. 80 F., 106. 2 راجع: عبد العزيز صالح: "التربية العسكرية في مصر القديمة" – تاريخ الحضارة المصرية – القاهرة 1962 – ص195. 3 Pap. Petersburg, 1116 A, Rt. 91-93.

ازدهار الفردية

ازدهار الفردية: ليس من شك في أن المنازعات بين البيت الأهناسي والبيت الطيبي لم تكن في مصلحة البلاد دائمًا بعد أن أصبح بأس أهلها شديدًا بينهم، ولكن نتائجها تعنينا على الرغم من ذلك من ثلاث وجهات، وهي:

أولًا- أنها زكت الروح الحربية وروح النضال المنظم في حياة خاصة المصريين وعامتهم، على الرغم من أنها كانت على حساب بعضهم بعضًا، فأصبح الرجل منهم يفخر في نصوص مقبرته بأنه رب للسيف، وأنه جريء يوم الصدام، وأنه كان شديدًا بقوسه جريئًا بسيفه عظيم الهيبة بين جيرانه. ويرى أن ذلك يزكي سمعته وسمعة أسرته إلى أبد الآبدين. وتلك روح وثابة أضيفت إلى روح العصامية التي تمخضت عنها الثورة الطبقية في نهاية الدولة القديمة. ثانيًا- أنها زادت من شعور الملوك الطيبيين والأهناسيين، بحاجتهم إلى رعاياهم والتماس تأييدهم، وزادت ما بينهم وبينهم قربًا. وعبر خيتي عن هذا الإحساس وهو يوصي ولده ويزوده بخلاصة تجاربه في الحكم والسياسة، فأوصاه بمبدإ يعتبر من أنبل المبادئ التي تمخضت عنها الثورة الاجتماعية في نهاية الدولة القديمة واحتفظ بها الانتقال، وحضه فيه على أن يقدر الفردية لذاتها قائلًا له: "لا تفرق بين ابن النبيل وابن فقير الأصل، وتخير الفرد بكفايته". وأوصاه بأن يلتزم القدوة الطيبة قائلًا له: "قل الحق في قصرك يخشاك عظماء الأرض، فاستقامة الخلق أليق بالحاكم". ثم أوصاه بالعدالة، وقال له: "إلزم العدل تخلد على الأرض، واحذر أن تعاقب خطأ، فالقتل لن يفيدك، ولكن عاقب بالضرب والحبس، وبذلك تزدهر "أحوال" البلاد، فيما عدا المتآمر، فالإله يقدر خبثه ويطلب دمه جزاء جرمه". وأراد أن يبين له أن الناس سواسية أمام خالقهم، وأن على الملكية واجبات توازي حقوقها، وأن كل راعٍ مسئول عن رعيته، فقال له: "البشر رعايا الإله، خلق السماء والأرض بما يشتهون، وأجرى المياه دافقة، "من أجلهم". وأرسل لهم النسمات كي يحيوا بها. هم أشباه له، صدروا عن بدنه، وهو يتجلى في السماء ليلبي ما يرغبون فيه. ويخلق العشب والأنعام والطير والأسماك حتى يقتاتوا بها. ويبشر بالفجر لنفعهم، ويعبر السماء ليراهم، وإذا بكوا سمع ولباهم. وهو الذي تعهد الحكام منذ الصغر من أجلهم ورفعهم "درجات" ليكونوا سندًا لظهور ضعفائهم"1. وما نظن أن شعبًا آخر بلغ هذا المبلغ في تكريم الإنسان والاعتراف بحقوق المحكومين في مثل ذلك العصر البعيد الذي سبق عصرنا بأكثر من أربعة آلاف عام. ثالثًا- أنها كانت من عوامل تشجيع المصريين على إعلان عقائدهم الخاصة وآرائهم في مذهب أسلافهم، بالنقد تارة، والمدح تارة، ورغبة التعديل تارة أخرى. فقد ترتب على اهتزاز الأوضاع القديمة في سبيل البحث عن وضع جديد، كما ترتب على اعتداء بعض الثوار في أواخر الدولة القديمة على الأهرام والمقابر وتخريبهم لها ونهبهم محتوياتها وتعطيلهم شعائرها، بل وجرأتهم على معابد أربابهم أحيانًا2، أن ظهرت بين المصريين أربعة اتجاهات عقائدية متمايزة: اتجاه متشكك متطرف شك أصحابه في مقومات الخلود التي آمن أسلافهم بها وشادوا الأهرام والمقابر من أجلها، ورتبوا الشعائر والقرابين لصالحها، بل وشكوا في عقيدة الخلود نفسها، واتجاه متطرف آخر يقابله أخذ به المتزمتون الذين برموا بأصحاب الاتجاه الأول ورموهم

_ 1 Op. Cit.,47.F. 2 Lbid., 130 F.

بالكفر، وغلب التشاؤم على نظرتهم إلى الحياة الدنيا وأحوالها، ثم اتجاه ثالث محافظ أصر أصحابه على عقائد أسلافهم في الخلود ومقوماته وقرابينه ودعواته وإن لم يأبوا أن يضيفوا إليه جديدًا يزكيه. وأخيرًا اتجاه رابع متطور آمن أصحابه بأن الخلود حق لا شك فيه ولكنهم آمنوا في الوقت نفسه بأن سعادة الفرد في أخراه ليس من الضروري أن ترتبط ببناء المقابر الفخمة أو مواصلة تقديم القرابين وترتيل الدعوات وإقامة الطقوس التقليدية، بقدر ما ترتبط بصلاح أعمال الإنسان في دنياه وإيمانه بعدل أربابه في أخراه مع أدائه واجباته إزاءهم في الوقت نفسه. وبدأ تيار التشكيك منذ أيام الثورة الطبقية، وعرب عنه إيبوور حينذاك بقوله: "يقول المنفعل: لو علمت أين الرب لعملت له"1. ثم استمرت موجة الشك في طريقها، وخلف بعض المتشككين والناطقين بلسانهم مواويل سائرة كانوا يرددونها في تنغيم، ويدعون المترفين فيها إلى التمتع بمباهج الحياة الدنيا ما وسعهم إلى ذلك من سبيل، دون قلق على الآخرة وما يصيبهم فيها. ويمكن ترجمة بعض فقرات هذه المواويل بأسلوب عادي يتفق مع أسلوب أصحاب الموال المعاصر، مع تصرف يسير2. فقد ردد أحد رواتها مواله على أنغام الجنك في حفل أقيم لذكرى أمير عزيز، قائلًا بعد أن مدح صاحب الذكرى " ... أجساد تروح وأجساد جاية من زمن الأوائل. ياما سمعنا الكثير من كلام الحكما أمثال إيمحوتب وددف حور. لكن فين الحكما، وفين ديارهم؟ انهدت جدرانهم وطاحت مساكنهم، وما عاد منها كيان، راحوا وما عاد منهم حد، راحوا وما حكى لنا عن حالهم حد، ولا حكى لنا عن مطالبهم حد، ولا طمنا عليهم حد. افرح، وخل قلبك ينسى يوم نعيك، وارض نفسك طول العمر، ادهن رأسك والبس الكتان وتعطر، تمتع بيوم الهنا ولا تمله، ما حد راح وخد معاه حاجة، وما حد راح وعاد تاني. اللي مات قلبه ما سمع صراخ حد، والنعي ما خلص من الآخرة حد"3. وبدأت الموجة المناقضة للأولى، أي موجة التزمت والتشاؤم واليأس من الدنيا، منذ أيام الثورة أيضًا، وعبر إيبوور عن ظهورها بانتحار بعض الناس غرقًا، وسخط الأطفال على ولادتهم، ورغبة الجميع في فناء العالم كله حتى تستريح الأرض من الضجيج على حد قوله. واستمرت هذه الموجة في طريقها، وعبر عنها بعد ذلك حوار سجله أديب مصري على بردية بين رجل سئم عيوب الحياة في عصره، وبين روحه، جاعلًا الروح تتحدث في هذا الحوار كأنها شخص مستقل. وبدأت المناقشة بين الرجل وروحه

_ 1 Pap. Leiden, 344, V, 3. 2 Pap. Harris 500, Vi, 2-Vii, 3 And Variants, See, M. Lichtheim, Jnes, Iv "1945", 178 F., 192, F., 211 F. 3 A. Erman, Gesprach Eins Lebensmiden Mit Seiner Seele, 1896 ; A. Scharff, Der Bericht Uber Das Streitgesprach Eines Lebensmuden Mit Seiner, Munchen, 1937 ; R.O. Faulkener, Jea, 1956, 21 F. عبد العزيز صالح: "الحوار في الأدب المصري القديم" – المجلة، العدد التاسع – سبتمبر 1952، ص16 - 28.

بأن أعلن لها ضيقه بمساوئ عصره، بينما أعلنت هي رضاها بدنياها ونصحته بأن يترك ما بعد الموت لما بعد الموت "وكأنها تناصر الاتجاه الأول الذي صورناه". ولما احتدم الجدل بينهما تحدته أن يحرق نفسه وينتحر إذا كان جادًّا في ضيقه بالحياة، ولكنه تردد وظل كل منهما يحاور الآخر ويداوره، حتى اضطر إلى أن يهادنها قليلًا، وهنا قصت عليه مثلين من مصائب الناس في فقد أولادهم وفقد ثرواتهم، لعلها تخفف عنه بلواه. كما قص هو عليها ما دعاه إلى الضيق بالحياة، ويبدو أنه كان قد تكفل بدعوة بين الناس ولكنه لم يجد بينهم سمعيًا ولا مجيبًا، بقدر ما وجد منهم من أساءوا إليه وشوهوا سمعته، ثم قص شكواه في ثلاث قصائد، بدأ كل قصيدة منها ببدايات متشابهة، وأخيرًا عاوده اطمئنانه فراح يؤكد لها في قصيدة رابعة إيمانه بالحياة بعد الموت وإيمانه بالثواب فيها وحسن المآب وعدل الأرباب، مما سنعود إلى تفصيله في حديث الأدب. واستمر أصحاب الاتجاه الثالث المحافظ على عقائد أسلافهم، وكانوا أكثر عددًا ممن سواهم، وقد اعتبروا حوادث التخريب والشك حوادث عارضة، فظلوا يعنون بمقابرهم وموتاهم وقرابينهم، وسجلوا على توابيتهم دعوات كثيرة اقتبسوا بعضها من دعوات كهان الدولة القديمة، واقتبسوا بعضها من متون الأهرام، ثم ألفوا بعضها الآخر بما يناسب عصرهم ويناسب الأماني التي أصبحوا يرجونها لأنفسهم ولأهلهم في دار الآخرة. وتعرف هذه الدعوات اصطلاحًا باسم "متون التوابيت". ولعل أهم تجديداتها هو تلقيب كل متوفى بلقب أوزير؛ أملًا في أن ينعم في عالم الآخرة بما نعم به ربه أوزير، وأن يخلد فيها مثل خلوده. وكان في هذا التجديد تطور ضخم المدلول، فقد كان التلقب بلقب أوزير قاصرًا في الدولة القديمة على الفرعون المتوفى وامتيازًا دينيًّا له وحده، فلما زلزلت أركان الملكية في أواخر الدولة القديمة واقتسم سلطانها كبار حكام الأقاليم، تجرأ هؤلاء الحكام على اقتسام امتيازاتها الدينية أيضًا، فأصبحوا يرجون لأنفسهم في الآخرة ما كان الفراعنة يرجونه لأنفسهم، وتلقبوا مثلهم بلقب أوزير، وقلدهم في ذلك كبار الموظفين وكبار الكهان، ثم أصبح المصير الأوزيري شيئًا فشيئًا أملًا مشاعًا لكل إنسان. وبشر هذا الاتجاه الأخير بالاتجاه الرابع المتطور وقد عبر عنه خيتي فرعون أهناسيا بنفسه قائلًا لولده وهو ينصحه بمذهبه في الدين وتقديم القرابين: "أصلح مكانك في العالم الآخر بالاستقامة وأداء العدالة ... فإن قلوب "الأرباب" ترتاح إليهما. وإن طباع رجل قويم السريرة أكثر قبولًا عند الرب من فحل "يقدمه إليه" رجل اعتاد الشرور ... واعمل لربك يعمل لك بالمثل" "اذكروا الله يذكركم". ثم نصحه بمذهبه في البعث والحساب، قائلًا له: "لا تثق في امتداد السنين، فإن "قضاة الآخرة" يرون العمر كأنه ساعة، واذكر أن الإنسان يبعث ثانية بعد وفاته وتوضع أعماله على هيئة الكوم بجانبه. وأن الحياة هناك معناها الخلود. وأن الغبي هو من يستخف بها، وأن من بلغها دون أن يرتكب إثمًا سوف يعتبر فيها كأنه معبود ويسير "فيها" كأرباب الخلود1. وكان من الطبيعي أن يظل هذا الاتجاه الرابع الواعي هو

_ 1 Pap. Petersburg, 1116 A, Rt., 128 F., 53 F.

اتجاه القلة المستنيرة من المصريين دون كثرة المتشككين والمتزمتين والمحافظين. وعلى أية حال فثمة حقيقة واضحة يمكن أن تستنتج من كثرة هذه الاتجاهات، وهي دلالتها على مرونة العقائد المصرية القديمة وعدم التزامها صفة الجمود التي اعتادت أغلب المؤلفات الحديثة على أن تلصقها بها. أسهبنا في الاستشهاد ببعض المثل العليا التي تضمنتها تعاليم خيتي في العصر الأهناسي، أو على الأصح بعض المثل العليا التي كان المصلحون ينادون بها في عهده. غير أنه لم يكن من المتوقع أن تطبق أمثالها في الحياة العامة بحذافيرها أو يلتزم الحكام بها التزامًا تامًّا فيما بينهم وبين المحكومين، وإنما كان شأنها شأن المثل العليا في كل مجتمع وزمان، بل وشأن المثل العليا في كل الأديان، ينادي المصلحون بها ثم يتفاوت الناس في مقدار تطبيقهم لها. وقد صورت هذه الأوضاع بشقيها، أي المثل العليا ومدى تطبيق الحكام لها، قصة تسمى اصطلاحًا باسم قصة "القروي الفصيح" ألفها أديب في العصر الأهناسي أو فيما بعده بقليل؛ ليصور بها ما هو كائن فعلًا في عصره من أوضاع الحكم والإدارة، ويعقب عليها بما يرجو المصلحون أن يسود عصره من أوضاع مستحبة بين الحكام والمحكومين، مما سوف نعرضه في تفصيل في حديث الأدب.

عصر الانتقال الأول بين دورتين تاريخيتين

عصر الانتقال الأول بين دورتين تاريخيتين ... عصر الانتقال بين دورتين تاريخيتين: لم يطل الأمد بالمجد الأهناسي، وبدأت أهناسيا تفقد استقرارها واضطرت إلى أن تقنع بالقليل من سلطانها منذ عهد ملكها خيتي الخامس1 "؟ "، بعد أن طغى عليها نفوذ منافستها طيبة التي تعاقب على عرشها فرعونان طموحان، وهما مونتوحوتب سعنخ إب تاوي، ومونتوحوتب نب حبة رع، وحاول كل منهما أن يخضع أهناسيا لنفوذه المباشر وتطلع إلى إعادة وحدة البلاد تحت رايته، وذلك ما سوف نبدأ به الفصل التالي، ونسبقه الآن بأن ثانيهما حقق أمله حوالي عام 2052ق. م وترتب على نجاحه في توحيد مصر تحت سلطانه أن انتهى عصر اللامركزية بعد أن استمر نحو قرن ونصف قرن، وبعد أن مثل فترة انتقال اضطرارية بين عصور الدولة القديمة وبين عصور الدولة الوسطى، وبمعنى أوضح مثل فترة انتقال من وحدة سياسية قديمة غالبة، إلى تفرق ولا مركزية، ثم إلى وحدة سياسية أخرى جديدة، ومثل فترة انتقال من المنعة القومية القديمة، إلى التفكك والتنازع الداخلي، ثم إلى منعة أخرى وقوة جديدة، ومثل فترة انتقال من أوضاع وتقاليد اجتماعية وسياسية ودينية معينة، إلى أوضاع جديدة سواها اختلفت عنها في بعض أمورها واتفقت معها في بعض آخر. ومثل فترة انتقال من إمكانيات مادية واسعة توفرت للدولة بمجموعها وللقائمين على أمرها، إلى إمكانيات إقليمية محدودة بالحدود التي امتد إليها سلطان حكامها، ثم إلى إمكانيات أخرى واسعة

_ 1 F. Vogelsan G Und A.H. Gardiner, Die Klagen Des Bauern, Leipzif, 1908 ; Ganrdiner, "The Eloquest Peasant", Jea, Ix, 5 F.

جديدة. كما مثل فترة انتقال من حياة فنية نشطة خصبة شملت مصر كلها، إلى حياة فنية محدودة الوسائل، ثم إلى حياة فنية نشطة أخرى خصبة جديدة. غير أن ذلك كله لا يعني بطبيعة الحال أن عصر الانتقال كان عصرًا عقيمًا كله أو عصرًا خامدًا كله كما اعتاد بعض الباحثين الحديثين على تصويره في تسميتهم له بعصر "الاضمحلال الأول". فالعصر وإن غابت عنه وحدة الحكم في البلاد وقلت إمكانياته المادية واتصالاته الخارجية وضعف شأن ملوكه، إلا أنه كان في حقيقة أمره أشبه بفترة من التراخي المؤقت اضطرت مصر إليها اضطرارًا بعد أن قطعت ممن عمرها السياسي دورة تاريخية طويلة استمرت نحو تسعة قرون متصلة، وبعد أن شاخ جهازها السياسي والحربي ولم تخل فترة التراخي هذه من انتفاضات سياسية كما رأينا، صدرت عن أهناسيا حينًا وعن طيبة حينًا آخر، ولم تخل كذلك من انتفاضات فكرية تطلع أصحابها إلى نظام من الحكم يفضل كل ما تقدمه من نظم، وتطلعوا إلى حقوق للفرد تفضل كل ما حصل الأفراد عليه قبل ذلك من حقوق، كما تطلعوا على مصير كريم للفرد في الآخرة يفضل كل ما كان الأفراد يتطلعون إليه من قبل عن مصائرهم بعد الموت. وكان لحرية الكلمة بينهم في إثراء الأدب القديم بخواطر وأبواب جديدة آتت ثمارها بعدهم خلال الدولة الوسطى، ولم يكن ذلك كله بالشيء القليل.

معالم الفن الإقليمي

معالم الفن الإقليمي: ذكرنا أن إمكانيات ومجالات العمارة والنحت والتصوير والنقش اختلفت في عهود اللامركزية عما كانت عليه في الدولة القديمة، بعد أن تفرقت موارد البلاد وإمكانيات الحكام، فضعفت وحدة الفن القديمة وأصبح الفن يخدم الأقاليم أكثر مما يخدم العاصمة، وظل رجاله تنقصهم المهارة وروح الإبداع فترات طويلة، واستمر أغلب إنتاجهم يتصف بالطابع الإقليمي تارة والطابع الريفي تارة أخرى، وتعتبر توابيت عصر الانتقال أول من خير ما يستشهد به من آثاره سواء من حيث النواحي الفنية التي تمثلت فيها وعبرت بها عن روح عصرها، أم من حيث النصوص التي تضمنتها وعبرت بها عن عقائد أصحابها. وكان فنانو العواصم وصناعها المهرة قد فضلوا صناعة توابيت كبار الأفراد من الخشب الفاخر منذ عصر الأسرة السادسة. وأصبحوا ينقشون عليها دعوات بأسماء أصحابها وألقابهم، ويصورون عينين كبيرتين على الجانب الأيمن الخارجي للتابوت في مقابل رأس المتوفى أملًا في أن يتطلع منهما على العالم الخارجي أو إلى مقدمي القرابين وإلى نور الشمس الذي كان يرجو ألا يحرم منه حتى بعد موته. وصوروا عليها بعض القرابين وبعض المتاع الذي كان المتوفى يتمناه لنفسه في أخراه. وزادت هذه الخصائص في توابيت عصر الانتقال الأول، وكانت صناعتها من الخشب تجعلها أصلح للرسم والنقش الغائر البسيط، وتجعلها أقرب إلى أن تتناسب مع إمكانيات أهل الطبقة الوسطى. وكان من الطبيعي أن تختلف أذواقها وبراعة نقوشها ووضوح نصوصها من إقليم إلى إقليم، وكان أفضلها ما تم خلال العصر الأهناسي، لا سيما منذ تطلع حكامه إلى العاصمة القديمة منف واتجه فنانوهم إليها وحاولوا أن يستوحوا فنها القديم ويقلدوه في حدود إمكانياتهم ومعتقداتهم

وظلت مسطحات الرسم والنقش الأخرى في عصر الانتقال مسطحات محدودة سواء على جدران المقابر الصغيرة أم على سطوح النصب واللوحات الصغيرة التي أقام أصحابها بعضها في مقابرهم وتركوا بعضها الآخر في أبيدوس حول ضريح معبودهم رب الآخرة "أوزير" تبركًا به وأملًا في أن يبعثوا من حوله ويطعموا من خيره. واتصفت صورهم المنقوشة على هذه اللوحات والنصب بنوع من خشونة التنفيذ، ولكنها تميزت بتحررها بعض الشيء من أوضاع التصوير التقليدية القديمة، وبتعبيرها عن الحياة العادية والأسرية في عصرها، بحيث لم يكن على الفنان من بأس في أن يصور المتوفى صاحب النصب واقفًا يمسك قوسه، أو يصوره جالسًا يضع ولده على حجره وقلما ظهر ذلك على اللوحات الدينية من قبل. واقتصر جهل المثالين في العصر نفسه على نحت أغلب التماثيل من الخشب لرخصة وسهولة نحته. وبقي حتى الآن عدد من تماثيل أثرياء الأقاليم، وهي تماثيل صغيرة في مجملها تتصف بالخشونة في صناعتها وتميل إلى الاستطالة والنحافة، شأنها في ذلك شأن أسلوب النقش والتصوير في عصرها، ولكن ميزها أن فنانيها حاولوا أن يترسموا فيها مذهبًا واقعيًّا فأظهروا الملامح الشخصية لوجوه أصحابها في غير تجميل مقصود، واستطاعوا بذلك أن يعوضوا خشونتها بنوع من صدق التعبير في إظهار الملامح الريفية الطيبة على حالها الذي تحتفظ به حتى الآن. وظهرت إلى جانب تماثيل الخاصة مجموعات خشبية لتماثيل الأتباع والخدم، ظهرت فيها خشونة الصناعة بشكل واضح، ولم يميزها هي الأخرى غير شيء واحد، وهو أن صناعها صنعوا منها مجموعات مترابطة، وعبروا بأوضاعها عن الأعمال الجماعية التي قوم بها أصحابها في مصانع النجارة والنسيج وفي الصوامع والمخابز والمطابخ، فأسبغوا عليها بذلك شيئًا غير قليل من الحيوية وطرافة التعبير، وجعلوها مصدرًا رئيسيًّا من مصادر الحياة العادية في البيوت وفي مجالات العمل في الأوساط الشعبية بخاصة.

الفصل السابع: الدورة التاريخية الثانية في الدولة الوسطى

الفصل السابع: الدورة التاريخية الثانية في الدولة الوسطى أولا: عودة الوحدة في عصر الأسرة الحادية عشرة مدخل ... الفصل السابع: الدورة التاريخية الثانية – في الدولة الوسطى أولًا: عودة الوحدة في عصر الأسرة الحادية عشرة 2134 - 2052 ثم من 2025 - 1991ق. م 1 عندما أصرت طيبة على استرجاع ما تفرق من وحدة البلاد وما تفرق من عزماتها وأفكارها ومعتقداتها، كان ذلك بشيرًا لمصر بأنها تستطيع أن تبدأ دورة تاريخية جديدة ومرحلة شباب فتية جديدة. وبدأ البيت الطيبي بأولئك الحكام الذين تسمى كل منهم باسم إنتف "أو إينتوف" وهم من أسلفنا أنهم بدءوا سياستهم بمهادنة أهناسيا حتى أحسوا البأس من أنفسهم، وحينذاك ابتغوا الزعامة وعملوا لها ويبدو أنه تعاقب منهم ثلاثة أو أربعة. وجعل الأناتفة من طيبة "الأقصر" دار حكم وعاصمة بعد أن كانت مجرد مدينة عادية في إقليم "واسة"، فبدأت شهرتها تطغى على شهرة أرمنت حاضرة الإقليم القديمة ومسقط رأسهم، وبدءوا يرفعون من شأن آمون رب طيبة وشأن معبده البسيط القديم2. وشادوا مقابرهم الملكية في غربها، وتخير لها مهندسوهم منطقة صخرية، مهدوا فيها مسطحات متسعة تشبه الشرفات، ثم نحتوا المقابر بمقاصيرها متجاورة جنبًا إلى جنب في جدرانها الصخري، فظهرت في مجملها على هيئة أبهاء طبيعية ذات عمد من صخر الجبل نفسه. وجرى خلفاء الأناتفة على سنتهم، فارتضوا مدينة طيبة عاصمة لملكهم المتحد وشادوا مقابرهم إلى الغرب منها أيضًا، وشادوا معبدًا ربها آمون، وقد حلت محله بعض أجزاء مجموعة الكرنك الحالية، وربما شادوا له معبدًا صغيرًا آخر شغل مكانه جزء من معبد الأقصر الحالي3، وإن ظلوا في الوقت نفسه أوفياء لرب أرمنت مسقط رأس أسرتهم، وهو "مونتو" راعي الحرب الذي كان له مكانه وهيكله في منطقة الكرنك كذلك، فنسبوا أسماءهم إليه وتوارثوا فيما بينهم اسم "مونتو حوتب"، بمعنى "مونتو راض" أو "مونتو المنعم" ولهذا عرفوا باسم "المناتحة" تعبيرًا عن وفائهم لربهم، واعتزازًا منهم بطابع الحرب والكفاح الذي يتمثل فيه والذي أسسوا به دولتهم وأعادوا به إلى مصر وحدتها، تلك الوحدة التي تمت على يدي مونتو حوتب "نب حبة رع". وهو ملك طال حكمه واحدًا وخمسين عامًا، استمتع فيها بنتائج جهوده وعزائم أهل عصره، وأقيم باسمه خلالها معابد كثيرة لأرباب أسوان والجبلين والطود ودندرة وأبيدوس وغيرها، وتبعه في ذلك خلفاؤه.

_ 1 يبدأ التاريخ الأول بحكم الأتاتفة في طيبة، ويبدأ التاريخ الثاني باستكمال الوحدة السياسية على أيدي المناتحة، وجمعت بردية تورين الفترتين واعتبرت مجموعة مصر الأسرة 143 عامًا "أو 142 عامًا". Farins, Ii Papiro Del Re, 1938, 35 ; Gardiner, The Royal Canon Of Turin, 1959. 2 See, Petrie, Qurneh, Pl. X, 1, 3, ; J. Vandie, Rellgion…, 147. 3 Zaas XXXIV, 122-23; Unters., V, I, S. 4-5; Asae, 28; 1947, Pl. XXXIV.

استرجاع المركزية

استرجاع المركزية: استمتع مونتو حوتب "نب حبة رع" بشيء من التقديس والإكبار عند معاصريه وخلفائه، حتى لقد رددوا شهرته بعد وفاته بقرون طويلة، سواء لشهرة معبده الفخم في غرب طيبة، أو تقديرًا لجهوده في إعادة وحدة البلاد. وسلكوا اسمه بناء على هذا الاعتبار الأخير في صف واحد بين اسم الفرعون "منى" وبين اسم الفرعون "أحمس"، الأول باعتباره رأس العصور التاريخية، وهو باعتباره رأس الدولة الوسطى، ثم أحمس باعتباره رأس الدولة الحديثة1. ونهج الرجل في سياسة حكمه الداخلية منهاجًا مرسومًا، اتبعه بعض خلفائه من بعده، وحاول في هذا المنهاج أن يركز سلطان الحكم في عاصمته وأن يحد من سلطات حكام الأقاليم كلما تيسر الحد منها. ونجح هو وبعض خلفائه فيما أرادوه إلى حد كبير، فاختفى لقب "حاكم الإقليم العظيم" وغيره من النعوت الضخمة التي انتحلها حكام الأقاليم لأنفسهم خلال عصر اللامركزية الأولى2، وندرت إقامة مقابرهم في أقاليمهم ونحتوا أغلبها حول مقابر فراعنتهم في غرب العاصمة طيبة تأكيدًا لتبعيتهم لهم والتفافهم حولهم. وعبر عن سلطان الفراعنة وحكومتهم المركزية حينذاك قائد خرج لكسر شوكة جماعات من البدو، وانتصر عليهم، ثم سجل أخبار نصره على الصخر، ولكنه لم يرده إلى نفسه، ورده إلى فرعونه، قائلًا: "كان الخوف منه "أي من الفرعون" هو الذي جعلهم يخشونني، وكان سطوته هي التي جعلتهم يرهبونني، كما أن حب "الأرباب" له هو الذي جعل الأرضين تعشقانه"3. وينم مثل هذا النص عن أن القادة والحكام ومن ساووهم عادوا يعتبرون أنفسهم مجرد موظفين ينفذون أوامر فرعونهم ويردون الأمر والفضل إليه، على نحو ما اعتاد أسلافهم في عصور المركزية القديمة. غير أنه يبدو أن ولاءهم للفراعنة لم يمنع أصحاب الشخصيات القوية منهم من أن يرددوا لأنفسهم آيات نجاحهم في مناصبهم ويفخروا بجهودهم في إصلاح أحوال أقاليمهم تحت طاعة فراعنتهم، ومن هذا الفريق رجل يدعى "إتي"، لم يكن أكثر من مساعد لأحد رؤساء بيت المال، ولكنه وصف نفسه بأنه مواطن كفء، يعمل بساعده، وأضاف أنه كان يعتبر سندًا في إقليم طيبة، وأنه أحيا منطقة الجبلين في سنوات قل الخير فيها وتعطل فيها أربعمائة رجل. وأكد أن نفسه أبت عليه أن يستغل ابنة فقير أو يغتصب أرضه، وأنه استطاع أن يجهز عشرة قطعان من الماعز وقطيعين من الماشية وقطيعًا من الحمير، ثم خصص عددًا من الرجال لكل قطيع .. ، وجهز ثلاثين مركبًا، وثلاثين أخرى، وسد كفاية الجبلين بالغلال، وأفاض ما بقي من غلاله على منطقة إسنا ومنطقة الحية .. ، ثم أشار على أنه تبع مولاه الكبير ومولاه الصغير. ولم ينس بعد ذلك دنياه، فأضاف أنه ابتنى لنفسه دارًا فاخرة زودها بكل شيء ثمين، وأنه على الرغم من ثرائه ظل الناس يؤكدون أنه بريء من الرشا والاغتصاب، وكان بذلك مثلًا طيبًا لمثل طبقته في عصره4.

_ 1 See, Sauneron, Chr. D'egyptr, 1951, 46 F. 2 دريوتون وفاندييه: مصر – مترجم بالقاهرة – ص271، 280. 3 Gardiner, Jea, Iv, 35 F. 4 Ancienl Records, I, 459.

وتعاقب على عرش البلاد في نهاية عصر الأسرة الحادية عشرة بضعة ملوك، لا يقل الخلاف حول أوائل ملوك الأسرة وألقابهم1. ومن أسمائهم المؤكدة، مونتوحوتب "نب تاوي رع"، ومونتوحوتب "سعنخ كارع". ويذكر لسياسة الحكم خلال عهودهم احتمال اشتراك أولياء عهودهم معهم في الحكم رغبة في أن يكتسبوا الخبرة فيه ويضمنوا ولاء الأنصار قبل أن ينفردوا به. وكان ظاهرة إشراك أولياء العهود في الحكم تقليدًا رد دريوتون أصوله إلى عصر الأسرة السادسة2.

_ 1 See, J. Vandier, "L'ordre De Succession Des Derniers Rois La Xi Dyn.", Analectn Orientalia, XVII, 36 F. H.E. Winlock, Jea, XXVI "1941", 116f. 2 دريوتون وفاندييه: المرجع السابق – ص272.

الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي

الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي: لعل أوضح ما يذكر للنشاط الاقتصادي خلال النصف الثاني من هذه العصر هو استعادة الاستثمار الواسع لموارد الصحراوين الشرقية والغربية واستعادة الاتصال الواسع ببلاد النوبة وبلاد بوينة. وبدأ هذا الاتجاه بمحاولة توطيد الأمن في السبل المؤدية إلى البحر الأحمر عبر الصحراء الشرقية، ومحاولة تعميرها، وإعادة استغلال محاجرها "الجرانيتية" ومناجمها لصالح الدولة وصالح مشروعات الفرعون. ويبدو أن ذلك لم يكن بالأمر الهين، إذ تحدثت نصوص العصر عن بعثتين كبيرتين، لا زال الباحثون على خلاف في أيهما سبقت الأخرى. وقد خرجت إحداهما في عهد مونتوحوتب "نب تاوي رع" في عشرة آلاف رجل بين مدنيين وعسكريين، وترأسها وزير يدعى "أمنمحات" فوطدت الأمن في وادي الحمامات وعمرت بعض مواطنه القديمة المهجورة، ويحتمل أنه كان من هذه المواطن ميناء وادي جواسيس قرب القصير الحالية، ثم أعادت استغلال محاجره. وقد يكون عدد العشرة الآلاف هذا عددًا مبالغًا فيه ولكنه ينم على أية حال عن أن أصحابه كانوا في خلق كثير. وقص الوزير أمنمحات رئيس البعثة في النقوش التي سجلها باسم فرعونه نب تاوي رع أن معجزتين حدثتا خلال قيام رجاله بقطع تابوت الفرعون وغطائه من محاجر وادي الحمامات، وروى في المعجزة الأولى أن غزالة حبلى قصدت معسكر رجاله واتجهت إليه وهي تتلفت خلفها دون اضطراب أو استغراب، ثم استقرت في مكانه بعينه ووضعت وليدها فيه، فاعتبرها الرجال معجزة تنبههم إلى الموضع المناسب الذي ينبغي أن يقطعوا حجر تابوت فرعونهم منه، توهموا فيما بينهم أن حيوانات البراري نفسها لم تكن تأبى أن تسعى إلى فرعونهم ومن أجل صالحه. وروى أمنمحات أن المعجزة الثانية حدثت بعد المعجزة الأولى بثمانية أيام، وكان قد عز على رجاله أن يعثروا على موارد الماء في مسالك الصحراء والجبال، وأوشكوا أن ييأسوا من مسعاهم، ولكن حدث فجأة أن تجلت كرامة الإله مين رب الصحراء الشرقية، وتجلت مكانة الفرعون عنده، فهطل المطر مدرارًا، واستحال حضن الجبل إلى بحيرة، وانكشفت فوهة بئر بلغ عمقه في قاع الوادي عشرة أذرع

وبلغ عرضه عشرة أذرع، امتلأ بالماء الصافي حتى حافته، على الرغم من أن جيوشًا عدة وبدو كثيرين مروا على مكانه أعوامًا طوالًا دون أن تراه عين أو يلحظه إنسان، على حد قول الوزير أمنمحات1. وقال رجل آخر من عهد الملك نفسه في نص نقشه بوادي الحمامات: "خرجت إلى هذه البرية كما لو كنت ابن ستين "وعندي" سبعون ولدًا ولدوا من امرأة واحدة، وأديت كل ما هو صواب من أجل نب تاوي رع، عاش أبدا"، ويبدو أنه أوكلت إلى هذا الرجل مهمة الإشراف على منطقة واسعة في الصحراء الشرقية، بحيث ذكر أنه أصبح المدير الفعلي لأرض الصحراء كلها". وأضاف من صور نجاحه وإخلاصه في أداء مهمته أنه أحال وديان الصحراء ومرتفعاتها إلى غدران وعمرها بالذراري، وروى أنه تكفل بعمل تحصينات حدودية امتدت شمالًا حتى "منعة خوفو" في مديرية المنيا، وربما امتدت جنوبًا إلى بلدة لقيطة في وادي الحمامات2. وخرجت بعثتان إلى النوبة في عهد الملك نفسه لاستغلال الجمشت في وادي الهودي إلى الجنوب الشرقي من أسوان بنحو سبعة عشر ميلًا3. أما البعثة الكبيرة الأخرى التي تقرن ببعثة أمنمحات فقدت خرجت في العام الثامن من عهد مونتوحوتب "سمنخ كارع" برياسة موظف كبير يدعى حنو "أو حننو"، وبلغ تعداد رجالها نحو ثلاثة آلاف رجل، مدنيين وعسكريين. وكانت تستهدف تأكيد الأمن في مسالك القوافل وتعميرها وتحصيل الهدايا باسم القصر الملكي وقطع أحجار لتماثيل ملكية ضخمة، ثم الإشراف على إنزال سفن "جبيلية" إلى البحر الأحمر لاستعادة الاتصال ببلاد بوينة عن طريقه واستيراد "بخور طازج" منها. واعترف حنو بأنه انتفع من حالة الأمن التي حققتها بعثة عسكرية سبقته إلى تأمين الطريق، وقد تكون تلك البعثة هي بعثة أمنمحات، أو بعثة استطلاعية من رجال حنو نفسه، وذكر أنه بدأ طريقه من قفط وسلك دربًا قصيرًا من دروب الصحراء، وروى أنه سار على الدرب الذي وجهه إليه مولاه، وأكد أنه أكرم رجاله فسمح لكل منهم بسقاء "أو قربة ماء صغيرة" وحامل "أي عصا مثل عصا الراعي يعلق فيه سرة الخبز وسقاء الماء" وقدرين، وصرف لكل منهم عشرين رغيفًا "صغيرًا" يوميًّا، وسمح لهم بأن يحملوا نعالهم على ظهور الحمير، وأضاف أنه ود لو جعل الطريق نهرًا وجعل الصحراء طريقًا زراعيًّا، وأنه عمل على تطهير آبار قديمة وحفر آبار أخرى جديدة، وقد بلغت في مجملها خمسة عشرة بئرًا "لا زالت بعض معالمها باقية". ثم استمر حنو في طريقه حتى بلغ ساحل البحر الأحمر، وأنزل سفينة أو سفنًا إلى البحر ودشها بذبح القرابين أمامها ثم عهد بها على رجالها، وحملها ببضائع يستبدلون بها ما توده الخزائن الملكية ومعابد الدولة من بلاد بوينة، ثم استغل طريق عودته لقطع أحجار تماثيل مولاه، وروى أنه فعل ذلك نظرًا لحب مولاه الشديد له4.

_ 1 L. D. Ii, 149 C, F. ; Etman, Zaes, 1891, 60 ; A. R., I, 451. 2 Couyat-Montet, Hammanat, Pl. I 'P. Newberry, Bent Hasan, Ii, 18-19. 3 A. Rowe, Asae, Xxxix, 189 F. ; A. Fakhry, The Insciptions Of Wadi El Hudi. Cairo, 1952. 4 Hammamat, 114 ;Breasted, Op. Cit., 429 F. ; W. C. Hayes, "Career Of The Great Stweaed Hen-Enu". Jea, XXXV, 43 F.

ويبدو أن انقطاع الاستغلال الواسع لمناطق المناجم والمحاجر، وانقطاع الاتصال ببلاد بوينة خلال عصر الانتقال الأول، جعل استعادة النشاط في هذه النواحي ضربًا من المخاطرة والبسالة وجعل أصحاب هذا النشاط يتلمسون طريقهم من جديد كما فعل كل من الوزير أمنمحات وزميله حنو. وصورت مخاطرات هذا العصر قصة جمع فيها مؤلفها بين الواقع وبين الخيال، وعرفت في الكتب العربية باسم قصة الملاح الغريق، وإن كان عكس هذه التسمية أي "نجاة الملاح" أولى بها. وروت القصة أن أحد رجالات البلاد كان في سبيل عودته على متن النيل من مهمة كلفه فرعونه بها فيما وراء أرض واوات بأقاصي النوبة، ولكن لم يقدر له النجاح فيها، ولما اقتربت سفينته من العاصمة أتاه أحد خاصته من الملاحين يهنئه بسلامة العودة دون نقص في ملاحيه، ويصف له فرح رجاله ومعانقة بعضهم لبعض. ولكن الرجل كان في واد آخر، وظل مهمومًا يتخوف عاقبة فشله، فانبرى الملاح يسري عنه ويهون عليه ويبعث الأمل في نفسه، وقص عليه قصة تداولت عليه فيها شدائد ظن أن لا نجاة له منها، ولكنه نجا وسلم وعاد إلى وطنه واستمتع باجتماع شمله بأهل بيته، مما سنعود إلى تفصيله في حديث الأدب. وفي البعثات المسلحة سجل أحد قادة مونتوحوتب "نب حبة رع" على صخور أبيسكو قرب الشلال الأول أنه صاحب مولاه في حملة جنوبية، وأضاف حديثًا يفهم منه أن استقرار أمور فرعونه في مصر سمح له بأن يلتفت إلى ما وراء حدودها، وأن نشاطه العسكري هيأ له أن يبعث هيبته في نفوس أهل "جاتي"، أي أهل جنوب الشام1. وأضاف رئيس المال خيتي أنه خرج بسفن على واوات في النوبة، وأنه عاد من إحدى بعثاته الخارجية بمعادن وأحجار كريمة2. ثم ذكر ملك من الأسرة نفسها في نص له أنه قاوم الآسيويين في بواديهم. وزاد حنو أمرًا آخر في عهد مونتوحوتب "سعنخ كارع"، فذكر لنفسه دورًا في معاملة الحاونبو، أي أهل جزر البحر المتوسط لا سيما الكريتيين، وقد تكون هذه المعاملة ودية أو عدائية، وإن كان الاحتمال الأول هو الأرجح.

_ 1 Weigall, Antiquities Of Lower Nubia, Pi. Xix ; Roeder, Debod…, 282 ; Save-Soderbergh, Aegypten Und Nubien, 1041, 58. 2 Breasted, Op. Cit., ; I, 426 ; Gardiner, Jea, Iv, 28 F.

صور من المجتمع

صور من المجتمع: تميز من رجالات النصف الأخير من عصر الأسرة الحادية عشرة الذين عرفنا تاريخهم ثالث رجال: فنان مجتهد يدعى إرتيسن، وكاهن مزارع من أواسط الناس يدعى حقانخت، وموظف كبير يدعى مكت رع. وصورت مخلفات الرجال الثلاثة ثلاثة جوانب من جوانب الحياة الاجتماعية في العصر الذي عاشوا فيه. كان إرتيسن أقدم الثلاثة وقد عاصر نب حبة رع، وترك نقوشًا يفهم منها أنه قسم معرفته ثلاثة أقسام: معرفة باللغة، ومعرفة بمراسيم الدين وطرق السحر وتنظيم المواكب الدينية، ثم معرفة فنية وآلية، وكان مما اعتز به أنه ابتدع موادَّ للتغشية لا تحرقها النار ولا يزيلها الماء، وأنه كان يتقن تصوير الجسم البشري

في كل أوضاعه، لا سيما حركات التقدم والتأخر، وحركة الشخص الجاري، وكيفية رفع الذراع عند صيد فرس النهر. وكان ينحت تماثيله من كل المواد الثمينة ابتداء من الفضة والذهب على حد قوله وانتهاء بالعاج والأبنوس، واعتز بأن ما وصل إليه لم يبلغه أحد سواه هو وولده سنوسرت1. وكان مخالفات حقاخنت، عبارة عن بضع رسائل كتبها إلى ولده الأكبر مرسو2، يمكن أن تستنتج منها مجريات الأمور في الأسر المصرية الوسطى في عهده، ثم مدى السلطة التي افترضها الآباء لأنفسهم على أولادهم وإن بلغوا سن العمل، ومدى الفوارق الطبيعية في معاملة الوالد لأبنائه وفق أعمارهم. كان حقانخت مشرفًا على شئون مقبرة أحد الوزراء وأوقافها الموزعة في الصعيد والدلتا، كما كانت له أملاكه الخاصة. وقد ترك أولاده الخمسة في طيبة وارتحل عنهم إلى نواحي منف ليباشر أعماله فيها لفترة أوفت على العام. وعهد إلى ولده الأكبر مرسو بأرضه ومخازن غلاله ومدخرات داره، كما عهد إلى ولد آخر يصغره بخمسة وثلاثين رأسًا من الماشية شارك جاره فيها. وكتب حقانخت إلى ولده الأكبر بضع رسائل من منف تتبدى شدته فيها عليه وتحميله مسئولية الأسرة كاملة. فكتب إليه في بعض أموره يقول: "إذا طغى الفيضان على أرض فالويل لرجالي ولك، ولن ألق المسئولية إلا عليك". ويقول: "عليك أن تبذل الجهد في أرضي واجتهد بأقصى ما تستطيع، اعزق الأرض، وتدخل في كل عمل". وكان لا يفتأ يردد عليه قوله: أنت سعيد لأني أعولك، ولماذا أعولك؟. وإذا اجتهدت دعا الناس لك، وإذا لزمت الهدوء فإنه نعم العمل. ولكنه تخلى تمامًا عن هذه الشدة بالنسبة لولده الأصغر سنفرو، فكتب عنه إلى أخيه يقول: "إذا لم يكن لسنفرو ما يكفيه معك في البيت فلا تتوان عن إخباري، فقد بلغني أنه غير راضٍ. اعتن به كثيرًا وأعطه مئونته، وبلغه سلامي ألف سلام، بل مليون مرة. اعتن به وأرسله إليَّ بعد أن تحرث الأرض مباشرة"، ثم كتب عنه ثانية قائلًا: "إذا كان سنفرو يريد أن يعتني بالماشية فدعه يفعل؛ إذ يبدو أنه لا يحب أن يجري معك هنا وهناك في حرث الأرض، كما أنه لا يريد أن يأتي إلى هنا، وعليك أن تمتعه بكل ما يحب". وكان للرجل ولد صغيرة شقي يدعى ساحتحور اشترك في مشاكسة جارية أبيه مع خادمة تدعى سنن، فلم يزد حقانخت على أن صب جام غضبه على الابن الأكبر والخادمة معًا، وتغاضى عن شقاوة الولد الصغير، وقال لمرسو: "اطرد الخادمة سنن من داري على التو، ولكن احرص على أن يتردد ساحتحور عليك يوميًّا، وإذا بقيت سنن في الدر يومًا واحدًا وأساءت إلى جاريتي فأنت الملوم. وإلا فما الذي تستطيع أن تفعله جاريتي إزاءكم وأنتم خمسة أولاد؟ سلم لي على أمي إيبي ألف سلام، بل مليون مرة". وعاود الحديث عن الجارية في خطاب آخر فقال: "لاحظ أنها جاريتي، وأنه ينبغي إحسان معاملة جارية الإنسان ... ، وإلا فكيف أعيش معكم في دار واحدة، إن لم تحترموا جارية من أجل خاطري؟ ".

_ 1 Louvre, C 14 ; Marcelle Baud, "Le Metier D'iritiser"", Chr. D'egypte, 1938, 21 F. ; H.E. Winlock, The Rise And Fall Of The Middle Kingdom, 32. 2 Op. Cit. ; Bull. Metr, Mus., 1921, 12 F. ; Jame, The Hekanakhte Papers …1961.

وعثر في مقبرة مكت رع بمنطقة الدير البحري في طيبة1 على نماذج كثيرة لأدوات زينته وأناقته، ونماذج أخرى طريفة لداره أو دواره وما كان يلحق بها من مكاتب ومصانع وحظائر ومخازن، فضلًا عمن كانوا يعملون فيها من موظفين وأتباع وصناع. وتبقى من نموذج لمسكنه الخاص جانب أمامي من طابق أول لا يختلف كثيرًا عن الطوابق الأولى في الفيلات الحديثة، يتألف من فناء متسع يتوسطه حوض ماء مستطيل كبير، تشرف الأشجار على جانبيه، وتلا الفناء صفة مرتفعة أو فراندة متسعة يعتمد سقفها على ثمانية أساطين خشبية دقيقة ملونة، شكلت سيقانها وتيجانها على هيئة اللوتس والبردي. وتخلف من ملحقات الدار أو الدوار نموذج لمصنع غزل ونسيج تعمل فيه طائفة من النساء، وكان صاحبه يؤدي ضرائبه العينية إلى الدولة، وربما اشتغل لحسابها أيضًا، ونموذج مصنع للنجارة يعمل فيه صناعة ويستخدمون أدوات يدوية لا تزال تستعمل حتى الآن، وأخصها المناشير والأزاميل والدقاميق. ونموذج كرار لتخمير الجعة وتصفيتها، وآخر لمعجن ومخبز يعمل فيه رجال ونساء، وغيره لحظيرة متسعة جاورتها ظلة مرتفعة فسيحة جلس فيها رب الدار ومن حوله حراسه حاملو الحراب، وكتبته الذين جلس كل منهم أما منضدة حجرية صغيرة وضع فوقها أدوات كتابته. وهكذا احتفظت نماذج مكت رع بصورة لثراء المترفين في عصره، عصر الأسرة الحادية عشرة، ونمت عن أنه كان من أصحاب الأملاك من حققت لهم أملاكهم الواسعة حظًّا من الكفاية الذاتية في إنتاج مطالبهم ومطالب أسرهم وأتباعهم المحيطين بهم. ولم تتضمن مقبرة مكت رع صورة من حياة النعيم وحدها، وإنما تضمنت في الوقت نفسه مئات من أسلحة الحرب ونماذجها، لا سيما الحراب والأقواس وجعاب السهام، وذلك مما يعني أحد فروض ثلاثة، وهي: أن الرجل كان من هواة جمع الأسلحة وكان يحتفظ بها في قاعة بداره، أو أن تقاليد عصره كانت تفرض على الأثرياء أن يحتفظوا بأسلحة كثيرة ليزودوا بها رجال أقاليمهم حين تطلب الدولة منهم تسليحهم. أو أن أيام مكت رع بالذات كانت أيامًا مضطربة وكان عليه أن يترقب مفاجآتها بأسلحته. وكل فرض من هذه الفروض الثلاثة محتمل. لم تقتصر مخلفات عصر الأسرة الحادية عشرة على نماذج المساكن الثرية وحدها، وإنما احتفظت معها بنماذج صغيرة من الطين قلدت التخطيط العام لبيوت أهل الطبقات الفقيرة والطبقات الوسطى، وظهرت هذه النماذج منذ نهاية الدولة القديمة، واستمرت خلال عصر الانتقال الأول، ثم اكتملت عناصرها لي بداية الدولة الوسطى، واقترح فلندرز بترى تسميتها باسم بيوت "الكا"، إيماء إلى تخصيصها لنفع النفس "أو الروح" في أخراها2. وظلت نماذج البيوت الفقيرة منها لا تعدو فناء مسورًا بسور طيني خفيض، يقوم في مؤخرته من الداخل كوخ "خص" مقبى السقف مبني بجواليص الطين، أو تحل محله صفة "تسقيفة" متواضعة مسطحة أو

_ 1 H.E. Winlock, Excavations At Deir El-Bahari, 1942, 58 F. 2 Petrie. Gizah And Rifeh, I, Xiv F. ; Egyptian Architechure, Pl. Xxiv. Etc.

مائلة السقف يرفع سقفها عمودان أو ثلاثة من جواليص الطين أيضًا. وتميزت عن هذه النماذج نماذج أخرى تفضلها بعض الشيء قلدت البيوت الريفية اللبنية الشائعة، واحتوت في نهاية فنائها ثلاث حجرات متصلة أو منفصلة، يتقدمها رواق مستطيل مسقوف، ويعلوها سطح مسور بحواجز بسيطة "درابزين" تنفذ منه منافذ مائلة للتهوية والضوء "تشبه ملاقف الهواء التي كانت تتضمنها بيوت الجيل الماضي ودوارات الريف". وقد يتصرف أصحاب المسكن في حجراته فيرتبونها على جانبي الرواق أو على جوانبه الثلاثة، ويستفيدون من السطح المتسع فيقيمون بين منفذي الهواء "الملقفين" حجرة عليا صغيرة. وقد يشيدون الدرج المؤدي إلى السطح من ركن الفناء أو يجعلونه يعتمد على الجدار الخارجي للمسكن إذا كان بعيدًا عن جدار السور. وغالبًا ما يبنون حجرة ضيقة في ركن الفناء لاستخدامها مخزنًا أو حظيرة للطيور ويتركون بقية الفناء لمبيت الماشية. وامتازت عن النماذج السابقة من حيث الثراء ومن حيث التطور نماذج بيوت أهل الطبقة الوسطى الريفية، وكانت ذات طابقين وسطح، يؤدي إلى طابقه العلوي وسطحها درج يعتمد على عقد مقبى، ويكون لحجراتها العليا نوافذ حيث لا خوف من تلصص المارة في الطريق على أهلها. وظل للأروقة الأمامية المسقوفة مكانها في الطابقين لجلوس أهلها في أمسيات الصيف ولاستقبال الضيوف. وقد يحتوي فناؤها الواسع على حوض رباعي تحيط به ظلة "تسقيفة" ذات أعمدة. وكثيرًا ما وجدت في حجرات هذه النماذج نماذج أخرى صغيرة لأسرة ومقاعد، وذلك مما يعني أنها أصبحت تخدم غرضين، وهما: نفع النفس أو الروح، والرمز إلى المساكن الذي يتمناه المتوفى في أخراه.

في العمارة الدينية والفن

في العمارة الدينية والفن: مر بنا حين استعرضنا الخطوط العامة لفنون النحت والنقش خلال عصر الانتقال الأول، أنها ظلت محدودة الكفاية، محدودة الآفاق، وإن ميز تماثيل سادتها الخشبية طاب ريفي مستحب وأسلوب واقعي متواضع، وميز تماثيل أتباعها الخشنة تآلفها الجماعي وحرية الحركة الممثلة فيها، وميز هيئاتها النحيلة قليلة التناسب نوع من صدق التعبير عن الحياة الأسرية وعلاقات أفرادها بعضهم ببعض، كما ميز نقوش توابيتها ورسومها نوع من الإفاضة في تصوير المقتنيات وتسجيل التراتيل والدعوات، وكانت كلها ميزات عفوية وموضوعية أكثر منها ميزات فنية إبداعية مدروسة. ولم يتقرن بها شيء من تجديدات فن العمارة. وترتب على ذلك أن فنون أوائل الدولة الوسطى لم ترث عن سابقتها في عصر الانتقال الأول شيئًا كثيرًا، ولم تجد وراءها نماذج راقية قريبة ترجع إليها وتستوحيها، لا سيما وأنها تركزت في طيبة بعيدة عن منف كعبة الفن القديمة، وكان عليها لذلك أن تتلمس لنفسها سبلًا جديدة تعبر بها عن روح عصرها وأوضاعها وخصائصه. وظهرت تجديدات العمارة في آثار متمم الوحدة السياسية الملك مونتوحوتب "نب حبة رع"، حين ابتغى مهندسه أن يشيد له ضريحًا يليق بمكانته وسمعته، فاستوحى هيئة أهرام الدولة القديمة، وهيئة مقابر عصر الأناتفة المنحوتة ذات الأبهاء، ثم عدل طرز هذه وتلك وخرج منهما معًا بأسلوب مبتكر جديد.

فعلى حين اعتاد أسلافه مهندسو الدولة القديمة على أن يقيموا معابد الفراعنة إلى جانب أهرامهم دون أن يجمعوهما معًا في وحدة معمارية صريحة واحدة، حاول هو من ناحيته أن يجمع لأول مرة بين هرم فرعونه وبين معبده في بناء واحد قائم متصل. وتخير لمشروعه حضن جبل ناهض من جبال طيبة الغربية، وأراد أن يطاول هرم فرعونه ارتفاع الجبل، فشيد تحته مسطحين واسعين عظيمين يعلو أحدهما فوق الآخر، ويؤدي إليهما طريق طويل عريض يبدأ بمدخل متسع عند حافة الوادي المنزرع. ثم جمل المهندس البناء بتوابع كثيرة، من الحدائق الرحبة والأعمدة المرتفعة، والتماثيل الملكية الواقفة والجالسة، التي استكمل بها نواحي الفخامة والجمال في عمارته. ولما أكمل المهندس مشروعه وتوابعه، أصبح الزائرون يتطلعون إلى مجموعته من أرض الزراعة إلى حيث ينهض ضريح الفرعون عاليًا يحميه الجبل من خلفه، ويعبرون خلال طريقهم إليه غابة شجرية زرعت بأشجار وارفة من الجميز والأثل تظلل تحتها عددًا من تماثيل الفرعون تمثله جالسًا أو واقفًا، ثم يصعدون في نهايتها على طريق صاعد طويل يواجهون معه المسطح الأول للضريح، ويواجهون في مقدمته بهوًا عريضًا ترتفع فيه أعمدة مربعة, فإذا اعتلوا هذا المسطح الأول واجهوا غابة فسيحة أخرى تكسو المسطح الثاني، لكنها غابة من حجر، تتضمن عشرات وعشرات من الأعمدة الحجرية المضلعة التي قامت فيها مقام الشجر. وفي قلب هذه الغابة الحجرية ينهض هرم الفرعون عاليًا في تسام وأبهة1. وضم ضريح مونتوحوتب عددًا من مقابر نساء أسرته ووصائفهن. وكان لكل أميرة منهن مقصورة خاصة، ولكل مقصورة بئر تؤدي إلى حجرة دفنها2. وكانت أشهرهن أميرة تدعى كاويت، وأخرى تدعى عاشيت3. بقي عدد من المحتويات الثمينة في مقبرتيهما، ومنها تابوتان من الحجر الجيري النقي، حفلت جوانبهما بمناظر دنيوية وأخروية، ومن هذه المناظر ما يصور الأميرة تمسك بمرآتها النحاسية، بينما ترجل لها خادمتها شعرها وتروح لها أخرى بمروحتها ويصب لها وصيفها لبنًا في كأس. وكان لكل من الأميرتين تابوت خشبي وضع داخل تابوتها الحجري، وزين كل منهما بنصوص دينية ومناظر قطع فنانها مرحلة طيبة في سبيل إجادتها ورشاقة خطوطها. وقد ضارعتها في مستوى التطور نقوش أخرى احتفظت بها مقاصير معبد الطود من أيام الملكين مونتوحوتب الثالث ومونتوحوتب الخامس4. وبدأت بواكير الازدهار النسبي لفن النحت حينذاك في تماثيل مونتوحوتب "نب حبة رع" أيضًا. واشتهر منها تمثال يظهر الملك برداء قصير يشبه أردية أعياد السد، ويظهره بلون أسود قد يرجع استخدام الفنان له إلى رغبته في تشبيه فرعونه بالمعبود أوزير باعتباره رب الخصب، أو يرجع إلى سوء اختياره للون المناسب. ويبدو أن الفرض الأخير هو الأرجح؛ إذ يزكيه عيب آخر في تمثاله، وهو أن الفنان حين حاول

_ 1 E. Naville. The Xidyn, Temple, Iii Vols., 1907 F. H.E. Winlock, Excabations At Deir El-Bahari, 1942. ويراجع عن تصويرات أخرى لهذه المجموعة المعمارية: D. Arnold, Der Templ Das Konig Menuhotep Von Der El-Bahari, I-Ii, 1974. 2 Evers, Staat Aus Dem Stein, Ii, Taf, Xi F. ; Iii, Taf Ii-Iii. 3 Metr, Mus., Bull. 1921, 36 F. Evers, Op. Cit., Xix A. B. 4 Bisson De La Roque, Tod, Le Cairo, 1937.

أن يعبر في تمثاله عن عظمة فرعونه لم يستطع أن يترجم عنها بغير إظهار وجهه وهيبته وامتلاء جسده وضخامته، بينما اكتفى بالخطوط العامة له دون إظهار عضلات جسمه وانثناءاته. ثم مثله يعقد يديه على صدره في جلسة أوزيرية مهيبة وإن كان في نفس الوقت قد أظهره برداء العيد القيصر الذي لا ينسجم مع أردية أوزير الطويلة التقليدية، أو على الأقل لم تجر العادة على تصويره في تماثيل الملوك التي أظهرتهم في هيئة أوزيرية. بل وقد نحت ساقي التمثال بضخامة ملحوظة، وتحتمل هذه الضخامة بدورها أكثر من فرض واحد: فهي قد تدل على ابتلاء الملك بمرض تضخم الساقين "داء الفيل" كما يظن بعض الباحثين، ولو أنه فرض نستبعده حيث لم تجر عادة المصريين على إظهار العيوب البدنية للسادة في تماثيل يأملون أن يبعثوا على هيئتها في الآخرة، وقد تدل على عدم تكمن الفنان تمامًا من فنه وعدم استطاعته تقدير النسب السليمة في تمثاله. أو هي ترجع أخيرًا إلى أن هذا التمثال كان واحدًا من تماثيل كثيرة لصاحبه قامت في معبده وعلى جانبي الطريق المؤدي إليه، وربما رأي المثالون في كثرتها ما يغني عن الاهتمام بتفاصيلها، ولم يجدوا ضرورة للعناية الكاملة بكل واحد منها على حدة1. وعلى أية حال، ومهما يكن من عيوب هذا التمثال، فهي عيوب تغتفر له إذا قورن بتماثيل عصر الانتقال الأول الذي سبقه، ولا تمنع إطلاقًا من اعتباره باكورة طيبة لفن النحت في عصره. وقد لحق النجاح النسبي في نحته ونحت أمثاله من التماثيل الملكية، ببعض تماثيل الخاصة أيضًا، ومن هذه التماثيل بضعة تماثيل لمكت رع وولده، وتمثالان صغيران لموظف يدعى مري نحتهما الفنان من الحجر وأظهره في أحدهما يبسط يديه على صدره في وضع تعبدي لطيف. وتمثال آخر بنفس الوضع لرجل يدعى إقر. ثم تمثال خشبي صغير للأميرة عاشيت وجد داخل تابوتها وميزته حيوية واضحة زادها احتفاظه بتطعيم عينيه2. بل وأصاب النجاح النسبي تماثيل الجواري والأتباع الصغيرة كذلك، فبلغت حدًّا لا بأس به من سلامة النسب ورقة التفاصيل، وإن تفاوتت فيما بينها من حيث الحيوية ودقة الصناعة. ومن أمتع ما يستشهد به منها تمثالان لجاريتين من حاملات القرابين وجدا في مقبرة مكت رع وظهر فيهما من حلاوة التعبير وصفاء الملامح وتفاصيل الثياب المشغولة بالخرز على هيئة فلوس السمك، ما جعلهما يفوقان أشباههما من تماثيل عصر الانتقال الأول بمراحل واسعة3. وبعد أن أعاد عصر الأسرة الحادية عشرة وحدة الحكم ووحدة الحضارة إلى بلده، انتهت أيام أسرته الحاكمة على غير ما بدأت به، لأمر ما لم تكشف عنه الوثائق المعروفة، بحيث تعاقبت في أواخرها سبع سنوات عز فيها الاستقرار والحاكم الصالح، ثم انتقل العرش منها إلى فرع من أقاربها أو من أصهارها، بدأ بحكمه عصر جديد مجيد سيكون موضوع البحث التالي.

_ 1 Cairo 36195 ;Metropolition Museum, 26-3-29. 2 Ibid., 20-3-4- ; 26-7-1393 ; Bitish Museum, 37895, 37896, Etc. 3 Cairo 46725 ; Metropolitian Museum, 20-3-7.

ثانيا: الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة

ثانيا: الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة مدخل ... ثانيًا: الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة 1991 - 1778ق. م يعتبر عصر الأسرة الثانية عشرة أزهى عصور الدولة الوسطى في نواحي نشاطه الداخلية والخارجية، وقد بدأ الحكم فيه بفرعون ذكرته نصوص عهده باسم أمنمحات "سحتب إب رع"، وعرفته كتب التاريخ باسم أمنمحات الأول، وسوف نجري فيما بعد على استعمال الاسم الأخير نظرًا لشيوعه، وقد خرج أهل الدعاية في عهده بقصة اشتهرت اصطلاحًا باسم تنبوءات نفررحو "أو تنبوءات نفرتي"، واستهدف دعاة أمنمحات من قصتهم هذه أن يظهروا فرعونهم الجديد لأفراد شعبه في هيئة المنقذ المنتظر، وأن يوهموهم بأن العناية الإلهية قد تخيرته منذ الأزل، وأن المتنبئين بشروا به منذ عهد سنفرو، أي قبل مولده بقرون طويلة. وسوف نعرض لهذه القصة في حديثنا عن الأدب، وتتلخص في أنها جعلت حكيمها نفررحو يصور للفرعون سنفرو أيامًا يتوقعها في عالم الغيب، يهلك فيها الحرث والنسل ويشيع الفساد، ويظل أمرها كذلك حتى ترسل العناية الإلهية ملكًا من أهل الجنوب يدعى "أميني" يولد لسيدة من إقليم تاستي، فيصلح الحال ويسعد به أهل عصره. وكان اسم أميني الذي بشرت النبوءة به هو الاسم المختصر لاسم أمنمحات في الدولة الوسطى1. ثم لجأ أمنمحات إلى التبشير لحكمه وعهده بين شعبه بطريقة أخرى، فاستخدم لنفسه لقب "وحم مسوت" 2، وهو لقب يعني معنى معيد النهضة "إلى جانب معان حرفية أخرى مثل تكرار المواليد". واعتمادًا على هذه الدعايات اعتبر بعض المؤرخين المحدثين أمنمحات مغتصبًا للعرش من الأسرة السابقة له، وأضافوا أنه قد يكون بنفسه الوزير أمنمحات الذي خرج في عهد مونتوحوتب "نب تاوي رع" بعشرة آلاف حندي، وأنه قد استغلهم في الإطاحة بملكه والاستيلاء على عرشه، وأن أمه كانت نوبية من إقليم تاستي الجنوبي الذي ذكرته النبوءة، وأنه يزكي أصله الجنوبي ظهور غلظ الشفاة وسعة الأنوف وبروز الوجنات في تماثيله وتماثيل أفراد أسرته3. ونترك للجزء الثاني من كتابنا عن حضارة مصر القديمة وآثارها تفنيد هذه الآراء ومناقشة حجج أصحابها، في تفصيل، وحسبنا منه هنا أن إقليم تاستي الذي اعتبروه نوبيًّا خالصًا، كان يشتمل كذلك على المنطقة التي تمتد بين أسوان وبين إدفو، فهو إذن من أقصى الصعيد أيضًا وليس من النوبة كله. وليست ملامح النوبيين في حد ذاتها بالملامح الغليظة التي صوروها، وإنما هي ملامح لا تخلو من رقة وبساطة على الرغم من سمرتها. ولم تظهر الملامح الغليظة في غير تماثيل أحد أحفاد أمنمحات "وهو سنوسرت الثالث"، مع ملاحظة أن

_ 1 H. Gauthier. L.R., I, 265, 283, And See, Breasted, Ancient Records, I, P. 251, N, A. 2 Gauthier, Op. Cit. 268, And See, Gardmer, Egypt, Egypt Of The Pharaohs, 127. 3 بدأت بهذه الآراء مراجع إفرنجية ثم رددتها عنها كتب عربية مثل "مصر الفرعونية" الدكتور أحمد فخري، وهذه تؤجل تفنيد آرائها لموضع آخر.

تنوع الملامح بين أفراد الأسرة الواحدة ليس بالأمر الغريب بين المصريين وغير المصريين، ثم إن أمنمحات الوزير لو أراد أن يستخدم العشرة آلاف جندي في الثورة على ملكه لما مجده أمام نفس الجنود في نصوص حتى أوشك أن يرتفع به أمامهم إلى مصاف الآلهة. كما أن بعض خلفائه من ملوك أسرته قد جروا على سنته في تمجيد ذكرى ملوك الأسرة الحادية عشرة السابقة عليهم، وفي هذا ما ينفي أن رأسهم قد اغتصب الملك منها. وبناء على هذه القرائن وغيرها مما يرد تفصيله وأدلته في كتابنا آنف الذكر، يبدو أن أمنمحات كان من أقرباء الأسرة الحادية عشرة السابقة له أو من أصهارها، وأنه لم يعتل العرش اغتصابًا من ورثتها، وإنما اعتلاه بعد أن عجزوا عن الاحتفاظ به، وبعد أن مرت البلاد بفترة عز عليها فيها الاستقرار والحكم الصالح.

في السياسة الداخلية

في السياسة الداخلية: جمعت أيام الأسرة الثانية عشرة بين خصائص مركزية الدولة القديمة وعظمة فراعنتها، وبين مكاسب عصر اللامركزية الأولى ونمو الروح الفردية فيه، في آن واحد، دون أن تضحي بإحداهما تمامًا في سبيل الأخرى. غير أن هذه التقديم لا يمنعنا من ذكر حقيقة واقعة وهي أن مصادر تصوير هذا العصر، وغيره من العصور، لا تزودنا في أغلب أحوالها إلا بما أراده أصحابها من تصوير الجوانب النيرة في حياتهم، أما الجوانب السيئة، ولا بد أنها كانت متعددة، فقلما تركوا لنا ما يسمح بتصويرها إلا عن طريق التخمين وعن طريق استقراء ما بين السطور. طال حكم أمنمحات الأول ثلاثين عامًا يبدو أنها كانت حالفة بالإصلاح وإن لم تخل من الكفاح والمخاطر في بدايتها وفي نهايتها. فيفهم من نصوص رجل معاصر له من حكام الأقاليم يدعى "خنوم حوتب" ونصوص حفيده1، أنه ظهر لأمنمحات في بداية عهده منافسون على العرش، وأنه عمل على نفيهم من مصر واستعان على إضعافهم ببعض زعماء الأسر المصرية القوية في مصر الوسطى، ثم كافأ أنصاره بتوليتهم حكم المزيد من المدن والأقاليم، وإن كان قد حرص في الوقت ذاته على أن يشعر هؤلاء الأنصار بأن يده هي العليا دائمًا، فتدخل في تحديد حدود أقاليمهم ورسم سياستها وتعيين موارد الري فيها وتحديد سلطاتهم عليها. وأشرك أمنمحات ولي عهده سنوسرت في الحكم معه عشر سنين حتى يعتاد على تصريف الأمور تحت إشرافه، ويأمن الخلاف والطمع في عرشه بعد وفاته، وظن أن ذلك يدعم مركزيهما معًا، ولكن كان من تصاريف القدر أن تعرض في فترة متأخرة من حكمه لمؤامرة دبرت لاغتياله من قبل المتصلين به لسبب لا نعرفه، وصور الملك هذه المؤامرة من وجهة نظره في مجموعة وصايا وجهها إلى ولده، وحرص على أن يعدد له في مقدمتها ما أسلف لبلده من أياد بيضاء، فأكد أنه عمل على ألا يكون في عهده جائع ولا ظمآن، وأن كل ما أمر بتنفيذه خلال حكمه كان كما ينبغي أن يكون. وأكد أنه يسر لكل معدم أن يحقق أهدافه كما لو كان من ذوي الحيثية، ثم تحدث عن نشاطه الإداري فذكر أنه وقف على مشارف الأرض وعاين

_ 1 Breasted, Op. Cit., 224; P.E. Newberry, Bent Hasan. I, Pl. XlIV.

دواخلها، وأنه وسع مفهوم البأس بشجاعته وأعماله ... ، وادعى أنه أذل الأسود وأخضع التماسيح ... ، غير أن ذلك كله لم يجد، فانقلب عليه أقرب الناس إليه، وتعمد من طعم خبزه أن يحرض القوم عليه، كما تعمد من تلقى يد المعونة منه أن يستغلها في خلق المتاعب ضده، وذكر أمنمحات أن المتآمرين دبروا أمرهم خلال غياب ولده، فحدث ذات ليلة بعد العشاء، وحين أرخى الليل سدوله، وبعد أن استرخى هو في مضجعه، أن سمع صليل السلاح وحديثًا يقال عنه، فظل في فراشه يقظًا كثعبان الصحاري، ثم نهض ليدافع عن نفسه، ووجدها مؤامرة من بعض الحراس، فاستل سلاحه، وكان كفئًا لهم كما قال، لولا أنه "ما من شجاع بلبل" و"وما استطاع إنسان أن يحارب بمفرده"، "وما تم أمر ناجح بغير مساعد"، على حد تعبيره1، ووجه أمنمحات وصيته إلى ولده من وحي هذه التجربة، فأوصاه بالحذر، وبألا يقرب الناس وحيدًا، وألا يسرف في الإخلاص لمن يدعي أخوته، أو يصطفى خليلًا لنفسه، وعلل ذلك كله بأن المرء قد يفتقد أهله في يوم الشدة. وتشعبت الآراء في تصوير نهاية أمنمحات وفي استخلاص النتائج من وصاياه، فظهر منها رأيان: رأي اعتقد أصحابه أن المؤامرة حدثت في العام العشرين من حكمه وأنه نجا منها وتعمد بعدها أن يشرك ولده سنوسرت في الحكم؛ ليسانده ويشد أزره. ثم رأي آخر اعتقد أصحابه أن المؤامرة حدثت في العام الثلاثين من حكمه وأنها أدت إلى مقتله بالفعل، وأن ولده سنوسرت أوحى إلى أديب من أهل عصره بأن يقصها على لسان أبيه كما لو كانت قد صدرت عنه قبل أن يسلم روحه، أو كما لو كانت قد صدرت عنه وحيًا من السماء بعد أن ارتفع إليها، وقدم كل من أصحاب الرأيين قرائنهما، وقد رجحنا الرأي الأول منهما بقرائن جديدة نحيل المتخصص إليها في كتابنا آنف الذكر. على أنه مهما يكن من أمر المؤامرة ضد أمنمحات، فقد استفادت مصر من جهوده، كما استفاد بخبرته ولده سنوسرت الأول "خبر كارع" الذي طال حكمه أربعة وثلاثين عامًا فضلًا عن العشرة التي قضاها مشتركًا مع أبيه. وكان الابن خصيفًا ليم يسلم تمامًا بحرفية وصايا أبيه وأدرك أن دعوة الحذر التي دعاه إليها كانت مجرد رد فعل مؤقت للمؤامرة الغادرة التي صدم بها، فجرى مع روح عصره ولم يتردد في أن يقرب إليه ذوي الكفاية من رجال دولته، ويسر لهم السلطان الواسع تحت إشرافه. وترتب على ذلك أن وزيره "مونتوحوتب" لم يجد ما يمنعه من أن يشيد بنفسه الإشادة الواسعة تحت سمع مولاه وبصره. فذكر في نصوصه أنه كان ربانًا للشعب ... ، قيم القسطاس مثل الإله تحوتي "رب العدالة والميزان" ... ، وأنه كان يعتبر أخًا لهذا الإله "في عدالته وحكمته". ويعرف بواطن النفوس جميعها، كما كان حسن الإصغاء نافعًا حين الكلام حلالًا للمشكلات2. وفي كل هذا ما يعد بنا إلى صفات الحاكم الصالح والمواطن القادر التي دعا القروي الفصيح بمثلها أيام العصر الأهناسي.

_ 1 Pap. Millingen ; See, G. Maspero, Les Enseignements D' Amenemhail Ier, 1914 ; A. Erman, Die Lierotur Der Aegypter, 108 F. ; A. Volten, Zwei Altaeg. Politische Schriften, 1945; 2 G. Posener, Litterature Et Politique Dans L' Egypte De La Xlle Dynastil, 1956. Cairo 20539.

وسرت روح الطمأنينة التي شجعت هذا الوزير على أن يفخر بمكانته بين شعبه ويدعي الأخوة لربه، إلى كبار رجال الأقاليم المتمتعين برضا الفرعون وتأييده، فذكر رجل يدعى "أميني" كان حاكمًا على إقليم الوعل في مصر الوسطى أنه توخى العدالة المطلقة في حكم إقليمه، وأنه تنزه عما يأتيه أصحاب السلطة إذا توافرت لهم السلطة. فقال وهو يفخر بنفسه ويؤكد عدله: "لم أسئ إلى ابنة موطن قط، ولم أزجر أرملة، ولم أقس على مزارع، ولم أبعد راعيًا، ولم أحجر على عمال أو ريس أنفار في مقابل الضرائب المستحقة عليه، ولم يكن بين قومي بائس أو جوعان ... ، وعندما تعاقبت سنوات القحط أشرفت على استغلال إقليم الوعل من جنوبه إلى شماله، وكفلت الحياة لأهله ووفرت لهم الأقوات، فقل بينهم المحتاج، وأهديت الأرملة، كما أهديت ذات البعل، ولم أميز عظيمًا على فقير فيما أعطيته. وعندما عادت الفيضانات العالية وازدادت المحاصيل وتوفر كل شيء، تجاوزت عن متأخرات ضرائب المزارع"1. ولم يتردد الرجل مع شعوره بمكانته في أن يؤرخ نصوصه التي سجلها في مقبرته بتاريخ ولايته إلى جانب تأريخها بتاريخ حكم فرعون عهده2. وكان في سعة الألقاب التي ادعاها حكام الأقاليم حينذاك واحتفاظ أغلبهم بقوات محلية كبيرة في أقاليمهم، وجرأة مثل أميني على تأريخ نصوصه بسنوات ولايته، ما دعا الأستاذين هرمان كيس وألن جاردنر إلى اعتبار النصف الأول من عصر الأسرة الثانية عشرة عصرًا إقطاعيًّا من نوع جديد، لم تهن فيه سلطة الملوك، ولكن تضخمت فيه سلطة حكام الأقاليم برضا الملوك ولصالح الرعية3. واستمرت هذه الأوضاع قائمة في النصف الأول من عصر الأسرة، خلال عهدي كل من أمنمحات الثاني وسنوسرت الثاني. ثم اتجهت السياسة الداخلية وجهة مختلفة بعض الشيء في عهد سنوسرت الثالث "خع كاورع"، وكان فرعونًا طموحًا شديد المراس، عمل على أن يقلل سلطان حكام الأقاليم الذين آزرهم أسلافه وعلى أن يقضي على إصرارهم على توريث أبنائهم حكم أقاليمهم حتى ولو كان الوريث طفلًا صغيرًا4. فقلت في أواخر عهده الألقاب الضخمة التي اعتاد كبار حكام الأقاليم أن يدعوها لأنفسهم في حماية أسرته منذ أن استعان جده الأكبر أمنمحات الأول ببعضهم لتدعيم ملكه، كما قلت مقابرهم الضخمة الفخمة التي اعتادوا على أن يتخذوها في أقاليمهم5. ولو أن هذه السياسة التي اختطها لحكومته المركزية وعمالها لم تؤد إلى الإحجاف بالحقوق المشروعة والثروات المعقولة للعاملين المخلصين من حكام الأقاليم في عهده. ودل على ذلك أن تضمنت مناظر مقبرة حاكم منهم يدعى "تحوتي حوتب" في منطقة البرشة ما يصور تمثالًا ضخمًا يمثله، أذن الفرعون له بإقامته في مقصورة مقبرته، وذكر أن ارتفاعه يقرب من ستة أمتار وثلاثة أرباع المتر، وأنه تكفل بنقله وسار في الاحتفال بإقامته 172 رجلًا بين مأجورين ومجندين ومتطوعين6.

_ 1 Newberry, Bent Hasan. I, Pl. Viii; Bieasted, Op. Cit. 519, 523. 2 Ibld., 518. 3 Kess, Ancient Egypt. 318 ; Gardiner, Op. Cit., 129. 4 See, Breasted, Op. Cit., 631. 5 ألكسندر شارف، تاريخ مصر من فجر التاريخ – معرب بالقاهرة – ص100. 6 Newberry, El-Bersheh, I, Pl. Xv ; J. Vandier, Chroronique D'egypte, 1944, 185 F.

واستمرت مركزية الحكم قوية في عهد خلفه الملك أمنمحات الثالث "ني ماعت رع"، وحرص كبار رجال دولته على أن يسجلوا إخلاصهم له، وذهب من تمتعوا بإنعاماته إلى ما هو أبعد من حدود الإخلاص. فسجل رجل منهم يدعى "سحتب إب رع" على نصب أقامه في مقبرته، وصية طويلة وجهها إلى أولاده، أوصاهم فيها أن يخلصوا لفرعونهم قلبًا وقالبًا، ونبههم إلى أن الفرعون يفطن إلى ما في النفوس، وأن عينيه تخترقان الأجسام، وأن شأنه شأن الأرباب، وأنه يستطيع أن يحيي ويميت، وأن الخبر لأوليائه والحرمان لأعدائه ... ، ولا يخفى بطبيعة الحال أن سحتب إب رع تعمد بهذا الإسراف أن يتملق فرعونه لغرض في نفسه ولكثرة إنعاماته عليه، شأنه في ذلك شأن رجال البلاط والحاشية في كل عصر، غير أن المهم أنه لم يخص بالمبالغة فرعونه وحده، إنما مهد بها لتقريظ نفسه أيضًا، فقال وهم يفخر بكفاياته وسجاياه الخاصة التي أبلغته ما بلغه من عز وسؤدد في ظل فرعونه: "إني نبيل على رأس الناس، يرحب أهل البلاط بمقدمه ويفضي الناس إليه بأسرارهم ... ، رجل عدل في نظر أهل الصعيد والدلتا، شاهد صدق مثل الإله تحوتي، أشد دقة من الميزان ... ، مخلص النصيحة، يتحدث صدقًا، ويكرر ما يستحب، لا شبيه له، حسن الإصغاء، حلال للمشكلات ... ، صورة صادقة للود، بريء من ارتكاب الإثم ... ، يحيل البؤس سعدًا، ويدير الأمور إدارة صالحة ... "1.

_ 1 G. Maspero, Etude De Mythologie, Iv, 137 F. Breasted, Op. Ch. 745, 747.

في العمران

في العمران: بدأ مؤسس الأسرة الثانية عشرة حكمه في طيبة، واهتم بمعبد ربها آمون، ولكنه انتقل بعد سنوات بمقر حكمه إلى عاصمة جديدة شمالي الفيوم قرب بلدة اللشت الحالية وأطلق عليها اسم "إثت تاوي" بمعنى رابطة الوجهين أو القابضة على الأرضين. ونستطيع أن نعلل إقدامه على هذه الخطوة بعدة احتمالات، ومنها: رغبته في أن تصطبغ دولته بروح الجدة في مظاهرها ومخبرها معًا وأن تنتسب إليها عاصمة خاصة تذكر بها، ولعله تعمد أن يتخذ هذه العاصمة قرب منطقة بكر يمكن استغلالها في مشاريع زراعية جديدة، وهي المنطقة المحيطة ببحيرة الفيوم "وإن يكن استغلالها لم يتضح إلا في عهود خلفائه". ثم رغبته في أن تنتفع عاصمته الجديدة بخاصية التوسط النسبي بين أقاليم القطر، وأن تجعل بلاطه بعيدًا عن طيبة موطن أنصار الأسرة السابقة عليه، وأن تجعله هو على مقربة من أقاليم أنصاره الذين أزاد سلطانهم وأثابهم على تأييدهم له "في مصر الوسطى"، وكان عليه أن يظل متيقظًا لهم قريبًا منهم حتى لا يسيئوا استغلال السلطان الذي هيأه لهم. ومع ذلك احتفظت طيبة في بقية عهود الأسرة بمركز العاصمة الدينية، وكان مما استجد من عمائرها مقصورة حجرية شيدت في عهد سنوسرت الأول في رحاب معبد آمون بالكرنك، ولا زالت تعتبر من أمتع آثار الدولة الوسطى الباقية من حيث أسلوبها المعماري ومن حيث رقة نقوشها ودقة تفاصيلها. وقد بناها مهندسه فوق منصة مسطحة مرتفعة يصعد الزائرون إليها على طريق صاعد قصير خفيف الميل يتوسطه درج، ويهبطون منها على طريق آخر يماثله ويواجهه، ولم تكن المقصورة في حد ذاتها غير ساحة مستطيلة تحيط بها

أعمدة رباعية تتصل ببعضها بجدران منخفضة تجعل الساحة وراءها غير مكشوفة كلها ولا محجوبة كلها. ولا زال الرأي يتأرجح بين اعتبار هذه المقصورة الفريدة إحدى مقصورتين احتفل فيهما سنوسرت بعيد يوبيله الثلاثيني، بصفته ملك الصعيد في إحداهما وملك الوجه البحري في الأخرى، أو اعتبارهما استراحة تريح فيها مركب الإله آمون حين يطوف الكهنة بها في منطقة المعبد خلال أعياده. ولم يحل الاهتمام بمعابد طيبة دون العناية بمعابد العواصم الدينية الأخرى. فقد بقيت من عهد سنوسرت الأول مسلة من الجرانيت بلغ ارتفاعها نحو 22 مترًا، أقيمت باسمه في المطرية الحالية "وهي جزء من مدينة أونو القديمة إلى الشمال الشرقي من القاهرة"، بمناسبة احتفائه بيوبيله الثلاثيني، أمام محور معبد "أتوم". وتعتبر أقدم ما بقي كاملًا من المسلات الكبيرة. وربما جاورتها مسلة أخرى. وعن شرق الدلتا، تحدث المؤرخون والرحالة الإغريق والرومان: هيرودوت وديودور وإسترابون وبليني، عن قناة كانت تصل بين النيل وبين البحر الأحمر وتبدأ من الفرع البوباسطي للدلتا شمالي الزقازيق بقليل ثم تمتد خلال وادي الطميلات حتى تنتهي إلى البحيرات المرة. ونسب بليني أقدم مشروع لهذه القناة إلى عهد الفرعون "سيزوستريس". ورأى بعض المؤرخين ومنهم الأستاذ جيمس هنري برستد أن سيزوستريس هذا اسم محرف عن اسم سنوسرت الأول "أو هو سنوسرت الثالث وربما كان يعني رمسيس الثاني أيضًا"، وأن القناة بدأت في أيامه. ولكن عارض رأيهم باحثون آخرون ومنهم الأستاذ بوزنر الذي رجح أنه لم يكن لهذه القناة وجود بصورتها ووظيفتها آنفة الذكر حتى شقت في عهد الفرعون نيكاو في عام 600ق. م. على وجه التقريب1، ولا زال هذا الرأي الأخير هو المأخوذ به حتى الآن. وكشف فلندرز بتري حول هرم سنوسرت الثاني "خع خبر رع" في اللاهون قرب الفيوم في مصر الوسطى عن بقايا بلدة ترجع أهميتها الحضارية إلى أنها من أقدم البلاد المصرية واضحة المعالم التي تعرف الأثريون على رسوم مساكنها، بعد أن تعاون على إخفاء آثار أمثالها بناء بيوتها من اللبن سريع التهدم، واستخدامها للسكنى جيلًا بعد جيل، وقيام مساكن العصور اللاحقة لها على أطلالها. ولا تسبقها في القدم من آثار العمران التي كشف عنها حتى الآن غير مساكن حي لكهنة معبد الوادي لمنكاورع كشف عن جورج ريزنر، ومساكن حي لكهنة معبد الوادي لخنتكاوس كشف عنه سليم حسن، ثم مباني حي صناعي أقيم لخدمة معبد شعائر منكاورع كشفنا عنه في عام 1971 "وذلك فضلًا عن مباني أخرى أكثر عددًا من عصور لاحقة". وشاء حظ بلدة اللاهون أن شادها أصحابها في منطقة من مناطق الحواف الصحراوية الجافة ثم هجروها بعد إنشائها بأجيال قليلة لأسباب غير معروفة، فغطت الرمال على ما بقي من أطلالها وحفظت منها ما سلم من أيدي القرويين المنقبين عن قوالب اللين والسماد القديم. وهكذا كان للكشف عن بقايا أطلالها في أواخر القرن الماضي، صدى مستحب، وكتب عنها مكتشفها الأستاذ فلندرز بتري أن الأثريين لم يعودوا يتلمسون

_ 1 G. Posener, Chronique D'egypte, Xxvi, 1938, 259 F.

حياة الدولة الوسطى فيما صورته مناظر مقابرها وتحدثت عنه نقوشها فحسب، وإنما غدا في وسعهم كذلك أن يطرقوا الشوارع والأزقة التي مشى فيها أهلها ويريحوا فيها حيث كانوا يريحون. شيدت هذه البلدة وفقًا لتخطيط مرسوم، وخصصت مساكنها للمهندسين والفنانين والمعماريين والمشرفين الإداريين ورؤساء العمال والصناع الذين اشتركوا في بناء هرم سنوسرت الثاني وملحقاته، كما قامت فيها استراحة ملكية كان الفرعون يسكنها كلما تردد على منطقة هرمه. وأحاطت بالبلدة أسوار سميكة من اللبن ذات بوابتين. وانقسمت في داخلها إلى حيين متمايزين: حي لمساكن الخاصة، وحي آخر صغير لبيوت العمال والصناع. وقامت مساكن الحي الكبير على مثال الدوارات الريفية الواسعة، بحيث قيل إنه بلغت مساحة الواحدة منها نحو 2700 متر "؟ " وتضمن البعض منها في جنباته نحو سبعين حجرة وصالة ودهليزًا ومخزنًا، وتميز في كل منها جناح لرب الدر وضيوفه، وجناح للحريم وغرف النوم. وابتعدت عن الجناحين حجرات الخدم والمطابخ والمخازن. وتوزعت مساكن الخاصة هذه على جانبي شارع رئيسي متسع اخترقت أرضيته في وسطها قناة ضيقة، كسيت جوانبها بالحجر ومالت إليها أرضية جانبي الشارع حتى يسهل أن تنصرف إليها مياه البيوت ومياه المطر. وتفرعت من هذا الشارع الرئيسي طرقات ضيقة توسطت أرضياتها قنوات مماثلة. ويعتبر مثل هذا الإجراء شيئًا مبتكرًا بالنسبة لعصره البعيد. أما حي العمال فتضمن بيوتًا ضيقة متواضعة متلاصقة، واخترقه شارع رئيسي بلغ عصره ما بين ثمانية وتسعة أمتار، وتفرعت منه على جانبية إحدى عشرة حارة بلغ عرض كل منها نحو أربعة أمتار1. وعثر داخل بيوت اللاهون على كثير من بقايا أدوات الاستعمال اليومي، مثل الصناديق والمقاعد والحصير والصنادل والمغازل، ولعب الأطفال، فضلًا عن أدوات البناء وأدوات النجارة. غير أن أهم ما عثر عليه فيها هو مجموعة برديات كتبت بالخط الهيراطي وتضمنت موضوعات إدارية وتعليمية وطبية2. وتعلقت البردايات الإدارية منها بتعداد للسكان كان رب كل أسرة يذهب خلاله إلى مكتب حكومي يتبع ديوان الوزير في منطقته، فيدلي لموظفيه ببيان عن أفراد أسرته وأتباعه وأعمار أطفاله، ثم يقسم على صدق بياناته، ويستشهد على صحتها وصحة تسجيلها بعدد من الشهود. وينم هذه الإجراء عن رقي النظم الإدارية في أيامه والحرص على التدقيق في صحة بياناتها، وكان يمكن أن يعين على تصور أعداد سكان مصر في عصره لولا أن ما وجد من بردياته لا يزيد عن قصاصات صغيرة تخص بلدة اللاهون وحدها. وتضمنت البرديات ذات الصبغة الطبية جزءًا من بردية طبية لأمراض النساء، وجزءًا من بردية بيطرية لعلاج عيون وأسنان العجول والكلاب، وفي هذه وتلك ما يعني وضوح التخصص في العلاج، إن لم يكن في مهنة الطب نفسها، كما يعني روحًا رقيقة حانية دفعت أصحابها إلى العناية بحيواناتهم الأليفة وعلاجها. وتضمنت قصاصات اللاهون التعليمية تمارين لتعليم الإنشاء وصيغ الرسائل كان التلاميذ ينسخون دروسها وينسجون على منوالها،

_ 1 W.M.F. Petrie, Illahun, Kaham And Gwrob.., London, 1891, And See A. Erman, H. Ranke, Aegypten…, 197. 2 See. F. Ll Griffith, Hieratic Papyri From Kahum, London, 1898.

ثم تمارين حسابية ورياضية، كان أمتع ما فيها أخذها بطريقة التربيع والجذر المربع. وتضمينها مسائل تشبه معادلات الدرجة الأولى. ولعل أهم ما يذكر من المشاريع العمرانية لعهد أمنمحات الثالث، ولعهود الأسرة كلها، هو مشروع الانتفاع بمنخفض الفيوم وتوسيع رقعة الزراعة حوله. ولا تزال تفاصيل هذا المشروع على جانب من الغموض نظرًا لتضارب الروايات التي سجلها المؤرخون والرحالة الكلاسيكيون عنه1. ولكن الصورة العامة المحتملة له، هي أنه قام على أساس توجيه جانب من فيضانات النيل إلى بحيرة الفيوم الواسعة التي كانت لا تزال تحتفظ بعذوبة مائها، لرفع مستوى الماء فيها حتى تنتفع به أكبر مساحة ممكنة من أراضي المدرجات الخصبة التي تحيط بها، ثم الانتفاع ببعض مياهها المخزونة لري الأراضي القريبة منها في غير أوقات الفيضان. وتم المشروع ببناء سد أو سدود ذات فتحات في أضيق ممر ينفذ منه فرع بحر يوسف الحالي خلال جريانه إلى منخفض الفيوم، وذلك في جنوبه الشرقي عبر أخدود هوارة بين التلال الصحراوية شمال جبل سدمنت. وكان ممرًا يسمى "راحنة" بمعنى فم البحيرة، ثم تحرف اسمه إلى لاهنة وأخيرًا إلى لاهون وهو اسمه الحالي. وسمحت السدود الجديدة ذات الفتحات لرجال الري المصريين بأن يوجهوا مياه الفيضان توجيهًا سليمًا حين تجري على الانخفاض التضاريسي التدريجي من ضفة النهر حتى بحيرة الفيوم، وربما سمحت لهم من ناحية أخرى بإمكان تقليل أو وقف اتجاه الماء إلى البحيرة بعد الفيضان، وتوجيهه عوضًا عنها إلى قناة أخرى تجري إلى الشمال الشرقي منها. وأدى المشروع في نهاية أمره إلى استصلاح نحو ستة وعشرين أو سبعة وعشرين ألف فدان جديدة، كانت شيئًا كبيرًا في زمانها، استغلتها الدولة للزراعة وإنشاء القرى والمدن الجديدة. ويصور أهمية هذا المشروع وأن البلدان التي أنشئت معه ارتفعت نحو عشرين مترًا عن مستوى القرى القديمة التي سبقت عصره، وأن بعض بلدانه الجديدة التي جاورت البحيرة أصبحت مواقعها تبعد الآن عن ضفافها عدة كيلومترات بعد أن انكمشت مساحة البحيرة وانخفض مستوى مائها2. وكان إرساب الطمي داخل وشمال أخدود هوارة قد عمل من قبل على تكوين مثلث خصب داخل البحيرة قامت عليه مدينة شدة "أي الفيوم" التي جاء ذكرها في نصوص الدولة القديمة. ولتوسيع رقعة هذه الأرض الخصبة كان ينبغي تقليل اندفاع الماء إلى منخفض الفيوم بما يسمح بسهولة إرساب الطمي والتقليل من سرعة تبخر ماء البحيرة، ثم حماية هذه الأرض من طغيان الفيضانات المتتالية بعدد من الجسور وقنوات الصرف. وتحتمل بداية هذا المشروع في عهد الملك سنوسرت الثاني بإنشاء سد على فم أخدود هوارة بجوار اللاهون لتنظيم اندفاع الماء، ثم استكمل المشروع في عهد أمنمحات الثالث.

_ 1 Herodotus, Ii, 129; Strabo, Xvii, 809 F.; Diodorus, I, 51-52. 2 Cf. Pasarge, Fajum Und Moeris-See, Geogr. Zeitschrift, XLIV, 1946, 333 F ; Ali Shafei, Fayum Irrigation, Bull. De La Soc. Geog. Royale De L’egypte, XX, 1940; Cah, I, Ch. XX 49 F.

وربط بعض المؤرخين الكلاسيكيين بين اسم أمنمحات الثالث الذي ذكروه باسم Lamarres " ومترادفات أخرى" وبين بناء ضخم في منطقة الفيوم أطلقوا عليه اسم لابيرنثوس Labyrinthus ويختصر في العربية عادة إلى اللابيرنت، وهو اسم استعاروه من اسم قصر الحكم العظيم في مدينة كنوسوس بجزيرة كريت. ووصف هيرودوت المبنى المصري بأنه تألف من طابقين، وتضمن ثلاثة آلاف غرفة نصفها فوق سطح الأرض ونصفها تحتها. وتضمن اثنتي عشرة باحة مسقوفة بسقوف حجرية، تتصل كل منها بالأخرى، وتقوم على جوانبها أعمدة وتماثيل، وقام إلى خلف المبنى هرم ضخم، وأحاط به هو والهرم سور كبير. واعتبر هيرودوت اللابيرنت أجل من الأهرام المصرية نفسها، واعترف بأن آثار الإغريق لو تجمعت كلها في صعيد واحد لما طاولته في فخامته، وأضاف أن الكهنة سمحوا له بزيارة الأجزاء العلوية منه دون أجزائه السفلى التي أخبروه أنها تضمنت رفات اثني عشر ملكًا ورفات التماسيح المقدسة1. ووصف إسترابون اللابيرنت بوصف آخر، فاعتبره بناء منيفًا يقف على قدم المساواة مع هرم صاحبه الذي يجاوره، وذكر أنه تضمن قصورًا ذات طابق واحد وأبهاء احتفالات بلغ عدد كل منها عدد الأقاليم المصرية القديمة. واتصلت القصور والأبهاء بعضها ببعض بممرات وأقبية يتوه الغريب فيها ويصعب عليه أن يتلمس طريقه بينها دون دليل يرشده، ولعله لهذا أن سمى البناء باسم قصر التيه أو اللابيرنت. وسقفت كل وحدة من هذه الوحدات بحجر ضخم واحد. واعتاد ممثلو الأقاليم وكهنتها وكاهناتها أن يجتمعوا في أبهاء المبنى خلال الأعياد لتقديم القرابين وإقرار العدالة في شئونهم الكبرى2. على الرغم من هذا الوصف الممتع الذي ساقه هيرودوت وإسترابون، وساق مثله ديودور وبليني، دلت البحوث الأثرية على أن ذلك المبنى الذي دخل ذمة الأساطير كان معبدًا ضخمًا أقيم بجوار هرم أمنمحات الثالث لأداء شعائره الأخروية. ولو أنه لا يستبعد أن يكون أهل المنطقة قد استخدموه لأغراض أخرى بعد عهد صاحبه، مثل الاحتفال فيه بأعياد الفيضان وأعياد رب الفيضان، وأعياد سربك معبود منطقة البحيرة3.

_ 1 Herodotus, II, 148. 2 Strabo, XVII, 37 3 Kees, Op. Cit., 225; K. Michalowski, Jea, 1968, 219 F ; A.B. Lioyd, The Egyptian Labyrinth, Jea, 1970, 18 F.

في الأساليب الفنية

في الأساليب الفنية: تأثرت أساليب النحت في عصر الأسرة الثانية عشرة بمدرستين فنيتين: مدرسة في منف رجعت بتقاليدها الفنية إلى تراث الدولة القديمة وخلطت الواقعية بالمثالية في نحت تماثيل فراعنتها، فلم تكتف بأن تصور وجوههم وأبدانهم كما هي في واقع أمرها، وإنما تعمدت أن تضفي على هذه الوجوه والأبدان هيبة مطلقة وشبابًا خالدًا، وتقاطيع ملحية متناسقة، وانتصابة قوية كاملة، وهيبة مترفعة متسامية. ثم مدرسة أخرى في طيبة، استحبت الأسلوب الواقعي الذي بدأ عفوًا خلال عصر الانتقال الأول، واهتمت بدراسة

الوجوه، وعبرت عن ملامح أصحابها كما هي في واقع أمرها، وحاولت أن تترجم عن خصائص الطبع والمزاج التي فرقت بين كل فرعون وآخر من فراعنة عصرها. وبلغت هذه المدرسة ذروة نجاحها في منتصف عصر الأسرة الثانية عشرة، حين عبرت بالملامح الجادة القوية في وجوه تماثيل الفرعون سنوسرت الثالث، عن شخصية عسكرية عنيدة قوية الإرادة بلغ من حزم صاحبها أن أعلن تبرؤه من كل ولد له لا ينهج منهاجه في الحرب وحماية حدود بلاده وتوسيعها. بينما عبرت بالملامح الرصينة الطيبة في تماثيل الفرعون أمنمحات الثالث عن شخصية هادئة مالت إلى حياة السلم واستحبت مشاريع العمران. وهكذا كان أمرها في التمييز بين ملامح كل ملك وآخر من بقية ملوك الأسرة، مع الاحتفاظ لهم جميعهم بطابع أسري موروث كان من أوضح مظاهره بروز عظام الوجنتين. وعلى نحو ما درس الفنانون خصائص وجوه فراعنتهم؛ ليترجموا بها عن واقع حياتهم، جددوا في أوضاع تماثيلهم وعبروا بها عن حقيقة الصلات التي اعتقدوا بوجودها بينهم وبين أربابهم. فمثلوا الفرعون سنوسرت الثالث رجل الحرب العنيد بملامحه الجادة المعتادة، ولكن في لحظات خاصة لانت فيها شدته، ورق فيها عناده، ووقف فيها على هيئة المتعبد أمام ربه الذي يخشاه وينهج في حكمه وعدله بما يرضاه، فأرسل يديه متراخيتين على ساقيه في تقى وخشوع كريم، ونحتوا تماثيل ملكية أخرى، بقي منها ما يمثل الفرعون جالسًا يضع تمثال ربه على ساقيه، وما يمثله جاثيًا على ركبتيه يقدم آنيتين على يديه قربانًا لخالقه. ويغلب على الظن أنه شجع المدرسة الطيبية على أسلوبها هذا، انفعال فنانيها بالتطورات السياسية التي مست أوضاع الملكية في عصرهم ومن قبله في عصر الانتقال الأول. وهي تطورات كان من أوضح مظاهرها أن الفراعنة أصبحوا يعترفون بواجباتهم علانية إلى جانب حقوقهم، وأصبح بعضهم يتعرض للقتل في عقر داره، ويصرح بعجزه وهو وحيد أمام كثرة خصومه. وأصبح بعضهم يقود جيشه بنفسه ويقاتل مع المحاربين ويكافح فيما يكافحون فيه. وأصبح بعضهم يرضيه أن يوصف بأنه يعمل بيديه. وترتب على هذه التغييرات كلها أن أصبح الفنانون يعتبرون أن مظاهر الحياة الفعلية الصالحة التي عاشها فراعنتهم تكفيهم للتعبير عن مثاليتهم، وأن إظهارهم بمظهر الخاشعين لربهم لن يقلل من مكانتهم. وتأثرت تماثيل كبار الأفراد في عصر الأسرة الثانية عشرة بروح عصرها، وخضع بعضها للطابع الإقليمي إلى جانب المدرستين الفنيتين اللتين تأثرت بهما تماثيل الفراعنة. فقد مر بنا كيف توفر لحكام الأقاليم منذ أواخر عصر الأسرة الحادية عشرة وخلال النصف الأول من عصر الأسرة الثانية عشرة ثراء واسع هيأ لفنون أقاليمهم نصيبًا من الازدهار. وكان نصيب فن النحت من هذا الازدهار الإقليمي نصيبًا قليلًا، فخرجت تماثيله لا تخلو من خشونة نسبية، وإن دلت تقاطيعها على سحن إقليمية أو ريفية صادقة صميمة. ولم يكن ثراء حكام الأقاليم خلال عهود الأسرة الثانية عشرة بغير نتائج حضارية أخرى، فقد تضمنت مناظر مقابرهم صورًا تدل على أن اهتمام مجتمعهم بأمور الدين والآخرة لم يصرفه عن التماس متع الدنيا ومرحها ومن أمتع مناظرها ما صور رياضة البدن، الخفيفة منها والعنيفة. وكان للرياضة الأولى منهما تمارين تشبه

بعض تمارين الجمباز الحالية في أوضاعها بل وفي ملابس لاعبيها1، ومن أطرافها ما يصور غلامًا يعتمد على ناصية رأسه ويحفظ توازنه في استقامة كاملة بغير أن يرتكز على يديه أو كفيه2. كما كان منها ما يصور أوضاعًا مختلفة للعب البنات بكرات اليد الصغيرة3. وصورت الرياضة العنيفة تمارين المصارعة وحمل الأثقال وما يشبه القفز الطويل. وكانت المصارعة هي الأكثر شيوعًا، بحيث صورت لها إحدى لوحات المقابر 219 وضعًا لا يكاد يتشابه وضع منها مع الآخر. وذلك مما يعني أنه كانت قد استقرت لها قواعد وأصول منذ ما قبل أوائل الألف الثاني ق. م، وأن المصورين والهواة كانوا يستمتعون بها ويدركون ما بين كل وضع من أوضاعها وبين بقية الأوضاع من اختلاف. ولم تكن مبارياتها تستهدف حب الغلبة دائمًا بقدر ما تستهدف إظهار الفن والمران والترفيه أحيانًا. ففي بدايتها يقف المتباريان في مواجهة بعضهما في سماحة، بحيث يتمهل أحدهما حتى يفرغ زميله من عقد حزامه حول خصره، ثم يأخذان معًا في مباراة مهذبة وإن تكن جادة مجهدة في الوقت نفسه4. وقد ظهر من مبادئ المصارعة في مناظر أخرى لاحقة من عصور الدولة الحديثة ما يفهم منه أن المباراة كانت تبدأ بأن يشد كل لاعب على يد منافسه بيسراه ويجذب عنقه بيمناه حتى يتبين قوة غريمه ويعجم عوده، وأنه كان من شروط الفوز إجبار المغلوب على لمس الأرض بثلاث نقط مثل اليدين والركبة، ويتساوى حينذاك إن كان قد انكفأ على بطنه أم ألقي على ظهره أم تمدد على جنبه. ومن أساليب حمل الأثقال التي صورتها رياضة الدولة الوسطى رفع غرارة مملوءة بالرمل حتى ثلاثة أرباعها بيد واحدة إلى أعلى مع محاولة اللاعب الاحتفاظ بها في وضع رأسي ما أمكن5. كما كان من أساليب القفز الطويل أن يقفز اللاعب عاليًا على امتداد ظهر ثور واقف، أي فيما بين مؤخرته وبين قرنيه، في حين يمسك زملاؤه بقرني الثور وأطرافه حتى لا يتحرك فيؤذيه6.

_ 1 G. Wilkinson, A Popular Account Of The Ancient Egyptians, 1851, Vol. I, Fig. 203. 2 Newberry, Beni Hasan, Ii, Pl. XVI. 3 Ibid., Pls. Iv, XIII. 4 Ibid. Pls., V, XXXII. 5 Ibid., Ii, Pl., VII. 6 Ibid., Pl. XXXI. وراجع: عبد العزيز صالح: التربية والتعليم في مصر القديمة – القاهرة 1966، ص113 - 116.

في السياسة الخارجية

في السياسة الخارجية: قامت السياسة الخارجية لعصر الأسرة الثانية عشرة على أساس تغليب علاقات الود مع الدول المجاورة في الشام والعراق وجزر بحر إيجه، واتخاذ الصلات التجارية معها سبيلًا إلى التأثير الحضاري فيها. كما قامت على أساس توطيد النفوذ وتوسيع الإشراف والاستثمار على امتداد الحدود في الغرب والجنوب، أي في الصحراء الغربية والنوبة، مع إيثار السلام المسلح القائم على التحصين واليقظة في الناحيتين، وعدم الالتجاء إلى استخدام القوة فيهما إلا حين الضرورة.

وبدأ تنفيذ سياسة السلام المسلح منذ عهد أمنمحات الأول مؤسس الأسرة، فيذكر له من مشاريع عهده الدفاعية أنه شيدت في أيامه تحصينات طويلة امتدت على الحدود الشرقية والشمالية الشرقية وسميت في مجملها باسم "أسوار الوالي"1. كما كان من أثر تأمين سبل التجارة الجنوبية في عهده أن امتد التبادل الحضاري والإشراف السياسي المصري في بلاد النوبة حتى كورسكو "جنوبي دنقلة"2، وازدهر كذلك في "كرما" التي أطلقت النصوص على أسوارها اسم "أسوار أمنمحات المبجل"3. وذادت مصر عن حدودها الجنوبية في عهد سنوسرت الأول بعدة حملات حربية، وبزيادة حصونها الجنوبية ضد هجرات زنجية دفعت أمامها جماعات سودانية "؟ " إلى منطقة النوبة فأشاعت الاضطرابات فيها4. وأطلقت النصوص المصرية اسم "كاش" منذ ذلك الحين على منطقة النوبة العليا، التي تمتد من الشلال الثاني ناحية الجنوب، وقد حرف هذا الاسم فيما بعد إلى "كوش"5. وذلك في مقابل الاستمرار على تسمية منطقة النوبة السفلى التي تمتد فيما بين الشلال الأول والشلال الثاني باسم "واوات". وتتابعت بعثات الاستثمار حينذاك إلى مناجم الذهب في القسمين. وعين سنوسرت الأول حكامًا مصريين على المدن الكبرى ببلاد النوبة، وكانت أكبر هذه المدن هي مدينة "كرما" التي تقع خلف الشلال الثالث، وتعتبر الحد الشمالي للمناطق الزراعية في الجنوب، كما تعتبر سوقًا رئيسيًّا لتجارة القوافل التي تخرج منها غربًا إلى واحة سليمة ثم تتجه إلى درب الأربعين، أو تتجه منها شمالًا حتى الشلال الثاني6. واشتهر من ولاة سنوسرت على كرما الوالي "حعبي جفاي" وقد حظي بالسلطة والثراء في عصره فتلقب بلقب الرئيس الأعلى للجنوب، ورئيس زعماء الجنوب، ولم يتردد في أن يتغنى بمكانته ويفخر بنفسه في نصوصه، فذكر أن علماء الدنيا كانوا يقدرون سياسته، وأنه كان نجمًا هاديًا لأمثاله ومرشدًا لمن هم أكبر منه ... ثابت الفؤاد ... يخمن الأمور المستقبلة ويعرف ما في الصدور، فصيح اللسان لبق الكلام، ... اهتدى بعقله إلى سبيل الحسنى، وعرف دائمًا كيف يقدر خطواته ... 7. وشاء حظ حعبى جفاي أن يتوفى في كرما، وألا يدفن في قبر فخم شاده لنفسه في أسيوط، فدفنه أهل كرما وفق تقاليدهم المحلية وقيل إنهم وسدوا في الممر المؤدي على حجرة دفنه ما بين مائتين وثلاثمائة من أتباعه وخدمه النوبيين "ولسنا ندري هل تم ذلك في وقت واحد أم على فترات أصبح فيها مكان المقبرة مكانًا مقدسًا"، وضحوا له بألف ثور وضعوا رءوسها حول مقبرته8.

_ 1 Sinuhe, R 42 “Cf., Jea, I, 105; Anthes. Zaes, Lxv “1936”, 108 F. 2 Breasted, Op Cit., I, 472-473; Zaes, XX, 30. 3 جون ولسون: الحضارة المصرية – معرب بالقاهرة – ص235. 4 Junker, Jea, Vii, 121f ; G. Reisner, Excavations At Kerma; Harvard African Studies, Jv-V, 556; Gardiner, Op. Cit., 134. 5 Ibid., 134. 6 G. Reisner, Op. Cit., 56; Zaes, Lii, 34 F.; Saeve Soderbergh, Aegypten Und Nubie, 103 F. 7 Sethe, Urkunden Des Mittleren Reiches, I, Nr. 212 F. 8 G. Reisnre, Bull. Of The Mus Of Fine Arts, Boston, XIII, 72 F.; And See, Jea, V, 79 F.; F. Li. Griffith, Ibid.. X, 340 F.; Dunham, Ibid., 1958, 82 F.

وصورت جانبًا من علاقات مصر بمناطق الشام في عهدي أمنمحات الأول وسنوسرت الأول، قصة تسجيلية أدبية عرفت باسم قصة "سنوهي". وهي قصة رجل من بلاط أمنمحات ومن المتصلين بأجنحة بناته، صحب سنوسرت خلال ولايته للعهد في تجريده عسكرية إلى الصحراء الليبية الشمالية الغربية، وسمع خلال استعداده للعودة معه بنبإ وفاة أمنمحات، كما سمع لغطًا فهم منه وجود أخذ ورد بين الأمراء، واحتمل معه قيام مشاكل على ولاية العرش لا يدري كيف سيكون موقفه منها، فآثر البعد بنفسه، واعتزل الجيش خفية، وساقته قدماه إلى رحلة طويلة بلغ بها مشارف لبنان حيث طالت إقامته بجوارها سنوات طويلة، وأقدم فيها على مغامرات كثيرة، ثم حن إلى وطنه وعاد إليه شيخًا كبيرًا، وسجل قصته نثرًا شائقًا1، نستعرضه فيما بعد في فصل الأدب. ويكفي أن نستشهد من قصته هنا ببعض دلالاتها التاريخية، ومنها أن فكرة المصريين عن خشونة بدو الصحاري الشمالية الشرقية وشغبهم لم تمنع سنوهي من أن يعترف لبعضهم بالكرم والنجدة، ولم تمنع العواصم المصرية من أن تستقبل وفودًا منهم للتجارة أو للزيارة فيتعرفون فيها على شخصياتها البارزة التي يسمعون عنها. ويفهم من القصة كذلك أن اللغة المصرية، لغة سنوهي، كانت معروفة لبعض أهل الشام، وأن الرسل والتجار المصريين كانوا يترددون على نواحي لبنان حيث أقام، ويمرون بها إلى ما هو أبعد منها. وأن حكام الشام كانوا على اتصال بمجريات الأمور في مصر ويحبون أن يستزيدوا من أخبارها. وأن سنوهي اشترك بفرقة من أهل المنطقة التي نزلها في صد جماعات سمي رؤساءهم باسم "حقاو خاسوت" بمعنى حكام البراري، وهو نفس الاسم الذي أطلقه المصريون فيما بعد على زعماء الهكسوس، وذلك مما قد يعني أن بلاد الشام بدأت تتعرض منذ ذلك الحين لهجرات أجنبية عنها ليس من المستبعد أنها كانت تمثل أسلاف الهكسوس، وإن كانت هذه الهجرات لا تزال حينذاك قليلة ضعيفة. وترتب على جهود أمنمحات الأول ورجاله وجهود سنوسرت الأول ورجاله أن غلب السلام والأمن والرخاء على أحوال مصر وعلى حدودها ومسالك تجارتها وعلاقاتها الخارجية في عهدي كل من الفرعونين أمنمحات الثاني "نوب كارع" وسنوسرت الثاني "خع خبررع" "بين 1929 - 1877ق. م.". وأكدت الآثار المكتشفة عمق الصلات بين المصريين وبين أهل الشام في ذلك الحين، فعثر في نواحي فلسطين وسوريا وفينيقيا، في مثل مدن جزر ومجدو وجبيل ورأس الشمرا وقطنة وعطشانة وغيرها، على تماثيل وأوان وجعارين وأختام نقشت بأسماء أفراد مصريين ترددوا على بلاد الشام وتعاملوا مع أهلها، وكان منهم رسل من البلاط الفرعوني وحكام أقاليم وأفراد عاديون لعلهم من التجار عمل بعضهم لحسابه الخاص وعمل بعضهم الآخر لحساب دولته وملكه2.

_ 1 A.M. Blackman, Middle Egyptian Stories, 1932, 1 F.; Gardiner, Notes On The Story Of Sinuhe, 1916; J.J. Clere, In Melanges Offerts A Rene Dussaud, 1939, Ii, 829 F.; H. Goedike, Jea, 1957, 77.; 1965, 29 F. 2 J. Wilson, “Egyptian Middle Kingdom At Megiddo”, Ajsl, 1941, 235f.; P. Moonter, Byblas Et L’egypte; Dunand, Fouilles De Byblas, 1939; Sidney Smith, Chronique D’egypte, 1940, 75 F.

وسوف نعرض لخصائصهم الجنسية وملابسهم القومية وما يحتمل أنهم كانوا يقومون به من أعمال، في بحثنا عن حضارات أهل الشام. ويعنينا أن نشير هنا إلى أنه يصعب أن نتصور أن جماعة إبشا قد هدفت حين خروجها من ديارها في فلسطين أو فيما ورائها، أن تقصد إلى إقليم الوعل بمصر الوسطى بالذات وهو البعيد عن موطنها، وإنما يغلب على الظن أن التجاءها إليه أتى عفوًا وكان مرحلة من مراحل تنقلاتها في سبيل العيش هنا وهناك. ويغلب على الظن أيضًا أن جماعات أخرى أمثالها كانت تعيش في مراكز متفرقة من شرق الدلتا وما يليه من مناطق الحواف وهي مناطق أقرب إلى مواطنها الأصيلة وأقرب إلى بيئتها الطبيعية. واحتفظت نصوص مصرية أخرى من عهود الدولة الوسطى بأسماء أمورية وكنعانية كثيرة عمل بعض أصحابها في مناطق المناجم والمحاجر المصرية في سيناء وعمل بعضهم الآخر أبتاعًا وإماء في المعابد والبيوت المصرية1. ولم تقتصر اتصالات مصر الخارجية حينذاك على بلاد الشام بأجزائها والنوبة بقبائلها وبلاد بوينة وما هو قريب منها، وإنما امتدت واتسعت مع أقطار أخرى عرفها المصريون منذ عصور بعيدة. فقد عثر تحت أرضية معبد مصري في بلدة الطود جنوبي الأقصر على أربعة صناديق صغيرة تضمنت تمائم من اللازورد وأختامًا أسطوانية عراقية ذات أسلوب يرجع إلى عصر أسرة أور الثالثة السومرية، وتماثيل ذات طراز بابلي. ومصوغات ذات طراز إيجي2. وعثر في منطقة هوارة ومناطق مصرية أخرى متفرقة على أختام وأوان ذات زخارف تشبه زخارف الحضارة الكريتية المينوية الثانية3. كما عثر بالتالي على مصنوعات مصرية متنوعة وتماثيل بنقوش مصرية في عواصم جزيرية كريت4. وكانت الموانئ الفينيقية فيما يبدو من مراكز انطلاق الاقتصاد المصري إلى جزر إيجه وكريت، وربما تعاون مع المصريين في عمليات التسويق هنا وهناك تجار وملاحون من الفينيقيين5. وهناك ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الصلات التجارية بين مصر وبين كريت وغيرها من جزر بحر إيجه لم تخل من أثر في الحياة الثقافية للجانبين، فقد أشار مصري مثقف من ذلك العصر إلى أنه كان يمسك "قلمي "الحاونبو"6، وربما بما يعني أنه كان يعرف خطي الحاونبو ويكتب بهما، وكان لفظ "الحاونبو" هو الاسم المصري لسكان جزر الحوض الشرقي من البحر المتوسط. وإذا صح هذا التفسير أمكن أن يدل على أحد أمرين: إما وجود جاليات إيجية تجارية في العواصم المصرية والموانئ المتصلة بها في الشام، واتصال

_ 1 Archiv Orientalni, Vii, 1935, 384 F.; Lange-Schaeier, Grab Und Grabsteine, I, 196; Ii, 177-178; F.L. Griffith, Kahan…, 12, 10; W.C. Hayes, Apapyrus Of The Late Middle Kingdom In The Brookiyn Museum, 1955; G. Posener, Syria, 1957, 145-63. 2 J. Vandier, Syria, 1937, 174 F., Pls. Xxviii-Xxix; Bisson De La Roque, Tod, 113 F. 3 Hall, Jea, Ih, 110 F.; Peet, Ann. Of The Brit. School Of Athens, Xvii, 250 F.; Glotz, La Civilisation Egeene. 1923, 47f., 235f. 4 Ibid.; Porrer And Moss, Op. Cit., Vii, 405; Gardiner, Op. Cit., 137. 5 Ibid., 132; Kees, Op. Cit., 139. 6 دريوتون وفاندييه: مصر – ص287. Petrie, Kahum, 42f.; Lllahum, 9 F.

الموظفين المصريين بها ومعرفتهم بكتابة أهلها. أو وجود مترجمين مصريين في البلاط الفرعوني كانوا يقرءون الرسائل الإيجية التي ترد إلى مصر ويردون عليها بلغة أهلها. وتدعو عبارة قلمي الحاونبو إلى تذكر وجود مرحلتين للخطوط الإيجية " Linear A & Linear B" وإن كان يبدو أن ظهور المرحلة الثانية منهما كانت متأخرة عن عصور الدولة الوسطى في مصر. وواجهت مصر في عهد سنوسرت الثالث "خع كاورع" تحركات مريبة قرب حدودها الشمالية والجنوبية فاضطر الرجل إلى الاستعانة في سياسته الخارجية بالقوة المسلحة في سبيل تأمين الحدود وتأمين سبل التجارة وبث الاحترام في نفوس الجيران. وترأس أغلب حملاته بنفسه، فقادها إلى أواسط فلسطين وكانت له معركة فيها قرب سكيم أوسشم الحالية1. وكانت عواقب سياسة السلام التي نهجتها مصر في عهدي سلفية أمنمحات الثاني وسنوسرت الثاني، أشد خطرًا في الجنوب عنها في الشمال، فقد ظلت هجرات الزنوج التي بدت بوادرها منذ عهد سنوسرت الأول تدفع أمامها قبائل سودانية "؟ " إلى أراضي النوبة، وقد حاولت هذه أن تسيطر على طرق القوافل بين النوبة وبين مصر، وربما نجحت في دفع الحدود المصرية ناحية الشمال إلى ما يقرب من الشلال الثاني، فحاربهم سنوسرت الثالث أربع مرات، ومهد لحروبه معهم بشق فتحة واسعة بين صخور الشلال الأول، بلغ عرضها 20 ذراعًا، وبلغ طولها 150 ذراعًا، وبلغ عمقها 15 ذراعًا، كما روت نصوصه2، لتيسر انتقال أسطوله وجيشه وتيسر وصول الإمدادات إليه. وأزاد رجاله الحصون فوق المرتفعات وعلى ضفتي النيل وفوق الجزر، من أسوان حتى وادي حلفا3. وتخلفت من هذه الحصون بقايا حصنين كبيرين في سمنة وقمة على جانبي النيل شمالي وادي حلفا. وقام كل حصن منهما فوق ربوة عالية، وبلغ ارتفاع جدرانه ما يتراوح بين عشرة أمتار وبين اثني عشر مترًا، وأحاطت به الأبراج، وتضمن في داخله مساكن الجند ومعبدًا صغيرًا يؤدون شعائرهم فيه لأربابهم المصريين وبعض أرباب النوبة4. وترك سنوسرت في معبد حصن سمنة نصبين من الجرانيت سجل كاتبه على أحدهما سياسته الحدودية، وسجل على الآخر تفاصيل حروبه وشجاعته فيها، فذكر في نصوص النصب الأول أنه أقامه في العام الثامن من حكمه ليعين به حدوده الجنوبية، وأمر ألا يتعداه زنجي قط عن طريق البر أو عن طريق النيل، إلا من ابتغى التجارة في سوق إيقن الكبير، أو أوفد في مهمة، فأولئك سوف يعاملون بالحسنى "مما يتفق مع قواعد المعاملة الدبلوماسية"، ولكن بغير أن تتعدى سفنهم شمالي سمنة5. وحظي الرجل بنصيب كبير من تمجيد شعبه، ودبج الشعراء قصائدهم في مدحه، واحتفظت الأجيال بذكراه، فظلت بعض حصون النوبة تسمى باسمه، وذكره تحوتمس الثالث أعظم الفراعنة المصريين المحاربين

_ 1 Breasted, Op Cit., I, 676 F.; Gardiner, Op. Cit., 132. 2 Berlin 14753: K. Sethe, Lesestucke, 85. 3 Saeve Soderbergh, Op. Cit. 89 F. 4 Clarke, Jea, Iii, 174 F. 5 Berlin 14753: Sethe, Op, Cit., 83 F.

بالخير بعد نحو أربعة قرون من وفاته وشاد له نصبًا باسمه. وعندما وفد المؤرخون الإغريق والرومان إلى مصر سمعوا عنه حكايات شائقة وخلطوا بين أعماله وأعمال سنوسرت الأول وأعمال رمسيس الثاني، وضخموا فيها حتى نسبوا إليه باسم سيزوستريس فتوحات واسعة في آسيا الغربية وأوروبا الشرقية. وذكر المؤرخ المصري مانيتون السمنودي أنه اهتم بتسجيل أحوال الناس أينما ذهب، وأنه حدد جماعات النبلاء والنبيلات على النصب. ثم ذكر ديودور الصقلي أنه تحقق من أن سيزوستريس هذا أو سيزوسيس نشأ على طبيعة الحرب منذ صغره، وأنه تحبب إلى رعيته ليساندوه في مشاريعه، واتخذ بطانة من أترابه الأشداء، وفتح بلاد العرب والحبشة والهند وبلغ البحر الأسود ووصل تراقيا وجعلها حدود ملكه1. وليس في كل هذا بطبيعة الحال ما يلزمنا بالتسليم به؛ نظرًا لعدم العثور على أدلة مادية تزكيه، ولكن حسبنا منه أن أعمال المشاهير والشجعان من الرجال كانت تخلد وتتضخم أنباؤها مع الزمن حتى تشبه الأساطير وتصبح مثارًا لفخر خلفائهم. غلب السلام على عهد أمنمحات الثالث "ني ماعت رع" في الخارج وفي الداخل، فاتسع نشاط الدولة في استغلال موارد الصحراء الطبيعية من معادن وأحجار على أيامه. واتسعت صلات مصر التجارية والثقافية بمناطق الشام، لا سيما دولتي الميناءين التجاريين جبيل وأوجاريت، وعثر في مقابر أمراء هاتين الدولتين وغيرهما من دويلات الشام على آثار مصرية وصلتهم على هيئة الهدايا من أمنمحات الثالث وخلفه أمنمحات الرابع2. وعثر لأمنمحات الثالث على تمثال على هيئة أبو الهول أقيم لدى مدخل معبد الإله بعل في أوجاريت وذلك مما يتفق مع ما أسلفناه من أن الصلات التجارية كانت تعقبها صلات حبية ودينية في أغلب الأحوال. وكان الحرص على استمرار العلاقات الطيبة بين مصر والشام، حرصًا مشتركًا بين الطرفين، ولم يكن يعتمد على دافع واحد، فمصر على سبيل المثال لم تبن علاقتها بجيرانها الشماليين على أساس الرغبة في فتح أسواق فيها لتصريف مصنوعاتها فحسب، ولا على أساس الرغبة في استيراد أخشابها وزيوتها فحسب، ولكن كان يعنيها كذلك أن تستورد ما كان يتجمع في موانيها من منتجات الحوض الشرقي للبحر المتوسط من فضة وزيوت ومعادن وأحجار كريمة، وأن تستورد ما كان يتجمع في أسواقها الداخلية من منتجات بلاد النهرين وإيران والأناضول وشبه الجزيرة العربية، ويعنيها أن تظل روابطها بفلسطين قوية باعتبارها العصب الرئيسي لتجارتها البرية مع ما يليها من بلاد الشام. وعلى نحو ما حرصت مصر على بقاء شرايين اتصالاتها بجيرانها مفتوحة ومأمونة، وجدت المدن والدويلات الصغيرة في فلسطين وسوريا وفينيقيا في مصر خير عميل للتبادل التجاري الواسع معها، ومصدرًا رئيسيًّا للتبادل الحضاري بمعناه الواسع، وكان يعنيها على وجه الإجمال أن تظل علاقاتها بمصر القوية الغنية

_ 1 Diodorus, I, 53 F. 2 J. Wilson, Ajsl, Viii, 1941, 235; Porter And Moss, Op. Cit., Vii, 386.

طيبة، لولا مشاكل الحدود التي كانت تنشب بين الحاميات المصرية وبين بدو الصحاري الفلسطينية من حين إلى آخر. ولم تأب مصر من ناحيتها أنت تفتح مجالات العمل أمام الراغبين فيه من شيوخ جنوب الشام ورجالهم في عمليات استغلال الفيروز في شبه جزيرة سيناء، ولم تأب أن تفتح أمام الراغبين منهم في الاستقرار فيها باب الوظائف في عاصمتها ذاتها1. أعقبت اسم أمنمحات الثالث ثلاثة أسماء ملكية من أسرته، لا زال النقاش قائمًا حول ترتيب أصحابها وعهودهم وطريقة حكمهم، وهي أسماء: أمنمحات الرابع "ماعت خرورع"، وحور آوت إب، وسوبك نفرو. وندع مناقشة أمر الاسمين الأولين إلى كتابنا المتخصص في حضارة مصر القديمة وآثارها، ونكتفي هنا بالاسم الأخير منها، وهو اسم ملكة كتب بمترادفات عدة مثل سوبك كارع، وسوبك نفروع2. ولعلها كانت الابنة الكبرى لأمنمحات الثالث واشتركت في الحكم معه ثم مع أخيها أمنمحات الرابع، ولما مات أبوها، ثم أخوها بعد فترة حكم قصيرة، انفردت بالعرش واعتمدت على مكانتها وشهرتها منذ عهد أبيها، وحاولت أن تهتدي بسياسته في السلام والتعمير، وعلى اعتبار أنها السياسة المناسبة لحكم الملكات، لولا أن حظها العاثر شاء أن يختل الأمن في عهدها، وألا يكون في سوابق حكم الملكات المصريات ما يشجع على الإخلاص لحكمها، وأن تظره بوادر هجرات شعوبية وقلاقل وراء الحدود الشمالية الشرقية، فمضت أيامها بغير آثار هامة تذكر لها، ولم يطل حكمها أكثر من ثلاثة أعوام وما بين الأربعة شهور والعشرة، وانتهى بنهاية عهدها عصر الأسرة الثانية عشرة في عام يتراوح بين 1786 وبين 1778ق. م.3.

_ 1 Archiv Orientalni, Vii, 1935, 384 F.; Chronique D’egypte. 1950, 50 F. 2 Newberry, Jea, Xxix, 1943, 74-75; H. Gauthier, L.R., I, 341. 3 Edgerton, Jnes, I, 307 F.; Saeve Soderbergh, Jea, Xxxvii, 1951, 53; And See Gardiner. Op. Cit., 125 “1786 B C”.

الفصل الثامن: عصر الانتقال الثاني أو عصر اللامركزية الثانية

الفصل الثامن: عصر الانتقال الثاني أو عصر اللامركزية الثانية أولًا: عصر الأسرة الثالثة عشرة في نصفه الأول: انتقلت مقاليد الحكم في مصر من الأسرة الثانية عشرة على أيد حاكمة جديدة في أواخر الربع الأول من القرن الثامن عشر ق. م، بوسائل غير معروفة، وتعاقب على عرشها ملوك لم يستطع كاتب بردية تورين التاريخية أن ينسبهم على بيت معين أو عاصمة واحدة، ويبدو أنهم كانوا من بيوت عدة، استحب بعضهم مدنية طيبة عاصمة له واستحب بعضهم الآخر مدينة إثت تاوي عاصمة له، وانتسب هؤلاء وهؤلاء في أسمائهم إلى معبودي العاصمتين، آمون وسوبك، وحرص بعضهم على التسمي بأسماء تشبه أسماء ملوك الأسرة الثانية عشرة مثل أمنمحات وسنوسرت، وأسماء تشبه أسماء مؤسسي الأسرة الحادية عشرة السابقة لها مثل اسم إنتف، ليعبروا في الحالتين عن وراثتهم الشرعية للأسرتين. ظلت وحدة البلاد قائمة في بداية هذا العصر من الناحية الشكلية، واستمرت أعمال تعداد السكان وإحصاءات المواشي والعقارات تجري في مكاتب الإدارة المحلية والإقليمية وورث الحكام الجدد عن الأسرة السابقة لهم حدودًا جنوبية تمتد إلى ما بعد الشلال الثاني عند حصني سمنة وقمة فحافظوا عليها لفترة قصيرة، وسجلت بردية من أوائل عهودهم بقاء ثلاثة عشر حصنًا1 نشطت فيها دوريات مراقبة الوافدين عبر الحدود. ورددت أكثر رسائل حاميات هذه الحصون ما يفيد استتباب الأمن على مناطق الحدود لولا أنه كان استتبابًا خادعًا كما سنتبين بعد قليل. وكان من قول أصحابها فيها "إن أملاك الملك سالمة صحيحة، وكل أموره هنا باقية سلمية"2. ثم ما لبثت عهود النصف الأول من هذه العصر أن تخللتها فترات اضطراب داخلي لا نعرف شيئًا عن تفاصيلها غير ما نمت عنه بردية تورين من قصر فترات حكم ملوكها ومرور ست سنوات بغير ملك يعترف به الجميع. وليس من المستبعد أن يكون قد ترتب على تلك الفترات المضطربة اضطرابات أخرى خارجية أحاطت بالإشراف المصري في الشمال وفي الجنوب، حتى ولي العرش رجل من خاصة الشعب يدعى نفر حوتب "خع سخم رع" استعاد وحدة بلاده ووجد اسمه على بعض آثار وادي حلفا في الجنوب، كما عثر على نصب في فينيقيا بالشام يصور "يوناثان" أمير جبيل جالسًا أمام شخص عظيم اختفت صورته، ولكن النصوص المدونة إلى جانبه رجحت أنه الفرعون المصري نفر حوتب "خع سخم رع"3.

_ 1 Gardiner, Ancient Egyptian Onomastica, 1947, Vol. I, Pp. 10-11. 2 Smither, Jea, XXXI, 1945,3 F. 3 Dussaud, Les Peuples De L’orient Mediterraneen, Ii, L’egypte, 278.

وجريًا على عادة أغلب الحكام الجدد غير ذوي الدم الملكي الموروث، تعمد نفرحوتب أن يظهر تقواه وعلمه أمام أفراد شعبه لكي يؤكد لهم أنه لا يقل عن ورثة البيوت المالكة القديمة حرصًا على التراث المجيد، فسجل باسمه نصًّا طريفًا، تحدث فيه عن رغبته الملحة في أن يزور مكتبة معبد الإله أتوم في مدينة عين شمس ليطلع في وثائقها القديمة على الصورة الأصلية لإله الغرب أوزير وهيئة جسده وأطرافه، حتى يوصي رجاله بصنع تماثيله على منوالها. وروى كيف أفضى برغبته هذه إلى رجال حاشيته العلماء فاصطحبوه إلى المكتبة حيث فتح الوثائق بنفسه وعرف منها ما لم يعرفه غيره1.ثم حضر الملك نفسه عبد المعبود أوزير في أبيدوس، وجمع كهنته وأوصاهم بعدم التهاون في مراسيم معبدهم وطقوسه، وقال لهم بعد حديث قصير: " ... أنا الملك، عظيم البأس، شديد الإدارة، لن يحيا من يعاديني، ولن يتنفس الهواء من يتآمر ضدي، لن يبقى له اسم بين الأحياء، ولسوف تزهق روحه أمام الموظفين يطرد من عند هذا الإله هو ومن لا يهتمون بأمر جلالتي ومن لا يعملون بأمر جلالتي ... "2. ولم تكن نغمة التهديد هذه معهودة من فراعنة العهود المصرية المستقرة، ولم يكن من داعٍ لذكرها بين الكهنة ما لم تكن قد أحاطت بصاحبها الذي ولي العرش بمجهوده حركات عصيان أجبرته على أن يردد تهديده ووعيده في كل مناسبة تسنح له ولو في وسط الكهان وداخل أروقة المعابد. وظهر من أسماء خلفاء نفر حوتب على العرش، اسم خنجر، وهو اسم غريب بعض الشيء عن الأسماء المصرية المألوفة، وتسمى به ملك أو ملكان، وقص كاهن من معاصري خنجر "الأول؟ "، يدعى "أميني سنب" قصة طريفة تكشف عن بساطة العلاقات بين الحكام والمحكومين في عهده، وقال فيها: "أتاني كاتب الوزير وهو ولده سنب، ودعاني باسم والده، فذهبت معه ووجدت الوزير محافظ العاصمة عنخو في ديوانه، فأصدر إليَّ أمرًا قائلًا: تقرر أن تتولى ترميم معبد أبيدوس وسوف يصحبك الفنانون لإنجاز هذه المهمة ويصحبك كهنة مخزن القرابين بالمنطقة ... وقام أميني سنب بمهمته ولقي جزاءه الذي ختم روايته عنه بقوله "وهكذا حققت أملي، ورضي الرب عني، وأثنى الملك علي". وظلت قصور ملوك هذه الفترة عامرة بموظفيها وحشمها وخدمها ومراضعها وجواريها، وبأهل الموسيقى والطرب وجماعات الصناع والعمال، فضلًا عن سكانها من الأمراء والأميرات. وكانت تجري عليهم جميعهم رواتب مقررة، احتفظ سجل يومي من عهد ملك يدعى "أمنمحات سوبك حوتب" بصورة لها ضمنها تفاصيل الدخل والخرج يومًا بيوم لفترة اثني عشر يومًا. ويفهم من هذا السجل أن مخصصات القصر كانت نوعين: مخصصات دائمة تكلف بأدائها ديوان رأس الجنوب وديوان مدفوعات الناس والخزانة، ومخصصات طارئة غطت مصاريف المكافآت، والحفلات الخاصة، وكان الوزير أو من ينوب عنه هو المسئول عنها3. وكانت واردات القصر ومصروفاته، على الرغم من كثرة الحفلات والمكافآت التي تحدث السجل عنها في فترة الاثنى عشر يومًا، هزيلة تنم عن فقر الملكية في عهدها قياسًا إلى الثراء الواسع الذي اشتهرت به ملكية الأسرة الثانية عشرة وملكيات الدولة القديمة.

_ 1 Mariette, Abydos, Ii, 28-30; Breasted, Op. Cit., I, 755.; Max Pieper, Die Grosse Inschrift Des Koenigs Neferhotep, 1929. 2 Mc Iver, El-Amrah And Abydos, Pl. XXXIX. 3 Pap. Boulaq XVIII; Zaes, XXIII, 56 F.; XXIX, 100 F.; LVII. 46. 70.

مظاهر الأفول في النصف الثاني لعصر الأسرة الثالثة عشرة

مظاهر الأفول في النصف الثاني لعصر الأسرة الثالثة عشرة: انتقلت مقاليد الحكم من أولئك النفر من الملوك إلى ملوك آخرين وثبوا على العرش واحدًا بعد الآخر، لم تلعب الوراثة بينهم دورًا واضحًا ولم تربط بينهم صلات قرابة ظاهرة. وإنما جمعت بين عهودهم روابط أخرى من قلة الاستقرار وفساد الإدارة وتفرق الكلمة واضطراب حبل الولاء في الداخل وفي الخارج. وصورت حال مصر إبان فترات حكمهم أربعة مصادر، وهي: بردية تورين، وآثارهم القليلة القائمة، ونصوص تسمى اصطلاحًا نصوص اللعنة، ثم تعليقات المؤرخ المصري مانيتون. فقد بقي من أسماء أولئك الملوك على بردية تورين نحو ستين اسمًا، وردت في غير ترتيب يعتمد على صحته. وحكم ثلاثة وعشرون منهم في اثنين وخمسين عامًا بمعدل يزيد عن العاملين بقليل لكل منهم. ويعتقد الأستاذ ألن جاردنر1. أن البردية كانت تتضمن أصلًا نحو مائة وثمانين اسمًا من ملوك الأسرة، وهو لو صح عدد ضخم لم يسبق أن تواتر مثله لأسرة مصرية حاكمة، وليس في ذلك غير ما يدل على اضطراب الحكم في نهاية عصر الأسرة بوجه خاص، وعلى أن ملوكها لم يأمنوا البقاء على عروشهم لفترات طويلة. وليس من المستبعد أن بعض أصحاب تلك الأسماء الملكية الكثيرة كانوا متعاصرين يحكم كل منهم منطقة محدودة من أرض مصر، ولكنه يدعي لنفسه صفة الملك وينتحل على آثاره وبين رعاياه ألقاب الفراعنة. وزكت الآثار القائمة هذا الاحتمال الأخير، فعثر لبعض ملوك العصر الأواخر على آثار في الصعيد دون الوجه البحري، والعكس بالعكس صحيح، وذلك مما ينم عن تفتت وحدة البلاد في عهودهم وضآلة الإمكانيات السياسية والمادية التي توفرت لهم. وصورت نصوص اللعنة الظروف السابقة نفسها من زوايا أخرى، وكانت عبارة عن دعوات كتبها الكنهة "السحرة" بالمداد الأحمر على قدور من الفخار الأحمر وتماثيل صغيرة من الصلصال، وصبوا اللعنة فيها على أفراد من البلاط الفرعوني، ونفر من حكام النوبة وعدد من شيوخ الصحراء الليبية وعدد من حكام القبائل والمدن في جنوب الشام2. وكان من المفروض أن يجمع الكهنة هذه القدور والتماثيل الصغيرة بأسمائها الملعونة، ويتلوا عليها قراءات سحرية معينة ثم يحطموها في حفل خاص؛ أملًا في أن يؤدي تحطيمها إلى تحطيم عزائم المذكورين عليها. وكل ما يعنينا الآن منها هو دلالتها على أن الأخطار التي تعرض لها أمن

_ 1 Gardiner, The Turin Canon Of Kings, 1952, 1959. 2 K Sethe, Die Aechtung Feindlicher Fursten, 1926; G. Posener, Princes Et Pays وارجع بعض هذه الأسماء ودلالتها في الجزء الخامس ببلاد الشام من هذا الكتاب. D’ Asie Et De Nubie, 1940.

البلاد في أواخر عصر الأسرة الثالثة عشرة لم تتأت عن أصحاب المطامع البعيدين عن العرش فحسب، وإنما تأتت كذلك من اضطراب الأمن في البلاط الفرعوني نفسه، واضطراب الأمور في جنوب مصر وشمالها الشرقي أيضًا. ويعنينا كذلك منها أنه لما أن عزت القوة المادية والحربية على حكام مصر حينذاك، اعتمد أعوانهم على طرق السحر والشعوذة وهي شر الطرق وأضعفها1. وظل اضطراب الأمور فيما وراء الحدود الشرقية والشمالية الشرقية هو الخطر الأكبر، وقد استفحل شره حتى انتهى إلى نتيجة صورها المؤرخ المصر مانيتون، ونقلها عند المؤرخ اليهودي يوسيفوس، فقال في حديثه عن ملك ذكره باسم "توتيمايوس" "ددومس": "وفي عهده، كيف لا أدري، عصف بنا غضب الرب، ووفد غزاة من الشرق مجهولو الأصل إلى أرضنا دون توقع، وكلهم أمل في النصر، فهاجموها عنوة واستولوا عليها بسهولة، وتغلبوا على حكامها، وحرقوا مدننا في وحشية، وسووا معابد الأرباب بالأرض، وعاملوا المواطنين بخشونة وفظاظة، وذبحوا بعضهم واسترقوا نساء بعض آخر وأطفالهم". وفي رواية مانيتون ما يشير إلى صعوبة التعرف على الأصول الجنسية للغزاة، وهذا حق، وما يشير على عنفهم والأضرار التي لحقت بمصر من جراء غزوتهم، وهذا أمر طبيعي منتظر من كل غاز، وفيها كذلك ما يشير على حيرته في معرفة أسباب حلول هذه النكبة ببلده، وكان بوسعه أن يخمنها فيما أصابها من تفكك وحدتها وتفرق كلمتها. وفي نهاية حديثه عن الغزاة، ذكر مانيتون أن جنسهم كان يسمى في مجموعه باسم الهكسوس2 ... وهؤلاء هم موضوع البحث التالي.

_ 1 وقد عرفت لها أمثلة قديمة ولكنها كانت قليلة منزوية Cha 1964. I, Ch. XX, 47. 2 Josephus, Contra Apionem, I, 14.

ثانيا: محنة الهكسوس

ثانيًا: محنة الهكسوس لم تعبر تسمية الهكسوس في أصلها عن شعب معين بقدر ما عبرت عن صفة لمجموعة من الحكام أطلق المصريون عليهم اسم "حقاو خاسوت" بمعنى حكام البراري، ثم حور الإغريق والمتأغرقون هذه التسمية إلى "هكسوس" التي ترجمها مانيتون بمعنى "ملوك الرعاة"، ثم ترجمها يوسيفوس اليهودي بمعنى "الأسرى الرعاة" ووصل بينهم وبين العبرانيين كفئة تابعة لهم، وافترض أن النبي يوسف دخل مصر في عصرهم، وأنهم -أي العبرانيين- خرجوا معهم بعد جلائهم عن مصر. وهو وإن أنزلهم إلى مرتبة الأسرى والرعاة، إلا أن تخريجاته التي قصد أن يدلل بها على قدم نشأة اليهود يحوطها شك كبير حيث لم يعرف لهم تاريخ مؤكد إلى بعد هذا بقرون. ومرة أخرى لم يعبر المصريون باسم "حقاو خاسوت" "ومترادفات أخرى مثل عامو"1 عن قومية معينة بقدر ما عبروا به عن صفات البربرية والأجنبية والقبلية بوجه عام. والواقع أن الأصل الجنسي للهكسوس لا زال مشكلة تنتظر الحل، والرأي المقبول نسبيًّا فيها هو أن هجرة الهكسوس إلى مصر كانت ذات صلة بتحركات شعوبية كبيرة هاجرت تباعًا من سهوب أواسط آسيا، تحت ضغط ظروف طبيعية أو بشرية لا نعرفها، منذ أوائل الألف الثاني ق. م، ثم تدفقت على فترات متقطعة طويلة إلى شرق أوروبا من ناحية، وإلى الأناضول وأراضي الهلال الخصيب من ناحية أخرى. واختلفت وسائل تحركاتها ونتائج هجراتها من عهد إلى عهد ومن أرض إلى أرض، كما اختلفت الأسماء التي عرفها التاريخ بها باختلاف الظروف التي ظهرت على مسرح الحوادث فيها، واختلاف الأسماء التي عبر بها أهلها عن أنفسهم، أو عبر عنهم بها أهل البلاد التي دخلوها. وهكذا عرفهم بعض المؤرخين باسم عام وهو اسم الآريين أو الهندوآريين، وعرفتهم مصادر بلاد النهرين باسم الكاسيين أو الكاشيين، وعرفتهم مصادر آسيا الصغرى باسم الخاتيين "ثم الحيثيين"، وعرفتهم شواطئ الفرات العليا والمناطق السورية الشمالية الشرقية باسم الحوريين أو الخوريين، وسلكتهم المصادر الإغريقية في تسمية الآخيين، وعرفتهم المصادر المصرية باسم حقاوخاسوت الذي تحرف إلى هكسوس، وجمع بين عادات أغلب المهاجرين إلى الشرق من هؤلاء وهؤلاء أنهم جروا على أن يؤلفوا في بداية أمورهم إمارات منفصلة، تلحق بعواصمها معسكرات كبيرة تحيطها سياجات وأسوار لبنية سميكة مرتفعة ويحف بها خندق عميق. وكانوا فيما يقال يضحون بجحش في حفل بناء سورهم ويدفنون تحت السور طفلًا، ويدفنون خيولهم في مدافن خاصة أو يدفنونها مع أصحابها تنويهًا باعتزازهم بها2. وبلغت شعبة من هذه الهجرات أعالى الشام خلال القرن 19 أو أوائل القرن 18ق. م، على وجه التقريب. ثم تسربت منها إلى جنوبها، وتزلزلت تحت ضغطها إمارات سورية كثيرة، وبدأ الأموريون في الشام يموج بعضهم في بعض، وأخذت بعض جماعاتهم تندفع ناحية الجنوب والشرق تحت ضغط

_ 1 تراجع مناقشتها في كتابنا الثاني عن حضارة مصر القديمة وآثارها. 2 W.F. Petrie-Ancient Caza, I, 4, Pls. Viii-Ix; Vol. Ii, 4, 15; Vol. Iv, 16.

المهاجرين. وتأثرت مصر فعلًا بهذه التحركات في عصر أسرتها الثالثة عشرة وأخذ كهنتها يستنزلون اللعنات على أصحابها. وعندما اقتربت جماعات المهاجرين من الحدود المصرية الشمالية الشرقية، كانوا خليطًا من الغالبين والمغلوبين وبمعنى آخر كانوا خليطًا من جماعات آرية غازية دفعتها الظروف إلى جنوب الشام، ومن جماعات أمورية هاربة عجزت عن الاحتفاظ بأرضها في سهول الشام وبواديها. ولم يدخل هؤلاء وهؤلاء أرض مصر دفعة واحدة، وإنما بدءوا فانتشروا قرب حدودها وحول سبل تجارتها البرية المتجهة إلى بلاد الشام، وتسلل بعضهم إلى مراعي شرق الدلتا في جماعات متناثرة خلال فترات الاضطراب الداخلي التي انتهت بها أيام الدولة الوسطى، وكان أغلب هؤلاء الأخارى من الأموريين بخاصة، وقد يسر لهم طريقهم سابق معرفتهم بطرق الصحراء الشمالية الشرقية وسابق اتصالهم بأهل مصر. وقد احتفظت الآثار من أسمائهم ذات الصبغة السامية باسم عبد وما تحتمل قراءته يعقوب هر وعنات هر، وهو ما أوحى إلى البعض باحتمال وجود أسماء عبرية بينهم، ولكن هذه أسماء أمورية تسبق الأسماء العبرية بكثير، واستمرت بقية جماعات المهاجرين الكثيفة برؤسائها ذوي الأصل الآري وراء الحدود المصرية إلى حين. وليس من بينة صريحة على الظروف التي ساعدتها على اختراق الحدود المصرية عنوة للمرة الأخيرة، ولكن يحتمل أنها أقدمت على ذلك في أوائل القرن السابع عشر ق. م1، كرد فعل أخير لضغط آري جديد شرد أمامه الجماعات التي سبقته في الهجرة ابتداء من شمال سوريا إلى جنوبها، وهو فيما يغلب على الظن ضغط الحوريين. ووجد الهكسوس سبيلهم ميسرًا نتيجة لاشتداد نزاع الشخصيات الكبيرة في مصر على السلطة في أواخر عصر الأسرة الثالثة عشرة، وما ترتب عليه تلقائيًّا من تمزيق وحدة أمتهم وإضعاف إمكانياتها ومعنوياتها، الأمر الذي لم يتح لها مقاومة الغزاة مقاومة مجدية، وليس من المستبعد أن جماعات المتسللين الأموريين الذين تسربوا قبل ذلك إلى شرق الدلتا قد يسروا سبيل الغزو للجحافل الكبيرة وخوفوا الناس عن غير قصد من عنفها ومما تحمله معها من أسلحة جديدة للحرب لم يكن المصريون ولا جيرانهم يستخدمونها. ولا يزال المؤرخون على خلاف في تعيين هذه الأسلحة الجديدة، فعلى خلاف رأي قديم اعتقد أصحابه أن الهكسوس كانوا أول من أدخل الأسلحة البرونزية إلى مصر وأنهم دخلوها لأول مرة بالخيول وبالعربات الحربية التي كان لها ما للمصفحات الحالية من الأثر في تمزيق صفوف المشاة، دلت اكتشافات حديثة على أن المصريين عرفوا صناعة البرونز منذ الدولة الوسطى "راجع ص186"، وإن لم يستخدموه كثيرًا للأسف في أسلحتهم. وعرفوا قبله فكرة العجلات أو الطارات المستديرة منذ النصف الثاني للدولة القديمة واستخدموها في دفع سلالم الحصار الكبيرة2، وإن لم يعمموا استخدامها للأسف على نطاق واسع، وفي شيء من التردد

_ 1 لا يزال تحديد زمن هذا الغزو موضع جدل طويل، وتتراوح تقديرات المؤرخين له بين 1730 و1710، و1690ق. م. أو ما بعد ذلك. See, Alliot, Jnes, 1950, 204 F.; And Compare, Sethe, Zaes, Lxv, 85 F.; P.C. Labib,, Die Herrschaft Der Hyksos In Aegypten…, 1936; Stock, Studien Zur Geschichte Und Archaeologie Der 13 Bis 17 Dynastie Aegyptens, 1941; J. Van Seters, The Hyksos, 1966; D.B. Redord, Orientalia, 1970, 1 F. 2 Quibell, Teti Pyramid, North Side, Frontispice.

ظهرت آراء جديدة ترى أنهم عرفوا الجياد منذ الدولة الوسطى أيضًا1، وأن أوائل الهكسوس لم يدخلوا مصر بالخيل والعربات منذ بداية أمرهم، وإنما وفدت بها جماعات قوية منهم أتت بعد تسرب أوائلهم إلى مصر بفترة غير قصيرة. وهكذا يتجه الترجيح حتى الآن إلى أن أهم عدد الحرب الجديدة التي أعانت الغزاة هي الدروع التي أكسبتهم مناعة وثقة، والأقواس المركبة الكبيرة المصنوعة من "طبقات" الخشب ومن القرون ومن أوتار شديدة2، وكانت ترمي بشدة وإلى مدى أبعد من مرمى الأقواس المصرية القديمة، وأخيرًا عربات الحرب بخيولها. وفي اعتمادهم على عربات الحرب ما يضعف رأي قديم رد أصل الهكسوس إلى شبه الجزيرة العربية، حيث لم تكن صحراؤها تسمح باستخدام مثل هذه العربات. أما عوامل التفكك الداخلي التي بسرت لهم سبيل الغلبة فقد شرحناها من قبل، وأما وقع غزوتهم على المواطنين المصريين فيكفي فيه ما استشهدنا به من وصف مانيتون المؤثر له. ولم يكن من المتوقع أن يخلص أمر الدولة التي طمع الهكسوس في إقامتها بمصر لملك واحد على الفور، فقد حال دون ذلك أمران، وهما: أن الهكسوس كانوا قبليين في مجموعهم، آريين وأموريين، اعتادوا على أسلوب الإمارات المنفصلة وأنه لم يكن من المنتظر أن تدين مصر العظيمة لهم بالطاعة في سهولة. وترتب على هذين الأمرين أن تعددت أسماء الحكام في أيامهم الأولى تعددًا كبيرًا، وكان من هؤلاء حكام مصريون استمسكوا بأقاليمهم في غرب الدلتا وفي أقصى الصعيد واختلفت صلاتهم بالهكسوس تبعًا لموقفهم منهم ومدى قدرتهم على مقاومتهم، واعتبر كبارهم أنفسهم الورثة الشرعيين لملوك الدولة الوسطى الوطنيين وخلعوا على أنفسهم ألقاب الفراعنة كاملة، ولهذا جرى الاصطلاح على تسمية عصرهم باسم عصر الأسرة الرابعة عشرة على الرغم من أن القرابة بينهم كانت محدودة وكانوا معاصرين للهكسوس فعلًا، ودل ذلك على أن روح المقاومة الوطنية لم تمت. وفي الوقت ذاته لم يكن زعماء الغزاة أقل طموحًا، فانتحلوا لأنفسهم صفات الملوك وألقابهم أيضًا، ثم أخضعهم لسلطانه أشدهم بأسًا وجنودًا وجمعهم تحت رايته، وكان فيما روى مانيتون يسيطر على منطقة منف الغنية مركز الحكم القديم، ويدعى "سالتيس". واتخذ سالتيس "وهو اسم محرف" هذا عاصمة جديدة في شرق الدلتا على ضفة الفرع التانيسي القديم، كانت تسمى في اللغة المصرية "حة وعرة" وهو اسم بقي حتى الآن في اسم هوارة، وحوره الإغريق إلى "أفاريس"3. واعتمد اختيار هذه العاصمة على أساس وقوعها وسط أتباع الهكسوس من المهاجرين الأموريين، وقيامها فوق كثبان رملية تطل على الفرع التانيسي، وحماية المناقع لها على بعد منها، ثم على أساس قربها من آخر

_ 1 W.B. Emery, Kush, VIII, 1960,8, Pl. III B. خرج الأستاذ ولتر إيمري بهذا الرأي بعد قيامه بحفائر أثرية في منطقة بوهن بالنوبة العليا، وعثوره فيها على هياكل خيول دفنت في مستويات قديمة لأطلال أحد الحصون المصرية هناك. وقد حدد تاريخ هذا المستوى بأيام الدولة الوسطى. ولكن ظهرت آراء أخرى تعارضه وتود إرجاع هذا المستوى على أوائل الدولة الحديثة. 2 جون ولسون: الحضارة المصرية – ص272. 3 See H. Junker, Zaes, Lxxvii; P. Montet, Tanis. 1942; H. Kees, Tanis. 1944; Gardinier, Ancient Egyptian Onomastica, II, 279 F.

المواطن التي وفد الهكسوس منها على مصر، وهي جنوب الشام، وقربها من الطريق التجاري البري الذي يصل بين مصر وبين الشام. وحصن الهكسوس عاصمتهم الجديدة تحصينًا شديدًا، وزودوها بحامية كبيرة العدد؛ إتقاء ثورات المصريين، وإتقاء للهجرات المحتملة الجديدة التي تخوفوا أن يقوم بها أبناء عمومتهم الآريون أو الأموريون. ووجد الهكسوس في معبود هذه المدينة "ست" شبهًا بمعبودهم القومي، إن في الشكل أو في الصفات، فمزجوا بينهما وعبدوا كلًّا منهما في شخص الآخر. وندع مناقشة تتابع ملوك الهكسوس وعلاقات بعضهم ببعض خلال ما يسمى باسم عهود الأسرات الخامسة عشرة والسادسة عشرة وجزء من السابعة عشرة لكتابنا الثاني عن حضارة مصر القديمة وآثارها. ونكتفي هنا بالملامح الرئيسة لهذه العهود، التي يحتمل من بردية تورين أنها شغلت مائة عام وثمانية أو ما هو أقل من ذلك بكثير1. ومن هذه الملامح أنهم جمعوا بين أسمائهم الأجنبية مثل خيان وإببي، وبين أسماء مصرية خالصة مثل سوسرنرع، وعاوسر رع، وأنهم تشبهوا بالفراعنة المصريين الوطنيين في ألقابهم ملابسهم وهيئات تماثيلهم، وادعوا التقرب من الأرباب المصريين وسجلوا أسماءهم على معابدهم. ويمكن أن يفهم من ذلك كله أنهم مع استحواذهم على السلطة العليا حاولوا أن يتمصروا ويتخذوا مصر موطنًا ودار إقامة دائمة، ولم يعتبروها دولة تابعة، وحاولوا أن يموهوا على أهلها ويوحوا إليهم بنسيان غرابة أصلهم وقسوة غزوهم لأرضهم. وعثر لبعض هؤلاء الملوك على آثار قليلة في جنوب فلسطين، وفي كرما في النوبة بل وفي كريت وفي بغداد أيضًا2. وتم ذلك فيما يغلب على الظن عن طريق التجارة والتبادل، دون الغزو وبسط النفوذ كما ذهبت آراء قديمة تخيلت للهكسوس إمبراطورية متسعة ذات نشاط في البر وفي البحر معًا. وارتبط بأذواق عصر الهكسوس شيوع أنواع متواضعة من المشابك والحلي، وزخارف الجعلان والأختام. وزخارف الفخار الملون والمشكل على هيئة الطير، وظهور وحدة جديدة للموازين، فضلًا عما ارتبط بوجودهم من انتشار الخيول وعربات الحرب والدروع والسيوف المقوسة والأقواس المركبة. ولكن لوحظ أن النماذج الباقية من آثارهم صغيرة قليلة، وأن عصرهم في مجمله لم يترك أثرًا ذا بال في تطوير فنون النحت والنقش وهندسة العمارة، وذلك إلى الحد الذي تطابقت معه الروح الفنية لآثار العهود الأخيرة من الدولة الوسطى، التي سبقت دخول الهكسوس، مع الروح الفنية لآثار أوائل عهود الدولة الحديثة التي أعقبت خروجهم من مصر. وعلى نحو ما عجز الهكسوس عن إضافة شيء جديد إلى الحياة الفنية، عجزوا كذلك عن تبديل تقاليد مصر الروحية واللغوية والدينية، فظلت كما هي، وحدث على العكس أن تأثروا هم بها وتطبعوا بها، وإن لم يمنع هذا من الاعتراف بأنهم جعلوا جنسهم يمثل الطبقة العليا أو يمثل جزءًا منها على أقل تقدير.

_ 1 See. H. Stock, Op. Cit.; Saeve Soderbergh, Jea, XXXVII, 62 F.; Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 158 F. 2 Catalogue Of The British Museum, No. 987; Budge…, No. 340; Evans, The Palace Of Minas, 419, Fig 304 B. جون ولسون: المرجع السابق -269

ثالثا: مراحل الجهاد والتحرير

ثالثًا: مراحل الجهاد والتحرير بدأت عزمات التحرر من إقليم طيبة في أقصى الصعيد، وكان قد تمتع بنوع من الاستقلال الذاتي وعلقت بأذهان أهله أمجادهم القديمة في الدولة الوسطى، ثم استطاع حكامه أن يمدوا نفوذهم حتى أبيدوس، وأزاحوا نفوذ الهكسوس إلى الشمال حتى حدود القوصية، واعتبروا أنفسهم الخلفاء المباشرين لملوك الدولة الوسطى. وعرفت أسرتهم باسم الأسرة السابعة عشرة الوطنية وعاصرت أواخر ملوك الهكسوس. ولم تكن مهمة الإحياء التي تكفلوا بها مهمة هينة، فبدءوا بها على حذر اتقاء إثارة الهكسوس ضدهم قبل استكمال استعدادهم. وندع خطواتهم الأولى، مراعاة للإيجاز، ونكتفي بجهاد المصريين تحت راية الثلاثة الأخيرين منهم، وهم القادة الملوك: سقننرع وولداه كامس وأحمس. وقد صورت طرفًا من انتفاضتهم بردية كتبها طالب مصري يدعى "بنتاورة"، خلال القرن الثالث عشر ق. م، أي بعد خروج الهكسوس بنحو ثلاثة قرون1، وبما يعني أن أخبار الأحداث القومية الرئيسية لم تكن تنمحي من أوساط المثقفين مهما طال الأمد عليها. وروت البردية في مستهل حديثها أن أرض مصر كانت تئن تحت وطأة الوباء، وأنه لم يكن فيها سيد يعتبر ملك زمانه، فبينما حكم الملك سقننرع "تاعا قن" في مدينة طيبة "الجنوبية" حل الوباء في مدينة العامو "الهكسوس"، وبمعنى آخر استقر الملك إببي "ملك الهكسوس" في حة وعرة. وأضافت البردية أن إببي هذا تعصب للمعبود سوتيخ "ست"، ولم يقدر ربًّا سواه، وأقام له معبدًا عظيم الشأن بجانب قصره، وكان يبكر يوميًّا في تقديم القرابين إليه، واعتاد رجال حاشيته على أن يحملوا إليه باقات الزهور، تقليدًا لما كان يجري في معبد با رع حر آختي "المعبود المصري". وذلك على حين ناصر سقننرع ملك طيبة الإله آمون رع واستنصره واعتبره كبير الأرباب. ولم يقتصر الأمر حين ذاك على اختلاف المذهبين، وإنما كانت وراءه ترتيبات مصرية مستترة عمل إببي ملك الهكسوس في سبيل وأدها على أن يستفز الملك المصري سقننرع إلى حرب صريحة قبل أن يستكمل عدته لها، فجمع كتبته وحكماءه كما روت البردية، وشاورهم في الأمر، فأوحوا إليه بحيلة ماكرة عقبوا عليها بقولهم "ولسوف نرى إذن قدرة ربه الذي يحتمي به، وهو الذي لا يعتمد على إله غير آمون رع ملك الأرباب". واتبع إببي مشورتهم فأوفد رسولًا إلى سقننرع، يقول له: "أسكتوا أفرس الماء في البحيرة الشرقية بطيبة فضجيجها يحرمني النوم في نهاري وليلي، وأصواتها تطن في مسامع مدينتي". وأغلب الظن أن إببي المقيم في شمال شرق الدلتا، كان يعني بضجيج أفراس النهر بطيبة في أقصى الصعيد نشاط سقننرع ورجاله واستعداداتهم العسكرية، وقد تعمد أن يلمزهم ويستثيرهم ويقلل من شأنهم، ولكنه كشف عن هم الليل والنهار الذي لحقه منهم من حيث لا يدري. وأضافت البردية أن سقننرع عامل الرسول كما تنبغي معاملة الرسل، فأكرمه وهاداه، ثم جمع كبار رجاله ورؤساء جيشه وبدأ يشاورهم

_ 1 Pap. Sallier, I, 1, I F.; Gardiner And Gunn, Jea, V, 40 F.; Gardiner, Late Egyptian Stories, 1932, 85 F.; Mdaik. 1965, 62 F.

في الأمر .. وهنا انتهى درس البردية في غير خاتمة واضحة، ولكنه على الرغم من قصره قد نم عن أن المصريين ظلوا يطوون صدورهم على كره الهكسوس وذكريات احتلالهم حتى لقد شبهوهم بالوباء أو الطاعون، وأنه لم يكن في وسع ملك الهكسوس أن يعتبر نفسه ملكًا على مصر كلها، وأنه ضاق بنشاط أهل طيبة وقلق من النتائج التي يمكن أن تترتب عليه، وأن الطيبيين جعلوا من اختلاف المذهب الديني بينهم وبين الهكسوس سببًا لصبغ جهادهم ضدهم بصبغة مقدسة. وإذا كان هذا الجزء المكتوب المتبقي من البردية قد انتهى بغير نهاية واضحة، فقد صورت جانبًا من هذه النهاية رأس سقننرع التي عثر عليها في طيبة الغربية، وقد توجتها خمسة جراح عميقة من ضربات سيف ومقمعة وبضعة سهام، ودل كل جرح منها على بداية الجهاد المسلح في عهد صاحبه واستبساله واستماتته في الظفر بمأربه. وتولى زعامة طيبة بعده ولده كامس "واج خبر رع" وصورت جهاده وجهاد رجاله ثلاثة نصب أقامها في الكرنك، ودرس تاريخي كتبه طالب على لوحة خشبية صغيرة. وصور الدرس التاريخي المراحل الأولى للجهاد في عهده كما رواها أنصاره1. فوصفه بأنه كان ملكًا فاضلًا، وأن الإله رع شاء أن يجعله ملكًا فعليًّا ووهبه الجرأة في الحق. وذكر أنه ضاق بأحوال البلاد وقال ذات مرة في مجلس بلاطه: "كيف أقدر نفوذي هذا إذا كان هناك حاكم في حة وعرة وحاكم آخر في كاش؟ ولا زلت شريكًا لهكسوسي وزنجي، وكل منا يسيطر على رقعة من هذه البلاد؟ إني لا أكاد أبلغ منف، وقد سيطر "العدو" على منطقة الأشمونين؛ وما عاد أحد يأمن السلب والنهب والعبودية للبدو الآسيويين ... ". وحاول كامس أن يستفز أهل بلاطه إلى الحرب، فقال لهم "ولسوف أقاتل "العدو" وأبقر بطنه، وإن غايتي أن أحرر مصر وأستبيح دماء العامو .. "، ولكنهم فيما قال استمرءوا ما نعموا به في حدود الصعيد وقالوا إن هاجمنا العدو قاومناه. وهنا ضاق الرجل بالتواء منطقهم, وأحسن الظن بسواد شعبه، فقال لأهل بلاطه "سوف أحارب العامو "الهكسوس" وسوف يحالفني النجاح، وقد تباكى بعضكم، ولكن البلاد سوف ترحب بي، أنا الحاكم الجسور في طيبة، أنا كامس حامي حمى مصر". وبهذه الروح الوثابة انطلق كامس بجيشه المصري، وجند فريقًا من البجاويين النوبيين الذين دانوا بالولاء له، واستخدمهم في طليعة جيشه. وصدق ظنه في سواد شعبه، فهرع إليه أهل الشرق والغرب، كما قال، وأمدوا جيشه أينما حل بالمئونة والزاد. ووصف مسيرته مع جيشه فقال: "أبحرت في عزم لأجل الهكسوس وفقًا لأمر آمون ذي الرأي الرشد، وجيشي أمامي مستبسل كأنه شعلة من نار". وبدأ بمصر الوسطى فطهرها من الهكسوس وعاقب الخانعين لهم في بلدة نفروسي. وشجعه هذا على كفاح تحدثت عنه نصوص نصبه في الكرنك2، ويفهم منها أنه شن حملة مفاجئة على أرض كاش الجنوبية

_ 1 Camarvon Tablet, No. 1 ; Gardiner And Gunn, Op. Cit., 5; Erman, Die Literatur…, 82 F. 2 See, Asae, XXXV, 111 F.; XXXIX, 25 F.; LIII, 195 F.; Kush, IV, 54 F.; Cah, Rev. Ed., II, 1965, Ch. VIII, 4 F.

وأجبر واليها الجديد على أن يوقف صداقته للهكسوس. ثم اندار على الشمال وعمل بأعوانه على قطع الإمدادات التي كانت تصل إلى الهكسوس عن طريق فروع النيل. وهنا انقسم الهكسوس على أنفسهم. وخرج بعضهم على طاعة ملكهم. وأحرز كامس نصرًا في بعض المواقع النهرية، ووصف دخوله إحدى المدن في أسلوب لطيف قال فيه "أو قال على لسانه أحد أدباء عصره": "لمحت نساء العدو فوق دياره، يتطلعن من النوافذ إلى الشاطئ، وحين سمعن صوتي لم يستطعن حراكًا، ومددن أنوفهن من خلال "شقوق" الجدران كأفراخ القطا في جحورها حين كنت أنادي: هذا أوان الهجوم، هأنذا ولسوف أنتصر". وسجل رجاله في نصوصه بعض العبارات التي كان يرددها في مجالسه أو يرسل بها إلى عدوه يتوعده بها، وكان من قوله فيها: "سوف تعجز مع جيشك أيها العامو ... وينكشف ظهرك أيها الخاسئ، فها هو جيشي وراءك، وسوف يصيب العقم نساء عاصمتك، ولن تنبض قلوبهم في أبدانهن حين يسمعن صرخة الحرب من جيشي. إن يدي هي العليا، والنجاح حليفي ... ، أي وحق ربي آمون القادر، لن أدع لك بقاء ولن أدعك تخطو على أرضي دون أن أركب فوقك، وحينئذ تخمد أنفاسك". وكان من قوله كذلك: "لقد خابت آمالك أيها الخاسئ الذي اعتاد على أن يقول أنا السيد ولا مثيل لي. أما "عاصمتك" فسوف أمحوها ولن أجعل أحدًا يعثر لها على أثر، وسوف أدمر قرى "شعبك"، وأحرق ديارهم حتى تصبح تلالًا حمرًا إلى الأبد؛ جزاء وفاقًا على ما ألحقوه بمصر من دمار، وسوف يسمع الناس "عويل" الهكسوس حين يفارقون مصر سيدتهم "مرغمين"1. وهكذا سار كفاح كامس على نهج مرسوم، فبدأ بتعبئة الحماس والمشاعر من أجل الكرامة وضد المحتلين، وعمل على تطهير الجبهة الداخلية وتأمين ظهره وزيادة أتباعه، ثم أحكم الحصار الاقتصادي على أعدائه وحاول أن يبث الفرقة بينهم، وهاجم بجيشه بعض مراكز تجمعهم، واستخدم الحرب النفسية ضدهم. وليس من المستبعد أن تهديداته كانت تبلغ أسماع الهكسوس وتفعل فعلها فيهم. فلما طال المطال عليهم، حاول ملكهم أن يوقع كامس بين ما يشبه فكي الكماشة، فأرسل إلى حاكم كاش في الجنوب يدعوه ولده ويحرضه على كامس ويخوفه عاقبة أمره ويشجعه على مهاجمته من الجنوب حتى ينحصر بينهما وحينئذ يغلبانه ويقتسمان مصر معًا، كما قال. وأرسل الهكسوسي رسله على طريق الواحات ليكونوا بمأمن من عيون كامس. ولكن هؤلاء علموا بأمرهم وأرسل كامس سرية من جيشه ترصدت الرسل واستولت على الرسالة ثم أطلقتهم لينقلوا إلى ملكهم خيبة أمله وفشل مسعاهم. وخشي كامس أن يعيد الحليفان الكرة، فوضع بعض وحداته في مصر الوسطى والواحات، ورحل هو إلى عاصمته طيبة، وكان يوم عودته إليها يومًا مشهودًا، وصفه كاتبه قائلًا: "طابت رحلة الحاكم إلى الجنوب، وجنوده أمامه لم ينقصوا، ولم يخسر أحدهم رفيقه، ولم تشتك قلوب "المدنيين" منهم ... ، وأصبح إقليم طيبة كأنه في عيد الفيضان، وهرع النسوة والرجال يتطلعون إلى الأمير، وأسرعت كل زوجة إلى زوجها تعانقه، وقد خلت الوجوه من آثار الدموع".

_ 1 الغريب أن الأستاذ جاردنر يرى أن كامس وجه تهديده بتدمير القرى للمصريين المعادين له وليس للهكسوس، وهو تخريج مشكوك فيه. See, Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 197 F.; Wilson. Anet, 554-55.

وتوفي كامس في ظروف غير معروفة قبل أن يدخل معركته الفاصلة ضد الهكسوس وربما أعقبت وفاته فترة من القلق، ثم خلفه أخوه أحمس "نب بحتي رع" وأتم عمله وعمل أبيه، وانتفع باشتداد عزائم مواطنيه بعد انتصاراتهم تحت رايتيهما، فاستنفرهم ولبوا نداءه لاستكمال الجهاد والانتقام، وخرجوا معه المهاجمة الهكسوس في عقر عاصمتهم "حة وعرة". ولا تزال تفاصيل المرحلة النهائية لطرد الهكسوس في عهد أحمس شحيحة لقلة المصادر المعروفة عنها، ولكن صور جانبًا منها قائد من جيشه يدعى أحمس بن إبانا بدأ شبابه جنديًّا صغيرًا، ولكنه استطاع أن يظهر كفايته في المعارك التي خاضها، وروى في نصوصه أنه كان كلما نشط في عمليات الأسر والقتل خلال المعارك، أبلغ العرفاء أمره إلى الفرعون في مركز القيادة فكافأه بما يناسب مجهوده وشجعه على المزيد. وهكذا استمر في نشاطه وترقياته حتى بلغ مرتبة القائد البحري. وذكر أنه اشترك مع الفرعون أحمس في محاصرة عاصمة الهكسوس وأن المعارك دارت حولها وإلى الجنوب منها، في البر وعلى الماء عدة مرات1. والواقع أنه ليس من بينة مرجحة تصور كيفية جلاء الهكسوس عن حة وعرة، فبينما يفهم من نصوص إين إبانا المعاصر لهذه الأحداث أن المصريين دخلوها عنوة ودمروها وأسروا معظم حاميتها وأجبروا غالبية أهلها على الخروج منها، ذكر يوسيفوس اليهودي بعد قرون طويلة من الجلاء أن الهكسوس أعلنوا التسليم لأحمس بشرط أن يدعهم يغادرون مصر آمنين، فرضي، وخرجوا منها بأمتعتهم، وكانوا لا يقلون في زعمه عن 240 ألف شخص "هم وأولادهم ونساؤهم". وعندما جلا الهكسوس عن مصر جمعوا فلولهم في مدينة من معاقلهم القديمة في جنوب فلسطين تدعى شاروحين، قامت على أطلالها تل فرعة الحالية، وتحصنوا بها، فأدرك أحمس أنه لن يأمن على حدوده ما داموا قريبين منها، فلحقهم بجيوشه وفرض الحصار حولهم، واستمر يضيق عليهم نحو ثلاث سنوات حتى اضطروا إلى الجلاء عنها2. وهذا لفظت مصر الهكسوس أغرابًا كما دخلوها، على الرغم من طول إقامتهم فيها. وعهد ما سوى مصر من الشعوب أن تنزلها الهجرات فتطغى على قوميتها أو تمتزج بأهلها ويمتزجوا بها وتفرض عليهم حضارتها إن كانت ذوات حضارة، أو تفرض عليهم لغتها إن أعوزتها الحضارة، وما حدث شيء من ذلك في مصر، وإنما باعدت مصر ما بينها وبين الهكسوس في لغتها وعاداتها ودينها بقدر ما استطاعت حين غلبت على أمرها، وعندما أخذت عنهم استخدام الخيول وعربات الحرب والدروع والأقواس المركبة. استعانت بما أخذته عنهم وأجلتهم به، وكان ذلك بين 1580 و1575ق. م. والطريف أن فترة الجهاد ضد الهكسوس لم يقتصر على الرجال وحدهم، وإنما ساهمت بعض النساء فيها بما يناسب استعدادهن. ولما كان التاريخ حفيًّا دائمًا بأسماء أصحاب السلطان أكثر ممن سواهم، فقد احتفظ من أسماء صاحبات الشهرة في ذلك العصر باسمي: تتي شري أم سقننرع، وإياح حوتب زوجته وأم ولديه. وقد نعتت أولاهما في نصوص حفيدها أحمس بلقب العالمة أو العارفة. وقيل عن الثانية إنها "ربة الأرض، وسيدة الحاونبو، رفيعة السمعة في كل قطر أجنبي. التي دبرت سياسة القوم .. ،

_ 1 Sethe. Urkunden, Iv, 3 F.; Gunn And Gardiner, Op, Cit., 48 F. 2 Urk., Iv, 4; Zaes, Xxiv, 136.

القديرة الجليلة التي أحكمت شئون مصر، وجمعت "صفوف" جيشها، ورعت أهلها، وأعادت الفارين، ولمت "شتات" المهاجرين، وهدأت "قلق" الصعيد، وأرهبت عصاته، الملكة إياح حوتب لها الحياة"1. ويبدو أن ما تحدث هذا النص به عن أثرها في السياسة الداخلية قد ترتب على اشتراكها في جمع كلمة الجيش والمدنيين على الاعتراف بالطاعة لأحد ولديها حين اعتلائه العرش، وهو في الأغلب أحمس بعد فتنة لعلها حدثت عند وفاة كامس. أما ما تحدث النص به عن شهرتها الخارجية وعن سيادتها للحاونيو، أي لجزر الحوض الشرقي من البحر المتوسط. فيمكن تفسيره بأن انتصارات مصر في عهد ولدها أحمس في جنوب الشام فتحت أمامها سبل الاتصالات القديمة مع المواني الفينيقية وما كان يتعامل معها من جزر البحر المتوسط، وقد أراد أهل هذه الجزر. والكريتيون بخاصة، أن يتقربوا إلى الملك المصري المنتصر فهادوه وهادوا أمه وخلعوا عليها لقب "سيدة الجزر" تشريفًا، وهو ما عبر النص المصري عنه بلقب "سيدة الحاونبو".

_ 1 Urk, IV, 21: E Meyer, Geschichte… II, 1, 54.

الفصل التاسع: الدورة التاريخية الثالثة في الدولة الحديثة

الفصل التاسع: الدورة التاريخية الثالثة في الدولة الحديثة تمهيد ... الفصل التاسع: الدورة التاريخية الثالثة في الدولة الحديثة 1575 - 950ق. م تمهيد: شبه المؤرخ أرنولد توينبي مشاعر الأمة الناهضة في بداية نهضتها بعد نكستها، بأحاسيس شخص استغرق في سبات طويل وخمول فاتر، ثم استيقظ ليجد نفسه في قاع واد عميق قلت فيه عوامل الفزع ولكن قلت فيه في الوقت ذاته فرص الحركة ولذة النجاح، فالتلال قد حمت الوادي من جانبيه ولكنها حرمت ساكنه في الوقت نفسه من أن يمارس حرية السعي على مدى كبير وحرمته من أن يتطلع منها إلى ما وراء واديه، فبدأ من ثم يشعر بضيق شديد لم يكن يشعر به من قبل أن يسترد يقظته، ودفعه ضيقه الشديد إلى إعلان السخط والتحدي، وصحت عزيمته على أن يخاطر بنفسه ويخاطر بالأمن الزائف الذي يعيش فيه، ليتسلق جوانب الوادي الذي يحتويه ويعتلي التلال المحيطة به عله يشرف منها على عالم آخر جديد، ومنذ ذلك الحين بدأ يبذل المجهود ويقدر احتمالات السقوط ويعمل في الوقت نفسه على تلافي الهبوط، كما بدأ يحس بأخطار الصعود ويستعذب في الوقت ذاته لذة الطلوع، وأصبح كلما نجح في تسلق جانب من جوانب الوادي ازدادت ثقته بنفسه وبدأ يستعيد رضاه عن حياته. ثم استمر نجاحه بمجهوده يشجعه على أن يطلب المزيد وعلى أن يرجو لنفسه آفاقًا رحبة جديدة. وكان ذلك هو شأن أهل طيبة بالفعل منذ بدءوا انتفاضتهم القوية في أواخر عصر الأسرة السابعة عشرة ليتخلصوا من حال التراخي ومظاهر الضعف وسوءاته، ومنذ استجابت مصر لهم ولبت دعوة الدم والتحرر وصحت عزائم أهلها على الجهاد ضد الهكسوس وعلى الإبلال من النكسة الطويلة التي أصيبوا بها تحت حكمهم، حتى أجلوهم عن أرضهم وأقصوهم عن حدودهم القريبة جهد الطاقة. وكان أحمس بن سقننرع، آخر الحكام الثلاثة المجاهدين للهكسوس، نهاية جيل قديم وبداية جيل جديد، وبمعنى آخر كان ختامًا للأسرة السابعة عشرة ورأسًا للأسرة الثامنة عشرة في الوقت نفسه، وكان صدر عهده خاتمة لعصر الانتقال الثاني.، كما كان آخر عهده مبشرًا ببداية عصور الدولة الحديثة. وقد بدأت الدولة الحديثة حوالي عام 1575ق. م أو نحوه. بالأسرة الثامنة عشرة. وامتدت عصورها حتى عام 950 أو 945ق. م تقريبًا، حيث انتهت بنهاية عصر الأسرة الحادية والعشرين. أي أنها عمرت ستة قرون وربع قرن، حافظت مصر فيها على استقلالها الكامل دون شائبة تشوبه، واستطاعت خلال أربعة قرون منها أن تصبح كبرى دول الشرق القديم بفضل حضارتها المتطورة وبفضل قوتها الضاربة في آن واحد.

أولا: الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة

أولا: الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة في السياسة الداخلية ... أولًا: الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة 1575 - 1308ق. م في السياسة الداخلية: استعادت الملكية في عصر الأسرة الثامنة عشرة هيبتها التقليدية، بشخصيات فراعنتها وجهودهم في سبيل توطيد استقلال دولتهم وتنمية ثرائها وتوسيع حدودها وإعلاء شهرتها. وإن كانت أغلب هذه الجهود من حيث الواقع العملي من كسب أعوان الملوك والشعب أكثر مما هي من كسب الملوك أنفسهم على الرغم من كفاية أغلبهم وتأثيرهم في سياسة عهودهم. واستمسكت هذه الملكية بما استمسكت به الملكيات القديمة المستقرة من حيث الإصرار شكلًا على الأقل على المركزية الواسعة وادعاء حق الحكم الإلهي والقول بالوراثة المقدسة والبنوة للآلهة الكبار. وعمرت أسرة أحمس على العرش أكثر من قرنين ونصف قرن، وهي فترة كبيرة في عمر الأسر الحاكمة. وتعاقب من صبها اثنا عشر فرعونًا، كانوا على التوالي1: أحمس الأول "نب بحتي رع": 1575 - 1550ق. م. أمنحوتب الأول "جسر كا رع": 1550 - 1528 تحوتمس الأول "عا خبر كا رع": 1528 - 1510؟ تحوتمس الثاني "عا خبرن رع": 1510؟ -1490؟ حاتشبسوت "ماعت كا رع": 1490؟ -1468 تحوتمس الثالث "من خبر رع": 1468 - 1463، فضلًا عن تسع سنوات في حكم مشترك منذ 1490 أمنحوتب الثاني "عا خبرو رع": 1436 - 1413 تحوتمس الرابع "من خبرو رع": 1413 - 1405 أمنحوتب الثالث "نب ماعت رع": 1405 - 1367 أمنحوتب الرابع "آخناتون" "نفر خبرو رع": 1367 - 1350 سمنخ كا رع "عنخ خبرو رع": 1350 - 1347 توت عنخ آمون "نب خبرو رع": 1347 - 1339 ثم خلف هؤلاء ملكان من خارج الأسرة يمثلان -وثانيهما على وجه أخص- مرحلة انتقالية بينها وبين الأسرة التالية لها، وهما: آي "خبر خبرو رع": 1339 - 1335 حورمحب "جسر خبرو رع": 1335 - 1308؟ ق. م.

_ 1 أخذنا في تحديد تواريخ حكم هؤلاء الفراعنة برأي الأستاذ ألن جاردنر. Cf. A. H. Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 1961. 443. ويختلف عنه كل من دريوتون وفاندييه وجون ولسن وغيرهم.

وكالمألوف من مصادر التاريخ القديم، اهتمت نصوص العصر ومناظره بإظهار الجوانب الطيبة وحدها من شخصيات الفراعنة، ولم تشذ عن ذلك في غير القليل النادر، ولسنا ننفي احتمال الافتعال فيما أتت به هي وأمثالها عن ملوكها، ولكننا لن نستطيع أن نحرمها في الوقت نفسه من إثارات صدق كثيرة أو قليلة زكتها أعمال أصحابها. وهكذا، وبغير أن نتقيد تمامًا بحرفية رواياتها، صورت هذه المصادر بعض فراعنتها قريبين كل القرب من قلوب رعاياهم، حتى لقد أنزلوهم منازل القديسين بعد وفاتهم، ومنهم أحمس رأس الأسرة، وولده أمنحوتب الأول الذي رأى أهل طيبة في مناقبه ومناقب أمه أحمس نفرتاري ما دعاهم إلى التبرك بتصويرهما داخل مقابرهم وتقديم الابتهالات لهما لبضعة قرون بعد وفاتهما. وتحوتمس الثالث الذي لم تحل طبيعته العسكرية دون أن يصفه وزيره رخميرع بأنه "كان أبًا وأمًّا للناس أجمعين"1. وأن يشهد رفيق صباه "من خبر رع سنب" برقة إحساسه وذوقه حين أشار إلى أنه كان يقضي بعض ساعاته في ابتكار تصميمات ورسوم لأوانٍ فاخرة وهيئات تماثيل صغيرة كان يهديها إلى معبد آمون ويكلف فنانيه بتنفيذها، ولم تصرفه حروبه الطويلة عن أن يوصي بجمع الزهور والنباتات النادرة والطيور المختلفة من أرجاء دولته الواسعة وتربيتها في مصر2، وقد أهدى بعضها إلى حديقة الكرنك وأوحى بنقش صورها المتنوعة في قاعة ملحقة به3. ثم آخناتون صاحب دعوة التوحيد الذي اعتبره أنصاره نبيًّا، أو أكثر من نبي، والذي سلك سبيله إلى قلوب أتباعه بالمنطق والقدوة الطيبة، وسارع بنفسه وزوجته وبناته إلى معابد العاصمة يؤم العبادة ويرتل الدعوات، وابتعد بنفسه وبآل بيته عن مظاهر التزمت الملكي التقليدية وخرج بهم على أهل العاصمة يرونه ويرونهم على ما هم عليه. وفتح مغاليق حياته الخاصة للمثالين والرسامين. فصوروه في بشريته الخالصة، وفي فرحه وحزنه، وعبثه وجده، وما ابتلي به من أعراض المرض وعيوب البدن. وإن اعتبره خصومه على الرغم من ذلك كان ... ثم أنصفه التاريخ واعتبره فيلسوفًا. وعادة ما ازداد تمسح أولئك الفراعنة بالدين وكرامات آمون رع كلما أحس أحدهم بشبهة يمكن أن تمس شرعية ولايته للعرش، وحينئذ يسارع إلى تأكيد تدخل آمون رع رب الدولة بنفسه في اختياره، أو يسارع بتأكيد بنوته المباشرة له نتيجة لتقمصه روح أبيه حين أنجبه. وعبرت عن هذه الادعاءات أربع روايات للفراعنة: حاتشبسوت وتحوتمس الثالث وتحوتمس الرابع وأمنحوتب الثالث. وكانت حاتشبسوت ابنة للفرعون تحوتمس الأول من زوجة رئيسية، وكان المفروض أن تخلفه على العرش، لولا أن سوابق حكم الملكات في مصر القديمة لم تشجعه ولم تشجعها على إعلان تتويجها دفعة واحدة فزوجها من أخ لها غير شقيق ولد له من زوجة أقل مرتبة من أمها وولي العرش بعده باسم تحوتمس الثاني. ونجحت هي في أن تؤكد شخصيتها في عهد هذا الزوج وعلى حسابه وأن تمهد لخلافتها إياه. ثم حالفها الحظ واختطفه الموت بعد أن أنجب منها بنتين وأنجب ولدًا من زوجة أخرى، ولكنها آثرت الحذر مرة أخرى، فلم تعلن نفسها

_ 1 Zaes, LX, 66. 2 Breasted, Ancient Records, II, 545, 773, 557. 3 Urk., IV, 775 F.; Wresz., Atlas, Ii, 26 F.

ملكة على التو، وإنما قدمت ابن زوجها الذي ولي العرش باسم تحوتمس "الثالث" وزوجته بنتها حاتشبسوت وجعلت نفسها شبه وصية عليه نحو ثمانٍ أو تسع سنوات استغلتها في تجميع الأنصار حولها. وعندما اطمأنت إلى قوة مركزها وكثرة مريديها نحت الغلام جانبًا وأرغمته على الاعتكاف، وبررت فعلتها فأوحت على أتباعها بقصة نشروها بين الناس ثم سجلوها تصويرًا في لوحات فنية كبيرة على جدران معبدها في الدير البحري بطيبة الغربية1، وأكدوا فيها أن الإله آمون رع أنجبها بنفسه أو من روحه، وأن أباها البشري تحوتمس الأول ارتضى هذه البنوة وأعلنها شريكة له في الحكم خلال حياته وأوصى لها بالملك بعد وفاته. وبدأت القصة بتصوير مشاعر آمون إزاء أمها أحمس، فأظهرته يدبر أمره لإيجاد وريث شرعي من سلالته يحكم مصر ويعوضها عما سلف من أمرها، ثم صورته ينصرف بتفكيره ورغبته إلى الملكة أحمس بعد أن تشاور في شأنها مع صفيه ورسوله الإله تحوتي وسمع منه الثناء المستفيض عليها، وحينئذ أعلن لبقية الأرباب أنه سيهبها مولودًا من صلبه يعتلي العرش، وأنه قضى بجعل مولوده المرتقب أنثى. وتحققت المعجزة وحملت الملكة، وأوحى آمون فيما ادعت القصة إلى المعبود خنوم المتكلف بخلف البشر بأن يصور بدن الجنين من صلصال ففعل، واختار آمون اسم المولودة من سياق حديث شائق دار بينه وبين أمها، فسماها "حاتشبسوت خنمة آمون" بمعنى ذروة النبيلات صفية آمون وقدم مولودته إلى الأرباب باعتبارها وريثته على الأرض. ثم تلقى أبوها البشري تحوتمس إرادة آمون عن رضا وأعلنها على الناس. ولما أصبحت الابنة شابة جميلة نضرة تضارع الربة "إحو" في زمانها، طاف بها على المعابد الكبرى وأعلنها خليفته على العرش2. وجرى تحوتمس الثالث على سبيل مشابه ليفسد على خصيمته دعواها، فروت نصوصه قصة يبدو أن أباه كان قد دبرها مع الكهنة؛ ليقيه ضرر طموح حاتشبسوت. وذكرت أنه حدث خلال عيد ديني كبير في الكرنك أن انتحى تحوتمس الصغير جانبًا من البهو الشمالي للمعبد ليشهد منه موكب ربه آمون، وكان حين ذلك قد انتظم في التربية الدينية بالمعبد ولكنه لم يكن قد بلغ بعد منصب "خادم الرب". وعندما مر الموكب والفرعون في مقدمته تعمد "تمثال" الإله أن يتجه بموكبه على البهو الشمالي ويطوف به، وقد تبعه الكهنة ورجال الدولة دون أن يعلموا حقيقة هدفه، حتى بلغ موضع تحوتمس الصغير وتوقف عنده، فخر الأمير ساجدًا، واعتبرها الكهنة حينذاك آية، وفسروها برغبة الإله في اختيار الطفل لعرش آبائه. وبوحي الإله أنهضوا الأمير وقدموه في الموضع المخصص للحاكم، وبعدها انكشفت له آفاق ربه وطار إلى سمائه وتلقى منه ألقابه، أو هكذا روت القصة3. وكان لحفيده تحوتمس الرابع عدة إخوة من أمهات مختلفات، وفي سبيل تأييد حقه في العرش أشاع قصة عرفت اصطلاحًا باسم قصة الرؤيا، ومؤداها أنه حدث في إحدى رحلات صيده للغزلان بصحراء الجيزة

_ 1 E. Naville, The Temple Of Deir Et-Bahari, Ii, Pl. 47 F. 2 راجع رأينا فيما يمكن استنتاجه من وقائع وعادات من هذه القصة في كتابنا عن: الأسرة في المجتمع المصر القديم – القاهرة 1961، ص35 - 39. 3 Urk, Iv, 157 F.

أن آوي إلى الظل بجوار تمثال أبو الهول، وأخذته سنة من النوم رأى الإله فيها يتحدث إليه بلسان مبين ويقول له فيما روى: "ولدي تحوتمس، تأملني فأنا أبوك، إني واهبك ملكي على الأرض لتصبح سيدًا على الأحياء ... ، وستكون لك الأرض بطولها والعرض، وكل ما تضيئه عين رب الكل ... ، وهأنذا موليك وجهي فكن حفيظًا على شئوني ... " إلخ1. وكان في ذلك إيحاء إلى الناس بتفضيل الإله إيله ليتولى عرشه. وأحاطت بتولية ولده أمنحوتب الثالث ظروف لا ندري حقيقة تفاصيلها، جعلته يدعي الميلاد الإلهي هو الآخر. ومن هذه الظروف احتمال بنوته لأم ميتانية الأصل تزوجها أبوه تحوتمس الرابع ليؤكد صلاته بدولة الميتان. وعندما خشي أمنحوتب أن تعيبه أجنبية أمه ادعى هو وأنصاره أن آمون أنجبه منها بنفسه أو من روحه بعد أن اصطفاها وارتضاها لذاته. وصوروا هذا الادعاء في لوحات فنية كبيرة بمعبد الأقصر، وبمراحل تشبه مراحل ميلاد حاتشبسوت. ولسنا ندري مدى تصديق المصريين لهذه الادعاءات من هذا الفرعون أو ذاك، ولكن حسبها ما تدل عليه من اعتقاد الفراعنة بأن الأمر الواقع في ارتقاء العرش والهيمنة على السلطة لا يكفي، وأنه لا بد من تأييده بسند من الدين يُرضي الكهان والخاصة والعوام. وفت الأسرة الثامنة عشرة لمدينة طيبة واحتفظت بها عاصمة أولى للدولة، باعتبارها مسقط رأس ملوكها، والأتون الذي انبعثت منه شرارة التحرير، وباعتبارها مقر آمون رع الذي استعان أجداد الأسرة به لصبغ جهادهم ضد الهكسوس بصبغة مقدسة، وظل خلفاؤهم يحاربون تحت رايته ويردون انتصاراتهم إلى تأييده ونصره. وكان في كل هذا ما عوض طيبة في أقصى الصعيد عن ميزة الموقع المتوسط بعد أن اتسعت حدود الدولة اتساعًا كبيرًا ناحية الشمال. وقد تجلى الاهتمام بها وبإلهها في كثرة ما أقيم فيها على مر الزمن من عمائر ومعابد دنيوية وأخروية، في شرقها وفي غربها، وهذه سوف نعرض نماذج مختارة منها في حديثنا عن العمارة والفن في العصر نفسه، ولكن يعنينا هنا أن الإسراف في الاهتمام بآمون ومعابده، والإسراف في رصد الأوقاف الضخمة عليها وعلى عبادته، وقد كانت تبلغ أحيانًا خراج مدن كاملة، والإفساح لكبار كهنته في بلوغ كبرى مناصب الدولة، كل هذا أصبح فيما بعد من عوامل حض آخناتون على ضرورة التغيير في سياق دعوته الدينية إلى توحيد العبادة لإله واحد، حتى يتخلص ضمنًا من كثرة المعابد التي أصبحت تمتص خيرات الدولة بغير طائل، ويتخلص كذلك من تدخل كبار الكهنة الذين أصبحوا قبيل عهده يبدون كأنهم أصحاب دولة داخل الدولة. أما عن تفاصيل دعوة التوحيد نفسها فهذه سيتناولها فصل العقائد الدينية.

_ 1 A. Erman. Die Sphinxstele, 1904.

وظلت الشخصية الثانية بعد الفرعون، هي شخصية الوزير وربما ازدوجت الوزارة حينذاك، فاستقر الوزير الأكبر في طيبة، وظهر أحيانًا وزير آخر في منف التي كانت مركزًا لبعض وحدات الجيش والملاحة ومقرًا لأولياء العهود1. وشغل الوزارة في هذا العصر مدنيون وآخرون جمعوا بين الوزارة وبين رئاسة كهنوت آمون. وسجل "رخميرع" وزير تحوتمس الثالث في نقوش مقبرته بغرب طيبة مرسوم تكليفه بأعباء الوزارة وتعاليم الفرعون له بما ينبغي أن ... به خلال قيامه بها. وقد لا تكون هذه التعاليم من بنات أكفار تحوتمس كلها، حيث سجلت بصور مختلفة عند وزراء لفراعنة آخرين، ولكنها في مجملها كانت أليق به بما عرف عنه من تجربة وحصافة، ويمكن أن تعتبر في مجملها دستورًا لعلاقة الحكام برعاياهم خلال الدولة الحديثة. وبدأت بقول الملك: "يأبى الرب التحيز، وهذه تعاليم نرجو أن تتبع سبيلها"، ثم استرسل في نصائحه وقال فيما قال: "تطلع إلى منصب الوزير هذا وكن يقظًا لكل ما يحدث فيه، فهو عماد الأرض كلها، ولاحظ أنه ليس بالمنصب الهين، ولكنه مر المذاق ... ، وهو لا يعني "مجرد" تقدير الذات واحترام الرؤساء ورجال البلاط، وليس الغرض منه أن يستعبد الوزير أفرادًا من الشعب ... ، فإذا قصدك شاكٍ من الصعيد أو الدلتا أو من أي بقعة في الأرض، فعليك أن تتأكد من أن كل شيء يجري وفقًا للقانون والعرف. وامنح كل ذي حق حقه ... ، ولاحظ أن من يلي منصبًا كبيرًا يردد الهواء والماء كل ما يفعله ولا يمكن أن تستمر تصرفاته خافية ... ، تصرف وفقًا للعدل، فالمحاباة يمقتها الرب. وإليك نصيحة تتخلق بها: عامل من تعرفه كما تعامل من لا تعرفه، وانظر إلى المقرب إليك نظرك إلى البعيد عنك ... ، لا تشح بوجهك عن صاحب شكوى، ولا تؤمن سريعًا على حديث من يحادثك ... ، لا تغضب على فرد بغير حق، واقصر غضبك على من ينبغي الغضب منه. كن مهيبًا يهابك الناس، والنبيل هو من يجله الناس وتتأتى مهابته إذا أحق الحق ... ، ولكنه إذا أخاف الناس وأسرف في ترويعهم، وكانت به نقيصة، نزلوا به عن مصاف الرجال. ولسوف تنجح في تحقيق الهدف من منصبك إذا نصرت الحق، فالناس يتوقعون العدل في كل تصرفات الوزير، وتلك سنة القضاء منذ حكم الرب على الأرض ... ، كن عنيفًا مع المتكبر، فالفرعون يفضل من يستحي على من يتكبر ... "2. وهذه كلها نصائح يمكن أن يصلح الحكم بها في كل عصر. وزادت مركزة الأمور في يدي الوزير الأعلى "في طيبة" عما كانت عليه قبل الدولة الحديثة، وأصبح إشرافه على ولاة الأقاليم أعم وأكبر، وكان له رسل ومندوبون يعملون كحلقة وصل بينه وبين المصالح الإقليمية ويقدمون تقاريرهم لرؤسائهم ثلاث مرات في العام، الأمر الذي قلل من شأن الأسر الإقطاعية الكبيرة في حكم الأقاليم. واتسعت تبعات الوزير في مقابل ذلك باتساع آفاق الموارد والاستثمارات والمسئوليات في شئون الضرائب والزراعة والري والمنشآت وتنظيمات الجيش والبحرية والأمور الخارجية، في فترات الانطلاق والازدهار من هذا العصر.

_ 1 H. Kees, Priestertum, 62 F.; A. Badawi, Memphis, 53 F., 58 F. 2 Urk. IV, 1090 F.; K. Sethe, Einsetzung Des Veziers Unter 18 Dyn., 1902; A.H. Gardiner, Rec. Tr., XXVI, 1f.; R. Faulkner, “The Installation Of The Vizier”, Jea, XXLI, 18 F.

إصلاحات حور محب "جسر خبرو رع": لم يكن من المتوقع أن تسير أمور الإدارة سيرًا مثاليًّا أو هادئًا دائمًا، لا سيما في فترات القلق ومنها تلك التي أعقبت عهد آخناتون في أواخر هذا العصر، والتي لم تتخلص مصر منها إلا بعد أن شهدت نشاطها داخليًّا جديدًا ببداية حكم حور محب "1335 - 1308؟ " وكان رجلًا من خاصة الشعب اعتلى العرش بعد أن عز وجود وريث شرعي قوي الشكيمة من صلب الأسرة الثامنة عشرة المالكة. وساعده على بلوغ هدفه خبرته بأمور الحرب وأحوال الإدارة منذ عهد آخناتون، وتمتعه بحزم تطلعت البلاد غليه بعد فترة طال فيها النزع بين القصر الفرعوني وبين كهنوت آمون منذ عهد آخناتون أيضًا، وعجز فيها كل من الفريقين المتنازعين عن أن يحقق لنفسه سيطرة كاملة على الفريق الآخر ويعيد إلى البلاد استقرارها القديم، الأمر الذي أدى إلى سوء الإدارة وإلى تعطل النشاط العسكري في الخارج واجتراء بعض العسكريين العاطلين على حقوق الدولة وأموال المواطنين. وفي بداية حكمه أصدر حور محب مجموعة من المراسيم عرفت اصطلاحًا باسم "قوانين حورمحب". أكد في مقدمتها أسفه على ضياع السلطة في الأرض، وأنه ابتغى بقوانينه أن يمحو بها أعمال النهب والعنف، وأنه أملاها بنفسه على أهل بلاطه، وأنه اختار قضاته الإداريين الجدد لتطبيقها ممن يحسنون القول ويمتازون بالخلق الطيب ويدركون خفايا الأمور .. ويتبين من قوانينه هذه أن الضريبة التي اعتادت الدولة أن تفرضها على جلود الماشية وتجبيها من الزراع والرعاة كل عامين، أصبحت نهبًا مشاعًا لعدد كبير من الموظفين والعسكريين كانوا يغالطون دافعي الضرائب ويجبونها سنويًّا لصالحهم. وأن بعض الجنود كانوا يعتدون على سفن الغلال المتجهة على أمراء الدولة وينهبونها. وأن أصحاب المراكب غالبًا ما كانوا يحرمون من أجورهم على ما يؤدونه من خدمات الدولة، وكانوا يعوضون ذلك بالاشتطاط في طلب أجور باهظة عن النقل المدني. واستهدف حور محب في قوانينه أن يحمي دافعي الضرائب وعمال المزارع، ففرض على المعتدين والمرتشين عقوبات رادعة تمثلت في الجلد بالسياط وجدع الأنف والنفي إلى ثارو على الحدود الشمالية الشرقية. وعمل على تنفيذ مراسيمه من تاريخ صدورها دون أثر رجعي، والمسارعة بمعاقبة المخالفين ليكونوا عبرة لمن سواهم. والحرص على استرداد المسروقات، وإعفاء صاحب الماشية من الضرائب المستحقة عليه إذا سرقت ماشيته أو نفقت بشرط أن يثبت ضياعها أو هلاكها. وكان حازمًا مع رجال جيشه على الرغم من أنه كان منهم، فساوى بينهم وبين غيرهم في الردع والعقاب1. لم يحل سلطان فراعنة الأسرة الثامنة عشرة دون ذيوع شهرة كبار رجال دولتهم. ولم يتردد هؤلاء الكبار في أن يصفوا أنفسهم علنًا بما كانوا يعتقدون أنهم أهل له من الكفاية والشهرة. ومن هؤلاء القائدان أحمس بن إيانا، وأحمس بانخبة، اللذان سوف نستشهد بنصوصهما في سياق حديثنا عن السياسة الخارجية، وسنموت

_ 1 Urk. Iv, 2140 F.; W. Helck, Zaes, Lxxx, 109 F.; K. Pfluger, Jnes, V, 260 F.; Van De Walle, Chronique D’egypte, 1947, 230 F., See Also Azes, 1955, 109-136. وربما امتد نفي المذنبين إلى الواحات والنوبة أيضًا.

صفى حاتشبسوت ومربى ابنتها وكبير مهندسيها، وقد كان من قوله يفخر بمهارته الفنية أو العلمية "ابتدعت أمورًا من تلقاء نفسي فيما نفذته في علمي، لم توجد من قبل في كتابات الأقدمين"1. ثم رخميرع الذي عقب على أخذه بتعاليم مولاه بقوله "هأنذا أتحدث بنفسي وأعلنها حتى يسمعها أولو الألباب. لقد سموت بالعدالة حتى عنان السماء، وجعلت بهاءها يعم الأرض باتساعها، فاستقرت في خياشيم الناس كنسمة الشمال التي تطرد عكوسات البدن ... ، وأبيت المنكر ولم أفعله، وجعلت النمام يُلقى على أم رأسه ... ، ولم أضح بحق من أجل مكافأة، ولم أصم أذني عن صفر اليدين، ولم أقبل رشوة إنسان ... ، وعلمت الجاهل ما ينبغي عليه أن يفعله ... "2. ثم وصف نفسه بأنه "نبيل يتلو الملك "مباشرة"، ورابع حكم بين الرفيقين المقدسين "حوروست" ... ، بارع في عرف الأحياء، صاحب المقام الأول في رأي الجماهير. وقال في أسلوب طريف وهو يصف حصافته في توجيه سفينة الدولة "كنت ربانًا لا أغفل ليلًا أو نهارًا، وسواء وقفت أم جلست وجهت بصيرتي على مقدمة سفينتي ومؤخرتها. ولم تتراخ يدي عن العصا التي أسبر بها أعماق الماء، وظللت يقظًا حتى لا تجنح "السفينة" مني في فرصة ما .. ". ووصف حاجب الفرعون تحوتمس الثالث، يدعي إنتف، نفسه بأنه الحكيم المحتبى بالمعرفة، المؤتمن حقًّا ... ، وأنه مكتمل العقل للغاية، ذكر الفؤاد، يدرك النوايا قبل أن تفصح عنها الشفاه، يتكلم عن بصيرة وبوحي رأيه الخاص، ليس من أحد لا يعرفه ... ، خادم للفقير، أب لليتيم ... ، ثم قال: سيطر على ضميري ودفعني إلى أن أن أفعل ما فعلت، وهو وازع جليل، لم أتعد وحيه، وخشيت أن أخالف صوته، فنعمت به كثيرًا وأصبحت كاملًا بما دفعني إلى عمله، وذا مقام بفضل توجيهه ... ، فهو الذي قال الناس عنه إنه معجزة الأرباب، ذلك الكائن في كل جسد، هو الوازع، وهو الهادي إلى خير طريق لبلوغ الكمال ... "3. واشتهر من رجال أمنحوتب الثالث أصحاب الفضل في مشاريعه المعمارية والحربية والمدنية سميه أمنحوتب بن حابو، وقد عبر عن خبرته في الدنيا والدين بقوله "تعمقت في الأقوال القدسي، واطلعت على أعمال تحوتي "رب الحكمة" الباهرة، وتزودت بكل أسرارها وكشفت عن كل فصولها واعتاد الناس على أن يستشيروني في كل أمورها ... "4. واطمأن الفرعون إلى رجله هذا فعهد إليه بتربية ابنته، وسمح له بأن يقيم تماثيله الخاصة في رحاب الكرنك معبد آمون وفي معبد موت5. وذاعت شهرة ابن حابو بالتقى وشجعه ذلك على أن يعد الناس في نقوش تماثيله، إن هم ترحموا عليه، بأن يتشفع لهم من ناحيته عند ربه آمون. وعندما بلغ الثمانين من عمره كان لا يزال يأمل في المزيد، فقال في نقوشه "بلغت الثمانين وأرجو أن أعيش حتى مائة

_ 1 Cairo 42114; Berlin 2296; E. Drioton, Asae, Xxxviii, 231 F. 2 Zaes, Lx, 69. 3 Louvre C 26; Breasted, Op. Cit., Ii, 763 F.; Zaes, Xxxix, 47 F. 4 Breasted, Op. Cit., Ii, 915. 5 W. Helck, Der Einfluss Der Militarfuhrer, 3 F., 12, 22, Etc.

وعشرة" "وكانت هي السن المثالية لشيوخ المصريين". وترتب على سمعته الطيبة أن قدسه مواطنوه بعد وفاته واعتبروه من الأولياء، ثم ألهوه في عصورهم المتأخرة وشاركهم الإغريق في تأليهه، وقدسوا أمه وصوروها على هيئة الربة سشات راعية الكتابة والحساب. ونسبوا إليه المعرفة بالطب، وأعادوا بناء مقصورة شعائره في غرب طيبة وأحالوها إلى معبد كبير، وقرنوه بإيمحوتب مهندس عصر الأسرة الثالثة وحكيم زمانه وخصصوا لهما مقصورتين في المسطح العلوي من معبد حاتشبسوت بالدير البحري، وشادوا بكراماته في قضاة حوائجهم وشفاء مرضاهم إذا باتوا في معبده، ثم جمعوا بينه وبين ملكه في أسطورة سموها "تنبوءات الفخراني"1. ومرة أخرى لا نود أن نتخيل حياة أولئك الكبار مثالية كما صوروها، ولا أن نتخيلها نموذجًا لحياة كثيرين من أفراد شعبهم، فشتان ما بين مقدرات الكبار والصغار، وبين القول وبين التطبيق في كل مجتمع وزمان، ولكننا نود أن نجمع بين تراجمهم وبين تراجم من استشهدنا بهم في مناسبات سابقة من رجالات العصور المتعاقبة، في القول بأن شخصية الفرد "الكبير" إزاء فرعونه في مصر القديمة كانت أظهر بكثير من شخصيات كبار الأفراد في الأمم الشرقية المعاصرة، مثل بلاد النهرين، إزاء ملوكهم، سواء من حيث الثراء أم من حيث الاعتداد بالنفس، وذلك على عكس الظن الشائع باختفاء شخصية الفرد المصري إلى جانب قديسة ملكه وسلطانه.

_ 1 See, Sethe, “Egyptian Heros”, In Hasting’s Encyclopaedia, Vi, 650 F.; Robischon Et Varille, Le Temple De Scribe Royal Imenhotep Fils D’hapou, 1936.

في السياسة الخارجية

في السياسة الخارجية: خرج أولو الرأي المصريون من محنة الهكسوس وقد غلب على تفكيرهم أنه لا أمان لاستقلالهم من غدر أعدائهم إلا إذا واصلوا الاهتمام بجيشهم وزادوا قوته الحربية، وأنه لا أمان لاقتصادهم من اعتداءات بقايا الهكسوس وأمثالهم إلا إذا أبعدوهم عن مسالك تجارتهم الخارجية جهد ما يستطيعون وأحاطوهم بأنصارهم جهد ما يستطيعون، وأنه لا أمان لمستقبل بلدهم ممن غزو هجرات شعوبية جديدة غريبة إلا إذا سيطروا بأنفسهم على مداخل الهجرات في شمال الشام وأطراف العراق. وتكفل بالمرحلتين الأوليين من هذه السياسة الملكان أحمس الأول وأمنحوتب الأول على التعاقب. بينما أخذ خليفتهما تحوتمس الأول على عاتقه أن يبدأ بتنفيذ المرحلة الثالثة منها. وكان أحمس الأول "نب بحتي رع" قد استن من جانبه أدوات تنفيذ المرحلتين الأوليين، فترأس جيوشه بنفسه وخرج بها عن حدود بلده، وأبان عن إدراكه لخطورة إقامة الهكسوس على مقربة من هذه الحدود، فحاصرهم في شاروحين حتى أجلاهم عنها وشتتهم منها كما أسلفنا. ثم استعاد هو ورجاله صلات بلدهم بتجارة الشمال والجنوب، أي تجارة أهل الشام ومن كانوا يتعاملون مع موانيهم من تجار الكريتيين ثم تجارة الكاشيين في بلاد النوبة ومن ورائهم من أهل الجنوب.

وخلف أحمس الأول على عرش مصر ولده أمنحوتب الأول "جسر كارع"، فانتفع بجهوده واستقرت أحوال مصر في عهده، وغلب السلام عليها. وطال عهده معها أكثر من واحد وعشرين عام "1550 - 1528ق. م" يذكر له فيها أنه جرى على سنة أبيه فخرج على رأس جيشه إلى ما وراء الحدود المصرية في الشمال والجنوب والغرب ليثبت أن سلام مصر في عهده هو سلام الأقوياء. وقد صحبه في بعض حملاته قائدان كان لهما فضل كبير فيما روياه عن حروبه، أولهما أحمس بن إبانا الذي خدم أباه أحمس، وقد ذكر في نصوصه أنه تولى قيادة الأسطول النهري وعاد به من النوبة في يومين1 "حتى أسوان؟ "، وثانيهما رجل يدعى أحمس كذلك واشتهر باسم أحمس بانخبة2، وسوف يكون له دوره هو الآخر في سياق الحوادث بعد عهد أمنحوتب. وعمل أمنحوتب على أن يجعل لبلاد النوبة السفلى شخصية واضحة في صلب الدولة، فسلكها في وحدة إدارية واحدة تمتد من الشلال الثاني وتدخل في صلب الحدود المصرية متضمنة محافظة أسوان، ليثبت عمليًّا أنها جزء من مصر يجري عليها ما يجري على أقاليم مصر نفسها، وأصبح حاكمها يلقب بلقب والي الأقاليم الجنوبية3 "وإن استمرت الألقاب تترى على صاحب هذا المنصب فيما بعد حتى أصبح أشبه بنائب ملك في النوبة وغدا يلقب بلقب الأمير". وليس من تفاصيل معروفة حتى الآن عن مشروعات عهد أمنحوتب الأول في بلاد الشام، ولكن لوحظ أن رجلًا من رجاله ذكر اسم دولة الميتان مثن في نصوصه لأول مرة4. وذلك مما يعني أن جهود رجاله قد ترتبت عليها زيادة معرفتهم بأحوال الشرق القديم وأحوال دوله. وكانت دولة الميتان آرية الأصل نزلت جماعاتها في شمال شرق سوريا وأطراف العراق، قبيل أوائل القرن السادس عشرة ق. م، واعتمدت على نظام الإمارات الفيدرالية لفترة طويلة. وتركزت أهم مدنها على نهير الخابور ونهر الفرات5. لم يكن السلام المسلح الذي غلب على أحوال مصر في عهد أمنحوتب الأول غير فترة استجمام استجمعت البلاد قواها فيها وتحفزت بعدها لخطوات جريئة جديدة. وبدأت هذه الخطوات بتولي تحوتمس الأول "عاخبر كارع" الذي اعتلى العرش في سن الرجولة الناضجة "ربما بعد الأربعين"، أي بعد أن حدد أهدافه ورسم آماله. وقد آثر لنفسه خطة النضال وسياسة الهجوم، فكان من قوله عن نفسه إن ساعة الحرب أشهى عنده من يوم هنيء6، وإنه يتشوق للقتال وينشرح كلما بلغه نبأ تحرك الأعداء7. واستغل تحوتمس هذه

_ 1 Sethe, Urkunden, Iv, 7, 15; Breasted, Ancient Records, Ii, 39. 2 Sethe, Op. Cit., 32 F. 3 Ibid., 78. 4 Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 197 “After L. Borchardt”. 5 See. Sidney Smith, Early Llistory Of Assyria, Xiv, Xv; W.F. Albright, Jea, Xiv, 283 F. Gardiner, Ancient Egyptian Onomastica, I, 173 F., 266, 286. 6 Urk., Iv, 85, 9. 7 I. D., Iii. 128 A.

القوة الدافعة في نفسه واستغل الروح الحربية التي سادت شعبه منذ عهدي سلفيه، فمد حدود مصر الجنوبية إلى المدى الذي كان يعتقد أنه مداها الطبيعي، ووصل بها قرب الشلال الرابع، ثم عاد وسجل أخبار انتصاراته على الصخور المواجهة لجزيرة تومبس1. وزاد في سنة سلفه فجمع المناطق الجنوبية في وحدة إدارية كبيرة امتدت من نواحي نباتا حتى مدينة الكاب قرب إدفو، ورفع قيمة واليها بما يتفق مع اتساعها الجديد فخلع عليه لقب الإمارة "حرفيا: ابن الملك"2. واستمرت بلاد النوبة تتمصر منذ ذلك الحين بخطى سرية وتهذبت مصنوعاتها المحلية التي شاعت فيها منذ أيام الدولة الوسطى3. ووجه تحوتمس ناحية الشام عاملان: عامل القوة الدافعة التي صبغت سلوكه وروح عصره، وعامل تحرك الجماعات الميتانية التي ذكرتها نصوص عهد سلفه، في شمال شرق الشام وقرب نهري الخابور والفرات. وكان في كل من العاملين ما شجعه على تنفيذ المرحلة الثالثة من سياسة أسرته، ألا وهي السيطرة على أبواب التجارة ومداخل الهجرات في شمال الشام وأطراف العراق. ولم تكن أحوال بلاد الشام حين ذاك مما يشجعها على صد هجرات جديدة أو كسر شرة الهجرات الموجودة على أطرافها، دون دفع خارجي أو عون خارجي، وحين تطلع تحوتمس الأول إلى جمعها تحت رايته اعتمد على جرأته واستعان بالتحركات القوية الخاطفة، فمرق بجيشه من مصر عبر الشام في سرعة غريبة ودون معارضة كبيرة حتى بلغ أرض نهرينا في منطقة الميتان4 ثم عبر نهر الفرات وأرسى على ضفته الشرقية نصبًا حدد به حدود دولته الناهضة5 التي امتدت على حد تعبير نصوص عهده من قرن الأرض في الجنوب إلى أطراف المياه المعكوسة في الشمال، أي من جبل برقل والشلال الرابع حتى أطراف مياه الفرات التي استغرب المصريون جريانها من الشمال إلى الجنوب على عكس جريان مياه نيلهم، فاعتبروا جريانها جريانًا معكوسًا ووصفوها بأنها المياه التي تجعل المبحر يقبل "أو تجعل الطالع نازلًا"6. وعند عودته من ضفاف الفرات، وجد تحوتمس من وقت فراغه ومن شعوره بالطمأنينة ما شجعه على أن يمتع نفسه هو وخاصة رجاله بصيد الفيلة في منطقة أحراج "ني"7. وظل الرجل فخورًا بما أداه لمصر، وكان من قوله بين كهنة أوزير في أبيدوس: "أطلقت حدود تامري "أي مصر" إلى ما تحيط الشمس به، وعوضت أهلها بعد خوفهم قوة "وأمنًا"، وأقصيت الشر عنها، وجعلتها فوق رأس الدنيا كلها، وجعلت الجميع أتباعًا لها"8.

_ 1 Urk., Iv, 82 F.; Ancient Records, Ii, 67 F.; Saeve-Soderbergh, Aeghpten Und Nubie, 148, 154. 2 Urk. Iv, 80; And See, Jea, Vi, 82 F.; Rec. Trav., Xxxix, 182. 3 ألكسندر شارف: تاريخ مصر، ص122. 4 See, Gardiner, Onomastica, I, 144, 171 F., 180, 266. 5 Breasted, Op. Cit., Ii, 478. 6 Urk., Iv, 85, 14. 7 See, Gardiner, Op. Cit., 158 F. 8 Urk., Iv, 102, Ii F.; Zaes, 1910, 73-74.

ولحسن الحظ احتفظت النصوص المصرية بأقوال بعض من شاركوه في السمعة الحربية من شجعان جيشه، وكان منهم أحمس بن إبانا الذي تمرس على الحرب منذ أيام الكفاح ضد الهكسوس، وقد كتب في نقوش مقبرته يقول "حين بلغ الفرعون نهرينا ... كنت في مقدمة جيشنا، وشهد جلالته مدى جرأتي، وقدت إليه "ذات مرة" عربة حربية بخيلها وبمن فيها أسرى وقدمتهم إليه، فكافأني بالذهب ضعفًا ... "1. وكان في قوله "كنت في مقدمة جيشنا" ما يشهد باعتزازه بهذا الجيش وبأن المواطنين أصبحوا يعتبرون الجيش جيشهم وليس جيش الفرعون وحده. ثم أحمس بانخبة الذي زامله في خدمة أمنحوتب الأول وذكر هو الآخر أنه اشترك في حروب نهرينا وأنه قتل واحدًا وعشرين شخصًا وأسر وغنم مركبة حربية ... 2. كان منطقيًّا أن تعقب فترة النضال المستمر في المرحلة الأولى من عصر الأسرة الثامنة عشرة، فترة هدوء واستجمام، وقد حدثت هذه الفترة بالفعل في عهدي ولدي تحوتمس الأول. وهما تحوتمس الثاني ثم حاتشبسوت. وقد سارت العلاقات الخارجية في عهد تحوتمس الثاني "عاخبرن رع" سيرًا عاديًّا هينًا، وتكفلت جيوشه بمجهودات يسيرة لتوطيد الأمن في الأملاك الجنوبية3 والشمالية4. واتجهت سياسة الدولة في عهد حاتشبسوت "ماعت كارع" وجهة إفريقية أكثر منها آسيوية، فعملت جيوشها على توطيد الأمن في منطقة كاش5. وعلى استغلال مناجمها وزيادة التبادل التجاري معها هي وما ورائها من بلاد السودان. وخرجت حينذاك بعثتها الاقتصادية الكبيرة المشهورة إلى بلاد بوينة "أو بونت" في عام حكمها التاسع، وقد صورت مراحلها على جدران معبدها في الدير البحري، وقيل معها إنها بدأت بوحي الإله آمون رع وإنه أرشدها إلى خير السبل على بلاد بوينة ومدرجات أشجار الكندر. وقد خرجت البعثة في عدة سفن شراعية كبيرة ومعها سرية من الجند وأبحرت في البحر الأحمر حتى باب المندب ومنه إلى بلاد بوينة "إرتيريا أو الصومال" فاستقبلها الحاكم بوينة وزوجته وأولاده وكبار رجاله، وانحنى كبار حاشيته أمام رمز حاتشبسوت وقالوا وهم يحيونه ويلتمسون البركة منه "تحية لك ملك مصر، الشمس الأنثى التي تضيء مثل الكوكب" وقالوا "حقًّا إن ملك مصر لا يعزب عنه شيء" ويبدو أن البعثة هدفت أصلًا إلى بلوغ مدرجات الكندر في اليمن لتستورد خير أنواعه وتتفادى تدخل الوسطاء، ولكن أمير بوينة ورجاله خوفوا رجال البعثة مشقة الطريق وقاموا باستيراد 31 من شجيرات الكندر عن طريقهم حتى لا يفقدوا مكاسب الوساطة6. ثم بادلوا البعثة متاجرها، وعادت من أرضهم بكميات كبيرة من الذهب وثمار البخور

_ 1 Urk., Iv, 9, 10-10,3. 2 Ibid., 36, 10-11. 3 Ancient Records, Ii, 119 F,. 4 Ibid., 124. 5 See, Jnes, Xvi, 99 F.; Zaes, 1966, 97 F. 6 Abdel-Aziz Saleh, “Some Problems Relating To The Pwenet Reliefs At Deir El- Bahari”, Jea, 1972, 140-158.

يستخدمها أهل بوينة في أعيادهم وأفراحهم، ومجموعة من كلاب الصيد والزراف والقرود. وكان قد صحب الرحلة فنان كبيرة تولى بعد عودته نقش مناظرها ومراحلها على جدران المسطح الأول لمعبد ملكته في الدير البحري1، وصور معها خصائص قرى بلاد بوينة بنخيلها وأكواخها العالية التي تقوم على أعمدة من سيقان الأشجار ويصعد إليها أصحابها على سلالم خشبية متنقلة، وصور حيواناتها وبعض خصائص سكانها، وسجل معها لوحته الفكاهية الطريفة التي صور فيها أميرة بوينة بدينة ذات أرداف ثقيلة تقف مع زوجها، وصور معهما حمارًا صغيرًا كتب عنه أنه الحمار الذي يحمل زوجته، تلاعبًا باللفظين بين الزوج الآدمي والزوج الحيواني، وإشفاقًا على الحمار الصغير من حمل ذلك الثقل الكبير. انفر تحوتمس الثالث "من خبر رع" أعظم رجال الحرب من الفراعنة المصريين بالعرش عام 1468ق. م أو نحوه. وكان نفس الغلام الذي أشركته حاتشبسوت معها في بداية حكمها ثم نحته عن الحكم وأجبرته على الانطواء في معبد آمون "ص207". وعندما اعتلى العرش منفردًا واجه مشكلة واسعة هددت زعامة مصر وسمعتها الدولية في الشرق الأدنى، وكان عليه أن يتحداها ويثبت كفايته لحلها. وتفرقت مواطن هذه المشكلة في نواحٍ من بلاد الشام وأطراف بلاد النهرين، وكانت عواملها ثلاثة، وهي: اهتمام عهد حاتشبسوت بسياسته الإفريقية أكثر من اهتمامه بسياسته الآسيوية، مما بعد بعض الشيء بين مصر وبين جيرانها أهل الشام. وأمل دولة المتيانيين التي بدأت تلم شملها وتعترف بملك واحد في أن يصبح لها ضلع في توجيه أحوال الشرق الأدنى وتجارته، لا سيما وأن موقعها على الفرات وامتدادها إلى شرقه نحو دجلة سمح لها بمركز تجاري متوسط يمكن أن تتحكم به في مداخل التجارة السورية العراقية ويمكن أن تتنافس مصر به2. ثم اتجاه حكامها إلى شغل مصر عنهم بإثارة الاضطرابات ضدها، وقد استجاب لتحريضاته بالفعل بعض حكام الشام وشيوخ بدوها، لا سيما وأنه كانت لا تزال تعيش بينهم بقية من ذراري الهكسوس الذين طردهم المصريون من بلادهم شر طردة3. وتمخضت هذه العوامل الثلاث عن تحالف ضم عددًا من رؤساء القبائل والمدن الشامية، وتزعمه أمير قادش، وكان فيما يحتمل ميتاني الأصل، أو كان على الأقل كبير المستجيبين للميتان والضالعين معهم. وقد اتجه بحلفائه وخيلهم ورجلهم، على حد تعبير النصوص المصرية4، إلى شمال فلسطين وسيطر على مدينة مجدو وجعلها مركزًا لأطماعه، ومد نفوذه حتى مدينة شاروحين معقل الهكسوس القديم. وتمثلت أهمية مجدو "التي قد يعني اسمها معنى الحصن أو القاطع، وقامت على أطلالها بلدة تل المتسلم الحالية" في

_ 1 E. Naville, The Temple Of Deir Sl-Bahari, Vol. Iii; Brunner-Traut, E., “Die Krankheit Der Fursten Von Punt”, Welt Des Orients, X “1957”, 307-11. 2 J. Nilson, The Collapse Of An Ancient Civilisation, 1940, 4. 3 See, Ibid., 2; Sethe, Zaes, Xlvii, 84; Jea, V, 54, N. 2; Ancient Records, Ii, 636. 4 Urk., Iv, 649.

أنها كانت تتحكم بموضعها في الممرات الجبلية التي تعترض طرق التجارة بين جنوب بلاد النهرين وجنوب الشام من ناحية، وبين فلسطين ومصر من ناحية أخرى. وتعنينا خطط تحوتمس الثالث في معالجة مشكلات عصره من نواحٍ ثلاثة، وهي: دلالتها على التكتيك الحربي في عهده. وتعبيرها عن تقليد عسكري مستحب وهو حرص الفرعون على تبادل الرأي مع ضباط جيشه عند مواجهة مفاجآت الحرب وقبل دخول المعارك الكبيرة. ثم نجاحها في إعادة الاستقرار المنشود إلى ربوع الشرق الأدنى. فقد لجأ تحوتمس إلى سرعة الإعداد، ولم يقض في مصر غير شهور قلائل منذ انفراده بالحكم، واعتزم الهجوم الخاطف وسرعة التنفيذ. وخرج بجيشه في 16 أبريل 1468، وقطع بجيشه ما بين 125 ميلًا و150 ميلًا من المنطقة الصحراوية الممتدة بين مدينة ثارو "تل أبو صيفة شرق القنطرة الحالية" وبين غزة في تسعة أيام أو عشرة، أي بمعدل ما بين 12.5 و15 ميلًا في اليوم الواحد، على الرغم من صعوبة الطريق وعلى الرغم من أن جيشه بلغ ما بين عشرة آلاف وخمسة عشر ألفًا أغلبهم من المشاة. وأقام تحوتمس في غزة يومًا واحدًا احتفل فيه بعيد توليته، ثم واصل الزحف بجيشه حتى بلغ مشارف جبل الكرمل في أحد عشر يومًا أو اثنى عشر يومًا قطع فيها ثمانين ميلًا. ونزل في بلدة "يحم" "فيما يوازي 7 مايو 1468"، عند مفترق ثلاثة طرق تنتهي جميعها إلى مجدو، وكان أقصر هذه الطرق طريق وعر ضيق ذكره المصريون باسم طريق عارونا، يمر خلال شعب من جبال الكرمل وينفذ رأسًا إلى مجدو، أما الطريقان الآخران طريق تاعاناقا وطريق جفتي، فكلاهما رحب متسع، غير أن كلًّا منهما طويل وينعطف في نهايته بعيدًا بعض الشيء عن مجدو، وعقد تحوتمس مجلس حربه، وقال لقادته: "الآن دخل العدو مدينة مجدو، وضم إليه أمراء الأقطار ... بخيلهم ورجلهم". ثم عرض عليهم أمر الطرق الثلاثة وطلب منهم رأيهم في اختيار الطريق المناسب وقال لهم "أفتوني بما في نفوسكم". وشعر القادة بأن فرعونهم يميل إلى سلوك الطريق القصير الضيق، فقالوا: "وكيف يتيسر المسير على طريق وعر بالغ الضيق؟ " ثم شك بعضهم في الأنباء التي بلغت الفرعون عن دخول الأعداء في مدينة مجدو، وخشوا أن يحتل الأعداد مرتفعات الطريق الضيق ويتعقبوهم أو يحتلوا مخرجه ويتصيدوهم، فقالوا له: "هناك نبأ يقول بأن الأعداء لا زالوا في الخلاء، يفوقون الحصر عدًّا، ثم إنه لن يستطيع جواد أن يسير بجوار جواد في هذا الطريق الضيق، فضلًا عن الجنود والمدنيين، وقد تقاتل مقدمتنا هناك وتظل مؤخرتنا هنا في عارونا بغير قتال ... ، ومعنى ذلك أن ما يناسبنا جميعًا هو الطريق المتسع، سواء الطريق المؤدي إلى تاعاناقا، أو الطريق الآخر المؤدي إلى شمال جفتي، وعلينا بعد ذلك أن نتجه شمال مجدو، فليسلك مولانا الهمام أي طريق شاء من الطريقين "الواسعين"، ولكن لا يجبرنا على أن نسير في الطريق الحزون". وهكذا دبر القادة أمرهم، وحاولوا تبرير رأيهم، وأرادوا أن يؤمنوا جيشهم ضد مفاجآت الطريق، ولكهم فضلوا الحذر واللباقة، فتركوا لفرعونهم حرية اختيار أصلح الطريقين المتسعين. ولم يتكلم تحوتمس لتوه، وأراد أن يقنع القادة المتشككين، بصدق ما أخبرهم به عن دخول الأعداء إلى مدينة مجدو، فاستدعى عيونه وأمرهم أن يعيدوا على مجلس الحرب ما سبق أن أنبئوه به عن مواقع الأعداء.

ثم اعتزم أمرًا، ولكنه لم يشأ أن يصدره إلى رجاله في هيئة الأمر. وفضل أن يعلن استعداده للتضحية بنفسه ثم يترك لرجاله الخيار في متابعته أو مخالفته، فقال لهم: أقسم بحب رع، وفضل أبي آمون ... ، لأسلكن هذا الطريق "الضيق"، طريق عارونا بالذات، فليذهب من شاء منكم على الطريقين اللذين ذكرتموهما، وليأت معي من رغب منكم في متابعتي. وإلا فما الذي سيقوله الأعداء أعداء رع، ألن يقولوا إن جلالته سلك طريقًا آخر من فرط خوفه منا؟ ". وأفحم القادة بمنطق الملك وهزتهم الأريحية للدفاع عن سمعة الفرعون وكرامة رع وآمون، فأمنوا عليه وقالوا له: "ليساعدك أبوك آمون، وها نحن في معيتك سائرون أينما سرت، فتقدم ونحن معك كالتابع في معية مولاه". وشفع تحوتمس حديثه بالعمل، أو بمعنى آخر شفع المشورة بسرعة التجهيز والتنفيذ، واعتزم الهجوم الخاطف، فاستقبل جيشه ونادى: "هلموا آزروا مولاكم المظفر، وسيروا على هذا الطريق برغم ضيقه الشديد". ثم أقسم قائلًا: "ولن أسمح بأن يتقدمني "أحد حتى" فرق الطليعة في هذا المقام". وبر الفرعون بيمينه، وأصر على أن يخرج بنفسه في طليعة جيشه "وحينذاك أخطر المنادون كل فرد بمكانه في المسيرة، وسار الجواد في إثر الجواد والفرعون على رأس الجنود". لم يتوقع خصوم تحوتمس أن سيجازف وجيشه الكثيف بسلوك الطريق الضيق، فابتعدوا عنه، وخرج هو بطليعة جيشه. ولكن صدق شك ضباطه في الأنباء التي وصلته عن تجمع خصومهم داخل مجدو، فقد كان هؤلاء لا يزالون منتشرين في الخلاء فعلًا. ولما تيقن القادة من ذلك قالوا لفرعونهم في صراحة: "نرجو أن يستمع مولانا إلينا في هذه المرة، ويتركنا نحافظ على مؤخرة جيشه وأفراد شعبه، فإذا وصلت إلينا مؤخرة الجيش قاتلنا الأعداء دون أن يشغل بالنا على رجالنا". وأطاع تحوتمس رجاله، وجلس على مقعدة أمام سرادقة، حتى خرجت إليه مؤخرة جيشه عند الزوال، وأكرم القادة وأرسل المؤن للاتباع وعين حرس المعسكر وأوصاهم بالثبات واليقظة ... ، ثم أتته الأنباء بخلو الساحل وأن فرق العسكر الجنوبية والشمالية في وضع سليم. وفي يوم عيد القمر الصادق "بما يوافق 12 مايو 1468ق. م" خرج الملك في الفجر.، في عربة مذهبة مزودة بأسلحة الحرب، وتوسط جيشه ثم انحط به على الميدان، ولم تطل المعركة وآثر خصومه الفرار، وتركوا خيولهم وعرباتهم المذهبة والمفضضة. وكان أهل مجدو قد أغلقوا أبواب مدينتهم، ولكنهم عاونوا كبار الفارين ودلوا لهم أقمشة ربطوها حول خصورهم ورفعوهم بها .. ، وهنا عقب المراسل الحربي لتحوتمس بأنه لو لم ينشغل جيشه جلالته بجمع الغنائم لاستولى على مدينة مجدو في الحال، ولكن انشغالهم سمح لأمير قدش وأمير مجدو بالفرار إليها ... ، واضطر الجيش المصري إلى تطويق المدينة، فأحاطها بخندق وطوقها بسور من أخشاب الأشجار، واستمر في مراقبتها سبعة شهور، حتى إذا طال المطال على أهلها أخرجوا أبناءهم إلى تحوتمس يقدمون له السلاح والهدايا، فعفا عنهم وقبل هداياهم، ثم خرج إليه حلفاؤهم الأمراء وأعلنوا استسلامهم، فقبل جزاهم وسرحهم إلى مدنهم، واكتفى بأن جعلهم يستبدلون الحمير بخيولهم، عقابًا يسيرًا، وهونًا من هوان، ولأنه كان أحوج إلى الخيول كما قال1. وعندما عاد

_ 1 Urk., Iv, 647 F.; Ancient Records, Ii, 391 F.; H. H. Nelson, The Battle Of Megiddo, 1913; R. Faulkner, Jea, Xxviii “1942”, 2 F. عبد العزيز صالح: "التربية العسكرية في مصر القديمة" – بحث في المجلد الأول من تاريخ الحضارة المصرية – القاهرة 1962 ص196 - 198.

بجيوشه إلى مصر كان قد أعاد الاستقرار إلى جنوب الشام وأرهب خصومه، وكسب ود الأمراء الذين تسامح معهم، واصطحب معه بعض أبنائهم إلى مصر ليكونوا ضمانًا لإخلاص آبائهم1. وتفقد تحوتمس أحوال الشام بعد ذلك أربع مرات في أربعة أعوام متتالية، كان يخرج فيها بمظاهرات عسكرية سليمة ضخمة. ثم اعتزم في مرته السادسة منازلة أمير قادش رأس المشكلة في عقر داره، بعد أن اطمأن إلى سلامة ظهره، أي اطمأن إلى إخلاص المدن الشامية التي تركها خلفه اطمأن إلى كفاية أساطيله وقدرتها على تموين جيشه من ناحية البحر وحماية إمداداته فيما لو حدث شيء يهدد اتصالاته من ناحية البر. وكانت قادش، وهي تل نبى مند الآن، تستمتع بحصانة طبيعية وتحتل موضعًا إستراتيجيًّا أصيلًا فاقت أهميتها به أهمية مجدو. فقد وقعت بين ثلاثة تحصينات مائية: نهر العاصي الذي قامت على ضفته الشرقية وفرع صغير اتصل به عندها من ناحيتة الغربية، ثم بحيرة حمص التي تقع إلى الشمال منها بقليل. وتحكمت قدش بحكم موقعها في المدخل الشمالي لوادي البقاع المؤدي إلى قلب سوريا، وأشرفت على وادي النهر الكبير المؤدي إلى ساحل البحر المتوسط، وأطلت على طريق تجاري رئيسي يصل بين بلاد النهرين وبين سوريا. وكانت محصنة ويقوم بالقرب منها معسكر قديم من معسكرات الهكسوس، كما يقوم على بعد 35 ميلًا منها معسكر قطنة أكبر معسكرات الهكسوس جميعًا. "راجع أيضًا حضارة الشام في جزء تالٍ لهذا الكتاب". ونجح تحوتمس بجيشه في هزيمة خصمه أمير قادش بعد مجهود كبير، ودخل المدينة وأصلح رجاله أسوارها، وألف بينها وبين بقية المدن السورية، ورجع إلى مصر ومعه بعض أمرائها الصغار الذين قالت عنهم حولياته الرسمية: "استحضر جلالته أولاد الأمراء وإخوتهم ليكونوا ودائع على أرض مصر، حتى إذا توفي أحد الأمراء عين جلالته ولده في منصبه، وكان عددهم في هذا العام 36 فردًا، ومعهم من الخدم والجواري 188"2. وعلى الرغم من الرغبة في اتخاذ هؤلاء الأمراء ودائع ضمانًا لإخلاص آبائهم، فإن بقية السياق تدل على أنه كان ينظر إليهم نظرة طيبة تحفظ عليهم مكانتهم الأولى وينعمون فيها بخدمهم وجواريهم العديدين، وأن من أغراضه من استقدامهم أن يلمسوا أمجاد مصر وعظمة عاصمتها التي كانت بهرة العالم المتمدين في ذلك العصر، وليطمئنوا إلى الحضارة المصرية ويتشبعوا بها ويصبحوا أوفياء لها ولفراعنتها إذا تولوا حكم مدنهم وإماراتهم بعد وفاة آبائهم. وعندما خرج تحوتمس بجيشه إلى سوريا في مرته الثامنة "في العام 33 من حكمه" كان قد اعتزم أن يهاجم دولة الميتان في عقر دارها ليأمن دسائسها وتحريضاتها وليستقر الأمن بعدها على حدود دولته. وعمل في سبيل نجاح خطته على تنظيم المواني الشامية وتزويدها بما كان يعوزها من المحاصيل الغذائية، وقالت

_ 1 But Compare, Ancient Records, Ii, P. 170. 2 Maritte, Karnak. 13, Ii; Anc. Records. Ii, P.198.

نصوصه في ذلك: "تعليماته لإعداد المواني: مون جلالته كل ميناء وصل إليها بالخبز الجيد "من القمح؟ " وأنواع الخبز الأخرى، وزيت الزيتون والبخور والنبيذ والعسل والفواكه"1. ثم طلب إلى رجاله أن يجهزوا أسطولًا كبيرًا من أخشاب لبنان وأن ينقلوا سفنه وناقلاته مفككة عن طريق البر على عربات تجرها الثيران إلى قرب نهر الفرات. والتقى تحوتمس وجيوشه بالميتانيين في قرقميش، وانتصر برجاله عليهم، ففر ملكهم على أحد أقاليم دولته القصية، وهنا قال تحوتمس في حولياته "قسمت جيشي بعد المعركة قسمين عبر أحدهما الفرات وتتبع الأعداء، ولاحق الآخر العدو الخاسئ "ملك الميتان" في جبال ميتاني، ولكنه فر إلى بلد بعيد". وقد يعني هذا أن دولة الميتان لم يقض عليها تمامًا وأنه كان ينبغي أن تحدث معها جولات تالية. ومع ذلك فقد توج تحوتمس نصره بأن عبر الفرات بسفنه، ثم أرسى رجاله نصبين على ضفتيه سجلوا عليهما أخبار نصره وعينوا بهما حدود فتوحاته2. وكان هي المرة الأولى التي نقلت السفن الحربية فيها على طريق البر لمسافة تقرب من 250 ميلًا "وكانت السفن المصرية تصنع من ألواح ذات وصلات كثيرة وذلك مما ساعد على سهولة نقلها"، كما كانت من أولى المرات التي استخدمت فيها لعبور جيش كبير على متن نهر واسع كالفرات في التاريخ القديم3. وعبر تحوتمس حينذاك عن اتساع حدود دولته بعبارة قريبة من عبارة جده تحوتمس الأول، قال فيها إنه "جعل حدوده من بداية الأرض "أي من أقاصي النوبة" إلى أقاصي آسيا "الغربية"4. ثم خرج إلى الأقاليم الشمالية نحو ثمان مرات أخرى أو تسع، قصد بها الاستطلاع حينًا، والإصلاح حينًا، وتوطيد الأمن وإرهاب العصاة حينًا، ومجرد الزيارة والرحلة حينًا آخر. وازدادت صلات مصر ببلاد الشام من وراء هذه الجهود، وازدادت أعداد المصريين فيها من موظفين وتجار، كما ازدادت أعداد مواطنيها في مصر أمراء وتجارًا وعاملين. ولم يجد كبار الموظفين المصريين بأسًا من أن يحترموا بعض أرباب الشام إلا جانب معبوداتهم5. وكان من ذلك على سبيل المثال أن ذكر أحد رؤساء الخزانة في عهد تحوتمس الثالث أنه حرص على أن يقدم قرابينه إلى "ربة جبيل المسماة بعلة" قبل أن يصعد جبل لبنان لانتقاء أشجار الأرز اللازمة لمهمته6.

_ 1 A. Erman, Die Literatur Der Aegypter, 1923, 284 F. 2 Urk., IV, 697 F.; Anc Records, II, 476 F.; Jea, XXXII, 39f.; Mond And Myers, Armant, 103, 7 F. 3 See, R. Faulkner, Jea, 1946, 39 F. 4 Gebel Barkal Stela, 8; Zaes, Lxix, 24 F.; Var. Urk., Iv, 587, 2 F. 5 See, Steindorff, Zaes, XXXVIII, 15 F.; Gustavs, Zaes, Lxiv, 54 F.; G. Posener, Syria 1937, 183 F.; W.F. Albright, J.A.O.S., 1954, 222 F.; Seforad, Ibid, 1956, 215.; W. Helck, Die Beziehumgen Aegyptens Zu Vorderasien Im 3 Und 2. Jahrtausend, V. Chr., Wiesbaden, 1962. 6 Urk, IV, 531 F.; Montet, Byblos Et L’egypte, 35 F., Pl. XXVIII, 2.

وكان من إصلاحات الإدارة في أقاليم الشام حينذاك توجيه أهل الحكم فيها على إحصاء محصولاتها بمختلف أنواعها لتقدير الضرائب عليها على أساس سليم. وتوجيههم إلى الاهتمام بالمواني بوجه خاص "وتموينها على أساس التعيين المقرر لها كل عام" كما قالت نصوص العصر. وترك تحوتمس الأمراء المحليين في حكم إماراتهم واعتبرهم نوابًا "إدنو". وإن كان قد أقام معهم في المدن الرئيسية مفتشين مصريين، وعين حاكمًا عامًّا للشام، وجعل مدينة غزة ومدينة سميرا من مراكز الإدارة الرئيسية1. وبعد أن آتت جهوده ثمارها في الشام، توفرت له الشهرة الخارجية الواسعة، وأحست الدول المجاورة بيقظته ورغبت في مصادقته، وهادته. ومنها بابل التي كان من هداياها إليه كميات من اللازورد الجيد2، وآشور التي أهدته هي الأخرى كميات من اللازورد الحر3، وخت "أوخاتي" دولة الحيثيين في آسيا الصغرى4. وكان من الطبيعي أن تجد بلاد النوبة بقسيمها من اهتمام الدولة في هذا العهد ما لا يقل عن اهتمامها ببلاد الشام. فتأكد استتباب النفوذ المصري حتى ما بعد الشلال الرابع بقليل. وتعينت الحدود بلوحة أقامها رجال تحوتمس عند جبل برقل، ضمنوها أخبار الفتوحات الأولى لملكهم وذكروا أنه مد حدوده إلى المدى الذي وصلت إليه في عهد جده تحوتمس الأول5. وسرى التنظيم الإداري في مناطق النوبة. وظل الحكام النوبيون يتلقبون بألقاب النواب "إدنو"، وبدأت تظهر المعابد الفخمة في النوبة عوضًا عن المعابد البسيطة المبنية باللبن6. وزاد صبغ البلاد بالحضارة المصرية. وعلى نحو ما انتفعت النوبة بمصر، انتفعت مصر بها، فكان يصلها من ذهب النوبة السفلى ما يتراوح بين 212 وبين 227 من الكيلوجرامات سنويًّا، ويصلها من ذهب النوبة العليا مقدار يقل عن ذلك7. ويبدو أن الحائل الذي وقف دون مد الحدود المصرية مع نهر النيل إلى ما بعد المدى الذي وصله نفوذ تحوتمس، هو انحناءة النيل بعد الشلال الرابع وابتعاده شرقًا عن طريق القوافل التجارية التي كانت تتجه إلى الجنوب وإلى الغرب8. وظهر في نصوص تحوتمس الثالث ما يرجح معه وصول بعثة تجارية من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى مصر تحمل معها بعض منتجات بلادها من البخور والكندر، وتبغي عقد علاقات مباشرة مع فرعون مصر المنتصر، وكان أفرادها من "الجنبتيو" أسلاف العرب القتبانيين9.

_ 1 See, D.G. Hogarth, Jea, I, 9 F.; W.F. Albright, Ajsl, 1938, 352; Edgerton, Jnes. Vi “1947”, 152 F. 2 Urk., Iv, 668, 13; A.R., II, 484. 3 Urk., IV, 688, 6; 671, 8; A.R., 446 F. 4 Urk., IV, 701, II; 727, 13; A.R., Ii, 485. 5 G. Reisner, Azes, XLIX “1933”, 24 F; Var.: Mond And Myres, Armant, Pl. 103. 6 H. Kees, Ancient Eygpt, 325. 7 Urk., IV, 931; Save-Soderbergh, Op. Cit., 210-211. 8 Sec, H. Kees, Op, Cit., 337. 9 Abdel-Aziz Saleh, “The Gnbtyw Of Thutmosis Iii’s Annals And The South Arabian Gebbanitae Of The Classical Writers”, Bifao, LXXII, 245-262.

ولي أمنحوتب الثاني "عاخبرو رع" عرش مصر بعد أبيه تحوتمس الثالث في عام 1436ق. م، وانتفع بالتربية العسكرية التي تعهده أبوه بها1 في توطيد أركان الأمن في دولته وإشاعة الهيبة في أرجائها الواسعة، تلك الدولة التي روى "مين مس" مهندسه ومهندس أبيه أنه ثبت حدودها في العام الرابع من حكمه بنصبين جديدين: نصب أقيم في أرض نهرينا على الفرات، ونصب آخر أقيم في أرض كاروى في جنوب النوبة2 وذكرت نصوص أمنحوتب أنه تفقد المناطق الشمالية مرتين، بلغ في إحداهما أوجاريت وألالاخ "تل العطشانة" قرب أنطاكية3. كما وجد له تمثال جاث يحمل آنيتين قربانًا على يديه قرب شندي وعلى مسافة سبعين ميلًا شمالي الخرطوم. ومالت حوليات أمنحوتب الثاني ونصوصه إلى المبالغة في تصوير انتصاراته، على العكس من حوليات أبيه التي راعت سلامة المنطق في روايتها بقدر الإمكان. ولو أن نصوص أمنحوتب امتازت على الرغم من عنصر المبالغة فيها بنصيب كبير من الحيوية والتفصيل، لا سيما فيما روته عن أخبار صاحبها في المرات التي تعمد فيها أن يستعرض فتوته وعضلاته داخل مصل وخارجها. وكان من ذلك على سبيل المثال أنها روت أنه عبر بجيشه ذات مرة مياه نهر العاصي الهادرة، ثم اندار فجأة ليطمئن على سلامة جيشه، فلحظ جماعة أتوا من ناحية قطنة خلسة يحاولون الانقضاض عليه، فقصدهم وحيدًا وانقض عليهم انقضاض الباشق، فانطلقوا مذعورين ووقع كل منهم فوق رفيقه ومعهم قائدهم، ولكنه لاحقهم ولحقهم وهو وحيد وفتك بهم أجمعين. ثم روت أنه تجمع في معسكر الأسرى ذات مرة أكثر من ثلاثمائة أسير، فلما رأى أن عددهم كبير خشي هروبهم، فقام بليل وحفر حولهم حفرتين أوقد فيهما نارًا، وظل ساهرًا يحرسهم حتى الصباح "وهو يحمل بلطة الحرب في يده، وكان بمفرده وليس معه مصري آخر، بل وكان جيشه بعيدًا عنه، بعيدًا عن سماع صوته"4. ومع حب المبالغة مال أمنحوتب الثاني في بعض أحواله إلى الغلظة في معاملة خصومه، على العكس من أبيه. وإن كانت هذه الغلظة لم تؤثر عنه غير مرتين أراد الاشتداد فيهما على كبار خصومه الذين غدروا بولائهم له "من وجهة نظره"؛ ليكونوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالتآمر عليه والغدر به. واختتمت نصوصه أخبار انتصاراته الحربية بتصوير النتائج التي ترتبت عليها، بنفس الأسلوب الجانح إلى المبالغة، في قولها: "وحين سمع أمير نهرينا "الميتاني" وأمير خاتي "الحيثي"، وأمير سنجار "البابلي"، بانتصارات جلالته، نافس كل منهم الآخر في هداياه إليه ... وتوجهوا إليه بدعائهم من أجل إقرار السلام، ... "وقال رسلهم إليه": أتينا بهدايانا إلى قصرك يابن رع أمنحوتب، حاكم الحكام، الأسد الهصور في كل مكان، وفي هذه الدنيا كلها، إلى أبد الآبدين".

_ 1 راجع للمؤلف: "التربية العسكرية في مصر القديمة" – في المجلد الأول من "تاريخ الحضارة المصرية" – القاهرة 1962، ص203 - 205. 2 L.D., Text, I, 20; Ancient Records, II, 800. 3 Ch. Kuentz, Amada, 2, 210, 227; Karnak Stela, II. 13. 4 A.M. Badawi, Asae, XLII, 1 F.

وانتقلت مقاليد الأمور في مصر إلى تحوتمس الرابع "من خبرو رع"، وكان كفئًا لشغل منصبه على الرغم من صغر سنه، وقد لجأ في سياسته الخارجية إلى وسيلتين، فاتبع سياسة القوة في بداية عهده وخرج بجيوشه إلى أطراف دولته وضرب بها على أيدي جماعات من الخوارج في الشمال وفي الجنوب حاولوا استغلال فرصة وفاة أبيه وصغر سنه، حتى إذا ما أعاد لحكومته هيبتها واستقر السلام في دولته وجرت أمورها في مجاريها الطبيعية، سمحت له تطورات العصر بأن يتبع سياسة جديدة لضمان السلم في الشرق القريب. وهنا كان كل من المصريين والميتانيين قد أدركوا أن أمن التجارة البرية التي يأخذون بناصيتها في أسواق الشرق الأدنى لن يستقر إلا إذا استقرت قبله أحوال السياسة بينهما، وشعرت كل من الدولتين حينذاك ببوادر الخطر من أطماع دولة خاتي "أي دولة الحيثيين" الآرية التي قامت في آسيا الصغرى وأطلت على الفرات الأعلى وعلى شمالي سوريا في الوقت نفسه. ورأت الدولتان أن توثيق روابط الصداقة والتقارب بينهما يمكن أن يحد من آمال هذه الدولة الثالثة الناهضة ويجعلها تفكر مرتين قبل أن تهاجم واحدة منهما. ولسنا ندري أي الدولتين بدأت الأخرى برغبتها في السلم، ولكننا ندري أن تحوتمس رأى أن خير روابط السلم المنشود هو رباط المصاهرة، فخطب لنفسه ابنة أرتاتاما ملك الميتان1، وقيل عن أباها جادله في مهرها عدة مرات رغبة في زيادة نصيبه من الهدايا قبل أن يزفها إليه2، ولم يكن زواج الفرعون المصري بأميرة آسيوية جديدًا تمامًا على تقاليد أسلافه الأقربين، فقد تزوج جده تحوتمس الثالث أميرات سوريات، وامتلأ قصر أبيه أمنحوتب الثاني بجوار آسيويات من أخوات الأمراء وبناتهم كما قالت نصوصه3، وليس من المستبعد أن يكون قد تزوج بواحدة منهن أو أكثر من واحدة. ولكن الجديد في أمر تحوتمس الرابع هو ما يحتمل من أنه جعل زوجته الميتانية من زوجاته الرئيسيات في قصره4 "انظر ص208"، بينما أنزل أسلافه زوجاتهم الآسيويات منزلة الزوجات الثانويات. أدت جهود النصف الأول من عصر الأسرة الثامنة إلى أن بلغت خيرات مصر وثرواتها في بداية عهد أمنحوتب الثالث "نب ماعت رع" خليفة تحوتمس الرابع "منذ 1405ق. م"، مبلغًا لم تبلغه من قبل، ليس فحسب عن طريق الضرائب والاستغلال الداخلي والغنائم والجزى، بل ولأن الدولة قد وطدت سيطرتها على عصب التجارة البرية في الشرق, وأزادت أساطيلها في البحرين الأحمر والمتوسط، واستخدمتها أداة للرخاء التجاري ولأمان البحر وأمان السواحل ولتوسيع اتصالاتها بجيرانها، وحملت طرق البر والبحر الآمنة أفواجًا من التجار والسفراء والرسل والزوار من مصر وإليها، فضلًا عن أفواج الأرقاء والجواري الواصلة إليها من الشمال والجنوب. وظل هؤلاء جميعهم من أدوات التبادل والتقارب الثقافي واللغوي والفني والصناعي بينهما وبين جيرانها. وترتبت على ذلك كله بالنسبة لمصر نتائج طيبة وأخرى غير مستحبة، فكان من النتائج الطيبة

_ 1 Knudtzon, Die El-Amarna Tafein, Nr. 29. 2 Ibid., Nr. 29, 11. 16-18. 3 See, Helck, Jens, 1955, 29. 4 Wolf, Zaes, Lxv, 98 F.; Newberry, Jea Xiv, 82 F.

أن اتسعت آفاق المصريين المادية والفكرية واستحبوا حياة السلام، وخفت حدة النزعات العنصرية بينهم وبين جيرانهم، وزاد انتشار حضارتهم بين أهل الشام وبلاد الميتان. وانتفع هؤلاء وهؤلاء بالفن المصري ومزجوا بينه وبين فنونهم. وازدادت أعداد المصريين في الشام، كما استقبلت مصر مزيدًا من أفواج أهل الشام بصدر رحب واستحبت بعض مصنوعاتهم وفنونهم، ونفعتهم وانتفعت بهم، واستضافت بعض معبوداتهم ومعبودات الميتان في معابدها1. ولم يكن من بأس على أثرياء مصر في أن يستمتعوا بما أفاءته عليهم جهود أسلافهم من نعمة ونعيم، ولكن الضرر أوشك أن يقع بهم حين استمرءوا النعمة واستناموا إلى النعيم. وإذا كان الناس على دين ملوكهم، كما يقال، فقد بدءوا وبدأ فرعونهم أمنحوتب الثالث عهده بمظاهر الفتوة التي بدأ بها عهد أبيه، فخرجت جيوشه في جولة تفتيشية إلى الشام، وخرجت في جولة أخرى إلى النوبة2، واستحب أن يوصف في نصوصه بأنه "حاكم ينال "ما يشاء" بسيفه ويعمل بيديه"، وأنه حاكم "يعمل بساعديه ... رب للسيف"3. ومارس في شبابه حياة الصيد شأن آبائه الرياضيين، وهاداه ملوك الشرق وأمراؤه، واعتاد كل منهم أن يسأل عن أهل الآخر وجنوده وخيوله، وتطلعوا جميعهم إلى ثراء مصر، وكانوا لا يفتئون يرجون فرعونها أن يفيض عليهم من ذهبها نظير هداياهم من الأرقاء والجواري والخيول والمركبات والأحجار الكريمة، تساوى في ذلك ملوك الميتان، وملوك بابل، وملوك آشور، وحكام قبرص، فضلًا عن أمراء الشام. وكتب ملك الميتان ذات مرة إلى صهره أمنحوتب الثالث، يقول له: "أخي، أرجو أن تهديني ذهبًا كثيرًا لا يُحصى، وإني على ثقة من أن أخي سوف يحقق ذلك ويهديني ذهبًا أكثر من الذهب الذي حصل والدي عليه، أليس الذهب في بلد أخي كتراب الأرض؟ بارك الأرباب فيه حتى يصبح الذهب في أرض أخي أضعاف ما هو عليه الآن. وعسى ما أطلبه لا يضايق أخي ولا يضيق به قلبه ... ، وسوف أرد لأخي فضله عشرة أمثال مما يشتهيه. فهذه الأرض أرض أخي وهذا البيت بيت أخي". واستغل أمنحوتب من ناحيته صداقاته لملوك الشرق وتقديرهم له، في إرضاء نزواته من الزيجات وأسرف في ذلك إسرافًا كبيرًا. وسار على سياسة أبيه في توثيق عرى المودة بينه وبينهم عن طريق المصاهرات. وظل على الرغم من ترحيبهم في مجملهم بمصاهرته، ضنينًا عليهم بأميرات بيته، فكتب إليه معاصره ملك بابل كاداشمال إنليل الأول، يعتذر له بأنه ليس له أخت يرسلها عروسًا إليه، ويرجوه في الوقت نفسه أن يزوجه من إحدى بناته، فاعتذر أمنحوتب بحجة أنه "لم يسبق أن أرسلت أميرة مصرية إلى أي إنسان"، فعاد البابلي وألح عليه بأن يتخير له أي فتاة من

_ 1 See, H. Frankfort, The Art And Architecture Of The Ancient Orient, 1958, 148-149; P. Montet, Les Reliques De L’art Syrien…, 1937; Berlin 1248; Amarna Letters, 23; Asae, Xi, 258; Chronique D’egypte, L, 62; W. Helck , Op. Cit. 2 Urk., Iv, 1661 F.; Ancient Records, Ii, 842 F., 851, 5. 3 Petrie, Six Temples, 9.

قصره ويرسلها إليه باعتبارها أميرة من بيته صونًا لكرامته بين شعبه. وفي كل ذلك ما يشير إلى عظم مكانة مصر واعتزاز أهلها بسمو منبتهم. ولكن تبدلت أحوال الاستقرار الخارجي في عهد أمنحوتب شيئًا فشيئًا. بعد أن استنام إلى حياة الرفاهة وترك تقاليد آبائه في إيثار السلام المسلح والخروج من حين إلى حين إلى أطراف دولته لطمأنة الموالين لها والضرب على أيدي الخارجين عليها والحد من أطماع الدول المتربصة بها، فانتقد الشعب الشامي بخاصة صلاته الشخصية به وبدأ يئن تحت وطأة دسائس أصحاب المطامع في الداخل وفي الخارج. كما بدأ الحيثيون يعبثون بالحدود السورية والحدود الميتانية، ويغرون ضعاف النفوس من الإقليمين بالعمل لصالحهم. وعندما خفت الإدارة المصرية في بلاد الشام أغار بعض أمرائها على جيرانهم، وهددت هجرات قبائل الخابيرو والعابيرو البدوية الأمن وسبل التجارة، فتوالت صرخات الاستغاثة من الأمراء الموالين لأمنحوتب، فوجدت الاستجابة مرة، ولكنها وجدت الإهمال مرات. ولم يقدر أمنحوتب خطورة هذه الأحوال تقديرها الصحيح، واستمر يظن في نفسه السيادة، واستمر يتلقى رسائل التكريم من أمراء بابل والميتان وبعض أمراء آسيا الصغرى، وكان شر ما أعماه عن تبين حقيقة الأوضاع هو أمر جماعة من أمراء كنعان ومن الخابيرو والعابيرو، مهروا في النفاق واستمروا يضللونه ويضللون ولده أخناتون من بعده، ويسرفون في إظهار الود والطاعة لمصر وفرعونها، ويسرفون في الوقت نفسه في إضمار الحقد لهما. وصورت هذه البلبلة مجموعة رسائل كانت محفوظة بديوان رسائل أمنحوتب الثالث وآخناتون من بعده عثر عليها خلال القرن الماضي مصادفة في أطلال العمارنة، فنسبت إليها وسميت باسم رسائل العمارنة، وبلغ ما عثر عليه منها 377 رسالة تضمنت المراسلات المتبادلة بين الفرعونين وبين ملوك الشرق وحكام الشام في عهديهما1. ويفهم منها أنه امتاز من بين حكام الأموريين في أواسط سوريا وشرقها حاكمان: حاكم يسمى ريب أدى أشرف على منطقة واسعة تمتد من الساحل إلى الداخل حول ميناء جبيل، وظل مواليًا لمصر حتى آخر حياته، وكان يؤيده حلف من المواني الكبيرة التي تشترك مع جبيل في المصالح التجارية مثل بيروت وصور وصيدا وعكا. ثم حاكم آخر يدعى عبدو عشرتا "أو أشرتا" أشرف على جزء كبير من حوض العاصي وبسط نفوذه عنوة على حساب جيرانه فاحتل عرقه وقطنه وحماة وني في الداخل، واحتل أرواد وهاجم سميرا على الساحل، ونافق كلًّا من الحيثيين والمصريين وادعى لكل طرف أنه يعمل لحسابه. وتوالت شكاوى ريب أدى إلى أمنحوتب الثالث بعد أن أصبحت عاصمته جبيل شبه محصورة، وتوالت رسائل حلفائه إلى مصر ترجو نجدة حليفهم، وذلك في نفس الوقت الذي بلغ فيه من فجور عبدو عشرتا أنه كان يبعث الرسائل إلى مصر يكذب كل ما يتهم به ويسرف في إظهار الخضوع فيقول فيما يقول: "إلى الملك شمسي ومولاي يقول عبدو عشرا عبدك وتراب قدميك: أجثو عند قدمي مولاي الملك سبعًا، وسبعًا، فأنا خادم الملك وجرو بيته، وأحرس أرض أمورو كلها من أجل مولاي وسيدي2". وكان ذلك كافيًا لإشباع غرور الملك وخديعته ..

_ 1 J.A. Knudtzon-E. Ebeling-O. Weber, Die El-Amarna Tafein, 1907-15; O. Schroeder, Die Tontafein Uon El-Amarna, 1915; S.A.B. Mercer, The Tell El-Amarna Tablets, 1939. 2 Amarna Letters, No. 60, Also 42.

وعندما هلك عبدو عشرتا لك ولده عزيرو مسلكه، في حين كتب ريب أدى إلى الفرعون قائلًا: "كان حكام كنعان إذا رأوا جنديًّا مصريًّا ولوا الأدبار، أما الآن فإن أبناء عبدو عشرتا يستخفون بالمصرين ويهددونني بأسلحة فتاكة". وغدا الرجل حسيرًا محصورًا في عاصمته جبيل كطائر في قفص، فكتب إلى الفرعون المصري يقول ثانية "قديمًا كان للملك عندنا قلعة مئونة، وكان الملك يكفل تموينها من إياريموتا، ولكن عزيرو يهاجمنا الآن مرارًا دون خوف، ولم يبق لي حاشية أو مئونة، بعد أن أصبحت قراي الآن في حوزة عزيرو، وهو يظهر لي الرغبة في أن أنضم إليه، ولكن لماذا أنضم إليه؟ إنهم أجراء أبناء عبد وعشرتا هؤلاء، يبغون مصالحهم ويخلفون مدن مولاي الملك طعامًا للنيران"1. وكتب حاكم مدينة تونيب يردد نفس الشكوى قائلًا: "مولاي ملك مصر، نحن أهل تونيب أتباعك، ندعو لك بالحياة ونقبل قدميك، إن أمتك مدينة تونيب تقول من ذا الذي كان يستطيع أن ينهب تونيب دون أن ينتقم لها منخبريا "تحوتمس الثالث" ويفعل بالناهب ما فعل بها: إن آلهة مولانا الملك وتماثيله لدينا، وليسأل مولانا شيوخ رجاله ليعرف إذا ما كنا نقول الحقيقة أم غيرها. إذا لم يدركنا مشاة ملك مصر وعرباته قبل فوات الفرصة فإنه عزيرو سيصنع معنا ما صنعه في مدينة ني، وحينئذ لن نبك وحدنا بل سيبكي معنا أيضًا ملك مصر مما يرتكبه عزيرو من أعمال؛ لأنه سيرفع يده حينذاك ضد مولانا". وتوالت رسائل أهل تونيب وكتبوا إلى الفرعون يقولون له "إن مدينتك تونيب تبكي، ودموعها تجري، ولا ناصر لنا، أرسلنا عشرين رسالة إلى مولانا ملك مصر ولم نتلق ردًّا منه". ومضى عزيرو في غيه، واستمال أمير صيدا الذي لجأ إليه ريب أدى في آخر مطافه فسلمه إليه، واستولى هو على ألازا "شمال طرابلس"، وأرداتا "قرب زغرتا"، وحرق أوجاريت ودمر سميرا، وظل يرسل خطاباته المخادعة إلى آخناتون يظهر ولاءه فيها. ويدعي أنه إنما يستولي على المدن ليحميها من الحيثيين، وأنه يخرب بعضها حتى لا يستفيدوا منها، وبلغت به صفاقته أنه كان يراسل الملك بأمله في أن يرى وجه مولاه البهي، وذهب إليه بالفعل ورجع آمنًا من عنده2. حدث هذا في أواسط سوريا وشمالها بتحريض الحيثيين وأطماع بعض الأموريين، وحدث ما يماثله في منطقة فلسطين، وقام بدور المخربين فيه جماعات العابيرو، وبدور عبدو عشرتا رجل يدعى لابآيو حكم مدينة سشم هاجم مدينة جزر وغيرها من مدن جيرانه، وتعاون هو وأولاده مع قبائل العابيرو وسمح لهم بدخول مدينته. وجأر الحكام بالشكوى منه إلى أمنحوتب الثالث ثم إلى آخناتون3، فبلغت الصفاقة بلابآيو أن كتب إلى الفرعون قائلًا "إلى الملك مولاي وشمسي يقول لابآيو خادمك والتراب الذي تطأ عليه: أجثو لدى قدميك سبعًا وسبعًا. "وبعد أن تتصل من كل ما نسب إليه وادعى أنه وقف موقف المدافع"،

_ 1 Op. Cit., No. 109: F. Steindorff-K.G.Seele, When Egypt Ruled The East, 107. 2 Amarna Letters, No. 164 F. 3 Ibid., Nos. 244, 270, 287.

ختم رسالته بقوله: وهل إذا طلب الملك امرأتي أستطيع أن أمنعها؟ وإذا كتب إليَّ أن اضرب قلبك بخنجر ومت، فهل أخالف أمر مولاي؟ "1. وعندما لقي لابآيو حتفه خلفه في الشر والنفاق ولداه. وتوالت الرسائل على آخناتون تفيض نفاقًا، فأصبح لا يعرف المخلص منها من المخادع، فبينما كتب إليه أحد الحكام يشكو إليه حاكم أورشليم عبدوخيبا ذا الأصل الحوري، ويقول له إذا كان لابآيو قد مات فقد ظهر بدله عبدوخيبا2، بعث عبدوخيبا هذا برسائل تفيض بالولاء للملك والشكوى من جيرانه ومن العابيرو وكان يكرر فيها أنه يتمنى أن يقابل الفرعون ويرى عينيه ويتمنى أن يموت لديه، ويعترف بأنه ما ولي منصبه عن أبيه ولا عن أمه ولكن بفضل الملك، ويخبره بأنه عمل كل ما في وسعه ولكن تخلى الكل عنه، وأنه إذا لم تصله إمدادات مولاه ضاعت منه أرضه3. بدأت كل هذه الخلخلة في أواخر عهد أمنحوتب الثالث، واشتدت في عهد ولده آخناتون "نفر خبرو رع" كما رأينا، في وقت انصرف فيه هذا الأخير إلى دعوة الوحدانية "راجع فصل عقائد الدين" وظن معها أن الدعوة لإله واحد يعبده الجميع ويتساوى عنده الجميع يمكن أن تربط بين مصر وبين أتباعها وجيرانها بروابط أوثق من كل ما جربه أسلافه من روابط الحرب والسياسة والمصاهرة، ولكن فاته أن الشرق أصبح في شغل شاغل بمخاوفه وأطماعه عن دعوة التوحيد والإخاء والمساواة التي دعا إليها. وأحاط بآخناتون عدد مداهن من رجال حاشيته طمأنوه إلى بأس جيشه، ورحموا اعتلال صحته فأخفوا عنه تذمر قادته وخوفهم من ضياع سمعة البلاد وتفسخ أملاكها، كما أحاط به عدد آخر من غير المصريين خدعوه عن حقيقة مجريات الأمور في الخارج وتواطئوا مع مخادعيه فيها، وكان منهم رجل يدعى توتو، راسله أحد المنافقين ذات مرة قائلًا له: "لا أستطيع أن أنحرف عن كلمات سيدي وربي وشمسي، ولا أحيد عن كلمات سيدي توتو ... ، فأنا أخشى مولاي الملك وأخاف توتو ... ". وظلت سياسة مصر الخارجية مائعة متدهورة خلال عهود خلفاء آخناتون الأقربين: سمنخ كارع "عنخ خبرو رع"، وتوت عنخ آمون "نب خبرو رع"، وآي "خبر خبرو رع". ولم يجد جديد عليها إلا بولاية حور محب "جسر خبرو رع"، الذي مثل عهده فترة انتقالية بين عصر الأسرة الثامنة عشرة وبين عصر الأسرة التاسعة عشرة. وكان فيما أسلفنا من قادة الجيش في عهد آخناتون، وخاض معركتين على الأقل في عهده وعهد توت عنخ آمون، وكان الجديد في أيامه، هو أنه عاصره في حكم الحيثيين الملك مورسيل "الثالث" وقد مال إلى السلام، فاستجاب حور محب له، وربما حدثت بينهما هدنة، تفرغ حور محب بعدها للإصلاح الداخلي في بلده.

_ 1 Op. Cit., 254, Also 252. 2 Ibid., No. 280. 3 Ibid., 286, 287, 288.

وإذا كان ثمة ما يعقب به على ما أفاءه عصر الأسرة الثامنة على أهله من ثراء، وعلى عظمائهم والمقربين منهم إلى الفرعون وحاشيته وحكومته ومشروعاته الحربية والمدينة، بمعنى أدق، فهو مائل فيما تعتز به المتاحف العالمية مما كشف عنه من آثار ملوك العصر وعظمائه. وكان أسعد هؤلاء الملوك حظًّا فيما أبقت الأيام عليه من آثاره الخاصة هو توت عنخ آمون "نب خبرو رع"، على الرغم من أنه كان نكرة بين الفراعنة، ولي الحكم غلامًا بعد وفاة أخويه"؟ " آخناتون وسمنخ كارع، ولم يطل عهده غير ثمان سنوات أو تسع، بدأها بالارتداد عن ديانة آتون، وشغلها بالتقرب إلى كهنة آمون ومضاعفة ثروات معابدهم تكفيرًا عما أصابهم من هوان في عهد أخيه. ثم أسعد الحظ ذكراه بأن علت فوق مقبرته مقبرة أخرى ضخمة من عصر الرعامسة فسترتها عن عوامل النهب والتخريب حتى اكتشفت شبه كاملة في عام 1922، وحققت لصاحبها شهرة واسعة ما كان يستحقها لنفسه. وقد تضمنت أثاثه الأخروي وبعض ما كان يعتز به من مقتنياته الدنيوية الخاصة ومقتنيات أسرته. ومن أروع ما فيها قناعه الذهبي وتوابيته الثلاثة التي شكلت على هيئته وصيغ الداخلي منها من الذهب الخالص وصفح الآخران بالذهب وطعما بأحجار شبه كريمة. ثم مقعد عرشه وصندوقه الخاص، ومجموعة رائعة من تماثيله المعدنية الصغيرة وتماثيل بعض أفراد أسرته. ومجموعات من أدوات الزينة والأواني المرمرية الشفافة تعتبر من أرق آيات الصناعة الفنية في العالم القديم كله. ولسنا ننكر ما في ذلك كله من مفخرة لا نزال نعتز بها على القدماء والمحدثين معًا، ولكن أن يكتنز شخص واحد هذا الثراء كله ويدخره لمقبرته ولآخرته، لهو الإسراف المشين. وعلى أية حال وإذا كان ذلك هو ثراء مقبرة فرعون قصير الأجل مضطرب العهد، غطت صفائح الذهب على عجلاته الحربية وسرادقاته الخشبية، فلا شك في أن ثراء مقابر أسلافه العظام كان أجل وأعظم، لولا أن تعرضت للعبث والنهب على مر العصور، ولم يبق من مدخراتها غير القليل النادر. وقل الأمر نفسه بالنسبة لمقابر كبار الأفراد من الشعب، فقليل منها احتفظت بمحتوياتها، مثل مقبرة يويا وثويا صهري أمنحوتب الثالث، ولكن قليلها يشهد في الوقت ذاته بترف واسع أثرى الفن وأغنى التاريخ، وإن كان قد تحقق لأصحابه على حساب الملايين من الشعب وسوف يكون لما تضمنته هذه المقابر وتلك وما احتوته معابد العصر من فنون النحت والنقش والتصوير، بحث موجز خاص يرد في ختام هذا الفصل.

ثانيا: عودة الكفاح ثم الرفاهية في عصر الرعامسة مع الأسرة التاسعة عشرة

ثانيا: عودة الكفاح ثم الرفاهية في عصر الرعامسة مع الأسرة التاسعة عشرة ... ثانيًا: عود الكفاح ثم الرفاهة في عصر الرعامسة مع الأسرة التاسعة عشرة 1308 - 1194ق. م لم يكن رأس الرعامسة وريث بيت مالك، وإنما كان قائدًا ووزيرًا من خاصة الشعب يسمى "بارع مسسو" اطمأن حورمحب إليه وجعله الرجل الثاني في الدولة1. ثم عهد إليه بالحكم بعده، فاعتلى العرش في عام 1308 باسم "رعمسسو من بحتي رع" بمعنى "أنجبه رع ودامت قدرة رع"، وهو اسم اعتادت المؤلفات الكلاسيكية والحديثة على أن تعبر عن شطره الأول باسم "رمسيس" فحسب، وهو ما سنجري عليه بالنسبة له ولأحفاده الذين تسموا بمثل اسمه. وكان حين ولي العرش كهلًا فلم يعمر عليه أكثر من عامين استعان فيهما بولده "سيتي" على تصريف شئون البلاد، وعهد إليه بالوزارة والقيادة ورئاسة الشرطة والرياسة التقليدية للكهنة. وبهذا لم يذكر للكهل من جديد أكثر من أنه ضمن الحكم لأهله وخلف فيه ولده الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لملك أسرته. ارتقى سيتي "من ماعت رع" العرش بعد أن تخطى الأربعين فجمع نضج السن إلى مرانه في عهد أبيه، وكان لتوليته صدى مختلف في مصر وخارجها. أما في عصر فاعتبر عهده بشيرًا باستعادة المجد السالف وسمي وحم مسوت أي عهد تجديد المواليد أو معيد المواليد وبما يعني معنى عهد النهضة "وهي تسمية كانت لها سابقتها في بداية عصر الأسرة الثانية عشرة". وأما في الخارج، فرأت بعض الطوائف الشمالية في حداثة العهد الجديد فرصة للقضاء على ما بقي لمصر من نفوذ خارجي في شئون التجارة والسياسة. ولسنا ندري شيئًا واضحًا عن تفاصيل النهضة التي وصف المصريون بها عهدهم الجديد، إلا أن تكون اطمئنانهم إلى ولاية فرعون حازم طموح يستطيع أن يستعيد هيبة بلاده في الخارج مما سيتناوله حدثينا عن السياسة الخارجية، ويستطيع أن يثبت دعائم الاستقرار في الداخل بما يستتبعه عادة من أمن ورخاء وعمران. ولقد جرى الرجل على سنة حورمحب في تشديد العقوبات على المفسدين، وتوعد في بعض مراسيمه من يسلب راعيًا ويتسبب في هلاك الماشية التي يرعاها أو ضياعها بضربه مائتي عصا وتغريمه أضعافًا مضاعفة عن الماشية المفقودة، وتوعد الراعي السارق بالهلاك على الخازوق واسترقاق زوجته وأولاده. وتوعد من يشتري الماشية المسروقة برد مائة "؟ " ضعف عنها. وتوعد من يتستر على جريمة بالحرمان الديني. وإن كان قد هدد بكل هذه العقوبات المسرفة المعتدين على حرمة أملاك المعابد أكثر من غيرهم2.

_ 1 See, Asae, Xiv, 29 F.; Helck, Der Einfiuss Der Militarfuhrer… 84 F. 2 Edgerton, Jnes. 1947, 219 F.

وجرت النصوص الرسمية القديمة على أن تربط بين شواهد العمران وبين بناء المعابد وتجديدها. وعلى هذا الاعتبار سجلت لسيتي اهتمامًا مفرطًا بالمعابد، ويبدو أنه اهتم بها ليثبت لرجال الكهنوت أن رعاية أسرته لحقوق الدين وأربابه لا تقل عن عناية الأسر المالكة التي سبقتها إن لم تزد عنها، وأوصى بجمع أكبر عدد من تماثيل الأرباب الكبار في كل معبد شاده ليتألف بذلك قلوب أتباعهم أصحاب المذاهب المختلفة في بلده. وسجلت له نصوصه حديثًا لطيفًا خاطب به أولئك الأرباب قائلًا لهم: " ... إنما أنا "خادم" خدوم، طيب متيقظ لما تشاءون ... ، مروا ولسوف يلبي أمركم، فأنتم السادة، وأنا أبذل حياتي في سبيل الإخلاص لكم وسبيل الحسنى معكم ... ". ووصف سبيلهم هذا بقوله "إن من راعى كلمة الرب سعد ولن تفشل مشاريعه ... "، ووعظ خلفاءه فقال: "إن من عطل مصالح غيره لقي جزاءه بالمثل، والمغتصب سوف يغتصب ... " ثم خوفهم عذاب الآخرة قائلًا: "سيكون "المردة" حمرًا مثل لهب الجحيم، وسوف يشوون لحوم من لا يستمعون إلى قولي ... "1. وهكذا كانت شخصية بعض الفراعنة وحصافة أقوالهم، مما يختلف عن الرأي الشائع عن تألههم وجبروتهم. وكان من وجوه النشاط الداخلي في عهد سيتي اتساع استغلال مناجم الذهب في الصحراء الشرقية. وقد صور أحد مهندسيه خريطة على بردية لبعض مناجم وادي الحمامات، لا سيما مناجم أم الفواخير، حدد فيها مواقعها والطرق المؤدية إليها، والطريق المؤدي منها إلى البحر الأحمر، وموقع معبدها المحلي وموقع جبل بخن "جبل الشست" منها. وعرف بعض معالمها بأسماء مختصرة كان أمتعها اختصار اسم البحر الأحمر إلى اسم "يم" وهو الاسم السامي الذي عبر القرآن الكريم به عن البحر والنهر. وتعتبر هذه أول أو ثاني خريطة من نوعها عرفت حتى الآن من العالم القديم2. وتقرن مهارة مهندسها بخريطة أخرى نقشت في نفس العهد في الكرنك وصورت المحطات والحصون المنتشرة على الحدود الشمالية الشرقية حتى بداية فلسطين، وقد أثبتت مفرداتها في ترتيب مكاني صحيح، وتعتبر بدورها أقدم خريطة حربية جغرافية مصورة معروفة. ومن تفصيلاتها الطريفة تصوير مدينة ثارو "قرب القنطرة" تحميها تحصينات أمامية ويمتد جسر فوق قناتها، وتصوير عدد من كهنتها وموظفيها يحملون طاقات الزهور ليستقبلوا بها فرعونهم عند عودته إليه منتصرًا من حملة حربية3. ومع الاهتمام بالمناجم سجلت النصوص لفرعونها حديثًا آخر يحمل طابع بدوره طابع الشفقة والبساطة والأدب ولا يقل طرافة عن حديثه إلى آلهته. وروت أن سيتي أراد أن يتحقق من أحوال الصحراء ومسالك المناجم فيها، وكان يظن أنه تتوفر فيها مجار مائية كافية، ولكنه بعد أن سار فيها ولمس قسوتها راجع نفسه

_ 1 Gunn And Gardiner, Jea, Iv, 244., F., 247; Also, Xiii, 193 F.; Xxxviii, 24 F. 2 Lepsius, Auswahl…, Tafel 22; Ball, Egypt In The Classical Geographers, 1942, 180 F.; G. Goyon, Asae, Xlix, 337 F. وراجع خريطة نفر العراقية من أوائل الألف الثاني ق. م – ولو أنها أقرب إلى التخطيط منها إلى الخريطة. 3 Wreszinski, Atlas, Ii, 34, 40-41; Jea, Vi, 99 F.; Xxxiii, 34 F.

وقال: "ما أتعس الطريق الذي يعوزه الماء، وكيف يكون حال المسافرين فيه إذا أرادوا أن يتقوا جفاف حلوقهم؟ ومن ذا الذي يرد ظمأهم، ومواطنهم بعيدة والصحراء مديدة؟ فيالتعاسة من يظمأ في البرية ... ، هلم إلى عقلي حتى أفكر في راحتهم وأكفل لهم ما يصون حياتهم ويجعلهم يترحمون عليَّ في السنين المقبلة، وعساني أعمل عملًا يشكرني عليه أهل الأجيال القادمة، أنا الشفوق الذي يعنيني الرخاء". وتجول الفرعون في الصحراء حتى حقق الرب مسعاه وهداه إلى موضع أمر رجاله بأن يحفروا بئرًا فيه، ولما نجح مسعاهم، قال سيتي: "أجاب الرب دعائي، وأفاض الماء من أجلي على الهضاب، في طريق كان موحشًا منذ عهود الأرباب، فأصبح رخاء في عهدي، وأرجو أن تنمو فيه حشائش تفيد الرعاة. ولا ريب في أنه إذا نشط الملك سعدت بلاده ... ، وقد أوحى الرب إلى أن أشيد ههنا قرية يتوسطها معبد، فالبلد الذي يتضمن معبدًا بلد مبارك"1. وكما نشط العمران على الأقل بالمعنى الذي قصدته نصوص سيتي، بلغت فنون النقش والتصوير والنحت في عهده ذرى عالية من الجمال المترف والذوق المبدع، لا سيما في معبد شعائره في أبيدوس، ونقوش مقبرته في غرب طيبة، ومناظر حروبه الخارجية ومناظر تقواه في الكرنك حيث صور في اثنين وعشرين وضعًا خاشعًا يتعبد فيها ربه آمون رع، ويتخذ في كل وضع منها هيئة معينة ويدعو بدعاء خاص مختلف. أسلفنا أن بداية عصر الأسرة التاسعة عشرة في مصر كان لها صدى داخلي يختلف عن صداها في الخارج، فعلى حين اعتبرها المصريون بشيرًا بعصر نهضة، ظنت بعض الطوائف الخارجية أن حداثتها فرصة لحرمان مصر مما بقي لها من نفوذ خارجي في سالم التجارة والسياسة، وشجعتها على هذا الظن عدة عوامل كان منها قلة النشاط العسكري لمصر في أواخر عصر الأسرة الثامنة عشرة، وانهيار دولة حلفائها الميتان تحت ضربات الحيثيين "الخاتيين" عام 1365، ثم تفرغ الحيثيين لتحريض من والاهم من أمراء الشام على المصريين. وزادت هذه الملابسات سوءًا بظهور هجرات آرية الطابع أشاعت التوتر في الشرق، وقد خرجت طوائفها الأولى من مواطنها المجهولة منذ أوائل القرن الرابع عشر ق. م، وتسللت إلى الحوض الشرقي للبحر المتوسط واختلطت بسكان جزره وسواحله اختلاطًا جزئيًّا، وعمل رجالها مرتزقة عند من يجزلون العطاء لهم من أمم الشرق الغنية. ثم رنت بعض طوائفهم إلى الشواطئ الجنوبية للبحر في أواخر القرن نفسه، ولما عز عليها أن تقصد السواحل المصرية مباشرة اتجهت إلى النزول غربها على الشواطئ الليبية2. وواجه سيتي الأول كل هذه المشاكل بحزم وكفاية وأعادت جيوشه الاستقرار إلى أرض كنعان التي هددها العدو، وسيطرت على قواته على مرتفعاتها، وبلغت في تقدمها جبال لبنان، ثم أتتها أنباء تحركات مريبة على حدود مصر الغربية تحت ضغط الهجرات الآرية التي أشرنا إليها، فاندفعت الجيوش المصرية إليها وكسرت حدتها، ثم عادت

_ 1 Junn And Gardiner, Op. Cit. 2 See, Pendlebury, Jea, Xvi, 75 F.; Wainwright, Jea, Xxv, 148 F; Bonfante, Am. J. Of Arch., 1946, 251 F.; Gardiner, Ancient Egyptian Onomastica. I, 191 F.

بعد فترة إلى سوريا ولكن تقدمها فيها أقلق دولة الحيثيين "الخاتيين"، وهنا أراد كل من الفريقين أن يجرب باسه مع الآخر وجهًا لوجه، فتلاقى جيش الحيثيين مع الجيش المصري في شمال قادش، وكان أول لقاء مباشر بين الخصمين الكبيرين أدرك كل منهما بعده أنه لن يتيسر له القضاء على قوة خصمه بسهولة فتميع الموقف بينهما إلى حين وربما انتهيا إلى عقد هدنة، وإن كانت نصوص كل فريق منهما قد ادعت النصر لأهلها على الفريق الآخر. وأرخ رجال سيتي لحروبه كتابة وتصويرًا، وسجلوا مراحلها على بعض جدران الكرنك، وصوروا قتال العربات وتدمير المدن وسوق الأسرى في لوحات كبيرة. وسجلوا خريطتهم الحربية المصورة التي أشرنا إليها، وأظهروا ملكهم يقاتل راكبًا وراجلًا، وليس راكبًا فقط كما جرت العادة في صور ملوك الدولة الحديثة، وصوروه في المعركة يضغط بثقله على عدوين تحت إبطيه، ومن حوله أولاده يشاركونه الحرب. وكان كل ذلك جديدًا في تاريخ التسجيل الفني للحروب1. وظلت شئون الإدارة الخارجية على حالها الذي استقرت عليه خلال عصر الأسرة الثامنة عشرة. فتولى أمرها في الشام أمراء محليون وشاركهم في مسئولية توطيد الأمن حاميات مصرية شامية، وقام بمهمة التنسيق بين القطرين رسل ملكيون. وتولى الإدارة في النوبة أمراء محليون أيضًا تحت إشراف أمير كاش المصري ونوابه2. خلف سيتي ولده رمسيس الثاني "وسرماعت رع ستبن رع" في عام 1290ق. م3. وكان أحد شخصيات حاكمة فرضت شهرتها على التاريخ ورواته. وتهيأت له منزلته في حوادث عصره نتيجة لعوامل عدة، كان منها: أنه ورث عن أبيه عرش دولة قوية ذات ثراء عريض، وأنه شاركه في الحكم بضع سنين فاكتسب خبرة لا بأس بها في شئون الحرب والسياسة، وأنه ولي الحكم شابًّا تملؤه الحمية وتحدوه آمال واسعة، وأنه وجد في رجاله، مدنيين وعسكريين، خبرة أصيلة، وأنه صادم أضخم قوة عسكرية في عصره وهي قوة الخاتيين "الحيثيين" واستطاع هو وجيوشه أن يصونوا سمعة مصر العسكرية إزاءها، وأنه كان شغوفًا بتخليد ذكراه والدعاية لنفسه بكل سبيل، وأن عهده طال سبعة وستين عامًا أنجز له رجاله خلالها عددًا من المعابد والقصور والمسلات والتماثيل بلغ حدًّا من الكثرة والضخامة قل أن بلغته آثار حاكم آخر في العالم القديم. وظهرت لمصر عاصمة سياسية جديدة في عهد رمسيس، ارتبطت شهرتها باسمه، فسميت "بر رعمسسو" أي دار رمسيس، وأصبحت واحدة من أمهات العواصم في الشرق القديم، ويفهم من جدل طويل حول تعيين مكانها، أنها كانت تمتد وتضم بضياعها ما بين قنتير وبين صان الحجر الحاليتين في شرق الدلتا، على

_ 1 Wreziniski, Atlas, Ii, Pl. 34 F.; Jea, Vi, 99 F.; Xxxiii, 34 F. 2 Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 255. 3 Parker, Jnes, Xvi, 43.

الفرع التانيسي للنيل1 "قرب عاصمة الهكسوس القديمة"، وكانت بهذا ذات موقع مناسب يتوسط دولة الرعامسة في مصر والشام، ويسمح بوجود احتياطي عسكري كبير فيها يمكن أن ينجد الحاميات الشمالية على جناح السرعة في عصر اشتدت فيه أخطار الحيثيين وشعوب البحر، وذلك فضلًا عما توافر لها من إستراتيجية حيوية ودفاعية مقبولة؛ نظرًا لإشرافها على الفرع التانيسي للدلتا وإمكان وصول السفن البحرية الصغيرة إليها، وإمكان استغلال الفيضانات في حمايتها من ناحية البر حين الضرورة، وحماية ظهيرها بمناقع الدلتا الشمالية من ناحية البحر. وربط بعض المؤرخين بين الجهود التي بذلت في إنشاء هذه المدينة وبين ما روته قصص الخروج في التوراة من تسخير فرعون موسى للعبرانيين في إنشاء مدينة ضخمة في أرض جوشن بشرق الدلتا، وهو ربط لا يزال في مرحلة الفروض. وعمر رجال رمسيس مدينته بتماثيل ومعابد كثيرة أغلبها جديد قطعوا أحجاره من محاجرها، وبعضها تخيروا تماثيله ومسلاته وأحجاره من معابد الوجه البحري ومصر الوسطى وبعض معابد الصعيد. وسجلوا اسم ملكهم على هذه وتلك، وتبعهم في هذه السنة خلفاؤهم في عصر الرعامسة بالنسبة لملوكهم، الأمر الذي يدعو إلى الحكم على تصرفهم هذا بأحد أمرين: إما دمغهم ودمغ فراعنتهم بالسرقة والاعتداء على آثار الغير في سبيل إضفاء الفخامة ومظاهر الثراء على عاصمتهم حديثة النعمة سريعة التكوين، وإما أن نلتمس لهم مبررات تناسب عصرهم وظروفهم دون أن نبرئهم البراءة كلها، ومن هذه المبررات أن الغزاة الهكسوس قد سبقوهم إلى انتحال بعض هذه التماثيل والآثار لأنفسهم بعد أن محوا منها أسماء أصحابها، فاستردها رجال رمسيس وسجلوا اسمه عليها باعتباره الوريث الشرعي لأصحابها الأصليين الذين عز على رجاله أن يتعرفوا على أسمائهم، ثم أكرموها بوضع أغلبها في معبد الإله آمون الذي توسط العاصمة الجديدة وقام فيها بدور معبده الكبير في طيبة. وليس من المستبعد أنهم وجدوا بعض العمائر القديمة التي استخدموا أحجارها مهدمة مهملة بالفعل، فاعتبروا استعمالها أفضل من تركها على حالها، ووجدوا تسجيل اسم فرعونهم عليها أمانًا لها من الاعتداء والإهمال. وإن كنا لا ننكر أخيرًا أن كل هذا المبررات كانت تخدم غرضًا أكبر، وهو إشباع شغف رمسيس بالعمائر والتماثيل عن أقرب سبيل، في الدلتا وفي الصعيد أيضًا، ما دامت التقاليد قد جعلته صاحب التصرف الأول في عصره وممثل الأرباب والأسلاف في أرضه. وعلى أية حال، فلم ينل مجد العاصمة الجديدة كثيرًا من أمجاد العاصمتين القديمتين منف وطيبة. فاحتفظ الرعامسة بقصورهم في منف، وزادوا عمرانها، كما ظلت معابد آمون رع في طيبة تحظى بأكبر قسط من رعاية الدولة وثرائها، مما سنعرض نماذجه في حديثنا عن تطور الفنون في الدولة الحديثة، ويكفي أن نشير هنا إلى ضخامة آثار هذا العهد، وفي طيبة بالذات فضلًا عن غيرها من مدن القطر، تدل ضمنًا على ثراء واسع تمتعت الدولة به، وإن كنا للأسف لا نستطيع أن نربط بينه بالضرورة وبين رخاء عام يقابله تمتع به الشعب في مجمله.

_ 1 See. Kemi, Iv, 199 F.; Gardiner, Anc. Egyptian Onomastica, Ii, 171 F.; Asae, Xxx,31 F.; Lii, 443 F.

وعمر رمسيس الثاني ما يقرب من تسعين عامًا، ونعم بحكم طويل بلغ سبعة وستين عامًا، واستمتع في حياته الخاصة بأكثر مما استمتع به الفراعنة الذين سبقوه، وبز أمنحوتب الثالث المزواج في عدد زوجاته وجواريه، وأنجب عددًا كبيرًا من الأبناء قدر بعض المؤرخين أنهم بلغوا 59 بنتًا و79 ولدًا أو مائة ولد. غير أن هذا التقدير ونحوه لا يخلو من شك كبير، ولا يبعد أن بعض من اعتبرهم المؤرخون أبناءه كانوا من بيته المالك فحسب، أي من أقربائه الصغار الذين انتسبوا إليه تشرفًا، وخدع المؤرخين في نسبهم أن اللقب المصري "سانيسو" بمعنى ابن الملك، ولقب "سات نيسو" بمعنى "بنت الملك"، لم يكن أحدهما يختلف عن لقب الإمارة العادي لبقية أفراد الأسرة المالكة الذين لم يكن يتميز عنهم بلقبه غير ولي العهد. وقد تنقلت ولاية العهد في أيام رمسيس بين ثلاثة عشر ولدًا من صلبه، مات اثنا عشر منهم في حياته، وكان أشهرهم خعمواس الذي اكتسب سمعة واسعة في عصره بعلمه الديني وبإشرافه على إنشاء كثير من آثار أبيه وتنظيم أعياده1. وقع العبء الأكبر في ملاقاة الحيثيين "الخاتيين" على مصر في عهد رمسيس الثاني، وكان على رأس الحيثيين حينذاك ملك يسمى موتاللي لم يقل عن رمسيس طموحًا ورغبة في إثبات جبروت دولته، فاستعد للحرب وسخر لها معظم إمكانيات مملكته وجمع حوله جيوشًا تنتمي، فيما ذكرت المصادر المصرية، إلى ما لا يقل عن عشرين طائفة وجنسية، وبدأ توسعه بهم حتى بلغ نهر الكلب شمالي بيروت. وأعد رمسيس عدته هو الآخر، وخرج في حملة استطلاعية خلال عام حكمه الرابع ووصل بجيشه نهر الكلب الحد الفاصل بين نفوذه وبين نفوذ خصومه، وهناك أمر بنقش نصبين على جبل يشرف على أعالي النهر ويطل على البحر؛ تذكارًا لحملته وتحديًا لأعدائه القريبين منه. واتخذت جيوش الحيثيين وحلفاؤهم مدينة قادش مركزًا لعملياتها الحربية، وكانت لها نفس الأهمية الطبيعية والاستراتيجية التي وصفناها لا خلال حروب تحوتمس الثالث، من حيث وقوعها بين ثلاث مساحات مائية وإشرافها على وادي النهر الكبير وتحكمها في مدخل وادي البقاع وأحد طرق التجارة مع بلاد النهرين. وعاد رمسيس لملاقاة الحيثيين وحلفائهم في العام التالي بجيش بلغ نحو عشرين ألف مقابل في أربعة فيالق سمي كل فيلق منها باسم أحد الأرباب المصريين الكبار: آمون، ورع، وبتاح، وست. وعندما بلغ الجيش أرض آمور تخير رمسيس مجموعة من صفوة الشبان في جيشه عرفوا باسم نعرن أو نعرونا بمعنى فرق الفتوة أو شيئًا قريبًا من ذلك، وأوصاهم بالتزام خطوط الساحل وبأن يتخيروا الفرص المناسبة لحماية ظهره ونجدته حين الحاجة. ثم تقدم جيوشه بفيلق آمون حتى بلدة شابتونا "ربلة" وانتظر ما يعود إليه به عيونه، وهناك واجهته خديعة كلفته هو وجيشه كثيرًا من الجهد والرجال؛ إذ وفد على معسكره جاسوسان ادعيا أنهما هربا من جيش الحيثيين الظلمة خلسة، وأن ملكهم تراجع عن قادش وعسكر في منطقة حلب. وانخدع رمسيس برواية الرجلين وظنها فرصته واعتزم الإسراع إلى قادش قبل عودة أعدائه إليها

_ 1 Griffith, Stories Of The High Pirests, 2 F.; Petrie, A Histreoy Of Eygpt, Iii, 8 F.; Drioton & Lauer, Asae, 1937, 102 F.

فانطلق بفيلق آمون في سرعة جنونية وترك فيلق رع يلحق به، وخلف جنود الفيلقين الآخرين على مبعدة منه يسيرون على مهل ليحموا ظهره ويبلغوا ساحة الحرب في راحة مناسبة. وعندما عبر نهر العاصي اشتد عيونه على جاسوسين آخرين أقرا لهم بالواقع وهو أن الحيثيين تواروا بجيوشهم شرق قادش ليداهموا المصريين على غرة بمشاتهم وعرباتهم. وشعر رمسيس بالخطر يوشك أن يحيط بجيشه، فأمر وزيره بأن يستعجل فيلق بتاح، فأرسل الوزير فارسين على متني جوادين سريعين ولحق بهما بعربة، ثم خاطر رمسيس برجاله، وتقدم بفيلق آمون إلى الموضع الذي ظن أن أعداءه عسكروا فيه، ولكن الحيثيين كانوا قد بدلوا مراكزهم بمهارة، وانفلتوا إلى جنوب المدينة وعبروا مخاضة النهر، وتربصوا بفيلق رع حين اقترب منهم في سبيله إلى فيلق آمون، وباغتوه فجأة فشطروه فريقين، فريقًا عاد من حيث أتى وفريقًا أسرع رجاله إلى معسكر الفرعون واحتموا بفليقه. وفي غمرة الاضطراب الذي أشاعوه في المعسكر بدخولهم المفاجئ، لحق الأعداء بهم وفردوا أجنحتهم الواسعة حولهم وكان في كل عربة من عرباتهم الحربية ثلاثة رجال، فتصدى المشاة المصريون لهم وانتزعوا بعضهم من عرباتهم وقاتلوهم بالحراب والسيوف، ولكن العدو كان كثيرًا عليهم، والمفاجأة أذهلت عددًا منهم، وحينذاك لم يجد رمسيس بدًّا من المجازفة بنفسه، فاستقل عربته ولحق به نفر قليل ممن كانوا حوله من القادة وحراسة بدنه، واستنصر ربه آمون وعاتبه عتاب المؤمن، ودعاه بدعاء الابن لأبيه، قائلًا: "ما هذا والدي آمون، هل من شأن الوالد أن يتخلى عن ولده؟ هل أتيت أمرًا دونك؟ ألم أمش وأقف تبعًا لقولك وما تعديت أمرك؟ ... ما أجل رب مصر العظيم حين يسمح للأجانب بأن يقتربوا من حماه. ما الذي غير نفسك آمون؟ وما قيمة هؤلاء الأجانب يا آمون، وهم أشرار يكفرون بالرب ... ؟ أدعوك أبي آمون، وأنا بين أجانب كثيرين لا أعرفهم، وقد تضافرت الأقطار الأجنبية ضدي. وأصبحت وحيدًا وما من أحد حولي، تركني جنودي الكثيرون، ولم يلتفت إلي واحد من خيالتي، وناديتهم فلم يستمع واحد منهم إلى ندائي ... ". انحط رمسيس بحرسه القليل على جماعات كثيفة من الأعداء كانوا يجاورون نهر العاصي واندفع بينهم وكاد يضيع بين عرباتهم، لولا أنه أذهلهم، باستماتته واستبساله. وفجأة أتاه عون ربه، ولاحت له فرق نعرونا أو فرق الفتوة التي تركها على شاطئ آمور، فعبرت النهر الكبير ولحقت به، وانصب أفرادها على جماعة من الحيثيين انشغلوا بنهب المعسكر المصري وشتتوهم، فظنهم الأعداء بداية جيش كبير وتخاذلوا أمامهم. وهنا اشتدت عزيمة رمسيس وشدد هجومه، فلم يجد أعداؤه أمامهم غير النهر فألقوا أنفسهم إليه وغرق بعضهم فيه، وكان منهم أمير حلب، فانتشله أتباعه قبل غرقه وصورتهم المصادر المصرية يعلقونه من قدميه ويجعلون رأسه إلى أسفل حتى يفرغ من فمه ما ابتلعه من الماء، وظلت هذه اللحظات مثار فخر كبير ردده رمسيس مرارًا وأرجع النصر فيه إلى ربه وإلى نفسه. وتتابعت جيوش رمسيس نحوه فأنبهم على تباطئهم عليه، وعاتب ضباطه بحديث لاذع، حاول أن يستفزهم به إلى حسن البلاء، وتعمد أن يذكرهم به بما وفره لهم في مصر من مآثر وحسن معاملة، وكيف قربهم إليه وأحبهم وكاد ينسى أنه السيد الآمر بينهم، وقال لهم:

"لعله ما من أحد منكم إلا أسديت إليه فضلًا في وطني. واذكروا أني لم أقف منكم موقف السيد، وأنكم كنتم فقراء فأغنيتكم بأفضالي المستمرة، وأقمت الابن منكم على أملاك أبيه، وحرصت على أن أبعد كل شر عن أرض مصر. وتجاوزت عن ضرائبكم. ولم يحدث أن اغتصب أحد شيئًا منكم. وكل من أعلن منكم شكاية زكيته على طول الخط، ... والواقع أنه ما من مولى قدم لجنوده ما قمت به لإرضائكم. فقد سمحت لكم بالاستقرار في بيوتكم ومدنكم كلما أعفيتكم من القيام بمهام الجيش، وهكذا كان شأن خيالتي، يسرت لهم السبيل إلى قراهم "كلما شاءوا أو كلما سمحت الظروف". وما نظن أن حديث رمسيس يخلو من المبالغة، ولكنه لا يخلو في الوقت نفسه من حقائق مقبولة، فقد دلت متون بعض أفراد الجيش العاديين، وليس الضباط وحدهم، على أنهم تمتعوا بإنعامات الملوك فعلًا، وأنهم كانوا من ملاك الأراضي، وذوي خدم وعبيد، ليس في الدولة الحديثة وحدها، وإنما فيما سبقها كذلك من عصور. وكان من شأن غناهم النسبي، فيما يرجح، أن يجنبهم الدنية ويهذب خشونتهم ويكفل لهم كرامة العيش، فضلًا عما يرتضونه لأنفسهم من كرامة المظهر. وتوالت هجمات رمسيس وجيوشه على جيوش أعدائه ست مرات، وكانت السادسة هي الفاصلة، فانسحب الحيثيون إلى مدينة قادش، وزادت المصادر المصرية فروت أن ملكهم أوفد رسولًا إلى رمسيس يعرض عليه السلم ويستعطفه بعبارات لا تخلو من ألم ومذلة، ويقول فيما روى المؤرخون المصريون: " ... هل من الخير أن تبطش بعبيدك، ووجهك الكريم يلحظهم دون أن ترحم؟ تذكر ما فعلته بالأمس حيت أتيت فقتلت منا مئات الألوف، أتأتي اليوم أيضًا ولا تُبقي من رجالنا باقية؟ لا تكن قاسيًا في حكمك أيها الملك الهمام، فالسلام خير من الحروب ... ". ومال رمسيس إلى الاستجابة من أجل نفسه التي أجهدتها الحرب، ولصالح جيشه، ورحمة بعدوه، ولكنه أراد أن يعرف رأي رجاله أولا، فاستدعى رؤساء جيشه، خيالة ورجالة، وجمعهم في صعيد واحد، وأسمعهم عرض كبير الحيثيين، فأجابوه في صوت واحد: "الصلح خير عظيم جدًّا، مولانا الحاكم، وليس في السلام من بأس إن نفذته. ومن ذا الذي لا يهاب يوم نقمتك؟ ". وغلبت على المصري سماحته "فأذن الفرعون بالاستجابة إلى دعاء العدو، وبسط يديه من أجل السلام، وقفل راجعًا مع جنوده في أمان إلى أرض مصر". سجل أعوان رمسيس تفاصيل معركة قادش كتابة وتصويرًا على جدران معابد الكرنك والأقصر والرمسيوم وأبيدوس وأبي سنبل، وسجلوها على صفحات البردي للذكرى والتفاخر والدراسة1، وغالوا في تصوير جرأته فيها كما غالوا في تصوير عجز أعدائهم فيها. وكان من الطبيعي أن يسجل الحيثيون من

_ 1 عبد العزيز صالح: التاريخ في مصر القديمة – مفهومه وعناصره وبواعث القومية فيه – القاهرة 1975، ص32. Breasted, The Battle Of Kadesh, 1903; Kuentz, La Bataille De Qadech, 1928; Gardiner, The Kadesh Inscriptions Of Ramesses Ii, 1960; And See The Battle Of Kadesh, Publications Of The Centre Of Documentation, F. 58.

أخبار المعركة ما يحفظ عليهم ماء وجههم، فأنكروا في نصوصهم أنهم طلبوا العفو من رمسيس، وادعوا أنه يئس منهم فنزح عنهم، وأنهم تعقبوا مؤخرة جيشه1. وحار المؤرخون بين الروايتين، ومال كل فريق منهم إلى جانب، غير أنه من المرجح أن رمسيس وإن لم يطرد الحيثيين تمامًا من شمال الشام، فإنه قد أفسد خطتهم، ومنع الهزيمة عن جيشه، وأوقف تقدمهم بعد قادش، وأرهب أعوانهم، ثم عاد إلى مصر ليستجمع قوى دولته ويتحين الفرص لمعاودة هجومه. وواتته الفرصة في العام الثامن من حكمه، حين عاود الحيثيون الفتنة وإثارة الاضطرابات في بعض مدن الشام، فخرج بجيشه وأعاد الاستقرار إليها بعد مجهود عنيف2. وواصلت جيوشه نشاطها التفتيشي في أرجاء جدولته الواسعة بعد عامه الثامن، وقادها رمسيس في بعض هذه المرات وذكر في نصوصه أنه قاتل إحدى المدن التي سيطر الحيثيون عليها ساعتين كاملتين قبل أن يرتدي درعه3. واستمرت حالات التوتر الخارجي حتى العام الحادي والعشرين من حكمه وفيه ظهر تحول واسع جديد في تاريخ العلاقات المصرية الحيثية وفي تاريخ الشرق القديم وتقاليده. وكانت قد أحاطت بدولة الحيثيين قبل ذلك العام هزات داخلية وخارجية عنيفة، ففي الداخل توفي موتاللي عدو رمسيس اللدود، وتنازع ولي عهده مع عمه على ولاية العرش، والتمس ولي العهد معاونة رمسيس، ويحتمل أنه وعده بها، ولكنه لم يتخذ خطوات فعالة بشأنها، واستطاع العم "خاتوسيلي" أن يتغلب على ابن أخيه، ولكنه أدرك أن مصر ستظل ملاذًا لخصومه على عرشه، فاعتزم أن يسلك معها سياسة جديدة. وحضته على انتهاك هذه السياسة الجديدة هزات خارجية قوية صدرت عن دولة آشور التي بدأت حينذاك عصرها الوسيط وبدأت تتطلع إلى نصيب من السيادة في عالم الشرق وسياسته، ثم هزات أخرى تمثلت في استمرار تدفق هجرات شعوب البحر الآرية على حوض البحر المتوسط وشواطئه. وكل من الأمرين تخوفته مصر أيضًا وخشيت منهما زيادة اختلال توازن القوى في الشرق، وأصبحت على استعداد لاتخاذ خطوة إيجابية لإعادة هذا التوازن من جديد. وبدأت خطوات التجديد من قبل الحيثيين، على حد قول المصادر المصرية، فأوفد ملكهم خاتوسيلي رسولين إلى قصر رمسيس في عاصمته، وعرض الرسولان على الفرعون مشروع معاهدة تحالف بين مصر وخاتي، وكان المشروع مسجلًا بالخط المسماري على لوحة من الفضة باسم خاتوسيلي، فقبله رمسيس من حيث المبدأ وكتب رجاله نصًّا آخر باللغة المصرية على لوح من الفضة أيضًا، قد يكون متفقًا مع المشروع الخاتي أو معدلًا عنه تعديلًا يسيرًا، وبعد اتصالات أخرى وقع الملكان على المعاهدة حوالي عام 1270ق. م، وربما وقعت الملكتان عليها أيضًا، وبدأ حين ذاك عهد جديد4.

_ 1 E. Edel, Zeitschrift Fur Assyriologie “Nf”, 1949, 195 F., 212; A. Goetze, In Anet, 319. 2 Wresziniski, Atlas, Ii, 90; Sethe, Zaes, Xliv, 36 F. 3 Ibid.; Ancient Records Iii, 352. 4 Langdon And Gardiner, Jea, Vi, 179, F.; Gurney, The Hittites, 1952, 117 F.; Wilson, In Anet, 1955, 199 F.; A Goetze, Ibid., 210-203.

وتضمنت المعاهدة دلالات ومبادئ دولية بارزة، كان منها أن أشارت في مقدمتها إلى علاقات ود قديمة ربطت بين مصر والحيثيين، ويحتمل أنها عنت بها فترتي الهدنة التي أسلفنا احتمال حدوث إحداهما في عهد حور محب وحدوث الأخرى في عهد سيتي الأول، أو عنت بها فترات تبادل الهدايا والرسائل بين الفريقين في عهد تحوتمس الثالث وعهد أمنحوتب الثالث وبداية عهد ولده آخناتون. وأشهدت المعاهدة في خاتمتها ألفًا من الأرباب والربات المصريين وألفًا من الأرباب والربات الحيثيين، وذلك مما ينم عن استعداد كل من الدولتين لاحترام آلهة الدولة الأخرى، واستعدادهما لعهد تسامح ديني جديد، وهو تسامح رضي المصريون بمثله فيما بينهم وبين النوبيين وفيما بينهم وبين أهل الشام منذ عهود قديمة، ولكنهم لم يرتضوه فيما يبدو مع دولة خارجية أخرى قبل هذه المرة، إلا مع دولة الميتان لفترة قليلة حينما ربطت بينهما روابط الود والمصاهرة. وتعهدت كل دولة من الدولتين بعدم الاعتداء على حدود الأخرى، وهي حدود لا ندري خطوطها الحقيقية في شمال الشام. واحترمت كل منهما كيان الأخرى على قدم المساواة معها، دون أن تدعي إحداهما سيطرة على أختها أو تدعي أفضلية عليها، وكان في ذلك ما فيه من محاولة التخلي عن التعصب الجنسي القديم، وهي محاولة لم تسبقها فيما نعلم غير محاولة غير مقصودة في عهد أمنحوتب الثالث حين تقبل لفظ الأخوة من أمراء الشرق وملوكه وخاطبهم بها، ومحاولة أخرى في عهد آخناتون حين اعترف للشعوب كلها بحق الحياة في ظل معبوده الواحد. وتعهد كل من الطرفين المتعاهدين بنجدة الطرف الآخر بعسكره إذا وقع اعتداء مسلح على دولته، ولم تتعد المعاهدة هذا التحالف الدفاعي الثنائي إلى تحالف هجومي على دولة ثالثة. كما تعهد كل من الطرفين بألا يأوي الخوارج الفارين من بلد الطرف الآخر وأن يعيدهم إليه أيًّا ما كانت مراتبهم الاجتماعية وسواء أكانوا من العظماء أو من العوام، بشرط عدم التنكيل بهم "بالقتل؟ " أو التعرض لأولادهم. ويعتبر هذا الشرط أقدم تصوير معروف لأوضاع اللاجئين السياسيين في العالم القديم. واستطاعت المعاهدة أن تحقق أغراضها، فساد السلام بين الدولتين، وتبودلت الرسائل بين الملكين، ودلت الألواح الحيثية على أن رمسيس أرسل ما لا يقل عن ثماني عشرة رسالة إلى خاتوسيلي وإلى زوجته تودوخيبا التي يحتمل أنها لعبت دورًا فعالًا في سياسة زوجها1. وأضاف النص الحيثي للمعاهدة في نهايته وصول التهاني بعقدها من زوجة رمسيس ومن أمه. وعاد توازن القوى في الشرق القديم إلى حال مستقرة، وتوقفت من جرائه أطماع آشور إلى حين. وأراد ملك الحيثيين أن يدعم تحالفه مع فرعون مصر في العام الرابع والثلاثين من حكمه، فزوجه ابنته وقدم بها عليه بنفسه، وروت المصادر المصرية قصة هذا الزواج من وجهة نظرها بأسلوب طريف فقالت: " ... وظل عظيم خاتي يكتب إلى جلالته عامًا بعد عام يسترضيه دون جدوى، ولكنه حين وجد أرضه في حالة عوز شديد بقدرة جلالته، قال لعسكره وأهل بلاطه: ما معنى أن تبور أرضنا ويغضب علينا ربنا سوتيخ وتحرمنا السماء من فيضها، كأنما قدر علينا أن نفقد

_ 1 E. Edei, Zeit. F. Indogermanische Forschungen, Ii, 262 F.

كل ما لنا وابنتي في المقدمة؟ علينا أن نقدم فروض الطاعة إلى الرب الطيب حتى يهبنا الحياة والسام .. " ووصف المصريون وعورة الطريق الذي سلكه الحيثيون ورووا أن الفرعون قدر من تلقاء نفسه خطورة امتناع الأمطار عن سوريا وفلسطين بخاصة، فأقام الصلوات لأبيه سوتيخ حتى يصلح المناخ1 ... ووصل وفد الحيثيين وملكهم وابنته العروس على رأسهم، فأكرمهم الفرعون وأشركهم في طعامه وشرابه وجعل العروس من زوجاته الأثيرات وخلع عليها اسم "ماحور نفرو رع". وأصبح الملكان على حد قول النصوص المصرية "قلبًا واحدًا كأخوين، ولم تعد هناك حفيظة في قلب أحدهما على الآخر". وأكرم الفنانون المصريون صهر فرعونهم فصوروه في معبد أبي سنبل في وضع لائق قريبًا منه ولم يكن أسلافهم قد تعودوا أن يصوروا حاكمًا أجنبيًّا في وضع محترم مع فرعونهم قبل هذه المرة. وبقيت أمام الدولة جهود أخرى تبذلها ناحية الغرب ضد الهجرات الآرية التي أخذت أعدادها تزداد وأوشكت أخطارها أن تتفاقم على الحدود الليبية، وقد بدأ رجال رمسيس استعداداتهم لها بتقوية سلسلة الحصون الممتدة على ساحلهم الشمالي ناحية الغرب2. وانتهت ولاية العهد إلى مرنبتاح "بانرع" الذي خلف أباه في عام 1224ق. م، وهو كبير السن، وجرى على مجراه في سياسته، بل وقلده في تسجيل اسمه على بعض تماثيل أسلافه وعمائرهم، ودفعه إلى ذلك كبر سنه ورغبته في الإسراع بتسجيل ذكراه عن أقرب سبيل، إلى جانب الدوافع الأخرى التي أسلفناها بالنسبة لأبيه ورجاله. ولم تسر أموره هينة دائمًا وإنما تعددت حروبه في الشمال الشرقي وعلى حدود مصر الغربية وفي بلاد كاش، ونكتفي هنا بالآثار المترتبة على مشاكل الجبهتين الأوليين في حياة مصر العامة. ففي الشمال الشرقي ذكرت نصوصه من الأقوام التي أخضعتها جيوشه قبائل "الإسرائيليين" وكانت أول وآخر مرة ورد ذكرهم فيها في النصوص المصرية، ويبدو أن جيوشه اشتدت عيهم بحيث قال راويها "أبيد شعب الإسرائيليين ولن يكون به بذر"3. ودعت هذه العبارة إلى التساؤل عن مدى ارتباط حملتها بخروج بني إسرائيل من مصر، وهل تم في أيام مرنبتاح أم قبلها، وهل مرنبتاح هو فرعون موسى أم غيره؟ لا سيما وأنه أثر عنه التنكيل بخصومه بطريقة لم يتبعها الفراعنة إلا نادرًا. ولكن لم تتوافر حتى الآن أدلة كافية لإثبات خروج بني إسرائيل في عهد هذا الفرعون أو نفيه، ويبدو أن قرائن النفي أقوى من قرائن الإثبات

_ 1 Ancient Records, Iii, 410 F.; Kuentz, Asa,Xxv, 181 F.; Also 34 F,; And See, Abou Simbel Exteriere, Publications Of The Centre Of Documentation, C. 17, 6 F. 2 Cf., A Rowe, A History Of Ancient Cyrenaica, 1948. 3 Cairo, 34025, 1. 26 F.; Ancient Records, Iii, 602 F.; Wilson, In Ancient Near Eastern Texts, 1955, 378; Kuentz, Bifao, Xxi, 113 F.

فيه، ومنها أن النص السالف اعتبرهم من نزلاء جنوب الشام ولم يذكر تتبعه لهم من مصر، وذلك مما يعني أنهم دخلوا فلسطين قبل عهده وخرجوا من مصر بالتالي قبل عهده. ويلاحظ مع ذلك أن قصة غرق فرعون موسى لا تحل المشكلة، فالقرآن الكريم يذكر انه أنجي ببدنه بعد غرقه ليكون لمن خلفه آية، أي أننا لن نستغرب عدم غياب جثته من بين جثث الفراعنة الباقية. ولم يكتف المؤرخون بوضع احتمالات عهد مرنبتاح في هذا الشأن إلى جانب احتمالات عهد أبيه "ص233"، وإلى جانب ما روجه المؤرخ القديم يوسيفوس اليهودي عن الربط بين عصر الهكسوس وبين العبرانيين وخروجهم معهم في عهد أحمس "راجع ص195" وإنما أضافوا إلى ذلك فرضًا آخر باحتمال خروجهم في عهد تحوتمس الثالث أو ولده أمنحوتب الثاني، وذلك على أساس ذكر اسم الأسرى العابيرو في نصوصهما لأول مرة، مع تقريبه إلى اسم العبرانيين، وهذا ما لم يتأكد أيضًا، ولا زالت القضية بغير حل مرضٍ حتى الآن1. أما عن الآثار المترتبة على معارك جيش مرنبتاح على حدود مصر الغربية، فتتلخص في اندفاع عدد من قبائل شمال إفريقيا والصحراء الغربية نحو الحدود المصرية في بداية عهده، سواء نتيجة لزوال شخصية أبيه صاحب الشهرة الحربية الواسعة، أم تحت ضغط هجرات آرية جديدة نزلت سواحل إفريقيا الشمالية "راجع 239"، أم نتيجة لقحط محلي شديد. وقد تزعم المهاجرين شيخ قبائل برو "= ليبيو"، وضم إليه أعدادًا من خمس جماعات آرية مهاجرة، وهي: الإقوش، والتورشا، والروكي "اللوكي"، والشرادنة، والشكرش "الشكلش" ثم اندفعوا بنسائهم وأولادهم وقطعانهم القليلة وطمعوا في أن يعبروا البراري إلى الدلتا ويستقروا في أرضها الخصبة. ووصفت المصادر المصرية تحركاتهم بأنهم "ظلوا يهيمون خلال الحدود ويقاتلون في سبيل ملء بطونهم يومًا بيوم، ثم وصلوا مصر "الزراعية" يتلمسون فيها طعامًا لأفواههم، وذلك مما يعني أنهم كانوا في مسغبة شديدة. ووصل المهاجرون حتى الفرع الكانوبي، وكانوا في أعداد كثيرة، فأعد لهم مرنبتاح ما استطاع من قوة، وذكر في نصوص أنه استنصر ربه بتاح فأوحى إليه بالتأييد والنصر وقال له "إثبت وانزع الشك من قلبك"، ولم تستمر المعركة أكثر من ست ساعات وانتهت بأن أعلن المهاجرون الطاعة. وكان المصريون يدركون مدى الفوضى التي كان يمكن أن تحيق بأرضهم لو دخلها المهاجرون متنصرين، ولما كانت معركتهم معهم من المعارك المعدودة التي دارت رحاها على مشارف أرضهم منذ طرد الهكسوس، فقد غدا لنبإ النصر عندهم رنة عظيمة، ووصف شاعرهم فرعونه إثر انتصار جيوشه بأنه شمس بددت الغيوم التي رانت على مصر، وأنه جعل تامري "مصر الزراعية" ترى أشعة الكوكب، وأنه كمن أزاح جبلًا من النحاس من فوق أكتاف الناس ووهب نسمة الحياة لشعب كاد يختنق. وصور الشاعر زعيم المهاجرين يهرب تحت جنح الليل وحيدًا فريدًا وقد سقطت ريشته وأضاع نعليه وعز عليه الزاد والماء وانفض أنصاره عنه وتنكروا له. وصور عظم وقع النكبة على المغلوبين فجعل شابًّا منهم يقول لزميله "لم يحدث لنا شيء من ذلك "إطلاقًا" منذ عهد رع"، وشيخًا يقول لولده "وانكبتاه

_ 1 Cf. G. E. Wright, Biblical Archaeological, Iii, 1940, 25 F.

على ربو "ليبيا"، حرم أهلها المعيشة الطيبة "في مصر" وما عادوا يجرءون على السعي بين المزارع، وتوقف سعيهم في يوم واحد". وصور الشاعر عودة السلام إلى مشارف مصر فذكر أن أهلها الأصليين عادوا يسعون فيها بغير عائق ولا خوف، وأن حراس المعاقل غدوا ينامون ملء جفونهم ولا توقظهم غير حرارة الشمس، وأن الماشية أصبحت ترعى بين الحقول بغير رعايا ... ، وأصبح الناس يروحون ويغدون وهم يترنمون، وما عاد أحد يسمع صياح قوم يتوجعون ... ، وجثا شيوخ "المهاجرين" يقولون سلامًا سلامًا ... "1. وجدير بالذكر أن محاربة المصريين للربو أو الليبيين الجدد وحلفائهم في هذا العهد لم تمنعهم في الوقت نفسه من استخدام أهل الحدود الغربية الأصليين المسالمين في حراسة معاقلهم الصحراوية، بل ولم تمنعهم من استخدام بعض المهاجرين الآريين القدماء من المشاوش والقحق في جيوشهم وفي مراقبة المهاجرين الشرسين الجدد بأنفسهم2. ويذكر لعهد مرنبتاح وفاؤه لمعاهدة أبيه مع الحيثيين بأن أمدهم بمدد كبير من الغلال حينما خربت هجرات شعوب البحر أرضهم وقضت في النهاية على استقلالها، وكان قد اضطر في مرة سابقة إلى تأديبهم. غير أنه يبدو أن بذور المشاكل ظل لها وجودها على الرغم من جهود مرنبتاح وجيوشه، فقد اضطربت أحوال مصر الداخلية بعد عهده، وولي عرشها ولده سيتي الثاني مرنبتاح "وسر خبرو رع" الذي لم يطل عهده أكثر من سبع سنوات مرت دون أثر جليل يذكر لها إلا ما أبقت عليه المصادفات من الكراسات التعليمية التي نسخها بعض الطلبة خلالها3. وحدث على العكس أن أشارت بعض بردياتها إلى اضطراب داخلي شمل منطقة طيبة ويحتمل أن أصحابه أنصار آمون عبروا به عن سخطهم على أصحاب العاصمة المحدثة بر رمسيس وربها ست بعد أن مضت عهود فراعنتها الكبار4. وفي الحياة العادية أشارت إحدى برديات العهد وبعض لخافه على قضية اتهم عامل فيها أحد رؤسائه بالسلب والرشوة والشروع في القتل وسرقة الأحجار من قبر فرعونه، كما اتهم فيها وزير الصعيد بقبول الرشوة5. ثم قضية أخرى صغيرة اتهم فيها عامل بسب فرعونه وهذه الأخيرة وإن كانت شيئًا تافهًا إلى أنها تكشف عن إمكان إحساس رجل الشارع بتفاهة ما يردده الرسميون والكهنة عن قداسة فرعونهم وجلاله ... واستمر القلق السياسي حول وراثة العرش بعد وفاة سيتي، وتردد من الأسماء المتطلعة للعرش "أمنمس" ولعله أحد أحفاد رمسيس الثاني. واستغل هذا الوضع المضطرب سوري متمصر يدعى "باي" كان

_ 1 Wilson, Op. Cit., 376 F. 2 Cf. Papyrus Anastasi, I, 17, 4; Iv, 10, 8; A. Erman, Die Literatur, 345. 3 ألكسندر شارف: تاريخ مصر ... – ص159. 4 Cf., A. H. Gardiner, Late Egyptian Miscellanies, 1937. 5 Papyrus Salt, 124; Jea, Xv, 243 F.; See Also, Gardiner, The Inscriptions Of Mes, 1905; R. Anthes, Mitt. Cairo, Ix, 93 F.

الخازن الأكبر للدولة، في فرض وصايته ونفوذه على ابن سيتي الذي ولي العرش طفلًا باسم سابتاح، وأصبح يفخر بمساعدته إياه على بلوغ العرش حتى اشتهر بين الناس باسم "إرسو" أي الذي عمله. ورضيت الملكة تاوسرة زوجة سيتي الثاني، بالوضع القائم مضطرة، ويبدو أنها كانت ضرة لأم الطفل المملك، وعندما مات هذا الطفل أو قتل استردت تاوسرة مكانتها ووجدت من يناصرها على محاولة بسط نفوذها على شئون البلد كلها، وذلك مما شجعها على اتخاذ ألقاب الملوك، ويعتبرها بعض المؤرخين بذلك ثالثة النساء اللائي تطاولن إلى بلوغ العرش في مصر القديمة1 أو رابعتهن. ويميل البعض إلى الربط بين اسمها وبين اسم ثوريس الذي أنهى به المؤرخ مانيتون عصر الأسرة التاسعة عشرة لفترة سبع سنين واعتبره ملكًا. وعلى أية حال فإن سلطانها لم يطل ولم يؤد اضطراب عهدها إلا إلى انتقال الحكم من فرعها إلى فرع آخر أشد شكيمة منه وهو فرع الأسرة العشرين.

_ 1 Gardiner, Jea, 1958, 14 F.; Egypt Of The Pharaahs, 277 F.

ثالثا: آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين

ثالثا: آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين الدفعة الأولى ... ثالثًا: آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين 1184 - 1087ق. م الدفعة الأولى: أعلن مؤسسو هذه الأسرة الجديدة أنفسهم ساخطين على عيوب الحكم السابق، منقذين موهوبين تخيرتهم الأقدار، شأنهم في ذلك شأن كل جماعة حاكمة جديدة. وقد بدأ حكمهم كهل يدعى "ست نخت" "وسر خعو رع" قام بما قام به رمسيس الأول في ضمان الحكم لأسرته وتقديم ولده أمامه ليتم ما أراده هو ولم تسمح له به سنه، وعندما صور دعاة أسرته رأيهم فيما مرت مصر به بين عهد مرنبتاح وعهده مما أوجزناه في حديثنا عن خاتمة السياسة الداخلية حينذاك، قالوا: " ... وقعت مصر فريسة للاضطرابات، وأصبح كل إنسان فيها يفتن لنفسه، ولم يكن لأهلها زعيم سنوات عدة، وكانت مجرد بلد موظفين وعمد يفتك الإنسان فيها برفيقه كبيرًا كان أم صغيرًا. وتلت ذلك سنوات فارغة، ظهر بينهم فيها إرسو الخوري واعتبر نفسه أميرًا، وحاول أن يخضع البلاد كلها لرأيه وألزمها بدفع الضرائب "إليه". وأصبح كل إنسان يلتمس رفيقًا يسايره في طريقه خوفًا من أن يعتدي أحد عليه. وعامل "أعوان إرسو" الأرباب معاملة البشر وامتنع هو عن تقديم القرابين في المعابد. وعندما شاء الآلهة أن يظهروا رحمتهم ويصححوا الأوضاع في مصر ويعيدوها إلى سيرتها الأولى، نصبوا ولدهم الذي خرج من صلبهم "ست نخت" حاكمًا على البلاد كلها وجعلوه على عرشهم الكبير، فتجلى على هيئة خبري ست الغضوب وعاد السلام إلى الأرض القلقة، وفتك بالغادرين فيها وظهر عرش مصر العظيم ... "1. وقد يكون فيما أتى به هؤلاء الدعاة عن الفترة القلقة التي سبقت عصرهم الجديد صحيحًا، ويكون تمسحهم في الدين وغضب الأرباب على الأمس وأملهم في الغد مما أوحت به التقاليد. أما تضخيمهم لشأن "ست نخت" فقد كان مسرفًا بعض الشيء، فالرجل الكهل الذي زكته للناس سنه وخبرته لم يعمر في الحكم غير عامين. وخلفه ولده رمسيس الثالث "وسرماعت رع – حقا أونو" الذي يعتبر المؤسس الحقيقي لسياسة الأسرة منذ عام 1182ق. م، وقد جعل سلفه القديم رمسيس الثاني مثله الأعلى وتلقب بأغلب ألقابه وكنياته، واستطاع مثله أن يدفع بجيشه عن مصر أخطارًا جسيمة، ولكنه اختلف عنه في أنه كان الشخصية العظيمة الوحيدة في أسرته الكبيرة. وبدأ عهده ببداية مشرقة ثم انتهى إلى خاتمة نؤجلها لحينها. وقد تشابكت السياسة الداخلية مع السياسة الخارجية في عهده ولهذا نبحثهما معًا فيما يلي: فقد تأتت أخطار عهده عن شعوب البحر كما تأتت في أيام مرنبتاح، ولكنها أصبحت أشد، وارتبطت في عهده بهجرات وتحركات جديدة أوشكت أن تطبق على مصر بهيئة فكي الكماشة من غربها ومن شمالها الشرقي ومن البر والبحر معًا، ولو أن ذلك كله كان عن غير تعاون مقصود بينها.

_ 1 Pap. Harris, 75, 2-5; Ancient Records, Iv, 398 F.; Anet, 260; And See W. Helck, Zdmg, 1955, 27 F.

وقد بدأت بتحرك جماعات من شعوب البحر التي انتشرت وراء حدود مصر الغريبة في تحركات مريبة، وكان فيهم الربو والسبد وتزعمهم بعض المشاوش "المشوش" الذين عرفهم المصريون منذ أواسط عصر الأسرة الثامنة عشرة واستخدموا بعضهم كمرتزقة في جيشهم، ولكن بني جلدتهم استغلوا فترة القلاقل التي انتهت بها أيام الأسرة التاسعة عشرة وتنمروا لها، ولم تلن قناتهم حتى السنوات الأولى من عهد رمسيس الثالث، ويبدو أنه حاول أن يحل مشكلتهم بطريقة سلمية، فولى عليهم شابًّا ليبيًّا تربى في مصر، فرفضوه، ولعلهم قد اشتدت عزائمهم بنزول هجرات جديدة عليهم من بني عمومتهم الآريين، أو هم على العكس من ذلك تخوفوا من نزولهم، فنزحوا أمامهم إلى حدود الدلتا بقضهم وقضيضهم كما نزح أسلافهم في عهد مرنبتاح، وقد لاقتهم الجيوش المصرية في العام الخامس من عهد رمسيس الثالث "عام 1178ق. م" قرب وادي النطرون وردتهم على أعقابهم1، ثم اكتفت بأن أضعفت شوكتهم وتركت بعض قبائلهم يعيشون على حدودها تحت طاعتها، بل وأبقت على من كانت تستخدمهم من جنسهم في جيشها2. وخاضت مصر معركتين خلال العام الثامن من عهد رمسيس "1157ق. م": معركة مع المهاجرين الذين وصلوا إلى الشام عبر آسيا الصغرى وانتشروا في أرض آمور ثم نزحوا إلى أرض كنعان عن طريق البر3، ومعركة مع من اندفعوا بأساطيلهم إلى شواطئ جنوب سوريا وربما وصلوا حتى مصبات النيل الشمالية الشرقية عن طريق البحر4. ووصفت النصوص المصرية تحركات هؤلاء المهاجرين وخيبة مسعاهم وصفًا شائقًا، على لسان رمسيس، فقالت5 " ... "تآمرت" شعوب أجنبية في جزرها، وسريعًا ما زالت بلاد وشردت الحرب "أهلها"، ولم تستطع بلد أن تثبت أمام أسلحتهم، ابتداء من خاتي وقدي وقرقميش وأرزاوا إلى إرس "ألاسيا" في آن واحد "أي من آسيا الصغرى وشمال سوريا وشواطئ الفرات إلى قبرص في عرض البحر"، واجتمع عسكرهم في بقعة واحدة "بأرض" آمور، فشردوا أهلها، وأصبحت أرضها كأنها لم تكن، ثم تقدموا نحو مصر، ولكن النار كانت على استعداد للقائهم. وتألف حلفهم من برستي "البلستي" والثكر والشكرش والدانيين "أو الدانونيين"، والوشاوش، واتحدوا جميعًا ووضعوا أيديهم على البلاد في مدار الأرض كلها، واستبشروا وملأتهم الثقة بأنفسهم وقالوا: سوف تنجح مشاريعنا. ولكن عقل الإله كان واعيًا وعلى استعداد لأن يقتنصهم كالطيور ... ، وهكذا نظمت حدودي في جاهي، وأعددت أمامهم الأمراء وقادة الحاميات والماريانو، وأمرت بتحصين مصبات الأنهار لتكون كالسد الكبير

_ 1 Edgerton And Wilson, Historical Records Of Ramses Iii, 1936, 19 F.; Oriental Institute Publications, Vols. Viii-Ix, Pls. 27-28. 2 Ibid., Pl. 34; Pap. Harris, 76, 11 F. 3 Oriental Institute, Op. Cit., Pl. 32 F. 4 Ibid. Pl. 37 F. 5 Edgerton And Wilson, Op. Cit., 25 F.

وزودتها بسفن وزوارق ناقلات للجنود، امتلأت جميعها من مقدماتها إلى مؤخراتها بمحاربين مهرة مسلحين. وتألفت قوات المشاة من خيرة شباب مصر، وكانوا أشبه بالأسود الزائرة على قمم الجبال. وتألفت فرق الفرسان من عدائين مهرة وقادة قادرين، ومن كل فارس عربة متين. وهزت الخيول أعطافها واستعدت لسحق الشعوب الأجنبية تحت حوافرها، وكنت مونتو المقتدر، أقف على رأسهم، ليشهدوا بأنفسهم ما تفعله يداي .. أما من بلغ حدودي، فلم تبق منهم باقية، وانمحت قلوبهم وأرواحهم إلى الأبد. وأما من أتوا "بجموعهم" معًا عن طريق البحر، فقد واجهتهم نار حامية على مصبات الأنهار، وأحاط بهم على البر سد من الحراب، واستدرجوا إلى الداخل وحوصروا وألقوا على وجوههم على الشاطئ ثم قتلوا ومزقوا إربًا من القدم حتى الرأس، وغرقت سفنهم وأمتعتهم في البحر ... "، ولا ندري هل عني بالنار الحامية على مصبات فروع النهر قوة الدفاع أم عني بها نارًا فعلية ترميها المناجيق. وعلى نحو ما أمتع كاتب الملك في وصف أطماع شعوب البحر ووصف مصيرهم، أبدع الفنانون في تصوير هزيمتهم، على جدران معابد طيبة. فصوروهم يفرون على البر بعربات تشبه الصناديق يجر كل عربة منها أربعة ثيران، وصوروا الأمهات من فرط جزعهن يهرعن إلى العربات قبل أطفالهن، ويحاولن بعد ذلك أن ينتشلن الصغار من الأرض قبل أن يسرع السائق في فراره. وصوروا ساحة الحرب بعد الموقعة خرابًا يبابًا، اجتث أهلها من فوق الأرض كما اجتث شجرها سواء بسواء1. وعندما انتقل الفنانون إلى قتال البحر صوروا سفن الفريقين وقد طوت أشرعتها، ورمي المصريون أعداءهم بالنبال، ثم صادموهم بالمراكب وقاتلوهم وجهًا لوجه بالسيوف والخناجر، وبدأت السفن يقلب بعضها بعضًا، حتى انتهت المعركة بانتصار المصريين2. هكذا استطاعت مصر أن تنقذ نفسها وجيرانها من غزو كثيف حطم ممالك عدة قبلها ولكنه تحطم عند أرضها وعلى شواطئ بحرها. وتشتت جموع شعوب البحر في عدد من جزر البحر وسواحله، واحتفظت بعض هذه الجزر والسواحل بأسمائها، وهكذا يتجه بعض الرأي إلى الربط بين الشرادنة وبين السرادنة "أهل سردينيا"، والربط بين الشكلش "شكرش" وبين الصقليين، والربط بين الثكر وبين الصقليين أيضًا أو الطرواديين، والربط بين التورشا وبين التورسينيين أسلاف الإتروريين، والربط بين اللوكي "الروكي" وبين اللوكيين "سكان ليكيا في آسيا الصغرى"، والربط بين الأقاوشا "الأقوش" وبين الآخيين "؟ " "أو بينهم وبين الأهياوا الذين ذكرتهم النصوص الحيثية"، والربط بين الدانيين وبين الداناوي الذين ذكرتهم إلياذة هوميروس3. وإن كنا لا ندري هل اكتسبت الهجرات أسماءها من هذه الأماكن أم أنها هي التي خلعت عليها أسماءها.

_ 1 Oriental Institute…, Op. Cit., Pls. 32-24. 2 See, Nelson, Jnes, 1943, 40 F. 3 Cf., Wainwright, Jea, Xxv, 148 F.; Hall, In Rec. Champ., 300 F.; In Klio, Xxii, 366; Gurney, The Hittites, 1952, 51 F.; Weinberg. Ed., The Aegean And The Near East, 1956. وراجع ص230

ولم يستقر قريبًا من الحدود المصرية من شعوب البحر في أعداد كبيرة غير فريقين، وهما: جماعات الثكر وجماعات برستي أو البلستي، وقد صورت المناظر المصرية رؤساءهم ملتحين وصورت جنودهم بغير لحى، وبأغطية رأس ذات ريش، وبسيوف طويلة عريضة وخناجر مثلثة وتروس مستديرة وحراب. ونزل الثكر موانئ سوريا الجنوبية، ونزل البلستي مرتفعاتها الساحلية الجنوبية، وخلعوا اسمهم عليها، واحتفظوا لأنفسهم بسر صناعة الحديد والدروع واحتكروها دون العبرانيين زمنًا طويلًا، واحتفظ التاريخ باسمهم للأرض التي نزلوها وهو اسم فلسطين، وإن لم يرجع ذلك إلى أنهم أصبحوا غالبية أهلها أو أنهم بسطوا نفوذهم على كل أهلها، وإنما يرجع إلى أنهم كانوا من أواخر الهجرات التي دخلتها، وإلى أن ترديد التوراة لاسمهم فيها ترك أثره في تسمية التاريخ لها. وقد اندمج هؤلاء البلستيون أو الفلسطينيون في سكان كنعان الساميين شيئًا فشيئًا وأصبحوا قومية واحدة. وكان حظ إخوانهم "الثكر" أقل من حظهم في الاستقرار إذا اختفى اسمهم من التاريخ في أعقاب القرن العاشر ق. م. وتجددت مشكلات المهاجرين على حدود مصر الغريبة في العام الحادي عشر من حكم رمسيس، ولم يحملوا له أنه سمح لهم بالمعيشة قربها طالما أعلنوا السلم والطاعة، وظهرت بينهم جماعات جديدة ذكرتها المصادر المصرية بأسماء قريبة من الأسباط والقايقاش والشايتيت والهاسا والباقان ... ، واستجاب لهم عدد من بني جلدتهم الذين عاشوا قرب غرب الدلتا وعاونوهم بزعامة شيخهم كابور وولده مشاشار. وامتد تسربهم إلى ما رواء الفرع الكانوبي للدلتا، وشتتوا أمامهم جماعات الثحنو سكان الواحات الأصليين، فاشتدت القوات المصرية عليهم وأحبطت مشاريعهم وكسرت شرتهم وأسرت مشاشار ابن قائدهم وأحرقت عليه قلب أبيه1. وبذلك انتهت محاولاتهم لدخول مصر عن طريق العنف، وبدءوا يتسللون إليها تسللًا سليمًا بطيئًا، فتسامح رمسيس معهم باسم مصر، كما تسامح من أسراهم الذين بدأهم بالشدة ثم عاد عليهم بالعفو واكتفى بإحكام الرقابة عليهم، فقال حين غضبته عليهم: "اعتقلت قادتهم في حصون تحمل اسمي، ووليت عليهم ضباطًا ورؤساء قبائل، واعتبرتهم عبيدًا مدموغين باسمي، وعومل نساؤهم وأطفالهم نفس المعاملة، ووهبت قطعانهم إلى دار آمون ... ". ثم قال عنهم بعد أن خف غضبه عليهم "وضعتهم في الحصون، ودمغتهم باسمي، وكانت جماعاتهم الحربية تقدر بمئات الألوف، وخصصت لهم مخصصات من الكساء والزاد، تصرف من الخزانة وشون الغلال كل عام ... ". وأضافت بردية من أواخر عهده أن الشرادنة والقحق استقروا في مدنهم التي خصصها لهم، وأقام بعضهم في حصونه2، وأقام بعض آخر وسط المزارع التي سمح لهم بها. وأضافت بردية أخرى كتبها صاحبها بعد عهده أنه أنشأ للمجندين منهم فيما أنشأ محلة في الصعيد ليعيش فيها "الشرادنة وكتبة الجيش الملكي" على حد قوله3. وعلى الرغم من أن هذا التساهل النسبي يعتبر مكرمة

_ 1 Orienal Institute, Op. Cit., Pls. 62 F., 80 F.; Edgerton And Wilson, Op. Cit., 59 F., 74 F. 2 Pap. Harris, I, 76, 11 F. 78, 10. 3 Gardiner, Wilbour Pap., Ii, 80 F.; Jea, 1941, 47.

للخلق المصري في جملته، إلا أنه جر على مصر بعد ذلك شرورًا كثيرة كانت في غنى عنها لو أنها استأصلت شأفة أعدائها من جذورها ... وحاولت مصر أن تنعم بفترة من الرخاء والسلام بعد انتصاراتها على شعوب البحر التي دوخت غيرها من دول الشرق الكبرى، وبعد أن أكدت ثقتها بنفسها وتدفقت الثروات عليها من غنائم الحروب والجزى، ولكن كان لا يزال للكفاح بقية. فقد صورت أخبار أحد الأعوام التالية من عهد رمسيس محاصرته وجيوشه لخمس مدن في بلاد الشام، كانت منها تونب وإروازا وربما قادش وشابتونا أيضًا. ويبدو أن الأجناس الدخيلة في سوريا ومنها بقايا الحيثيين كانت لهم يد في إثارة الاضطرابات فيها. وإذا سلمنا برواية مؤرخ رمسيس عن نصره يكون هذا النصر قد أعاد الأمن كاملًا إلى خطوط مصر الدفاعية البعيدة وإلى مسالك التجارة الخارجية. وكالعادة كان أكثر المصريين استفادة من هذه النهضة الجديدة هو فرعونهم وبطانته من حاشية القصر وكبار رجال الدين. ومن أروع ما شاده المهندسون من عمائر رمسيس الثالث الخاصة معبدان فضلًا عن قصرين مؤقتين. أما المعبدان فأحدهما ضخم شاهق خصص لإقامة شعائره وشعائر الإله آمون ومعبودات أخرى، في غرب طيبة، وهو معبد حابو. وأما الآخر فهو معبد صغير ولكنه ممتع خصص لاحتفالات يوبيله وأعياد ربه آمون في رحاب الكرنك بشرق طيبة. ولا زال كل منهما يعتبر من أكل المعابد المصرية الباقية في عناصره المعمارية وفي لوحاته المصورة المنقوشة1. وامتدت المنشآت الدينية حينذاك إلى الشام والنوبة، واحتفظت النصوص بذكرى معبد للإله آمون في كنعان أجرى رمسيس عليه خراج تسع مدن "أو قرى" في منطقته، ومعبد آخر في عسقلان شيد باسم الإله بتاح.

_ 1 Cf., Nelson, Jaos, Lvi, No. 2, 232 F.

عواقب الإسراف

عواقب الإسراف: طال عهد رمسيس الثالث نحو واحد وثلاثين عامًا حتى عام 1151ق. م، استمتع في أغلبها بما دلت عليه ضخامة منشآته من ثراء ومجد ونعيم، ثم آذنت أموره وأمور بلده بالتحول من حال إلى حال، وكانت عوامل هذا التحول ثلاثة، وهي: تزايد أعداد الأجانب المتمصرين في البلاط والجيش، فضلًا عن تزايد أعداد الأرقاء الأجانب في القصور والمعابد، ثم مؤامرات النساء في القصر الفرعوني، وضيق الطبقات العاملة بقلة ما يصلها من مجهود يمينها ومما نعم بمثله كبار الكهان وأهل البلاط: فقد مر بنا كيف تقبلت مصر أعدادًا من الوافدين عليها مما وراء حدودها الشمالية الشرقية، بل ومن الآريين وبعض شعوب البحر المسالمين، يصدر رحب منذ أواسط عصر الأسرة الثامنة عشرة، وكيف استخدمتهم في جيشها ووظائفها وبادلتهم عقائدهم بعقائدها، وقد زاد هذا الاتجاه خلال عصري الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، ولم يأب الكتبة المصريون حينذاك أن يعبروا بأسماء أرباب الشام: بل وعشترة

وعنات وقدش عن ربوبية البأس والقوة، جنبًا إلى جنب مع أسماء رعاة الحرب المصريين: آمون ومونتو، وست، وسخمة ... ، ولم تأب بعض الأسر المصرية أن تنسب أسماء مواليدها إلى أسماء الأرباب السوريين. وترك مهندس مصري نصبًا في بيت شان في فلسطين اتجه بدعواته فيه هو وابنه إلى ميكال إلهها المحلي. وترك كاتب مصري نصبًا آخر في أوجاريت بشمال سوريا اتجه بدعواته فيه إلى بعل زفون الإله السوري العظيم1. وتقبلت الجيوش المصرية أعدادًا من الأجانب في فيالقها، سواء باعتبارهم مرتزقة، أو من أسراها السابقين أو من أبناء أسراها، وأشركتهم في حامياتها الآسيوية، حيث كان يطيب لهم أن يقيموا في الأقطار الشمالي. وظن ملوكها أنه يمكن الاطمئنان إلى أغراب يسيطرون على أملاك آسيوية من أجل مصر، وذلك خطأ محض. ورفع رمسيس الثالث بعض هؤلاء الأجانب إلى مناصب القيادة، وكان يعلن لهم قراراته إلى جانب غيرهم من القادة وكبار الموظفين المصريين2. واعتد أن الأمان الذي يوفره لهم من مآثر عهده وكفيل ببث الإخلاص في قلوبهم. وتزايد نصيب القصور الفرعونية من الزيجات الأجنبيات، وتقبلت أعدادًا أكثر من الجواري. وقلدت قصور الأثرياء قصور الفراعنة في هذه السبيل، سواء يفعل ظروف الحرب وكثرة سباياها، أو حبًّا في ملاحة الشماليات ودفء الجنوبيات. وتقبلت القصور إلى جانب الجواري أعدادًا من الحشم الأجانب عملوا خدمًا وسقاه ووصفاء فيها. وزاد رمسيس الثالث، فعين بعض أولئك الأجانب في وظائف البلاط وفي مناصب القضاء. أما المعابد فكان نصيبها من الأرقاء والأسرى الأجانب والمتمصرين أضخم، بحيث ذكرت نصوص رمسيس الثالث أنه خصص 2607 من أسراه لأملاك آمون، و2093 لأملاك رع، و205 لأملاك بتاح3، لكي يعملوا بأسماء هذه المعابد في المزارع والمحاجر والمناجم، بل وفي شئون المعابد أحيانًا. ولم يكن من بأس فيما جرت عليه مصر من فتح قصورها ودواوينها ومعابدها لأبناء جيرانها ولأسراها وللمرتزقة المسالمين، طالما ظلت قوية يقظة وطالما ظلت يدها هي اليد العليا. ولكن الخطر كل الخطر كان يتمثل في ألا يخلو إخلاص هؤلاء النزلاء لها من شوائب، وأن يتمصروا بمظهرهم وليس في مخبرهم، وأن يظل بعضهم على استعداد للتنكر لها متى سنحت لهم فرصة أو ألمت بها نكبة، وما كان أكثر احتمالات النكبات عليها في ذلك الزمان. وكشفت عن دخائل قصر رمسيس الثالث وأوضاع الأجانب في بلاطه، مؤامرة من إحدى زوجاته الملكيات دب النفور بينه وبينها إلى حد أن تجاهل الفنانون تسجيل اسمها مع بعض صورها في معبده، وأحست هي برغبته في إقصاء ولدها بنتاورة عن ولاية العهد، فتآمرت مع بعض سقاة البلاط ونسائه وحرسه وخدمه من المصريين ومن النزلاء المتمصرين. واستعان المتآمرون بالسحر ووجدوا في مكتبة القصر ما يهديهم

_ 1 Anc. Records, Iv, 219, 226, 384; A. Rowe. The Topography Of Beth-Shan, Pl. 51; G. Loud, The Megiddo Ivories, Ii F.; W. Helck. Op. Cit. 2 Anc. Recods, Iv, 397 F. 3 Ibid., 225, 281, 338.

إلى عمل تماثيل من الشمع صنعوها على هيئة الحراس وتلوا عليها سحرهم وتعاويذهم ليلقوا على أصحابها السبات ويضعفوا عزائمهم، أو هكذا أملوا. ولكن المؤامرة انكشف أمرها، وتولى التحقيق فيها بأمر الفرعون أربعة عشر قاضيًا كان من بينهم أربعة تدل أسماؤهم على أنهم لم يكونوا مصريين الأصل. وقبل أن ينتهي التحقيق استطاع بعض أقارب المتهمين أن يرشوا ثلاثة من القضاة وضابطين، ولكن أمرهم انكشف وتحول القضاة الثلاثة والضابطان إلى متهمين. وحكمت المحكمة على الأمير بنتاورة وثلاثة من شركائه بالإعدام، وتركت لهم أن ينتحروا بأنفسهم. وحكمت على متهمين آخرين بالجلد والسجن، وعلى بعض آخر بجدع الأنف وصلم الأذنين، وكان من هؤلاء الأخارى قاضيان وضابطان من المرتشين، فعزت على أحد القاضيين نفسه، أو صحا ضميره فانتحر، وبرأت المحكمة زميله. أما ما أصاب رمسيس الثالث من هذه المؤامرة، واسم الفرعون الذي تمت المحاكمة في عهده، إن كان هو نفسه أم ولده رمسيس الرابع، فكلاهما موضع جدل حتى الآن1. كانت الخيرات الطائلة لا تزال تترى على خزائن الدولة طوال عهد رمسيس الثالث ومن بعده حتى أواسط عصر الأسرة العشرين، ولكن هذه الخيرات لم تتجه وجهتها السليمة، فاستهلكت المنشآت الملكية الخاصة نفس النفقات التي كانت تستهلكها في أوج عهود التوسع، ولم يفطن أصحابها إلى أن مجالات التوسع أصبحت ضيقة أمامهم بعد أن كانت طلقة ميسرة في عهود أسلافهم. وحرصت المعابد من ناحيتها على ثرواتها القديمة، وزادها رمسيس الثالث ثراء على ثراء، وفاته أنه إذا استطاع أن يبذل عن سعة في بعض عهده فلن يستطيع أن يجد نفس السعة في أواخر عهده. وقد ذكرت وثيقة من أيامه أن دخل معابد آمون في طيبة وحدها بلغ 62 كيلوجرام من الذهب، و1189 كليوجرام من الفضة، و2855 كيلوجرام من النحاس، وأن مراعيه كان يسرح عليها 421.362 رأسًا من الماشية الكبيرة والصغيرة، وقد أهداه رمسيس منها 28.337 رأسًا دفعة واحدة "ربما تعويضًا لمعابده عما ساعدته به من موارد في نفقات حروبه". وبلغ دخل معابد مصر حينذاك نحو مائة ألف مكيال من الغلال، واستأثرت بخيرات 169 مدينة وقرية في مصر وخارجها، وامتلكت أكثر من 88 سفينة، ونحو 50 ترسانة لصناعة السفن وإصلاحها، وتراوحت مساحة مزارعها بين 12 و15% أو ما هو أكثر من أراضي مصر الزراعية. وكان على المعابد أن تساهم بنصيب في مشروعات الدولة، ولم يكن لخزائن الدولة غنى عن هذا النصيب، ولكنه لم يكن يصلها كاملًا من المعابد الكبيرة نتيجة لمغالطات كهنتها وامتداد نفوذ كبارهم كالأخطبوط إلى أغلب إدارات الدولة ومرافقها. أما المعابد الصغرى فكان يحدث العكس معها؛ إذ يذوب ريع أوقافها عادة بين أيدي الموظفين ولا يصلها منه غير القليل2.

_ 1 Ancient Records, Iv, 416 F., 454, 469 F.; Jea, Xxiii, 152 F.; Zaes, Lxxii, 109 F.; Bifao, 107 F.; Jea, Xlii, 8, 9. 2 Anc. Records, Iv, 151 F., 224, 226, Etc.; Erman, Zur Erklarung Des Pap. Harris; Erichsen, Papyrus Harris, 1933; H. Schaedel, Die Listen Des Grossen Papyrus Harris 1936; Lefebvre, Historie De Grands Pretres D’amon, 1929; Jea, X, 116 F.; Rev. D’eg., Vii, 35 F.; Bibl. Eg., 1939. 69 F.; Jea, 1941, 19 F., 72 F. أدولف إرمان وهرمان رانكه: مصر والحضارة المصرية – ص320+؛ جون ولسون: الحضارة المصرية – معرب – ص439+

وثمة صورة لها وجهان، وجه يعيب فراعنة الأسرة وسياسة عصرهم، ووجه آخر يرحب التاريخ به لأنه يكشف عن حقيقة روح شعبية مصرية لم تكن تهضم الضيم ولا تأبى أن تعارضه رغم أنف التقاليد وأذناب الحكام، على عكس ما ألصقه بها كثير من المؤرخين من صفات الاستكانة واللامبالاة والتسليم المطلق بما يقضي به الرؤساء. وتقتصر هذه الصورة في حالتها الراهنة على العاملين في الجبانات الملكية بطيبة الغربية، ولكن ليس ما يمنع إطلاقًا من اعتبارها نموذجًا لما كان يجري في مناطق كثيرة غيرها مما لم يبق من أخبارها شيء مدون. فقد صورت متاعب العاملين في هذه المنطقة بردية نسبت حوادثها إلى العام التاسع والعشرين من حكم رمسيس الثالث1، وذكرت أنهم أضربوا عدة مرات لتأخر صرف مرتباتهم الشهيرة، واستمر إضرابهم في إحدى المرات ثلاثة أيام خرجوا فيها من قريتهم واعتصموا خلف أحد المعابد حتى اتفقوا على خطة ثم اتجهوا تجمعهم إلى معبد الرمسيوم وكان مركز الإدارة في المنطقة ويتضمن مخازن غلالها. وهناك برروا إضرابهم أمام الحراس والكهنة، بمثل قولهم: "ساقنا إلى هنا الجوع والعطش، فليس لدينا كساء ولا دهون ولا سمك ولا خضر، فاخطروا مولانا الفرعون واكتبو إلى الوزير المسئول عن أمرنا حتى يعطينا ما يقيم أودنا"، ففتحوا لهم المخازن بعد لأي وصرفوا لهم مخصصات شهر سابق. فتشجعوا وطلبوا مخصصات الشهر الذي أضربوا فيه، وتجمعوا عند مركز الشرطة، فلم يجد رئيس الشرطة سوى التسليم بحقهم فيما طلبوه ولكنه طلب منهم عدم الإخلال بالنظام ووعدهم بأن ينضم إليهم في اليوم التالي هم وزوجاتهم وأولادهم، إذا وجدوا ضرورة للاغتصاب. وتجرأ العمال في إضراب آخر فقالوا للموظفين الذين تصدوا لهم: "أخبروا رؤساءكم وهم واقفون بين زملائهم أننا لم نخرج بسبب جوعنا فحسب، ولكن لدينا اتهامًا خطيرًا نود أن نعلنه، وهو أن جرائم ترتكب في هذا المكان التابع للملك، وأن مركز هذا الملك معرض للضرر". واستمر العمال في الشكوى والخوض في أمر الوزير والفرعون إلى حد أن أرسل الوزير إليهم من يقول لهم باسمه "تقولون لا تهضم حقوقنا، فهل تظنون أني عينت لأغتصب وأنهب؟ إن واجبي هو أن أعطي ... فلو كانت أهراء الغلال خاوية فلسوف أرسل إليكم ما استطيع أن أدبره". تعاقب على العرش بعد رمسيس الثالث ثمانية فراعنة من أسرته، تسموا جميعًا باسم رمسيس، ابتداء من رمسيس الرابع حتى رمسيس الحادي عشر. ويرى زيته أن كلًّا من رمسيس الرابع ورمسيس الخامس كانا ولدين للملك رمسيس الثالث، وأن رمسيس السادس كان حفيدًا له من ابن لم يل العرش، ثم تعاقب الملوك الباقون من أولاده أو من نسله. وقد حكموا فترات تفاوتت بين القصر والطول، ولكنها لم تزد في مجموعها عن 75 أو 80 عامًا2. وكان من أسماء العرش الأخرى لهم على التعاقب: حقا ماعت رع، وسرماعت رع سخبر نرع، نب ماعت رع – نثر حقا أونو، وسرماعت رع – نثر حقا أونو

_ 1 Jnes, 137; Gardiner, Ramesside Administrative Documents, 1948, 49 F. 2 See, Peet, Jea, X, 166 F.; Xi, 72 F.; Xiv, 52 F.; Parker, Rev. D’egyptol., 1957, 163 F.

وسرماعت رع عنخن آمون، نفر كارع - خع مواسة9، خبر ماعت رع - آمون حر خبشف، من ماعت رع - نثر حقا أونو. وظلت مستويات المعيشة للحكام والطبقات العيا خلال هذه الفترة تختلف اختلافًا واسعًا عن حياة بقية الجماهير، فاستمر الفراعنة والأمراء وكبار الموظفين والكهان على ثرائهم النسبي الذي سمحت به موارد عهودهم، وأعد بعض الفراعنة لأنفسهم مقابر ضخمة على غرار مقابر من سبقوهم من حكام العصور المستقرة الغنية، ومنهم رمسيس السادس الذي تعتبر مقبرته من أضخم مقابر طيبة وأحفلها بما يصور تصورات عصرها عن الآخرة ونعيمها وعذابها وأربابها وشياطينها وجناتها ومخاطرها، على الرغم من سوء الحال الاقتصادية التي عانتها البلاد في عهده. واشتدت الضائقة بالطبقات العاملة أكثر فأكثر، وحدثت مجاعة طويلة في أواخر أيام الأسرة أطلق الناس على أحد أعوامها اسم "عام الضباع". وارتفعت أسعار الغلال وبقية الأقوات إلى ثلاث أمثالها. وتكررت إضرابات العمال في غرب طيبة، ولم يعدموا من يعطف عليهم ويرى الحق في جانبهم من كبار زائري المنطقة، ولكنه غالبًا ما كان عطفًا مؤقتًا لا يسمن ولا يغني من جوع، فإذا تصادف أن أتبعوا العطف بالعمل لم يكن العمال يترددون في رد الجميل بمثله، كما فعلوا مرة حين أهدوا صندوقين وأدوات مكتبية لبعض الكتبة الذين عاونوهم في قضيتهم، اعترافًا بفضلهم. وحدث مرة أن عطف عليهم عمدة خير فصرف لهم خمسين غرارة من الحبوب من مخازن معبد الرمسيوم، وقال لهم "حتى تتعيشوا بها إلى أن يصرف "رجال" الملك مخصصاتكم"، ولكن كهنة المعبد تآزروا ضده وعز عليهم أن ينتقص من مدخراتهم ليطعم العمال منها، فاشتكوا إلى الوزير ووصفوا فعلته بأنها اغتصاب وجريمة شنعاء. وبلغ من ضيق العمال وجرأتهم أن طلب وزير دات مرة رجالًا منهم ليحملوا متاعًا للفرعون رمسيس التاسع، فرفضوا ورد أحدهم على رسول الوزير بقوله: "دع الوزير نفسه يحمل متاع الفرعون نفر كارع ويحمل خشب الأرز أيضًا "إذا شاء"1. ولم يكن ذلك هو كل ما ترتب على اضطراب الأمن وتدهور الأحوال الاقتصادية في أواخر عصر الرعامسة، وإنما استشرت جرأة المعتدين وحاجة المقلين على مقابر الفراعنة وكبار الأثرياء في غرب طيبة، فنهبوا عددًا كبيرًا منها وتستر عليهم بعض كبار الموظفين، وتوالت التحقيقات بشأنها، ولكن بغير جدوى وتدخلت في الأمر الخلافات والاتهامات الشخصية بين عمدة طيبة الغريبة وبين عمدة طيبة الشرقية2.

_ 1 Spiegelberg, Arbeiten Und Arbeiterbewegung… Unter Dem Ramessiden, 1895; Botti-Peet, Ll Giornale Della Nacropoli Di Tebe, 1928; Jea, Xii, 258 F.; Archiv Oirentalni, 1933, 137 F.; Jnes, 1951, 137 F.; Gardiner, The Wilbour Pupyrus, 1948-1952. 2 Peet, The Mayer Papyri, 1920; The Great Tomb-Robberies, 1930; Capart And Gardiner, Le Pap. Lepold Ll…, 1939; Van De Walle, Jea, Xxiv, 59 F.; Wainwright, Jea, Xxiv, 59 F.

ولم يكن من سبيل لتغيير هذه الأوضاع إلا عن طريق ثورة أو انقلاب، وللأسف لم تكن إمكانيات الجماهير حينذاك تسمح بثورة عامة، فحدث انقلاب محدود قامت به طائفة من كبار كهنة آمون اختلفت وسائل زعمائهم في تحقيق أغراضهم، وظهر لهم زعيم يدعى أمنحوتب توارثت أسرته رياسة كهنوت آمون منذ عهد رمسيس الرابع وآل المنصب إليه في عهد رمسيس التاسع. ونجح في الإيحاء بأهمية شأنه حتى لفناني عصره فصوروه في منظرين بمعبد الكرنك بحجم مساوٍ لحجم الفرعون وفي مواجهته، على عكس ما قضت به التقاليد من الرمز لعلو شأن الفرعون بتصويره بحجم أعظم دائمًا من قامات أتباعه. وازدادات سلطة أمنحوتب في عهد رمسيس العاشر القصير ثم بلغت غايتها في عهد رمسيس الحادي عشر، فتضخم عدد أنصاره وأتباعه، كما تضخم التذمر في الوقت نفسه ضد طموحه وضد الثروات التي تكدست بين يدي أسرته وهنا تحدثت وثائق العصر بتلميحات غامضة قصيرة عن انقلاب استخدمت القوة ضده في إقليم طيبة وجزء من مصر الوسطى حتى بلدة القيس "حردي" حاضرة الإقليم السابع عشر. وكانت الشخصية الرئيسية التي برزت ضد كبير الكهنة هي شخصية بانحسي نائب الملك في النوبة. وقد جند الأول أرقاء المعابد لمصلحته، واستعان الثاني بجنود نوبيين وليبيين مرتزقة، وتعددت الخسائر بين هذا وذاك على حساب الأهالي وعلى حساب سلطة الفرعون، ثم انتهت باختفاء الطرفين وفشلهما معًا، ولم تخلص الجماهير لهذا أو ذاك لأن أيًّا منهما لم يقم بحركته لمصلحتها1. ويحتمل أن يكون بانحسي قد انزوى في النوبة بعد ذلك. ورأى بعض المؤرخين في حركة طيبة هذه أكثر من وجه واحد، فرآها بيير مونتيه تعبيرًا عن سخط قديم ادخره أتباع آمون ضد اهتمام الرعامسة بعاصمتهم الشمالية وربهاست، ولكنهم لم يعلنوه صراحة إلا بعد أن تأكدوا من ضعف فراعنة عصرهم وضيق الناس بالأوضاع القائمة. بل وأضاف أن سرقات المقابر التي تفشت حينذاك كانت مقصودة أو على الأقل وجدت تشجيعًا، لتزويد أصحاب الحركة بالذهب والسلاح ولتعويض قلة استخراج المعادن واستيرادها. وولي رياسة الكهنة بعد ذلك حريحور، فجرى على سبيل سلفه في التمهيد لبسط نفوذه، ولم يكن من أسرة كبيرة مثله2، ولكن كان له ماضيه في الجيش والوظائف المدنية إلى جانب معارفه الدينية، ثم جمع إلى كل ذلك منصب نائب الملك في النوبة حتى يتقي أن يشغله من يقضي على آماله، واتخذ لقب وزير طيبة لبعض الوقت على أقل تقدير، حيث ظهر اسم آخر يدعى "نب ماعت رع نخت" في العام الثالث والعشرين من حكم رمسيس الحادي عشر. ثم تمادى حريحور. في نفوذه باسم الدين أكثر فأكثر، ونم عن ذلك أنه بدأ بذكر اسم ملكه وحده في عدد من النقوش والمناظر التي أشرف على تنفيذها في معبد الإله خنسو في رحاب الكرنك، ثم أمر بتسجيل اسمه إلى جانب اسم الملك في عدد آخر. وانتهى بالاكتفاء باسمه وحده وانتحال كنيات وشارات تشبه ألقاب الملكية وشاراتها. وكان هذا المعبد قد بدأ إنشاؤه في

_ 1 Peet, Jea, Xii, 254 F.; Sethe, Zaes, 59, 06 F.; Lefebvre, Inscriptions Concernant Les Grads Pretres D’amon, 1929; Kees, Herihor Und Die Aufrichtung Des Gottesstaates, 1936, 4 F. 2 يفترض الأستاذ كيس أن حريحور كان مناصرًا لبانحسي، بينما يفترض الأستاذ جاردنر أنه كان صهرًا لخصمه أمنحوتب - راجع الحاشية رقم 2 بالصفحة التالية.

عهد رمسيس الثالث واستمر في عهد رمسيس الرابع ببناء قدس الأقداس والقاعات المحيطة به، ثم اتسع جنوبًا وشيدت له صالة أعمدة في عهد رمسيس الحادي عشر. ورضي الفرعون المغلوب على أمره بالأمر الواقع، واعتبر الكهنة ذلك نصرًا لهم وبشيرًا بعصر جديد تبجحوا وسموه عصر النهضة وأرخوا به وثائقهم، واعتبر حريحور نفسه كما لو كان ملك طيبة، وإن ظل رمسيس الحادي عشر على العرش حتى العام 27 أو 29 من حكمه. والطريف أنه ورد في نص آشوري أن هذا الملك أرسل إلى آشور بل كالا ملك آشور هدية تمساحًا "تمسوخو" وقردًا كبيرًا1. وباشر الكاهن الأكبر حريحور سلطانه الأعلى في طيبة وأضاف إلى عمائرها الدينية باسمه فناء إلى جنوب معبد خنسو، وقيل عنه في نقوش المعبد إنه البذرة المقدسة لسيد الأرباب، ونسله البهي الذي حملت به الربة موت ليصبح حاكمًا على مدار الشمس، واستعان بالسياسة، فلم يظهر عداء لكهنة الشمال، كما يفترض مونتيه أنه حدث في عهد سلفه، وإنما صادق زعيمهم فيه وهو نيسوبانب جدة، الذي ذكره المؤرخ مانيتون باسم سمندس، ثم ورث أغلب ألقابه ووظائفه لولده "بي عنخ" كبير الكهنة، ولكن دون بعض ما انتحله لنفسه من كنيات فرعونية2. ولم يكن لهذه النهضة أي صدى في الخارج، وإنما صور تخلخل نفوذ مصر الخارجي حينذاك كاهن مصري مثقف يدعى ونآمون خرج من مصر إلى الشام لاستيراد أخشاب أرز من أجل مركب الإله آمون رب الدولة والإمبرطورية في الدولة الحديثة، وكان أمثال ونآمون من الرسل يجدون الترحاب حيثما حلوا، أما هو فقد وجد الصدود حيثما نزل، وعز عليه أن يجد بين الطوائف الجديدة في الشام الأمن القديم الذي كفله المصريون والسوريون في أيام استقرارهم ومجدهم. وعندما عاد إلى وطنه كان أمينًا في تسجيل ما مر به وتحدث به أو سمعه بكل ما فيه من مرارة وأسى على سمعة وطنه3. وإلى جانب صبغتها التقريرية أو الإدارية تعتبر قصة ونآمون من عيون أدب الرحلات في العصور القديمة ونموذجًا لأسلوب الكتابة واللغة المصرية القديمة في عصورها الأخيرة، كما تحمل أكثر من شاهد على اعتزاز المصري الأصيل بقوميته وكرامة بلاده حتى في فترات ضعفها، ولباقته في مواجهة المصاعب وهو مغترب عنها.

_ 1 Millard, Iraq, Xxxii, 1970, 168-9. 2 Lefebvre, Op. Cit., 205 F., 272 F.; Jea, Xv, 194 F.; Zaes, 1930, 129 F.; Jnes, 1948, 157 F.; Kees, Herihor Und Die Aufrichtung Des Gottesstaates, 1936; Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 1961, 302 F. والغريب أن ياروسلاف تشرني مساعد الأستاذ جاردنر قد كرر آراءه في المرجع السابق عن شخصية حريحور وزمنه في مقال تال عام 1965 دون أن يشير معها إلى اسم أستاذه الذي كان قد توفي ذلك الحين. See, The Cambridge Ancient History, Revised Edition Of Vol. I, Ch. Xxxv, 1965, 32 F. 3 Gardiner, Late Egyptian Stories, 61 F.; J. Wilson, In Anet. 25 F.; Lefebvre, Chr. D’egypte, 1936, 97 F. وعن توقيت قصة ونآمون بنهاية عصر الأسرة العشرين، وليس بعصر الأسرة الحادية والعشرين كما كان شائعًا بين المؤرخين: See, Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 306 F. ومرة أخرى أخذ تشرني هذا الرأي عن أستاذه ولم يشر إلى مصدره في مؤلفه الذي تلاه.

شغل ونآمون منصب كبير مدخل معبد أو دائرة "أملاك" الإله آمون في طيبة، ولم يكن من كبار كهنة المدينة أو عظمائها، وإن لم يحرمه هذا من الثقافة الأدبية والثقافة الدينية. وأرخ ابتعاثه من طيبة إلى لبنان ليستورد أخشابًا لسفينة "آمون" وسرحات العظيمة الفخيمة، باليوم السادس عشر للشهر الرابع من صيف العام الخامس للنهضة التي أعلنها حريحور كبير كهنة آمون. ولم يؤرخه بأعوام حكم الملك رمسيس الحادي عشر الذي لا زال حينذاك يعتلي العرش وإن بقي مسلوب السلطة. وبهذا كان ونآمرن مبعوثًا لكبير الكهنة حريحور وليس مندوبًا للملك الشرعي الذي أغفل ذكره ويحتمل أن يكون قد ألمح إليه عرضًا في سياق حديث باسم "خعمواسة" ووصفه بأنه مجرد إنسان، مما يعني أنه لم يكن يناصره ولم يدخر له نصيبه التقليدي من الإحلال والتقديس وكانت هذه الملابسات من عوامل إضعاف موقف ونآمون في مواجهة من قابلهم من أمراء مواني الشام ومواجهة أمير جبيل بخاصة. وبلغ ونآمون مدينة برر عمسسو "أوتانيس" العاصمة الشمالية التي ولي أمرها نس بانب جدة وزوجته تانت آمون، وقد ذكرهما باسميهما وليس بألقاب الملك التي لم يتخذاها بعد. ولعله في حرصه على ذكر تانت آمون كان يقدر مكانتها ضمنًا كأميرة أثيرة لدى زوجها الشاب أو يقدر نفوذها وقوة شخصيتها إزاء زوجها، وقد عبر عنهما معًا في سياق حديثه باسم "الشركة التي وضعها آمون في شمال أرضه" - ويبدو أنه كان يدين لها بفضل ما لا سيما وقد ذكر في قصته أنها خصته بهديا أرسلت إليه في لبنان. وفي يوم وصوله لم يضيع وقتًا وسلم الزوجين ما معه من رسائل فقالا "يقينًا سوف ننفذ ما قاله ربنا آمون رع ملك الأرباب" ولكنهما لم يذكرا كبير الكهنة حريحور بشيء. مع كونه صاحب الرسائل الفعلي، وصديقهما، بل ويرى رأي حديث أن نس بانب جدة كان أحد أبنائه الذين بلغوا على ما يقال 19 ولدًا وخمس بنات من زوجته نجمة، وإن ظل هذا الرأي في مرحلة الفروض. وبحكم إشراف بررعمسسو على التجارة والملاحة الشمالية، أوفده الزوجان مع ربان السفينة منجبة، وهو اسم غريب بعض الشيء عن الأسماء المصرية ولهذا عير به ونآمون فيما بعد. وخلال أحاديه عن رحلته في الشام، أوحى ونامون بأنه كان يتفاهم مباشرة مع الأمراء والموظفين، تدليلًا على ثقافته ومعرفته بلغاتهم، أو لشيوع لغته المصرية في بلاد الشام بعد القرون الطويلة التي ارتبطت مع مصر فيها خلال الدولة الحديثة. ووصلت سفينة ونآمون إلى "دور" وهي ميناء الثكر الذين هاجروا إلى شمال الشاطئ الفلسطيني، حيث أهداه أميرها "بدو" خمسين رغيفًا "أو شطائر"، وزق خمر وفخذ ثور. ولكنه لم يهنأ كثيرًا بهذه الحفاوة إذ سرقه رجل من سفينته وفر بثروته التي تألفت من آنية ذهبية تساوي 5 دبنات، وأربع أوانٍ فضية تعادل 20 دبنا، وحقيبة تتضمن 11 دبنا من الفضة، وهي ثروة متواضعة بالنسبة لما كان يود استيراده من أخشاب لبنان، ولعله كان ينوي أن يقدمها هدايا إلى الأمراء الذين ود أن يقدموا له الأخشاب هدية لمولاه أو لإلهه. وفي الصباح الباكر قصد ونآمون إلى حيث يوجد الأمير بدر ليعمل على إعادة ما سرق منه باعتباره أمير البدلة ومحافظها، ولكي يستثير اهتمامه أو نخوته أعلن أن ما سرق منه لا يخصه في الواقع بقدر ما يخص

آمون رع ملك الآلهة ورب العالمين، ويخص نس بانب جدة وحريحور وخاصة المصريين، كما يخص الأمير بدر والأميرين ورت ومكمر، وذكر بعل أمير جبيل، ولعل هؤلاء الثلاثة الأخارى هم من اعتزم أن يخصهم بهدايا سادته في مصر في مقابل ما أراده من أخشاب بلادهم. وجادله الأمير بدر قائلًا: هل أنت جاد فعلًا أم مدعٍ؟ إني لا أكاد أتفهم ما تعنيه، فإذا كان لصًّا من مدينتي قد تسور سفينتك وسرق مالك أديت لك المال من خزائني حتى يمكن العثور على السارق أيًّا ما كان اسمه. ولكن اللص من حيث الواقع كان تابعًا لك ولسفينتك، لتمض في ضيافتي بضعة أيام حتى أجده لك. وليس من المستبعد أن قانون الثكر كان يأخذ بمثل ما سنته تشريعات حمورابي من قبل في بابل، من حيث مسئولية الدولة عن تعويض المواطن عما سرق منه إن لم تقبض على سارقه، وإن كان الأمير بدر قد تنصل من تطبيقه لأن السارق لم يكن من بلده. وقضى ونآمون تسعة أيام في ميناء دور ثم واجه أميرها بأنه مادام لم يجد ماله فلا أقل من أن ييسر له الرحيل. فرد عليه بعبارات يصعب تبيين تفاصيلها وإن كان من المحتمل أنه نصحه إن اقترب من مقصده أن يأخذ من السفينة التي يبحر بها ما يعوضه عن ماله كرهينة ويدع ملاحيها يبحثون عن سارقه - وأبحر ونآمون إلى صور ثم فارقها عند انبلاج الفجر، وروي أنه عندما بلغ جبيل وجد في السفينة حقيبة تتضمن 30 دبنا من الفضة فأخذها ولم يكتم أمرها وإنما قال للملاحين النكر: لقد أخذت المال وسوف يظل في حوزتي حتى تجدوا مالي أو اللص الذي سرقه، وأنا لم أنهبه ولكني سوف أحتجزه. وعلى شاطئ البحر في ميناء جبيل احتفل ونآمون بسلامة وصوله في خباء صغير، ووجد مكانًا لتمثال "آمون على الطريق" الذي خرج به من مصر متبركًا به وليكون وسيلته في إثبات قداسة مهمته، ووضع متعلقاته في الخباء. وفوجئ ونآمون بما لم يتوقعه، فعندما بلغ خبره أمير جبيل وأنه لا يحمل أوراق اعتماد رسمية رفض استقباله وبعث إليه يقول له: غادر مينائي. فأرسل ونآمون إليه قائلًا: فأين أذهب؟ إن وجدت لي سفينة فدعها تعيدني إلى مصر. وسواء استقل الأمير شأن ونآمون لشخصه أم لأشخاص من أرسلوه، أو أراد إبعاده تفاديًا للمشكلات التي يمكن أن تنشب بينه وبين أصحاب السفينة، فقد قضى ونآمون 29 يومًا على رصيف جبيل، والأمير لا يفتأ كل يوم يأمره أن غادر مينائي. ثم حدثت المعجزة، إذ بينما الأمير يقدم القربان لآلهته يومًا أن تلبس الإله "آمون" فتى من فتيانه ولعله أصابه بنوبة من الدروشة أو وجد الصوفية فأصبح قادرًا على التنبوء وأخذ يصيح أن أدع الإله وأدع الرسول الذي يحمله فإن آمون هو الذي أرسله. وحدث ذلك في الوقت الذي وجد ونآمون فيه سفينة متجهة إلى مصر وشحن متاعه فيها وأخذ يترقب الظلمة حتى ينقل تمثال معبوده على ظهرها خفية دون أن تراه عين. وهكذا أظهر آمون معجزته في الوقت

المناسب ليحفظ لرسوله ماء وجهه، أو هكذا أراد ونآمون أن يصور الحادثة، إذ ما لبث أن هرع إليه رئيس الميناء يطلب إليه باسم الأمير أن يتريث حتى الصباح، فعاتبه بقوله ألست أنت الذي لم تفتأ كل يوم تقول دع مينائي؟ ألا تقصد أن تضيع السفينة التي تخيرتها للرحيل ثم تأتي من بعد فتطردني؟ فلم يجد الأمير إلا أن يأمر ربان السفينة مباشرة بأن يتوقف إلى الغد، ثم استدعى ونآمون في الصباح، فترك هذا إلهه في خبائه على شاطئ البحر، ورأى الأمير في هيئة رسمها بقصته فإذا هو يجلس في شرفة عالية وقد أدار ظهره إلى نافذته بحيث تتلاطم أمواج البحر من خلفه. وحياه ونآمون بتحية مصرية قائلًا: "فليغفر آمون". واستهل الأمير حديثه بأن سأله عن الفترة التي قضاها منذ أن خرج من أرض آمون، فإذا هي خمسة شهور، ثم قال له وهو يحاوره ليضعف من موقفه: والآن إذا صح هذا فأين تفويض آمون، المفروض أن تحمله، وأين رسالة كبير كهنة آمون المفروض أن تكون في يدك؟ فأجابه بأنه ترك رسائله لدى نس بانب جدة وتانت آمون - فامتعض الأمير وقال له: ما من تفويض ولا رسالة معك، فأين سفينة "نقل" الأرز التي خصصها لك نس بانب جدة إذن؟ وأين بحارتها السوريون؟ ألا يكون "قد خدعك" ووضعك في سفينة أجنبية كي يقتلك ولكي يلقوا بك في البحر؟ فمن كان ينقذك ومن كان يجد الرب؟ وأبى ونآمون أن يقبل التعريض به وبكرامة ربه بلده فقال: الواقع أنها سفينة مصرية، بل هو أسطول مصري تحت طاعة نس بانب جدة، وليس لديه بحارة سوريون. فجادله الأمير قائلًا: والواقع كذلك أنه ترسو هنا في مينائي عشرون سفينة تتعامل مع نس بانب جدة "بما يعني أن نس بانب جدة كان يستطيع أن يرسله على إحداها"، كما أن في صيدا الميناء الأخرى التي مررت بها خمسين سفينة تتعامل مع وركاترا "وهو أمير غير معروف، وإن كان ساميًّا أمكن اعتبار اسمه تحريفًا لاسم وركة إيل - ولو أن الباحث ألبريت يعتبره من أمراء الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى". وأسقط في يد ونآمون فلزم الصمت حتى قال له الأمير: وأي مهمة هذه التي أتيت من أجلها؟ فقال له: من أجل أخشاب مركب آمون رع الفخيمة العظيمة، أتيت، وما فعله أبوك وأبو أبيك سوف تفعله. وأضاف ونآمون في روايته: هكذا قلت له، كأنه يعتز بجرأته في مواجهته. ولكن الأمير ظل على صلفه قائلًا: حقًّا لقد وفروها، فإذا دفعت "الثمن" وفرتها أنا أيضًا. فهم قد فعلوا ذلك من بعد أن أرسل الفرعون "ذات مرة" ست سفن محملة بمنتجات مصرية ضمت إلى مخازنهم، فما الذي أتيت به أنت إلي؟ واستحضر الأمير سجلًّا لأسلافه، وأمر بأن يقرأ أمام ونآمون، فتأكد أنه تضمن ذكر ألف دين فضة وبضائع من كل نوع. واسترسل الأمير قائلًا: أما عن حاكم مصر فحتى إن كان سيد ما أملك وكنت أنا كذلك خادمه - فإنه ليس بمجرد القول أن نفذ مهمة آمون، وإنما اعتاد أن يرسل فضة وذهبًا، وكانت الهدايا الملكية تصل إلى أبي. أما عن نفسي، فلست خادمك ولا خادم من أرسلك. ويلحظ هنا أن الأمير لم يذكر حاكم مصر بلقب الفرعون أو الملك، وأخذ من ثم يعرض بونآمون وبمن أرسله على اعتبار أنه ليس مرسلًا من قبل ملك مصر الشرعي.

واسترسل الأمير في صلف قائلًا: فإني إذا صحت في لبنان تفتحت السماء وإذا بالألواح هنا على شاطئ البحر "يعني بهذا قوة نفوذه في بلده وأن السماء لن تبخل عليه بالأمطار التي يستعان بسيولها على دفع أخشاب الأشجار من الغابات إلى ساحل البحر". فقدم لي إذن السفن والحبال لشحنها وسوف أعطيك إياها، وإلا غرقت السفن وهلكت وسط البحر. ثم تطلع هنا: إن آمون رعد في السماء من بعد أن وضع الإله ست إلى جانبه، وإن آمون خلق العالم بعد أن أوجد ابتداء أرض مصر التي أتيت منها. وهكذا ولكي يتم الوصول إلى البلد الذي أوجد به خرجت المهارة منها، ولكي يجري بلوغ المكان الذي أوجد به صدر العلم منها. فما هدف هذه الرحلات الساذجة التي كلفت بأدائها؟ "وكأنه يقول إنه وإن صح أن المهارة والمعرفة ترجعان أصلًا إلى مصر فإن خالق البلاد كلها واحدًا، وهو وإن ميز مصر ابتداء بما ميزها به فقد كان ذلك لخير جبيل التي يتولى أمرها. وإذا كانت مصر قد اعتادت من قبل أن تصدر المهارة والمعرفة - فما بال ونآمون قد خرج منها إذن في حال بئيسة؟ ". وهنا بلغ الاعتزاز بالقومية مداه عند ونآمون فاستجمع جأشه ولياقته ورد قائلًا: "هذا خطأ، فما هي برحلات غبية، وما من سفينة على النهر لا تتبع آمون، والبحر بحره، ولبنان أرضه التي تقول إنها تتبعك، ومن أجل آمون وسرحات سيدة كل السفن تنمو الغابات على الجبال. وقد قال آمون حقًّا وصدقًا لمولاي حريحور ابعثه - وقد أوفدني بهذا الإله الجليل، وها أنت قد تركت هذا الرب العظيم ينتظر 29 يومًا في مينائك هذه، وأنت تعلم أنه هنا- وتلك مشيئته. وها أنت تجادل على تجارة لبنان مع آمون مولاها. أما عن قولك إن الملوك السابقين أرسلوا الفضة والذهب، فإنهم إن ملكوا الحياة والعافية ما أرسلوا ما أرسلوه من منتجات، فعوضًا عن الحياة أرسلوا البضائع إلى آبائك. وههنا آمون رع ملك الآلهة، وهو رب الحياة والعافية ورب آبائك وقد قضوا العمر يتوددون إليه - فما أنت إلا خادم لآمون، وإذا نويت أن تنفذ وأتممت رسالته فلسوف تحيا وتسعد ويعم الخير على كل أرضك وشعبك، فلا تطمع لنفسك فيما هو ملك آمون رع ملك الأرباب، فالأسد حقًّا يتطلع إلى ما في يده ... ، ومع ذلك استحضر لي كاتبًا أوفده إلى نس بانب جدة وتانت آمون، الشركة التي وضعها آمون في شمال أرضه، ولسوف يرسلان ما هو لازم، ويكفي أن أرسل لهما هذه العبارات: "أرسلاه "أي ثمن الأخشاب" إلى أن أرجع إلى الجنوب ولسوف أعمل حينذاك على رد ما لكما من دين". وهكذا أرضى ونآمون كرامته ودافع عن ربه وعن قوميته وظل عزيز النفس وهو وحيد في مواجهة الأمير مما كان له وقعه في نفسه فأرسل مع كاتبه ورسالة ونآمون سبعة ألواح من متطلبات سفينة آمون، إلى مصر عربونًا على حسن نواياه.

وعاد الرسول من مصر إلى لبنان في الشهر الأول من الفصل الثاني، وقد أرسل معه نس بانب جدة وتانت آمون من الذهب أربع أوانٍ وصحفة، ومن الفضة خمس أوانٍ، وعشرة كساوي من كتان بيسوس الملكي، وعشر غلالات من كتان الصعيد الرقيق الجيد، و500 حصيرة فاخرة، و500 جلد "أو مؤخرة ثور"، و500 حبل "أو لفافة بردي"، و20 غرارة عدس، و30 سلة سمك، كما أرسلت تانت آمون لونآمون شخصيًّا خمس كساوي وخمس غلالات من نسيج الصعيد الرقيق الجيد، وغرارة عدس، وخمس سلال سمك. "ويبدو أن السمك هنا كان من السمك المجفف أو المملح الذي اشتهرت مصر به إلى جانب العدس والفول والكتان والبردي والمصنوعات المعدنية الفاخرة". وقر الأمير عينًا وخصص 300 رجل و300 ثور وعين عليهم رؤساء لإسقاط الأشجار من الغابات فقضوا فصل الشتاء هناك، وعندما جفت الأخشاب نقلوها في الشهر الثالث للصيف إلى شاطئ البحر. واحتفى الأمير بهذه المناسبة ودعا ونآمون، ولكن ظلت للمشاكل التي واجهته بقية. فحين جاور الأمير غطاه ظل مظلته التي شكلت على هيئة زهرة اللوتس المصرية، فغار منه ساقي الأمير، وكان للأسف ذا اسم مصري وهو بن آمون، ولعله كان لبنانيًّا ولد في مصر أو من أب مصري، فنحاه وسخر منه قائلًا ها قد سقط عليك ظل مولاك الفرعون. فأظهر الأمير استياءه وقال له دعه لحاله، وإن ظل يضمر نية المضايقة لونآمون حيث قال له: ها قد رأيت أن المهمة التي أداها أبي من قبل أديتها، ولو أنك لم تؤدِ لي ما أداه آباؤك لآبائي، وقد وصلتك آخر أخشابك ووسقت، فافعل ما آمرك به واشحنها ولا تذهب مراعيًا فقط انقلاب البحر فإنك إذا راعيته وحده فسوف تواجه غضبي، والواقع أني لم اتخذ معك ما وقع لرسل خعمواسة حينما قضوا 17 سنة في هذه البلاد وماتوا فيها. ثم قال لساقيه خذه يرى قبرهم الذي يرقدون فيه. وأجفل ونآمون قائلًا: لا تدعني أراه، وأما عن خعمواسة "ورجاله" فإنهم بشر أولئك الذين أرسلهم إليك، وهو نفس بشر، وليس أمامك الآن واحد منهم لتقول له اذهب لترى رفقاءك. "ويرى ألن جاردنر أن خعمواسة هو رمسيس الحادي عشر ولعله أرسل رسله هؤلاء في بداية حكمه، وسواء ذكره أمير جبيل باسم خعمواسة فعلًا دون لقب الملك، أم أن ونآمون تعمد أن يذكره به لعدم ولائه له، فإن كلا الأمرين يعني ضعف نفوذه وسمعته كملك كما يعني الاعتقاد ببشرية الفرعون على الرغم مما ادعته النصوص التقليدية له من ألفاظ التقديس والألوهية". واسترسل ونآمون قائلًا: "ومن حقك أن تسعد إذا وجد لك نصب تقول عليه: أرسل إلى آمون رع ملك الآلهة "آمون على الطريق" رسوله "له الحياة والعافية والسعادة" وونآمون رسوله البشري، من أجل أخشاب مركب آمون رع ملك الآلهة؛ الفخيمة المعظمة، فنفذت ذلك وأرسلتها إليه بسفني وبحارتي وجعلتهم يصلون إلى مصر ليسألوا لي 50 عامًا من آمون فوق نصيبي "من الحياة"، وقد يسعدك الحظ يومًا فيأتي رسول من أرض مصر يعرف كتابتك ويقرأ اسمك على النصب "فيدعو لك بدعائنا" ولسوف تتلقى

حينئذ ماء الغرب كالأرباب الذين يوجدون فيه، وأردف الأمير مؤمنًا على قوله أو متهكمًا بما قد يعني: هذه لفتة حق قلتها لي. وأضاف ونآمون: أما عن كل ما ذكرته لي فإني إذا بلغت بلدي حيث يوجد كبير كهنة آمون ورأى بضاعتك، "فإن بضاعتك هذه هي التي سوف تجلب الخير لك". ومضى ونآمون على شاطئ البحر حيث الأخشاب موسقة، ولكنه لمح لسوء حظه أحد عشر بحارًا من الثكر يتجهون إليه من ناحية البحر وهم يصيحون اعتقله ولا ترسل معه شاحنة إلى مصر. وهنا فاض الكيل بالرجل فجلس ودمعت عيناه، فقال له كاتب رسائل الأمير، وماذا بعد؟ فقال وفي نفسه غصة من طول تعويقه وبقلبه أمل وشوق للعودة إلى بلده: لا شك أنك رأيت الطيور المهاجرة وقد انطلقت إلى مصر مرتين، فانظر إليها وهي تهرع إلى بلد الماء الزلال، وأنا إلى متى أظل مهملًا هنا، وها قد رأيت من أتوا ليعتقلوني؟ ورجع الكاتب إلى الأمير وأخبره بالخبر، فأسف الأمير على ما سمع، وأراد أن يهون على ونآمون، فأوفد كاتبه إليه بزقي خمر وشاة، وبعث إليه بمغنيته المصرية تانت ني قائلًا لها: غنِّ له ولا تدعيه ينعي همًّا "وكان لبعض المصريات شهرة بالإنشاد الديني. ومنهن من كانت تشغل منصب كبيرة منشدات معبد بتاح في منف، وإذا صح أن تلك المغنية أو المنشدة كانت مصرية حقًّا وتشدو بلغتها فإن هذا يؤكد ما أسلفناه من قبل عن معرفة بعض أهل كل من مصر والشام بلغة بعضهم البعض، ليس في مجال المصالح التجارية والسياسية فحسب بل وفي مجالات الفنون مثلما يحدث الآن". وأرسل الأمير إلى ونآمون قائلًا، اطعم واشرب ولا تنع همًّا، ولسوف تسمع ما سوف أبلغك به غدًا. وفي الغد استدعى أعضاء مجلسه وتوسطهم مخاطبًا الثكر: ما هدفكم؟ فقالوا إنما أتينا نتتبع البحارة الذين تريد أن توفدهم إلى مصر مع من تطلبه. فقال لهم أما عن نفسي فلا أستطيع أن أعتقل رسول آمون في أرضي، فدعوني أرسله بعيدًا ولكن أن تتبعوه وتعتقلوه إن أردتم. ورحل ونآمون بالسفينة في البحر حتى ألقته الرياح على أرض "جزيرة" أرس "أو الأسيا وهي قبرص". وكان كالمستجير من الرمضاء بالنار إذ اجتمع أهل المدينة ليقتلوه، ولكنه شق طريقه بينهم إلى حيث صادف "هاتيبا" أميرة أرس وهي تنتقل من أحد قصورها إلى قصر آخر، فحياها وقال لمن كانوا حولها لا بد أن بينكم من يفهم اللغة المصرية. ولحسن حظه قال أحدهم أعرفها، فقال له قل لسيدتي إني كنت أسمع في المدينة "طيبة" مقر آمون أنه وإن اتبع الظلم في كل بلد، فالعدالة تتبع في أرس، أفلا يتبع العدل هنا كل يوم؟ فقالت الأميرة "عن طريق مترجمها" ما معنى قولك؟ فقال أعني أنه إذا كانت أمواج البحر والرياح قد ألقتني هنا حيث توجدين، فيجب ألا تتركيهم يأخذوني ليقتلوني. فإنما أنا رسول آمون، وأنا مطلوب وإن طال الأمر. وراع بحارة جبيل الذين يودون قتلهم معي، فهؤلاء لا بد أن مولاهم سوف يقتل بهم عشرة من بحارتك. وجمعت الأميرة قومها فاصطفوا، وقالت له اقض الليل ههنا ... ". وهنا انتهى الجزء المدون من القصة على بردية يحتمل العثور عليها

في منطقة اللشت في أواخر القرن الماضي، واقتناها الباحث الروسي فيلاديمير جولنشف وأهداها إلى متحف موسكو1. وعلى هذه الحال في الداخل وفي الخارج، انتهت أيام الأسرة العشرين بعد أن وليت أمور مصر 97 عامًا، وانتهت بختامها عصور الرعامسة وإن بقيت ذكراها خالدة بحلوها ومرها في آثارها ووثائقها.

_ 1 W. Golenischeff, Recueil Des Travaux…, Xxi, 74-102; A.H. Gardiner, Late Egyptian Stories. 1932, 61-76; G. Lefebvre. Chr. D’egypte. 1936, 97 F.; Wilson. Anet. 25 F.; M.A. Korostovstev, The Vayage Of Wenamon To Byblos “In Russian”, 1960; E.F. Wente, Jnes, 26 “1967”, 174-175; F. Nims, Jea, 54 “1968”, 163-164; W.K. Simpson And Others, The Literature Of Ancient Egypt, 1973, 142 F.

رابعا: الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين

رابعًا: الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين 1087 - 945ق. م ارتبطت سياسة هذه الأسرة بأحداث الفترة الأخيرة من عصر الأسرة السابقة لها، وبدأت بعاصمتين للحكم: عاصمة في طيبة التي ضمن فيها كبار كهنة آمون خلفاء حريحور صاحب السلطان الواسع في عهد رمسيس الحادي عشر، لأنفسهم حكمًا ثيوقراطيًّا اعتمدوا في تدعيمه على ما تخلف لمدينتهم مقر آمون رع رب الدولة، من ثراء موروث وسيادة دينية، وزعامة صعيدية، وإشراف على خيرات النوبة. وقد مدوا نفوذهم حتى الحيبة في مصر الوسطى وحصنوها1. ثم عاصمة في بر رعمسسو "أو "تانيس" بشرق الدلتا حكم فيها بيت نيسو بانب جد "أو نس بانب جدة" الذي ذكره أفريكانوس عن مانيتون باسم سمندس "الأول"، صاحب السلطان في الوجه البحري ومصر الوسطى منذ عهد الملك نفسه، وقد استند أفراده إلى اعتبارهم الورثة الشرعيين للأسرة السابقة لهم بحكم قرابتهم أو مصاهرتهم لها بعد أن أيد رأسهم شرعية سلطته بزواجه من تانت آمون سليلة الرعامسة، كما شجعهم ما كانو يصيبونه من ثراء ورخاء نسبيين نتيجة لإشرافهم على تجارة مصر الخارجية مع آسيا الغربية وحوض البحر المتوسط. وقد وجد هذان البيتان الحاكمان أنه لا قبل لأحدهما بتجاهل الآخر أو الانفراد بالأمر دونه، فأتما سياسة المسالمة التي بدأها حريحور، وزاوجا بين سلطتيهما الدينية والدنيوية عن طريق مصاهرة بيتيهما، واعتزا معًا بمذهب آمون رع. وكان أكثر الغنم في تحالفهما للبيت الشمالي، إذ بقيت الألقاب الفرعونية في رجاله. وتلقب أغلب فراعنة هذا البيت الشمالي بلقب ستبن آمون ولقب مري آمون، أي المصطفى من آمون وحبيبه، مما يعني حرصهم على إبقاء صلاتهم برب طيبة رب الدولة الكبير. وثمة نص في محاجر الجبلين ينسب إلى نيسو بانب جد أنه جلس ذات مرة في قصره في منف يفكر في عمل يكسبه التكريم، وكان قد بلغه أن بهو أعمدة بني في عهد تحوتمس الثالث في الأقصر قد طغى الماء عليه حتى كاد أن يبلغ سقفه، فأرسل ثلاثة آلاف عامل لقطع الأحجار وترميمه. وقد يعني هذا العمل رغبة الفرعون في مد نشاطه ومآثره إلى طيبة. وأيد حكام طيبة بدورهم سلطتهم باتخاذ أكثر من اسم واحد على عادة الملوك، ولكن قلما وضعوا أسماءهم في الخراطيش الملكية. وجمعوا بين ألقابهم الكهنوتية وبين ألقاب عسكرية مثل القائد الكبير للجيش، والقائد الأعلى للجيش في البلاد كلها. ولا زال بعض الجدل قائمًا حول تأريخ عصر الأسرة الحادية والعشرين وتتابع ملوكه وكبار كهنته، بل وحول الصيغ المرجحة لألقاب هؤلاء وهؤلاء. وكان أفريكانوس قد نقل عن مانيتون ذكر سبعة أسماء لملوك هذا العصر نسبهم إلى العاصمة تانيس وقدر مجموع مدد حكمهم بمائة وثلاثين عامًا. واحتفظت الآثار المكتشفة حتى الآن والنصوص الموجزة المسجلة على التوابيت وأكفان المومياوات بما يزكي صحة بعض هذه

_ 1 See, H. Kees, Op. Cit.; Ancient Egypt, 203.

الأسماء وما يزاد عليها. وبينما افترض الرأي الغالب بين المؤرخين المحدثين لمجموع مدد حكم أولئك الملوك 142 عامًا "امتدت بين عام 1087 وعام 945ق. م"، افترض لهم رآي آخر 124 عامًا "بين عام 1069 وعام 945ق. م"، وافترض لهم رأي ثالث 144 عامًا "امتدت بين 1089 - 945ق. م"1. وقد سلفت الإشارة بأنه مهدت لهذا العصر فترة أحد عشر عامًا بدأت بما اعتبره كبار كهنة آمون عصر نهضة، واقتسم السلطة الفعلية خلالها في أواخر حياة رمسيس الحادي عشر "بين 1098 - 1087، أو بين 1080 - 1069، أو بين 1100 - 1089ق. م"، كل من نس بانب جدة "سمندس" في العاصمة بر رعمسسو "أو تانيس"، وثلاثة من كبار كهنة طيبة كانوا على التتابع: حريحور "لنحو ست سنوات"، وبي عنخ "لفترة أربع سنوات"، ثم بي نجم "لفترة عام واحد"، وإن احتمل رأي آخر أن تكون فترة رياسة بي عنخ لكهنوت طيبة قد استمرت لبضع سنوات أخرى حتى عام 1064ق. م1. وعلى عرش العاصمة بر رعمسسو طال عهد نس بانب جدة بعد وفاة رمسيس الحادي عشر 26 عامًا، ثم تتابع بعده الملوك: آمون منيسو "لفترة 4 سنوات"، وباسبا خع مني "أو منو" الذي ذكره مانيتون باسم بسوسينيس الأول وطال حكمه 46 أو 48 عامًا، وأمنموبة، وقد شارك سلفه عامين ثم استقل بالعرش لنحو 9 سنوات، وملك ذكره مانيتون باسم أسوخور "؟ " اشترك مع سلفه ثلاث سنين ثم انفرد بالحكم ست سنوات، وسا آمون لفترة 17 أو 19 عامًا، وباسبا خع مني "أو منو" الثاني "بسوسينيس الثاني" لفترة 24 عامًا، وذلك مع بعض الشك في أسبقية الملك الثالث في قائمة هؤلاء الملوك للملك الثاني منهم2. ومن استعراض مدلولات هذه الأسماء يتضح مدى إصرار أصحابها على الانتساب إلى آمون رب طيبة، فضلًا عن الدلالة الواضحة لاسم "باسبا خع مني" الذي يعني "النجم قد شع في المدينة" وهي مدينة طيبة. وفي سبيل تحقيق الوفاق مع سلطات طيبة الدينية، ومن أجل تزكية امتداد نفوذهم فيها في الوقت نفسه، زوج بعض أولئك الملوك بناتهم لكبار كهنة آمون الذين تتابع منهم بعد حريحور وولده بي عنخ، أي بعد وفاة رمسيس الحادي عشر، ستة أو سبعة وهم: بي نجم "الأول"، وماساحرتا، وحج خنسف عنخ، ومن خبر رع، ونس بانجد "سمندس الثاني؟ "، وبي نجم "الثاني"؛ ثم باسباخع منو "بسوسينيس الثالث؟ ". وكفل ملوك بر رعمسسو لبناتهم بهذه المصاهرات ممارسة نصيب من النفوذ الديني في طيبة لا سيما مع

_ 1 Compare, J.H. Breasted, A.R., Iv, 606-7; Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 323-324, 330, 447; K. Kichen, The Third Intermediate Period In Egypt “1100-650 B.C.”, 1973, 5-6, 32 F., 225, 465-466. دريوتون وفاندييه: مصر - معرب بالقاهرة - ص565، 620. 2 ومن أسماء العرش الأخرى لهؤلاء الملوك وفق ترتيبهم المقترح: حج خبر رع ستبن رع "1"، نفر كارع - حقا واسة "2"، عاخبر رع - ستبن أمون "3"، وسرماعت رع - ستبن أمون "4"، "5"، نثر خبر رع - ستبن أمون "6"، تيت خبرو رع - ستبن رع "7".

رئاسة كل منهن لكاهنات آمون وتلقبها بلقب "الحرم المقدس لآمون"، وإن نقلت بنات الملوك إلى أزواجهن أو أولادهن بهذه المصاهرات في الوقت نفسه حقوقًا شرعية استغلها بعضهم في اتخاذ ألقاب الملوك كما فعل بي نجم "الأول". وقد تشجع ولداه منها ماساحرتا ومن خبر رع على اتخاذ ألقاب الملكية أيضًا على التتابع. ويبدو أن ثورة نشبت في طيبة بعد وفاة أولهما وأدت إلى الاستعانة بوحي آون في نفي زعمائها إلى الواحة الخارجة حتى عفا عنهم من خبر رع وأعادهم إلى طيبة لتهدئة نفوس أهلها. وعندما استتب الأمر له عاود التنكيل بهم مستعينًا بوحي آمون للمرة الثانية. وبسياسته هذه ذات الوجهين طال عهده 48 عامًا وأشرف على موارد الأقاليم التي تمتد من بني سويف إلى أسوان ومن ساحل البحر الأحمر إلى الواحات، ثم ورث زعامة طيبة لولديه على التوالي1. يرجع الأصل القديم للقب "الحرم المقدس لآمون" إلى عصر الأسرة السابعة عشرة وعصر الأسرة الثامنة عشرة، وبدأ تشريفيًّا ثم جمع بين الصبغة الدينية وبين النفوذ الكهنوتي. وقد آثرنا له هذه الترجمة التي تعني من تلوذ بالإله وتكتسب شيئًا من حرمته وتشرف على حرمه المقدس وعلى كاهناته، عوضًا عن ترجمته الشائعة بعبارة زوجة الإله آمون2 " God's Wife Of Amun" ذلك أنه كان مما اختلفت الديانة المصرية به عن غيرها من الديانات الوضعية المعاصرة لها أنها لم تأخذ بمثل المدلول الحرفي للقب زوجة الإله وهو المدلول الذي أدى في أمم أخرى إلى ما يسمى بالبغاء الديني وبمقتضاه تهب الكاهنة نفسها راضية للإله أو للملك أو كبير الكهنة الممثل للإله، على اعتبار أنها تضحي بذلك بأعز ما تملك لإرضاء ربها ومن أجل خير شعبها ولتوفير خصوبة الأرحام فيه وخصوبة أرضه. وقد لقبت الأميرة ماعت كارع بلقب "الحرم المقدس لآمون" وهي طفلة مما يؤكد أنها لم تخضع للمدلول الحرفي الملقب زوجة الإله، ثم تزوجت بي نجم "الأول". وقد مال بعض الباحثين إلى اعتبار عصر الأسرة الحادية والعشرين بداية للعصور المصرية المتأخرة، ربما على أساس غلبة الخمول على سياسته وضعف وحدة الحكم الأعلى فيه، وتقلص النفوذ المصري خلاله خارج الحدود وتوزع السلطة فيه بعض الشيء بين الملوك. وذهب رأي آخر قال به ألكسندر شارف ثم توسع فيه كنيت كتشن، إلى اعتبار عصر الأسرة الحادية والعشرين، وما يمتد منه حتى نهاية الأسرة الخامسة والعشرين عصر انتقال ثالث3 توسط بين العصر الزاهر للأسرة العشرين وبين بداية عصر الأسرة السادسة والعشرين الذي جرى الاصطلاح على تسميته باسم عصر النهضة الصاوي "وإن سبقته نهضة أخرى في عصر الأسرة الخامسة والعشرين".

_ 1 Louvre C 256, Breasted, A.R., Iv, 650-8. 2 دريوتون وفاندييه: المرجع السابق - ص566 - 569. Sander-Hansen, Das Gottesweib Des Amun, 1940 3 يقارن على سبيل المثال كيف يضع أ. هـ جاردنر تاريخ هذا العصر تحت عنوان: مصر تحت الحكم الأجنبي. Gardiner, Op. Cit., Ch. Xii, 316 F. ويضعه جون ويلسن: الحضارة المصرية - معرب بالقاهرة ص457 - تحت عنوان: القصبة المرضوضة، ويضعه أحمد فخري: مصر الفرعونية - الفصل الثامن - ص329 - تحت عنوان: العصر المتأخر. And See K. Kitchen The Third Intermediate Period In Egypt. “1100-650 B.C.”, 1973.

ولا شك في أن هذه كلها أسبابًا وجيهة، ولكن ينبغي أن يلحظ إلى جانبها أن مصر وإن لم تحقق توسعًا خارجيًّا يذكر في عصر الأسرة الحادية والعشرين إلا أنها حافظت خلاله على حدودها الخاصة، كما حافظت على استقلالها دون شائبة تشوبه، وظل حكمها الأعلى في أيد مصرية قومية سواء أكان ذلك في بر رعمسسو أم في طيبة، وكل ذلك مما يفرق بين أوضاع هذا العصر وصورته العامة وبين أوضاع أخرى أكثر سوءًا منها شهدتها العصور التالية لعصر الأسرة الحادية والعشرين واستوجبت من أجلها أن تسلك في العصور المتأخرة، المتأخرة من حيث الزمن، والمتأخرة ضمنًا من حيث الحضارة، ومن حيث العناصر الدخيلة التي أثرت في حياتها. وعلى أية حال فقد أدت سياسة المسالمة واقتسام المغانم في عصر الأسرة الحادية والعشرين بين البيتين الكبيرين في بر رعمسسو وطيبة، إلى الإبقاء على نظام الحكم الثنائي مائة واثنتين وأربعين سنة اتسمت بالفتور وبالسياسة الانطوائية في مجملها، وتأثرت في ذلك بعوامل داخلية وخارجية تمثلت في أن مصر بعد أن قطعت نحو خمسة قرون في يقظة شبه متصلة خلال الدولة الحديثة أرهقت وأسنت ووقعت في استرخاء طويل، وأن مشاركة كبار كهنة آمون في مسئوليات الدولة قد خدرت الناس باسم الدين، وأن مصر لم تتعرض لهزات خارجية عنيفة تجبرها على الحركة. فالمناطق الجنوبية منها كانت قد اصطبغت بالحضارة المصرية المهذبة وربطت مصائرها بمصائرها، وبلاد الشرق الأدنى كانت في شغل شاغل بمشكلاتها الإقليمية بعد أن استقرت شعوب البحر في مواطنها الجديدة، وبعد أن انشغلت كل دولة ودويلة في الهلال الخصيب بمحاولة إثبات كيانها على حساب جيرانها، فانشغل الآشوريون مع الآراميين في نزاع طويل، وشهد جنوب الشام منافسة طوائف العبرانيين بعضهم لبعض على الحكم وزعامة الدين، فضلًا عن حروبهم المتقطعة مع دويلات الكنعانيين والآرميين والفلسطينيين، ثم نجاح داود في تأسيس مملكته على حساب بعض جيرانها. أسلفنا أن العصر وفر لمصر استقرارًا مديدًا، ولكنه لم يكن استقرارًا من النوع الذي عرفته مصر في عصور قوتها وإنما كان استقرارًا فاترًا، لم يخل من خصومات بين الحكام، وانقسامات طائفية، ومؤامرات من الجماعات المهاجرة التي استوطنت في أقاليم الحدود الغربية1، وهذه سوف تصبح فيما بعد شر البلية. وليس من المستبعد أن يكون تاريخ عصر الأسرة الحادية والعشرين في مصر مغبونًا بمحض المصادفة، نتيجة لقلة ما كشف من آثاره الصعيدية حتى الآن، ونتيجة لتحلل أغلب آثاره في الدلتا بفعل رطوبة أرضها وكثافة طميها وكثرة فروعها المائية واتساع مناقعها القديمة. وذلك بحيث لا يكاد التاريخ يعرف من نشاط هذه الأسرة في الحقل الداخلي غير استمرار الاهتمام بعمائر الإله آمون رع وبقية الأرباب الكبار، وذلك على الرغم من قلة إمكانيات عصرها قلة نسبية. ثم تغليب طابع الدين على روح العصر وسياسة الحكم فيه. وكان من صور هذا التغليب أن جعل الحكام لاستخارة الإله آمون ووحيه نصيبًا كبيرًا في حل

_ 1 Louvre C 256; Kees, Ancient Egypt, 282 F.

المشاكل الكبيرة، وبمعنى أصح جعلوا لتوجيهات كبار كهنته نصيبًا في حل مشكلات بلدهم، إرضاء للكهنة كشركاء، ورغبة في أن يتخففوا هم من عبء المسئوليات وأن يلقوا عواقبها على عاتق وحي آمون1. وجرى كبار الكهنة من ناحيتهم على إجراء سنه لهم رأسهم حريحور، وهو العناية الشخصية بالسلف الصالح عن طريق رعاية جثث الفراعنة القدامى الذين انتهكت حرمة مقابرهم في فترات الاضطرابات منذ أواخر عصر الرعامسة، وترميم توابيتها، وكان ذلك الإجراء هو أهم مآثرهم على التاريخ، إذ ظلت هذه الخبيثة الثمينة مصونة مجهولة حتى كشف عنها في أواخر القرن الماضي، كما سنفصل ذلك في الصفحة التالية. وظلت إمكانيات الدولة المادية محدودة، بحيث استعانت في بعض منشآتها المعمارية بأحجار المباني القديمة، وانكمشت بر رعمسسو "أو تانيس" العظيمة عاصمة الرعامسة إلى نصف مساحتها السابقة2. ولكن لم يحل هذا الأمر أو ذاك دون استمرار الفراعنة وكبار الكهنة على حب الترف القديم في شئون الدنيا ومطالب الدين وبناء المقابر الضخمة، وأن يظلوا أكبر المستفيدين دائمًا من إمكانيات عصرهم، الأمر الذي تجلت مظاهره في ثراء ما كشف عنه من مقابر ملوك تانيس وأمرائها وأثريائها "لا سيما بسوسينيس، وموت نجمة، وأمنموبة، وأونوجباونجد"، بمدخراتها الفضية والذهبية الرائعة، وما أبقت الأيام عليه من توابيت كبار الكهنة والكاهنات في طيبة بكنوزها وصورها الملونة ونصوصها العقائدية3. أما في العالم الخارجي، فلا تسمح المعلومات الراهنة بغير تصوير جانب ضئيل من علاقات مصر بمملكة داود، وكانت علاقات عادية في مجملها وفي ظاهرها، ولكنها لم تمنع من التجاء الأمير هداد "أو حداد" حاكم إدوم في جنوب فلسطين إلى مصر بعد أن خرب داود وقائده يعقوب إمارته، وسفك دماء آلاف من رجالها، واستباحها لجيشه ستة شهور، ووجد هداد في مصر الرفد والملجأ، وزوجه فرعونها "مجهول الاسم" من أخت زوجته، وأكرمه حتى عاد إلى إمارته بعد وفاة داود وأصبح من ألد خصوم ولده سليمان4. وعندما اتسع سليمان بملكه واشتهر أمره، مال إلى محالفة المصريين، وهنا استحب الفرعون المصري "الذي قد يكون سا آمون أو بسوسينيس الثاني" أن يظهر لسليمان قدرة مصر ويبين له أن تحالفها معه هو تحالف الأقوياء، فبعث ببعض جيشه إلى جنوب أرض كنعان حيث استقرت جماعات من شعوب البحر منافسي سليمان، وسيطرت قواته على مدينة جزر التي عجز العبرانيون عنها عدة مرات، ثم جعلها بائنة لابنته التي رضي أن يزوجها لسليمان5، وفي ذلك ما يعني ضمنًا أن مصر ظلت حتى في عهود ضعفها أقوى مرات من ملك سليمان الذي تحدثت به الأمثال بالنسبة لما كان عليه ملك أسلافه وجيرانه بطبيعة الحال.

_ 1 Anc. Records, Iv, 650 F.; Rec. Trav., Xxxii, 175 F.; Jnes, Vii, 157 F.; Jea, Xli, 83 F; Xlviii, 57. 2 Op. Cit., 203. 3 Asae, Viii, 3 F.; P. Montet, La Necropole Royale De Tanis, I-Iii, 1947-1950; Kemi, 1942, I F. 4 الملوك الأول 10؛ 14 - 22. 5 الملوك الأول 9: 16 - والواقع أن تحديد اسم هذا الفرعون لا زال في مرحلة الفروض، فهو قد يكون أحد الاثنين اللذين ذكرناهما أو يكون أول ملوك الأسرة التالية لهما. See, Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 329-339; Cambridge Anc. Hist., Op. Cit., 53-54.

وإذا كان نهب المقابر الملكية في أواخر عصر الرعامسة مؤشرًا على سوء الأوضاع التي استغلها كبار كهنة آمون للجمع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في أيديهم في الصعيد والمشاركة في توجيه مصير الدولة في عصر الأسرة الحادية والعشرين، فقد كانت معاودة نهب هذه المقابر في القرن الماضي بداية لتوجيه الأنظار إلى الكشف عنها والاستدلال منها على رعاية بعض كبار الكهنة هؤلاء للسلف الصالح وحرمة الموتى. وبدأ هذا الكشف بصورة درامية مثيرة. فقد قل ما احتوته متاحف العصر الحديث من الآثار الملكية المصرية حتى عام 1870، ثم شهدت أسواق التحف في مصر وأوروبا منذ عام 1871 وعلى دفعات متباعدة، فيضًا من هذه الآثار، الأمر الذي نبه الأذهان إلى تقصي تحركات مهربي الآثار من الوطنين والأجانب وعملائهم المحتمين بالامتيازات الأجنبية، في المناطق الأثرية الكبرى ولا سيما في طيبة الغربية، ولم تجد التحريات البوليسية أو الشخصية شيئًا في هذا المضمار بقدر ما أدى اختلاف الأخوة من أسرة عبد الرسول أشهر مهربي الآثار والمتعاملين فيها في قرية القرنة، إلى بداية الكشف عن مخابئ أثرية قل أن شهد التاريخ الحديث ما يماثلها غنى وغرابة. فقد نم أحد أولئك الأخوة عن سر إخوته الذين خاصمهم في الاهتداء إلى بئر مقبرة عميقة صعبة المنال تقع جنوب وادي الدير البحري وتتوسط بينه وبين بيبان الملوك. وكانوا قد احتكروا سر هذه البئر ونزلوها خفية ثلاث مرات خلال نحو عشر سنوات وخرجوا منها بما ملأ أسواق التحف من البرديات والقلائد وتماثيل الشوابتي والجعلان وما إليها، وما ملأ بيوتهم من أموال كانت ثمنًا بخسًا بالنسبة إلى ما استحقته هذه الآثار من قيم تاريخية ومادية وفنية فريدة. ولم يكن الفرنسي جاستون ماسبرو مدير مصلحة الآثار المصرية، بمصر حين نم الرجل عن سر أسرته، فناب عنه في الكشف عن المقبرة المعنية في شهر يوليو من عام 1881 وكيله هنريش بروكش ومساعده المصري أحمد كمال، وفي دهشة بالغة واجه العالم الحديث لأول مرة بعد أكثر من ثلاث آلاف عام وجوه موميات ... من كبار فراعنة الأسرات السابعة عشرة إلى العشرين وهم: سقنن رع، وأحمس الأول، وأمنحوتب الأول، وتحوتمس الأول "؟ "، وتحوتمس الثاني، وتحوتمس الثالث، وسيتي الأول، ورمسيس الثاني، ورمسيس الثالث، فضلًا عن حوالي الثلاثين من كبار كهنة آمون وكبار شخصيات الدولة الحديثة. وفي عجلة وتكتم عمل بروكش وأحمد كمال على نقل ما أمكنهما الخروج به من المقبرة خلال أسبوع واحد والاتجاه بمومياوات الملوك وكبار الكهان إلى متحف القاهرة. ثم تم نقل ما تخلف من كنوز المقبرة في يناير من عام 1882 بإشراف ماسبرو. وفي يوليو من عام 1886 جرى في القاهرة حفل مهيب عوض الفراعنة العظام بعض الشيء عما فاتهم من مهابة الاستقبال، وحضره خديو مصر وقيل إنه حلت أمامه أكفان فرعون مصر العظيم رمسيس الثاني ليطالع الجميع بوجهه العجوز الصلب المعبر. ولحسن الحظ لم تشغل الكنوز الثمينة الباحثين عن دراسة تقارير موجزة كتبت بالخط الهيراطي على

التوابيت وأكفان الملوك وسجلت أسماء أصحابها وأسماء الملوك والكهان أصحاب الفضل في إعادة دفنهم وإكرام مثواهم. وقد تبين منها أنه بعد أن تعرضت مقابر الملوك للنهب أكثر من مرة وتعرضت جثثهم وأكفانهم للتلف عولجت مومياوات الملوك تحوتمس الأول وأمنحوتب الأول وسيتي الأول ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث، وأعيد إحكام لفائفها في فترة من كهنوت بي نجم الأول وخلال الأعوام 6 - 17 من عهد ملك لم يذكر اسمه ولعله باسباخع مني الأول. وأعيدت معالجة مومياء أمنحوتب الأول، كما عولجت مومياوات أحمس الأول والملكة سات كامس والأمير سا أمون، وذلك في فترة من كهنوت ماساحرتا، ثم أعيدت معالجة مومياء سيتي الأول مرة أخرى في عهد كبير الكهنة من خبر رع. وكان في إعادة معالجة هذه المومياوات ما يعني قلة العناية التي بذلت في معالجتها أو يعني تكرار الاعتداءات على مقابرها، ولعله لهذا اتجهت الرغبة قديمًا إلى تجميعها في مقبرة أو مقابر محدودة يصعب دخولها وتسهل حراستها في الوقت نفسه، بل وتعدد النقل من مقبرة إلى أخرى تضليلًا للمعتدين. وهكذا أودعت جثة رمسيس الثاني العظيم في مقبرة ابيه سيتي الأول، وعندما خيف على هذه الأخيرة نقلت منها إلى مقبرة أمنحوتب الأول. ومرة أخرى أودعت مومياوات سيتي الأول ورمسيس الثاني في مقبرة الملكة إن حعبي، وسجل تقرير بهذا الإجراء في العام العاشر من عهد الملك سا آمون. ثم نقل العديد من المومياوات الملكية إلى مقبرة نس خنسو وزوجها كبير الكهنة بي نجم الثاني في فترة من كهنوت باسباخع مني "الثالث" وظلت هاجعة في مثواها الأخير منذ بداية عصر الأسرة الثانية والعشرين حتى نبشتها أيدي اللصوص، ثم حملتها أيدي رجال الآثار في أواخر القرن التاسع عشر. وأودعت مومياوات ملكية أخرى في مقبرة الفرعون أمنحوتب الثاني، وكان قد أصابها وأصاب توابيتها من التلف أكثر مما أصاب غيرها، وحينما فتحت المقبرة في عام 1898، كانت قد بقيت منها مومياوات الفراعنة توحتمس الرابع، وأمنحوتب الثالث "؟ "، ومرنبتاح، وسابتاح، وسيتي الثاني، ورمسيس الرابع، ورمسيس الخامس، ورمسيس السادس، فضلًا على ثلاث نساء وطفل. وكما أكرم كبار كهنة الأسرة الحادية والعشرين مثوى جثث الفراعنة السابقين، كانوا كرامًا مع جثث أسلافهم كبار كهنة آمون. وحدث بعد عشر سنوات من الاهتداء إلى خبيثة الملوك في عام 1881 و1882 على أيدي بروكش وأحمد كما وماسبرو، أن أبلغ أحد أفراد أسرة عبد الرسول مدير مصلحة الآثار جريبو بوجود خبيئة هائلة أخرى إلى شمال معبد الدير البحري. وفي دهاليز وحجرات مقبرة من عصر الأسرة الحادية عشرة عثر مساعده دارسي في عام 1891 على ما أذهل العالم بأخباره؛ إذ وجد 153 تابوتًا تضمنت 52 تابوتًا فرديًّا، و101 من التوابيت الزوجية والثلاثية، لكبار كهان وكاهنات، وأتباع من المنشدين والموسيقيين وأمثالهم. وفي غمرة أصداء هذه الكشوف الأثرية التي دوت متتابعة في أواخر القرن الماضي، لوحظ توابيت المخابئ الملكية التي صنعت من الخشب على هيئات بشرية لأمثال الملوك العظام: تحوتمس الثالث

وأمنحوتب الثاني وتحوتمس الرابع وسيتي الأول وغيرهم، غلبت روح البساطة على ألوانها ونصوصها وزخارفها، ولم يبق على بعضها غير شريط طولي من النصوص يمتد من أسفل الصدر حتى القدمين، وثلاثة أشرطة عرضية تلتف حول الجسد بما يشبه أربطة الكفن، فضلًا عن تصوير ربة مجنحة تحيط صدر المتوفى بجناحيها .... وتثير ظاهرة البساطة هنا الدهشة إذا قورنت بالثراء الفاحش الذي تمتع أصحابها به ودلت عليه معابدهم ونقوش مقابرهم، أو قورنت بثراء وروعة التوابيت التي عثر عليها فيما بعد في مقبرة توت عنخ آمون وهو من أقل الملوك أهمية وثراء. ويمكن تعليل ظاهرة بساطة توابيت المخابئ الملكية بأحد فرضين. فلعل لصوص المقابر كانوا قد نزعوا عنها أغشيتها من رقائق الذهب وما كان يرصعها من الأحجار الكريمة قبل أن تودع في مخابئها الأخيرة، وذلك فرض يزكيه بقاء قطع متناثرة من الكساء الذهبي القديم على تابوتي تحوتمس الأول وتحوتمس الثالث. ولم يكن من المتوقع حين أعيد ترميمها أن يعاد إليها رونقها وما نزعه اللصوص من زخارفها. أما الفرض الآخر فهو أن بعض التوابيت العاطلة من الحلية ليست أكثر من توابيت بديلة عما تحطم أو سرق من التوابيت الملكية الأصيلة، ولم يكن من المنتظر أن تصنع بمثل فخامتها أو بكل تفاصيلها. واحتفظت أغلب توابيت خبيئة كبار كهنة عصر الأسرة الحادية والعشرين بروعتها وفخامتها. وتميزت ألوانها بطلاء أصفر فاقع لامع. وتعددت عليها صور المعبودات ورموزهم المقدسة ومناظر الآخرة والحساب وصور التعبد وتقديم القرابين، فضلًا على نصوص كتب الموتى. ومن طريف ما يذكر أن واحدًا من أقدم هذه التوابيت وأجملها وهو تابوت كبير الكهنة في نجم الأول كان في حقيقته تابوتًا للملك تحوتمس الأول. وكأن كبير الكهنة قد أحل لنفسه ما أنكره على غيره. وظن أن ثوابه في معالجة جثة ذلك الملك المهاب وغيرها من جثث الملوك العظام يغطي على اغتصابه لتابوته1.

_ 1 G. Maspero, Les Momies Royales De Deir El-Bahari, 1889, 72-90; G. Eliot Smith, The Royal Mummies. 1912; G. Daressy, Cercueils Des Cachettes Royales, 1909; Asa, Viii, 3 F.; Jea, Xxxii, 24-30; Porter And Moss, Topographical Bibliography, I, 173 F., 198 F.

خامسا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة

خامسًا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة سايرت فنون الدولة الحديثة حياة أهلها وظروف عصورها، وترجمت عنها في كل ما بدأت به وتطورت إليه. وظهرت لأساليب النحت والنقش والتصوير خلالها أربع مراحل، يمكن إيجازها على النحو التالي1. مرحلة أولى، بدأت منذ أواخر عصر الأسرة السابعة عشرة2، وامتدت مظاهرها حتى أواسط عهد الفرعون تحوتمس الثاني. وكانت مرحلة استحب أهلها روح الفتوة ومظاهر الجدية، واستلزم عصرها مجهودات متصلة واسعة لإقالة البلاد من النكسة التي أصابتها في عصر سيطرة الهكسوس، ثم لتأمين حدودها وتوسيعها، وتنشيط تجارتها وحمايتها. وعندما أرادت مدارس النحت في الحجر أن تعبر عن اتجاهات هذه الفترة، آثرت طابع الاتزان في نحت تماثيل كبار الشخصيات واستحبت لها الخطوط البسيطة المعبرة، وكستها بروح الفتوة، وقللت تمثيل صنوف الزينة عليها3. ثم جمعت في تماثيل فراعنة عصرها بين المثالية المتزنة وبين الجمالية المتزنة، فجسدت لهم فيها ما كانوا أهلًا له بمجهوداتهم الحربية والسياسية، من شدة المراس ورفعة الشان وسماحة الوجه ونبل الهيئة في آن واحد. وبلغت هذه المدارس غايتها في تماثيل حاتشبسوت، تلك التي لم يمنع وقار الملك وجدية الطابع أهل الفن في عهدها من أن يكسوا وجوه تماثيلها بأنوثة حلوة ناضجة مترفعة تليق بها. ولم يستثنوا من هذه الأنوثة المليحة وجوه التماثيل التي مثلوا ملكتهم فيها رابضة على هيئة الأسود4. ثم بلغت غاية أسمى في تماثيل تحوتمس الثالث، التي جمع الفنانون في هيئاتها بين فتوة الحرب ورقة الطابع الشخصي ونبل الملامح والمشاعر معًا. وبقي من هذه التماثيل ما يظهر تحوتمس واقفًا منتصبًا وجاثيًا خاشعًا، ورابضًا على هيئة الأسد. كما صور له فنان وزيره رخميرع، تماثيل أخرى ضاع أغلبها، مثلته يجلس مع زوجته، ويقدم قرابينه إلى ربه واقفًا تارة، وزاحفًا على ركبتيه تارة أخرى، دون أن يقلل زحفه من مكانته وهيبته5. وبلغ الفنانون سبيل الإتقان في الخشب منذ بداية العصر، فصنعوا توابيت خشبية كبيرة على هيئات بشرية لأميرات الأسرة وملكاتها، وأظهروا في بعض وجوهها ملامح صاحباتها في رقة وخطوط سلسلة جعلتها من آيات يسر النحت وجماله في عصرها.

_ 1 عبد العزيز صالح: الفن المصري القديم - في تاريخ الحضارة المصرية - القاهرة 1961 - ص343 - 365. 2 Brit, Mus. 22558, Louvre E 15682, Turin 1372, Edimbourg 1956, 140; And See Winlock, Jea, X, Pl. Xii F. 3 Cf., J. Vandier, La Statuaire Egyptienne; 503, 506, Pls. Clxii. 1, 3, 5, Cxliii, 2, Xcli, 4, Clv, 5, Clxx, 4, 6. وراجع من الاستثناءات القليلة التي جمل المثال فيها تماثيله. Ibid., Pls Cxl, I, Clix, 5, Cxl, I; Chicago 13649. 4 Metr. Mus. 29. 3. 2. 31. 94; Cario 11440, 42069, See Also Metr. Mus. 26. 7. 1400; 31. 3. 155; Edinbourg 1900. 212. 10. 5 Davies, Rekhmire, Pls. Xxxvi-Xxxxvii; See Also, Davies, Kenamen, Pl. Xvii F.

وسلك فن التصوير خلال هذه المرحلة، سبيل الاتزان نفسه فيما أخرجه من نقوشه ومناظره، ولكن أصحابه التمسوا لصورهم نوعًا من التفصيل وحلاوة التعبير يريد من نصيب التماثيل. وبقيت من إنتاجهم صورة للملكة أحمس أم حاتشبسوت، أظهرتها بابتسامة حلوة مشرقة مستبشرة، وصورة أخرى مبدعة لسنموت كبير المهندسين في عهد حاتشبسوت عبرت عن امتلاء صدغيه وطيات ذقنه وتفاصيل شعره في خطوط بسيطة متمكنة. وصور الفنانون خصائص الرسل الأجانب الذين كانوا يفدون إلى مصر بجزاهم وهداياهم1 وصوروا بيئة بلاد بوينة "بونت" بقراها وحيواناتها وخصائص أهلها الجسمية، في تفصيل لطيف وفي روح مرحة فكهة سبقت الإشارة إليها. وامتازت المرحلة الثانية لفنون الدولة الحديثة بمزيد من الرقة ورغبة التعبير عن مظاهر الترف وميل إلى التحرر القليل من التقاليد الفنية القديمة وأحمالها، وميل يساويه إلى عشق الطبيعة وجمالها، وبدأت هذه المرحلة منذ أواخر عهد تحوتمس الثالث2، واستمرت حتى نهاية عهد أمنحوتب الثالث، وكانت مصر قد جنت خلالها ثمار جهودها الحربية والسياسية والاقتصادية التي بذلتها راضية في المرحلة الأولى، وتوفر لها من حياة السلام والطمأنينة ما جعل خاصة أهلها ينعمون برغد العيش كاملًا غير منقوص، وجعلهم يصدرون في جل أمرهم عن مشاعر رقيقة هادئة، فخرج الفن يعبر عن تطور هذا العصر بأطرافه، وانتفع المثالون بأسلوبين قديمين جديدين في الوقت نفسه، أسلوب واقعي مهذب مرفه، يخالف الأسلوب الواقعي الجاد الذي استحبته فنون الدولة الوسطى؛ ثم أسلوب جمالي ناعم منمق، يخالف الأسلوب الجمالي المتزن المبسط الذي استحبته المرحلة الأولى من الدولة الحديثة. واستطاع مهرة المثالين في الأسلوبين أن يضفوا على سطوح تماثيلهم ليونة واستدارة ورقة مقصودة، ونجحوا في أن يظهروا المشاعر التي تتفاعل في نفوس أصحاب التماثيل على ملامح وجوه تماثيلهم3. ومن أمتع ما يستشهد به من إنتاجهم في الأسلوبين، تماثيل الفرعون أمنحوتب الثالث، وزوجته تي، وحكيم عصره أمنحوتب بن حابو: فقد نحت فنان الأسلوب الواقعي المرفه رأسين لفرعونه أمنحوتب الثالث4، وعبر عن مذهب الواقعية فيهما بوجه مستطيل، وعينين لوزيتين، وحاجبين طويلين، وشفتين ممتلئتين، وذقن صلبة بارزة، وأنف مستقيمة وانحدار في صفحتي الخدين. وكاد وجه الفرعون في الرأسين يصبح صورة أصيلة لوجه ولده آخناتون بملامحه المتميزة المشهورة، لولا أن المثال عاد فأسبغ على هذا الوجه صبغة أخرى مقصودة أكد

_ 1 من نماذج هذا التصوير مناظر مقابر سنموت ورخميرع ومن خبر رع وأمنحوتب. 2 يرى فاندييه أن تطور هذه المرحلة بدأ في عهد أمنحوتب الثاني Manuel D' Archaelcgie, Ii, 510. وقد يصح ذلك بالنسبة لأساليب النحت، ولكنه لا يتفق مع أوضاع التماثيل "راجع حاشية 5 في الصفحة السابقة" أو مع التحرر في تصوير الراقصات في الحفلات الخاصة "في مثل مقبرة رخميرع وزير أبيه تحوتمس الثالث". 3 راجع كذلك: دريوتون وفاندييه: مصر - ص538 و540. Brit. Mus. 416 "6".

بها مظاهر الملكية المثالية المفروضة فيه، فعكس القوة الذهنية الجبارة على ملامحه وأظهر ابتسامة مترفعة على شفتيه، وشد عضلات وجهه في قوة واضحة. ونحت مثال آخر تمثالًا صغيرًا للفرعون نفسه، صوره فيه على سجيته، وفي هيئة طبيعية خالصة، وفي وقفة متراخية، وفي امتلاءة ودعة، وفي ثوب طويل ذي ثنيات عديدة مزركشة. وأجرى سطوح بدنه في نعومة وأناقة مترفة1. وضاع رأس هذا التمثال للأسف ولا ندري كيف كانت ملامحه. وكانت الملكة تي زوجة أمنحوتب امرأة مكتملة الأنوثة ذات جاذبية طاغية، وشخصية قوية، تحكمت بهما في قلب زوجها على الرغم من أنها لم تكن من أسرته المالكة، فاطمأن إليها وأظهرها معه في حفلاته وسجل اسمها مع اسمه في بعض مراسيمه، وأشركها في تقرير علاقاته بملوك الشرق وأمرائه. وعمل في خدمة تي عدد من الفنانين، استحب بعضهم الأسلوب الواقعي المرفه، وبقيت من إنتاجهم عدة رءوس صغيرة لتماثيل الملكة2، لم يراعوا تجميلها، بقدر ما راعوا أن يعبروا فيها عن ملامح صريحة وشخص قوية تمتاز بإرادة نفاذة وطابع فريد ومزاج خاص. ونحت أولئك الفنانون عدة تماثيل لحكيم عصرهم أمنحوتب بن حابو، مثلوه فيها على هيئة الكاتب، وصوروه في واحد منها شيخًا بوجه نحيل بارز العظام، انكمشت طيات جسده نتيجة لكبر سنه، وكشفت ملامحه عن صلابة الرأي عند الشيوخ، وعما يتوافر لهم عادة من خبرة وحكمة وتجارب طويلة3. واستخدم مثالو المدرسة الثانية الأسلوب الجمالي المنمق في خدمة أولئك الثلاثة الكبار، فنحتوا لأمنحوتب الثالث مع زوجته عدة تماثيل، حولوا استطالة وجهه فيها إلى استدارة. وأشهرها مجموعة مثلته هو وزوجته وبناته، وبلغ ارتفاع تمثاله فيها وارتفاع تمثال الملكة نحو 17 مترًا4. وبقيت من إنتاجهم كذلك قطعة من وجه الملكة تي نحتوها لها في شبابها، وأفرغوا في شفتيها حلاوة وسحرًا ما بعدهما من مزيد5. ونحتوا تمثالًا أينقًا لابن حابو، مثله هذه المرة على هيئة كاتب شاب بوجه ممتلئ، ترهلت طيات جسده عن امتلاء وصحة وحياة رغدة، ومال بوجهه على برديته مستغرقًا في تفكير عميق. وأشبع الأسلوب الجمالي هؤلاء روح الترف التي استحبها أثرياء عصرهم. فجسموا في تماثيلهم النعيم الذي عاشوا فيه، وأظهروا وجوهها ممتلئة؛ ونحتوا تفاصيلها رقيقة مجملة. وأظهروا أجسامهم غضة

_ 1 Metr. Mus. 30874. 2 Cairo 38257 “J.E.”, Berlin 21834, Etc; Davies, Amarna, Iii, Pl. Xviii; Sandman, Tomb Of Huya, 38. 3 Cairo 42127. Cairo 610. 4 وعثر في أرمنت حديثًا على تمثال كبير من الألباستر الفرعون أمنحوتب الثالث يمثله مع المعبود سوبك، وقد نحت وجهه بنفس الأسلوب الناعم ولو أنه مستطيل بعض الشيء. 5 Metr. Mus. Eg. Statucs, 1945, Pl. 16.

بضة، وأجروا خطوطها أنيقة ناعمة، واعتنوا بتقليد شعورهم المرجلة، وتمثيل ثنايات ملابسهم الهفهافة، وتفاصيل حليها وزينتها1. وسارت مذاهب التصوير على نحو قريب من مسالك أساليب النحت في نفس المرحلة، وبقيت من نماذجها الواقعية المترفة، لوحة صغيرة منقوشة لأمنحوتب الثالث وزوجته تي، صورته معها في جلسة ناعمة حالمة، أرسل يده فيها في تراخ على ركبته، وأحاط زوجته بيده الأخرى، وامتلأ وجهه المستطيل امتلاءة النعيم، وجلست تي بجانبه بثوب قصير ينتهي فوق الركبة. وعبرت فنون النقش كذلك عن نعيم المترفين فملأت جدران المقابر بمناظر المآدب والمحافل، والرقص والشراب والطرب والتطريب. وزادت تصوير الزهور والمزاهر، وصورت مجالات الطبيعة الطلقة، وصيد البر وصيد النهر. وصورت الخيل المطهمة والعربات الفارهة. وتحررت في تصوير أشكالها التابعة أكثر مما تحررت في عصورها الماضية، وزادت من تصوير الأتباع والراقصات من ثلاثة أرباع أجسامهم من الأمام2، ومن الخلف .. 3 وزادت التعبير عن الحيوية الدافقة في لفتات الجواري وحين التثني، وصورت بعض المجموعات فيما هو أقرب إلى قواعد المنظور. وأخرجت ذلك كله في خطوط طلقة مرسلة تعودتها أيدي المصورين في كل ما صوروه ونقشوه، حتى أخضعوا لها صور الجنازات نفسها وصور النادبات والمشيعين4. ووجدت مدارس الرسم سبيلها هي الأخرى منذ أوائل هذه المرحلة للتعبير عن معتقدات أصحابها في نعيم الآخرة وعذابها، وطرقاتها وعقباتها، وأربابها وشياطينها، كما تضمنتها كتب الموتى، فرسمتها على جدران حجرات دفن الملوك بطريقة تخطيطية مبسطة، ثم حورت خطوطها شيئًا فشيئًا إلى هيئة الصور الكاملة ذات الخطوط الممتلئة اللينة. وشغلت المرحلة الثالثة لفنون الدولة الحديثة وأشهر مراحلها جميعها، عهد آخناتون، وتأثرت مدارس الفن خلالها بدعوة صريحة صبغت مذاهب الفكر ومذاهب الدين في عهد هذا الفرعون، وكانت دعوة إلى تصوير الواقع كما هو، وإلى التعبير عن صور الطبيعة وأحوالها في بساطة متناهية. وتقبلت مدارس الفن هذه الدعوة، وكان عندها استعداد لها منذ مراحلها السابقة5، ثم تخير كل فرع للنحت والتصوير سبيله الخاص للتعبير عنها.

_ 1 Cairo 801, 806, 42084, Brooklyn 40523; Von Bissing, Denkmaeler Aegyptischer Sculptur, Taf. 50. 2 Wresz., Atlas, 60; Prisse D’avennes, Histoire De L’art Eg., Pl. 14. 3 Wresz., Op. Cit., 89. 19, Also, Davies, Tomb Of Nacht, Pl. 13; L.D. Iii, 42. 4 Berlin 12411; Wresz., Op, Cit., 8. 5 Cf., Davies, Jea,Ix, 132 F.; B.M.A., 1923, 40 F.

ففسرت مدارس النحت دعوة العهد الجديد، على أنها دعوة إلى التحرر من كثير من الأوضاع والأساليب القديمة، وأرادت أن تترجم عن هذا التحرر بتمثيل الأشخاص على هيئاتهم الدنيوية، دون تجميل مقصود، ودون مثالية مكشوفة. ومرت في تحررها بمرحلتين: مرحلة بدأت بها في مدينة طيبة عندما كان أمنحوتب الرابع "آخناتون" لا يزال مقيمًا فيها خلال الفترة الأولى من حكمه، وهي مرحلة اتصفت فنونها بالمغالاة والاندفاع، شأنها في شأن فنون كل دعوة جديدة في أوائل أيامها. وبدأت مدرسة النحت المتحرر حين ذاك بالفرعون نفسه، فنحتت تماثيله بسمات جسمية صادقة، فأظهرت وجهه مستطيلًا، وذقنه طويلة مترهلة، وشفتيه غليظتين، ورقبته نحيلة، وبطنه منتفخة، وفخذيه غليظين1. ثم ظهرت المرحلة الثانية لمدرسة النحت الجديدة المتحررة في مدينة العمارنة بعد أن انتقل آخناتون ببلاطه إليها، كانت مرحلة استقرت فيها أوضاع الدعوة الجديدة، واستقرت أغراضها وهدأت حميتها، فنحت المثالون تماثيل الفرعون وأسرته على هيئات سواء مقبولة، تخلوا فيها عن العيوب التي ظهرت لأبدانها في طيبة، واهتموا اهتمامًا بالغًا بدراسة الوجوه وأحاسيس أصحابها، وتجلت آثار هذه الدراسة أكثر ما تجلت في وجه آخناتون ووجه زوجته الجميلة نفرتيتي، فظهر كل منهما في روحانية ووداعة، ومظهر متفلسف حالم، ورقة ملكية مستحبة2. واشتهر من مثالي العمارنة حين ذاك ثلاثة فنانون، وهم: باك وأوتى وتحوتمس3، واحتفظ هذا الأخير في داره بمجموعة من التماثيل ورءوس التماثيل الصغيرة للملكة نفرتيتي وزوجها وبناتها، بعضها كامل الصنع وبعضها لم يتم صنعه4، ولكنها في مجملها لا تقل رقة وحلاوة وإتقانًا عن تمثال نفرتيتي النصفي الذي احتفظ متحف برلين به وطبقت شهرته آفاق العصر الحديث. وتخلفت معها أقنعة جصية لرجال ونساء تكاد تنطق من فرط واقعيتها وصدق تعبيرها، وكان الفنانون يتخذونها فيما يبدو نماذج لما ينحتونه من موجه تماثيل أصحابها5. وسارت مدارس التصوير والنقش في العمارنة على التقاليد نفسها التي جرى فن النحت عليها في عهدها، وكانت مجالاتها أرحب من مجالات النحت، في التعبير عن الحركة، وتصوير الواقع، والجرى مع مظاهر

_ 1 Cairo 49258, 49529, 55938, Etc…. 2 Berlin 21348; Cairo 59286, See Also Cairo 43580, Berlin 17540, 21836, Louvre 11076, 15593. 3 Davies, Amana, Iii, Pl. 18; J. Capart, Chroniqne D’egypte, 1957, Fig. 48; Von Bissing, Denkmaeler Zur Geschichte Der Kunst Amenophis Iv, B. 4 Capart, Op. Cit., See For Example, Berlin 21263, 21300, 21223 Louvre E 14715; Cario 59286, Jea, Xix, Pl. Xii. 5 Chronique D’egypte, Op. Cit., 208, 216, Figs. 46, 62; Berlin 21262, 21299, 21340, 21348, 21359; K. Lange, Echnaton Und Die Amarria Zeit, Taf., 28-35.

الطبيعة وكائناتها حيث جرت. وبدأت مدارس التصوير بالفرعون نفسه على نحو ما بدأ فن النحت به، ففتحت مغاليق قصره، وتسربت إلى مجالسه ومخادعه، وصورته على سجيته، حين يأكل في شهية، وحين يلاصق زوجته وتلاصقه، وحين يمرح معها بعربته، وحين يضم بناته في شغف، وحين يندب إحداهن في أسى، وحين يتعبد ربه في إخلاص، وحين يجود بالعطايا، وحين يتقبل الهدايا. وصورت بناته تضم إحداهن الأخرى وتداعب إحداهن الأخرى. وصورت أتباعه حين المرح، وحين التعب، وحين الهرولة. وصورت الرسل الأجانب يتدافعون إليه جثيًا وسجدًا. وأظهرت صورها كلها في مرونة وحركة نشطة، وبساطة مستحبة، وفي مزاج فردي أحيانًا. وزادت من صور الطبيعة المتفتحة، وأضفت عليها نصيبًا من روح عصرها، فصورتها طلقة باسمة، تموج بالحركة والألوان والبهجة، ورصعت بصورها جدران القصور وأرضياتها وجدران المقابر على حد سواء1. ومارس فن التصوير حين ذاك تجارب جديدة للتوسع في إظهار وحدة المناظر واستغلال وحدة المكان. وهي تجارب اقتصرت سوابقها القديمة على المساحات الضيقة والوحدات الصغيرة والأشكال التابعة. فانطلق فنان العمارنة وأخرج صورًا ربط فيها عدة مناظر بروابط ظاهرة جعلتها سلسلة مؤتلفة واحدة2. وصورة نشر فيها منظرًا واحدًا على ثلاثة جدران في حجرة واحدة؛ ليعبر عن وحدة المكان الذي شغلته وصورت فيه3. وانتهى عهد آخناتون حوالي 1350ق. م، فعادت مدارس الفن برجالها من العمارنة إلى طيبة ولكنها لم تستطع أن تتخلى عن قواعد العمارنة الفنية دفعة واحدة، واستمرت تمارسها في عهود خلفاء آخناتون الأقربين: سمنخ كارع، وتوت عنخ آمون، وآي، وبعض عهد حور محب أيضًا. فجرى النحت في أعقاب عهد آخناتون، على سنة العمارنة فترة غير قصيرة. وأثبت روحها الرقيقة الناعمة في تماثيل توت عنخ آمون، وفي قناعه الذهبي الكبير، ورءوس توابيته، وفيما عثر عليه في مقبرته من تماثيل صغيرة ناطقة مثلته هو وزوجته ونساء بيته المالك، ومثلت عددًا من الأرباب والربات. وتبقى من نقوش خلفاء آخناتون المباشرين، عدة لوحات صغيرة، لأخيه سمنخ كارع وزوجته. وتوت عنخ آمون وقرينته، وكشفت كل لوحة منها عن معظم خصائص فن العمارنة، فترجمت عن آيات عشق الطبيعة، ومظاهر التنعم اللذيذ، وأخذت بالخطوط المرسلة، والرقة المتناهية، وعبرت عن أصدق ما يكون من مشاعر الود والتحاب والتعاطف بين المرء وزوجته4.

_ 1 Peet-Wooley, The City Of Akhenaten, 1922, Pls. Xxxvii-Xxxix; Davies And Gardiner, Egyptian Paintings, Ii, Pl. Lxxvi; Pendlebury, Tell El-Amarna, 1935, Pl. Viii. 2 Amarna. V, Pl. 5. 3 Aldred, New Kingdom Art, 26. 4 H. Carter, The Tomb Of Tut-Ankh-Amen, London, 1923, Vol. I, Pl. Ii; Vol. Ii; Pl. I.A-B.

ونقش فنان توت عنخ آمون منظرًا صغيرًا على جانب صندوق فخم مطعم بالأبنوس، والعاج، صور فرعونه فيه يصيد السباع. فسجل لحظات الصيد بروح العمارنة، وأخرجها جياشة بالترقب واليقظة والعنف والاندفاع، وأظهر بيئة الصيد بخصائصها العامة، وصور السباع في هرج ومرج يموج بعضها في بعض، ويتلوى بعضها في الفضاء وهو يقفز من قسوة الألم وكثرة السهام، ويخر بعضها صريعًا، ويحاول بعضها أن يتفلت بنفسه من الموت الذي يتعقبه1. وبدأت فنون الدولة الحديثة مرحلتها الرابعة، منذ أوائل عصر الأسرة التاسعة عشرة، وامتدت بها حتى نهاية عصر الرعامسة. واستعادت مدارس الفن خلالها بعض الأساليب الفنية التي سبقت عهد آخناتون، فأخذت عنها ما سارت عليه من تأنق وليونة وتفصيل في خطوط الرسم والنقش، ونحت سطوح التماثيل، ثم جمعت بين ذلك كله وبين ما استحبته من فن العمارنة من حيث الجرأة في تصوير الحركة والمهارة في تصوير المشاعر. وظهرت بواكير النحت في هذه المرحلة الرابعة في تمثالين: تمثال لحور محب قبيل اعتلائه العرش2، مثله على هيئة الكاتب، وأظهره في جلسة لينة غير منتصبة، وانحناءة خفيفة تشبه انحناءة الحكيم ابن حابو - ولكنه مثله في الوقت نفسه بملامح سمحة حالمة ربطته بأسلوب العمارنة ورقة العمارنة. وتمثال آخر كبير من المرمر للفرعون سيتي الأول3، صنعه المثال من عدة أجزاء منفصلة نتيجة فيما يبدو لصعوبة قطع المرمر بأحجار ضخمة كبيرة، أو تقليدًا لما جرى عليه فنانو العمارنة من صناعة بعض التماثيل الصغيرة من أجزاء متعددة. وأظهر المثال في ملامح وجه فرعونه واستقامة اتجاهه وانتصابته وتقاسيم جسده كل المثالية الملكية التي انطبعت بها تماثيل الفراعنة قبل عهد العمارنة4. وتعاقبت بعد ذلك عهود الرعامسة، ومارست مدارس النحت أوج نشاطها في عهد رمسيس الثاني، وهو فرعون لم يكن بين الفراعنة جميعهم من فاقه شغفًا بالتماثيل وكثرتها وضخامتها. فأخرجت له تماثيل تفوق الحصر، امتاز مما بقي منها تمثال متوسط الحجم من الجرانيت الأسود أظهر صاحبه بأنف أقنى بعض الشيء، وملامح نبيلة متسامية وبسمة خفيفة مقصودة5. وتمثالان آخران أظهراه في حجم صغير يزحف على الأرض في تواضع وهو يقدم القربان إلى ربه6. وتماثيل كثيرة أخرى ضخمة هائلة أقام الفنانون

_ 1 Op. Cit., Vol, I, Pl. Vol. Ii, Pl. Iii; Davies And Gardiner, Egyptian Paintings, Pl. Lxxviii. 2 Metr. Mus. 23. 10.1; See Also Cairo 42129; Asae, 1914, Xxxix, Pls. I-Ii. 3 Cairo 42139. 4 من تماثيل الأفراد التي جمعت بين الاتجاهين تمثالان لسيدتين تبدر خطوطهما في غاية النقاء، وتمثالان آخران لرجلين Louvre N 371, E 10655, N 854, 1575. 5 Turia 1330. 6 Cairo 42142, 42143.

بعضها في معابد الرمسيوم "حيث أربت زنة أحد تماثيله على ألف طن" والكرنك والأقصر ومنف وصان الحجر. ونحتوا بعضها الآخر في الصخر الطبيعي في واجهة معبد أبي سنبل بالنوبة. وبلغ الفنانون في نحت بعض هذه التماثيل الكبيرة مبلغًا مقبولًا من النجاح الفني والنجاح التعبيري، ولكنهم اكتفوا في بعضها الآخر بإظهار روعتها عن طريق ضخامتها المفرطة وجلال هيئتها وهيبتها وتحقيق روح الاتساق والانسجام بينها وبين الوسط المعماري الذي أقاموها فيه. على أنه مهما يكن من أمر، فإن تقديرنا لهذه التماثيل لا ينبغي أن يقتصر على الإشادة بضخامتها وسلامة نسب الغالبية منها وطريقة نحتها فحسب، وإنما يجب أن يمتد كذلك إلى الجهود الجبارة التي بذلها أهل عصرها في قطع كتلها الصلبة الضخمة، ونقلها من محاجرها، وتثبيتها في مواضع عرضها القديمة، وهي جهود لمس صعوبتها عصرنا الحاضر ذو الإمكانيات الواسعة في نقل تمثال عادي من تماثيل رمسيس الثاني مسافة لا تزيد عن أربعين كيلومتر، من قرية ميت رهينة إلى ميدان رمسيس في مدينة القاهرة. وأصاب تماثيل الأفراد في بداية عصر الرعامسة نوع من الردة والتعصب لأساليب النحت قبل عهد العمارنة: فعاود المثالون تمثيل الأجسام فيها غضة ممتلئة، وأظهروا هيئات أصحابها مترفة، وزادوا تمثيل طيات ثيابها وثنياتها، وأسرفوا في تمثيل تفاصيل الشعور وصنوف الحلي والزينة عليها، وأفاضوا على صفحات وجوهها حلاوة وطراوة واستحبوا فيها ليونة الخطوط واستدارة الزوايا والسطوح1. واستحدثت مدارس النحت في عصر الرعامسة أوضاعًا جديدة مثلت الفراعنة بها خلال حفلات تتويجهم، وحين يظهرون مع أسرهم، وساعة انتصارهم على أعدائهم2. كما استخدمت الرمز في التعبير عن أسمائهم بصور منحوتة. واستحدثت أوضاعًا أخرى لتماثيل الأفراد، مثلتهم فيها كأنما يستوحون السداد من الآلهة رعاة الكتابة والحكمة3، وحين يقدمون نذورهم إلى أربابهم، واقفين وجالسين وراكعين4. وتوفر لمدارس التصوير والنقش نشاطها الواسع في مرحلتها الرابعة هذه واتبعت في مجالات كثيرة فتوسعت في مساحات لوحاتها المصورة، وفي إظهار وحدة المجموعات المنقوشة، وفي استغلال وحدة المكان. كما توسعت في تصوير مناظر القتال على البر والبحر، وفي تصوير مناظر الصيد. وتوسعت في تصوير مجالات نشاط الإنسان وعالم الحيوان. وخير ما يستشهد به من نماذجها في هذه المجالات كلها، هي مناظر معبد الرمسيوم من عهد رمسيس الثاني، ومناظر معبد حابو من عهد رمسيس الثالث، وبعض مناظر معابد الأقصر والكرنك في العهدين نفسيهما.

_ 1 Cairo 741-751, 767, 816, 42168, Berlin 14131; Brit. Mus. 565 “36”; And See Vandier, Op. Cit., 258 F. 2 Cairo 64736. 3 Cairo 42162, 59291, Louvre E 11153, 11154, Etc. 4 Cairo 606, 619, 42156, 42169, 42174, Etc.

وشغلت مناظر الحرب في هذه المعابد جدرانًا عظيمة الاتساع عظيمة الارتفاع1، صور الفنانون عليها مخيمات الجنود، وتحركات الجيوش، وصوروا فيها مراحل الكر والفر، وتصادم العربات، وإقدام الخيول وكبوها. وصوروا القتال بالسيوف والحراب، والتراشق بالنبال. وصوروا تطويق الحصون ومهاجمتها وتسلق جدرانها ونقب أسافلها. وصوروا تكالب العدو وفشل مسعاه، وصوروا تراكم القتلى، وسوق الأسرى. وحاولوا أن يظهروا ذلك كله في وحدة متصلة يموج بعضها في بعض دون خطوط تحدها، أو صفوف تفرق بينهما2. وأضاف أولئك الفنانون مزيدًا من التفاصيل والتأثير في بعض لوحاتهم، فبالغوا أحيانًا في تصوير ذعر العدو وهلعه، وأساه وجزعه، ورجائه وابتهاله، وخضوعه وامتثاله. وصوروا ضحايا الأعداء وهم يعانون سكرات الموت وقوسة الاحتضار. وأظهروا ساحة المعركة بعد خلوها قفرًا موحشًا، اجتثت الحرب أهلها من فوق الأرض كما اجتثت شجرها سواء بسواء. ولم يقل هذا التفصيل في تصويرهم لدقائق المعارك البحرية في عهد رمسيس الثالث. وشغلت مناظر صيد البر حين ذاك نفس المسطحات الواسعة، وخيرها هو ما صوره فنان الأسرة العشرين أيضًا لفرعونه رمسيس الثالث على جدار واسع من جدران معبد حابو، فقد صور الفرعون يصيد الثيران الوحشية3، وبلغ الغاية في تصوير حماسه خلال الصيد، وتصوير عدو الثيران أمامه في جنون بين حنايا دغل ضيق. ثم صور مظاهر الألم الممض في وجه ثور ضخم بعد أن أدمته السهام وجرحته الحراب. ووفق في تصوير الدغل بنباتاته التي ألقت ظلالها عليه وأظهرت عمقه، وتمايلت تحت ضغط الثيران الهاربة فيه. وعلى نحو ما سجل المصورون نشاط ملوكهم في الحرب والصيد، أكثروا من تسجيل مظاهر تقواهم وقربهم من أربابهم، ليجمعوا بين الدين والدنيا، فسجلوا على جدار واحد بمعبد الكرنك اثنين وعشرين وضعًا للفرعون سيتي الاول وهو يحيي ربه ويدعوه ويسبحه ويقدم القرابين إليه، وذلك ما لم يتعوده المصورون من قبل في غير القليل النادر. وشغلت أساليب النقش والتصوير مجالاتها في مقابر الفراعنة والأمراء وكبار الأفراد في منطقة غرب الأقصر. وبلغت ذروة عالية من جمال التصوير ورقته، ونعومة النقش ونقاوته، وحيوية التلوين والتعبير، ودقة التفاصيل، فيما صورته من حياة أهلها في الدنيا وما يتمنون أن يكونوا عليه في الآخرة. وعبرت عمارة الرعامسة عن ميول الضخامة والروعة في عصرها. وخير ما بقي منها هو معبد سيتي الأول في أبيدوس، ومعبد الرمسيوم لرمسيس الثاني في غرب طيبة، ومعابده المنحوتة في صخور النوبة "في

_ 1 Wresz, Atlas, 90 F.; L.D., Iii, 153 F. 2 بدأ هذا الاتجاه في تصوير المعارك الحربية على جانبي عربة تحوتمس الرابع ولكن على نطاق ضيق. 3 Von Bissing, Op. Cit., Taf. 92.

أبي سنبل وغيره"، ومعبد رمسيس الثالث "معبد حابو" في غرب طيبة. وانفرد كل معبد من هذه المعابد بميزاته. وانفرد كل منها كذلك بما دل به على جبروت أصحابه حين تصميم مشروعه وحين تنفيذه. غير أن أكثر منشآت الرعامسة دلالة على نواحي الإعجاز في عصرها، هو بهو الأساطين الكبير في الكرنك. وبدأ مشروع بهو الأساطين هذا قبل رمسيس الثاني، فرعونان أو ثلاثة: أبوه سيتي الأول، وجده رمسيس الأول، وربما سلفه حورمحب أيضًا1، ثم أتمه المهندسون في عهده. وجمعوا فيه بين الجلال والجمال والضخامة المفرطة في سياق واحد، وجعلوه أضخم بهو من نوعه في العالم القديم. وأراد المهندسون الذين خططوا هذا البهو أن يجعلوا في وسطه ممرًا واسعًا تعبره المواكب الدينية والهيئات الرسمية في معبد آمون وخلال أعياده، فشيدوا في سبيل إظهار هذا الممر الأوسط وفي سبيل تحديده، صفين هائلين من أساطين حجرية ضخمة شاهقة، يتجاوز ارتفاع كل أسطون منها عشرين مترًا ويبلغ قطره أكثر من عشرة أمتار، ويشبه تاجه هيئة زهور البردي المتفتحة. ويبلغ من سعته، أي سعة تاجه أنه يتسع لوقوف عشرات من الناس فوقه. وهكذا أصبح الممر الأوسط الكبير يقسم البهو إلى جناحين، تبلغ مساحتهما أكثر من خمسة آلاف متر مربع. وشاد المهندسون في كل من الجناحين عشرات من الأساطين المرتفعة بدت في مجموعها كأنها نباتات ضخمة باسقة متراصة، وشكلوا تيجانها على هيئة أكمام البردي المتضامنة المقفولة، وقللوا ارتفاع سيقانها عن ارتفاع سوق أساطين الممر الأوسط، رغبة منهم في أن يجعلوها تفسح بما بينها وبينها من فوارق الارتقاع سبيلًا لمنافذ النور والهواء، وسبيلًا لتنوع المسطحات. ثم نشروا الألوان والأصباغ على أسافل الأساطين وتيجانها. ووزعوا الزخارف والنقوش الملونة على السقوف والأعتاب كي تخفف من رهبة المكان وتخلع عليه نصيبًا من روح البهجة وطابع الجمال. وإذا كان هذا هو شأن جزء واحد من أحد معابد طيبة بالصعيد في عهد رمسيس الثاني، ففي النوبة، وعلى مبعدة ما يقرب من ألف ميل من عاصمته برمسيس، قام معبد لنفس الفرعون، هزت أخباره أفئدة محبي الآثار والحضارات القديمة منذ سنوات قليلة، وهو معبد أبي سنبل2، ومرة أخرى نرى مجد المجهولين الذين كدوا في هذا المعبد بالجهد والمهارة يكاد يعادل مجد فرعونهم أو يزيد، فقد نقروه كأنهم الجان شاهقًا عميقًا متسعًا في بطن الجبل، وشكلوا واجهته الصخرية المتسعة بما يحقق التناسق بين عناصرها ويحقق التآلف بينها وبين البيئة الجبلية التي تصدرتها وبين مجرى النيل الواسع الذين تطل عليه. ونحتوا في هذه الواجهة وفي صخر الجبل نفسه أربعة تماثيل هائلة لرمسيس يزيد ارتفاع كل منها عن 19 مترًا على الرغم من أنها تمثله جالسًا، وحققوا نسبها كاملة وملامح وجه صاحبها صادقة على الرغم من ضخامتها والاكتفاء فيها بالخطوط العامة. وجعلوا محور المعبد مستقيمًا من الشرق إلى الغرب حتى تصافح أشعة الشمس كل صباح

_ 1 Vandier, Op, Cit., T. Ii, 924 And References. 2 يفترض ولتر إمري أن مشروع بناء هذا المعبد قد بدأ في عهد سيتي الأول. W.B. Emery, Egypt In Nubia, 1965, 193.

تماثيله المقدسة في محرابه وهو أعمق مكان فيه، لا سيما تمثال رب الشمس. ونقشوا جدران البهو الداخلي للمعبد "17.70×16.50 من الأمتار" وجوانب أعمدته بعديد من موضوعات الدين والدنيا والسلام والحرب. ولم تصرفهم الضخامة في ذلك كله عن تحقيق الاتساق والإتقان في كل ما نحتوه ونقشوه ولونوه، على الرغم من البيئة القصية الفقيرة التي أتموا عملهم فيها. وجاور هذا المعبد الكبير معبد آخر صغير ينسب إلى نفرتاري "زوجة رمسيس" وشاركها فيه أو شاركت فيه زوجها رمسيس الثاني والمعبودة حتحور المحلية، ونحتت في واجهته ستة تماثيل لكل من الفرعون وزوجته. تقل من حيث الصخامة عن تماثيل المعبد الكبير، ولكنها لا تقل في الإتقان عنها.

الفصل العاشر: الشيخوخة في العصور المتأخرة

الفصل العاشر: الشيخوخة في العصور المتأخرة أولًا: التخبط والتداخل في عهود الأسرات 22 - 24، "945 - 720ق. م" بدأت بعد انهيار عصر الأسرة الحادية والعشرين، عصور امتدت من النصف الثاني للقرن العاشر ق. م حتى نهاية التاريخ الفرعوني، وجرى الاصطلاح على تسميتها باسم العصور المتأخرة، المتأخرة من حيث الزمن أساسًا، ومن حيث الحصارة ضمنًا. وبدأت هذه العصور بداية اضطرارية بعهود حكام ذوي أصول مهجنة لم يكونوا أغرابًا تمامًا عن مصر، ولم يفتحوا البلاد عنوة، وإنما كانوا من قبائل خليطة من أهل الواحات والصحراء الغريب الأقدمين "التحنو والثمحو" وفئات من شعوب البحر "من أمثال المشاوش والشرادنة والإقوش والتورشا واللوكي، والشكرش والربو ... " الذين أسلفنا أنهم نزلوا السواحل الغربية والليبية منذ القرن الثالث عشر ق. م فصاعدًا وعجزوا عن دخول مصر بالقوة أكثر من مرة، فاكتفوا بالتسلل إليها مرتزقة في جيشها أحيانًا، ومدنيين رعاة وتجارًا ورقيقًا أحيانًا أخرى، واستقرت قبائلهم على حوافها الزراعية وفي واحاتها وحول حصونها الحدودية منذ أواخر عهد رمسيس الثالث. ثم ما لبثوا أن تمصروا عن اختيار أو خضوعًا للأمر الواقع "خلال فترات أسرهم"1، ودانوا بدين المصريين وعبدوا أربابهم، فاطمأن الفراعنة إلى بعض جماعاتهم ووزعوهم في حاميات متفرقة وأقطعوهم أراضي زراعية واسعة كمرتبات دائمة2. ولم ينس هؤلاء النزلاء أصولهم تمامًا فجمع رؤساؤهم بين لقب "ور" المصري بمعنى عظيم، وبين لقب "مس" الليبي بمعنى ملك "قبلي"، ولقب "رئيس ما الكبير" اختصارًا فيما يبدو للقب رئيس المشاوش الكبير3. ولم ينس المصريون لهم أيضًا أصولهم الأجنبية بسهولة، فاحتفظوا لهم باسم المشاوش حيث تركزت أغلب جماعاتهم قرب الفيوم، وباسم الليبيين "الربو" أحيانًا، ثم باسم الأجانب بوجه عام فيما دون ذلك. وقد مر بنا في مناسبة سابقة كيف أن إقليم طيبة لم ينس لهم أنهم عاثوا فسادًا في أرضه متسللين ومرتزقة مأجورين4. وطالت إقامة المهاجرين المتمصرين هؤلاء واستقرت أكبر جالياتهم في منطقة الفيوم سالفة الذكر وفي منطقة أهناسيا بخاصة، باعتبارهما من المداخل الطبيعية من الواحات إلى وادي النيل، وباعتبارهما

_ 1 J. Wilson, Ajsl, 1935, 73 F. 2 Gardiner, The Wilbour Papyrus, Ii, 80 F.; Jea. Xxvii, 41. 3 Zaes. Xxi, 69; Jea, Xix, 23; Ancient Records, V, Index, 53, 88; Gardiner, Ancient Egyptian Onomastica, I, 120. 4 Jea, Xii, 254 F.; Xix, 10 F.

منطقتين مناسبتين للاستثمار الزراعي والنشاط التجار، فضلًا عن قربهما من الصحراء الغربية التي كان هؤلاء النزلاء يحنون إليها، وانتسبت أكبر أسرهم في أهناسيا إلى جد يدعى بيواوا "أو بويو واوا" تعاقب بعض أولاده وأحفاده على كهانة معبود المنطقة المصري "حريشف"، ثم تزعمهم في أواخر عصر الأسرة الحادية والعشرين أمير يدعى شاشانق حدث اعتداء على قبر ولده نمرود في أبيدوس خلال تولي بانجم رئاسة كهنوت آمون في طيبة، فلم يقنع شاشانق بالشكاية إليه واستعان بملك تانيس الذي قيل إنه صحبه إلى وحي آمون وقد أفتى الوحي لمصلحته، وأرضاه الملك بأن أذن له بوضع تمثال لولده في معبد أوزير في أبيدوس، وزادت أهمية أسرة شاشانق في حياة حفيده الذي تسمى شاشانق أيضًا وحمل لقب كبير المشاوش أمير الأمراء، وكان على رأس حزب كبير يعمل له حسابه ويترضاه الفرعون نفسه. وبلغ من ثرائه أن أوقف على مقصورة تمثال أبيه نمرود بن السيدة محت وسخة مائة أرورة زراعية وحديقة كبيرة، وعين لها 25 من الأرقاء لحراستها، بمعاونة الفرعون "بسوسينيس" الثاني "أو الثالث" المادية والأدبية1، ثم زوج ابنه من ابنة هذا الفرعون الأميرة ماعت كارع، وبفضل هذه المصاهرة وبفضل قوة حزبه مع ضعف حزب الفرعون، كفل لنفسه ولولده "وساركون" وراثة عرش لم يكن يحلم به، وهو عرش مصر، وجعل حاضرته في بوباسطة بشرق الدلتا قرب العاصمة القديمة برر عمسسو، في مقابل اطمئنانه فيما يبدو إلى ولاء غرب الدلتا له وانتشار حلفائه وأقربائه على حدوده. وهذا ضمن انتقال الحكم إليه في ظروف طبيعية وضمن مهادنة بقايا الأسرة السابقة فاحترم ذكرى آخر ملوكها2، بل وادعت نصوص بع خلفائه قرابتهم للرعامسة وتلقب أغلبهم بمثل ألقاب الرعامسة: وسر معات رع، وستبن رع، وستبن آمون. وأصبحت أهناسيا مقر إمارته القديمة إقطاعًا لفرع من أسرته ولي أمورها المدنية والدينية واتسع بحدودها. أما الصعيد فتردد في التسليم بسلطان الحكم الجديد أمدًا ثم سلم بالأمر الواقع. ويبدو أنه حدث حين ذاك أن غادر بعض كبار كهنة طيبة مدينتهم أنفة من الخضوع لأصحاب الأصول الغريبة واتجهوا إلى أطراف الحدود المصرية الجنوبية قرب الشلال الرابع. وهكذا أصبحت السمة الغالبة على تكوين الأسر المالكة الجديدة وبطانتها وأعونانها، هي أنها ذات أنساب مهجنة جمعت بين دماء بعض أمراء الصحراء الغربية الأصليين وبين دماء بعض الأميرات المصريات من سليلات الأسرة الملكية الحادية والعشرين، وبين دماء بعض أمراء الشعوب المهاجرة التي سميت اصطلاحًا باسم شعوب البحر وتوافدت هجراتها المتقطعة عن طريق البحر المتوسط وجزره إلى شمال إفريقيا منذ أواخر القرن الثالث عشر ق. م وما تلاه. وقد جرت أغلب المؤلفات الحديثة على تسمية العناصر الحاكمة في عهود الأسرات 22 - 24 بالليبيين. ويرى التعقيب التالي أن وصفهم بالمهجنين أصح من تسميتهم بالليبيين، وذلك بناء على عدة أسباب: فهم أولًا لم يكونوا من عنصر واحد بحيث تصدق عليهم تسمية واحدة، وهم ثانيًا قد غلبت عليهم سمات المشاوش

_ 1 Blachman, Jea, Xxvii, 83 F.; P. Montet, Tanis, Paris, 1941. 2 Cairo, 42192; Kec. Trav. Xxxviii, 10.

وقلت فيهم سمة الربو أو الليبيين شيئًا فشيئًا في النصوص المصرية، بحيث بدأ شاشانق أول ملوك العصر بلقب رئيس ما الكبير أي رئيس المشاوش وليس رئيس الربو. وكذلك كان أبوه وجده. وحمل نفس اللقب تاف نخت رأس الأسرة الرابعة والعشرين إلى جانب ألقاب أخرى قبل ولايته العرش1. وإذا كانت المؤلفات الحديثة المذكورة قد درجت على تسمية هذه الأسر وأعوانها باسم الأسر الليبية فإنما جرت في ذلك على التقليد الإغريقي القديم الذي أطلق اسم ليبيا على كل أراضي شمال إفريقيا الواقعة غرب دلتا النيل -دون أن يقصره على حدود دولة ليبيا بمعناها المعروف في العصر الحديث، "وذلك مثلما أطلق لفظ أراضي Arabaia أو الأراضي العربية على كل المناطق الصحراوية الواقعة شرق النيل والممتدة بين شرق إفريقيا وبين غرب آسيا - دون قصره على شبه الجزيرة العربية بمدلوها المألوف". ويدعو هذا الاستدراك إلى عرض موجز للتكوين الجنسي والاجتماعي لسكان صحراء مصر الغربية في العصور الفرعونية. فقد رددت المصادر المصرية القديمة منذ أواخر الألف الرابع ق. م فصاعدًا ذكر أقرب هؤلاء السكان مكانًا من وادي النيل باسم "ثحنو" ونسبت إلى أرضهم التي ذكرت بنفس الاسم منتجات نباتية وأنعامًا وفيرة مما يعني امتداد مراعيها بين غرب الدلتا والسواحل الشمالية والواحات المصرية. وصور كبار أهلها في مناظر معابد الدولة القديمة في النصف الثاني من الألف الثالث ق. م بما يشبه هيئة كبار المصريين في الملامح والملابس وتصفيف الشعور، كما اشتركوا معهم في تقديس بعض أرباب غرب الدلتا مثل حور ونيت وسوبك. وكل ذلك مما يشير إلى وحدة أصول الفريقين العرقية البعيدة واستمرار الصلات بيهم، وإن أدت حياة البداوة والشرود التي عاش الثحنو عليها بحكم غلبة الظروف الصحراوية على بيئتهم إلى تعدد التجريدات التأديبية التي شنتها القوات المصرية عليهم من حين إلى آخر لتعويدهم على الطاعة والتقليل من شغبهم. وإلى الغرب والجنوب من براري ثحنو انتشرت قبائل "ثمحو" فيما يمتد من الواحة الخارجة إلى واحة سليمة وما ورائها. ولعلهم كانوا أكثر بداوة وشرودًا مع بعد ديارهم عن وادي النيل. ولكنهم لم يكونوا بمعزل عن مصر وأهلها. فقد انضم بعض جنودهم إلى القوات المساعدة بالجيش المصري تحت قيادة وتي خلال القرن 24ق. م في عصر الأسرة السادسة. وصور عدد منهم يشاركون برقصاتهم في بعض المناسبات الدينية، مما يعني ترددهم على القرى والمدن المصرية. ولا يخلو من دلالة أن نتائج الكشوف الأثرية التي بدأها أحمد فخري وأجرتها مؤخرًا بعثة فرنسية في منطقة بلاط والواحة الخارجة قد أظهرت أن الواحات الغربية المصرية قطعت شوطًا كبيرًا خلال الدولة القديمة في الأخذ بأساليب سكان الحضر المصريين في الألقاب والوظائف والعقائد والمباني والمقابر، مما جعلها جزءًا أصيلًا من الدولة المصرية2.

_ 1 Gradiner, Ancient Egyptian Onomastica I, 120; Kitchen, Op. Cit., 128, 141 And Refernces. 2 Hoischer, Libyer Und Aegpter. 12 F., 24 F.; Gardiner, Op. Cit., I, 101 F. 116-119; Zaes, Lii, 57 F.; Archaic Obiects, Pl. 64; I. Borchardt, Sahure, Ii, Pl. 1; Ne-User-Re, Pl. 10; G. Jequier, Pept Ii, Pl. 9; Urk., I, 101, 16; Sinuhe, R 14, 15-16, Etc.

ولم يظهر اسم ربو أو الليبيين في النصوص المصرية القديمة قبل عهد رمسيس الثاني في القرن الثالث عشر ق. م، ليس كدولة أو شعب، وإنما كقبيلة وجنود مرتزقة. وذكرت نصوص ولده مرنبتاح ما سبق الاستشهاد به من أن شدة القحط في الصحاري دفعتهم مع خمس قبائل أخرى بقضهم وقضيضهم إلى أن يجتازوا البراري ليصلوا إلى أراضي الدلتا الخصيبة، لولا أن لاقاهم جيشه وأفشل مساهم، وكان ذلك من بواعث فخره. وتكرر شغب المهاجرين في عهد رمسيس الثالث على نحو ما جرى ذكره في حينه، وشجعتهم أو دفعتهم أمامها هجرات قبلية أخرى، وترأسهم الشيخ كابور وولده مشاشار، فاكتسحوا أرض ثنحو ووصل تسربهم إلى ما وراء الفرع الكانوبي للدلتا، إلى أن صدتهم القوات المصرية وأسرت مشاشار ابن قائدهم وسفكت دمه. ثم مالت بعض الجماعات القبلية من هؤلاء وهؤلاء إلى إيثار السلم وعاشت على الأطراف الصحراوية وفي الواحات مثل الواحة الداخلة، واختلطت بأهلها القدامي ... ولونت حياتها البدوية شيئًا فشيئًا بطابع الحياة المصرية وعمل بعض أفرادها جنودًا مرتزقة في الجيوش المصرية. ويبدو أن بطونًا أخرى من قبائل ربو وما شابهها من القبائل كانت قد نزلت من قبل نواحي برقة وطرابلس واستقرت فيها على مبعدة من أولئك الذين استقروا على الحدود والواحات المصرية، وكانت أشد أثرًا منهم حيث خلعت اسمها ومسماها على الأرض التي نزلتها هناك ولا تزال تعرف به حتى الآن. وصورت المصادر المصرية بعض الربو بشعور حمراء وعيون تميل إلى الزرقة وجدائل تصل إلى الكتفين، وقد اعتادوا الوشم على الذراعين وربما على الساقين أيضًا، وكان عظماؤهم يرتدون نقبة ورداء مزركشًا يغطي كتفًا واحدة، ولا يختتنون. وذلك مما يشهد بأصولهم الطارئة على البيئة التي نزلوا فيها. أسلفنا القول بأن ذكر الربو قل شيئًا فشيئًا في أوائل العصور المتأخرة وزاد عنه ذكر قبائل مشوش. وكان هؤلاء أقدم عهدًا منهم بحيث ذكرتهم مصادر عهد أمنحوتب الثالث في القرن الرابع عشر ق. م، وكانوا يلبسون قراب العورة واعتادوا الختان، ربما تأثرًا باعادات المصرية ودليلًا على تشبعهم بها نتيجة لطول اتصالهم بالمزارعين على المناطق الحدودية. وقد انتسبت أكبر أسرهم في إقليم أهناسيا إلى الجد بيواوا أو بويو واوا الذي تعاقب بعض أولاده وأحفاده على كهانة المعبود المصري حريشف1. وإذا كان لا مناص من الاعتراف بأن أسماء ملوك العصر مثل شاشانق "الذي ذكر في الآشورية بصيغة شوشنقو، وفي العبرية شوشق وشيشق، وفي الإغريقية سيسونخيس"، وأسماء وساركون وثكرتي وما إليها، هي أسماء ذات جرس غريب من الأسماء المصرية المألوفة، وتصعب ترجمة مدلولاتها، إلا أن كلًّا منهم قد جرى في صياغة ألقابه الملكية الأربعة الأخرى على نسق الطابع المصري الموروث، فصاغوها على مثال ألقاب الملوك الرعامسة وتلقب أولهم بلقب أول ملوك الأسرة الحادية والعشرين السابقة لعصرهم، وترجموا في هذه الألقاب عن ولائهم للأرباب المصريين الكبار رع وآمون وإيسة وباسطة تدليلًا على استغراقهم

_ 1 دريوتون - فاندييه: مصر - ص574. Holscher, Op. Cit., 32 F.; Gardiner, Op. Cit., 120 F.; Breasted. Ar, Iv, 785 F.

في الحياة المصرية، ولو من حيث الظاهر على أقل تقدير. واستمرت عهود الحكام ذوي الأصول المهجنة أكثر من قرنين، تناسوا فيهما أصلهم الغريب نوعًا، واعتادوا على أن يعتبروا أنفسهم فراعنة مصريين ودانوا بديانة مصر، ثم حاربوا باسمها خارج حدودها، وحاولوا أن يستعيدوا لها بعض سمعتها الدولية القديمة، فكانت عهودهم بذلك أقرب في بعض نواحيها إلى عهود المماليك فيما بعد خلال العصور الوسطى، لم يعتبرهم التاريخ أغرابًا بقدر ما اعتبرهم متمصرين مغتصبين، ولم يؤثروا في الروح المصرية بقدر ما تأثروا بها، ولم يمنع اغتصابهم لعرش البلاد من أن يظهر بينهم حكام مصلحون، ولم تمنعهم أصولهم المهجنة من أن يخلصوا لسمعة مصر واستقلالها، ولم يرض أهل البلاد بحكمهم بقدر ما قبلوه على مضض ومرارة. ولا ضرورة إلى أن نضيف بعد ذلك أن طول العهد بالحكام ذوي الأصول الأجنبية في بعض الدول الأوروبية الحديثة نفسها، قد جعل شعوبهم تتناسى أصولهم، فليس في بريطانيا من يهتم برجوع نسب الأسرة المالكة في بلاده إلى النورمان، ولم يكن في بلاد اليونان من يهتم برجوع نسب الأسرة المالكة في بلاده إلى الجرمان. ولم تقتصر أوجه الشبه التي عقدناها بين حكام بداية العصور المتأخرة المهجنين وبين مماليك العصور الوسطى، مع اتساع الشقة الزمنية بينهما، على ما أسلفناه منها، وإنما تتضح كذلك في أن التنافس على السلطة العليا ظل شديدًا بين كبرائهم مثلهم، فتخللت عهودهم فترات من الانشقاق وتفرق الكلمة، بحيث ظهرت منهم ثلاث أسر حاكمة في مدى قرنين، وتعاقب منهم ملوك كثيرون، شاعت بينهم أسماء: شاشانق "لما بين الأربعة وبين السبعة"، ووساركون "لثلاثة أو أربعة"، وثكرتي "أو تكلوت لاثنين أو ثلاثة" وبامي "أو باماي"، وبادي باسطة "رأي الأسرة الثالثة والعشرين"، ثم تاف نخت، وباكن رنف "بوخوريس" "ملكي الأسرة الرابعة والعشرين"، ومن أسماء العرش المعروفة لبعض هؤلاء الملوك، أسماء: حج خبر رع "شاشانق الأول"، سخم خبر رع "وساركول الأول"، وسر ماعت رع "ثكرتي الأول"، وسرماعت رع - ستبن آمون "وساركون الثاني"، حج خبررع - سا إيسة "ثكرتي الثاني"، وسرماعت رع - سا باسطة "شاشانق الثالث"، و"سرماعت رع "باماي"، عاخبر رع "شاشانق الرابع"، إلخ، مع بعض الشك في ترتيب تعاقبهم. ولن نبحث في أمر كل واحد من هؤلاء على حدة، وإنما نكتفي بالخصائص العامة لعصرهم في وحدة واحدة. ففي الحكم الداخلي، رسم أولئك الملوك سياسة بعيدة المدى إزاء طيبة ذات المكان السياسية والدينية التليدة لا سيما بعد أن اصطدموا بها في بداية عصرهم. فعمل أغلبهم على أن يعين كل منهم أحد أولاده كبيرًا لكهنة آمون فيها لكي يكفل لأسرته عن طريقه السلطة السياسية والسلطة الروحية معًا ولكي يكون له ولها نصيب الأسد من ثروات معابد آمون الطائلة؛ وذلك إلى جانب صبغ نفوذه بصبغة حربية في الوقت نفسه بتلقيبه بلقب قائد الجيش، ربما تبريرًا لوضع فرق من الجيش تحت إمرته لتأييده في مركزه، وتعمد بعضهم أن يزيد تدعيم مركز ولده في هذا المنصب فسمح له بأن يسجل اسمه داخل خرطوش شأنه شأن الملوك، أي أنهم استفادوا من سابقة النظام الثيوقراطي بشقيها في عصر الأسرة الحادية والعشرين، ثم زاد وساركون الثالث أحد فراعنة الأسرة

الثالثة والعشرين فعين ابنته "شبتن وبة" كبيرة لكاهنات كيبة وزوجة إلهية أو حرمًا مقدسًا لإلهها آمون، وسمح لها بسلطات كهنوتية ومدنية تفوق سلطات كبيرة الكهنة نفسه1 "وقد سبقت لهذا سابقة أيضًا في عصر الأسرة الحادية والعشرين ولكن باعتبار الأميرة زوجة لكبير الكهنة ذي الأصل الطيبي". وإلى جانب نفوذ الأمراء والأميرات كان للملوك أتباع يلقبون بلقب عيون الملك، يتولون تنفيذ سياستهم في رداء مدني أو كهنوتي. وتعدت إنعامات الملوك هؤلاء وهؤلاء إلى نفر من الأمراء القدامى المهجنين والمصريين أصهروا إلى الملوك وتزوجوا من بناتهم، وبذلك اتضحت طبقة إقطاعية كبيرة غنية تزايدت أعدادها وثرواتها وتوافر لها نفوذ كبير في حكم الأقاليم2. وحدث في أواخر العصر أن تكونت في المجتمع طبقة من المحاربين كان أغلب أفرادها من مهجني الأصل أنصار الحكام، ذكرتهم بعض المصادر الإغريقية باسم "ماخيموي"، وأصبحت العسكرية معهم هدفًا يرنو إليهم أفراد الاسر الوسطى ويتوارثونها ولدًا عن والد، ويحصلون عن طريقها على إقطاعيات زراعية صغيرة مناسبة، فظهرت بذلك طبقة متماسكة منطوية على نفسها من العسكريين. وربما اتخذ مثل هذا التقليد سبيله إلى صفوف بعض الكهنة وأسرهم أيضًا3. ومن هنا تناقل المؤرخون الإغريق فكرتهم الخاطئة منذ القرن التاسع ق. م عن قيام الحياة الاجتماعية في مصر على أساس الطبقات المهنية. وكعادة الحكام ذوي الأصل الخليط، أظهر ملوك العصر اهتمامًا مفرطًا بالدين ومعابده، بل وبسخافات لم يكن لها من قبل غير ظلال خفيفة، ومنها شدة اهتمامهم بعجول المعبود حاب أو أبيس ودفنها فيما عرف باسم سيرابيوم سقارة4. وخصصوا أغلب عمائرهم الدينية لإله الدولة آمون شأنهم شأن سابقيهم، ولو أنها لم تبلغ في روائها وفخامتها ما بلغته معابد الدولة الحديثة. ويذكر لشاشانق الأول "أو لابنه إبوت الذي عينه كبيرًا لكهنة آمون" إنشاء المدخل البوباسطي في سور الكرنك الرئيسي الذي يمتد غربًا من الجدار الجنوبي لبهو الأساطين الكبير، في طريق الفناء الأول المتسع الذي يبدو أن شاشانق بدأه ولم يتمه. كما بدأ الصرح الأول الضخم الذي لم تنقش جدرانه. وحين شيدت بوابة عيد السد في بوباسطة في عهد وساركون الثاني، وهي بوابة ضخمة من الجرانيت، أعلن الملك في نقوشها اعترافًا بفضل آمون عليه في عيده، تحرير طيبة بطولها وعرضها طاهرة مزينة لربها. وأمر ألا يتدخل مفتشو القصر الملكي في شئونها وأن تتمتع بالأعفاء إلى الأبد باسم ربها الكريم. غير أن هذا لم يمنع طيبة من الثورات ضد أولئك المتسيطرين الجدد بين كل حين وآخر. فقد ثار بعض أهلها عدة مرات في عهد وساركون الكاهن الأكبر ابن الملك ثكرتي "تكلوت" الثاني الذي سجلت باسمه نصوص كثيرة على البوابة البواسطية، ثم في عهد ابنه شاشانق الثالث. واشتد الملوك في إخماد ثورات طيبة حرصًا على مصالحهم وهيبة سلطانهم فيها، بحيث ألقوا بعض زعمائها في النار أحيانًا5.

_ 1 Sander- Hansen, Das Gottesweib Des Amun, Copenhagen, 1940. 2 H. Kees, Ancient Egypt, 283-284. 3 ألكسندر شارف: تاريخ مصر - ص163. 4 Mariette, Le Serapeum De Memphis, Pls. 24, 26-28; Jea, Xxxiv, Pl. 15 F. 5 Rec Trav., Xxii, 55; Xxxi, 6; Xxxv, 138.

وتطلعت السياسة الخارجية إلى فلسطين وما ورائها، وفتحت مصر أبوابها أمام الفارين من وجه سليمان، كما فعلت من قبل في عهد أبيه. فآوت يربعام منافس سليمان، وكان من نسل أفرايم ووعده أحد الأنبياء بالملك ولكن سليمان أراد قتله1. ولما توفي سليمان وحقت كلمة الرب على اليهود بتمزيق وحدتهم، أيد أحد أوائل من تسموا باسم شاشانق من ملوك الأسرة يربعام منافس سليمان في الاستقلال بحكم عشرة من أسباط إسرائيل بحيث لم يتبق لرحبعام بن سليمان غير سبط يهوذا وحده "أو هو وبنيامين"2. ثم استعرض شاشانق هذا قوة بلده مع ابن سليمان، وخرج بجيشه ودمر عاصمته أورشليم وغنم كنوز داود وسليمان، وكان منها 200 درع، و300 ترس من الذهب المطروق، أو كما روت أسفار التوراة "أخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وأخذ كل شيء، وأخذ جميع أتراس الذهب التي عملها سليمان، فعمل رحبعام عوضًا عنها أتراس نحاس"3. وترك شاشانق بعض آثاره في مجدو وغيرها من مدن فلسطين4. وعادت حملة شاشانق هذا بفوائد شتى، فاستعادت مصر بها جانبًا من سمعتها الدولية القديمة، واستعادت سعة صلاتها بفينيقيا وأمرائها، واستحب بعض هؤلاء الأمراء أن يتقبلوا ويقيموا التماثيل والنصب بأسماء فراعنة مصر في معابدهم؛ ومنها تماثيل لكل من شاشانق الأول ووساركون الأول5. وأفاضت الحملة على مصر في الوقت نفسه غنائم وثروات استغلها الفراعنة في مواصلة الترف القديم وزيادة مباني المعابد. ولما طال الأمد بالحكام ذوي الأصل المهجن: وتشعبت أسرهم ومصالحها، تفرقت وحدتهم، وانتهى الأمر بأن ادعى الملك فيهم ثلاثة بيوتات، بيتان مالكان في شرق الدلتا، في تانيس وبوبسطة، وبيت ثالث في سايس "صا الحجر على فرع رشيد بغرب الدلتا"، فضلًا عن عدد من الأمراء الإقطاعيين في مصر الوسطى والصعيد. ومن طريف ما ذكره مانيتون عن هؤلاء وهؤلاء قوله بأن أحد ملوكهم الذي ذكره باسم بتوباتيس "وهو بادي باسطة" واعتبره رأس الأسرة الثالثة والعشرين، قد عاصر أول أولمبياد عرفه الإغريق "حوالي عام 776ق. م". ولا غرابة إذن مع اختلاف الآراء الحديثة في شأن تعاقب هؤلاء الملوك، أن نجد المؤرخ المصري القديم مانيتون قد أشكل عليه عددهم وغابت عنه بعض أسمائهم، وإن لم يتجاوز الحقيقة كثيرًا في افتراض نحو 215 عامًا لمجموع مدد حكمهم. وقد روى عنه أفريكانوس أنه حكم خلال عصر الأسرة الثانية والعشرين تسعة ملوك من بوباسطة، وهم: سيسونخيس "لفترة 21 عامًا" ووسرثون "لفترة 15 عامًا" وثلاثة آخرون

_ 1 الملوك الأول 11: 40. 2 نفس السفر 14: 25 - 27. 3 نفس السفر 12: 16 - 20. 4 D. M. Noth. Die Shoschenkliste, Zdpv, Lx, 277 F.; Porter And Moss, Topographical Bibliograpghy, Vii, 381; Gardiner, Op. Cit., 330. 5 R. Dussaud, Syria, V 145 F.; Vi, 101 F.; Porter And Moss, Op. Cit., Vii, 388.

"لفترة 25 عامًا"، وتاكيلوتيس "لفترة 13 عامًا"، وثلاثة آخرون "لفترة 42 عامًا" - وبهذا بلغت مدة حكمهم جميعًا 120 عامًا. وتعاقب أربعة ملوك من تانيس في عصر الأسرة الثالثة والعشرين خلال 89 عامًا، وهم: بتوباستيس "لفترة 40 عامًا"، وأسورخو "لفترة 8 سنوات"، وبساموس "لفترة 10 سنوات"، وجت "لفترة 31 عامًا". وخلال عصر الأسرة الرابعة والعشرين حكم بوخرويس من سايس لفترة ست سنوات وكان أبوه تخناكتيس. وأخيرًا أسفر التنافس بين أدعياء الملك إلى غلبة أمير صا الحجر "سليس" تاف نخت رأس الأسرة الرابعة والعشرين فحاول أن يعيد وحدة البلاد باسمه، ونجح في إعادة الاستقرار إلى الدلتا ومصر الوسطى، ولكن ما لبث أن واجهته قوة جديدة في عام 730ق. م هزت ملكه هزًّا، وهي قوة حكام نباتا الذين نجحوا في إقامة الأسرة الخامسة والعشرين على عرش مصر، معاصرة لأسرته في أغلب عصرها، وهم موضوع بحثنا التالي، وسوف نتناول سياسة كل من تاف نخت، وولده باكنرنف "أو بوخوريس" في سياق هذا البحث الأخير. وعندما واجه أواخر ملوك الأسرات المهجنة مشروع بيعنخي في مصر كان تفتت السلطة بينهم قد بلغ مداه، إذ ولي حينذاك وساركون الرابع على عرش بوبسطة، وولي شاشانق الخامس عل عرش تانيس بعد عهد قصير للملك شاشانق الرابع والملك بامي. كما ولي تاف نخت على عرش سايس. بل وادعى ألقاب الملكية عدد آخر من كبار الأمراء الذين ارتبطوا بالأسرة المالكة السابقة بروابط القرابة والنسب، ومنهم يووبت في ثنت رمو، وبفنف دي باسطة في أهناسيا، ونمرود في الأشمونين.

_ 1 E. Meyer, Geschichte…, 30-42; Sitz. B. Berl. Ak., 1928, 521-529.

ثانيا: دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين

ثانيًا: دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين 730 - 665ق. م ولي الحكم في أغلب هذا العصر قادة من نباتا في بلاد كاش بالنوبة العليا. ولم يكن هؤلاء بدورهم أغرابًا عن مصر وحضارتها، ولم يعتبروا أنفسهم دخلاء أو غزاة، وإنما رددوا في متونهم أنهم أحلاف لطيبة وأتباع الدين الصحيح لإلهها آمون. ومن المحتمل كما قدمنا "في ص281" أن بعض أسلافهم كانوا من كبار أهل طيبة غادروها أنفة من الخضوع للمهجنين المتمصرين في بداية تسيطرهم، ولحق بهم بعض من نفاهم ثكرتي الثاني وشاشانق1، ونزحوا بعيدًا عنها إلى أقصى الحدود المصرية قرب الشلال الرابع حيث ينهض جبل برقل الذي اعتبرته نصوص الدولة الحديثة جبلًا طاهرًا وعرشًا مقدسًا لآمون في الجنوب، وهو جبل أوتل منفرد مسطح يتوسط صحراء حصباء، وتنحدر جوانبه بشدة بحيث يظهر جانبه الجنوبي قائمًا على هيئة المخروط. وقامت عند سفحه فوق سهل صحراوي متسع يبعد عن النهر بنحو ميل مدينة أشرفت على طريق القوافل المتجهة إلى السودان، وعمرتها معابد ومبان مصرية الطابع، وقد نسبت في بداية أمرها إلى الفرعون تحوتمس الثالث في تسميتها "تحوتمس ذابح الأجانب" واعتبرت حدًّا جنوبيًّا لولاية نائب الملك في كاش في عهد توت عنخ آمون، نظرًا لأهميتها الاستراتيجية، وذكرتها مصارد عصور الرعامسة، ثم اشتهرت باسم نبتا2، ووجد أولئك النازحون ضالتهم في منطقتها المتشبعة بالحضارة المصرية والبعيدة نوعًا عن مظان الغزو، وربما وجدوا سبيلهم إلى النفوذ فيها عن طريق رئاسة الدين وتولي وحي آمون، وثم تولوا حكمها وجعلوها عاصمة لدويلة ثيوقراطية وفوا فيها لعبادة آمون ولعقائد أوزير وللكتابة المصرية3، وإن جمعوا إلى هذه الصبغة المصرية بحكم اندماجهم في البيئة الجنوبية خليطًا من الملامح واللهجة النوبية، ومن دماء القبائل الليبية الجنوبية ومهارتها في ركوب الخيل وقتال البراري. قد يدل على هذا الخليط الجنوبي احتمال أخذ حكامهم بانتقال السلطة إلى الأكبر في الأسرة ومن الأخ إلى الأخ الذي يليه فضلًا عن الابن الأكبر، ثم نهاية بعض أسمائهم

_ 1 Et. Drioton Et J. Vandier L’egypte, 511; Kees, Ancient Egypt, 340. ألكسندر شارف: المرجع السابق - ص170 وعلى العكس من هذا الرأي يستبعد ألن جاردنر مصريتهم على أساس أن أسماء حكامهم أسماء غير مصرية، وافترض أن دماء جديدة وفدت عليهم في النوبة وجددت حيويتهم، ولكنه لم يعين أصحاب هذه الدماء. ورأي جورج ريزنر أن الدماء الجديدة كانت لعنصر ليبي ذي بشرة بيضاء امتاز بالمهارة في الفروسية وتربية الخيول. واحتج بتشابه الأسلحة التي وجدت في مقابر زعمائهم في كورو بالنوبة مع الأسلحة الليبية، ثم تلقيب زوجة بيعنخي -تاييري- بلقب عظيمة الثحنو أو سيدة الليبيين. ولكن يمكن أن يلاحظ فيما نذكره بعد قليل أن نصًّا من عهد بيعنخي قد سلك الليبيين مع من سماهم بالأنجاس، وهو ما لا يتفق مع القرابة المزعومة بينه وبينهم - كما قد يكون تشابه أسلحتهم مع الأسلحة الليبية تشابهًا عرضيًّا. 2 Kess, Op. Cit., Jea, Xxxii, Pl. 11. 3 Giroton Et Vandier, Op. Cit., 538, 543; Jea, Iv, 213 F.; V, 99 F.; Vi, 247 F.; Zaes, Lxvi, 76 F.; Griffith, In Liverpool Annals, X, 73 F.

مثل شباكا وشبتكا وتاهرقه بنهايات قريبة من ألفاظ اللغة الجنوبية التي عرفت فيما بعد باسم اللغة المروية. ونمت دولتهم شيئًا فشيئًا حتى أحسوا البأس من أنفسهم وأدركوا نتائج التفكك في جهاز الحكم القائم في مصر، فعادوا بجنود من مملكتهم الجديدة إلى مصر التي اعتبروها أمهم وحاولوا تبديل أوضاعها. وتزعمهم حين مهدوا لمشروعهم ذاك ملك يدعى "كاشت" أو كاشتا بعد أن ورث سلفه الأرا. ولا ندري شيئًا مؤكدًا عن خطوات كاشتا، ولكن يفهم من النصوص التالية لعهده أنه معهد للأمر باتصالات ومحالفات مع زعماء طيبة، وربما أيدهم بجنود ساعدوهم ضد أواخر الحكام المهجنين المتمصرين، في ظل الوضع الخاص أو الاستقلال الذاتي الذي نعمت به مدنيتهم، ولكن لم يطل عهده1. وجرى على سياسته ولده بيعنخي "وهو اسم مصري الصبغة فضلًا عن تلقبه باسم وسرماعت رع - سنفررع"، وكان كما تحدثت عنه نصوصه يتابع مجريات الأمور في مصر ويضحك منها، ثم تخطاها إلى التدخل العسكري المباشر في العام العشرين من حكمه مدعيًا أن حلفاءه أهل طيبة راسلوه بقولهم: "هل ستسكت عنا وتنسى الصعيد بينما يتقدم تاف نخت دون مقاوم؟ ". وكان تاف نخت رأس الأسرة الرابعة والعشرين قد مضى في تقدمه فعلًا ووجد الاستجابة من رصفائه حكام مصر الوسطى لا سيما في الأشمونين وأهناسيا، وكان من أكبرهم نمرود حاكم حت ور بجوار الأشمونين. وسواء تحرى كتبة بيعنخي الدقة في نصوصه أم بالغوا فيها، فإن ما جاء بها عن وصيته لجنوده المتجهين إلى مصر يعتبر من جيد الكلم ودليل الحصافة في عصره، فقد أوصاهم ألا يبدءوا بعدوان وأن يتركوا خصمهم يختار زمن الحرب، ويكونوا عندها على يقين من أن الإله آمون قد أرسلهم بنفسه، ثم أكد عليهم ألا يدخلوا طيبة مقر آمون بعدة الحرب، وإنما يعتبروا أنفسهم حجاجها، فيتطهروا في نهرها إذا بلغوها، ويلبسوا الكتان الأبيض، وينزعوا سهامهم ويريحو أقواسهم، ولا يتفاخروا ببأسهم في رحاب ربها "فبدون آمون لا شجاعة لشجاع، وهو الذي يشد أزر الضعفاء حتى لتهزم الكثرة أمام القلة ويغلب الواحد ألفًا ... "2. ونجح جيش بيعنخي في بعض أمره ضد أعوان تاف نخت، ثم بلغ مدينة الأشمونين ولكنه عجز أمام أسوارها وأمام زعيمها نمرود، فلحق بيعنخي بجنوده وتوالت انتصاراته معهم. ولن تعنينا كثيرًا تفاصيل هذه الانتصارات فالحرب هي الحرب، قتل وأسر وتشريد وتدمير، حتى بين أبناء الوطن الواحد، ثم يصورها كل طرف منهم من وجهة نظره. ولكن يعنينا من أمر بيعنخي ما أبداه خلالها من مهارة في أساليب الحصار ومهارة في التأثير السيكلوجي على الناس، على الرغم من بساطة الحياة في البيئة القصية التي نشأ فيها. فقد تغلب على حصانة الأشمونين بتكليف جنوده بعمل مطلع مرتفع حول أسوارها ليصعد الرماة عليه إلى برج خفيف بني فوقه، ووضع آلات "؟ " تساعد على دفع السهام وأحجار المقاليع إلى قلب المدينة. وعندما تركها بجنوده إلى منف كان خصمه تاف نخت قد سبقه إليها وشدد عزائم أهلها وأحكم أسوارها واطمأن إلى حماية الفيضان المرتفع لناحيتها الشرقية، فأتاها بيعنخي من مأمنها أي من الناحية الشرقية التي ظن خصومه أن مياه الفيضان كافية

_ 1 Cf. Down Dunham And M. Macadam, Jea, Xxxv, 139 F.; H. Von Zeissl, Aethiopen Und Assyrer In Aegypten, 1955, Zaes, 1963, 74 F. شارف: المرجع السابق - ص171 2 Urk., Iii, 1 F.; Ancient Records, Iv, 796 F.

لمنع التقدم إليها، واستعان جنوده بسفن حلفائه الذين سلموا بحكمه من الأقاليم المصرية، وحلوا أمراس سفن منف المشدودة إلى جدران بيوت مينائها، واستولوا عليها واستخدموها في نقب أسوار المدينة ومنع الاتصالات بينها وبين جيرانها. وكانت لبيعنخي تصرفات بارعة في مجال التأثير النفسي، ومنها إظهار التمسك الشديد بتعاليم الدين، بحيث أبى أن يصافح جماعة من الأمراء الليبيين لأنهم غير مختتنين وغير متطهرين ويأكلون أنواعًا من السمك يأباها الدين، ويبدو أنهم أرادوا تمثيل أقاليم الصعيد والدلتا في إظهار الولاء له، ولم يقابل منهم غير نمرود. وبمثل نصائحه التي أسلفناها والتي حض جنوده خلالها على الاغتسال والتطهر والتواضع وتوقير حرمات آمون، ثم بإظهار شغفه بزيارة المعابد الكبرى كأنه متشوف للحج إليها من زمن بعيد، وإظهار الرفق الشديد بحيوانات أعدائه لا سيما الخيول، بحيث كان يتفقد بنفسه اصطبلات المدن المفتوحة، وبحيث عنف خصمه نمرود حاكم منطقة الأشمونين تعنيفًا شديدًا على عدم رعايته لخيوله. وكل ذلك مع إظهار شيء من التسامح مع بعض الخصوم كإبقاء الأمراء المحليين على مناصبهم ما داموا قد أظهروا الطاعة له، حتى تاف نخت نفسه أبقاه أميرًا على سايس وعفا عن ولده بعد إحدى المعارك في اللاهون حين اعترف له بالأمر الواقع من سلطانه. ومن اللوحات التي سجلت نصر بيعنخي لوحة صور فيها أمام الثالوث الإلهي لطيبة، وعن يمينه سيدة قد تكون زوجته أو زوجة نمرود، يتبعها نمرود يرفع أداة السيستروم ويقود فرسًا، وفي نهاية اللوحة تصوير لثلاثة من الأسر المالكة السابقة وبينهم وساركون يقبلون الأرض بين يديه، ويحتمل أن يكون قد قسم سلطات الدلتا بينهم، ثم عدد آخر من الرؤساء الإقليميين. ونفذ بيعنخي رغبة بدأها أبوه واستهدف منها تدعيم امتيازات أسرته في طيبة، فعمل على تعيين أخته "آمون رديس" كبيرة لكاهناتها وحرمًا مقدسًا لإلهها1، وهنا لم تسمح له سياسته المرنة بأن يقيل شاغلة المنصب شبتن وبة بنت وساركون الأخير من أجلها وإنما جعلها تتبناها حتى تصبح وراثتها لمنصبها ذي الثراء العريض والنفوذ الروحي الكبير وراثة سليمة مشروعة. ويبدو أنه سمى انتبه شبتن وبة وجعل أخته تتبناها لترث سلطانها من بعدها. وكانت أمثالهن يترهبن لآمون بحكم منصبهن ويدفن بعد الموت في منطقة دير المدينة. وفي ظل هذه الأوضاع أعلن بيعنخي نفسه فرعونًا مصريًّا، وعاد إلى نباتا حيث سجل أخباره السابقة على نصب كبير في معبد آمون فيها. وهنا استغل تاف نخت "شبسرع" صلب العود فراغ الميدان الداخلي لمصلحته، فاسترجع سلطانه في الدلتا والأقاليم القريبة منها، واستعاد ألقاب الملكية. ولأمر ما تفاداه بيعنخي، ولم يقاومه، ربما لإحساسه بأنه أدى واجبه إزاء مصر وكفى، أو لشعوره بشعبية تاف نخت بين أتباعه وصعوبة قهره. واستمتع هذا الأخير تاف نخت بسلطانه في عاصمته سايس عدة سنوات2، وظلت أسرته الرابعة والعشرون تعاصر أسرة بيعنخي الخامسة والعشرين، دون أن تنجح إحداهما في لم شمل مصر كلها تحت رايتها، وإن حاولت كل منهما أن تعمل باسم مصر من ناحيتها. فالتفتت أولاهما، على الرغم من متاعبها الداخلية، إلى جارتها فلسطين. وكان قد سعى إلى التحالف معها "هوشع" ملك السامرة عاصمة العبرانيين الشمالية، فقبلت

_ 1 يتراوح الرأي عن تنفيذ هذا الإجراء بين عهده وبين عهد أبيه. 2 Spiegellberg, Rec. Trav., Xxv, 190 F.

تحالفه1، وترتب على مساعدتها له أن صمدت عاصمته ثلاث سنوات أمام حصار الآشوريين لها خلال عهد شلما نصر الخامس، وإن كانت هذه العاصمة ما لبثت حتى انهارت بعد أن تغيرت مقادير آشور بولاية ملكها العظيم سرجون الثاني، ففتحها في العام الأول من حكمه "عام 721ق. م" وقضى على استقلالها وشرد آلافًا من أهلها2. وأعقب تاف نخت ولده باكن رنف "واح كارع" على ما امتد سلطانه إليه من الدلتا ومصر الوسطى، وقد اشتهر في الروايات الإغريقية باسم بوخوريس3. وسنح له مجالان لإثبات كيانه في مجال المنافسة مع حكام عصره. ففى الخارج واصلت مصر في عهده سياسة أبيه بتأييد مدن فلسطين في المحافظة على استقلالها، فأيدت هانو حاكم غزة الذي كان قد لجأ إليها قبل سنوات وساعدته على تكوين حلف يواجه به التوسع الآشوري وعهدت بمعاونته إلى قائدها في رفح، وهو شخص لم تذكره المصادر المصرية وذكرته المصادر الآشورية وقصص التوراة باسم سيبئه "راجع ذكره فيما بعد"، ولكن مصر فاتها حينذاك أن تقدر إمكانيات سرجون الآشوري إبان عنفوانه، فانهزم حاكم غزة برغم تأييدها له بوحي هذه التجربة أيقن باكن رنف أن التيارات الخارجية لن تجري لصالحه، وأن عليه أن يبدأ بتدعيم جبهته الداخلية، وإن ظلت حدود بلده، على الرغم من وهنها، ملجأ للائذين بها من ولاة الشام، فلجأ إليها في أواخر عهده حاكم أشدود فرارًا من الآشوريين. وليس من نصوص مصرية كافية تصور جهود باكن رنف الداخلية صراحة، ولكن الروايات الشعبية احتفظت له ولأبيه بذكريات طيبة، ربما لحرصهما على اجتذاب الأنصار وإرضاء الناس في عهد احتدم التنافس فيه بينهما وبين أضرابهما من الحكام المتمصرين الإقطاعيين من ناحية، وبينهما بين بيعنخي ودعاياته الذكية من ناحية أخرى. ويفهم مما سجله المؤرخون الكلاسيكيون عن هذه الروايات أنها اعتبرتهما من أعدل الملوك وأكثرهم استنارة. ولا بأس من الاستشهاد ببعض ما رواه ديودور الصقلي عن هذين الملكين كنموذج لما بقي لهما من سمعة عريضة وما رتبه لهما من أهمية كبيرة بعد وفاتهما بنحو ثمانين قرن دون التزام بطبيعة الحال بحرفية روايته. فقد نعت تاف نخت الذي ذكره باسم تنافاخثوس Tnaphachtos بالحكيم "فقرة 45"، وروى أنه زهد في الملك وحياة الترف بعد حملة خرج فيها إلى بلاد العرب وتعرض خلالها لخطر الجوع مع نفاذ مؤن الجيش وإملاق البيئة، واضطر من ثم إلى أن يشارك عامة جنوده حياتهم المتواضعة فأنس إلى صحبتهم واطمأن بهم، واعتراه السهد والقلق مما كانوا يعانونه من شظف العيش، فضاق بالتقاليد التي سمحت للملوك برغد العيش دون غيرهم ولعن من بدأها وأمر بنقش لعنته للبادئ بها على معبد آمون في طيبة، واعتبر ذلك من عوامل إغفال شهرة مني أول الملوك المصريين وإغفال مجده على مر العصور على حد قوله.

_ 1 الملوك الثاني: 17: 1 - 6. 2 Lnckenbill, Ancient Records, Ii, 4. Anet, 284. 3 Breasted, Ancient Records, Iv, 884; A. Moret, De Bocchori Rege, 1903; M. Revillout, “Bocchoris Et Son Code”, Rev. Eg., 1907, 124-141.; Posener, Ibid., 1969, 148-150.

وحظي باكن رنف "أو بوخوريس" بشهرة أعرض من سمعة أبيه في حياته الخاصة وأثره العام. فروى ديودور أنه كان زري الهيئة جدًّا، وكان أضعف الناس بنية، وأجشع الملوك قاطبة نفسًا "فقرة 65، وفقرة 94"، ولكنه وصفه مع ذلك بأنه رابع المشرعين المصريين، وأنه فاق كل من سبقوه من الملوك في حكمته وكان عاقلًا امتاز بدهائه، فنظم جميع شئون الملك وشرع بالتفصيل أصول المعاملات الخاصة، وكان حكيمًا في قضائه إلى حد أن كثيرًا من أحكامه ما زال لفرط سداده مأثورًا إلى أيامه. وكأن لسان حال ديودور أو معاصريه ود أن يصوره بمثل ما قيل عن سقراط العظيم من أن دمامة خلقته ورث ثيابه وغرابة أطواره كلها لم تحل دون أن تكون له نفس أكثر صفاء من النور وعقلية فذة وحكمة بالغة. وروى ديودور من قوانين بوخوريس ما يقرب إلى مبدإ البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وهو مبدأ أيدته الوثائق الديموطية فيما بعد، وفسره ديودور بأن من اتهم بأنه اقترض مالًا دون صك وأنكار الاستدانة يُعفي من أداء القرض إذا حلف اليمين على بطلانه. وكأن المشرع قد آثر أن يبدأ بافتراض الثقة في الناس وفي إيمانهم، فهم فضلاء حتى يثبت العكس، وأراد أن يستشعروا قيمة الإيمان ومخافة الإله، وأن يقدروا أن من حنث في إيمانه فقد ثقة الناس به، وأن يخشوا هذه العاقبة بتجنب الأيمان الكاذبة. ولعل المشرع حين أغفل الاعتداد بالدائن المدعي دون صك قد عني المرابين أكثر من غيرهم. فقد قضى أيضًا أنهم حتى إذا أقرضوا الناس أموالًا بصكوك فليس من حقهم أن يزيدوا أصل القرض إلى أكثر من مثله، مما يعني أنهم كانوا يسرفون قبل عهده في فرض الربح المركب ويزيدون به أصل الدين أضعاف مضاعفة. ويبدو أن الربح المركب كان دخيلًا على الحياة المصرية، نقلته إليها الجماعات الغربية التي هاجرت إلى مصر وتكاثرت أعدادها فيها خلال العصور المتأخرة. وسجل ديودور بالتقدير أن بوخوريس قضى بأن يكون استيفاء القرض من ممتلكات المدين وحدها وليس من شخصه، ولم يجز قط أن يكون شخص المدين في أي ظرف من الظروف رهينة للدين. وقدم ديودور لذلك تعليلًا طريفًا، وهو أن الأرض ملك للذين يعملون عليها واكتسبوها بجدهم أو وهبت فلهم من الغير، أما المواطنون فهم ملك الدولة تستأديهم مالها عليهم من واجبات في الحرب والسلم، ومن الخطإ البين أن يقبض على المدين وفاء لدينه وهو يواجه الأخطار دفاعًا عن بلاده فيكون من أثر ذلك أن تتعرض سلامة الجميع للخطر من جراء جشع بعض الناس. ولم يستبعد ديودور أن يكون سولون قد نقل هذا التشريع إلى أثينا فيما سماه تخفيف الالتزامات أو التخلص من الحمول وحرم بمقتضاه استرقاق المدين، بل وألغى الديون التي كان ضمانها شخص المدين "أو أنقصها". ولا جدال في براعة التعليل الذي ساقه ديودور، ولا شك كذلك في أن القول بأن سولون المشرع الأثبني العظيم قد اقتبس بعض تشريعه من مصر يعتبر مفخرة لمصر والمصريين، لولا أن تعليل ديودور لحكمة المشرع المصري فيما أصدره هو أقرب إلى روح الفكر الإغريقي أو الكلاسيكي منه إلى طابع التفكير الشرقي في القرن الثامن ق. م. وعلى أية حال فثمة تعقيب آخر وهو أن استرقاق المدين الذي حرمه باكن رنف كان دخيلًا على الحياة المصرية إما عن طريق الجاليات الأجنبية أو تحت قسوة الحياة في عهود الاضطرابات.

وقد أخذت بمثله التشريعات الآشورية في القرن الثاني عشر ق. م حين أباحت رهن أفراد الأسرة في مقابل الدين، وأخذت به التشريعات الإغريقية قبل إصلاحات سولون، كما أخذت به تشريعات الاثنتى عشرة لوحة الروماينة في القرين الخامس ق. م واستمر بعدها1. وربط بعض الباحثين بين قوانين باكن رنف وبين ما أتت الوثائق المصرية به بعد عهده في القول بأن حق الملكية المطلق للأرض تأيد بصدور قوانينه، فتيسر انتقال ملكية المنفعة دون قيد أو شرط، وأطلقت حرية الهبات من كل قيد. وأصبح المزارعون من أهل الطبقات الوسطى يتمتعون باستقلال شخصياتهم حيال الدولة وحيال الإقطاعيين، فيما عدا التزامهم بتوفية الضرائب وأداء الأعمال العامة. وتحرر أفراد الأسرة من ولاية رب الأسرة فيما يختص بأملاكهم بحيث اعتبر كل شخص مسئولًا عن ذمته، وانفتحت أبواب التحاليل لإفراز أنصبتهم من ميراث الأسرة المشترك2. ولم يزد حكم باكن رنف عن ست سنوات ثم لقي نهاية مفجعة كما سنرى بعد قليل، وعندما أراد أهل الأساطير أن يفسروا التناقض بين صلاحه وبين سوء خاتمته ردوا الأمر إلى قدر مقدر، وزعموا أن كبشًا مباركًا نزل من السماء في أيامه وتكلم بلسان مبين وتنبأ للملك بخاتمته، وأنذر مصر بعدها بشقاء طويل. وقد حدث ذلك الشقاء فعلًا فيما رواه مانيتون وإحدى البرديات الديموطية. ولا زال التاريخ متشوفًا للكشف عن التشريعات التي نسبت إلى باكن رنف والتي يبدو أنها كانت أحد مصادر تقنين مصري متأخر عثر على بردياته المكتوبة بالخط الديموطي في منطقة تونة الجبل بمصر الوسطى، وتولى دراستها الأستاذ الدكتور جرجس متى. جرت هذه الأحداث في الأجزاء الشمالية من مصر الموالية للأسرة الرابعة والعشرين، أما في الجنوب فظلت طيبة وما حولها على صداقتها مع بناتا التي قضى ملكها بيعنخي بقية سنوات حكمه منطويًا فيها على نفسه لسبب غير معروف. وشيد له هرم كبير نسبيًّا بقربها في كورو على نسق الأهرام المصرية وإن كان أقل منها بكثير. وتوفي في العام 31 من حكمه. ثم عاد النشاط مرة أخرى بين نباتا وبين مصر بولاية ولده أو أخيه"؟ " "شاباكا" الذي استغل حماسة أتباعه لحكمه الجديد، وقضت جيوشه على استقلال باكن رنف في مصر وأهكلته قتلًا أو حرقًا. وآثر شاباكا "نفركارع - واح إب رع" بعد أن انفرد بالأمر واتخذ منف عاصمة أن يتقي المشاكل الخارجية ليتفرغ لمشروعاته الداخلية2. فترك حاكم أشدود الهارب منذ عهد باكن رنف لمصيره أمام سرجون الآشوري، وهادن هذا الأخير وبادله الهدايا، وكان في ذلك ما سمح لأعوان كل ملك منهما بأن يسرفوا في

_ 1 Diodorus, I. 45, 65, 79, 94, A. Moret, De Bocchori Rege, 1903; M. Revillout, “Bocchoris Et Son Code”, Rev. Eg., 1907, 124-141; G. Posener, Ibid., 1969, 148-150; E. Seidle. “Law” In The Legacy Of Egypt, 1947, 199, 203-204; G. Mattha. Bull. De L’inst. D’egypte, 1941, 300-312; J.A. Wilson, Jnes, 1948, 129 F.; U. Kaplony-Heckel, Mdaik, 1966, 146 F.; M. El-Amir, Bieao, 1969, 94; Etc. 2 Ancient Records. Iv, 892 F.

الإشادة بملكهم ويبالغو في خشية الآخر منه، فصور أعوان شاباكا ملكهم يقبض على نواصي آسيويين ويتلقى جزاهم. بينما فسر أتباع سرجون هدايا شاباكا إليه بأنه كان قد أدرك واتقى بأس الأرباب آشور ونابو ومردوك وغضب سرجون، على الرغم من وجوده في بلد نائية وعرة المسالك "في النوبة"، وعلى الرغم من أن آباءه ما تعودوا من قبل أن يسألوا عن صحة أجداد سرجون إطلاقًا1. وكان هذا هو شأن كتبة الملوك هنا وهناك في أغلب ما يكتبونه ليرضوا به غرور ملوكهم. وتركت مصر سياسة اللامبالاة الخارجية في عهد شبتكا "أو سبتكو" "جد كاورع - من خبر رع" ابن بيعنخي. ويبدو أنه لم يكن في وسعها، على الرغم من متاعبها، أن تبقى منعزلة طويلًا عن العالم الخارجي الذي قلب الآشوريون موازين القوى فيه رأسًا على عقب، فما أن انتهى عهد سرجون حتى انفجرت بلاد الشام في ثورة عارمة ضد الاحتلال الآشوري. وكان ممن تطلعوا إلى عون مصر دويلة يهوذا وملكها حزقيا، وهو ملك اعتبره قومه مصلحًا لمحاولته تخليص عقائدهم من شوائب الوثنية فيها، وقد عاصره النبيء إشعيا وكان على عكس من دعاة الخضوع لآشور والتباعد عن محالفة مصر. فأعانتها مصر، وليس حبًَّا فيها، ولكن لاتخاذها موقعًا من مواقع تعويق التوسع الآشوري، وأنجدت عاصمتها أورشليم بجيش كان على رأسه تاهرقه بين بيعنخي، وكان من أفذاذ الحرب، ولكن خصمه الآشوري سينا خريب بن سرجون كان أعنف وأكثر عددًا وعدة. وباستخفاف المقتدر أرسل سينا خريب رسوله الرابشاق إلى أهل أورشليم في عام 701ق. م، ليصرفهم عن حرقيا وحليفه الفرعون المصري، بل وعن رب يهوذا كذلك، بحجة أن ملكهم حزقيا قد مرق عن دينهم بإزالة المرتفعات والمذابح التي أقامها أسلافه، وأنه لا أمل لهم في مصر التي نخرت المشاكل كيانها وأوهنتها2، وأن أرباب الأرض جميعها لم يستطيعوا أن ينقذوا بلادهم من آشور. أما الخاتمة فاختلفت فيها روايات الفريقين، فادعت نصوص الآشوريين الانتصار المؤزر على المدينة، وحلفائها، وروت أن حزقيا اضطر تحت وطأة الحصار وما أصاب النجدة المصرية وانفضاض أتباعه من حوله إلى أداء الجزية مضاعفة إلى نينوى ومعها وفد من بناته وحظاياه وموسيقيه. ولكن روت التوراة أن الجيش الآشوري حل به الموت الإلهي وحام ملك يهوه فوقه ليلًا، وفي بكرة الصباح أصبحوا جثثًا هامدة، فارتد الملك الآشوري مدحورًا بخزي الوجه إلى أرضه بعد أن أصبح جيشه كالعصافة في مهب الريح3. وتحدث هيرودوت عن المصريين فروى أن ملك مصر باعتباره الكاهن الصالح للإله بتاح قد أحزبه الأمر واعتمد على عون ربه أكثر مما اعتمد على مجهود الجنود، وفي عشية الموقعة سرت أسراب هائلة من الجرذان في معسكر الآشوريين فمزقت الجعاب وقرضت القسي وسيور الدروع، فأصبحوا بلا عدة وتفرقوا مغلوبين على أمرهم من أهون المخلوقات4. وذهب بعض الرأي إلى الربط بين قصتي التوراة وهيرودوت بأن

_ 1 Luchenbill, Op. Cit., Ii, 62; Anet, 287. وراجع في تاريخ العراق عن بعض المشكلات التاريخية التي تمس اسم مصر في نصوص سرجون. 2 أخبار الأيام الثاني: الإصحاح 32. 3 الملوك الثاني 19: 8 - 35، إشعيا 17: 13 4 Herodotus, Ii, 141.

الجرذان أفشت وباء الطاعون بين الآشوريين فأهلك خلقًا كثيرًا منهم وأوهن الباقين فانسحبوا1، وإن كان توقيت هذه الحادثة لا زال يتراوح بين عام حصار أورشليم في هذه المرة، وبين عام تخريب سينا خريب لمدينة لاشيش "لخيش" الفلسطينية ومحاولته الوصول إلى الحدود المصرية بعد أحد عشر عامًا "راجع تاريخ العراق فيما يلي". وتكرر تأييد مصر لحلفائها في الشام خلال عهد تاهرقة "خو نفرتم رع"، لا سيما مدينة صور التي استعصت على الآشوريين فترة طويلة. وفي سبيل التفرغ للمشكلات الشمالية ترك تاهرقه نباتا لنوابه فيها، وترك طيبة لأميرها المحلي وحليفه المصري منتومحات، واستمد من آمون سندًا لمقاومة أعدائه2. وكان أهم ما قدمه لأمون خلال عهده الذي كان أطول عهود حكام العصر واستمر 26 عامًا، هو الصرح الخارجي الكبير الذي لا زال يتقدم معابده في الكرنك، والسور الضخم الذي يحيط بها. وتعددت آثاره أكثر من سابقيه في مصر ونباتا. ثم ركز اهتمامه السياسي في عواصم الشمال، لا سيما منف وتانيسن واستقر في هذه الأخيرة استعدادًا للانطلاق منها إلى الشمال الشرقي حيث الشام وآشور، حين تتهيأ الأسباب أو تدعو الضرورة. وحتى هذه المرحلة كان حكام العصر يعتقدون أنهم نهضوا بمصر من كبوة طويلة وحاولوا أن يحيوا تراثها القديم في الكفر والدين والفنون. ولعل أفضل ما يذكره التاريخ لأيامهم في هذا السبيل هو إعادة تسجيل المذهب المنفي على لوحة حجرية صلبة في عهد شاباكا بعد أن أتت الأرضة عى نسخته القديمة ولعلها كانت من البردي أو من الرق. والغريب أن لوحة عهد شاباكا هذه عندما كشف عنها في العصر الحديث كان قد اتخذها طحان حجرًا لطاحونه فحطم من نصوصها ما لم يحطمه الزمن منها. وجارت مدارس الفن بفروعه المختلفة ما ذهب فن عصرها إليه، ورأت سبيل النهضة في العودة إلى أساليب عهود الازدهار القديمة، فقلد فنانوها أساليب فن الدولة القديمة، وأساليب فن الدولة الوسطى، وأساليب فن عصر الرعامسة، ثم حاول بعضهم أن يخرجوا من هذه الفنون بأسلوب جديد. واستحبوا التماثيل فراعنتهم الأسلوب الواقعي الذي يشبه ما تخيرته المدرسة الطيبية لتماثيل ملوكها خلال الدولة الوسطى، بعد أن أخرجوه بما يناسب عصرهم. وتبقى من خير ما نحتوه فراعنتهم ثلاث رءوس: رأس الفرعون شاباكا، ورأسان للفرعون تاهرقه، وعبرت ملامح كل رأس من هذه الرءوس عن السمات الشخصية لصاحبها، وصورت بالطابع الجنوبي الذي اكتسبته أسرته الملكية خلال إقامتها الطويلة قرب الشلال الرابع. وهكذا أظهر الفنانون رأس شباكا بوجه متسع وشفتين ممتلئتين وأنف عريض أفطس، وأظهروا وجه تاهرقه بعنق غليظة ووجه عريض وشفتين ممتلئتين وشعر مفلفل.

_ 1 Cf., L.L Honor, Sennacherib’s Invasion Of Palestine, 1926; J. Lewy, Olz, 1928, 159 F.; U. Ungand, Zaw, Lix, 199 F. 2 Cf., Kienitz, Die Politische Geschichte Aegyptens Vom 7 Bls Zum 4 Jahrhundert Vor Der Zeitwende, Berlin, 1953, 7; Bifao, Li, 28.

واستفادت تماثيل كبار الأفراد بالاتجاه الجديد، فأخرجت مدرسة طيبة تمثالين لحاكمها المحلي "مونتومحات" مثله أحدهما واقفًا في انتصابة تشبه انتصابة تماثيل الدولة القديمة وطابعها المترفع، وكست وجهه بجدية صارمة عبرت بها عن عزيمته التي واجه الشدائد بها في عصره. ثم أظهره تمثاله الآخر الذي لم يبق منه غير رأسه الضخمة وجزاء من صدره، في ملامح شخصية ناطقة وشعر طبيعي ناعم مرسل، وذلك في إتقان بالغ جعله آية من آيات النحت المصري كله. وكان منتومحات فيما يبدو كاهنًا رابعًا لآمون استطاع أن يغطي بشخصيته على مكانة الكاهن الأول في طيبة، وكان أبوه وزيرًا وجده عمدة لطيبة. وقد بلغ من أمره أن ذكرته النصوص الآشورية فيما بعد بلقب ملك طيبة، وإن قاسمته السلطان في طيبة كبيرة الكاهنات الحرم المقدس لآمون شبتن وبة الثانية. ونحت مثالو المدرسة نفسها بضعة تماثيل واقعية لرجل من البلاط يدعى "حاروا" أظهروه فيها بعيوبه البدنية، فصوروه بوجه ممتلئ كوجه الطفل، وجسم مكتنز يترهل ثدياه كثديي الأنثى. وإلى جانب الكلف بإحياء التراث القديم، أضاف الكتبة المصريون خطًّا جديدًا منذ أوائل القرن التاسع ق. م يزيد اختصارًا وتخففًا من الصور عن الخط الهيراطي، وتكتب أغلب كلماته كما ينطقها الناس فعلًا. وكانت هذه الخاصية الأخيرة فيه أحد أسباب الإغريق له بالخط الديموطي، أي خط الجمهور، أو الخط العام. كان تاهرقه فيما دلت الأحداث كفئًا لأحداث عهده، ومن أطرف ما أتت نصوصه به إشارة ضمنية إلى زيادة فيضان النيل في إحدى السنوات نتيجة لغزارة الأمطار في الجنوب، وكانت هي المرة الأولى التي علل المصريون الفيضان فيها بهذا التعليل المقبول1. ولكن يبدو أن البنيان السياسي والداخلي لمملكة تاهرقه لم يعد سليمًا؛ وأنه لم يبلغ العرش إلا بعد تنافس مرير مع عمه أو أخيه ومع خصومه، وإذا صح ذلك كان فيه مصداق لرواية إشعيا عن ربه وهو يحض العبرانيين على عدم مخالفة مصر والرضا بالخضوع للآشوريين في قوله: "أهيج مصريين على مصريين فيحارب رجل أخاه ورجل صاحبه، مدينة مدينة ومملكة مملكة ... ". ومع هذه الأوضاع القلقة ومع ضعف الحلفاء الخارجيين لم يكن من المتوقع أن تصمد مصر طويلًا في مواجهة الآشورين بعد أن بلغوا ما بلغوه حينذاك من توسع وعنفوان، وكان عليها أن تواجه سنة الحياة في شيخوختها الثالثة، وأن تتلقى جزاء تهاونها في أمر نفسها. وقد بلغ الأمر مداه حين جند الملك الآشوري آشور أخادين كل إمكانياته لمهاجمة مصر وجهًا لوجه باعتبارها آخر مناطق الشرق القديم بعدًا عن نفوذه، وأملًا في القضاء على ما بقي لها من قدرة على المنافسة الحربية، وطمعًا في ثرائها، وليقطع معونتها عن حلفائها في سوريا وفلسطين. وقد مر مشروعه ضدها في مرحلتين: مرحلة هاجم فيها حدودها الشمالية الشرقية في عام 674ق. م، ولكنه هزم بجيشه في معركة دموية كما روت المصادر البابلية. ثم مرحلة ثانية بلغ فيها رفح وسيل مصر في عام

_ 1 Cf., V. Vikentiev, Rec. Tr. De La Faculte Des Lettres, Univ. Egyptienne, 1930.

671ق. م وهناك واجهته مشكلة قلة الماء مع كثافة جيشه، وساعده عليها جماعة من بدو الصحراء حملوا لجيشه قرب الماء فوق الجمال وعملوا أدلاء له عبر سيناء، وبالغت نصوصه في وصف مشقة الطريق الصحراوي وصخوره المدببة وأفاعيه القرناء "وحيواناته" الخضراء المجنحة، كي تشيد بجهوده في تخطي صعابها. وعبرت عن شدة مقاومة المصريين بتعبيرها الخاص، فقالت على لسان ملكها: "قطعت ما بين مدينة أشخوبري "عند مدخل وادي الطميلات" وبين عاصمته منف في خمسة عشر يومًا، وكنت أقاتل دون انقطاع في معارك دموية ضد تاهرقه ملك مصر والنوبة الذي لعنه كل الأرباب الكبار، وأصبته خمس مرات بسهامي فأدميته بجراح لن يشفى منها"1. ونجحت الجيوش الآشورية للأسف في إسقاط العاصمة منف ودمرتها وأحرقتها وسيطرت على مناطق الدلتا، وأضعفت مقاومة مناطق الصعيد. وفتت آشور أخادين سلطة الحكم في مصر فوزعها على الأمراء الإقليميين واعتبرهم عمالًا له بعد أن استبعد منهم من خشي طموحه كما استبعد منهم ذوي الأصل النوبي، وظن أن الأمور استتبت له، وبلغ من ثقته بنصره أن أمر بتغيير أسماء مدن كثيرة إلى أسماء آشوري نسبها إلى أربابه: آشور، وسين، ومردوك، وإشتار2. وصور رجاله تاهرقه ملك مصر جاثيًا أمامه مخزومًا من أنفه بحبل يرجو عفوه، على نصب أقاموها في أنحاء دولته3، مع أن تاهرقه لم يقع في قبضته إطلاقًا ولم يهادنه. ولم يكتف آشور أخادن بما غنمه من كنوز القصر الملكي المصري "مما لا مثيل له في آشور ومما أبدعت صناعته" على حد قوله، وإنما طمع في أن يجعل مهارة المصريين طوع يمينه في آشور نفسها، فأمر بترحيل جماعات من الأطباء والبيطريين والسحرة والصاغة والكتبة والموسيقيين بل ومن صانعي النعال وصانعي الجعة والخبازين ومن لف لفهم إلى عاصمته4. وكأنما وجد في مهارتهم كنزًا لا تقل قيمته عن كنوز القصر الملكي، أو رأى في إبعادهم عن مصر حرمانًا لها من أدوات حضارتها التي دلت بها على عالمها القديم. كانت هذه هي المرة الثانية التي نجح فيها جيش كبير في غزو مصر عن طريق مدخلها الشمالي الشرقي "إذا اعتبرنا محنة الهكسوس القديمة غزوة وليست هجرة". وكانت هي المرة الأولى التي حكمت مصر فيها من خارج حدودها، بعد أن سلخت من تاريخها المكتوب نحو خمسة وعشرين قرنًا. وقد استمر كفاح مصر للغزو الآشوري خلال عهود أربعة ملوك آشوريين، اثنين كافحتهما على حدودها، واثنين كافحتهما على أرضها. ولقسوة الوضع ثار المصريون على الحكم الآشوري سريعًا وعاونوا تاهرقه على استرجاع سلطته على العاصمة خلال عام 669ق. م، فعزل بدوره من رضوا بولاية آشور أخادين، وحين ذاك جن جنون الملك الآشوري وكانت مشكلات وراثة عرشه قد احتجزته عامًا في آشور عقب عودته من مصر، وأعدم في هذا العام كثيرين من موظفيه5، ثم سارع بالخروج بجيشه ولكنه مرض ولقي نحبه في الطريق، فعاد جيشه أدراجه

_ 1 D. Luckenbill, Op. Cit., Ii, 580; A Net, 239; E Peet, Jea, Xi,1 925, Ii7 F.; E. Meyer, Geschichte Des Altertums, Iii, 76 F., 2 Luckenbill, Ii, 892; Anet, 293-294. 3 E.H. Weissbach, Die Denkmaeler Und Inschriften Des Nahr El-Kelb, 1922, Pls. Xi-Xii; R. Mouterde, Le Nahr El-Kelb, 1932, Pl. Vi; Olmstead, Hitory, Of Assyria, 384. 4 D. Luckenbill, Op. Cit., Ii, 585; Anet, 293, 5 Luckenbill, Op. Cit., 302, 303.

إلى وطنه. "وليس من المستبعد أن يكون المصريون قد اعتبروا هذه الأحداث انتقامًا إلهيًّا منه". ووقع عبء مواجهة الثورة المصرية على خلفه العنيف آشور بانيبال1، وقد عبر عن غيظه بقوله "وصل رسول سريع إلى نينوى وأبلغني النبأ فغضبت جدًّا لهذه الأحداث واشتعلت نفسي ورفعت كفي إلى آشور وإشتار ... " وبعد أن اطمأن إلى استقرار أموره الداخلية خرج بجيشه في عام 666ق. م، وأجبر عددًا من أمراء الفرات والشام وفلسطين على مصاحبته بقواتهم، وكانوا كما قال اثنين وعشرين ملكًا. واستعان بخبراتهم الملاحي وهاجم مصر بهم من البر والبحر، وتلاقى بقواته مع جيوش تاهرقه في معركة وصفتها النصوص الآشورية بأنها معركة مكشوفة رهيبة، أحرز ملكهم النصر فيها. وانسحب تاهرقه إلى الجنوب على متن النيل مع قلة من قواته ولكن عز عليه أن يصطحب معه أغلب أساطيله النيلية المقاتلة فاستولى الآشوريون عليها وشجعهم ذلك على أن يستعينوا بأصحاب المهارة الملاحية من أهل الفرات والشام في تتبعه إلى طيبة أحد معاقل القومية المصرية العتيدة. وأعاد آشور بانيبال بعض الأمراء المصريين إلى حكمهم اللامركزي وإماراتهم الإقليمية، واطمأن إلى قوة سلطته وقال في نصوصه: "وهكذا استعدت الإشراف على مصر والنوبة، وزدت الحاميات عن ذي قبل؛ وجعلت تنظيمها أشد إحكامًا وقوة، وعدت إلى نينوى سالمًا بكثير من الأسرى وبغنيمة طائلة". ولكن خاب ظن الملك؛ فجيوشه لم تر النوبة التي أدعى سيطرته عليها؛ وما لبث أمراء مصر أن فاقوا إلى وطنيتهم وقالوا لأنفسهم فيما روت عنهم المتون الآشورية: "إذا كان تاهرقه قد أبعد عن مصر فأي بقاء لنا بعدد؟ وأرسلوا رسلهم على الخيل إلى تاهرقه يقولون له: دعنا نتصافح ونصل إلى حل مقبول، ونشترك في إدارة البلاد معًا حتى لا يكون بيننا حاكم أجنبي". ولكن حدث لسوء حظهم أن اكتشف الآشوريون تدبيرهم فقبضوا على رسلهم، وأعملوا السيف في مدنهم: "ولم يستثنوا واحدًا من تانيس والمدن الأخرى التي تعاهدت على الثورة، فشنقوهم على السرايا وسلخوا جلودهم وغطوا بها أسوار المدن" وأرسلوا زعماء الثورة إلى نينوى حيث أهلكوا جميعًا ولم يستثن آشور بانيبال منهم غير أمير سايس "نيكاو" ربما باعتباره وريث الأسرة الرابعة والعشرين وسليل أكبر بيت منافس لبيت تاهرقه، فابقى عليه وقربه إليه وخلع عليه وسلمه عددًا من أختامه وأهداه هدايا مرقومة باسمه، وعين ولده "بسماتيك" أميرًا على مدينة أتريب في شرق الدلتا. ولعله أراد أن يستعين بكفايتهما في ضمان خضوعها، وسوف يكون لهذا الولد شأن في مقاومة الآشوريين بالذات. ولم تنقطع محاولات المصريين للتحرر، على الرغم من هذا التدبير، حتى ممن أعلنوا الطاعة لآشور بانيبال وانضموا إلى جيشه مكرهين، فتحدثت سطور قليلة باقية من أحد نصوصه عن والٍ مصري لم يعتبر، على حد قولها، بالمعاملة الشديدة التي لقيها الأمراء المصريون الذين سبقوه إلى الثورة، فسمعه الضباط الآشوريون وهو يسر بخطته إلى جماعة من إخوانه المصريين انتحوا معه ناحيه عن مقدمة الجيش الآشوري، وقد أجابوه بأنهم على استعداد لتنفيذها بالليل2. وكانت عاقبته وعاقبة زملائه معروفة بطبيعة الحال.

_ 1 See, Op. Cit., Ii, 770 F.: M, Streck, Assurbanipal Und Die Letzten Assyrischen Konige. Bis Zum Untergang “V. A. B., Vh” 1961, Ii, 2 F.; J. Schawe, A. F. O., X “1935-1936”, 170. 2 Th. Bauer, Das Inschriftwerk Assurbanipals, 1933, I, Pl. 60; Ii, 56.

ومرة أخرى هبت مصر تبغي التحرر بعد أن ورث عرشها الأسمى تانوات آمون "باكارع" -ابن شبتكا أخ تاهرقه- وتشجع برؤيا ظنها صادقة رأى فيها ثعبانين أحدهما على يمناه والآخر على يسراه1، وفسرها رجال الدين له بالنصر على عادة الكهان مع الملوك في كل عصر، وأولوها بقرب سيطرته على الصعيد والدلتا. وتشجع الملك الذي ذكرته النصوص الآشورية باسم أوراماني فصعد حتى منف وحاصر بجيشه الحامية الآشورية فيها وسيطر على المدينة، وأدب الأمراء الذين استكانوا لحكم الآشوريين2. ولكن ما لبث آشور بانيبال أن عاد بجيشه إلى مصر وقد تملكه الغل وساعدته كثافة جيوشه على النصر، فانسحب تانوات أمون إلى الجنوب، وتتبعته القوات الآشورية حتى طيبة ودخلتها ودمرتها حوالي عام 659ق. م على الرغم من مقاومة أهلها وأميرهم "منتومحات"3. وروت المتون الآشورية على لسان ملكها: "غنمت من طيبة غنائم تجل عن الحصر، ونزعت مسلتين ضخمتين من قواعدهما، وكانا مغشيتين بالبرونز المذهب، وتبلغ زنة كل منهما 2500 تالنت، وأمرت بنقلهما إلى آشور". وتحدث متن آخر عن أنه سجل انتصاراته وانتصارات أبيه على خمسة وخمسين تمثالًا من تماثيل الملوك المصريين4 "وربما أمر بنقل بعضها أيضًا إلى آشور". ولم يكن الشرق القديم قد نسي أن طيبة ظلت كبرى عواصمه السياسية والدينية طيلة قرون عدة، ولم ينس أن عمائرها الدينية كانت ولا تزال أكبر من أن تدانى، ولهذا كان لسقوطها وتدميرها واحتلالها عنوة لأول مرة في تاريخها دوي كبير عبر عنه النبي ناحوم بعد نصف قرن وهو ينذر نينوى عاصمته آشور بأنها لن تكون أعز من نو آمون "أي طيبة" المستقرة بين الأنهار، تحميها المياه، البحر حصنها، ويسورها البحر، ويدافع عنها المصريين الذين لا حصر لهم والكوشيون "النوبيون" والفوط والليبيون، ومع ذلك دمرت وسحق أطفالها عند منعطفات الشوارع، وألقوا القرعة على أشرافها وقيد عظماؤها بالأغلال5. وعثر في طيبة على لوحة أرخت بالعام الثامن من حكم تانوات آمون "في حوالي عام 655 أو 654ق. م" مما قد يعني أنه عاود كفاحه بعد تدمير طيبة، واسترجع سلطانه على بعض مناطق الصعيد6. ولكن سيطرته لم تطل أكثر من هذه السنوات الثمان، بل إن النصوص الصاوية التي أتت بعد عهده أغفلت حكمه، كما أغفلت سنوات الاحتلال الآشوري، واعتبرت آخر أعوام حكم تاهرقه "في حوالي عام 664ق. م" مقدمة لحكم بسماتيك الأول أول ملوك الأسرة السادسة والعشرين موضوع البحث التالي.

_ 1 Urk., Iii, 57-77. 2 Breasted, Ancient Records, Iv, 919 F. 3 Ibid., 901 F. 4 D. Luckenbill, Op. Cit., 989. 5 ناحوم 3: 8 - 10. 6 Berlin. 2097; Asae, Vii, 190, 226-27.

ثالثا: النهضة في العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين

ثالثًا: النهضة في العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين 664 "؟ " -525ق. م روى أخبار هذا العصر إلى جانب نصوصه القليلة الباقية، كل من المؤرخ هيرودوت، وبعض النصوص المسمارية العراقية، وروايات من العهد القديم، وجانب من تاريخ يوسيفوس تأثر فيه بتاريخ مانيتون. وحاول أهل العصر في نهضتهم أن يقوموا بمثل ما قامت أوائل الدولة الحديثة به في إجلاء المستعمر، وتحرير البلاد، وإعادة تنظيم الجبهة الداخلية، واستعادة وحدة الحكم المركزية، واسترجاع الهيبة الدولية والولايات الخارجية. ولكن الظروف كانت مختلفة بين العصرين، فاختلفت الوسائل تبعًا لها. وينسب العصر إلى اسم عاصمته صا "الحجر" على فرع رشيد في غرب الدلتا، وهي مدينة ذكرتها النصوص القديمة باسم "ساو" واشتهرت لدى الإغريق باسم "سايس" وحكمت فيها فيما مر بنا الأسرة الرابعة والعشرون. ولما قضى حكام نباتا الجنوبيون على استقلال هذه الأسرة ظل أمراؤها يجاهدون في سبيل كيانهم خلال عصر الأسرة الخامسة والعشرين، ثم جامل الغازي الآشوري زعيمهم نيكاو رغبة في استغلال عداء أسرته التقليدي للبيت النوبي المصري خصيم الطرفين. وعندما اختفى شبح تانوات آمون وريث هذا البيت الأخير كان أكبر المستفيدين من فراغ جو السياسة المصرية هو "بسماتيك" "واح إب رع" بن نيكاو، بعد أن أنس الملك الآشوري إليه كما أنس إلى أبيه الذي يحتمل قتله بتدبير تانوات آمون. فاستغل هو هذا الوضع الاضطراري من أجل يوم لاحق يقيم فيه أسرة حاكمة جديدية ويستعيد فيه لبلده استقلالها. ومهد لمشروعه هذا بمحاولة تجميع السلطة الداخلية في يديه على غفلة من الآشوريين، وعلى حساب نفوذ أضرابه من الأمراء الذين عاشوا في نظام إقطاعي شجعه الآشوريون للإبقاء على تمزيق السلطة بينهم، وكانوا فيما روى هيرودوت أحد عشر أميرًا في الدلتا، ضايقوه بعد أن ظهر طموحه1 بحيث لم تظهر له نصوص يعتد بها قبل عام حكمه التاسع، فصمد لهم واستعان عليهم بأحلاف من مصر الوسطى كان من أكبرهم سماتاوي تاف نخت أمير أهناسيا، وقد أعانوه بقواتهم البرية والملاحية، ولقوا منه بعد ذلك جزاء وافيًا، فأثابوهم بحكم ثلاثة أقاليم من الصعيد وجعل لهم احتكار "؟ " الإشراف على الملاحة النهرية في الصعيد كله2. وهنا يضيف هيرودوت أنه استعان إلى جانبهم بمرتزقة من الإغريق، أو استعان ببعض رجال صديقه جيجس ملك ليديا كما تروي المصادر الآشورية ونذكر بعض قليل. ولما ضعف شأن طيبة بذهاب حلفها مع نباتا وتدمير الآشوريين لها، استفاد بسماتيك من الفراغ القائم ففاوض أميرها منتومحات على أن يُبقي له إدارتها المدنية، وفاوض كبيرة كاهناتها شبتن وبة الثانية أخت تاهرقه على أن يدعها في منصبها بشرط أن تتبنى ابنته نيت إقرت "نيتوكريس"، وتتخلص من ربيبتها الأولى "ابنة تاهرقه" وعندما نجح التفاوض وتم التبني وضمن به لابنته الإشراف الروحي

_ 1 Herodotus, Ii, 152, De Meulenaere, Herodotus Et La 26 Ste Dynastie , 1951, 30, 149-150, 2 Ryland Papyrus Ix, 5, 13 F.; Kees, Ancient Egypt, 217.

على معابد آمون وأتباعه، والإشراف المادي على ثروات طيبة، زادها بإقطاعيات أخرى من مصر الوسطى ومن الدلتا كان بعضها إهداءات من المعابد وربما من الأثرياء أيضًا. وجعل لها حاشية كبيرة تشبه حاشية الملكات تخير رؤساءها من رجال الدلتا1. ثم عهد بإقليم إدفو وأسوان إلى أجد أنصاره. وبهذه الإجراءات المتتابعة اعتقد بسماتيك أنه حقق التوازن بين أولياء السلطة في مملكته المرتقبة، فالصعيد قسم سلطاته بين ثلاث جهات حاكمة، والدلتا أغرى بعض كبارها بمناصب في الصعيد، وابنته أشرفت باسمه على كهنوت آمون وأملاكه. وكما جرت العادة، غالبًا ما كان المنعم عليهم يعهد إليهم بوظائف كهنوتية حتى يستفيدوا من مخصصاتها ويقللوا من تضخم ثروات المعابد الكبيرة ولا يثقلوا في الوقت نفسه على ميزانية الدولة باعباء كبيرة2. وكما حقق الرجل التوازن الإدراي من وجهة نظره، اعتقد أنه يحقق التوازن في الجيش كذلك بالاستعانة بمرتزقة من الإغريق أو المتأغرقين يقفون في مقابل المجندين والمرتزقة من المهجنين الليبيين وغيرهم. وعندما تطلع إلى الخارج كانت الظروف مواتية، فقد واصلت آشور نضالًا عنيفًا حينذاك مع منافستها القوية عيلام، وواصلت انتقامًا عنيفًا من أختها اللدود بابل ومن حلفائها، وواجهت عدة ثورات في الشام، واشتبكت مع دولة ليديا في آسيا الصغرى، وهنا حدث ما أسلفنا خبره من أن بسماتيك حالف "جيجيس" ملك ليديا "حوالي عام 655 أو 654ق. م" على أن ينجد أحدهما الآخر حين الحاجة، وعلى أن يستعين ببعض مواطنيه الإيونيين والكيريين كمرتزقة في جيشه3. وقد كانت الشقة بعيدة بين الحليفين ولكن قرب بينهما عداؤهما لآشور، وعدم خوف أحدهما من أطماع الآخر، مع تقدير الإغريق لمصر على الرغم من النكبات التي حلت بها. وسبق معرفة المصريين بالإغريق والمتأغريقين من قبل تجارًا ومرتزقة وملاحين مهرة. وفي أعوامه الأولى تخلص بسماتيك وأعوانه من النفوذ الآشوري، وقضوا عليه بعد سنوات قليلة من بدايته، وإن كنا لا ندري للأسف من تفاصيل كفاحهم المسلح ضده ولا كيفية إجلائهم الحاميات الآشورية عن مصر إلا ما ألمح هيرودوت إليه من أنهم تعقبوها حتى فلسطين 4. ووفت مصر بعهدها مع جيجيس فأعدت له نجده في كفاحه ضد الهجرات السيميرية وضد الآشوريين، ولكن سقوطه كان سريعًا "في عام 653ق. م." فلم تؤد النجدة دورها. وتفرغ بسماتيك لتأمين مركزه وبلده، وسلك سبل السياسة والقوة معًا، فآثر السلام مع نباتا وأوفد سفارة إليها عادت منها بالهدايا 5، واكتفى بما نجح فيه من تخليص بلده من نفوذ الآشوريين ولم يستمر في عدائه الصريح لهم بعد مقتل حليفه جيجيس، وربما هادنهم وهادنوه حتى يفرغوا من متاعبهم6. فاستفاد

_ 1 Breasted, Anc. Records, Iv, 953 F.; Leclant, Jnes, 1954, 169. 2 H. Renke, Zaes, Xliv, 45 F. 3 D. Luckenbill, Ancient Records Of Assyria, Ii, 748-485. 4 Herodotus, Ii, 157. 5 Kienitz, Op. Cit., 16. 6 Mary Francis Gyless, Pharaonic And Administration, “663 To 323 B.C.”, Carolina, 1959, 21 F.

من هذه الهندة وسعى برجاله لضمان الخطوط الأمامية في فلسطين، ومضى في هذه الخطوة الأخيرة على مهل، وحدث حين تنفيذها أن وصلت طلائع هجرات السكيثيين إلى جنوب الشام، وهي جزء من هجرات آرية خرجت من أوساط آسيا وهددت حدود آشور وخربت مدن آسيا الصغرى وتسرب بعضها جنوبًا عبر الساحل إلى فلسطين حتى عسقلان، وكان أهلها غزاة جوابين غير مستقرين، فاستغل بسماتيك هذه الصفة فيهم ولم يشأ أن يستهلك قواته الحربية معهم فأرضاهم بالعطايا حتى عادوا أدراجهم إلى نواحي آسيا1. ثم تفرغ بسماتيك لمشروعه الخارجي ومضى فيه حتى أتم فتح مدينة أشدود الحصينة حوالي عام 620ق. م بعد مجهود طويل، ومنذ ذلك الحين أصبح سيد الموقف في بلده وعلى حدوده، بل وبدأت مصر تمد العون للآشوريين في نكباتهم المتلاحقة أمام البابليين والماذيين، دفعًا لخطر هذين الأخيرين على الوضع القائم في الشرق القريب. وطال عهد بسماتيك خمسة وأربعين "أو أربعة وخمسين" عامًا شغلت أغلبها فرحة التحرر من الغزو الآشوري واستعادة وحدة البلاد وعودة الأمن إلى أرضها. وانعكس ذلك على نواحي الحياة الداخلية كلها، فاشتدت الإشادة بالقومية وبعراقة الأصول؛ وكان من وسائلها إحياء تقاليد الدولة القديمة في اللغة والدين، وإحياء أساليب الدولتين القديمة والوسطى في فنون النقش والتصوير والنحت، مما سنعود إلى ذكره في ختام هذا العصر، ولما كان النصر يرد عادة إلى التأييد الروحي من الأرباب والمساهمة المادية من معابدهم كما يرد إلى الملوك بخاصة؛ فقد كانت النتيجة الطبيعية بعد إحراز النصر هي رد الفضل لهؤلاء وهؤلاء مضاعفًا عن طريق الإسراف في إقامة المعابد وتوابعها، وإقامة القصور والمسلات والتماثيل ورصد الهبات والأوقاف بأسماء الآلهة والملوك. وكان نصيب مدن الوجه البحري ومعابده من تجديدات العصر أكثر من نصيب الصعيد، بحكم وجود عاصمة الدولة فيه، فنشطت الإشادة بأربابه لا سيما نيت ربة سايس، وبتاح رب منف، بل ورمزه الحيواني أبيس، حتى طغت سمعتهم على سمعة أرباب الصعيد فيما خلا آمون رع الذي احتفظ بمكانته كإله أعلى للدولة. أسلفنا أن العصر الجديد بدأ، كغيره من العصور، برفع طبقات وخفض أخرى، وإضعاف أسر إقطاعية وتدعيم أخرى، تبعًا لميول الحاكم ومدى ما يلقاه من تأييد أو معارضة من طبقة أو أخرى وللحد من تضخم ثراء الإقطاعيين الجدد من مدنيين ودينيين. وسلك بسماتيك سنة اتبعها خلفاؤه، وهي الإيحاء إلى كبار أولئك الإقطاعيين بالتبرع بجانب من ثرواتهم العقارية للمعابد التي تحتضنها الدولة، مع استمرار الدولة في الوقت نفسه على سياسة خلع المناصب الكهنوتية التشريفية على المقربين إلى الملك حتى يستفيدوا من مخصصاتها ويقللوا من تضخم ثروات معابدها واحتكارات كهنتها، ولا يثقلوا في الوقت ذاته على ميزانية الدولة بأعباء كبيرة2. وبتعبير آخر يمكن القول بأن أولئك الملوك أشعروا الإقطاعيين المتبرعين بأن حكومتهم لا تبغي أن تقاسمهم ثرواتهم لصالحها الخاص وإنما لصالح الأرباب، كما أشعروا أنصارهم أصحاب الإنعامات الجديدة بأن إنعاماتهم عارية بمكن أن تعود ثانية إلى الأرباب.

_ 1 Herodotus, I, 105; Ii, 30, 153-154, 157; Iv, 46. 2 H. Ranke, Op. Cit.; H. Kees, Zur Innenpolitik Der Saitendynastie, Ngwg, 1935, 96 F.

وظن بسماتيك أنه حقق التوازن في جيشه بالاستعانة بالمرتزقة الإغريق أصحاب العزائم الجديدة وأبناء البلاد البعيدة التي لا يخشى من استغلالها لوضعهم في جيشه، وذلك في مقابل المرتزقة الآخرين الذين تبعه بعضهم وتبع بعضهم الآخر الأمراء الذين نافسوه في بداية عهده، ثم لتزويد جيشه بدماء جديدة بعد أن استرخت همم المجندين المهجنين والمرتزقة من الصحراء والواحات الليبية ومن النوبة، وأمثالهم، واستناموا إلى العقارات الزراعية والمرتبات التي خصصتها الدولة لهم، أي أنه عالج الخطأ بخطإ آخر واتخذ من خطئه الجديد حرسًا خاصًّا وحاميات للحدود، ومنها حامية في حصن دفنة على الصحراء الشرقية، وهو حصن ذكره سفر إرميا بما يعني حصن البرابرة1. وفي ماريا قرب مريوط على بداية الحدود الغربية، وفي إلفنتيني عند أسوان. وتوافد في أعقاب هؤلاء المرتزقة أعداد من التجار الإغريق عملوا لحسابهم في مصر، ووسطاء بينها وبين بلادهم، في تجارة الغلال والفضة والمصنوعات الدقيقة والفنون. وهنا روى هيرودوت أن بسماتيك أوصى بتكوين طائفة من التراجمة لتيسير التفاهم بين الوافدين الإغريق وبين هيئات الجيش والبلاط والإدارة فضلًا عن أغراض التجارة والزيارة، وكان نواتها عدد مختار من الشبان المصريين النابهين2. وعند وفاة بسماتيك، كان الأمور قد مضت سريعة في الشرق الأوسط، فقضى البابليون والماذيون على كيان آشور "راجع فيما بعد". وطمعت بابل في أن تستعيد الأملاك الآشورية الغربية في الشام لحسابها، ولكن مصر اختطت نفس الخطة لصالحها في عهد نيكاو الثاني "وحم إب رع" "610 - 595ق. م" وقدرت طموح بابل، فبادرت بالخطوة الأولى، وخرج نيكاو بجيشه إلى فلسيطين في عام 608 فشق الجيش طريقه دون معارضة تذكر، وعندما اعترضه حاكم أورشليم اليهودي يوشيا أنذره بالحسنى ولكنه لم يرعو ففتك به في مجدو3. ثم تابع مسيرته في أواسط سوريا وشمالها، وأحرز نجاحًا ضد البابليين قرب قرقميش عند كيموخو وقوراماتي اللتين ذكرتهما النصوص المصرية عند الفرات، وربما عاون حينذاك بقايا الآشوريين بقيادة آشور أو بالليط. وبهذا استعاد الإشراف المصري على أجزاء واسعة من الهلال الخصيب فيما بين عامي 608 و605ق. م. وعاقب نيكاو أورشليم مرة أخرى فعزل حاكمها ابن القتيل وعين بدله أخذه إيليقيم الذي غير اسمه إلى يهو ياقيم، ليكون تابعه، وألزمه بجزية ضخمة4. ثم بدأت المقادير تسلك وجهة أخرى منذ أن عهد الملك البابلي نابو بولاسر بجيوشه إلى ولده "نبوخذ نصر" "نابو - كدوري - أوصر" وكان كفئًا لمواجهة الموقف من وجهة النظر البابلية، ولكن نيكاو المصري تجاهل هذه الحقيقة وركبه الغرور، فترك المبادة وتوقف بجيشه طويلًا عند نهر الكلب حتى يسجل له رجاله أخبار نصره وآيات تمجيده، فكانت فرصة لولي العهد البابلي دعم جيشه فيها وتخير موضع معركته فتيسر له النصر عند قرقميش في عام 605

_ 1 إرميا 2: 16، 43: 5 - 7. 2 H. Rodotus, Op. Cit., 154, 164. 3 الأيام الثاني 35: 20 - 25. Yoyotte, Nechao, 372. 4 الملوك الثاني 23 - 35 الأيام الثاني 36: 3 - 4.

أو 604ق. م1. وحينئذ تخلى نيكاو عن شمال سوريا كارهًا واحتفظ بجنوبها، ولكن لم يطل احتفاظه بها بعد أن خلف نبوخذ نصر أباه وتشجع باستقرار دولته فتابع طريقه بجيشه إلى فلسطين وحينئذ أعلن له يهوياقيم اليهودي الطاعة وصار عبده ثلاث سنوات على حد تعبير سفر الملوك، ثم ثار عليه وكون حلفًا ضده بتشجيع مصر التي أفسدت هجومًا بابليًّا على حدودها في عام 601ق. م، فضربه بنوخذ نصر بقواته وبمن خرجوا عن حلفه من أهل الشام، أو كما روت أسفار التوراة "أرسل ضده جيشًا مؤلفًا من كلدانيين وسوريين ومؤابيين وعمونيين"2. وقُتل اليهودي خلال الحصار وسبي قومه ومعهم ولده يهويا كين في عام 597ق. م، وعين نبوخذ نصر "صدقيا" ملكًا جديدًا على أروشليم وسوف تكون له قصته معه. وتجمدت السياسة الحربية الشمالية لمصر في بقية عهد نيكاو، سواء نتيجة لعقد معاهدة عدم اعتداء بينه وبين بابل وهذا ما رواه هيرودوت وزاد عليه أن نيكاو زوج أخته أو ابنته من نبوخذ نصر فصرات ملكة على بابل3. وهي رواية لم تتأكد بعد. أو نتيجة لانشغال نيكاو بحدوده الجنوبية. أو لرغبته في الاتجاه إلى إحراز سيادة بحرية لأغراض التجارة وأغراض التوسع وحماية السواحل. وقد لوحظت كثرة ألقاب "قباطنة الأساطيل الملكية في "البحر" الأخضر الكبير" في نصوص عهده4. وكان خير ما ذكره التاريخ لسياسته هذه أمران، وهما: محاولة ربط الدلتا بالبحر الأحمر بطريق مائي لتشجيع التجارة البحرية وزيادة الاستفادة من مواردها، بشق قناة تجري من فرع الدلتا البوبسطي القديم حتى خليج السويس أو البحيرات المرة قرب ميناء الإسماعيلية الحالية، وقد روى هيرودوت أن المشروع بعد أن بدأ واستهلك آلافًا من الرجال أوقف فجأة نتيجة لوحي إلهي تنبا لنيكاو بأنه يبذل جهده لمصلحة الأجنبي، وأضاف ديودور الصقلي أن المصريين تخوفوا أن يكون منسوب مياه البحر أعلى من منسوب مياه فروع الدلتا فيغرقها. ولكن يبدو أن المشروع تم حينذاك فعلًا، أو تم أغلبه5. أما المأثرة الأخرى، فهي إيفاد بعثة بحرية للدوران حول إفريقيا، وقد بدأت رحلتها من البحر الأحمر، وروى هيرودوت أنها أتمتها في ثلاث سنوات، كانت تريح فيها على البر خلال مواسم الخريف، ثم عبرت مضيق جبل طارق "أعمدة هيراكليس"، وعندما عادت روى رجالها أنهم في دورانهم حول الأرض "أي إفريقيا" ظلت الشمس على يمينهم، على عكس ما خرجوا به، وهي ملاحظة شك هيرودوت في إمكان حدوثها، مع أنها كانت دليل صدقهم. وكانت من أقدم المرات التي تم فيها مثل هذا المشروع البحري الضخم لأغراض الكشف والمعرفة وإظهار المهارة وفتح أسواق للتجارة وأملًا في توسيع النفوذ

_ 1 Woolley, Charchemish, Ii, 125-127. 2 الملوك الثاني 24: 1 - 4 3 Herodotus, I, 184-186. 4 De Meulenaere, Op. Cit., 60-61. 5 Herodotus, Ii, 158; Diodorus, I, 33; Strabo, Xvii, 8; See, G. Posener, Chronique D’egypte, 1938, 272; P. Newberry, Jea, 1942, 64 F.

في آن واحد، ولابد أنه مهدت له معارف وإرهاصات سابقة، روى هيرودوت منها بناء سفن كورنتيه أو إيونية ذات ثلاث طبقات من المجاذيف Triremes كانت تمخر عباب البحر الشمالي "المتوسط" والخليج العربي "السويس"، والاستعانة بخبرة ملاحين فينيقيين إلى جانب الملاحين المصريين1. لم تتغير هذه السياسة كثيرًا في الداخل أو في الخارج خلال عهد بسماتيك الثاني "نفر إب رع"- منذ 595ق. م. وفيه خرج موكب ملكي أو بعثة ملكية من مصر إلى سوريا صحبها عدد من الكهنة اختيروا من معابد مختلفة، ومن طريف ما سجل بهذه المناسبة أن كهنة طيبة رشحوا كاهنًا منهم يدعى بادي إيسة وقالوا له: "لقد وقع الاختيار عليك للذهاب إلى بلاد خارو مع الفرعون، وما من أحد في هذه المدينة يمكن أن يقوم بهذا عداك، فلاحظ أنه كاتب دار الحياة وما من شيء تسأل عنه لن تجد له الجواب الملائم"2. ولعلهم قصدوا بذلك أسئلة كهنة سوريا ومحاورتاتهم له. وإن لم يسلم بادي إيسة في الوقت نفسه من كيد بعض زملائه له. وظلت مصر على الرغم من سياستها الشمالية السلمية تستقبل اللائذين بها من أهل الشام ومن اليهود الفارين من وجه البابليين. وإذا كان ثمة جديد في هذا العهد فهو قيام مشكلات في الجنوب استدعت إيفاد حملة اشترك فيها مع المصريين مرتزقة من الإغريق والكيريين ومن الصحراء الغربية وربما من اليهود المتمصرين أيضًا. وسجل كاتب أو ضابط إغريقي على أحد تماثيل رمسيس الثاني في معبد أبي سنبل ما يقول: "بعد أن وصل الملك "بسماتيك" إلى إلفنتيني كتب هذه العبارات من أبحروا مع بسماتيكوس بن ثيوكلوس، ووصلوا إلى ما بعد كيوس وإلى الحد الذي سمح النهر به، وكان أصحاب اللسان الأجنبي تحت قيادة بوتاسيمتو، بينما قاد المصريين أمازيس"3 ويحتمل باوغ الحملة حدود نباتا ثم عودتها إلى مصر بخيرات كثيرة سمحت لفرعونها بأن يغدق الإنعامات على أعضائها والكثير من المنشآت الدينية. وكان قائد الفرقة الأجنبية مصريًّا أو متمصرًا يدعى بادي سماتاوي وهو الذي حور كاتب النص الإغريقي اسمه إلى بوتاسيمتو4. وتحولت سياسة مصر إلى ممارسة القوة في الشمال في عهد واح إب رع "حعع إب رع" الذي اشتهر عند الإغريق باسم أبريس واعتقد الأستاذ فلندرز بترى أنه عثر على جزء من قصره في منف. وكان سر تغيرها أمران، وهما: رغبة مصر في الاستفادة من إمكانيات قوتها البحرية النامية في مراقبة مواني الشام لتعطيل مصالح البابليين فيها وحتى لا يستغلوها ضدها، أو على الأقل لتأمين تجارتها التي تأثرت بامتداد النفوذ البابلي، ثم عودة البابليين إلى التوسع الحربي في فلسطين وحصارهم لثورة أورشليم في عام 588ق. م. ولكن خان الحظ مصر في مشروعاتها، فاصطدمت مصالحها بمصالح الميناءين صور وصيدا وحدثت اشتباكات

_ 1 Herodotus, Iv, 42; De Meulenaere, Op. Cit., 50-52. 2 Ryland Papyri Ix, 14, 19 F. 3 Sauneron Et Yoyotte, “La Campagne Nubienne De Psammetique Ii”, Bifao. 1952, 157, F.; Text: Publications Of The Centre Of Documentation, D 9, J G, Xviii. 4 Alan Rowe, “New Light On Objects Belonging To The Generals Potasimto And Amasis In The Egyptian Museum”, 157 F.

بهما واستولت على صيدا1، كما تدخلت لمصلحة أورشليم ولكنها لم تلق منها جزاء ولا شكورًا. فقد شجعت التحركات المصرية مدن فلسطين على الثورة ضد النفوذ البابلي، مما أدى بجيوش نبوخذ نصر إلى مهاجمتها ومحاصرة أورشليم للمرة الثانية، وهنا ساعدها أبريس المصري على مقاومة الحصار في عام 587ق. م انقسم أهلها حينذاك فريقين: فريقًا تزعمه صدقيا وحمد لمصر معونتها وتكلم باسمه النبيء حننيا فدعا إلى كسر لنير البابلي باسم الرب، وفريقًا آخر تزعمه إرميا وأخذ يتنبأ بأن ملك مصر سوف يعود إلى بلده وأن البابليين سوف يستولون عن أورشليم ويحرقونها وأنه يجب وضع أعناق الأمة تحت نير ملك بابل بأمر الرب أيضًا2. وهكذا كان شأن من يدعون النبوة من بني إسرائيل، إلا من عصم!. وتحقق تشاؤم إرميا، ودمر البابليون أورشليم في عام 586ق. م. وشاءت الأقدار أن يأسروا صدقيا صديق مصر وأتباعه وعينوا جداليا مكانه، بينما لاذ عدوها إرميا خصيم مصر برحابها بعد أن ضيق البابليون عليه وعلى قومه، ثم لم يحمد لها صنيعها، ولم يشكر لملكها أن قبل بعض اليهود مرتزقة في جيشه، وإنما واصل نعيبه قائلًا "هكذا قال الرب، لسوف أوقع الفرعون هوفرا بين يدي أعدائه الذين يطلبون حياته"3. وترك نبوخذ نصر أورشليم ودق الحصار على أسوار صور، فصمدت له ثلاثة عشر عامًا، وعاونها المصريون من البحر "راجع تاريخ العراق"، مما أثار حفيظته على مصر وجعله يصمم على الانتقام المباشر منها. وقد تحدثت نصوصه عن حملة أرسلها إلى حدودها الشمالية الشرقية "في عام 568 أو 567"4، ولا ندري هل حدثت الحملة فعلًا وفشلت، أم لم تحدث إطلاقًا. وكان أمام الفرعون واح إب رع "أبريس" من المشاكل الأخرى ما أثقل عليه بعد أن اتجه بفضيلة النجدة هذه المرة إلى الغرب، فعادت عليه بأذى لا يقل عن الأذى الذي أصابه من الشرق، فقد نشأ نزاع مرير بين القبائل الليبية الممتدة حتى تونس الحالية وبين جماعات من الدوريين الإغريق استعمروا برقة وما حولها استعمارًا تجاريًّا ما لبث حتى تحول إلى استعمار سياسي أصبحوا به سادة البلد واتخذوا مدينة Cyrene أو قرنية عاصمة لهم، وشيئًا فشيئًا ازدادت أعدادهم بمهاجرين جدد، وازداد ضدهم في الوقت نفسه ضيق الليبيين بهم لمنافستهم إياهم في أرزاقهم وأرضهم وتعاليهم عليهم، وطلب هؤلاء الأخارى عون مصر فأعانتهم عسكريًّا ولكن جيشها وقع في كمين ولم يعد منه غير القليل، فثار العائدون مع المواطنين ضد فرعونهم واح إب رع في مصر واتهموا بأنه دبر هذه الحملة ليتخلص من المحاربين المصريين في الجيش حتى يزداد تسلطًا على مصر، وأنه أسرف في احتضان الإغريق على حسابهم5، وكان لكل من الاتهامين نصيب من الصحة فيما يبدو. وقد أزاد التذمر ضده ضيق الكهنة في عهده من إسرافه في منح مناصب المعابد لكبار موظفيه المدنيين6.

_ 1 Herodotus, Ii, 161. 2 إرميا 28: 1، 37: 1 - 5. 3 الملوك الثاني 25: 25 - 26، إرميا 44: 3. 4 Langdon, Die Newbabylonischen Konigsinschriften, 207. 5 Herodotus, Ii, 161, 169; Iv, 159. 6 J. Reymond, Asae, 1957, 251 F.

وندب واح إب رع قائد جيشه "المصري" أحمس للتفاوض مع الثوار، ولكنهم اجتذبوه إلى صفوفهم وعهدوا إليه بزعامتهم فهاجم بهم الفرعون وأنصاره وأسره ويبدو أنه أجبره على إشراكه في الحكم معه. ثم تجدد القتال بينهما وقتل واح إب رع على أيدي الثوار أو اغتيل بأيدي أعوانه1. وأصحبت حزازات الإغريق مع المصريين مشكلة عويصة، ردها هيرودوت إلى اختلاف العقائد بين الطرفين وروى أنه بلغ من أمرها أن المصريين كانوا يأنفون "أحيانًا" من تقبيل إغريقي أو استعمال أدواته الخاصة، كما ردها معه بعض المحدثين إلى اختلاف حضارتي الفريقين، وإلى اختلاف نظره كل منهما إلى الأخذ بأمور النظافة المادية والمعنوية "وقد أبدى هيرودوت عجبه من إسراف المتدينين المصريين في نظافتهم"2 ولكل هذا صحته، ولكن دون أن نستبعد العامل القومي في القضية وتقدير مرارة المصريين من انتقال مقاليد الحرب والاقتصاد من بلدهم إلى أيدي دخلاء يسهل تقبلهم على الرحب والسعة إن كانوا قلة أو رضوا بالقليل، ولكن الإغريق غدوا كثرة ينعمون بالكثير، ويتبادلون النفع والانتفاع مع الحكام ولا سبيل إلى استهلاك تقاليدهم الإغريقية في المحيط المصري بسهولة, وأصبح على أحمس المصري، أو أمازيس كما اشتهر عند الإغريق أن يحل المشكلة بعد أن ولته مصر عرضها باسم خنم إب رع -أحمس- سانيت، وكان أميل إلى السلم والسياسة مرحًا ذكيًّا ساخرًا محبًّا للشراب يميل إلى الدعابة الشعبية3، على عادة أغلب المصريين. وفي هذه الظروف القلقة وخلال الحرب الأهلية انتهز نبوخذ نصر البابلي فرصته فهددت جيوشه الحدود المصرية ثم ارتدت عنها ربما بشيء من الهدايا والمصالحة على عدم الاعتداء4. ولأمر ما جامل أحمس الإغريق كما راعى مصالح المواطنين المصريين، ولعله أراد ألا يخسر صداقة العالم الإغريقي لو اشتد على الإغريق في بلده في عهد ظهرت فيه إرهاصات بأخطار جديدة من جانب الفرس، فأرضى الشعور الوطني أولًا بأن أمر بسحب القوات الإغريقية والمتأغرقة من حاميات الحدود وإسكانهم في أحياء خاصة من مدينة منف التي عاد إليها دور العاصمة الأولى، ليظلوا تحت رقابة بلاطه وليكونوا قلة في مجموع منف الكبير. كما عمل على إبعاد التجار الإغريق عن مناطق الاحتكاك المباشر بالمصريين، ومنعهم التجول في الأسواق المحلية ولكنه لم يحرمهم من حرية العمل جملة، وإنما سمح لهم بتركيز نشاطهم في بلدة نقراطيس، وهي بلدة تقع على الجانب الغربي من الفرع الكانوبي في نطاق الإقليم الصاوي، وتقوم على أنقاضها، نقرش وكوم جعيف قرب محافظة الإسكندرية أي في نطاق إقطاعيات الأسرة الحاكمة وتحت إشرافها. وكان الإغريق على معرفة بها منذ أن سمح بسماتيك الثاني لفريق من مهاجري ميليتوس بالإقامة فيها، فوسعوها وزادوا عمرانها ونظموا إدراتها المحلية على النسق الإغريقي، وأقاموا فيها معباد صغيرة لأبوللو وأفروديت

_ 1 Daressy, Rec. Trav., Xxii, 1 F.; Breasted, Op. Cit., Iv, 1001 F. 2 Herodotus, Ii, 41; Yoyotte, Histoire Universelle, 245 F.; M.F. Gyles, Op. Cit., 33-34. 3 Herodotus, Ii, 169; L. Spence, Myths And Legends Of Ancient Egypt, 1949, 196. 4 Weidomann, “Nebuchadnezar Und Aegyptenns”, Aez. Xvi, 87 F.; Kienitz, Op. Cit., 30; Gyies, Op. Cit., 35.

وغيرها، وجمعوا بين الأسلوبين المصري والإغريقي فصناعة الجعلان والفخار والتماثيل الصغير التي صدروها إلى مواني البحر المتوسط وجزره لا سيما جنوب إيطاليا وسردينيا. وكان السفن الإغريقية والمصرية تصلها بسهولة، وبهذا كانت سلفًا بعيدًا لميناء الإسكندرية من حيث الأداء1. واستمر أحمس في توثيق علاقات الود بالإغريق والمتأغرقين الخارجيين، وعقد حلفًا مع قرنيه، وذكر هيرودوت أنه تزوج منها كما تزوج من كريتية، وهادى المعابد الإغريقية. وترتب على ذلك أن اعتبره المؤرخون الإغريق أكثر الملوك الصاويين حنكة وحصافة وخلعوا عليه لقب Phihellene وأشادوا بنجاحه في تحقيق السلم الداخلي بين المصريين وبين الإغريق في ظروف عسيرة ودون التضحية بمصالح اقتصادية أو عسكرية. ولسنا ندري حقيقة مشاعر المصريين إزاء إجراءاته، ولكن يبدو أنه ظل يتمتع بينهم بشعبية كبيرة. وقد نسب هيرودوت إليه أنه سن قانونًا يقضي على كل مصري بأن يتقدم سنويًّا لحاكم منطقته ليبين له مصادر كسبه ويثبت له حلالها من حرامها، وأن من أهمل ذلك أو عجز عن إثبات موارد رزقه حق عليه الإعدام، وأضاف أن المشرع الإغريقي سولون اقتبس هذا القانون وطبقه في أثينا2. وقد يكون غرض أحمس من قانونه، فرض ضريبة على الدخل، أو الحد من البطالة والتواكل والكسب غير المشروع بين الناس. وعلى أية حال فإن روح السلام وحب الأمن الداخلي عند أحمس كلاهما لم يخبت طموحه، ولم تمنعه مجاملة الإغريق من منافستهم في البحر المتوسط، فاستولى أسطوله على جزيرة قبرس3، ودل بذلك على قوة بحرية سبقت في نشاطها أساطيل البطالمة. وتعدت سياسة العهد الحدود القريبة إلى ما هو أوسع، فعقدت مصر سلسلة من المعاهدات إتقاء خطر الفرس المرتقب بعد أن ارتفع شأوهم في هضاب إيران "راجع تاريخ العراق". وتحالف أحمس مع كرويسوس ملك ليديا العظيم وبوليكراتيس طاغية ساموس، وثمة فرض باحتمال امتداد الحلف إلى إسبارطه وبابل أيضًا4. وبدأ قورش ملك الفرس بليديا، وثمة رواية تقول إن مصر أنجدت حليفتها بعشرة آلاف قاتلوا في صفوف متراصة وتترسوا بتروس كبيرة تستر الجسم كله. وانهار كرويسوس ودولته سريعًا، وأضافت الرواية أنه عز على قورش أن يتغلب على المحاربين المصريين بسهولة، فقدر شجاعتهم وأقطع من رغب في البقاء منهم مدينتين على ساحل آسيا الصغرى، وسواء صدقت هذه الروياة أم بالغت، فهي لا تخلو من دلالة على تقدير كفاية المصريين في نظر معاصريهم على الرغم مما شهدته مصر من نكبات في عصورها المتأخرة. وعقب قورش ببابل فابتلعها "راجع تاريخ العراق"، وأثرت ساموس الخضوع، وتبعها الفينيقيون،

_ 1 Petrie, Naucratis, I-Ii; Prinz, Funde Aus Naukratis; Milne, Jea, 1939, 177 F. 2 Herodotus, Ii, 177. وقد لا تخلو هذه النسبة من شك، على الرغم مما فيها من تمجيد المشرع المصري، إذا قدرنا أن تشريعات ولون التي صدرت عام 594 أو عام 590ق. م قد سبقت تولية أحمس في عام 570ق. م. 3 Herodotus,Ii, 182; Diodorus, 68. ونسب ديودور بداية الحملات على قبرص إلى عهد أبريس. 4 Herodotus, I, 77; Ii, 69-70; Iii, 39 F.

وبقيت مصر وحدها. وقبل أن يتجه الغول الفارسي إليها، توفي أحمس في عام 526 بعد أن حكم 44 عامًا، ففقدت مصر به ركنًا له كفايته وله شعبيته. وقبل أن نصل بها إلى نهاية المطاف، نستعرض طرفًا من خصائص آثار العصر الصاوي وكتاباته وفنونه. توزعت آثار هذا العصر في شمال الوادي وجنوبه ولكن تركز أهمها في رحاب ثالث مدن كبيرة وهي سايس ومنف وطيبة. وكانت في الوجه البحري أوفر منها في الوجه القبلي، لولا أن عفت على أغلبها فيه ظروفه الطبيعية والسياسية "من حيث رطوبة أرضه وكثرة تعرضه لمشاكل الغزوات، إلخ" .. وقد دفن بعض ملوك العصر في جبانة سايس، حتى واح إب رع "أبريس" الذي ذهب ضحية خطئه لم يأب شعبه أن يكرم مثواه بعد قتله. واتخذ كثير من كبار الشخصيات، من أطباء وقادة وقباطنة، مقابرهم في سقارة حول أهرام الأسرتين الثالثة والخامس وبجوار ما ظنوه قبر الحكيم إيمحوتب وعلى مقربة من مدافن أبيس "السيرابيوم" المقدسة. واتخذ بعضهم الآخر مقابر في طيبة قرب الدير البحري وعلى مقربة من مقابر عصر الأسرة الخامسة والعشرين، وكان أغلبهم ممن عملوا في خدمة العابدات الإلهيات أو الزوجات المقدسات. وتأثرت أساليب هذه المباني وتلك برد الفعل القومي الذي وضح بعد الغزو الآشوري وفرحة الخلاص منه، والذي دعا الاعتزاز بالأصول ونادى باحتذاء أساليبها عسى أن يترتب عليها مجد يشبه مجدها القديم. وكان نصيب الفنانين من الاستجابة لهذه الدعوة أن قلدوا مناظر الدولة القديمة المنفية في لوحات مقابرهم الجديدة، من حيث هيئات الملابس والزينة، وتصوير صيد المناقع والأحراج، وتصوير مواكب حاملات الهدايا والقرابين وممثلي الضياع وممثلاتها1. وجاراهم الكتبة، أو سبقوهم، وتخيروا فقرات كاملة من متون أهرام الدولة القديمة فسجلوها في مقابر الخاصة، وحذوا في كتابة بعض نصوص النصب حذو أسلوب الدولة القديمة وهجاء كلماتها، واستحبوا كتابة بعض هذه الكلمات بحروف هجائية مفرده صريحة2. وإن لم يمنعهم هذا التمسك بالقديم من المضي في استخدام الخط الديموطي المحدث في الكتابة على البردي وتسجيل شئون حياتهم العادية. وسلك المثالون من ناحيتهم سبيلين: سبيلًا قلدوا به أساليب تماثيل الدولة القديمة المنفية وملابسها وأوضاع أصحابها الواقفين والجالسين والمتربعين على هيئة الكتبة، وخلعوا فيه على تماثيل ملوكهم مظاهر القداسة القديمة ومثلوهم بنظرات متسامية لا محدودة تنتقل بهم من عالم الناس إلى عالم قدسي عالٍ بعيد3. وسبيلًا آخر

_ 1 Daressy, Rec. Tr., Xvii, 17 F.; Benedite, Mon. Piot, Xxv, I F.; Wreszinsky, Atlos, 132 F.; Schell, Mem. Miss. Arch., V, 624 F.; Petrie, Memphis, Ii, Pls. 2-9; Von Bissing, Archiv F. Orient., Ix, 35 F.; Etc. 2 Gunn, Asae, 1927, 122 F.; Posener, Op. Cit., 1934, 142; Kuentz, Bifao, 28, 103 F. 3 Cairo, 528, 533, 835, 925, 36908, 37341; Bosse, Die Menschliche Figur, 1936, Nr. 138, 214, Also 217-218.

استحب المثالون فيه الأسلوب الواقعي الذي اشتهرت طيبة به، ثم زادوا في إكساب بعض تماثيلهم طابع التأثير والواقعية بأن تخلوا عن تمثيل شعورها المستعارة لأصحابها واكتفوا بالرءوس الحليقة، مما سمح لهم بأن يظهروا ضيق الرءوس واتساعها واستطالتها حسب ملامح أصحابها، واعتادوا على أن يصقلوا وجوهها صقلًا كاملًا كلما صنعوها من أحجار صلبة ذات حبيبات دقيقة1.

_ 1 Cairo, 898, Berlin, 12500; Florenz, 1525; Bosee, Op. Cit., 205-206.

رابعا: النكسة مع الغزو الفارسي والأسرة السابعة والعشرين

رابعًا: النكسة مع الغزو الفارسي والأسرة السابعة والعشرين 525 - 404ق. م تحددت مقادير الشرق الأوسط بميلاد الدولة الفارسية الهخامنشية في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وهي دولة أراد زعماؤها أن يثبتوا لمواطنيهم بعقليتهم القبلية الجبلية أنهم يفوقون أسلافهم ذوي الميراث الحضاري الطويل من عيلاميين وماذيين، قوة واقتدارًا في الداخل وفي الخارج، وصمموا على بسط نفوذ دولتهم في الاتجاهات الأربعة، مستغلين فتوتهم وشيخوخة جيرانهم، فخرجوا بحملات مسعورة ولكنها قوية منظمة تحت قيادة ملكهم قورش، يدقون الأرض دقًّا عنيفًا حتى بلغوا آسيا الصغرى واكتسحوا دولة ليديا التي كانت شيئًا عظيمًا في نظر إغريق الشرق والغرب معًا، ثم عادوا فطووا بابل ذات التراث المجيد "راجع تاريخ العراق"، وأدركوا من ثم سهولة إخضاع العالم المحيط بهم والذي مزقته المنافسات والحروب المتصلة، لحكومة عالمية واحدة، هي حكومتهم بطبيعة الحال. ومات ملكهم قورش عام 529ق. م قبل أن يحقق حلمه بفتح مصر التي كانت هي وبلاد الإغريق والفرس الدعائم الدولية الثلاثة حينذاك. وتولى تحقيق هذا الأمل ولده قمبيز، وعندما بدأ مشروعه لغزو مصر من حدودها الشمالية الشرقية عاونته الظروف فاستسلمت له بلاد الشام بدويلاتها الكثيرة. ووضعت فينيقيا أسطولها الكبير تحت طاعته، وتخلت قبرص عن التعاون مع مصر، وفقدت مصر ملكها المحنك أحمس وخلفه على عرشها ملك سيئ الطالع وهو بسماتيك الثالث "عنخ كانرع"، ثم كان من كبار قادة جيشها قائد من المرتزقة الإغريق يدعى فانيس خانها وهرب إلى قمبيز وقاد له جيشه عبر مسالك الصحراء الصعبة المؤدية إليها1، كما كان فيها أعداد من اليهود الذين اعتبروا أباه قورش مسيحهم المنتظر بعد أن فك إسار اليهود المنفيين في بابل وما حولها وأعادهم إلى أورشليم وسمح لهم بتعميرها من جديد، ولهذا كانوا على استعداد لأن يذللوا الصعاب في سبيله. ومع هذه الظروف قاومت مصر جهد الاستطاعة وخاضت بقيادة ملكها التعس بسماتيك معركة عنيفة ضد الفرس في الفرما "بلوزيوم" على الحدود الشمالية الشرقية في عام 525ق. م، ورأى المؤرخ هيرودوت آثار المعركة بعد نحو ثلاثة أرباع القرن من وقوعها فشهد بضراوة ما حدث فيها، وسجل ملاحظة طريفة ذكر فيها إنه رأى جماجم الفرس من ناحية وجماجم المصريين في ناحية عند مصب فرع بلوزيوم، ولاحظ أن جمجمة الفارسي يمكن أن تصدعها بحصاة "على الرغم مما هو معروف عن ضخامة الرأس الآرية"، بينما لا تنكسر جمجمة المصري إلا بضربة حجر. ولم يثبت الجيش المصري طويلًا أمام الطوفان الفارسي فتراجع إلى العاصمة منف، ولكنها سقطت هي الأخرى وأسر ملكها بسماتيك الثالث وقد جامله قمبيز في بداية أمره وأطلق سراحه ولكن بسماتيك أبت عليه وطنيته إلا أن يستأنف المقاومة، ولما انكشف أمره انتحر2. وخضعت مصر للفرس

_ 1 Herodotus, Iii, 4. 2 Ibid. Iii, 13-15.

كما خضعت غيرها من أمم الشرق، وإن لم يعفها هذا من وزر كبير بعد أن فتحت أبوابها للمرتزقة من هنا وهناك وجعلتهم دعامة جيشها. وبلغ من تقدير قمبيز لضخامة البلد الذي سيطر عليه أن أقام في مصر أكثر من ثلاثة سنوات صحبها في بدايتها ما يتأتى عادة من الغزاة، من تخريب ونهب ومصادرات وغرامات، ولم تسلم المعابد من كل هذا فتخرب أغلبها وأنقصت مخصصاتها إلى النصف وعسكر فيها جنود الاحتلال من كل ملة ونحلة1. ثم هدأت شرة الغزاة وتفتحت أمام قمبيز في مصر آمال جديدة ناحية الغرب والجنوب، وخطط لثلاثة مشروعات فشلت كلها، فقد مهد لغزو قرطاجة "تونس" الفينيقية الأصل ذات الشهرة التجارية وتعلل بأن استقل هداياها وهدايا قرنيه إليه، وأراد أن يستعين بالأسطول الفينيقي على فتحها، ولكنه فشل ولعله لم يجد الإخلاص والاستجابة الفعالة من أبناء عمومتها الفينيقيين. وأرسل حملة إلى سيوة أحد مراكز آمون الكبرى ووحيه ذي الشهرة الواسعة، ليتم بها فتح الواحات وربما ليفتح بها طريقًا إلى ما بعدها عن طريق البر، فابتلعت الغرود والعواصف الرملية الكثيفة حملته. وقاد حملة إلى نباتا طمعًا في ذهب النوبة وليفتح بها طريقًا إلى السودان ولكنها فشلت من قلة الزاد وصعوبة الطريق ومقاومة أهل نباتا2. وكان من الطبيعي أن يرى المصريون هذا الفشل المثلث انتقامًا من السماء، وقد أحاطوه بأساطير وجدت آذانًا صاغية من الإغريق أعداء الفرس، فروى هيرودوت أن قمبيز أصابته لوثة من جزاء فشله وأنه عندما رجع من حملة النوبة إلى منف وجد أهلها يحتفلون بمولد أبيس جديد فظنها فرحة الشماتة به وقتل كبارهم وطعن أبيس بخنجره وأمر بإخراج جثة أمازيس الصاوي حبيب قومه, واستنزل اللعنات عليها ثم حرقها. وقيل إن ما أثار حفيظته على واحدة سيوة هو أن وحي آمون فيها كان قد تنبأ بفشله سلفًا. ثم روى هيرودوت أن الرجل جن لا سيما بعد أن بلغه نبأ مؤامرة فارسية للاستيلاء على عرشه، فسارع بالعودة إلى بلده، وهنا كان لا يزال للانتقام الإلهي بقية، فحدث خلال سفره في سوريا أن وخز نفسه بسلاحه في فخذه في موضع مماثل للموضع الذي طعن فيه أبيس المقدس، فتسمم الجرح وأودى به3. وقد تكون أمثال هذه الأساطير التي تتمسح في القدر وفي انتقام الآلهة، هي حيلة الشعوب المغلوبة على أمرها، ولكن الخسارة الكبرى التي خسرها قمبيز فعلًا كانت انتقال عرشه من فرعه إلى فرع آخر من أسرته بعد معارك دامية انتهت بتولي دار الأول في عام 521ق. م. وكان دارا "دارايا فاهوش" ذا شخصية حربية وإدراية وتشريعية دعت أتباعه وأعداءه معًا إلى تلقيبه بلقب "الملك العظيم". وقد أصاب مصر من تنظيماته أنه أدرك أن أمورها لن تستقر إلا في ظل قوانينها الخاصة

_ 1 Posener, La Premiere Domination Perce En Egypte, 1936; Cowley, Aramaic Papyri Of The Fifth Century B.C., No. 30 1. 14. 2 Herodotus, Iii, 17, 25, 26; Wainwright,K Jea, 1952, 75 F. 3 Herodotus, Iii, 16, 27-29 167; Plutarch, De Iside, 44; Posener, Op. Cit., 173 F. ويرى فيدمان ودريوتون وبوزنر أن كل ما يعرف عن موقف قمبيز إزاء أبيس هو تأخير دفنه نحو خمسة عشر شهرًا، لأسباب غير معروفة، وهي فترة أطول بكثير مما تتطلبه عملية تحنيطه.

فألغى تنظيمات سلفه المتعسف، ودعا إلى الرجوع إلى ما كانت الأمور عليه في ظل التشريع الصوي، وأمر وإليه باختيار لجنة من حكماء البلاد كهنة وكتبة وعسكريين، لجمع التشريعات المصرية المعمول بها حتى العام الرابع والأربعين من حكم أمازيس وإعادة تدوينها بكل من الكتابتين المصرية والمسمارية، وهو عمل خدر الناس به وشغل به أصحابه نحو أربع أو خمس سنوات1، وقد كرر مثله في ولايات أخرى مما يدل على سياسة مرسومة. وحاول إنعاش الأوضاع الاقتصادية لمصلحة حكمه بطبيعة الحال، فأمر بإعادة شق ما طمسه الطمي والرمال من قناة نيكاو المؤدية إلى البحر الأحمر، مع نقش النصب التي أشادت بهذا العمل بكل من الهيروغليفية والمسمارية. وكان من دوافع هذا المشروع تيسير وصول سفن الجزى إلى فارس عن طريق البحر الأحمر والمحيط الهندي ثم الخليج الفارسي "أو العربي"، وكانت تبلغ أربعًا وعشرين سفينة سنويًّا، والتقليل من النشاط التجاري الملاحي المتجه إلى إغريق نقراطيس في غرب الدلتا، ثم اعتبار القناة مرحلة من مراحل تنشيط التجارة البحرية المتبادلة مع الهند2. وليس من المستبعد أنه تبع الفرس في دخولهم إلى مصر واستقرارهم فيها أعداد أكثر من تجار البلاد الخاضعة لسلطتهم. واعتبر الفرس مصر مجرد ولاية، ولكنها كانت في نظرهم أولى الولايات في غناها، أو الثانية على أقل تقدير، وكانوا يحملونها ما يبلغ ألف تالنت من الفضة "وقدر التالنت بستة وخمسين رطلًا" بين جزى ونفقات احتلال، ويستغلون من معادنها ما يعادل هذا المقدار3. وعهدوا بأمرها إلى والٍ فارسي "خشاترا بافان وهو لقب حرف في اليونانية إلى ساتراب" ولكن هذا الوالي غالبًا ما كان يختار من أمراء الفرس؛ وقد يكون أخًا للملك الفارسي نفسه تقديرًا لأهمية منصبه. وكان يعوانه عدد من كبار الموظفين والجباة الفرس والبابليين والسوريين واليهود، يعملون لصالحه، إلى جانب قلة من كبار المصريين ترك بعضهم عدة مقابر في سقارة ذات آبار عميقة ونقوش تشبه النقوش الصاوية. ودخلت العملة مصر مع الفرس، ونسب إلى أول ولاتهم على مصر أنه سك عملة من الفضة الخالصة تدليلًا على ثرائه، وظهرت عملة ذهبية في عهد دارا4. وكان من الطبيعي أن يجعل الولاة الفرس لكتابتهم المسمارية نصيبًا في تدوين أوامرهم إلى جانب الكتابة المصرية، واستعملوا معهما اللغة الأرامية مع أتباعهم الساميين واليهود5. أما الدواوين المحلية فقد توسع كتبتها المصريون في استخدام الخط الديموطي المختصر وكعادة مصر، والبلاد العريقة المتحضرة، تقهر قاهريها بحضارتها، سمى بعض الفرس المقيمين في مصر أبناءهم بأسماء مصرية واتجهوا بدعواتهم إلى الأرباب المصريين، وأكمل ملوكهم بعض المعابد التي بدأها الصاويون، لا سيما في الدلتا والواحة الخارجة.

_ 1 Diodomis, I, 95; W. Spiegelberg, Die Sogenannte Demotische Chronik 1914, 30 F.; Ed. Meyer, Sitz. Ak. Der Wissenschaften, 1915, 287 F. 2 Herodotus, Ii, 158; Iv, 39; Pliny, Vi, 26; Posener, Op. Cit., 48 F., 108 F.; Chr. D’egypte, 1938, 259 F.; Kent, Jnes, 1942, 415 F. 3 Herodotus, Iii, 89-90; Ii, 139; Olmstead, History Of Persia, 298; Gyles, Op. Cit., 70. 4 Herodotus, Iv, 166. 5 Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 369-370.

ولم يخل الأمر من منتفعين من أهل البلد أنفسهم ظنوا حسن السياسة في التسليم بالأمر الواقع ومحاولة خبت شرة الغزاة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه منهم بالتقية والمدارة. وقد نخالف هؤلاء في مذهبهم، ولكن ليس التاريخ إلا أن يثبت الأمر الواقع من تصرفاتهم. وكان منهم رجل من سايس يدعى وجاحور رسنة، روى في نصوصه، بحق أو بغير حق، أنه جمع بين عدد مختلف من التخصصات فكان من المشرفين على الأسطول في نهاية العصر الصاوي، ثم ظهر عالمًا بالدين والتقاليد خبيرًا بالطب مشجعًا للثقافات العالية راعيًا لإقليمه، في بداية العصر الفارسي. وروى أنه قابل قمبيز وأطلعه على ما أساء رجاله به إلى معابد سايس، ودعاه إلى تقوى أربابها، فاستجاب له وزار معبد الربة نيت فيها وركع أمامها، واستحق بذلك أن يصوغ له ديباجة ألقابه وفق التقاليد المصرية. ثم كان وجاحور رسنة أكثر نجاحًا، من وجهة نظره، في عهد دارا الذي استصحبه معه إلى فارس بعد زيارته لمصر، ثم أعاده منها بما رد على سايس اعتبارها وسمح له "بإصلاح قاعة دار الحياة "المتعلقة بالطب" بعد أن تخربت". وكانت دور الحياة أشبه بمعاهد للثقافات العالية في مصر القديمة. وأضاف أنه زود هذه الدار بكل دارسيها من علية القوم دون أن يكون بينهم ابن وضيع، وجعلهم تحت إشراف كل ذي معرفة حتى يتعلموا منهم فنونهم جميعها، ثم زودهم بكل نافع لهم وبكل مهماتهم التي كانت مدونة لهم، وفق ما كانوا عليه من قبل1. وعلى أية حال، فإذا كان وقع صدمة الغزو عنيفًا. وكانت إصلاحات دارا قد خدرت المصريين بحيث اجتذبت نفرًا منهم إلى طاعته، إلا أن نار الوطنية المغلوبة على أمرها لم تخب تمامًا تحت الرماد، فهبت خلال العصر الفارسي أربع ثورات على أقل تقدير، ارتبط أغلبها بمصائر الفرس في نزاعهم الطويل مع الإغريق، وذلك في عالم أصبحت موازين القوة والاقتصاد فيه في أيدي الفرس من ناحية والإغريق من ناحية أخرى، فبعد هزيمة الفرس في مارثون أمام الأثينين في عام 490ق. م، هبت ثورة في مصر حوالي عام 488 أو 486ق. م، وكان وقعها شديدًا على دارا الذي ظن أن الشرق طوع يمينه. ومات دارا واستمرت الثورة بضع سنوات حتى أخمدها خلفه العنيف أخشويرش "إكسركسيس" واشتط في الانتقام والاستغلال، فهجر عددًا كبيرًا من أهل الحرف إلى فارس "كما فعل الآشوريون" وفرض على مصر إعداد مائتي سفينة استغلها في قتاله ضد الإغريق، وشدد الحاميات هنا وهناك واستعان فيها باليهود، ثم عين أخاه واليًا على مصر حتى ينفذ سياسته فيها2. ولكن منذ ذلك الحين اهتزت السيطرة الفارسية ولم تكتمل حلقاتها مرة أخرى، فعندما حم القضاء في هذا الملك وخلفه أخوه أرتاخشاشا الأول "أرتا كسركسيس" هبت ثورة أعنف من سابقتها في عام 460ق. م، تزعمها أمير من الدلتا يدعى إرتن حر إرو بن بسماتيك "وهو إناروس في الرويات الإغريقية"، وجعل مركز مقاومته في مريوط بعيدًا بعض الشيء عن حاميات الفرس.

_ 1 Schaefer, Zaes, 37; Kees, Zaes, 73, 87, F.; Gardiner, Jea, 1938, 170-171; Pesener, La Premiere Domination Perse, 1 F. عبد العزيز صالح: التربية والتعليم في مصر القديمة - القاهرة 1966 - الفصل التاسع. 2 Herodotus, I, 35; Vii, 7, 236; Cameron, Jnes, 1958, 161 F. And See, Cowley, Op. Cit.; G.R. Driver, Aramaic Documents Of The Fifth Century, 1957.

وتغلب الثوار على جزء من الجيش الفارسي وقتلوا قائده والي مصر وشقيق ملك الفرس، وأجبروا بقية وحداته على التراجع إلى منف. واستعدادًا لمرحلة تالية، وخوفًا من أن يستغل الفرس سيطرتهم على منف في حرمان الثوار من معونات الصعيد، خرج زعيم الثورة بالمقاومة عن نطاقها الإقليمي، فحالف أثنيا في عهد بريكليس، ووجدت أثينا في هذا الحلف فرصة لزيادة وارداتها من الغلال المصري، ولمضايقة أعدائها الفرس الذين كانوا ينافسونها في قبرس، فأمدت الثوار بأسطول روى المؤرخون الإغريق أنه بلغ ما بين 200 و300 سفينة من ذوات الثلاث طبقات من المجاذيف، وليس من ضرورة للأخذ بحرفية هذا العدد الكبير من السفن، ويكفي القول بأنه كان أسطولًا كبيرًا. ونجح الأحلاف في استرجاع أغلب استحكامات منف من أيدي الفرس. وهنا جند الملك الفارسي جانبًا كبيرًا من إمكانيات دولته لخنق الثورة، ووجه لهذا الغرض جيشًا ضخمًا ذكر الإغريق أنه بلغ 300 ألف مقاتل "وهو عدد مبالغ فيه"، وأغرى إسبارطه عدوة أثينا اللدود بمقادير ... كبيرة من الفضة لكي تشغل أثنيا بالحرب وتصرفها عن مساعدة المصريين. وتم هذا كله وهزم الفرس الأحلاف واسروا زعيم الثورة ثم قتلوه في عاصمتهم، وحصروا الإغريق في جزيرة بالنيل منذ عام 456 حتى عام 454ق. م. وتحت وطأة الحصار، ونتيجة لتأخر المدد الأثيني، ولاستعانة الفرس برجال البرح الفينيقيين في تحطيمه، تهاوى بحاره الإغريق واستطاع بعضهم الفرار إلى برقة1. ولكن الثورة المصرية لم تمت، وتسلم رايتها أمير سايس، أمون حر "أو أمير يتايوس كما سماه بعض مؤرخي الإغريق" أكبر أعوان الزعيم المقتول، لبضع سنوات، وجرب حظه في التحالف مع أثينا، فوعدته بإرسال ستين سفينة. ولكن مشاكلها الخاصة جعلتها تسترجع أسطولها قبل أن يصل الشواطئ المصرية، ثم ما لبثت أن عقدت مع الفرس معاهدة كالياس في عام 449 - 448ق. م، وتناست خليفتها مصر2، مما أدى إلى إضعاف الثورة وإن لم يقض على بذورها. وجرب الفرس سياسة المسالمة، فعينوا ابني زعيمي الثورة في منصبي والديهما بالدلتا، ولكن هذا لم يؤد الغرض منه، فحاول أحدهما "وهو بسماتيك أو آمون حر الثاني؟ " استئناف النضال، وفاوض الأثينيين بعد صلحهم المؤقت مع إسبارطه عام 445ق. م، على أن يمدهم بما بين 30 و40 ألف مكيال من الغلال، في مقابل نجدة عسكرية، وذلك مما يعني أن مساعدات الإغريق كانت تشترى ويجند بها المرتزقة، كما تعني ضخامة كمية الغلال التي عرضها سعة الأراضي التي سيطر عليها. ويبدو أن الغلال وصلت أثينا ولكن نجدة أثينا لم تصل إلى مصر3.

_ 1 Herodotus, Ii, 41, 140, 165, Iii, 12-15; Vii, 7, 15; Thucydides, I, 104, 109, 110, 129; Diodorus, Xi, 71, 77; Kientiz, Op. Cit., 69. 2 Thucydides, I, 112; Plutarch, Cimon, 18; J.B. Bury, History Of Greece, 3rd Ed., 360. 3 Herodotus, Iii, 15; Plutarch, Pericles, 37.

خامسا: ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30

خامسا: ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30 مدخل ... خامسًا: ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30 "404 - 343ق. م." ماع الموقف لبعض الوقت فيم بين الفرس وبين المصريين منذ منتصف القرن الخامس ق. م، وزار مصر حينذاك أبو التاريخ هيرودوت وأشاد بمجدها، ومع أن مجدها ذاك لم يكن غير ظل باهت ضئيل لمجدها القديم، واعترف في الوقت نفسه بتعدد طوائفها ووجود الفوارق بين طبقاتها وانشغال الناس بالخرافات التي ألبست ثوب الدين واتصلت بحيوانات أربابه، مما لم تلجأ مصر إليه إلا في عهود ضعفها السياسي وقلقها النفسي. ولم يكن لمصر حينذاك أن تفكر في إعادة التعاون العسكري مع الإغريق ضد الفرس، بعد أن هادنت الدولتان الكبيرتان أثينا وإسبارطه الفرس، وانقلبت كل منهما على الأخرى تطحنها وتهد بنيانها "منذ عام 431ق. م". وظل الأمر مائعًا بالنسبة للقوميين المصريين حتى دخلت ثورتهم مرحلتها الرابعة معتمدة على سواعد رجالها بزعامة آمون حر الثاني في حوالي عام 410ق. م، وامتد لهيبها إلى أغلب الأقاليم المصرية وتكللت بالنجاح بعد نحو ست سنوات "أو ثمان سنوات". وإن كنا لا ندري عن تفاصيلها إلا ما روى من أن الملك استعان بقوات حاكم كيليكيا الذي لجأ إليه بأسطوله وذخائره فرارًا من بطش الفرس، وأنها انتهت بخلوص حكم مصر لأهلها، وتحررها من ربقة الفرس1. ومن هنا بدأ المؤرخ مانيتون الأسرة الثامنة والعشرين وقصرها على ملك واحد وهو زعيم الثورة آمون حر "الثاني" الذي استعاد ألقاب الفراعنة حوالي عام 404ق. م وساعده على الاستقرار قليلًا وفاة دارا الثاني وانشغال ملك الفرس الجديد إكسركسيس الثاني بثورة أخيه قورش ضده ولكن آمون حر لم يستمر على العرش المستقل غير ست سنوات وشهور، أو نحوها، ومات حوالي عام 397ق. م، ولم يخلفه ولده. وبررت بردية مصرية ديموطية هذا المصير من وجهة النظر الدينية، بأنه كان قد تجاوز نصوص الشريعة، ولهذا عاقبه الأرباب بحرمان ولده من عرشه، ولم يشفع له عندهم نضاله في سبيل تحرير بلده. ولا ندري هل عنت بمخالفته للشريعة اعتداءه بصورة ما على حرمان الدين أو متعلقات المعابد، أم أنها عنت بذلك خطيئة أكبر وهي احتمال اتجاهه إلى مصانعة الملك الفارسي "أرتاكسر كسيس الثاني" عدو الأمس بعد أن تخلص من مشاكله الداخلية وفتك بأخيه المنافس له على العرش وبدأ يهدد الإغريق، وهو اتجاه. إن صح، كان في نظر آمون حر سياسة لا تضره بعد أن استمتع باستقلاله، بينما كان في نظر الوطنيين المتطرفين خيانة استحق من أجلها أن يحرم ولده من عرشه. وكان لكل من الجاليتين الكبيرتين النزيلتين في مصر، الإغريق واليهود، مصير مختلف وسط هذه الأحداث. أما الأغريق، فقد ترتب على تكرار محالفات الثوار المصريين للأثينيين، أن تفتحت أمام تجارهم الأسواق المحلية من جديد، وعوضتهم عما خسروه من منافسة قناة الدلتا إلى البحر الأحمر لتجارتهم في نقراطيس2. وأما اليهود الذين آوتهم مصر منذ اضطهاد الآشوريين لهم، وسمحت لهم بمزاولة نشاطهم التجاري وحرية العقيدة فيها، فقد قابلوا ذلك بأن أصبحو أعوانًا للفرس ضدها، وغدوا عنصرًا شائعًا في الحاميات الفارسية، لا سيما حامية إلفنتين موضوع الحديث التالي.

_ 1 Xenophon, Anabasis, I, 14, V, 73. 2 Cf. Mallet, Les Rapports Des Grecs Avec L’egypte, De La Conquete De Cambyse A Celle D’ Alexandre, 1922, 77, F.

الوثائق الآرمية في أسوان

الوثائق الآرمية في أسوان: عثر في جزيرة آبو، أي في جزيرة إلفنتين "أو إلفانتيني" في أسوان، على عدة وثائق آرامية أرجع أغلبها إلى أواسط القرن الخامس ق. م، ولقيت اهتمامًا واسعًا من الباحثين في الساميات ومن الباحثين اليهود بخاصة لترجمتها والتعقيب عليها1. وصورت هذه الوثائق جوانب من حياة عدة أقليات أجنبية ضمت آراميين ويهود وسوريين وفي بعض الأحيان إغريق وإيجيين، ثم بابليين وخوارزميين وماذيين وفرس، عاشوا أعدادًا محدودة في وسط العدد الأكبر من مواطني المنطقة المصريين. ولم تكن موارد أسوان المتواضعة تتيح لأولئك الأجانب استغلالًا اقتصاديًّا كبيرًا، ولهذا اكتفى أغلبهم بحرفة الجنود المرتزقة في حصون أسوان التي مثلت همزة الوصل بين أقاليم مصر الجنوبية وبين النوبة وما ورائها، في فترات السلم وفترات الحروب على حد سواء. وذكرت الوثائق الآرامية من مسميات التنظيمات العسكرية التي انضوت تحتها هذه الجماعات، الاسم الآرامي "حيلا" بمعنى حامية أو فرقة كبيرة، واسم "دجل" بمعنى وحدة أو معسكر، وإن دل أحيانًا على معنى اللواء أي العلم، وكان كل منهما يضم المجندين وأسرهم، ثم تعبير المائة ليدل على سرية بنفس العدد. وحظيت أوضاع الجالية اليهودية بالاهتمام الأوسع من الدراسة والتعقيب، وتركزت هذه الجالية في جزيرة إلفنتين، وإلى حد ما في سونو أي في مدينة أسوان، وكان منهم عسكريون ومدنيون. وغالبًا ما وصف العسكريون منهم بأنهم بعول دجل أي أفراد الوحدة أو المعسكر، ووصف المدنيون منهم بأنهم بعول قرية أي أفراد القرية. وقد يوصف بعضهم بالصفتين، أو ينتمون إلى دجلين أي وحدتين، أو ينسبون إلى مقر إقامتهم فيقال بعول آبو، وبعول سونو. وتعددت وجهات النظر في ظروف اتجاه هذه الجالية اليهودية إلى أسوان، وتوقيت بداية سكناها فيها وانضمامها إلى معسكراتها. وربطت بعض الآراء بين لجوئهم إلى مصر وبين أحداث التاريخ اليهودي في فلسطين خلال القرنين السابع والسادس ق. م. فقد أدت مراحل النزاع بين يهود إسرائيل وبين يهود يهوذا، ثم بينهم جميعًا وبين الآشوريين، إلى نزوح جماعات من هؤلاء وهؤلاء إلى أماكن قصية يلتمسون الأمن فيها. ولعل مصر الغنية القريبة من فلسطين كانت الملجأ المغري للبعض منهم، وقد سبق ذكر المرات التي وقفت مصر فيها سندًا لليهود ضد الآشوريين، حين تدخلت في عهد تاف نخت لنجدة السامرة ضد جيش شلما نصر الخامس، ثم في عهد شبتكو وطاهرقه لنجدة أورشليم ضد جيش سينا خريب.

وحينما دعا يوشيا في عام 631ق. م. إلى التغيير الديني الذي تضمنه سفر تثنية الاشتراع، نزح بعض معارضيه وبعض الكهنة الذين فقدوا امتيازات معابدهم، إلى مصر. وزادت دواعي الهرب من يهوذا حينما اشتد حصار البابليين حولها، وقد عاونتها مصر في عهد الملك واح إب رع على مقاومة هذا الحصار. وعندما تمكن البابليون منها ودمروها ارتحل بعض أهلها إلى مصر ووسعتهم رحابة صدرها، كما استقبلت بعدهم نبيهم إرميا وأعوانه حينما لاذوا بها. ولما كان اللاجئون في أغلب هذه الأحوال مستضعفين لم يجد بعضهم بأسًا من أن يعيشوا في أقصى جنوب مصر ويحتملوا ظروف الحياة فيه. والتفتت آراء أخرى إلى أحداث مصر نفسها ودواعي اجتذاب بعض اليهود إلى حدودها الجنوبية. فافترض رأي أن أسلافهم كانوا ممن ساقهم الملك الآشوري آشور بانيبال من أتباع منسا ملك يهوذا خلال حملته ضد مصر في عام 667ق. م، ولعله ألزمهم جنوب مصر ليعملوا فيه باسمه، أو لعلهم انطووا فيه على أنفسهم بعد رحيله. وردهم رأي آخر إلى عهد الملك بسماتيك الأول في منتصف القرن السابع ق. م. حينما فتح أبواب مصر أمام الجنود المرتزقة من كل نحلة، كي يحفظ التوازن بهم في جيشه إزاء المرتزقة القدامى الذين استشرى أمرهم واستعان بهم الأمراء الإقطاعيون المنافسون له، فدخل معهم بعض اليهود إلى جانب غيرهم من بلاد الشام وبلاد الإغريق وجزر البحر المتوسط الشرقية. وعندما استقر أمر الملك وزع مرتزقة جيشه على حاميات الحدود فكان من نصيب اليهود أن ضموا إلى حامية أسوان. ولعله قد جند بعضًا آخر من يهود فلسطين خلال حصار جيشه الطويل لمدينة أشدود، وتلقى بعضًا آخر منهم من منسا ملك يهوذا في مقابل ما زوده به من خيول الحرب. وعندما فرض الملك نيكاو الثاني نفوذه على أروشليم خلال استعداده لملاقاة البابليين، فرض عليها جزية كبيرة وأسر ملكها وساق بعض أعوانه إلى مصر. وثمة رأي يفترض ما هو قريب من هذه الظروف في عهد الملك بسماتيك الثاني، على أساس احتمال انضمام بعض اليهود إلى معسكره خلال حملة جيشه على بلاد خارو في جنوب الشام، وأن بعضهم قد انضم إلى مرتزقة جيشه الذين تألفوا من كيريين وإيونيين وروديسيين وفينيقيين خلال حملته على أطراف دولة بناتا الجنوبية. ويبدو أنه كان من المشكلات التي واجهت الملك واح إب رع "أبريس" في أواخر عهده ثورة بعض جنود حامية إلفنتيني ضده وارتحالهم إلى النوبة، وبهذا سنحت فرصة أمام المرتزقة الأجانب ومنهم اليهود ليستقروا محلهم. وذكر المصري نسحور قائد بوابة الأقطار الجنوبية في عهد هذا الملك تواجد جنود عامو "أي قبليين"، وستيو "أي آسيويين" وحاونبو "أي إيجيين"، في أسوان، وكان أغلب القبليين والآسيويين من الآراميين واليهود. وأشارت بردية ديموطية من العام 41 من عهد الملك أحمس الثاني "أمازيس" إلى إيفاد عدد من قواته إلى النوبة، وكان من بين الجنود المرتزقة المنضمين إليها 60 شخصًا من خارو أي من جنوب الشام، و15 شخصًا من آشور "أو من سوريا؟ ". ولعله قد زاد من فرص التواجد في أسوان أمامهم اتجاه سياسة الدولة حينذاك إلى سحب المرتزقة الإغريق من حاميات الحدود، فحلوا محلهم.

والغريب أن نبوءات أنبياء اليهود أو أحبارهم، ظلت مع كل ما قدمته مصر لشعبهم في الداخل وفي الخارج لا تني تتوعدها بالمستقبل المظلم وبكل شر مستطير! وتزايد تواجد اليهود في معسكرات أسوان على الحدود الجنوبية خلال عصر الاحتلال الفارسي، فكانوا من أدواته وأقرب إلى الإخلاص له وعيونًا له على الوطنيين المصريين وعلى أحداث النوبة. ولعل ذوي قرباهم من يهود فلسطين الذين اعتبروا قورش ملك الفرس مسيحهم المنتظر الذي أعادهم من المنفى، قد ساعدوا الحملة الفارسية على مصر في عهد ولده قمبيز. وقد وجد يهود مصر الجزاء المباشر على ذلك بحيث روى أحد يهود القرن الخامس ق. م في أسوان، أن ملك الفرس "قمبيز" قد هدم كل معابد آلهة مصر وانقص مواردها ولكنه لم يصب المعبد اليهودي في جزيرة آبو بسوء. وروى هيرودوت من ناحية أخرى أن قمبيز أرسل أكلة السمك من الفينيقيين يحملون الهدايا إلى دولة نباتا بهدف التجسس عليها، ويغلب على الظن أن أغلبهم كانوا من اليهود. واستمرت سياسة تقرب اليهود من الفرس في مصر في عهود خلفاء قمبيز بحيث اعتزوا بأنهم احتفظوا لديهم بنسخة من تاريخ حياة الملك دارا الأول، وعندما بليت كتبوا لأنفسهم نسخة أخرى. على أن الملوك، حتى ملوك الفرس أو نوابهم على مصر، لم يطمئنوا إلى ولاء هذه الطائفة دون ضمان ورقابة، فجعلوا رؤساء الفرق الكبيرة "حيلا" والفرق الصغيرة أيضًا. "دجل من جنسيات أخرى، كالبابليين والفرس، وقد ذكرت الوثائق المعروفة أربعة رؤساء دجل بين أعوام 464 - 446ق. م، وأربعة آخرين بين أعوام 446 و420، ثم ثلاثة أو أربعة بين أعوام 411 و400ق. م. ولا يعرف أن دل تكرار رقم الأربعة في هذه الحالات على تواجد أربع وحدات دجل في آن واحد، أم غير ذلك. وهكذا كان رئيس المنطقة الملقب بلقب "فراتركا" ربما بمعنى الأول أو المقدم، من غير اليهود أيضًا، وكانت له بحكم منصبه سلطات الإشراف العسكري والمدني أيضًا. ضمنت حرفة الجندية للأقليات الأجنبية في منطقة أسوان الإقامة والحماية، وانتفعوا بمرتباتها التي كانت عينية في معظم أحوالها تصرف من بيت المال في آبو وقد عبرت الوثائق عنه باسم خزانة الملك، وعن طريق بيت الملك، أي ديوان الحكم في المنطقة. ولم يحل هذا دون أن يعمل بعضهم في زراعة محدودة وأن يتملكوا تبعًا لذلك بعض الأراضي، وأن يرافق بعضهم قوافل التجارة إلى الجنوب، ويعمل بعض آخر جباة ضرائب في خدمة الدولة، وعاش المرابون اليهود في هذا المجتمع المفتعل الضغير على ما عاشوا عليه في كل العصور، فاتسمت شروطهم بالإجحاف حتى فيما بين بعضهم وبعض فبلغ سعر الفائدة 60% وكانت سريعًا ما تتضاعف حيث كانت فائدة مركبة تضاف قيمتها إلى أصل الدين إن لم تسدد في موعدها لتخضع مثله لربح آخر. وكطائفة تعتمد أساسًا على رابطة الدين - أقام يهود الفنتين في شمال الجزيرة معبدًا لإلههم يهوه جمعوا له المعونات من أثريائهم وفرضوا له تبرعات على رجالهم ونسائهم، ولعلهم قلدوا فيه بعض مظاهر معبد أورشليم في صورة متواضعة بطبيعة الحال، فكان له أعمده حجرية وسقف خشبي ويقوم به نصب ومذبح، ووصفوا ربهم فيه بأنه رب الجنود وأنه الرب الموجود في آبو الحصن أي حصن الفنتين، وإن خالفوا بذلك قانون

الإصلاح الديني الذي لم يعترف إلا بمعبد أورشليم معبدًا رسميًّا ودعا إلى الاعتقاد بأن الإله مسكنه السماء وأن اسمه هو الذي يسكن المعبد. وسواء أتى اليهود معهم برواسب ديانة التعدد القديمة في فلسطين، أو خضعوا لدواعي الاختلاط ببيئة المرتزقة التي عاشوا فيها، أم أتت الوثائق الآرامية بأخبارهم إلى جانب أخبار غيرهم. فقد وردت في هذه الوثائق أسماء معبودات مصرية وآرامية وبابلية وفارسية أيضًا، مثل أسماء ساتت وخنوم، وبيثئيل شمين "ملكة السماء"، ونابو، وبانيت، إلخ. ومع مرور الوقت قامت بين الأقليات في أسوان ومنهم اليهود وبين المواطنين المصريين في المنطقة علاقات تزاوج وتجارة وعمل ومداينات، بحيث تزوجت يهودية من رجلين مصريين على التعاقب، وتزوج مصري من آرامية، وتزوج يهود من مصريات. وكان من الطبيعي أن تشوب هذه العلاقات بعض المنازعات من حين إلى آخر، وكان للمواطنين في بعض الأحيان اليد العليا فيها، بحيث روت إحدى الوثائق أن المحكمة جعلت امرأة يهودية تقسم باسم المعبودة المصرية ساتت في قضية قامت بينها وبين مصري، واشترط مصري على مدينه اليهودي أن يدفع أربعة شواقل فائدة قرضه بمقتضى أوزان بتاح الإله المصري وليس بمقتضى أوزان الملك الفارسي، وعامله بمعاملة المرابين اليهود أي بمقتضى الربح المركب. واشترط تعاقد مصري على متعهدين يهوديين تسلما 50 إردبًا من الشعير والعدس من ملامح مصري لتوزيعها على أفراد الحامية ضمانًا أو شرطًا جزائيًّا قدره ألف شيقل، وربما اشترط الملاح نفسه أن يحصل أجره من حصتهما المقررة من بيت الملك وأن يقتضيه من ممتلكاتهما إن امتنعا عن أدائه. وكانت اللغة الآرامية قد طغت على اللغة العبرية في فلسطين نفسها، لبعض الوقت، كلغة الثقافة والمراسلات ولهذا لم يكن من الغريب أن تطعي عليها كذلك بين يهود إلفنتين لا سيما مع اختلاطهم بالآراميين المشتركين معهم فيها. وتأثرت لغتهم كذلك باللغة المصرية في بعض تعبيراتها الدارجة وفي تعبيرات التعاقد. وكما كان بناء معبد اليهود في الفنتين معبرًا عن روابطهم، أصبح خرابه مقدمة لتفرقهم. فعندما طال احتماء اليهود بالمحتلين الفرس تناسوا حقوق الوطن المصري الذي آواهم - وعندما تعاقبت ثورات المواطنين ضد الاحتلال الفارسي "في أعوام 488 - 486، 460 - 454، 450، و410ق. م" لم يساندهم اليهود فيها، أو على حد تعبير إحدى الوثائق الآرامية لم يتركوا مراكزهم ولم توجه إليهم تهمة التمرد. وربما تجاوزوا تجاهل المشاعر القومية المصريين إلى تجاهل تقاليدهم الدينية أيضًا، فتجرءوا على تقديم الأضاحي من الكباش في معبدهم عوضًا عن الجداء، وكان الكبش رمزًا مقدسًا للمعبود خنوم في أسوان. وهكذا استمر السخط يتفاقم ضدهم حتى أفضى إلى تدمير معبدهم في حوالي عام 410ق. م خلال العام الرابع عشر من حكم الملك الفارسي دارا الثاني. والطريف أن رسائل اليهود لم تنسب هدم المعبد إلى كهنة خنوم المصريين في حصن إلفنتين وحدهم، وإنما ذكرت أنهم استغلوا غياب الوالي الأكبر "خشاتر أبافان أو الساتراب" أرشام الفارسي عن مصر فاتفقوا مع فرارتكا أسوان، أي رئيسها، فبدرانجا الفارسي، على إزالة معبد اليهود من الجزيرة

فاستجاب لهم وكلف بذلك ولده أحد قادة حامية أسوان فقاد المصريين وجنودًا آخرين وهدموا المعبد، وأقاموا على جزء من أنقاضه مدخلًا إلى ناحية معبد خنوم المصري، وفي سبيل إقامة هذا المدخل استغلوا جزءًا يحد مخزنًا ملكيًّا مجاورًا له وأقاموا سورًا في وسط الحصن وعطلوا "حين بنائه" بئرًا كانت تمد المعسكر اليهودي بالماء، وهكذا ألقى اليهود جانبًا كبيرًا من مسئولية ما حدث على الحاكم الفارسي المحلي وولده، مما يعني أن مسلكهم لم يرض بعض الفرس أيضًا، وإن ادعوا في رسائلهم أن هذا الحاكم فعل ما فعله مقابل رشوة كبيرة، وهو ادعاء يصعب أن يعرض الرجدل به سمعته وسمعة ولده للمساءلة أمام ملكه نصير اليهود. وعلى أية حال ففي ثلاث رسائل للوالي الفارسي الكبير أرشام وهو بالخارج ما يشير إلى "وقت ثورة مصر"، مما يعني قيام ثورة في غيابه، وأن إجراء أهل أسوان ضد المعبد اليهودي كان صدى لثورة عامة ضد المحتلين وأعوانهم أو على الأقل قد صادفها وانتفع بآثارها. وقد يزكي هذا الاستنتاج بردية ذكرت أسماء خمسة من كبار اليهود وأكثر من ست نساء عوقبوا وربما اعتقلوا في البوابة في مدينة طيبة، وروت أنه جرى استرداد المقتنيات التي كانت قد سلبت من بعض المساكن، وفرضت عقوبة مالية. وربما دل هذا على سبق اعتداءات يهودية ثم تعرض المعتدين للعقوبة والتغريم في مدينة طيبة على أيدي قضاة وطنيين في فترة من فترات ازدهار الشعور الوطني ضد المحتلين وأعوانهم. وتسامح المصريون بعض الشيء، فتركوا اليهود حيث هم، وربما لم يعترضوا على بناء معبدهم في موضع آخر خارج حصن إلفنتيني. فلم يقنع اليهود بهذا التسامح وأبوا إلا أن يعاد بناء المعبد في نفس موضعه بحجة أن الملوك المصريين السابقين لم يعترضوا عليه وعندما احتل الفرس مصر أبقوا عليه وحينما اعتدوا على معباد كل آلهة مصر لم ينالوه بسوء. ولاستثارة العطف عليهم ادعى اليهود أنهم حرموا على أنفسهم شرب الخمر والتمضخ بالزيوت ومضاجعة النساء حتى يعاد بناء معبدهم. وتوالت رسائل رؤسائهم إلى كل من أملوا في مساعدته لهم، فكتبوا إلى باجوهي الوالي الفارسي على يهوذا "وثمة احتمال بيهوديته على الرغم من اسمه الفارسي" وإلى يوهانان حاخام أورشليم وزملائه الكهنة وإلى كبرائها، ولكن لم يستجب لعويلهم أحد. وعاودوا الشكاية والاستعطاف في رسائلهم بعد ثلاث سنوات، إلى باجوهي مرة أخرى وإلى داليا وشليمنا ولدى سنبلاط حاكم السامرة عساهما أن يقنعا أباهما بمعاوتهم. وكان من تزلفهم في افتتاحية إحدى رسائلهم إلى باجوهي في عام 407ق. م ما يقول "أعز رب السماء مولانا كثيرًا وعلى امتداد العمر، وحباه الحظوة لدى جلالة الملك دارا ونبلاء الفرس أكثر مما هو عليه الآن ألف مرة ... "، إلخ. ثم وعدوه إن استجاب لهم وكتب إلى أصدقائه في مصر لإعادة بناء المعبد وإعادة القرابين والبخور والمحروقات "على نفقة الدولة؟ " أن يقدموا كل هذا باسمه ويصلوا من أجله هم ونساؤهم وأطفالهم وكل اليهود الموجودين معهم. ولعلهم أرفقوا برسالتهم هدايا ملائمة مما جعل باجوهي وداليا يعدان رسولهم شفاهة وليس كتابة بالسعي لتحقيق أملهم دون الالتزام بتقديم الأضاحي المحروقة التي كان يجب أن يقتصر تقديمها على معبد أورشليم وحده. والتزم يهود إلفنتيني بهذا الأمر فكتبوا إلى أحد أصحاب النفوذ في مصر ولعله أرشام والي مصر الفارسي يعدونه إن هو سمح بإعادة بناء المعبد حيث كان بأنهم لن يقدموا أغنامًا أو ثيرانًا أو ماعز كأضاحي محروقة وسوف يكتفون بالبخور وقرابين الطعام والشراب، وأنهم سوف يقدمون إلى بيت مولاهم في مقابل

ذلك أموالًا كثيرة وألف إردب من الشعير. ولعلهم قد قدروا في التزامهم هنا بعدم تقديم الأضاحي المحروقة أمرًا آخر. وهو احترام شريعة الفرس المجوس التي حرمت تدنيس النيران بحثث الحيوانات. ومضى عند دارا الثاني، ونكاية في المصريين حصل اليهود من خلفه أرتاخشاشا "أرتاكسركسيس" الثاني على وعد بتنفيذ مطلبهم، وربما في مقابل وقوفهم في وجه الثوار المصريين أيضًا، ويبدو أنهم أعادوا معبدهم بصورة ما. وبعد قليل أعلن الملك المصري أمون حر نفسه فرعونًا وحرر بلاده من الفرس في حوالي عام 404ق. م، ولو أن وثائق الآراميين واليهود لم تؤرخ باسمه حتى العام 401ق. م مما قد يعني ترددهم في الاستجابة له، ثم انقطعت وثائقهم بعد عام 399ق. م، مما يدل على تبدد شملهم خلال عهود الأسرات الفرعونية الأخيرة، وإن استعادوا بعض وجودهم مرة أخرى بعد ذلك في بداية العصر البطلمي1.

_ 1 Cf., Sayce And Cowley, Aramaic Papyri Discovered At Aswan, 1906; G.R. Driver, Aramaic Documents Of The Fifth Century B.C., 1957; Zas, 1964, 63 F.;B. Porton, Archives From Elephantine, 1968 Etc.

الأسرتان الأخيرتان

الأسرتان الأخيرتان: توالى على مصر بعد إجلاء الفرس في عام 404ق. م أكثر من ستين عامًا، لم يخب الصراع خلالها بين مصر المستقلة التي ما فتئت تذود عن سمعتها وحاولت الانتقام لنفسها مما أصابها إبان فترة الاحتلال، وبين فارس التي ما فتئت تعاودها حمى الاستعمار ورغبة الثأر لشرفها المسلوب. وتعاقبت على عرش مصر بعد عهد آمون حر أسرتان حاكمتان من شرق الدلتا، صحت عزائم أصحاب الشخصيات القوية من ملوكها على النهوض بعد النكسة واستعادة المجد القديم، بينما تقطعت دابر أصحاب الشخصيات الضعيفة منهم مناوأة الارستقراطية الإقطاعية لهم، بحيث لم تزد فترة حكم الواحد منهم عن بضعة شهور أحيانًا. ونشأت أولى الأسرتين، وهي التاسعة والعشرون، في مدينة منديس "تمي الأمديد وتل الربع شمال شرق السنبلاوين"، ولم تستمر أكثر من عشرين أو واحد وعشرين عامًا تعاقب فيها أربعة ملوك أو خمسة، كان أهمهم أثرًا مؤسسها نايف عاورود "بانرع - مرن نثر"- ثم ثالث ملوكها هجر "أو هقر". وجرى كل منهما على سنة التعاون مع العالم الإغريقي لمواجهة الفرس أعداء الطرفين. وبدأ الفرس مع بداية عصر الأسرة التاسعة والعشرين مستغلين قلقلة انتقال العرش المصري من أسرة المحرر أمون حر، وحشدوا جيشًا وأسطولًا كبيرين في فينيقيا لغزو مصر1، ولكن صرفهم عن إتمام خطتهم مشاكل ولاية عرشهم وثورة آسيا الصغرى وجزرها ضدهم بعد أن أيدتها دولة إسبارطه الطامعة في زعامة الإغريق وصاحبة أقوى الجيوش البرية في أرض اليونان. واتقاء لعودة غدر الفرس تقاربت وجهات النظر بين مصر وبين إسبارطه، وبدأت مصر بمد يد العون فأمدت حليفتها في عهد نايف عاورود بأموال وخمسمائة ألف مكيال من الغلال وتجهيز مائة سفينة مقاتلة، ولكن هذا المدد الذي تحملته خزائن مصر المجاهدين المجهدة لم يؤدِ الغرض منه وحطمه قائد أثيني كان يخدم الفرس عند رودس2. وبعد سنوات عقدت إسبارطه الصلح مع الفرس، ولم تتذكر مصر في صلحها، فبقيت مصر وحدها.

_ 1 Kienitz, Op. Cit., 76 “Xenophon, Anabasis, I, 4-5”. 2 Diodorus, Xvi, 79.

ولبت مصر المتعطشة للانتقام والباحثة عن الأحلاف دعوتين أخرتين في عهد هجر "خنم ماعت رع - ستبن خنوم" لمناوأة الفرس، إحديهما من أثينا، والأخرى من إفاجوراس ملك قبرص، فأعانت هذا الأخير بخمسين سفينة، ومدد من الغلال، وأخذ كل منهما يكافح الفرس في ناحية؛ مصر تكافحهم على حدودها، وأهل قبرص يكافحونهم في جزيرتهم وعلى سواحل فينيقيا، وبدأ الفرس بمهاجمة مصر ولكنها كسرت حدة جيشهم في معركة غير محددة المعالم ناضلتهم فيها برجالها وبمرتزقة من الإغريق كان على رأسهم خابرياس الأثيني. وبعد نضال طويل سلمت قبرص أمام الفرس في عام 380ق. م1 وبقيت مصر وحدها مرة أخرى. وكان هجر أطول ملوك الأسرة حكمًا في هذا العصر القلق "393 - 380ق. م"، ولأمر ما بدأ ارتباطه بالإله خنوم رب أسوان واضحًا في اسمه، وعللت بردية الأيام الديموطية استقراره النسبي بسخائه مع المعابد، ولكن ما لبث الحظ أن تخلى عنه، على حد قولها؛ لأنه خالف الشريعة وجافى إخوته، فاكفهر الجو السياسي، وتبعه اثنان حكم أحدهما عامًا واحدًا وحكم الآخر بضعة شهور، وانتقل عرش مصر بعدهما في ظروف قلقة إلى أسرة جديدة من سمنود "على مبعدة قليلة من عاصمة الأسرة السابقة". استعان مؤسس الأسرة الأخيرة، الثلاثين، نخت نيف "خبر كارع" - أو نكتانب كما سماه الإغريق "خلال 380 - 363ق. م" بمساعدات المعابد. وبتأييد كهنة سايس على تدعيم ملكه، ثم رد لهم الفضل مضاعفًا، فأحال ضريبة العشر المفروضة على منتجات وواردات وصادرات نقراطيس مركز التجارة الإغريقية إلى صالح معابد نيت في سايس2. ونشط العمران في عهده في المعباد المصرية، ابتداء من شمال الدلتا حتى جزيرة فيلاي جنوبي أسوان. وكان عليه أن يتيقظ لغدر الفرس ويستعين بمن يمكن الاستعانة به ضدهم، لولا أن أحلاف الأمس وهم الإغريق أصبحوا يعملون لمن يجزل العطاء لهم، حتى ضد بعضهم بعضًا، وهكذا عوضًا عن أن تتعاون أثنيا معه خضعت لضغط الفرس فاستدعت قائدها خابرياس الذي كان يعمل بأعوانه في الجيش المصري، وساهمت في إعداد 20 ألفًا من المرتزقة لمعاونة الفرس ضد مصر. وفي ظل هذه الملابسات تجمع في بلاد الشام الخاضعة للفرس جيش ضخم قدره رواة الإغريق بمائتي ألف من جيوش الفرس وأتباعهم فضلًا عن عشرين ألفًا من مرتزقة الإغريق "وهو تقدير مبالغ فيه"، وكان فوق طاقة مصر أن ترده وحدها بسهولة فعبر الحدود في صيف 373ق. م، واستخدم الفرع المنديسي في نقل بعض قواته الكبيرة، وهنا لجأ القادة المصريون إلى إجزاء بارع فتريثوا حتى تدفق أفراد هذه القوات على الدلتا ووصلوا منف، ثم حصروهم عندها حتى دهمتهم مياه الفيضان وأشاعت الفشل فيهم فتراجعوا أمامها وأمام هجمات المصريين3. ولما كانت معاونة الإغريق تشترى بالأكثر من المال، بذل "جدجر" "إرماعت نرع"، أوتيوس كما دعاه

_ 1 Bury, Op. Cit., 556-57; Gyles. Op. Cit., 43. 2 Erman U. Wilken, Zaes, Xxxviii, 127 F.; Posener, Asae, 1934, 141 F.; Gunn, Jea, 1934, 55 F. 3 Diodorus, Xiv, 10; Xv. 41-43; Plutarch, Agesilaus, 23. 3; Naville, The Shrinc Of Saft El-Henneh And The Land Of Goshen, 6 F.; Zaes, 1963, 90 F.

مؤرخو الإغريق، الكثير في سبيل شرائها من إسبارطه ومن أثنيا معًا، فاستعاد خابرياس الأثيني إلى خدمته هو وعشرة آلاف من قومه، وفاوض أجيسيلاوس ملك إسبارطه العجوز ليستعين بخبرته فانضم إليه بألف من رجال "وكانت مصر قد أسلفت العون له بمددها الذي غرق عند رودس". وجند جدحر ثمانين ألفًا من المصريين والمهجنين، وأعد ما بين 200 - 300 سفينة وصله بعضها من آسيا الصغرى1، وتأهب للخروج بهم عبر الحدود لضرب جيوش الفرس خارج بلاده وليحرمهم من خيرات الشام ومراكز تجمعاتهم فيها، ولكن الأمور لم تكن هينة أمامه، فقد تنافس القائد الأثيني والملك الإسبارطي على القيادة العليا، وحل جدحر هذه المشكلة بأن تولى هو القيادة العليا، وعهد بقيادة المرتزقة كلهم إلى أجيسيلاوس الإسبارطي العجوز الذي بلغ الثمانين وظن أنه سوف يأتي برجاله الألف العجب العجاب، كما عهد بقيادة الأسطول إلى خابرياس الأثيني المغرور2، ولكنه لم يستطع أن يستل الحقد من قلب أحدهما تجاه الآخر أو تجاهه هو. ولتموين جيشه الضخم، والإنفاق على مشروعه الكبير، ولإرضاء المرتزقة الذين أبوا أن يتسلموا أجورًا عينية كالعادة واتفقوا معه على أن يتسلموها نقدًا، رأي أنه لا بأس من فرض تضحيات اقتصادية على شعبه طيلة فترة الحرب وفي سبيل هدف أسمى، واستأنس في ذلك بمشورة خابرياس الأثيني، فأمر بمصادرة كثير من المعادن الثمينة في مصر، وحض الكهنة على التبرع بجانب من أملاكهم الخاصة والاكتفاء بإنفاق عشر المخصصات المرصودة للمعابد وتحويل بقيتها لخزائن الدولة حتى تنتهي الحرب، وحض كل مواطن على التبرع بجانب من مدخراته، وفرض نسبة ضريبية معينة على عمليات البيع والشراء، مع تعميم ضريبة العشر على الأرباح ومصادر الدخل المختلفة3. وعندما خرج الجيش اللجب إلى بلاد الشام لضرب الفرس فيها، أعاد إلى الأذهان ذكريات جيوش الدولة الحديثة وأمجادها، لولا أن أتاه الأذى من مأمنه، في مصر والشام معًا، ففي مصر انقلب على جدحر أخوه ونائبه على عرشه واستعان بتذمر الكهنة والمتضررين من الضرائب الجديدة التي رأوها تنصرف إلى المرتزقة الأجانب أكثر مما تصل إلى مواطنيهم. ولما كان هذا الأخ شيخًا استدعى ولده من جيش عمه ليقود الانقلاب بدلًا عنه. وفي الشام أحدثت أخبار الانقلاب انشقاقًا في صفوف الجيش، واختار المرتزقة صوالحهم، فانسحب خابرياس الأثيني بجنوده، وانضم أجيسيلاوس الإسبارطي بجماعته إلى ابن الأخ المطالب بالعرش وعاد معه إلى مصر ليتلقى جزاء تأييده له4. وهنا لجأ جدحر كسيرا إلى صيداوروي منافسوه أنه طلب حق اللجوء السياسي بعد ذلك من الفرس، وهكذا أتت نهايته على غير ما أراده لنفسه وانتهى مشروعه إلى غير ما أمله فيه شعبه.

_ 1 Gyles, Op. Cit., 44; Xenophon, Agesilaus, Ii, 27”. 2 Diodorus, Xv, 9, 92; Gyles, Op. Cit., 44 And Notes. 3 Op. Cit., 45 “After Ps. Aristotle, Oeconomica, Ii, 25 F.; Polyaemus, Iii, 5 F.”. 4 Diodorus, Xvi, 40, 46, 48; Gyles, Op. Cit.

ولما كانت مقادير الشرق قد أصبحت مرتبطة بما بين الإغريق والفرس ومصر، ظهر رأيان متعارضان رددهما فريقان من بلاد الإغريق في خضم النزاع بين مقدونيا الناهضة بزعامة فيليب الثاني وبين أثينا العجوز الواهنة، بشأن مدى المنطقية في التعاون مع مصر على قتال الفرس. وعبر أرسطو عن الرأي الأول بلسان مقدونيا وأيد فيه منطقية مساعدة المصريين حتى لا يقعوا ثانية فريسة للفرس، ونبه قومه إلى أن دارا وإكسركسيس لم يتمكنا من قتال الإغريق إلا بعد إخضاع مصر، وأنه لا يستبعد حدوث الأمر نفسه إذا تكرر استعمار الفرس لها من جديد. وذهب إلى ضد هذا الرأي خطيب أثينا الأشهر ديموسثينيس فسخر ممن يريدون حرب الفرس في مصر، ودعاهم إلى أن يقفوا في أطماع الغول المقدوني في أرضهم قبل أن يقفوا في وجه الفرس1. ونعود إلى مصر التي ولي عرشها ابن الأخ "مخت حرحب" "سنجم إب رع"، أو نكتانبو "الثاني" كما دعاه بعض المؤرخين الكلاسيكيين2، فأخرص الأصوات الباقية على الولاء لعمه، وأرضى الكهنة المتذمرين، وأعاد الإسبارطيين بالهدايا، وقد مات قائدهم العجوز في الطريق. ثم رد بالجيش المصري هجومًا حاول الفرس أن يستغلوا له ما كان من تفرق الكلمة في بلده، وترتب على انتصاره عليهم أن انقلبت مدن فينيقيا ضدهم وتزعمتها صيدا التي قيل إن جدحر الملك المخلوع قد لجأ إليها، وبهذا ظن نخت حرحب أن زمانه صفا له وأن الأمن تحقق له في الداخل وفي الخارج، فكثر إنشاء العمائر الدينية في عهده تخليدًا لذكره وإظهارًا لتقواه وتعبيرًا عن الشكر المعتاد للأرباب ومداراة للكهنة. وحتى هذه المرحلة كانت مصر لا تزال تعتبر نفسها في نهضة، ولا تزال عند الإغريق كعبة للمعرفة والعلم القديم، وحسبنا أن نشير إلى ما رواه بعض المؤرخين الكلاسيكيين من أن الفيلسوف الأثيني الأشهر أفلاطون قد زار مصر في أوائل القرن الرابع ق. م ليتعلم فيها الحكمة واللاهوت والعلوم، وتتعرض صحة هذه الزيارة للشك ولكن يكفي ما في روايتها من دلالة على تقدير العالم الخارجي لمصر حتى وهي في أيام محنها. وانعكست مشاعر العصر وآماله ونكساته على فنونه التي نكتفي باستعراض القليل منها. فقد انتقلت إلى حوزة المتحف المصري والمتاحف الأوروبية، ومتحف برلين بخاصة، رءوس مصرية صغيرة من أحجار صلبة رائعة، اختلف الباحثون في توقيتها بين عصر الأسرة السادسة والعشرين وبين عصر الأسرة الثلاثين، واتصفت ملامح هذه الرءوس باتساع ما بين الأنف والشفة، وتقطيب ما بين الحاجبين، وكرمشة الركن الخارجي للعين3. وظهرت بهيئة تشبه هيئة الرءوس الإغريقية والرءوس الرومانية التي أتت بعدها بأجيال طويلة. ولا تعني هذه المشابهة أن فناني الرءوس المصرية كانوا إغريقًا أو متأثرين بفن الإغريق أو الرومان بالضرورة، فالإغريق حينذاك وعلى الرغم من تقدمهم الحضاري، كانوا لا يأنفون من استيحاء

_ 1 Ibid., “After Aristotle, Rhetoric, Ii, 20, 3-4; Demosthenes, Rhodians, 3-4”. 2 Of. Tresson, Kemi, 1931, 126 F.; Ernst Meyer, Zas, 1931, 68 F.; Bickermann, In Melanges Maspero, 1934, 77 F.; V. Clere, Rev. Eg., 1951, 25 F. 3 Berlin, 255, 12500, 23728; K. Bose, Die Menschliche Figur, 58 A, 205-206, 208.

ما يناسبهم من فنون المصريين، دون القيام بتعليم الفنانين المصريين أو التأثير في فنونهم تأثيرًا يذكر1، ولم يكن للرومان حينذاك حضارة يعتد بها. وفيما بين عصر الأسرة الثامنة والعشرين وعصر الأسرة الثلاثين طور الفنانون تراثهم القديم للمرة الأخيرة، وجاهدوا في الارتقاء به جهد طاقتهم، ونحتوا تماثيل قليلة العدد، ولكنها رائعة الأداء والتعبير، تكسو وجوهها جميعها علامات المسئولية والهم وآثار الكفاح، وتغلب عليها تجاعيد الجباه وتقطيباتها2. وبقي من نماذجها الناجحة تمثال نصفى للفرعون "هجر"، ورأسان الفرعون "نخت نبف"، وتمثال للفرعون "نخت حرحب"، وصورت هذه القطع الأربع بهيئاتها الشخصية الصادقة آخر روائع فن النحت المصري في عصوره القومية الخالصة القديمة3. واستمر فنانو الإنتاج الديني يلبون مطالب كبار الكهنة والحكام في نحت التماثيل الكبيرة والتوابيت الضخمة، وكأن هؤلاء، أو الغالبية منهم على أقل تقدير، لم يتأثروا كثيرًا بما أصاب بلادهم في عصورها الأخيرة من متاعب ونكسات، فنحتوا لهم توابيتهم الحجرية من أشد الأحجار صلابة وصنعوها بأحجام هائلة، وشكلوها على هيئات بشرية كاملة، ونقشوا سطوحها الداخلية والخارجية بنصوص كتب الموتى ومناظر الآخرة، وفعلوا ذلك كله في إسراف شديد، يصعب أن نتصور معه كم كانت تستلزم صناعة التابوت الواحد منها من جهد ونفقة وصبر طويل.

_ 1 See, Jea, 1930, 45 F.; Lverson, Mitt. Deutsch, Xv, 1957, 324 F. 2 Waigall, Ancient Egyptian Works Of Art. Fig. 327. 3 Cf. Bosse, Op. Cit., S. 94 F.

خاتمة المطاف القديم

خاتمة المطاف القديم: كان الأمن الذي توفر لمصر في عهد نخت حرحب أمنًا كاذبًا؛ إذ استعر حقد الفرس على مصر الناهضة منذ أن ولي أمرهم أرتاكسركسيس الثالث "أوخوس"، وكان طموحًا أعاد الأمل لقومه في الانتقام لشرفهم المسلوب واستعادة غلال مصر وذهبها، وبذل في سبيل مشروعه لغزوها منذ عام 345ق. م جهودًا روى ديودور الصقلي أخبارها، وقاد جيشه بنفسه وبدأ بميناء صيدا مركز الثورة في فينيقيا فدمرها بعد أن تخلت عنها النجدة الإغريقية التي استأجرتها مصر من أجلها، وانضمت إليه ثم أخضع جيرانها1. وعندما شارف الحدود المصرية بلغت قواته فيما روى بعض مؤرخي الإغريق أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل من بلده ومن ولاياته ومن مرتزقة الإغريق وأمثالهم، فضلًا عن 300 سفينة، واستفاد من تجارب الحرب السابقة، فبدأ هجومه في خريف 343ق. م، دون خشية من أخطار الفيضان، واستفاد من قواته البرية. والملاحية معًا، فوزعها لدخول الدلتا من ثلاث جهات، وسلك سبيل المخادعة فأمر قادته بأن يعرضوا الأمان للمدن

_ 1 Diodorus, Xvi, 40 F.

إذا فتحت أبوابها. ووقفت مصرفي وجهه وقاومت بجيوشها جيوشه مقاومة عنيفة في بلوزيوم "القرما"، وبلغ مجموع جيشها فيما روى الإغريق نحو مائة ألف، وكان كافيًا للمقاومة على الرغم من أنه ثلث عدد جيوش الفرس، وهنا رُوي أن نخت حرحب تردد في الأخذ برأي قادته في ضرورة استمرار القتال في أعقاب مقاومة بلوزيوم وانخدع برؤيا رأى فيها الإله إنحرة يعده إنقاذ مصر بالفيضان كما فعل في المرة الأولى. وكان في هذا التردد فرصة للفرس، وما لبث الجنود المرتزقة من الإغريق أن انضموا إليهم بعد أن أحسوا بأن الكفة بدأت تميل لصالحهم، فتراجع نخت حرحب إلى منف واستعد للتحصن بها على أمل إطالة وقوف الأعداء عندها حتى يتحقق وعد ربه، وعندما أيقن عقم المقاومة تراجع إلى أقصى الصعيد حيث احتفظ بحكمه نحو عامين1، ثم اختفى أثره وأصبح محورًا لأسطورة نعرضها بعد قليل. ونشر الأخطبوط الفارسي نفوذه على ما دون ذلك من أجزاء الوادي، وبدأ استعماره الثاني، وهو استعمار لم يطل غير عشر سنوات أو أحد عشر عامًا ولكنه بدأ بانتقام عنيف ولم يرع عهود الأمان التي قطعها ملكه للمدن المفتوحة، وما كان يرتجى أمان من غاز موتور. وهنا وصفت بردية الأيام الديموطية كيف فقدت بيوت المصريين رجالها .... وسكانها الماذيون "الفرس"2. وروى كل من ديودور الصقلي والمصادر البطلمية أن أرتاكسركسيس أمر بتدمير أسوار المدن الرئيسية، ونهب كنوز المعابد، وامتهن ديانتها وأمر بنقل تماثيلها الثمينة إلى فارس وتاجر أعوانه بوثائقها النادرة، ثم كافأ الإغريق الذين عاونوه وأعادهم إلى بلادهم، وعين واليها فراسيا على مصر وعاد بجيشه إلى بابل ومعه الغنائم واكتسب شهرة واسعة بنجاحه3. ولكن لأمد محدود؛ إذ مات مسمومًا وتبعه ولده مسمومًا كذلك. ووصف بتوزيريس "بادي أوزير" كاهن الأشمونيين المصري أحداث هذه الفترة وكيف لم يسترجع أحد موضعه الذي كان فيه نتيجة الاضطرابات التي شهدتها مصر، حين كان الصعيد في قلق والدلتا في ثورة ... وبعد أن خوت المعابد وما عاد شيء يجري فيها منذ غزا الأجانب مصر4 وكان الدلتا وما حولها في ثورة فعلًا على الرغم من انتشار الحاميات الفارسية فيها، وقد ذهب زعماؤها مذهبين: فرأى فريق منهم أن يناضل في وطنه، وكان منهم زعيم يدعى خباش سيطر على جانب من الدلتا واعترف به كهنة منف وبعض أهل الصعيد فرعونًا5 وصرف الفرس عنه أصوات دقات عنيفة سمعوها من بلاد الإغريق التي بدأت حينذاك أعظم أيامها تحت راية الإسكندر الثالث "الأكبر". ثم فريق آخر من المصريين رأوا العودة إلى معاونة الإغريق ضد الفرس في الخارج ثم الاستعانة بهم ضدهم في الداخل، وكان من هؤلاء طبيب مقاتل يدعى سماتاوي تاف نخت انضم إلى جيوش الإغريق عندما عبرت أوروبا إلى آسيا وهبطت من آسيا الصغرى إلى قتال الفرس في الشام6. ولم يكن قادة الإغريق في هذه المرة من أثينا أو

_ 1 Maspero, Les Contes Populaires De L’egypte Ancienne, 4eme, Ed., 307; Brugsch, Thesaurus, Iii, 549; Chassinat, Edfou, Vii, 239; Bickermann, Op. Cit., 81 F. 2 Spiegelberg, Demotic Chronicle, 14 F. 3 Diodorus Xvi, 51. 4 Lefebure, Le Tombeau De Petosiris, 1, 3 F. 5 Kienitz, Op. Cit., 185 F., 232. 6 Schaefer, Aegyptiaca, Festschrift F. Ebers, 92 F; Sethe, Urk., Ii, 1 F.; Bifao, Xxx,369 F.

إسبارطه، ولكنهم كانوا من المقدونيين تحت زعامة الإسكندر الذي خرج من بلده بهدف عريض، وهو القضاء على إمبراطورية الفرس والحلول محلها في مناطق نفوذها وإذلال ملكها ومعاملته بما حاول إكسر كسيس الأول أن يعامل الإغريق به. وكانت دولة الفرس حينذاك كما عهدناها، دولة ضخمة الإمكانيات ضخمة الإمكانيات متسعة الأرجاء وفيرة الثراء تسيطر على الهلال الخصيب وأجزاء من الشرق الأوسط وتستطيع أن تجند جيوشًا ضخمة من رجالها ومن ولاياتها، ولكنهاكانت مع ذلك عجوزًا مهلهلة، مزقتها الخلافات الداخلية، وجمدت جيوشها عند أساليب حرب عتيقة، وكرهتها الشعوتب الخاضعة لها. وكان على رأسها ملك محبوب من رعيته وهو دارا الثالث، ولكنه كان ضعيف الإرادة بطيء التصرف سيئ الحظ. ولن نطيل في وصف انتصار الإسكندر عليه في موقعة إسوس قرب الإسكندرونة الحالية في نوفمبر 333ق. م، ويكفي أن نضيف أن الإسكندر خطط لنفسه بعدها أن يحل محل الفرس في بلاد الشام ومصر حتى يحرمهم من مواردهما الضخمة ويحرمهم من سواحلهما الطويلة ومن اتخاذ موانيهما ملاجئ لأساطيلهم، ثم ينتفع بهذا كله ويضع أكبر موارد الغلال في الشرق في قبضته، ويؤمن ظهره إذا هاجم الفرس في عقر دارهم1. ومرة أخرى نتجاوز عن تفاصيل حروب الإسكندر في الشام، لنجد الوالي الفارسي في مصر يعلن التسليم له ويترك له مقاليدها. وعندما دخلها الإسكندر في خريف 332ق. م ثوب منقذها من الفرس، لم يكن أعوانه أغرابًا عنها، فطالما عمل بعضهم مرتزقة في جيشها، وطالما شاركها بعضهم في معاداة الفرس. وعلى نحو ما عمل إغريق نقراطيس وسطاء في التجارة بينها وبين بلاد اليونان عملوا كذلك وسطاء بينها وبين الإسكندر. ولكن فات مصر أن إغريق اليوم غير إغريق الأمس، وأنهم أتوها يومئذ يعملون لحسابهم الخاص، مستعمرين وليسوا مأجورين، سادة وليسوا مرتزقة. وسلك الإسكندر في مصر مسلك النزيل الحصيف، فاحترم تقاليدها واحترم أربابها وتجشم مشقة الرحلة إلى معبد آمون مقر الوحي في واحة سيوة بقلب الصحراء الغربية، وادعى البنوة له واستلهم وحيه، فاعترف كهنته بالأمر الواقع وبشروا الإسكندر بما أراد أن يبشروه به من تأييد ربهم ونصره. ثم أشاع خلفاؤهم لإرضاء قومتيهم المغلوبة على أمرها، أن الإسكندر لم يكن غريبًا عن الأرض الكريمة التي دخلها، وأن ملكهم القومي الأخير نخت حرحب "نكتانبو الثاني" الذي خفي أمره كان قد نزح إلى مقدونيا تتلبسه روح آمون، حيث شغف بملكتها أولمبياس حبًّا وأنجب منها الإسكندر2. ولسنا ندري مدى تصديق المصريين لهذا التهريف، ولكن الغريب أنه على الرغم من كثرة ما ادعاه الإسكندر من البنوة لأرباب آخرين من الشرق ومن الغرب، ظلت بنوته لآمون لاصقة به لصوق بنوته لزيوس الإغريقي، بحيث حدث عندما اختصم رجاله معه في أواخر عهده وهم في قلب الهند أن نكصوا عن متابعته إلى الحرب والفتح قائلين له: "اذهب أنت وأبوك آمون فقاتلا"3.

_ 1 Cf J. Bury, Op. Cit., 748 F., 757 F. 2 A. Moret, Du Caracteres Religeux De La Royaute Pharaonique, 67-68; “Psuedo-Callisthenes, 4 F.”. 3 Bury, Op. Cit., 816.

الفصل الحادي عشر: في عقائد الدين والآخرة

الفصل الحادي عشر: في عقائد الدين والآخرة أولًا: عقائد التأليه نشأتها: أخذت الديانة المصرية حين نشأتها وفي مراحل طويلة من تاريخها بتعدد المعبودات شأنها في ذلك شأن مثيلاتها من الديانات الوضعية القديمة. ولكنها ظلت أغنى من غيرها في وفرة نصوصها، ووضوح قضاياها، وثباتها على مبادئها، ثم رقي تطوراتها التي انتقلت فيها من عقائد التعدد إلى صور مختلفة من أفكار التوحيد. ورد المصريون الأوائل كل ظاهرة حسية تأثرت دنياهم بها إلى قدرة علوية أو علة خفية تحركها وتتحكم فيها وتستحق التقديس من أجلها، الأمر الذي أفضى إلى تعدد ما قدسوه من العلل والقوى الربانية المتكلفة بالرياح والأمطار وظواهر السماء، وبجريان النيل وتعاقب الفيضانات، وتجدد خصوبة الأرض ونمو النبات، وخصائص الخصب النوعي في الإنسان والحيوان، بل والمتسببة فيما اتصفت به كل بيئة محلية في أرضهم من صفات، والمقدرة لما تميزت به حضارتهم في مجملها من خصائص سمت بها عن بقية الحضارات، كمزايا التبكير بالكتابة والحساب والحكمة والفنون وما يشبهها من آيات أكبروها فردوا خلقها ورعايتها إلى قدرات علوية سامية فاقت قدرات البشر. وربط المتدينون بين تصوراتهم العقائدية الذهنية وبين علامات كثيرة من عالم الواقع والمحسوسات، فرمزوا إلى كل قوة عليا وعلة خفية تخيلوها برمز حسي يعبر عن سر من أسرارها ويحمل صفة من صفاتها، والتمسوا أغلب رموزهم هذه فيما عمر بيئتهم من حيوانات وطيور وأشجار وزواحف، لاحظوا أنه يتأتى عن بعضها كثير من الخير ويتأتى عن بعضها كثير من الشر، ويظهر أثر البعض منها في جهات بعينها وفي ظروف بعينها أكثر مما يظهر أثر بعضها الآخر، وهو الأمر الذي لم يكن يخلو من إعجاز كبير في نطاق تصوراتهم القديمة التي كانت في عصورها الأولى لا تزال قليلة التجارب محدودة الآفاق. وبوحي هذه التصورات رمزوا بحيوية الكبش الطلوق إلى بعض أرباب الإخصاب الطبيعي والنوعي، ورمزوا بقوة الفحل إلى شيء من ذلك وإلى قوة البأس في مجملها. ورمزوا بنفع البقرة ووداعتها إلى حنو السماء وأمومتها، ورمزوا بقسوة السباع واللبوءات إلى أرباب الحرب ورباتها، ورزمزوا بفراسة القرد واتزان طائر أبي منجل إلى إله الحكمة. ورمزوا بالحيات والضفادع إلى أرباب الأزل، ورمزوا بخصائص الصقر إلى رب الضياء وحامي الملكية، وهلم جرًّا. وصاحبت ذلك عومل أخرى ارتبطت في أذهان الجماعات البدائية الأولى بصور فطرية من الرغبة والرهبة والخيال. كالرغبة في استمرار النفع والاستزادة من الخير من أجناس معينة من الحيوان والطير عن طريق تقديس القوى الخفية التي تخيلوها تتولى أمرها وتوجهها لغاياتها. ثم صور الرهبة المختلفة: رهبة الخوف، ورهبة العجب، ورهبة الاستعظام، التي كانوا يستشعرونها أمام أجناس معينة من الحيوان والطير، وبالتالي تجاه القوى الخفية التي أوجدتها وزكت فيها قدراتها. وأخيرًا عامل الخيال الديني المتمثل في إيمان عامة الناس بالمعجزات والكرامات وحرفية الأساطير1.

_ 1 في هذه الآراء ما يختلف عن أغلب ما فسرت به نشأة الدين المصري في المؤلفات الحديثة مما سنناقشه في كتاب آخر. وراجع: عبد العزيز صالح: قصة الدين في مصر القديمة - المجلة - نوفمبر 1958 - ص36 - 37، 43 - 44، 50 - 53.

خصائصها

خصائصها: في ضوء ما أسلفناه من تصورات وتأويلات، قد يهضم منطقنا الحالي أقلها، ويأبى أكثرها، يمكن أن نرتب لديانة مصريي العصور التاريخية، والمثقفين منهم بخاصة، الخصائص التالية1: أولًا: يلحظ أنه ما من معبد من المعابد المصرية الكبيرة الباقية، مما خلفته العصور الممتدة من الدولة القديمة حتى نهاية الدولة الحديثة على أقل تقدير، أي خلال ما يقرب من ألفي عام، قد تضمن مكانًا معدًّا لحيوان. وذلك مما يعني أن مزار الحيوان المختار إذا وجد لم يكن مقرًّا لعبادة فعلية مفروضة. وإن أضفنا من ناحية أخرى، بناء على نصوص وصور قليلة، وعادات أخرى تتعلق بالثور أبيس وغيره "من عصور متأخرة"، أنه إذا قضت الظروف بالعناية بحيوان معبود ما، وضع الكهنة الحيوان المختار في مزاره منفصلًا عن مكان العبادة، بحيث إن شاء المتعبد زاره وإن شاء تجاوزه. ثانيًا: أنهم لم يقدسوا حيوانًا لذاته، ولم يقروا تمامًا لأربابهم بالتجسد المادي في هيئة حيوان أو طير، وإنما كان اهتمام المتدينين منهم بما تخيروه من هيئات الحيوان والطير يستهدف رغبتين، وهما: رغبة الرمز إلى صفات إله خفي ببعض المخلوقات الظاهرة التي تحمل صفة من صفاته أو آية من آياته، ثم رغبة التقرب إليه عن طريق الرعاية التي يقدمونها ضمنًا لما رمزوا به إليه من مخلوقاته. ثالثًا: ترتب على التفرقة بين كل إله وبين رموزه الحية من الحيوانات والطيور، أن اختلف وضع هذه الكائنات عندهم عنه لدى شعوب أخرى، فلم يكن اختيار المصريين لرمز أو فرد من الحيون يؤدي إلى تقديس كل أفراد نوعه، ولم يكن من بأس على قرية ترمز إلى ربها بهيئة الفحل مثلًا أن تستخدم الفحول في الحقل والنقل والذبح وتضربها. وإنما هو مجرد حيوان واحد منها يتخيره الكهنة إذا توافرت فيه علامات حددها لهم الدين ونواميسه، ثم يتركونه في مزاره آية مشهودة حتى ينفق. وذلك على العكس من شعوب أخرى قدست أنواعًا من الحيوانات بكافة أفرادها أو حرمت على الأقل ذبحها وإيذاءها. رابعًا: قلت أهمية الدور الذي لعبته الهيئات الحيوانية الخالصة لرموز الأرباب شيئًا فشيئًا منذ أوائل العصور التاريخية، وأصبحت الهيئة البشرية هي أكرم ما تصور المصريون به أربابهم. وجرت العادة تبعًا لذلك على تمثيلهم على هيئة الإنسان في أغلب الأحوال، مع تميزهم عنه بأزليتهم وأبديتهم ومطلق قدرتهم. ولو أن ضرورة تمييز كل معبود منهم عن الآخر، دفعت أتباعهم إلى تمثيل كل واحد منهم بجسم إنسان ورأس الحيوان أو الطير الذي رمزوا به إليه، وذلك ما نفذه الفنانون المصريون في صورهم وتماثيلهم في

_ 1 راجع: البحث نفسه - ص50+

توافق عجيب لم يستطعه فنان آخر قديم. أو تمثيلهم بهيئة الإنسان كاملة مع تمييز كل منهم بشارة تدل عليه، وكان من هؤلاء الأرباب الأخارى الذين احتفظوا بالهيئة البشرية الخالصة: أتوم، وبتاح، وعنجتي، ومين، وجب، ونوت، وأوزير، وإيسة، ونبت حت، وحشات، وخنسو ... خامسًا: ندر أن قدس المصريون معبودًا ذا رمز حيواني باسم الحيوان المادي الذي يرتبط به، فهم لم يقدسوا رمز الصقر مثلًا باسمه الحيواني "بيك"، ولكن باسم رباني وهو "حور"، ولم يقدسوا هيئة البقرة باسمها الحيواني وهو "إحة"، وإنما باسم "حتحور"، ولم يقدسوا رمز التمساح باسمه الحيواني وهو "مسح"، ولكن باسم رباني وهو "سوبك"، ولم يقدسوا رمز الكبش باسمه الحيواني وهو "با"، ولكن بأحد اسمين ربانيين وهما: "خنوم" و"آمون" .. وهكذا كان الشأن بالنسبة لبعض رموزهم الطبيعية الأخرى، ومن أمثلتها أنهم لم يقدسوا السماء باسمها الطبيعي وهو "بت"، ولكن باسم ربتها "نوت". سادسًا: كانت بعض أسماء معبوداتهم التي أسلفناها، صفات في جوهرها أكثر منها أسماء، فاسم "حور" يعني العالي أو البعيد، واسم "سخمة" يعني القادرة أو المقتدرة، واسم "أتوم" يعني الكامل والأتم المتناهي، واسم "آمون" يعني الحفيظ والخفي، وما إلى ذلك من أسماء يعز علينا تفسير معانيها بالتحديد. تلك إذن هي بعض الخصائص التي أخذت الطوائف المتنورة بها في تعليل ما بين المعبودات وبين رموزها، وتوضيح صفاتها. غير أنه ينبغي أن نقدر إزاءها أن العجز البشري، وعجز الإنسان القديم من طوائف العامة بخاصة، لم يكن يسمح بتحكيم المنطق والأليق دائمًا فيما يأتيه جمهرة الناس من أمور العبادة، فالشخص العادي قد يؤمن فعلًا بوجود إله عظيم في السماء يدعى "رع" أو يدعى "حور"، وإله خفي يدعى "آمون"، ولا يتردد في أن يعظم اسمه ويسلم بقدرته على العطاء والمنع والخير والشر، ولكنه إذا فجأه البؤس والضر وجد نفسه أقرب إلى التوجه إلى المحسوس الملموس من المقدسات المادية في بيئته، منه إلى التوجه إلى رع في علاه أو آمون في خفائه، وحينئذ قد يجد هذا المحسوس الملموس في ضريح مقدس في حيه. أوفي تمثال لا ينادي رع في علاه أو آمون في خفائه، وحينئذ قد يجد هذا المحسوس الملموس في ضريح مقدس في حيه. أو في تمثال بساحة معبد قريب منه، أو في حيوان بمزار ما، أو في شيء وهمي لا صلة له إطلاقًا بمعبد، وحينذاك لا ينادي رع العالي في سماه، بقدر ما يضرع إلى الروح التي تسكن شجرة الجميز في قريته، أو الحية التي تسكن قمة الجبل في منطقته. حتى إذا اشتد الضر به أو انصرف عنه لا يجد بأسًا من ثم في أن يتوجه بقربانه ونذرة إلى شجرة الجميز أو قمة الجبل، وليس إلى معبد الرب كما ينبغي أن يكون1.

_ 1 انظر أيضًا: أدولف إرمان: ديانة مصر القديمة - معرف بالقاهرة - 1952.

في سبيل الترابط

في سبيل الترابط: افترض المصريون أواصر القربى والتشابه بين بعض معبوداتهم وبعض آخر، بناء على دوافع عدة يمكن تخمين أقدمها زمنًا بما مر به مجتمعهم القديم من ظروف الاتصال المكاني والترابط المعيشي، وإيحاءات

السياسة، ثم اتساع آفاق التفكير. وعلى هذا يمكن أن يفترض أن أولى خطواتهم للربط بين معبوداتهم قد بدأت عندهم منذ أدت دوافع السلم والحرب بقراهم وبلدانهم القديمة المتفرقة إلى التضام مع بعضها البعض على هيئة أقاليم عدة خلال فترات متقاربة من فجر تاريخهم القديم، الأمر الذي شجع الفريق الأقوى في كل إقليم على أن يسود معبوده. كما يسود حاكمه، على بقية الجماعات المشتركة معه في نطاق إقليمه، وعلى أن يجعل هذا المعبود ممثلًا لإقليمه ورأسًا لمعبودات قومه في آن واحد. وعندما أدت الظروف مرة أخرى إلى ترابط مجموعات الأقاليم على هيئة ممالك صغيرة، تحت تأثير تقارب المصالح حينًا وتحت ضغط القوة والغلبة حينًا آخر، تكررت العملية السابقة بصورة تلقائية، فكفل الفريق الحاكم في كل مملكة نوعًا من الهيمنة لمعبوده على من سواه من معبودات الأقاليم الخاضعة للواء مملكته "راجع ص57+". ولما أفضت الحوادث إلى انتظام هذه الممالك المتفرقة في ظل مملكة واحدة، لفترات متقطعة فيما قبل الأسرات، ثم للمرة الأخيرة منذ بداية العصور التاريخية، أصبح لمعبود الملك في المملكة المتحدة سيادته الواسعة على بقية معبودات دولته، وهو أمر يمكن افتراض مثله لكل من المعبودين أوزير ورع على التوالي فيما قبل الأسرات، ثم المعبود حور معبود أوائل ملوك العصور التاريخية وراعيهم والذي غدا من ثم معبودًا رسميًّا للدولة كلها وراعيًا لها. وذلك مع ملاحظة أن الاعتراف به وبمن سبقه من المعبودات الكبار لم يقض على معبودات الممالك الصغرى القديمة ومعبودات الأقاليم، كما أن هذه بدورها لم تجب معبودات القرى القديمة التي سادتها، وإنما استمرت تعبد جمعيها جنبًا إلى جنب، فيما عدا ما تناساه أتباعها من تلقاء أنفسهم أو نقلوا صفاته إلى معبودات أخرى من تلقاء أنفسهم. وذلك بحيث لم يأب أبتاع الإله الأكبر أن يتركوا أصحاب المعبودات الصغرى وشأنهم. ولم يأب أصحاب المعبودات الصغرى أن يشاركوا في تمجيد الإله الأكبر والاتجاه إليه في الجليل من شئونهم. وأدت إلى هذا الوضع الديني أو هذا الخلط الديني عوامل عدة نذكر منها: غلبة روح المحافظة على القديم الموروث في أمور الدين والعبادات، وغلب روح التسامح التي احترمت تعدد المعبودات، وحرص الفراعنة على عدم تركيز السلطة الدينية في أيدي كهنة معبود واحد، وعملهم على توكيد روابطهم بجميع الدوحات الإلهية التي تخيلها رعاياهم، ثم اتجاه المصريين إلى افتراض روابط الأبوة والبنوة والزيجة بين أربابهم المتقاربين في الصفات وفي أماكن العبادة، وذلك أمر بدت منطقيته بعد أن تخيلوا لأربابهم هيئات إنساينة وافترضوا لهم حياة تماثلها حياة البشر لولا أنها سرمدية عالية، تزاوجوا فيها وأنسلوا، وأحبوا فيها وغضبوا، وحكموا وتحاكموا، وعلاهم فيها إله أكبر ذو عرش وصولجان ووزير وكاتب وسجلات وديوان، ولهم مجامع يتداولون الأمور فيها. وقد يسرت هذه الأخيلة افتراض أسر إلهية ثلاثية تكونت من أب وأم وولد، ومن زوج وزوجتين، ثم أسر تساعية كبيرة في عين شمس وغيرها تضمنت الجد وجد الجد والابن والحفيد. وترتب على ذلك كله أن الإله الأكبر للدولة لم يعد رئيسًا لآلهة متنافرين، وإنما غدا رئيسًا لآلهة متقاربين، لأغلبهم صلة بمن سواه، ولأغلبهم نصيب من صفات غيره، ولكل منهم نصيب من رعاية الدولة وفراعنتها. وتغير اسم الإله الأكبر للدولة مرات قليلة خلال العصور التاريخية القديمة، وترتب هذا التعبير في معظم الشخصي والفكري للفرعون أحيانًا، ثم ازدياد نفوذ كهنة معبود معين على من سواهم. وهكذا بينما انعقدت الهيمنة للإله حور في بداية الأسرات، انعقدت الأولوية للإله رع منذ أواسط الدولة القديمة "مع ظهور إرهاصات سابقة بأهميته"، ثم انتقلت الرئاسة إلى آمون في الدولة الوسطى، وآمون رع في بداية الدولة الحديثة، ثم إلى آتون في عهد آخناتون، وعادت بعده إلى آمون رع حتى نهاية العصور الفرعونية. وقد كانوا جميعهم يرتبطون بألوهية الشمس بسبب صريح أو ضمني، وإن تغيرت أسماؤهم من عصر إلى عصر.

في سبيل التوحيد

في سبيل التوحيد: جنبًا إلى جنب مع التطورات البطيئة السابقة لأفكار التأليه ظلت فكرة الوحدانية تراود أذهان المفكرين المصريين من حين إلى حين. وقد بدأت معهم على صورة الإيمان بوحدة الخالق. ثم انتقلوا بها إلى الاعتقاد بوحدة الربوبية، وأرهصوا بعدها بما يشبه عقائد الحلول والتشبيه، ثم انتهوا أخيرًا إلى الإيمان بوحدة المعبود1. وإذا انتقلنا بهذا من الإجمال إلى التفصيل ألفينا الاعتراف بوحدة الإله الخالق قائمة في مذهبي عين شمس ومنف القديمين لتفسير نشأة الوجود، حين رد أصحاب كل مذهب منهما الوجود بطبيعته وأربابه وناسه وبقية كائناته، إلى خالق واحد دعوه في عين شمس باسم أتوم، بمعنى الأتم المتناهي، ودعوه في منف باسم بتاح ربما بمعنى الصانع أو الفتاح أو الخلاق "ص65، 87". وظهرت بوادر الإيمان بوحدة الربوبية منذ اتجه أهل الفكر فيما بين أواخر الدولة القديمة وبين أوائل الدولة الوسطى، إلى إله الشمس باعتباره إلهًا خالقًا وإلهًا أكبر من آن واحد. وجعلوا اسمه قاسمًا مشتركًا مع أسماء بقية المعبودات ولكن دون أن يحاولوا إفناءهم فيه. فأطلقوا عليه أسماء: سوبك رع، وآمون رع، وتحوتي رع، وبتاح رع، وهلم جرًّا ... ، وكأنهم أرادوا بذلك اعتبارهم مجرد صور منه، أو هم بمعنى آخر قد اعتبروا الربوبية التي تجمعهم جوهرًا واحدًا مركزه رع، ولكنه جوهر له أوجه عدة يعبر كل وجه منها عن قدرة ربانية متميزة باسم إلهي خاص، وكان في اقترابهم من هذه الفكرة، فكرة وحدة الربوبية، ما جعلهم قريبين من الاعتراف بوحدة الخلق في الوقت نفسه، فقال قائلهم وهو يسبح ربه الخالق القديم "أتوم" "وقد غدا صورة الإله الشمس": أتوم، خلقت البشر جميعًا ... ونوعت هيئاتهم ووهبت الحياة لهم جميعًا ... وفرقت بين ألوانهم يا سميعًا لرجاء الأسير ... يا لطيفًا بمن دعاه ... 2 ومضى تيار الفكر الديني في طريقه، ووجد أصحابه في اتساع آفاق الدولة الحديثة ما جعلهم يتشوقون غلى الوحدانية الكاملة ويرهصون بها، وبدأها بعضهم بما يشبه عقائد الحلول، فصوروا ربهم "آمون" على

_ 1 راجع: عبد العزي صالح: الوحدانية في مصر القديمة - يوليو 1959 - ص11 - 22. 2 Brit. Mus. 40959; S. Hasan, Hymnes Religieux Du Moyen Empire, 192-193.

أنه فرد مطلق خفي، ولكنه حفاظ لكل شيء، حال في كل شيء، موجود في كل الوجود. ووصفه قائلهم بأنه "أكبر من السماء، وأسن من في الأرض، رب الكائنات، حفاظ كل شيء، وباق في كل شيء"1. وهكذا آمن القوم بخفاء جوهر ربهم، وتفرده بقدرته العليا، واطمأنوا إلى وجوده في كل الوجود، وإلى رعايته لكل من في الوجود "وإن كانوا قد تخيلوا هذا الوجود في مصر وتوابعها أكثر من غيرها". ولكن عزت عليهم للأسف عدة أمور، أهمها: أنهم لم يكتفوا له باسم واحد، ولم ينزهوه تمامًا عن التشبيه، ولم ينكروا تعدد المعبودات إلى جانبه، فوصفوه فردًا وكبيرًا لجماعة الأرباب في آن واحد ونزهوه عن المادية وتخيلوا له صورًا كثيرة في آن واحد. وتمثلت علل هذا الخلط فيما مهدنا به لنشأة الدين، أي في صعوبة التخلص من القديم الموروث، وفي سماحة المتعبدين، وفي تشابه سبل الدعوة إلى المعروف عند أبتاع كل معبود، وفي افتراض القرابة الوثيقة بين الأرباب المختلفين، وفي منطقة التبرير بأن الإله الأكبر هو الذي خلقهم بأمره ومن نفسه أو من رشحه وأمر برعايتهم، ثم في مرونة الفكر الديني التي لم تأب أن تتقبل الجديد وتضعه جنبًا إلى جنب مع القديم، مع استغلال الفراعنة لكل هذه العوامل لكي يحولوا بها دون تركيز النفوذ الديني في أيدي كهنوت معبود واحد، ولكي يوهموا أبتاع كل معبود أنهم معهم، ولا يأبون عليهم حرية عقائدهم. وضاقت بكل ذلك صدور بعض المؤمنين في أواسط عصر الأسرة الثامنة عشرة، وتمنوا لو اهتدوا إلى التعبير عن ربهم باسم واحد، والرمز إلى آيات قدرته برمز واحد، وإعلان وحدانيته صريحة واضحة. وأراد المجددون أن يبدءوا بتحديد اسم معبودهم وتحديد رمزه، وأوحى الحذر عليهم أن يربطوا بين الجديد الذي يودونه وبين القديم الذي تعوده أغلب معاصريهم، فبشروا باسم "آتون"، وهو اسم قديم اتجه به أسلافهم أدباء البلاط الفرعوني منذ الدولة الوسطى وجهتين: وجهة لفظية يدل فيها على معنى "الكوكب" ويعني كوكب الشمس بخاصة، ووجهة أخرى لاهوتية ينم فيها عن الإله المتحكم في هذا الكوكب2. ومنذ عهد تحوتمس الرابع رأى المجددون في اسم آتون ما يفي بغرضهم للتعبير عن اسم ربهم ورمزه، وأقنعوا أنفسهم بأنه لا يقلل من جلال ربهم المطلق أن يرمزوا إليه بآية الشمس كبرى آياته، فما من شك في أن من يتحكم في كوكبها وينظم مسيرته قادرًا على أن يدبر المخلوقات كلها. وسلكت هذه الدعوة سبيلها في حذر وهوادة وتقبلها الكهان بمرونتهم التقليدية.

_ 1 Pap. Boulaq Xvii, I,4. 2 Conffin Texts, D 47, 209; D 50, 230; Xlvii, 208, 226; Sinuhe, B 213; Pap. Petersburg, 1116 B, 24-25; Urk., Iv, 54; Cairo 34001, 7, 17, Etc. وراجع: عبد العزيز صالح: البحث السابق - 15.

واتخذ أمنحوتب الثالث منهاجًا وسطًا بين آمون وبين آتون، فحابى آمون وكهنته الأقوياء وأعلن أنه ولي العرش بناء عن بنوته له وبناء عن أمره، وأغدق العطايا على معباده وكهنتها. ثم ساير في الوقت نفسه دعوة آتون وسمح بعبادته جهرة في طيبة، وتقبل إطلاق اسمه على بعض أركان قصره ومحتوياته. وهكذا استمر اللبس بين القديم والجديد، وبين آمون وآتون، خلال عهده. وبقيت علة العلل بين طرفين: الفرعون الذي كان بيده حسم الأمر لو أراد ... ، لولا أنه جرى على سنة أسلافه، وآثر الإبقاء على تعدد المذاهب خشية أن تتركز سيطرة الدين كاملة في جانب مذهب واحد. ثم كبار كهنة آمون الذين تهيأ لهم من الشهرة والثراء العريض وسلطان المناصب ما أرهب الناس منهم وجعل التغاضي عن عقائهم أمرًا غير ميسور. ولم يعد من سبيل إلى اكتمال دعوة التوحيد إلا إذا اختصم الطرفان أصحاب الزمام: الفراعنة وكبار الكهان، أو تهيأ حوافز جديدة عنيفة لإصلاح الدين كله. وللمرة الأولى، تهيأ العاملان في عهد أمنحوتب الرابع منذ عام 1367ق. م. وكان ذا نفس حساسة مرهفة، وانجذب منذ صغره إلى تيارات الدين الذي كان خاله من كبار كهنته. وانتوى لنفسه منهاجًا يتزعم به دعوة آتون دعوة التوحيد، وبدأ التبشير به على حذر، فشيد معبدًا باسم آتون في رحاب الكرنك معقل آمون، وأعلن أن العبادة ينبغي أن تتجه إلى "الوالد آتون الحي"، وأن آتون ما هو إلا "رع حر آختي يتهلل في الأفق باعتباره النور الذي في الكوكب آتون"1. واستهدف أمنحوتب من هذه البداية ثلاثة أمور، وهي: أن يحدد رأس عقيدته الجديدة، وألا يفاجئ الناس بأسماء جديدة لم يألفوها، وأن يوحي إليهم بأنه لم يطلب منهم غير العودة إلى معبود الفطرة، معبود أجدادهم الأولين، رع حر آختي، وهو نفس آتون، ذلك الذي رغب الناس فيه بتسميته باسم "الوالد"، وربط بينه وبين آية النور المعجزة المستحبة في كوكبه. وعلى الرغم من بساطة هذا الاستهلال البارع الذي بدأ أمنحوتب دعوته به، أوجس كهنة آمون خيفة منه، وقدروا أن يافعًا مثله يستطيع أن يتزعم مذهبًا في الدين ويفتي بالرأي فيه، خليق بأن يتأتى على يديه تغيير كبير، فأضمروا له العداء وجافوه، وبادلهم هو جفاء بجفاء، وسارت الأمور بينهما من سيئ إلى أسوإ، وأبدت عين البغض بين الفريقين كثيرًا من مساوئ خافية، ومساوئ أخرى كانت تتغاضى عنها عين المجاملة. وبدا للفرعون ما ذكرناه له حين بحثنا تاريخ السياسة في عهده. وما يتمثل في ضيقه بانصراف الولاء الديني لأرباب عديدين، وانصراف أموال الدولة إلى معبادهم الكثيرة، وضيقه بثراء كبار كهنة آمون واتساع تدخلهم في شئون الدولة، وضيقه بروح المحافظة التي تعللت بالدين وقيدت حرية الناس، ثم أمله في أن يجد من شيوع دينه الجديد خارج مصر ما يحقق رابطة متينة توثق الصلات بينها وبين أتباعها وجيرانها. وفي العام السادس من حكمه جهر أمنحوتب بعقيدته، وأعلن التوحيد خالصًا، فنادى بإله واحد لا شريك له، ولا محل لتعدد الأرباب والربات إلى جانبه، ليس هو آمون، ولكنه آتون. وليس هو

_ 1 تختلف ترجمتنا هذه عما أتت به أغلب المؤلفات الأخرى. Cf.Gunn,Jea, X, 168 F.

ممن تقوم عبادته خلف أستار وأسرار، ولكنه إله يشهد الناس آياته دون حجاب، ولهم أن يعبدوه حيثما سقط من كوكبه على الأرض شعاع، ونزه فنانوه ربهم عن أن يرمزوا إليه بهيئة إنسان أو جسم إنسان ورأس حيوان، وآثروا له رمز كوكب الشمس بكل ما فيه من قدرة ربانية مستترة وجسم ظاهر مضيء تصدر عنه أشعة عدة، وبمعنى أصح أيد عدة بأكف مبسوطة تمتد على الأرض لتهبها الحياة، وكان رمزًا قديمًا جديدًا في آن واحد، قديمًا في هيئة قرص الشمس، جديدًا بهيئة الأيدي التي بدأ تصويرها منذ عهد تحوتمس الرابع. ويبدو أن الفنانين لم يروا في تصوير أكف الإله المبسوطة انتقاصًا من روحانيته، واعتبروا تصويرها نوعًا من التعبير الفني يغني عن الوصف والكتابة، وشابههم في ذلك فنانو عصر النهضة المسيحيون فيما بعد حين صوروا يد الله بين الغمام ونحتوا لها التماثيل .. وبدأ أمنحوتب بنفسه، فتبرأ من لفظ آمون في اسمه، وسمى نفسه آخناتون، ربما بمعنى المخلص لآتون أو النافع لآتون أو المجد لآتون، وتختلف هذه الترجمات المقترحة عن الترجمات الأخرى الشائعة. وهاجر بأهله وأتباعه من العاصمة القديمة "طيبة" إلى أرض وصفها بأنها أرض بكر طهور لم يدنسها شرك في العبادة، ولم يعبد فيها من قبل إله أو إلهة، تتوسط أراضي القطر، وتقوم على أنقاضها بلدة العمارنة الحالية، وسماها "آخيتاتون" بمعنى أفق آتون أو مشرق آتون. وخرجت أناشيد الدين الجديد تناجي ربها بالود والحب والتبجيل، وقالت فيما قالت: "تجليك في أفق السماء بديع، وآتون الحي أصل الحياة ... أنت البهي، أنت الجليل، أنت المنير، أنت العلي فوق كل أرض ... ". وعرضت الأناشيد منن الإله الظاهرة في حجج فطرية مقنعة، استخدمت المقابلة فيها بين حال الأرض وأهلها حين غياب نور كوكب الرب وحين ظهروه، فكلما غاب أظلم الكون وأصبح كالموات. وهجع الخلق، وخيف النهب، واستشرى الوحش، ودبت الزواحف. فإذا أشرق آتون بدل الحال غير الحال، فشتت الظلمة وبسط الأشعة وكفل الأمن ويسر السعي. "وظهرت نفس الحجج ضمن ما رددته فيما بعد مزامير العبرانيين، مما دعا ببعض الباحثين الغربيين مثل برستد وجريفث وغيرهما إلى الربط بينهما واعتبار الأناشيد المصرية أصلًا لها". وكانت مذاهب الدين القديم قد ربطت بين الإله وعباده بروابط شتى، فتخيرت الدعوة الجديدة من هذه الروابط، روابط العطف والحب، وأعلنت أن ربها عظيم المحبة، وأنه أم وأب لكل من خلق، وله يسبح البشر والحيوان والطير والنبات، كل منهم بطريقته وتسبيحه، وقالت: "الزهر ونبت الأرض ينفتح لمرآك، وتتملكه النشوة لمحياك، والأنعام تتراقص على أقدامها، والطيور في أوكارها تطوي أجنحتها وتنشرها تسبيحًا لآتون الحي خالقها .. ، الأرض بأسرها عامرة بحبك، والعشب والشجر يتمايل لمطلع وجهك، وأسماك الماء تتراقص لرؤيتك .. ".

وبلغت الدعوة غايتها حين خرجت بدينها عن الإقليمية إلى العالمية، ونادت بإله رحيم في كل أمره، محبوب في كل أمره، خلق الكون عن حب ورغبة، واقتضت عدالته أن ينتفع القريب والبعيد بفضله، وتنبسط آلاؤه بانتشار أشعته في أقطار الدنيا بأسرها، دون تفرقة فيها بين أبيض وأسود، فلم لا يجتمع الناس إذن على عبادته كما اجتمعوا على النفع منه؟ وقال آخناتون يسبح ربه: "رب أحد دون شريك، برأت الدنيا وكنت فردًا. خلقت البشر والأنعام، وكل ما يسعى على الأرض بقدم، ويحلق بجناح في الفضاء. وأقطار سوريا والسودان وأرض مصر، وجهت كل فرد فيها إلى موطنه، ودبرت للجميع شئونهم، فأصبح لكل فرد رزقه وتعين لكل فرد أجله، وظلت الألسنة بينهم في النطق متباينة والهيئات والألوان متمايزة. آتون يا ضوء النهار، يا عظيم المجد، بلدانا نائية تهبها الحياة وترسل الغيث من أجلها، يموج الغيث فوق الجبال كالبحر الخضم ويسقي الحقول بين القرى. ما أجل تدبيرك رب الخلود، فيضان في السماء لأهل القفار وحيوان الفلا وما يدب على قدم، وفيضان سواه لأرض مصر يأتي إليها من دنيا العدم"1. وهكذا لم يجد آخناتون بأسًا من أن يذكر اسم مصر العظيمة بعد ذكره الشام والسودان، ما دام الخالق الرازق واحدًا، رحيمًا هنا رحيمًا هناك، جوادًا هنا منعمًا هناك، خلق الجميع على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومواطهنم، وتكفل برزقهم، وكان معجزًا حين وهب مصر فيضانًا من باطن الأرض، كريمًا حين وهب غيرها فيضانًا من جوف السماء. وتزعم آخناتون مجالس الدعوة وأعلن نفسه نبيها والمصطفى لنشرها، واصطفى لنفسه حواريين يعلمهم كما علمه الإله2. ورأى أن تشييد دور العبادة خير سبيل لنشر الدعوة، فعمل على الإكثار منها باسم آتون في أمهات المدن المصرية، وأوحى بإقامة أمثالها في عواصم النوبة والشام. وجعل مدينته "آخيتاتون" مدينة فاضلة تعمل للدين والدنيا معًا، تبشر بالإيمان السمح المستبشر، وتشيد بالعدل في كل أمره، وتتردد تسابيح الشكر والصلوات لآتون في معابدها، كما تتردد الأغاني والأنعام وأهازيج حب الطبيعة والجمال في مجالسها. وعكس هو وأتباعه جوهر الدعوة على الآداب والفنون، فحاولوا أن يخلصوهما من ركام التقاليد وقيود التراث القديم التي لا توائم دعوة التحرر والاعتراف بالواقع في عهدهم، فتخففوا من أساليب الأدب المتقعرة القديمة وغلبوا عليها لغة الحديث المقبولة الشائعة. وبدأ آخناتون بنفسه في دعوة تحرير الفنون،

_ 1 Davies, El-Amarna, Vi, Pl. Xxxvii; Sandman, Texts From The Time Of Akhenaten, 1938, 93 F.; Ii, 5-6; 12, 10; 15, 7, Etc… 2 Ibid., I, 7 F., 60, 6; 80, 17 F.; 92, 8-9. Cf. Zaes, 1967, 25-50.

ففتح مغاليق قصره للمثالين والرسامين، فمثلوه في بشريته الخالصة وصوره هو وأسرته في حياتهم العادية، حين فرحهم وحزنهم، وعبثهم وجدهم، وتوهم أنصار الدعوة أن الأمور قد صفت لهم، وتمنوا لفرعونهم ومعلمهم أن يظل بينهم وفي عاصمتهم "حتى يسود البجع، ويبيض الغراب، وتتحرك الجبال، وينساب الماء إلى حيث ينبع"1. وعلى الرغم من ذلك كله لم يطل الأمد بدعوة التوحيد، ولم يتهيأ لها من كثرة الأتباع ما كان يرجى لمثلها، ولم ينته الأجل بصاحبها حتى كان قد رأى عوامل التحلل والفشل تدب فيها من حيث ظن الخير ومن حيث لم يحتسب. وتمثلت هذه العوامل فيما قدمنا به عنها حين حديثنا عن الجوانب السياسية في عهده، ومجملها: عدم خروجه بنفسه للترويج لدعوته في أمهات العواصم داخل مصر وخارجها، وتقبله إسراف أنصاره في تمجيده حتى أعلنوه ابنًا للإله وأوشكوا أن يؤلهوه وأن ينشغلوا بشخصه عن ديانته، وأن دعوته لم تأت بجديد يجذب العامة إليها في حياتهم الاقتصادية أو الطبقية، وأن عقائد التعدد كانت قد تغلغلت في عادات الناس بحيث يصعب انتزاعها من نفوسهم بسهولة، وأن سمعة آمون القديمة ونفوذ من بقي من كبار كهنته كلاهما لم تخمد جذوته على الرغم من الرماد المؤقت الذي غطاها، وأن الشرق القديم الذي أمل آخناتون أن يجتذبه إليه بدعوته إلى عالمية الدين وإلى روح المسالمة والإخاء، كان في شغل شاغل عنه بمشاكله وبمن تنازعوا أموره من الأموريين والكنعانيين والأراميين والعابيرو والخابيرو، وبمن احتربوا عليه من الميتانيين والحيثيين. بل إن مشاكل أسرة آخناتون نفسها واتجاهات أمه وزوجته لم تكفل له الهدوء كاملًا، ولم يكن له ولد يرثه على العرش والدعوة، وإنما أخوان صغيران، اتجه أحدهما وهو "سمنخ كارع" إلى مهادنة كهنة آمون في حياة أخيه، وسلم الآخر وهو توت عنخ آتون ببأس خصومه والأمر الواقع بعد وفاة أخيه، فارتد عن دين آتون، وعاد إلى طيبة مقر آمون، وولي عرشها باسم "توت عنخ آمون" وناصر دينها وعمر معابد أربابها ورباتها. وسلكت نفحة الوحدانية بعد ذلك مسالك أخرى تحاشت فيها نقمة أنصار التعدد فضمنت بقاءها ولو بين القلة من خاصة أهل الفكر في مجتمعها، مما نتناول تفصيله في بحث آخر2.

_ 1 Sandman, Op. Cit., 9; Erman, Op. Cit., 393. 2 راجع المؤلف: ديانة مصر القديمة - القاهرة 1984.

ثانيا: عقائد البحث والخلود

ثانيا: عقائد البحث والخلود ... ثانيًا: عقائد البعث والخلود طمعت أغلب شعوب العالم القديم في الخلود واستئناف الحياة بعد الممات، كما طمع المصريون سواء بسواء. ولكن بينما رتبت هذه الشعوب طمعها في الخلود على الأمل وحده ووقفت عنده، رتب المصريون طمعهم فيه على المنطق والعمل والأمل والعقيدة في آن واحد، وكانوا أول أمة آمنت بالبعث والخلود من تلقاء نفسها وأصرت عليهما1. وافترض المصريون للإنسان مقومات عدة، طبيعية ومكتسبة، أهمها سبعة، وهي: جسم مادي "خت"، وقلب مدرك "إب"، وطاقة أو فاعلية أو نفس فاعلة "كا"2، واسم معنوي "رن"، وظل ملازم "شوت"، وروح خالدة تسري في الظاهر والباطن "با"، ونورانية شفافة "آخ". وتشتد صلته بالاثنتين الأخيرتين منها بعد وفاته، إذا كان صالحًا. واعتقدوا أنه لا بقاء للمرء في أخراه إلا باجتماع كل هذه المقومات، وأنه لا سعادة لها في جملتها دون مساعدة خارجية. ولهذا تلمسوا سبل الاهتمام بكل واحد منها على حدة، إلى جانب الاهتمام بها جميعها كوحدة واحدة. فالجسد ينبغي أن يصان ويحنط، والقلب يحفظ ويعوذ، والكا أو النفس الفاعلة تتلي التراتيل باسمها من أجل صاحبها وتقدم القرابين لصالحها، والروح تتنقل ما شاء لها ربها في عالم الأرض أو في عالم السماء ما دامت مؤمنة، والنورانية تكتسب بالتقوى، والاسم يخلد عن طريق صالح الأعمال، وترديده في الدعوات وتكراره في نقوش المقبرة وقرنه بالسمعة الطيبة للأسرة عن طريق جهود الابن الأكبر3. ووجد المصريون في خصائص بيئتهم ما يوحي لهم بمنطقية الخلود ويشجعهم على طلبه. فقد اعتادت أغلب أجيالهم منذ فجر تاريخهم على أن يدفنوا موتاهم في الحواف الصحراوية "والغربية منها بخاصة"، لينأوا بمقابرهم عن رطوبة الأرض الطينية، ويتركوا الأرض الطميية للزراعة. ويوفروا أراضي القرى لأحيائها. وشيئًا فشيئًا تبينوا أن مقابرهم الصحراوية تحفظ جثث موتاهم بحالة لا بأس بها لفترات غير

_ 1 كثيرة هي المؤلفات التي كتبت عن عقائد ما بعد الموت في مصر القديمة ومنها: أدولف إرمان: ديانة مصر القديمة - معرب بالقاهرة 1952. جيمس هنري برستد: تطور الفكر والدين - معرب بالقاهرة 1965. جيمس هنري برستد: فجر الضمير - معرب بالقاهرة 1956. A. H. Gardiner, The Attitude Of The Ancient Egyptians To Death And The Dead, 1935; H. Kees, Totenglauben Und Jenseitsvorstellungen Der Alten Aegypter, “2ed”, 1956; J. Vandier, La 1962, Ch. Ix. 2 راجع المؤلف: Saleh, “Notes On The Egyptian Ka”, Bulletin Of The Faculty Of Arts, Cairo University, Vol. Xxii, Part 2 “1965”, 1 F. 3 راجع المؤلف: مداخل الروح وتطوراتها حتى أواخر الدولة القديمة - مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة - 1964 - ص95 - 136. مقومات الإنسان وماهيته في مصر القديمة - نفس المجلة – 1969 - ص159 - 198.

قصيرة، وعندما اختلطت هذه الظاهرة بأحاسيسهم الدينية لم يردوها إلى جفاف الصحراء وحده، ولا إلى دور الرمال في امتصاص رطوبة الجسد وحده، وإنما ردوها أساسًا إلى قدرة ربانية حانية، وقدروا أنهم إذا استرضوا صاحب هذه القدرة وقدسوه، زاد في رعايته لجثثهم وحفظها سليمة لأطول مدة ممكنة. وقد حدث بالفعل أن المعبود الذي تخيلوه ربًّا للحواف الصحراوية وسموه "إنبو" "أو أنوبيس في الإغريقية"، كان هو نفس المعبود الذي تخيلوه راعيًا لجثث الموتى وقادرًا على حفظها وحاميًا للجبانات. وقد انتشر الإيمان به من طائفة إلى أخرى حتى أصبح الجميع يتوجهون بدعواتهم الأخروية إليه. واعتبروه ربًّا للتحنيط بارعًا فيه، ورمزوا إليه بهيئة ابن آوى، وهو رمز يصعب تعليل اختياره، مع شرور بنات آوى في الجبانات والصحراوات، إلا بما قدمنا به وهو الاعتقاد العكسي بأنه لن يستطيع أن يخبت شرة هذه الحيوانات إلا من خلقها وارتضى لها هيئتها وجعلها آية ظاهرة لقدرته، بعد أن يترضاه الناس ويحسنوا الظن به فيغلبوا قدرة الخير فيه على قدرة الشر. ولم يكن نهر النيل وما يترتب عليه في دنيا المصريين بمعزل عن الإيحاء إليهم بإمكان تجدد الحياة والبعث وهم يرون فيضانه يتجدد كل عام في موسم لا يخلفه، فيخصب التربة، وينبت البذرة، ويدفع دورة الحياة الزراعية دائمًا دفعات جديدة، ولم يتوهموا هذه المظاهر تحدث تلقائيًّا من غير علة أو غاية، وإنما آمنوا معها برب كريم يدفع الفيضان من باطن الأرض، ويدفع النبات من الحب المدفون في التربة، ويحيي الحقول الجافة بعد الموات كلما مسها بفيضه ورحمته. ومع طول التدبر ونمو التدين قدروا أن من يتعهد طبيعتهم بالحياة المتجددة ويدفع عنها مواتها، قادر من غير شك على أن يتعهد أهلها بالحياة بعد وفاتهم، طالما أحبهم وأحبوه، وطالما تقربوا إليه وقدسوه. وقد حدث بالفعل أن المعبود الذي تخيله نفر منهم ربًّا للفيضان والخصب والزرع، وقدسوه باسم أوزير "أو أوزيريس كما دعاه الإغريق" كان هو نفس المعبود الذي نسبوا إليه ربوبية البعث والآخرة، وجعلوا مملكته تحت الأرض، وامتد تقديسهم له في طول البلاد وعرضها، وأحاطوه بأساطير وتخيلات عدة. "وهو غير إله النيل جعبي". وكما استمد المصريون أملهم من أحوال الأرض وأربابها، استمدوا كذلك من السماء وأكبر أربابها حين لاحظوا ما لاحظته أغلب الشعوب القديمة، من أثر الشمس في دورة الحياة اليومية، وارتباط شروقها بيقظة الكائنات بعد النوم، والنوم هو الموت الأصغر كما يقولون، وبالحركة بعد الخمول، والرؤية بعد قلة الرؤية، فلم يردوا ذلك إلى عملية آلية لا روح فيها ولا هدف لها، وإنما ردوه إلى رب قادر اتخذ الشمس آيته الكبرى لنفع الأحياء في الدنيا، وتوهموا في هذا الرب "رع" وفي علل شروق شمسه وغروبها ما سبق لنا تفصيله في عقائد التأليه، ثم قدروا أن من يسير الشمس لنفعهم في الدنيا قادر على أن يوجهها لنفعهم في الآخرة، بعد أن تتجه إلى الأفق الغربي حيث توجد أغلب مدافنهم، فتنزل فيه إلى ما تحت الأرض وتضيء ظلمة القبور وتنير مسالك العالم السلفي، وتخيلوا للرب من أجل هاتين الغايتين، مركبين "سبق التنويه بهما"، مركبًا يعبر بها سماء الأحياء في النهار، وهي معنجة، ومركبًا يعبر بها سماء الموتى في الليل وهي "مسكتة"، وله في هذه الأخيرة مسار معلوم تحدثت عنه كتب الموتى في كل ساعة من ساعات الليل الاثنتي عشرة.

العصور ونمو الإمكانيات وتطور التصورات. فسادت الماديات في العصور المبكرة، ثم غلبت المعنويات عليها شيئًا فشيئًا خلال العصور المتحضرة المتتالية، ولكن دون أن تمحوها، فإلى جانب الارتقاء المستمر بعمارة المقابر وتوسيعها وتأمينها ضد عوادي الزمن واعتداءات الغير، باعتبارها المساكن الباقية لجثث أصحابها، بدأت الرعاية المادية في العصور المبكرة بتزويد المتوفى في قبره بما يمكن تزويده به من أواني الطعام والشراب والأدوات الضرورية وبعض مقتنياته الثمينة الخاصة، وتماثيل صغيرة رمزية لخدمه وجواريه إذا كان ثريًّا، وذلك ما يمكن تفسيره بالرغبة في إكرامه وإيثاره، وبالأمل في أن ينتفع بما يوضع معه في قبره خلال سفره الطويل، انتفاعًا يناسبه، وكل ذلك مع الحرص على تقديم القرابين وتلاوة التراتيل باسمه في الجزء العلوي من مقبرته في أوقات معينة وبما يتفق مع إمكانيات أهله. وتطورت الرعاية شيئًا فشيئًا منذ أوائل العصور التاريخية، فاستعاضت عن الأطعمة الفعلية التي توضع في أسفل القبر، بتسجيل أسمائها وأعدادها ورموزها في قوائم منقوشة على لوحات خاصة تتخذ أوضاعًا محددة في قاعات تقديم القرابين فوق سطح الأرض، ثم تصوير مصادر خيرات الدنيا من زراعة وصناعة وصيد وفخر ولهو، على الجدران الداخلية في الجزء العلوي من المقبرة، ابتداء من أوائل الدولة القديمة. وقد رمزت هذه النقوش والمناظر في مجملها إلى أهم ما استحبه أهلها في دنياهم، ثم عبرت بتفاصيلها عن أغراض شتى، فاعتبرها أصحابها نموذجًا لما يودون أن تصبح عليه حياتهم في العالم الآخر، ورأوا فيها إذكاء لسعادة الروح وتذكيرًا لها بحياتها الأولى كلما هبطت من عالم السماء على قبرها، واعتقدوا بإمكان تحولها إلى حقائق تناسب العالم غير المنظور الذي سوف ينتقلون إليه، عن طريق ما يكتب معها ويتلى عليها من تعاويذ السحر وتراتيل الدين، واعتبروها تعويضًا احتياطيًّا لاحتمال تقصير ورثتهم في تقديم القرابين الفعلية لصالحهم، ثم اتخذوها وسيلة لتخليد السمعة والتفاخر والتعبير عن الثراء، ووسيلة للتعبير عن حب الزخرف والرغبة في استرواح صور الفن الجميل في الدنيا والآخرة. وانتقلت بعض هذه النقوش والمناظر منذ أواخر الدولة القديمة، من الحجرات فوق سطح الأرض إلى غرف الدفن وما حولها، وانتقل بعضها إلى سطوح التوابيت، ولكن ظلت أغراضها في أغلب الأحيان متشابة. وكان التابوت يعتبر المسكن الأصغر للمتوفى كما كان قبره يعتبر مسكنه الأكبر، ولهذا وجد من العناية والتطوير نصيبًا كبيرًا. وتضمنت المقابر إلى جانب مناظرها ونقوشها، تماثيل كبيرة وصغيرة لأصحابها، وضعها الأحياء في أوائل الدولة القديمة في مقاصير مغلقة الجوانب وفي أقرب مكان فوق سطح الأرض يمكن أن يؤدي إلى بئر الدفن، كي ترغب الروح في التردد على مقبرة صاحبها وتسترشد بملامحها وهي في طريقها إلى حجرة دفنه حيث تحط على جثته. وليس من المستبعد أن تكون هذه الرغبة قد ارتبطت عند أصحابها بالخشية من أن تتغير ملامح الجثة أو تتحلل رغم وسائل حفظها، فتضل الروح عنها أو تنفر من أن تعود إليها، ثم انتقلت التماثيل منذ أواسط الدولة القديمة إلى مقاصير مفتوحة بالمقابر، وجمعت إلى غرضها السالف غرض تخليد صورة المتوفى بين الأحياء المترددين على مقبرته، وغرض تقديم القرابين والتراتيل أمامها لمنفعة روحه حين تتلبسها.

وساير الفنانون عقائدهم التي وعدت المؤمنين بالبعث برءاء من أعراض الضعف والمرض وعيوب البدن، فنحتوا هذه التماثيل في هيئات صحيحة قوية مستبشرة، ولم يمثلوا فيها عيوب البدن إلا في مرات نادرة. وغالبًا ما صحبت تماثيل المتوفى تماثيل أخرى صغيرة لخدمه وجواريه، كل بعمله الذي تخصص فيه، ابتغاء أن تنتفع روحه بمجهودات أعمالهم في الآخرة كما تنتفع بصورهم في مناظر المقبرة. ثم تماثيل أخرى صغيرة تسمى الرشابتي يقوم بعضها بدور المجيب عن صاحبه حين يُدعى لشأن من شئون الآخرة، ويقوم بعضها الآخر بدور التابع المسخر لأداء ما يأنف صاحبه من أدائه من أعمال في الآخرة1. وليس أدل على أن المصريين لم يعملوا لتقبل الموت بقدر ما عملوا للتغلب عليه من آية التحنيط التي حفظت على جثث كبارهم خواص تقاطيعها، وجلودها وشعورها، وأصابعها بأظفارها، على الرغم من مرور ما بين ثالثة آلاف وثالثة آلاف وخمسمائة عام عليها. ومعروف ما استهدفه المصريون من التحنيط من حيث الرغبة في الإبقاء على الجسم سليمًا واضح الملامح بقدر الإمكان، رعاية لصاحبه، وضمانًا لبعثه، وتشجيعًا لروحه على أن تأنس إليه وتتلبسه. وقد سكلوا في سبيل التحنيط مراحل وتجارب عدة، ندع تفاصيلها وتتابعها التاريخي لبحث آخر تالٍ، ويكفي أن نذكر أنهم وصلوا إلى كما التحنيط في الدولة الحديثة. ويفهم مما احتفظت به نصوص معدودات ومما سجله المؤرخان هيرودوت وديودور، ومما انتهى إليه الأخصائيون المحدثون2، أن البطن كانت تشق من جانبها بشفرة ظزانية رقيقة لتستخرج منها أحشاء الفراغ البطني والفراغ الصدري فيما عدا القلب، وقد يستخرج المخ من الرأس أيضًا، ثم تعالج كل من هذه بمواد معينة وتلف على حدة وتوضع في تجاويف الجسم ثانية. أو توضع في أوانٍ فاخرة تناسب صاحبها وتحاط بمواد تحفظ عليها كيانها وتمنع فسادها، مع الاعتقاد في إيكال رعايتها إلى أبناء الإله حور الأربعة، وحينئذ تملأ فراغاتها في الجسم بالراتنجات والصموغ والنشارة وما يماثلها أما المواد الأساسية المستعملة لكي تتشرب دهنيات الجسم وشحومه وعفونته، وتكسبه النقاء والجفاف والرائحة الزكية، فكان منها فيما يعرف حى الآن: النطرون وشمع العسل والقرفة والكاسيا والبصل وأنواع من الراتنجات الصمغية وحبوب العرعر وزيته وزيت الأرز وزيت الزيتون، والمر والمستكة والحناء، وكل ذلك بنسب وطرق لا تزال تحوطها الأسرار حتى الآن. وأضاف محنطو عصر الأسرة الحادية والعشرين خطوة قد تحتسب لهم أو عليهم، وهي معالجة تقلصات الأعضاء في بعض أجزاء الجسم حين التحنيط بحشو ما تحت الجلد بمواد مختلفة حتى تنبسط وتتخذ شكلها الأصيل، وحشو الصدغين أحيانًا حتى يتخذا امتلاءهما الطبيعي، وملء تجويف العين بما يرد عليها حيويتها. وشيئًا فشيئًا شاع استخدام التحينط لكل من يقدر على نفقاته من أفراد الشعب، وأصبحت له ثلاث مراتب كما روى هيرودوت تتفاوت

_ 1 Speleere, Les Gurines Egyptiennes, Bruxelles, 1923. 2 Ef. Pap Boul. Iii; Pap. Louver 5158; Herodotus, Ii, 88 F.; Diodorus, I, 91 F.; Dawson, Jea, Xiii, 40 F.; E. Smith And Dawson, Egyptian Mummies, 1924; K, Sethe, Zur Geschichte Der Einbalsmierung Bei Der Aegypter…, 1934; A. Lucas, Ancient Egyptian Materials And Industries, 1948, Ch. Xii And Notes.

في تكاليفها ومدى إتقانها، كما تتفاوت في فتراتها. بين أيام معدودات، وبين سبعين يومًا أو ما هو أكثر. وكان تمام عملية التحنيط فيما يسبقها ويصحبها ويتلوها من عمليات الغسل والتنظيف والتطهير والتعطير واللف والتكفين ثم وضع التمائم، لا سيما تميمة القلب، والحلي والأقنعة الذهبية، وكتابة الاسم والألقاب ونصوص الدين، فضلًا عما يتلى عليها من الرقى والإشارات الرمزية إلى فتح الفم وتنشيط الحواس، وما إلى ذلك مما ابتدعه الكهان وبرعوا فيه واعتمدوا في معيشتهم عليه. ولم يكن للخطوات السابقة من أثر، في عرف المصريين، إلا بفضل ما يُتلى عليها من تراتيل السحر والدين، عند الوفاة، وعند الغسل والتطهير، وعند الدفن، وعند تقديم القرابين، وعند إجراء الصلوات في مقاصير المقابر وهياكل المعباد. وأوسع المصادر الدينية حظًّا فيما تضمنته من هذه التراتيل، وأوسعها تعبيرًا عن عقائد ما بعد الموت وتطورها من عصر إلى عصر، هي: متون الأهرام، ومتون التوابيت، وكتب الموتى. وقد استشهدنا ببعض خصائص المصدرين الأولين منها، خلال حديثنا عن التطور الحضاري للنصف الثاني من الدولة القديمة بالنسبة لمتون الأهرام، وخلال عصر اللامركزية الأولى بالنسبة لمتون التوابيت. وأسلفنا عن متون الأهرام التي بدأ تسجيلها في باطن أهرام الملوك منذ نهاية عصر الأسرة الخامسة حتى نهاية الدولة القديمة "ثم في العصر الصاوي"، أنها لم تكن وليدة عصر كتابتها وحده وإنما كانت من تراث عصور طويلة سابقة وإنتاج كفايات فكرية متباينة، لهذا تضمنت صورًا أخروية ودنيوية وأسطورية وفلسفية، بعضها بدائي مضطرب، وبعضها راقٍ منطقي. وظهرت متون التوابيت، فيما مر بنا، منذ أواخر الدولة القديمة1، وزادت حصيلتها وتنوعت مذاهبها في عصر الانتقال الأول في الدولة الوسطى، واقتبس الكهان بعض أورادها من متون الأهرام، ثم ألقوا بقيتها بما يتناسب مع عهودهم المتتالية وآمال الناس فيها. وكان من أهم ظواهرها تلقب كل متوفى فيها بلقب "أوزير" أملًا في أن ينعم في الآخرة بما نعم به ويخلد فيها مثل خلوده. وكان هذا اللقب في بدايته قاصرًا على الفرعون باعتباره وريث أوزير في الدنيا والآخرة، فلما اهتزت أركان الملكية في أواخر الدولة القديمة، انتحل حكام الأقاليم امتيازاتها الدينية ورجوا لأنفسهم في الآخرة ما كان الفراعنة يرجونه لأنفسهم، وتلقبوا مثلهم بلقب أوزير، ثم قلدهم في ذلك من تحتهم حتى شاع اللقب وأصبح أملًا عامًّا لكل إنسان2. ولم تؤدِ متوت التوابيت إلى الاستغناء عن نقش متون دينية أخرى على الجدران، ثم لم تغنِ هذه ولا تلك عن ظهور موسوعات دينية جديدة في الدولة الحديثة، وهي كتب الموتى التي أصبحت تكتب على أدراج متفاوتة الأطوال من البردي وتحفظ مع المتوفى في تابوته أو توضع بين أكفانه. ولم تكن في حقيقة أمرها كتابًا يلتزم ترتيبًا معينًا، ويتحدد ببداية أو نهاية، ومن أجل هذا عدلنا عن تسميتها بالاسم الشائع لها وهو كتاب الموتى، وإنما كانت فصولًا دينية متفرقة تطور بعضها عن متون التوابيت، وألف بعضها الآخر بما

_ 1 Speleers, Textes Des Cercueils, 1947; A. De Buck, The Egyptian Coffin Texts, 1935 F.; R.O. Faulkner, The Ancient Egyptian Coffin Texts, I-Iii. 2 Moyen A. Moret, “Laccession De La Plebe Egyptienne Aux Droits Religeux Et Politiques Sous Le Empire”, Rec. D’etudes Eg., 1922, 231 F.

يتفق مع تصورات عصره، وكان الكتبة الدينيون يكتبون في كل دراج ما يحفظونه منها أو ما تتوفر عندهم نسخه. أو ما يطلبه منهم العميل نفسه، أو يشيع عادة في أيامهم. وقد داخل هذه الفصول كثير من السحر والأخيلة الشعبية، ولكننا لا نكتفي بنماذج من أفضل ما فيها. وكانت فكرة الحساب والمسئولية أمام الأرباب قد ترددت من قبل في كل من متون الأهرام ومتون التوابيت ولكنها أصبحت أوضح من كتب الموتى، ويعبر عنها فيها باللفظ والصورة، وبصور معنوية وأخرى مادية، ومن أكثر صورها شيوعًا تصوير ميزان ينصب ويوضع قلب المتوفى في إحدى كفتيه، باعتباره مصدر النية والمشاعر والضمير بينما تصور في الكفة الأخرى ريشة ترمز من حيث اللفظ إلى كلمة "ماعت" بمعنى العدالة، وترمز من حيث الصورة إلى دقة الوزن وحساسيته. ويجري الحساب عادة في حضرة رب الآخرة أوزير، وبحضور اثنين وأربعين قاضيًا مقدسًا، يمثلون أرباب عواصم الأقاليم، بينما يقوم على تقييم الحسنات والسيئات رب الكتابة والحكمة تحوتي فيسطر على لوحته نتيجة الوزن ونتيجة دفاع المتوفى عن نفسه أمام أربابه وإلهه الأكبر، وحينئذ يتحدد مصيره، فإما إلى جنان ذات برك وغدران وزروع ترتفع سنابلها إلى سبعة أذرع، وإما إلى جحيم تتنوع فيه صور الحرمان والفزع وأذى الوحوش والحيات والنيران. ويبدأ المتوفى يتنصل من آثام الدنيا في دفاع إنكاري طويل، يقول في بعض عباراته: لم أرتكب ذنبًا ضد الناس ... ، لم أضلل الرعية ... ، لم أرتكب إثمًا في دار الحق ... ، ما قسوت على فقير، ما حرضت عبدًا على سيده ... ، ما أمرضت "إنسانًا"، وما أبكيت إنسانًا ... ، لم أقتل ولم آمر بقتل ... ، لم آت اللواط لم أطفف الكيل ولا الميزان. وعندما ينتهي من حديثه الطويل يعلن طهارته بقوله: إني طاهر، طاهر، طاهر، طاهر؛ ونقائي نقاء طائر البنو الكبير في أهناسيا. وفي هذه المبادئ من الطهر وكثير أمثالها ما تضمنته كتب الموتى ونعالجه بتفصيل في بحث آخر، ما يشهد بأن القيم العليا في أغلب الأديان وفي الحضارات الراقية تكاد تكون واحدة1.

_ 1 راجع المؤلف: ديانة مصر القديمة - القاهرة 1984.

الفصل الثاني عشر: من الأدب المصري القديم

الفصل الثاني عشر: من الأدب المصري القديم أولا: في أدب الأسطورة والملحمة أسطورة أوزير وتوابعها ... الفصل الثاني عشر: من الأدب المصري القديم سجلت الآداب المصرية على صفحات البردي واللخاف، بخطوطها التي عرفناها: الهيروغليفي والهيراطي منذ أواخر الألف الرابع ق. م، والديموطي منذ القرن السابع ق. م، ثم القبطي منذ القرن الثاني للمسيح. وظلت لغتها على مدى آلاف طويلة من السنين واحدة متصلة في أساسها، ولكن مع تمايز خفيف وتطور يسير في نحوها وأساليبها وهجاء كلماتها بين كل عصر وآخر من عصور تاريخها الطويل. أولًا: في أدب الأسطورة والملحمة أسطورة أوزير وتوابعها: هذه واحدة من أساطير نسب رواتها فيها أعمال زعماء أتباع الأرباب إلى شخوص أربابهم حينًا، وارتفعوا فيها بالزعماء إلى مستوى الأرباب أنفسهم حينًا آخر، ثم طبقوا فيها تصرفات البشر ومشاعرهم على حياة المعبودات وتخيلوهم يحكمون ويتعاقبون، ويتزاوجون وينسلون، ويتعاونون ويتخاصمون، ويتبادلون الحب والكره، والوفاء والغدر. سجلت هذه الأسطورة أول ما سجلت في سياق متون الأهرام الدينية من الدولة القديمة عن عصور أسبق منها، مما يعني أنها اصطبغت منذ عصورها الأولى بصفة القداسة، وأنها كانت تردد في أعياد المعابد أو تمثل، كما اتصلت تفاصيلها بتاريخ الملكية المقدسة وذكرياتها، وذلك مما يدفع إلى الظن بأنها كانت تردد كذلك في أروقة القصور وربما تمثل أيضًا. ثم أخذت الصبغة البشرية للأسطورة تتضح بعد ذلك شيئًا فشيئًا، واستمر كل جيل يضيف إليها من خيالاته ما يوائم تصورات عصره وما يزيد من تأثيرها في أذهان الناس، ولكن دون التضحية بجوهر الأسطورة وقداستها. ويستنتج مما أتت به صورها المختلفة أن شخوصها الرئيسيين أربعة وهم زوج وزوجة، وولد وعم. وأنه تمايز من نماذج الطباع والعواطف فيها أربعة: صلاح ووفاء وحسد وانتقام. وبغير أن نتكلف سجعًا، نرى أنه يمكن إرجاع مصادرها إلى أربعة أيضًا: ذكريات قومية، وتخريجات دينية، وعبرة خلقية، ثم صياغة فنية. وبهذا المحصول المتنوع أصبحت من أقدم أساطير الدراما الكبيرة المعروفة1. كان أوزير وإيسة، فيما مر بنا من بعض صفحات هذا الكتاب، أخين وزوجين من مجموعة رباعية يكملها ست وأخته نبت حت. وكان الأربعة رعيلًا أولًا جمع بين الألوهية وبين البشرية في أعقاب انفصال السماء عن الأرض. وبنقلة سريعة اعتبرت الأسطورة أوزير ملكًا على البشر يحكم بينهم ويهديهم إلى ما يصلح أمرهم، إلى أن نقم أخوه ست عليه منزلته، فكاد له وقتله ثم رماه في اليم واغتصب عرشه. وظلت إيسة وفية لزوجها الشهيد، فداومت البحث عن بدنه حتى عثرت عليه، واستعانت بسحرها حتى ردت روحه

_ 1 See, Moret, La Passion D’osiris, Dans Rois Et Dieux D’egypte, Paris, 1916, 77f,; J. Vandier, La Religion Egyptienne, Paris, 1949, 44 F. And Notses.

عليه لفترة من الوقت، وحطت عليه كما يحط الطائر، فحملت منه حملًا ربانيًّا، ووضعت منه طفلها "حور" "أو حورس كما شهره الإغريق"، وربت طفلها خفية في أحراج الدلتا، وعاوتها كائنات عدة على كفالته، فأرضعته بقرة، ورعته معها سبع عقارب، ثم عادت إيسة فشهرت بست الغاصب القاتل بين الأرباب والناس، وكادت له عدة مرات، وعندما شب ولدها سريعًا، كما يشب أبناء الأساطير الذين لا يخضعون في نموهم لحكم المنطق والزمن، تعاونت هي وأختها نبت حت على تجديد المناحة على أوزير الشهيد واستثارة الحلفاء من أجل ثأره. وعهدوا بزعامتهم لولدها حور، ودعوه "المنتقم لأبيه"، وتجمع معه زعماؤهم وأربابهم تحت إشراف أكبر رعاة الحرب فيهم "وبواوت"1. وطالت المواقع بينهم وبين ست وأنصاره حتى فقد حور عينه وفقد ست خصيته، ثم توقف القتال لهدنة قصيرة، استغلها أنصار حور لعرض الأمر على أرباب الدولة الحكماء، أصحاب القضاء في عين شمس "أو في منف"، وجاءوا معهم ببدن شهيدهم أوزير ليكون أية صريحة على ما حل به من غدر. وأقام حور الدعوى باسم أبيه، فأدان القضاء ست بالاعتداء على أخيه، ولكن ست أنكر أنه بدأ بالشر، وادعى أن أوزير هو الذي تحداه ونزل أرضه، فأبى القضاء الأخذ بدعواه، وبرءوا أوزير من تهمة البدء بالعدوان، واعتبروه "ماع خرو" أي مبرأ، أو صادق التعبير. ولما لم يكن له في الدنيا غاية، بعد أن برئت ساحته وأدين خصمه، انتقل إلى أسفل الأرض، ومارس سلطانه على ملكوت الموتى، وعاود نشاطه، فاستمر يدفع الماء من تحت الأرض، ويدفع الخصب إلى التربة وينمي الحب، أو هو بمعنى آخر، ظل يقيم الأدلة على حيويته وقدرته، فيظهر على هيئة النبت الأخضر في مواسم النبات، ويظهر على هيئة الماء الدافق في مواسم الفيضان. وهكذا انتهت الأسطورة بتغليب الحق وبقاء الخير، والإيمان بعدالة الأرباب، وتبرير أسباب تقديس أوزير تحت الأرض، وتفسير القدرة الربانية في دفع الفيضان وتجدد الخصب وإنماء الحب والزرع. وكانت مشاهدها مما يمكن تمثيله بسهولة في المعابد والقصور، وفي مواسم معينة ترمز إلى بعث أوزير وغلبة الخصب على الجفاف وتغلب الخير على الشر. ويستفاد من نصوص إيخر نفرة أحد كبار موظفي الخزانة في عصر الأسرة الثانية عشرة أن الأسطورة كانت تمثل في العيد الأكبر للإله أوزير بمعبد أبيدوس، وأن تمثيلها كان يستغرق عدة أيام قد تصل إلى ثمانية، ويمثل فصل منها في كل يوم، ويشارك فيها جمهور من حجاج المعبد2. ويبدو أن أحداثها التي رويناها عن متون متفرقة من متون الأهرام والتوابيت وشواهد أخرى تضمنها المذهب المنفي، لم تكن من بنات الخيال برمتها، وإنما كانت فيما يغلب على الظن رموزًا لأحداث قومية بعيدة سبق أن مهدنا بأخبارها لمراحل قيام وحدة مصر التاريخية "ص65"، ولا يخلو من دلالة أنه على الرغم من ضراوة النزاع بين أوزير وست، أو بمعنى آخر بين رب الوجه البحري ورب الصعيد، فقد اعتبرتهما الأسطورة أخوين دائمًا اعترافًا فيما يبدو بصلة القربى بين الوجهين وانتسابهما إلى وطن واحد.

_ 1 Pyr. 1004 C-F.; 2190; Jea, 1944, 52 F.; Sethe, Urgeschichte, 191; Unters., Iii, 12-16. 2 H. Schaefer, Die Mysterien Des Osiris In Abydos, 1904; Wilson, Anet, 1955, 329-330.

وأضافت الأيام إلى مشاهد أسطورة أوزير وأسرته أخيلة عدة استهوت أذواق أهلها ورمزت إلى خصائص المجتمع في عصور إضافتها، وإن انتهت في مجملها إلى نهايات متماثلة ينتصر الحق فيها على الباطل مهما طال أمد التنازع بينهما. فحادثة قتل ست لأخيه عنوة وإلقائه في ماء ترعة ندية، تهذبت روايتها وصُورت على هيئة مكيدة محبوكة دبرها ست في حفل أقامه في داره، حيث أعد صندوقًا فاخرًا وعد بأنه يهبه لمن يطابق جسمه، فتهافت المدعوون يتمددون فيه، ولما جاء دور أوزير نزله فطابقه، وهنا أطبق أخوه الصندوق عليه وأحكم غطاءه وألقاه في النيل. وحادثة عثور إيسة على بدن زوجها في أرض مصر، اتسع مجالها فقيل إن النيل احتمل الصندوق حتى مصبه، ثم أسلمه للبحر الأخضر، فاحتمله البحر بدوره حتى ألقاه آمنًا على شاطئ جبيل "في لبنان"، فأظلته هناك شجرة مباركة واحتوته في جوفها. وساحت إيسة في الأرض بحثًا عن أخيها، حتى بلغت جبيل واهتدت إلى الشجرة، واستخلصت الوديعة منها وحملتها إلى مصر، حيث أعادت إلى بدن أخيها روحه وحملت منه، وتسترت معه. ولكن أخاه ست كشف مخبأه ومزقه في هذه المرة شر ممزقة وقطعه اثنتين وأربعين قطعة "وفي رواية أخرى أربع عشرة قطعة" ورمى بكل قطعة في مكان، وذلك يرمز فيها يبدو إلى تمزق وحدة البلاد القديمة وتجزئها إلى عدد من الأقاليم، كما يفسر تعدد مزارات أوزير التي قامت على أجزائه الموزعة في كافة هذه الأقاليم1. وأصبح الرواة كلما ألمت ببلدهم مصيبة وتعرضت لغزو من آسيا عبر صحراواتها رمزوا إلى هذه المصيبة رمزًا في أساطير عقيدتهم وربطوا بينها وبين مكائد ست وإيحاءاته. وظنوا مثل هذا الظن بالنسبة للهكسوس الذين أتوا من آسيا وعبدوا ست فعلًا وحاربوا تحت رايته، وظنوه كذلك بالنسبة للفرس الذين اغتصبوا عرشهم واستهانوا بمعابدهم ومذاهبهم ولم يحترموا موتاهم وحاربوا أبطال القومية الساعين إلى تحرير وطنهم وأدمجت كل هذه الشرور رمزًا في أساطير وتمثيليات تبناها معبد أوزير في أبيدوس واحتفظت بها بعض البرديات المتأخرة2، وقد خدمت غرضين: غرض إرضاء السامعين والمشاهدين بالرمز إلى استمرار مشكلات ست ضد أوزير وأسرته، وغرض ترديد اللعنات باسم الدين والقومية على الأعداء الأجانب الذين سمح ست لهم باجتياز أراضيه الآسيوية وإيذاء مصر في كرامتها وتقاليها. ولو أن هذه الدعوى ضد ست لم تمثل في واقع الأمر غير وجهة نظر واحدة، وهي وجهة نظر المتحيزين لعبادة أوزير وأسرته، ولم تمنع أنصار ست من المصريين من أن يعتبروه ربًّا قادرًا فاضلًا يرسل العواصف لكي تبشر بالمطر، ويستخدم طاقته الحربية في نصرة مصر وجيوشها، ويستخدم قوته السحرية في حماية رب الشمس ومركبه، بل ويأخذ بناصر أخيه أوزير في الآخرة.

_ 1 Plutarch, De Iside…, Xii-Xix; Sethe, Zaes, Xlv, 12 F.; Guenth-Agloueft, Rev. D’eg.; 1933, 197 F.

الحق والبهتان

الحق والبهتان 1: رمز أدباء من الدولة الحديثة إلى العناصر الخلقية في الأسطورة السابقة بصورة توائم عصرهم، ولم يذكروا فيها أوزير وست صراحة، وإنما كنوا عنهما باسمين معنويين، وهما: الحق والبهتان. وكانا أخوين عاشا بين البشر، وأراد البهتان أن يكيد لأخيه فترك خنجره وديعة لديه، ثم استلبه منه خفية، وعاد فطالبه به، ولما اعتذر أخوه له عن ضياعه لم يقبل عذره، ولما حاول أن يعوضه عنه لم يقبل عوضه، وشكاه إلى الأرباب، وادعى أن سلاح خنجره كان في ارتفاع الجبل، وأن مقبضه لا يقل ارتفاعًا عن الشجر، ففوض الأرباب له أن يقترح التعويض الذي يحبه، فأصر على أن يقتلع عيني أخيه ويستخدمه حارسًا لداره، فأجابه الأرباب إلى ما أراده. وأذل البهتان أخاه، وجعله حارسًا لبابه، ولكنه كان كلما نظر إليه أحس بالخزي وبأن الضرير لا يزال يحتفظ بوقاره وجماله، فأمر عبدين بأن يلقياه إلى السباع. ولما خرج العبدان بالحق قال لهما: أتضحيان بي من أجل البهتان؟ واستعطفهما، فرقا له وتركاه بناحية من نواحي الجبل، وعادا إلى مولاهما وأوهماه بأنهما نفذا أمره. وبعد حين شهدت الحق أنثى بارعة الجمال هفا إليه فؤادها، فبعثت إليه جاريتها تستدعيه ثم تزوجته لكنها خشيت أن يعايرها الناس به، فأخفت خبر قرانه بها، وخصصت له حجرة بجانب باب دارها، وأثمر الزواج طفلًا، تعهدته الأم بالتربية الصالحة، وأخفت عنه سر أبيه، وألحقته بمدرسة أتقن الكتابة فيها، وتعلم فنون الرياضة والنزال وتفوق على أقرانه فيها، ولكن نغص عليه سعادته أن زملاءه كانوا يسألونه دائمًا عن أبيه، ويعيرونه بأنه لا أب له، ولما شب أصر على أن يعرف حقيقة أبيه من أمه، فدلته عليه وأخبرته أنه بواب دارها، فاستنكر فعلتها، ولم يأب أن يصارحها برأيه فيها، وأن مماتها كان أفضل من حياتها. وأراد الغلام أن يكيد لعمه البهتان كما كاد هو لأبيه، فأخذ معه ثورًا سمينًا وعهد به إلى أحد الرعاة الذين يستخدمهم عمه، وطلب منه أن يرعاه حتى يعود من سفره في مقابل أجر أعطاه إياه. وحدث أن تفقد البهتان مراعيه، فأعجب بالثور وذبحه، دون أن يعبأ بتوسلات راعيه. وعاد الغلام بعد شهور، وشكا الراعي ومولاه إلى الأرباب، وأراد أن يعجز البهتان عن التعويض، فادعى أن ثوره كان ينجب ستين عجلًا كل يوم، وأنه كان إذا وقف وسط الدلتا بلغ أحد قرنيه جبالها الشرقية ومس قرنه الآخر جبالها الغربية. فتعجب الأرباب من دعواه، وقالوا إنهم لم يروا ثورًا بمثل هذه الضخامة، فأجابهم: وهل رأيتم خنجرًا بضخامة الخنجر الذي حكمتم على أبي بالعمى من أجله؟ وهنا أسقط في يد الأرباب وعلموا أن البهتان خدعهم، فردوا على الحق بصره، وأمروا بجلد البهتان مائة جلدة، وبجرحه خمسة جراح بالغة وفقء عينيه، وبأن يصبح بوابًا لأخيه جزاء وفاقًا على ما كان قد فعله به. وعبر القصاص بهذا العقاب عما أصبحت عليه العقوبات البدنية في عصرهم، كما عبروا بتربية الابن تربية كتابية ورياضية وعسكرية عما كان يستحبونه لتربية أبناء الكبراء في أيامهم.

_ 1 Chester Beatty Pap. Ii; Gardiner. Hieatic Papyri, 3rd Vol. Series, I, 6.

روت هذه الأسطورة أن الإله رع بعد أن أوجد نفسه بنفسه وخلق الوجود وتملك أمور الأرباب والبشر، تقدمت به السن، فتآمر ضده جماعة من أشرار الناس كفروا بنعمته وانتشروا في الأرض، فآلمه كفرهم وجمع كبار الأرباب عنه وقال لهم "تأملوا الناس الذين خلفوا من عيني يدبرون أمرًا ضدي. فأفتوني بما ترون". فأفتاه شيخهم نون بألا يواجه العصاة بشخصه خشية أن يهلكوا وتفنى الدنيا معهم، وأوصاه بأن يرسل عينه على من يجدفون في حقه، فعمل رع بمشورته وسلط عليهم عينه، فتشكلت العين تفنوت في هيئة الربة حتحور، وفتكت بالعصاة، وشربت من دمائهم واستمرأت طعم الدم ولذة الانتقام، فبدأت تأخذ الأبرياء بجريرة العصاة، وأوشكت أن تفني البشر أجمعين، لولا أن تدارك الرب الناس برحمته وأوحى إلى أوليائه بأن يتحايلوا على فتاته العاتية وطلب منهم أن يجهزوا سبعة آلاف إناء من الجعة، وأن يرسلوا عداءين سريعين يجرون كما يجري ظل الجسم، ليسرعوا إلى أسوان ويحضروا منها مسحوقًا أحمر اشتهرت به، لعله أوكسيد الحديد، ثم أوصاهم بأن يخلطوا هذا المسحوق بالجعة، ولما أهل صباح اليوم الموعود الذي اعتزمت حتحور فيه إفناء البشر، قال لهم أسكبوا الجعة في المكان الذي قالت إنها ستهلك البشر فيه. فرووا الحقول بها حتى ارتفعت نحو قبضة. فلما رأت حتحور المزيج الأحمر حسبته دمًا مسفوحًا ونظرت إلى وجهها الجميل فيه فانتشت وأوغلت فيه وشربت منه بشره حتى خدرت وتراخت عن التمادي في القتل، وأنجي الناس من بطشها1. أما من بقي ممن تمردوا على خالقهم فقد ذكرت أسطورة مماثلة أنهم تخوفوا نقمته فتفرقوا شر فرقة وفر فريق منهم إلى الجنوب حيث أصبحوا السلف القديم للنوبيين، وهرع آخرون إلى الشمال فكانوا أسلافًا للآسيويين، في حين نشأ الليبيون من الفارين إلى الغرب، وأسلاف البدو من اللائذين بالشرق2. وهكذا قامت عقدة الأسطورة على الإيحاء بأن رحمة الرب غلبت نقمته، وأن ما حدث من شر في تمرد خلقه عليه كان سببًا في عمران بقية الكون، وقد يتأتى بعض الخير من الشر أحيانًا، وذلك فضلًا عما صورته من عنف تفنوت أو حتحور ورمزت به إلى أن للإناث بطشة دونها بطشات الرجال.

_ 1 Roeder, Urkunden Zur Religion Des Alten Aegypten, 142. 2 Naville, Textes Relatifs Au Mythe D’horus, 21, 2 F.

ثانيا: في أدب القصة

ثانيا: في أدب القصة سنفرو والحكماء ... ثانيًا: في أدب القصة ظلت شخصيات الفراعنة محورًا لعدد كبير من القصص، الرسمية منها والشعبية، وقد جمعت قصصهم في سياقها بين حقائق موضوعية، وبين صياغة فنية، وبين أخيلة تصور المعجزات وفنون السحر، وبين آراء خاصة وأماني عامة عبر القصاص عنها بطريق الرمز. سنفرو والحكماء: كان سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة من أهم الشخصيات التي دارت القصص حولها: وقد روت عنه إحداها أنه استدعى كبير الكهنة المرتلين في عهده، وكان يدعى جاجا معنخ، وسأله عن تسرية يرفه بها عن نفسه. فأشار عليه أن يلتمس التسرية في الخضرة والماء والوجه الحسن، وبأن يستقل قاربًا

ويصطحب معه عددًا من العذارى ويطلق البصر فيما أفاءه النيل على جانبيه من خضرة وخير عميم. وعمل سنفرو بالنصيحة واصطحب في قاربه الكبير عشرين عذراء، وعهد إليهن بالتجذيف والغناء، فاصطففن على جانبي القارب وجذفت كل منهن بمجذاف من الأبنوس المرص بالذهب، كما روت القصة، وانطلقن في التغريد والتجذيف، وكان كل منهن تحلي جبهتها بإكليل تزينه حلية على هيئة السمكة، وتهدل شعر رئيستهن على وجهها فأزاحته بيدها، وعندئذ سقطت حليتها في الماء فسكتت عن الغناء وسكتت بعدها الباقيات، ولما سألها الملك عن علة سكوتها، قصت عليه أمرها فوعدها بأن يعوضها عن حليتها بما هو خير منها ولكنها أبت إلا حليتها، فأسقط في يد سنفرو، واستدعى كبير الكهنة المرتلين، وقال له جاجا معنخ يا أخي، حدث كذا وكذا، فاستجاب الكاهن لطلب مولاه، واستعان بسحره فطوى ماء النهر على جانب كما ذكرت القصة، واستخرج الحلية وردها إلى صاحبتها1. تلك قصة داخلها التهويل والتنميق، من غير شك، ويعنينا الرمز فيها إلى حياة الرفاهية التي عاشها صاحبها، وأن قصاصها لم يتخيل ملكه ربًّا مطلقًا قادرًا مقتدرًا، كما اعتادت النصوص الرسمية أن تصف ملوكها ولم يجد بأسًا في أن يصوره عاجزًا عن أن يفعل بعض ما يستطيع كاهن من رعيته أن يفعله، وأن هذا الملك وإن خاطبه رعاياه بلقب الربوبية إلا أنه لم يكن يعتقد في نفسه الربوبية الفعلية بحيث لم يكن من المستبعد عليه تبعًا لذلك أن يخاطب أهل العلم في عصره بلفظ الأخوة كما خاطب كاهنه المرتل. ورمزت قصة الثانية إلى ما رمزت إليه الرواية الأولى من تواضع سنفرو وشغفه بمجالسة العلماء، فذكرت أن سنفرو "الملك الفاضل" أمر حامل أختامه أن يستدعي إليه أعضاء بلاطه ذات صباح وطلب إليهم أن يشيروا عليه بولد حكيم أو أخ ماهر أو صديق أدى أعمالًا باهرة حتى يحدث بمواعظ قصيرة أو حديث لطيف يلتذ بسماعه. فسجد الرجال في حضرته وأشاروا عليه بكاهن مرتل من تل بسطة يدعى "نفررحو" أي زين الرجال، وصفوه له بأنه مواطن طويل الباع شديد الإرادة كاتب طلق الأصابع ذو مقام يزيد ثراؤه عن ثراء أقرانه. فأمرهم بأن يستدعوه إليه، وعندما وفد الحكيم على سنفرو سجد أمامه، فقاله له الفرعون: "إلى نفررحو يا صديقي وحدثني بمواعظ مختصرة سديدة أو أحاديث طريفة أستمتع بسماعها". وسأله نفررحو "أونفرتي" "هل مما حدث أو مما سيحدث، مولاي؟ " فقال له سنفرو "بل ما سوف يحدث فإن ما حدث تم وانقضى" وعندما تهيأ نفررحو للرواية مد الملك يده إلى صندوق أدوات الكتابة وسحب منه لفاة بردي ولوحة وتهيأ للكتابة، في جلال الحكام وتواضع العلماء2، وسجل ما استغله أنصار أمنمحات مؤسس الأسرة الثانية عشرة فيها بعد للدعاية لعهده. كما ذكرنا من قبل.

_ 1 Erman, Die Literatur…, 67 F. 2 Gardiner, Jea, I, 100 F.

قصة خوفو والحكيم جدي

قصة خوفو والحكيم جدي: صورت هذه القصة خوفو صاحب الهرم الأكبر يجالس عددًا من أولاده يسامرهم ويسمع من كل واحد

منهم ما تناهى إلى علمه عن أخبار الماضي وأخبار أهل المعجزات فيه. وروت أنه كان كلما سمع من أبنائه عن معجزة قام بها عالم قديم أو فرعون قديم، ترحم على هذا العالم كما ترحم على الفرعون، وأمر بأن تخلد لكل منهما ذكراه وأن تجزل العطايا والقرابين لمقبرته1. ثم صورته يبعث ولده إلى حكيم من قومه يدعى جدي لم يكن قد رآه من قبل، فقابل الحكيم ابن خوفو وحادثه محادثة الند للند، وأقر له الأمير بمكانة تليق بسنه وعمله. ولما وصل جدي إلى خوفو، قال له الملك "ما هذا جدي وكيف لم نرك حتى الآن؟ " فأجاب جدي: "مولاي، من دعي أجاب، ولما دعوتني لبيت". ومعنى هذا أن الرجل لم يكن يجد ما يلزمه بأن يتمسح ببلاط الملك من تلقاء نفسه أو يقصد أعتابه رجاء فضله. وكان خوفو قد سمع عن جدي أنه يستطيع أن يجبر أسدًا على أن يسير أليفًا طائعًا خلفه، وأنه يستطيع أن يقطع الرقبة ثم يتلو عليها تعاويذه فتعود إلى مكانها من الجسم وتسترد حيويتها، فطلب منه أن يجري معجزاته وسحره على سجين، فاعتذر الرجل وأجاب في عناد: "ولكن ليس على إنسان مولاي الحاكم، وحسبك أن أحدًا لم يطلب أداء شيء من ذلك على هذا الشعب النبيل". وهكذا لم يأب جدي أن يرد على ملكه العظيم بما يعتقده، ولم يأب أن يعتبر السجين المصري فردًا من شعب نبيل على الرغم من جرمه الذي دخل السجن من أجله. وأضافت القصة أن خوفو عجز عن الاهتداء إلى طائفة من الخزائن والوثائق المقدسة التي ذكر له أتباعه أنها تخص رب الحكمة تحوتي، فسأل جدي عنها، فأجابه الرجل بأنه يعرف مكانها فعلًا، ولكنه حاوره عنها وداوره وأبى أن يقوده إليها، وظل خوفو على جهل بها، على الرغم من أن نصوصه الملكية الرسمية ونصوص رجال حاشيته كانت تلقبه بلقب "نثرعا" أي الإله العظيم! ولسنا نشك في أن ذكر السحر في هذه القصة محض اختلاق وخيال، وأن اعتذار الحكيم عن أدائه لا يزيد عن مجرد تخلص لبق لطيف، لكن حسبنا من القصة أنها كشفت عما كان مؤلفها يتخيله عن بشرية خوفو واحتمال عجزه عن أداء ما يؤديه بعض علماء رعاياه، وكشفت عما كان الناس يودون أن يظهر به حكيم من الشعب في مواجهة الملك العظيم، صاحب الهرم الأكبر، من عزة النفس والاعتراف لقومه بنبالة الأصل.

_ 1 Erman, Op. Cit., 69 F.; Jea, 1925, 3 F.; 1930, 66.

قصة العاشقين والتمساح

قصة العاشقين والتمساح: على نحو ما جعل القصاص المصريون من حكمائهم والمبرزين من رجالهم شركاء في قصص ملوكهم، جعلوا من أولئك الحكماء والمبرزين محورًا خالصًا لعدد آخر من القصص. ومن أقدم هذه القصص قصة ردت أحداثها إلى القرن الثامن والعشرين ق. م، صورت خيانة زوجة كاهن كبير في منف يدعى "وباإنر" هامت بحب فتى من أهل المدينة كانت تراسله عن طريق وصيفتها، فتجرأ الفتى واعتاد أن يختلي بها خلسة في جوسق بحديقة قصرها بين قصف ومجون، وإذا قام عنها اغتسل في بركة صغيرة بالحديقة نفسها, وعز على ناظر الدار أن تهون كرامة سيده فأبلغه الخبر. واستعان الكاهن بسحره وشكل تمساحًا من الشمع طوله

بعرض سبعة أصابع، وتلا عليه أوراد سحره وقرأ "من نزل يغتسل في بركتي فاقبض عليه". وعهد الكاهن بتمساحه المسحور إلى أحد أتباعه وأوصاه بأن يلقيه في الماء حين ينزل الفتى. وحين حانت الساعة انفرد التمساح سبعة أذرع واقتنص الفتى ومكث به تحت الماء سبعة أيام كاملة، كان الكاهن خلالها في رحلة مع فرعون زمانه، فلما عاد من رحلته دعا الفرعون إلى داره ليشهده على القضية وعلى معجزاته في حلها، واستدعى أمامه التمساح المسحور فخرج من الماء يجر فريسته، وارتاع الفرعون من هول ما رأى، ولما أفرخ روعه قال للتمساح خذ ما لك، فنزل به التمساح إلى أعماق البركة واختفى. وقضى الفرعون على الزوجة الزانية بالحرق علنًا وذر رمادها في النهر، وهو ما قد يشير إلى عقوبة الزنا في أيامه.

قصة الأخوين

قصة الأخوين: هذه قصة من القرن الثاني عشر ق. م، صورت ما يمكن أن تأتيه أنثى لعوب في بيت ريفي صغير. وأسهبت القصة في وصف الحياة الريفية وجمعت بين ما يمكن أن يحدث في واقع الحياة وبين ما لا يحدث إلا بالمعجزات وفي عالم الخيال. وجعلت أبطالها ثلاثة: إنبو، وهو صاحب دار ومزرعة، وزوجته الفاتنة اللعوب، وباتا شقيقه الصغير. ووصفت القصة باتا الصغير بآيات القوة والإخلاص والوفاء، فصورته مؤيدًا بقدرة ربانية، وروت أنه عرف منطق الحيوان، ونسبت إليه المهارة المطلقة في شئون الزراعة والرعي. واعتاد باتا أن يخرج بماشية أخيه مع الفجر فيحرث أو يحصد، ويرعى قطيعه، ثم يعود في المساء محملًا بخيرات الحقل وألبان البقر ويقدمها راضيًا بين يدي أخيه وزوجته. وبعد أن يتناول عشاءه ينطلق إلى حظيرة الماشية، فينام فيها وحيدًا قانعًا. فإذا اقترب الفجر أعد إفطار أخيه وقدمه إليه، ثم أخذ إفطاره معه وساق ماشيته إلى الحقل والمرعى وكان يحدث أحيانًا أن تتسار الماشية فيما بينها بأن الكلأ في مكان بعينه وفير نضير، فيفهم باتا قولها ويحقق لها رغبتها وينتجع بها ما توده من العشب والمرعى. ولما حل موسم الزراعة قال له أخوه: علم أحد الثيران الحرث، فالأرض انحسر ماؤها وتهيأت للزرع، وآتنا ببذور نغرسها مبكرين. فأطاع باتا، وصحب أخاه إلى الحقل، وانشغلا في الحرث، وفاضت نفساهما بالأمل لقيامهما العمل في بداية الموسم. ولكن حدث بعد فترة أن اضطرا إلى التوقف لنفاذ البذور، فأرسل إنبو أخاه إلى القرية وأوصاه بأن يسرع في إحضار المزيد من البذور. ولما بلغ باتا الدار ألفى زوجة أخيه تضفر شعرها، فناداها في مرح وبساطة قائلًا: "انهضي وناوليني كمية من البذور حتى أعجل بها إلى الحقل، فأخي ينتظرني، ولا تعوقيني". ولكن الأنثى تثاقلت وقالت له اذهب أنت إلى مخزن الغلال واحمل منه ما تشاء ولا تضطرني إلى ترك ضفائري.

ودخل باتا المخزن وأعد غرارة كبيرة، واكتال شعيرًا وحنطة. ولما خرج بهما سألته: كم احتملت على كتفك؟ فأجاب: "ثلاثة مكاييل من الحنطة واثنين من الشعير". فحاورته قائلة: "فيك بأس شديد وأشهد أنك تزداد قوة وجسارة على الدوام". ودبرت أمرًا في نفسها ثم هبت واقفة وتعلقت به وقالت هيت لك، ودعنا نمرح ساعة ونضجع، فذلك خير لك، ولسوف أخيط لك ثيابًا حسانًا. وفوجئ الفتى وأجفل وبدا في هيئة فهد الصعيد الغضوب كما روت القصة، وأربد وجهه من سوء ما دعته إليه. وأجفلت المرأة بدورها وخشيته خشية شديدة. وقال لها الفتى: "اسمعي، أنت بالنسبة لي في منزلة الأم وزوجك في منزلة الأب لأنه أكبر مني وقد تعهدني ورباني، فلِمَ هذا العار الذي تدعونني إليه؟ إياك أن تفاتحيني فيه مرة أخرى، ولك من ناحيتي ألا أخبر أحدًا به أو أدعه يخرج من فمي إلى أحد". واحتمل باتا حمولته، وانصرف إلى المزرعة، فلما بلغ أخاه استأنف العمل كدأبه دون أن ينبس ببنت شفة. ولما حان المساء انفصل الأخ الأكبر وقصد داره، وبقي الأصغر خلف ماشيته حتى أكمل حمولتها من خيرات الأرض، ثم ساقها أمامه ليبيت بها في حظيرته، وخشيت زوجة إنبو عاقبة زلتها، فاستعانت بعقار جعلها كالمريضة أو المضروبة. فلما بلغ بعلها داره وجدها ممددة متهالكة، فلم تصب الماء على يديه كعادتها، ولم توقد المصباح قبل مجيئه. ووجد الدار في ظلام دامس، فاقترب منها وسألها عمن أساء إليها قالت: لم يحادثني سوى أخيك، أتي يأخذ البذور ووجدني وحيدة فراودني عن نفسي وأمسك شعري، فأبيت أن أطيعه، وقلت له ألست في منزلة أمك، وأخوك في منزلة أبيك؟ فغضب وآذاني حتى لا أبوح لك بأمره. فإذا تركته يعيش، مت أنا، وأخشى إذا رجع المساء وفاتحته في عاره أن ينسب السوء إليَّ. وأربد وجه الزوج، وشحذ خنجره واختبأ خلف باب الحظيرة، ونوى أن يقتل أخاه حين رجوعه. وعاد باتا حين الغروب محملًا بخيرات الأرض كعادته، فلما دخلت أولى بقراته الحظيرة، همست له: "أخوك واقف أمامك بخنجره ليقتلك، فاهرب من أمامه". وفهم باتا قولها، ثم سمع مثله من البقرة التي تلتها، وتطلع إلى أسفل الباب فرأى قدمي أخيه، فألقى حمولته على الأرض وأطلق العنان لساقيه، وتبعه أخوه. وتطلع باتا في محنته إلى ربه رب الشمس رع حرآختى وناجاه: "مولاي الكريم، أنت الذي تفرق بين الآثم والبريء". فاستجاب رع لدعائه وفصل بينه وبين أخيه بنهر عظيم ملأته التماسيح. وضرب الأخ الأكبر بكفيه من الغيظ، فناداه أخوه في الضفة الأخرى: الزم مكانك حتى يطلع رب الشمس ونحتكم إليه. وتجلى الرب رع حرآختي حين الصباح، وتطلع كل من الأخوين إلى الآخر. فقال الأصغر لأخيه: "لِمَ طاردتني لتقتلني قبل أن تسمع دفاعي؟ ألست أخاك الأصغر وأنت أب لي! إنك حين أرسلتني لآتيك بالبذور دعتني امرأتك إلى الخنا، ولكنها قصت عليك العكس". ثم قص قصته عليه وخنقته العبرات، واستل بوصة حادة وقطع إحليله ورماه في الماء ليثبت لأخيه زهده في الخنا وأهل الخنا وكاد يغشى عليه من فرط الألم. وندم الأخ الأكبر، ولم يتمالك نفسه فبكى، ولكنه عجز عن أن يصل إلى أخيه خوفًا من التماسيح.

ونادى باتا أخاه: إذا ظننت بي السوء فهلا تذكرت لي خيرًا فعلته من أجلك؟ عد إلى دارك واجمع ماشيتك فلن أمكث في أرض تعيش فيها، وسأذهب إلى وادي الأرز وعليك أن تسرع إلى مساعدتي إذا علمت أن سوءًا ألم بي، فلسوف أنتزع قلبي وأضعه فوق شجرة أرز، فإن حدث أن قطع أحد الشجرة وسقط قلبي فابحث عنه، ولا تمل البحث ولو أنفقت في البحث سبع سنين. فإذا وجدته ضعه في ماء بارد، ترد عليَّ الحياة. ولسوف تعلم آية سقوطه حين تقدم إليك كأس جعة فتجدها أزبدت واعتكرت، فإن حدث ذلك فلا تتوان في الرحيل إليَّ. وانطلق الفتى إلى حال سبيله ورجع أخوه إلى داره يحثو التراب على شعره ويضع يده على رأسه، ثم اندفع هائجًا فذبح زوجته ورمى جسدها إلى الكلاب، وعاش يبكي أخاه. ومضت القصة في الخيال، فروت أن باتا فارق مصر إلى وادي الأرز في لبنان، وأن الأرباب عوضوه عن تضحيته بأنثى بارعة الجمال، أحبها وأخلص لها، ولكنها عاشرته على دخل، ربما لأنه أصبح عنينًا ثم نقل البحر خصلة من شعرها إلى فرعون مصر، فسحره عطرها، وأرسل رسله يبحثون عن صاحبتها فقتلهم باتا إلا واحدًا عاد إليه يخبره بمقتل زملائه. فأرسل الفرعون إليه جماعة أخرى ومنهم امرأة عجوز تحمل إليها هداياه، فقبلت الزوجة عطاياه وانجذبت إلى سلطانه، وصحبت رسله وسافرت إليه وتقربت منه، وأوحت إليه بإهلاك زوجها وقطع الشجرة التي ائتمنها على قلبه، فاستجاب الفرعون لكيدها، وأمر بقطع الشجرة فمات باتا ولكن أخاه تنبه إلى آية اعتكار كأس الجعة فظل يبحث عن قلب أخيه ثلاث سنين حتى وجده ودعا للأرباب فبعثوه في خلق جديد، وأراد باتا أن يرد على زوجته عاقبة غدرها، فتنكر لها في هيئة فحل شديد مرة، وهيئة شجرة مثمرة مرة، وكلما كشفت أمره حرضت زوجها الفرعون على إهلاكه، ولكنها ظلت تحيا في نعيم فاتر وقلق متصل حتى غلب الحق، وعوض الأرباب زوجها القديم بعرش مصر وملكها العريض، فقبض عليها وتحاكم معها إلى قضائه، فأدانوها ولقيت حتفها جزاء غدرها.

من قصص المغامرات

من قصص المغامرات: توفر لقصص المغامرات مجالها في الرواية، ومنها قصة من القرن الحادي والعشرين ق. م صورت أهوال البحر، وهي قصة "نجاة الملاح". وأخرى من القرن العشرين ق. م، صورت متاعب نازح عن طريق البر وهي قصة سنوهي. وثالثة صورت فتى تحدى حظه وقدره، هي قصة الأمير الموعود، من الدولة الحديثة. نجاة الملاح: تذكر أغلب الكتب العربية هذه القصة باسم "الملاح الغريق" وهو ترجمة خاطئة لتعبير The Shipwrecked Sailor في الكتب الإفرنجية. ولكن تسمية نجاة الملاح أقرب إلى المضمون. روت هذه القصة أن أحد رجالات البلاد كان في سبيل عودته بطريق النيل من مهمة كلفه بها فرعونه فيما وراء أرض واوات، بأقاصي النوبة، ولكن لم يقدر له النجاح فيها، ولما اقتربت سفينته من العاصمة أتاه أحد خاصته من الملاحين يهنئه بسلامة العودة دون نقص في ملاحيه، ويصف له فرح رجاله ومعانقة

بعضهم لبعض، ولكن الرجل كان في وادٍ آخر، وظل مهمومًا يتخوف عاقبة فشله، فانبرى الملاح يسري عنه ويهون عليه ويبعث الأمل في نفسه، وقص عليه قصة تداولت عليه فيها شدائد ظن أن لا نجاة له منها، ولكنه نجا وسلم ثم وعاد إلى وطنه واستمتع باجتماع شمله بأهل بيته1. وروى له في قصته أنه خرج بسفينة كبيرة بلغ طولها مائة وعشرين ذراعًا وبلغ عرضها أربعين ذراعًا، واستلقها معه مائة وعشرون بحارًا وصفهم له بأنهم كانوا من خيرة ملاحي مصر، وأنهم خبروا السماء والأرض، وأن قلوبهم كانت أشد من قلوب الأسود، وكانوا يتنبئون بالريح قبل أن تقبل بالعاصفة قبل أن تحدث، ولكن حدث لهم ما لم يتوقعوه فدهمتهم العاصفة وهاجت أمواج البحر وارتفعت نحو ثمانين أذرع، فغرقت السفينة بمن فيها، ولم ينج منها غير راوي القصة الذي ألقت الأمواج به على جزيرة في أقصى الأخضر الكبير "أي في أقصى البحر الأحمر"، فقضى فيها ثلاثة أيام في دغل لا أنيس له فيه ولا معين. ثم اتخذ طريقه في أرضها فوجد فيها خيرات لا تحصى من الفواكه والطيور والأسماك، فطعم وشرب، ولم ينس أربابه فأشعل نارًا وقدم عليها قربانًا. وإذ هو كذلك سمع دبيبًا قاصفًا يقبل عليه، فغشيه من الخوف ما غشيه، ولما استمسك وجد أفعوانًا ضخمًا طوله ثلاثون ذراعًا ويزيد أثر دبيبه على الأرض عن المترين عرضًا، وكان جسده مغشى بالذهب وحاجباه بلون الزبرجد، فانبطح البحار على بطنه فرقًا وإجلالًا، وتوجه الثعبان إليه وسأله عن حاله وعما أتى به إلى جزيرته التي يحف الموج بها، فاستبد الخوف بالرجل وفقد السمع والقدرة على الكلام. وجمله الثعبان في فمه إلى جحره وترفق به حتى أفرغ روعه ثم أعاد عليه سؤاله فقص الرجل عليه قصته بتمامها .. ، وهنا هون الثعبان عليه القضية، وذكره بآلاء ربه الذي قدر له الحياة وأرساه على "جزيرة الروح" ثم بشره بأنه سيعود إلى وطنه، وأن سفينة مصرية سوف تأتي إليه بملاحين يعرفهم، ولكن بعد أربعة أشهر، فيرجع معهم إلى بلده ويموت فيها. واستأنس الثعبان بالرجل، وأراد أن يهون عليه أمره، فقال له: "ما ألذ أن يروي الإنسان ما ذاقه بعد انقضاء محنته"، ثم قص عليه قصته فإذا ببلواه لا تقل عن بلواه، وروى له أنه عاش مع إخوته وأولاده في الجزيرة، وكانت عدتهم سبعة وثلاثين، عدا طفلة صغيرة رزقها بعد أن ارتجاها ودعا بها، ولكن نجمًا هوى من السماء فاحترقوا بناره، ولم ينج سواه، فكاد يموت حزنًا عليهم بعد أن وجدهم كومة هباء. وأبى الثعبان أن يعكس حزنه على ضيفه فشجعه وقال له: "إذا تشجعت وشددت قلبك فلسوف تملأ حضنك بأولادك، ولسوف تقبل زوجتك وترى دارك، وأجمل من ذلك كله أنك سوف تبلغ العاصمة التي كانت تعيش فيها بين إخوانك". وأكبر الملاح الثعبان، فأقبل عليه وقبل الأرض بين يديه، ونذر على نفسه ليبلغن أمره إلى الفرعون حين يعود إلى وطنه ويعمل على تقديم القرابين والبخور باسمه وإرسال السفن إليه بخيرات بلده. فتبسم الثعبان ضاحكًا من قوله، وأفهمه أنه بذاته سيد بلاد بوينة وأن بخورها ملكه. ثم انقضت الأربعة الأشهر، وتحقق

_ 1 Gobenischeff, Le Conte Du Naufrage; Erman, Op. Cit., 57 F.

وعد الثعبان فأقلبت السفينة وتعرف الملاح على من فيها ونزل إليهم مزودًا بكميات هائلة من المر والتوابل وذيول الزراف والصموغ والبخور وأنياب العاج والفهود والنسانيس ثم فارق الجزيرة بعد أن علم من سيدها أنها سوف تزول من الوجود ويبتلعها الموج، وعاد الرجل إلى بلده بعد شهرين يملؤه الأمل بما وعده الثعبان به من سعادته في داره ولقائه لأطفاله ثم وفاته في وطنه. لا يزل تحديد جانب الحقيقة وجانب الخيال من هذه القصة موضعًا لجدل طويل، وإن ذهب الظن إلى أن مغامرة الملاح فيها كانت قرب جزيرة الزبرجد في البحر الأحمر. وعلى أية حال فإنما يعنينا من القصة غلبة روح التفاؤل فيه وحرص كاتبها أو راويها على أن يفترض لكل مصيبة ما هو أشد منها، ويفترض لكل مصيبة مخرجًا منها. وأملت هذه الروح على الملاح صاحب المغامرة على أن يشجع أمير سفينته الذي تخوف غضب فرعونه بقوله: "استمع إلي أيها النبيل، "وثق أني" رجل بريء من المبالغة. اغتسل وضع الماء على أناملك "حتى تهدأ أطرافك"، وأجب إذا سئلت، وتحدث إلى الملك وذهنك معك، أجب دون تردد، فمنطق الرجل يحميه وحديثه يكفل له ما يصون به وجهه، وتصرف بما يمليه "عليك" عقلك". سنوهي: صورت قصته مغامرات البر1، وقد أسلفنا عنها "ص185" أنها قصة رجل من بلاط أمنمحات الأول ومن المتصلين بأجنحة ابنته وزوجة ولي عهده، وأنه كان قد صحب ولي العهد سنوسرت في تجريدة إلى المناطق الليبية الشمالية، وسمع خلال عودته معه بنبإ وفاة أمنمحات، كما سمع لغطًا فهم منه وجود أخذ ورد بين الأمراء، فخشي فتنة على العرش في العاصمة يعز عليه أن يلتزم الجانب الصالح خلالها، فآثر البعد بنفسه واستخفى من الجيش واعتزله، وتخطى الحدود الشمالية الشرقية وحيدًا، ولقي في طريقه ووحدته مشقات طويلة، وأسلمته أرض إلى أرض على حد قوله، حتى بلغ رثنو العليا، وهي منطقة واسعة وسط سوريا أو شرق لبنان، وطالت إقامته فيها، وأقدم على مغامرات كثيرة، ولكن لم يفارقه الحنين إلى وطنه، وتناقلت الرسل أخباره ودعواته وأمانيه، حتى وصلت أنباؤه إلى الفرعون سنوسرت فرق لحاله وعفا عنه وأرسل يستدعيه، ولما عاد إلى وطنه سجل قصته نثرًا شائقًا. وقد ذكرنا الدلالات التاريخية لهذه القصة في سياق حديثنا عن سياسة عصره، ونكتفي هنا بملامحها الأدبية، دون ضرورة إلى سرد تفاصيلها الطويلة.؟ فهي من حيث الشكل قصة واقعية لتجربة شخصية حدثت في زمان ومكان، ولها بداية ونهاية، وقد تضمنت في سياقها معلومات بسيطة مشوقة عن بلاد الشام وأهلها، وتضمنت من شعر المدائح والأمثال الجارية ومن صيغ التراسل ولباقة الاستعطاف ورقة الاعتذار ما كان المعلمون والطلبة المصريون يلذ لهم الاستشهاد به وترصيع كتابتهم به. ثم هي من الناحية الفنية قد أبدعت تصوير مشاعر الإيمان ومشاعر الخوف، ومشاعر المفاخرة بالانتصار، والتغلب على المشاق، وعاطفة الحنين إلى الوطن وتقديس الدفن تحت ترابه.

_ 1 Gardiner, Notes On The Story Of Sinuhe, 1916; A. M. Blackman, Middle Egyptian Stories, 1932, 1 F.; Wilson, Op. Cit., 18 F.

وصف سنوهي وفاة الفرعون أمنمحات فقال: "رفع الصقر إلى السماوات العلى، ولحق بالكوكب، واتصل بدنه ببارئه، وخيم الوجوم على عاصمته، وغلق مدخلا قصره، وحزن النبلاء عليه وولول العوام". ووصف الأرض التي نزلها في الشام فقال: "كانت بدلة طيبة تدعى إبا، فيها تين وأعناب، وخمرها أغزر من مائها، وفير عسلها وزيتونها، كل الثمر على أشجارها، فيها شعير وحنطة، ولا حصر لأنعامها"، ووصف حاله إزاء حسد بعض القبائل له وتحدي أحد أبطالها لمنازلته في غربته، فقال: "أصبحت أشبه بفحل وسط قطيع غريب يضربه قائد العجول ويهاجمه ثور طويل القرون ... ، ولكن إذا كان الخصم فحلًا ويبغي القتال فأنا بدوري فحل قتال، ولست أخشى ما ينتهي أمرنا إليه". وروى رسالة الفرعون إليه يستدعيه، وذكر في جزء منها قول سنوسرت له " ... عد إلى مصر حتى ترى الأرض التي نشأت فيها، وقبل الأرض عند البوابة الثنائية العظمى والتحق بالبلاط. لقد هرمت الآن وعز نشاطك، فتذكر يوم الدفن، وليلة إعداد الطيوب والأكفان، ويومًا يعد لك فيه موكب مشهود وتابوت ذهبي بقناع من اللازورد ... ، لا ينبغي أن تموت في بلد غريب، ولا ينبغي أن يخفرك البدو، أو تكفن في جلد شاه ... ، هذا ليس أوان الطواف في الأرض، فعد واحذر المرض ... ". وردًا على هذه الروح الرقيقة من فرعونه، كتب سنوهي إليه يشكره ويبرئ نفسه قائلًا " ... هذا ابتهال خادم لمولاه ذي الإدراك، البصير بالناس، عساه يقدر ما تهيب هذا العبد روايته ولا زال أكبر من أن يردد ... "، ثم قال: " ... إن فرار خادمك لم يخطط، لم يكن في ذهني، لم أكن منشغلًا به، ولا أدري ما الذي زحزحني عن مكاني، كما لو كنت في حلم، ثم أحسست بإحساس رجل من الدلتا وجد نفسه فجأة في أسوان، أو رجل من مناقع الشمال وجد نفسه فجأة في النوبة. لم أروع، ولم يتتبعني أحد، لم أسمع كلمة تحقير، ولم يذكر منادٍ اسمي "بسوء"، ومع ذلك اقشعر بدني وارتعدت فرائصي، وساقني قلبي إلى حيث أراد من قدر الأمر ... "1. اليأس من الحياة: استشهدنا على بلبلة الأفكار والمذاهب في عصر الانتقال الأول "ص158 - 159" بحوار بين رجل سئم عيوب الحياة في عصره، وبين روحه، وذكرنا أنه تضمن ثلاثة اتجاهات فكرية تضاربت في ذهنه وجادلته روحه بها: اتجاهًا ضاق بمساوئ عصره، وآخر دعا إلى متعة الدنيا وشك في وجود الآخرة، وثالث اعتبر مشكلات الحياة متاعب زائلة، وتطلع إلى عدل الجزاء في الآخرة. وكانت ثلاثة من أربعة اتجاهات أشرنا إلى اعتبارها نتيجة طبيعية لزلزلة الأوضاع السياسية والاجتماعية في نهاية الدولة القديمة واضطراب الناس بعدها في تلمس وضع صالح لأمور دنياهم وأخراهم. وتنقص المحاورة جزءًا من بدايتها2.

_ 1 Sinuhe, R. 5 F., B 80 F., 109 F., 179 F., 206 F. 2 راجع للمؤلف: الحوار في الأدب المصري القديم - المجلة - العدد التاسع - سبتمبر 1957 - ص16 - 28. A Scharff, Der Bericht Uber Das Streitgesprach Cines Lebensmuden Mit Seiner Seele, 1937; R.O. Faulkner, Jea, 1956, 21 F.; E. Brunner-Traut, Zaes, 1967, 6 F.

ويبدو أن صاحبها كان قد أعلن في مقدمتها ضيقه بمساوئ أيامه وتفكيره في الخلاص منها، بينما التزمت روحه جانب الرضا بدنياها والتغاضي عما وراءها. ولهذا احتدم الجدل بينهما حتى تحدته بأن يقدم على الانتحار حرقًا إن كان حقًّا عازفًا عن الدنيا راغبًا في الموت فما جرؤ صاحبها في بداية الأمر. ولما امتنع عليها في الحالتين، الرضا بالواقع أو الرضا بالموت، امتنعت هذه الأخرى عن مناقشته ولكنه ما لبث حتى عاود التفكير ثانية فيما دعته إليه واعتزم أن ينتقل وإياها إلى عالم الآخرة، وبدأ يستدرجها في الحديث عساها تشجعه، وأشهد عليها جمعًا تخيله من الناس، ولكنها لم تستجب لدعوته وقالت له تشجعه: ابتغ يومًا هنيئًا وتناس الهم، "وإلا فأين أنت من مصيبة" مواطن حرث أرضه وحمل محصوله إلى بطن مركب وأعد رحلته وحسب أن عيده قد اقترب، وفجأة رأى انطلاق إعصار من الشمال، وهو يرقب في المركب والشمس تدخل خدرها، فجهد في أن ينفلت بزوجته وأولاده ولكنهم هووا في بحيرة تعج بالتماسيح في سواد الليل، فانتهى "وقد خلص بنفسه" إلى أن قعد وزفر ودمع وهو يقول: لئن لم أبك تلك الولادة التي لا يرجى لها خروج من عالم الموتى إلى حياة أخرى على الأرض، فإنما أنوح على صغارها الذين قضوا فراخًا في البيضة وشهدوا طلعة التمساح من قبل أن يحيوا ... ". وهدفت الروح من رواية هذه القصة وقصة أخرى تلتها، أن تقنع صاحبها بأنه إذا تأمل مصائب الناس هانت عليه بلواه. ولكن النتيجة كانت عكسية، فأثار حديثها وجيعته واندفع يجيبها في حديث طويل يتساءل فيه عن السلوى التي تغريه بها وعن قيمة الحياة التي تدعوه إلى الرضا بها، بعد أن زلزلت عواديها كيانه وفقد فيها الكرامة والثقة والأمل جميعًا. ونظم إجابته لها في أربع مقطوعات قصار. وكشف لها في الأولى عما أصاب سمعته وكرامته، نتيجة فيما يحتمل لتكفله بدعوة لم تجد سميعًا ولا مجيبًا بقدر ما قوبلت به من صد وإساءة. فقال في بيتين من أبياتها: كفاك أن عيف اسمي كفاك، أكثر من رائحة الرخم، في نهار صائف اتقدت سماؤه. كفاك أن عيف اسمي كفاك، أكثر من سمعة زوجة، ردد الناس البهتان عنها لبعلها. وفي نظمه الثاني أخذ يأسى على زوال المستجيب والصديق والقريب وانتفاء الخير، قائلًا فيما قال: لمن أتحدث اليوم - والأشقاء أشرار - وأصدقاء اليوم لا يرغبون! لمن أتحدث اليوم - وقد قر الناس على السوء - وأهملت الحسنى في كل مكان! لمن أتحدث اليوم - وما عاد أحد يذكر الماضي - ولا معونة لأحد يعمل في هذا الزمان! لمن أتحدث اليوم - وما من رضي الفؤاد - ومن كان يرافق لم يعد له وجود! لمن أتحدث اليوم - وبأساء ألمت بالبلاد - ما لها من حدود! وفي نظمه الثالث عاود الرجل ذكر الموت، فما تصور دونه خلاصًا من عجز مسعاه وما رآه من لؤم الطباع، وقال فيما قال: بدا الموت أمامي اليوم كالبرء للسقيم والخروج إلى الفضاء بعد حجز.

بدا الموت أمامي اليوم كعبير المر وجلسة تحت ظلة في يوم ريح صر. بدا الموت أمامي اليوم كتشوق رجل إلى وطنه بعد عدة سنين في الأسر. وبعد أن أفرغ من تشوقه إلى الموت كما فرغ من قبل من ذكر مبررات ضيقه بالحياة، أكد في نظمه الرابع حياة ما بعد الموت، حيث الثواب وحسن المآب، قائلًا فيما قال: وأيم الحق، من وصل هناك، سيكون ربًّا يحيا، يرد الشر على من أتاه. وأيم الحق من وصل هناك سيكون عالمًا بالأمر ولن يصرف عن شكواه لرع إذا ناجاه. وبهذه التصورات عما بعد الموت، اختتم الرجل حواره، ولم يكن لروحه مأخذ عليها، ولكنها كانت ترى أنه ما من بأس في أن يؤدي واجباته الدينية ويستمتع بالحياة في آن واحد، ثم ينتظر الموت في أجله الطبيعي، وحينئذ تهدأ معه ويلقاها إلى جانبه، فقالت: "دع الشكوى، رفيقي وأخي، وألق بخورك على الجمر، وابتغ الحياة كما قلت لك، ابتعيني ههنا وأقص عنك عالم الموت، فإن بلغت الغرب في أجلك وورى جسدك في التراب، فلسوف أحط معك وحينئذ ننشد الاستقرار معًا".

ثالثا: في أدب النصيحة

ثالثا: في أدب النصيحة مدخل ... ثالثًا: في أدب النصيحة تكفل بالنصح والتوجيه في مصر القديمة أطراف ثلاثة: آباء مثقفون، ومعلمون من الكهان والمدنيين، ثم أدباء انتحلوا لأنفسهم سمات الآباء تارة وسمات المعلمين تارة سواها: وتفاوتت المستويات الاجتماعية للأطراف الثلاثة، فكان منهم أمراء ووزراء، جنبًا إلى جنب مع أفراد من أواسط الكتاب والكهان، وذلك مما يعني أن الحكمة لم تكن وقفًا على طبقة معينة من الناس دون أخرى، وقد تلاقت سبلهم في ثلاث نواحٍ، وهي: أن أغلبهم نسب نصائحه إلى خبرته الشخصية وتجارب أسلافه أكثر مما نسبها إلى وحي السماء وأوامر الأرباب، وأن كلًّا منهم حاول أن يتجاوب بتعاليمه مع الأوضاع التي ارتضاها الفراعنة لمجتمعه بعد أن ظن فيها القداسة وردها إلى عدالة الأرباب، وأن أغلبهم تحرى الإقناع والتوسط في تكييف أوامره ونواهيه. وسوف نتخير فيما يلي فقرات قصارًا من هذه التعاليم:

بتاح حوتب

بتاح حوتب: كان بتاح حوتب وزيرًا من القرن الخامس والعشرين ق. م، ومن أقدم أصحاب التعاليم1. وفي سياق حديثه صور لولده سبيل الاستقرار في الأسرة قائلًا له: "إذا أصبحت كفئًا كون أسرتك، وأحبب زوجتك في حدود العرف أو عاملها بما تستحق ... ، أشبع جوفها، واستر ظهرها، وعطر بشرتها بالدهن العصر، فالدهن ترياق بدنها ... ، وأسعدها ما حييت، فالمرأة حقل نافع لولي أمرها ... ولا تتهمها عن سوء ظن، وامتدحها تخبت شرها، فإن نفرت راقبها، واستمل قلبها بعطاياك تستقر في دارك، وسوف يكيدها أن تعاشرها ضرة في دارها ... ".

_ 1 Z. Zaba, Les Maximes De Ptahhotep, Prague, 1956.

آني

آني: أراد الحكيم الأديب آني، من أهل القرن السادس عشر ق. م1، أن يرشد ولده إلى مقومات السعادة في الأسرة، فقال له: "تخير زوجتك حين الصبا وأرشدها كيف تصبح إنسانة، وعساها تنجب لك طفلًا، فإنها إذا أنجبته لك وأنت شاب استطعت أن تربيه وتجعله رجلًا، وطوبى للرجل إذا أصبح كثير الأهل وأصبح يرتجى من أجل أبنائه". ثم قال له: "لا تقس على زوجتك في دارها إن أدركت صلاحها، ولا تسألها عن شيء أين موضعه إذا تخيرت له وضعه الملائم. افتح عينيك وأنت صامت تدرك فضائلها، وإن شئت أن تسعد فاجعل يدك معها وعاونها. يجهل كثير من الناس كيف يمنع الإنسان أسباب الشقاق في داره، وقد لا يجد أحدهم مبررًا للنزاع فيعمل على خلقه، بينما يستطيع كل إنسان أن يوفر الاستقرار في داره إذا تحكم سريعًا في نزعات نفسه. ولكن احذر أن تمشي في طاعة أنثى، أو تسمح لها بأن تسيطر لها بأن تسيطر على رأيك". وكما أوصاه بزوجته أوصاه أكثر بأمه، قائلًا له: "ضاعف الخبز لأمك، واحملها إن استطعت كما حملتك، فطالما تحملت عبثك ولم تتركه على ... ، ومنذ ولدت بعد أشهرك أسلمت ثدييها لفمك خلال ثلاث سنين، متحملة قاذوراتك دون أنفة قائلة: ما الذي أفعله. وحينما ألحقت بالمدرسة وعلمت الكتابة فيها ظلت تواظب دوني "على الذهاب إليك" يوميًّا بالخبز والشراب من دارها. فإذا شببت واتخذت زوجة واستقررت في دارك ضع نصب عينيك كيف ولدتك أمك وكيف كانت تربيتك كلها". وقال له وهو يعظه بألا يتجاوز حد القناعة في طعامه وشرابه: "لا تجبر نفسك على أن تشرب زق جعة، فإنك إذا شربته عجزت عن البيان وتكلمت لغوًا لا تدرك معناه ... ، وإذا التمسك رجل ليسائلك وجدك ملقى على الأرض أشبه بطفل غرير". ثم أراد أن يصرفه عن نهم الطعام إلى لذة الإحسان، فقال له "لا تأكل طعامًا وغيرك واقف دون أن تحث الخطى إليه وتمد يدك بالطعام إليه، ولسوف يعرف لك ذلك إلى أبد الآبدين". وقال يوصي ولده بصراحة الحديث: "إياك ألا تقاوم الالتواء في داخلية نفسك". ثم دعاه إلى التبصر حين الخطاب وحين الجواب قائلًا: "إن جوف الإنسان أوسع من شونتي الغلال الملكيتين، يتسع لكل جواب، فتخير خير الحديث وتكلم صوابًا، واحتفظ بسيئه في جوفك". وكان من طريف تأديبه له بآداب الدعاء قوله: "ادع بقلب محب ولا تجهر بصوتك، يستجب الإله لدعائك ويسمع ما تقول ويتقبل قربانك".

_ 1 A. Volten, Studien Zum Weisheitsbuch Des Anii, Kobenhagen, 1937.

أمنموبي

أمنموبي: كان الشيخ أمنموبي موظفًا أدبيًّا متدينًا، في فترة ما من القرن العاشر أو التاسع ق. م1، وقد تحدث في مقدمة تعاليمه عن أغراضه منها، وهي أن تكون هاديًا لقارئها إلى السعادة، ومرشدًا إلى قواعد مخالطة

_ 1 Brit. Mus. Pap 10474; F. Li. Griffith, Jea; Xii, 191 F.

الخلصاء والكبراء، وتقاليد أهل البلاط، ومعرفة الرد شفاهة وكتابة على كل من يحادثه ويراسله، فضلًا عن راحة ضميره وحسن سمعته بين الأقارب والأغراب. ولما كان الشيخ قد عاش في عصر شاهد الحكم الثيوقراطي واشتدت فيه نزعة التدين، وكان قد هيأ ولده لمنصب ذي صلة بمعبد، اصطبغت تعاليمه بروح التقوى والدعوة إلى خشية الإله والثقة بعلمه وعدله والإيمان بقضائه وقدره. وقال لولده "كن رصينًا في تفكيرك وثبت فؤادك ولا تتعود على أن تجدف بلسانك" "ولا تفصلن فؤادك عن لسانك، تصبح مشروعاتك كلها ناجحة". "وثمة شيء آخر محبب إلى الرب وهو التروي قبل الكلام". وكان من قوله له إنه "شتان بين الكلام الذي يقوله الناس وبين ما يفعله الإله". وعمل على أن يصرفه عن التبرم بالحياة وتخوف المستقبل، قائلًا له: "لا تقل: إن اليوم أشبه بغد، فإلام ينتهي هذا؟ "كلا" فالغد آتٍ واليوم منقضٍ، وقد تصبح اللجة الغائرة حافة للأمواج". "ولا تقضِ الليل متخوفًا من الغد قائلًا عندما يطلع النهار كيف يكون الغد؟ فما يعلم إنسان ما سيكون عليه الغد، والإله دائمًا في فلاح "تدبيره" والإنسان دائمًا في خيبة ظنونه". "ولا تتبرم بالفقر، فإن رامي السهام إذا اندفع إلى الأمام هجراته جنوده حين الخطر". ودعاه إلى احترام كبار السن وعلل ذلك بتعليل لطيف قال فيه "لا تسب من يكبرك سنًّا، فإنه قد شاهد "نور الإله" رع قبلك ... ، دعه يضربك إن شاء ويدك في خاصرتك. ودعه يسبك إن شاء وأنت صامت ... ". ودعاه بالتالي إلى احترام الرئيس وملاينته والبعد عن مجابهته بما يسوءه، ولكن نبهه إلى جانب ذلك إلى رب يهب الإنسان حاجاته في الحياة ويجعله آمنًا من كل خوف إذا دعاه، ويظل المؤمن في يده في سلام. وقال له في ذلك: "كن ثابتًا أمام غيرك من الناس، فالإنسان في مأمن في يد الرب، والرب يمقت من يزور في الكلام، وكبر مقتًا عنده النفاق". واعتبر ربه هذا واهبًا للعدالة ومن لا يتحرى عدالته يفسد تدبيره في دنياه، وقال: "لا تخصص عنايتك لمن اكتسى بثوب قشيب، وتقبله في الأسمال. ولا تتقبل رشوة من صاحب نفوذ، أو تظلم مقصور اليد من أجله، فالعدل هبة غالية من الرب يهبها لمن يشاء". وقال له: "إن الرب يحب إسعاد الفقير، أكثر مما يحب تعظيم النبيل". وعلى نحو ما وضحت المشابهة والتأثير بين أناشيد أخناتون وبين مزامير العبرانيين، وضح تأثير مشابه من تعاليم أمنموبي على تعاليم اليهود في سفر الأمثال، في اللفظ والمعنى، بل وفي تقسيم الفقرات أيضًا1. مما سنعود إلى بحثه مع حضارات الشام في المجلد الثاني لهذا الكتاب.

_ 1 D.C. Simpson, Jea, Xii, 232 F.

نصائح المعلمين

نصائح المعلمين: شارك المعلمون والأدباء المحترفون الآباء المثقفين في تعاليم الحكمة والتهذيب، وكان أكثرهم حديثًا معلمو وأدباء عصر الرعامسة، وقد أراد أحدهم أن يزكي النخوة والنجدة في نفس تلميذه وقارئه، فقال له: "إذا رجاك يتيم مسكين اضطهده آخر وود هلاكه، فسارع إليه وقدم المعونة إليه. اجعل نفسك منقذًا له، فمن أعانه ربه حق عليه أن يعين كثيرين غيره ... " وقال: "حرر غيرك إن وجدته رهين القيد، وكن حاميًا الضعيف، فلقد قيل إن الحسنى لمن لا يدعى الجهل بالآم غيره" .. وقال: أياما كانت خبرتك بالكتب، وكنت متعمقا في التعاليم ... ، فعليك أن تَحترم الغير حتى تُحترم، وأحب الناس يحبك الناس، ولا تبالغ في أحاديثك".

رابعا: في أدب النقد والتوجعات

رابعا: في أدب النقد والتوجعات إبوور والثور الطبقية ... رابعًا: في أدب النقد والتوجعات إبوور والثورة الطبقية: أسلفنا في حديثنا عن أواخر الدولة القديمة "في ص149+" أن الدورة التاريخية الأولى لمصر قد انتهت في اواخر القرن 23ق. م. بثورة طبقية صور أخبارها من وجهة نظره حكيم يدعى إبوور، أو أبو العجوز. وقد حفظ المصريون آراءه ووصفه لأحداث عصره وحكايته مع فرعونه وبلاطه، ورددوا قصته أجيالًا طويلة ثم سجلوها على صفحات البردي، وبقيت من صورها بردية كتبها أديب من الدولة الحديثة وتعرف الآن اصطلاحًا باسم بردية ليدن 344 بعد أن انتقلت إلى حوزة متحف ليدن1. كان إبوور مصلحًا ما في ذلك من شك، وكان يدرك مفاسد الحكم في عصره ما في ذلك من شك أيضًا، لولا أنه كان من طبقة أرستقراطية قديمة وكان يتمنى أن يتأتى إصلاحها من داخلها أو بوحي فرعون حازم مصلح، ولم يكن يهضم أن يفرض التغيير عليها فرضًا عن طريق طبقة أقل منزلة منها، أو عن طريق الشعب في حدود تعبيراتنا الحالية، ولهذا اختلط الإخلاص في روايته بالمبالغة، واختلط التحسر بالأمل، واختلط الخيال بالواقع كما سيتضح من عباراته الحرفية التالية: يفهم مما رواه إبوور أنه تعاونت على إشعال الثورة نفس العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أسلفنا ذكرها "ص148+" فالدولة في مجملها قد ولت عنها هيبتها وهبطت إلى مستوى من الضعف أصبحت معه على حد قوله "في طريقها إلى أن تصب الماء "لغيرها"، ومن أضاع الماء "أي الإمكانيات" يكون قد شل الذراع الفتية واحتجزها في الأغلال"، "والأجانب الذين كانوا يخشونها والذين عرف الشعب "تفاهتهم" أصبحوا يقولون لن تستطيع مصر أن تأتي شيئًا، فالرمال "المحيطة بها" هي كل حمايتها! ". وفسدت ولاية الحكام، وقال إبوور عنها: "حقًّا لا تزال العدالة باقية في الأرض باسمها، ولكن المؤسف حقًّا هو الخطأ في تطبيقهم لها"، وقال: "عظماء البلاد لا تبلغهم أمور البلاد، والكل آل إلى الدمار". وظهر عجز الملكية عن كبح جماح الجنود المرتزقة في جيشها بحيث "أصبحت خيرات مصر نهبًا مشاعًا" لكل من نزلها من دون أهلها، وقال إبوور في ذلك: "إن الجنود الذين جندناهم من أجل صالحنا أصبحوا ضمن الآسيويين، ألا بعدًا للخراب الذي حدث "في مصر"، فقد جعل الآسيويين يعرفون أحوال البلاد". وعجزت الدولة عن صد هجرات البدو فتجاوزوا حدودها وتسربوا إلى أراضي الدلتا وشاركوا المصريين

_ 1 Pap. Leiden I, 344 Rt.; Gardiner, The Admonitions Of An Egyptian Sage, 1909; Wilson, Aent, 441 F. وراجع المؤلف: حضارة مصر القديمة وآثارها - القاهرة 1962 - جـ1 - ص392 - 400.

معايشهم واعتبروا أنفسهم من أصحاب البلاد وخاصة أهلها، وقال الحكيم في ذلك: "تخربت الأقاليم، وتوافدت قبائل قوالسة غريبة إلى مصر، ومنذ أن وصلوا لم يستقر المصريون في أي مكان"، ثم قال والألم يحز في نفسه: "وأصبح الأجانب مصريين في كل مكان ... "وأولئك الذين كانوا مصرين أصبحوا أغرابًا وأهملوا جانبًا". وكان من الطبيعي أن يعز الأمن في البلاد، وقد قال عنه: "يقولون" الطرق محروسة، ولكن القوم يختبئون على الأشجار حتى يأتي سار بليل فينهبون ما يحمله ويسلبونه ما عليه، ويشوهون وجهه بالعصا، وربما قتلوه ظلمًا"، وقال: "إذا مشى ثلاثة في طريق وجدهم الناس اثنين، فغالبًا ما تذبح الأكثرية الأقلية". وتخاصم حكام الأقاليم بعضهم مع بعض واستأثر أغلبهم بثروات أقاليمهم، وامتنعت عن خزائن الحكومة المركزية ضرائب أغلب مناطق الصعيد القصية وقال إبوور في ذلك: "الحق أن أسوان وجرجا في أرض الصعيد لم تعودا تؤديان الضرائب نتيجة لشيوع الفتن، فعز الغلال ... ومنتجات المصانع فكيف يسير بيت المال إذن بغير موارده؟ " وقال: "قلت سفن الصعيد، وتخربت المدن، وأصبح الصعيد خرابًا يبابًا". وتوقفت سبل التجارة الخارجية مع غرب آسيا بعد أن هددتها الفوضى والهجرات الأمورية، وقال إبوور عنها: "ماعاد أحد يبحر اليوم نحو جبيل، فما الذي سوف تفعله إذن بخصوص أخشاب الأرز "التي اعتدنا أن نصنع منها" توابيتنا، والزيوت التي يحنط الكبراء فيها، "وترد من" هناك، ومما يجاوز كفتيو. ما عاد يأتي من ذلك شيء حتى أصبح مجيء أهل الواحات بمنتجاتهم "البسيطة" شيئًا ذا بال". نشبت الثورة من جراء هذه العيوب كلها، وصحبها في بدايتها نوع من العنف ورغبة الانتقام، ورغبة التنفيث عن الغضب المكبوت، ويبدو أن أعوزتها الزعامة التي توجهها الوجهة السليمة، فاستغلها بعض الغوغاء وأهل السوء، وقال إبوور وهو يصف بدايتها "قال حراس الأبواب "بعضهم لبعض" فلننطلق وننهب ... ، وأبى الغسالون أن يحملو أحمالهم ... ، وتسلح صيادو الطيور بأدواتهم، وتترس أهل الدلتا بالتروس ... ، وحدث شيء قدر منذ عهد حور وزمن التاسوع". أغرب إبوور في وصف سوء الحال والمآل، ووصف ما شاء له الوصف شدة الاعتداءات على حرمة الملكية ومقدساتها ودواوينها ودور قضائها، وقال عن هذه الأخيرة: "فتحت الدواوين وسلبت كشوف الإحصاء وأتلفت سجلات كتبة المحاصيل" وقال: "ألقيت قوانين دار القضاء في العراء، ووطئت بالأقدام في الشوارع، ومزقها الغوغاء في الأزقة، وأخذ العوام يروحون ويجيئون في دور "القضاء" الكبيرة، ونُفي القضاة في الأرض، واحترقت البوابات والأعمدة والأسوار". وقال في شيء من التهويل والمبالغة: "أصبح الرجل ينظر إلى ولده كأنه عدوه، ... وساءت الوجوه، وتأهب القواس، واستشرى النهب في كل مكان وما عاد لرجل الأمس وجود ... "، وقال: "قست القلوب، وغزا الوباء الأرض "وسرى" الدم في كل مكان، وأصبح مجرى النهر قبرًا، وغدا كان التطهر فيه بلون الدم، وإذا قصده الناس ليرتووا منه عافوا جثث البشر وظلوا على ظمئهم إلى الماء". وعز الأمن

في الريف وتعطلت الزراعة، وقال إبوور: "أصبح الرجل يخرج ليحرث وهو بالمجن" "وأفاض إله النيل الماء، ولكن ما من أحد يود أن يحرث من أجل نفسه، بعد أن أصبح الناس جميعهم يقولون: لسنا نعرف ما سوف يتأتى في هذه الدنيا". وتعطلت الصناعة والفنون بدورها، وقال إبوور "أصبح الصناع جميعًا عاطلين، وأفسد أعداء البلاد فنونها" "وأصبح بناة الأهرام فلاحين". وأراد أن يصور سوء الحالة الاقتصادية فقال: "أصبحت العاصمة في خوف من العوز، وأصبح الناس يأكلون الحشائش ويبتلعون بالماء ... ". لم ينس الرجل طبقته التي انحدر منها، فأخذ يتحدث عن انقلاب أوضاع الطبقات ويقارن بين ما كان وما هو كائن، ولم يكن من الهين عليه بطبيعة الحال أن تزول النعمة من قوم إلى قوم أو من طبقة إلى طبقة، فقال في عبارات قوية اصطبغت بروح الأدب وتعنينا من حيث صياغتها وطرافتها أكثر مما تعنينا من حيث دلالتها على واقع أكيد. قال الحكيم فيما قال: "فارقت النبالة الدنيا وأصبحت ربات البيوت يقلن أنى لنا ما نأكله، وذبلت أجسادهن في الأسمال وهاضت قلوبهن من ذل السؤال"، وقال: "غدا الأثرياء يولولون وغدا المحرومون مسرورين ... وما من أبيض الثوب في هذا الزمان. ودارت الأرض كما تدور عجلة الفخار. وأصبح المواطن يقول ما أشد البلاد وماذا أفعل؟ وأصبح ابن الناس نسيًا منسيًّا وغدا ابن سيدته كابن خادمته". واندار على الطبقة الجديدة فقال في عبارات متفرقة: تجرأت الجواري بأفواههن، وإذا تكلمت سيداتهن ثقل ذلك على الخدم. وأصبح العوام من أرباب الرفاهة، ومن لم يكن منهم يتخذ نعلًا أصبح ذا ثراء عريض، ومن لم يكن يعرف الظل أصبح صاحب ظل ظليل، ومن كان رسولًا أصبح يرسل غيره، ومن كان يتساقط شعره من قلة الدهان أصبح يمتلك قدور المر الغالي، ومن لم يكن له صندوق أصبح صاحب أثاث، ومن كانت ترى وجهها في الماء أصبحت ذات مرآة ... وكره بعض الناس دنياهم وآثروا الانتحار، سواء لضياع حقوقهم القديمة، أو لأسفهم عما أصاب المعابد والمقابر، أو لأسفهم عما أصاب بلدهم من اضطراب لم يعرفوا علاجه، وعبر أبوور عن رأيهم بقوله "ولي وانقضى ما شهده الأمس، وبقيت الأرض لسوء حظها، ألا ليت ذلك يكون نهاية الناس فلا يحدث حمل ولا ولادة، وتهدأ الأرض من الضجيج ولا يكون هناك متخاصمون"، وقد "أصبح الكبير والصغير يتمنيان الفناء، وأصبح الأطفال يقولون ليت آباءنا لم يهبونا الحياة" و"غصت التماسيح بما أصبحت تقتنصه بعد أن ذهب الناس إليها من تلقاء أنفسهم". غير أن كل هذه السوءات المبالغ فيها، لم تحرم الثورة من مزاياها ونتائجها الطيبة التي أسلفناها لها "في ص150"، وخلاصتها أنها حركت ضمائر الحكماء إلى الإصلاح، ودعت إلى التفكير فيما ينبغي أن يكون عليه سلوك الحكام، وشجعت على مواجهة الملك بعيوبه، وشجعت على إعادة النظر في العقائد، وأدت إلى نشأة طبقات جديدة تعتز بالعصامية أكثر مما تعتز بالأحساب.

القروي الفصيح

القروي الفصيح: أسلفنا "في ص160" أن قصة "القروي الفصيح" ألفها أديب في العصر الأهناسي أو فيما بعده بقليل؛ ليصور بها ما هو كائن فعلًا في عصره من أوضاع الحكم والإدارة، ويعقب عليها بما كان يرجو أن يسود عصره من أوضاع مستحبة بين الحكام والمحكومين1. وتروي القصة أن قرويًّا يسمى "خون إنبو" خرج من بلدة تسمى "غيط الملح" وهي بلدة من نواحي الفيوم "وإن ظنها البعض خطأ في وادي النطرون" وترك فيها زوجته مارية وأولادها وترك لهم جانبًا مما كان يدخره من الغلال، وحمل حميره ببضاعة متواضعة من نطرون وأعشاب وجلود وأحجار شبه كريمة ابتغاء أن يتجر بها في مدينة أهناسيا عاصمة الملك في عهده. ومر في طريقه على قرية أو ضيعة تسمى "برفيفي" كان يتولى أمرها موظف شرير يدعى "تحوتي نخت" نيابة عن موظف آخر كبير كان يرأس نظارة الخاصة الملكية ويدعى "رنسي بن مرو". وطمع تحوتي نخت في تجارة القروي وحميره وأراد أن يكون له نصيب منها، وتفتق ذهنه عن حيلة خبيثة، فاعترضه على طريق زراعي ضيق كان لا بد له أن يمر عليه وأوعز إلى خادمه أن يبسط على الطريق قماشًا يغطيه بالعرض، ولما تقدم القروي على الطريق نهاه تحوتي نخت أن يمر على قماشه المبسوط، فاعتذر القروي بأنه كان حسن النية فيما أقدم عليه، وابتعد عن القماش وسار قرب الزراعة، فنهره تحوتي نخت مرة أخرى. وفجأة قضم أحد حمير القروي قضمه من سنابل الغلال فاعتبرها تحوتي نخت فرصته وأصر على أن يستولي على الحمار جزاء جرمه، فاحتج القروي وهدد بإبلاغ الأمر إلى ناظر الخاصة وصاحب الأرض، فغضب تحوتي نخت وأخذته العزة بالإثم واستولى على بضاعة الرجل وحميره كلها. وولول القروي واشتد عويله، فنهره تحوتي في صفاقة غريبة قائلًا له: "لا ترفع صوتك يا فلاح، أنت قريب من بلد رب السكون" .. وكان رب السكون هذا هو المعبود أوزير، ويبدو أنه كان له ضريح قريب من برفيفي يهابه الناس ويحترمونه. ولكن القروي لم يهتم به وقال بلهجته الريفية اللطيفة: "تضربني وتنهب متاعي وتوقف الشكوى على لساني؟ يا رب السكون "إديني" إذن حاجتي حتى أبطل الصراخ الذي يقلقك". واستمر القروي طيلة عشرة أيام يشكو حينًا ويسترحم حينًا، ولكن بغير طائل، فاتخذ سبيله إلى العاصمة أهناسيا ليشكو بلواه إلى ناظر الخاصة ونسي، وقابله فعلًا ذات صباح وهو في طريقه من داره إلى النهر ليستقل قارب المحكمة، ورجاه أن يرسل معه تابعًا مع من عنده حتى يعهد إليه بقصته. ورجع التابع بنص القصة إلى رئيسه، فعرضها رنسي على من كانوا بصحبته من الموظفين فهونوا الأمر عليه وانحازوا إلى جانب زميلهم تحوتي نخت وعز عليهم أن يعاقب من أجل فلاح، وحاولوا أن يشككوا رئيسهم في صحة دعواه. ولكن رنسي أسر أمرًا في نفسه. واستبطأ القروي رد رنسي فوجه إليه استعطافًا رقيقًا لينًا حاول أن يستثير به نخوته، فحببه في العدل،

_ 1 F. Vogelsang U. A.H. Gardiner, Die Klagen Des Bauern, 1908; Gardiner, Jea, Ix, 5 F.

ووصفه بما يحب أمثاله أن يوصفوا به، وكان من قوله له: "إذا كنت حقًّا أبًا لليتيم، وزوجًا للأرامل، وأخًا للمنبوذة، ورداء لمن لا أم له، فشجعني على أن أنشر سمعتك في هذه الأرض بما يتفق مع القانون الصحيح، وعساك تكون حاكمًا بريئًا من الجشع، ونبيلًا منزهًا عن الدنية، تزهق الباطل وتحق الحق وتلبي نداءه. وهأنذا أقول وأنت تسمع. أقم العدل أمدحك ويمدحك المادحون - أزل كربي واحمني ... ". وفعل استعطاف القروي فعله لدى ناظر الخاصة أو على الأصح فعل مديحه فعله لديه، فأعجب به وأسرع إلى فرعونه وهو يقول: "مولاي وجدت واحدًا من أولئك القرويين جيد الكلم يتحدث بالصواب، نُهب متاعه وأتاني يتظلم إليَّ"، وقص قصته عليه، فرد الفرعون عليه بقوله: "أستحلفك" بحق ما تحب أن تراني معافى، أن تؤخره ههنا، ولا تعقب على شيء يقوله، عساه يواصل الحديث، ثم يؤتى إلينا بحديثه مكتوبًا فنسمعه، بشرط أن تتكفل برزق زوجته وعياله، فالقروي من هؤلاء القرويين يأتينا عادة بعد إملاق، وعليك كذلك أن تتكفل بمعاشه "طيلة بقائه هنا" بشرط أن تصرف له "رزقه" دون أن تشعره بأنك أنت معطيه". وهكذا صور الشق الأول من القصة أكثر من جانب من جوانب الحياة في عصرها، فصور لؤم بعض الموظفين وسوء استغلالهم لسلطتهم وتستر بعضهم على بعض، ولكنه لم يأب أن يصور إلى جانبهم موظفين آخرين يتقبلون الشكاية والمظالم ويودون إزالة أسبابها، ولم يأب أن يصور فرعونًا يستعذب فصاحة قروي من رعاياه ويتمنى أن يستزيد منها ثم يأمر بالإحسان إليه في عاصمته دون أن يعرف من هو المحسن عليه، ودون أن يشعر بفضل أحد عليه، فضلًا عن الإحسان إلى أسرته في قريتها والتكفل برزقها. وعمل ناظر الخاصة بتوجيهات فرعونه، فتغافل عن الرد على خون إنبو، وظن هذا أنه أهمله فتحول من الاستعطاف إلى الشكاية ثم إلى الشراسة، وتحول من لين الحديث إلى العنف والنقد الصريح، وتوجه إلى رنس بثمان شكايات متتابعة بعد استعطافه الأول، لم يسلم حين تقديمها من الأذى وضرب الحجاب وإهانة الحراس، ولكنه لم يتخل عن عناده، واستمر يصر على إسماع صوته للحاكم ولو ناله الضرب والأذى، وعمل على أن يصور في هذه الشكايات مبادئ العدالة الاجتماعية والسياسية والقانونية التي كان يطمع فيها المفكرون في عصره. تصور خون إنبو أن الحاكم يشبه دفة السفينة التي تحدد مسيرتها، ويشبه السند الذي يعتمد الناس عليه، ويشبه خيط الميزان في دق تعبيره عن وزن الأمور، فقال لناظر الخاصة وهو يشكوه إلى نفسه: "أيها الدفة لا تنحرف، ويأيها السند لا تميل، ويأيها الخيط لا تتذبذب ... " "لقد انفلت العدل من تحتك وأُقصي عن موضعه، والموظفون يشاغبون، والموعظة الحسنة أهملت، وها هم القضاة يتخاطفون ما سلب مني .. ! ". وقال في تشبيه لطيف وتجسيم للصورة: "ها أنت رئيس وبيدك ميزان، إذا اختل الميزان فأنت مختل. ولسانك هو لسان الصغير، وقلبك صنجته، وشفتاك قبه، فإذا سترت وجهك عمن يطفف، فمن يرفع العار؟ ".

وقال في شكاية طريفة الأسلوب بليغة المعنى، وهو يحضه على العدل: "أقم العدل لرب العدل الذي عدل عدالته موجود، ويا قلم تحوتي وقرطاسه ولوحته، تنزهوا عن عمل السوء، فإنما الخير بالخير، والحسنى لها ما هو أحسن منها، والعدل باق إلى الأبد يهبط مع صاحبه إلى الجبانة، فإذا دفن احتوته الأرض معه، ولن تزول سمعته من هذه الدنيا، ولسوف يذكر بالخير، وهذا هو خير ما في أقوال الرب ... ، فمن يكن سندًا لا ينبغي له أن يميل، ومن يكن ميزانًا لا ينبغي له أن يتذبذب. وسواء جئت أنا أم أتى غيري وجب عليك أن تتحدث ولا تنصت هكذا إليَّ كما لو كانت أحادث شخصًا أخرس ... ". إنك لا تلين ولا تضعف ... ، وما جازيتني على أحاديثي الحسان التي صدرت عن فم الإله رع نفسه، ... قل الحق إذن وافعل الصواب فالعدل عظيم وخالد ... ". ولم يكتف القروي بالنصيحة والحديث عن واجبات الحكام، وإنما أخذ يشتد على ناظر الخاصة ويعنفه، وكان من قوله له: "إنك قادر ومقتدر، وذراعك طائلة، ولكن فؤادك قاسٍ، والرحمة قد تجاوزتك، فما أتعس المحزون الذي تحطمه. لكأنك رسول لرب التمساح، بل إنك زدت عن ربة الوباء، وإذا كان العدم يرتجى منها، ارتجى منك العدم ... ". وترتب على عنف القروي في حديثه أن أمر رنسي بضربه بالسياط، ولكنه لم يرتدع، وقال بعد ضربه: "ضل ابن مرو طريقه، وعمي وجهه عما يراه، وأصيب بالصمم عما يسمعه، وضل ضميره عما يذكر به. إنك أشبه بقرية بغير عمدة، وجماعة لا كبير لها، ومركب لا ربان فيها، وعصبة لا هادي لها. أنت نبيل نهاب، وحاكم مرتش، وكبير لمنطقة كان ينبغي أن يمنع الاختلاس ولكنه أصبح نموذجًا لمن يود أن يختلس". وزاد خون إنبو فعرض خلال شكاواه لناظر الخاصرة بالصفات التي كانت تنسب عادة إلى الفرعون، ولو أنه لم يذكر الفرعون صراحة، فقال: "أنت رع رب السماء وسط حاشيتك ومنك قوام الخلق جميعهم. وأنت كالفيضان، بل أنت حعبي صاحب الفيضان الذي يسبغ الخضرة على الحقول ويعمر البراري، فاقطع إن دابر النهب وأوقفه وأكرم البائس، ولا تكن فيضانًا ضد الشاكي، واحذر قرب الآخرة". وأطال القروي في شكاياته، ولما فرغ معينه منها استدعاه ناظر الخاصة، فتوقع الرجل أن تكون الدعوة لمقتله، وأخذ يروض نفسه على ملاقاة الموت في شجاعة، ولكن رنسي طمأنه وأراه شكاواه منسوخة على برديات جديدة أعدها ليعرضها على الفرعون شخصيًّا، فلما عرضها على مولاه أمره بأن يقضي في القضية بنفسه، فقضى بتجريد تحوتي نخت من ممتلكاته، ووهبها كلها للقروي فضلًا عن حميره وبضاعته. تلك فيما رأينا نماذج يسيرة من الأدب المصري القديم، تشهد على الرغم من قلتها وقدمها البعيد وصعوبة التعبير عن ألفاظها، على عقليات ناضجة وأحاسيس نابضة وأذواق مرهفة، ويمكن أن نضم إليها ما سبق أن استشهدنا به في بقية صفحات هذا الكتاب من أدب السياسة والحكم، في مثل نصائح خيتي لولي عهده

"ص155 - "، وتعاليم أمنمحات الأول لولده "ص174 - "، وتعاليم تحوتمس الثالث لوزيره "209"، وتأملات سيتي الأول "231" وقصة ونآمون "253 - "؛ وما استشهدنا به من الأدب الحربي في حوليات كامس وتحوتمس الثالث وأمنحوتب الثاني ورمسيس الثاني ومرنبتاح ورمسيس الثالث "في مثل صفحات 200، 201، 222، 235، 236، 240، 244 - 245"؛ وما سبق تبيانه من أدب التراجم الشخصية "في مثل صفحات 140، 142، 153، 154، 165، 175، 184، 211 .. إلخ"، والأدب الديني "الفصل الحادي عشر". وكنا نود أن نعقب على حديث الأدب بحديث آخر عن العلوم، لولا رغبة التخفيف وضيق المقام"1.

_ 1 راجع من الكتب العربية: عن الرياضيات للمؤلف: التربية والتعليم في مصر القديمة - القاهرة 1966 - الفصل الثاني عشر. عن الطب: حسن كمال: الطب المصري القديم - مجلدان - القاهرة 1964. عن العلوم بإيجاز: إرمان ووانكه: مصر والحياة المصرية القديمة - معرب بالقاهرة 1950.

الكتاب الثاني: العراق، بلاد النهرين

الكتاب الثاني: العراق، بلاد النهرين تمهيد ... الكتاب الثاني: العراق، بلد النهرين. تمهيد: حضارة بلاد النهرين القديمة هي أقرب ما يقرن بحضارة النيل، من حيث القدم والثراء والطابع المتميز واستمرار التطور في مجالات الفكر والمادة. وكان فيما أتت بقصص التوراة عن أهلها من الآشوريين والبابليين وعلاقاتهم بفلسطين والعبرانيين، ثم ما سجله الرحالة والمؤرخون الكلاسيكيون عن أمجاد هؤلاء وهؤلاء، ما أثار تطلع عدد من الرحالة والباحثين بل والمغامرين الأوروبيين في العصر الحديث، إلى محاولة كشف النقاب عن آثار بلاد العراق وتاريخها. وبدأ اهتمامهم بكتسي بطابع الجدية منذ أواخر القرن الثامن عشر، حين استرعت النصوص المسمارية الغريبة أنظار الرحالة واللغويين، وعمل عدد منهم على تصويرها وعمل تخطيطات لها، الأمر الذي مهد لمحاولات أولية لقراءتها ومعرفة رموز كتابتها، منذ أوائل القرن التاسع عشر. وقد أثمر الاتجاهات معًا منذ نجح رولنسن H.C.Rawlinson في نقل نصوص بهستون نقلًا سليمًا وحاول قراءتها، وهي نصوص سجلت انتصارات الملك دارا الأول بكل من اللغات: الفارسية القديمة والإلامية أو العيلامية العتيقة، والبابلية السامية، مما يسر عقد المقارنات بين ألفاظ هذه اللغات والاستعانة بالواحدة منها في فهم مترادفاتها الأخرى، مع مقارنة الفارسية منها بنصوص أخرى في إصطخر "برسوبوليس" عاصمة الفرس القديمة. وبلغت هذه المحاولة ومحاولات أخرى تشبها بواكير النجاح منذ أواسط القرن التاسع عشر، وأدى هذا النجاح بدوره، مع نشاط الرحالة الأوروبيين في وصف الآثار القائمة وتصويرها إلى تشجيع المتاحف العالمية والجمعيات الثرية على تبني عمليات الكشف عن الآثار في العراق، وفتح الأبواب لتقبل ما يحصل الأفراد عليه من الآثار في نظير مكافآت سخية. وقد تركز الاهتمام في بداية أمره على شمال العراق على أمل البحث عن آثار مدن نينوى وأشور ونمرود ذوات الشهرة التاريخية الواسعة. وبدأ هذا العمل كالعاعدة نفر يوصفون بالمغامرين أكثر مما يوصفون بالباحثين، ومنهم Paul Emile Botta الذي تنقل بنشاطه السريع من تلال نينوى إلى تلال خورساباد. ثم A. H. Layard الذي تنقل بدوره بين نمرود وبين نينوى، وكان لما كشفه هذا وذاك، من قصور الملوك الآشوريين العظام ومقتنايتها دوي عالمي كبير وتشجيع لغيرهما على سلوك نفس السبيل. وقد عمل رعيلهم الأول هذا في أرض بكر وبوسائل بسيطة وبخبرات متواضعة، وكانوا يهدفون أساسًا إلى استخراج أكبر عدد من الآثار الفنية والثمينة في أقصر وقت مستطاع وبأقل كلفة ممكنة، حتى يشبعوا رغبتهم في الشهرة والمال، ويشبعوا نهم المتاحف الأوروبية وأصحاب المجموعات الخاصة. وكانوا بوسائلهم هذه أكثر جناية على أثار العراق من زملائهم الأجانب المغامرين الذين عملوا في مصر، فقد كفل للآثار المصرية نصيبها من المنعة تشييد مبانيها الرئيسية بالحجر، وتماسك موادها الأخرى نتيجة لصيانتها في رمال الصحراء وفي مناخ جاف، وذلك على العكس من آثار العراق التي شيدت غالبية مبانيها من اللبن والآجر، وقلت مناعة موادها الأخرى نتيجة لرطوبة أرضها، مما كان يتطلب من الباحثين عنها دراية كافية بوسائل التنقيب عن الآثار ووقايتها وحفظها، وهو ما لم يتوافر

لأوائلهم، الأمر الذ أفضى إلى تصدع وتفتت كثير من الآثار الصغيرة التي اكتشفوها بمجرد تعرضها للهواء والحرارة الخارجية1. وشهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر بداية اهتمام الدراسات الأثرية بالنصف الجنوبي من بلاد النهرين، وكان ذلك إيذانًا بالكشف عن حضارات السومريين والأكديين، في مدن كيش وأور والوركاء ونفر ولجش ونيبور. ثم اتسعت البحوث الأثرية في جنوب العراق وشماله معًا في القرن العشرين واتسم بعضها بالطابع العلمي الدقيق في الكشف عن الآثار وقراءة النصوص وتحليلها، وصحبتها اهتمام مماثل بآثار فجر التاريخ في العراق الجنوبي، في مثل العبيد وجمدة نصر، وفي العراق الشمالي في مثل تل حلف وجسونة ... الأمر الذي جعل كل فترة من فترات الحضارات العراقية الطويلة الممتدة من الدهر الحجري القديم الأسفل حتى نهاية العصر الكلداني الأخير، جديرة بدراسة مستقلة مستفيضة. وإذا كان ثمة ما يضاف إلى هذا التمهيد، فهي ملاحظة عابرة تعترض كل من يكتب باللغة العربية عن حضارة العراق القديم وما سواه من أقطار الشرق القديم، وتتمثل في التقيد أحيانًا بكلمات ومسميات ذات جرس أجنبي، واستخدامها بلفظها أو بمعناها، اعتمادًا على شيوعها ونظرًا لسبق الباحثين الأجانب في دراسة حضارة هذا الشرق وكثرة مؤلفاتهم عنه. وذلك مثل لفظ ميزوبوتاميا Mesopotamia الإغريقي الأصل الذي تترجمه كثير من الكتب العربية بمعنى "بلاد ما بين النهرين"، وهي ترجمة أمينة، لولا أنه ينبغي أن يقدر إلى جانبها أن مواطن الحضارة العراقية القديمة لم تقتصر على ما بين النهرين، وإنما امتدت إلى ما حول النهرين أيضًا. بل إن طائفة من أقدم المواطن الأثرية مثل العبيد وإريدو وأور، قامت غرب الفرات وليس فيما بينه وبين دجلة، كما قامت إشنونا وتل أسمر ونوزي شرق دجلة وليس فيما بينه وبين الفرات. وفطن الإغريق أنفسهم إلى قصور لفظ ميزوبوتاميا، فأضاف بعضهم إليه لفظ بارابوتاميا Parapotamia أي ما وراء النهرين أو ما حولهما. وهكذا يحسن فيما نرى أن نقول "بلاد النهرين" وهي التسمية التي استخدمناها في هذا الكتاب، وليس تسمية "بلاد ما بين النهرين" الشائعة. وقد استخدمت كتب عربية أخرى تعبير "بلاد الرافدين" "وحضارة الرافدين"، وهو تعبير لطيف، لولا أن روافد النهر تختلف عن النهر ذاته فيما هو معروف. وما يجري على هذا اللفظ يجري على ألفاظ أخرى سامية قديمة نكتبها مضطرين عادة بمنطوقها الذي حرفه كتبة التوراة وحرفه المؤرخون الكلاسيكيون، مثل سرجون وسينا حريب وإسرهدون ونبوخذ نصر ... ، والعلة في هذا هي نفس العلة في الملاحظة السابقة، أي سبق الأجانب عنا في دراسة تاريخ العراق القديم، واستخدامهم لهذه الألفاظ في مؤلفاتهم الكثيرة، مما أكسبها شهرة وشيوعًا، وجعل التخلي عنها أمرًا غير مألوف، وإن أمكن التخفف منها عن طريق استخدام الأصول القديمة الصحيحة معها جنبًا إلى جنب.

_ 1 G.E. Daaiel, A Hundred Years Of Archgeologly, 1949.

الفصل الثالث عشر: فجر التاريخ العراقي في العصر الحجري الحديث

الفصل الثالث عشر: فجر التاريخ العراقي في العصر الحجري الحديث أ- في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة" ... الفصل الثالث عشر فجر التاريخ العراقي في العصر الحجري الحديث 1 - في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة" قدمنا في صفحات سابقة بعدد من مراكز الحضارة الأولية للدهور الحجرية القديمة والوسيطة في بلاد النهرين، وما استتبع ذلك من المعرفة المبكرة ببدايات الزراعة والاستقرار في وديانها، وقد انتشرت مواطنها خلال الألف الخامس ق. م في وديان العراق الشمالية التي انتفعت بمياه الأمطار إلى جانب انتفاعها بفروع النهرين، أكثر من انتشارها في السهول الجنوبية التي لم تكن أراضيها قد صلحت بعدُ للاستغلال والكسنى، لا سيما القريبة منها من سواحل الخليج العربي؛ نظرًا لانخفاضها وكثرة مناقعها وكثافة نباتاتها المائية غير المثمرة. وغرقت البحوث الأثرية الحديثة بين ثلاث مناطق حضارية متواضعة لبداية العصر الحجري الحديث في هذه النواحي، ونشأت قراها حيث تقوم الآن: جرمو في منطقة كركوك في سهل جمجمال قرب أحد فروع دجلة، وحسونة في جنوب الموصل الحالية. ثم حلف في أعالي نهر الخابور. وتضمنت كل قرية منها عدة مستويات لعمران متواضع في تتابع زمني يقوم تقديره على الاحتمالات أكثر مما يقوم على اليقين، وهو أمر يقتفر لقلة بقاياها وبعد زمنها. واعتبر بريدوود" R. J. Braidwood" قرية جرمو أقدم قرية زراعية، ونسب إليها تماثيل طينية بدائية متواضعة، لحيوانات، ورجال، ونساء جالسات ذوات أرداف غلاظ1. ولكن لا زال توقيت عهد هذه الحضارة قرين الشك حتى الآن 2، بحيث تردد الباحث V. G. C. Childe في نسبتها إلى عصر الزراعة وشك في تمثيلها لمرحلة حضارية متميزة، واعتبرها مجرد قرية صغيرة متخلفة قد ترجع إلى أواخر العصور الحجرية أو ما بعدها. أما مخلفات حسونة فكانت أسعد حظًّا في تقرير نسبتها إلى عصر بداية الزراعة، وتضمنت أكمتها عدة مستويات لعمران متواضع متتابع، وجد في أقدمها فخار خشن بدائي، وظهر في أوسطها فخار ذو زخارف

_ 1 R.J. Braidwood, In Sumer, Vii “1950”; Basoa, No. 124 “1951”; “The World’s Firtt Farming Villages”, Lllustrated London News, April, 28, 1956, 410 F. Petc 2 See Also, P. Mortensen, Sumer, 1962, 74-76; J. Mellaart, Cah, I, 257-58

مرسومة، وظهر في أحدثها فخار ذو خربشات ورسوم محفورة حفرًا بسيطًا1. ووجدت أشباه لهذه الأنواع في عدة مواقع أخرى معاصرة "مثل تل الصوان وسامرا وتل المطارة" كما جرت محاولات للتعرف على نوعيات المساكن والمقابر التي استخدمها أهلها في مراحلهم المتطورة "من حيث الحضارة" والمتأخرة نوعًا "من حيث الزمن". أما حضارة حلف ومصنوعاتها فقد انتشرت نماذجها رغم تواضعها، بين فريق من أهل العراق وبين فريق من أهل أطراف الشام القريبة منهم، بحكم موقعها الحدودي بينهما، فانتشرت في الجانب العراقي في مثل سامرا والأربجية وتبة جاورا، وميزها فخار يدوي ملون ومصقول مزخرف برسوم حيوانية ونباتية وتخطيطية، يعتبر راقيًا إلى حد ما بالنسبة للأنواع السابقة له، وأختام صغيرة صنع بعضها من السربنتين. وتخلفت لها بقايا مساكن صغيرة دائرية المقطع وربما كانت مقبية السقوف استخدم أهلها قطع الدبش الغفل في تدعيم أساساتها3. وعاشت مظاهر هذه الحضارة حتى عاصرت المراحل الأولى لاستخدام النحاس. ووجد عدد من مقابرها داخل مساكنها، كما عثر فيها على عدد من تماثيل الخصوبة والأمومة الطينية الصغيرة.

_ 1 R.J. Braidwood, Sumer, 1945, 59 F.; 1947, 26 F.; 1950, 93 F.; Baridwood, J.G. Smith And C. Leslie, “Matarra: A Southern Variant Of The Hassuna Assemblage”, Jnes, 1952, 2 F.; T.Dabbaek, ‘Hassuna-Pottery”, Sumer, 1965, 93 F.; F. El-Wailly- B. Abues-Soof, ‘Tell-Es-Sawwan” Ibid., 17 F., 24; Also, Sumer, 1968, 58 F., 1971, 3f.; 1973, 7 F.; Mellaart, Op, Cit., 271 F. وراجع ترجمات فؤاد سفروبشير فرنسيس العربية في مجلة سومر لعامي 1950، 1951. 2 Von Oppenhem, Tell Halaf, 1943, M.E.L. Mallewan & C.J. Rosse, Preistoric Assyria, The Excavatians At Tell Arpachiyah, 1933; Irak, Ii 1935, 1 F. S. Lioyd And F. Safar, Sumer, 1948; A. Jawad, Ibid., 1974; Mallowan, C.A.H., I, 330 F.; J. Mellaart, Ibid., 1974; Mallowan, C.A.H., I, 330 F.; J. Mellaart, Ibid., 67 F.

ب- في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية"

ب- في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية" مدخل ... ب- في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية" شهدت بلاد العراق في أواخر عهد حضارة حلف، دبيب النشاط الحضاري في مناطقها الوسطى والجنوبية، وتمثلت المراكز المبكرة لهذا النشاط في كل من إريدو وحجي محمد، ونسبت إلى كل منهما مستويات ومراحل عديدة من العمران تتراوح بين 14 وبين 19 مرحلة3، وتدعو كثرتها إلى الشك فيها أكثر مما تدعو إلى تأكيدها. ولم تكن أيهما بمعزل تمامًا عن حضارات الشمال المعاصرة لها. وعلى أية حال فقد ارتبط أهم نشاط هذه الفترة بتطور صناعي جديد، وربما بتحركات شعوبية أو قبلية جديدة أيضًا. أما التطور الصناعي فهو بداية معرفة معدن النحاس واستخدامه على نطاق ضيق، جنبًا إلى جنب مع الأدوات الحجرية، فيما يعرف اصطلاحًا باسم العصر النحاسي الحجري أو عصر بداية المعادن. وفرقت الأبحاث الأثرية بين ثلاث مراحل شهدها العراق في هذا العصر، ونسبت كلًّا منها إلى أقدم الأماكن التي عثر فيها على مخلفاتها، فسمتها بأسماء: حضارة العبيد، وحضارة الوركاء، وحضارة حمدة نصر. وقد تعاقبت

ثلاثتها في مواضعها من جنوب العراق إلى وسطه على مسافات متفاوتة، ولكنها تداخلت مع بعضها البعض في أزمنتها وخصائص منتجاتها، إلى حد أن مال الرأي الحديث إلى إدماج ثالثتها وهي جمدة نصر في حضارة الوركاء، واعتبارها مرحلة أخيرة منها، وسوف نأخذ بهذا الرأي فيما يلي:

حضارة العبيد

حضارة العبيد: لم يتوافر معدن النحاس الذي تميز هذا العصر به كثيرًا في أرض بلاد النهرين، وإزاء هذه الظاهرة لجأ الباحثون إلى أن يفترضوا أن من أدخلوا استخدامه إلى بلاد العراق لأول مرة قد وفدوا به عليها من منطقة خارجية يتوافر النحاس فيها، مثل مناطق عدن أو إيران أو الأناضول. ووجد القائلون بالأصل الإيراني لأصحاب حضارة النحاس في هذا العصر، ما يزكي رأيهم أكثر من غيره، وافترضوا خروج هجرات من جنوب غرب إيران أو عبره إلى العراق في أوائل الألف الرابع ق. م أو قبلها بقليل، إثر حدوث تغير مناخي أشاع الجفاف الشديد في مواطنهم الأولى. وعثر من مصنوعاتهم في بلدة إريدو "أبي شهرين الحالية" على فخار ملون ذي أرضية خضراء شديد الشبه بالفخار المميز لمصنوعات معاصريهم في أرض الإم أو عيلام غربي غيران. وقيل إن أولئك النازحين كانوا على معرفة بطريقة البناء باللبن التي يحتمل أنهم مارسوها في إيران أيضًا قبل انتقالهم إلى سهول النهرين. وعندما نجحوا في الاستقرار في مواطنهم الجديدة تشجعت هجرات أخرى من بني عمومتهم على النزوح إلى ما يلي مواطنهم الشمالية من بلاد النهرين ولو أنه ليس من الضروري إذا أصبح هذا الرأي أن نفترض أن المسرح قد خلا لهجراتهم حينذاك، وإنما لا يبعد أنه كانت تقابلها في الوقت نفسه هجرات سامية شقت طريقها من الغرب إلى بلاد النهرين بالتسلل السلمي حينًا وبالغزو القبلي حينًا آخر. وأدى تكاثر هؤلاء وهؤلاء، واستفادة بعضهم من إمكانيات بعض، إلى انتشار أنواع راقية نسبيًّا من فخارهم المرسوم طغى إنتاجها شيئًا فشيئًا على إنتاج فخار حسونة الشمالي وكانت أكثر انتشارًا من الجنوب والوسط إلى الشمال الشرقي أكثر منها إلى الشمال الغربي، ووجدت نماذجها في تبة جاورا والأربجية ونينوى وسنجار ومندرلي وسامرا "قرب نهر دجلة" وباغوص وغيرها "قرب نهر الفرات" وفي حسونة نفسها1. وذلك مما يعني قيام المبادلات والاتصالات بين أهل الشمال وأهل الجنوب. وبلغ من رقة صناعة بعض أواني هذا الفخار ما دفع الأثاريين إلى التعبير عنها باسم "أواني قشر البيض". وزود بعضها بآذان ومقابض وصنابير. وعبر مهرة الصناع حينذاك عن فنون عصرهم على أفضل إنتاجهم من هذه الأواني الفخارية، فزينوا سطوحها الخارجية بأشكال تخطيطية متجانسة وبألوان حمراء وسمراء، واستغلوا بواطنها المتسعة لتصوير

_ 1 Hall, A Season’s Work At Ur, Al’ubaid And Abu Shaharin, 1930; Ann Louise Perkins, The Comparative Stratigraphy Of Early Mesopotamia, 1949; And See S.N. Kramer, From The Tablets Of Sumer, Ch. Xxii.

مجموعات تخطيطية أيضًا تعتبر بعض نماذجها الراقية مفخرة لعصرها إن صحت نسبتها إليه فعلًا1. فمن هذه المجموعات الراقية التي نقدمها على حذر: مجموعة صورت ست إناث يتوزعن على محيط دائرة تتطاير شعورهن داخلها، وتحيط بهن ست عقارب كبيرة توزعت هي الأخرى على المحيط الدائري لباطن الصحفة. وليست أشكال النساء هنا غير خطوط تقريبية لا تزيد الرأس فيها عن بقعة سوداء، ولا يزيد الساقان فيها عن خطين متجاورين، ولكنها تميزت على الرغم من ذلك بتناسقها وباستدارة خطوط الفخذين فيها والفصل بين الساقين. وصحفة أخرى صورت فيها أربعة طيور طويلة الرقاب والأجنحة توزعت على أركان باطن الصحفة واتجهت نحو مركزها والتقط كل طائر منها سمكة بمنقاره. واستغل الصانع الرسام الفراغات بين هذه الطيور فوزع حولها مجموعة أخرى من الأسماك في شكل دائرة، ثم عبر عن مركز الدائرة في الصحفة بخطوط متقاطعة تكاد تقرب من هيئة الصليب المعقوف. ولم يكن الصانع العبيدي أقل توفيقًا في صحفة ثالثة، فرسم فيها أربعة مثلثات تلاقت رءوسها على أطراف شكل المعين، واستغلها لتصوير أربع عنزات تصويرًا تجريديًّا لطيفًا بالنسبة لعصره. ووجدت كسر فخارية أخرى صورت عليها مجموعة من الطيور تلتقط طعامها بمناقيرها، وأخرى تتجمع فوق قطيع حيواني، وصورت غيرها فهدًا ذا جلد مرقش يرتكز على خلفيته. إلخ. وخطا أصحاب حضارة العبيد خطواتهم البطيئة في العمارة، فوجدت لأهلها "في العقير" آثار عدة بيوت لبنية يحتمل أنه كانت لها ميازيت في سطوحها. كما بقي من أطلال معابدهم الدينية آثار أرضية معبد في إريدو "أبي شهرين"2 شاده أصحابه لمعبود كان ذا صلة بالمعبود إيا الذي اعتبره خلفاؤهم في العصور التاريخية ربًا للمياه العذبة وتخيلوه مستقرًّا في أعماقها. نشأ معبد إريدو هذا متواضعًا يناسب إمكانيات عصره، ويتكون من مقصورة بسيطة "12×15 قدمًا" أيقمت فيها مشكاة لتمثال معبودها أو رمزه، ومائدة من اللبن للقرابين وضعت أمام هذه المشكاة3. وتجدد معبد إريدو وزاد اتساعه أكثر من مرة خلال عصر العبيد، ودل تخطيطه في مراحله الناضجة على تطورات مبتكرة، فشاده أصحابه من جديد فوق مسطح يؤدي إليه درج. ويدعو الارتفاع بمثل هذا المعبد فوق المسطح ذي الدرج إلى أكثر من فرض واحد، فهو قد يعتبر تطورًا معماريًّا محضًا في أسلوب بناء المعبد، أو إجراء عمليًّا محضًا للارتفاع بقاعدته عن مستوى الأرض الرطبة المحيطة به، أو يكون تعبيرًا دينيًّا يدل على رغبة أصحابه في التسامي بمعبدهم ومعبودهم إلى العلي، أو يعبر عن فكرة شعوبية تدل على أن أصحابه كانوا في بداية أمرهم من سكان المرتفعات الذين عبدوا آلهتهم، آلهة الربوات، فوق قممها العالية، فما تركوا ربواتهم وهضابهم واستقروا على سهول النهرين استعاضوا عنها بمسطحات صناعية من صنع أيديهم. وليس من سبيل إلى ترجيح أحد هذه الفرروض دون غيره بالنسبة لهذا العصر، ولو أننا سنلحظ فيما بعد أن الفرض الأخير منها قد زكته شواهد متأخرة ظهرت في آثار أواخر بواكير

_ 1 Cf. Jnes, Iii “1944”, 47 F.; Sumer, 1971, Pls. Xii-Xiii. 2 Sumer, Iii “1947”, 84 F.; Iv “1948”, 115 F. 3 H. Frankfort, The Art And Architecture Of The Ancient Orient, 1958, 2 F.; Mallowan, Op. Cit., 335 F.

العصر الكتابي وفي آثار العصور السومرية وأساطيرها. وزادت إحدى مراحل تجديد معبد إريدو في محتويات مقصورته، فأضيف مذبح جديد على مبعدة من مائدة القربان القديمة وأحيطت المقصورة بحجرات جانبية، وشكلت واجهة جدران المعبد الخارجية على هيئة مشكاوات "أو دخلات" رأسية مستطيلة بسيطة تعاقبت الواحدة منها بعد الأخرى على مسافات متساوية1. وتكرر أسلوب هذا المعبد في مدن سومرية أخرى مثل مدنية أور "في مستوى عمرانها الرابع". كما جرى أهل شمال العراق على السبيل نفسه في تطوير عمارة معابدهم، فتميزت المراحل المتطورة لمعابد بلدة تبة جاورا بتعاقب المشكاوات الرأسية في كل من الواجهات الداخلية والخارجية لجدرانها، ولم تعد جوانب هذه المشكاوات قائمة الزوايا دائمًا، وإنما أصبحت الرئيسية منها تُبنى بعدة مستويات داخلية متدرجة. غير أنه ليس من سبيل للقطع بإرجاع هذه التطورات إلى عصر العبيد فعلًا أم لفترة لاحقة له؛ نظرًا لاستمرار مظاهر ما قبل التاريخ في تبة جاورا إلى ما بعد انتهاء عصرها في الجنوب2. وفي الجنوب، عثر في إريدو مما يعاصر العبيد، على العديد من المقابر الفردية والجماعية وقد تضمنت صناديق من الطين المحروق وتماثيل صغيرة من الطين لمعبودات وقوارب وأواني للقرابين، وجمعت بعض تماثيل الأمومة بين خصائص الجنسين. وتميزت المراكز الشمالية من العصر نفسه بأختام حجرة صغيرة نقشت بصور حيوانية وخطية، ومختومات من الطين تماثلها3.

_ 1 Ibid., 380 F.; Frankfort, Op. Cit., 380 F. 2 A.L. Perkins, Op. Cit.,; J. Tobler, Excavations At Tepe Gawra, Ii “1950”, 30 F. 3 Mallowan, Op. Cit., Lioyd And Safar, Op. Cit.

ج- قبيل العصر الكتابي

ج- قبيل العصر الكتابي حضارة الوركاء: لعبت بلدة أوروك "أو أونوج" التي تقوم على أنقاضها وتحتفظ باسمها بلدة الوركاء الحالية "والتي ذكرتها التوراة باسم إرك"، دورًا رئيسيًّا في حضارة فجر التاريخ العراقي القديم. وقسم الباحثون مراحل عمرانها وتطوراتها الفنية المتواضعة إلى ست عشرة مرحلة، عاصرت في أغلبها حضارة العبيد1، ثم دخلت بمرحلتيها الرابعة والثالثة في عصر جديد سُمي اصطلاحًا باسم " Proto-Literate Period" نتيجة لاحتمال ابتداع أولى علامات الكتابة العراقية فيه، وترجمته بعض الكتب العربية بأسماء ما قبل العصر الكتابي، والعصر الشبيه بالكتابي، فضلًا عن بواكير العصر الكتابي، ... إلخ. وترتب على الوفرة النسبية لآثار بدلة الوركاء خلال هذا العصر أن أطلق الأثاريون اسم حضارتها على بقية مواطن العمران المحلية التي عاشت معها وشابهتها في بعض خصائصها، وإن تميزت إلى جانبها في آخر مراحلها

_ 1 Frankfort, The Last Predynastic Period In Babylonia; C.A.H., I, Part Ii, 70 F.; Raymond Weill, Recherchers Sur La Ire Dynastie Et Les Temps Prepharaonique, Le Caire, 1961, Ii, 296;

تسمية حاضرة أخرى، ألا وهي تسمية "حضارة جمدة نصر" التي أشرنا إلى الاتجاه الحديث نحو إدمامجها فيها. وتفاوت انتشار خصائص حضارة الوركاء في الجنوب وفي الشمال بتفاوت التطور في مراحلها المتتابعة، دون التزام بعدد الستة عشر الذي قسمت إليه مراحل عمرانها - وكانت مظاهر التطور في مراحل بواكير العصر الكتابي أكثر وضوحًا في الجنوب عنها في الشمال. ويبدو أن المجتمع الزراعي العراقي القديم قد بدأ يصطبغ بصبغة مدنية منذ أواخر حضارة الوركاء "أو منذ بواكير العصر الكتابي الجديد"، فنشأت فيه بلدان أو مدن صغيرة تطورت عن القرى الكبيرة وامتازت عما تحيط بها من أراضي الزراعة والقرى العادية باتساع عمرانها اتساعًا نسبيًّا وبأهمية معابدها وقصور حكامها، وكفاية صناعها وفنانيها، وباتساع مجالات الإنتاج وفرص التشجيع فيها، وإن ظل ذلك كله في حدود نسبية بطبيعة الحال. ولعل أهم ما يصور الرقى النسبي في حضارة الوركاء، هو نقوش أختامها التي ترجع مراحلها المتواضعة القديمة إلى عهود حلف والعبيد، ثم تطور عمارة معابدها. فقد استخدم أهل أوروك، أو الوركاء، أختامًا مخروطية ذات قواعد شبه دائرية كانوا يختمون بها على الطين عن طريق الضغط عليها ضغطًا رأسيًّا، وأختامًا أخرى أسطوانية الشكل كانوا يثبتونها في أيد خشبية ويختمون بها بتمريرها بقوة على سادات الأواني ولوحات الصلصال الطرية الصغيرة، وقد شاع هذا النوع الأخير واستغله الصناع لنقش مناظر دنيوية ودينية وأسطورية وعناصر أخرى زخرفية على سطوحه. وبلغت نقوش أخام أوروك غايتها من التنوع خلال المرحلتين الرابعة والثالثة من مراحل عمران بلدتها، فصورت مناظرها الدينية مراحل أعياد المعبودات، ورمزت إلى تقوى الحكام وكبار الناس، ومما بقي منها ما يصور حاكمًا يتقدم بسنبلتي شعير غلى ستة رءوس من ماشية معبد مدينته كأنه يطعمها، وتلاه تابعه يحمل له مجموعة سنابل أخرى1 وصورت رجلًا كبير المقام في مرحلتين من مراحل زيارته لمعبد هام، فأظهرته في بداية رحلته يستقل قاربًا يجذف له فيه أحد أتباعه ويتوجه به إلى مرساة المعبد، ثم صورته يسير في رحاب المعبد مبتهلًا ضامًّا كفيه تجاه وجهه مع ثني إبهاميهما إلى الخلف. يحف به كاهنان يرفعها قلادتين فخمتين أهداهما باسمه إلى ربة المعبد2. ورمزت المناظر الدنيوية في نقوش الأختام إلى بعض الأحداث العامة في عصرها، فصور أحد ما بقي منها ساحة حرب يتصدرها رئيس ذو لحية كثيفة وعمامة كبيرة ونقبة نصفية، يقف منتصبًا مستندًا إلى رمحه في اعتزاز وقوة، وقد تجمع أمامه عدد من زعماء أسراه عراة، ومنهم اثنان تقدما إليه في خضوع يعلنان التسليم وثلاثة رجال قيدت سواعدهم خلف ظهورهم وألقوا أذلة على أرض المعركة3. ثم رمزت مناظر

_ 1 H. Frankfort, Cylinder Seals, Pl. V. D. 2 H. Farnkfort, The Art And Architecture…, Pl. Viii C. 3 Ibid., Fig. 7 A.

أختام أخرى إلى كفاح الأفراد ضد أخطار بيئتهم الخشنة، مع شيء من المبالغة التي ترتفع بهم إلى مصاف الأبطال، كتصوير راعٍ يدفع أسدًا ضخمًا بعيدًا عن بقرته دون خشية منه1. وصورت النقوش نفسها حيوانات بيئتها تصويرًا يستهدف تسجيل حياتها العادية في بعض أمره، ويستهدف غرض الزخرفة في بعض أمره. فصورتها أحيانًا يتلو بعضها بعضًا ويهاجم بعضها بعضًا من الخلف2. وألفت من صور الأفاعي الضخمة وصور الأسود برقاب تشبه الأفاعي مجموعات زخرفية محورة يواجه كل حيوان فيها حيوانًا آخر يماثله ويتداخل فيه بحيث تلتف عنق كل منهما على عنق الآخر وتؤلفان بجزئيهما العلويين هيئة حلقة مستديرة، بينما يواجه رأس كل منهما رأس الآخر يدابره3. ولعبت صور المراكب دورها في مناظر الأختام، ودلت على أهميتها في حياة الناس وانتقالالتهم. وكانت مراكب ذات طرفين مرتفعين يميلان إلى الداخل أو إلى الخارج، وامتازت في أغلب صورها برموز تخطيطية تدل على أصحابها أو ترمز إلى معبوداتهم، وتناسب في الوقت ذاته المناظر المسجلة معها، وهي مناظر كان منها ما هو دنيوي الطابع يتألف من تصوير صاحب المركب وزوجته4، كما كان منها ما هو ديني الطابع يتألف من تصوير جانب من حفل في عيد إحدى المعبودات5، تصويرًا مختصرًا بطبيعة الحال. وكان من البدهي أن يتفاوت مدى إتقان أمثال هذه النقوش بتفاوت كفايات الصناع وثراء أصحابها النسبي ومدى التطوير الفني والفكري في عصرها. غير أن صور الحيوانات فيها ظلت على وجه الإجمال أكثر إتقانًا من صور الإنسان، وقد صورها الفنانون من الجانب دائمًا، وبرع بعضهم في تصوير قوة عضلات أجسام الأسود6، وتصوير تحركات الماعز والأغنام وتفاصيل قرونها وشعروها وأصوافها، والتعبير عن عجزها إزاء هجمات الوحوش الكاسرة، وتصوير ضرواة الأفاعي7. والتزام بعض أولئك الصناع الفنانين بتصوير كل حيوان مستقلًّا عن الآخر لإظهار فرديته. بينما مارس عدد آخر منهم بعض قواعد المنظور الأولية في تصوير الحيوانات، فصوروا بعضها يخفي أجزاء بعضها الآخر حين سيره8.

_ 1 H.H. Von Der Oslen Ancient Oriental Seals, No. 695. 2 A. Scharff, Die Fruhkulturen Aegyptens Und Mesopotamiens, 1951, Taf. Viii, 45, Ix, 46, 51; Frankfort, Op. Cit., Fig. 7 E, Pl. Viii A. 3 Scharff, Op. Cit., 26, Taf. Vii, 40, Abb; 9, 10; Frankfort, Op. Cit., Fig. 7 B, Pl. Viii B. 4 A. Scharff, Zaes, Lxxi “1935”, 94 “M”. 5 Ibid., 95 “N”. 6 Frankfort, Op. Cit., Pl. 8 A. 7 Ibid., Pl. 8 A, Fig. 7 E. 8 انظر حاشية 2 أعلاه.

واكتفى صناع الأختام بتصوير الملامح العامة للإنسان دون تفصيل، وأخذوا بما أخذ به أغلب الفنانين الأوائل من تصوير رأس الإنسان وجذعه الأسفل من الجانب مع تصوير عينه تصويرًا أماميًّا وتصوير صدره باتساعه، وتقديم ساقه البعيدة إلى الأمام؛ وإن كان أقلهم قد تعدى هذه التقاليد أحيانًا ونجح في تصوير الكتفين تصويرًا جانبيًّا حين الضرورة1. وصور أولئك الرسامون كهنة معابدهم عراة تمامًا، قصار الشعنر حليقي الشوارب واللحى، بينما صوروا المدنيين بثياب نصفية تمتد من السرة إلى الركبة، أو تزيد قليلًا أحيانًا2، وبثياب طويلة أحيانًا أخرى. ومارس فنانو بواكير العصر الكتابي في نهاية حضارة الوركاء حرفة النقش على الأواني الحجرية وعلى النصب. وأمتع ما تخلف من أوانيهم المنقوشة آنية أسطوانية من المرمر قسمت سطوحها إلى ثلاثة صفوف تتضمن تعبيرات دينية وفنية. وظهرت المعبودة إنانا في صفها الأعلى ينسدل غطاء رأسها على ظهرها وكتفيها وتتدثر بثوب طويل أو شال واسع، وتجمع بيسراها مجامع ثوبها بينما ترفع يمناها لتبارك بها سلة فاكهة قدمها إليها أحد كهنتها العراة. وتلاها تصوير رمز معبدها "النباتي؟ " ومجموعات الهدايا الفاخرة التي قدمت إليه، ثم رجل وأنثى بملابس طويلة وشعر مرسل طويل "أو غطاء رأس طويل" يصعدان مسطحي المعبد المسورين. ويرى A. Falkenstein & Th. Jacobsen أنه صورت في يد الرجل علامة كتابية ترمز إلى كونه حاكم أوروك. وشغل الصف الثاني من نقوش الآتية تصوير عدد من الكهنة أو الأتباع العراة حاملي القرابين، بينما صورت في صفها الثالث مجموعة كباش ونعاج ونباتات. ودلت صور الكباش فيها على الأنواع الشائعة في عصرها، فمنها كباش أفقية القرون ومنها عالية القرون. وكلها قصيرة الذيول ذات طيات سميكة تحت أعناقها وفي مقدمات صدورها. ولا تزال نقوش هذه الآنية تعتبر خير نقوش أواني عصرها3، بل ولم يعثر بعد على ما يداني نقوشها في آثار عدة قرون تالية لها من الألف الثالث قبل الميلاد. وظلت نقوش نصب الوركاء متواضعة على الرغم من أن أصحابها قد نجحوا في تنفيذها على الأحجار الصلبة أحيانًا، ومن هذا القبيل جزء من نصب صغير من حجر الجرانيت الأسود "وهو فريد في مادته في بيئته" نقشت عليه هيئة رجل يصيد الأسود بسهامه وآخر يهاجمها برمحه، ويبدو أنهما فردان من جماعة ترمز إلى طبقة الحكام الأوائل الذين أراد الفنان أن يعبر عن بأسهم في مواجهة الحيوانات الضارية وكفاحهم الشاق في سبيل تأمين الحياة في بيئتهم4. ولم يوفق ناقش النصف في تصوير النسب الجسمية السليمة لهذين

_ 1 Frankfort, Op. Cit., Pl. 8 D. 2 Ibid., Pl. 8 A, Fig. 7 A. 3 H. Heinrich, Kleinfunde…, Uruk, Taf. 2, 3; A. Scharff, Die Fruhkulturen…, 1941, 22, 35, Taf. V, 31; H.A. Groenewegen-H. Frankfort, Arrest And Movement, 150-152. 4 Holdeke, Heinrich Und Schott, Funfter Vorlaufiger Bricht…, Uruk…, 1934, 11-13; Frankfort, The Art Architecture Of The Ancient Orient, 14.

الرجلين، وإن نجح نجاحًا لا بأس به في التعبير عن حركة أذرعها خلال إطلاق القوس وتصويب الرمح، وصورهما بأنف أفعى بعض الشيء. ثم بدأ فنانو العصر في أواخر فتراته ممارسة تجاربهم لتنفيذ النقش الغائر والنقش المجسم والنقش المفرغ، وكانوا أكثر توفيقًا في النوعين الأخيرين، ومن روائعهما كأس منقوشة من تل أجرب برز من أحد وجهيها بطل أسطوري ربعة، عار إلا من حزام حول وسطه، ذو لحية طويلة ممشطة وشعر مرسل، يضغط بيديه على كفلي شبلين يلتفتان بوجهيهما إليه كأنما يستنكران ضغطه عليهما، وقد بدت آثار الجهد على الرجل في تجاعيد جبهته وانطباق شفتيه واتساع محجري عينيه. وبرز على الوجه الآخر للكأس أسدان فاغرا الفاهين، على مستوى أعلى من مستوى الشبلين. ووجدت قاعدة كأس حجرية أخرى في تل أجرب أيضًا نقشت عليها هيئة الشيخ الربعة ولكن بخف صوفي "؟ " طويل، يمسك ذنبي أسدين يهاجمان فحلين حرافيين برأسين ملتحيين1. وقد أزال فنان الكأسين جزءًا من الأرضية التي تحيط بأشكال كأسه الأولى، وأزالها تمامًا في قاعدة كأسه الثانية فبدت أشكالهما مجسمة واضحة. وتعددت محاولات النقش على عدة أوانٍ وكئوس أخرى جمع بعضها بين أسلوب النقش البارز العادي وبين أسلوب الصور المجسمة، كأن ينقش جسم حيوان مثلًا على سطح آنية نقشًا عاديًّا، على حين يبرز رأسه منها بروزًا كاملًا ويواجه الرائي باتساعه كأنه رأس تمثال مجسم2. وظلت أمثال هذه الأواني على صغرها تعتبر من أدوات الترف ومن كنوز المعابد في عصرها، بحيث طعم بعضها بالصدف والمحار واليشب الأحمر3. وخطا فن النحت خطواته البطيئة كذلك خلال بواكير العصر الكتابي، وتخلفت من نماذجه الصغيرة تماثيل لحيوانات أليفة وضارية وتماثيل بشرية وتماثيل كائنات أسطورية وخرافية. وكان من هذه التماثيل ما ينحت قائمًا بذاته، ومنها ما يعتبر جزءًا من تركيبات أخرى، كأن ينحت الصانع أو المثال قاعدة قطعة ثمينة من مقتنيات المعابد والقصور، أو مقدمتها، مثل المباخر والمذابح والأحواض وموائد القرابين وقطع الزينة، على هيئة رأس شاة4، أو على هيئة كبش بارك يواجه الرائي برأسه بينما يخرج من ظهره قائم معدني يربطه ببقية القطعة التي يتصل بها5. وكان من المثالين من يرمز إلى معبوده أو إلى الحارس المقدس الذي يرعى معبده أو يرعى قصر مولاه، بتمثال كائن أسطوري يجمع بين عناصر مختلفة، كأن يجمع بين جسم الأنثى وهيئة القردة ووجه اللبوءة6.

_ 1 Op. Cit., Pl. 6 A-C. 2 Ibid., Pl. 5 A-B. 3 Ibid., Pl. 11 And Notes 33-35. 4 Ibid., Pl. 4 B. 5 Ibid., Pl 4 A. 6 J.A.O.S., Lxx “1950”, 2231.

واستهوت تماثيل النساء الأوائل، كما ظلت تستهويهم في كل عصر، فرمزوا بها إلى رباتهم، وعبروا بها عن بعض شخصيات مجتمعهم، وعن جمال الأنثى بوجه عام. ولم يبلغ أغلب هذه التماثيل حد الإجادة ولكن بعضها لم يخل من الوقت ذاته مما يعبر به عن محاولات فنية ترمي إلى تقليد الطبيعة أحيانًا في صدق تمثيل بروز النهدين وانسياب الشعر النسوي الطويل المرسل1. ومن خير ما افترضت نسبته إلى هذا العصر من تماثيل النساء، وجه حجري لأنثى عثر عليه في الوركاء2 يمكن اعتباره مفخرة لعصره إن صحت نسبته إليه فعلًا، بل وقلما بلغ الفن العراقي مبلغ إجادته في تاريخه كله. وقد نحت بحجم يقرب من حجم الوجه الطبيعي "ويبلغ ارتفاعه 20 سم" ويبدو أنه كان ملونًا، وتظهر دقة التمثيل فيه في رقة تكوين ملامح صاحبته ونعومة خديها ورقة شفتيها وخطوط ذقنها ونقوش حاجبيها وانسياب الخصل الرقيقة من مفرقة شعرها على جبهتها، وكانت فجوات عينيها وحاجبيها مطعمة، كما كانت خصل شعرها مكسوة بطبقة معدنية رقيقة. وقد استقامت خلفية الرأس وبقيت فيه ثقوب كانت تستخدم لتثبيته في جسم تمثال صاحبته. وواصل التطور المعماري طريقه حينذاك في أبنية المعابد والمساكن الرئيسية في عصره. واحتفظت أرض الوركاء، بأطلال معبد عرف باسم المعبد الأبيض3، أقامه أصحابه من اللبن لمعبودهم آن في نهاية بواكير العصر الكتابي، فوق تل صناعي يرتفع نحو اثني عشر مترًا عن مستوى السهل الممتد حوله ويشرف عليه. وسوروا جوانب هذا التل بسور ذي مشكاوات، واعتبروه فيما يحتمل بديلًا عن أمثال مسطح معبد إريدو، أو هم اعتبروه على الأرجح نموذجًا لأصله الجبلي القديم. يؤدي إلى سطحه طريق صاعد ودرج طويل بقي جزء منه، وتوسط المعبد الأبيض التل واستكملت جدرانه هيئة المستطيل وتشكلت على هيئة مشكاوات متتالية، تعاقبت في كل منها عدة مستويات داخلية، بنيت باللبن كالعادة ودعمتها فلوق نخيل قصيرة، ثم كسيت بملاط أبيض. وتوسطت المعبد مقصورته الرئيسية وتضمنت في داخلها عنصريها الرئيسيين، وهما المذبح ومائدة القربان، ولكن مذبحها كان ذا درج وبلغ ارتفاعه أكثر من متر، وجاور مائدة القربان فيها موقد منخفض نصف دائري. وأحاطت بالمقصورة بضع حجرات فصلت بينها جدران ذات مشكاوات نصفية، وزينت بالمخاريط الملونة - وألحقت بالمقصورة به معابد صغيرة أخرى. وفي بعض مداخله الإضافية شكلت في المعبد أعمدة كاملة وأخرى نصفية المقطع. واستمر تل هذا المعبد باقيًا حتى احتوته أسوار معبد آن الكبير في العصور الهيلينستية، أي بعد بداية البناء فوقه بنحو ثلاثين قرنًا، وقد يعني ذلك أنه كان يرتبط بقداسة خاصة عند أهله أدت بهم إلى المحافظة عليه.

_ 1 Frankfort, Op. Cit., Pl. 9 B. 2 U.V.B., Xi, Pl. I “Vorlaufiger Bericht Uber Die Von Der Deutschen Forschungsgemeinschaft In Uruk- Warka Unternommenen Augsrabungen…, 1940”. 3 U.V.B., Viii, “1963”, Abb. 13, Taf. 40 F.; Mitt. Der Deutschen Orient-Gesellschaft, Nr. 83 “1951”.

وظل أسلوب المسطحات متبعًا في بناء المعابد جنبًا إلى جنب مع طراز التل، فعثر في العقير على أطلال معبد عاصر معبد الوركاء، أقامه أصحابه قوق مسطحين1 وليس مسطحًا واحدًا، وكان يؤدي إليه درجان. وخطوا بذلك خطوة جديدة، استكملها خلفاؤهم على المدى الطويل حين زادوا أعداد المسطحات أو الطبقات وجعلوها تتراوح بين الثلاثة وبين السبعة، كما سيمر بنا في صفحات تالية. وصورت المناظر على جانبي مقصورة معبد العقير حيوانات قائمة وجاثمة، تميزت منها صور فهود لعلها مثلت الحماية الرمزية للمعبد. وكشفت التنقيبات الأثرية عن أطلال معابد أخرى، كانت منها معابد فرعية تجاور معبد الوركاء، للربتين إنانا وإيانا2. ومعبد لإله القمر شيد وسط مساكن بلدة خفاجى تناولته تعديلات كثيرة تميزت منها مرحلة خامسة أصبح يتقدم المعبد فيها ثلاثة أفنية متعاقبة يضمها معه سور كبير3. وظلت قوالب اللبن هي مادة البناء الرئيسية طوال ذلك العصر، واستغلها أهله في تشيكل نوعين من الأساطين: أساطين نصف دائرية المقطع تعتمد على جدران ساندة، وأساطين أخرى دائرية المقطع يبلغ قطر الكبيرة منها نحو المترين. واستعان المعماريون على إدخال عنصر الزخرفة في مبانيهم بما أشرنا إليه من تعاقب المشكاوات في واجهاتها المتسعة بما يخفف من حدة استقامتها ويعمل على تعاقب الأضواء والظلال فيها، ثم عن طريق كسائها بطبقة من الملاط وتلوينها بلون واحد كما حدث بالنسبة لطلاء جدران معبد الوركاء بملاط أبيض، أو تصوير صفوف من الحيوانات "والنباتات" عليها، كما حدث بالنسبة لجدران معبد العقير4. ولما لم يكن من اليسير نقش جدران المباني اللبنية نقشًا غائرًا أو بارزًا، عالج معماريو العصر هذا النقص بعدة وسائل: فكان منهم من ينقشون أفاريز حجرية صغيرة بما تراءى لهم نقشه من رموز الأرباب وصور الحيوانات ثم يثبتونها في الجدران الرئيسية بسيور أو أسلاك تناسبها، عن طريق فجوات في خلفياتها5. وكان منهم من يرصعون المساحات الصغيرة من الجدران بلوحات فخارية صغيرة يصنعونها على هيئات الحيوانات والزهور ثم يختمون عليها بأطراف أعواد البوص بحيث تبدو أرضيتها كما لو كانت مشكلة من دوائر صغيرة6. وكان منهم من يزخرفون الأساطين والجدران بمخاريط فخارية صغيرة "يبلغ متوسط طول الواحد منها نحو عشرة سنتيمترات" يلونون رءوسها المستديرة بألوان سوداء وحمراء ثم يعشقونها متجاورة في الجدران

_ 1 Seton Lioyd And Fouad Safar, “Tell Uqair”, Jnes, 1934, 132 F. 2 U.V.B.,Vii “1935”, Taf. Ii. 3 Delougaz And Lioyd, The Temple Oval At Khafaje, 1940, Pl. Va; Pre-Sargonic Temples In Diyalah Region, 1942. 4 Ibidem 5 Frankfort, The Birth Of Civilization In The Near East, 1951, Pl. X, Figs. 17-18. U.V.B., Ii, Abb. 25-27; Iii, Taf. 18; Xi, Taf. 34.

والأساطين بحيث تؤلف بعض رءوسها الملونة الظاهرة إشكالًا زخرفية تشبه هيئات المثلثات وخطوط الزجزاج1. وبلغ من افتتان بعض الباحثين بآثار فجر التاريخ العراقي التي أجملنا مظاهرها الأساسية في الصفحات السابقة، أن افترضوا لأصحابها توسعًا سياسيًّا يزيد عن رقيهم الحضاري. فنسب إليهم صمويل نوح كرامر ما أسماه أول إمبراطورية سامية إيرانية في بلاد "ما بين" النهرين، وافترض أن نفوذ هذه الإمبراطورية قد امتد من العراق إلى غرب إيران حيث شمل أرض عيلام، وافترض وجود دولة حاجزة في أقاليم غرب إيران تفصل بين إمبراطورية "ما بين" النهرين هذه وبين البرابرة2. غير أن مثل هذا الغلو في التقدير ليس له ما يبرره في عصر فجر التاريخ العراقي البعيد، لا سيما إذا قدرنا أن أكثر من خمسة قرون من العصور التاريخية نفسها قد مرت بعد ذلك دون أن يجتمع سكان بلاد النهرين في دولة واحدة، ناهيك بإمبراطورية واحدة! "مع ملاحظة تسميته "بلاد ما بين النهرين"، وليس بلاد النهرين، في الترجمة العربية لهذا الكتاب". وعلى أية حال فإن بدايات ابتداع علامات الكتابة في أواخر عصر الوركاء، وهي ما سوف نتناولها في سياق حديث خاص في صفحات تالية، تكفي لتمييزها عما سبقها، وتجعلها مبشرة بتحضر واسع يأتي بعدها.

_ 1 U. V. B., Iii, Taf.1; Vii, Taf. 17 A. - وانظر تقارير ... في مجلة سومر 1961 عن مخاريط حجرية ملونة. 2 See, S.N. Kramer, From The Tablets Of Sumer, 1956

الفصل الرابع عشر: أوائل العصور التاريخية في العراق

الفصل الرابع عشر: أوائل العصور التاريخية في العراق عصر بداية الأسرات السومرى مدخل ... الفصل الرابع عشر أوائل العصور التاريخية في العراق عصر بداية الأسرات السومري: بدأت خصائص العصور التاريخية في العراق في فترة ما تراوحت تقديرات المؤرخين بشأنها بما بين أوائل القرن الثلاثين ق. م. وبين القرن الثامن والعشرين ق. م. وتعددت مراكز التجمع والتحضر حينذاك في النصف الجنوبي من سهول النهرين، وهي سهول عبرت بعض النصوص السومرية عنها باسم "كلام" أو "كالاما"، ورمزت إليها نصوص أخرى بمجموعة العلامات الكتابية "كي - إن - جي"، ثم ذكرتها نصوص القرن الخامس والعشرين ق. م باسم "سومر" أو "شومر"، وهو اسم ليس من المستبعد أنه كان يجري على ألسنة أصحابه قبل ذلك بزمن طويل، ثم شاع فيما بعد أكثر مما سواه والتصق بأهله الذين عرفهم التاريخ باسم السومريين، واستخدمه الساميون خلفاؤهم في قولهم "مات شوميريم" بمعنى أرض شومير1. وصورت المناظر والتماثيل السومرية خاصة أهلها أميل إلى الامتلاء، مع قصر القامة أو توسطها، وصورت بعضهم بأنف كبير أقنى2 " ... وجعلتهم حليقي الشوارب، ولم تظهرهم في عصورهم الأولى بلحى إلا في حالات قليلة تبدو اللحى الكبيرة فيها أشبه باللحى المستعارة، بينما أظهرتهم تماثيلهم في أواخر عصر بداية الأسرات بلحى كثة3. أما شعر الرأس عندهم فمختلف، فمنه الحليق، والقصير، والطويل المعقوص، والمرسل على هيئة الضفائر، وإن بدا في بعض صوره طويلًا كثيفًا أحيانًا مرسلًا على الكتفين وأقرب إلى هيئة الشعور المستعارة4. وصورت المناظر نفسها أصحابها برءوس عارية إلا من خوذ الحرب وتيجان الحكم. وكانت ثيابهم متنوعة، وأكثرها نصفية فضفاضة تبدأ بثنية عريضة مطوية عند الخصر تؤدي غرض الحزام، وتمتد إلى ما تحت الركبة5، أو تنسدل إلى قرب العرقوبين6، وينتهي بعضها بشرائط طويلة مدببة الأطراف مرسلة في صف واحد، أو تكسوها عوضًا عن الشرائط أهداب "من خيوط معقودة" تتعاقب

_ 1 For: “Sumer”, “Shumer” And “Shuwer”: See, Encyclopaedia Britanica, Xxvi, 75. 2 J.B. Pritchard, The Ancient Near East, Figs. 115, 154; H. Frankfort, The Art And Architecture…, Fig. 9, Pls. 11 A, 17, 22, 23, 25, 33 A-B. 3 Encyclopedie Photographique De L’art, I, 204; Syira, Xvi, Pls. Ix, Xx, Xxiv; Frankfort, Sculpture…, Pls. 52-53; More Sculpture…, Pls. 35-36. 4 Cf., Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 34, Fig. 12 “Left”, Pls. 19, 33 A, And Pls. 22 C, 24 A-B, 25. 5 See For Example, Frankfort, Op. Cit., Figs. 9, 16 B, Pls. 11 A. 13, 17, 19, 33 A, 36, 37. 6 Ibid., Fig. 12 “Right”, Pl. 33 B.

في صفوف يتلو بعضها بعضًا، على هيئة جزة الغنم أو على هيئة فلوس السمك1. وغالبًا ما يظهر الحكام وذوو الحيثية السومريون بعباءات واسعة يبدو أنها كانت تتخذ من أصواف الأغنام الطويلة الممشطة تمشيطًا جيدًا، ويلتفعون بها بحيث تغطي الكتف اليسرى وجزءًا من ذراعها وتمر من تحت إبط الكتف اليمنى2. ظهر بعض أولئك الحكام والخاصة بمعاطف فريدة مزركشة يتصل طرفاها بشريط أسفل الرقبة3، وذلك على الرغم من غلبة الحرارة والرطوبة في الأجزاء الجنوبية من العراق. أما النساء السومريات فقد ظهرن في صورهن القليلة بشعور طويلة مرسلة وبثياب طويلة كاسية. وتخيل السومريون بعض أربابهم فيما صوروهم به على هيئات بشرية مثالية وبلحى كثة ممشطة وشعور طويلة معقوصة من الخلف. وبملابس تقرب من ملابس الحكام، وتوجوا بعضهم بقرون قد تدل على عصور بدائية عتيقة كان الحكام يزينون تيجانهم فيها بالقرون. لا زال التاريخ على غير بينة أكيدة من جنس السومريين ومواطنهم الأصيل الذي وفدوا منه على العراق إذا أتوا إليه حقًّا من خارجه. ودفعت إلى الحيرة في تحديد أصلهم الجنسي عدة أسباب، كان منها: اختلاف لغتهم المكتوبة عن اللغات السامية المألوفة مع صعوبة تقريبها في الوقت نفسه إلى مجموعة اللغات الآرية المعروفة وذهب فرض حديث إلى تقريبها إلى مجموعة اللغات التي تأخذ بطريقة الإلصاق " Agglutination" مثل المجموعة الأسيانية أو مجموعة الأورال طاي4 "ومن مظاهر الإلصاق إدراج لفظين أو أكثر لتكوين كلمة جديدة، وإدماج الضمير في الفعل المتصل به"، ولكن بغير أدلة مقنعة. ولوحظ من جهة أخرى أن من أسماء المعالم الرئيسية في أرض العراق والتي تضمنتها النصوص السومرية نفسها ما يختلف في لفظه عن مفردات لغة أصحابها ويختلف عن مسميات اللغة السامية في الوقت نفسه، مثل أسماء: دجلة "إديقلات"، والفرات "بورانون، بورنونا"5، وإريدو، وشوروباك ... إلخ، وذلك مما قد يوحي باختلافهم في الجنس أو اللغة عمن لحقوا بهم أيضًا. ثم زاد الشك في وحدة جنسهم أن تبين بعض الباحثين أن جماجمهم الباقية قد جمعت بين خصائص الرءوس السامية الطويلة وبين خصائص أصحاب الرءوس العريضة من غير الساميين6، وهذه ظاهرة يمكن أن تقرن بما أسلفناه عن تصوير بعضهم بأنف أقنى، وهي أنف غير مألوفة كثيرًا في الملامح السامية.

_ 1 Op. Cit., Pls. 19, 21, 23, 33 B. 2 Ibid., Pls. 33, 34. 3 Ibid., Pl. 36; Cf. G. Contenau, La Civilisation D’assur Et De Babylone, 1951, 19. 4 Ibid., 19, 23. صمويل كرامر: من ألواح سومر - ترجمة طه باقر - القاهرة 1957 - راجع المقدمة بقلم المترجم. 5 حور هذا الاسم في النصوص السامية إلى بوراتوم، وبوراتي، ثم إلى فرات. Cf. Sumer, 1949, 1950; Frankfort, The Birth Of Civilization, 1948.

وجرى السومريون على عادة أهل بواكير العصر الكتابي الذين سبقوهم في مجالات الحضارة بالعراق، في تشييد بعض هياكل أربابهم فوق مسطحات مرتفعة، وصوروا الأرضيات التي يعتليها أولئك الأرباب في مناظرهم الدينية، على هيئة مدرجات الجبال وكومات الأحجار، وذلك مما يعني أنهم شاركوا أصحاب حضارة الوركاء، أو حضارة بواكير العصر الكتابي، في فكرة تعويض معابد آلهتهم عن قممها العالية في بيئاتهم الجبلية القديمة بالمسطحات الصناعية العالية في سهول العراق. وقد يتصل بهذه الظاهرة الجبلية ما جروا عليه من تسمية مبعد إلههم إنليل في مدينة نيبور السومرية باسم "إكور" وهو اسم يحتمل أن يعني معنى "البيت الجبلي"، ثم ما وصفوا به ربتهم إنانا في إحدى أساطيرهم بأنها ملكة السماء الجليلة التي تسكن "جبال" الأرض الحالية شوبا، وروايتهم عن معبودهم أوتو رب الشمس، في الأسطورة نفسها، رغبته في أن يشيد أتباعه معبدة متساميًا "كالجبل" المقدس ويكون مزاره فيه كالغار، وأن يجلبوا له أحجاره من جبال أرتا "في إيران" لبنائه1. ومرة أخرى قد يتصل بهذا الأصل الجبلي المفترض، وصلة أسلافه السومريين المقترحة بمرتفعات إيران، ما استشهدنا به من صلة بعض الأرباب السومريين بدنيا المرتفعات. ثم ما أتت به أسطورتان لملك سومري يدعى إنمركار اعتبرته القوائم السومرية المتأخرة ثاني ملوك الأسرة الأولى في مدينة أوروك بعد الطوفان2. وقد روت إحداهما أن الربة إنانا قد اصطفته من بلاد شوبا الجبلية، ثم وصفته بأنه المحتبى بالإمارة في البلاد "الجبلية المحصنة"، وأنه الراعي الذي ولدته البقرة الأمينة في "جوف الجبال". وكل ذلك مما يحتمل معه الربط بين أصول الرجل وأسطورته وبين منطقة ما من مناطق المرتفعات، وروت الأسطورتان أن ملكهما إنمركار كان على علاقة بمدينة أرتا وملكها، وهي مدينة تقع في منطقة جبلية بعيدة افترض صمويل كرامر أنها منطقة أنشان في بلاد عيلام "في إيران"، وسمحت له هذه العلاقة بأن يطلب من ملكها أحجارًا ومعادن ثمينة لبناء معباد أربابه وزخرفتها، في مقابل تصدير الغلال إليه، ولو أنه يبدو من الأسطورتين أن روح التنافس الخفي بين الملكين جعلت كلًّا منهما يتعالى على الآخر في طلبه ويضمر له الغدر في نفسه. وبناء على هذه المشكلات والشبهات، اتجهت الآراء في تخمين أصل السومريين إلى عدة مذاهب، كان منها ما افترض أصحابه أن أجداد السومريين هاجروا إلى العراق من المرتفعات الشمالية والشمالية الشرقية التي تحف به، عن طريق أرمينيا وإيران. ولو أنه يمكن أن نستبعد أرمينيا أساسًا من هذا الفرض، على اعتبار أنه كان من المستبعد أن يهبط المهاجرون منها وهم أولو قوة ويتجاوزوا المناطق الصالحة للاستيطان القريبة منها في شمال بلاد النهرين ليذهبوا بعيدًا عنها ثم يستقروا في الأجزاء الجنوبية التي كانت أطرافها لا تزال حينذاك وحشية الطابع تتطلب مجهودات كبيرة لتهذيبها وتيسير الانتفاع بها. ومن المعروف أن الأطراف

_ 1 صمويل كرامر: من ألواح سومر - لوحات 14 - 16. 2 المرجع السابق - لوحات 14 - 16، 71، 78 Kramer, Jaos, 63 “1952”, 191 F.

القصوى لهذه الأجزاء، التي تسمى الآن باسم شط العرب، وإن توفرت لها أهمية خاصة بحكم إشرافها على الخليج العربي ومصاب النهرين وبحكم اعتبارها من مناطق الاتصال بين العراق وبين إيران، إلا أنه تعقبها شمالًا في أرض العراق منطقة منخفضة كثيرة المناقع قليلة الصلاحية للزراعة والعمران الدائم، كثيرة التعرض لأخطار الفيضان. ويلي هذه المنطقة شمالًا منطقة النشاط الحضري القديم في بلاد النهرين. وإلى جانب هذا الفرض رأي ذهب فيه صمويل كرامر إلى اعتبار السومريين بدوا مما وراء القوقاز، أو مما وراء بحر قزوين، اندفعوا على مناطق غرب إيران فيما يعاصر عهد العبيد أو أوائل الوركاء، ونجحوا في اقتباس حضارة بلاد النهرين التي امتدت منها "على حد رأيه" عبر حدود إيران، ثم استعانوا بما تعلموه منها، وبخفة الحركة البدوية في الاندفاع إلى جنوب العراق منذ الربع الأخير من الألف الرابع ق. م وسيطروا عليه تدريجيًّا خلال فترة من فترات حضارة الوركاء، وكان لما أشاعوه به من الاضطراب حينذاك أثر في بداية فترة ركود حضاري شملته، وإن يكن قد نشأ خلال هذه الفترة نفسها "حوالي القرن الثلاثين ق. م" عصر البطولة السومري الذي قام على الشجاعة الفردية للقادة السومريين ومحاولاتهم لتملك زمام السلطة في المناطق التي نزلوها، لا سيما وأنه لم يكن عليهم أين يبسطوا سلطانهم عليها وحدها، وإنما كان عليهم أن يواجهوا في الوقت نفسه هجرات سامية من ناحية الغرب لم تكن تنقطع اندفاعاتها على حدود العراق. وعندما تمت الغلبة السومريين وتم اندماجهم في السكان الأصليين الذين كانوا أرقى حضارة منهم، بدأ العصر الشبيه بالكتابي في العراق حوالي القرن التاسع والعشرين ق. م، على حد قوله1. وافترض رأي ثالث أن السومريين هاجروا من منطقة ما تقع فيما بين شمال الهند وبين أفغانستان وبلوخستان، واستقروا بعض الزمن في غربي إيران، ثم نزحوا منها إلى بلاد النهرين عن طريق الخليج العربي وجزيرة البحرين2. وزكى أصحاب هذا الفرض رأيهم بما لوحظ من تشابه أوائل طرز الفخار السومري القديم وزخارفه في بلاد النهرين مع نماذج الفخار القديمة التي انتشرت جنوبًا بشرق حتى منطقتي خاربا وموهنجو دارا بسهول السند3، وذلك مما قد يوحي بوجود روابط جنسية وحضارية بدائية قديمة بين أهل هذه النواحي الذين سبقوا الأجناس الهندوآرية في سكناها، والذين يكفي أن يقال عنهم إنهم من الفروع المبكرة للسلالات الآسيوية أو الأسيانية Asianic. وذلك مع تقدير ما ألمحت إليه الأساطير السومرية من أن أصحابها الأوائل هاجروا من الجنوب عن طريق البحر في عصور كان الناس لا يزالون يسعون فيها على أربع، على حد روايتها، واستقروا حينًا في جنة تلمون "أو دلمون"، وهي فيما يرجح جزيرة البحرين الحالية4، تلك التي روت الأساطير السومرية أنه لم يكن ينعق فيها غراب أسود، ولا يفترس

_ 1 كرامر: المرجع السابق - الفصل 22. 2 See, E.A. Speiser, “The Sumerian Problem Reviewed”, Hebrew Union College Annual, Xxiii, 1 “1950-51”, 339 F. 3 Cf. Frankfort, The Art And Architecture…, P.1, N. 3; Hall, History Of The Ancient Near East, 173; Mackay, “Sumerian Connection With Ancient India”, Jras, 1925, 697. 4 Cf. P.B. Cornwall, “On The Location Of Dilmun”, Basor, No. 103 “1946”; Jcs, Vi, No. 4 “1952”; Kramer, Basor, 1954 “Suppl. No. 1”; The Indus Civlization And Dilmun…, Expedition, Vi, 1964.

أسد، ولا يعتدي ذئب على حمل، ولا تحني الحمامة رأسها. ولا توجد أرملة، ولا مرض فيها ولا شيخوخة، ولا نواح ولا رثاء، ... ولكن كان ينقصها الماء إلى أن أوحى إنكي "رب الحكمة" إلى أوتو "رب الشمس" بأن يزودها بينابيع المياه العذبة، ففعل، وتحولت بستانًا أنبتت فيه ننخرساج "الإلهة الأم" ثمانية أنواع من النباتات على غفلة من إنكي نفسه1. ثم نزحوا منها بعد ذلك إلى "كالاما" بالعراق لأمر ما لم تسجله الأسطورة. ونفى رأي آخر اعتبار السومريين أغرابًا، وتشكك أصحابه في نتائج دراسة جماجمهم، وافترضوا أن الرءوس العريضة بينهم ترتبت على اتصالات متقطعة بين سكان العراق ذوي الأصل السامي في فجر التاريخ وبين جيرانهم ذوي الأصل ما قبل الآري ذوي الرءوس العريضة، دون أن يتأتى عن وحدة جنسية لازمة بين الفريقين. ولكن صعب على أصحاب هذا الرأي تعليل اختلاف لغة السومريين عن اللغات السامية. وعندما أراد بعضهم أن يوازنوا بين هيئات أرباب العصر السومري ذوي اللحى الكثة والشعور الكثيفة والملابس الصوفية التي تقربهم إلى هيئات الرعاة الساميين، وبين جماهير السومريين حليقي اللحى والرءوس، لم يزيدوا الأمر غير تعقيد2. وإذا كان هناك ما يمكن تعديل رأيهم به فهو احتمال اعتبار السومريين فرعًا من الجنس القوقازي يختلف عن الفرع السامي، دون أن ينفي هذا تواجد الساميين معهم على أرض العراق وإن ظل نفوذهم أقل من نفوذ السومريين لعهود طويلة. على أنه مهما يكن من أمر هذه الآراء التي لا زال كل منها بحاجة إلى قرائن جديدة تؤيده أو تغلبه على غيره، فالذي لا شك فيه هو أن السومريين في أوائل العصور التاريخية، قد انتفعوا بالحضارات التي سبقتهم في بواكير العصر الكتابي، ثم طوروها إلى ما يتفق مع مطالب عصرهم وأذواقه، وكان من أوضح روابط التطوير هي علامات الكتابة وأساليب البناء باللبن وأساليب النقوش.

_ 1كرامر: المرجع السابق - لوحة 59 - ص241+ Kramer, Anet, 38 F. 2 Cf. Keith, By Hall-Woolley, Ur-Excavations; Ed. Meyer, Histoire… “Trad.”, T. Iii, & 369; Frankfort, Studies…, 91; And See, H. Schamakel, Das Land Sumer, 1956, 44 F.; Geschichte Des Alten Vorderasien, 1957, 3 F.

الكتابة المسمارية

الكتابة المسمارية: ظهرت تباشير الكتابة فيما يحتمل منذ المراحل الأخيرة لحضارة الوركاء، أو حضارة حمدة نصر، في فجر التاريخ العراقي القديم، كما أسلفنا، وبدأت بالطريقة التصويرية أو التصورية التي تعبر كل صورة منها عما تمثله على وجه التقريب، وهي طريقة تصلح للتعبير عن الماديات ولكنها لا تكفي للتعبير عن المعنويات، وقليلًا ما تعبر عن الفكرة بشيء مادي يرمز إليها كالذراع الذي يعبر عن القوة، أو القدم التي تعبر عن حركة

المشي شأنها في ذلك شأن الكتابة المصرية في بداية ظهورها. وعثر على بعض نماذج هذا الطور الكتابي على لوح حجري صغير رقيق من مدينه كيش صورت علاماته التصويرية ما يمثل الوجه والقدم وواجهة المسكن وما إليها داخل مستطيلات متسعة تتحدد بخطوط تفصل بين كل واحد منها والآخر. ونموذج ضغير آخر نقشت علاماته التصويرية في مستطيلات ضيقة تتعاقب في أنهر رأسية1. ثم تطورت الكتابة على أيدي السومريين بخاصة إلى المرحلة الصوتية التي تؤدي علاماتها وصورها وظائف المقاطع الصوتية ويقصد بها لفظها أكثر من شكلها ويمكن التعبير عن المعنويات، ومن ذلك استخدام الصورة المختصرة للجذع الأعلى للإنسان للدلالة على المقطع "لو" الذي يعبر عن معنى رجل أو إنسان، وفقا لسياق الكلام. واستخدام الصورة المختصرة لجريان الماء للتعبير عن الماء "آ" وعلى حرف "في". واستخدام صورة السمكة للدلالة على السمكة "خا" وللتعبير عما يوازي لفظ "لعل". واستخدام صورة النجم للتعبير عن اللفظ "آن"، وعن السماء، وعن لفظ إله "دنجر"، وعن معنى السمو، فضلًا عن دلالتها على النجم نفسه وعثر على عشرات اللوحات في الوركاء، قد ترجع كتابتها إلى هذا الطور التصويري المقطعي2. وزاد السومريون علاماتهم المقطعية الصوتية مع توالي الزمن واستمرار الخبرة حتى أوفت بمطالب حضارتهم، وبلغت أشكالها مبلغًا عدديًّا كبيرًا، ثم عادوا فيسروها عن طريق تركيز أعدادها وأشكالها، واتجهوا بها وجهة خطية، فقللوا انحناءاتها ودوائرها كيما تتناسب خطوطها الحادة الجديدة مع طبيعة اللوحات الطينية اللينة التي استحبوا الكتابة عليها ووجدوها أقرب في التناول وأيسر في الكلفة من قطع الحجر، وهي لوحات كانوا يتخيرون طميها نقيًّا ناعمًا ويصبونه في قوالب ذات أشكال متعارف عليها، فتخرج اللوحة على هيئة القرص مسطحة الوجهين، أوعلى هيئة ربع الدائرة مستوية السطح محدبة الظهر، أو على هيئة المسطيل، وقليلًا ما تكون على هيئة المخروط. وقد يتركونها على حالها بعد الكتابة أو يجففونها في حرارة عادية بحيث تكتسب صلابة مناسبة، ويلفون أهمها بنسيج يمهرونه بختم صاحبها فوق قطعة من الطين اللزج، لا سيما إذا كانت لوحة لها اعتبارها أو كانت ستنقل من مكان إلى آخر على هيئة الرسالة. وشاعت هيئة الاستطالة في الألواح منذ خواتيم العصر السومري القديم، وأصبحت اللوحات الهامة منها تحرق في أفران وتحفظ في أغلفة طينية بعد أن ينثر عليها قليل من مسحوق الطمي الجاف ليمنع التصاقها بغلافها، ذلك الغلاف الذي كان يجب كسره مرة ثانية بطبيعة الحال قبل قراءة لوحته الداخلية. وكتب السومريون عباراتهم في بداية عصورهم دون ترتيب ثابت "في مثل نص أوتوج حاكم كيش على نذر للمعبود إنليل، ونص على رأس مقمعة ميسيلم حاكم كيش أيضًا". ثم أصبحوا يرتبون عباراتهم في أنهر رأسية يفصل بين كل نهر منها وآخر خط رأسي "في مثل لوحة أورنانشه ولوحة إياناتم". وكانوا يبدءونها من اليمين أو من اليسار. ثم انتهو أخيرًا إلى تفضيل السطور الأفقية. وكان منهم يكتبون وجهي

_ 1 C. Leonard Woolley, Ur Excavations, Figs. 1, 2. 2 طه باقر - مجلة سومر 1961.

اللوحة بعد قلبها رأسًا لعقب بحيث يقابل النهر الأول من ظهرها النهر الأخير من سطحها، كما كان منهم من استعاضوا عن اللوحات أحيانًا بكتل طينية مجسمة على هيئة الأسطوانة، أو هيئة المنشور، رغبة في أن تتسع سطوحها للنصوص الطويلة. واستمرت موجة الاختزال تعمل عملها البطيء في العلامات السومرية. وواصلت وجهتها التخطيطية حتى غدت هيئة كل علامة منها تشبه هيئة المسمار، وذلك مما دعا إلى تسمية كتابتها اصطلاحًا باسم الكتابة المسمارية "أو الكتابة الإسفينية". وقد ناسبت هذه الكتابة في هيئتها الجديدة استخدام أهلها أقلام الغاب والخشب "والمعدن" ذات السن المدبب، ثم الأقلام المنشورية المقطع التي انتهوا إلى الكتابة بها فأصبحت بدورها من أسباب تسمية الكتابة بالكتابة المسمارية. وظل السومريون منذ ذلك الحين يصورون خطوطهم الجديدة رأسية وأفقية ومائلة، متجاورة، ومتصلة أو متقاطعة، وإن احتفظوا لعدد منها بهيئاته التصويرية القديمة، مثل صورة القدم والسهم والمشط وبعض الأغصان والأزهار، وهي صور استخدمت لذاتها أحيانًا، ولتكون مخصصات لكلمات تتصل بها أحيانًا أخرى. كما تخففوا شيئًا فشيئًا من الفواصل الرأسية التي كانت تفصل بين كل جملة وأخرى. لم تميز الرموز الصوتية السومرية كثيرًا بين الحروف المتقاربة في النطق، مثلما بين حرفي د، ت، وما بين حروف ج، ك، ق، وما بين حرفي س، ز "وذلك مما أحس الساميون بالنقص فيه عندما أصبحوا يكتبون لغتهم بالكتابة المسمارية حاولوا تعويضه منذ العصر الأكدي في أعقاب عصر بداية الأسرات السومري". غير أن المقاطع السومرية تميزت في مقابل هذا النقص بتضمنها ما يؤدي غرض حروف الحركة التي تنقص أغلب الكتابات السامية القديمة، وذلك حين توضيحها للتعبيرات المركبة التي تتألف من "حرف حركة + حرف ساكن" أو تتألف من "حرف ساكن + حرف حركة"، أو تتألف من "حرف ساكن + حرف حركة + حرف ساكن". وعمل السومريون على الجمع بين القديم وبين المستحدث في كتابتهم، شأنهم في ذلك شأن أغلب الشعوب الزراعية المحافظة القديمة، "مثل الشعب المصري" وترتب على ذلك أن كتبتهم كانوا يكتبون الكلمة الواحدة بصورتين أحيانًا، وبالطريقتين التخطيطية والصوتية معًا. فكلمة "ماتو" بمعنى أرض، قد يكتبها الكاتب السومري بثلاث علامات مسمارية بسيطة تدل عليها ثم يتبعها بثلاث رموز صوتية تساوي "ما - آ - تو"، وذلك فضلًا عن التجائه إلى إضافة المخصصات التصويرية إلى كلماته أحيانًا، كما ألمحنا من قبل، مثل إلحاق علامة الشجرة بأسماء الأشجار وأنواع الخشب والمصنواعات الخشبية، وإلحاق علامة المكان بأسماء الأقطار والبلدان ... ، إلخ. واستمرت الكتابة المسمارية في تطورها، وانتقلت بخصائصها من لوحات الطين الشائعة إلى لوحات الحجر والمعدن حيثما توفرت "مع بقاء الغلبة للوحات الطين"، وكانت جهود السومريين الأوائل في تطويرها بمثابة حجر الزاوية لها. وظلت تختلف عن الكتابة المصرية القديمة التي نافستها شهرتها في العالم القديم،

في أربعة أمور وهي: سهولة التعبير عن الحركات في مقاطعها، وتخليها عن الصور الطبيعية الأصلية في أغلب أحوالها، وذلك في مقابل تطورها إلى مرحلة الحروف الهجائية وعدم استفادة أصحابها من مواد الكتابة التي عرفها المصريون لا سيما صفحات البردي وأنواع المداد. ولو أن هذه الاختلافات كلها لم تحل دون استمرارها قرونًا طويلة عند السومريين وعند من تلاهم من الساميين، بل ولم تقف دون شيوعها من العراق إلى ما يتصل به في شمال بلاد الشام وغرب إيران وشرق الأناضول. وعندما قل استخدامها في أواخر التاريخ العراقي، وغلبت الكتابة الأرامية عليها شيئًا فشيئًا، انطوت في ظل النسيان وأصبحت مجرد رموز وطلاسم، حتى بدأت الدراسات الحديثة تكشف النقاب عنها مرة ثانية منذ أواسط القرن التاسع عشر الميلادي1 "راجع ص373". وسجل السومريون أعدادهم على هيئة دوائر وأنصاف دوائر أحيانًا، وعلى هيئة خطوط مسمارية قائمة ومائلة تشبه في جملتها هيئة المربعات والمعينات أحيانًا أخرى، واعتبروا العدد 6 بداية الكثرة في الآحاد بعد العدد 5 الذي يمثل نهاية العد على أصابع اليد الواحدة، كما اعتبروا العدد 60 بداية الكثرة في العشرات، وكانوا يرمزون إليه بعلامة مسمارية قائمة شأنه في ذلك شأن الواحد بداية العد. ولعل التقسيم الستيني الحالي للساعات والدقائق كان متأثرًا نوعًا في أصله البعيد بعلم الفلك البابلي المتأثر بدوره بعلم الرياضيات السومري. وتوافرت للكاتب السومري مكانته في مجتمعه، وكان الكتبة لا يزالون قلة، ويبدو أنهم ظلوا ألصق بالمعابد منهم بغيرها. وظل الناس يحسون بأهميتهم حين يعاملونهم بأسماء الحكام ورؤساء المعابد، وحين يلجئون إليهم لكتابة عقودهم وتحرير رسائلهم أو قراءتها. وكان كتبة الأرشيف يحفظون لوحاتهم الهامة في جرار وسلال يعنونونها ببطاقات صغيرة مسطحة أو بيضية أو مستديرة ويسجلون عليها طبيعة محتوياتها. ومن هذا القبيل ما ذكرته بطاقة صغيرة سجل عليها كاتبها: "لوحات ما جاء به سماكو البحر وسماكو النهر - بارتامتارا زوجة لوجالاندا إنسي لجش - السنة الثانية"، وكان لهذه الزوجة الملكية كاتب خاص سجل على ختمه عبارة "أنيجال كاتب دائرة الزوجة"2.

_ 1 Cf. S.N. Kramer, Sumerian Mythology, 1944, 1 F. 2 ل. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - تعريب محرم كمال - ص238، 243.

العمارة الدينية "والزقورات"

العمارة الدينية "والزقورات": توسع السومريون في البناء باللبن، وأزادوا استخدام الآجر الذي استخدمه أسلافهم على نطاق ضيق في بواكير العصر الكتابي1. واستعاضوا به إلى حد ما عن قلة الأحجار في بيئتهم. وشكل المعماريون بعض قوالب اللبن في بداية عصرهم بوجه مسطح وآخر محدب " Plano-Convex"، واستخدموها في المداميك

_ 1 Cf. Frankfort, Op. Cit., 9.

الرأسية في مبانيهم، وفي عمل العقود فوق الأبواب1، وإن ظلوا يستخدمون معها القوالب العادية الشائعة مسطحة الوجهين2. واستخدموا الدبش والأحجار الغفل لتدعيم أساسات المباني الكبيرة3. وكالعادة ظلت أطلال المعابد الكبيرة والقصور الكبيرة أكثر بقاء من غيرها، وجرى السومريون على بناء هياكلهم الرئيسية فوق مسطحات عالية، إلى جانب بناء المعابد الأرضية العادية. واشتهرت معابد المسطحات "بعد تطويرها" باسم "زقورة" وبمعنى القمة المرتفعة أو المدببة، وأطلق السومريون اسم "شاخورو" بمعنى "قاعة الانتظار" على كل من الهيكل العلوي الذي يعلو الزقورة وعلى القاعة التي تسبق قدس الأقداس في المعابد الأرضية، ويبدو أنهم عنوا به في الحالة الأولى قاعة انتظار تجلي المعبود في مناسبات خاصة، ثم عرفوها بهذه الصفة باسم "جيجونو". وليس ما يعرف عن هذه المناسبات الخاصة غير إشارات تضمنتها نصوص متأخرة وتحدثت فيها عن أعياد رأس السنة "الزراعية" والزواج المقدس لبعض الأرباب ومنهم دوموزي رب الخصب، الذي يظل حبيسًا في العالم الآخر خلال فصل الجفاف، فتأسى عليه زوجته أو أمه ويشاركها الناس أساها بالعويل والرثاء والدعاء قبيل بداية كل رأس سنة جديدة، وتستمر طقوسهم حينذاك عدة أيام يعتقدون أن دوموزي قد تخلص بعدها من عالم الفناء وبعث من جديد، وحينئذ يعلن الكهنة بداية الزواج المقدس في هيكله، كناية عن عودة الخصب وبداية موسم زراعي جديد، وهكذا وصف دوموزي في بعض نصوصه "المتأخرة أيضًا" بأنه "زوج إشتار العروس ... خالف بذرة الكباش رءوس القطعان"، وقيل عن رب مدينة لجش في مناسبة مماثلة إنه حين يهبط للزواج المقدس بقرينته يكون "كالعاصفة الهادرة والطير الجارح". ولا زال الباحثون يرتبون على هذه الأعياد، صورًا وتخريجات يستوحونها من النصوص ولكن دون أن يصلوا بها إلى حد اليقين، فيرى بعضه أنه ليس المعبود وحده هو الذي يتزوج زواجًا رمزيًّا في عيد رأس السنة، وإنما اقتضت التقاليد كذلك بأن يدخل الملك الحاكم بمناسة كل عيد بكاهنة ممن نذرن أنفسهن للمعبودة إنانا ربة الحب والتوالد "وصفات أخرى" ضمانًا لخصب التربة وخصب الأرحام، ويستشهد أصحاب هذا التخريج بأغنية سومرية متأخرة تعتبر العروس المقدسة فيها الملك "شوسين آخر ملوك أمور" عريسها وتذكر أنه أسر قلبها وأنها تواجهه واجفة، ثم تخاطبه بلقب الأسد وتطلب إليه أن يحتبيها لنفسه، وتعرض عليه أن تُدلِّله بتلديل أشهى من الشهد، وأن يدللها بدوره ويضاجعها حتى مطلع الفجر ... 5. ويبدو أن أعياد الزواج هذه كانت تأخذ طابع المرح "بعد أيام النواح والدعاء"، ويجري فيها ما يجري في الأفراح من ولائم ورقص وعزف وقصف، ويدخل المحتفلون ومعهم الأغصان الخضراء وكئوس

_ 1 P. Delougaz, Planoconvex Bricks And The Methods Of Their Employment, Chicago, 1933. 2 Frankfort, Iraq Expedition…, 1932-1933, Figs. 5-7, 10-12. 3 Frankfort, The Art And Architecture…, 21. 4 Op. Cit., 30. 5 S. Kramer, Tablets…, Ch. Xxiii; Turk. Belleten, Xvi, 345 F.

الشراب على تمثال معبودهم الذي يمثل أحيانًا يمسك كأس شرابه بين يديه هو الآخر. "وعثر في معبد بمدينة خفاجى من أوائل العصر السومري على أكثر من 600 كأس مهشمة يبدو أنها كانت من مخلفات أمثال هذه الأعياد"1. ولا زال اسم دوموزي باقيًا في تسمية شهر تموز، ويقرن الاعتقاد في بعثه المتجدد بالاعتقاد في بعث أوزير رب الخصب وخلوده في المجتمع الزراعي المماثل في مصر القديمة. واحتفظت مدن العراق بأطلال بسيطة لمعابد سومرية قديمة منها معبد بلدة خفاجى، وقد بُني وسط مساكن بلدته، وشيد بالتخطيط المستطيل المعتاد فوق مسطح بلغ ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار ونصف المتر، وتقدمه "في مرحلة تجديده الحادية عشرة" فناء صغير، وأحاطب به حجرات جانبية ضمه معها سور بيضي. وتقدمت هذه المجموعة ساحة كبيرة أخرى تضمنت فيما يبدو مباني الإدارة ومساكن الكهنة وأتباع المعبد، وأحاط بهذه الساحة وبمجموعة المعبد معًا سور بيضي آخر كبير يحف بمدخله صرحان مرتفعان2. ومن نماذج أطلال المعابد الأخرى الباقية، معبد في العقير "جنوبي بغداد بنحو خمسين ميلًا"3، تألف من دكة "مرتفع ممهد" على هيئة نصف الدائرة العلوي، شكلت جدرانها الخارجية بمشكاوات رأسية، ولها درجان متقابلان في نهايتي واجهتها، ويعلوها مسطح يؤدي إليه درج، ويعلو هذا المسطح بناء المعبد العلوي وهو مستطيل شكلت جدرانه الخارجية بمشكاوات رأسية لونت بجص أبيض. وتألف المعبد في داخله من مقصورة رئيسية تتضمن المذبح ومائدة القرابين ويحيط بها صفان من أربع حجرات، وكسيت جدران المقصورة الداخلية بملاط أبيض رسمت عليه أفاريز ملونة من أشكال هندسية وأشكال بشرية وحيوانية، ومنها أشكال نمور أو لبوءات مرقطة رائعة التصوير بالنسبة لفنون عصرها. واحتفظت بلدة العبيد بأطلال ثلاثة معابد متعاقبة بُني بعضها فوق أطلال بعض، ويحتمل أن أولها هو معبد "آ - آني - بادا" أحد ملوك أسرة أور الأولى في عصر بداية الأسرات السومري. وتضمنت أطلاله الباقية أجزاء بسيطة من قاعدته وجدرانه واجهته اللبنية ذات المشكاوات الرأسية، ودرجًا حجريًا كان يؤدي إلى ربوته، وعدة آثار فنية أخرى صغيرة، وذلك مما سمح للأثرى الأستاذ C.L.Woolley بتخيل صورة تقريبية لما كان عليه هذا المعبد حين إنشائه، ولو أنها صورة مغالية بعض الشيء بالنسبة لعصرها، فهو يتخيله فوق مرتفع "مكسو" بالآجر يؤدي إليه درج عريض من الحجر المستورد، ويقوم على رأس الدرج مدخل ذو أعمدة، يربض على جانبيه أسدان نحاسيان في حجمهما الطبيعي "؟ " طعمت عيونهما وأسنانهما باليشب والصدف، ورفعت أسكفة الباب على أسطوانتين من جذوع النخيل طعم

_ 1 Frankfort, Op. Cit., Pl. 13, P. 24, N. 25; Sculpture Of The Third Millennium…, 1939, 45, F. 2 P. Delougaz, The Temple Oval At Khafaje, Chicago, 1940. 3 كرامر: المرجع السابق: لوحات 35 - 37. 4 Jnes, Ii, No. 2; And See, Iraq, V “1938”, 1 F. “For A Similar Temple At Al-Ubaid”.

مسطحاهما بصفوف من الفسيفساء مثبتة بالقار ومشكلة على هيئة مثلثات ومعينات تتعاقب فيها ألوان الأحمر والأسود ولون الصدف، وبعلو الأسكفة لوحة مستطيلة صفحت بالنحاس وشكلت واجهتها بشعار إله المعبد، هذا بينما زخرفت الجدران الداخلية الرئيسية لمقصورة المعبد بنقوش بارزة تمثل أنعامًا وعقدًا من أزهار مختلفة ألوانها، تعلوها أفاريز من لوحات خشبية محوطة بأطر نحاسية أرضيتها عجينة سوداء طعمت بقطع دقيقة من المحار والحجر الجيري تمثل صفوفًا من الطير وصفوفًا من الثيران يعلو بعضها بعضًا، وتألفت صورة كل ثور من ست أو سبع قطع من الصدف صنعت ورتبت بحيث تعبر عن تدرج مسطح جسم الحيوان. ثم صفوف لبقرات حلوب وعجول صغار كممت أفواهها حتى لا تزيح الحالبين عن ضروع أمهاتها. ومناظر تعبئة اللبن وصبه بأقماع في قدور كبيرة. ويضيف وولي إلى ذلك أنه كانت تلتصق بجدران المعبد تماثيل نحاسية، وتتضمن داخليته تماثيل حجرية ومزاهر سجل عليها مهدوها الأتقياء أسماءهم. ولو أن هذا كله فيما يبدو لا زال يحتمل الشك من حيث الصورة وربما من حيث الزمن أيضًا. وعلى أية حال فقد صورت نقوش العصر وآثاره القليلة الباقية ما تضمنته معابده من كنوز فنية تناسب عهودها، فصورت عروش الأرباب تحملها تماثيل الأسود والفحول الباركة، وصورت موائد الطيوب والدهون تحملها تماثيل معدنية على هيئات حيوانية لطيفة1. وذلك بطبيعة الحال فضلًا عما كانت تتضمنه من تماثيل أربابها وحكام مدنها وربما كبار كهنتها أيضًا. واعتاد بناة المعابد السومرية على أن يضعوا في أساساتها ودائع من تماثيل ولوحات وأوانٍ تتناسب مع أهميةالمعبد ورخاء عهد، وثراء الحاكم في بلدة. وعادة ما كانت هذ الودائع توضع في صناديق من الآجر الممزوج القار، ويكون من تماثيل الحاكم الصغيرة فيها ما يمثله يحمل قصعة ملاط على رأسه باعتباره باني المعبد ورمزًا على اشتراكه الفعلي في وضع أساسه2. ويعتقد بعض الباحثين أن كلمة "هيكل" التي لا تزال تستعمل بين رجال الدين العبرانيين والمسيحيين، كانت سومرية الأصل وكانت تكتب إكللو أو " E-Gallu" بمعنى البيت الجليل، ثم انتقلت إلى العبرية وأضيفت إليها هاء التعريف وتناولها بعض التصحيف. وإذا صح ذلك انضاف إلى بقية تأثيرات العهود السومرية على ما أتى بعدها، على الرغم من قدم زمنها.

_ 1 Frankfort, The Art And Architecture…, Fig. 12 2 جون هامرتون: تاريخ العالم - معرب بالقاهرة، جـ2 - شكل ص554. E. De Sarzec & Heuzey, Decouverts En Chaldee, Pl. 2 Ter, 5 Bis.

العقائد

العقائد: احتفظ الحكام السومريون الأوائل برياسة الدين من الناحية الرسمية، ولكنهم نحلوا الإشراف الفعلي على الكهنوت لأبنائهم وكبار أعوانهم من الناحية الواقعية. واندرج في سلك الديانة عدد كبير من طوائف الكهنة والكاهنات، أولئك الذين كانوا يتلون التراتيل والتعاويذ ويقدمون القرابين ويعنون بالتماثيل ويترجمون

عن وحي ربهم واستخاراته ويقيمون أعياده بأناشيدهم وموسيقاهم ورقصاتهم، ويرأسون شعائر العبادة ويفرضون وجودهم أحيانًا على شعائر الموتى. واحتفظت النصوص لهؤلاء الكهنة بألقاب كثيرة كانت منها ألقاب: إن، وجونج، ولوماخ، وسنجا، وسنكوماخ ... ، إلخ. ويبدو أن الإقبال على عمل الاستخارات وتعرف وحي الأرباب والاحتكام إليهم في القضايا، والقسم في حضرة تماثيلهم، كان أمرًا شائعًا بين الكبار والعاديين من السومريين المتدينين، وأصبح استيحاء الوحي بذلك مورد رزق واسع لطائفة العرافين، وهؤلاء روى خلفاؤهم عرافو العصور المتأخرة أن منهم من كانوا يمارسون مهنتهم عراة، وأنهم تلقوا أسرار مهنتهم عن إنميدورانكي أحد الملوك المقدسين الذين روت الأساطير أنهم حكموا العراق قبل الطوفان. وصورت بعض المناظر السومرية كهنتها يؤدون وظائفهم عراة فعلًا1. أخذ السومريون بتعدد الأرباب والربات شأنهم في ذلك شأن غيرهم من أصحاب الديانات الوضعية القديمة. وسجلوا بعض أسماء أولئك الأرباب والربات موجزة في نقوشهم المبكرة، ثم سجل خلفاؤهم لها ألقابًا عدة في أساطير مسهبة التزموا فيها بصورها القديمة أحيانًا، وذكروها بصور مستحدثة أحيانًا أخرى2. ويفهم مما سجله هؤلاء وهؤلاء أن ديانتهم كانت ديانة طبيعية في مجملها، وأن فقهاءهم تخيلوا السماء والأرض في بداية أمرهما ملتصقتين يحيط بهما محيط مائي عظيم. وكان في أولهما روح مذكر "آن" اعتبروا صاحبها الجد الأكبر للمعبودات، وفي الثانية روح مؤنثة "كي". وأضافو أنه نتج من اتصال هذين الزوجين، عنصر ثالث وهو إنليل روح "ليل" أي روح الهواء "والأنفاس والفضاء"، فتدخل بينهما وفصلهما. ورفع أباه "آن" بسمائه إلى أعلى حيث استقر فيها، وحط بأمه "كي" إلى أسفل حيث اختلط بها، وترتب على وجوده معها أن بدأ ظهور بقية الأرباب ومنهم من سموا باسم الأنوناكي الحسين العظام والسبعة أصحاب المصائر، ثم بدأ خلق النباتات والأنعام والناس. وكان أكبر أبناء إنليل هو القمر "أو إله القمر" ننا "أو ننار أو نانور"، وقيل إنه أنجبه سفاحًا بعد أن اغتصب الصبية المقدسة "ننليل" "على الرغم من ضيق مهبلها ورقة شفتيها كما قالوا"، فأدت فعلته هذه إلى تجرء بقية الأرباب عليه ونعتهم إياه بالشراسة والخلاعة ورغبتهم في نفيه، على الرغم من أنه كان سيدهم وفي منزلة الأب منهم، وعلى الرغم من عطفه السابق عليهم وعلى البشر. وشارك أرباب السماء والأرض والهواء في قدم النشأة، عند السومريين، "إنكي" روح الماء المحيط بالسماء والأرض، ابن "نمو" عنصر الأمومة في المحيط الأزلي، وزوج ننماخ السيدة العظمى التي لقبت بلقب نينتو بمعنى السيدة الوالدة، وقد وكل بالأعماق واتخذ مقره في مياه العمق "آبسو" التي تخيل السومريون مركزها في منطقة إريدو "أبي شهرين الحالية" على غير مبعدة من الخليج العربي. وكان يعتبر إلهًا للحكمة

_ 1 J. B. Pritchard, The Ancient Near Eeat, Fig. 154. 2 See, S.N. Kramer, Sumerian Mythology, 1944; H. Hooke, Babylonian And Assyrian Religion, 1953.

ومقررًا لمصائر الأقطار والمدن وحافظ نواميس الحضارة في كل مظاهرها المادية والروحية، والموصي بمظاهر الحياة إلى أربابها مثل دوموزي الذي عهد إليه بخصوبة الأنعام وخصوبة الأرض، وإشكور الذي عهد إليه بأمر الرياح. وروى أهل إريدو أن إنكي ظل يحتفظ بنواميس الحضارة في أعماق آبسو بأرضهم حتى أغوته عنها إنانا ربة الزهرة وربة مدينة أوروك، فأغرته بجمالها وشجعته على الشراب واللهو معها، على الرغم من أنه كان منها في منزلة الوالد، حتى وعدها بكلمته وأعطاها نواميسه، فلما استرد وعيه أرسل أعوانه في إثرها ليسترجعوا منها نواميسه ويعطلوا مركبها، ولكنهم فشلوا. وكما أنجب إنليل القمر، اعتقد السومريون أن القمر بدوره أنجب الشمس "أو رب الشمس" "أوتو"، من المعبودة إنانا ربة الزهرة "أو من الربة نين جال". وتوفر لإنليل وره في تكييف مظاهر الطبيعة وخلقها، فخلق الصيف "إيمشي" والشتاء "إينتين"، وخص كلًّا منهما بمزاياه وفوائده، ولكنهما اختصما وتفاخرا وتنابذا، فانحاز هو إلى جانب الشتاء وفضله بما يكون فيه من حرث ونسل وتكاثر بين بني الإنسان والحيوان. وكما تفاخر الصيف والشتاء، عربد الأخوان لهار وأشنان، رب الماشية وربة الغلال، وتنابذا، واعتز كل منهما بما عنده، واحتكما إلى إنليل وإنكي، فقضى الحكمان لصالح أشنان ربة الغلال دون أخيها1. وهكذا مضى السومريون في تخيلاتهم، وافترضوا لكل ظاهرة طبيعية ربًّا أو ربة، وافترضوا لأربابهم صورًا بشرية مضخمة وحياة تماثلها حياة البشر، تزاوجوا فيها وتناسلوا، وتحابوا وتخاصموا، لولا أنها كانت حياة سرمدية ذات مقدرة مطلقة. واستقرت لأربابهم الكبار عبادات رئيسية في مدن بعينها. فاستقر أكبر مراكز عبادة آن في مدينة أوروك حيث عرف معبده فيها باسم "أي - أنا" ,أطلق اسمه على حي بأكمله2. واستقر أكبر مراكز عبادة إنليل في مدينة نيبور "نفر" وسُمي معبده فيها "إكور" ربما بمعنى البيت الجبلي. غير أن ذلك لم يحل دون انتشار عبادة مثل هذين الربين مع غيرهما من الأرباب في معابد صغرى بمدن أخرى كثيرة، وهنا قد يلقب المعبود بلقب جديد، أو ينسب إلى الحي الذي يوجد معبده فيه، على نحو ما لقب إينورتا. أحد أرباب الأعاصير والسحب المسطرة ورعاة الحرب، وابن إنليل في مدينة لجش، بلقب "نين جيرسو" أي سيد جيرسو، وكانت جيرسو هذه ضاحية مقدسة تجاور لجش "وسمي معبده فيها إنينو". وعلى نحو ما تصور السومريون لمظاهر الطبيعة أربابًا عديدين أطلقوا على كل منهم صفة "دنجر" بمعنى إله، تخيلوا لوجوه حضارتهم أربابًا ابتدعوها ورعوا أصحابها، مثل "نابو" رب الكتابة. وردوا إلى أولئك الأرباب فضل إنشاء مدنهم وتنظيمها ووضع شرائعها ثم جمعوا إلى هؤلاء وهؤلاء أربابًا صغارًا يشبهون

_ 1 صمويل كرامر: من ألواح سومر - لوحات 53 - 55 - الفصل 16. 2 Cf. Sumer, 1960, 3 F.

الأولياء والقديسين، اتخذهم الأفراد رعاة شخصيين وحماة وشفعاء لهم لدى الأرباب الكبار الذين تخيلوهم بعيدين عن مستوى دنياهم، بعيدين عن آفاق عقولهم ولم يكن أحدهم يجد بأسًا من أن يعتبر معبوده الخاص "أو معبود أسرته" "راعيه الموكل به" و"ربه وأباه المقدس الذي أنجبه". وتصور السومريون أربابهم بهيئات بشرية كما أسلفنا، كما رمزوا إليهم بهيئات الحيوانات والطيور، وصوروا أغلب رموزهم الحيوانية في هيئات مركبة، ومن ذلك القبيل أن رمزوا إلى معبودهم نين جيرسو بهيئة نسر مهيب بجناحين كبيرين ورأس أسد "أو رأس لبوءة"، وكانوا إذا صوروه على هيئة بشرية جعلوا وجه الأسد شعارًا لردائة أو لمقعد عرضه، أو لموطئ قدميه. وفي خلق البشر وأسبابه ظهرت للسومريين تقديرات طريفة تعتمد في مجملها على الإيمان بأن الناس ما خلقوا إلا ليعبدوا الأرباب ويخدموهم ويوفروا القرابين لمعابدهم. وشاعت لهم في هذا السبيل روايات شتى أغلبها مضطرب مختلط، ويفهم من بعضها أن أربابهم عاشوا في بداية خلقهم هائمين كالسوائم، لا يقدرون على شيء من أمرهم. حتى خلق الإله الأكبر الأنعام من أجلهم ووكل بها "لهار"، وأنبت الغلال ووكل بها "أشنان" "أخت لهار"، فطعموا ونعموا، ولكنهم لم يحسوا للشبع والري طعمًا، فاتجهوا بضراعتهم إلى الحكيم "إنكي" الذي كان حتى ذلك الحين سادرا في مياه العمق غير عابئ بهم، ووسطوا لديه أمه نمو "روح الأمومة في المحيط الأزلي" فبثت ضراعتهم إليه وقالت له فيما قالت: " ... قم إذن يا بني، ولنصنع شيئًا لائقًا، لنصنع "بشرًا" عبيدًا للأرباب ... "، فاستجاب لها وقال لها "أماه، إن الكائن الذي نطقت باسمه موجود، فاربطي عليه صورة الآلهة "؟ "، اضربي لب الطين الموجود فوق مياه العمق، واجعلي أعوانك يكثفون الطين جيدًا، وشكلي أنت له أعضاءه وجوارحه، وستعمل ننماخ من فوق يدك .. ، قدري مصيره يا أماه، وستربط ننماخ عليه صورة الآلهة، ذلك هو الإنسان ... ". وأرادت الأساطير أن تعلل خلق ناقصي التكوين بمنطقها، فروت أن إنكي وننماخ "زوجته؟ " أسرفا ذات مرة في الشراب، فقبضت قبضة من طين مياه العمق "وأرادت أن تقلد نمو"، وخلقت منها ستة أنواع، فخرجوا شواذًا "ومنهم المرأة العقيم ... والمخنث"، وشاء إنكي أن يلهو بدوره ويجرب حظه من الخلق، فقبض قبضة من الطين وشكلها، ولكنه فشل وصنع مخلوقًا لا روح فيه، لا يعرف الكلام ولا أكل الطعام ... 1. وتخيل السومريون في بداية الخلق عصرًا ذهبيًّا، انعقدت الهيمنة فيه للمعبود "إنليل". وصورت إحدى أساطيرهم المتأخرة مظاهر ذلك العصر فقالت إنه لم يكن في الوجود حينذاك حية أو عقرب، ولا ضبع ولا سبع، ولا كلب بري ولا ذئب، وما من خوف ولا فزع، ولم يكن للإنسان منافس. وفي غابر الأزمان كان بلاد شوبر وهمازي "في غرب إيران؟ "، وبلاد سومر كثيرة الخيرات، البلد العظيم ذو النواميس المقدسة الخاصة بالإمارة، وبلاد أوري "وسط بلاد النهرين وشمالها؟ " التي حوت كل طريف،

_ 1 Kramer, Sumerian Mythology, 68 F.; كرامر: المرجع السابق - الفصل 13.

وبلاد مارتو "بوادي العراق والشام"، كانت كلها آمنة مطمئة، وجميع الكون والناس في وحدة وألفة، يمجدون إنليل بلسان واحد ... "1. وتناقل السومريون الأقدمون أسماء حكامهم وزعمائهم الأوائل شفاهة في سياق الأساطير، وخلطقوا بينهما وبين أسماء أربابهم، وظلوا كذلك حتى دون خلفاؤهم أخبارهم الأسطورية التي عرفوها عنهم، فذكروا أن العمران تركز قبل الطوفان في خمس مدن كبيرة متعاقبة، وهي: إريدو، وبادتيبيرا، ولاراك، وسيبار، وشوروباك، وأضافوا أن حكم كلًّا من مدينة هذه المدن على التعاقب عدد من الأرباب وأنصاف الأرباب لفترت دامت آلاف السنين، وعندما عاد العمران إلى أرض العراق بعد الطوفان ظهرت مدن أخرى كثرة مثل كيش، وأوروك، وأور، وأداب، وماري ... ونسبوا الحكم في هذه المدن إلى شخصيات أسطورية قيل إنها عمرت هي الأخرى قرونًا كثيرة، ثم تواضعوا ونسبوا إلى بعض من عرفوهم من الحكام الفعليين قريبي العهد من عصورهم التاريخية عشرات محدودة من السنين2. بيد أنه مهما يكن في هذه الأخبار الأسطورية التي تصمنتها قوائم الملوك من مبالغات واختلافات، فهي قد تضمنت حقيقتين، وهما: فكرة حدوث طوفان قديم في أرضهم، ثم قيام أوضاعهم السياسية على أساس وجود المدن المستقلة المفرقة. وسوف نعرض لتفاصيل قصة الطوفان حين الحديث عن آداب السومريين في أواخر عصرهم، بعد قليل. وحسبنا الآن عنها أن الأبحاث الأثرية الحديثة كشفت في الطبقات السفلى العتيقة لمدن أور، وشوروباك، وكيش، عن آثار فيضان كاسح طمس على عمرانها بطبقات من الطمي تراوح سمكها في بعض المواضع بين نصف المتر وبين الثلاثة أمتار. ويرجع البعض هذا الطوفان إلى أوائل الألف الرابع ق. م، بينما يرجع البعض آخر بداية عصر ما بعد الفيضان إلى قبيل استقرار السومريين في أوائل الألف الثالث ق. م3.

_ 1 Kramer, From The Tablets Of Sumer, Ch. Xxv; Kupper, Les Nomades En Mesopotamie. 1957; Th. Jacobsen, The Sumerian King List “Assyriological Studies No. Xi”, 1939; E. A. Speiser, Ancient Mesopotamia, By R. C. Dentan, The Idea Of History In The Ancient Near East, 1955, 35 F. 2 Mallowan, Op. Cit., 243-244. 3 Woolley, Excavations At Ur, 28 F.; Martin A. Beek, Atlas Of Mesopotamia, 1962, 12; Mallowan, Iraq, Xxvi, 1964, 69 F., 74 F.

التطور السياسي

التطور السياسي: اعتمدت الحياة السياسية في بلاد سومر على إمارات المدن ودويلاتها، كما روت الأساطير وبما يشبه ما أصبح يسمى فيما بعد " City-States"، دون أن تتطور إلى نظام الدولة المركزية الكبيرة الواحدة. وترتب على ذلك أن تعاصرت دويلات وأسر حاكمة كثيرة في مثل مدن كيش "تل الأحيمر"، وأوروك "إيانا" القديمة ثم إرك وأوروك وأخيرًا الوركاء"، وشوروباك "فارة"، وأور "المقير"، ولجش "تلو"، وأوما "تل جوخة"، وإربدو "أو شهرين"، وسيبار "أبو حبة"، وخفاجى، ونيبور "نفر" ...

وتلقب رأس الحكم في المدينة السومرية في بداية أمره بلقب "إنسي"1، ربما بمعنى النائب أو الوكيل، إشارة إلى وكالته عن معبود مدينته في حكم بلده وأهلها. وإشارة إلى القداسة بالوكالة التي يرتكز عليها في ممارسة سلطاته الدنينة والمدنية2. ويرى ياكوبسن " Th. Jacobsen" أنه سبق إسناد الرياسة إلى رئيس واحد، نوع من الحكم الثيوقراطي كان يتولاه من يلقب بلقب سانجا ويشرف على شئون المعبد الرئيسي ومصالحه، ونوع من الحكم الديموقراطي تمثل في وجود مجموعة من الشيوخ كانوا يجتمعون في مجالس عرفية ويتشاورون في أمور مدينتهم، ويسندون القيادة إلى واحد منهم خلال الحروب، واعتمد ياكوبسن في تخريجه هذا على عبارات وردت في قصص جلجميش وقصة إنمركار وما تضمنته الأساطير من مجامع الأرباب، ولو أنها عبارات ليس من الضروري أن تدل على ما ذهب إليه. وظلت الصبغة الدينية ألصق بلقب "إنسي" وترتب عليها أن انفسح المجال أمام كهنة المعبودات السومرية ليكون لهم شأن فعال في أوضاع دويلاتهم وسياستها، وظلت معابدهم تنتفع بنصيب كبير من ثروات المدن وأرضها وضرائب أصحابها، حتى أصبحت بأملاكها شبه وحدات اقتصادية وإدارية قائمة بذاتها3. ومعنى هذا أن الصبغة الدينية للحكم كانت سلاحًا ذا حدين، فهي وإن ضمنت بعض القداسة للحاكم، إلا أنها كان يمكن أن تخلق أمامه منافسين أو منتفعين من رجال الكهنوت. ولهذا مال حكام المدن إلى تغليب الصبغة السياسية في سلطاتهم، وتلقب كل منهم بلقب "لوجال"، بمعنى الرجل الجليل وبما يرادف لقب ملك، واتسعت سلطاتهم المدنية على حساب سلطان الكهان، كما ظلوا من الناحية الشكلية يعتبرون ممثلين لمعبوداتهم على الأرض، ويدعون أنهم يصدرون في تصرفاتهم عن وحيهم لا سيما في فترات الحروب، ثم تركو لقب إنسي لولاتهم الفرعيين، وإن استعادوه لأنفسهم من حين إلى حين ليؤكدوا صلاتهم بأربابهم وتواضعهم إزاءهم. وظهرت لهذا التطور في سلطان الحكام السومريين أمثلة شرقية أخرى لاحقة لعصورهم، فبدأ الحكم في جنوب شبه الجزيرة العربية بنفس الصبغة وتلقب الحكام هناك بلقب مكرب ولقب مزود، ثم انتقل هؤلاء وهؤلاء إلى ألقاب الملوك وأكدوا بها الصفة الدنيوية في حكمهم. وهكذا قطع السومريون أكثر من خمسة قرون من عصر بداية الأسرات العراقي، غابت فيها الوحدة السياسية الكاملة عن آفاقهم، ولم تجمع بين مدنهم محالفات بريئة طويلة الأمد في غير القليل النادر، ومن هذا القبيل صداقة بعض حكام كيش الأقدمين لمعاصريهم حكام لجش لفترة من الزمن، وإن ظلت اليد العليا الحكام كيش في هذه الصداقة.

_ 1 عن ترجيح قراءة هذا اللقب "إنسي" عن قراءتي "إيشاكو" و"باتيسي" القديمتين: See, Falkenstein, Za, Xlii, 152 F.; F.M. Th Boehl, Maog, Xi, 37; And Anet, 267. 2 Cf. Th. Jacobsen, “Primitive Democracy In Ancient Mesopotamia”, Jnes, Ii “1943”, 172. 3 Th. Jacobsen, Jnes, 1943, 165 F.; “J. Author” The Intellectual Advemures Of The Ancient Man, 1946, 186; Frankfort, The Birth Of Civilization In The Near East, 68.

ويبدو أنه لم يكن يدفع دويلات المدن تلك إلى محاولات الترابط من حين إلى آخر، غير الرغبة في تحقيق منافع ذاتية في أغلب الأحوال، ومن هذا القبيل رغبة المدن القوية في بسط نفوذها على جيرانها، أو رغبتها في تصريف منتجاتها وتأمين سبل تجارتها عن طريق استبقاء علاقات الود مع جيرانها الذين تسلك قوافل تجارتها أرضهم وتجد أسواقها عندهم، أو رغبتها في سد مطالبها من المواد الأولية التي تتوفر في منطقة قريبة منها. ولم تتطلع دويلة منها إلى تحقيق وحدة وطنية ثابتة تستهدف الصالح العام السومري، إلا في عهود متأخرة نسبيًّا، وذلك على الرغم من أن أهلها في مجموعهم كانو يحسون تلقائيًّا بوحدة جنسهم، جنس أصحاب "الرءوس السود"، ووحدة الأرض "كالاما" التي عاشوا عليها، ويحسون بتقارب مذاهبهم التي شجعتهم على أن يتمثلوا بعض أربابهم في بعض آخر، ويتخيلوا صفات بعضهم لبعض آخر، وذلك فضلًا عن شعرهم برقي حضاراتهم في جملتها عن حضارات جيرانهم من أهل البوادي وأهل الجبال لا سيما بعد أن اتسعت ... وأخذت بثقافتهم مدن غرب الفرات ومدن شرق دجلة، وغير هذه وتلك من مدن العراق. وليس من المستبعد أن حياة اللامركزية السومرية كانت لها مزاياها الداخلية من حيث تفرغ الحكام لأحوال دويلاتهم وإلمامهم بمشاكلها نتيجة لانحصار رقعتها، فضلًا عن قربهم من رعاياهم وصلتهم المباشرة بهم؛ ولكنها من جهة أخرى زادت من فرص المشاحنات بينهم على الحدود وعلى النفوذ وحرمت أصحابها من الانطلاق الدولي بمعناه الواسع. ويمكن ترتيب ما يماثل هذه النتائج بتوجيهها إلى الإنتاج الحضاري للمدن السومرية، فقد ارتقت كل مدينة بحضارتها رقيًّا يناسب إمكانياتها. وحاولت كل منها أن تبتدع في صناعاتها وفنونها جهد طاقتها، كما يتضح مما بقي من روائع مخلفات مدينة أور وغيرها، ولكن عز عليها في الوقت نفسه، نتيجة لتفرق إمكانياتها، أن تنتج من العمائر وفنون الدنيا والدين ما يضارع العمائر والفنون المصرية التي عاصرتها فيما بين القرن الثلاثين وبين أواسط القرن الرابع والعشرين ق. م سواء في روعتها أم في ضخامتها واتساع مسطحاتها. صورت المصادر السومرية المتفرقة طرفًا من أواخر أدوار التنافس وأعنفها بين مدينتي لجش "تلو"، وأوما "تل جوخة"، وقامت كلتاهما على أحد فروع الفرات الداخلية. وبدأ التنافس بينهما على موارد الماء وحدود الزراعة، ثم تدخل للفصل بينهما "ميسيلم" أحد حكام كيش الأوائل، وكانت له صلة ما بمدينة لجش سمحت له بأن يقدم هداياه إلى ربها نين جيرسو، وربما شارك في بناء معبده، في الوقت الذي حكم لجيش فيه حاكم يدعى لوجال شاج نانشه "أو شاج أنجور"، ففرض بينهما حدودًا فاصلة بعد أن أقنعهما بأن معبودته أوحت إليه بتقرير السلم بينهما، وبأن ما أوحت إليه به كان عن أمر الإله إنليل نفسه، ثم أقام نصبًا سجل عليه قضاءه بينهما1. ولكن النزاع الحدودي بين المدينتين كان قد تطور في جوهره إلى تنافس على الزعامة والسيطرة.

_ 1 E. De Sarzec, Decouvertesen Chaldee, Pl. I Ter; Encyclopedie Photographique De L’art, I, 176; G. A. Barton, The Royal Inscriptions Of Sumer And Akkad, 1929, 2-3; Kramer, Tablets…, Ch. V.

وظهر في لجش عدد من رجال الإصلاح والسياسة1، عرف التاريخ منهم مؤسس أسرة حاكمة يدعى أورنانشه "وكان ينطق من قبل أورنينا"، نشط العمران الداخلي في عهده، وصوره فنانه في نقوش لوحة صغيرة من الحجر الجيري ومن حوله أولاده وأفراد حاشيته، يحمل فوق رأسه سلة يحتمل أنها كانت تتضمن بضعة نماذج من أدوات البناء والتعمير، أو تتضمن كمية من الطين أو التراب لضرب اللبنات الأولى في حفل إقامة مشروع جديد "قد يكون مشروعًا دينيًّا"2، ثم صوره في لوحة أخرى صغيرة "ذات ثقب مستدير في وسطها" يسير في هيئة المتعبد أو الداعي يضع يديه على أسفل صدره، ومن خلفه حاجبه بحجم صغير يرفع يديه على هيئة التحية، ثم أربعة من الأمراء أبنائه في صفين يسيرون على هيئة أبيهم، وكلهم يرتدون ثيابًا نصفية تمتد من أسفل الصدر إلى ما تحت الركبة. ومثلت الصورة الثالثة هذا الحاكم الطيب في وليمة لعله كان يحتفل فيها بإتمام مشروعه. وجاء في نصوصه أن سفنه وسفن دلمون نقلت الأخشاب الضرورية لبناء المعابد على متن النهر. ومع اتجاهه الديني امتد نفوذ أورنانشة خارج بلده وحتى مدينة أور. ثم حاكم من أحفاده يدعى إياناتم Eannatum، كان رجل الحرب في دولته، تطور التنافس في أيامه إلى دوره العنيف مع أوما، ويبدو أن حكامها ومنهم من يدعى أوش، تنكروا في عهد سلفه لمعاهدة السلام القديمة وأظهروا العدوان واحتلوا الأطراف الزراعية "جوادنا" الفاصلة بين المدينتين، فرد إياناتم لهم الصاع صاعين، وذكرت نصوصه أنه استفتى ربه في حربهم وزار معبده واستلقى فيه على وجهه، فتمثل له نين جيرسو في رؤياه ووقف عند رأسه ووعده بأن ينصره وبأن قوة بابار سوف تؤيده3. ولما تم النصر له على خصومه خلد فنانه ذكراه على لوحة تعرف اصطلاحًا باسم لوحة العقبان4، نقشت على وجهيها وبقيت منها ست قطع، صور ملكه عليها يحارب برمح غليظ وقوس وعصا معقوفة، راكبًا عربته، وراجلًا، وصور بعض جنوده المشاة في صفوف صغيرة يتترسون بتروس كبيرة يقل ارتفاعها عن قامة الرجل بقليل، ويحملون رماحهم أفقيًّا، ومشاة آخرين يتسلحون بالحراب الطويلة المشرعة والبلط، وجعل لبعض هؤلاء وهؤلاء ما يشبه الخوذ على رءوسهم، وذكر أن من استشهدوا منهم دفنوا في ساحة المعركة بعد النصر في احتفال مهيب، وصور بعض إخوانهم يحملون سلال التراب ليوسدوهم في باطن الأرض، ثم صور جثث الأعداء عارية ممددة تحت أقدام الجنود، وصور بعضها الآخر تنهشها الأسود والعقبان وصغار الطيور، وذكر أن ضحاياه بلغوا 3600 رجل. وصور الفنان ملكه يزجي الشكر لربه نين جيرسو ويصب القرابين في حضرته، وصور هذا المعبود على ظهر اللوحة على هيئة شيخ جليل يقبض بيسراه على أطراف قفص ذي شباك ارتمى فيه بعض ضحاياه

_ 1 See, E. Sollbergen, Corpus Des Insciptions Royales Presargoniques De Lagash, Geneve, 1956. 2 E. De Sarzeo, Op. Cit., Pl. 2 Bis; And See, Sumer, 1959, 21 F.; 1960, 35 F. 3 Thureau-Dangin, Les Inscriptions De Sumer Et D’ Akkad, 27. 4 Heuzey Et Thurem- Dangin, Restitution De La Stele Des Vautours; Handcock, Mesopotamian Archaeology, Fig. 27 F.; Frankfortk, The Art And Architecture…, Pls. 34-35.

وتخبط فيه بعض آخر كالأسماك، وأشهر مقمعته بيمناه كأنما يرعب بها من بقي منهم على قيد الحياة. وكأنما أحاط بهم وأوقعهم في شباكه. ووفق الفنان إلى تصوير منظره هذا وأغلب صوره الأخرى توفيقًا واضحًا بالنسبة لعصره، واتبع في تصوير بعض الجنود طريقة التصفيف الرأسي فجعل أدناهم مكانًا أقلهم ارتفاعًا وأبعدهم مكانا أكثرهم ارتفاعًا، وإن أخطأ فجعل هؤلاء الأخارى أضخم في حجومهم ممن يتقدمونهم. ولما استقر النصر لإياناتم وجنوده، أعاد تخطيط الحدود، لصالح دولته بطبيعة الحال، وأجبر خصومه على عقد معاهدة جديدة أعاد بمقتضاها النصب القديم إلى مكانه، وحفر رجاله خندقًا كبيرًا على طول الحدود وأقاموا عدة نصب على امتداده، وبنوا على جانبيه عدة مزارات لمعبوداتهم لتكون رادعًا للعدوان، ويبدو أنه كان من المفروض أن تجري المياه إلى الخندق من قنوات أوما المهزومة. وأراد إياناتم أن يخفف وقع الهزيمة على خصومه فسمح لهم باستغلال جزء من الأرض الحدودية بشرط أداء الضرائب عليها, وذكرت نصوصه أن رجاله حفروا قناة كبيرة امتدت من النهر إلى خزان متسع كبير عند مدينة لجش1. ثم شجعه نصره على مهاجمة مدن أور وأوروك وكيش وغيرها، واشتد على حكامها، وابتغى أن يكفل لنفسه السيادة على أرض سومر، وادعت نصوصه أنه تجاوز حدودها شرقًا وغربًا، ولكنه لم يتمتع بثمرة انتصاراته طويلًا، فثارت ضده أغلب المدن التي حاول إخضاعها، ولقي بعض الفشل بجنوده على حدود إلام "عيلام في إيران". ولما قضى الرجل نحبه حاول بعض خلفائه أن ينهجوا نهجه في الحرب وبسط النفوذ، فكانت لهم حروبهم على حدود عيلام وحاولوا زيادة اتصالاتهم ببلاد الشام. فقد خلفه أخوه إناناتوم الذي ذكر في نصوصه أن نانشه قد أحبته، وأن إنانا سمته باسمه، وعلمه إنكي الحكمة، ووهبه إنليل القوة، وزكاه الملك أوروسكار، حتى لقد أصبحت الأقطار الأخرى ملك يمينه وألقى الثوار تحت أقدامه - وظل مع ذلك يعتبر إنسيًا للآلهة وأقام لهم المعابد وأصلح مرافق بلده2. ولكن لم تخل الأيام من منازعات مع دولة أو ما قص خبرها أحد كتبة "إينتيمنا" "ابن أخي إياناتم" على أسطوانتين من الطين، وبدأ قصته بعلاقات المدينتين منذ أيام ميسيلم، وأنهاها باستنزال اللعنات على من يتعدوا الحدود الموسومة باسم نين جيرسو ونانشه، سواء أكانوا من دويلة أوما أم من غيرها، واستعدى عليهم ربه إنليل ودعا عليهم بأن يلقي عليهم نين جيرسو شبكته، وأن تتنزل عليهم يده الرفيعة وقدمه السنية من عل. ولم يكتف الرجل باستنزال اللعنات، وإنما تلاقى جيشه مع خصومه أهل أوما في سهل "جانا أوجيحا" ودحرهم، ثم أعاد الكرة عليهم حينما سيطر على حكمهم كاهن يدعى "إل" ذهبت آماله إلى حد الطمع في مهاجمة لجش نفسها. وتخلفت من عهد

_ 1 كان اسم القناة "هو مادشا" ويحتمل أن تكون القناة الحالية التي تتفرع من دجلة عند قنطرة كوت وتنحدر جنوبًا حتى تلو "لجش" وتسمى شط الحي. أما الخزان فكان متسعًا وأكمل في عهد ابن أخيه أنتيمنا Jacobsen, Sumer, 1969, 103 F. 2 Iraq Museum, I.M. 67842; Sumer, 1973, 29 F.

إينتيمنا آثار عدة أهمها آنية فضية ذات نقوش رائعة، ولوحة صغيرة منقوشة من الطمي المشبع بالقار، "سوف نعرضهما بعد قليل"، ونشط في إقامة المعابد وزاد من إهداءاته لها. ويبدو أن حرص الحكام على رد انتصاراتهم إلى تأييد أربابهم، وحرصهم على استفتاء وحيهم وطلب عونهم، شجع كهنة أولئك الأرباب على أن يتمتعوا بنفوذ كبير في ظل ملوكهم وعلى أن يشاركوهم قيادة الجيوش لحماية ذمار مدنهم، كما شجعهم على أن يذكروا أسماءهم إلى جانب أسمائهم، وسمحت لهم هذه الأوضاع بأن يزيدوا ثراء معبادهم ويضاعفوا التزامات السكان إزاءها، بل ويشتطوا في تحصيل نصيب وافٍ من الضرائب على كل ما كبر أو صغر حتى على جز صوف الغنم وعلى طلاق الرجل لامرأته وعلى دفن الموتى، فانضاف استغلالهم إلى استغلال ضعاف النفوس من الولاة ورجال القصر وكبار الموظفين وجباة الضرائب، بحيث قيل إن بيوت الحاكم وضياعه وبيوت حريم القصر ومزارعهن، وبيوت أطفال القصر ومزارعهم، أصبحت يتاخم بعضها الآخر وتتلو بعضها بعضًا. ومن المحتمل أن نفوذ الكهنة قد تضخم حينذاك بحيث شاركوا الحكام أهميتهم، إن لم يكونوا قد طغوا على نفوذهم فعلًا1، حتى استرجع النفوذ منهم، واسترجع الحكم الصالح في الوقت نفسه، لوجال "أوركاجينا" وقد وجه همه إلى الإصلاحات الداخلية في عهده القصير الذي لم يزد عن ثمانية أعوام، وتعمد أن يحد من دخل الكهان ويمنع الرشا ويعزل من حامت الشبهات حولهم من الموظفين، فأصدر عدة قرارات تحدث في بدايتها عن المساوئ التي سبقت عهده، وكيف كان الكهنة والموظفون يغتصبون فيها أرزاق العباد ويستغلون مزارع المعابد وماشيتها كأنما هي ملك خالص لهم، ويشتطون حتى في تحصيل أجور الدفن. وأعلن في أحدها كيف أقر ربه بأسه في قلوب ستة وثلاثين ألفًا من رعاياه، وكيف وفقه إلى أن يسير على هديه، ويعيد حرية Ama-Ar-Gi الأهلين الذين قاسوا المظالم، فخفف عن الملاحين عبودية العمل في مراكبهم لمصلحة نظار الملاحة، وخفف عن الرعاة عبودية العمل وراء الحمير والأغنام لمصلحة نظار الماشية. ولا ندري هل عني بذلك تخفيف ساعات العمل عليهم أم الحد من سلطة الرؤساء في استغلالهم. وشجع ذلك كاتبه على أن يقول إنه لم يعد هناك جانب للضرائب في عهده، وروى كيف أنه لم يسمح لشخص كبير بأن يشتري دارًا تجاور أملاكه إلا أدى في مقابلها ما يرضي صاحبها، أو يشتري جحشًا دون أن يؤدي ثمنه لصاحبه. وأعلن استعداده أمام ربه نين جيرسو لرعاية الأرامل والأيتام وحماية الفقراء من الأغنياء2. ويفهم من نصوص عهده أن إصلاحاته خفضت أجر كاهن الدفن إلى ثلاث قدور من النبيذ وثمانين رغيفًا وتيس وأريكة "؟ "، بعد أن كان يتقاضى سبع قدور و420 رغيفًا وتيسًا وعدة أرائك. وخفض مرتبات بعض الكهنة إلى النصف، وألزم العرافين في المعابد بأن يقدموا تنبوءاتهم بغير مقابل بعد أن كانوا يشتطون في فرض أجورهم عنها على الناس.

_ 1 انظر ل. ديلابورت: المرجع السابق، ص29، 162. Th. Jacobsen “Jauthor”, The Intellecual Adventures Of Ancient Man, 186. 2 M. Lambert, “Les Reformes D’unukagina”, Revue D’assyriologie, V, “1956”, 169 F.; G.A. Barton, The Royal Inscriptions, 80 F.

ومهما يكن من أمر تقدير إصلاحات أوروكاجينا باعتبارها مجرد تنظيمات إدراية أو باعتبارها بداية متواضعة لتشريعات العراق، فإنه يبدو أن عصره كان يتطلب منهاجًا آخر إلى جانب منهاج الإصلاح الداخلي، فقد ظهر في أوما عدوة لجش اللدود حاكم طموح وهو لوجال زاجيزي، استفاد من انصراف أهل لجش إلى حياة السلم، فهاجمهم بجيشه وضرب مدينتهم وأساء إلى ملكهم، وسجل أحد كتبة لجش ما أصاب بلده منه على لسان ملكه التقي، فصور كيف اعتدى رجال أوما على هياكل الأرباب وأملاكهم وكيف نهبوا مدخراتها وحرقوها، وعقب على ذلك بقوله "آذي رجال أوما لجش فاثموا في حق نين جرسو". ثم توعدهم القصاص العادل فتنبأ لهم بأنهم سوف يفقدون بأسهم، وبرر ذلك بقوله إنه ما من ذنب جناه ملكه، ملك جيرسو، ولكن الذنب كله ذنب زاجيزي، ولهذا فلن يحتمل إثمه وحده، وإنما سوف تحتمله معه ربته نيدابا "أونيسابا" فوق عنقها1. ومعنى ذلك أن الناس كما كانوا يعتقدون أم المعبودات تشارك الحكام انتصاراتهم كانوا يعتقدون أنها تشاركهم أخطاءهم أيضًا. وتجرأ زاجيزي بنصره فبدأ في تنفيذ مشروع لم يجرء أسلافه على المضي في تنفيذه، وهو مشروع توحيد المدن السومرية تحت زعامته، ونقل مركز نشاطه إلى أوروك، واعتبر نفسه ملكًا على سومر "لوجال كلاما"، "وربما سبقه إلى هذا الادعاء حاكم آخر يدعى إنشاكو شانا ولكن لم يتحقق له مدلول ادعائه"2. ولم يهمل لوجال زاجيزي الاستعانة بالدين وأربابه فادعى أن أرباب سومر رعوه ورددوا اسمه ونصبوه في هياكلهم إنسيا للبلاد كلها، وظن يعتبر نفسه كاهنًا للإله آن إله أوروك الأكبر. وكان له في نفسه رأي آخر يختلف عن رأي أهل لجش فيه، فكتب أحد رجاله يقول على لسانه بعد أن عدد صلة مولاه بأربابه "عندما عهد إنليل رب الدنيا بملكية هذه الأرض إلى لوجال زاجيزي، أقر العدالة في الأرض وغلب بأسه البلاد من مشرق الشمس إلى مغربها، وفرض الجزى على أهلها. وحقت السيادة لإنليل حينذاك من البحر الأسفل والدجلة والفرات، إلى البحر الأعلى، واستقرت أحوال البلاد في سلام، وسقيت الأرض بماء السعادة .. " ثم دعا زاجيزي لنفسه بقوله؛ أدام "الإله" عمري أمد الحياة، ونشر السلام على الأرض، وأزاد الجنود "أو الناس" بعدد حشائش الأرض ... "3. ولعله رأى أن توحيد البلاد غاية غالية تبرر ما يبذله من أجلها وما يمكن أن يلحق بالغير من أذى في سبيلها، وأنه كان في إعلاء شأن دولته إعلاء لشأن ربه إنليل، وأن حربه كانت حربًا مقدسة. ولم تقف آمال زاجيزي عند حدود بلده، وإنما تطلع إلى ما يمتد من البحر الأسفل "الخليج العربي" إلى البحر الأعلى "البحر المتوسط أو بحر قزوين؟ "، على حد قوله، وربما كانت له جهوده بالفعل في سبيل تحقيق أطماعه، لولا أن واجهته بوادر تغيير شامل سرت في أوصال بلاد العراق كلها وقضت على آماله جميعها، وكان أصحاب هذا التغيير هم الأكديون الساميون.

_ 1 Op. Cit., 90-91; Vorderasiatische Bibliothek, I, 58. 2 ل. ديلابورت: المرجع السابق - ص19. 3 Thureau-Dangin, Konigsinschriften, 219; G.A. Barton, Op. Cit., 98-99.

وتعين على السومريين منذ ذلك الحين أن منذ أواسط القرن الرابع والعشرين ق. م أن يتمهلوا مع الزمن حتى أتيحت لهم فرصة الظهور والغلبة مرة أخرى بعد أكثر من قرنين. بيد أن السومريين وإن عز عليهم التوسع السياسي الكبير خارج حدودهم، فإن حضارتهم لم يعوزها الانتشار السلمي الواسع، فمدت جناحيها عن طريق التجارة على ضفتي الدجلة والفرات، وتركت بصماتها على فنون دويلة آشور ودويلة ماري وأطراف الشام الشرقية1.

_ 1 See, M. Mallowaa, Iraq, Ix “1947”; Parrot, Syria, Xvi-Xvii “1935-6”; Revue D’assyriologie, Xxxi “1934”, 180 F.; W. Andrae, Die Archaischen Ischtartemple In Assur, Leipzig, 1922.

الفنون

الفنون: استمر عصر بداية الأسرات السومري أكثر من خمسة قرون، غابت الوحدة السياسية في أغلبها عن آفاق أهله كما مر بنا، ولهذا كان من منطق الأشياء أن تتعدد الأساليب الفنية خلاله بتعدد دويلات مدنه وتعدد أذواق أهلها وحكامها، لولا أن غياب الوحدة الفنية الكاملة عن أرض سومر لم يمنع من شيوع أساليب معينة منها على حساب أساليب أخرى من حين إلى حين، وذلك نتيجة لتبادل المصنوعات الفنية الصغيرة بين المدن، كالأختام الأسطوانية المنقوشة، وتحف المعابد مثل رءوس المقامع الرمزية وقوائم المباخر والموائد الفاخرة التي كانت تشكل بأشكال حيوانية وزخرفية لا تخلو من جمال. واستشهدنا فيما مر بنا من تاريخ السومريين بما اقتضاه سياق الحديث عنهم من دلالات مناظر النصب ونصوصها، وتطور فنون عمارة المعابد الأرضية والزقورات، وسوف نتابع الحديث في الصفحات التالية عن صور أخرى من نقوش الأختام والمقامع والأواني واللوحات الصغيرة التي شاعت في عصرهم من حيث أساليبها العامة ونماذجها الممتازة، ومختارات من تماثيل الحكام والمعبودات، فضلًا عن خصائص المساكن ومحتويات المقابر. فقد شاع في مناظر أختام الفترات الأولى من عصر بداية الأسرات السومري، أسلوب نقش تخطيطي بارز اكتفى فنانه بتصوير الخطوط العامة للأجسام، واعتمد فيه على تكرار وحدات محدودة كان يستغل ما بينها من فراغات لتصوير أشكال نباتية وتجريدية عديدة. وانعكس صدى هذا الأسلوب على نقوش الأواني الحجرية ورسوم الأواني الفخارية، وقرب في الاصطلاح الفني إلى ما يسمى باسم Brocade Style1 وكان نماذجه الأولى قد ظهرت منذ بواكير العصر الكتابي ثم اختفت حتى ظهرت ثانية في أوائل عصر بداية الأسرات السومري، ويبدو أن تجدد ظهوره حينذاك ارتبط بقرب تأثر أهله بفنون مواطنهم الأولى، أكثر من ارتباطه برغبتهم في إحياء أسلوب عراقي قديم. وتطورت نقوش الأختام بعد ذلك في أواسط عصر بداية الأسرات السومري، وتميزت بتعدد موضوعات مناظرها وتداخل صورها وتقاطع أجزائها مع بعضها البعض، واستغلال ما بينها لتصوير رءوس حيوانية

_ 1 See, Frankfort, The Art And Architecture…, 18-20, Fig. 8, Pl. 11 A.

ونباتات ورموز تخطيطية. واستحب فنانوها تصوير إخضاع الأبطال الأسطوريين للأسود، واعتادوا على تصوير أولئك الأبطال في هيئات تجمع بين رءوس البشر وأيديهم وبين أجسام وقرون الفحول. ونفذوا أشكالهم بخطوط عامة وزوايا حادة أحيانًا، وبخطوط لينة وزوايا منحنية حينًا آخر1. واستبقى بعضهم أسلوب البروكيد وزادوه ثراء بزيادة تزاحم صورة، كما زادوه حلية بترقيش بعض صوره بنقط وخطوط متقاطعة وترصيع عيونها بعجائن ملونة2، وذلك مما يعني أنه ما من أسلوب فني كان يستطيع أن يجب أسلوبًا آخر وإن طغى عليه وزاد شيوعًا عنه. ثم تخففت نقوش أختام المراحل الأخيرة لعصر بداية الأسرات السومري من تقاطع الصور، واستحبت الأشكال الممتلئة ذات الخطوط اللينة، وحاولت أن توفر الفراغات المناسبة حولها وأن تستغل هذه الفراغات في تسيجيل نصوص قصيرة أحيانًا. ومال فنانوها إلى إيثار الواقعية في منظرهم، فقللوا صور الأبطال الخرافيين، وأظهروا إلى جانبهم أبطالًا من البشر صوروهم عراة في أغلب أحوالهم، واهتموا بإبراز تفاصيل الشعور والقرون والأجنحة في صورهم3. وواصلت النقوش السومرية سبيلها على رءوس المقامع الرمزية التي اعتاد الحكام وكبار الشخصيات أن يقتنوها في قصورهم أو يهدوها إلى معابد أربابهم لعقد الصلة بين صفة المقاتلة في أنفسهم وبين رعاة الحرب من أربابهم. وعلى سطوح الأواني الحجرية والمعدنية، ومن أمتع ما يستشهد به منها نقوش آنية فضية كبيرة ذات قاعدة نحاسية أهداها اينتيمنا حاكم لجش لمعبود مدينته، ونقش فنانها على سطوحها بضعة مناظر لحيوانات أليفة وكاسرة تسيطر عليها نسور المعبود نين جيرسو ذات رءوس الأسود، ونجح كل النجاح في التعبير عن الحركة الطبيعية لبضع نعاج سمينة "أو بقرات صغيرة" باركة ترفع كل منها ساقها الأمامية وترتكز على حافر ساقها الأخرى استعدادًا للنهوض4. واستحب فنان العهد هذه الحركة فكررها على لوحة صغيرة من الطين المشبع بالقار، فصور شاة سمينة "أو بقرة صغيرة" راقدة تهم بالوقوف برفع إحدى قائمتيها الأماميتين. وعبر عن حركة أخرى لطيفة في رمز معبوده فصور نسره المهيب يطأ ظهري أسدين، وهو تصوير معتاد على آثار المعبود نين جيرسو، ولكنه صور الأسدين يتطاولان برأسيهما إلى أطراف جناحي النسر لينهشاها، على خلاف المألوف في تصوير أمثالهما، وبهذا التحوير كفل الفنان الحيوية للوحته على الرغم من خشونة سطحها. ولا يكاد يفضل هذين النموذجين، في نفس موضوعهما وعصرهما، غير نقوش لوحة مستطيلة مكسوة برقائق النحاس، شكل الفنان سطحها بالنقش البارز على هيئة نسر قائم مهيب برأس أسد يبسط جناحيه

_ 1 Op. Cit., Figs. 14 A-C, 15 A-B; Pl. 36 A-B; Heinrich, Fara, “1931”, Pls. 47 A, 65 C, 49 F., 51 F. 2 Frankfort, Op. Cit., 19, Fig. 9, Pl. 11 B. 3 Ibid, 36-40, Fig. 16, Pl. 40 4 E. De Sarzec, L. Heuzey, Decouverts En Chaldee, Pl. 43.

من على فوق وعلين يتدابران أمامه في ثقة لا تقل تعبيرًا عن تعبير مهابته، وتتفرع قرونهما على حافتي اللوحة في إتقان ملحوظ1. ومارس الفنانون السومريون تعبيراتهم الفنية القصيرة على لوحات حجرية صغيرة، مستطيلة ومربعة، ظهرت منذ أواسط عصر بداية الأسرات وشاعت في أواخره، وكانت تثبت في جدران هياكل المعابد بوصلات عن طريق فجوات صغيرة تتوسطها2، لتظل شاهدًا على ارتباط أصحابها بأربابهم، أو تثبت في جدران قاعات بيوتهم الخاصة باعتبارها لوحات تذكارية ولأغراض الزخرف والزينة. كما مارسوها على لوحات خشبية فاخرة كسوها أحيانًا بالنحاس المطروق، وشكلوا بعض صورها الصغيرة بالأصداف وطعموا إطاراتها باللازورد، وكانت من غير شك من المقتنيات الغالية في القصور، وتؤلف قطعًا من أثاثها الفاخر3. وسجلت نقوش هذه اللوحات "أو البطاقات" صورًا من الحياة المدنية والحربية في مجتمعها وذلك في حدود ما سمح به ضيق مساحاتها، فرمزت بصورها إلى المحافل الخاصة وما يدور فيها من غناء ورقص وموسيقى وشراب، وما يجري فيها من رعياة الخدم لسادتهم. ورمزت بمناظرها إلى الأعياد العامة وما يدور فيها من مباريات المصارعة والملاكمة "؟ " والرقص وتسلق الأشجار. وصورت الحكام يعودون بعرباتهم الحربية من ساحات القتال ويشرفون على إحصاء غنائمهم وأسراهم. وعبرت عن هزائم الأعداء بتصوير قتلاهم تطؤهم عجلات الحرب، وتصوير أسراهم جرحى متهالكين، وملقين على الأرض مقيدين. وأكثرت من تصوير تقوى الحكام حين يشرعون في تشييد المعابد ويتأهبون للمشاركة في وضع لبناتها الأولى، وتصوير تقوى الأفراد حين يتقدمون بقرابينهم أمام أربابهم، وحين يشتركون في أعيادهم وحين يسوقون نذورهم وأنعامهم هدايا لمعابدهم4. وظلت النصب الحجرية واللوحات الكبيرة وأصلح مما عداها لإشباع رغبات الحكام في تسجيل أخبار انتصاراتهم وآيات تقواهم وما يعتزون به من أعمالهم، وقد استعرضنا صورًا من مضمونها ودلالاتها حين الحديث عن مناظر المعبود ونصب إياناتم. وتقيدت أغلب النقوش السومرية السابقة بمبادئ الرسم والنقش الشائعة في العالم القديم، من حيث تصوير

_ 1 Hall And Woolley, Ur Excavations, Pl. 1, 6. 2 Frankfort, Op. Cit., 32-33. 3 Ibid., 34-35, Pls. 36-37; Syria, Xvi “1935”, Pl. Xxviii; T.Xx “1940”, Pl. Vi, 4; Mackay, A Sumerian Palace… At Kish, Pls. Xxxxv-Xxxvi; Frankfort, Oriental Institute Discoveries In Iraq, 1933-1934, Fig. 25. 4 E. De Sarzec- L. Heuzey, Op. Cit., Pl. 2 Bis; C.L. Woolley, Ur Excavations, Ii, Pl. 181; G. Contenau, Mxnuel…, Fig. 357; Frankfort, Sculpture…, Pl. 45, Nos. 105, 125; Pl. 108 No. 188. Pl. 109 No. 192; More Sculpture, Pls. 62, 64 B; 65, 67 No. 327.

أشكالها فوق خطوط أفقية ترمز إلى الأرضية التي تقف عليها وتضمن استواء صفوفها وتفصل بينها وبين صفوف المناظر التي تصور تحتها، "وذلك مع استثناءات قليلة غير مقصودة لذاتها تخلى الناقش فيها عن تصوير أمثال هذه الخطوط"1، ثم من حيث تصوير وجه الإنسان وجذعه الأسفل من جانب مع تصير عينه من أمام وتصوير كتفيه باتساعهما، ومن حيث تصوير الأفراد يتعاقب الواحد منهم خلف الآخر حتى ولو كانوا يسيرون في حقيقتهم في جماعات مختلطة "مع استثناءات قليلة أيضًا"، ثم من حيث تصوير الحكام بأحجام تزيد عن أحجام مرءوسيهم وأتباعهم وأولادهم أيضًا. ولم يتخفف الفنانون السومريون من بعض هذه المبادئ إلا حين تصويرهم الكائنات الأسطورية والخرافية والحيوانات والطيور، فصوروا بعض وجوهها كاملة من الأمام وصوروا أشكالها يتقاطع الواحد منها مع الآخر، كما صوروا مجموعات الجنود في صفوف أفقية متراصة أحيانًا. واكتفت أغلب اللوحات السومرية بتصوير ملامح شخوصها البشرية بخطوطها العامة، وقليلًا ما حظت بإظهار تفاصيل الجسم كعضلات الصدر والذراعين "في مثل لوحة أور نانشه". وقد يرجع طابع العمومية في صورها إلى صغر أحجامها وصعوبة تمثيل الملامح الشخصية فيها. بيد أنه على الرغم من بساطة خطوط هذه اللوحات، بل وخشونتها أحيانًا، فإنها لم تعجز في أغلب أحوالها عن إعطاء صورة واضحة عن موضوعاتها وعن هيئات أهلها وتقاليدهم في الزي والعبادة وعما كانوا يستخدمون في حياتهم اليومية من أدوات لم يتبق منها في أرضهم غير القليل النادر. وقد مهدنا بما صورته هذه النقوش من خصائص الشخصيات الكبيرة في الهيئات والملابس، في بداية حديثنا عن الجنس السومري وموطنه الأصيل "ص387 - 388". أما عن صور الأفراد العاديين فقد تميز من صورهم الطريفة ما يصور الحمالين يحملون أثقالهم على ظهورهم ويشدونها بحبال إلى جباههم2، كما يفعل بعض الحمالين الشرقيين حتى اليوم. وتميزت من صور حيواناتهم الأليفة كباش أفقية القرون "وجدت أمثالها في مصر القديمة حتى عصور الدولة الوسطى"، وأخرى ذات قرون منتصبة متفرجة، وكباش طويلة الصوف، وأبقار ذات بروز يشبه السنام فوق أعناقها "ولا تزال أمثالها موجودة حتى الآن في بعض أقطار الشرقين الأدنى والأوسط". وصورت اللوحات السومرية نوعين من العرابات: عربة صغيرة بعجلتين مصمتتين إلا من فتحة الدنجل3، وأخرى فاخرة بأربع عجلات مصمتة أيضًا يتكون جسمها من ثلاثة أجزاء: جزء أمامي ذي جانبين مرتفعين مفرغين تعلوه مظلة أو مظلتان ويخصص لوقوف صاحب العربة4، وجزء أوسط

_ 1 See, Frankfort, The Art And Architecture…, 19, Pl. 11 A. 2 Op. Cit.,… Pl. 37 Lower. 3 Ibid., Pl. 33 A; Compare Also Pl. 20 A. 4 Ibid., Pl. 36 Upper.

مربع أو مستطيل يشبه الصندوق يخصص لمرافقيه، ثم جزء خلفي منخفض مسطح يمتد بمستوى أرضية العربة ويستخدم في الصعود إلى العربة ولوقوف التابع حامل الرمح أو لجلوس السائس ووجهه إلى الخلف. ولا تختلف عربة الحرب عن العربة الخاصة عادة إلا في خلو جزئها الأمامي من المظلة، مع تزويدها بالأسلحة وجعاب السهام1. وغالبًا ما تجر العربة أربعة حيوانات صغيرة تشبه الحمير لولا أنها طويلة الذيول بما يشبه خيول السيسي الصغيرة، أو تجرها ثيران. النحت: أدت قلة المحاجر الصالحة في بلاد النهرين إلى صغر أحجام التماثيل السومرية ونحت أغلب المعروف منها من أحجار لينة مثل الحجر الجيري والألباستر، مع قلة المصنوع منها من أحجار صلبة كالبازلت أو الديوريت. وظلت تماثيل الأرباب أكبر حجمًا مما سواها، كي تعبر بضخامتها النسبية عن جلال أربابها وتدل على تقوى أصحاب الفضل في إهدائها إلى معابدها "وتختلف هذه التماثيل عن تماثيل العبادة الفعلية الصغيرة التي تصنع من مواد ثمينة أو تغشى برقائق ذهبية وما يشبهها". واحتفظت أرضية معبد تل أسمر "في إشنونا القديمة" بثلاث عشر تمثالًا لأرباب وربات وكهنة، استمر أسلوب نحتها حتى أواسط عصر بداية الأسرات السومري2. ويبدو أن الكهنة كانوا قد اكتنزوها في أرضية معبدهم خلال إحدى مرات تجديده أو خلال فترة مضطربة خشوا فيها على مقتنياته. ونحتت أغلب هذه التماثيل بخطوط جافة وزوايا حادة تشبه خطوط النقش السائدة في أوائل عصر بداية الأسرات السومري. وانصب أغلب الاهتمام فيها على تعبيرات وجوهها، فأفرغ المثالون ما كانوا يتخيلونه من رهبة أربابهم على وجوهها، وعبروا عن هذه الرهبة بضخامة الوجه وشدة اتساع العينين وتحديقهما بما يحتمل أن يعبر عن وصف المعبود بأنه بصير، أو وصف المتعبد بالانتباه والترقب لإجابة دعائه. ثم انطباقه الشفتين وكثافة شعر الرأس المجعد واسترساله على الكتفين أو على الصدر، مع اتصال شعر اللحية الطويلة بشعر الشارب واسرتسال شعرها على الصدر في تجاعيد أفقية حادة تتناسب مع خطوط الأنف والشفتين وشعر الرأس. وتضمنت هذه المجموعة تمثالين لمعبودتين، بدت إحداهما رشيقة القوام ممتلئة الوجه طويلة الجيد، يستدير شعرها حول رأسها وتلتف عباءتها حول جسدها وتترك كتفها اليمنى عارية، ولا يعيب نحت تمثالها غير شدة اتساع عينيها المستديرتين وبعض الحدة في الخطوط مرفقيها. ووضح من تماثيل الكهنة في نقس المجموعة تمثال لكاهن حليق الرأس والشارب واللحية، تتفق عيوب نحته مع عيوب تماثيل أربابه. ثم تخفف فن النحت منذ أواخر عصر بداية الأسرات السومري من زواياه الحادة، واستحب ليونة السطوح واستدارة الأركان، وحاول الفنانون أن يظهروا فيه طيات البطن ولغد الرقبة. وترسموا الأسلوب

_ 1 Op. Cit., Pl. 36 Lower. 2 Frankfort, Suclpture Of The Third Millennium From Tell-Asmar And Khafaje, Chicago, 1930; The Art And Architecture Of The Ancient Orient, 24, Pls. 13-17.

الواقعي في التعبير عن الملامح الشخصية على وجوه بعض تماثيلهم، وتفننوا في تمثيل تصفيفات الشعر وأزياء الثياب لبعض تماثيل النساء واستعانوا بإظهار البسمة الخفيفة على الشفاه للتخفيف من صلابة الوجود وللاقتراب بها من عالم الناس، ولو أنهم لم ينجحوا غير نجاح قليل في التعبير عن هذه البسمة، ولم ينجحوا في التخلص من جمود العيون وشدة تحديقها على الرغم من تطعيمهم إياها بمواد مختلفة. واحتفظت حفائر مدن تل أجرب وخفاجي وماري بمجموعة طيبة من هذه التماثيل نافست بعضها بعضًا في التعبير عن أساليب عصرها وكفاية فنانيها. وأدت التماثيل المعدنية دورها في رواج الفنون السومرية الصغرى. وتمثل أغلب ما بقي منها من مقتنيات المعابد في رموز المعبودات، وتماثيل النذور الحيوانية، وقوائم المباخر، وقواعد أواني الدهون، ومساند المشاعل، وأطراف الموائد1، فضلًا عن عدد قليل من تماثيل الأفراد وابتكر الفنانون السومريون لتحفهم تلك إشكالًا خفيفة الظل من عوالم الإنسان والحيوان والنبات، ومن أمتع ما يستشهد به منها قطعة معدينة أخرجتها حفائر أور، لعنزة "أو جدي؟ " تتطاول على شجيرة قصيرة ذات هيئة محورة وفرعين يتماثلان في أغصانهما وبراعمهما وزهورهما المعدنية القليلة، ونطل برأسها فيما بينهما. ورصع الفنان خصل شعر الغنزة الطويل بقطع من اللازورد والأصداف ثبتها بالقار على جسمها الخشبي. وارتكزت العنزة والشجيرة على قاعدة صغيرة كفتت بمعينات صغيرة يتعاقب فيها اللونان الأحمر والأبيض، وصفحت أطرافها برقائق من الفضة2. ولا يكاد يعيب تمثال العنزة في منظرها الجانبي غير قصر رقبتها بحيث تبدو رأسها مدفونة بين كتفيها، تم وقوفها ثابتة على مجمع حافريها وليس على طرقيهما بحيث بدت في وقفتها وبارتفاعها وكأنها تتطلع إلى الشجيرة أو من خلالها دون الأكل من أوراقها3. المساكن: ترجع إلى عصر بداية الأسرات أطلال أحد قصور حكام مدينة كيش، وهو قصر بُني من اللبن فوق ربوة صناعية. وبقيت من أطلاله الأجزاء السفلى من جدرانه المتماسكة، وجزء من درجه، وقواعد بعض أعمدته، ويبدو أن درجه الصاعد على سفح الربوة كان يؤدي إلى مدخل مزخرف، يليه فناء مكشوف ذو أساطين من الآجر يمتد الضوء منه إلى الغرف الداخلية المتصلة به. وقامت سقوف قاعات القصر الرئيسية على أساطين مماثلة، وزينت بعض جدرانها بلوحات من الشست طعمت بأصداف ومناظر ترمز إلى انتصارات أصحاب القصر وجانب مما كان يجري في ضياعهم الزراعية من تربية الماشية والماعز وحلبها وتربية الجداء، وقد نفذت بعض هذه الأشكال بإتقان بارع وفي حيوية لطيفة4.

_ 1 Frankfort. More Sculpture…, Pls. 54, 95; The Art And Architecture…, Pl. 29, Etc… 2 Ibid., Pl. 28 Brit. Museum, Hight, C. 50 Cm.”. 3 قارن لهذا مناظر مصرية تتضمن عنصري الشجرة والعنزة أيضًا ولكن بأشكال محررة أخرى: J. Leibovitch, Asae, Xlviii, 245 F. 4 Field Museum Anthropology Memoirs, I “1929”. وانظر بقايا أطلال قصر حكم آخر في مدينة إريدو - مجلة سومر 31 "1950".

المقابر

المقابر: لعل أمتع ما يستشهد به عادات الدفن ومحتويات المقابر، هو ما تضمنته مقابر مدينة أور1، وهي مقابر كثيرة العدد بنيت باللبن تحت سطح الأرض وقرب زقورة المدينة، وتألف بعضها من ثلاث غرف متوازية، وسقفت بعض غرفها بعقود. ومن أفضل ما بقي سليمًا منها ومن أحدثها مقبرة تنسب إلى عظيم يسمى مس كلام شار "أو مس كلام دج"، وسيدة تسمى شوب آد، ولا زال الرأي متأرجحًا بين اعتبارهما من الأمراء الحكام أو من الكهنة، وإن كان الاعتبار الأول هو الأرجح. وتضمنت هذه المقابر ما دلت به على بعض عقائد الدفن عند أهلها، وما عبرت به عن رقي الفن والصناعة ورقة الأذواق في عصرها فقد جرت عادة أصحابها الأثرياء على دفن أتباعهم معهم، من الجند والخدم والوصيفات والموسيقيات، وسائقي العربات والثيران والحمير البرية التي تجر العربات وتجر الزحافات الخشبية المستخدمة في نقل الرفات. واختلفت أعداد هؤلاء الأتباع في ست عشرة مقبرة بين الستة وبين الثمانين. ويفترض أنه كان يضحي بهم بالسم عند وفاة سادتهم، ثم يدفنون معهم مع إبقاء جثثهم في صورتها الدنيوية من حيث الملبس والزينة وأدوات الحرفة، ودفن أقربهم مكانة من صاحب المقبرة معه في حجرة دفنه، وترتيب بقيتهم في صفوف فيما بين مدخل المقبرة وبين مدخل حجرة الدفن. وليس ما يمكن تأكيده حتى الآن عما إذا كانت عادة دفن الأتباع هذه قد ارتبطت بإيمان أصحابها بحياة أخرى ودوا أن يصحبهم أتباعهم إليها ليقوموا على خدمتهم فيها. أم أنها ارتبطت بمجرد رغبة الأحياء في تكريم عظمائهم عند موتهم وتحريم خدمة أتباعهم لسادة آخرين، مع ما يقتضيه ذلك من إجبار أولئك الأتباع على التظاهر بالولاء الأبدي لأرباب نعمتهم ورضاهم بالتضحية بأنفسهم من أجلهم. أم أنها عادة ارتبطت بتقاليد دينية تتصل بعقائد العبادة والآلهة أكثر مما تتصل بأصحاب المقابر أنفسهم، كافتراض التضحية بأفراد المواكب الدينية ومنهم أصحاب المقابر أنفسهم في أعقاب أعياد رأس السنة الزراعية بعد أن يؤدي كل منهم دوره فيها، من أجل استدرار رضا الأرباب ودوام الخصب في البلاد. ووجدت فتحات في سقوف بعض المقابر دفعت أصحاب الفرض الثالث إلى الظن باحتمال مرور أنابيب فخارية فيها تصلها بأرضية معابد أو مقاصير مقامة فوقها2. وإن كان هذا الفرض الأخير لا يزال أضعف الفروض الثلاثة. وعلى أية حال، فقد دل ما دفن به أصحاب المقابر وأتباعهم من حلي وأدوات على ثراء كبير. ومن خير ما تحتفظ به المتاحف الآن من هذه الحلي والأدوات خوذ فاخرة صنعت إحداها من الذهب المطروق، وخناجر ثمينة طعمت بعض مقابضها باللازورد وكسيت إغمادها برقائق ذهبية مزخرفة، ونصال حراب ورءوس بلط رمزية، ودبابيس مذهبة وحلي ذهبية من خواتم لطيفة وأقراص مستديرة وأخرى مشكلة على

_ 1 L. Woolley, Ur Excavations, The Royal Cemetery, 1934. 2 See, S. Smith, Jras, 1928, 849 F.; F. Bohi, Az, 1930, 83 F.; A. Moortgat, Tammuz, 1949.

هيئة وريقات الزهور، وقلائد ذات حبات أبنوبية، ودلايات مشكلة على هيئات الزهور ووريقات الشجر، وعلب مزخرفة للدهون العطرة، ومجموعة ذهبية من ملقط ومثقب وملعقة دهون علقت ثلاثتها في حلقة فضية، وعصائب ذهبية، ورقعة داما مطعمة، وأباريق وصحاف نحاسية وفضية ولوحة خشبية مطعمة باللازورد والصدف صورت على أحد وجهيها مناظر حربية دقيقة، وصورت على وجهها الآخر مناظر من الحياة المدنية لملكها ويطلق عليها اصطلاحًا اسم لواء أور. ومن أمتع أدوات الاستعمال الحرفي التي وجدت في المقابر ... مكفئة فاخرة، شكلت مقدمة إحداها على هيئة رأس ثور ملتح بلغت حد الروعة في تعبيراتها ودقة تفاصيلها ودلالتها على يد بارعة متمكنة. وطعم صدر صندوق القيثارة نفسها بمناظر حفل تعتبر من أرق مناظر فنون أور في خفة الظل وجرأة التعبير. واختار فنانها شخوص الحفل من عالم الحيوان وخلع عليهم تصرفات الإنسان، فصور ذئبًا قائمًا يتمنطق بحزام يثبت فيه سكينة ويقدم بين يديه مائدة حافلة بأطايب اللحوم، ويتبعه أسد مهندم، يحمل كأسًا وقنينة شراب، وصور داخل الحفل حمارًا منهمكًا في العزف على قيثارة يقيمها له دب كبير، ويتقدمه نمس ينقر على دف ويهز الصلاصل. وصور غزالة رشيقة تنتصب على قدميها لتقدم مبخرتين أو كأسين مرمريين لمعبود بجسم عقرب. وليس ما يمكن تأكيده عما إذا كان الفنان قد اختار شخوص موضوعه لمجرد الفكاهة وإظهار البراعة في التعبير، أم قصد بها نوعًا من أنواع الكاريكاتير الهادفة، أم اختارها للدلالة على مشاركة الكائنات المختلفة في عيد من أعياد الأرباب. وعلى أية حال فقد تكررت هذه التعبيرات على ختم من نفس العصر صور أسدًا على عرش يعب من كأس يقدمها إليه وعل، ومعه ثلاثة حمير يقومون على خدمته وإطرابه1. وختم آخر من تل أسمر صور أسدًا وحمارًا يمتصان شرابًا بغابتين رفيعتين2. ولا شك في أنه كان لعصر بداية الأسرات السومري آدابه، كما كانت له عقائده وفنونه، لولا أنه لم يكتشف من نصوص هذه الآداب غير نتف نادرة3. ويبدو أن أهله تناقلوها شفاهة أكثر مما توارثوها كتابة، بحيث لم يعثر على مكتوباتها إلى بعد انتهاء عصرهم بفترة طويلة، وبعد أن قل استخدام اللغة السومرية كلغة حديثة عامة في العصر الأكدي وخلال عصر الإحياء السومري وما بعده4، مما سنعرض له في حينه.

_ 1 Lograin, Ur Excuvations, III "1936", Pl. 20 No. 3840 2 Frankfort, Cylinder Seals, 94fig.30. 3 Frankrnstein, Cople rendu.., II, 18-19, A. Barton, Miscellaneous Bobylonian Inscrip- tios, No. I. 4 Sec, W.G. Lambert, Bobyfonian Wisdom Literature, 1960, 3f.

الفصل الخامس عشر: العصر الأكدى 2340 - 2180 "أو 2371 - 2230" ق. م.

الفصل الخامس عشر: العصر الأكدى 2340 - 2180 "أو 2371 - 2230" ق. م. مدخل ... الفصل الخامس عشر العصر الأكدي 2340 - 2180 "أو 2371 - 2230" ق. م. كان الأكديون فرعًا من هجرات سامية متوالية تكاثرت أعدادها في بوادي العراق والشام قبيل منتصف الألف الثالث ق. م، ثم انشعبت فروعًا كثيرة، فكان منها ما انتشر في نواحي الشام، واتجهت آمال بعض جماعاته إلى مناطق الهلال الخصيب في سوريا، كما كان منها ما اقتربت جماعاته من نهر الفرات واتجهت آمالها نحو المناطق الخصبة بالعراق. وأسلفنا أن أصحاب الشعبة الأولى عرفوا باسم أطلقه السومريون عليهم وهو "الأموريون" ربما يعني أهل الغرب "وإن ذكرت نصوص بابلية أحد آلهتهم الكبرى باسم أمورو مما يحتمل معه نسبتهم إليه". أما الجماعات الثانية فكان أظهر فروعها فرع "الأكديين" الذين اكتسبوا اسمهم الانتساب مؤخرًا فيما يحتمل إلى العاصمة أكد "أو أجادة" التي أصبحت مركزًا لنشاطهم السياسي والحربي بعد فترة من استقرارهم بالعراق وبعد أن انتظمت أمورهم وعز شأنهم فيه. وليس ما يعرف يقينًا عن تفاصيل الظروف التي هيأت لهذا الفرع من الساميين الاستقرار في بلاد النهرين والتأثير في مجريات أمورها، ولكن يمكن القول احتمالًا بأنهم بدءوا دخولهم إليها عن طريق التسلل البطيء، حيث وجدت أسماء وكلمات سامية متفرقة في نصوص سومر منذ أواسط الألف الثالث ق. م. ومن أقدم ما أمكن ترسمه من هذه الكلمات كلمة مكر بمعنى تاجر وكلمة نانجار بمعنى نجار، فضلًا عما ورد في القوائم السومرية من تسمية بعض ملوك ما بعد الطوفان بأسماء سامية، واحتمال سبقهم بملك آخر قديم سمي ألوليم وهو اسم سامي أيضًا1. ويبدو أن تطاحن المدن السومرية في العراق الجنوبي من أجل الزعامة الداخلية صرف أنظار أهلها عما كان يجري على أطراف أرضهم، وذلك على الرغم مما ادعته نصوص زعيمهم زاجيزي السومري من أنه استطاع أن يمد فتوحه من البحر الأدنى حتى البحر الأعلى. وفي هذه الظروف المحتملة، انفسح سبيل السعي أمام أهل الهجرات الجديدة الفتية فنزلوا وسط العراق على من سبقوهم من بني عمومتهم أصحاب الدماء السامية القديمة المتناثرة، وسيطر زعماؤهم على بضع مدن سومرية النشأة كانت أهمها مدينة كيش صاحبة الأثر القديم في مجريات الحوادث بين المدن السومرية الكبيرة الواقعة إلى جنوبها، فاستفادوا من حضارتها، هي وأمثالها، وتأقلموا عليها شيئًا فشيئًا، ولم يكن

_ 1 See, A. Deimel, Die Inschriften Von Fara, I, 35, Iii, 5; Salonen, Studia Orientalia, Xi, 1,23; Falkenstein, Compte Rendu…, Ii, 13; Sumero Akkadian Interconnections, Recontre Assyriologique Internasionsie, Ix, 1960. سومر 1974 - ص65، 67 - 68.

فيما يلي على استخدام هذا الاسم الأخير لشيوعه على الرغم من تحريفه. ووجه الرجل عنايته منذ أيام حكمه الأولى إلى قواته المحاربة، وزاد الاهتمام منذ عهده بتقوية الفرق ذات الأسلحة الخفيفة من القواسة، واستخدام الأسلحة البرونزية، وارتقت في جيشه أساليب المبارزة الفردية، وذلك مما يتفق مع الأصل البدوي له ولبني جلدته في الجيش. اتخذ سرجون عاصمة جديدة قريبة من كيش عرفها التاريخ باسم أجاده "السومري" واسم أكد "السامي" أو عمر على تجديدها، ربما باعتبارها من المراكز الرئيسية لعبادة الربة إشتار "أو عشتار" التي اعتبرها راعيته منذ صغره، وكان معبدها فيها يسمى "يولماش "1، ونقل إليها بلاطه ليتميز عهده عن عهود من سبقوه شكلًا وموضوعًا، ومهد لآماله الداخلية بتلقيب نفسه بلقب "ملك "أرض" سومر وآكد" " Sharru Mat Shumeri U Akkade" بعد أن قصرت همة معاصره زاجيزي السومري على لقب ملك سومر وحدها. ثم مهد لأطماعه الخارجية بأن ادعى لنفسه لقب "شاركبرات أربعيم"، أي ملك الجهات "أو الأركان أو المناطق" الأربع2، وهو لقب اعتاد أسلافه أن يصفوا به سلطان أربابهم الكبار، فانتحله لنفسه وابتغى أن يقنع به نفسه ويقنع شعبه بأنه نائب الأرباب على جهات الأرض كلها. وطال عهد سرجون نحو أربع وخمسين عامًا، فاستطاع أن يحقق الكثير من آماله، وسارت سياسته على أساس خطة مرسومة، وبدأ بما هو أقرب إليه، فدعم سيطرته على أصحاب الرءوس السود، على حد تعبير نصوصه، ثم اتجه إلى شمال العراق حيث تقل سيطرة السومريين، وواصل فتوحه هناك حتى بلغت جيوشه جبال زاجوراس التي تحف ببلاد النهرين وكسرت حدة الجوتيين الجبليين الأشداء، بأسلحتها البرونزية، ثم عاد سرجون وألقى بثقل جيوشه على المناطق الجنوبية السومرية بعد أن سبقته شهرته وسمعة انتصاراته إليه فخضت من شوكتها، وشدد على زعيمها الطموح زاجيزي الذي طال عهده، فهدم بجيشه أسوار مدينته وقسا في معاملته حتى ذكرت نصوصه أنه أمر بتطويق عنقه وجره حتى بوابة إنليل3، ربما ليخلع عنه ألقابه الدينية والدنيوية أمام المعبود إنليل ويخلعها على نفسه، ثم هاجم بجيوشه بقية المدن السومرية الكبيرة من أمثال أور وإنينمار وغيرها، وبلغ بجيوشه البحر "أي الخليج العربي" وغسل سلاحه فيه، وحق له حينذاك لقبه الذي ادعاه لنفسه وهلو لقب ملك أرض سومر وأكد، وتوفرت لدولته الموحدة منذ ذلك الحين إمكانيات بشرية وموارد مادية ضخمة لم تتهيأ لدويلات المدن السومرية أو السامية القديمة قبل عهده، كما توفرت لها السيطرة على شرايين التجارة الرئيسية في معظم بلاد النهرين. وبقي لسرجون أمله الآخر، وهو السيطرة على ما يستطيع السيطرة عليه فيما وراء حدود بلاده، لتأمين سلامتها وتأمين سبل تجارتها الخارجية وضمان تزويدها بما ينقصها من المواد الأولية، فضلًا عن إشباع شهوة

_ 1 Th. J. Meek, Anet, 165, N. 33. 2 وأزى هذا اللقب لقب سومري تتألف كتابته من المقاطع "آن - أوب - دا - لمو - با"، ثم عبر الآشوريون عن مثله بلقب "شاركشتي" بمعنى ملك السكون. 3 G.A. Barton, Op. Cit., 101; Leo Oppenheim, Anet, 267.

المجد الحربي عنده وحب الشهرة والرغبة في الاستزادة من النفوذ والسلطان. فوجه جيوشه إلى التخوم الغربية لدولته، وبدأ بالمنطقة المحيطة بدويلة ماري "وجعل فمها واحدًا"1 أي وحده كلمتها أو وحد حكمها تحت سلطانه، ثم وجه جيوشه إلى الحدود الغربية لدولة إلام "عيلام"، حيث حالفها النصر، فترتب على ذلك أن وقفت إلام كما وقفت ماري موقف الطاعة منه على حد رواية نصوصه. وأصبح لدولته بعض الإشراف على المناطق التجارية المتصلة بالخليج العربي والقريبة منه، مثل جزيرة دلمون "جزيرة البحرين"، وماجان التي يحتمل أنها كانت تشغل ما تشغله عمان الحالية، وملوخا التي يحتمل وقوعها بين المنطقتين السابقتين. وكانت ثلاثتها من البلاد البحرية والساحلية ذات الخبرة بالملاحة وصناعة السفن، فسارت سفنها على مياه أكد، على حد قوله، أو بمعنى آخر سارت السفن المصنوعة من أخشابها وبأيدي رجالها في الفرات حتى جاوزت عصامته أكد. وأضافت نصوص سرجون، إن حقًّا وإن ادعاء، أن سلطانه امتد حتى غابة الأرز وجبل الفضة، وقد يعني هذا بلوغه منطقة أمانوس المنتجة للأخشاب والفضة "إن لم يعن منطقتي لبنان وطوروس". وذكرت أنه خاض أربعًا وثلاثين معركة وانتصر فيها2. ثم نسبت إليه نصوص خلفائه أنه غزا جانيش "أوبور شخاندا - قرب جول تبة الحالية" في كبادوكيا بآسيا الصغرى انتصارًا لجالية أكدية كانت تتعامل فيها في الصوف والفضة وتعرضت لاضطهاد أحد الحكام المحليين فيها "وهو نورداجان ملك بورشخاندا"، فأخذ سرجون بثأرها. وهاجمتها جيوشه، وقيل إن رجاله أرسلوا منها فسائل جديدة من التين والكروم والأزهار إلى بساتين عاصمته3. ولا ضرورة للتسليم بحرفية هذه الرواية وأشباهها، وإن لم تخل من دلالة على ما توافر للرجل من شهرة بين خلفائه بحيث اعتبروه أهلًا لكل أمر عظيم واعتبروا نهضة عهده أصلًا لامتداد نفوذهم الخارجي ودليلًا على قدمه. وتذكرنا نجدة سرجون في أكد لمواطنيه في آسيا الصغرى بنجدة المعتصم في بغداد المجاورة لها لمن استنجدت به من عمورية بآسيا الصغرى - مع الفارق الزمني الكبير بينهما. ذاعت شهرة سرجون إلى هذه الحدود في عالمه القديم، وذكرت نصوصه أن أهل بلاطه سكنوا فيما لا يقل عن خمسة أميال مربعة حول قصره، وأن حراس قصره بلغوا 5400 جندي كانوا يأكلون يوميًّا من أسمطنه4. وليس من شك في أن عهد هذا الرجل يعتبر نقطة تحول رئيسية في تاريخ بلاد النهرين لأكثر من سبب واحد: فهو كما رأينا كان أول من عمل على توحيد أغلبها تحت زعامة سياسة واحدة، بينما لم تزد آمال سابقيه الأقربين على توحيد أرض سومر وحدها، وهو أول من ثبت دعائم أسرة سامية حاكمة

_ 1 Brit. Mus., 26, 472; Oppenheim, Op. Cit., 266. 2 Anno Poebel, Historical Texts, 1914, 175, 178; L. Oppenheim, Op. Cit., 268. 3 Boghazkoi-Studien “Yale Oriental Series”, Fasc. 6; Albright, Jsor, 1923, 1 F. ل. ديلابورت: المرجع السابق - ص33 - وروى عن سرجون أنه وصل "أي وصل نفوذه" حتى كفتارة، وقد قربها بعض الباحثين إلى كفتورة التوراة أو كريت الحالية، وهو أمر مشكوك فيه. G. Roux, Ancient Iraq, 1966, 143. 4 Ebeling, In Alt. Texte Zum Alten Testament, 338; Oppenheim, Op. Cit., 268.

قوية استمرت تعتلي العرش نحوًا من قرن ونصف قرن. ويغلب على الظن أنه حدثت في عهده محاولة من أقدم المحاولات لتقريب أسماء الشهور في المدن العراقية من بعضه البعض تمهيدًا لتوحيد التقاويم فيها وإن لم يقدر لهذه المحاولة استمرار طويل. ولا يقل عن ذلك كله أهمية أنه وبعض خلفائه الأقربين كانوا أول من حققوا لبلاد النهرين نفوذًا خارجيًّا سيطرت به على بعض ما يجاور حدودها من مناطق وجماعات1. ومع ذلك كله انتهت حياة سرجون السياسية على غير ما توقعه لنفسه، فنشبت ضده ثورات عدة، وأيدت هذه الثورات جماهير سهل سوبارتو، وبلغ من عنف الثوار أن حاصروا عاصمته، ولكنه قاومهم بجيشه وشتت شملهم ثم انتقم من مدنهم. وعندما ابتغت نصوص خلفائه أن تجد تفسيرًا للمتاعب التي واجهها في خواتيم عمره، ردتها إلى انتقام إلهي. وذكرت أنه كان قد نكل بمدينة بابل مدينة الرب مردوك في ثورة غضبه وأزال أساساتها الموسومة باسمه ثم أعاد بناءها على هواه، فغضب مردوك عليه وابتلى قومه بالمجاعة وفرق شملهم من حوله وقضى عليه بعدم الراحة "في قبره"2. ولا يعنينا من هذا التفسير الديني إلا اعتباره صورة من تخيلات الشعوب القديمة عن أسباب زوال الدول، وبخاصة أن عبادة مردوك لم يكن لها شأن كبير في أيام وأن نصوص سرجون صورته حريصًا على التقرب من أربابه واعتبرته رئيس كهنة إشتار، والكاهن المنتخب للإله آنو ملك الأرض، والإنسي العظيم لإنليل. وذكرت أنه ركع ذات مرة في صلاته أمام المعبود داجان3، كما نصب ابنته كاهنة لإله القمر ننار في أور. لم تنته القلاقل في الدولة الأكدية بانتصارات سرجون العجوز، وإنما استمرت في عهود خلفائه واستنفذت بعض جهود دولتهم، فاشتبكت جيوش ولده " ... " في فترة حكمه القصرة مع مدن أور وأوما ولجش ودير عواصم الحضارة السومرية الأولى4. وإن كان صراع جيوشه معها لم يصرفه عن أن يؤكد انتسابه إلى أرباب مدينة "كيش" السومرية القديمة، فاستمسك بلقب "شارو - كيس شاتيم" وهو لقب وصل بينه وبين ربها "آن" وحاشيته، ولم يصرفه كذلك عن مواصلة جهود أبيه في مجالات التوسع الخارجي، فشنت جيوشه حروبًا ظافرة على أرض في عيلام5. ثم وصل خليفته "مانيشتوسو" سياسته وادعت نصوصه أن جيوشه هاجمت حلفًا من اثنين وثلاثين أميرًا على الشاطئ العيلامي لتأمين استغلال مناجم الفضة القريبة منه. غير أن أكبر من يقرنه التاريخ بسرجون من رجالات أسرته هو حفيده البعيد نرام سين "ربما بمعنى حبيب سين إله القمر" الذي أكمل آماله بعزيمة راسخة، وتوفر له عهد حكم طويل استمر نحو 36 عامًا،

_ 1 H.E. Hirsch, Die Insehriften Der Konige Von Agad, Afo, Xx, 1963, 1-82. 2 Brit. Mus. 26, 472; E. Ebeling, Op. Cit., 336 L. Oppenheim, Op. Cit., 266; F.F. Weidner, Archiv Fur Orientforschumg, Xiii “1940-1944”, 236, N. 26. 3 E. Ebeling, Op. Cit.; L. Oppenhiem, Op. Cit., 268. 4 زعمت نصوصه أن ضحايا هذه المدن السومرية بلغوا 8040 رجلًا مرة، و8900 مرة أخرى، غير أعداد الأسرى من المرتين. 5 ديلابورت: المرجع السابق - ص34. 6 V. Scheil, Map, Ii, 1-52; Risa, 129-31; G. Roux, Op. Cit., 144.

وذكرت نصوصه أن مناطق نفود دولته اتسعت شرقًا في إلام "عيلام" وشمالًا على حدود آسيا الصغرى وجنوبًا بشرق في ماجان التي استغل رجاله محاجرها الديوريتية، وغربًا حتى أمانوس "جبل الأرز". وذكرت إحدى القوائم المتأخرة التي سجلها خلفاؤه أنه قبض بنفسه على ما نودانو ملك ماجان، وافترض بعض الباحثين ومنهم أولبرايت في عام 1920 رأيًا غريبًا بعيدًا عن المنطق الزمني والمنطق التاريخي زعموا فيه أن ماجان هي مصر القديمة وأن مانودانو هو تحريف لاسم الملك مني أول ملوك عصورها التاريخية "مع أن حكم قبل عهد نرام سين بثمانية قرون". وعاد أولبرايت فاعتذر عن تورطه في هذا التخريج وأصبح رأيه غير ذلك موضوع1. ووت نصوص نرام سين أنه غلب تسعة جيوش وأسر ثلاثة ملوك وقضى على ثورة تزعمتها ضده مدينة كيش. وربما يسر للنشاط الأكدي أن يمد أطرافه إلى قرب الشام أن مصر كانت تمر حين ذاك بأواخر عصر الانتقال الأول أو بداية الدولة الوسطى، ولم تكن تبغي غير أن تؤيد روابطها بجيرانها في الخارج عن طريق الحضارة دون السيطرة والغلبة. وعلى أية حال فليس من ضرورة للتسليم بحرفية ما جاءت به نصوص نرام سين عن انتصاراته المتكررة أو توسعه المتصل، وإنما يكفي القول إنه أحيا عهد سرجون في نشاطه العسكري وسمعته الخارجية، وأن توسعه هو وجده البعيد قد ساعد على انتشار الصبغة الأكديةالسامية في صورها اللغوية والأدبية الجديدة، وبنواحيها الفنية، في بعض المناطق المجاورة شمالًا وغربًا وجنوبًا بشرق، حيث تبادلت التأثير والتأثر مع غيرها. ووجدت لوحة مدرسية تتضمن جزءًا من موضوع تاريخي باللغة الأكدية، واحتفظت مدينة ماري بنصوص ذات صبغة أكدية عتيقة، إلى جانب أمثلة قليلة أخرى.2

_ 1 See, Albright, “Mines And Naram-Sin”, Jea, Vi, 29 F.; A. Ungand, Archiv Fur Orientforscehung, Xiv, “1941-1944”, 199 F. And Compare: Sayce, Jea, Vi, 296; Langdon, Jea, Vii, 123 F. 2 I. J. Gelb, Material For The Assyian Dictionary, I, No. 172; Revue D’assyriologie, L, 1-10.

الفنون

الفنون: سجل أحد فناني نرام سين انتصاره على بعض خصومه "ملوك سودوري ولولوبو فيما وراء دجلة" على نصب تعتبر مناظره من أمتع النقوش الأكدية المتأثرة بالفن السومري حيوية وحركة، فصور فيه ملكه بجسم فارع مشدود على الرغم من لحيته الطويلة الكثة، وبقوسه المزدود وتاجه ذي القرون وصندله ذي الشرائط، يسير قدمًا برجاله ليهاجم بهم حصن أعدائه، وصور مقدمي جيشه وحملة ألويته يصعدون معه سفح التل الذي يقوم الحصن فوقه ويتخللون أدغاله "التي عبر عنها بشجرة هرمة"، فأبدع تصوير حركتهم الصاعدة وأبدع تصوير العمق بين صفيهم، وصور مبلغ أوامر الملك يأمر بها من خلفه، وصور نافخ البوق يرتكز على الأرض بيده ويشرع بوقه عاليًا ليرسل صوته قويًّا مدويًّا، وصور بعض الأعداء يتساقطون من سفح التل على أم رءوسهم، وصور بعضًا آخر يهبطون التل هبوطًا اضطراريًّا عموديًّا، وكأنه أراد أن يعبر عن التباين بين ارتقاء في جانب وبين هبوط في جانب آخر، ثم جعل غاية الركب قمة جبل عظيم تتوجه رموز مقدسة محورة قد ترمز إلى الثالوث الفلكي ثالوث القمر والشمس والزهرة.

واكتفى فنان النصب بتصوير الخطوط العامة في وجوه رجاله دون تفصيل، فيما خلا وجه الملك، ولكنه عوض عمومية ملامح الوجوه بالتعبير عن القوة الدافعة في نفوس أصحابها عن طريق تمثيل صدورهم الناهضة ورءوسهم المشرعة واختلاف المستويات بين سيقانهم خلال عملية التسلق، وصور ثيابهم رقيقة تكاد تشف عن أجسادهم على غير العادة في أغلب الصور العراقية القديمة1. وفي النحت طبعت الروح الأكدية فنون عصرها بطابعها، فنحت المثالون لملوكهم الكبار تماثيل تقرب من أحجامهم الطبيعية وشكلوها بالملامح السامية الصلبة الدقيقة. وكانوا قد ورثوا عن أواخر العصر السومري الأسلوب الواقعي فهذبوه، ومن خير ما يستشهد به من إنتاجهم الفني رأس ملكية "لعلها لسرجون؟ " صنعت من البرونز2، تخلى فنانها عن عادة التعبير باتساع محجري العينين وشدة تحديقهما عن شدة بأس الحكام ومهابتهم، وعبر عن شخصية نبيلة قبل كل شيء، فاكتفى بتمثيل العين اللوزية السامية في حجمها الطبيعي وأرخى جفنها الأعلى قليلًا، ولانت يده في التعبير عن انحدار صفحتي الخدين وامتلاء الشفتين ودقة عظام الأنف، وعني بتمثيل اللحية المرجلة ولكنه أعطاها في مجملها ملامح اللحية الطبيعية ووصل بينها وبين شعر الفودين وشعر الشارب، وترك خصل الشعر الطبيعي الممشطة تتهدل على الجبهة بعد أن سوى أطرافها، ومثل في مؤخرتها غطاء الرأس أو الخوذة الملكية، بعصابة مجدولة ذات شريط ذهبي تبرز مقدمتها قليلًا إلى الأمام على هيئة العمامة وتنعقد مؤخرتها "مع حملة الشعر" من الخلف بحلقات معدنية، وتنسدل تحتها ضفائر صغيرة تنهدل على العنق ... ومارس الفنانون مهارتهم في الحجر، وبقيت إنتاجهم عدة رءوس حجرية اختلفت فيما بينها في درجات الإجادة وسلامة التعبير3. واستفادت نقوش الأختام من الأساليب الراقية التي انتهى إليها عصر بداية الأسرات السومري، فحافظت على الخطوط الممتلئة اللينة، واستفادت من تنوع الموضوعات، ولكنها تأثرت إلى جانب ذلك بروح الكفاح في عصرها فعبرت عن مناظر الصراع الأسطورية القديمة تعبيرًا منطقيًّا يظهر الجهد والعزم والحركة ولا يعتمد فقد على تصوير البطش والهيئة المخيفة، ومن ذلك أن صورت إحداهما بطلها بجسم الفحل يعصر رقبة أسد

_ 1 See, Groenewegen- Frankfort, Arrest And Movement, 162 F. وراجع عن نصب أخرى ونقوش مختلفة من عهد نرام سين: Sidney Smith, Early History Of Assyria, 96 F. L.W. King, A History Of Sumer And Akkad, 245, Fig. 59; Geographical Journal, Lxv, “1925”, 63 F. ديلابورت: المرجع السابق - شكل 28 وص112. 2 Frankfort, Op, Cit., Pls. 42-43; Annals Of Archaeology And Anthropology, Liverpool, Xix, “1932”. 3 Frankfort, More Sculpture, Pls. 68, 72; G. Contenau, Manuel…, 685, Figs., 474-5; Bulletin Of The Fogg Museum Of Art, Harvard University, Lx “1939”, 13-18. Frankfort Op. Cit., Pl. 45 A “Brit. Mus. 91478”.

خاص، أسلوبًا قد يقبله ذوق وينفر منه آخر، وهو ترقيش جسومها ورءوسها بحبيبات وخطوط وتموجات تعبر عن الشعور والمخالب وزخارف الملابس. وتخلفت بعض وثائق المعاملات الأكدية الصغيرة، ومن نماذجها إيصال يتحدث عن مقدار من الشعير عهد به فلاح إلى تاجر ليبيعه باسمه في سوق مدينة لولوبوم "قرب السليمانية وشرق كركوك الحالية"، وسجل كاتب الإيصال صنف الشعير ووزنه بالكور1. وتقرير صغير آخر عين كاتبه فيه مقادير الغلال التي تسلمها منه شخص معين ذكره باسمه واسم بلده، وكان عليه أن يصرفها لعدد من الرجال والنساء والأطفال شهرًا بشهر لمدى أربعة شهور، وجعل نصيب رئيس العمال 120 كو شهريًّا، ولأربعة عمال 60 كو "للواحد؟ "، ولجاريتين 30 كو، ولولدين 30 كو، ولطفلين 20 كو، ولبنتين 20 كو. ثم جمع المقادير كلها في الشهر فأصبحت كورا و260 كو "والكور يساوي 300 كو"، وفي الأربعة شهور 7 كور و140 كو2.

_ 1 Th. J. Meek, Anet, 217. 2 Ibidem.

نهاية دولة

نهاية دولة: أسلفنا أنه ترتب على جهود عهد سرجون وعهد نرام سين بخاصة أن اصطبغت حضارات المناطق المجاورة لأطراف العراق بصبغة ثقافية متجانسة إلى حد ما، فوجد الخط المسماري سبيله على طول المسالك التجارية ومراكز الاستقرار المدني، بحيث عرفته بعض مناطق شمال سوريا وجنوب آسيا الصغرى وسواحل إلام "عيلام"، كما انتقلت منه إليها بعض مظاهر الدين العراقي وأساطيره. غير أن الدولة الأكدية وإن نجحت في أغراضها التوسعية والحضارية إلا أنها لم تبرأ من بذور فشلها السياسي، ولعل أهمها تأثيرًا فيها هو أن ملوكها تعمدوا محاباة العنصر الأكدي على حساب العنصر السومري، وأسرفوا في تأكيد مظاهر سلطانهم الفردي، بحيث أصبح من رجال حاشيتهم من يُسمي ولده شروكين إيلي بمعنى سرجون إلهي، وأصبح أنصار نرام سين يرمزون إليه كما لو كان إله أكد وإله بلده وصوروه بتاج الأرباب1، على حين أصبح حكام المدن في عهده يلقبون بخدم الملك أو عبيده2. وإذا كانت محاباة العنصر الأكدي قد وجدت مبرراتها لدى الحكام في منطقية استعانتهم ببني جلدتهم الساميين واطمئنانهم إلى إخلاصهم، كما برروا الحكم المركزي بما يفيد الصالح العام للدولة، إلا أن هذا التطور أدى إلى تذمر أهل المدن السومرية ذوي الحضارة القديمة والنظام اللامركزي من حكم الأكاديين، ومحاولاتهم المتكررة للانسلاخ من جسم الدولة منذ أواخر عهد سرجون نفسه.

_ 1 ديلابورت: المرجع السابق - ص175. 2 Frankfort, Kingship And The Gods, Ch. Xxi; The Birth Of Civilization, 74.

غير أن ذلك كله لم يمنع الملوك الأكديين من إظهار تقواهم وتأكيد صلاتهم بمعبودات دولتهم، سومريين وساميين، عن طريق إنشاء المعابد أو تجديدها وتوسيعها، مثلما فعلوا مع معبد إنليل في نيبور السومرية، وهو المسمى إكور، وقد تضمن إلى جانب تماثيل معبوده تماثيل أخرى لعدد من ملوك الأسرة الأكدية لتأكيد صلاتهم بمعبود المعبد من ناحية، وتكريمًا لأنفسهم في شخوص تماثيلهم من ناحية أخرى، وكانوا يخصصوا لهذه التماثيل أوقافًا للإنفاق منها على القائمين على رعايتها وتقديم القرابين أمامها. وظلت نصوص أشباه هذه التماثيل، وما كان يصحبها من النصب المنقوشة، مصدرًا لما احتفظت به نصوص العصور العراقية المتأخرة عن حوادث العصر الأكدي وتتابع ملوكه. لم تتأت الأخطار التي حاقت بالدولة الأكدية من داخلها فحسب، وإنما هددتا في الوقت نفسه أخطار حدودية تمثلت في تحركات قبائل الجوتيين الذين لا يعرف التاريخ عنهم إلا أنهم من أهل الجبال، ولعلها جبال زاجوراس أي الجبال الشرقية أو الشمالية الشرقية، وأنه من الأقاليم التي نسبوا إليها إقليم شهر زور الذي ارتبط فيما بعد باسم اللولوبيين. وقد استكانوا لجبروت الدولة الأكدية في فترات بأسها، وتعلموا من جيوشها أساليب الحرب المنظمة وعتادها، ولكنهم ظلوا متنمرين لها يتحينون الفرص للانقلاب عليها. وقد تعددت المناوشات بين جماعاتهم وبينها من حين إلى آخر، لا سيما بعد عهد نرام سين، وكانت هذه المناوشات تنتهي بانتصاراتهم حينًا وانهزامهم حينًا آخر. واستمر العاملان ينخران في جسم الدولة، الانشقاق الداخلي وتهديدات الجوتيين. واشتد الشقاق الداخلي بعد وفاة شارجالي شاري بن نرام سين أو حفيدة، بحيث تعاقب على العرش بعده أربعة ملوك في ثلاثة أعوام، واستقلت أوروك وتعاقب فيها هي الأخرى خمسة ملوك محليون فيما لا يزيد عن ربع القرن. وشيئًا فشيئًا، وفي ظل هذه الظروف، تدفق الجوتيون على أرض الزراعة بالعراق وفرضوا وجودهم على أغلب أجزائها في فترات الضعف الأخيرة للدولة، وأذاقوا أهل المدن المتحضرة القديمة الأمرين من بأسهم، ووصفهم أحد الأدباء السومريين حينذاك بأنهم وحوش الجبال الذين فتكوا بالسكان واغتصبوا النساء من أزواجهم وسلبوا الأطفال من أمهاتهم، وعملوا على فساد الحكم ونهبوا سومر ونقلوا كنوزها معهم إلى الجبال. وذلك وصف قد يتفق مع ما هو معروف عن خشونة الجماعات الجبلية، لولا أنه يصور وجهة نظر واحدة وهي وجهة نظر خصومهم. ومرة أخرى شاء أهل الدين والأساطير في نفر أن يبرروا زوال مجد أكد والأكديين فردوه إلى إثم نرام سين ورجاله في حق إكور معبد إنليل في نفر، وقصوا في رواياتهم أن إنليل كان قد أهلك كيش وأوروك وبارك في سرجون ووهبه السيادة كما بارك في أجادة "أكد" التي زاد مجدها بتدبير ربتها الحامية إنانا، فحلت الحكمة فيها كما انتشر الثراء، وبلغت أوجها في عهد نرام سين فرفع أسوارها كالجبال وكانت أبوابها مفتوحة يأتيها المارتو وهم القوم الذين لا يعرفون الغلة، وأهل ملوخا قوم الأرض السوداء، والعيلاميون

من الشرق، والسوباريون من الشمال، وكلهم يحمل هداياه كل شبر وفي مطلع العام، ثم أصبحت أبواب أجادة مطروحة ساقطة وتركت إنانا هداياهم وحل الرعب في "معبدها" أولماش وصبت نقمتها على المدينة فولت عنها السيادة وأصبحت خرابًا، وأصبح نرام سين ينعيها، وكان قد عصى إنليل سبع سنوات وأذن لجنده بمهاجمة معبده إكور فنهبوه ودمروه حتى "أصبح البيت وقد تمدد كالشاب الميت المطروح، وقطعت الغلة من الباب الذي لم تكن الغلة تنقطع عنه"، ونهبوا نفر نفسها "فهاج إنليل وقذفهم بأهل الجبال الجوتيين فعم القحط والجوع أرض سومر كلها وتفشى فيها الغلاء والوباء وتهددت بالفناء، وحينئذ إنبرى ثمانية أرباب منهم سين وإنكي ونينورتا وأوتو ونيدابا ووعدوه بتدمير أجادة عسى أن يكشف الضر عن بقية البلاد، وواجهوا أجادة ونطقوا بلعنة الخراب عليها ودعوا عليها بأن يعود طوبها إلى أصله "الطيني" في ماء العمق، وتذبح زوجاتها عوضًا عن بقراتها وتذبح أبناءها عن أغنامها، وينضب منها كل شيء .. ". وانتهت الرواية بتأكيد حدوث ذلك كله، وبأن من أراد أن يسكن أجادة لم يعد يجد فيها موضعًا للسكنى، ومن أراد النوم فيها لم يعد يجد فيها موضوعًا ينام فيه1. غير أن هذا التصوير لزوال الدولة الأكدية لم يمنع الكاتب السومري من أن يعترف بالحقيقة الواقعة التي ترتبت على زوالها وهي أنه تلاها عصر لم يكن يعرف أحد فيه الملك من غير الملك، نتيجة فيما يبدو لكثرة أدعياء الحكم وكثرة المتسيطرين من الجوتيين. ومع توالي الأيام، خفت حدة الجوتيين وخشونتهم رويدًا رويدًا، ولم يكن أمامهم وهم غير ذوي ثقافة أصيلة إلا أن ينهلوا من معين الثقافة السومرية الأكدية فاصطبغوا بها وعبدوا أربابها مع أربابهم2، ويبدو أنهم اتخذوا مدينة كركوك واحدة من مدنهم الرئيسية، ولكن المدن المتحضرة القديمة ظلت كارهة لهم وظلت تتحين الفرص لمناضلتهم ولا سيما في المناطق الجنوبية البعيدة نوعًا عن حكمهم المباشر. وبدأت هذا النضال لجش وأوروك، بل واستعاد بعض الأمراء الأكديين سلطانهم في عهدهم بحيث مد أحدهم "شدرول" نفوذ إلى منطقة إشنونا قرب دجلة. وكان نضال لجش "تلو" نضالًا سلميًّا اكتفت فيه بأن تستعيد للسومريين كيانهم ونشاطهم السلمي الذاتي في الداخل وفي الخارج، وبدأ بمسعاها ذاك في الربع الأخير من القرن الثاني والعشرين ق. م عصر جديد يسمى إصطلاحًا باسم العصر السومري الحديث أو عصر الإحياء السومري، وهو موضوع الفصل التالي.

_ 1 كرامر: من ألواح سومر - ملحق 1، ص389 - 394. Speiser, Some Factors In The Collapee Of Akkad, Jaos, 1952, 97, 101; Kramer, Anet, 646f. Also, Oppenheim, Letters From Mesopotanla, 1967, 71-72 F. 2 ديلابورت: المرجع السابق - ص37.

الفصل السادس عشر: عصر الاحياء السومرى "_25 d9_2585_25d9_2586_25d8_25b0 2125 _25d9_2582._25d9_2585"

الفصل السادس عشر: عصر الاحياء السومرى "_25 d9_2585_25d9_2586_25d8_25b0 2125 _25d9_2582._25d9_2585" في لجش ... الفصل السادس عشر عصر الإحياء السومري "منذ 2125ق. م." في لجش: استغلت لجش في نهضتها مسالك التجارة القديمة استغلالًا واسعًا لصالحها، وكان خير عهودها عهد ملكها التقي جوديا، قبيل أوائل القرن الحادي والعشرين ق. م أو أواسطه، وكان رجلًا اعتز أو اكتفى في أغلب نصوصه بلقب، "إنسي" القديم الذي تلقب به حكام لجش في عهود تبعيتهم للدولة الأكدية، وفي عهود سيطرة الجوتيين، ولكنه استعاض عن الانتساب إليهم في لقبه بالانتساب إلى سيادة ربه نين جيرسو الذي اعتبره ملكه واعتبر نفسه إنسيا له، ثم نعتته نصوص عهده بلقب "الراعي"، وقال في نقوش أحد تماثيله "أنا الراعي حبيب ملكه "نين جيرسو" طال عمري"1. ولم تذكر نقوش جوديا الحرب غير مرة واحدة مع دولة أنشان. ولكن حملت قوافل التجارة شهرته وسجلت اسمه في شمال سوريا وفي عيلام والبحرين وعمان. واحتفظت له أرض لجش بأكثر من ستة عشر تمثالًا وجزءًَا من تمثال نحت أغلبها من أحجار الديوريت، وقد تفرقت بعد الكشف عنها في متاحف العراق واللوفر والمتحف البريطاني2. وأخذت هذه التماثيل بالأسلوب الواقعي الذي بدأ نضوجه من قبل خلال العصر الأكدي، وعبرت بخطوطها المرنة عن الجنس السومري ذي الرأس العريضة، وغلبت على ملامح صاحبها وهيئاته روح التقوى والتواضع الكريم، ويبدو أن اعتبار أهل عصره نكبة الجوتيين على أرضهم غضبًا من الأرباب كان له أثره في تغليب روح التقوى في حياتهم إبان سعيهم للتخلص من غزاتهم3. وأظهرت تماثيل جوديا صاحبها جالسًا وواقفًا على هيئة المتعبد، في أحجام تقل عن حجمه الطبيعي "فيما خلا واحد منها"، وأعوزت الجالسة منها سلامة النسب بين الجذع العلوي والجذع السفلي، وبين الرأس والرقبة، ولكنها لم تخل على الرغم من ذلك من حيوية أضافها عليها صدق تمثيل ملامح وجهه العريض الحليق، وتفاصيل حاجبيه الكثيفين واتساع ما بين أنفه وشفته وامتلاء ذقنه وبروزها، وتفاصيل عمامته "أو قلنسوته" الصوفية الواسعة ذات الخصل، وبساطة ثيابه ورقة أطرافها الموشاة التي عبر الفنان عنها بتموجات خفيفة وخطوط مرسلة وزوايا منفرجة. وتخلصت بعض تماثيله الواقفة الصغيرة المنحوتة من حجر الديوريت وحجر الحية "السربنتين" من قلة التناسب بين أجزائها، وجنبته تصلب الهيئة ومثلته في وضع

_ 1 See, A. Parrot, Tello, Vingt Compagnes De Fouilles “1887-1933”, Paris, 1948 Pl.L, 2 Ibid. 3 Frankfort, The Art And Architecture…, 47.

طبيعي خاشع لطيف تكاد تشف عباءته الثمينة عن عضلات بدنه، ولم يعبها بعض الشيء غير اتساع محجري العينين واتصال الحاجبين، وهو اتساع اتصفت به أغلب تماثيل العراق. والطريف أن من تماثيله الجالسة ما تتشابه بعض تفاصيله مع تفاصيل التماثيل المصرية في عصور الدولة الوسطى وما تلاها، من حيث نقش نصوص رأسية فوق الجزء الأسفل من ثوبه، ووضع مسطح مستطيل على ركبتيه تضمن في إحدى المرات تصميمها لمعبد وتصوير لوحة "مسطرة" وقلم؛ ثم من حيث نقش اسمه داخل مستطيل على كتفه1. أقيمت أغلب تماثيل جوديا في معبد لجش الكبير، وأقيمت في فنائه عدة نصب، وتركت تحت أحجار أساسه آثار صغيرة منقوشة. واتسعت سطوح تماثيل جوديا تلك ونصبه وسطوح الصولجانات ورءوس المقامع التي أهداها إلى هذا المعبد، وإلى بقية معابد دولته، لتسجيل آيات تقواه إزاء أربابه ولا سيما نين جيرسو إله لجش الذي اعتبره ربه وملكه، واعتبر نفسه إنسيا له، روى كتبته فيها على لسانه اهتمامه باستيراد أحجار مختلفة الأنواع والألوان، ومعادن مختلفة القيم وأخشاب، عن طريق البر والنهر والبحر من أرض إلام "عيلام" وعاصمتها سوسه، ومن ماجان وملوخا، ومن كيماش وجبل الأرز وجبل الصنوبر، لصالح معبد لجش بوجه خاص، وأكد أنه التزم في تجديد هذا المعبد وبناء مقاصيره وصناعة رموز معبوده وأسلحته ما جرى به العرف القديم وما أوصى به المعبودان نين زاجا، ونين سيكيلا2. وتحدثت نقوش الرجل عن فضل أربابه في منع طغيان الفرات على أرضه. وروت أنه رأى ذت مرة في رؤياه معبوده على هيئة شيخ متوج تسمو هامته إلى كبد السماء، يحيط به أسدان وحمار رابض وشمس مشرقة، وسيدة تمسك قلمًا مع لوحة النجم السعيد، ومعبود في إهاب محارب ظهر كأنه يخطط تصميم معبد. واستفتى جوديا وحي أربابه "أو على الأصح استفتى كهنتهم" في تأويل رؤياه، فأتاه وحي ربته نينا بأن الإله المتوج هو نين جيرسو، وأن الشمس ترمز إلى ربه نين جيزيدا، وأن السيدة ذات القلم واللوحة هي نيسابا، وأن المعبود في هيئة المحارب هو نندوب، وأن الرؤيا إيحاء له بإعادة بناء معبد نين جيرسو بعد خرابه في عهد الفوضى، وأما الحمار المضجع فهو جوديا نفسه! ويبدو أن الرجل كان لا يزال بحاجة إلى آية أخرى فسوف في الأمر حتى حل القحط بأرضه فاتجه بدعائه إلى نين جيرسو، وأتاه نداء ربه بأنه إذا بدأت يمينه في تأسيس معبد فلسوف ترقى الصرخة إلى السماء من أجل الرياح والأمطار، ولسوف تسقط السماء حينئذ فيضها بعد أن يضع الرب قدمه على الجبل العالي، جبل العاصفة، ولسوف ينزل الفيضان من قمة مقدسة شاهقة الارتفاع3. وعندما تم بناء المعبد أكدت نصوص الملك حسن معاملته لمن اشتركوا في بناءه من رعاياه، وأشركتهم في ثوابه، فتحدثت عن انتفاء الضرب واللكز، وقالت إنهم كانوا يعتبرون عملهم قربانًا لربهم4.

_ 1 Frankfort, Op. Cit., Pl. 46; Parrot, Op. Cit., Pl. Xvi D. 2 G.A. Barton, Op, Cit., 181 F., 201 F., 205 F.; L. Oppenheim, Op. Cit., 268-269. 3 G.A. Barton, Op. Cit., 214-217; Lambert And Tournay, Rb, 1948, 403 F.; Ra, 1952, 81. 4 Barton, 182-183; Frankfort, Kingship And The Gods, 255.

ولم يكن جوديا، فيما تحدثت به عنه نصوصه، أقل ولاء لربات مدينته منه لأربابها، فكان من ابتهالاته للربة جاتومدو ربة لجش قوله لها: "مليكتي، بنت السماء البهية، يا من تجيبين الدعوات، وترفعين الرأس، وتهبين الحياة لأرض سومر، أنت تعرفين ما يصلح مدينتي، أنت مليكتي، أنت الأم التي أسست لجش، لا أم لي وأنت أمي، لا أب لي وأنت أبي ... ، جاتومدو ما ألذ "ترديد" اسمك"1. وتخلفت من آيات النحت من عهد جوديا مفردات أخرى، ومنها رءوس رجال حليقي اللحى والشوارب، ورءوس وتماثيل نساء بلغت الغاية في بساطة خطوطها، وسلامة تعبيراتها، وإتقان تمثيل الحلي ووشي الملابس عليها على الرغم من قسوة أحجارها2، وتمثال قد يرجع إلى عهده أو إلى العصر الأكدي، يجمع بين جسم فحل رابص ورأس إنسان ملتح يلتفت جانبًا في تناسق لطيف3، وبقايا أسود كبيرة، ورأس مقمعة رمزية مذهبة شكلت سطوحها على هيئة رءوس السباع4. وتضمنت ودائع أساسات المعابد اللجشية "لا سيما معبد نين جيرسو ومعبد إنانا" روائع معدينة صغيرة تميزت منها قطع على هيئة الأوتاد زودت بأشكال ربانية وملكية، كناية فيما يبدو عما كان الملوك يرجونه لمباني معابدهم من ثبات يتعهده الأرباب. ومن نماذج هذه الأوتاد وتد يتصل به تمثال صغير رابع لمعبود طويل الشعر واللحية يلبس قلنسوة لطيفة هرمية الشكل، أو لولبية الشكل، مائلة، ويعتلي منصة صغيرة ويرسل ساقيه منها، وقد احتضن الوتد بين ساقيه وبدا كأنما يهم بغرسه في الأرض5، ثم أوتاد أخرى احتضنها جوديا نفسه وقد حمل على رأسه سلة كان من المفروض أن تتضمن بعض أدوات البناء أو تتضمن الطين الذي كان يعتزم أن يضرب به اللبنة الأولى في أساس المعبد6. وأدت نقوش العهد دورها في تسجيل آيات الرقي الفني خلاله، وصور بعضها زقورات ذات ثلاثة مسطحات، ليس من المستعبد أن إحداهما كانت تقوم في العاصمة لجش بالذات. وجرت نقوش الأختام حينذاك على الأسلوب الأكدي، وشاعت فيها مثلها مناظر التقرب من الآلهة، ولكن روح التقوى غلبت فيها على مجرد الرغبة في الإهداء إلى الأرباب. واحتفظت نقوش أحد أختام جوديا وأحد نصبه بمنظر متماثل صور راعيه نين جيزايدا يأخذ بيده ليقدمه إلى كبير الأرباب واهب الفيضان الذي استوى على عرشه بتاجه ذي القرون، حيث تقرب جوديا إلى مولاه بآنية ينسكب على جانبيها الماء الطهور،

_ 1 A. Falkenstein, W. Von Soden, Sumerische Und Akkadiesche Hymmen Und Gebete, Zurich, 1953, 140, 173, Etc. 2 Frankfort, Op. Cit., Pl. 50, A-B, Etc.. 3 Ibid., Pl. 50 C. 4 Parrot, Op, Cit., Fig. 42 H. وانظر عن آثار أخرى من عهده: Frankfort, Op. Cit., 49 And References. 5 Ibid., Pl. 51 A. 6 Parrot, Op. Cit., Fig. 44; And See, E. Douglas Van Butren, Foundation Figurines And Offerings, Berlin, 1931.

وبدا في ضحرته متواضعًا وجلا يلبس ملفعة بسيطة موشاة الأطراف ويضع كفه تجاه فمه في هيئة التوسل والدعاء، وظهرت خلفه ربته بثوب بسيط رقيق ذي خطوط طويلة، وقد رفعت يديها إجلالًا لربها الأكبر وتشفعًا لربيبها جوديا عنده، وظهر من خلفها تنين خرافي مجنح بجسم أسد ورأس ثعبان وساقي نسر. ونجح الفنان في الحالين في تمثيل ملامح شخوصه بوضوح وفي تحقيق التناسب في صورهم وفي التمييز بين شموخ المعبود وخشوع المتعبد ورجاء الشفيع وقوسة التنين1. واحتفظت إحدى لوحات عهده بتصوير ممتع لفتى وفتاة يدقان على طبل كبير في حفل ديني. كما بقيت كأس كبيرة باسمه صنعت من حجر الحية، جسدت على سطوحها الخارجية بالنقش البارز هيئات حيوانات خرافية مجنحة قرناء تقف على سيقانها الخلفية وتمسك عمدًا ذات مقابض تشبه مقابض السيوف، وأفاع ضخمة قائمة متقابلة تلتف حول محور رأسي وقد رقشت أجسادها جميعها بقطع حجرية صغيرة وطعمت رءوسها بمواد ملونة2. وصاحب تعمير المعابد ورقي الفنون في عهد جوديا نشاط عمراني، كان من صورة الاهتمام بوسائل الري، وبقي من نصوص عهده ما يتحدث عن شق قناة نسبت إلى رب لجش وسميت "نين جيرسو أوشومجال" ويبدو أن حفرها كان عملًا ذا بال بحيث أرخ به في سنته3. وظل خلفاء جوديا يرددون ذكراه، وساعدت كثرة تماثيله في معبد لجش وكثرة الأوقاف المرصودة على قرابينها، على استمرار تبجيله أو تقديسه بعد عهده. واحتفظت فنون لجش بمستواها الرفيع في عهد "أورنين جيرسو" بن جوديا، واحتفظت له أرضها ببضعة تماثيل صغيرة ممتعة تشبه تماثيل أبيه، صوره بعضها حليق الشارب واللحية على عادة الكهان، بينما صوره بعضها الآخر بشعر طويل ولحية, واستغل الفنانون بعض قواعد هذه التماثيل لنقش صور عدد من المتعبدين يتقدمون بقرابينهم وهم جثاة4.

_ 1 ديلابورت: المرجع السابق - شكل 31 Frankfort, Op. Cit., 49. 2 Ibid., Pl. 51 B. “Louvre Archives Photographiques”, And See Iraq, I “1934,” 60 F. 3 ديلابورت: المرجع السابق ص128 4 Parrot, Op. Cit., Pl. Xxiii A-C.

في أوروك

في أوروك: وقع عبء الكفاح المسلح ضد الغزاة الجوتيين على أكتاف دولة أرورك. ويحتمل أن تكون نهضتها قد عاصرت في بعض أيامها نهضة كل من لجش وأور1. ولعلها قد استغلت موقعها الجنوبي وحاولت توحيد كلمة المدن السومرية القريبة منها تحت رايتها ضد الغزاة - وظهر من أبرز حكامها أوتو حيجال

_ 1 انظر عن احتمال معاصرة جوديا لعهد مؤسس أسرة أور الثالثة أورنمو أو ولده شولجي: Kramer, Bull. Of University Museum, 1952, 22; Orientalia, Xxiii, 1954, 6,N. 3.

الذي أعلن حرب الخلاص باسم رعاته الأرباب إنليل وإنا وجلجميش الذين استنصرهم، وواصلت قواته الزحف من الوركاء وكلاب لستة أيام، وقبضت على نائبي الجوتيين في سومر، ثم هزمت قوات الجوتيين في موقعة فاصلة قرب كركر. وأسرت ملكهم تريكان وأهله بعد أن فر هاربًا إلى بلدة دبروم، وكانت نصوص أوروك قد وصفته بالأفعى وعقرب الجبال الذي نشر العداوة والبغضاء بين أهل سومر1. واستحقت أوروك بنصرها نوعًا من اعتراف أغلب المدن السومرية بزعامتها الشكلية، لولا أن الآمال العريضة ما لبثت حتى لعبت برءوس حكامها، فسارعوا باتخاذ لقب الملك العريض، ملك سومر وأكد، قبل أن يستكملوا عدتهم له، وشغلتهم مظاهر السلطان عن مواصلة العمل الجدي، فانفلتت الزعامة الفعلية منهم إلى دولة أور.

_ 1 C.J. Gadd, A Sumerian Reading-Book, 1924, 65-73; S.N. Krame, The Sumerians, 1963, 325-326; فاضل عبد الواحد: سومر - 1974 ص47 - 57.

في دولة أور

في دولة أور: نهضت أور نهضتها ببداية أسرة حكم جديدة أسسها "أورنمو" قبيل القرن الحادي والعشرين ق. م، وعرفت اصطلاحًا باسم أسرة أور الثالثة، وتعاقب على عرش هذه الأسرة خمسة ملوك سعوا إلى استعادة الحكم الموحد، واشتهر منهم إلى جانب مؤسسها أورنمو1 ولده "شوجلي أو شاخ جي"، وبمجهود هذين الملكين بالذات خضعت كثير من المدن السومرية والأكدية لأور، وذلك مما سمح لملوكها بأن يتلقبوا بمثل لقبي سرجون الأكدي، أي "ملك سومر وأكد"، و"ملك الجهات الأربع" وإن ظل هذا اللقب الأخير بخاصة لقبًا تشريفيًّا أكثر منه لقبًا فعليًّا؛ إذ إنه على الرغم من جهود الملكين وبعض خلفائهما في سبيل توسيع الحدود، واعتراف آشور في الشمال بنفودهم الاسمي، بحيث أقام أهل مدينة إشنونا معبدًا في مدينتهم نسبوه إلى ملك أور "شوسين"2، كما أرسل أحد ملوك آشور هدية ثمينة إلى بورسين ملك أور القوي، ملك الأقاليم الأربعة3، إلا أن حجم المملكة ظل أقل بكثير مما كان عليه في العصور الأكدي. وأضافت دولة أور بضعة تجديدات في آفاق السياسة والتشريع ومجالات الصناعة والفن: فأثر لنظم الحكم الداخلية فيها أن مؤسسها أورنمو كان من أقدم مصدري التشريعات المكتوبة المعروفة في تاريخ العراق "بعد تنظيمات أوروكاجينا" حيث عثر على أجزاء من نسختين لتشريعه كتب إحديهما طالب في مدينة أور، وكتب الأخرى، طالب من مدينة نفر بعد وفاة أورنمو بنحو ثلاثة قرون، مما قد يعني أن هذا التشريع

_ 1 Bulletin Of The University, Xvii, No. 2 “1952”; Oirentalia “New Series”, Xxiii, 40 F.; Scientific American Bull., January 1953, Castellino, Az, Xviii, 1957 1-57. 2 S. Moscati, The Face Of The Ancient Orient, 1960, 26. 3 See, Frankfort, The Gimilsin Temple And The Palac Of The Rulers Of Tell-Asmar, Chicago, 1940.

جاوز صيغته المحلية وطبق في مدن أخرى ولفترة طويلة. وبدأ كاتب التشريع باختيار المعبودين آن وإنليل للمعبود ننار إليه القمر ملكًا على مدينة أور، ثم اختيار هذا الأخير "أورنمو" تائبًا عنه أو ممثلًا له يقوم مقامه على الأرض. ولعل الربط بين التشريعات وبين اختيار الآلهة وإرادتهم أو إيحاءاتهم، وهو أمر سنراه أكثر وضوحًا في تشريعات أخرى تالية، كان مقصودًا لكفالة احترام بنودها وخلع الشرعية عليها فضلًا عن تأكيد دور الملوك كوسطاء بين الآلهة وبين شعوبهم عن طريقها. وتضمنت المواد الأولى من تشريع أورنمو العبارات المعتادة عن سعي صاحبه إلى ضبط الأوزان والمكاييل وتوحيدها، ورغبته في تخليص المواطنين ممن يستغلون ماشيتهم وأغنامهم ودوابهم، وإلى أن يمنع وقوع اليتيم فريسة للثرى ووقوع الأرملة ضحية للقوى وأن لا يكون مالك الشاقل ضحية صاحب المينه "وتساوي المينه Me-Na, Ma-Na ستين شاقلا". وكان كل من المينه أو المينا، والشيقل أو الشاقل، قطعة معدينة ذات وزن معلوم تقوم مقام العملة وليست منها. وتختلف قيمتها الحقيقة باختلاف نوع معدنها. وأقر قانون أورنمو دفع غرامات على الجروح "التي لا تفضي إلى الوفاة"، فجعل غرم جرح الساق عشرة شواقل من الفضة، وغرم كسر العظام مينة من الفضة، وغرم قطع الأنف ثلثي مينه من الفضة، وغرامة كسر السن شاقلين من الفضة. وجعل التشريع العوض عن الجالية مثلها أو عشرة شواقل من الفضة أو ما يساويها من المقتنيات. وجعل حلوان إعادة العبد الآبق والجارية إلى مالكهما شاقلين من الفضة. ونص على أن من اقتحم حقلًا مزروعًا فأفسده فعليه أن يعوض صاحبه بقيمة ما أفسده، ومن أغرق حقلًا عامدًا عوض صاحبه بثلاثة كور من الشعير من كل إكو من الأرض، ومن استأجر أرضًا لزراعتها فأهملها وأصبحت بورًا عوض صاحبها بثلاث كور من الشعير من كل إكو من مساحتها. وجعل التشريع غرامة شهادة الزور15 شاقلا من الفضة. وأجاز إظهار البينة عن طريق الامتحان بإلقاء المتهم في النهر. ويبدو أن الحكمة من ذلك هي إيكال أمره إلى إله النهر إذا عجز القاضي عن إثبات التهمة عليه، فإن شاء الرب أنقذه وبرأه، وإن شاء أغرقه بذنبه. ولعل عدالة الجزاء كانت تقتضي أن يوثق المتهم ويثقل بالأحجار قبل إلقائه في الهر بحيث يكون غارقًا لا محالة، فإذا طفا ونجا اعتبر ذلك معجزة ودليلًا على رغبة الإله في تبرئته. "وذلك اعتقاد يمكن فهمه بمقارنته بما يأخذ به بعض البدو حتى الآن من امتحان المهتم عن طريق البشعة فإن احترق بها لسانه عند لمسها دل ذلك على احتمال إجرامه وإن سلم لسانه كان من أدلة براءته". وفي الأحوال الشخصية نص التشريع على أن من تزوج بكرًا ثم طلقها دفع لها مينه من الفضة، وإذا تزوجها ثيبًا وطلقها دفع لها نصف مينه من الفضة، وإذا عاشر أرملة دون عقد زواج وتركها فلا تعويض لها عنده. وألزم والد الخطيبة برد ضعف هدايا الخطيب إذا أخلف وعده له وزوجها لآخر. ونص التشريع على أن رمي زوجة آخر بالفحشاء ثم برأها امتحان النهر غرم ثلث مينه من الفضة وأن من اغتصب جارية رجل آخر وكانت بكرًا غرم خمسة شواقل من الفضة، وإذا أوقعت زوجة رجلًا في حبائلها بطرق السحر فواقعها حق عليها الذبح دونه. ونص على أنه إذا ساوت جارية الرجل نفسها بسيدتها وأهانتها "أو أهانته"

حشي فمها بالملح ونقع به. وأصبحت أغلب هذه البنود، وهي قلة من كثرة لم يعثر عليها، أساسًا لبعض ما تلاها من تشريعات1. أعيد في عهد أورنمو تسوير عاصمته ذات الهيئة البيضية التي أطلت على نهر الفرات بميناء ذات أرصفة واسعة، وحماها الماء من ثلاث جهات، وبلغت مساحتها نيفًا ونصف ميل طولًا، وربع ميل عرضًا. وامتدت حولها ضواحيها وشغلت معها مساحة قدرها نحو أربعة أميال طولًا وميل ونصف عرضًا وأطل سور المدينة من داخله على ساحة متسعة "بلغت مساحتها 400 ياردة ×200 ياردة" قامت فيها معابد المدينة الكبرى المخصصة للمعبود ننار وزوجته ننجال وحاشيتها. وبقيت أجزاء لبعض هذه المعابد حتى الآن بحالة لا بأس بها. وفي الحياة السياسية تجنبت أور إلى حد ما العوامل الوخيمة التي نخرت في كيان الدولة الأكدية من قبلها نتيجة للتفرقة بين السومريين وبين الساميين وشطر أهل البلد الواحد شطرين، فاستعانت بالعنصرين في جيشها وفي مناصب الإدارة. وجمعت بين اللغتين السومرية والأكدية في بعض الوثائق الرسمية والأدبية. وتسمى بعض ملوكها بأسماء سامية الصبغة مثل شوسين، إبي سين. ولو أن هذه السياسة لم تمنع ملوكها من انتسابهم إلى سومر أكثر من غيرها، ولا من مركزة الحكم في عاصمتهم كما فعل الأكديون من قبل، فظلت هذه العاصمة تشرف على كل كبيرة وصغيرة من شئون المدن والأقاليم، ويبدو أنها استعانت على ذلك باستحداث نظام يشبه نظام الوزارة، والعناية بنظام العدائين لتبليغ أوامرها إلى ولاة أقاليمها، واعتبرت أولئك الولاة مجرد موظفين كبار يخضعون للنقل من إقليم إلى إقليم. ولم يضح ملوك أور بالهالة المقدسة التي اكتسبتها الملكية منذ أيام الدولة الأكدية، وكان أكثرهم استمساكًا بها "شولجي" "ذلك الذي كان اسمه يقرأ دونجي ثم ظهر رأي جديد يقرأه شاخ - جي"2، وقد اختير كاهنًا أكبر للمعبودة إنانا في أوروك في حياة أبيه، وذكرت نصوصه أن الإله اختاره بنفسه3، وأطلق اسمه بعد توليه العرش على أحد شهور دولته، ورفعه أهل بلاطه إلى مرتبة الربوبية أو ما هو قريب منها ورضي هو بها بطبيعة الحال، فسمى بعضهم أولاده باسم "شونجي إيلي" بمعنى شولجي إلهي، و"شولجي باني" بمعنى شوجلي الخالق، فضلًا عن "شولجي أبي". وأقطع شولجي ابنته منطقة واسعة، فأصبحت أميرة لها. وربط بين الميول الدينية في بعض المدن الكبيرة وبين عقائد بلده عن طريق تكليف كل مدينة بنفقات قرابين معبد إله العاصمة شهرًا على الأقل من كل عام، ووقع أغلب الغرم في ذلك على مدينة لجش فتكفلت بأداء القرابين أربعة أشهر كاملة.

_ 1 E. Szlechter, Le Code D’ur-Nammu, Rev. D’assyriologie, 49, 1955, 169 F.; Kranner And Gurney, As,Xvi “1965”, 13-19; J.J. Finkelstein, Supplement To Anet, 1969, 523-26. 2 Th. Jacobsen, Bulletin Of The American Schools Of Oriental Research, 1947, 16 F. 3 ديلابورت: المرجع السابق- ص180.

وعبر كاتب سورمي عن رأي شولجي في نفسه فكتب على لسانه: "أنا الملك، كنت بطلًا في بطن أمي، أنا شولجي، صاحب البأس منذ مولدي، أنا أسد ثاقب البصر، ابن مارد، أنا ملك أركان الدينا الأربعة، أنا حامي السومريين وراعيهم، أنا بطل، رب البلاد كلها. أحب الخير وأقسي الشر وأمقت ألفاظ العداوة، أنا شولجي الملك المقتدر، أخضعت البلاد الثائرة وكفلت الأمان لشعبي ... شولجي الذي توفر له بأس السماء والأرض، ولم يكن له مثيل، شولجي الذي رعاه رب السماء"1. ولم يكن اعتداد شولجي بنفسه بغير أثر سيئ على أذهان كتبة التاريخ بعد عهده، فذكروا أنه وإن اهتم الاهتمام الشديد بمدينة إريدو التي تقع قرب شاطئ البحر، إلا أنه استولى على ذخائر معبد إساجيلا معبد بابل، فغضب بعل ولم يرض عن جثته2. وجرى خلفاء شوجلي ومنهم ولده أمرسين على سياسته في الاستمساك بهالة الملك المقدسة، وأثنت كاهنة من كاهنات لوكور على مولاها شوسين "الابن الثاني لشولجي في أوائل الألف الثاني ق. م" على ما أولاها إياه من هدايا ونعم، وصاغت مديحها في نشيد بدأته بوصف الملك بالطهر، وامتدحت أمه أبسيمتي لولادتها إياه، ثم عددت عطاياه لها بعد أن أطرته بنشيدها، وذكرت منها قلادة ذهبية وختما من اللازورد وخاتمًا ذهبيًّا وآخر من الفضة. وأكدت أن تطلع الملك إليها كان أثمن لديها من هداياه، وأضافت ان عاصمته تجثو لدى قدميه كالشبل الصغير، وترفع أكفها تضرعًا إليه، ثم نعتته بربها وحبيبها ورب بلده وحبيب إنليل, وعندما سجل أحد الناسخين المتأخرين هذه القصيدة بقلمه حرص على أن يسبق اسم شوسين بمخصص الأرباب3. واحتفظت أرض أور بعدد كبير من لوحات المكتوبة، ومنها ما تناول العلاقات الاقتصادية، ومنها ما عدد القرابين والضرائب المرصودة لإله القمر ننار، ومنها ما تناول قضايا العقارات ونقض الالتزامات4. ويفهم من طريقة تأريخ أمثال هذه اللوحات أنها كانت تؤرخ بالأعوام والشهور، وأن الأعوام ظلت تسمى بأهم حدث فيها، وقد يكون هذا الحدث وهو ولاية ملك جديد أو قيامه بمشروع جديد مثلما سمي العام الثامن عشر من حكم أرونمو باسم "العام الذي بسط أورنمو الملك السبيل فيه من أسفل إلى أعلى" وقد يفهم من هذه التعبير امتداد نفوذه فيه من الجنوب إلى الشمال. وقد يؤرخ العام بإنقاذ منطقة فيه من ضرر ما. وكان أصحاب الوثيقة يقسمون فيها عادة باسم الملك الحاكم ويشهدون عليها الشهود، ويختمون

_ 1 S Moscati, Op. Cit., 38. 2 E. Ebeling, Op. Cit., 336; Anet, 267. 3 S.N. Kramer, Anet, 496. كرامر: من ألواح سرمر - الفصل 23 - ص366 - 369. 4 Babylonica, Iii, 100 F.; C.J. Gadd, Sumerian Reading Book, 172-175; J.B. Nies, Ur Dynasty Tablets, 1920

عليها بأختامهم. ومن نماذج هذه الوثائق صلك صغير يقول كاتبه: "180 كورًا من الشعير هدية "أو نذرا" لونانا حاكم زيمودار، تسلمها أورجالاليم باسم "معبد" شولجي نانا "الكائن" على ترعة دورول. شهر شيجوركود، عام ولاية شوسين الملك المقدس"1. ثم وثيقة قرض يقول كاتبها: "120 شاقلا من الفضة، أرباحها 5 شواقل لكل 60 منها شاقل، اقترضها أداكالا من أوردولازاجا، على أن يسددها في شهر سيج وأقسم على ذلك باسم الملك". وبعد أن وقع ثلاثة شهود، أرخ الكاتب لوحته بقوله: "شهر شيجوركود في عام أنقد الملك المقدس إبي سين، سيمورو". ثم ختم المستدين على الوثيقة بختمه ثلاث مرات2. وإذا حرر المتعاقدون لوحتهم خارج عاصمتهم، أضافوا إلى اسم الشهر والعام، اسم حاكم منطقتهم، وربما اسم الموظف الذي يؤدي عمل القاضي فيها أيضًا3.

_ 1 حكم شوسين فيما بين 1981 - 1972ق. م تقريبًا. Th. J. Meek, Anet, 217; L. Legrain, R.A., Xxx “1933”, 117-125, No. 7. 2 يحتمل توقيت عهد إبي سين بما بين 1972ق. م. Th. Meek, Op. Cit.,; J.B. Nies, Op. Cit; No. 30. 3 Meek, Op. Cit.,; Gadd, Op. Cit., 173.

الفنون

الفنون: صاحب التقدم السياسي في أور نشاط معماري وتطور فني لم يبق للأسف من نماذجهما غير القليل. فقد بقيت من آثار معابد أور بقايا زقورة فخمة أقيمت في عهد أرونمو على أطلال زقورة أقدم منها نسبت إلى أيام أسرة أور الأولى1. وقد شيدت فوق ربوة متسعة تنهض في الزاوية الغربية من الحرم المقدس للمدينة وهو حرم مسور واسع ذو بوابات، وشادها أصحابها من ثلاث مسطحات أو "طوابق" متتالية تميل قاعدتها الرباعية وجدران مسطحها الأول ميلًا قليلًا إلى الداخل، وتتعاقب المشكاوات على جوانبها، وتتوجها مقصورة علوية. وشادوا بناءها من اللبن كعادة أسلافهم ثم كسوا جدرانها الخارجية بالآجر الأحمر المرصوص فوق ملاط من القار. وكان يؤدي إلى مسطحها الاول ثلاثة طرق صاعدة طويلة ذات درجات كثيرة، طريق أوسط وطريقان جانبيان. وأكملت هذه الزقورة ورصف فناؤها في عهد شولجي بن أورنمو، ثم حظيت بتعديلات كثيرة حتى جددت بعد أمد طويل من إنشائها في عهد نبوخذ نصر ثم أكملها نابو نهيد خلال العصر الكلداني المتأخر حيث كسيت المقصورة العلوية بالطوب المزجج ذي اللون الأزرق اللامع، وترجع بقاياها الحالية إلى ما بقي من هذا التجديد بعد تخربها في العصر الفارسي، ولو أن ذلك لا ينفي أنها نشأت فخمة منذ بدايتها بحيث

_ 1 Antiquaries Journal, 1925, 437 F.; 1934, Pl. Xlix; H. Lenzen, Die Entwicklung Der Zikkurrat, 47 F.; L. Woolley, Ur Excavations, Ii, 1939, Pl. 41. وانظر سومر 1961 - ص5.

كانت تشرف على مدينتها وترتفع مقصورتها عن آية عمارة دنيوية أو دينية فيها. ويفترض بعض الباحثين أن مسطحاتها كانت تتضمن أشجارًا غرست في نقط متفرقة منها. ونسب إلى عهد أورنمو معبد آخر للمعبود إنليل في مدينته نيبور "نفر" بلغت مساحة المسطح الأول لزقورته 57×38 مترًا، وكشف عن جانب من السور المبني باللبن الذي أحاط بها هي وبقية توابع المعبد. ولوحظ من التجديدات العقائدية في معباد أور أن تماثيل معبوداتها أصبحت توضع داخل مشكاوات مرتفعة يؤدي إليها درج، بعد أن كانت توضع فوق قواعدها أمام المشكاوات وليس داخلها1. وسرت رقة الطابع في نقوش العصر، وإن ظلت شواهدها قليلة هي الأخرى، ومنها عدة مناظر سلسة الخطوط نقشت على نصب كبير من الحجر الجيري أقيم باسم أورنمو بمناسبة إنشائه أحد المعابد، وبلغ ارتفاعه الأصلي نحو ثلاثة أمتار. وتكرر تصوير الملك على وجهيه بلحية طويلة وعباءة طويلة مرسلة واسعة الأكمام وقلنسوة عريضة الحافة نصف كرية، يقدم تسابيحه ويسكب قرابينه أمام ننار إليه القمر وحامي أور وزوجته الربة ننجال وغيرهما من الأرباب أصحاب العروش والتيجان ذات القرون، يتبعه ولي عهده أو كبير أتباعه في وضع ابتهال خاشع حي. ورفع بعض أولئك الأرباب بيمينه حلقة وعصا، يحتمل أنهما كانا من أدوات قياس المعبد في بداية بنائه. غير أن أطراف مناظر النصب هي تصوير أرونمو ينقل بعض أدوات البناء، وقد سلكها في عصا رفعها على كتفه على نحو ما يحمل الراعي زاده في عصاه، وتبعه تابع يعاونه في حملها، ثم تصوير سلم خشبي كبير في وضع مائل مجسم خلال مرحلة من مراحل البناء، وتصوير معبودة مجنحة تطل من بين السحب تصب ماء من قدرها كأنها ملاك2 ... وثمة منظر على ختم يصور إبي سين ملك أور حليق اللحية برداء ذي ثنيات عريضة مزركشة يرسل أطرافه على ذراعه ويقيم بأطراف أنامله آنية دقيقة تلقاها من كاهن يواجهه في أدب وبساطة، أو يهديها إليه. وبدت ملامح الرجلين، على صغر صورتيهما، هادئة سمحة متفائلة بما يناسب الموقف أو المنظر الذي صورا فيه3. وجارى فن النحت فن النقش في تطوره. وبقيت من نماذجه عدة رءوس نحت بعضها من الديوريت ونحت بعضها من الألباستر، وطعمت بعض عيونها بالمحار الأبيض واللازورد الأزرق، ممايعني أن الأحجار المناسبة للنحت كانت تستورد من أجله بخاصة، وقد بذل الفنانون فيها جهدًا ملحوظًا لإظهار تعبيرات الوجوه ومسطحات عظامها وهيئات الشفاة، وتصفيفات الشعر للرجال والنساء، وتفاصيل أغطية الرأس التي كان منها الشال والعقال للرجل والعصابة للمرأة، وإن ظلت العيون فيها جميعها جاحظة متسعة.

_ 1 Frankfort, The Art And Architecture…, 69. 2 Leo Legrain, “The Stele Of The Flying Angles”, Museum Journal, Xviii “1927”, 75 F. 3 Frankfort, Op. Cit., Pl. 54 A.

ومن أمتع ما بقي من هذه الرءوس، رأسان تعتبران من روائع الفن الواقعي في عصرهما، إحداهما لأنثى "أو معبودة" نضرة الوجه زادت من حلاوتها نقاوة حجر المرمر الذي قدت رأسها منه، وقد انسابت جدائل شعرها على كتفيها من تحت عصابة رأس سميكة ملفوفة. والرأس الأخرى من الفخار لرجل ملتح يرتدي عمامة هرمية لطيفة فوق رأسه1. واحتفظت أور بمقابر بعض أمرائها وأثريائها، وشابهت ... المقابر في أسلوبها طرز المقابر القديمة التي سبقت العصر الأكدي فيها، وتميزت عمارتها ببناء سقوف حجرات دفنها على هيئة عقود مقبية أو على هيئة الهرم الناقص، مع استخدام الدبش فيها. وما من شك في أنها كانت تتضمن، مثلما تضمنت المقابر السابقة عنها، ما تعبر به عن ترف حياة أصحابها ورقة أذواق عصرهم.

_ 1 Op. Cit., Pl. 54 B-C.

من الأدب السومرى

من الأدب السومري: احتفظت ألواح الألف الثاني ق. م وما بعده بآداب سومرية الصبغة والأسلوب، نسخها أصحابها عن أصول قديمة، وصعب تحديد عهود هذه الأصول تحديدًا مقنعًا، ولهذا لا نرى من بأس في أن نستشهد هنا بعدد منها خلال الحديث عن عصر إحياء الحضارة السومرية باعتباره عصر بلوغها ذروة نضوجها، دون أن ينفي ذلك احتمال تأليف بعضها قبله بكثير واحتمال تأليف بعضها بعده بقليل. وتضمنت تلك الآداب قصصًا وملاحم وأساطير ومحاورات دنيوية ودينية، كانت من أشهرها قصة الطوفان، وملاحم إينمركار، ولوجال بندا، ومغامرات جلجميش، ونزول الربة إنانا إلى العالم السفلي، ومحاورة الفلاح والراعي، ومحاورة الصيف والشتاء، ... ، وذلك فضلًا عن أمثال سائرة، ونصوص تعليمية تصور حياة الدراسة وتصور مواد التدريس، واشتركت هذه وتلك مع غيرها من الآداب القديمة في ملامح عامة، مثل غلبة الطابع الديني عليها، وكثرة استخدامها الرمز للتعبير عن الفكرة والحادثة، وكثرة التكرار اللفظي الذي يناسب الإلقاء والإنشاد أكثر مما يلائم القراءة، وصعوبة التمييز فيها بين ما هو شعر وبين ما هو نثر. ثم تميزت من ناحيتها بخصائص معينة ظهرت فيها أكثر مما ظهرت في غيرها، ومنها بداية بعض قصصها ومحاوراتها بملخص يمهد لها، أو بمقدمة ميثولوجية تكسبها نوعًا من القداسة. تخلف من قصة الطوفان السومرية أقلها1 وصور هذا القليل زمنًا بعيدًا خلق فيه آن وإنليل وإنكي ونينهورساج البشر "أصحاب الرءوس السود"، والنباتات والحيوانات، وتكاثر الخلق والكائنات ونزلت الملكية من السماء إلى الأرض، حيث بدأ العمران من خمس مدن أشرف الإله آن "أو إنليل" على إنشائها في مواضع طاهرة وسماها بأسمائها، وهي: إريدو ... ولاراك وسيبار وشوروباك، وخصصها لعبادة خمسة من الأرباب والربات. ثم قضى بأن يغمر الفيضان الأرض لأمور لم تحتفظ بها السطور الباقية من القصة، وأعلن قضاءه في مجلس الأرباب، فدب الذعر في قلوبهم لا سيما ننتو وإنانا، وقلوب الملوك المقدسين. وكان أشدهم اهتمامًا به المعبود إنكي الحكيم رب مياه الأعماق، وملك صالح يدعى زيو سدرا. وأراد إنكي أن يخبر زيوسدرا باليوم الموعود بطريق غير مباشر، فأوحى إليه بأن يقف بجوار جدار مقدس وأن يستمع منه إلى صوته، وأتاه الصوت قائلًا: "سوف ألقي إليك كلمتي، فاستمع لأمري. بقضائنا سوف "يكتسح" الفيضان مراكز العبادة ويقضي على سلالة البشر. ذلك قرار مجلس الأرباب، وقضاء آن وإنليل ... ".ويبدو أنه نصحه بأن يبني سفينة كبيرة وينقل إليها ما تستطيع أن تحتمله من المخلوقات ... ، فصدع بأمره وعمل بنصيحته.

_ 1 بقي من ألواحها ثلث لوح وجد في نفر، كتب في العصر البابلي عن أصل سومري قديم. 2 Kramer, Anet, 43 F. “And References; M. Civil, The Sumerian Flood Story, Atrahasis, 1969; W.G. Lambert Babylonian Wisdons Literature, Exford, 1960, 92 F.; Civil Et Biggs, Ra, Lx, 1-5; R.D., Biggs, Anet, 1969, 594-5. وراجع ص401 وحاشية 3.

وفي اليوم الموعود هبت الأعاصير هبة عنيفة وأطاحت بالعواصم ومراكز العبادة وصحبها فيضان كاسح، واستمر ذلك سبعة أيام وسبع ليال اكتسح الفيضان الأرض فيها ودفع السفينة قدمًا ... وبعد فترة ما بزغ المعبود أوتو رب الشمس فأنار السماء والأرض، وفتح زبوسدرا فتحة في جدار سفينته وتطلع منها فرأى أشعة أنوار ربه، وعلم بصفحه، فركع وضحى من أجله بفحل وشاة: كما استرضى بقية الأرباب الكبار. ونادى آن وإنليل: "نسمة السماء ... نسمة الأرض"، فظهرت الخضرة على الأرض من جديد ونما النبات، ووهب الرب الأكبر زيوسدرا حياة سرمدية، فعاش في أرض العبور أرض دلمون، دار الشروق على البحر، وكان خلوده سببًا في الحفاظ على النبات وعلى سلالة البشر والاحتفاظ بأسمائهم. ويحتمل من سياق لوح صغير أن زيوسدرا كان قد تلقى الحكمة عن أبيه شوروباك أحد ملوك ما قبل الطوفان، وورد في وصاياه أنه شوروباك بن وبرتوتو، وكان من قوله لولده: نصيحة أقدمها لك فتقبل نصيحتي، وكلمة أقولها لك، فأعرها سمعك، ولا تهمل وصيتي ولا تتعد كلمتي. وقوله: لا ينبغي اقتناء حمار مزعج النهيق، ولا ينبغي زراعة حقل على الطريق1. وحظي جلجميش ملك أوروك2 بنصيب كبير من القصص السومري، وترتب على كثرة ما كتب أن ظهرت له صورتان، صورة احتفظت له بشجاعته وجرأته ولكنها لم تأب أن تعترف بتسليمه بالأمر الواقع حين يتبين عجزه أمام عدوه، وصورة أخرى جعلته مغامرًا مغوارًا لا يهن له عزم ولا يشق له غبار مهما واجهه من المصاعب. وظهر جلجميش في صورته الأولى حاكمًا على مدينة أرورك ولكنه كان بمدينته أقل منزلة من أجا ملك كيش التي أكدت الأساطير السومرية أنها كانت أول مدينة نزلتها الملكية بعد الطوفان، وربما كان تابعًا له، وبيدو أن أجا هذا اشتط ذات مرة في طلب الجزى منه، فثارت نفس جلجميش وابتغى أن يرفع النير عن بلده، فجمع شيوخ المدينة ودعاهم إلى امتشاق السلاح ضد كيش، ولكنهم آثروا السلامة مع الخضوع ولم يستجيبوا له، فلم ييأس وأعاد الكرة على جمهور شعبه فاستجاب الناس لدعوته وهللوا له وعز عليهم أن تخضع مدينتهم لعدو، وفيها إيانا معبد آن الذي نزل من السماء وأقامه الأرباب الكبار بأنفسهم حتى أصبحت جدرانه تلامس السحاب ...

_ 1 ذكرت النصوص الإغريقية للعصور المتأخرة زيوسدرا باسم Xisouthros واعتبرته خلفا للملك Otiartes - تحريفا للاسمين القديمين. 2 كرامر: من ألواح سومر - لوحتا 61 - 62، ص434 - 435.

واشتدت عزيمة جلجميش بتأييد شعبه، فنادى على تابعه وصديقه إنكيدو أن يدع أدوات الفلاحة جانبًا ويمتشق سلاح الحرب، وبلغ ذلك سمع أجا ملك كيش فخرج بجيوشه وحاصر أوروك. واستنفر جلجيمش من رجاله من يستطيع مواجهة أجا، فنفر له بطل يدعى بيرهور توري، ولكنه ما كاد يخرج من بوابة المدينة حتى تكاثر الأعداء عليه وأسروه واقتادوه إلى ملكهم فلم يهن عزمه أمامه واستمر يشيد بمولاه جلجميش وشجاعته. وصعد جلجميش على أسوار المدينة فخشي عليه رجاله، وخرج تابع إنكيدو يرقب البوابة. ولما رأى جلجميش عقم المقاومة وكثرة العدو سلم بالأمر الواقع، فنادى أجا وامتدحه وعظمه، مداراة له وخضوعًا للأمر الاقع، فرق له قلبه ورفع الحصار عن مدينته وشكره على أدبه وأمنه على بلده. سجلت هذه الأسطورة على إحدى عشرة لوحة صغيرة في فترة ما من الألف الثاني ق. م، ورأى ياكوبسن وكرامر في استشارة جلجميش لجماعة الشيوخ ثم جمهور الشعب نوعًا من أساليب الديموقراطية القديمة واعتبرا الجماعتين أشبه ببرلمان من مجلسين للشيوخ والشباب1. ولو أنه ليس من ضرورة للأخذ بحرفية هذا التخريج لأن القصة لا تحتمله. وظهر جلجميش في صورته الأخرى يتحدى الموت ويحاول أن ينتصر عليه باكتساب شهرة فذة تخلد ذكره. وتخير مجال هذه الشهرة في أرض الأحياء أرض الأرز "هوروم" ليأتي ببعض أشجار أرزها إلى أوروك رغم أنف حاسرها المخيف هواوا. واستفتى جلجميش أوتو رب الشمس وصاحب هذه الأرض فيما انتواه، وصور له قلقه من البقاء في مدينة يموت الإنسان فيها ويُفنى دون ذكر يخلده، فأشفق أوتو عليه من وعورة الطريق ومخاوفه، ولكنه بكى واستعطفه، فرق له واعتبر دموعه قربانًا له ووعده العون. واصطحب جلجميش صديقه وتابعه إنكيدو، وجمع خمسين متطوعًا من الشبان الأعزاب الذين لا أم لهم ولا دار، حتى لا يشغلهم عن مهمتهم شاغل من الأهل وتسهل عليهم المغامرة. وقطع معهم الجبال السبعة التي تفصل بين أوروك وبين الأرض الموعودة ولما بلغها حاول صديقة إنكيدو أن يثنيه عن دخلوها وخوفه أهوالها، وذكره بحزن أمه عليه إن لقي حتفه فيها، فأقسم أبيه وأمه أنه لن يتراجع حتى يقاتل ذلك الكائن هواوا سواء أكان بشرًا أم إلهًا. وذكرت القصص أبا جلجميش باسم لوجال باندا وذكرت أمه باسم نينسون، وكانت أكثر احتفاء بها فوصفتها بالحكمة ودلتها النصوص الآشورية المتأخرة باسم نيسونا. وواصل جلجميش مغامرته حتى بلغ قصر هواوا الأرزي، وبعد أن قطع سبع شجرات وتركها إلى رجاله، اقتحم قاعة هواوا وهدده فيها ثم مال إلى أن يعفو عنه بعد أن ظهر عليه، ولكن إنكيدو خوفه عاقبة العفو عنه وشجعه على قتله وقطع رقبته. وليس من المستبعد أن هواوا هذا كان اسمًا رمزيًّا لزعيم أو جماعة عمل أو عملت على حرمان.

_ 1 Th. Jacobeen, “Primitve Democracy In Ancient Mesopotamia”, Jnes, 1945; Kramer, American Journal Of Archacology, 1949.

العراقيين من الحصول على أشجار الأرز من غابات لبنان واحتكرته دونهم فنسبت الأسطورة تحطيم هذا الاحتكار وأهله إلى مجهود بطلها العظيم جلجميش. واحتفظت الألواح السومرية بأسطورتين أخريين قصيرتين لمقاتلة الأبطال لكائنات خرافية شريرة، تضمنت أولاهما مقدمة قصة جلجميش وإنكيو. وكان بطلها المعبود إنكي الذي أراد أن يثأر من الوحش كور لاختطافه الربة إرشكيجال واغتنامه إياها لنفسه في عالمه السفلي، فتتبعه في قاربه، وأخذ كور يرشق سفينة إنكي بالأحجار ويضرب قاعدتها ويسلط مياه البحر على مقدمتها، ولم تعرف نهاية هذه الأسطورة ولكن يبدو أن إنكي انتصر فيها وأيد انتصاره بتحكمه في مياه الأعماق وتسميته بإله آبسو1. وكان بطل الأسطورة الثانية "نينورتا" رب الرياح الجنوبية وابن إنليل "رب الهواء" وتنماخ التي لقبت بلقب " ... خرساج" ربما بمعنى ربة الجبل، وكان خصمه هو "أسج" "شيطان المرض القاطن في كرر، فتغلب عليه بعد جهد كبير، ولكن حدث بعد أن قضى عليه أن طغت المياه "المالحة؟ " الحبيسة تحت كور على سطح الأرض وغطت على مياه الأنهار، وأشاعت القحط، وظلت كذلك حتى عمل نينورتا على تكديس الأحجار فوق كور وجعل منها سد حجز به تلك المياه العظمى، وصرف ما غمر البلاد منها إلى نهر دجلة "؟ " وأزاح عن البلاد ما أصابها من كرب ومجاعة2. ومن طبعات الأختام التي صورت قتال الأبطال للكائنات الخرافية ختم من أور صور البطل فيه بهيئة بشرية وصور مساعده على هيئة رجل برأس ثور. وطرق السومريون فن الحوار الذي يقوم على التفاخر، وعادة ما يكون طرفاه اثنين من الأرباب أو من الحيوانات أو من الأشجار، أو يقوم على التقاضي أمام معبود أو عدد من الأرباب3. ومن نماذجه حوار اشترك فيه أربعة: أوتو رب الشمس وأخته إنانا ورب الرعاة دوموزي ورب الزارعين إنكيمدو. وهو حوار يبدو أن مؤلفه أراد أن يعبر به عن فصل من فصول الصراع الدائم في العراق بين أهل البادية وأهل الحضر، وأضطرار الزارعيين إلى قبول الرعاة في أرضهم عن تراض في بعض الأحيان وعلى مضض في أغلب الأحيان. ولا يخلو الجزء الباقي من هذا الحوار من تكرار وسذاجة، ولكنه لا يخلو من طرافة على أية حال، ويمكن تلخيصه على النحو التالي: تقدم الراعي والفلاح لخطبة العذراء إنانا، ورغبها أخوها أوتو في قبول الراعي دوموزي وأغراها بكثرة ما لديه من اللبن والشحم والدسم، فأبت إلا زواج الفلاح. وقالت لأخيها لن يتزوجني الراعي ويطويني في ثوبه الصوفي، وسيتزوجني الفلاح الذي ينمي النبات ويزرع الحبوب.

_ 1 كرامر: من ألواح سومر - الفصل 20 - ص284 - 286. 2 نفس المرجع: ص286 - 289. 3 L. Woolley, Ur Excavations, The Royal Cemetery, 359. See, J.J.A. Van Dijk, La Sagesse Sumero-Accadienne, 31 F.; W.G. Lambert, Babylonian Wisdom Literature, 1969, 150 F.

وهنا تقدم الراعي بنفسه إليها واستنكر منها أن تفضل الفلاح عليه، وأخذ يثبت لها أن الفلاح ما امتلك شيئًا إلا وكان عند الراعي ما يقابله، فلديه شاته البيضاء التي تقابل ثوبه الأبيض، وعنده اللبن الأصفر الذي يقابل جعته الفاخرة، والجبن الذي يقابل خبزه ... إلخ، وادعى أنه يستطيع أن يعول الفلاح بفتات موائده، ويبدو أنها اقتنعت برأيه ومالت إليه، فتشجع وواجه الفلاح وبدأه بالمشاجرة فاتقى الفلاح شره ولاينه ودعاه إلى أن يترك أغنامه ترعى في حقوله وترتوي من قنواته، فلانت شدة الراعي بدوره ومال إلى مصادقته ودعاه إلى عرسه لا سيما بعد أن عرض عليه أن يهدي عروسه بعض خيراته. صور الأدباء السومريون عالم الموتى "كور" باعتباره عالم الظلام والمخاوف وعالمًا لا رجعة منه1. وحملت كلمة كور معاني كثيرة ومنها معاني الجبل والقطر الأجنبي والمتاهة والفراغ الكائن بين سطح الأرض وبين المحيط الأزلي2. ومما يستشهد به عن عالم الموتى أسطورة عرفت اصطلاحًا باسم "نزول إنانا إلى العالم السفلي". وتروي الأسطورة أن إنانا اشتاقت إلى أن ترى ملك أختها الكبرى إرشكيجال ربة العالم السفلي، فتركت دنيا الأرض والسماء، وهجرت معابدها، ولكنها لم تنس فتنتها وزينتها فاكتحلت بكحل يسمى "دعه يأتي، دعه يأتي" وأصلحت هندامها، وتزينت بحليها الفاخرة وكانت منها قلادة تسمى "تعال يا رجل، تعال ... " وتحصنت برموزها السحرية السبعة واصطحبت تابعها الأمين "ننشوبر" إلى بوابة العالم السفلي، ولكنها تخوفت ما عساها تلقاه في ذلك العالم المجهول لا سيما من أختها اللدود ربة الموت والظلام، فأوصت تابعها بأن يترقب عودتها ثلاثة أيام فإن لم تعد إليه ملأ السماء صياحًا، واستصرخ الأرباب لإنقاذها. وعندما اقتربت إنانا من قصر اللازورد عند مدخل العالم السفلي بدأت بأسلوب التعاظم وخاطبت الحارس بجفاء وأمرته بفتح بابه وذكرت له أنها "إنانا من مشرق الشمس"، فرد عليها بمثل لهجتها وقال لها، إذا كانت إنانا من مشرق الشمس، فلم أتيت إذن إلى أرض لا رجعة منها، وطريق لا يعد منه مسافر، وكيف طاوعك قلبك على ذلك؟ "، فادعت أنها علمت بمقتل زوج أختها الكبرى، السيد جوجا لانا، وأنها تود أن تحضر مراسيم جنازته، فاستأذنها في أن يبلغ الأمر لمولاته، ولما قص لمولاته قصتها ووصفها لها عرفتها وأمرته بأن يفتح لها مزاليج العالم السفلي السبعة وأن يجعلها تنحني في حضرتها، فأطاع امرها، وأدخل إنانا، وكانت كلما دخلت بابا نزعوا عنها أحد رموزها وحليها، فإذا سألتهم عن سر ذلك قالوا لها "اصمتي إنانا فتقاليد العالم السفلي قد استقرت، فلا تناقشي مراسيمها"، حتى إذا بلغت البوابة السابعة نزعوا عنها ثوبها، وأدخلوها على أختها التي استوت على عرشها فانحنت أماها عارية، ولم يلبث أعوانها القضاة السبعة "وهم فريق من

_ 1 Kramer, Jcs. Ii, “1948”, 60 F.; Anet, 41 F. 2 كرامر: من ألواح سومر - ص261، 282.

الأنوناكي" أن ثبتوا عليها عيون الموت وقالوا كلمتهم بصرخة التجريم، فسقطت صريعة، فأخذوها وعلقوها في مسمار ... ! ومرت ثلاثة أيام على مصرعها، فعمل تابعها بوصيتها وملأ السماء نحيبًا من أجلها، واتجه إلى المعبود إنليل وبكى عنده وقال له فيما قال: "أيها الوالد إنليل، لا تترك ابنتك تهلك في العالم السفلي، لا تدع معدنك الطيب يعلوه الغبار، لا تدع لازوردك الحر يتفتت ... "، فقابله إنليل ببرود ورد عليه بما يفهم منه أنها هي التي اختارت مصيرها بنفسها ولم يجبرها أحد على أن تفعل ما فعلته. وأعاد التابع الكرة على المعبود ننار رب القمر فلقي منه مثلما لقي من إنليل، فاتجه إلى إنكي رب الحكمة ووجد عنده بغينه، فخلق إنكي معبودين من درن قلامة ظفره المصبوغ باللون الأحمر، ووهب أحدهما طعام الحياة وأوصاه بأن ينثره على جسد إنانا ستين مرة، ووهب ثانيهما ماء الحياة وأوصاه أن يسكبه فوق جسدها ستين مرة، وأكد عليهما ألا يقربا نبات العالم السفلي ولا ماءه، فصدع الرسولان بما أمرهما به، وبذلك استخلصا جثة الملكة من مسمارها ونثرا عليها طعام الحياة وماءها فاستعادت إنانا حياتها، وتأهبت للصعود من العالم السلفي، ولكن الأنوناكي اشترطوا لخروجها أن تخضع للعرف القاضي بألا يخرج أحد من عالم الظلام دون تقديم بدليل عنه، فرضخت مرغمة واصطحبها زبانية الوت ضمانًا لوعدها، فقصدت بهم مدينة أوما ثم مدينة باد تبيعها ابتغاء التضحية بربيهما، ولكن هذين أظهرا لها الخضوع والتذلل حتى انصرفت عنهما واتجهت إلى كلاب دار زوجها دوموزي، وبدلًا من أن ينزل هذا لزوجته اعتلى عرشه، فحرضت الشياطين عليه ونطقت ضده بصرخة التجريم قائلة "أما هذا فخذوه" فبكى دوموزي حتى اخضر وجهه وتضرع إلى أخ زوجته أوتو رب الشمس أن يعينه وذكره بأنه هو الذي يزود بيت أمه بالزبد ويزود بيت ... باللبن. وانتهى هنا الجزء الباقي من الأسطورة، ويبدو أن دوموزي لم يجد من ينجده فهبط العالم السفلى واستقر فيه، وظل النواح يتكرر عليه كل عام حتى حرمته التوراة وقال عنه النبي حقيال إنه لأمر بغيض. وصورت إحدى لوحات قصة جلجميش محظورات العالم السفلي، في حديث جلجميش لصديقه وتابعه إنكيدو حين تطوع للنزول إلى العالم السفلى ليستنقذ منه آلتين موسيقيتين للربة إنانا، وأوصاه بألا يرتدي ثيابًا نظيفة وألا يتعطر وألا يأخذ معه عصا الرماية ولا يلبس نعلًا ولا يقبل زوجته أو يضربها ولا يقبل ولده أو يضربه، وكل ذلك حتى لا يستثير شياطين العالم السفلي ضده. ولكن إنكيدو تهاون وارتكب المحظور فأطبق عالم الموتى عليه وعجز عن الصعود منه. وعندئذ استنجد صديقه جلجميش رب الحكمة إنكي لينقذه، فأمر أوتو إله الشمس أن يثقب ثقبًا في العالم السفلي وأن يسمح لشيخ إنكيدو بالنفاذ منه، ففعل. وعندما خرج

_ 1 Edward Chiers, Reme D’assyrilologle, Xxxiv, 93 F.; S.N. Kramer, Op. Cit., 52 F.; Journal Of The Cunnform Studies, V, 1951. كرامر: من ألواح سومر - الفصل 19 - لوحة 63. 2 نفس المرجع - لوحة 70، ص324.

الشيخ عانقه جلجميش وأخذ يسأله عما شهده في العالم السفلي عن مصير أصحاب الأولاد وشهداء الحرب والذي لم يدفن والذي حرم من القربان ... إلخ. وصور أحد الألواح السومرية مصير أورنمو ملك أور حين نزل العالم السفلي "كور" فاسترضى أربابه السبعة الكبار بالقرابين، كلًّا منهم في قصره، وترضى كاتبهم، واستقر في قصره حيث رحب الموتى به، وحيث زاره جلجميش الذي غدا بعد قاضيًا في العالم السفلي ولقنه مراسيم العالم الآخر، ولكن ما انقضت سبعة أيام ثم عشرة حتى حن أورنمو إلى مدينته التي لم يكمل أسوارها، وإلى قصره الذي تركه دون تطهير، وإلى زوجته وولده، وأخذ يتسمع نحيب بلاد سومر عليه وينتحب لبكائها1. عرفت دور العالم عند السومريين باسم بيوت الألواح "أي - دبا" سواء في ذلك إن كانت دورًا للتعليم فعلًا أم كان مجرد خزائن للكتب "مع شيء من التجوز في التعبير عن الألواح باسم الكتب". وكان المشرف عليها يُدعى أوميا، أي الخبير، ويلقب بلقب أبي الدار إذا كان معلمًا، ويشاكه في إشرافه على تلاميذه وعقابهم عريف أو أكثر. ولم يعثر بعد على مبانٍ يمكن القطع باعتبارها مدارس فعلية، وكل ما يمكن تقديمه في هذا السبيل، معلقًا على الاحتمال وحده، عدة بيوت وجدت في كل من مدن نيبور، وسيبار "أبو حبة قرب بغداد"، وأور، وتل حرمل "قرب إشنونا"، قد تكون بيوت معلمين أو مدارس؛ لأنها تميزت عما سواها بكثرة ألواح الكتابة التي وجدت فيها، ثم حجرتان في بيت بمدينة ماري "تل الحريري" اشتملتا على صفوف من المصاطب مختلفة السعة بنيت من الآجر، تتسع الواحدة منها لشخص أو شخصين أو أربعة أشخاص، وقد تكونان مكتبًا أو مدرسة. ولما كان الخط المسماري خطًّا معقدًا في أشكاله الاصطلاحية وفي تعبيراته، كان من الطبيعي أن يستهلك التلميذ في تجويده سنوات طويلة، يتعلم خلالها ما يناسب سنه من صيغ الرسائل وقصائد المعبودات والمقطوعات الأدبية والأسطورية المناسبة، وعددًا من المفردات التي تتناول مطالب بيئته وخصائها، كأسماء الوظائف وأسماء الحيوانات وأسماء الأشجار والنباتات، وأسماء المعادن والأحجار، وهلم جرًّا2. ووجدت لوحة في تل حرمل تتضمن أسماء مئات من الأشجار والقصب والمواد ومنها حوالي مائة اسم لطيور خصص كل منها في نهايته بصورة طائر. وكان اسم مؤلفها أو ناسخها هو: أرا - إيمتي، وقد سجل اسمه فيها وقدم له بأسماء عدد من الأرباب رعاة المعرفة والآداب كما لو كانوا قد شاركوه كتابته بإيحاءاتهم فقال: نيدابا - خاي - جشتن - أنا - أرا - إيمتي بن نورم لبسي الكاتب كتبوه. وقدم صمويل كرامر نصًّا مسماريًّا وصف تلميذ في طرفًا من حياته المدرسية بناء على أسئلة وجهت إليه3، ويفهم من ترجمة كرامر للنص أن التلميذ كان يبكر فيأخذ من أمه رغيفين، وينطلق إلى المدرسة

_ 1 كرامر: المرجع السابق - ص262. 2 نفس المرجع: ص47. 3 نفس المرجع - الفصل الثاني - لوحتا 11 - 12.

مترددًا وهو يحسب للعريف ألف حساب، وعند دخوله يحرص على تحية المعلم، ثم يستظهر لوحة في فترة الصباح، وبعد أن يتناول غذاءه، يكتب لوحة الجديد أو يستكمله، وفي العصر يتلقى درسه المكتوب، وبعد الانصراف يعود إلى داره فيطلع أباه على درسه وعلى ما استظهره في يومه. غير أن مجهوده لم يكن يعفيه من أذى الضرب في المدرسة جزاء الثرثرة وكثرة الحركة أو جزاء الهرب أو لرداءة خطه. ولم يكن لمثله إلا أن يلجأ إلى أقصر الطرق، فأشار على أبيه بدعوة المعلم في داره ومهاداته، فاستجاب الأب وأكرم المعلم وكساه وأهداه. ويفعل الاسترضاء فعله، فما أن يعيد الولد قراءة ألواحه أمام معلمه حتى يستبشر المعلم ويعلن رضاه عنه ويبرر هذ الرضا بما تبينه من طاعته وعمله بإرشاداته ويبشره بمستقبل باسم يتفوق فيه على أقرانه بعد أن أصبح من مريدي المعرفة. وبغير أن نفسد جمال الصورة التي رسمناها للآداب السومرية، لا بأس من أن نضيف إليها حقيقة واقعة، وهي أن ما استشهدنا به منها يمثل إنتاجها الرقيق وحده، أما غثها فكثير. وفيما بين الغث والثمين وقع أدب ديني أسطوري صور كيد الأرباب السومريين بعضهم لبعض وإسفاف بعضهم مع بعض وذلك بما يمكن تعليله بأن السومريين الأوائل عاشوا لفترات طويلة أمام الطبيعة وجهًا لوجه، ووجدوها طبيعة صاخبة بهيمية غير متميزة، فألصقوا نفس الصفات بأربابها، ثم تعدوا هذه المرحلة من التفكير بعد أن تهذبت حضارتهم، ولكنهم لم ينسوا تمامًا تصورات أجدادهم الأولى، فأورثوها لأحفادهم. وقد مر بنا من صورها كيف تخيلوا القمر وُلِدَ سفاحًا، وكيف اغتصبت إنانا ألواح القدر في إنكي. وصورت أسطورة لهم شدة حسد المعبود إنكي للمعبود إنليل على اجتماع الناس على عبادته بلسان واحد، الأمر الذي أدى به إلى أن أشاع الوقيعة بينهم وبين ربهم إنليل، وبلبل ألسنتهم، وذلك على الرغم من أن إنكي الحسود هذا كان يوصف بالذات بأنه حكيم الأرباب. وربط صمويل نوح كرامر بين هذه الأسطورة وبين ما رواه العبرانيون عن قصة برج بابل ووحدة الألسن القديمة ثم بلبلتها فيه نتيجة لغيره ألوهيم من طموح الإنسان ليكون شبيهًا بإلهه. وصورت أسطورة أخرى المعبودة إنانا، بعد نزولها من السماء على هيئة بغي مقدسة أدركها التعب فنامت تحت شجرة في بستان بأرض شوبر "في غرب إيران"، فغافلها البستاني وقبلها وضاجعها ثم هرب منها إلى بلاد سومر بلاد إخوته أصحاب الرءوس السود، واحتمى بعمرانها، فصبت إنانا نقمتها على بلده وسلطت عليها عواصف مدمرة وملأت آبارها بالدم. وأضافت أسطورة ثالثة عن بداية الخلق في جنة تلمون، أن إنكي رب الحكمة ضاجع ننخرساج وأنجب منها فتاة، ثم طمع في ابنته منها واستولدها حفيدة، وضاجع الحفيدة واستولدها هي الأخرى، وظل كذلك حتى نبهت ننخرساج الزوجة الجدة حفيدتها الرابعة ألا تستسلم لجدها حتى يمهرها بنوعين من النبات، فأتاها بالمهر ونكحها هي الأخرى. وهنا سلمت الجدة بالأمر الواقع, وانتوت الانتقام،

واستخدمت النباتين في توليد ثمانية أنواع جديدة من النباتات، وكان لها هدف معين منها. فلما رأى الجد النهم النبت الجديد طمع فيه وأكله، فلعنته ننخرساج وهجرته. ولما أصابه السقم وأوشك على الهلاك، جد في البحث عن زوجته الغاضبة ولم يدله عليها غير ثعلب. ولما كانت حكيمة، كما تقول الأسطورة، وضعته بين وركيها وأخرجت من مواطن دائه تسعة أولاد1، بعد أن استعبر بنتيجة ما فعل.

_ 1 Kramer, From The Tables…, Ch. Xi, Xxv; Basor, 1945 “Supl. No. 1”; Anet. 73 F.; Th. Jacobsen “J.A.”, The Intellectual Adventures Of The Ancient Man, 157 F.

نهاية أور

نهاية أور: تعرضت دولة أور في أواسط القرن العشرين ق. م لهزتين عنيفتين، صدرتا عن شعبين ناهضين، وهما: شعب الإلاميين "العيلاميين" وشعب الأموريين. أما الإلاميون أو العيلاميون فكانوا من جيران الدولة القدماء في شرقها، وكثيرًا ما صدمتهم وتصادموا معها، وناوأتهم حتى أخضعت بعض جماعاتهم لسلطانها، ولكن حدث لأمر ما أن انبعثت فيهم روح جديدة شجعتهم على مهاجمة أور في عقر دارها. وناوأ الأموريون بدورهم الدولة من غربها، والأموريون هم أولئك الفروع من الساميين الذين انتشروا في باديتي الشام والعراق وامتدوا حتى غربي الفرات، والذين سماهم السومريون القدماء أهل "مارتو" أي أهل الغرب، ثم سماهم بنو عمومتهم الأكديون باسم "الأموريين"، وهو اسم يؤدي نفس المعنى القديم أي أهل الغرب "وإن كان أحد معبوداتهم الكبرى قد سمي أمورو مما يحمل على الظن بنسبتهم إلى اسمه"1. وكان قرب مناطق الأموريين من صحراوات شبه الجزيرة العربية يزودهم من حين إلى آخر بهجرات من بني عمومتهم البدو الساميين، وهذه قد تنطوي في ظلهم حينًا، وقد تغلب بعض جماعاتهم على أمرها حينًا آخر، ولكنها كانت تجدد دماءهم وحيويتهم في أغلب الأحيان. وظلت ضفاض الفرات وخيراتها الطبيعية والحضارية مطمعًا للأموريين القريبين منها، حتى توافرت لهم أسباب هجرة كبيرة قوية، وهي أسباب يصعب تحديد تفاصيلها، ولكنها لا تخرج في أغلب الظن عن احتمال فرارهم من اشتداد موجات الجفاف في أرضهم، أو ارتفاع نسبة التكاثر الداخلي في قبائلهم، أو ظهور زعامات قوية طموحة بين صفوفهم، ثم إحسان أقرب جماعاتهم من أرض العراق بتخلخل قبضة أواخر ملوك أور على أطراف دولتهم لا سيما بعد أن انشغلوا بضغط العيلاميين على مشارفها الشرقية. وسيطر الأموريون في بداية تغلبهم على مناطق الحوف. ومن كبرى المدن التي أخضعوها لنفوذهم مدينة ماري قرب نهر الفرات، وكانت لأهلها صلة قديمة بالعنصر السامي. وبدأ حكام المدن يوازنون بين الولاء للغزاة وبين الولاء للعرش السومري. وكان من هؤلاء أمير سامي الأصل يدعى إشبي إرا، من حكام ماري، أخذ يظهر الولاء للفريقين حتى يتكشف له الفريق الغالب منهما فينضم إليه ويأخذ من

_ 1 See, Edzard, Die Zweite Zwischenzeit Babylenien, 1957; Kupper, Les Namades En Mesopotamie, 1957.

ثم يعمل لما فيه مصلحته. وصورت هذه الأوضاع رسالة أرسلها "إبي سين" آخر ملوك أور إلى قائد من قادته يُدعى "بوزور نوموشدا" تولى حكم مدينة كازاللو "وهي مدينة غير معروفة قد تقع شرقي دجلة"1، عاب عليه فيها تردده في مهاجمة رجل ماري "إشبي إرا"، بعد أن تلقى من هذا القائد رسالة أخبره فيها أن إشبي إرا بث عيونه حوله، وأنه لن يستطيع مغادرة أرضه إلا بعد أن ينزاح خطره عنه ... ورد إبي سين أسباب المحنة إلى القضاء والقدر وإرادة الأرباب وفساد الدولة، فقال لقائده: "قضى إنليل بالشر على سومر وهبط عودها من أرض ... وتولى زعامة البلاد. وترك إنليل الملكية لإشي إرا الرجل الوضيع غير السومري. وسجدت سومر في مجمع الأرباب، وقضى إنليل أنه طالما بقي أهل السوء فيها فلسوف يدمر إشبي إرا رجل ماري بنيانها ويكتسح أرضها2. ويبدو أن إشبي إرا استمر في خداعه وادعى الغيرة على مدن أخرى غير ماري، فنقل نشاطه إلى مدينة نيبور ثم إلى مدينة "إسين" إلى الجنوب منها بنحو ثلاثين كيلومتر. ومن هناك أرسل إلى أبي سين يدعى أنه سوف يدافع عن المدينتين ويطلب المدد منه لهذا الغرض، ولكن الملك السومري ظل على سوء الظن به، فانتهزها إشي إرا وكشف القناع عن أطماعه وسيطر على المدينتين لصالحه واتخذ ثانيتهما عاصمة له، في نفس الوقت الذي اندفع فيه حلفاؤه الساميرون إلى قلب العراق وسيطروا على سهل سوبار3. واعترف الملك السومري إني سين في رسالته إلى قائده بهذه الحقيقة المرة، وحاول معه محاولته الأخيرة، فتنبأ له بأنه إن ضل وجرى مجرى المنحازين إلى الساميين فلن يقدره العدو قدره، ودعاه من ثم إلى التزام جادة الصواب، وبشره بأن الأموري لن يبلغ مأربه؛ لأن إنليل سوف يكشف الغمة ويرسل جماعات جديدة من بدو مارتو يفسدون عليه أمره، وقد يهاجمه العيلاميون أيضًا، وحين ذاك تستفيد سومر من تنافس الخصوم وتستعيد مجدها القديم. وشيئًا فشيئًا انقطع التاريخ باسم إبي سين السومري في مدينة بعد أخرى "مثل مدن إشنونا ولجش وأوما .. " مما يعني انسلاخها عنه أو وقوعها في يد عدوه. وسواء تقدم العيلاميون حينذاك من تلقاء أنفسهم، أم استنجد بهم إبي سين كما يعتقد الباحث ياكوبسن، فقد استغلوا الظرف لمصلحتهم ومدوا سلطانهم حتى مدينة لارسا التي قامت على مقربة من أور وقامت على أطلالها بلدة سنكرة الحالية، وكانت مركزًا من مراكز عبادة الشمس، وعرف معبد إله الشمس فيها باسم إبابار. وكان المنتفع بهذه الخطورة ملك منطقة إيموتبال وهي منطقة شرقية قريبة من الحدود الإيرانية، جرت في حكامها دماء إلامية أو عيلامية، وكان يتلقب بلقب أدا إيموتبال بمعنى والدها. وبعد أن سيطر على لارسا لقب نفسه بلقب أدا الغرب وعين ولده وردسين ملكًا عليها.

_ 1 Anet, 480 N. 3. 2 Kramer, Anet, 480-481; A. Falkenstein, Az, Xlix “1949”, 59 F. 3 See, Jacobsen, Journal Of Cuneiform Studies, Vii “2”, 1953, 39; F.A. Ali, Archiv Orientaini, Xxxiii, 1965, 520-540.

وكان لسقوط أور بين فكي الكماشة، في منتصف القرن العشرين ق. م، واقتسام مجدها بين العيلاميين وبين الأموريين، بل وبين جماعات جبلية دعت النصوص أصحابها باسم السوباريين1 نتيجة فيما يبدو لسيطرتهم على مناطق سوبار "أوسوبارتو"، دوي كبير في نفوس أهلها ونفوس السومريين بكافة. ونظم شاعر سومري خبر دمار أور "بعد فترة من حدوثه" في قصيدة، واعتبره دمارًا لسومر كلها2. وبدأ الشاعر قصيدته بقوله:"فارق الفحل مقره وتفرق قطيعه مع الرياح" وقصد بالفحل هنا إله أور. ثم عدد أسماء المدن السومرية الكبرى وذكر أن أربابها ورباتها فعلوا فعلة إله أور، فهجر إنليل نيبور وتفرق قطيعه ... ، وهجرت إنانا أوروك، وهجر إنكي إريدو ... ، وهلم جرًّا. ثم أخذ ينعى مصائر المدن وينعى تساقط لبنات مساكنها، وبدأها بمدينة أور ... ، ثم انتقل إلى وصف قرار الأرباب بدمارها وسفك دماء أهلها، وكيف أنه "أي الشاعر" آثر ألا يتركها على الرغم مم أصابها، وأنه أخذ يسكب دموع عينيه لربه آن، ويبتهل لربه إنليل، ولكن ما من سميع ولا مجيب. واستمر نحيب الناس ... ، وامتلأت الطرق بجثث القتلى الذين حطمتهم الرماح والمقامع، وظلوا تحت وهج الشمس حتى أذابت الشمس شحومهم، أما من نجوا فقد ذلوا وجاعوا حتى تخلت الأم عن ابنتها، وهجر الأب ولده، وفارقت الزوجة زوجها ... ونعت الربة نينجال بدورها الدمار الذي يلحق بداخل المدينة وخارجها، وقالت: ... تراكم الوحل في أنهار مدينتي، وأصبحت كأنها جحور الثعالب، وما عاد الماء يجري فيها. وهجرها عمالها، ولم يتبق غلال في حقول بلدي وهجرها مزارعوها، ... وأصبحت أجمات النخيل والكروم بعسلها ونبيذها "جرداء" كقمة الجبل "؟ "، ... ضاعت مدينتي ولم أعد ملكتها، وتحولت دارى إلى أطلال، وقامت مدينة غير المدينة ودار غير الدار، يا ويلي، أين أجلس وأين أقف؟. أنا نينجال طردت من داري ولم يعد لي مقر، وغدوت شريدة في مدينة غريبة. ورد الشاعر على نحيب ربته نينجال بنحيب مثله، قائلًا: مليكتي، أصبح فؤادك كالماء، فكيف تعيشين؟ أيتها السيدة العادلة التي تخربت مدينتها كيف تعيشين؟ ... ، دموعك أصبحت دموعًا غربية، فالبلد لم تعد تذرف الدموع ... ، وإلى متى يا ترى ستظلين غريبة بجوار مدينتك؟ ثم تمنى لها أن تئوب إلى ديارها أوبة الفحل إلى حظيرته، والشاة إلى قطيعها، والطفل إلى مهده، ودعا لها بأن يقضي لها آن ملك الأرباب بالأمان؛ ويمنحها إنليل ملك الدنيا الحظ "السعيد" حتى تعود أور إلى حالها من أجلها، وتمارس فيها سلطانها. ويرى ياكوبسن أن تأليف القصيدة لا يتأخر أكثر من سبعين عامًا أو ثمانين عامًا بعد تدمير أور، بينما يستبعد كرامر مثل هذا التحديد ويكتفي بافتراض تأليفها فيما بين انتهاء عصر أور وبين العصر الكاسي.

_ 1 See, Anet, 460. 2 Th. Jacobsen, Ajsl, Lviii, 219 F.; M. Mitzel, Orientalia “New Series”, Xiv “1945”, 185 F.; Xv, 46 F. See, S.N. Kramer, Op. Cit., 455, See Also, Anet, 1969, 611-619.

في عصر إسين- لارسا

في عصر إسين - لارسا: كان من الطبيعي أن يتنافس الغزاة الأموريون والعيلاميون على السلطان في العراق، فاستمرت الحروب سجالًا بينهما، وسمح هذا التنافس الحربي لبعض مدن العراق القديمة بأن تستأنف سيرها الحضاري على غفلة من هؤلاء وهؤلاء، وشجعها على ذلك أن الأموريين أنفسهم احتضنوا الحضارة السومرية الأكدية في العاصمة "إسين" وسمحوا لها بالنمو في مدنها القديمة، ولم يصروا على إرغام هذه المدن على الانطواء معهم في وحدة سياسية دائمة على الرغم من تلقب ملوكهم باللقب العريض المألوف لقب "ملك سومر وأكد". ويبدو أن العيلاميين "الإلاميين" اتخذوا من جانبهم خطوة مماثلة، فتركوا لمدينة "لارسا" استقلالها الذاتي، واكتفوا بأن ولوا عليها أمراء من بيتهم المالك، وحمل بعض أولئك الأمراء كنيات سامية مما قد يعني أنهم بدورهم قد اختلطوا بالساميين العراقيين وتعايشوا معهم. وإن ظلت الأطماع السياسية تلعب برءوسهم في مقابل أطماع الأموريين. ومع هذه السياسة من الأموريين والعيلامين دلت نصوص هؤلاء وهؤلاء على اهتمام زعمائهم المقيمين في إسين ولارسا، بالعمائر الدينية القديمة، وذلك مثل تجديد زقورة أور في عهدي إشمي داجان ملك إسين وعهد وردسين ملك لارسا، وتعيين إشمي داجان ابنته إناناتم كبيرة لكاهنات ننا "أنو ننار" رب القمر السومري. وكشف الأثري ليونارد وولي عن ضاحية سكينة لمدينة أور بلغ اتساعها نحو عشرة آلاف ياردة مربعة وشيدت مساكنها في عصر إسين - لارسا، وهي بيوت بنيت قواعدها من الآجر وأقيمت بقية جدرانها من اللبن، ولم تختلف فيما بينها إلا من حيت مساحاتها. فالمنزل المتسع منها كان ذا فناء داخلي مرصوف بقوالب الآجر يتلقى الضوء والهواء من كوة كبيرة بطنف السقف العلوي للطابق الأول، وتتفتح عليه غرف الجلوس وغرف الضيافة، وتتفرع منه ملحقات الدار الصغيرة، ويبدأ من إحدى زواياه الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي. وجرت العادة على أن تسكن الأسرة في هذا الطابق العلوي الذي تطل شرفاته الخشبية الداخلية على الفناء وتعتمد على أساطين خشبية أيضًا ترتكز قواعدها على أرضيته. وتميزت بعض المساكن بمقاصير للعبادة الخاصة، وتضمنت بعضها مقابر أهلها تحت مقاصيرها أو تحت أرضية إحدى حجراتها السفلية. أما الطرقات فكانت ضيقة غير مرصوفة تتناثر فيها هياكل العبادة الصغيرة التي لا يزيد بنيانها أحيانًا عن قاعة واحدة أو قاعتين1.

_ 1 Antiquaries Journal, Vii, Pls. 41-42; Xi “1931”, 359 F

تشريع إشنونا

تشريع إشنونا: انتعشت دويلات المدن العراقية شيئًا فشيئًا من جديد وعاش بعضها بعد سقوط أور بفترة طويلة، وساعدها على ذلك أن نهضتها كانت نهضة فكرية أكثر منها عدائية أو توسعية، الأمر الذي صرف عنها حقد إسين ولارسا. وكان من أنشطها دويلة مدينة غشنونا التي يقوم على بعض أنقاضها الآن تل أسمر في منطقة ديالي على الطريق التجاري بين العراق وبين إلام. وكانت فيما يبدو أكثر ميلًا إلى السامية منها إلى السومرية على الرغم من موقعها، واعتبرت تشباك إلهها الأكبر، واتسع نشاطها إلى قرب كركوك. وخير ما يذكر لأهلها هو خروجهم بتشريع مكتوب في أوائل القرن التاسع عشر ق. م أو قبلها بقليل1. ووجدت بعض لوحاته في تل أبي حرمل قرب بغداد، ويعتبر هو التشريع الثاني من نوعه بعد البداية التي قام بها أور نمو ملك أور، أو هو الثالث بعد المحاولة الإدارية التي قام بها أوروكاجينا في لجش. وبقيت منه إحدى وستون مادة عاجلت أهم جوانب الحياة في عصرها وشهدت بالكفاية التشريعية لأصحابها، فاهتمت طائفة منها بتحديد أسعار الأقوات الضرورية لسواد الشعب مثل الشعير والزيت والملح، وجعلت كور الشعير بشاقل فضة وسعرت الثلاث "قا" من أحسن صنوف الزيوت بشاقل فضة، وكوري الملح بشاقل فضة، والقا من زيت السمسم الفاخرة بثلاث سيات من الشعير، إلخ. وقامت بذلك مقام التسعيرة الجبرية. واهتمت مجموعة ثانية بتعيين الحد الأدنى "؟ " لأجور العربات والقوراب ومن يعملون عليها، والحد الأدنى "؟ " لأجور العمال الزراعيين. فجعلت أجرة العربة بثيرانها وسائقها طوال اليوم بانا و4 سيات من الشعير أو ثلث شاقل فضة، وجعلت أجرة نقل حمولة كور بالقارب 2 قو شعير، وأجرة المراكبي سية وقو من الشعير على أن يعمل على قاربه طوال اليوم، وجعلت إيجار المكاري وحماره طوال اليوم سيتين من الشعير أو وزن 12 حبة من الفضة، وجعلت أجرة الأجير في الشهر شاقلا من الفضة وبانا من الشعير، إلخ. واهتمت مجموعة ثالثة بتحديد العقوبات على جرائم عصرها وعلى الأضرار التي تلحق بالغير، وجمعت في ذلك بين القصاص الغرامة فرضيت بالقتل عقابًا للقاتل، ولكنها أقرت مبدأ التعويض على الجروح التي لا تؤدي إلى الوفاة شأنها في ذلك شأن تشريع أور، فقضت على من عض أنف شخص أو اقتلع عينه بأن يدفع غرامة قدرها مينه من الفضة "وكانت في تشريع أور ثلثي مينه فقط مما يعني الرغبة في تشديد الجزاء"، وقضت على من كسر سنًّا لآخر أو قدمه أو قطع أذنه بأن يدفع نصف مينه من الفضة. وقضت على من شوه وجه آخر بأن يدفع له عشرة شواقل من الفضة. وألقت مسؤلية ما يأتيه العبد أو الفحل أو الكلب على كاهل صاحبه. وعنيت مجموعة رابعة من تشريعات إشنونا بتنظيم العلاقات الأسرية والمعاملات الخاصة، فاشترطت رضا الوالدين على زواج ابنتهما، وذكرت أن من أغوى فتاة على معاشرته دون أن يعقد عليها أمام والديها

_ 1 نسب A. Goetze التشريع إلى الملك بلالا ما "مجلة سومر 1948"، ثم عدل عن هذه التسمية واكتفى بنسبة التشريع إلى مدينه. See. A. Goetze, The Eshnunna Law, 1956. وترجم طه باقر بنود التشريع في الجزء الثانيط من المجلد الرابع لمجلة سومر - وانظر أيضًا سومر 1961.

لن تصبح زوجته ولو أقامت في داره حولًا كاملًا. وأخذت بما سنته أور من أنه إذا تعاقد رجل مع شاب على تزويجه ابنته ثم زوجها لغيره وجب عليه أن يرد له ضعف ما أخذه منه، ونصت على حق المحارب الذي يؤسر مدافعًا أو غازيًا وينقل إلى ديار أعدائه، في أن يسترد زوجته حين عودته ولو تزوجت غيره خلال غيابه عنها، ولكنها حرمت هذا الحق على من فارق بلده كارهًا له أو آبقًا من سيده. وجعلت القتل عقابًا للزوجة الزانية وعقابًا لمن يغتصب فتاة مخطوبة ... ، ونصت على أنه على من طلق زوجته ذات الأولاد وتزوج غيرها أن يفارق الدار وما فيها هو ومن أراد أن يتبعه من أهل داره، وفي هذا سبق من التشريعات العراقية القديمة لكفالة حقوق الزوجة الأم عما تطلعت إليه بعض القوانين الحالية. واستنت سنة الشفعة، فاعترفت بأن الإخوة أحق بشراء نصيب أخيهم من الميراث إذا أراد بيعه، وبأن من باع دارًا أصبح أحق بشرائها ثانية لو باعها مشتريها. وحددت أرباح القروض معدنية كانت أم عينية فجعلت ربح الشاقل من الفضة سدسًا وست حبات، وجعلت ربح كور الشعير بانا وأربع سيات من نفس نوعه. غير أن كل هذه المكاسب التشريعية كانت لأحرار إشنونا، حتى الفقراء منهم، دون العبيد الذين أهدرت حقوقهم. فقد حرصت مجموعة خامسة من التشريعات نفسها على تأكيد حقوق القصور الملكية والمعابد والسادة فيما يمتلكون من العبيد والجواري والعقارات، فحرمت على الرقيق والإماء الموسومين بأسماء سادتهم أن يجتازوا بوابة إشنونا دون إذن سادتهم، وأكدت حق السادة في امتلاك أبناء جواريهم ولو رباهم غيرهم، وحرمت على أي من العبد والجارية أن يتاجر لحسابه، وتوعدت من يتعامل معه، أي أنها اعتبرت العبد لا يملك شيئًا، وأنه هو وما يملكه ملك لسيده، وإن لم تكن هذه النظرة إلى طبقة الأرقاء والعبيد غريبة تمامًا عن نظرة بقية الشعوب القديمة المعاصرة لها. وفرضت التشريعات عشرة شواقل من الفضة على من يضبط نهارًا في حقل رجل من الموشكينو أو في داره، ويعتبر الموشكينو من اهل الطبقات العادية من الأحرار ويبدو أنها عنت بهم من يعملون لصالح القصور الملكية والمعابد بخاصة. وفرضت الإعدام من يضبط ليلًا في حقل رجل من الموشكينو أو في داره، ولعل التشديد في عقوبة سارق الليل ترجع إلى أنه قد لا يتورع عن ارتكاب جريمة القتل متسترًا بالظلام ولا يكتفي بالسرقة. وهكذا تناولت تشريعات إشنونا أغلب مشكلات الحياة في عصرها، وأدى العثور على ألواحها الباقية في تل حرمل إلى جانب العثور على بعض تشريعات أور من قبلها إلى تعديل الفكرة القديمة الشائعة التي اعتبرت تشريعات حمورابي البابلي أقدم تشريعات مكتوبة في بلاد النهرين أو في الوجود. ويبدو أن حرمل هذه التي تبعد نحو ستة أميال شرقي بغداد، كانت تسمى "شادوبم" وتحتمل بداية عمرانها في منتصف الألف الثالث ق. م، ولكن ترجع أهم مبانيها ولوحاتها إلى النصف الأول من الألف الثاني ق. م. ومن هذه المباني معبد مسطح يتألف من مدخل وساحة ومقصورة تقع كلها على محور واحد، وأطلال قصر متسع،

ومعابد أخرى صغيرة، وعدة بيوت وجدت فيها ألواح ذات صبغة تعليمية مما يوحي بانتماء بعضه إلى مدرسة، وذلك فضلًا على لوحات القانون سالف الذكر. أما من حيث الطابع الثقافي فقد جمعت آداب أبي حرمل أو إشنونا بين الثقافتين السومرية والسامية وغلبت الأخيرة، ووجدت لها لوحات للأسلوبين، كما وجدت منها لوحات كتبت نصوصها باللغتين1، وذلك على العكس من مدن أخرى ظلت وفية لثقافتها السومرية القديمة مثل نيبور.

_ 1 See. Sumer, Ii, 19 F.; Iii, 48 F.; Iv, 52 F., 63 F., 137 F.; V, 34 F.; Vi, 4 F.; 39 F. Vii, 28 F.; 126 F.; Xi, Pls. I-Xvi, Xvi, Xiii, 65 F.

تشريع إسين

تشريع إسين: يبدو أن صدور تشريع إشنونا "وتشريع أور من قبلها" شجع مدنًا عراقية أخرى على تجميع تقاليد عرفها وتنظيمها وتقنينها وتسجيلها. فخرجت إسين كبرى عواصم الأموريين بتشريع مكتوب في عهد لبت إشتار "أو لبت عشتار" خامس ملوكها في النصف الأول من القرن 19ق. م، أي بعد تشريع إشنونا بنحو نصف قرن1. وسجل رجاله تشريعهم على نصب حجري كبير لم يعثر عليه بعد، وسجلوا نسخًا أخرى منه على ألواح طينية صغيرة عثر منها حتى الآن على سبع لوحات تفاوتت في مدى اكتمالها وأعداد سطورها2، وتضمنت في مجملها ثماني وثلاثين مادة يحتمل أنها ألفت نحو نصف مواد التشريع. اتخذ لبت إشتار في مقدمة تشريعه لقب ملك سومر وأكد، واعتبر نفسه ولدًا للإله الأكبر إنليل، ووصف نفسه بأنه الراعي الحكيم، ولكنه عقب على ذلك بأنه راعٍ متواضع وأنه مزارع. وأكد رعايته للمدن السومرية العتيقة نيبور وأور وإريدو وأوروك، وافتخر بأن ربه وهبه إمارة البلاد ليحق الحق فيها ويعمل على إسعاد السومريين والأكديين جميعهم، ويقاوم الفساد والقلاقل بقوة السلاح، ثم أكد أنه استوحى تشريعه من الرب أوتو "رب الشمس" والرب إنليل، وأقر كلماتهما المقدسة. وذلك قول فسرناه من قبل بالرغبة في كفالة الشرعية والاحترام والنفاذ للتشريعات. ثم ذكر أنه ابتغى أن يحرر أبناء مدن سومر وأكد وبناتها من الرق الذي فرض عليهم. وليس فيما بقي من تشريع لبت إشتار غير قليل بمكن ربطه بدعوة تحرير الرق التي تعهد بها، ولكنه على قلته يعتبر مفخرة لزمانه، فقد عالج ما أهملته التشريعات السابقة له من حقوق الرقيق وأباح للعبد أن يحرر نفسه إذا دفع لسيده ضعف ما اشتراه به "وذلك بما يشبه نظام المكاتبة في الشريعة الإسلامية". ولكنه فرض على من آوى عبدًا أبقًا في داره شهرًا أن يعوض أصحابه عنه عبدًا آخر أو يدفع عنه خمسة عشر شاقلا من الفضة، وصدر لهذا النص الجزائي شبيه في تشريع أور بالنسبة للجارية.

_ 1 وسبق تشريع حمورابي بنحو قرن ونصف قرن. 2 عثر على ست لوحات في نيبور، نقلت منها إلى متحف الجامعة بلندن، ويحتفظ متحف اللوفر باللوحة السابعة ولكن مصدرها غير معروف. See, Francis Steele, “The Code Of Libit Ishtar”, American Journal Of Archaeoloy, Lii “1948”, 425 F., Szlechter, Ra, 1957, 57 F.; 177 F.; 1958, 74 F.; S.N. Kramer, Anet 159 F.

وشهدت ألواح إسين باستجابة أصحابها لدعوة ملكهم. ومن أطرف حالات العتق التي صورتها قصة لزوجين أعتقا جارتيهما وحرما على أولادهما أن يسترقوها، وسمحا لها بالبقاء في دارهما حيث هي1. وتناولت بنود التشريع الباقية أجور المراكب، وبعض حالات الملكية والمواريث وبعض حالات التعويض. فنصت بنود الملكية على أنه إذا جاورت أرض بور منزلًا عامرًا، وأنذر صاحب المنزل صاحبها بخوفه من أن يعتدي معتدٍ على منزله عن طريقها، ثم سرق منزله فعلًا، وجب على صاحب الأرض أن يعوضه عما سرق منه. ونصت على أنه إذا عجز مالك أو مالكة عن دفع ضرائب أرضه "الحكومية؟ "، وسددها شخص آخر ثلاثة أعوام حق لهذا الأخير أن يستولي عليها دون اعتراض من صاحبها. ونصت تشريعات الأسرة على أنه إذا أنجب زوج أولادًا من جاريته وحررها، لا يحق لأولادها أن يشاركوا أبناءه من زوجته الشريعة في ميراثهم منه. وعلى العكس من ذلك إذا اتخذ رجل لنفسه حظية ولو "من الميدان العام"، مع عقم زوجته، وجب عليه أن ينفق على حظيته وأن يورث أولادها منه، ولكن ليس له أن يسكنها في داره ما دامت حليلته على قيد الحياة "وفي ذلك بعض التقدير لكرامة الزوجة الشرعية ومراعاة مشاعرها كعاقر محرومة". فإذا هجر رجل زوجته وبنى بغيرها، وجب عليه ان يستمر في الإنفاق عليها مادامت باقية في داره. وتعدت التشريعات تعويضات الإضرار بالبشر إلى تعويضات أصحاب حيوانات الإيجار عن الأضرار التي تصيب حيواناتهم، فمن استأجر ثورًا وقطع أنفه "من حيث يوضع المقود" دفع ثلث ثمنه، فإذا فقأ عينه دفع نصف ثمنه، وإذا كسر قرنه أو قطع ذيله دفع ربع ثمنه. ويحتمل من بعض الوثائق القضائية أن المحاكم كانت تأخذ بما يشبه نظام المحلفين، فقد تحدثت إحدى هذه الوثائق عن ثلاثة رجال: حلاق وبستاني وشخص ثالث لم تذكر مهنته، قتلوا أحد موظفي المعابد، وبلغ من فجورهم أن أخبروا زوجة القتيل بجريمتهم، ولكنها لسبب ما لم تبلغ الأمر إلى السلطات المسئولة، وعندما ترامى خبر الجريمة إلى أسماع الملك أور نينورتا ملك إسين أحال القضية إلى مجمع المواطنين في مدينة نيبور. وفي المحكمة طالب تسعة بإعدام القتلة والمرأة أيضًا، وكان منهم صياد طيور وفخراني وحاجب وبستاني ... ، ولكن وقف اثنان آخران، موظف بمعبد وبستاني، وتساءلا عن جريمة المرأة، وقالا إنها لم تشترك في القتل، ويحتمل أنهما بررا سكوتها بأن زوجها لم يكن يقوم بإعالتها. ويبدو أن المحكمة أخذت بهذا الرأي واكتفت بإعدام القتلة2. وهذا إن صح يعني أنه لم يكن من بأس في الأخذ برأي القلة ما دام صائبًا، ولم يكن من

_ 1 Revue D’assyriologie Et D’archeologie Orientale, Xiv. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - ص81. وانظر كرامر: المرجع السابق - ص123 - 127. 2 Edward Chiera, Old Babylonian Contracts, No. 173 But See, T. Jacobeen, Anakcta Biblica, Xii “1959” 133 F.; J.J. Finkelstein, Anet, 1969, 542.

بأس في الاستنارة برأي العقلاء من العامة في شئون القضاء، وكل من المبدأين مقبول، وكان ثانيهما معمولًا به في أقاليم مصر القديمة. وروت التقاويم العراقية قصة طريفة عن تاسع ملوك إسين "إرا إميتي"، فذكرت أنه اختار بستانيًّا يُدعى "بعل ابني" واعتبره بديلًا له واطمأن إليه فرفعه على العرش وألبسه تاجه، ولكن حدث أن زهقت روح الملك فجأة وهو يزدود ثريدًا ساخنًا، فاستغل البستاني الموقف لصالحه واستمسك بالعرش وحكم البلاد حكمًا فعليًّا. ويحتمل حدوث واقعة موت الملك خلال قيامه بشعيرة دينية بمناسبة خسوف القمر الذي يعتبر خسوفه نذير شؤم للحكام1.

_ 1 E. Ebbeling, Op. Cit., 336; And See. A. Ungand, Orientalia “N.S.”, Xii “1943”, 194 F.; R. Labat, Le Caractere Religieux De La Royaute Assyrobabylonienne, Paris, 1939, 104 F.; Frankfort, Kingship And The Gods, Chicago, 1947, 263 F.

في لارسا

في لارسا: لم تتخلف العاصمة الكبيرة الثانية "لارسا" عن ركب عصرها، فتوسعت في استخدام الكتابة لتسيجيل أغلب أمورها اليومية، شأنها شأن المدن المتحضرة في عصرها، ومن عقودها الطريفة الباقية وثيقة بين راعٍ وبين صاحب ماشية عهد إليه بتربية 446 رأسًا من الأغنام والماشية، فتعهد له من ناحيته بأن يعوضه عما يفقده منها، وأقسم على تعهده باسم ملك عصره "وردسين في الربع الثاني من القرن 18ق. م"، ثم وقع على الوثيقة بخاتمه ستة توقيعات، وشهد عليه فيها سبعة شهود، ثم أرخها الكاتب بعام بناء السور العظيم "وهو العام العاشر من حكم وردسين"1. ووثيقة أخرى، استأجر مالك بها عاملًا يُدعى "سين إشمائي" "أي سين إسمعني"، حولًا كاملًا، وحدد له فيها أجره السنوي ستة شواقل من الفضة، دفع له أربعة منها مقدمًا، وأشهد الكاتب عليه فيها ثلاثة شهود، ثم أرخها بيوم محدد وشهر محدد من العام الثلاثين لهزيمة إسين، على حد قوله2. وكان المتسبب في هزيمة إسين التي ذكرها هذا التاريخ هوريم سين ملك لارسا في العام التاسع والعشرين من حكمه، بعد فترة تنافس شديد بين أسرته الحاكمة وبين ملوكها، وكان انتصاره عليها حاسمًا مدمرًا لم يترك لها بعد غير استقلال داخلي ضئيل، وظل رجال دولته يؤرخون بذكره نحو ثلاثين عامًا3. وثمة لوحة تضمنت على وجهيها تمرينًا تعليسيًّا قام على أساس تدوين عدد من البنود القانونية التي يحتمل ردها إلى عصر إسين - لارسا، وإن صعب تحديد تشريعها4. ومنها أنه إذا ضرب رجل امرأة حرة فأجهضها

_ 1 Th. J. Meek, Anet, 218 “Also Ajsl, Xxxiii, 203 F., No. 3”,. 2 Th. Meek, Op. Cit., 219 “P. Koschaker Und A. Ungand, Hammurabi Gesetz., Nr. 1676” 3 See, Anet, 219, N. 39. 4 Finkelstein, Jaos, 1966, 357 F.; Anet, 1969, 525-6, And 545,

عن غير قصد، غرم عشرة شواقل فضية، فإذا أجهضها عامدًا غرم ضعف ذلك "أي 20 شاقلا"، وإذا تنصل ولد "بالتبني" من أبويه وجهر بذلك أمامها حرم من إرثهما وجاز لهما بيعه بيع الرقيق. وإذا استغنى أبوان عن ولدهما "المتبنى" تنازلا له عن بعض أملاكهما. وإذا أغرى رجل فتاة حرة في الطريق واغتصبها ولم يكن أبواها على علم بخروجها إلى الطرقات، جاز لهما أن يلزماه بتزوجها. فإذا كان خروجها عن رضا منهما، وأنكر الذي اغتصبها علمه بأنها من الحرائر وأقسم على ذلك أمام بوابة المعبد، برئ.

في الفن

في الفن: صاحب الرقي الفكري في عصر إسين - لارسا، نشاط فني محلي في النقش والنحت، وتمثلت شواهد النقش حينذاك في لوحات ملونة من الطين المحروق قامت على مذابح المعابد "وشابهت لوحات القديسين في أديرة العصور الوسطى"، وتوضع بحيث تواجه المتعبد وتقوم أمامه مقام تمثال معبوده، ولذلك ظهرت هيئاتها بارزة مجسمة وشكلت بتصوير أمامي وليس جانبيًّا كالمعتاد. وعبرت هذه اللوحات عن هيئات الأرباب ورموزهم، فصور بعضها إله الشمس تخرج الأشعة من ساعديه. وصور بعضها ربة الموت على هيئة فتاة عارية بوجه ممتلئ حاو قوي الشكيمة وساقي طائر كاسر ومخالبه، وكان أصحابها يرمزون إليها بجانب صورتها البشري بهيئة البومة ويعتقدون أنها تطوف في الليل دون أن يسمع لها صوت1. واحتفظ الأفراد في بيوتهم بلوحات مماثلة ولكنها صغيرة، يحتمل أنهم كانوا يقيمونها فوق مذابحهم الأسرية، ويصورون فيها هيئة المعبود الذي يتبركون بصورته ويعتبرونه راعي أسرتهم، مثل المعبودة نينتو ربة الولادة2، والمعبودة جولا التي رمزوا إليها بهيئة كلية ترضع أجراءها3، وذلك إلى جانب لوحات أخرى ذات طابع دنيوي تخدم غرض الزخرف4. واشتركت اللوحات والتماثيل الصغيرة في تمثيل مردة مخيفين قد يرمزون إلى الكائنات الخرافية التي روت قصص الخليفة السومرية أنها عاشت في الهوة الأولى أو المحيط البدائي، وكانت ذات طبائع مزدوجة وخلقات مركبة، بحيث قد يمثل أحدها بوجهين أو بأربعة وجوه، أو يمثل بما يجمع إليه خصائص الذكر والأنثى، أو خصائص الإنسان والحيوان ... 5. ولم يحل وجود لوحات العبادة تلك دون إقامة التماثيل المعتادة للأرباب والحكام وكبار الكهنة، أو نذور المتعبدين في ساحات المعابد ومقاصيرها وعند مداخلها. وتفاوتت هذه التماثيل في مادتها ومدى إتقانها.

_ 1 Frankfort, The Art And Architecture Of The Ancient Orient, Pl. 56, P. 56; Archiv. F. Orient-Forschung, Xii, 128 F. 2 Frankfort, Op. Cit., Pl. 58 C; Jens, 1944, 198 F. 3 Frankfort, Op. Cit., Pl. 59 A. 4 Ibid., Pl. 59 B-C. 5 Ibid., Pls. 58 A-B, 66.

فصنعت من الصلصال والجص والحجر والمعدن1. ومن أمتع ما بقي منها في المعابد تمثال دقيق لكلبة "تشبه فصيلة البولدوج" تحمل آنية فوق ظهرها وتلتفت برأسها، ومثل الفنان شعر رأسها وتهدل أذنيها وطيات عنقها وتفاصيل مخالبها تمثيلًا صادقًا بارعًا، وسجل على بدنها إهداء من سومر إيلو ملك لارسا إلى إحدى ربات لجش2. وتجري مجرى هذا التمثال الصغير من حيث الإتقان عدة أوانٍ نقشت سطوحها بأشكال حيوانية وجسمت رءوس حيواناتها وأطلت مقدماتها من زوايا الآنية وطعمت عيونها تطعمًا بارعًا3. واحتفظت مدن إسين ولارسا وإشنونا وماري وآشور بنماذج من فنون عصرها. وتعتبر فنون ماري أمتعها أسلوبًا وتعبيرًا، وكانت كذلك منذ عصر الإحياء السومري، ويبدو أن قربها من مواطن الحضارة الشامية كفل لها ثروة متنوعة من أساليب الفنون الشامية والعراقية في آن واحد، فتخير فنانوها ما يناسب أذواقهم من الجانبين، وظلوا أميل إلى إيثار المذهب الواقعي والأسلوب السلس وطابع السماحة في فنهم، وذلك بحيث لا يخلو أكثر تماثيلهم غلظة من ملامح الطيبة والوداعة4. وتجلت في تماثيلهم بوجه عام طراوة مستحبة في تشكيل خطوط الأجزاء العارية من الجسم وتشكيل طيات الثياب وزركشاتها5. وتأثرت تماثيل المعبودات بروح البساطة نفسها، فبقي منها تمثال لمعبودة لا تكاد بملامح وجهها واسترسال شعرها وطراز ثوبها وصورة قلادتها تختلف عن هيئات سيدات شمال سوريا الحاليات في شيء كثير، وقد ضمت إلى صدرها آنية أسطوانية صغيرة اتصلت فتحتها السفلى بجسم تمثالها، ويحتمل أن الماء كان يصلها عن طريق أنبوبة في ظهره ويندفع منها إلى حوض تطل عليه بما يشبه تماثيل النافورات6. وظلت تماثيل آشور في أخشن تماثيل عصرها7، بينما ظلت تماثيل إشنونابين بين8. واحتفظت كل من إشنونا وماري بأطلال من قصور حكامها، ويرجع قصر إشنونا إلى عصر تبعيتها لدولة أور الثالثة، ويبدو أنه تضمن إلى جانب مقر صاحب إدارات الحكم الرئيسية في إمارته، وكان من طابقين، ويفضي مدخله إلى ممر جانبي مسور طويل يتعين على الداخل أن يسلكه قبل أن يصل إلى الفناء الداخلي الكبير، ثم يقطع هذا الفناء على طريق ممهد بالطين قبل أن يبلغ مجلس الأمير، وذلك بما يكفل الأمان لصاحب القصر ويسمح لحراسه بمراقبة الداخلين إليه. وقام في طرفي القصر معبدان، معبد صغير؛

_ 1 Syria, Xix, 1938, Pl. X; Frankfort, Lioyd, And Jacobsen, The Gimilsin Temple And The Palace Of The Rulers Of Tell Asmar, 1940, 206-214 And Fig., 108-122. ل. ديلابورت: المرجع السابق - ص220 - 221. 2 Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 67 B. 3 Ibid., Pl. 67 A; Encyclopedie Photographique De L’art, I, 248-249. 4 Frankfort, Op. Cit., Pl. 61 A-B. 5 " تمثالا بوزور عشتار وإدو إنو" Ibid. Pls. 60, 61 C. 6 Ibid., Pl. 62, P. 58. 7 W. Andrae, Das Wiederstehends Assur, 1938, 88, F. Taf. 44. 8 G. Contenau, Manuel, 801-3, Figs. 559-61.

وآخر كبير أقامه حكام القصر باسم شوسين ملك أور في عهد تبعيتهم له، ثم ضموه إلى قصرهم بعد أن ضعف شأن دولته1. وكفل لقصر ماري شهرته الخاصة، اتساع مساحته ورسوم جدرانه وكثرة ملحقاته وكثرة الألواح المكتوبة التي عثر عليها في ديوان سجلاته2. فقد شغل القصر نحو ستة أفدنة، وتضمن مائتين وستين حجرة بجدران مرسومة ملونة أخذت مناظرها بما أخذ به فن النحت في عهدها من واقعية الملامح وسلاسة الخطوط وحيوية الطابع وبساطة الأداء وتفاصيل الأزياء، فصورت مناظر حربية وأسطورية وقصصية ودينية لم يبق منها للأسف غير أجزاء يسيرة، وأحاطت بها إطارات ضيقة تتألف من شجيرات وكائنات خيرة وأخرى مخيفة، وإطارات زخرفية ذات وحدات لولبية تشبه مثيلاتها في الفن الإيجي. ولا تزال أكثر مناظر القصر حيوية مناظر مواكب القرابين وتصور رجالًا بوجوه نحيفة دقيقة ولحى طبيعية قصيرة يغطون رءوسهم بقلانس بعضها مرتفع يشبه القاووق، وبعضها عريض منخفض بشرائط بيضاء يشبه البيريه، وبعضها يشبه الطواقي الصوفية التي يلبسها أهل الجبال. ويرتدون ثيابًا مقفولة بحلفات واسعة تحت الرقبة، وعباءات زركشت أطرافها بأهداب تشبه ريش الطيور أو فلوس السمك ... ، ويسوق بعضه ثيرانًا كسيت أطراف قرونها بحليات معدنية وتدلت على جباهها حليات هلالية، وعبر الرسام عن تجعدات جلودها وشعور رءوسها تعبيرًا بارعًا بألوان متدرجة اكتفى فيها كلها باللون الأسود ومشتقاته. واحتفظت لوحة مسمارية من أواسط الألف الثاني ق. م بنموذج لما كانت عليه صورة المدن السومرية خلال عصر إسين - لارسا، أو بعده بقليل، في هيئة تخطيط أو خارطة لمدينة نيبور "نفر" السومرية التي نسبها أهلها إلى معبودهم الأكبر إنليل، فسموها "إنليل كي" أي مقره. وهي خارطة كتبت أبعادها بالأرقام وبوحدة الجار القياسية "وتعادل اثني عشر قدمًا"، وسجلت عليها بياناتها المختصرة باصطلاحات سومرية وأكدية. وصورت نيبور قريبة من موارد الماء والزراعة يحد نهر الفرات "بورانون" جنوبها الغربي وتحد شمالها الغربي قناة، ويحيط بها سور كبير تنفتح في ضلعه الجنوبي ثلاث بوابات سميت بأسماء: البوابة السامية، والبوابة العظيمة، وبوابة الأنجاس "؟ " "كاجال موسو كاتم". وتنفتح في ضلعه الجنوبي ثلاث بوابات أيضًا سميت بأسماء بوابة إله القمر "كاجال نانا"، وبوابة أوروك "وتقع أوروك إلى الجنوب الشرقي من نيبور"، والبوابة المواجهة لمدينة أور. وتضمن الضلع الشمالي للسور بوابة واحدة سميت "بوابة ترجال" "حاكم العالم السفلي". وحف بالمدينة خندقان، خندق "خريتم" يوازي سورها الجنوبي الغربي، وآخر يوازي سورها الجنوبي الشرقي. وصور داخل المدينة بيوت على هيئة مستطيلات متفاوتة السعة، وبستان كبير، ومعبدان على أقل تقدير، معبد "إكور" "بمعنى البيت الجبلي"،

_ 1 Op. Cit., P. 52, Fig. 19; Frankfort, Lioyd And Jacobsen, The Gimilsin Temple And The Palace Of The Rulers Of Tell Asmar, Pl. I. 2 A. Parrot, Mari, 1945, 1953; C.F. Jean, Six Compognes De Fouilles A Mair…, Paris, 1952.

ومعبد "كي - أور"، فضلًا عن معبد آخر يقع في ضاحية المدينة خارج سورها يسمى إسماخ بمعنى المعبد الشامخ1. والخلاصة، أن الهجرات التي نزلت بلاد النهرين منذ أوائل الألف الثاني ق. م، والهجرات الأمورية منها بخاصة، لم تكن شرًّا كلها على العراق، وإنما كانت خيرًا له في بعض أمرها، وكان خير ما فيها هو أن الهجرات الأمورية منها جدتت دماء الساميين في أرض العراق وجددت حيويتهم، ولم تحل دون نشاط المدن الكبيرة وازدهارها في ظلها، ومن هذه المدن فيما رأينا، مدن إشنونا وإسين وماري، وإلى حد ما مدينة لارسا، ثم مدينة أرخى استفادت من تنافس المدينتين إسين ولارسا وإضعاف ثانيتهما لأولاهما، وقدر لها أن تغطي بشهرتها على شهرة مدن العراق كلها في عصرها، وتلك هي مدينة بابل موضوع البحث التالي.

_ 1 كرامر: من ألواح سومر - لوحة 80 شكل 81، ملحق 1 ص395 - 401.

الفصل السابع عشر: دولة بابل الأولى "أو العصر البابلى القديم"

الفصل السابع عشر: دولة بابل الأولى "أو العصر البابلى القديم" بداية دولة بابل الأولي ... الفصل السابع عشر دولة بابل الأولى "أو العصر البابلي القديم" "1880"؟ "-1595ق. م": ألف عصب هذه الدولة جماعة ممن أسلفنا ذكرهم من الأموريين الذين انتشروا بين المدن المتحضرة في العراق واستقروا فيها وولوا حكم بعضها. وكان بابل قبل زعامتهم لها بلدة عادية عرفها السومريون باسم "كدنجيرا"، فأحالوها إلى حاضرة كبيرة وأحسنوا استغلال موقعها الزراعي والتجاري لقيامها في منطقة خصبة يتقارب فيها نهرا دجلة والفرات، وعرفوها باسم "بابل"، وهو اسم ليس ما يمكن تأكيده عن معناه، وإن كان الشائع هو ترجمته بمعنى باب إل، أي باب الإله، ويرى أصحاب هذه الترجمة أنها كانت قريبة مما تدل عليه التسمية السومرية "كدنجيرا" التي استمرت تستخدم إلى جانبها مع مترادفات أخرى مستحدثة. وتقع أطلال المدينة حاليًا جنوبي مدينة بغداد على الشاطئ الشرقي للفرات، وتدل عليها خمس ربوات تحتفظ الشمالية منها باسم بابل. ونسب البابليون مدنًا أخرى إلى بقية أربابهم، مثل كارشمش بمعنى حصن الشمس أو مدينة الشمس، ونورأداد "وكان أداد ربًّا للحرب والعواصف". وانتشرت بين أسماء الساميين الذين نزلوا هذه المدينة وانتسبوا إليها، أسماء مركبة ظهرت بوادرها بين الأموريين منذ أيام الأكديين وزادت منذ تكوين دولة إسين، وشاع في عدد كبير منها اسم إيل "أو إل" الذي تداخل اسمه في اسم المدينة المجددة بابل، مرادفًا لاسم الإله واسم الله "ولا زال باقيًا في أسماء إسماعيل وجبرائيل وعذارئيل ... ". ومن أسماء البابليين أسماء ذات دلالات لطيفة تدل على إحساس العبد منهم بقربه من ربه مثل "إبلوشو أبو شو" بمعنى إلهه أبوه "ويرادف المقطع شو الضمير هو في لغتنا العربية، وربما كان ينطق بمثل نطقه أي بضم الشين وفتح الواو، ويرادفه في ذلك الضمير سو في اللغة المصرية القديمة ولعله كان ينطق مثل نطقه"، و"إيلما أبي" بمعنى إلهي أبي، و"إيلو شو إبنيشو" بمعنى إلهه الذي بناه "أو سواه"، و"جيميل إيليشو" يمعنى عطية إلهه، و"إيلي دوري" بمعنى إلهي حصني، و"إيلي إشمأني" ربما بمعنى إلهي اسمعني، وإيلي أمورو بمعنى إلهي أمورو، و"إيلي إمدي" بمعنى إلهي سندي "لإمراة". وذلك فضلًا عن الأسماء المركبة التي تداخل فيها اسم رب القمر السامي سين، والتي عرفتها بلاد العراق قبل ذلك بزمن طويل وقبيل عصر الأكديين. اعتلى زعماء الساميين عرض بابل منذ عام 1880ق. م تقريبًا، وتعاقب منهم خمسة ملوك في عصرهم الأول، هم: سومر أبوم؛ وسومو إيل، وسابو، ,أب إيل سين، وسين مو بالليط. وقد عملوا على تفاوت في مجهوداتهم، على تحصين مدينتهم وتنشيط اقتصادياتها وإعدادها للمشاركة بدورها في قيادة بلاد

_ 1 See. Th., Bauer, Die Ostkanaanaer; C.F. Jean, In Studia Mariana, 63 F.

النهرين، وترقبوا فيها نتائج الصراع بين المدينتين المتنافستين إسين ولارسا. وعاصر أولهم، سومو أبوم، ملوك إسين ولارسا في عهد قوة المدينتين، واشتبكت جيوشه مع الجيوش الآشورية "في عهد ملكها إيلوشوما"، ولم ينته القتال بينهما إلى نتيجة حاسمة. وإن كان الملك البابلي قد عمل بعده على تحصين عاصمته بسور جديد من اللبن إتقاء للمفاجآت، وأزاد رجاله خطوطهم الدفاعية فشادوا سورًا آخر في إحدى ضواحي العاصمة، كما أزادوا ظهيرها الزراعي فضموا إليها منطقة خصبة تُدعى دلبات تبعد عنها بنحو سبعة وعشرين كيلومتر. وعندما ازدادت سمعة بابل اعترفت بسلطانها اعترافًا جزئيًّا منطقة سيبار "أبو حبة" وأقسمت باسم ملك بابل في نصوصها المكتوبة. كما خضعت لسلطانها مدينة كيش بعد حرب طويلة تعاونت عليها فيها مع دولة لارسا. وانهزمت أمامها جيوش منطقة كازاللو ... ولو أن خضوع هذه المناطق القديمة لحكم الأسرة البابلية لم يكن دائمًا خضوعًا مخلصًا أو مطلقًا، فحاولت كيش أن ترفع النير عنها في عهد سومو أبوم نفسه، وذكر ملكها أنه لم يبق لديه بعد كفاح دام ثمان سنوات غير ثلاثمائة جندي، ولكنه واصل الجهاد معهم حتى استرد لبلده سيادتها. وتجدد النزاع بين بابل وبين دويلات المدن الخاضعة لها في عهد ثاني ملوكها، مما لا نود التفصيل فيه، إلا أن ملكها أزاد سورها بعد انتصاره على خصومه وتوسعت جيوشه في فتوحها الإقليمية حتى سيطرت على إقليم أكد كله وسيطرت على عدة أجزاء من أرض سومر. ووجدت بابل في دولة لارسا وأسرتها الحاكمة نصف الإلامية أكبر منافس لها، بينما أصبحت دولة إسين فريسة للفريقين يقتطع ملوك لارسا بعض أجزائها حينًا، ويقتطع البابليون بعض أجزائها حينًا آخر. وظلت الحال كذلك حتى ولي حكم بابل سادس ملوكها وأكثرهم شهرة وهو حمورابي.

حمورابي

حمورابي: بدأ حكمه عام 1728 "في عرف أصحاب التأريخ المختصر"، وطال عهده ثلاثة وأربعين عامًا قدر له فيها أن ينهض ببابل من دويلة صغيرة إلى عاصمة دولة كبيرة ذات إمكانيات متعددة وأملاك واسعة وشهرة ضخمة، وبدأ تشريعاته التي خلدت اسمه في التاريخ منذ العام الثاني من حكمه، وخلد كتبته هذه البداية في تسمية عامها باسم عام "إقرار "حمورابي" العدالة في الأرض"1، وإن لم تكتمل هذه التشريعات إلا بعد ذلك بسنوات عدة "انظر ص463". واستهدف الرجل منذ سنواته الأولى ضرورة توحيد بلاد النهرين تحت طاعته سواء بالسياسة أم بالحرب، مع إقصاء النفوذ شبه الإلامي عن جنوب العراق. وبدت منه في سبيل تحقيق هذا الهدف حنكة لا تقل عن حنكة سرجون الأكدي سامي الأصل مثله. فسجلت له حولياته أخبار جهوده في إخضاع مدن كثيرة مثل

_ 1 A. Ungand, “Datenlisten”, In Reallexlkan Der Assyriology, Ii, 187 F., Nr. 2.

أوروك وإسين ومالحي ورابيكوم وغيرها، ولعله أراد بانتصاراته عليها أن يحد من نفوذ أعنف منافسيه ريم سين ذي الأصل الإلام وآخر ملوك لارسا عليها حتى يتفرغ له. وكان ريم سين كفئًا لمشاكل عهده بحيث ظل يناوئ حمورابي حتى العام الثلاثين من حكمه، وبحيث كتب أحد أعوان ملك دويلة ماري رسالة إلى ملكه يكشف له فيها عن أوضاع العراق، قائلًا له: "ليس هناك ملك واحد يمكن أن يقال عنه إنه أقوى الجميع، فإن عشرة أو خمسة عشر حاكمًا يتبعون حمورابي "ملك" بابل، ومثل هذا العدد يتبعون ريم سين "ملك لارسا"، ومثلهم يتبعون إبعل بي إيل "ملك" إشنونا ... إلخ"1. وشيئًا فشيئًا إطمأن حمورابي إلى متانة موقفه وسلامة ظهره، وتفرغ من ثم لملك لارسا وحلفائه، فمال ميزان القوى إلى جانبه منذ العام الثلاثين من حكمه، حتى فر ريم سين إلى منطقة إيموتيبال مسقط رأس أسرته، وتتبعته الجيوش البابلية إليها، ثم واصلت انتصاراتها فيما يليها من أرض إلام وسيطرت على جزء منها. ويبدو أن الأمر كان كذلك فيما بين البابليين وبين إشنونا وسوبارتو، بحيث رددت حوليات حمورابي ذكر اسميهما مرات كثيرة. وعندما آتت جهود حمورابي وجيوشه ثمارها، استقرت زعامة دولته في العراق فاعترفت بنفوذها آشور في الشمال وإن لم تنطوِ تمامًا تحت سلطانها. وماري في الغرب، وخضعت لها أغلب المناطق الجبلية الشمالية والشمالية الشرقية. وكشفت نصوص حمورابي عن جانب من سياسة الحرب في عهده، ومنها هدم أسوار المدن التي يخشى بأسها2، وتقوية أسوار المدن الموالية له في المناطق الإستراتيجية الحساسة "وسميت بعض هذه الأسوار بأسماء أرباب مدنها"3، والعمل على رعاية تماثيل أربابها بعد الاستيلاء عليها، حتى تكون سبيلًا لاستمالة مشاعر أتباعها. وكان من ذلك أن ذكر أحد نصوصه أنه أعلى كلمة الربة إنانا في نينوى وأعاد لمدينة آشور حصانتها4. أو لتحملها جيوشه معها باعتبارها موالية لها حين تعاون غزو مناطقها فتيسر لها مهمتها. وكانت رعاية هذه التماثيل تستتبع رعاية من يرافقونها من كهنتها وكاهناتها وإحياء أعيادها في معابد بابل نفسها ... 5. واتبع حمورابي سياسة التحالف مع المدن القوية دون الإصرار على إخضاعها، أو على أقل تقدير حتى تسنح له فرصة إخضاعها. ويذكر من هذا القبيل تحالفه مع دويلة ماري، تحالفًا ظل هو الجانب الأقوى فيه، واستعان معه بها على بعض أعدائه6، حتى إذا ما ضعفت ماري نفسها تحت ضغط أعدائها أخضعتها جيوشه وضمتها إلى دولته، وهو ما كان يعتبر من حسن التدبير من وجهة نظر أنصاره، ويعتبر سمة للغدر من وجهة نظر خصومه. وكان من الطبيعي أن يلازم الاهتمام بالحروب في عهده اهتمام آخر برضا آلهة دولته الساميين والسومريين الذين رد إليهم تأييده ونصره، وبخاصة آنو وإنليل ومردوك. وتمثل هذا الاهتمام في

_ 1 Dossin, Syria, Xix, 177 F. 2 A. Ungand, Op. Cit., Nr. 25. 3 Ibid., No. 19, 20, 21. 4 See, Anet, 165. 5 Leonard W. King, The Letters And Inscriptions Of Hammur Abi, No. 34, 45. 6 W.F. Albright, Anet, 482; C. Jean, Archives Royales De Mari, Ii, No. 22.

عهده كما تمثل في عهود من سبقوه ولحقوا به من الملوك، في إنشاء المعابد وتجديدها وزيادة تماثيلها والاحتفاء بأعيادها وأوقافها ورعاية كهنتها وكاهناتها1. واحتفظت حولياته باسم نهير صغير شقه رجاله أو أزادوا اتساعه وامتداده، وقالت عنه "نهير حمورابي "واهب" الخير للناس، حبيب آنو وإنليل، الذي غذى نيبور وإريدو وأور ولارسا وأوروك وإسين بمورد ري دائم، وكان يبدأ من الفرات أسفل كيش ويمتد حتى الخليج العربي2. تشريعات حمورابي: لم تعتمد شهرة حمورابي على فتوحه وتدينه ورعياته لاقتصاديات بلده بقدر ما اعتمدت على تشريعاته الإدارية والقانونية. وهي تشريعات بدأ في إصدارها منذ العام الثاني من حكمه، وسجلها رجاله على نصب كثيرة، اشتهر منها نصب كبير من الديوريت "2.25 متر ارتفاعًا" نقشوه في السنوات الأخيرة من حكمه، وصوره في جزئه العلوي يتلقى الإذن بإصدار تشريعاته من رب العدالة ورب الشمس "شمش"، ويبدو أنهم أقاموه في معبد مردوك ببابل. ويبلغ أكبر عرض لهذا النصب ثلاثة أقدام، ونقشت نصوصه بخط دقيق. وكان العيلاميون قد استولوا عليه في أواخر القرن الثاني عشر ق. م، ونقلوه إلى عاصمتهم سوسه ضمن الغنائم نكاية في صاحبه الذي انتصر على أجدادهم، وأزالوا بعض سطوره ليسجلوا نصوص نصر ملكهم مكانها - ولكنهم لم يتموا هذا العمل ربما اتقاء للعنات الي صبها صاحبه على من يمحو كلماته. ثم نقل النصب بعد العثور عليه إلى متحف اللوفر، وعوضت نقص سطوره نصوص أخرى مرادفة لها. لم تكن تشريعات حمورابي هي الأولى من نوعها في تاريخ بلاد النهرين كما كان يظن من قبل، فقد سبقتها كما مر بنا ثلاث محاولات لتشريع ولتدوين نصوص العرف القديم، في أور، وإشنونا، وإسين "وإصلاحات لجش احتمالا"، ولم تكن مرة أخرى بنت عهدها ولا جديدة كلها، وإنما تضمنت كثيرًا مما سبقها من نصوص العرف واللوائح ونصوص التقنين وأبقت بعضها على حاله، وعدلت بعضها الآخر وزادت عليه، ولكنها اكتبست شهرتها باعتبارها أكبر سجل قديم عثر عليه حتى الآن احتفظ بقوانين عهده وأحكام العرف في العهود التي سبقته. وأغلب الظن أنه تولى تجميع هذه التشريعات في عهد حمورابي عدد ما من رجاله القانونيين والإداريين أغفلت النصوص أسماءهم ونحلت فضلهم إلى ملكهم بل وجعلتها من وحي ربه إليه، وهو مسلك كثيرًا ما تكررت أمثاله في العصور القديمة والعصور الحديثة أيضًا. تألفت المواد الباقية من تشريعات حمورابي من 282 مادة تناولت أمور القضاء والأمن، وحقوق المحاربين ومسئولياتهم، وعقود الزراعة، وشروط الفروض، والأحوال الشخصية بما تتضمنه من تقاليد الزواج والطلاق والمورايث، وتحدثت عن القصاص والتعويضات، وأجور أصحاب المهن ومسئولياتهم. وتضمنت في ثناياها أحكامًا راقية يتقبلها المنطق في كل عصر، وأحكامًا أخرى يصعب علينا قبولها إلا بمنطق الحياة في

_ 1 A. Ungand, Op. Cit., Nos. 3, 4, 5, 12, 13, 14, 16, 17, 18, 29, 43, 36… 2 ل. ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - ص129.

عصرها، ولم تخل في بعض تفاصيلها من تكرار وتناقض، ويرى بعض الباحثين في ترتيب بنود هذا التشريع ما يسمح بتقسيمها إلى ثلاث مجموعات: مجموعة تتضمن البنود 1 - 5 وتتعلق بأمور القضاء والتقاضي وما يشبه أصول المرافعات. ومجموعة ثانية تتألف من البنود 6 - 126 وتتصمن قانون الأموال أو المعاملات. ثم مجموعة ثالثة تتألف من البنود 127 - 282 وتتصمن قوانين الأسرة أو الأحوال الشخصية - غير أن هذا التقسيم يصعب تتبعه حرفيًّا في بنود التشريع. وتعبر الأرقام التي وضعناها بين قوسين فيما يلي عن أرقام بنود التشريع المتعارف عليها. فمن أحكام التشريعات الراقية في شئون التقاضي والقضاء، أنه أيما مواطن اتهم مواطنًا آخر بجريمة يعاقب عليها بالإعدام ثم لم تثبت عليه قتل عوضًا عنه. وإذا اتهمه بجريمة يعاقب عليها بالتغريم، ثم ولم تثبت عليه دفع غرامتها. وقد ينطوي هذا تحت ما يعبر الآن عنه بمكافحة البلاغات الكاذبة وأحكام رد الشرف. ونصت على أنه أيما قاضٍ أصدر حكمه في قضية ودون حكمه ووقع عليه ثم زور فيه لغرض ما وثبت ذلك عليه، أقيل من منصبه وحرمت عليه مناصب القضاء ودفع ما يوازي اثنتي عشرة مرة من قيمة الشيء الذي زور فيه، وفي ذلك ما فيه من مكافحة الرشوة في القضاء وهي شر البلية. وتضمنت مبادئها الراقية في مسئولية عن شئون الأمن وحقوق المواطنين عليها، أنه إذا سُرق مواطن ولم يتيسر القبض على سارقه واسترجاع المسروقات، عوضته مدينته وحاكم إقليمه عما سُرق منه بعد أن يعلنه ويثبت صحة دعواه أمام تمثال معبوده ورجال الإدراة في بلدته "23". وإذا قُتل مواطن ولم يتيسر معرفة قاتله والاقتصاص منه تعاونت المدينة وحاكم الإقليم على دفع دية إلى أهله مقدراها مينه من الفضة "24" وإذا شب حريق في دار مواطن وكلف آخر بإطفائه فاستغل وجوده في النار واختلس بعض متاعها، ألقي به في النار "25". ومن مبادئها الراقية كذلك في إقرار حقوق المحاربين في مقابل مسئولياتهم، أنه إذا افتدى ممول محاربًا "ريدوم" أو متعهدًا بالجيش "بيثيروم" من الأسر وأعانه على العودة إلى بلده، رد المحارب فديته من أملاكه المنقولة، فإن لم يستطع تولاها عنه رب مدينته "أي حصل عليها من دخل معبده"، فإن لم يتيسر ذلك تولت الدولة سدادها عنه "32"، حتى لا يضطر إلى التضحية بأملاكه الثابتة التي تقطعها الدولة له، في سبيل افتداء نفسه. وكان إقطاع المحارب يُسمى كو، وقد يتألف من حقل أو بستان أو دار، أو يضم الثلاثة جميعها، ويدفع عنه صاحبه ضريبة سنوية ويورث حق الانتفاع به لولده الأكبر ولكن لا يحق له أن يبيعه أو يرهنه أو يورثه لزوجته أو لابنته، ويمكن أن ينزع منه هذا الإقطاع بأمر ملكي ويوهب لشخص آخر. وإذا استشهد محارب آلت أملاكه إلى ولده "28"، فإذا كان ولده صغيرًا تولت أمه إدارتها نيابة عنه إن استطاعت، وربته من ريعها نظير انتفاعها بثلث إيرادها "29". فإذا لم يكن له ولد، وآلت إقطاعيته إلى شخص آخر، ثم ظهر أنه حي وعاد إلى بلده حق له أن يسترد إقطاعيته "27".

وأخذت تشريعات حمورابي بمثل قوانين إشنونا من حيث حق المحارب الذي يؤسر في ديار الأعداء في أن يسترد زوجته إذا عاد إلى بلده، ولو كانت في فراش زوج جديد "135"، وحرمت هذا الحق على من فارع بلده كارهًا له "136". وحتمت على زوجة الأسير أن تلزم داره ما دام فيها ما يكفيها، وألا تلجأ إلى فراش آخر وإلا ألقي بها في النهر "133". فإذا لم يكن لديها ما يقيم أودها فلا بأس عليها فيما فعلت "134". وجعلت تدوين عقود القروض والمشاركة والأمانات وشهادة الشهود عليها، أساسًا لحق التقاضى بشأنها "99+"1. وحددت أرباح القروض "122 - 123" بالخمس "88+" واشترطت سدادها بنفس المكاييل والأوزان التي أقرضت بها "94". وعلى هذا الأساس جعلت ربح كور الغلة 60 قو، وفائدة شاقل الفضة سدس شاقل وست سيات، ولو أن بعض لوحات القروض الفعلية من نفس العصر قد دلت على زيادة أرباح القروض ونقصانها عن هذه النسبة في بعض الحالات، وتتمثل حالات النقص فيما كانت تقرضه المعباد والإدارات الحكومية في ظروف خاصة إلى ما يوازي 12% تقريبًا2. وأحاطت تشريعات حمورابي أفراد الأسرة وتقاليدها بضماناتها وعقوباتها، وزادت على ما نصت عليه تشريعات أور وإسين في حقوق الزوجة الشرعية فأباحت أن تسترق جاريتها ذات الولد إن تبينت منها تطلعًا إلى مساواة نفسها بها، وأباحت لها بيعها إن كانت غير ذات ولد، حتى ولو كانت أثيرة عند زوجها. وقد قرر رجل في عهد سين موبالليط والد حمورابي، في عقد زواجه، أن على زوجته الثانية أن تغسل قدمي زوجته الأولى وأن تحمل لها مقعدها حتى ولو شاءت أن تذهب به إلى معبد مردوك3. وأكدت التشريعات حق الزوجة في استرداد بائنتها "شريقتو - وتقوم مقام الدوطه عند بعض الشعوب المعاصرة" حين طلاقها - ما لم تكن ناشزًا، وأضافت إلى بائنة المطلقة ذات الأولاد نصف أملاك زوجها لتستغله في تربية أبنائها حتى يبلغوا أشدهم ثم تجتزئ منه نصيبًا تستعين به على زواج جديد إن استحبت فراقهم "137". وأضافت إلى بائنة المطلقة العاقر تعويضًا يبلغ مينه من الفضة بالنسبة للطبقات العليا وثلث مينه بالنسبة لأهل الطبقات العادية "138 - 140". ويبدو أنه لم يكن من الضروري أن يلتزم كل مطلق ومطلقة بهذه المبادئ، وكان الأمر يتوقف على ظروف الطلاق ومدى التراضي به بين المطلقين ومقدار ثرائهما4. وردت بائنة الزوجة المتوفاة ذات الأولاد على أولادها "162"، وجعلت بائنة الزوجة العاقر المتوفاة من حق أبيها بعد أن يسترد زوجها منها قيمة هداياه إليها حين عرسها، وحين نتدبر أحكام البائنة هذه نرى

_ 1 انظر عن عقد شركة بين شخصين يدعى أحدهما نور شمش للمشاركة فيما يمتلكانه من فضة وعبيد وإماء يستغلونها في الداخل والخارج وقد أقسما فيه على الإخلاص بأسماء المعبودات شمش وإيا ومردوك وباسم حمورابي. وعن عقود بيع بيوت حددت فيها مساحاتها ومواقعها بالنسبة إلى البيوت التي تجاورها والطرقات التي تطل عليها: ديلابورت: المرجع السابق - ص146، 288. 2 نفس المرجع ص153 - 154. 3 Pani Dhorme, Choix Des Textes Religieux Assyro-Babyloniens, No. Xix. 4 انظر ديلابورت: المرجع السابق - ص92.

أن المشرع قد غطى بها كل حالاتها ودل بذلك على عقلية تقنينية واعية. وجعلت التشريعات للزوج حق الوصية أو الهبة لزوجته دون اعتراض من أبنائه، وسمحت لها بأن تتنازل عن جزء من هذه الهبة لأولادها، ولكن دون الغرباء "150"، واعترفت بحقها في أن تلزم بيت زوجها المتوفى إلا إذا أرادت أن تتركه لتتزوج وحينذاك يكون لها حق الخروج ببائنتها دون هدايا عرسها "172". وقضى المشرع على من اتهم سيدة بسوء السلوك دون بينة أكيدة، بحلق نصف شعره في ساحة القضاء تشهيرًا بافترائه عليها "127" فإذا اتهمها زوجها ولم يقدم بينة واضحة على فجورها، كفاها أن تقسم على طهرها أمام معبودها وتعود إلى دار زوجها "131" وهو ما أقرت الشريعة الإسلامية بما يشبهه مع تجديدات تتفق مع روح دينها. وفي مقابل هذه الضمانات الواسعة التي كفلتها التشريعات للزوجة، ألزمت الزوجة بواجبات زوجها وبيتها، بحيث إذا شكاها زوجها أمام مجلس المدينة وتبين أعضاؤه إهمالها لواجباتها الزوجية حرموها من بائنتها وسمحوا لزوجها بأن يتزوج عليها ويستبقيها في داره إن شاء ويلزمها بخدمته "141". فإن تبينوا نشوزها وإضرارها بزوجها ألقوا بها في النهر "143"، فإن ثبت عليها الزنا أمروا بتقييدها هي ومن زنى بها وإلقائهما في النهر، إلا إذا عفا عنها زوجها وعفا الملك عن عشيقها "129". فإذا تآمرت زوجة على قتل زوجها من أجل عشيقها، أعدمت على الخازوق "153". وفصلت التشريعات صلات الأولاد بأبويهم وحقوقهم في المواريث. فجعلت من حق كل ولد على أبيه أن يعينه بمهر يتزوج به، فإن مات الوالد دون أن يتزوج أحد أبنائه، أفرد له إخوته قيمة مهر تناسب ثروة أبيه قبل أن يقتسموا ميراثه "166". وكفلت نفس الأمر بالنسبة للابنة وبائنتها ... ، بحيث إذا مات أب دون أن يزوج ابنته ودون أن يخصص لها بائنة مسجلة أفرد لها إخوتها بائنة مناسبة من ميراثه "178 - 179". وقيدت حق الوالد في حرمان ولده بحكم القضاء في مدى عصيانه، فإن أدانوه أنذروه، فإن لم يرتدع وافقوا على حرمانه، وإن تبينوا براءته حموه في أبيه "168 - 169". وجعلت للأبناء الذكور حصصًا متساوية في ميراث أبيهم1 وبائنة أمهم، إلا إذا أوصى الأب لولده البكر بوصية "165". وجعلت للابنة العذراء المترهبة حق استغلال ما يعادل ثلث نصيب أخيها على أن تبقى الرقبة لإخوتها ولا يحق لها أن تتصرف فيها "181. واستثنت من ذلك من ترهبت في معبد مردوك رب بابل فسمحت لها بأن تستغل حصتها كما تشاء، وتهبها لمن تشاء بشرط ألا ترث حقوقًا إقطاعية، حتى لا تنتقل إلى أسرة غير أسرتها "182". وألحقت التشريعات الأبناء بخير الأبوين، فنصت على أنه إذا تزوج عبد بحرة احتفظ أولادها بحريتهم، فإذا مات عنها زوجها استردت بائنتها، وإذا كانت ذات لد قاسمت مولى زوجها المقتنيات التي شاركت زوجها فيها بعد زواجها به، واحتفظت بنصفها من أجل أولادها "175 و176". وسمحت التشريعات

_ 1 من لوحات تقسيم المواريث الفعلية في عهد حمواربي لوحة قيل فيها: قسم نور شمش، وإيليما أخي، وبالاطوم، وهو موروم، ميراث أبيهم، ولا يحق لأحدهم أن يدعي على الآخر بشيء. وأقسموا "على ذلك بالآلهة" شمش وإيا ومردوك "والملك" حمورابي. ثم شهد على الاتفاق أربعة شهود، وأرخ بعام نهير حمواربي، وهو العام التاسع من حكمه. See, Anet, 218.

للأب بحق الاعتراف بأولاده من جاريته، فإذا اعترف بهم شاركوا أولاده الشرعيين ميراثه بشرط أن يتركوا لولده الشرعي البكر حق اختيار نصيبه بنفسه "170". وإن لم يعترف صراحة ببنوتهم حرموا من ميراثه، مع حرمان إخوتهم الشرعيين من استرقاقهم "171". ونصت على أن من باع جاريته أم أولاده أو أجرها "أم أعارها؟ " لآخر في سبيل توفير الضرائب المستحقة عليه، حق له أن يستردها من شاريها أو مستأجرها بنفس ما أداه له في مقابلها "119". وحفظت مكانه الزوجة الشرعية بالنسبة للجارية، بمثل ما قدمنا لها به، وبأن نصت على أنه إذا أهدت زوجة زوجها جارية فأحبها وشجعها ذلك على أن تشارك الزوجة مكانتها حق للزوجة أن تعيده الجارية إلى الرق وتبيعها، فإن كانت قد حملت منه أو ولدت له دمغتها بميسم العبودية وأبقتها في دارها من أجل أولادها "146 - 147". وأباح المشرع ثلاثة أيام للمشاورة في شراء العبد أو الجارية، وشهرًا يستطيع المشتري أن يعيد العبد خلاله إلى بائعه ويسترد ثمنه إذا تبين أنه مصاب بصرع، فإذا انقضى الشهر كان مالكًا له مسئولًا عن الدعاوى التي تقام بشأنه. ونصت على أنه إذا اشترى رجل عبدًا أو أمة من بلد غريب ثم عاد إلى بلده وتبين له أن العبد ملك لمواطن آخر من أهل بلده، وطالبه به سيده، وجب تسليمه إليه دون تعويض. فإذا كان العبد من بلد آخر دفع فيه سيده ما دفعه فيه مشتريه واسترده، فإذا أنكر العبد تبعيته لسيده ثم ثبتت التبعية عليه صلمت أذنه "278 - 282". وتضمنت لوحة من لوحات النخاسة التي أخذت بتشريع حمورابي، ولو أنها متأخرة عن عهده، ما ذكر اسم الجارية واسم بلدتها واسم سيدها واسم مشتريها، وقيمة ثمنها الأصلي وما زاده المشتري عليه، ثم سجل الكاتب اسمه وأشهد خمسة أشخاص على لوحته1. ونظمت التشريعات أمور التبني، فسمحت للرجل بأن يتخذ ربيبه ولدًا له، فإن فعل واعترف به ولدًا، ثم تنكر له ربيبه وكان لقيطًا وأبى أبوته وتطلع إلى اللحاق بأبويه بعد أن عرفهما، قطع لسانه أو فقئت عينه. وحرمت استرجاع الربيب إذا تبناه صانع ورباه وعلمه صنعته. ولكنها من ناحية أخرى أجازت رجوع الربيب إلى أبويه إذا عرفهما ولم يكن متبنيه قد اعترف به ولدًا له، كما أجازت رجوع الربيب إلى أبويه إذا لم يعلمه متبنيه الصانع حرفته. واشترطه على من يتبنى طفلًا ثم يستغني عنه بعد أن ينجب أولادًا من صلبه، ألا يرده إلى أهله صفر اليدين، وأن يهبه ما يساوي ثلث نصيب ولده من صلبه من ثروته المنقولة "185 - 193". وقضت التشريعات على من ضرب أباه بقطع يده "195"، وعلى من ضاجع أمه بعد وفاة أبيه بأن يحرق معها "157"، وعلى من ضاجع زوجة أبيه الأرمل ذات الأولاد باستبعاده من أسرته "185، وقضت بالنفي على من يضاجع ابنته "154"، وبالهلاك غرقًا على من يضاجع زوجة ابنة بعد دخوله بها "155".

_ 1 See, Anet, 218-219.

وعنيت التشريعات بأمور المعاملات الجارية، وتوسعت فيما تضمنته تشريعات إشنونا وإسين عن أجور العمال الزراعيين وشروط المشاركة في الزراعة والتجارة وتربية الأغنام والمواشي وتعويضاتها، وأجور المراكب تبعًا لحمولتها، وأجور حيوانات النقل والزراعة، وأجور النساجين وصانعي الجلود والصاغة والبنائين وأمثالهم. وكان خير ما أزادته هو تحديد أجور الأطباء، ومراعاة الحالة الطبقية والاقتصادية للمرضى. بحيث حددت أجر العملية في البدن أو في العين بالنسبة للثري بعشرة شواقل، وبالنسبة للشخص العادي بخمسة شواقل، وبالنسبة للعبد بشاقلين يتحملهما عنه سيده "215 - 217". وحددت أجرة العلاج العادي وجبر العظام بالنسبة للطبقات الثلاثة بخمسة شواقل وثلاثة وشاقلين على التوالي "220 - 223". ولم تنس في ذلك أجور علاج الحيوانات وتعويضاتها "224 - 225". كانت هذه أهم النواحي الطيبة في تشريعات حمورابي، أما ما يؤخذ عليها من وجهة نظر تشريعاتنا على أقل تقدير، فهو اعترافها بالتفاوت في الحقوق والعقوبات بين الطبقات، فهي وإن استحدثت مبدأ العين بالعين والسن بالسن "196" والولد بالولد، إلا أنها قصرت تطبيقه وأمثاله على أفراد الطبقة الواحدة لمصلحة الطبقة العليا بخاصة، بينما قضت بالتعويض المادي وحده جزاء لاعتداء أحد أفراد الطبقة العليا على فرد من طبقة أخرى أقل منزلة من طبقته. فجعلت عقوبة فقء عين العامي أو كسر عظمه نصف مينه من الفضة، وجزاءهما بالنسبة للعبد نصف ثمنه، أما إذا صفع رجل رجلًا أرقى منزله منه جلد ستين جلدة علنًا وإذا صفع رجلًا من طبقته دفع مينه من الفضة، وإذا صفع عامي عاميًّا آخر دفع عشرة شواقل من الفضة وجعلت غرامة إحهاض المرأة من الخاصة عشرة شواقل فإذا ماتت قتلت ابنة قاتلها. وغرامة إجهاض المرأة من العامة خمسة شواقل، فإذا ماتت ففديتها نصف مينه من الفضة، وغرامة إجهاض الأمة شاقلين، فإذا ماتت ففديتها ثلث مينه من الفضة "196 - 214". وقضت بتغريم من يختلس شيئًا من مقتنيات المعبد أو الحكومة ثلاثين مثلًا لما اختلسه، فإن اختلسه من "موشكينوم" دفع عشرة أمثاله، فإن كان معدمًا قتل "8" أي أنها فرقت بين عقوبة سارق المعبد والدولة، وبين عقوبة سارق المواطن العادي، وجعلت الإعدام جزاء المفلس في الحالتين، وألزمت الأبناء أحيانًا بجرائر آبائهم، فإذا أهمل معماري في عمله وانهار المنزل الذي بناه على ابن صاحبه قتل ابنه، وإذا أجهض رجل سيدة من طبقته أو من الخاصة فماتت قتلت ابنته "210". واصطبغت أغلب مواد تشريعات حمورابي بالشدة في مواجهة الإضرار بمصالح الدولة والاعتداءات على النفس والمال، وليس من المستعبد أن تكون قد تعمدت ذلك لمجرد التخويف ومنع الجريمة قبل وقوعها، أو لتقيدها بتعاليم دينية متشددة، أو لشيوع الفساد في مجتمعها وفيما قبل عهدها فجعلت الإعدام عقوبة للتآمر على مصالح الدولة وأمنها والوقوف في سبيل تنفيذ أوامرها، كإيواء ثائر أو مجرم هارب، أو التكتم على مؤامرات قطاع الطرق "109"، أو التهرب من خدمة الجيش ولو عن طريق تقديم بديل، وعقوبة للضابط الذي أباح مثل هذا الإبدال أو تكتم أمره "33". وعقوبة للاعتداء على أملاك المعابد وأملاك القصر. وجعلته عقوبة لمن يعجز عن رد المسروقات ودفع التعويضات عنها، وعقوبة لمن يسم عبدًا بغير ميسم سيده وبدون علمه "226، 227"، وعقوبة لخطف الأطفال، إخفاء العبيد، ونقب الدور

"21"، وعقوبة لمن يتجر في المسروقات، ومن يدعي ملكيته لأشياء مسروقة ثم يثبت تدليسه "9 - 11"، وعقوبة الكاهنة التي تفتح حانة أو تتردد عليها لتسكر فيها "110"، وعقوبة للمعماري الذي يتسبب إهماله في انهيار منزل على صاحبه "229". وجعلته عقوبة للرؤساء الإداريين "ديكوم، ولوبروتوم" إذا حرموا جنديًّا مما أنعم الملك عليه به، أو اغتصبوا متاع داره أثناء غيابه أو أجروها لصالحهم أو تخلوا عنها لصاحب نفوذ في ساحة القضاء "34"، وحرمت عليهم شراءها وإلا خسروا ما اشتروها به "35". وتضمنت التشريعات أنه إذا اتهم مواطن مواطنًا آخر بالاشتغال بالسحر، كان على المدعى عليه أن يلقي بنفسه في النهر فإذا ابتلعه الماء ورثه الآخر، وإذا نجا أعدم من اتهمه وآلت أملاكه إليه. وقضت بأنه إذا أدت العملية الجراحية إلى وفاة مريض حر أو إلى ذهاب نور عينه قطعت يد الطبيب "ولعل ذلك كان مشروطًا بإهمال الطبيب وإن لم ينص عليه صراحة"، فإذا كان المريض عبدًا عوض الطبيب سيده عن حياته بعبد مثله، وعن عينه بنصف ثمنه من الفضة "218 - 219". وصف حمورابي نفسه في تعاليمه بما اعتاد الملوك القدماء أن يصفوا أنفسهم به، من حيث اتصالهم بالأرباب، وتقواهم إزاءهم في الوقت نفسه، ومن حيث ظهورهم بمظهر المتفضل حينًا ومظهر المقدر لواجبه حينًا آخر، ومن حيث اعتزازهم بجبروتهم وانتصاراتهم حينًا وافتخارهم بميلهم إلى السلام والتعمير حينًا آخر. فادعى البنوة للمعبود سين، ووصف نفسه بأنه إله بين الملوك، وأنه أول الملوك وزعيمهم، والخالد بينهم، وأنه محارب لا مثيل له، وأنه الملك الحكيم والملك الكامل، وأنه منقذ شعبه من البأساء، وأنه طرق جهات العالم الأربع، وأنه فتح كذا وأخضع كذا وكذا، وكان من آثار هذه السمعة الغالية التي ادعاها لنفسه أو ادعاها له أتباعه أن سمى بعض رعاياه أبناءهم باسم حمورابي إيلو بمعنى حمورابي إله "أو هو الإله". ولكنه وصف نفسه إلى جانب ذلك بأنه الأمير التقي، وأن الأرباب تخيروه لإصلاح أحوال الناس، وأنه المطيع للإله شمش العظيم، وأنه كثير الدعاء للأرباب، ويعرف الرب أداد تضرعه، وأنه لم يهمل رعاية أصحاب الرءوس السود الذين عهد بهم إليه رباه إنليل ومردوك، وأن ربه مردوك أمره بأن يرشد الناس إلى الطريق القويم ويحق الحق والعدالة ويدونها بلغة البلاد، فاستعان بأمر شمش القاضي الأعظم للسماء والأرض، وذلل الصعاب للناس، وكان أشبه بوالد لهم، ووضع أهل سومر وأكد في جوفه حتى سعدوا بحمايته وأظلهم بحكمه، ثم رجا أن تدوم عدالته وتنتشر في البلاد كلها بإذن مردوك مولاه، ودعا الملوك الذين سوف يعقبونه إلى أن يتبعوا أسلوب حكمه، ودعا كل مظلوم إلى أن يذهب بنفسه إلى نصب تشريعاته ويقرؤها بعناية ويتمعن حكمته فيها حتى تستبين له قضيته ويهدأ باله، واستعدى أربابه على كل من يمحو التشريعات أو يغير فيها. هذا ويضيف اللغويون أن هذه التشريعات لم تعبر عن نضج العقلية التشريعية في عصرها فحسب، وإنما عبرت كذلك عن دور الاكتمال في الأسلوب اللغوي البابلي الذي أصبح من بعد نموذجًا كلاسيكيًّا للكتابات الراقية في العراق كله.

لم تكن تشريعات الرجل وليدة عهدها وحده كما قدمنا، ولم تكن فريدة في نوعها، وربما لم تكن تجديداتها من وضع حمورابي نفسه بالضرورة على أساس ما أسلفناه من أن أغلب التاريخ القديم وبعض الحديث تاريخ غير عادل حين ينسب خير الأعمال إلى الملوك ويغفل ذكر من شقوا في سبيلها من الرعية. ومع ذلك فقد كانت تشريعات عهده جديرة بشخصيته ويبدو أنه ظل معنيًّا بتطبيقها، وظل يتدخل في كثير من الشئون الإدراية بنفسه1، فتضمنت إحدى اللوحات الباقية من عهده أمرًا منه بافتداء أسير على حساب معبد مدينته قال فيه "وأما بخصوص إمانينوم الذي أسره العدو، فتصرف عشر مينات من الفضة من معبد سين إلى مموله "الذي افتداه"2. وسمع حمورابي بارتشاء بعض موظفيه، فأرسل مندوبًا من عنده للتحقق من الأمر وسماع أقوال الشهود والتحرز على الرشوة، ثم إرسال المتهمين والشهود إليه3. وكثيرًا ما تضمنت رسائله إلى عماله أوامره بالتحقيق في سرقات ومظالم سمع بها4، وأوامر أخرى بالتشديد على الملتزمين المتباطئين في تأدية الضرائب التي التزموا بها وإرسالهم إليه مع التحفظ على أملاكهم إن امتنعوا عن السداد5. وذلك فضلًا عن أوامره إلى حكام الأقاليم بتنفيذ الخدمات العامة في أقاليمهم، مثل حفر الترع وتطهيرها، والإشراف على تجميع العمال والأهالي للقيام بها6. غير أنه يبدو أن صفة العمومية التي أكدها حمورابي لتشريعاته لم تمنع قضاة عاصمته من أن يعترفوا بحق قضاة الأقاليم في تطبيقها بما يناسب أحوال أقاليمهم، أو هي على الأقل لم تجعلهم يصرون على مركزية القضاء في العاصمة، بحيث شهدت إحدى لوحاتهم القضائية برفضهم نظر قضية كان المدعى عليه فيها من أهل سيبار، وتحويلهم إياها غلى قضاء سيبار بالذات7. ولا يستبعد أن من أسباب حرص حمورابي على تدوين كل قوانين عصره، رغبته في أن تتولى هيئة الموظفين المدنيين الخاضعة له خضوعًا كاملا، تطبيقها وفق نصوصها، وحتى لا يكون الكهنة حجة في الاستئثار بتفسير القانون وإصدار الأحكام أو تأويلها8. تأثر الفن في عهد حمواربي بنهضة عصره، وكان من الطبيعي أن تظهر آيات رقية في تماثيل الملك نفسه وفي صوره. وبقيت راس جرانيتية يرجح أنها تمثل رأسه، وضحت فيه الملامح السامية النبيلة التي ظهرت من قبل خلال العصر الأكدي القديم، ونجح فنانها النجاح كله في تمثيل نحافة وجه صاحبها ومستويات عظام

_ 1 انظر عن رسائل حمورابي: L. W. King, The Letters And Inscriptions Of Hammrabi; Harper, Letters And Inscriptions Of Hammubi; A. Uagand, Briefe Kenig Hammrabi 2 Yale Oriental Series, T. Ii. No. 32. 3 L. W. King, Op. Cit., No. 11. 4 Ibid., 3, 12, 18, 24, 30, 73, 74. 5 Ibid., Nos. 16, 30, 33. 6 Ibid., 5, 26. 7 ديلابورت: المرجع السابق - ص119. 8 كامبل طوسون: في تاريخ العالم "هامرتون" - معرب بالقاهرة: الفصل الثامن عشر - ص604 - 605.

الخدين ودقة تمثيل ركن العين ومسطحات الجفنين وخطوط الشفتين وتعبيرهما عن شخصية صلبة مجربة1. وعبر النقش عن جانب التقوى في شخصية حمورابي في صورته أمام ربه شمش في الجزء العلوي من النصب الكبير الذي سجلت تشريعاته عليه. فصوره واقفًا بعباءة محبوكة انسابت خطوطها المشدودة مع خطوط جسده، يحيي مولاه برفع يده ويواجهه في هيئة المقدر لجلاله، ولكنها مواجهة كريمة تشبه مواجهة الوزير لمليكه. وصور المعبود شمش نفسه أقرب إلى عالم الدنيا منه إلى عالم الخيال، لولا لحيته شديدة الكثافة والطول، وتاجه الطريف ذو الأربعة أزواج من القرون، وألسنة اللهب التي تشع من كتفيه. وصوره يمسك بالعصا والحلقة رمزي العدالة، وكأنه مع حمورابي أشبه برجلين متحدث ومستمع، وإن بدت شفتاهما مطبقتين. واستطاع الفنان أن يوازي بين جلسة المعبود وبين وقفة الملك، بالجمع بين استقامة جذع الإله واستقامة عصاه وبين استقامة جسم الملك2. وثمة تمثال برونزي صغير ذهب إلى أبعد من ذلك في تمثيل العلاقة بين الإنسان وربه، وهو لشيخ ربعة يركع على ركبته اليمنى ويقيم اليسرى، ويضم مجمع ثوبه بيده اليسرى ويجمع أصابع يمناه ويقربها من شفتيه كأنه يدعو بها أو يتمنى. والطريف أن نفس حركة اليد على الفم لا زال يؤديها بعض المسلمين حين الدعاء خلال الاستماع إلى أذان الصلاة .. وقد عبرت شفتا صاحب التمثال عن استبشاره باستجابة ربه لأمنيته. ولا يخلو التمثال من عيوب يسيرة تتمثل في اتساع العينين وقلة تناسق الجزء الأسفل من الساق مع بقية الجسم، ولكنه في مجمله رائع التعبير، وغشي وجهه ويداه برقائق ذهبية، وثمة احتمال بتمثيله للملك حمورابي نفسه. وقد تكررت هيئته نقشًا على قاعدته وسجل نص معه يذكر إهداءه إلى المعبود أمورو "من أجل حياة حمورابي"3. وكشفت الأبحاث الأثرية عن أطلال مشرقة من أحياء مدينة بابل في عهد حمورابي، قامت فوقها مباني قرى القصر وتل عمران والمركز الحالية. وشيدت بيوتها على نسق البيوت التي سبقت عهده، فبنيت أساساتها ومداميكها السفلى من الآجر؛ بينما شيدت مداميكها العليا من قوالب اللبن العادية. وكشفت الأبحاث كذلك عن أطلال بعض أحياء مدينة أكد من العهد نفسه؛ ويفهم منها أنها خضعت لتخطيط منظم وتميز فيها طريق مقدس يؤدي إلى معبد إشتار "عشتار" ووازته بضعة شوارع رئيسية تعامدت عليها شوارع أخرى4. وارتفع شأن مردوك معبود بابل بارتفاع شأن مدينته، وكان يعتبر من قبل ولدًا للمعبود إنكي، ثم تعمد البابليون تعظيم شأنه ليكفلوا لمدينتهم زعامة دينية إلى جانب زعامتها السياسية وبحيث تنافس المدن الدينية الأخرى القديمة؛ فنسبوا إليه هزيمة التنين تيامة "رمز ملوحة البحر وأخطاره" وأضافوا أن انتصاره هذا

_ 1 توجد الرأس بمتحف اللوفر - ويبلغ ارتفاعها نحو 15 سم. See, Frakfort, The Art And Architecture…, Pl. 163. 2 Cf. H. A. Corenewegen-H. Frankfort, Arrest And Movement…, 168 F. 3 في متحف اللوفر - وارتفاعه نحو 20 سم. See, Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 64. 4 ديلابورت: المرجع السابق - ص49 - 50.

جعل الآلهة الكبار يمنحونه حق تقرير المصائر، وخلع عليه رب الحكمة إيا حكمته واسمه، وقال "فليسم إيا مثلي"، ثم خاطبه قائلًا "أي بني"، ماذا هناك لا تعرفه وأستطيع أن أعلمك إياه؟ إن كل ما أعرفه تعرفه أنت أيضًا"1. ومثل مردوك في صوره المتأخرة بأذنين كبيرتين ترمزان إلى أنه "السميع"، وكثيرًا ما صور تحت قدميه وحش خرافي راقد يرمز إلى تيامة بعد أن أخضعها وذللها. تعاقب بعد حمورابي خمسة ملوك على عرش بابل، شهدت أيامهم صورًا مختلفة من الحرب والسلام. واحتفظت حوليات ولده "سمسو إيلونا" ببعض هذه الصور، فذكرت من مشروعات عهده الإصلاحية أنه أعفى سومر وأكد من الضرائب في العام التالي لحكمه؛ وقد يعي ذلك أنه أعفى الممولين من متأخرات الضرائب بمناسبة اعتلائه العرش ثم ذكرت نفس الحوليات من صور القلاقل في عهده ما يدل على أعداء عديدين، وملك مغتصب شرير، وهدم أسوار وبناء أسوار، وعصيان أقطار كثيرة، ووجود جيش أموري وجيش كاسي. ورددت نصوص أخرى متأخرة عن عهده أسماء بعض خصومه، ومنهم رجل ادعى أنه ريم سين ملك لارسا القديم وجمع حوله حلفًا من المدن الكبيرة التي عز عليها خضوعها لبابل؛ مثل أوروك وإسين؛ فضلًا عن منطقته الأصيلة منطقة إيموتيبال، ولكن دارت الدائرة عليه وعلى حلفائه، وقيل إن الجيوش البابلية قبضت عليه حيًّا في قصره. وخصم عنيف آخر يدعى إليما إيلوم حكم أرض البحر وهي مناطق المناقع المستصلحة قرب مصبي دجلة والفرات، وقد حاربته جيوش سمسو إيلونا ولكن بغير نتيجة حاسمة، فاستمر خطره في عهد أبيشو البابلي الذي حاول أن يستعين على هزيمته ببناء سد على نهر دجلة يعوق تقدمه أو يغرق أرضه، فنجح رجاله في بناء السد كما روت الحوليات ولكنهم فشلوا في الانتصار على خصمه "راجع فيما بعد". تلك صورة مصغرة للقلاقل التي واجهت خلفاء حمورابي، وما لبثت البلاد أن تعرضت بعدها لأخطار أشد وأعنف، وهي أخطار ندع مناقشة أسبابها ونتائجها إلى ما بعد كلمة قصيرة عن أثر العصر البابلي في التراث الأدبي لبلاد النهرين.

_ 1 ديلابورت: المرجع السابق ص171 - 172.

من الأدب البابلى

من الأدب البابلي: استفادت الحضارة البابلية من مخلفات السومريين اللغوية والأدبية، على نحو ما استفادت من تراثهم التشريعي. وكان أصحابها أسعد حظًّا من أسلافهم الأكديين أصحاب الثقافة السامية القديمة، فالأكديون كانوا ينحتون في الصخر عندما كتبوا لغتهم السامية بالكتابة المسمارية، وهذا لم يترك لهم مجالًا واسعًا للخروج بأدب سامي متميز، أما البابليون فقد وجدوا الأرض ممهدة بمجهودات سومرية وسامية خليطة، وعملوا من ناحيتهم على إدخال علامات جديدة في الكتابة المسمارية للتعبير عن أصوات لم تكن متميزة، ومنها التعبير بعلامتين متمايزتين عن كل من الجيم والقاف، وبدءوا في تصنيف قوائم لغوية تجمع بين كلمات سومرية قديمة ومترادفاتها السامية. وعمل كتبتهم على تسجيل أسماء الحيوانات والنباتات في قوائم متصلة، وسجلوا بعض القصص والأساطير السومرية والسامية الكبيرة بأسلوبهم الخاص. أساطير نشأة الوجود: انتفع البابليون ببعض عناصر الفكر السومري عن أصول الخلق المادي والمعنوي في دنياهم، وخرجوا بنطرية عن نشأة الوجود جعلوا ربهم مردوك قطب الدائرة فيها، ونافسوا بها نظريات السومريين أنفسهم، وضمنوها ما تواتر إليهم عن نشأة الحضارة الاولى عند مجمع البحرين، وما سبقها من خواء وعماء ووحشية وما صاحبها من تحديات مضنية في سبيل التغلب على أخطار البحر والتحكم في جبروت النهر، وفي سبيل التحول من الركود إلى النشاط، ومن الفوضى إلى الاستقرار، وضمنوها ما تواتر إليهم عن فاعلية البحر القديم، ووجود نوع من الشورى بين أصحاب الرأي القدماء حتى إذا ما اتفق رأيهم على زعيم أسلموا له أمرهم وعهدوا إليه بمقدراتهم. وخرجت النظرية مهوشة مطولة يكثر فيها التكرر وتتعدد فيها الأسماء، كالعادة. ولكن يمكن الخروج من عناصرها المهذبة، بأنهم ردوا أصول الأشياء إلى ماء أزلي اختلط عذبه بمالحه، ومثل العذوبة فيه آبسو وهو مذكر، ومثلت الملوحة فيه تيامة وهو أنثى. وعنونوا نظريتهم بمقطعها الأول الذي يقول "إنوما إليش" بمعنى "حينما في العلا". واسترسلت الفقرة الأولى منها قائلة: "حينما في العلا لم يكن للسماء ذكر، وفي الدنا لم يكن للأرض اسم، ولم يكن من شيء غير آبسو والدهم وتيامة أمهم". وافترضت النظرية نشأة أجيال الأرباب في جوف ماء البحر "تيامة" جيلًا بعد جيل، وكان كل جيل منهم يفوق من سبقه، حتى انعقدت ألوية الحكمة بينهم للإله "إيا" الملقب بلقب "نوديمو". ولكن حكمة أولئك الأرباب لم تخل دون شدة صخبهم وسعيهم إلى التبديل والتغيير، الأمر الذي أقلق أباهم آبسو وجعله يهم بالقضاء عليهم، رغم معارضة أمهم تيامة التي قالت "وكيف نقضي على من خلقناهم بأنفسها؟ وإن مسلكهم معيب حقًّا ولكنه شيء متوقع". ثم ألقى "إيا" النعاس على آبسو وقتله وأفناه في نفسه وبنى بيته فيما كان يشغله "إي - آبسو" وعاش فيه هو وزوجته، وأنجبا ولدهما "مردوك" الذي فاقت قدرته كل الحدود، وهنا عاودت تيامة ذكرى زوجها

المضحى به، وانقلبت على أحفادها، وسلطت عليهم الكواسر والزواحف والمخاوف. واستعانت عليهم بإله قديم يدعى "كنجو"، أغرته بنفسها وعهدت إليه بألواح القدر. وعجز الأرباب متفرقين ومجتمعين أمام هذين الحليفين، سواء بالمداهنة أم بالعنف، حتى تخيروا من بينهم "مردوك" وفوضوه السلطة المطلقة وخلعوا عليه قدراتهم وأسرار أسمائهم وارتضوه ملكًا عليهم. وقد تعدد لقاؤه مع تيامة بالسحر تراة وبالحرب أخرى، حتى تصيدها بشبكة وأطلق عليها ريح السموم فملأت جوفها ونفختها، فقيدها وذبحها، واندار على حليفها كنجو واسترد منه ألواح القدر وختمها بخاتمه واستودعها في مكنون صدره. ثم عاد إلى تيامة فبقرها وقسمها نصفين، مثل نصفي صدفة البحر، وجعل نصفها الأعلى سماء ونصفها الأسفل أرضًا، وعين في السماء حرسًا ونظم ماءها وعين مواضع الأرباب فيها. وأرسى الأرض وجبالها والدجلة والفرات وفجر العيون والينابيع1. توسع البابليون فيما روته الأساطير السومرية عن خلق الإنسان وعلاقته بأربابه في بداية الخلق والنشأة، وضمنته في قصة أتراخاسيس الذي قد يعني اسمه معنى "فائق الإدراك "أو الحكمة"، ويفهم منها أن عالم السماء والأض كان قاصرًا على طوائف الأرباب بمراتبهم، حيث وقع غرم العمل في إصلاح الأرض وزراعتها لإعالة الجميع على أكتاف طائفة منهم تسمى إججي، حتى ناءت هذه الطائفة بمشقة العمل أربعين عامًا. ثم جمعت أمرها وحملت المشاعل وتظاهرت معلنة احتجاجها أمام قصر الإله الأعظم إنليل. واستفتى إنليل بطانته من مجمع الأرباب، واستقر رأيهم على خلق الإنسان كي يحمل النير عوضًا عنهم ويخدم الآلهة ويكد من أجل إقامة معابدها وتوحيد قرابينها. وعملًا بمشورة إبا رب الحكمة، عهد الآلهة إلى الربة الأم ننتو التي لقبت بلقب مامي "أو ماما" بأن تخلق الإنسان الأول "لوللو" وأعانها الرب إيا فأعد لها الطين النقي الطاهر ومارس عددًا من الشعائر حين إعداده - ولأمر ما ذبح الآلهة في هذه المناسبة واحدًا منهم يدعى وإيلا ربما لشخصيته كما روت القصة، أو لأنه كان أشدهم ذنبًا في تحريض طائفة الإججي على العصيان كما روت قصة سومرية عن ذبيحها كنجو، وتفلت ننتو على الطين ومزجته بلحم الضحية ودمه، وعاونها إيا، وشكلت من الطين سبعة ذكور وسبع إناث، وقدرت تسعة شهور لحمل الإناث. وبين دقات الطبول وقراءة التعاويذ خرج الإنسان الحي، وأتاها الأرباب يقبلون قدميها عرفانًا بجميلها، واستحقت أن توصف لذلك بسيدة الآلهة "بليت إيلي". وانقضى بعد ذلك ألف ومائتان من الأعوام تكاثر الناس فيها، واشتد صخبهم حتى ضاق إنليل بضجيجهم فأمر نمتار بأن يبتليهم بالأوبئة والأوجاع ليقلل أعدادهم، ولم ينقذهم من الفناء غير الرب إيا وفائق الحكمة

_ 1 Lapat, Le Poeme Babylonien De La Creation, 1935; A. Heidel, The Babylonian Genesis, 1942; E. A. Speiser, Anet, 60 F.; A.K. Grayson, Ibid., 501 F.

أتراخاسيس اللذين قر رأيهما على استمالة نمتار بالقرابين من "طحين وخبز مقدد" عسى أن "تخجله الهدية فيرفع يده عن العالمين" ونجحت الحيلة وخف البلاء. وبعد ألف ومائتي عام أخرى تضخمت شرور الناس، فقرر إنليل أن يبتليهم بالقحط والمجاعة، وأمر أداد بأن يحبس المطر وأن يرسل الرياح جافة حسوما، واستمر هذا لست سنوات فجفت الأرض وهزل البشر وقلت المواليد وأكل الناس أولادهم. وهنا استرضى إيا وأتراخاسيس أداد بقربات من طحين وخبز مقدد حتى لان جانبه وسمح لقليل من الطل والندى، وعمل إيا من ناحيته على أن يفتح ثغرة لمياه الأعماق فتدفقت تروي الأرض وتحيي أهلها، وبلغ استياء إنليل مداه لفشل خططه، وقر رأيه على أن يغرق كل الخلق بما أرادوا أن يحيوا به. وأمر بطوفان كاسح "أبوبو في البابلية وأماورو في السومرية" - وأخذ المواثيق على الأرباب أن يعاونوه على إحداثه. واشتركت القصة في رواية أحداث الطوفان مع قصة جلجميش التالثة أحداثها - كما تشابهت إلى حد ما مع بعض قصص التوراة "سفر التكوين 6: 1 - 22" في تصوير غضب الإله على البشر وابتلائه لهم ثم عقابه لهم بالطوفان. ولكن ذهب القرآن الكريم مذهبًا آخر في تصوير ما أدى إلى الطوفان وتصوير بعض أحداثه "في سور: نوح والأعراف ويونس وهود والأنبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصافات والقمر". جلجميش وقصة الطوفان: هذا أشهر الأساطير التي روى البابليون في ثناياها قصة الطوفان القديمة بعد أن عدلوا فيها أضافوا إليها وغيروا بعض مسمياتها. وتخلفت من الصيغة البابلية لهذه الأساطير ألواح مبعثرة قليلة أمكن تصحيح قصتها واستكمالها من ألواح أخرى مرادفة لها وأكثر تفصيلًا منها كتبت بعدها باللغات الآشورية والحورية والحيثية1. وبهذا أمكن تكوين صورة عامة لها يفهم منها أن جلجميش كان حاكمًا على مدينة أوروك، أحبه شمش وحباه آنو وإنليل وإيا بنضرة الشباب وبسطه الجسم وجمال الصورة والقوة الخارقة والحكمة السابغة والنظرة الثاقبة حتى أصبح إنسانًا مثاليًّا، أو على حد تعبير الأسطورة حتى أصبح به ثلثان من الربوبية وثلث من البشرية. وقد اهتم بمدينته وأسوارها كما اهتم ببلاطه وفخامته ورفاهيته، فدب الحسد منه في نفوس معاصريه، وشكوه إلى أربابهم؛ وادعوا أنه يسخر أبناءهم ويحتبي عذاراهم ونساءهم، فاستجاب الأرباب لشكواهم وابتغوا أن يعيدوا السلام والطمأنينة إلى أرض أوروك التي أرسى الحكماء السبعة بنيانها "وهم سبعة حكماء أسطوريون نسبت القصص إليهم تأسيس وتحضير أقدم مدن في الوجود"2. وأمر آنو الربة أرورو أن تخلق من الطين إنسانًا ينافس جلجميش قوة واقتدارًا حتى تهبط عزيمته حسدًا منه فينصرف طغيانه عن شعبه. وأتمت أرورو أمرها وغسلت يديها وقبضت قبضة من طين البراري وتفلت عليها وخلقت منها غلامًا دُعي إنكيدو "أو

_ 1 See, Anet, 90, 163, 172; Alexander Heidel, The Gilgamesh Epic And The Old Testament Parallels, 1946; Ephraim Speiser, Anet, 72 F. 2 H. Zimmern, Az, Xxxv “1923”, 151 F.

إنجيدو" عظيم البأس، له قوة الأسود وسرعة الطير، وفيه قبس من روح آنو ونينورتا، ولكنه نشأ على الرغم من قوته أشعر غير ذي فطنة ولا حكمة، فمال إلى مصاحبة الغزلان آكلات العشب دون الناس، وشاركها مرعاها وموارد شربها، وعزف عن طعام الناس وموارد شربهم. وبلغ من إخلاص لحيواناته أن تتبع شباك الصيادين فأتلفها، وتتبع حفرهم فردمها. فاشتكاه صائد إلى أبيه الشيخ، فوجهه أبوه إلى جلجميش وتنبأ له أنه سوف يستأسر إنكيدو عن طريق أنثى، فلما أعاد شكواه على جلجميش أوصاه بالفعل بأن يغويه بغانية جميلة، ففعل ما أوصاه به وارتحل بها ثلاثة أيام حتى بلغا البرية التي يعيش فيها، وتربصا به يومين حتى خرج بحيواناته يسقيها. واستطاعت الأنثى أن تلفه بجمالها، فكشفت له عن مفاتنها وخلعت له ملابسها وفرشتها له، ونجحت فيما فشل فيه غيرها، فاستجاب لها إنكيدو وقضى معها ستة أيام وسبع ليال، ولما أفاق بعدها التفت إلى البرية وحيواناتها، ولكن الحيوانات التي أحبته لفطرته وطهره ما أن رأيت وجهه بعد الخطيئة حتى ازورت عنه وهجرته، فأدرك دنسه واشتد به عذاب النفس والحزن واليأس. ولكن المرأة شغلته بحديثها المعسول وأوهمته أنه أصبح حكيمًا وحرضته على أن يواجه جلجميش ويستحوذ على مدينته أوروك وملكه العريض وينتقل من حياة البراري إلى جوار مقر آنو وإشتار "عشتار" وحياة المدنية. فاستجاب إنكيدوا للمرأة مرة أخرى ووصل معها إلى أوروك. وهنا تواردت الرؤى على جلجميش، ورأى فيما يرى النائم روح آنو تجلت في السماء على هيئة كوكب ونزلت عليه فحاول أن يرفعها أو يحركها ففشل، وتجمع أهل أوروك حولها وقبلوا قدميها. ولما أفاق جلجميش قص رؤياه على أمه الحكيمة نينسون، فنبأته بنبإ إنكيدو تنبأت له بأنه سيميل إليه كما يميل إلى أنثى. ثم رأى في رؤيا أخرى أن قومه ثبتوا فأسًا في الأرض وتجمعوا حولها، فاتجه إليها بدوره، ولما أعاد الرؤيا على أمه فسرتها له بنفس تأويلها الأول. وقضى إنكيدوا مع غانيته ستة أيام وسبع ليال أخرى كاد ينسى نفسه فيها، فأثارت المرأة عزيمته ثانية وألبسته ثيابًا جديدة، وخرجت تشده كأنها أمه إلى أماكن الرعاة ليستعيد نخوته بينهم، فحن هناك إلى رضاعة لبن البراري، وعندما قدم إليه طعامهم وشرابهم ما درى كيف يطعمه ويشربه، فراضته المرأة عليه حتى اعتاده واستساغ الشراب العنيف وأسرف فيه، وأزال شعر بدنه واعتاد الطيوب، وأصبح يذود عن أغنام الرعاة ويصيد السباع. ثم أتى البرية رجل يستصرخه ضد جلجميش الذي استولى على زوجته، فاستثارت الغانية والناس همته حتى خرج إلى أوروك وهناك تجمع الناس حوله ورأوا فيه كفئًا لجلجميش وإن كان أقصر قامة منه. وتلاقى البطلان في سوق المدينة وتصارعا مصارعة عنيفة، واستطاع جلجميش أن ينتصر على خصمه، ثم رق كل منمها للآخر وصادقه وأصبح كل منهما أحب إلى صديقه من نفسه، حتى كان يوم رأى فيه جلجميش صديقه دامع العين كسير الفؤاد، فلما سأله عما به شكا له الإعياء والمرض، فاعتزم جلجميش أن يدفع عنه الملل ويشركه في مغامرة مثيرة، وعرض عليه أن ينطلقا إلى حيث يعيش هواوا ويتعاونا على قتله عسى أن يذهب النحس عن الأرض بهلاكه، وهنا قصت الألواح مغامرة الصديقين في صورة قريبة من صورتها السومرية القديمة مع تعديلات يسيرة وتعبيرات تناسب آفاق المعرفة في عصرها، وكان من ذلك

أن ذكرت جبل الأرز في أرض الأحياء التي اتجها إليها باسمه الكنعاني المعروف للساميين وهو جبل حرمون الذي ذكرت نصوص أوجاريت في الشام أن معبوداتها تستقر فوقه. ثم كان من أمتع ما جاءت به قول جلجميش لصديقه وهو يرد على مخاوفه من لقاء هواوا "من يستطيع أن يعاند السماء يا صديقي؟ ليس من يخلد تحت الشمس غير الأرباب، أما البشر فأيامهم معدودات ... ، وأنت هنا تخشى الموت؟، فأين بطولتك الفذة إذن؟ أولى بك أن تهيب بي أن تقدم ولا تخف، فإذا سقطت صريعًا تركت لنفسي سمعة طيبة، وقال عني خلفائي من أهل بيتي سقط جلجميش بعد أن تحدى هواوا". وأضافت النسخ الآشورية للقصة أن جلجميش بعد أن نجح في إقناع شيوخ بلده بمغامرته التفتوا إلى إنكيدو وقالوا له "نحن أعضاء المجلس أمناك على الملك، فأعده سالمًا إلينا"، والتفت جلجميش إلى صديقه وقال له هيا بنا إلى القصر الكبير "إجالمه" وإلى حضرة الملكة العظيمة نينسون. وعندما قص عليها ما عزم عليه فزعت وارتدت رداءها الكهنوتي وصعدت الدرج وعلت السور وطلعت إلى السطح وحرقت البخور فتصاعد عبيره عاليًا لربها شمش ثم رفعت يديها إلى معبودها وقالت تخاطبه: لم وهبتني جلجميش ولدًا؟ ولم جعلت هذا الابن القلق من نصيبي؟ ثم انتهت الألواح إلى ما انتهت إليه القصة السومرية من قتل هواوا، وأضافت أن جلجميش انتشى بعد النصر واغتسل وعقص شعره وأرسل ضفيرته خلف ظهره واستبدل ثيابه وارتدى عباءة ذات أهداب، فلمحته الربة إشتار "عشاتر" وشغفت به حبًّا وابتغته زوجًا لها ومنته بأماني كثيرة ووعدته بملك عريض فاستهان بعرضها وذكرها بغرامياتها المتقلبة وكيف أحبت دوموزي في صباها ثم غدرت به، وكيف أحبت طائرًا ثم كسرت جناحه، وكيف عشقت أسدًا وحفرت له سبع حفر بعد سبع حفر، وكيف أحبت محاربًا وراعيًا، بل وأحبت بستاني القصر، ثم غدرت بمن أحبها منهم ومسخت منهم من استعصم عليها. فلما واجه جلجميش هذه الربة الحسناء بحقيقتها انقلب حبها له إلى حقد شديد وشكته إلى والديها في السماء "آنو وأنتوم" ودعت أباها إلى أن يرسل عليه فحل السماء ليقتله، وتوعدته إن لم يفعل بأن تفتح أبواب العالم السفلي فيخرج أمواته ويفتكون بالأحياء، فاستجاب لها أبوها وأرسل معها فحل السماء بعذاب شديد. وأراد إنكيدو أن يفتدي صديقه فتصدى للفحل ونجا من حفره بعد أن سقط في إحداها، ثم تعاون هو وجلجميش على ذبحه وقدما قلبه قربانًا إلى شمش، فجن جنون إشتار وصبت اللعنات على أوروك وحرضت الكاهنات على أهلها. فتصدى لها إنكيدو وتوعدها بأن يفعل بها مثل ما فعل بالفحل، وأفسد هو وصديقه خطتها وكان يوم انتصارهما عليها يومًا مشهودًا، خرجت العازفات فيه ينشدن بإيعاز من جلجميش: من هو أعظم المغاوير قدرًا؟ من هو أعظم الناس قدرًا؟ فيرد الناس وراءهن: ذاك هو جلميش: أعظم المغاوير قدرًا، ذاك جلجميش أعظم الناس شهرة. وتلك صورة من هتاف الأنصار للبطل تربط الماضي بالحاضر. وانقلب حال السماء وأربابها، فاجتمع آنو وإنليل وشمش، وانقسموا فريقين: آنو وإنليل في جانب وقد اعتزما الفتك بإنكيدو لإهانته إشتار واشتراكه في قتل هواوا وقتل الفحل، وشمش في جانب آخر

وقد أصر على حماية الصديقين واعترف بأنهما قتلا هواوا والفحل بأمره ... ، وانتصر رأي آنو وإنليل وابتليا إنكيدو بداء عضال لا يرتجى البرء منه واسترسلت الأسطور في وصف أسف جلجميش على صديقه، وخوف إنكيدو من عالم الفناء وأهواله، وتبرمه بما لحق به، حتى أتاه صوت شمش من السماء بعتاب رقيق، ذكره فيه بفضل ربه عليه حين وهبه القوة والبأس من قبل، وحين حباه بصداقته للبطل جلجميشن وحين أيده بنصره في مغامراته القديمة، فقرت نفس إنكيدو ورضي بنصيبه وتحولت لعناته إلى دعوات، ولكن ظلت الرؤى تتوارد عليه وتدفعه إلى أن يتذكر العالم الآخر رغم أنفه، حيث الدار التي لم يتركها شخص دخلها، وحيث الطريق التي لا رجعة منها، وحيث الظلام الأبدي الذي عز النور على أهله، وحيث الطعام طين وتراب، وحيث لا يجد الموتى ما يتدثرون به سوى أجنحة كأجنحة الطيور، وحيث تحيا ملكه العالم الآخر إرشكيجال وحيث تركع أمامها كاتبتها بلت سرى تقرأ لها لوحها المكتوب، وقد رآها إنكيدو في منامه ترفع رأسها وتتطلع إليه وتقول من أتى بهذا الشخص هنا؟ فأدرك أنها النهاية، واشتد به المرض وظل يعاني سكرات الموت عشرة أيام "أو اثني عشر يومًا"، فلما أحس دنو أجله دعا جلجميش وودعه وأفضى إليه بأسفه على أنه لم يمت شهيدًا في معركة وأن عليه أن يموت على فراشه. ولما قضى نحبه بكاه جلجميش وظل يندبه بحرقة ووفاء، وأبنه ونعى صفاته وشجاعته بعبارات ينفطر الفؤاد لها، ثم فاق إلى نفسه وتخيل نفسه يلقي مصير إنكيدو فطارت نفسه شعاعًا وكره الموت، واعتزم أن يلجأ إلى جده الأكبر الحكيم أوتانبشتيم "أو وتنابشتو، أو أوتونبشتم، ابن وبرتوتو، وهو نوح البابلي، في مقابل نوح السومري زيوسدرا، الذي يقابله Xisouthros في النصوص الإغريقية للعصور المتأخرة.1، عله يجد عنده سر الحياة، وانطلق من ثم يقطع البراري والقفار حتى بلغ جبلًا يُدعى جبل ماشو تتصاعد قممه إلى عنان السماء وتصل جذوره إلى العالم السفلي، ولقي حارسه وكان له وجه عقرب، فخوفه الحارس أهوال الطريق ولكنه لم ينثن عن عزمته وظل يقطع مفازاته ويتخطى أهواله حتى لقد ناداه شمش من علاه: إلى أين جلجميش؟ ارجع فلن تجد الحياة التي تسعى إليها ... ، فأجابه: وهل بعد أن أقطع البراري أضع رأسي في قلب الأرض وأنام مدى الدهر؟ دع ناظري يمتلئان بنورك دائمًا فإن الظلمة تتشتت أمام النور ... واستمر جلجميش في طريقه، وقابل صاحبة حانة تدعى سيدوري روى لها قصته وقصة صديقه الذي اختطفه الموت بعد أن سقطت دودة من أنفه وتحول إلى طين، على حد قوله، فلم يستطعم الحياة من بعده، فردت عليه بأن الموت نهاية كل حي وأن للإنسان أن ينعم بحياته ويطعم ويشرب ويلبس ويمرح، وأنه ليس من سبيل إلى حياة الخلود التي يبتغيها، وأنه يفصل بينه وبين أوتا نبتشتيم بحر لم يعبره إنسان، وأنه لن يستطيع عبوره بغير مساعدة نوتي فظيع يدعى سورسونابو. وكأنما أراد القصاص أن يبين أن الرؤية الصحيحة قد تتوفر عند صاحبة حانة وتغيب عن جلجميش العظيم بعد أن ألهته عنها شدة رغبته في الحياة، وقابل جلجميش

_ 1 Anet, 88, N. 143 “Cf. Th… Jacobsen The Sumerian Kings List “1939”, 76-77, N. 34, And For His Father: Ibid., 75-76, N. 32; Anet, 594; Civil Et Biggs,. Ba, Lx, 1966, 1-5.

النوتى وحاوره وراضاه حتى اصطحبه معه في قاربه، وركبا الموج شهرًا وثمانية عشر يومًا إلى أن بلغا مياه الأعماق. وخرج جلجميش إلى جزيرة جده أوتانبشتيم "أو وتنابشتو" وقابله ورأى فيه صورة من نفسه وقص عليه قصته ورجاه أن يدله على سر الخلود، ولكن جده أراد أن يزيده خبرة بأحداث الماضي البعيد قبل أن يلبي رجاءه، فقص عليه قصة الطوفان القديم، قائلًا له: "سأكشف لك جلجميش سرًّا، وهو سر رباني. شوروباك مدينة تعرفها تقع على ضفة الفرات، هي مدينة عتيقة عاش الأرباب فيها، وعندما أرادت مشيئتهم إحداث الطوفان، كان بينهم آنو أبوهم، والشجاع إنليل مستشارهم، ومساعدهم نينورتا، وإنوجيه متولي أمر قنواتهم. وكان معهم كذلك رب الحكمة إيا الذي حزبه الأمر ولكنه لم يشأ أن يفشي سر الآلهة جهرة، فجعل أوتا نبشتيم يرى في منامه ما يحذره من الطوفان، ولما لم يدرك هذا الأخير مغزى رؤياه وتطلع إلى تفسيرها ألقى إيا حديثه إلى كوخه بطريق غير مباشر قائلًا: يا كوخ البوص، يا جدار ويا جدار؛ يا كوخ البوص، يا جدار ويا جدار، أصيخوا ورددوا: يا رجل شوروباك يابن وبرتوتو. أهدم الدار وابن سفينة. دع أملاكك، وانقذ حياتك ... ارحل بها وخذ بذرة كل حي ... اجعل عرضها مثل طولها. ففهمت وقلت مولاي إيا أمرت سيدي وسأكون أهلًا لحمل الرسالة، ولكن بم أجيب أهل المدينة وشيوخها؟ فقال إيا، قل لهم إني سمعت أن إنليل غير راضٍ عني، ولهذا لن أبقى في مدينتكم ولن أطرق أرض إنليل - ولسوف أذهب إلى الأعماق وأعيش مع مولاي إيا - ولسوف يبارك لكم في الطير والأسماك ويجعل الأرض تؤتي أكلها، ذلك الذي يأمر في ظلمة الليل باخضرار اليابس - ولسوف يرسل عليكم مطرًا من الغلال "وكلمة الغلال تورية عن الهلاك لاشتراكهما في اللفظ" ... وبعد أن تعلم الحكيم من ربه كيف يصنع السفينة من البوص والأخشاب ولم تكن له معرفة سابقة بصناعتها قال: وعند الفجر تجمع الناس حولي، وحمل الصغار القار، وحمل الكبار كل الضروريات، وفي اليوم الخامس أتممت إطار السفينة، وكانت سعة أرضها فدانًا كاملًا، وارتفاع جدرانها 120 ذراعًا ... ، وجعلت لها سبعة مسطحات أي قسمتها ستة أقسام وقسمت أرضيتها تسعة أجزاء ... وأكرمت من عملوا معي ... ، وأكتملت السفينة في اليوم السابع وأنزلوها الماء، وحملتها بكل ما عندي، وما أملك من فضة وذهب، وحملتها بصنوف الأحياء كلهم، وأخذت معي كل عائلتي وأقربائي، وحيوانات البراري، وكل الصناع. وحدد "شمش" وقتًا معينًا لي قائلًا: عندما يرسل من يبعث القلق بالليل، رذاذًا من المن، ارحل بسفينتك وأغلق مدخلها. وحان الوقت .. وتطلعت إلى الجو، فوجدته معتمًا، فغلقت السفينة، وعهدت بها إلى النوتى بوزور أموري. وظهرت غمامة سوداء في الفجر، رعد فيها أداد، وتقدمها شولات وهانيش

رسولين فوق السهل والجبل، وحطم إراجال المساند "التي تسند الدنيا"، وخرج نينورتا فجعل الترع تفيض، وحمل الأنوناكيون المشاعل وجعلوا الأرض تتوهج بها، وبلغ غضب أداد السماوات، وأحال النوبر إلى ظلمة، وهبت عاصفة الجنوب يومًا كاملًا بسرعة عنيفة فنسفت الجبال، واقتلعت الناس، فخشي الأرباب عاقبة الطوفان وأجفلوا وصعدوا إلى سماء آنو "أعلى السماوات" وتجمعوا كالكلاب حين تقبع بجوار الجدران؛ وصرخت إشتار صرخة أنثى تلد، وولولت صاحبة الصوت الشجي قائلة: ضاعت الأيام الحوالي هباء لأني أخطأت في مجمع الأرباب؛ ولكن كيف أخطئ في مجمعهم وأعلن حربًا لفناء الناس وأنا التي وهبتهم الحياة، فتكاثروا كأسماك البحر ... " وبكى الأنوناكيون معها. واستمرت أعاصير الطوفان ستة أيام "وست" ليالي واكتسحت الأرض كما تكتسحها عاصفة الجنوب، وفي اليوم السابع هبطت العاصفة وهدأ البحر وتوقف الطوفان، وتطلعت إلى الجو، فإذا سكون شامل والناس قد تحولوا إلى طين، وأصبحت الأرضيات في مستوى السقوف. ففتحت منفذًا، وسقط الضوء على وجهي، فسجدت وبكيت، وتطلعت أتلمس خطوط الساحل على مدى البحر هنا وهناك، وبدت يابسة. والتصقت السفينة "نسرات نابشتم أي منقذة الحياة" بجبل نيزير1 فاحتجزها، يومًا ويومين وثلاثة وأربعة وخمسة وستة ولم يدعها تتحرك. وفي اليوم السابع أطلقت حمامة، فذهبت وعادت وعز عليها أن تجد مكانًا ظاهرًا تحط عليه، وأرسلت سنونو فذهب وعاد حين لم يجد موضعًا ظاهرًا يحط عليه، فأرسلت غرابًا فذهب ورأى الماء يتناقص فأكل وعب ودار ولم يعد. وحينذاك واجهت الجهات الأربع وضحيت - وسكبت قربانًا فوق قمة الجبل، ونصبت 14 قدرًا، وعندما شم الأرباب الرائحة تجمعوا كالطيور حول الأضاحي. ثم وصلت العظيمة "إشتار" ورفعت حليها العظيمة التي أهداها لها آنو، وقالت: أيها الأرباب، بحق هذا اللازورد حول عنقي، سوف أذكر هذه الأيام ولن أنساها، ادعوا الأرباب إلى الأضاحي ولكن لا تدعوا إنليل الذي سبب الطوفان وأهلك شعبي، وبعد فترة وصل إنليل فلما رأى السفينة غضب وقال: هل نجت روح وما كان لبشر أن يبقى؟ فأجاب نينورتا، ومن غير إيا يفشي الخطط وهو العليم بكل شيء؟ وهنا قال إيا لإنليل العظيم: يا حكيم الأرباب يا بطل، كيف تتهور وتأمر بالطوفان؟ إنما تقع الخطيئة على مرتكبها، وعلى الباغي تدور الدوائر، كن رحيمًا وإلا قطع ... ، كن صبورًا وإلا أقصي ... أما كان يخرج أسد فيقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟ أما كان يخرج ذئب فيقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟ أما كانت تحدث مجاعة فتقلل للناس عوضًا عن الفيضان؟

_ 1 تعدد المحاولات للتعرف على هذا الجبل في منطقة كردستان قرب السليمانية، وجنوبي الزاب الأصغر، وحيث يوجد بين أمر جدروون أبو بير إه نبه جدروون، أو جبل أرارات أو جرديان في أرمينيا - ولكن بغير دليل قاطع.

لست أنا من يفشي سر الأرباب الكبار. لقد جعلت أتراخا سيس "= حكيم الحكماء أي أوتانبشتيم" يرى رؤيا كشف فيها سر الأرباب، فاقض فيه إذن! "ولا يبعد أن القصاص أراد أن يعبر بمثل التساؤلات السابقة عن تساؤلات دارات في ذهنه هو عن حكمة الأرباب في إرسال الطوفان الذي أوشك أن يهلك الجميع". وعند ذاك خرج إنليل من السفينة وأمسك يدي وأخرجني وأخرج زوجتي وجعلها تركع بجانبي، ووفق بيننا ولمس جبهتينا ليباركنا، وقال: لم يعد أوتانبشتيم بشرًا، سيكون هو وزوجته أشبه بنا معشر الأرباب، وسيستقر بعيدًا عند مصاب الأنهار. فرفعني الأرباب إلى مصاب الأنهار. ولكن أنت "يا جلجميش" من سيجمع لك الأرباب ليهبوك الحياة؟ قم لا تنم ... ". وانتقضت ستة أيام وسبع ليال، وجلجميش قابع وقد غلبه النعاس. فقال أوتانبشتيم لزوجته: "انظري إلى هذا البطل الذي يبحث عن الحياة، لقد استولى عليه النعاس ... " فقالت له زوجته: "المسه لعله يصحو ويعود من حيث أتى". ولكنه قال لها: "إن الإنسان من طبعه الخداع، ولسوف يحاول أن يخدعك "أي ينكر أنه نام"، فقومي اخبزي له فطائر وضعيها فوق يا فوخه، وعلمي على الجدار "عدد" الأيام التي نامها". فخبزت سبع فطائر ووضعتها فوق رأسه "يومًا بعد يوم"، وعلمت "عدد" الأيام على الجدار، فجفت الفطيرة الأولى، وفسدت الثانية، وعفنت الثالثة وابيضت الرابعة، واخضرت الخامسة، وظلت السادسة كما هي، وعندما وضعت له السابعة صحا وقال لجده: "الواقع أنه قلما ينتابني النعاس، وحالما تلمسني أصحو". فقال جده: "قم جلجميش وعد الفطائر ولاحظ ما صارت إليه ... ". وأسقط في يد جلجميش وعلم بعزم جده على ترحيله، فقال له: "وما عساي أن أفعل وأين أذهب وقد خمدت أطرافي، وفي حجرة نومه يستقر الموت وأينما ذهبت فهو الموت ... ؟ ". واستدعى أوتانبشتيم نوتيه وأمره بأن يأخذ جلجميش إلى البحيرة ليزيل أوساخه ويحمل الماء عنه أدران جلده وحتى يظهر بهاء جسده. وأوصاه بأن يزوده بثوب جديد وعمامة جديدة ويساعده على العودة إلى بلده. فنفذ النوتي ما أمره به واستعد للإبحار بجلجميش، ولكن زوجة أوتانبشتيم قالت له بحنان الجدة على حفيدها: "وما عساك معطيه وهو عائد إلى بلده؟ " فاستدعاه وقال له سوف أعهد إليك بسررباني، نباتا سوف يخزك شوكه مثل الورد "ينبت في غور البحر"، ما أن تحرزه حتى تتجدد حياتك. فما سمع جلجميش قوله حتى ربط أحجارًا إلى قدميه وغاص بها في الماء حتى رأى النبات واقتلعه ووخزه شوكه، ثم حل الأحجار فطنا، وقال للنوتي "سوف آخذ هذا النبات إلى أوروك وأسميه رجوع الشيخ إلى صباه وسوف آكله بنفسي". وبعد ثلاثين مرحلة رأي جلجميش بئرًا صافيه فأراد أن يبترد فيها، ونزل الماء، ولكن أفعى شمت النبات فاختطفته واختفت به. وربما أراد راوي القصة بذكر اختطاف الحية لسر الحياة الأبدية أن يفسر به قدرتها على تجديد جلدها وشبابها الظاهري كلما أدركها الهرم ولحق البلى بجلدها. وقعد جلجميش يبكي

ويندب حظه .. ثم رضخ للأمر الواقع واصطحب الملاح ودعاه إلى زيارة أوروك، ووصفها له بأن مساحة مساكنها تبلغ سارا، وتمتد بساتينها سارا، وتمتد حدودها سارا ... وهكذا انتهت القصة إلى ما يفيد بأن سنة الحياة والموت جارية منذ الأزل وحتى الأبد وأنه لم يغيرها أن أتى جلجميش البطل بالأعاجيب في سبيل تغييرها، وأنه لم يكتب له الخلود من البشر غير أوتانبشتيم الذي يكاد يرادف الخضر في الأقاصيص الشعبية عند المسلمين، وإن كانت القصة العراقية القديمة قد أشركت معه زوجته أيضًا في نعمة الخلود. صعود إيتانا إلى السماء: ورث البابليون عن السومريين من أساطير العبرة التي استخدمت حوار الحيوانات والطيور للتعبير عن فكرتها، أسطورة ملك من ملوك كيش القدماء كان يدعى إيتانا ويلقب بالراعي1، ثم صاغوها بأسلوبهم فخرجت تصور حكمة القدر في المنع والعطاء، وتصور عواقب البغي والصلاح، وتصور سداد حكمة الصغير عن رأي الكبير أحيانًا، وتصور أمل البشرية القديم الجديد في ارتقاء الجو إلى عالم السماء. كان إيتانا من أوائل من نزلت الملكية عليهم من السماء بعد الطوفان، وقد أوتي من كل شيء فيما خلا نعمة الولد، وعلم من تنبوءات الكهان أنه لا علاج لعقمه إلا بنبات الإنجاب، وأنه لا وجود لهذا النبات إلا في السماء السابعة سماء آنو، ولما طال تضرعه لربه شمش كي يهبه اسما "أي ولدًا" يخلد ذكره، اتخذه شمش أداة لتنفيذ قضاء قديم، ودله على نسر عجوز مهيض الجناح مثلوب المخالب منبوذ في حفرة عميقة، وأمره بأن يعينه حتى يسترد قواه عله يحمله معه إلى السماء حيث توجد طلبته. وكانت قصة النسر أنه تآخى مع أفعوان وعقد معه أغلظ الأيمان على الإخلاص، وأشهدا معًا رب الشمس على أن من خان العهد سوف يضل طريقه وتسد الجبال سبيله. وعاشا متجاورين، الأفعوان في ساق شجرة والنسر في قمتها، وأنجب كل منهما ولدًا. وكان للأفعوان نصيب مما يصيده النسر، وللنسر نصيب مما يصيده الأفعوان. حتى كان يوم دب فيه دبيب الشر في قلب النسر العجوز فقال لولده إنه يشتهي أن يفترس ابن الثعبان ثم يهجر الأرض ويتخذ سكنه في السماء. وهنا ذكره ولده الصغير الأريب بقسمه، وحذره من انتقام ربه، ولكنه لم يرعو وأتم جريمته. وعندما عاد الثعبان وافتقد ولده اتجه بشكواه إلى شمش فاستجاب له ربه الذي عز عليه أن يحنث النسر بقسمه باسمه، ووعده بأن ييسر له قتل ثور بري بين الجبال، وأن عليه أن يبقر بطنه ويختبئ فيها حتى إذا حط النسر عليه ليأكله تمكن منه وفعل به ما يشتهيه. وحدث ما رسمه شمش، واتخذ الثعبان مخبأه في جوف الثور، وعندما حطت عقبان السماء على الفريسة أقبل النسر معها يسعى إلى نصيبه، فنهاه ولده الحكيم وحذره أن تكون مكيدة، ولكنه لم يرعو واكتفى بأن دار حول جثة الثور عدة مرات حتى استيقن من أنه لا وجود لعدوه الأفعوان بجواره، ثم ولج بطن الثور يريد أطايبها، وهنا تمكن الأفعوان منه، فانهار الغادر الجبان باكيًا مستعطفًا، ولكن الأفعوان واجهه بأنه لا مفر من تنفيذ قضاء شمش فيه، ونتف ريشه وكسر جناحيه وثلم مخالبه ورماه في حفرة ليلقى حتفه فيها. وحينذاك أعلن

_ 1 Th. Jacobsen, The Sumerian King-List, 1939, 80-81; H. Frankfort, Cylinder Seals, 1939, 139-139.

النسر توبته لربه، ولكن لم تفارقه حيلته، فنادى ربه قائلًا: "إذا ألقيتني ههنا فمن ذا الذي يعتبر بانتقامك مني؟ انقذ حياتي، ولأشيعن ذكرك وقدرتك للأبد"، فأجابه شمش بقوله "أنت شرير، وقد أسأت إلي، والآن دعوتني، ولن ألبي دعوتك "في التو"، ولكني سوف أرسل إليك فيما بعد من يأخذ بيدك". سمع إيتانا هذه القصة من النسر بعد أن عثر عليه كسيرًا في حفرته، وقص عليه هو الآخر قصته، ثم أطعمه ورعاه حتى استرد قوته واستوى جناحاه. وعندما اعتزم الصعود إلى السماء، طلب النسر منه أن يلاصقه صدرًا لصدر، وأن يضم ساعديه حول وسطه ويستمسك بريشه، ثم أقلع به. ولما علا به في أجواء السماء قال له: تطلع يا صديقي إلى الأرض كيف تحولت إلى مجرد ربوة، وكيف يبدو البحر وكأنه مجرد جدول. وطفق كلما ارتقى به عاليًا نبهه إلى ملاحظة الأرض والبحر وكيف يتناقصان تدريجيًّا في مجال الرؤية، حتى أصبح البحر العريض في هيئة الدلو وتناقص بعد ذلك إلى هيئة سلة الخبز ثم اختفى عن النظر تمامًا هو الأرض "وتلك ملاحظات بارعة من القصاص بغير شك". ولما أوشكا بلوغ المنتهى، اختلفت الروايات في مصيرهما، فروت إحداهما أنهما بلغا سماء آنور ووقفا عند مدخلها وأديا التحية ثم صمتت. بينما روت أخرى أن النسر أجفل عندها وارتعد وهوى بحمله سريعًا مرحلة إثر مرحلة حتى سقط على الأرض، أرض آنو، من حيث طمعها أن يدخلا في سمائه1. وأخذت بحوار الحيوانات والزواحف والطيور أقاصيص أخرى، بعضها سومري محور، وبعضها بابلي مستحدث. وكانت منها أقصوصة ألاعيب الثعلب ذلك الذي تطلع إلى ربه إنليل ووعده بأنه سوف يضحي له بكل عائلته ويصلي له إن هو وهبه قرونًا، ثم مكر بذئب وكلب، وتحاكموا جميعًا وتفاخروا أمام ربهم2 "على عادة الأساطير السومرية القديمة في التحاكم أمام الأرباب وأولي الرأي". وقصة الثعلب والسيسي. ثم محاورة الأثلة والنخلة ذات المقدمة الميثولوجية السومرية، وتفاخرها في قصر أول ملوك ما بعد الطوفان، على أيهما أنفع وأبهى. ومحاورة الصفصافة وشجرة الغار3، في صورة ظهرت لها أشباهها في كثير من الآداب القديمة، مثل الأدب المصري القديم، وتضمنت الآداب البابلية عددًا من الأمثال والعبارات المرحة جمعت بين الحكمة وبين الفكاهة. وعلى أية حال فإنما يتضح من سياق الأساطير البابلية السابقة، شيء قريب مما عقبنا به على الأساطير السومرية، وهو أن براعة أهلها في التخيل والرمز لم تستطع أن تجنبهم الاعتراف بنوازع السوء في بعض أربابهم، أو في عناصر بيئتهم والأرباب المتحكمين فيها بمعنى أصح، فأب يريد أن يدمر أولاده وإيا يقتل جده، وتيامة تحارب أحفادها، ثم تلقى حتفها على يد واحد منهم. وفي قصة جلجميش رأينا كيف حقدت

_ 1 S. Langdon, Babylonica, Xii “1931” 1 F.; E. Ebeling, A.F.O, Xiv “1944”, 298 F.; E.A. Speiser, Akkadian Myths And Epics, Anet, 114 F.; R. Williams, Phoenix, X “1956”, 70 F. 2 Lambert, Op. Cit., 186 F. And References. 3 يوجد كلام باللغة الإنجليزية برجاء مراعاة ذلك

إشتار على جلجميش وصديقه وكيف أجبرت أباها على أن يرسل فحلًا على الأرض بعذاب شديد. وفي قصة الطوفان رأينا كيف أنكر بعض الأرباب أفعال بعض آخر، وفي قصة أخرى يسرق رب الطير "زو" ألواح القدر من أربابها فيجمعون أمرهم على الانتقام منه وتثور ثارتهم ضده" مثلما استولت إتانا السومرية على ألواح القدر بالخديعة من إنكي في الزمن القديم". وزادت أساطير الدين فصورت "سين" رب القمر البابلي يعشق إحدى بقراته فينقلب ثورًا وينكحها سرًّا. وصورت آنو إله السماء يطرد ابنته "لاماشتو" من السماء إلى الأرض لسوء سلوكها. وقد تكون في هذه وتلك رموز دينية أو قومية لا ندركها، ولكنها لا تخلو على أية حال مما يدل على أن الآداب في كل عصر لا تبرأ من الغث إلى جانب الثمين، وعلى أن عوامل الصراع والعنف في البيئة العراقية القديمة أثرت في تصورات الساميين كما أثرت من قبل في تصورات السومريين وإن أصبحت في عهودهم المتحضرة أخف أثرًا بكثير1.

_ 1 See, Langdon, Semitic Mythology, 97; Landsberger, Jnes, Xiv, 14; Babylonion Inscriptions…, Iv, 126; Lambert, Op. Cit., 5 F.

الفصل الثامن عشر: العصر الكاسي "1580 - أواخر القرن 12 ق. م"

الفصل الثامن عشر: العصر الكاسي "1580 - أواخر القرن 12 ق. م" الحياة الساسية ... الفصل الثامن عشر العصر الكاسي "1580 - أواخر القرن 12ق. م": الحياة السياسية: تعرض الشرق الأدنى قبيل عهد حمورابي لأخطار الجماعات الهندوآرية التي صورنا تدفقها على أطرافه من أواسط آسيا، خلال حديثنا عن ممهدات عصر الهكسوس في مصر القديمة، وكيف بدأت على هيئة تسللات قبلية بسيطة واستمرت كذلك أجيالًا طويلة ثم أعقبتها هجرات عنيفة بقضها وقضيضها تفرقت فيما وجدت سبيلها ميسرًا إليه من مناطق آسيا الصغرى وشمال بلاد النهرين وشمالها الغربي وفي الشام ثم شمال مصر. وأسلفنا كيف عرفها التاريخ بعد استقرارها في كل بلد من هذه البلاد باسم خاص، فعرف أهلها في آسيا الصغرى باسم الخاتيين "ثم باسم الحيثيين"، وعرفهم في المناطق الشمالية الغربية من نهر الفرات باسم الحوريين "أو الخوريين"، وعرفهم في مرتفعات بلاد النهرين باسم الكاسيين "أو الكاشيين"، وكان الاسم الأخير فيما يحتمل اسمًا لجماعات آسيانية قديمة نزلوا عليها وأدمجوها تحت زعامتهم. وليس ما يعرف يقينًا عن موطن الكاسيين الأصليين، وهناك آراء تردهم إلى المرتفعات الشرقية، وتنسب اسمهم إلى اسم معبودهم كاشو، وتربط بينهم وبين جماعات متأخرة عنهم في الزمن ذكرها بطلميوس الجغرافي باسم Kossaeans وذكرهم غيره باسم Kosians 1. وأحست دولة بابل بتسللات الكاسيين والحوريين والخاتيين أيضًا. ولكن أقربهم خطرًا عليها كانوا الكاسيين الذين لعبوا في مرتفعات العراق دور الجوتيين القدماء. واستطاعت جيوش حمواربي وجيوش خلفه سمسو إيلونا أن ترد خطرهم فانكسرت حدتهم إلى حين، واكتفوا بالتسلل السلمي البطيء إلى مدن العراق المتحضرة وعملوا فيها أجراء مرتزقة، بينما ظلت قبائلهم الكثيفة الطامعة في الخيرات والسيطرة تتربص بدولة بابل الدوائر. وأحاطت الدوائر ببابل من عاملين: عامل داخلي وآخر خارجي. فقد انشق على الدولة في الداخل أهل مناطقها الجنوبية، وكانوا فيما يبدو خليطًا من ذراري السومريين ومن قبائل أمورية مهاجرة، وعمل هؤلاء وهؤلاء شيئًا فشيئًا على استصلاح أراضي المناقع القريبة من مصاب النهرين ليكون لهم منها موطن جديد، وكونوا لأنفسهم دولة ناشئة عرفها التاريخ باسم دولة البحر "أو أرض أوروكوج" نظرًا لقربها من سواحل الخليج العربي، وظهر خطرهم فيما مر بنا منذ أواخر عهد سمسو إيلونا البابلي، وربما نجحوا في ضم نيبور المدينة الدينية القديمة إلى حوزتهم، فحاربت جيوش سمسو إيلونا جيوش

_ 1 Cf. Sidney Smith, Alalakh And Chronology, 21 F.; R. Girshman, Iran, Pelican Series, 65. فيصل الوائلي: الكاشيون.

ملكهم إيليما إيلوم مرتين بغير نتيجة حاسمة. واستمر خطر هذا الملك الأخير في عهد إبيشوم البابلي "خليفة سمسو إيلونا الذي حاول أن يستعين على هزيمته بإقامة سد في مجرى نهر دجلة يؤدي إلى إفاضة مائه على دولته، ولكنه فشل في الانتصار عليه1. وهكذا استمرت عوامل الشقاق الداخلي تعمل عملها في تفتيت جسم الدولة. وبدأ الخطر الخارجي على دولة بابل من قبل الخاتيين "الحيثيين" الذين تكررت اعتداءاتهم على حدودها القريبة منهم، ثم ازدادت غاراتهم شدة عليها بتقادم عهدها وازدياد مساكلها الداخلية حتى استطاعوا في عهد مكلهم مورسيل الأول أن يحتلوا مدينة بابل نفسها وغنموا كنوزها ودمروها تدميرًا هائلًا حوالي عام 1595ق. م، وقضوا على استقلالها في عهد ملكها الحادي عشر "سمسوديتانا"2، ولا زالت آثار تدميرهم لها باقية. وحاول الخاتيون أن يمتدوا في جنوب بلاد النهرين، ولكن وقفت في سبيلهم دولة البحر الناشئة وكسرت شرتهم لا سيما بعد أن بعدت الشقة بينهم وبين أرضهم. ولهذا لم يجد التاريخ بأسًا في أن يحتفظ لهذه الدولة "دولة البحر" بذكرى طيبة فأطلق على أسرتها الحاكمة اصطلاحًا اسم أسرة بابل الثانية. ولم تطل إقامة الخاتيين "الحيثيين" في بابل، ونزحوا عنها بعد أن أضعفوا شأنها في عالم الحرب والسياسة. وربما تركوا فيها حامية قليلة، فخلا المجال للخصمين الآخرين، دولة البحر والكاسيين. وكانت دولة البحر أسبق إلى الاستفادة من الوضع القائم، وشجعها أنها ساهمت في تخفيف قبضة الخاتيين على بابل ... ولكن المهمة كانت فوق طاقتها، ولم يطل أمد استقرارها هي الأخرى، واضطرت إلى أن تواجه أطماع الكاسيين الذين مالت كفة النصر إلى جانبهم في عهد زعيمهم جانداش الذي أعلن نفسه ملكًا على بابل والأركان "أو الأقاليم" الأربعة سومر وأكد، وبدأت منذ ذلك الحين أسرة مالكة جديدة عرفت اصطلاحًا باسم أسرة بابل الثالثة. واستمرت دولة البحر قائمة لبعض الوقت في عصر الكاسيين، ونسبت الحوليات إلى أحد ملوكها الأواخر "إيا جميل" مهاجمته لأرض عيلام، ولكن الكاسيين استمروا يوجهون هجماتهم عليها حتى قضوا على استقلالها. ساد الكاسيون جزءًا كبيرًا من العراق، ولكن أعدادهم كانت قليلة، وحضارتهم القومية كانت خشنة ضئيلة، فاكتفوا بأن اعتبروا أنفسهم طبقة أرستقراطية حاكمة بين السكان الأصليين وانتفعوا بحضارة بلاد النهرين وقلدوا فنونها في مبانيهم ومعابدهم وتماثيلهم، واعتبروا اللغة البابلية السامية لغة الكتابة الراقية إلى جانب لغتهم الخاصة. وكان كل ما أضافوه إلى حضارة بلاد النهرين هو أنهم أدخلوا إليها سلالات جديدة من خيول سهوب آسيا طغت شيئًا فشيئًا على أنواع الحمير الجبلية وسلالة السيسي القديمة، وغيروا

_ 1 See, Anet, 271; Ebeling, Aot, 337. 2 Anet, 271.

بعض وحدات الأوزان والمقاييس "شأنهم شأن الهكسوس في مصر". وكان من التطورات اليسيرة التي لحقت بصناعة الأختام الأسطوانية في عصرهم كثرة صناعتها من اليشب وبداية صناعتها من العقيق اليماني وكثرة تسجيل دعوات التعبد وتمجيد الأرباب عليها على حساب صور الأشخاص والأشياء. ثم دخلت صناعة الحديد إلى العراق في النصف الأخير من عصرهم. وأرخ الكتبة الكاسيون بسنوات حكم ملوكهم1. بعد أن كان أهل العراق يؤرخون بالأحداث الرئيسي أكثر من غيرها. وشاد بعض ملوكهم مدنًا جديدة نسبوا بعضها إلى أنفسهم، وأخصها مدينة دور كوريجالزو، أي مدينته أو حصنه، وهي عقرقوف الحالية التي تبعد عن بغداد بنحو عشرين ميلًا2. وجرى الملوك على السياسة القديمة في منح الإقطاعيات العقارية للمقربين إليهم من العسكريين والمدنيين ويبدو أنهم حرروا ملكيتها بحيث أصبحت أشبه بالأملاك الخاصة لأصحابها، لا سيما بالنسبة لأفراد الطبقة الكاسية الحاكمة. ومن الوثائق الطريفة التي احتفظت بأسلوب منح الإقطاعيات والإعفاءات في عصرهم، هبة سجلها ملك كاسي يدعى "مليشيباك" باسم ابنته وابنه، ومنح كلًّا منهما بمقتضاها إقطاعية واسعة في أرض البحر بعد أن استصلحها أعوانه وأعدوها للزراعة وأنشئوا فيها قرًى جديدة. وشفع الملك تفاصيل هذه الهبة بإعفائها من التكاليف التي تفرضها دولته على مناطقها الزراعية، وهي تكاليف عرفتها بلاد النهرين قبل عهده بعصور طويلة، ويفهم من قراراته بشأنها أن الدولة كانت تحصل على جزء من باكورة المحاصيل الزراعية، وتستخدم مواشي الإقطاعيات لمصلحة أرضها الزراعية الخاصة حين تشاء وتسخر العمال الزراعيين في خدمة المرافق الملكية والمرافق العام مثل شق الترع وتطهيرها وتشييد جسورها وقطع الحشائش المائية والأعشاب البرية، وهي إجراءات اعتادت عليها أغلب الحكومات القديمة. واتسعت الصبغة الإقطاعية في الدولة إلى حد يمكن اعتبارها معه ممثلة للعصور الوسطى البابلية، وكان من مظاهرها بين الطبقات العادية توارث الحرف بين أسر وطوائف معينة، يذكر الشخص فيها باسمه واسم أبيه ثم ينسب إلى حرفته، وذلك مما سمح بتتبع أصول بعض الأسر الحرفية فيها لبضعة أجيال، وكانت منها أسر للكتبة ارتبطت بالمعابد أكثر مما ارتبطت بغيرها وكان لها الفضل في نسخ كثير من الألواح الدينية والأدبية القديمة3. وعبد الكاسيون أرباب بلاد النهرين إلى جانب أربابهم القوميين، بأسمائهم القديمة أحيانًا وبمسميات آرية أحيانًا أخرى4. واعتز أحدهم "أجوم" بأنه أرجع تمثال مردوك وتمثال زوجته زربانيتوم من دولة

_ 1 Cf. Albert T. Clay, Documents From The Temple Archives Of Nippur Dated In The Reigns Of Cassite Rulers, 1926; A. Pocbel, Assyriological Studies, 15. 2 Iraq, Supplement, 1944, 1945, Iraq, Viii “1946”, 73 F. Lambert, Op. Cit., 13. Sabatino Moscati, The Face Of The Ancient Orient, 1961, 154.

هانا بعد أن اغتصبهما خلال فترة الفوضى التي عمت بلاد النهرين في أعقاب الغزو الخاتي، وأعادهما إلى إساجيل بابل في احتفال مهيب1. واتبع الملوك الكاسيون سياسة ملوك العالم القديم في اكتساب ود رجال الدين وتأكيد القربى من الأرباب عن طريق منح الهبات والإقطاعيات للمعابد وإعفائها من الضرائب، وكانوا يمنحون بعض هذه الهبات من خزائنهم ويسجل رجالهم أخبارها على نصب حجرية صغيرة تسمى كودورو، إلى جانب تسجيلها على ألواح الطمي العادية. واستغل الفنانون سطوح هذا النصف لتصوير هيئات ملوكهم أصحاب الفضل في منح الإقطاعيات، تصويرًا مختصرًا حينًا، وتصويرًا يفسر ملامحهم وملابسهم وأغطية رءوسهم حينًا آخر2. كما استغلوها لتطوير رموز أربابهم الذين أشهدوا على منحها ووضعوها تحت رعايتهم. ومن هذه الرموز رموز حيوانية تصرف الفنانون في تشكيل صورها، ورموز أخرى معمارية تصور واجهات الهياكل والمقاصير البدائية، وذلك مما جعل منها مصدرًا من مصادر المعرفة بعمارة المعابد الأولى. وكان الفنانون يضمنون نقوش نصبهم هذه مناظر أسطورية يستهدفونها لذاتها ومضمونها حينًا، ويستغلونها لغرض الزخرف وملء الفراغ وإظهار البراعة في التخيل والتصور حينًا آخر. وتابع الكاسيون عادة الغزاة محبي الاستقرار في اتخاذ رعاية المعابد ستارًا يُنسي الناس أصلهم الدخيل القديم. فأصلحوا معابد بابلية كثيرة وأعادوا بناءها، وبقيت من شواهد معبادهم الجديدة أطلال زقورة ضخمة بجانب قصر الحكم في عاصمتهم دور كوريجالزو "عقرقوف بجوار بغداد"، أدت إليها ثلاثة طرق صاعدة ذات درجات، على مثال زقررة أور3. وأطلال معبد في الوركاء للمعبودة إنانا "يؤرخ عهده بأواسط القرن الخامس عشر ق. م"4. وانضافت إلى عمارة المعابد في عصرهم تطورات وإضافات تناولت محاور المقاصير الرئيسية وتشكيل الواجهات الخارجية. فامتازت عمارة معبد الوركاء بتدعيم أركانه الخارجية بأكتاف ذات مستويين لم تمارسها بلاد النهرين إلا قبيل عصورها التاريخية ثم هجرتها. وامتازت بعض المشكاوات الخارجية للمعبد نفسه بتحوير زخارفها تحويرًا محدثًا عن طريق استغلال بطونها في بناء تماثيل أرباب وربات من اللبن تبرز من جسم البناء نفسه، مع تشكيل رأس كل معبود وجذعه الأعلى تشكيلًا كاملًا والاكتفاء بتشكيل الخطوط العامة لبقية جسمه على هيئة الثوب الطويل المحبوك، وتشكيل لبنات هذا الثوب بما يرمز إلى مدرجات الجبال بالنسبة للأرباب وتموجات الماء بالنسبة للربات. واستغل بناء المعبد المسطحات الفاصلة بين كل مشكاة وأخرى لتشكيل زخرف جديدة على هيئة خطى زجراج رأسيين متقابليين يعبران عن سلسولي ماء ويصبان فوق جبلين "؟ "، وأحاط المشكاوات بأطر علوية وسفلية تعاقبت فيها حليات على هيئة الأقراص والدوائر. وكان ذلك كله بدعًا في عمارة بلاد النهرين5. وأضافت العمائر المدينة الكاسية تجديدًا آخر تمثل في بناء

_ 1 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - ص52. 2 Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 71. 3 انظر سومر 1961. Ibid., 63; Iraq, 1944, 1945, 1946. 4 Frankfort, Op. Cit., Fig. 23. 5 Erster Vorl. Bericht…, Uruk-Warka, 1929, 30 F.; Frankfort, Op. Cit., Pl. 70 A.

صفات ذات أعمدة حول أفنيتها الكبيرة، وظهر لها ما يماثلها في عمائر الحيثيين في الأناضول. ودعت هذه التجديدات في العمائر الدينية والمدنية إلى احتمال دخول الكاسيين بفكرتها من بيئاتهم الأصيلة القديمة1. ولم تخل الفنون التشكيلية، من نماذج طيبة وإن كانت قليلة للغاية، ومن هذه النماذج رأس صغيرة للبوءة من الطين المحروق2 يعتبر آية من آيات الفن في تمثيل شرطة العين وتجويفها وتكوين الفم والأنف والتعبير عن شعيرات الوجه، بخطوط بسيطة متمكنة. ورأس صغيرة لرجل، من الطين المحروق الملون أيضًا3، مثلته بأنف أقنى بعض الشيء، وأجادت التعبير عن بروز شفته العليا عن السفلى، وعن تصفيف شعره.

_ 1 Op. Cit., 64. 2 Ibid., Pl. 70 C. - وارتفاعها نحو 5 سم. 3 Ibid., Pl. 70 B. - وارتفاعها نحو 7 سم.

العلاقات الخارجية

العلاقات الخارجية: وسارت العلاقات الخارجية السلمية للدولة الكاسية في نطاق عادي محدود. فسارت قوافلها التجارية في مسارتها التقليدية مع بلاد الشام ومصر، وكانت النصوص المصرية قد ذكرت اسم بابل مرتين خلال عصور دولتها الحديثة حتى عهد تحوتمس الثالث1، ثم أغفلته تمامًا، ربما بعد انتقال أزمة الحكم إلى الكاسيين، واستخدمت بلده كلمة سنجار لمدلول يتسع عن المدلول الإقليمي لكلمة بابل "كما ذكرت اسم جبل سنجار، وهو جبل يقع غربي الموصل"2. واكتست العلاقات المصرية البابلية بطابع الصداقة الشخصية خلال القرن الرابع عشر ق. م، وتمخضت هذه الصداقة عن مصاهرة البيتين الحاكمين أكثر من مرة، ومما يذكر في هذا زواج أمنحوتب الثالث بابنة الملك البابلي كاردونياش وطمعه فيما بعد في الزواج من بنت أخيها كادشمان خاربي "أو كادشمان إنليل"، مع ضنه في الوقت بتزويجه إحدى بناته أو إحدى أميرات بيته الفرعوني المالك. وعندما اضطرب حبل الأمن بين الأموريين والكنعانيين في الشام خلال عهد الفرعون المصري آخناتون، وتأثرت المتاجر البابلية بفوضى الطريق في أرض كنعان، لم يجد الملك الكاسي البابلي غير الفرعون المصري يستصرخه لتأمين تجارته ويقول له "كنعان أرضك ... وأمراؤها مواليك" وأرسل له مع رسالته هدية ثلاث مينات من اللازورد وخمسة جياد وخمس عربات3. وظل الكاسيون يؤلفون الطبقة الحاكمة في قلب العراق ما يقرب من خمسة قرون "من أوائل القرن 16 إلى أواخر القرن 12ق. م"، ولم يجد المؤرخون بأسًا في أن يعتبروا أسرتهم، فيما أسلفنا، الأسرة البابلية

_ 1 وذكره أحد النصوص المصرية باسم ببر" ولم تكن الحروف الهجائية المصرية تتضمن حرف اللام وإنما تعبر عنه بالنون والراء أو بإحديهما". See, Urk., Iv, 668, 12. 2 H. Gauthier, Dict. Geog., Ii, 20 F.; Ed. Meyer, Festschrift Fur Ebers, 63 F.; Muller, Egyptian Researches, Ii, 92. 3 ديلابورت: المرجع السابق - ص55.

الثالث، على الرغم من أنهم كانوا أغرابًا في أصلهم عن بابل وعن محيطها كله. ولكن لم يخلص لهم أمر بلاد النهرين تمامًا خلال قرونهم الخمسة، ففضلا عن دولة البحر التي نازعتهم السيادة على المناطق الجنوبية في بداية عصرهم حتى تغلبوا عليها، تحكم الآشوريون في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية من نهر دجلة، وتحكم الحوريون في المناطق الغربية والشمالية الغربية من نهر الفرات، بغير حدود صريحة فاصلة بين امتداد هؤلاء أو هؤلاء. ثم ظهر بعدهم الميتانيون. مع آشور: لم كتن آشور ذات شأن كبير في بداية الأمر، وقد اقتطع الحوريون جزءًا من أرضها، وعاملها الكاسيون على حذر. وحدث أن تصاهر البيتان الحاكمان في آشور وبابل لبعض الوقت، فتزوج الملك البابلي "كارونداش" من ابنة الملك الآشوري "آشور أون بالليط"، وجعل ولدها ولي عهده، فعز على الأمراء الكاسيين أن يسري الدم الآشوري في عروق صاحب عرشهم ويصبح ذلك سببًا لتدخل الآشوريين في شئون دولتهم، فاغتالوا ولي العهد وولوا غيره مكانه. ولا تعنينا هذه المصاهرة وذالك الاغتيال من حيث هما حادثان فرديان، ولكن تعنينا دلالتهما على عدم توافر الثقة بين الدولتين. وحدث أن خرج الآشوريون عن نطاقهم الإقليمي، وأوفدوا سفارة إلى الفرعون المصري آخناتون، فاحتج الملك البابلي على هذه الجرأة وكتب إلى الفرعون المصري بأنه لم يكن يحق للآشوريين أن يتصلوا به اتصالًا مباشرًا وأنه لا يزال يعتبرهم من أتباعه1. مع الحوريين: كان الحوريون فرعًا من الفروع الهندوآرية اتخذوا طريقهم إلى الشرق بنفس السبيل الذي اتخذه غيرهم من فروع الهجرات الكبيرة، أي عن طريق التسلل البطيء ثم عن طريق الهجرة العنيفة في ظل ظروف مناسبة2. واعتبر بعض الباحثين أقدم أمرائهم المعروفين في الشرق أميرًا يُدعى نيزادا حكم منطقة أوركيس في القرن الثالث والعشرين ق. م، غير أن هذا التقدير لا يخلو من شك كبير، وأقرب منه إلى الصحة ما يعرف عن ظهور أعمالهم وأخيلتهم الدينية في نصوص ماري منذ أوائل القرن السابع عشر ق. م، وظهور تأثيرهم في الدولة الحالية "الحيثية" منذ عهد ملكها نتيليس الأول، وذلك مما يحتمل معه إرجاع وصولهم إلى المشرق إلى القرن الثامن عشر ق. م أو ما هو قريب منه3. ثم امتد نشاطهم في قلب بلاد النهرين حتى

_ 1 ويضيف ديلاورت أن الملك الآشوري كان قد غار من إهداء الفرعون إلى توسراتا الميتاني عشرين وزنة من الذهب، وتساءل عن سبب عدم حظوته بمثل هذه المعاملة. 2 Cf. E.A. Speiser, Introduction To Hurrian, New Haven, 1940, 1941; I. J. Gelb, Hurrians And Subarians, Chicago, 1944. 3 See, S. Moscati, Op. Cit., 189; A. Pohl, Khurriti, Encyclopaedia Cattolica, Vi, Citta Del Vaticano, 1951, Coll. 1511-12.

منطقة أرانجا "كركوك" ونوزي "يورجان تبة الحالية" جنوب شرق نينوى1. كما امتدوا غربًا في المناطق السورية، ولو أن هذا الامتداد كان فيما يغلب على الظن امتدادًا تجاريًّا وتسربًا سلميًّا يرتبط بالنفوذ الاقتصادي والنفوذ الحضاري أكثر مما يرتبط بالنفوذ الحربي أو السياسي. وقد أخذوا بالحضارة البابلية في العراق وكتبوا لغتهم الحورية بخطها المسماري، ولم يكونوا بغير أثر في حياتها العامة، لا سيما فيما شغلته فيما بعد دولة آشور "كما سنرى فيما بعد". وعرف المصريون القدماء أقرب مناطق الحوريين إليهم بمترادفات: نهري، ونهرن، ونهرينا2، وعرف البابليون المنطقة نفسها باسم "ماتونخريما" "وماتوناريما". وليس ما يعرف إن كان الاسم المصري "نهرينا" ومرادفه البابلي "نخريما"، يدل على معنى "أرض النهر"، ويدل ذلك على "بعض" أراضي الفرات، أم يدل على صيغة التثنية ويعني نهرين معينين ويدل بذلك على ما يمتد بين نهر الفرات وبين فرعه نهير الخابور. وعلى أية حال فقد عنت النصوص المصرية بكلمة نهرن ومترادفاتها أراضي تمتد حول ضفتي الفرات. مع الميتان: وفدت على الحوريين وافدة جديدة من بني عمومتهم الهندوآريين حوالي القرن السادس عشر ق. م، واشتهر هؤلاء الوافدون باسم مثن والميتان والميتانيين، وذكرت النصوص المصرية بلادهم باسم "تاومثن" واسم "خاسوت متن"، أي أراضي مثن، وبراري "أو أقطار" متن. وقد أخذوا بالنظام الفيدرالي الذي اعتاده أغلب الهندوآريين ذوي الأصول الرعوية، وهو نظام كان يجعل السادية في أيدي طبقة من النبلاء المحاربين يسمون "ماريانو" ويعتبرون أنفسهم أقرانًا بعضهم لبعض ويعتبرون ملكهم رأس أقرانه. وذكرت النصوص المصرية أقدم ملوكهم المعروفين لها باسم سوشاتار. واتخذ المتيانيون عاصمتهم في مدينة تسمى واسوكاني "أو أشوكاني"، وهي مدينة صعب تحديد مكان أطلالها وإن ذهب الظن إلى تقريبها إلى الفخارية على نهير الخابور شرق تل حلف وحران. وحاولوا أن يسودوا الحوريين، وربما نجحوا في ذلك وجعلوا أغلبهم من رعاياهم، كما شتتوا فريقًا منهم إلى أطراف الشام حيث تضمنت الرسائل المسمارية لأمراء جنوب الشام المرسلة إلى البلاط المصري أسماء قريبة من الأسماء الحورية. واحتفظ الحوريون والميتانيون من أربابهم الهندو آريين بالأرباب إندرا، وفارونا، وميثرا، وربما تيشوب رب الزوابع، وهبة ربة الشمس أيضًا، ولكنهم جمعوا إلى أولئك الأرباب بعض أرباب بلاد النهرين الساميين وقدسوهم، لا سيما إشتار التي صوروها في أساطيرهم تناصر الخير وتقف في وجه مارد شرير يُدعى خيدامو.

_ 1 A.H. Gardiner Ancient Egyptian Onomastica, I, 185. 2 Urk. Iv, 697, 3-4, Wb. Ii, 286, 11; Zaes, Lxix, 24 F.; Davies, Tombe Of Two Officials, Pl. 28; Urk. Iv, 891, 8; 710, 4, 15; 711, 5; Papyrus Anastasi, Iv, 15, 4.

واتسعت دولة الميتان فيما جارها من أرض العراق وأرض الشام وضغطت لفترة ما على نشاط جيرانها الآشوريين والخاتيين، وحاولت أن يكون لها ضلع في زعامة الشرق فتنازعت مصر في زعامتها التي حققتها لنفسها منذ أوائل دولتها الحديثة حين امتد نفوذها فيما بين الشلال الرابع جنوبًا وبين ضفاف الفرات شمالًا بشرق. ومر في ص216 وما بعدها كيف بدأ الميتان تنفيذ أطماعهم بطريق غير مباشر، فألبوا بعض أمراء الشام على المصريين منذ أواخر عهد الملكة المصرية حاتشبسوت وخلال أوئل عهد الفرعون تحوتمس الثالث، كيف تصدت لهم جيوش هذا الفرعون وأفسدت مشاريعهم ومشاريع حلفائهم، وكيف استمرت العلاقات بين الدولتين، مصر والميتان، علاقات عدائية حتى نهاية عهد الفرعون أمنحوتب الثاني، ثم مالت الدولتان إلى سياسة التقارب. وليس من المستبعد أن يكون التقارب قد بدأ من ناحية الميتان بعد أن أحسوا ببداية استيقاظ الآشوريين في شرقهم وبداية استعداد الخاتيين "الحيثيين" في شمالهم الغربي، وتمخض التقارب بين الدولتين عن مصاهرة بيتيهما الحاكمين منذ عهد الفرعون المصر تحوتمش الرابع وفي عهد ولده أمنحوتب الثالث، وعهد حفيده آخناتون. واستقرت حينذاك صداقة الدولتين، وراسل حكامهما بعضهم بعضًا بلفظ الأخوة، واعتاد كل منهم على أن يسأل الآخر في رسائله عن أهله وداره وخيوله وأتباعه. وتسامح المصريون مع ديانة أصدقائهم، ولم ير أمنحوتب الثالث بأسًا في أن يتقبل في قصره تمثالين صغيرين للمعبودين العراقيين شمش وإشتار أرسلهما الملك الميتاني مع ابنته عروس أمنحوتب لتستعين ببركتهما على إقرار حبها في قلبه، ولم يجد بأسًا في أن يتقبل تمثالًا آخر لإشتار أتاه هدية من صديقه الميتاني ليتبرك به في مرضه. ويبدو أنه كانت لبلاد النهرين في جملتها شهرة خاصة في الطب والسحر تعادل شهرة مصر فيهما؛ إذ تكررت نفس الظاهرة مع الحيثيين في عصر لاحق لهذا العصر، وطلب الملك الحيثي موتاللو من معاصره البابلي أن يوفد إليه طبيبًا وساحرًا، وإن كان قد طلب نفس الطلب من مصر أيضًا فأرسلت إليه تمثالًا لمعبودها رب الشفاء خنسو ومعه كاهن ملازم له. وليس من المستبعد حين يتم الكشف عن عاصمة الميتان القديمة أن يتضح مدى تأثر إنتاجهم الفني بالفن المصري القديم، وتتميز من آثارهم المعروفة أوانٍ فخارية لطيفة ذات صبغة صفراء وخطوط سوداء غليظة ورسوم تخطيطية بيضاء1. وعلى أية حال، فقد ظلت دول العراق تتطلع إلى مصر خلال هذه العهود على أنها أكبر دول الشرق كله، بحكم ضخامة إمكانياتها المادية والبشرية والفكرية، وأسلفنا في بحثنا للتاريخ المصري "ص221" كيف ظل ملوك الشرق وأمراؤه يرجون فرعون مصر أن يفيض عليهم من ذهبها نظير هداياهم من الأرقاء والجواري والمركبات والجياد والأحجار الكريمة، تساوي في ذلك ملوك الميتان وملوك بابل وملوك آشور، فضلًا عن أمراء الشام وحكام قبرص. وكيف أنه على الرغم من ترحيب ملوك الشرق وأمرائه بمصاهرة أمنحوتب المصري، ظل ضنينًا عليهم بأميرات بيته، بحجة أنه لم يسبق أن تزوجت أميرة مصرية بشخص أجنبي.

_ 1 عثر على نماذج هذه الأواني في مناطق عدة مثل: نوزي وآشور ونينوى وتل حلف وتل العطشانة. Cf. A. Parrot, Archeologie Mesopotamienne, I, Paris, 1946.

لم يطل أمد السلام الذي حققه الميتان لأنفسهم، فبدأ الخاتيون ينافسونهم في المنطقة الشامية العراقية التي تلي الأناضول وتمتد فيما بين الفرات وبين ساحل البحر المتوسط، وكان لهم ضلع ذات مرة في إزاحة أحد الملوك الميتان عن عرشه وتنصيب أحد عملائهم وصيًّا على وريث العرش الصغير. وظلت الحال مائعة بين الدولتين حتى ولي عرش الخاتيين ملكهم الطموح سوبيلوليوما فهاجم بجيوشه أرض الميتان ولكن ملكهم توسراتا استعان بصهره الفرعون المصري أمنحوتب الثالث فأعانه بجيوش ردت الخاتيين على أدبارهم، واحتجز الملك الميتاني عربة وخيلًا من الغنائم لصهره أمنحوتب المصري، وبعض الحلي لأخته "زوجة أمنحوتب"1 ثم شغلت مصر مشاكلها الخاصة عن حليفتها، وعمل الملك الخاتي من ناحيته على تأليب بعض الأمراء الميتان على ملكهم وعلى استمالة ود الآشوريين في نضاله معهم، ثم ضرب ضربته فهاجم بجيوشه عاصمة الميتان وكاد أن يقضي على دولتهم لولا أن شغلته عنهم ثورة في أملاك دولته بشمالي الشام، وعندما انسحب بجيوشه من العراق، استغل أصدقاؤه الآشوريون تخلخل الموقف لصالحهم، فاتبعوا طريقته واستمالوا بعض الأمراء الميتان إلى صفوفهم، وهاجموا العاصمة الميتانية واستردوا منها كنوزًا كان الميتان قد اغتصبوها من أرضهم، ولكن آشور كانت على الرغم من ذلك لا تزال في بداية نهضتها ولهذا لم تستمر في الشوط إلى نهايته. وعادت أزمة الموقف السياسي إلى أيدي الخاتيين وساعدهم أن اغتيل خصمهم الميتاني العنيد توسراتا، فأجبروا ولده "ماتي يوزا" على عقد معاهدة معهم اعترف فيها بخضوعه لهم2. وما لبثت دولة الميتان حتى توارت من مسرح الحرب والسياسة، حوالي عام 1365ق. م3. وتشتت أهلها الآريون في نواحي الأناضول وسواحل الشام، ولم يعودوا يعرفون باسم الميتان وإنما باسمهم القديم "الحوريين" أو "الخوريين"، وكان لهم أثر لاينكر في نقل ثقافة بلاد النهرين وأساطيرها إلى المناطق التي نزلوها سواء حين قوتهم أم حين تظاقهم.

_ 1 ديلابورت: المرجع السابق - ص295. 2 نفس المرجع - ص296 - 297. Cf. Goetze, Der Hethiterreich, In Der Alte Orient, 1928, 26 F.; L. Delaporte, Les Hittites, 93 F.

الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة

الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة: لم تستفد دولة بابل الكاسية كثيرًا بزوال الضغط الميتاني على حدودها، بل على العكس من ذلك وجدت نفسها وجهًا لوجه أمام قوتين ناهضتين طموحتين، وهما دولة آشور ودولة الخاتيين، فضلًا عن دولة إلام "عيلام" منافستها العتيدة. واستعرضت بابل عضلاتها مع إلام، وتحدت كل منهما الأخرى، ورُوي أن الملك العيلامي تحدى معاصره البابلي كوريجالزو تحديًا شخصيًّا، وقال له "أقبل، ندخل المعركة ... أنت وأنا"، وحالف الحظ البابلي فتقدم بجيوشه حتى العاصمة العيلامية سوسه، وشجعه هذا النصر على أن يجرب حظه مع آشور،

ولكنه فشل معها. وظلت كفة النصر متأرجحة بين بابل وبين جارتيها إلام وآشور فطورًا يسود الهدوء، وطورًا يغلب البابليون وطورًا يغلبون، على حين أدى انشغال الخاتيين بمنافسة المصريين تارة ومنافسة الآشوريين تارة أخرى، إلى بقاء علاقات الود الظاهري قائمة بينهم وبين البابليين، بحيث طلب الملك الخاتي "الحيثي" خاتوسيل ذات مرة من حليفه البابلي "كادشمان إنليل الثالث؟ " أن يتعاون معه في مهاجمة عدو مشترك، قد يكون من الآشوريين أو من الهجرات الأرامية التي بدأت حينذاك تهدد سبل التجارة بين الدولتين. وعلى أية حال، فسوف نوجز هذه الوجوه المختلفة للعلاقات بين بابل وبين جيرانها، في أن بابل فقدت روحها الجريئة الخلاقة في أغلب عهود الكاسيين، وسارت أمورها رتيبة مقلدة في أغلب أحوالها، فيما خلال هزات قليلة متباعدة، كان أعنفها بالنسبة لبابل مهاجمة جيوش الملك الآشوري توكلتي نينورتا الأول لها وتدميرها إياها وسلبها كنوزها. وبرر الكتبة الآشوريون هذه القسوة بادعائهم أن أرباب المدن البابلية كانوا قد هجروها استياء من مسلك كاشتيليات ملك بابل ولعنوها. ثم رحبوا بالفاتح الآشوري الذي انتقم لهم بتأديب مدنهم1، "وهذا هو منطق المنتصر في كل زمان، مع تغيير ألفاظه بما يتناسب مع عصره". ولكن ما لبث البابليون حتى أخذوا بثأرهم من آشور وحاصروا عاصمتها عقب اغتيال ملكها الفاتح العنيف توكلتي نينورتا في أواخر القرن 13ق. م. وكان احتدام النتافس بين بابل وبين آشور فرصة الإلاميين، فتجرءوا على جنوب العراق وهاجموا بابل نفسها، وطالت اشتباكاتهم معها حتى دمروها أكثر من تدمير الآشوريين لها، وقضوا على الحكم الكاسي فيها في أواخر القرن الثاني عشر ق. م وغنموا ما بقي من كنوزها ونقلوا أغلب آثارها الفنية إلى عاصمتهم سوسه، سواء حبًّا في الغنم والنهب، أو لحرمانها من كل ما يذكرها بأيام مجدها، وكان من هذا الآثار ما يتعلق بملوك قدماء أحرزوا النصر عليها، مثل: نصب سرجون الأكدي، ونصب نرام سين، وعمود "أو مسلة" مانيشتوسو، ونصب تشريعات حمورابي الذي ظل في عاصمتهم حتى عثر عليه في أوائل القرن الحالي، ونصب أخرى كاسية وغير كاسية كثيرة، يغلب على الظن أنهم أجبروا الأسرى البابليين على نقلها بأنفسهم رغم ضخامتها وشدة ثقلها. غير أن بابل ذات الماضي المجيد لم تكن لتموت بسهولة، وإن ترنحت طويلًا تحت ضربات خصومها، فتحاملت حتى نهضت وتزعمها ملوك ناضلوا في سبيل تحرير أرضهم من ربقة السيطرة الإلامية، وعرفت أسرتهم اصطلاحًا باسم الأسرة البابلية الرابعة، ومدت جيوش أشهر ملوكهم نبوخذ روسر "نبوخذ نصر الأول"2 جناحيها شرقًا للانتقام من الإلاميين وغربًا لإرهاب بقايا الأموريين وخلفائهم الأراميين، لولا أن هذه النهضة البابلية لم يطل أمدها، وتعرضت بابل مرة أخرى لهزات عنيفة أتتها من قبل دولة آشور التي

_ 1 See, A.F.O, Xviii, 33 F., 42; Maog, Xii, 2, 7, 23 F. 2 See, W.J. Hinke, A New Boundary Stone Of Nebuchadnezzor I, Philadelphia, 1907.

نضج كيانها في المرحلة الثانية من عصرها الوسيط، وهزات أخرى أتتها من قبل الأراميين الذين فرضوا وجودهم على العراق فرضًا. وشقت بابل طريقها على وهن، بالحرب تارة وبالمهادنة والمصاهرة والرضا بالأمر الواقع تارة أخرى، حتى بلغ عرشها أحد الأراميين في النصف الأول من القرن الحادي عشر ق. م، واستطاع أن يصاهر معاصره الملك الآشوري ويضمن مهادنته، ولكنه لم يستطع أن يكفل الأمن الداخلي في دولته. وأحدثت التحركات الأرامية القبلية الداخلية كثيرًا من الاضطراب حتى تعاقبت ثلاث أسر حاكمة "من الخامسة إلى السابعة" في نحو نصف قرن، وكانت الأسرة الثامنة التي تلتها أفضل حظًّا في طول أمد حكمها، ولكن كان عليها أن تنتظر مصيرها المحتوم على أيدي الآشوريين في عصرهم الحديث، مما سنعرض لذكره مرة أخرى في سياق الفصل التاسع عشر.

من الحياة الفكرية في العصر الكاسي

من الحياة الفكرية في العصر الكاسي: اتضحت ظاهرة جديرة بالتسجيل بالنسبة لحضارة أهل العراق منذ أواسط الألف الثاني ق. م أو منذ ما قبلها بقليل، وهي انتشار خطهم المسماري وأساليبهم السامية وطريقتهم في الكتابة على ألواح الطين، انتشارًا واسعًا بفضل البابليين أولًا ثم الحوريين والميتانيين والكاسيين، في المراسلات الدبلوماسية لأغلب مناطق الشام ومناطق آسيا الصغرى، وذلك بحيث لم يتميز عن خطهم وأسلوبهم حينذاك غير خط مصر القديمة وأسلوبها. واستمر الحال كذلك، حتى بعد أن ضعف شأن البابليين والحوريين والميتانيين والكاسيين بفترة طويلة، وذلك مما يعني أن الكتابة بالخط المسماري والأسلوب البابلي أصبحت مجرد تقليد لا يرتبط بالضرورة بسمعة أصحابه الأصليين، وكان شأنها في ذلك يشبه ما أصبحت عليه اللغة الفرنسية حين غدت لغة الدبلوماسية الأوروبية إبان ازدهار ملكيتها وإمبراطوريتها ثم استمرت كذلك حتى الحرب العالمية الثانية بعد أن انكمشت سمعة فرنسا وزعامتها بزمن طويل. والطريف أن الإلاميين على الرغم من سعيهم المتصل لتحطيم بابل ونجاحهم فيما هدفوا إليه من تحطيمها، قد ظهر التشبه بين كتابتهم وكتابتها منذ أواخر القرن الثاني عشر ق. م، أي منذ أن حطموها، وإن كانوا قد قللوا عدد الرموز المسمارية إلى ما يزيد قليلًا عن المائة، وظلت هذه الرموز حتى العهد الأخميني يتشابه نحو خمسها مع كتابة بابل، أي حتى اسخدمت فيها الحروف الهجائية1. ونشأ بعض الظن بظهور اسم العراق في أواخر العصر الكاسي، عن طريق تقريبه من كلمة أريقا التي ظهرت في نصوصهم خلال القرن الثاني عشر ق. م، ولكن لا زال الجدل واسعًا بشأن هذا الاسم، وتميل بعض الآراء إلى اعتباره اسمًا سومريًّا دارجًا يعني الموطن، بينما تميل آراء أخرى إلى اعتباره اسمًا إيراني

_ 1 راجع منس في الفصل 35 من موسوعة جون هامرتون: تاريخ العالم - معرب بالقاهرة.

الأصل قريب الصلة بكلمة إيراك "على وزن إيران" ويعني معنى السهل أو البلاد السفلى "في مقابل مرتفعات إيران"، أما العرب فقد قربوه إلى معنى الجرف أو السهل وبخاصة في مناطقه الجنوبية1. ويذكر لصيغ التراسل الإدارية في عصر الكاسيين تعبير الرئيس فيها عن نفسه بلفظ الأب، وتعبير الزميل أو الصديق عن صديقه بلفظ الأخ2، ولو أن ذلك لم يمنع تزلف المرءوسين إلى رؤسائهم وتعبيرهم عن شد خضوعهم لهم في رسائلهم، ومن ذلك أن وصف حاكم إقليم نفسه في رسالة إلى ملكه بأنه التراب الذي يطؤه3. ومما نشر من لوحات التعامل في عصرهم لوحة تشير إلى رجل سجنه حاكم بلده، فكلفه آخر وقبل الحاكم كفالته فأطلق سجينه، وتعهد الضامن بأن يسلم ثلاثة عشر شاقلا وثلث شاقل من الذهب إلى وسيط لينقلها إلى السجين وزوجته ويسلمانها إلى الحاكم. وأرخ كاتب اللوحة موضوعها باليوم التاسع من تموز، العام الثامن للملك شاجاراكي شورياش "وقد حكم في أواسط القرن الثالث عشر ق. م"4. ولوحة أخرى تضمنت حكمًا في قضية استعار فيها رجل ثورًا من آخر ليعمل به في نتح الماء، فكسر ساقه. وعندما طالبه صاحب الثور بتعويض عنه ماطله ولم يوفِ بوعده، فقضى الحكم بأن يعوضه عنه من محصول حقله. وأرخ كاتب الجلسة القضية بشهر سيوان، العام الأول للملك العظيم تازي ماروتاش "وقد حكم في أوائل القرن الثالث عشر ق. م". أخرج كتبة العصر الكاسي قوائم بكلمات كاسية وما يقابلها من المفردات البابلية، أي بما يقوم مقام القواميس المقارنة "المتواضعة" ويجري مجرى قوائم المفردات السامية - السومرية القديمة. أما من حيث إنتاجهم الأدبي بمعناه الضريح، فقد ظل أدبًا مقلدًا غير مبتدع، اعتبروا الأصول البابلية فيه نماذج كلاسيكية تحتذى، وترتب على تقديرهم لهذا الأصول أن أدوا للتراث العراقي مأثرة جليلة، ألا وهي نشاط بعض المعلمين والمتأدبين منهم بنسخ لوحات الأدب القديمة، والبابلية منها بخاصة، سواء بأمر الحكام ولمصلحة مكتباتهم، أم لتلبية مطالب هواة الأدب القديم في عصرهم. وقد أصبح لهذا النشاط أثره فيما بعد عصرهم في تزويد المكتبات الآشورية الكبيرة بنماذج تحتذى للنسخ، كان الكتبة الآشوريون يحتفظون في عناوين نسخها الجديدة بأسماء ناسخيها الكاسيين القدامى، فيقولون مثلًا: "محاورة الثعلب" عن ابني مردوك بن لودومونونا، معلم ... ، و"محاور الصفصافة وفقًا "للوحة" أورنانا، معلم ... " ... وهلم جرًّا5.

_ 1 راجع كذلك: طه باقر: مقدسة في تاريخ الحضارات القديمة - جـ1 ص76. 2 The Babylonian Expedition Of The University Of Pennsylvania, Cuneiform Texts, Xvii, 76. 3 Ibid., 24. 4 Albert Clay, Op. Cit., No. 135. 5 J. Of Cuneiform Studies, Ii, 1 F. And 112 F.; W.G. Lambert, Babylonian Wisdom Literature, 1960, 13, 164, 186.

وفي إنتاجه الخاص القليل، استخدم الأدب الكاسي أسلوبًا يختلف عن لغة الحديث في عصره، استعاره الأدباء من لغة العصر البابلي الأول، وضمنوه كلمات سامية ظهرت قبله أيضًا1. لأمجدن رب الحكمة: عبر الأدب الكاسي عن حياة القلق والمحن التي عاشها أهله في نهاية عصرهم وما تلاه، بتوجعات ومنظومات غلبت عليها نغمة الشك والحزن، وإن انتهت في أغلب أحوالها بالخضوع للواقع، والتسليم بحكمة الرب فيما يبتلى به عباده من سراء ومن ضراء. ولم يكن هذا الاتجاه جديدًا تمامًا على آداب بلاد النهرين، فقد خرجت بمثله عهود الأزمات حين انهيار دولة أور، وخلال عهود القلق التي انتهى بها عصر إسين - لارسا، ولكنه أصبح أظهر وأشد مررة في العصر الكاسي. ومما يستشهد به في هذا السبيل، منظومة طويلة لسرى لاقى في حياته ما لاقاه أيوب في عصره، نعمة قصيرة وضراء طويلة، ثم أبل أخيرا بعد أن عز عليه الدواء. وأكد الرجل في توجعاته ما يعني أن المؤمن مصاب وأن القدر إذا انحط بكلكله على إنسان حطمه، أو على حد قوله عن ربه "ثقلت يده عليَّ فلم احتملها". ولم تحتفظ مقدمة منظومته بعنوانها، ولكن يفهم مما بقي منها أنها اشتهرت باسم "لود - لول بل - نميقي" وبما يعني "لأمجدن رب الحكمة"2. وصور الرجل في بدايتها مكانته الأولى حين كان ذا لقب وجاه وأسرة. مزارع وأتباع، وتحدث عن تقواه إزاء الأرباب وإخلاصه لملكه، وحسن معاملته لقومه، ثم صور كيف انقلب ذلك كله إلى عكسه، فذهب الجاه وتمرد الأتباع وتنكر الأصدقاء ونضبت العافية وكلح وجه الدنيا وادلهم، فعاش عيشة السوائم، وهجره ربه ومكن الناس منه فحطموه وسحقوه دون ذنب يعرفه. وقال وهو يعترف بعجزه عن فهم حكمة الغيب وتصاريف القدر: "هديت بلدي إلى شعائر الرب، ودعوت قومي إلى تمجيد الربة، ومجت الملك كما مجدت الرب، ووجهت الناس إلى إجلال القصر، وظننت أن هذا يرضي الإله، ولكن يبدو أن ما يظنه المرء صوابًا قد يكون مسيئًا لربه، وما يتراءى للإنسان قبحه قد يكون حسنًا عند ربه. فمن ذا الذي يدرك إرادة أرباب السماء؟ ومن ذا الذي يدرك تدبير آلهة الأعماق؟ وأين عرف الناس سبيل الرب حقًّا؟ إن من عاش الأمس مات اليوم وفي برهة هلك وفجأة انسحق. يهلل الناس ويفرحون حينًا، وفجأة ينوحون كالنادبات. تتغير أحوالهم ما بين فتحة ساق وانطباقتها؛ يجوعون فيغدون كأنهم جثث هامدة، ويشبعون فيزاحمون أربابهم. في السراء يتطاولون إلى السماء، وفي الضراء يهوون إلى الجحيم. لقد عجزت "وأيم الحق" عن كنه هذه الأمور وما أدركت لها مغزى"3.

_ 1 Op. Cit., 14. 2 R.H. Pfeiffer, Anet, 434 F.; R.D. Biggs, Ibid., 1969, 596-600; And See, Lambert, Op. Cit., 21 F. 3 Tabiet Ii, 29-48. وقارن هذا بتوجع رجل سومري قديم أمام ربه: Anet, 1969, 589-591.

واسترسل الرجل في توجعاته، ولكنه أنهى شكاواه بما جعله يمجد رب الحكمة، إذ تواردت الرؤى عليه، وتجلى له فيها رسل ربه الأكبر، فحملوا له أنباء عفوه، ثم تجلى له ربه مردوك بنفسه فباركه وشفى علته في النفس والبدن وجعله يوقن بحكمته في بلائه وبأن العقبى للأخيار مهما توارت عليهم المصائب. بين يائس وواعظ: هذه قصيدة أخرى ضمنها ناظمها وجهتي نظر في تصاريف القدر وحظوظ البشر، وأجرى أفكارها على لسان صديقين، صديق يبرح به وعانى ألوانًا من العذاب، وأخذ يتكلم باسم الواقع ويعبر عن مرارته، ويبحث عمن يسمع له ويتفهم غرضه من شكواه. وصديق آخر مجامل متفائل يتكلم باسم الدين ويدعو إلى الصبر وإلى الثقة بعدالة الرب. ناء أولهما بزمانه الذي يبجل الثري اللئيم، وليس فيه من يأخذ بيد المستقيم، وتساءل: "هل "ترى إلى" الأسد الفاتك الذي ينعم بأكل خير اللحوم يقدم قربانًا وبخورًا لربته ليهدئ غضبها "ويجعلها تناصره"؟ ". فيرد الآخر بقوله "إنه عدو القطيع، ذلك الأسد الذي نوهت به، وتذكر أنه من أجل زئير الأسد تحفر له الحفر، وذاك الذي تقول إنه اجتبى بالثروة وتكدست خيراته، قد يهلكه الحاكم ويجعله طعامًا للنار في وقته المعلوم، فهل تريد أن تسلك سبيلهم؟ أجمل بك أن تتوخى رضا الرب ... ". وهنا يقول الأول: "منذ طفولتي بحثت عن تدبير الرب، وفي خشوع وتقوى تلمست الربة، ومع ذلك حملت بأنواع السخرة دون فائدة، وأعطاني الرب حرمانًا عوضًا عن الغنى". فيجيب الآخر: "لقد أبيت الحق، وضللت عن تدبير الرب، ولا تحسبن أن إرادة الإله تسير وفق رغبة نفسك، فإنما الطهر الحقيقي للربة هو الذي أهملته، ... وأمر الرب والربة لم يبلغ منك القلب"، إلخ1. التابع الساخر: قريب من الضياع السابق الذي تاه الناس فيه بين الخطإ وبين الصواب، ورأى الإنسان الشر فيه في موضع الإحسان، والإحسان فيه في موضع الإساءة، حوار ساخر أجوف بين سيد وعبده، صور الشك في القيم الاجتماعية السائدة، وجعل العبد صوت سيده، والسيد أسير تملق خادمه. وصور لكل شيء وجهين، كلاهما مقنع ولكنه مغرض. ويبدأ الحوار بقول السيد في تعاظم: "عبدي، أصغ إلي". فبرد العبد مطيعًا: "لبيك مولاي، لبيك". ويقول السيد متحمسًا: "أعد لي العربية فورًا فلسوف أنطلق إلى القصر". ويجيب التابع محبذًا "انطلق مولاي انطلق، فلسوف يتحقق لك كل ما ترجوه، وسوف يكون الملك حفيًّا بك". فلا يلبث السيد أن

_ 1 R.H. Pefeiffer, Op. Cit., 429 F.; Recueil Edward Dhorme, Paris, 1951, 685 F.; R. Biggs, Anet, 1969, 602-604.

ينكص قائلًا: "كلا عبدي، لن أذهب إطلاقًا" ... فيطاوعه التابع قائلًا في تخابث "لا تركب، مولاي، لا تركب، فقد يرغمك "الملك" على سلوك طريق لا تعرفه، ويريك صنوفًا من الشقاء بالليل والنهار". ويسترسل السيد والتابع في اقتراحات أخرى، لا يلبث كل منهما حتى ينقضها بنفس الإيمان الذي قبلها به. ومنها أن يقول السيد: "لسوف أقدم معروفًا لبلدي" فيجيب التابع: افعل سيدي افعل، فمن فعل معروفًا لبلده وضعت أعماله في دائرة مردوك". وهنا ينكص السيد قائلًا: "كلا يا عبدي لن أفعل معروفًا لبلدي". فيجد الخادم الرد جاهزًا ويقول: "لا تفعل سيدي لا تفعل، وانطلق إلى الخرائب وجس خلالها، وانظرإلى جماجم الأعالي والأسافل، فلن تفرق فيها بين خير وآثم". ويقول السيد: "لسوف أحب امرأة"، فيجيب التابع على عادته "نعم أحب مولاي، أحب، فمن أحب نسي السقم والهم". ولكن الرجل لا تفارقه رح التردد فيقول: "كلا، عبدي، لن أحب امرأة"، ولا تفارق العبد الحجة لتبرير تردد سيده فيقول: "لا تحب مولاي، لا تحب، فالمرأة بئر "عميق"، خنجر حاد النصل يحز في عنق الرجل". وبعد أن يدور الرجل وظله في حلقه مفرغة لا يعرفان معها ما يحسن فعله وما لا ينبغي عمله، يسأل السيد: "وأين إذن الصواب يا عبدي؟ " فيجيب العبد: "هو أن تدق عنقي وعنقك، ثم يلقيا معًا في النهر". وهنا تملكت روح الجبن والأثرة السيد فقال: "كلا عبدي، لسوف أقتلك أنت وأرسلك أولًا"، فأجابه العبد وهو مطمئن إلى عجز سيده عن البقاء بدونه عجزه عن التفكير وعن التنفيذ بمفرده: "وهل يستطيع مولاي أن يعيش أيامًا ثلاثة بدوني؟ "1.

_ 1 E.A. Speiser, “The Case Of The Obliging Servant”, Jcs, Viii “1954”, No. 3; W.G. Lambert, Op. Cit., 139 F.; R.D. Biggs, Anet, 1969, 600-601.

الفصل التاسع عشر: آشور

الفصل التاسع عشر: آشور أ- المراحل الأولى: العصر العتيق- العصر القديم ... الفصل التاسع عشر: آشور أ- المراحل الأولى: امتدت منطقة آشور في عصورها الأولى فيما بين نهري الزاب الأكبر والزاب الأصغر، وأطلت على نهر دجلة بضفتيه، وتكونت في مجملها من تلال وهضاب جيرية، ولكنها لم تعدم أمطارًا مناسبة، وانتفعت بسهولة خصبة متفرقة حول أربيل وكركوك وعلى ضفتي دجلة. واشترك في اسم آشور كل من أرضها وعاصمتها ومعبودها الأكبر وسكانها الأوائل، مع تحويره في التشكيل والنطق بين كل حالة وأخرى، مثل. آشور وآشور، وذكرت الألواح المسمارية أرضها باسم "مات آشور" وهذه قد تكون ذات صلة بالتسمية السومرية A. Usar، وذكرت أهلها باسم آشوريو. وانتشرت عبادة ربها آشور عن طريق الجاليات التجارية حتى أعالي دجلة وآسيا الصغرى بحيث تداخل اسمه في أسماء بعض الأفراد في منطقة كبادوكيا. ووردت تسمية آشور في بعض النصوص الأرامية بلفظ آثور. وذكرتها النصوص المصرية باسم "إسر" و"إسور". في العصر العتيق: عاصرت العاصمة آشور التي قامت فوق ربوة صخرية تحف بها مياه دجلة والتي قامت على أنقاضها قلعة الشرقاط الحالية، أواخر عصر بداية الأسرات السومري، وتعاملت مع أهله ومن تلاهم من الأكديين وانتفعت بحضارة هؤلاء وهؤلاء، لا سيما قواعد الكتابة المسمارية، وخلطت بين فنونهم وبين فنونها المحلية البسيطة. واعترفت بنفوذهم في عهود قوتهم، ولعلهم سلكوها حينذاك فيمن سموهم السوباريين "وأهل سبارتو، والسوبارتو". ثم اتضحت أسماء ملوك آشور منذ القرن الحادي والعشرين ق. م أو منذ ما قبله بقليل، وفيما يعاصر دولة أور الثالثة1، وامتاز منهم حينذاك بوزور آشور "الأول"، وشروكين "سرجون" الأول، وهو اسم سامي الصبغة. ويسمى عصر أولئك الملوك اصطلاحًا باسم العصر الآشوري العتيق، وقد امتدت فيه اتصالات آشور وتجارتها شيئًا فشيئًا حتى بلغت آسيا الصغرى. في العصر الآشوري القديم: بدأ الآشوريون وجهًا آخر من تاريخهم بعد أن احتكوا بالهجرات الحورية في أواخر القرن التاسع عشر ق. م وأوائل القرن الثامن عشر ق. م، وبدأت بينهم أسرة حكم جديدة يسمى عصرها اصطلاحًا باسم

_ 1 See, Revue D’assyriologie, Viii, 142; E. Ebeling, In Altorientalische Texte Zum Alten Testament, 2n. Ed., Edited By H. Grossman, 1926, 333 F.; E.F. Weinder, “Die Grossc Konigs-Liste Aus Assur”, Archiv Fur Orientforschung, Iii, “1926” 66 F

العصر الآشوري القديم، وهي أسرة غلبت الصبغة السامية على بعض أسماء ملوكها أكثر مما كانت عليه في العصر العتيق مثل: إيلوشوما، وشمشي أداد، ويشمع أداد ... ، وعاصرت في بدايتها عهود إسين - لارسا ونشأة دولة بابل. واحتفظت أرضها ببضعة نماذج لفن النحت في عصرها اتصفت في مجملها بالخشونة وظهر أصحابها بالنقبة القصيرة دون العباءات الطويلة المعروفة للخاصة في بقية بلاد العراق1. وعندما بدأت أحوال العراق تهتز لمولد الدولة البابلية حاول الآشوريون أن يكون لهم شأن في أحداث عصرهم فاشتبكت جيوش ملكهم إيلوشوما مع جيوش مؤسس الأسرة البابلية "سوم أبوم"2، ولكن بغير نتيجة حاسمة. ثم مضت كل من الدولتين في طريقها، حتى حاول الملك الآشوري شمشي أداد "1726 - 1694"3 أن يحقق لدولته كيانًا ينافس به دولة البابليين. واتخذ نينوى عاصمة لأول مرة، واتسع غربًا ناحية دويلة ماري ووجدت له عدة رسائل في أرضها، وروت نصوصه أنه تلقى في عاصمته جزى ملوك توكريش وملوك القطر الأعلى، وأنه أقام نصبًا باسمه العظيم في منطقة لبنان "لا - آب - آ - آن" على شاطئ البحر الكبير، وإذا صحت روايته الأخيرة هذه كان توسعه هو أقدم توسع آشوري معروف في بلاد الشام4. وربما عادت إلى هذه الفترة بضعة نصوص وجدت في كبادوكيا بآسيا الصغرى وكتبت باللهجة الآشورية القديمة5. ولكن هذا الفاتح الآشوري ما لبث حتى اعترف مضطرًا بنفوذ معاصره الكبير حمورابي البابلي وأرخ رجاله وثائقهم باسمه إلى جانب اسمه6 ... ، وأخذت آشور حينذاك بالفن البابلي في أساليب النحت ونقوش الأختام7. واستعار كهنة دينها بعض صفات مردوك رب بابل وخلعوها على معبودهم آشور، وأضافوا أن مردوك خصص من أجله منذ الأزل آلهة الأقاليم الأربعة حتى يمجدوه ولا يتهرب من عبادته أحد8. واعتبروا إشتار "عشاتر" زوجة له ولقبوها بلقب بعليت بمعنى السيدة أو الربة أو الملكة، وخلعوا عليها طابع الحرب وصوروها بقوس وسيف 9. واستردت آشور كيانها المتفرد بعد سقوط أسرة بابل الأولى، ولكن ظل دورها ثانويًّا في أحداث عصرها وفيما يوازي أغلب العصر الكاسي. وذكرتها النصوص المصرية لأول مرة في القرن الخامس عشر ق. م

_ 1 W. Anderae. Das Wiedererstehende Assur, 1938, 88, Taf. 44. 2 See, Anet, 267. 3 A. Poepel, Jnes, “1943”, 85 F. 4 B. Meissner, “Die Inschriften Der Altassyrischen Koenige”, Altorientalische Bibliothek, I, 1926, 24 F.; Anet, 274. 5 Jnes, Xiv, 17; Bin, Iv, 26… 6 L. Delaporte, Catalogue Des Cylindres, 1910, P. Xxxvi, N.1. 7 Ibid.; Frankfort, The Art And Architecture…, 65. 8 Sidney Smith, Early History Of Assyria, 1928, 122 F. 9 ديلابورت: المرجع السابق - ص381 - 382.

باسم "آشور" خلال عهد الفرعون تحوتمس الثالث وذكرت أن أميرها أهدى إليه كمية من اللازورد الحر وأحجارًا كريمة أخرى1. ولم يكن الآشوريون أسعد حظًّا مع الميتانيين الذين توسعوا في أرضهم حتى كركوك خلال القرن الخامس عشر. ولهذا اكتفوا حينذاك بنظام دويلات المدن. واحتفظت مدينة نوزي "إلى الشرق من كركوك" بعدد من لوحات التبني والوصايا والبيوع الآشورية، كتبت باللغة الأكدية وتحتمل نسبتها إلى أواسط الألف الثاني ق. م، ويتعهد المتنبي فيها عادة بضمان نصيب ربيبه في تركته، بحيث يصبح وريثه الشرعي والمسئول عن تماثيل معبودات أسرته، إن لم ينجب ولدًا من صلبه، فإن أنجب ولدًا حقت الأولوية للابن الشرعي وحق له أن يتولى رعاية تماثيل معبودات أسرته، وهنا قد يجعل الموصي لولده الشرعي سهمين من التركة ولربيبه سهمًا واحدًا، أو يجعل لكل منهما سهمًا بشرط أن يختار الابن الشرعي نصيبه بنفسه، وقد يتبنى الرجل زوج ابنته الوحيدة ويحفظ لها ممتلكاته العقارية عن طريقه، وهنا يحذره في وثيقة التبني بحرمانه من الإرث والتبني إذا طلقها، فضلًا عن تغريمه بغرامة كبيرة "تبلغ عادة مينه من الذهب ومينه من الفضة". وقد يكون التبني صوريًّا كذلك يتحايل به صاحب الأرض على بيع أرضه لشخص آخر من غير أسرته، فيتبناه ويهبه أرضه، ولكنه يحفظ حقه عنده بأن يشترط عليه من جهة أخرى أن يتولى إصلاحها لحسابه، ويفرض عليه شرطًا جزائيًّا إن أخل بتعهداته نحوه، وغالبًا ما يكون أجر الإصلاح والشرط الجزائي هما ثمن الأرض2. والطريف أن المجتمع الإغريقي قد لجأ إلى ما يشبه هذه الإجراءات بعد قرون طويلة من بدأ الآشوريين بها ليتحايل على تقاليد عدم توريث العقار للابنة وعدم بيعه لفرد من خارج العائلة.

_ 1 Urk. Iv, 668,6; 671, 8. 2 See, Anet, 219-220, And Refrences.

ب- في العصر الأشورى الوسيط

ب- في العصر الأشورى الوسيط مدخل ... ب- في العصر الآشوري الوسيط: ظل الآشوريون على مهادنتهم الظاهرية للبابليين والكاسيين والميتانيين على التعاقب، حتى تعرضت دولة الميتان لهجمات عنيفة من جيرانها الخاتيين "الحيثيين" خلال القرن الرابع عشر ق. م، وبدأت تضعف تحت ضرباتهم وتخسر سلطانها شيئًا فشيئًا، ففاقت آشور غلى نفسها وظهرت فيها أسرة حاكمة جديدة في الربع الثاني من القرن الرابع عشر ق. م، يسمى عصرها اصطلاحًا باسم العصر الآشوري الوسيط. واستطاعت هذه الأسرة أن تحالف الخاتيين ضد الميتان، وانتقمت لنفسها من هؤلاء الأخارى بهجمات سريعة مخربة "انظر ص493"، واستطاعت في الوقت نفسه أن ترتبط بالأسرة البابلية "الكاسية" برباط المصاهرة، وعلى أساس علاقات الند للند، وأصبحت ضلعًا في مشكلات وراثة العرش في بابل نفسها "راجع490"، ولكن البابليين الكاسيين تقبلوا نشاطها على حذر، وقد أسلفنا بعض شواهد هذا الحذر حين أوفد الآشوريون سفارتهم إلى الفرعون المصري آخناتون فاحتج البابليون الكاسيون على جرأتهم وأصر ملكهم على أنهم لا يزالون من أتباعه "راجع ص490".

وانفسح السبيل أمام الآشوريين بعد انهيار دولة الميتان تحت ضغط الحيثيين في عام 1365ق. م فبرزت بينهم أسماء ضخمة لم يحتفظ التاريخ منها للأسف بغير أسماء الملوك كعادته1، ومن أوائلهم آشور أو بالليط الأول "1363 - 1328ق. م". وشهدت آشور تحت زعامتهم مرحلتين للتوسع:

_ 1 See Also Lucenbill, Anc. Records, 1, 73.

المرحلة الأولى

المرحلة الأولى: وهذه استمرت خلال القرن الثالث عشر ق. م، وقدرت آشور فيها بأس جيرانها الخاتيين الأشداء ونفوذهم في أعالي الشام، فاكتفت بالتوسع في منطقة الجزيرة وتدعيم حدودها القريبة. وكشفت عن وجه العداء لبابل فهاجمتها جيوشها وخربتها أكثر من مرة، واحتلتها في إحدى المرات. وذهبت آمال بعض ملوكها إلى حد العمل على توحيد بلاد النهرين تحت سلطانهم، فتلقبوا بلقب "ملك سومر وأكد"، وكان أشهرهم شلمانصر الأول "1266 - 1243ق. م". وولده توكلتي نينورتا الأول "1243 - 1210ق. م". فقد شهدت بوادي الشام والعراق تحركات سامية جديدة منذ أواسط الألف الثاني قبل ميلاد المسيح، واتجهت هذه التحركات بأطماعها ناحية الهلال الخصيب منذ القرن الرابع عشر، ووضحت تجمعاتها القبلية حينذاك في ناحية الفرات الأوسط شرقًا وفي أواسط سوريا وشرقها غربًا. وأشارت النصوص الآشورية "والمصرية" إلى قبائلها في مجموعها باسم الأخلامو واسم السوتو. وذكرت نصوص الملك الآشوري أريك دين إيلو انتصاره على الفريقين في أواخر القرن الرابع عشر أو أوائل القرن الثالث عشر ق. م1. وكانت قبائلهم قد تعدت الفرات حينذاك، ويبدو أنها حملت معها إلى العراق بعض العبرانيين المستضعفين؛ إذ ظهرت في لوحات نوزي القريبة من آشور أسماء عبرية الصبغة مثل هامانا وإيليا2، وتضمن بعضها عقود استرقاق عبرت عن الطريقة التي تسلل العبرانيون بها إلى أرض العراق واستقروا فيها، فقالت إحداها: "برغبته دخل مار إديجلات العبري من أرض آشور، "دار" تهب تيلا، باعتبار، عبدا"، وشهد على هذه اللوحة كاتبها وأحد عشر شاهدًا4. وقالت أخرى: "برغبتها دخلت سين بالطي العبرية دار تهب تيلا باعتبارها أمة، فإذا نقضت عهدها ودخلت بيت سيد آخر، فقأ سيدها عينها وباعها"3. ولم يقنع المهاجرون الساميون طويلًا بالحياة القبلية ولم يكتفوا بالتسلل إلى مواطن الحضارة والخصب والعمران، وإنما أخذوا يتجمعون شيئًا فشيئًا في إمارات، وعرفتهم النصوص الآشورية حينذاك باسم الأراميين إلى جانب اسمي الأخلامو والسوتو القديمين. ولعلهم طمعوا في شغل ما شغله الميتان من قبل في شمال شرق سوريا وغرب الفرات، لولا أن نازعهم فيها كل من الآشوريين وبقايا الحيثيين. ومثل الآشوريين في هذا النزاع شلمانصر الأول الذي روت نصوصه عن قتال جيوشه للأخلامو والأراميين

_ 1 E.A. Speiser, Asor, X “1930”, No. 56. 2 E. Chiern, Joint Epedition With The Iraq Museum At Nuzi, 1934, N. 459. 3 Ibid., No. 452; E. Ebeling, Maog, Vii “1933”, 88.

وبقايا الحيثيين أيضًا، ثم ولده توكلتي نينورتا الذي روت نصوصه أنه هاجم ماري وأرض خانا "عنات" وأرض راكيبوا وجبال الأخلامو. وتكررت الحروب في عهد آشور رش إيشي ضد أذخلامو، ولكن استمرت هجرات الأراميين تترى ولم تنقطع1. وأكد الفن الآشوري في هذه المرحلة الأولى من العصر الوسيط أسلوبه الخاص في التعبير عن عقائد قومه، وعن طابع النقش والعمارة بعد أن هضم عدة عناصر استعارها من جيرانه، لا سيما الميتان الذين كانوا واسطة حضارية لنقل فنون الشام ومصر إلى العراق. فمن التعبيرات الخاصة بهذه المرحلة أن قللت النقوش الآشورية تصوير أرباب قومها بصورهم البشرية واكتفت بالرمز إليهم برموزهم المادية والمعنوية، ومن هذا القبيل تصوير الملك توكلتي نينورتا ساعيًا محييًا، وجاثيًا داعيًا، أمام مائدة يعلوها شكل مستطيل يشبه الشراع العريض يرمز إلى المعبود "نوسكو"2. وتصوير ملك آخر يتقبل خضوع أتباعه على حين تطل عليه من عل عدة رموز مقدسة يتميز منها كفا المعبود آشور تبرزان من بين السحب وتمسك إحداهما قوسًا دلالة على طابع الحرب فيه، وتمتد الأخرى مبسوطة ناحية الملك كأنهما تباركه وتعبر عن رعاية صاحبها له3. ثم ملك ثالث صور هو وجنوده في ساحة القتال يطل عليه وقرص يشرع قوسًا، يرمز غلى المعبود آشور المحارب، ومن حوله ذرات مطر تتساقط من السحب وتمثل الجانب الخير للمعبود نفسه4. وليس ما يعرف عما إذا كان صدوف الآشوريين في مثل هذه المناظر عن تجسيد أربابهم بصور محسوسة يدل على إمعانهم في تعظيمهم، أم كان نتيجة لنزعة طوطمية طرأت عليهم5. وجرى الفنانون على الاتجاه نفسه في نقوش مناظر التعبد على الأختام، فقللوا من تصوير الأرباب فيها، بما كتفوا في أغلب الأحيان بتصوير التعبد أمام واجهات المعباد ومقاصيرها وزقوراتها، أو على الأكثر أمام تماثيل الرموز الحيوانية وغير الحيوانية لمعبوداتها6. وذلك في نفس الوقت الذي أزادوا فيه تصوير قتال الكائنات الخرافية ومناظر الصيد والحيوانات والأشجار، مع شيء من العناية بتفاصيل عضلات الإنسان والحيوانات، وتفاصيل الشعور والأجنحة. ونجحوا في التعبير عن مظهر الغضب وقوة الافتراس في هذه الكائنات فخلعوا عليها حيوية مقبولة. وأحاطوا بعض صورها بأطر زخرفية، وأرفقوا القليل منها بنصوص أفقية7.

_ 1 A. Dupont-Sommer, Les Arameens, Paris, 1949, 17. 2 Frankfort, The Art And Architecture…, Pl. 73 B. 3 Ibid., Pl. 73 A. 4 W. Andrae, Coloured Ceramics From Assur, Pl.8. 5 See, Frankfort, Op. Cit., 66. 6 Zeitschrift Fur Assyriologie, Xiv, 36 F., 43, Abb., 35-38, 46; A.Moortgant, Vorderasiatische Rollsiegel, Nr. 591, 592;Frankfort, Op. Cit., 24 A-B. 7 Frank, Op. Cit., 72, Pis. 75-76.

ومارس الفنانون بضعة عناصر فنية جديدة انتقلت إليهم عن طريق الميتان كذلك ثم طوروها، وتمثلت فيما يرى هنري فرانكفورت في أربعة عناصر عقائدية وزخرفية ومعمارية، كان منها أن جروا على الرمز إلى بعض أربابهم، أرباب الحرب وحماة الملكية، بهيئة قرص مجنح1. انتقل إليهم فيما يغلب على الظن من مصر القديمة عن طريق الميتان أو السوريين. وأكثروا من تصوير شجرة الحياة المقدسة، وتصوير الكائنات الخرافية ذات الشوشة على رأسها. ويرى فرانكفورت أنهما عنصران دخلا الفن الآشوري خلال سيطرة الميتان على "جزء من" آشور، ويتمثل مجهود الآشوريين في تطوير العنصر الأول منهما في اعتبار شجرة الحياة عنصرًا زخرفيًّا خالصًا في رسومهم ونقوشهم2 "على الرغم من وضوح دور الشجر في عقائدهم الدينية بحيث كانوا يقيمون في عيد رأس السنة ساق شجرة عاريًا ويثبتون فيه أوراقًا وثمارًا معدنية"3. ومارس الآشوريون مهارتهم في صناعة الخزف وزخارفه، وهذه يحتمل أنها خرجت من مصر بعد أن بلغت ذروتها في أيام الدولة الوسطى وانتشرت منها إلى كريت ورودس وسوريا ثم العراق، منذ عصر الهكسوس والهجرات الآرية، وهو عصر تخلخلت فيه الحواجز الدولية التقليدية, ويرى فرانكفورت أن تجديد الآشوريين في هذه الصناعة يتمثل في استخدام الخزف لتكسية الجدران4. ولكننا نضيف أن المصريين القدماء استخدموه لنفس الغرض في تكسية جدران بعض حجرات ودهاليز الجزء الأسفل من الهرم المدرج في سقارة قبل ذلك بأكثر من ألف وخمسمائة عام. أما العنصر الرابع المعماري المستجد في هذه العصر الآشوري فيتمثل في تأزير الأجزاء السفلى من بعض جدران القصور بلوحات حجرية، سمح لهم بها توفر الأحجار في هضابهم وفي المرتفعات القريبة منهم، أكثر من توفرها فيما دون أرضهم من بلاد العراق. وجرى الملوك الآشوريون على عادة مواطنيهم ملوك بلاد النهرين في تعمير المعابد والزقورات وبناء الجديد منها، وكان عهد توكلتي نينورتا من أنشط العهود في هذا السبيل، فجددت في عهده معابد كثيرة للمعبودات آشور وشمش وسين وآنو وأداد وإشتار وغيرهم5، وتهدمت هذه المعباد ولم يتبق منها غير رسوم قليلة تعرف الأثريون منها على تجديدات طفيفة في فنون عمارتها، ومنها بناء الزقورة على مساحة مربعة، وبداية الطرق المفتوحة ذات الدرجات المؤدية إليها بمدخل معقد، ثم الاتجاه شيئًا فشيئًا إلى الاستغناء عن استخدام هذه الطرق والاستعاضة عنها بالوصول إلى مسطح الزقورة عن طريق معبر يؤدي إليه من

_ 1 Frankfort, Cylinder Seals, 1939, Fig. 59; The Art And Architecture…, 66, 67, 71; O. Weber, Altorientalische Siegel Bilder, Nr. 316 A. 2 Frankfort, Op. Cit., 67-68 “After Helene J. Kantor”. 3 Sidney Smith, Early History Of Assyria, 123. 4 Frankfort, Op. Cit., 67. 5 W. Andrae, Das Wiedererstehende Assur, 1938, Abb. 24, 42, 47, 48, Etc.

سطح المعبد الأراضي المجاور لها أو من سطح بناية تقوم مقامه، وأخيرًا وضع تمثال المعبود داخل مقصورته فوق صفة عالية يؤدي إليها درج، رمزًا إلى ارتفاع شأنه واتساع ما بينه وبين خلقه، ثم احتمال وجود مشكاوات فرعية ملحقة بمعبد رب الدولة آشور، لأرباب آخرين مثل مردوك البابلي الذي خرب توكلتي نينورتا عاصمته بابل ونقل تمثاله منها إلى آشور1. وليس ما يعرف عن ارتفاع الزقورات في هذه المرحلة، ولكن يحتمل من مناظرها في نقوش الأختام أنها كانت تتألف من أربع أو خمس طبقات2. وصورت واجهات المعابد تحف بها صروح أبو أبراج عالية3، وتحلي سطوحها حليات معمارية بسيطة مدرجة ذات زوايا قائمة شاعت أمثالها في الحليات العلوية المسننة لعمائر الشرق الأدنى فيما تلا ذلك من عصور، لا سيما في الحصون، ولا تزال أشباهها تتمثل إلى حد ما في الحليات المسننة التي تعلو المساجد حتى الآن، وكانت تحف بمداخل المعابد الآشورية أحيانًا تماثيل حيوانية ترمز إلى معبوداتها الكبرى4، وتؤدي غرض الحراسة الرمزية لها فضلًا على ما تضفيه على المدخل من عنصر الزينة. وشهدت آشور مقرين ملكيين جديدين في هذه المرحلة: مدينة كالح على الضفة اليسرى لنهر دجلة "في مقابل آشور ولكن على مبعدة منها على ضفته اليمنى" في عهد شلمانصر الأول، وامتد عمرانها فوق لسان خصب بين الدجلة وبين الزاب الأكبر، ثم مدينة أخرى شيدت في عهد ولده ونسبت إليه فسميت "كارتوكلتي نينورتا"، وقامت على مبعدة ميلين من آشور. وشاد له رجاله فيها قصرًا بقيت منه أطلال طفيفة يفهم منها أنهم زخرفوا بعض جدرانه بقطع من القاشاني المزخرف ولوحات مرسومة اقتبسوا موضوعاتها من عالم الإنسان والحيوان والنبات ومن الخطوط الهندسية5، ونجحوا في تحقيق التناسب والحيوية فيها إلى حد مقبول، وصوروا فيها الملك يقاتل بعربته الحربية منفردًا حينًا، ويشترك معه جنوده في الحرب الفعلية حينًا آخر6. وأعقبت النهضة الآشورية الأولى في عصرها الوسيط فترة انتكاس، غاضت فيها أحداث التاريخ الآشوري وضعف فيها أن الملوك واضطرب أمن دولتهم، على الرغم من أن ظروف التوسع الخارجي كانت مهيأة لهم بعد أن انهارت دولة الخاتيين "الحيثيين" تحت ضربات الهجرات الآرية الكاسحة التي عرفت اصطلاحًا باسم شعوب البحر، في أواخر القرن الثالث عشر ق. م. ويبدو أنه وقف في سبيل استمرار النهضة الآشورية عدة عوامل داخلية وخارجية، كان منها تكرار النزاع على عرشها، والتمزق الداخلي في أرضها، بعد أن اغتيل توكلتي نينورتا في مؤامرة دبرها ولده وكان اغتياله بداية لتحلل كيان حكم أسرته.

_ 1 Frankfort, Op. Cit., 68-71. 2 Anton Moortgat, Op. Cit., Nr. 591, 592. 3 W. Andrae, Op. Cit., Abb. 49-50. 4 Ibid, Abb., 49. 5 Ibid., Taf. 2-3. 6 Ibid, Taf. 51 A; Coloured Ceramics, Pls. 6-8.

وكان منها أن شعوب البحر التي حلت محل الحالتين كانت لا تزال في عنفوان شدتها فظلت مصدر رعب لجيرانها، وأن هجرات سامية جديدة بدأت تغذي قوة الأراميين في العراق، وأن بابل لم تن عن محاولة استرداد كيانها والانتقام لنفسها. ونكتفي هنا بالبابليين. فقد سارعت بابل بعد اغتيال فاتحها الآشوري توكلتى نينورتا بمحاولة النهوض من كبوتها، فشنت هجومًا خاطفًا على الآشوريين فتكت فيه بملكهم الجديد وحاصرت عاصمته واستردت كرامتها الدينية باسترداد تمثال معبودها الأكبر "مردوك"، وقنعت بما أحرزته من نصر سريع، لتقي أطرافها الجنوبية من الإلاميين "العيلاميين"، ولكن نشاطها ضد هؤلاء وهؤلاء كان فيما يبدو أشبه بنضال اليائس؛ إذ ما لبثت أن انهارت تحت ضغطهما، ودمرها العيلاميون وقضوا على أسرتها الكاسية في نهاية القرن الثاني عشر، وتبع ذلك ما أوجزناه "ص493 - 495" من جهاد بابل جهاد مستميت في سبيل النهوض، ومقاومتها للعيلاميين حتى أجلتهم عن ديارهم، ثم مناطحتها للآشوريين وانتصارها عليهم مرة وانكماشها أمامهم أخرى.

المرحلة الثانية

المرحلة الثانية: بدأت مرحلة التوسع الآشوري الثانية في خلال العصر الوسيط بعهد تيجلات بيليسر الأول "1114 أو 1112 - 1076ق. م"، ذلك الذي وصف نفسه1 بأنه الملك الحق "لوجال كالاجا" "وفي الأكدية شارو دانو"2، ملك العالم، ملك آشور، ملك الأطراف الأربعة، البطل الهمام المؤيد بوحي آشور ونينورتا والأرباب الكبار سادته الذين دحروا أعداءه. وقد انفسح السبيل أمام آشور في هذا العهد نتيجة لظاهرتين، وهما، انكماش القوة المصرية الضاربة بعد كفاحها العنيف مع شعوب البحر ونتيجة لمشاكلها الداخلية، وانكماش نفوذها بالتالي في بلاد الشام، ثم خمود حمية شعوب البحر خلفاء الحيثيين في آسيا الصغرى وزوال رهبتهم من نفوس جيرانهم. وترتب على هاتين الظاهرتين أن روت حوليات تيجلات بيليسر الآشوري أن آشور وبقية أربابه العظام منحوه البأس والسلطان وأوحوا إليه بأن يعمل على توسيع حدود أرضهم، وأنه أخضع اثنين وأربعين شعبًا وحارب ستين ملكًا وانتصر عليهم، وأنه هاجم أرض ناييري "في أرمينيا؟ " وأجبر أمراءها الثلاثة على أن يسجدوا لدى قدميه، واحتجز أبناءهم رهائن عنده3، وأنه بلغ جبال لبنان "شادي لبناني" وغزا

_ 1 A. Leo Oppenheim, Anet, 274-75; D. Luckenbill, Ancient Records Of Assyria And Babylonia, I, 300 F. 2 Ibid, And See, Th. Jacobsen, The Sumerian King-List, 181 F.; J. Lewy, Huca, Xix “1946”, 476. 3 D. Luckenbill, Op. Cit.; 271, 300 F.; F. Lehmann-Haupt, In Materialen Zur Alteren Geschichte Armeniens Und Mesopotamiens, 1907.

أرض أمورو، وتلقى جزى جبيل "جوبال" وصيدا "صيدونى" وأرواد "أرمادا"، ثم هاجم أرض خاتي الكبرى وفرض الجزية على ملكها إيل تيشوب1، وغزا الصحراء بخيله ورجاله وبعون ربة آشور، وهاجم الأخلامو والأراميين ثماني عشرة مرة من أرض سوخي حتى مدينة قرقميش وأسر منهم وقتل ونهب، وانتصر على ست مدن على سفح جبل بشرى وحرقها ودمرها ونقل غنائمها إلى آشور2، كما عبر الفرات مرتين في عام واحد ليدحرهم، وتغلب عليهم ابتداء من تدمر في أرض أمورو، وعنات في أرض سوخي، حتى مدينة رابيقو في كاردونياش "بابل؟ "3. وجرب حظه مع بابل نفسها فانهزمت جيوشة أمام جيوش ملكها "ماردوك نادين أخى" حينًا، وانتصرت عليه حينًا آخر ودخلتها لأمد قصير4. وبلغ من ثقة تيجلات بيليسر بسيطرته على ملكه العريض أن بنى له رجاله قصرين فيما بين سوريا والعراق، في تل برسيب "تل أحمر" وخادانو "أرسلان تاتش" وزخرفوا جدرانهما برسوم حروبه ورحلات صيده وأساطير قومه، وتأثروا فيها بعض الشيء بالأسلوب السوري5. لم تخل حوليات تيجلات بيليسر من ادعاء واضح في تعداد الشعوب التي أخضعها والتي قد لا يزيد أغلبها عن مدن وقبائل متفرقة، وفي تأكيد انتصاراته المستمرة، إلى جانب أن تعدد حروبه مع جماعات بعينها، مثل جماعات الأراميين، يدل ضمنًا على عدم وصوله معهم إلى نتائج حاسمة. غير أن هذه الحوليات لم تخل في الوقت نفسه من أهمية تاريخية في تصوير مناطق انتشار الأراميين بين قرقميش وتدمر وحدود بابل، ولم تخل من دلالة على خطة رسمت طريق التوسع الآشوري بعد عهده، في مناطق جنوب شرق آسيا الصغرى ولبنان وشمال سوريا، إشباعًا لشهوة المجد، وللاستفادة من أخشابها، وضمان تنفيذ موانيها التجارية لرغبات آشور، أو على الأقل لضمان تعاملها معها، وإن كان تيجلات بيليسر قد عبر عن هذا الضمان بتلقي جزاها. وكانت سياسته في معاقبة أعدائه نبراسًا متواضعًا للقسوة الآشورية حين بلغت عنفوانها، فكررت حولياته أنه حرق مدنًا وشرد أهلها وقطع رءوس زعمائها وعلقها على أسوارها، واعتبر أبناء المستسلمين له رهائن عنده. ولم ينس تيجلات بيليسر حظه من الدنيا، فإلى جانب قصريه السابقين، ذكرت نصوصه أنه استقل سفينه من أرواد وأبحر بها مسافة طويلة، وصاد ما يسمونه فرس البحر في البحر الأعلى. وذكر ما يفهم منه أنه أمر باستيراد نباتات جديدة لتزرع في بساتينه، واستيراد قطعان من الماعز الجبلي لتطلق في ساحات الصيد والقنص المتخصصة له6.

_ 1 D. Luckenbli, P El: Anet. 275.. 2 A. Dupont-Sommer, Op. Cit. 18.. 3 Ibid., 18, 21: D. Luckenbill, Op. Cit., 287.. 4 ديلابورت: المرجع السابق -ص300 - 301. 5 F. Thureau-Dangin ... , Tel Bersip, 45.. 6 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين -ص60.

صاحب فترات الازدهار السياسي والحربي في المرحلة الثانية من العصر الوسيط نشاط مناسب في مجالات العمارة والفن والتشريع، وأخذت آشور تعبر بنفسها عن نفسها في كل هذه المجالات مع الاستفادة المستمرة من جيرانها. ولما كانت عمارة المعابد في العصور القديمة من أهم ما أشبع رغبة الملوك في خلود الذكر والتفاخر، تعددت مشروعاتها الآشورية، ومنها معبد مزدوج في العاصمة آشور للمعبودين آنو وأداد، بدأ في عهد آشور رش إيشي وتم في عهد ولده تيجلات بيليسر الذي ذكرت نصوصه أنه رفع قمته إلى السماء، ويذهب الظن إلى أن برجيه كان يرتفعان نحو أربعة طوابق وأن واجهات جدرانه وأسواره كسيت بالآجر، ثم أعيد بناؤه بعد ذلك أكثر من مرة في العصر الآشوري الحديث. وعثر في نينوى على تمثال لمعبودة فقد رأسه وأغلب ذراعيه وقدميه، ونحته فنان بأسلوب أقرب إلى الأسلوب الواقعي، فمثلها عارية بتقاطيع الجسم الأنثوي العادي، فأصبح على بساطته يتميز إلى حد كبير عن تماثيل المعبودات الآشورية الثقيلة ذات الملابس الكاسية. ومن أهم ما استحدثته آشور في نظمها الإدارية منذ أوائل عصرها الوسيط، تأريخ وثائقها بأسماء كبار شخصياتها على التعاقب واحدًا فواحدًا كل عام، بحيث يبدأ تأريخ الوثائق باسم الملك الحاكم طيلة العام الأول لاعتلائه العرش، ثم يتجدد اختيار أحد كبار موظفيه عن طريق القرعة كل عام، ويلقب بلقب "ليمو" أو شاغل وظيفة "ليمو"1، ولعلها كانت تعني ولايته لأمور التشريع والتوثيق في عام بعينه. ونظمت طريقة اختيار الليمو فيما بعد، فرتبت الوظائف الكبرى في الدولة ترتيبًا تنازليًّا، يبدأ بعد الملك بالوزير "؟ " ثم الترتانو وكبار رجال البلاط والحكومة المركزية ثم كبار ولاة الأقاليم، ويليها كل منهم عامًا واحدًا بعد عام الملك الذي يبدأ باعتلائه عرشه، حتى إذا انتهت القائمة وطال حكم الملك أكثر من ثلاثين عامًا، يبدأ التاريخ باسمه مرة ثانية ويعود الترتيب التنازلي بعده من جديد. ومعروف أن المصريين القدماء كانوا يعتبرون فترة الثلاثين عامًا فترة مثالية لتولي الملك عرشه ويحتفلون بعدها بعيد يعتقدون أن طقوسه تجدد قدرته على بداية فترة حكم جديدة. ولا ندري مدى الرابطة بين هذا التقليد الذي أخذ المصريون به منذ بداية عصورهم التاريخية وبين تحديد فترة الثلاثين عامًا للملك الآشوري. أما تأريخ الوثائق باسم حاكم كبير لفترة عام واحد، فظهر له شبيه فيما بعد في أثينا التي كانت تؤرخ وثائقها باسم من يلي منصب الإبينيموس أرخون السنوي، ولا ندري مرة أخرى مدى الصلة بين هذين التقليدين. وقد يكتفي كاتب اللوحة الآشورية بذكر اسم صاحب الليمو، أو يضيف منصبه إليه، أو يضيف إليه اسم حادثة هامة حدثت في عامه. ومن هذا القبيل أن أرخت هبة عقارية من عهد آشور أو بالليط

_ 1 J. Lewy, Revue Hittie-Et Asiatique, V “1939”, 117 F.; U. Uugand, In Reallexikon Der Assyriologie, Ii,412 F.; E.F. Weidner, A.F. O., Xii “1941” 308 F.

"1363 - 1328ق. م" بشهر كيناته، اليوم السادس، ليمو "أداد ناصر"، ثم وقعت بخاتم "آشور أو بالليط ملك آشور إبن إريبا أداد"1. التشريعات الآشورية: عثر في أطلال العاصمة آشور "قلعة الشرقاط الحالية" على لوحات تشريعية نسخت نصوصها "على لوحات من الصلصال" خلال عهد تيجلات بيليسر الأول في القرن الثاني عشر ق. م، ولكن ذهب ترجيح بعض الباحثين إلى رد أصول تشريعاتها إلى ما قبل عهده بزمن طويل، وربما إلى أواسط الألف الثاني ق. م2، وسوف نعود إلى مناقشة هذا الترجيح ومعناه. عالجت هذه التشريعات كثيرًا مما عالجته التشريعات العراقية السابقة لها من شئون لأسرة وأمور البيع والشراء والقروض والرهون والاعتداءات على الغير اعتداء أدبيًّا أو ماديًّا3، ولوحظ من تجديداتها أنها استفادت من العقوبات العامة والخاصة لصالح الدولة، فضمنتها تسخير المذنبين في أعمال الملك "أي في مشاريع الدولة" لفترات تتراوح بين عشرين يومًا وبين أربعين يومًا، وهددت بالخصي والإعدام على الخازوق في كثير من عقوباتها، واشتدت في اشتراط التسجيل والإعلان وإشهاد الشهود في كثير من موضوعاتها، وأجازت رهن أفراد الأسرة ضمانًا للديون، وحرمت الاشتغال بالسحر وجعلت عقوبته الإعدام. ولأمر ما جعلت أمور النساء محورًا لعدد كبير من بنودها واشتدت على سيئات السلوك منهن. فقضت على سارقة المعبد بتنفيذ قضاء ربه فيها، وكفلت لزوجها حق تشويه أذنيها إذا سرقته وهو مريض، أو العفو عنها إذا شاء "3 - 4" وحرية افتدائها إذا سرقت شيئًا ذا قيمة من بيت جاره. أو التخلي عنها ليشوه المسروق أنفها بنفسه"5" وقضت على من تضع يديها على مواطن بتغريمها 30 مينه من الرصاص وجلدها عشرين عصا "7"، فإذا أصابت خصيته قطعوا إصبعها، وإذا أضرت الخصيتين فقئوا عينها "8"، ولعلها عنت بذلك سيئات السمعة والسلوك. وقضت على من تجهض نفسها بإعدامها على الخازوق، وتوعدت من يتستر عليها "53". وجعلت التشريعات للزوج ولاية كاملة على زوجته، وسمحت له بأن يعفو عنها إن أخطأت في حقه، أو يطبق عليها بنفسه العقوبات البدنية التي فرضها القانون على مثل حالتها، فإذا كانت هذه العقوبات مما يسبب عاهات دائمة مثل فقء العين أو صلم الأذنين أو الجلد المبرح نفذها أمام القضاة وبحضور موظف مسئول، فإذا أتت أمرًا لم يتناوله القانون جاز له أن يحلق شعرها أو يعرك أذنيها دون عقاب عليه "57 - 59". فإذا شردت عنه وآوت إلى بيت آخر وبقيت به ثلاثة أيام كان له أن يشوه أذنيها أو يعفو عنها، ويجوز له أن يطالب بصلم أذني من آوتها وتغريم زوجها إن كان شريكًا لها بغرامة كبيرة "24".

_ 1 E. Ebeling, Maog, Vii "1933", 88; Anet, 220. 2 See, G.R. Driver And John C. Miles, Op. Cit.; Th. J. Meek, Anet, 180-188.. 3 تعبر الأرقام الموجودة بين القوسين عن الأرقام الاصطلاحية لبنود التشريع.

واعتبرت الزوجة متضامنة مع زوجها في ديونه وأخطائه وجرائمه "32"، واعتبرت ثروة أحدهما ثروة للآخر "35". ونظمت وضع زوجة المحارب الغائب فقضت أن تنتظره خمسة أعوام، فإذا كان لها أولاد ينفقون عليها استمرت في عصمته "36". أما إذا علمت بأسره وكانت غير ذات ولد فعليها أن تنتظره عامين فقط على أن يكفل القضاء لها ما تتعيش به سواء من إيجار أرض زوجها أو داره، أو من معاشات القصر الملكي، ثم يسمح بها بالزواج من آخر، على أن يستردها زوجها الأول إن عاد من الأسر "45". وسمحت لوالد الخطيب الذي فقد ولده بأن يزوج خطيبته لأحد أولاده الآخرين الذين بلغوا العاشرة "زواجًا اسميًّا حتى يكبر؟ "، أو أحد أحفاده من خطيبها المفقود "؟ "، ولا يحق له أن يزوجها بولد دون العاشرة إى برضاء أبيها "43"، وسمحت للأرمل غير ذات الوالد بأن يتزوج أحد أبناء زوجها "من زوجة أخرى؟ " "46". وأصرت التشريعات على خروج الحرائر محجبات من الرأس إلى القدم، لا سيما إذا خرجن وحدهن، وعلى أن تسلك الجواري سبيلهن إذا اصطحبن سادتهن. وأعفت من الحجاب الكاهنات اللائي وهبن عفافهن للمعبد ولم يتزوجن. وحرمته على الإماء والعاهرات تمام التحريم، وإذا استخدمته جردن من ثيابهن وضربن بالعصا وصب القار على رءوسهن. وأوجبت على المواطنين في هذه الحالة أن يقبضوا عليهن محجبات ويشهدوا عليهن، وتوعدت من يتغاضى عن ذلك بجلده وتسخيره وثقب أذنيه "40". واشترطت لحصانة المحظية أن يشهد سيدها خمسة أو ستة من جيرانه على أنها أصبحت زوجته وحينئذ يحق لها أن تتحجب ويحق لأبنائها أن يرثوه في إقطاعيته "41". وحرصت على عفاف الزوجات، فقضت بقطع إصبع من يربت على خد أنثى متزوجة، وقطع شفته السفلى إن قبلها "9"، وقضت بالإعدام على من اغتصب امرأة متزوجة رغمًا عنها "12"، وقضت بإعدامهما معًا إن رضيت بما فعله معها. وقضت عليه بما يوازي قضاء زوجها فيها، فإن قتلها قتل، وإن صلم أذنيها خصي وشوه وجهه، وإن عفا عنها عفي عنه "15 - 16"، وقضت على من يصحب امرأة متزوجة في الطريق بتغريمه تعويضًا لزوجها "22"، وقضت بإعدام القوادة إن دفعت امرأة إلى الفسق رغمًا عنها "23". وحرصت كذلك على سمعة المحصنات، فقضت على من يتهم امرأة بالزنا عند زوجها ويعجز عن إدانتها والاستشهاد على صدق قوله فيها، باستفتاء النهر في شأنه "17"، فإذا اتهمها علنًا ولم يأت عليها ببينة وجب ضربة أربعين عصا وخصيه وتغريمه 60 مينة من الرصاص وتسخيره في أعمال الملك شهرًا "18". وقضت على من يغتصب فتاة بكرًا بغير رضاها بتجريده من زوجته وتسليمها إلى والد الفتاة لينكحها من يشاء، وبأن يسلمه "المعتدي" مهر البكر، فإن شاء بعد ذلك زوجها له وإن شاء زوجها لغيره "55". وكافحت اللواط فقضت بنكح من يأتيه مع جاره وخصيه "20"، وقضت على من يتهم جاره بأنه مأبون ثم لم يقم البينة على ادعائه، بخصيه وضربه خمسين عصا وتغريمه 60 مينه من الرصاص وتسخيره شهرًا في أعمال الملك "19".

ولم تهمل التشريعات جانب المعبودات، قضت على من تثبت عليه البينية بالتجديف وسب المعبد بضربه أربعين عصا، وقضت على من يتهم آخر بهذه الخطيئة ويعجز عن إثباتها عليه، بنفس العقاب البدني مع تسخيره في أعمال الملك شهرًا. وأقرت التشريعات جواز رهن أفراد الأسرة في دين، ولكنها حرمت على الدائن أن يزوج ابنة مدينه الرهينة دون موافقة أبيها "39، 48"، فإن مات أبوها وانتقلت ولايتها إلى أخوتها، أصبح لهؤلاء أن يحرروها من الدين خلال شهر، وإلا جاز للدائن أن يزوجها بمن يشاء "48"، أو بيعها إذا ورد ما يبيح ذلك في نصوص القرض "48"، ولكن حرم على الدائن أن يبيع الرهينة قبل نفاذ الأجل، وقضت عليه بالضرب والسخرة والغرامة وفقد دينه إن فعل، فإن مات الرهين عنده ميتة غير طبيعية عوض أهله عنه بمثله. واشترطت التشريعات للبيوع العقارية أن يعلن المنادي عن العين المباعة ثلاث مرات خلال شهر حتى يتسنى لأصحاب الحقوق أن يسجلوا مستحقاتهم لدى المسجل الحكومي خلال هذا الشهر، فإن خلت العين من الالتزامات، وجب تسجيل بيعها في حضرة ممثل ملكي "أو وزير" وكاتب المدينة والمسجلين والمنادى إذا تمت الصفقة في العاصمة، أو أمام عمدة أي بلدة أخرى وثلاثة من أعيانها "لوحة ب6". واستمرت التشريعات في أحكام أخرى صدرت لها أشباهها في التشريعات القديمة، لا سيما في شئون المواريث والمشاركة والإيجارات ... وما إليها. وإذا كان هناك ما نختتمها به فهو أنها لم تلتزم في تعبيرها عن الأحرار بلفظ واحد، وإنما فرقت في التعبير عنهم أحيانًا بين لفظ "السيد"، وبين لفظ "الآشوري" "في مثل لوحة "أ" مادتي 24، 40؛ ولوحة "ج" مادة 3؛ إلخ". وليس ما يعرف إن كان المشرع قد اعتبر ذلك مجرد ترادف لفظي، أم أنه استهدف به تخصيص الآشوري عن العراقي غير الآشوري، أم استهدف به التفرقة بين طبقة حاكمة وبين طبقة محكومة، لا سيما وأنه كان ينزل من يدعوه بالآشوري في منزلة أقل من منزلة من يدعوه السيد، أحيانًا. فهل إذا صح هذا الفرض الأخير، تكون التشريعات من وضع طبقة حاكمة مستوطنة ولكنها غير آشورية الأصل مثل طبقة الحوريين أو الميتانين الذين غلبوا على أجزاء من دولة آشور لفترات متفاوتة إبان قوتهم وضعفهم؟ لا سيما إذا جمعنا بين هذا الفرض وبين ما قدمنا به للتشريعات من اتجاه بعض الباحثين إلى ترجيح تأليفها في القرن الخامس عشر ق. م وهو قرن شهد نشاط الهجرات الهندوآرية، دون القرن الثاني عشر ق. م الذي نسخت خلاله في عهد تيجلات يليسير الآشوري؟ ولكن لِمَ أبقى نساخ عهد تيجلات بيليسر على هذه التفرقة بعد أن تخلصت أرضهم من تأثير الطبقة الأجنبية فيها؟ ذلك أمر يصعب القطع برأي فيه، ولا يكفي فيه الظن بسوء تصرف الناسخ.

لم يطل أمد المرحلة الثانية من العصر الآشوري الوسيط، على الرغم من بدايتها المشرقة، ويبدو أن توسعها في عهد تيجلات بيليسر الأول بخاصة، كان طفرة سابقة لأوانها، فلم تستطع الدولة أن تحافظ على أطرافها البعيدة بعد وفاته، وانفصلت ولاياتها عنها واحدة بعد الأخرى. وهادنت آشور بابل فترة طويلة حتى تتفرغ للآراميين الذين استمروا في مناوأتها على فترات متقطعة خلال القرنين الحادي عشر والعاشر قبل الميلاد، واستمروا على إنشاء الإمارات بجوارها في شرق الفرات وغربه، فكونوا إمارة بيت أديني التي امتدت شرقًا حتى بلخ واتخذت عاصمتها في تل بارسيب على ضفة الفرات جنوبي قرقميش، وإمارتين في وادي بلح، وعدة إمارات في وادي الخابور من أهمها بيت باخياني "وكانت من مدنها جوزانا ووسيكاني". كما كونت قبائل تيمانايا الأرامية ثلاث إمارات شرقي الخابور الأعلى فيما يسمى منطقة طور عابدين وهي إمارات نصيبينا وخوريزانا وجيدارا. واحتفظت بعض روايات التوراة بذكرى هذه الإمارات القريبة من الخابور في تسمية أهلها أو أرضها "آرام النهرين"1، والنهران هما على الأغلب الفرات وفرعه الخابور، وتسمية "فدان "أوبادام" آرام"2. وكانت أكبر مدن المنطقة التي عاصرت روايات التوراة عنها هي مدينة حران. واتجه فريق من الآراميين جنوبًا، فانتشرت قبائل السوخي على جوانب الفرات من عنات حتى رابيقو. وانتشرت قبائل اللاكي في سهل يقع جنوبي جبل سنجار. ولم يقتصر أمر الآراميين على ذلك، وإنما اتجهت بعض قبائلهم إلى الجنوب الشرقي من دولة آشور، فانتشرت قبائل الوتواتي على شواطئ دجلة فيما بين فرعيه الزاب الأسفل والأدهم3. ومال النصر في مراحله الأولى إلى صف جماعات الآراميين، بحيث اضطرت آشور إلى الانكماش في مناطقها الشرقية إلى حين.

_ 1 Roger, T. O. Callaghan, Aram Naharaim, Rome, 1948, 143. 2 سفر التكوين 25: 20، 28: 35 Abel, Geographie ... Vol. I, 245. 3 A. Dupont-Sommer, Op. Cit., 21-22.

ج- في العصر الأشورى الحديث

ج- في العصر الأشورى الحديث مدخل ... ج- في العصر الآشوري الحديث: اكتفت آشور بحدودها الضيقة تحت ضغط الآراميين حتى تزعمها أشوردان "932 - 912ق. م"، فنهضت في عهده، وتأهبت لمكافحة الآراميين شرقًا وغربًا. ثم اشتدت عزائمها في عهد ولده أداد نيرارى الثاني "911 - 890ق. م" الذي علت شهرته على شهرة أبيه، ووصفت نصوصها الآراميين حينذاك بأنهم أهل براري1. ويبدو أن أولئك الآراميين الشرقيين وإن أخذوا بحضارة بلاد النهرين واطمأن بعضهم إلى حياة الاستقرار والزراعة، واستطاعوا أن يرهبوا دولة آشور فترة طويلة وكادوا يسيطرون على مسالك تجارتها، إلا أنهم ظلوا متخلفين حضاريًّا إلى حد ما، وظلوا يؤثرون النظام القبلي والتركز في إمارات منفصلة عرفت كل منها -كما مر بنا- باسم بيت كذا وبيت كذا، فشجع تفرقهم

_ 1 Op. Cit 18, 31..

الآشوريين على الاستمرار في محاولة إخضاعهم كلما توفر لهم زعيم يستثير همهم، وهكذا تتبعوهم عامًا فعامًا في عهد أداد نيراري في منطقة طور عابدين حيث توزعت إمارات خوريزانا وجيدرا ونصيبينا، وفي وادي الخابور. وبعهد هذا الملك أداد نيراري، بدأ عصر جديد طويل عرف اصطلاحًا باسم العصر الآشوري الحديث، أو عصر الاتساع الآشوري الكبير، وقد استمر نحو ثلاثة قرون من 911 إلى 612ق. م، وشهد مرحلتين عظيمتين من مراحل القوة والازدهار والتوسع توسطتهما فترة ركود وساعد آشور على التوسع في المرحلتين أن أغلب شعوب الشرق القديمة مصر وبابل وإلام، كانت قد بلغت دور شيخوختها، وأن الجماعات المستحدثة في الشرق بقيت على تفرقها ولم تلم شملها، فانفسخ السبيل أمام آشور لتصول وتجول فيه حيث شاءت.

المرحلة الأولي

المرحلة الأولي: وبدأ المرحلة الأولى أداد نيراري كما ذكرنا، ولم يتجه فيها إلى فتوح بعيدة، وإنما عمل على تثبيت قواعد حكمه واسترجاع الإشراف الفعلي لدولته على تخومها الغربية حول نهري الفرات والخابور، وإشعار أهل هذه التخوم، والآراميين منهم بخاصة، بسلطانه. ثم اتجه إلى تأمين حدوده الجنوبية، ولما تعارض سلطانه فيها مع سلطان بابل العجوز حاربها مرتين وغلبتها جيوشه في المرتين، وأتى نصره عليها بمعاهدة حدودية اعترفت بسيادته على أرض السواد من الخابور في الغرب إلى ما يجاور بغداد الحالية في الجنوب الشرقي. وسار خلفه توكلتي نينورتا الثاني "890 - 884ق. م" الذي تميزت حوليات حروبه بما ذكرته من التفاصيل اليومية، على سياسته في إرهاب الآراميين، فكان من ضحاياهم في عهده قبيلة "بيت زماني" التي اتخذت أميدي حاضرة لها "وهي ديار بكر الحالية". وتتبعت جيوشه قبائلهم الجنوبية في وسط العراق وفيما بين دور كوريجالزو "عند أبواب بابل" حتى سيبار1، ثم اتجهت حروبه إلى الشمال بغية إرهاب الجماعات الجبلية والوصول إلى حدود يسهل احتلالها أو يسهل الدفاع عنها حسب مقتضيات الظروف. ومنذ ذلك الحين اتجهت سياسة آشور إلى مثل ما سنه لها تيجلات بيليسر ابتداء من عصرها الوسيط من حيث توطيد سلطان الدولة على حدودها الغربية وإرهاب بابل من حين إلى آخر، وإخضاع القبائل الجبلية في الشمال الشرقي، ومحاولة السيطرة الكاملة على الطرق التجارية والحربية التي تتجه غربًا إلى الشام حيث المجد وحيث وفرة المنتجات وحيث المخارج البحرية. وشمالًا بغرب إلى جبال طوروس وآسيا الصغرى، مع محاولة إضعاف الفروع الآرامية الغربي التي استمرت في شرق سوريا وفي أوساطها وامتد نفوذها إلى موانيها البحرية. وتميز من كبار القائمين على تنفيذ هذه السياسة في آشور ملكها آشور ناصربال الثاني "833 - 859ق. م" وكان من وجهة نظر المصالح الآشورية أعظم شخصية ضارية وضاربة في المرحلة الأولى من عصرها الحديث.

_ 1 Op. Cit, 31

وقد ورث عن أسلافه الأقربين جيشًا محنكًا وسنة ثبتها هو وخلفاؤه، وهي: اضرب قبل أن تُضرب. وهاجم قبل أن تُهاجم، واجعل تنكيلك بأقرب خصومك عبرة يخشاها بقية أعداءك1. وبهذا استمر زحف الجيوش الآشورية، التي استمدت قوتها من تعاون المقاتلين على ظهور الخيل فيها مع الرماة والمشاة المدججين بالسلاح، واستخدام أدواته حصار ناجعة كانت منها الكباش أو الثيران التي تقوم مقام الدبابات وهي ذات ست عجلات ومقدمة مدببة يبدو أنها كانت تدفع بقوة من بعيد لتنقب الحصون وتدكها، وأخرى كانت تقوم مقام العربات المصفحة يستتر الجنود فيها وينقبون الحصون وهم في مأمن من سهام العدو، وأبراج متنقلة ليصعد الرماة في داخلها إلى مستوى أسوار العدو، وما يشبه الخراطيم لإطفاء النيران التي يصبها العدو على آلات الحصار. وكان إخضاع الجيوش الآشورية لكل منافس من منافسيها يوسع من حدود دولتها، فتنساق بهذا إلى أعداء ومنافسين جدد ما يتطلب منها تكرار الإجراء نفسه. ويبدو أن إحاطة آشور بالأعداء والمنافسين من كل جانب قد زكى فيها مر العصور على روح التحدي وإظهار العنف في المعاملة وقسوة الانتقام، والرغبة في إشاعة الرهبة حولها وتعويض قلة أعداد أهلها. أكدت نصوص آشور ناصر بال أنه تلقى جزى الخاتيين، وبلغ جبال لبنان، وغمس أسلحته في بحر أمورو العميق "أي البحث المتوسط" وتلقى الجزى من المواني والجزر "الفينيقية" الكبيرة: صور وصيدا وجبيل، ومحلاتا، ومايزا، وأمورو، وأرواد التي في البحر، وأنه صعد جبال لبنان، وجلب "وجلب رجاله" أخشاب الأرز والصنوبر من جبال خامانا "أي أمانوس" لمعابد سين وشمش ربي النور، ولاستخدامها في قصره. وامتازت الروايات التي أثبتت على لسانه في حولياته بحيوية فياضة وتفاصيل ممتعة ظهرت بوادرها في حوليات أبيه كما أشرنا، ويقول فيها. أرسلت إلى كذا، وجعلت كذا على يساري, وعبرت نهر أورانتو مثلًا "أي نهر العاصي" وقضيت الليل على ضفافه واحتفلت بعيد كذا في قصر كذا .... 2، وغالبًا ما كان يفخر بعبوره نهر الفرات في قمة فيضانه مع جيشه الكبير على ناقلات، وأصبح مثل هذا الفخر عبارة تقليدية رددتها نصوص خلفائه. وسجلت مناظر عهده عبور الفرات هذا، فصورت نقل العربات على العابرات، وسباحة الجند بجانبها، واستعانتهم على تعويمها بقرب منفوخة من جلود الماعز، وصورت نقل الملك بعربته في قارب خاص، وسباحة الخيول طليقة أو النهر أو مع إمساك جنود القوارب بأعنتها3. وصبغت نصوص هذا الفاتح الآشوري حروبه وانتصاراته بطابع القسوة الشديدة فتحدثت عن أن رجاله كانوا يسلخون جلود كبار الأعداء أحياء ويثبتوتها على آثارهم وأبواب عاصمتهم بالمسامير، وكانوا يعذبون بعضهم على الخوازيق ويقطعون أيديهم ويجمعون جماجمهم في أكوام، ثم يحرقون مئات الأسرى ولا يستثنون النساء، ويجدعون أنوف آخرين ويصلمون آذانهم ويبترون أصابعهم ويفقئون

_ 1 انظر جون هامرتون: تاريخ العالم - معرب بالقاهرة - الجزء الثاني - الخبر الثالث. 2 D.Luckenbill, Ancient Records, I,476 F. 3 W. Budge, Assyrian Sculptures In The Britsh Musum. Pls. Xxi A-B, Xxii A.

أعينهم، وإن لم تمنع أمثال هذه المعاملة آشور ناصر بال من أن يشيد بفضل أربابه في تأييده، ويكرر اهتمامه بتقديم القرابين إليهم وحرصه على تخصيص أخشاب أرز جبال أمانوس لإبهاء احتفالات معابدهم. ولسنا مضطرين بطبيعة الحال إلى التسليم بحرفية هذين الضدين من المعلومات، ففي كل منهما مبالغة، مبالغة في تصوير القسوة لتكون عبرة، ومبالغة في تصوير التقوى للتغطية على الأخطاء. وما ينطبق من حكمنا هذا على نصوص آشور ناصر بال ينطبق على نصوص غيره من الملوك القدماء. ويفهم من حوليات هذا الملك أن عملية توطين الآشوريين في المدن المفتوحة ليصبحوا سادتها والمنتفعين بخيراتها وليخمدوا نشاط زعمائها ويكونوا عيونًا عليهم لدولتهم، قد سبقت عهده؛ إذ تحدث أحد نصوصه عن أن جماعة منهم توطئوا في منطقة جبلية شمالية قد أخذهم الغرور وابتغوا أن يتسعوا لحسابهم في المناطق القريبة منهم فعاملهم بقسوة لا تقل عن معاملته لأعدائه الأجانب1. وترك أخيرًا ملكًا موطدًا وترك معه قصرًا عظيمًا في كالح "نمرود" التي اهتم بها اهتمام شلما نصر الأول من قبله ويبدو أنها كانت تعتبر مصيفًا ملكيًّا2، ولا تزال بقايا قصره فيها من أروع المصادر لفن النقش في عهده مما سنعود فيما بعد إلى ذكره. استفاد شلما نصر الثالث "شلمانواشاريدو" "859 - 824ق. م" من جهود أبيه آشور ناصر بال وحمية دولته، واستطاع أن يسود غرب آسيا من الخليج العربي حتى جبال أرمينيا، ومن الحدود الميدية حتى سواحل البحر المتوسط3. ولم يكن أقل اعتزازًا بجبروته من أبيه، فوصفته نصوصه بأنه الأفعوان الكبير أوشوم جال4 وكان لقب الأفعوان الكبير يوصف به الأرباب وتلقب به حمورابي ثم انتحله الملوك الآشوريون، ولعل فيه بعض الشبه بالصل الملكي المصري، وأنه طحن أعداءه جميعًا كما لو كانوا من صلصال. وأنه المقتدر الذي لا يعرف الرحمة في الحروب ... إلخ. وقد ساعدته الظروف فتدخل في مشكلات عرش بابل، ولم يكن ذلك بغير ثمن لصالحه وصالح دولته، فقد أصبحت له اليد العليا على صاحب عرشها بعد أن ناصره، وسمح له ذلك أن يتعداها بجيوشه إلى كلديا حتى الخليج العربي ويتلقى هدايا ملوكها "أو جزاهم على حد تعبير نصوصه" وقد روت قوله عنها: "هبطت إلى كلديا وقهرت مدنها وسرت حتى البحر الذي يسمونه البحر المالح "الخليج العربي"، وتلقيت في بابِل جزية أديني بن داكوري من الفضة والذهب وخشب أوشو العاج ... " وصور فنانوه جزية بيت داكوري هذه يحملها أهلها بين صفوف النخيل ويشرف عليها حراسه وكتبته. وسجلوا صورها على أبواب قصره المكسوة بصفائح البرونز في يلاوات5.

_ 1 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين -ص418 - 419. 2 See, Iraq, 1950 3 See Luckenbill,M A. R. 475, 57 F. Ernest Michel. "Die Assur-Texte. Salmanassars Iii. Die Welt Des Orients, 1947, 57 F. 4 See, Anet, 276 5 L.W. King, Bronze Reliefs From The Gates Of Shalmaneser, London, 1915 Pl. 64

وروت نصوصه في اتجاهه بجيوشه ناحية الشمال، أنه اكتسح أرض"مات" خاتي كلها وجعلها تلالًا خربة كأنما اكتسحها فيضان. ولعلها أرادت بمات خاتي هذه أطراف العراق القريبة من آسيا الصغرى، أو المناطق التي انتشر بقايا الحيثيين القدماء فيها بعد أن شتتهم أعداؤهم حول قرقيش1، وكان أبوه قد ادعى قتالهم أيضًا. واعتز شلما نصر بزيارته منابع دجلة في الشمال، وقالت نصوصه على لسان: "وبلغت منبع دجلة بحيث ينبع الماء، وغمست سلاح آشور في مياهه ... ، وأقمت حفلًا سعيدًا، وأمرت "بنقش" نصب باسمي وصورتي". وصور الفنانون هذه الزيارة على أبواب قصره، وهي زيارة اعتبرها L.W.King لأحد روافد دجلة العليا المسمى بالكاليم سو2. وعلى مقربة من هذه النواحي، ذكرت نصوصه حملة له على أورارتو "أورارتي"، وهو اسم أطلقه الآشوريون فيما يحتمل على المنطقة التي سماها أهلها بياينياس شمال آشور وفيما يتركز حول بحيرة فان الحالية وجبال أرارات شرق آسيا الصغرى، وكانت النصوص الآشورية قد بدأت ذكرها منذ عهد شلما نصر الأول في القرن الثالث عشر ق. م، ولكنها زادت في عهد سميه شلما نصر الثالث فذكرت ملكًا من ملوكها، ثم عادت بعد فترة فذكرت اسم سيدوري قائد أورارتو، وهو اسم ذكرته أقدم نقوش الأورارتيين أنفسهم بلفظ "ساردوري"، ويبدو أن شلما نصر قد أحرز بجيوشه نصرًا هناك مما خلع عليه شيئًا من القداسة وسمح لفنانه بأن ينقش ما يصور تقديم القربان لصورته على سفح جبل قريب من بحيرة فان3. وكانت لشلما نصر، أو لجيوشه بمعنى أصح، قصة طويلة مع سوريا، امتازت نصوصه عنها بتضمينها عدة أسماء لا تزال حية في أسماء مدتها ومواقعها مع تحريفات وتصحيفات يسيرة مثل أسماء: خالمان عن حلب، وأماة عن حماة، ودمشقي عن دمشق، وخاوراني عن حوران، وأرانتو عن نهر الأورنت "العاصي"، وخمري عن عمري، وقرقرة عن قرقر، وعمون ... وما إليها. غير أن الأهم من ذلك هو تضمينها اسم أريبو أو عريبو بمعنى العرب، وأعراب البادية بخاصة، لأول مرة في النصوص القديمة المعروفة، واسم جنديبو تحريفًا لاسم أمير عربي يدعى جندب أو جندبة، واسم أخابو تحريفًا للاسم العبري أخأب أو أحأب. وتجرأ شلما نصر على مهاجمة دمشق، أكبر الإمارات الأرامية العربية، بعد أن أرهب هو وأبوه الإمارات الأرامية الأخرى التي توزعت بين الفرات وبين قلب الشام ولكن دمشق لم تكن صيدًا سهلًا على الرغم من طول منافساتها مع جيرانها من الأراميين والعبرانيين، فعزمت على الوقوف في وجه جبروت الآشوريين، وجمع أميرها أداد إدري "هداد عذيري؟ " الأحلاف حوله من أهل الشام ومن العرب أو الأعراب ومن العبرانيين الذين تناسى معهم ضغائنهم القديمة في سبيل مواجهة عداء الغزو الآشوري العنيف، وخف بهم إلى قرقر حيث ضم إليه أميرها وجيشه.

_ 1 Cf D. Luckenbill, Ancient Recodrs, I, 475; Ii, 616 F; Anet, 275 2 L. W. King, Op Cit, 13 3 B. Pritchard, The Ancient Near East In Pictures, Fig. 155

وعبرت نصوص شلما نصر عن لقائه "أو لقاء قواته" مع أولئك الأحلاف بتعبيرات مسرفة ولكنها طريفة ولا بأس من الاستشهاد ببعضها كنموذج لأمثالها. فقد روت على لسانه ما يقول: " .... حينما اقتربت من حلب خالمان خشي"أهلها" الحرب وارتموا على قدمي، فتلقيت جزاهم فضة وذهبًا وضحيت أمام أداد حلب، ورجعت من حلب وبلغت مدينتي إرهوليني الحموي، فهاجمتها وهاجمت عاصمته أرجانا واستولت على جزاه وممتلكاته وحرقت قصوره، ثم واصلت المسيرة إلى قرقرة فدمرتها ومزقتها وحرقتها وكان "أميرها" قد استنجد بألفين ومائتي عجلة حربية، وألف ومائتي فارس وعشرين ألفًا من مشاة أداد إدري الأموري "الإمريشو أو الإمريشي"، وسبعمائة عربة فارس وعشرة آلاف من مشاة إرهوليني الحموي، وألفي عربة وعشرة آلاف من مشاة أخاب وأرض إسرائيل "؟ " Akha-Ab-Bu Mat Siri-La-A-A وخمسمائة جندي من قوى، وألف جندي من مصرى، ... وألف "راكب" جمل من جنديبو الأريبي "أي جندب أو جندبة العربي"، و .... ألف من بأسا بن روهوبي العموني ... ، "وكلهم" اثنا عشر ملكًا تأهبوا لملاقاتي في معركة حاسمة، فقاتلتهم بقوات آشور العظيمة التي هيأها لي مولاي آشور، وبالأسلحة التي قدمها لي مرشدي نرجال ... ، وأوقعت بهم الهزيمة بين مدينتي قرقرة وجيلزاو، وذبحت ألفًا وأربعمائة من جنودهم بالسيف، وانحططت عليهم انحطاط أداد حين يرسل عواصفه الممطرة مدرارًا، وبعثرت جثثهم "في كل مكان"، وملأت السهل كله بهم، وأجريت دماءهم ... ، وضاق السهل عن نزول أرواحهم "إلى العالم السفلي" ... ، وجعلت جثثهم معبًرا لي على نهر الأرانتو "الأورنت" ... وهكذا أكد شلما نصر انتصاره على خصومه الأراميين وحلفائهم في موقعة قرقر حوالي عام 833ق. م ولكن كانت هذه من المرات النادر بمحض الصدفة التي سجل الأراميون فيها وجهة نظرهم في مواجهة آشور، وقد أكدوا فيما سجلوه عنها أنهم أحرزوا فيها نصرًا كبيرًا. ولن نملك إزاء تضارب المصدرين إلا أن نفترض أن موقعة قرقرة لم تكن حاسمة أي طرف من الطرفين، لا سيما وأن الكتبة الآشوريين قد أعادوا ذكر انتصار ملكهم وتغنوا به مرارًا وتكرارًا في نقوش قصوره وعلى العمد والنصب، وذلك مما يعني تكرار حروب الأراميين معه، أو هو يعني تقديرهم الكبير لقوة الأراميين وحلفائهم واعتبار النصر عليهم، أي نصر، كسبًا كبيرًا ومجدًا عظيمًا. ويبدو أن الحلف الذي استشهدنا بروايته عن شلما نصر، لم يكن الحلف الوحيد الذي نجح الأرميون في تكوينه على الرغم من انسلاخ أخأب الإسرائيلي وقومه عنهم، فقد تحدثت النصوص الآشورية عن تحالف أداد إدري مع أمير حماة واثني عشر ملكًا نسبتهم إلى ساحل البحر حينًا، وإلى ساحل البحر الأعلى والبحر الأسفل حينًا آخر، وضمت إليهم كل ملوك خاتي مرة ثالثة، ثم جعلتهم خمسة عشر ملكًا مرة رابعة. وتبارى الكتبة الآشوريون في تضخيم أعداد قتلى خصومهم الأراميين فيما بين العام السادس والعام الرابع عشر من حكم ملكهم، فتارة هم ألف وأربعمائة، وتارة خمسة وعشرون ألفًا، وتارة عشرون ألفًا وخمسمائة، وتارة عشرون ألفًا وتسعمائة ... إلخ. وعلى أية حال فلم تهن عزيمة دمشق ومن بقي على الولاء لحلفها إلا بعد أن مزقتها الأطماع الداخلية، فاغتيل أداد إدري، وولي بعده حزائيل، وكان ذا كفاية حربية مثله، وإن كانت النصوص الآشورية قد ادعت أنه مجهول الأب.

وروى شلما نصر قصته مع هذا الأمير الجديد قائلًا: "وهلك أداد إدري، وأصبح حزائيل أميرًا على دمشق ... وفي العام الثامن عشر من حكمي عبرت الفرات للمرة السادسة عشرة وكان حزائيل الأموري "خزائيل الأمريشو" قد اطمأن إلى جيشه الكثيف وتحصن في جبل سنر "سا-ني-رو" المواجه للبنان فقاتلته وأنزلت به الهزيمة وقتلت 16000 من رجاله بالسيف، واستولت على 1211 عربة، و470 جوادًا، وسيطرت على معسكره ولكنه فر بنفسه فتتبعته إلى دمشق عاصمته وقطعت بساتينها ... ، وواصلت المسيرة حتى جبال حوران "شادي مات خاوراني" مدمرًا وممزقًا ومحرقًا مدنًا لا عد لها ومستوليًا على أسلاب لا حصر لها ... ، ووصلت حتى جبال بعلي رأسي بجانب البحر وأقمت هنا نصبًا بصورتي، وتلقيت حينذاك جزى أهل صور وصيدا وياهو بن"أو أمير" عمري. ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة بين الآشوريين وبين حزائيل، وإنما تكرر لقاؤهما مرات وكانت إحدى هذه المرات في العام الحادي والعشرين من حكم شلما نصر. وترتب على إضعاف دمشق أخيرًا ما يسر للآشوريين بسط سلطانهم على الإقليم الواقع شماليها والممتد فيما بين الفرات وبين البحر المتوسط. وروى ملكهم هذا الأمر بأسلوبه فقال في نصوصه: "اكتسحت مدن أرض أمورو العليا فكانت تلالًا في مهب الريح العاصمة وسرت منتصرًا على طول شاطئ البحر الكبير"1. ويبدو أن مواني فينيقيا آثرت السلامة حرصًا على أمنها التجاري، فراسلت شلما نصر بهدايها واحتراماتها، وإن كان فنانوه قد اعتبروا هذه الهدايا جزى وأسلابًا، فصوورا على أبواب قصره هيئة ميناء صور فوق جزيرة صخرية وسط البحر تنتقل منها قوارب الجزى حتى الشاطئ حيث يساعد على رسوها رجال يجرونها بحبال، ثم صوروا حمولتها تنقل تحت إشراف الحرس الآشوري إلى حيث يستقبلها الملك بنفسه2. وهناك نحت الآشوريون لملكهم نصبًا تاريخيًّا في سفح جبل يجاور نهر الكلب قرب بيروت، إلى جانب لوحة تاريخية ضخمة للفرعون المصري رمسيس الثاني3. ثم ضمن الفنانون أغلب أحداث عصرهم نقشًا وتصويرًا على عمود أسود ذي أربعة أوجه يقل قطره إلى أعلى على هيئة جسم المسلة، لولا أن قمته شكلت على هيئة ثلاث درجات صغراها هي أعلاها "على عكس المسلات المصرية المدببة الطرف"، وشغلوا وجوهها الأربعة بنقوش وصور قليلة البروز للغاية، ووزعوا مناظرهم عليها في أربع وعشرين لوحة ضمنوها صور الأسلاب والغنائم والجزى وخضوع الأعداء، وعندما أرادوا أن يعبروا عن خضوع إسرائيل لملكهم صوروا ملكها ياهو بن عمري "وهو في الواقع ليس من بيت عمري وإنما ولاه الكهنة بعد انهيار بيت عمري" ساجدًا بين يدي الملك ويشرف عليه من عل رمز المعبود آشور ورمز المعبود شمش، وكأن خضوعه لم يكن للملك وحده وإنما لأربابه أيضًا. وتضمنت مناظر الغنائم وحدات تقليدية من حملة الجزى وبيئات الصيد، ومن أطرافها تصوير جمال ذات سنامين "من بكتريا"، وفيلة من منطقة مصرى في سوريا، وقردة بوجوه بشرية مفتعلة4.

_ 1 L.W. King, Op. Cit, 23 2 Ibid, Pl. 13 3B. Pritchard, Op. Cit, Fig. 103. 4 Ibid, Fig. 100

نهاية مرحلة: ادعت نصوص شلما نصر الثالث فيما ادعته، أنه قاد اثنتين وثلاثين حملة خلال فترة حكمه التي امتدت خمسة وثلاثين عامًا ولكن نشبت في نهاية عهده فترة ضعف بدأت بخروج ولده عليه بسبب ما هضمه حقه في ولاية العهد وتخطيه إياه إلى أخيه الأصغر شمشي أداد الخامس، ثم حدوث حرب أهلية استمرت نحو ست سنوات. وظلت آشور نحو ثلاثة أرباع القرن من الزمان "824 - 745ق. م" تتلقى ضربات جيرانها الآراميين والبابليين والميديين والسوريين والفلسطنيين والعبرانيين حينًا، وتضربهم حينًا آخر، ولكن بغير نتائج حاسمة لها أو لجيرانها. وظل ملوكها يدعون أنهم تلقوا خضوع أمراء أركان الدنيا الأربعة من مشرق الشمس عند البحر الكبير إلى مغرب الشمس عند البحر الكبير، ولكن بغير دليل صحيح بل حدث على العكس من ذلك وفي عهد شمشي أداد الخامس بالذات أن تجرأ أهل أورارتو "أرارات وبحيرة فان" فاتجهوا جنوبًا بشرق حتى الحدود الآشورية وسجلوا هناك نصبًا بانتصارهم لكل من لغتهم الخاصة وباللغة الآشورية وفرضوا الجزية على ميليتيا أو ملاطية الحالية وما يجاورها. واحتفظت روايات المؤرخين الإغريق فيما سمعوه عن هذه الفترة وقصة محورة لملكة أطلقوا عليها اسم "سميراميس" تحريفًا فيما يبدو للاسم الآشوري "سمورمات" أو "شميران" وكانت وصية على ولدها أداد نيراري الثالث من زوجها شمشي أداد الخامس رووا أنهم سمعوا أسطورة تقول بأن أمها كانت آلهة تعبد في عسقلان قرب البحر ويرمز لها بصورة نصفها سمكة ونصفها حمامة ولما ولدت ابنتها على هيئة بشرية سوية تركتها للحمام يرعاها، فلهذا سميت محبوبة "رمات" والحمام "سمو" ثم عثر عليها كبير رعاة ملك آشور ورباها وتزوجها حاكم نينوى "أونيس" ولكن ملك آشور العظيم "نينوس" طمع فيها وأجبر زوجها على التخلي عنها فانتحر، ولجأت هي إلى الحيلة تنتقم له ولنفسها، فمكرت بالملك الغاضب وطلبت منه أن يعهد إليها بالعرش والسلطان خمسة أيام فرضي واستغلت هي سلطانها المؤقت وأمرت بسجن الملك ثم قتلته واستأثرت بالعرش بعده أكثر من أربعين عامًا. أما من حيث الواقع فقد استطاع أداد نيراري الثالث "810 - 783ق. م" بعد أن صلب عوده وانتهت وصاية أمه عليه أن يحافظ على القليل الباقي من إرث أجداده وساعده الحظ فهادته أو تمسحت بسلطانه الأسمى بعض إمارات فلسطين ومنها منطقة إيدوم، ويبدو أن غيرتها من جارته دمشق قد رمتها في أحضانه، وكانت النتيجة الطبيعية لذلك هي أن زادت العزلة على دمشق وزادت وهنًا على وهن، وفي هذه الظروف روى كتبت الملك الآشوري أنه أخضع أرض أمورو وأرض عمري وإيدوم وفلسطين "بالاستو، بالاشتو"، وأن ملك دمشق اضطر إلى أن يعتبر نفسه تابعًا له وقدم له جزاه في قصره بدمشق. ويبدو أن مهادنة دمشق له كان لها ظل من الحقيقة فعلًا منذ عام 802ق. م1. أما في الشرق والشمال فكان أهم ما تضمنته نصوص أداد نيراري الثالث هذا من أسماء الأقوام التي تلقى جزاها "أو وصلته متاجرها وهداياها بمعنى أصح" اسم أرض الماذيين وفارس "باراسو"، وسوف يكون لهؤلاء وهؤلاء على الترتيب أثر وأي أثر في مستقبل آشور البعيد ومستقبل بلاد النهرين كلها.

_ 1 D. Luckenbill, A.R. 734 F., 739 F. Anet. 281-282.

ولكن ما لبثت الفتن الأهلية أن عادت بعد عهده، ومزقت وحدة آشور وأضعفت هيبتها، فأفلت منها ما كان قد هادنها أو والاها من بلاد الشام، وتراجعت الجيوش الآشورية مدحورة أمام تقدم نفوذ سارديوس وأرجستوس حاكمي أورارتو، وابتدأت أسباب التقارب بين البطائح الجبلية الشمالية والشمالية الشرقية وبين الماذبين، وانتهزت بابل المغلوبة على أمرها الفرصة فاستعادت انفصالها عن العجلة الآشورية، وإن ظلت على حالها من الضعف القديم. وفي حمأة هذه المشكلات الداخلية والخارجية سجلت النصوص الآشورية حدوث كسوف كلي للشمس وافق عام 763ق. م، ورتبت عليه ما شاءت من تعليقات عقائدية وخرافية1. وفي هذه الظروف كذلك طويت صفحة المرحلة الأولى من العصر الآشوري الحديث.

_ 1 انظر جون هامرتون: المرجع السابق.

مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الأشورى الحديث

مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث: بدأت المرحلة الثانية للتوسع الآشوري الحديث في عام 745ق. م بولاية تيجلات بيليسر الثالث، الذي ذكرته النصوص البابلية باسم "بولو". ويحتمل الاسمان أكثر من تفسر واحد، فقد يكون اسم بولو هو اسمه الشخصي ويدل بهذا على أنه لم يكن من صلب البيت الحاكم أصلًا، وإذا صح هذا أمكن افتراض أنه كان من قادة الجيش نظرًا لما تجلى من مهاراته الحربية فيما بعد، ولما اعتلى العرش تيمن باسم الفاتح القديم تيجلات بيليسر وتسمى باسمه، أو يكون اسم بولو مجرد مرادف بابلي اخترعه البابليون له لغرض ما في نفوسهم. وأراد الحاكم الجديد تيجلات بيليسر أن يثبت قوة شخصيته وأن ينتشل آشور من وهدتها، فاتجه بفتوحه إلى حيث اعتاد الملوك العظام من قبله، وبدأ ببابل القريبة منه فهيمن عليها بعد مشقة وعهد بأمرها إلى صنيعة له يدعى نابو نصر، ثم اتجه بجيوشه إلى سوريا وبعد حروب عامين استعاد أغلبها للنفوذ الآشوري وأراد أن يعقب على ذلك بمواجهة سارديوس أمير أورارتو، ولكن دمشق التي خضعت له على مضض أعلنت ثورة عنيفة ضده عام 739ق. م، فأصبح يضرب بجيوشه في الجبهتين واستطاع أن يوهن أورارتو، ولكنه كان أكثر ضرابًا في الشام، وذكرت نصوصه من بلدانها إلى جانب الأسماء القديمة التي رددتها نصوص أسلافه، أسماء عسقلان ومؤاب وغزة التي لجأ حاكمها إلى مصر. ثم تدخل في مشكلات العبرانيين ... عليهم هوشع ملكًا بعد أن خلعوا ملكهم، وجعله صنيعة له بينهم1. والتفت الرجل إلى بابل مرة أخرى، وكانت قد شهدت تنافسًا مسلحًا على عرشها، بعد وفاة نابو نصر العميل الآشوري فيها. وظهر من أشد المتنافسين على حكمها مردوك أباب إدين الثاني الذي ذكرته التوارة باسم مرداك بالادان. فانحطت جيوش تيجلات على المتنافسين وأجبرت مردوك أباب إدين على الفرار،

_ 1 Anet, 284

وخضعت بابل للحكم الآشوري المباشر، ثم تقلد تيجلات تاجها وخلع على نفسه ألقاب ملوكها ولا سيما لقب ملك سومر وأكد، في عام 729 أو 728ق. م. واتبع تيجلات بيليسر أربع وسائل لتثبيت قبضته على أطراف دولته وممتلكاتها، وهي: تعيين حكام آشوريين على مدنها الكبيرة دون الاكتفاء بحكامها المحليين، وإيفاد مندوبين فوق العادة لتفقدها وتنفيذ مطالب دولته منها، وربما كان من أولئك المندوبين من يلقبون بلقب رابشاق الذي ذكرته بعض قصص التوارة1، وفرض عبادة الرباب الشوريين على بعض أهل المدن العنيدة "مثل غزة" ثم تشريد أغلب أهل المناطق المفتوحة الخطرة، وتهجير أغلب الأيدي العاملة منهم إلى بلاد أخرى بعيدة عنها، حتى لا تقوم لبلادهم قائمة، مع إحلال غيرهم من مناطق بعيدة محلهم حتى يضغطوا على السكان الأصليين أو يظلوا بينهم أغرابًا مستضعفين، وتهجير بعض آخر إلى دولة آشور نفسها حتى يظلوا تحت إشراف حكامها وحتى يمكن استغلالهم في خدمتها استغلالها مباشرًا، فضلًا عمن يستعبدون منهم استعبادًا تامًّا عند خاصة أهلها. وكان من هذا القبيل أن أمر في عامه الثالث بتهجير ثلاثين ألفصا وثلاثمائة شخص من سكان المنطقة السورية التي تمتد بين حماة وبين البحر إلى منطقة تسمى كو ... ، وتهجير 1223 آخرين إلى منطقة تدعى الأبا2 ويبدو أنه أحل محلهم سكانًا جلبهم رجاله من منطقة لولومو في جبال زاجوراس ومن ناييري قرب بحرية فان. وهجر بأمره في عام آخر عدد كبير من أهل "بيت خومريا"3 أي أرض عمري في منطقة العبرانيين، إلى آشور. بل وروت نصوصه أنه هجر بأمره أكثر من مائة ألف من أنصار ... في بابل نفسها بعد أن أخضعها لحكمه المباشر. ومن أهم ما يرتبط بعهد تيجلات بيليسر، من وجهة النظر العربية، هو صدام جيوشه مع قبائل عربية كثيرة انتشرت على الطريق التجاري القديم في شمال شبه الجزيرة العربية بين البحر الأحمر وبين العراق. وذكرت نصوصه أسماء فريدة نتناولها في بحثنا لتاريخ شبه الجزيرة العربية فيما بعد، ومنها اسمان لمملكتين أطلقت على كل منها لقب "ملكة أريبي" وهما: زبيبي "تحريفًا فيما يبدو عن زبيبة" وقد ذكرت أنها أدت الجزية لآشور واعترفت بالطاعة لملكها، ثم سمسي "تحريفًا عن شمس" وذكرتها النصوص الآشورية في مناسبتين: مناسبة أدت الجزية فيها للملك الآشوري في بداية عهدها، ومناسبة أخرى قلبت له فيها ظهر المجن ونقضت إيمانها بالمعبود شمش، على حد تعبير النصوص الآشورية، فساعدت الأراميين أعداءه، وتركت رجالها يتعرضون لقوافله، فحاربها الآشوريون حتى أجبروها على الفرارا وضيقوا على كثير من أعوانها حتى أهلكهم الجوع، فاضطرت إلى الإذعان وتأدية الجزية، ولكن الملك الآشوري

_ 1 See For, "Rebshaq": W. Manitius, Za, Xxiv, 199 F; B.Meissner, Bobylonien And Assyrien I, 103. 2 D. Luckenbill, Ancient Records, I, 770 3 Ibid. 819.

لم يطمئن إلى إخلاصها فعين رقيبًا أو قيمًا على بلادها، ولقبه بلقب "قيبو" ليشرف على توجيه سياستها ويكتب إليه عن أمرها1. ولم يكتف الآشوريون بأن يسجلوا نصرهم على الملكة شمس بالكتابة وحدها وإنما سجلوه تصويرًا ورمزا أيضًا "راجع فيما بعد". وأدرك تيجلات بيليسر أن أعراب الصحراء لن يتمكن منهم غير واحد منهم، فاستمال إليه بعض شيوخهم، وعين الشيخ أيديبيئيل مشرفًا على منطقة تدعى مصرى2 يبدو أنها كانت قريبة من الحدود المصرية الشمالية الشرقية عند أطراف سيناء الشمالية الشرقية. ولم يسلم أهل الشام للآشوريين وملكهم تيجلات بيليسر تسليمًا مطلقًا، وإنما انبعثت ثوراتهم من حين إلى آخر، وظلت مصر ملجأ للفارين من وجهه، مثل هانو أمير غزة "خانونو الخزاتي" وزادت هذه الثورات بعد وفاته، فثارت صور ضد ولده شلما نصر الخامس "727 - 722ق. م" واستعصمت بجزيرتها وأسوارها. وتطلع العبرانيون إلى عون مصر فأعانتهم، ولهذا امتد حصار جيشه لعاصمتهم السامرة "سامرينا" ثلاث سنين دون جدوى، في نفس الوقت الذي استنفذت فيه قوى بقية جيوشه في الشام في إخضاع صور. ولم تكن بابل أقل ضيقًا بالحكم الآشوري، فاستغل الأراميون الكلدانيون تذمرها وسعوا إلى استعادة عرشها. وترتب على ذلك كله أن عرش آشور لم يستمر في أسرة تيجلات بيليسر الثالث غير جيلين, انتقل منها في عام 721ق. م إلى أسرة شروكين الثاني أو سرجون الثاني على حد شهرته في الكتب التاريخية، وهو رجل لم يكن أقل كفاية من سميه شروكين الأكدي القديم. كان من المشكلات التي واجهت سرجون الثاني في بداية عهده أن انتهز مردوك أبال إدين كبير بيت باكين الكلداني فترة البلبلة التي صحبت تغير الآشورية المالكة، فاستعان بقوات عيلامية على استرداد سلطانه على بابل، وهزم الجيوش الآشورية بمعاونتهم وأعلن نفسه ملكًا في نفس العام الذي اعتلى فيه سرجون عرش آشور أو بعده بعام واحد. وتحالف روزاس ملك أورارتو "وخليفة سارديوس" مع الماذيين في إيران في جانب، ومع الفريجيين في آسيا الصغرى "أو الموشكيين على حد تعبير النصوص الآشورية" في جانب آخر، وبدأ الأحلاف يعملون لحسابهم ويحطمون من بقي على الولاء لآشور من جيرانهم. وانحل الحصار الآشوري من حول السامرة واندلعت نيران الثورة في بقية بلاد الشام ابتداء من غزة حتى حماة وأرواد، وعاوتها مصر هنا وهناك. وأجل سرجون أمر بابل وأورارتو وآسيا الصغرى والماديين أيضًا، وبدأ بفلسطين فأخضعها بجيوشه وأتم فتح السامرة العاصمة الشمالية للعبرانيين وخربها وشرد أهلها وأنهى استقلال دولتها، مما سنعود إلى تفصيله والتعليق عليه بعد قليل. ثم أخذ يضرب بقواته شمالًا وشرقًا، ضد أهل أورارتو، وضد الماذيين،

_ 1 Luckenbill, Op. Cit, I,777 F; Anet, 283, 284 2 Ibidem

الذين روى أنه أسر ملكهم دايوكو، وضد أهل إقليم كيليكيا "خيلاكو" الذين حرضهم ضده ميداس الفريجي "أو مينا ملك موشكى". وفرغ سرجون أخيرًا لمشكلة بابل بعد هزيمة جيوشه فيها باثني عشر عامًا أمام الكلدانيين والعيلاميين "الإلاميين". فانفرد بالكلدانيين الذين تركهم حلفاؤهم العيلاميون لمصيرهم، واسترجع التاج، وفر مردوك أبال إدين أمامه إلى الجنوب وأخذ معه أشراف بابل رهائن ليساوم بهم حين الحاجة. أما بابل نفسها فقد سلكت سبيل المدن المغلوبة على أمرها، ففتحت أبوابها لسرجون المنتصر، واعتبرته محررها، واستبدلت السيادة الآشورية بالسيادة الآرامية في عام 710ق. م. ولم يطل الصراع بين الآشوريين وبين الآرميين بعدها، فاجتاحت جيوش سرجون جنوب العراق وشردت بعض أهل بيت باكين وأحلت محلهم أسرى من أهل الجبال الشماليين، ولكن سرجون عفا عن زعيمهم مردوك أبال إدين واعتبره حاكمًا محليًّا في أرض الجنوب، سواء لإرضاء الآراميين. أو لإظهار نفسه بمظهر المترفع عن ملاحقته بعد أن أفقده عزه وشهرته. وكانت لجيوش آشور في عهد سرجون جولات مع قبائل عربية، ذكرت نصوصه منها قبائل تمودي والسبئيين ومملكة سمسي مما سنعود إلى مناقشته في تفصيل عند معالجتنا لتاريخ شبه الجزيرة العربية. واتبع سرجون طريقة تيجلات بيليسر في معاملة المدن المغلوبة، وهي تهجير عتاة أهلها وإحلال غيرهم محلهم ... هذا الإجراء الأخيرة في عهده أكثر مما وضح في عهد أسلافه، وكان يتخير "عن طريق أعوانه" المهجرين الجدد من مناطق متباعدة حتى لا تتحد كلمتهم عليه، ويتخير من صفوف المبعدين إلى آشور مشاة وفرسانًا يلحقهم بحرسه الخاص أحيانًا ليزيد ارتباطهم بشخصه بعد أن فقدوا ارتباطهم بوطنهم، ومن ذلك على سبيل المثال أن روت نصوصه أنه عمل على تهجير 27.290 من أهل السامرة العبرانيين إلى مناطق أخرى بعيدة مثل حران وضفاف الخابور وأطراف ماذي، وعمل على إسكان قوم آخرين مكانهم، بعد أن أمر بإعادة بناء السامرة إلى أفضل مما كانت عليه، وعين عليها حاكمًا جديدًا يؤدي الجزية إليه، وظل يرسل إلى أرضهم من شاء تهجيره من مشاغبي أهل البلاد الخاضعة، فأرسل إليها 715 من عرب البادية و709 من البابلين العصاة. وفعل بالمثل مع منطقة حماة، وتخير من أسراها 600 فارس من ذوي الدروع الجلدية والحرب وضمهم إلى حرسه الملكي، وهجر مكانهم إلى حماة 6300 آشوري. ويبدو أنه استن أوضاعًا خاصة للبلاد التابعة له عبرت عنها عبارات مختلة وردت على لسانه في سياق نصوصه، مثل قوله عن أهل أشدود "واعتبرتهم رعايا آشوريين وحملوا نيري" ومثل قوله عن مستوطنين آشوريين في قرقميش "وفرضت نير مولاي آشور فوق رقابهم"1 أكثرت نصوص سرجون من ترديد أخبار انتصاراته على عدد ممن أسلفنا ذكرهم من خصومه العتاة لا سيما حكام حماة وقرقميش وأشدود وغزة، وقائد مصري دعته باسم سيبئه"؟ " فضلًا عن أراميبي بابل

_ 1 Luckenbill, A.R., Ii, 8, 30; Anet, 284, 285, 286.

وأمراء أورارتو. ولن نناقش هنا مدى الصحة في أخبار هذه الانتصارات ما دمنا لا نملك دليلًا للأسف على نقضها، فيما خلا حديثه عن مصر من بينها، ولكن حسبنا مما سنذكره عنها ما تنم عنه من صور الغليان في عهده وما تدل عليه من أن اتساع رقعة الدول كان يقتضي عينًا ساهرة على الدوام، وأن شعوب المدن المتحضرة في الهلال الخصيب لم تتقبل التوسع الآشوري راضية، وأن النجاح في بسط النفوذ عن طريق القوة الباطشة شيء، واستقرار أمور الدولة بعد اتساعها شيء آخر. وإن كان مما يعترف به لسرجون بالذات أنه كان سريع التصرف في مواجهة المشاكل ومتاعب الحروب، وأنه كان حريصًا على بث عيونه في أنحاء دولته ليكتبوا له باستمرار عما يجري فيها وما يتوقعونه منها. وتضمنت النصوص الآشورية أخبارًا طريفة عن أولئك الخصوم لا بأس من الاستشهاد ببعضها. فقد بلغ من حقدها على حاكم حماة أن اعتبرته حيثيًّا سوقيًّا ملعونًا مغتصبًا للعرش، وما ذاك إلا أنه حرض مدن أرواد وسميرا ودمشق والسامرة ضد الآشوريين وكون حلفًا يشبه حلف قرقر القديم، بل واتخذ قرقر بالذات مركزًا لنشاطه العسكري. ويحتمل أن مصر أيدته وعاونته. وعندما انتصر الآشوريون عليه سلخوا جلده. ووصفت النصوص الآشورية حاكم قرقميش بالوصف نفسه، فاعتبرته حيثيًّا خائنًا للعهود، وما ذاك إلا لأنه تعاون مع ميداس الفريجي "مينا الموشكي" على تحرير بلديهما من تدخل النفوذ الآشوري. واعتبرت النصوص نفسها أهل أشدود في فلسطين حيثيين أيضًا، وما ذاك إلا لأنه ملكهم امتنع عن دفع الجزية وحرض جيرانه على أن يفعلوا فعلته، فعزله سرجون وولى أخاه الصغير على عرشه، ولكن أهل أشدود كالوا له الصاع صاعين، فعزلوا صنيعته وطردوه وأمعنوا في مضايقته، وعينوا رجلًا من غير الأسرة المالكة؛ اعتبرته المتون الآشورية "إيونيا"1 مغتصبًا للعرش وغير أهل له، ثم روت على لسان سرجون أنه جن جنونه عندما سمع بخبره، فلم ينتظر تجييش جيوشه وركب عربة مدنية وهرع بها هو وحرسه الخاص على حده قوله، واتجه فورًا إلى أشدود، ففزع الإيوني ولجأ إلى الحدود المصرية. وحاصر سرجون المدينة حتى سلمت له هي وجيرانها فغنم منهم ونهب وسبى وعين حاكمًا آشوريًّا على منطقتها ونقل إليها مهجرين من المناطق الشرقية واعتبرهم رعايا آشوريين2. ولم تبرأ رواية سرجون عن كل ذلك من ادعاء وتهويل، فقد ذكرت رواية آشورية أخرى أن أهل أشدود حصنوا مدينتهم ضده وأحاطوها بخندق عميق يزيد عمقه عن عشرة أمتار، وراسلوا مصر وأمراء جنوب فلسطين وبعض جزر البحر، فخرج سرجون إليهم بجيش كثيف عبر به الدجلة والفرات إبان اشتداد فيضانهما الربيعي3. وذلك مما يعني أنه لم يفلح في هجومه بحرسه الخاص الذي قص قصته في روايته السابقة، فارتد عن المدينة وعاد إلى بلده واستعان عليه ببقية جنده. وكانت لسرجون قصة قصيرة مع مصر ذكرنا طرفًا منها في سياق التاريخ المصري "ص291، 293" حين استجابت مصر لنداء هانو حاكم غزة الذي لجأ إليها منذ عهد تيجلات بيليسر، وساعدته على تكوين حلف

_ 1 For Jamani And Iodna As "Ionion" See, D.D Luckenbill. Za Xxviii "1913", 92 F 2 Luckenbill, A. R. Ii, 30, 62, 79 F, Etc 3 Ibid, 193 F.

يناهض الآشوريون، وعهدت بمعاونته إلى قائدها ونائب ملكها، الذي أطلقت المصادر الآشورية عليه اسم "سيبئه"1 ولقب تورنان "أوتورتانو، أوتارتانو"، وهو لقب عسكري وإداري كبير2 ويبدو أنه كان يقيم في رفح. ولم تذكر المصادر المصرية شيئًا عن هذه الحادثة، ولكن الآشوريين رووا أنهم انتصروا على الحلف وأسروا حاكم غزة3 ثم زادوا على ذلك فرووا أن الملوك المصريين النوبيين الذين ولوا عرش مصر في ذلك الحين "أولئك الذين لم يتعودوا أن يسألوا عن صحة أجداد سرجون" "اعتدادًا بأنفسهم واستهانة بالآشوريين" آثروا عدم الاصطدام به وتركوا الإيوني حاكم أشدود الهارب لمصيره4. وأضافت المصادر الآشورية اسمين أثارًا مشكلة عويصة، فروت أن ملكها تلقى جزى برءو "بوعو" ملك مصرو5، كما روت أنه تلقى اثني عشر جوادًا كبيرًا لا مثيل له هدية من شيلخيني "أوشلكاني" ملك مصرى، وأشارت معها إلى ما سمته باسم مدينة نخل مصر6. ويبدو أن هذه الأسماء لم تكن لها صلة بمصر بمعناها المعروف حيث ذكرت النصوص الآشورية ذكرت اسم برءو "برعو" ملك مصر ومع رؤساء البادية مثل سمسي ملكة أريبي، وبثع أمر السبئي، وذلك مما قد يعني أن منطقة مصر كانت من مناطق البادية أيضًا، ويغلب على الظن أنها كانت قريبة من البحر الأحمر ومن الحدود المصرية وأنها نفس المنطقة التي روى شلما نصر من قبل أنه عين عليه الشيخ البدوي إديبيئيل. أما اسم برءو فقد يكون تحريفًا لاسم شيخها البدوي في عهده. أو تكون تبعيتها القديمة لمصر قد أغرت الكتبة الآشوريين على اعتبار جزاها من جزى الفرعون المصري نفسه، وكان لقب ينطق في اللغة المصرية برعو فعلًا "وذلك على نحو ما اعتبروا جزى أو هدايا" ... العربية القريبة من حدودها والمتعاملة مع دولة سبأ من جزى الدولة السبئية الجنوبية البعيدة عنها تضخيمًا منهم لشأن ملكهم وامتداد سطوته ولو من قبيل المجاز". أما شيلخيني أو شلكاني ملك مصرى، فقد يكون اسمه تحريفًا لاسم عربي مثل سلحان، كما رأى الباحث ريكمان7، وليس اسًما لفرعون مصري كما ظن فيدنر8 لا سيما إذا أضفنا أن مصر لم تشتهر بتربية الخيول الكبيرة التي أشارت إليها نصوص سرجون، وإنما كانت جيادها صغيرة الحجم نسبيًّا على الرغم من تهجينها بسلالة ليبية في العصور المتأخرة.

_ 1 ورد هذا الاسم في سياق قصص من التوراة أيضًا "الملوك الثاني 17: 1 - 6" انظر ص291، وعن تحسين أصله المصري المحتمل، يراجع: H.Kees, G.G. A. 1926, 426; J. Ranke, Keilschriftliches Material Zur Altaegyptischen Vokalisierung, 38 ;Helene Von Zeissl, Aethiopen And Assyren In Aegypten ... 1944, 18 F; See Also, Vetus Testamentum, 1952, 164-168; 1970, 116-118. 2 Cf. A. Ungel, Zatw, 1932, 204 F. 3 Luckenbill. A. R. Ii, 55.80 4 Ibid 62. 5 Ibidk, 18. 6 See E.F. Weidner, A. F. O. Xiv "1941", 40 F 7 Ryckmans, A.F.O. 1941, 54 F. 8 Cf. E.F. Weidner, Op. Cit.

ويبقى اسم محل مصر، وهذا قد يترجم بمعناه الآشوري بمعنى قناة مصر، أو سيل مصر، ويدل بذلك على جزء من وادي العريش، أو جزء من خليج السويس، كما رأى بعض الباحثين، أو يدل على وادٍ قريب من رفح كما نم عن ذلك نص آخر1، أو يكون له بعض الصلة باسم قرية تخل الخالية في شبه جزيرة سيناء. وكان أشد سرور سرجون من أمجاد عهده، هو سروره بولاء بعض حكام جزيرة قبرص له ورضاهم بإقامة نصب نقشت عليه صورته في جزيرتهم2. وعبرت نصوصه عن هذه الحال بأسلوبها المبالغ، فروت أن ملكها أخضع سبعة ملوك من إقليم إيا في قبرص "إيادنانا" وسط البحر الغربي على مسافة سبعة أيام، وعلى مبعدة لم يسمع عنها أسلافه ... 3. ولم تكن آشور بالدولة البحرية التي تستطيع أن تمد نفوذها على قبرص بمجهود يمينها كما ادعت نصوص سرجون، وإنما يبدو أن حكام صور وصيدا الفينيقيين أرباب الملاحة والتجارة، كان لهم نفوذ كبير على جزء من الجزيرة، فلما دانت مدينتاهم صور وصيدا لنفوذ سرجون، سارعوا بالتالي إلى إعلان ولائهم في الجزيرة له حتى لا يتصدى أعوانه لعرقلة نشاطهم التجاري على سواحل الشام وفيما بينها وبين قبرص. واحتفظ عهد سرجون برسائل إدارية تكشف عن مدى سيطرة دولته على أتباعها. وكان يبث عيونًا عليهم يكتبون إليه عن مدى تقاربهم وتباعدهم، ويحرص على أن يتلقى تقارير عيونه أينما ارتحل في أنحاء دولته الواسعة. فحدث أن زار بابل مرة "في عام 713ق. م" وعهد إلى ولي عهده سينا خريب بتدبير أمور عاصمته، فأرسل ولده إليه يطمئنه على استقرار أمور الدولة، وبدأ رسالته بما يبدأ به التابع العادي رسالته، قائلًا له: "إلى الملك سيدي، من سينا خريب خادمك، سلامًا لملك مولاي، الأمن سائد في آشور وفي المعابد وفي حصون الملك كلها، فليسعد قلب الملك مولاي تمامًا"4. وشفع سينا خريب رسالته بتقرير مندوبيه ورؤساء حاميات الحدود قرب دولة أورارتو، وتحدثت هذه التقارير عن اشتباكات بين الأراميين وبين السميريين، وانتصار الأخيرين فيها، كما تحدثت عن زيارات ملوك المنطقة "في الشمال والشمال الشرقي" وأمرائها بعضهم لبعض5. وكان سرجون لا يريد تقارب هؤلاء بعضهم من بعض، فنمى إلى قصره ذات مرة أن ملك أورارتو وأمراءه سيخرجون بعدد من قواتهم العسكرية بحجة زيارة مدينة موتساتسير المقدسة، فكتب ناظر القصر "نيابة عن مولاه" إلى أمير هذه المدينة يبلغه استياء مولاه من سماحه لأولئك الحكام بدخول مدينته بجنودهم دون استئذانه، ولكن رد عليه أمير متساتسير بأنه لن يمانع في زيارة ملك آشور لمدينة بعسكره، فكيف يمنع ملك أورارتو عنها؟ 6.

_ 1 Op. Cit, 43 F. 2 Winckler, Die Keilschrifttexte Sargons, I, Pls. 4-47. 3 Luckenbill, Ancient Records, Ii, 99, 186. 4 Harper, Assyrian And Babylonian Letters, No 197. 5 Ibid, Nos 198, 492, 380. 6 Ibid, No. 409.

وفي نهاية عهد سرجون بدأت نذر هجرة شعوبية عنيفة تمثلت في هجرة قبائل السميريين التي تدفقت بقضها وقضيضها على مملكة أورارتو وهزمت قواتها في عام 607ق. م واستمرت في تقدمها حتى لاقاها سرجون بجيشه في عام 705ق. م، ويبدو أنه قتل في المعركة أو اغتيل بعدها، ولكن بعد أن نجح جيشه في دفع السميريين ناحية الغرب فاندفعوا إلى آسيا الصغرى وهزموا في طريقهم جيش ميداس ملك فريجيا، "ميتا صاحب موشكى"، أحد أعداء الآشوريين الألداء، مما أدى به إلى الانتحار، وشيئًا فشيئًا أتى السميريون وحلفاؤهم التريرويون على مملكة فريجيا من أساسها1. تتابع من الملوك العظام من أسرة سرجون ثلاثة، وهم: سين أخي ريبا "705 - 681ق. م" الذي اعتادت بعض المؤلفات التاريخية على أن تذكره باسم سينا خريب أو سينا حريب، وآشور أخا دين "681 - 638ق. م" أو أسرحدون أو أسرهدون كما اعتادت بعض الكتب على تسميته، ثم آشور بانيبا "668 - 626ق. م" الذي ذكره الإغريق باسم ساردانا بالوس. وسوف نذكر أولهم باسمه الأكثر شيوعًا وهو سينا خريب لقربه من اسمه الأصيل. واجهت أولئك الملوك العظام مشكلات ضخمة متعددة ظهرت بوادرها منذ عهد سرجون نفسه، وامتدت جذورها إلى ما قبل عهده. وتوفر لكل منهم أسلوبه الخاص في معالجتها بما يتفق مع إمكانيات دولته ومشاعره الخاصة واتجاهات السياسية في أيامه. وأهم هذه المشكلات هي: 1 - دولة بابل التي ظلت تأنف من الخضوع للآشوريين وظلت في الوقت نفسه مطمعًا للآراميين الكلدانيين. 2 - استمرار العداء بين الدولتين العنيفتين المتجاورتين، آشور وإلام "أو عيلام"، مع استخدام العيلاميين لكل من الكلدانيين والبابلين للقيام بدور مخلب القط في بعض مراحل هذا العداء2. 3 - وقوف المصريين في وجه التوسع الآشوري في الشام، وتأييدهم للمناطق السورية والفلسطينية ضده، مع تذمر هذه المناطق تلقائيًّا مع طابع العنف والتعالي عند الآشورين. 4 - رغبة آشور في إجبار أعراب الصحاري والبوادي على الطاعة، مع تمرد هؤلاء الأخارى عليها على الرغم من قلة إمكانياتهم. 5 - اضطراب الأوضاع في الأطراف الشمالية لآشور وفي آسيا الصغرى نتيجة للنزعات الاستقلالية فيها وخشونة طباع سكان جبالها ونزول هجرات هندوآرية جديدة عليها.

_ 1 Layard, Monuments Of Nineveh, I, Pl. 25 2 Harper, Op. Cit. 839.

مع بابل: سوف نعود إلى تفاصيل العلاقات الآشورية البابلية في تقديمنا لبابل الكلدانية بعد قليل، وتكفي الإشارة هنا إلى أنه عز على بابل أن تنجب زعيمًا من أهلها الأصيليين يستعيد لها مجدها القديم، فتعاقب على حكمها في عهد سينا خريب الآشوري ما لا يقل عن ستة ولاة ليس فيهم بابلي أصيل، وأن هذا الملك لجأ في تعقب أحد حكامها الكلدانيين بعد فراره بأعوانه إلى الشاطئ العيلامي، إلى إنشاء أول أسطول حربي كبير في تاريخ الآشوريين، اشترك في إنشائه صناع من صيدا وصور وقبرص، وعملوا فيه عامًا كاملًا على ضفاف دجلة والفرت، ونقلوا جزءًا منه على طريق البر، وعبر الآشوريون وحلفاؤهم به الخليج العربي وهزموا خصومهم، ثم أتى دور بابل نفسها فخربها رجال سينا خريب تخريبًا عنيفًا وسلطوا مياه نهر الفرات على أنقاضها حتى أغرقوها في عام 689ق. م. وبمنطق المنتصرين المعوج، لم يتورع ابن سينا خريب عن تبرير هذا التخريب على حساب البابليين المغلوبين بقوله: "لقد كانوا من قبل يذلون الضعيف وشاع الطغيان في مدينتهم والرشا والنهب. وكان الولد يسب أباه في الطريق، والعبد يهين مولاه، والجارية تعصي سيدتها ... ، ولقد عطلوا القرابين، ووضعوا أيديهم على كنوز إساجيل معبد الأرباب، وباعوا الفضة والذهب والأحجار الكريمة منه إلى عيلام ... ، فغضب مردوك إنليل الآلهة، ودبر أمره على قهر هذا البلد وتشتيت أهله". وكان قتال الآشوريين للكلدانيين في شط العرب بالجنوب موضوعًا للوحة حية صور فنانها منطقة المناقع بأسماكها وحيواناتها المائية الصغيرة، تتخللها أحراج القصب المرتفعة التي آوى الكلدانيون إليها وتجمعوا فيها في جماعات صغيرة يتداولون مصيرهم. وصور قتالًا عنيفًا في مراكب من البوص المجدول المكسو بالقار، وصور السبايا الكلدانيات بثياب طويلة كاسية وشعور مرسلة يستعطفن الغازين1 "وتشبهن للغرابة هيئة الإغريقيات في المناظر اليونانية القديمة". وانكمشت بابل العظيمة على نفسها، حتى ولي عرش آشور، آشور أخادين، وكان فيما يبدو من أم بابلية، وربما ولاه أبوه نائب ملك على بابل في حياته، فانصرفت عواطفه إليها وشجع على إحيائها وولى عليها ولده الأكبر شمش شوموكين، وتجاوز عن سلطان الكلدانيين في أرض البحر مع طاعتهم لولده2. وربما لم يفعل ذلك بدافع العاطفة وحدها، وإنما بدافع الرغبة أيضًا في التفرغ لتنفيذ حلمه الكبير بغزو مصر. واستقر الأمير الآشوري شمش شوموكين ببابل فترة طويلة ونهض بها خلال حياة أبيه وبعد وفاته، ثم استغل إمكانياته ونفوذه فيها في التضييق على أخيه الأصغر آشور بانيبال الذي نازعه عرش آشور بعد مقتل أبيه، وضم إليه حلفًا قويًّا من العيلاميين والأمراء الكلدانيين في أرض البخر، ولفيفًا من السوريين وأمراء البدو المتذمرين. ولكن ميزان القوى انقلب إلى جانب أخيه الصغير فشددت

_ 1 Layard, Monuments Of Nineveh, I, Pl. 25 2 Harper, Op. Cit, No. 839

جيوشه الحصار على بابل عامين، حتى تفشت فيها الأوبئة والمجاعات واضطرت إلى التسليم وأشعل أميرها النار في قصره وهلك في لهيبها، ثم زادت جيوش آشور بانيبال بابل خرابًا على خراب ودمرتها "عام650ق. م" تدميرًا عنيفًا لم تفق منه إلا بعد جيل كامل يوم هبت هبتها الأخيرة للانتقام لنفسها وللقضاء على دولة آشور كلها. والغريب أن أنصار آشور بانيبال لم يتورعوا عن تمثيله على لوحة صغيرة باسمًا مستبشرًا يرفع بيده سلة من الخواص المجدول إلى ما فوق مستوى تاجه الطويل، وسجلوا حوله نصوصًا تشيد بفضله في إعادة بناء "إساجيل" مقر مردوك إله بابل1. واشتد هذا الملك على الكلدانيين الجنوبيين في أرض البحر في العام نفسه، فاضطر واليهم نابو بعل شوماني حليف أخيه إلى الفرار إلى عيلام. وعين آشور بانيبال "دوباشو" بلاطه واليًا عليهم، ووجه إليهم نداءه قال فيه: "أي خدمي ... سلام لكم وهدأت قلوبكم ... اذكروا فضلي عليكم قبل خطيئة نابو بعل شوماني ... وهأنذا أرسل إليكم بعل ابني الدوباشو الخاص بي ليرأسكم ... " ثم طلب منهم الطاعة وهددهم بإرسال جيوشه عليهم إن مالوا إلى العصيان2. وعاش نابو بعل شوماتي لاجئًا في عيلام لبضع سنوات، ثم حدث لسوء حظه أن اغتيل الملك العيلامي الذي آواه، وولي ملك آخر آثر مهادنة آشور بانيبال فأبدى استعداده لتسليمه إليه، ولما ضاقت السبل باللاجئ الكلداني نابو بعل شوماتي أمر تابعه بأن يقتله بسلاحه حتى لا يعاني تعذيب أعدائه، ولكن هذا لم يمنع الآشوريين من التمثيل بجثته حين سلمت إليهم فقطعوا رأسها وحرموا دفنها. مع إلام "عيلام": استمر العداء ضاربًا أطنابه بين الجارتين اللدودتين آشور وعيلام، وقد آثرنا التعبير عن هذه الأخيرة بنطق إلام وهو أقرب إلى لغة أهلها التي لا تتضمن العين السامية مع إلحاقه في كثير من الحالات أو إبداله باسم عيلام الشائع استخدامه في المؤلفات العربية. وظلت الانتصارات والهزائم الوقتية الخاطفة دولة بين الفريقين، حتى فت في عضد إلام اختلاف حكامها على أنفسهم بحيث انقسموا فريقين ووقفت جيوشهما بعضها لبعض بالمرصاد على ضفتي نهر الهدهد كما ذكر أحد التقارير الآشورية3. فتدخل الآشوريون في مشاكلهم لزيادة نارها وتأليب فريق على فريق، ثم أتت النهاية السياسية لعيلام على يد "جيش" آشور بانيبال فدمر عاصمتها سوسة تدميًرا شاملًا، وذكرت نصوصه أنه استولى على كل كنوزها ولم يدع في قصورها ملوكها شيئًا إطلاقًا إلا وأمر بحمله معه، حتى أواني الطعام والشراب والغسيل، ولم يدع معبدًا فيها إلا أمر بنهبه وتدميره وأسر معبوداته، ولم يدع مقبرة ملكية فيها إلا وأمر بفتح توابيتها وإخراج عظامها ثم نقلها إلى آشور، حتى يحرمها الخلود في أرضها على حد قوله. وزاد في نصوصه أنه ود لو حمل تراب سوسة معه إلى آشور4 "حتى يحرمها البقاء على وجه الأرض إلى أبد الآبدين. وبذلك أخذ بثأر البابليين

_ 1 B. Pritchard, The Ancient Near East In Pictures, Fig 129. 2 Harper, Op. Cit No. 289. 3 Ibid No. 289. 4 ديلابورت: المرجع السابق - ص419 - 421.

القدماء عن غير قصد، مما فعله الإلاميون معهم في نهاية القرن الثاني ق. م حينما دمروا عاصمتهم وحرموها كنوزها وآثارها حتى الحجرية منها "كنصب تشريعات حمورابي وأمثاله"1. وظلت انتصاراته على سوسه هذه مجالًا خصبًا لتصورات فنانيه، فأخرجوا لوحات كبيرة مبدعة صوروا فيها ساحة الحرب تموج بالهرج والمرج، يقتتل فيها المشاة والخيالة وفرسان العربات، يدقون الرءوس بالمقامع ويطعنون النحور والظهور بالحراب والسهام ويحزون الرقاب بالسيوف والخناجر. ويهرع بعضهم لنجدة بعض، وينحني بعضهم على جثة قتيل ليسلبه خوذته وسلاحه وجعبة سهامه، بينما يجثو بعض المغلوبين طلبًا للرحمة، ويلقي بعضهم بنفسه في النهر التماسًا للنجاة. وصوروا القلاع فوق قمم الجبال وعند ملتقى الأنهار يهدمها الغزاة ويشعلون النار فيها، فيغادرها أهلها ليلحقوا بأفراد جيشهم الذين ركبهم اليأس وساروا مشاة وفرسانًا يستحث بعضهم بعضًا، وقد تكدس شيوخهم وأطفالهم فوق عربات مرتفعة متسعة لكل منها عجلتان كبيرتان وجواد واحد يستحثه سائقه بصوت طويل. ثم صوروا العاصمة سوسه خاوية على عروشها إلا من أطلال البيوت والنخيل، بيضية يحيط بها خندق ومجرى ماء، ويقع على مبعدة منها نهر كرخا وقد امتلأ مجراه بجثث القتلى والخيول الشاردة والنافقة وبقايا العربات المحطمة. وخرج من المدينة المستضعفون من أهلها رجالًا ونساءً شيوخًا وصغارًا، يصفق بعضهم وينشدون نشيدًا مغتصبًا على أنغام الأوتار ليداروا به بطش الفاتحين، ويمشي بعضهم رافعين أكفهم في ضراعة رتيبة ذليلة، بحيث تحافظ الأم على رفع يدها والتمتمة بفمها بينما تمسك طفلها بيدها الأخرى وتنظر إليه حسيرة كسيرة الفؤاد، أو تنظر إلى من يسير خلفها تسأله عما سيئول إليه مصيرها ... أما رأس تيومان ملك إلام فكانت أداة رصع الفنانون بها صورهم الغريبة، فصوروا ملكهم يقطعها بيده في ساحة القتال، وصورها معلقة في رقبة حليفة دونانو الجمبولي الذي اقتيد إلى العاصمة بعد أن قطع لسانه وسلخ جلده، ثم ذبح كما تذبح الخراف، وصورها مرة ثالثة تتدلى من شجرة في مجلس شراب مولاهم. غير أن انتصار آشور على إلام لم يكن خيرًا كله، فقد تحملت إلام حتى ذلك الحين كبح جماح بقية العشائر الإيرانية من ورائها، ولا سيما الجبلية منها، فلما انزاح هذا الحاجز بزوالها، وقع العبء على آشور وحدها فأحست بأن زيادة التوسع أصبحت تؤدي إلى زيادة المشاكل أمامها. مع مصر والشام: رأينا في سياق بحثنا للتاريخ المصري في صفحة 294 وما تلاها، كيف ادعت نصوص الآشوريين أنهم انتصروا على جيوش مصر وحلفائها في الشام انتصارًا مستمرًا، بينما خالفتها قصص التوراة ونصوص المصريين في بعض ما ادعته لأهلها. وأن القصة بدأت بعد أن هاجمت جيوش سينا خريب مملكة العبرانيين

_ 1 Frankfort, The Art And Architecture ... , Pls. 103-107.

الجنوبية "يهوذا" التي استنجدت بالمصريين، فأعانوها، ليس حبًّا فيها، ولكن رغبة في اتخاذها موقعًا من مواقع دفع الغزو الآشوري. وروت نصوص سينا خريب أنه استولى على 46 مدينة من مدنها الكبرى فضلًا عن أعداد كثيرة من قراها، وقسمها بين أنصاره من حكام عقرون وأشدود وغزة، وأسر أكثر من مائتي ألف من أهلها، وحاصر عاصمتها أورشليم "أورشاليمو"، في عهد ملكها حزقيا ونبيها إشعيا. وصور فنانه في نينوى حصنها ذا خرجات رباعية وصور رماة الآشوريين حولها يعتمدون على ركبة ونصف يسددون السهام عليها وأمام كل منهم ترس كبير. ويبدو أن ملكهم نجح في أسر عدد من المصريين، ومن ثم أرسل عامله "الرابشاق" إلى أورشليم ليدعو حزقيا إلى التسليم بعد أسر بعض حلفائه أو يؤلب قومه عليه ثم روت النصوص أن حزقيا اضطر تحت وطأة الحصار وإزاء ما أصاب النجدة المصرية وانفضاض أتباعه عنه إلى أداء الجزية مضاعفة إلى نينوى ومعها بناته وحظاياه وموسيقييه1. وأسلفنا أنه على العكس من الرواية الآشورية روت أسفار التوارة أن الجيش الآشوري حل به الموت الإلهي وحام ملك الله فوقه ليلًا، وفي بكرة الصباح أصبحوا جثثًا هامدة2، فارتد الملك الآشوري مدحورا بخزي الوجه إلى أرضه3، بعد أن أصبح جيشه كالعاصفة في مهب الريح4. وروى هيرودوت أن المصريين أطلقوا بوحي ربهم جرذانًا على معسكرات الآشوريين فقطعت أوتار قسيهم وأتلفت جعاب سهامهم وأفسدت سبور دروعهم مما سهل تمزيقهم إربًا. وربط بعض الباحثين بين قصة الجرذان هذه وبين الهلاك الإلهي الذي تحدثت عنه التوارة، بأن الجرذان أفشت وباء الطاعون الدملي بين الآشوريين فأهلكت منهم خلقًا كثيرًا مما أجبر بقيتهم على الانسحاب5. وعقبنا كذلك بأن توقيت هذه القصة لا زال يتأرجح بين تعيينه بعام حصار أورشليم حوالي عام 701ق. م، وبين تعيينه بعام تخريب سينا خريب لمدينة لاشيش "لخيش" ومحاولته الوصول إلى الحدود المصرية حوالي عام 690ق. م، وكان انتصاره في لاشيش هذه موضوعًا للوحة حرة نقشها فنانه في قصر كالح، وتخلى فيها عن الحدود التخطيطية، وملأها ببيئة جبلية تنمو الكروم فوقها، وصور سينا خريب في مركز قيادته في حضن الجبل فوق عرش مرتفع "يشبه كراسي الأرابيسك الشرقية المرتفعة" يتقدم إليه كبير أتباعه ومجموعة من القادة يصعدون من أدنى الجبل واحدًا بعد الآخر، ويتفرق على السفح مجموعة أخرى بين صاعد وهابط وواقف، بينما ارتمى في حضرة الملك جماعة من يهود لاشيش يقبل بعضهم الأرض، ويجثو بعضهم الآخر يستعطفه، وقد تعمد الفنان تحقير شأنهم فصورهم قصار القامة يبدون في جثيهم وسجودهم على هيئة الأطفال6.

_ 1 Luckenbill, The Annals Of Sennacherib, 1924; Ancient Records, Ii, 233 F; Anet, 287-288. 2 الملوك الثاني: 19: 35. 3 أخبار الأيام الثاني: الإصحاح 32. 4 إشعيا 17: 13 5 Herdotus, Ii 141; Cf, L.L. Honor, Sennacherib's Invasion Of Palestine, 1926; J. Lewy, Olz. 1928, 150 F; U. Ungand, Zaw. Lix 199 F. 6C.T Gadd, Stones Of Assyria. London, 1936, Pl. 13.

ولم تخل روايات الآشوريين عن بقية ثورات فلسطين من طرافة، حين تحدثت عن صدقيا ملك عسقلان الذي أبى أن ينحني للملك الآشوري على حد قولها، وألب عليه جيرانه، فأسره هو وأهله وأعقابه الذكور. وتحدثت عن أهل عقرون الذين خلعوا ملكهم بادي صنيعة الآشوريين وسلموه إلى حزقيا اليهودي فسجنه، وعندما استرد سينا خريب سيطرته على عقرون أراد أن يكون عادلًا من وجهة نظره، فأمر بقتل الموظفين والنبلاء الذين اشتركوا في خلع ملكهم وتعليق جثتهم على الأعمدة حول مدينتهم، واكتفى باعتبار المواطنين العاديين المتهمين بمشايعة الثوار الكبار، أسرى حرب، ثم غض الطرف عن بقية الجماهير التي لم يثبت عليها سوء السلوك1، على حد تعبير نصوصه. ودافعت صيدا وصور عن كيانهما التجاري المستقل ضد سينا خريب، ولم يكتف لولي ملك صيدا بمحاولة تحقيق استقلال دولته، وإنما حاول أن يعيد إلى حوزتها تلك المنطقة القبرصية التي أعلن حكامها الولاء لسرجون، ولكن محاولته لم تجد أمام قوة آشور، ففر إلى قبرص حيث مات بها. وعين الملك الآشوري خلفًا له على صيدا يدعى إيثت بعل2. أما صور فقد استعصت أسوارها عليه حتى وفاته. ولم تيأس المدينتان، فاستمر فضالهما، في عهد آشور أخادين "681 - 668ق. م". ولكن فشل مسعاهما نتيجة لعدم تكافؤ القوى بينهما وبين خصومهما، فدك الآشوريون أسوار صيدا ومبانيها، وتعقبوا ملكها عبدى ميلكرته في البحر حتى أسروه، وكلفوا أعدادًا كبيرة من سكان السواحل الفينيقيين وبقايا الحيثيين ببناء مدينة جديدة حلت محلها ونسبوها إلى ملكهم فسموها "كار آشور أخادين"، ثم زودوا هذه المدينة الجديدة بمهاجرين من أهل الجبال وساحل الخليج العربي. وادخروا نهاية قاسية لملك صيدا وأحد حلفائه الأشداء في جنوب آسيا الصغرى "سامواري ملك كوندي وسيزو في كيليكيا" فقطعوا رأسيهما وعلقوهما في عنقي أميرين من أهل صيدا وساقوهما في موكب النصر بنينوى وسط أصوات المزامير3، وظلت نصوص الملك الآشوري تؤكد سلطانه على ملوك جزر البحر4. ووجد آشور أخادين متعة كبيرة في تكليف اثنين وعشرين حاكمًا من حكام بلاد الشام وآسيا الصغرى وقبرص، بتوريد كل ما يتطلبه بناء قصره في نينوى ابتداء من الأحجار، وتعمد كتبته أن يسجلوا هذا التكليف في نصوصهم بصورة توحي بأن الحكام كانوا يشاركون في عملية نقل المواد المطلوبة بأنفسهم "مع ما في ذلك من مشقة بالغة"5. ولم تكن الجيوش الآشورية أقل شدة، أو أقل نشاطًا من وجهة نظرها، في معاملة القبائل العربية مما سنتعرض له بالتفصيل في بحث تاريخ شبه الجزيرة العربية.

_ 1 Luckenbill. Op. Cit. 2 Ibid. Ii, 574; Annales Of Senacherib 76 F. 3 Luckenbill, A. R. Ii 527; R. Campell Thompson, The Prisme Of Esadrhaddon And Of Ashur Bmupal, 1931, 16. 4 J. Bury, History Of Greace, 1959, 219, N 1. 5 R. Campell Thompson, Op. Cit.

وأدى آشور أخادين ما تردد فيه أبوه، فاستعرض عضلاته مع مصر، وكانت مصر تمر حينذاك بفترة من فترت الشيخوخة السياسية والحربية بعد أن أدت دورها الحضاري المجيد قرونًا طويلة، وكانت تسيطر عليها فيما مر بنا "ص288" أسرة جمعت دماؤها بين الدم المصري والدم النوبي، وولي عرشها حينذاك تهارقه الذي رددت قصص التوارة اسمه. وكانت الخلافات الداخلية قد فعلت فعلها فيها كما روى العبرانيون عن نبيهم إشعيا حين ينقل عن ربه: "أهيج مصريين على مصريين فيحارب رجل أخاه ورجل صاحبه، مدينة مدينة ومملكة مملكة"1. نجح الآشوريون فيما رأينا في إضعاف حلفاء مصر بالشام ليفتوا في عضدها، وكانت أشد أولئك الأحلاف إخلاصًا مدينة صور التي روت النصوص أن حاكمها "بعلو" "بعل إيلي" أجاب على رسائل الملك الآشوري إجابة جافة، فشدد الآشوريون الحصار حولها، وحاولوا أن يمنعوا اتصالاتها البرية والبحرية2 إلى أن يفرغوا من حليفته الكبرى، فنجحوا بالنسبة للأولى وطال أمرهم في الثانية. وقد ابتغى آشور أخادين أن يغزو مصر غزوًا مباشرًا؛ أملًا في تحطيم قوتها العسكرية، وطمعًا في ثرائها، وليقطع معونتها عن حلفائها السوريين الذين ما فتئوا يتطلعون إليها على الرغم من تجاوز الحظ عن مشاريعها الحربية أكثر من مرة. ولقد أسلفنا في بحثنا للتاريخ المصري ص296 أن غزوه لمصر مر في مرحلتين، مرحلة بدأها عام 674ق. م بلغ فيها الحدود المصرية الفلسطينية، وهنا روت المصادر البابلية أن جيشه هزم في معركة دموية بمصر3، ثم ارتد عنها ليواجه حلفًا من السيكثيين والماذيين الذين هددوا الحدود الآشورية الشمالية الشرقية4. ثم مرحلة ثانية بدأها عام 671ق. م واستعان فيها ببعض أعراب الصحراء على تذليل مشقة الطريق عبر سيناء والصحراء الشرقية، وكانت له معارك ضارية في الطرق وإزاء منف، كما كانت له سياسته في ترك الأمراء المحليين في مناصبهم بعد أن ظن رضاهم بسلطانه، ثم خرج من مصر بكنوز طائلة وأعداد كبيرة من الفنيين والمهنيين ليحرم بلدهم منهم وتستفيد بهم دولته، ولكنه لم يهنأ طويلًا بنصره، فثارت مصر ضده وعاونت ملكها تاهرقه على استرجاع سلطانه، فجن جنون آشور أخادين، واعتزم الخروج لمقاومة الثورة بنفسه لولا أن مشكلات وراثة عرشه شغلته عامًا كاملًا أعدم فيه عددًا كبيرًا من كبار دولته، ثم خرج بجيشه قاصدًا مصر ولكنه مات في الطريق وأفل جيشه عائدًا إلى وطنه. وتكفل بمواجهة المقاومة المصرية خلف آشور بانيبال، واستعان على مشروعه ضدها بقوات من الشام ونواحي الفرات خرجت تحت راية اثنين وعشرين ملكًا، على حد رواية نصوصه، واستعان بخبرتهم الملاحية وهاجم مصر من البر والبحر، وانتصر بهم على جيش تاهرقه، ولكن هذا لم يقض على المقاومة، فما لبثت حتى اشتدت كرة أخرى، وعاد آشور بانيبال إليها بجيشه للمرة الثانية وبلغ انتقامه في هذه المرة مداه ودمر طيبة كبرى عواصم العالم القديم، حوالي عام 659ق. م "أما عن ظروف إجلاء الآشوريين عن مصر فتراجع عنها ص297+، ص300+"

_ 1 إشعيا 19: 20. 2 Luckenbill. Op. Cit, Ii, 554 F. 3 See, Anet 302. 4 ديلابورت: المرجع السابق -ص316.

وبقيت أمام الملك الآشوري صور الحصينة، ويبدو أنه فت في عضدها سوء حظ حلفائها المصريين وقسوة الحصار عليها من البر والبحر، فاستسلمت للملك الآشوري حين خرج إليها بجيشه الكبير في غزوته الثالثة وتبعتها أرواد. وتبجحت النصوص الآشورية فروت أن ملك صور استرضاه بتقديم ولي عهده وبنته وبنات أخواته إليه بالهدايا، فأعاد إليه ولي عهده واستبقى البنات1، وهكذا فعل مع ملك أرواد الذي لم يخضع لأحد من ملوك أسرته على حد قوله، فقبل ابنته هدية منه. وفعل آشور بانيبال بعرب البادية ما فعله بغيرهم مما سنعود إليه في حينه، وكانت أشد نقمته عليهم لانضمام بعض زعمائهم إلى أخيه ضده، وتقلب عواطفهم معه، وبلغ من شدته معهم أن لجأ إليه أحد زعمائهم "يويطع بن حزائيل" معتذرًا خاضعًا فقبل عذره، ولكنه أمر بوضع مقود في عنقه وقرنه مع كلب ودب لحراسة إحدى بوابات عاصمته نينوى، كما أمر بقرن زعيم آخر من زعمائهم بأمراء عيلام وشدهم جميعًا كالخيول إلى عربته في بعض مواكبه2. وعلى نحو ما بلغت جيوش آشور بانيبال مداها في بلاد المشرق، استطاعت أن تدق أبوبا مملكة ذات صبغة شرقية غربية في آسيا الصغرى، وهي مملكة ليديا التي اعتمدت في كثير من نشاطها المدني والحربي على الإغريق المستوطنين فيها، وتحالفت مع الآشوريين في عهد ملكها جيجيس ضد قبائل السميريين، ثم تحالفت مع مصر ضدهم، فبادلها الآشوريون عداء بعداء وفتكوا بجيشها، وعندما قتل ملكها جيجيس، عام 653ق. م في كفاحه مع السميريين، اضطر ولده أرديس إلى مهادنتهم3. بداية النهاية: أحاطت بالملوك السرجونيين هالات من المجد شجعتهم على أن يستبدوا بكل من وقعوا تحت طائلتهم، ولكن بنيانهم الداخلي لم يكن سليمًا تمامًا، ونخرت فيه عوامل التنازع الأسري في القصر الملكي منذ عهد سرجون نفسه الذي اغتيل في ميدان القتال أو بعده في عام 705ق. م، واغتيل بعده سينا خريب في المعبد بيد أحد أبنائه ومعونة صاحب الليمو عام 681ق. م، واستمرت الفتنة قائمة في آشور منذ يوم وفاته في 20 تيبتو إلى الثاني من أذارو "آذار"، ثم هدأت وأعلن آشور أخادين نفسه ملكًا في اليوم 18. وفرق آشور أخادين بين أولاده، فأوصى لأكبرهم شمشي شوموكين بحكم بابل، وأهمل الثاني، وأوصى للثالث آشور بانيبال بولاية عهد آشور. وعقد إتفاقيات متعددة مع أمراء الولايات والمدن في دولته أخذ عليهم فيها المواثيق بأسماء أربابه وأربابهم أن يظلوا مخلصين لولده هذا قلبًا وقالبًا وإلا حاق الشر بهم في الحياة وبعد الممات هم وكل أهلهم4. وليس ما يعرف إن كان قد فعل ذلك إيثارًا منه لابن زوجة على ابن زوجة أخرى،

_ 1 Luckenbill. Op. Cit. Ii, 547. 2 See, Anet, 298, 300. 3 J.B Bury, Op. Cit, 111-112. 4 D.J.Wiseman "The Vassal-Treaties Of Esarhaddon', Iraq, 1958; R. Borger, Za, 1961. 173-69; Anet, 1968, 534-41.

أم فعله تقديرًا منه لاتساع دولته وصعوبة إشراف شخص واحد عليها. على أنه مهما يكن قصده فقد تنمو كل من الأخين المحظوظين للآخر، وانحاز إلى جانب كل منهما فريق من الأمراء والقادة، وتذبذبت عواطف الأب نفسه بين الفريقين، فبدأ باضطهاد أنصار الابن الأكبر الذين احتجوا على مضمون وصيته وأمر بسفك دماء عدد كبير منهم، ثم ... لتحريض من بقي منهم فعاد واضطهد أعوان الابن الأصغر وتغير قلبه عليه ومات وهو على هذا الإحساس نحوه، بينما ظلت أمه "زاكوتو" صاحبة الحظوة في عهد أبيه، والتي حملت في عهده لقب الملكة الوالدة، وفيه عطوفة لحفيدها الأصغر، وعندما خرج يقاتل إخوته وأعوانهم قامت على رعاية شئونه في العاصمة وأصبح كبار حكام الأقاليم يراسلونها باعتبارها الملكة الوالدة والوصية على العرش ويطمئنوها على ولدها "ويعنون حفيدها"، وينهون إليها أخبار أقاليمهم1، وعندما استتب الأمر لحفيدها ظل يتلقى نصائحها2. ولم يكن للدولة بعد أن أضاع التنافس على السلطان صواب ملوكها، وبعد أن جرأ الابن منهم على أن يغتال أباه، وجرأ الأخ منهم على الفتك بأخيه، إلا أن تتوقع نازلة قريبة تحل بها وتهد بنيانها. ولكن وقبل أن نصل بالدولة إلى هذه النهاية، نستعرض في الصفحات التالية طرفًا مما اتصفت فبه الحياة الآشورية في فترات مجدها إبان عصرها التوسعي الحديث، من مظاهر الحضارة المادية الفنية والفكرية، إلى جانب ما استدعى السياق التاريخي تصويره متفرقًا في الصفحات السابقة من منظر المعارك وفخامة المواكب وصور استمتاع الملوك، ويلحظ القارئ أننا قد نسهب في شرح نماذج فنية عرقية بأكثر مما أسهبنا في شرح النماذج الفنية المصرية على الرغم من كثرتها، وذلك على أساس ما أصدرناه عن هذه الأخيرة من دراسات مستقلة بها. صور من الحضارة: ترك الآشوريون آثارًا عدة في عواصمهم الكبرى آشور ونينوى: وكالح ودورشروكين. وقامت نينوى بالقرب من الموصل الحالية، ووجدت بقايا آثارها في ربوتين رئيسيتين: ربوة قويونجيق في طرفها الشمالي الغربي وهي الأكبر، وربوة النبي يونس في طرفها الجنوبي الشرقي وهي الأصغر. وتوفرت محاجر الألباستر حولها فاستغلها المعماريون فيها في بناء وتزيين قصور ملوكهم. ولعبت المدينة دور العاصمة منذ القرن الثامن عشر ق. م وفيما يعاصر عهد حمورابي، وتجدد حظها في العصر الآشوري الحديث خلال القرن السابع ق. م وفي عهدي سينا خريب وآشور بانيبال بخاصة، حيث بلغ محيط سورها نحو عشرة أميال، وتضمن ما لا يقل عن خمس عشرة بوابة3. ولا تزال أطلال معالم مشروعات القنوات والحدائق باقية فيها من عهد سينا خريب، وقد ذكرت نصوصه أن رجاله زوعوا له فيه شجيرات ... التي سموها شجيرات الصوف. ولم تكتشف كل ربوة قوبونجيق لاتساعها، ولكن الصورة العامة للمنطقة التي تشغلها هي قيام قصر سينا خريب في جنوبها الغربي، وقصر آشور بانيبال في شمالها، وقد اكتشف كلاهما في أوساط القرن الماضي.

_ 1 Harper, Op. Cit, No. 303. 2 Ibid. No. 324. 3 R.C. Thompson, Iraq, Vii, 1940, 91 F.

وقدر لايارد مساحة الجدران المنقوشة المكتشفة من قصر سينا خريب حتى عام 1853 بنحو عشرة آلاف قدم وإن كان أغلبها قد تهدم في العصور القديمة، ونقل بعض ما بقي منها إلى حوزة المتحف البريطاني. وتناولت نقوشها ما يصور رحلات الصيد الملكية وحياة البلاط وتقارير تفصيلية للمنشآت المعمارية والدفاعية التي تمت في عهده وعمل فيها أسراه. ومثل قصر آشور بانيبال في نينوى مصدرًا آخر للفن الآشوري، ولو أن ما عرف عنه على الرغم من روعته، لا يزال أقل مما عرف عن القصر الأول، ليس فقط لما أصابه من تدميرت متعاقبة، بل ولضياع كثير من نقوش جدرانه وصورها خلال عمليات نقلها في العصر الحديث؛ ولا تزال بقايا مناظر الصيد فيه تمثل ذروة ما بلغه الفن الآشوري في ميدانها. وتخلفت فيما بين القصرين الكبيرين بنينوى بقايا معبدين للإلهين نابو وإشتار. وتحد مدخل المعبد الثاني منهما تماثيل ونقوش تصور الملك منشئ المعبد في طريقه إليه على عرش محمول فوق عجلات ويصحبه أهل بلاطه وحراسه وعدد من الموسيقيين. وأدت كالحو، أو كالح التوراة، أو نمرود الحالية، دور العاصمة الآشورية الثانية. وهي مدينة قامت على الضفة اليسرى لدجلة، إلى الشمال الشرقي من مدينة آشور التي تقع على ضفته اليمنى، وامتد عمراتها فوق لسان خصب بين الدجلة والزاب الأكبر، ونشأت كمركز عسكري، ثم احتلت مكانتها المدنية بتشييد بعض قصور الملوك الآشوريين فيها منذ القرن الثالث عشر ق. م في عهد شلما نصر الأول، ثم زادت أهميتها في العصر الآشوري الحديث، وكشف فيها حتى الآن عن بقايا قصور الملوك الثلاثة الكبار آشور ناصر بال الثاني وشلما نصر الثالث وآشور أخادين. وهي قصور دلت على ما دلت عليه قصور نينوى، من حيث فخامة واجهاتها، وحراسة التماثيل الحيوانية البشرية الحجرية الضخمة لمداخلها "حراسة رمزية"، ومن حيث تعدد الأجنحة والقاعات فيها، وتميز القاعات الرئيسية منها وقاعات العرش بخاصة بمناظر منقوشة تسجل لقطات مختارة من حياة الملوك في الحرب والسلم مع كثير من المبالغات المعتادة، ولوحات منقوشة تنطق بمثل ذلك، كلوحة تصور خضوع ياهو الإسرائيلي أمام شلما نصر الثالث "عام 841ق. م"، وأخريات تتحدث عن حفل افتتاح قصر آشور ناصر بال في عام 879ق. م، بعد جهود طويلة ونفقات طائلة بذلت في تشييده، وأقيم بعدها حفل بلغ عدد المدعويين فيه 69574 شخصًا استضافهم الملك لعشرة أيام1، ثم من حيث قرب المعابد والمزارات والزقورات من الأحياء الملكية، وأخيرًا من حيث ما أدت المصادفات إليه من بقاء بعض التحف والطرف فيها مثل قطع العاج الثمينة المشكلة، والأواني المعدنية الفاخرة، واللوحات المسمارية ذات الصبغات الأدبية والإدارية والتنجيمية والتعليمية. وتخير سرجون لنفسه عاصمة جديدة تقع إلى الشمال الشرقي من نينوى بنحو 16 كيلومتر، ونسبت إليه في تسميتها "دور شروكين" أي داره أو مدينته، وافتتحها قبل وفاته بنحو خمس سنين.

_ 1 Anet, 1968, 558-60. 2See, G. Loud, Khorsabad, I-Ii; Encyclopedie Photographique De I' Art, Ii, 1 F.

ثم هجرها العمران بعده بفترة قليلة فغطاها الرديم وحمى لحسن الحظ جزءًا كبيرًا من أطلالها، واحتفظت المصادر العربية بجزء من التسمية القديمة لهذه المدينة مع قليل من التحريف حيث ذكرتها باسم "سرغون" بينما احتفظ اسمها الحالي بنطق آخر أطلقه الساسانيون عليها وهو "خسرو أباد" "أي مدينة خسرو"، مع تحريفه إلى "خور سباد" و"خور صباد" في اللغة الدارجة الحالية. قامت هذه المدينة على خطه شبه مربعة بلغت مساحتها نحو ميل مربع، وأحاطت بها أسوار ضخمة تنفتح في واجهاتها الأربع سبعة مداخل متباعدة، وقيل إنه كان لها 150 برجًا. وشيد لسرجون فيها قصران من طابق واحد أحدهما كبير في الضلع الشمالي للمدينة والآخر صغير في ضلعها الغربي. وقام الكبير منهما فوق مسطح مرتفع يؤدي إليه طريق صاعد، وتضمن نحو مائتي قاعة بلغت أبعاد القاعات الرئيسية منها نحن 32×8 أمتار، وبلغت مساحة بهوها الكبير نحو 976 مترًا. وخدمت القاعات الصغرى منها أغراض الملحقات وأماكن الإدارية. ويذهب الظن إلى أن عددًا من حجراتها المستطيلة سقفت بعقود وأن عددًا من حجراتها المربعة سقفت بقباب. واتصلت بقصر سرجون عن طريق فنائه الواسع ستة معابد، ثلاثة كبيرة وثلاثة صغيرة، وجاورتها زقورة مشتركة بلغ طول ضلع قاعدتها 143 قدمًا، وتخلف منها ما يدل على ثلاث طبقات أو أربع، لونت كل طبقة منها بلون مختلف عن لون الأخرى، وبلغ ارتفاع كل واحدة منها ثمانية عشر قدمًا. ويحتمل أن الزقورة بنيت في أصلها مع سبع طبقات وتوجها قدس الأقداس على ارتفاع 143 قدمًا، أي بما يساوي طول ضلع القاعدة. وكان يدور حولها طريق صاعد مسور يبدأ من القاعدة حتى القمة. وأقيم أكبر المعابد الستة، وهو معبد نابو، فوق مسطح مرتفع يؤدي إليه طريق صاعد، وتقدمت بوابته الداخلية صوار مصفحة بالبرونز تعلوها رموز مقدسة، وكسيت جوانبها بقراميد من القاشاني الملون "أو الطوب المزجج" المزخرف، تصور حيوانات وطيور وأشجار، وقامت في واجهة المعبد أساطين نصفية. واستخدم المعماريون في عمائر سرجون الأحجار بكثرة في الأساسات وقواعد الأساطين وتيجانها وأعتاب الأبواب الرئيسية، وفي رصف الأرضيات وحشو شرفات القصر، وتكسيه أسافل الجدران الكبيرة. بينما استخدموا قوالب اللبن في بناء بقية الجدران، واستخدموا الآجر في بناء الأقبية والعقود المدببة وما يشبهها، واستفادوا في تنفيذ مبانيهم وزخارفها من أساليب المباني الحيثية القديمة والمباني السورية المجاورة لأرضهم. وهكذا كسيت الجوانب الداخلية لمداخل الحصن والقصر الرئيسية بالجص حتى ارتفاع يصل إلى ما بين الخمسة والستة أقادم، وكسيت أكتافها بلوحات حجرية امتدت نحو 14 قدمًا طولًا وارتفعت نحو 13 قدمًا، ونقشت بصور مجسمة شديدة البروز لكائنات حارسة. وكسيت جوانب فناء القصر الرئيسي وجدران قاعاته الرئيسية بلوحات حجرية أيضًا نقشت بحوليات سرجون وصوره متبوعًا برجال حاشيته، في أحجام كبيرة يزيد بعضها عن الحجم الطبيعي لقامة الإنسان، بينما نقشت لوحات الممر المؤدي إلى قاعة العرش بصور كائنات حارسة. ولعل الآشوريون قد اقتبسوا أسلوب الكساء الحجري في أول الأمر من مباني الحيثيين في بوغازكوي من مباني شمال سوريا في مثل ألالاخ وتل العطشانة الحالية.

وتميزت عمارة القصر الصغير ببناء صفة ذات أساطين تعقب المدخل وتقوم أساطينها الخشبية المرتفعة فوق قواعد حجرية شكلت بعض وجوهها على هيئات الأسود، وشكل بعضها الآخر بما يشبه هيئة الآنية "المصمتة" المزخرفة المنبعجة الجوانب. وكان الآشوريون قد استعاروا أسلوب الصفة وأساطينها ذات القواعد المشكلة من مباني جيرانهم الغربيين واحتفظوا لها باسمها الشائع في شمال سوريا، وهو "بيت خيلاني" ويبدو أن الصفة السورية كانت مجرد تقليد لأصل حيثي، بحيث رأى بعض الآثاريين أن الصفة الآشورية كانت أقرب إلى الأصل الحيثي منها إلى التقليد السوري، وأنها استخدمت كالصفة الحيثية جزءًا من بهو المدخل، بينما كانت تعتبر في سوريا بناية مستقلة بذاتها1. عبر الفن التسجيلي الآشوري عن وجوه عدة من الحياة الحربية والاجتماعية والدينية في عصره، فضلًا عن دلالته الذاتية عن تطور الأساليب والمهارات الفنية عند أصحابه. ووجد هذا الفن مجالاته الرحبة على السطوح المعتادة القديمة مثل سطوح النصب، والجدران المكسورة بالخزف، والأخشاب المصفحة برقائق معدنية، وعلى الأختام وقواعد التماثيل والعروش، فضلًا عن سطوح جديدة على أعمدة تشبه هيئة المسلات وعلى الأفاريز الحجرية لجدران القصور والمعابد وكانت ترتفع إلى نحو سبعة أقدام. وظل هدف الفن على هذه السطوح كلها أكثر احتفالًا بإشباع شهوة الغلبة وحب الزهو والتعاظم عند الملوك، فصورهم يقودون الجيوش ويتقبلون خضوع زعماء خصومهم ويفتكون ببعضهم أو يشهدون التمثيل بهم. وصور ربهم آشور يشاركهم القتال ويصوب سهامه من قرصه المجنح. وصور المشاة والخيالة وفرسان العربات ذات العجلات الغليظة التي يستقلها اثنان أو ثلاثة "ويصحب الملك فيه عادة سائق وتابع مسلح" وصور تحركات الجيوش في ساعات الكر والفر وعمليات مهاجمة الأسوار بالمدببات والسهام والفئوس والعمد الطويلة. وصور هدم المدن وتحريقها، وراحة الجنود في معسكراتهم. كما صور ذلة الأسارة وتهجير المدنيين. وحرص على أن يجعل النصر من نصيب الآشوريون دائمًا، شأنه في ذلك شن كل فن تسجيلي قديم بالنسبة لأهله، وترتب على ذلك أن أصبحت أغلب لوحاته لا تخلو من رتابة ومناظر معادة، زادها افتعالًا مبالغة أغلب الفنانيين في تنميق زخارف السطوح والثياب والشعور واللحى، والمبالغة في إظهار عضلات الشخصيات الرئيسية وهم الملوك في أغلب الأحوال، ثم إخضاع بعض الكائنات الطبيعية لعناصر زخرفية مفتعلة، وعدم مراعاة التناسب أحيانًا بين المكان وشاغليه، سواء في الارتفاع أم في المساحة. ولم يخفف من ثقل هذه الظواهر غير نجاح بعض أولئك الفنانين في إظهار حيوية تحركات الأفراد ولفتاتهم، والتمييز بين ملابس طبقة وأخرى، والتمييز بين ملابس الآشوريين وبين ملابس أعدائهم، والتعبير عن البيئة الطبيعية

_ 1 عن احتمال اشتقاق كلمة خيلاني "أو هيلاني" من أصل حيثي بمعنى المدخل أو البوابة: See, Frankfort. Op. Cit, 167 And Notes.

بما يناسبها، كمنحدرات الجبال وحدود الجزر وأحراج البوص عند مصبات الأنهار، ثم إظهار طابع الطراوة في صور الولدان الخواص من خدم القصر بحيث تراهم في هيئات تشبه الإناث أو الأغوات وقد يرجع ذلك إلى كثرة الولدان الأجانب والمولدين من جواري أرمينيا وإيران وآسيا الصغرى في بلاطات الملوك وقصور السراة. وعلى نحو ما سجل الفنانون لحظات انتصار ملوكهم، صوروا لحظات صيدهم للأسود والثيران الوحشية. وكان الجنود يحيطون عادة بساحة الصيد الملكية ويؤلفون سورًا حولها بتروسهم الكبيرة، وربما صادوا الأسود من أجماتها، واحتجزوها في أقفاص كبيرة استعدادًا لإطلاقها حين يحين وقت الصيد الملكي وحينئذ كان يعلو قفص الأسد قفص آخر يحتمي فيه حارسه حين يرفع الباب إلى أعلى لإطلاق الأسد من أسره1. وكان الملك يصيد راجلًا وعلى عربته وفوق صهوة جواده، ويكسو ذراعيه وساقيه بجلد سميك ذي شرائط ليتقي به تأثير مخالب الوحوش، أو يصحبه حراسه ليشاركوه الصيد ويناولوه السهام ويجهزوا على الوحوش الجريحة ويدافعوا عنه حين المفاجأة. وقد يسرف الفنان فيصور ملكه يرفع أسدًا صحراويًّا من ذيله، أو يصوره وقد تجمعت أمامه جثث عدد كبير من السباع وهو يطؤها بقدمه ويسكب عليها ماء مقدسًا ليقدمها قربانًا لإشتار ربة الحرب وسط تراتيل الكهان والحراس وأنغام الموسيقى الوترية. ولم يخفف من غلواء الفنانين في تصوير شجاعة ملوكهم إلا البراعة الفائقة من كبارهم في تصوير خصائص الحيوان ومظاهر اندفاعه وغضبه، وتهالكه وألمه، وبلغوا من ذلك حدًّا لم يبلغوه في تصوير الإنسان. وقد وفق فنان عهد آشور بانيبال التوفيق كله في تصوير الحيوانات الجريحة كتصوير لبوءة أدمتها السهام فانطلقت تزأر في ألم ممض وتجر مؤخرتها العاجزة وهي تقاوم نزعها الأخير2، وتصوير أسد هائل تقوقع على نفسه رافعًا كتفيه متحاملًا بأربعته على الأرض بكل قوته ليقاوم السقوط وهو ينزف دماءه بغزارة من فمه3، وآخر تدلى لسانه وبرزت أنيابه وتحجرت مآقيه بعد أن لقي حتفه4. وعبرت المناظر عن الحياة المدنية للملوك، ولكنها صبغتها بصبغة رسمية غالبة، ومن أشهر صورها مناظر آشور ناصربال في كالح في مجالس قصره وفي أعقاب حفلات صيده، يستمتع بالشراب والموسيقى، أو يصب الماء من كأسه على صيده ليقدمه قربانًا لربه5. ثم مناظر سرجون مع رجال حاشيته عند استقبال مقدمي الهدايا إليه6، على جوانب أفنية قصره والردهة المؤدية إلى قاعة عرشه. وزيارة

_ 1 Frankfort, Op. Cit, Pl. 108' B. 2 Ibid.. Pl. 111 A. 3 Ibid. Pl. 111 B. 4 Ibid. Pl. 110. 5 W. Budge, Assyrian Sculputures In The British Muscum, Pls. Xix A-B, Xxxi; Compare Aslo B. Prithard, The Ancient Near East, Fig 156. 6 Frankfort, Op. Cit, Pls. 96, 97.

شلما نصر الثالث لمنابع دجلة ودعواته أمام ربها1، وخروج سينا خريب في موكب النصر في عربة مدنية تعلوها مظلة مرتفعة تشبهها مظلات العربات الهندية2. أما عن الحياة الداخلية الخاصة للملوك، فلعل أشهر مناظرها القليلة الباقية هي صور آشور ناصربال في مناسبات شرابه. وصورة آشور بانيبال وقد تخفف من ثيابه التقليدية واستلقى على سرير مرتفع تحت كرمة أو خميلة، ودلى قلادته من طرف سريره، ووضع سيفه على منضدة تجاوره، وجلست أمامه زوجة بدينة ثقيلة تشاركه الشراب، وأحاط بهما الأتباع والعازفون وخدم المائدة، وتدلت في الوقت نفسه رأس عدوه الألد ملك عيلام من شجرة مرتفعة غير مثمرة3. وليس من نقوش متميزة يستشهد بها في تصوير حياة الأفراد، وقد يرجع ذلك إلى طغيان شخصيات الملوك وتغطيتها على من سواها، أو يرجع إلى قلة احتفال الأفراد أنفسهم بمقابرهم ومناظرها كما حفل المصريون. غير أن المناظر الملكية تجاوزت في بعض المرات حدود الحياة الملكية إلى تصوير حياة الأتباع، فصورت على سبيل المثال فترات الراحة للجنود، ومن هذا القبيل لقطات من معسكر آشور ناصربال صورت مطابخ الجيش ورجاله، وحظائر الخيول وسياسها، وعمليات إقامة السرادقات وإعدادها لسكنى الضباط4، ومنظر لركن من أركان معسكر آشور بانيبال بعد انتصاره على مدينة هامان، وقد وقف على باب المعسكر جندي مسلح جلست أمامه امرأة تمازحه، وجلس الجنود في الداخل يعبون من الكاسات ويصطلون5. وصورت بعض المناظر جوانب من حياة الطبقة الكادحة -عرضًا- كتصوير عمال يشدون خلفهم عربات كبيرة محملة بجذوع أشجار ضخمة، بحبال تنساق فوق أكتافهم كالدواب6. وظل النقش المسطح المنخفض قليل الروز، أكثر شيوعًا مما سواه. وظل التصوير يؤثر طابع الضخامة والامتلاء بالنسبة للشخصيات الكبيرة، وطابع الرهبة بالنسبة للشخصيات الخرافية. وتقيدت أغلب المناظر بالتقاليد القديمة المألوفة، مثل تقسيم المسطحات إلى صفين أو ثلاثة صفوف، وانتهاء كل موضوع بنهاية صفه، واستقرار الأشخاص فوق خطوط الوقف، وشغل الفراغات بمفردات مناظر ليس من الضروري أن يتوافر الترابط بينهما دائمًا. ولكن شذت عن هذه التقاليد بضع لوحات كبيرة وصغيرة، تجاوز الفنانون في بعضها حدود الخطوط، ورابطوا بين مناظر الصفوف المتعاقبة، ثم تخلوا في بعض آخر عن فكرة الصفوف تمامًا ونجحوا في استخدام المسطح كله لتصوير مراحل متتابعة مترابطة من موضوع واحد، وهو موضوع الحرب في أغلب الأحوال، ويذكر من النماذج الناجحة لهذه الاتجاهات اتصال المناظر لكل صف على الوجوه الأربعة لمسلة آشور ناصربال بحيث ظهرت خلفية الخيول التي تجر العربة الملكية

_ 1 L. W. King. The Bronze Reliefs From The Gates Of Shalmaneser Iii, Pl. 59. 2 Frankfort, Op. Cit Pl. 89. 3 Ibid, Pl. 114 B; Pritchard, Op. Cit,Fig. 122. 4 جون هامرتون: تاريخ العالم – معرب بالقاهرة- ج2 – شكل بصفحة 255 5 Frankfort. Op. Cit., I, 107. 6 جون هامرتون: المرجع السابق: - شكل بصفحة 243.

على وجه وظهرت بقية العربة وتوابعها في موازاة السطر نفسه على وجه آخر1. ثم تصوير قطعان الظباء والحمر الوحشية والخيول البرية وكلاب الصيد، تصوير من شاهدها ودرس خصائصها في أحوال أمنها وساعات فزعها، طليقة لا تتقيد صورها بخطوط الوقف ولا بالأرضية المستقيمة، مما سمح بإظهار العمق في مناظرها2. واتصال موضوع واحد على ثلاثة صفوف في مناظر الحرب الآشورية العربية، وهي مناظر تموج بالحركة والكر والفر والسرعة، يقاتل الآشوريون فيها بالحراب والسهام، مشاة وفي العربات وعلى صهوات الخيول، ويقاتل الأعراب فيها مشاة وعلى ظهور النجائب، يمتطي كل اثنين بعيرًا، أحدهما يسوقه بعصاه والآخر يرمي عن سوقه أمامًا وخلفًا، وتجري النجائب بسرعة عجيبة لتنقذ راكبها وتنجو بنفسها، حتى لتكاد تقفز أو تطير ... 3. ثم حرية المناظر في لوحات الحروب الآشورية العيلامية مما بسطناه في سياق حديثنا عن الحرب ذاتها. ويماثلها إلى حد ما منظر مهاجمة لاشيش في عهد سينا خريب ص532. وتهيأت المواد الأولية لفن النحت في آشور أكثر مما تهيأت في بابل؛ لقربها من مناطق الجبال وقرب محاجر الألباستر من عاصمتها نينوى، ولاتساع أملاكها الخارجية الغنية بالأحجار والمعادن الصالحة للنحت والتشكيل، لولا أنه لم يبق من التماثيل الآشورية غير قلة لا تتفق مع إمكانيات عصرها. انحصرت نماذجها الناجحة في تماثيل الملوك والأرباب أكثر من تماثيل الأفراد، ولسنا ندري مرة أخرى إن كانت هذه الظاهرة قد ترتبت على محض المصادفة، أم ترتبت على انعدام شخصية الفرد أمام جبروت الملوك. ويستشهد من التماثيل الناجحة للملوك بتمثال حجري صغير لآشور ناصربال يبلغ ارتفاع نحو المتر ولا يخلو من التأثر بالسلوب البابلي، يمثله واقفًا في هيئة رسمية في سن الرجولة بشارب متدلٍ وشعر مرسل طويل ولحية ضخمة مزجلة مستعارة. ولا تخلو جزئيات هذا التمثال من عيوب، كضيق الجبهة، وتحديق العينين، ورقة الشفتين، وفرطحة القدمين، والافتعال في تمثيل اللحية المرجلة، وخشونة الظهر، ولكنه على الرغم ذلك مقبول في مجمله لا سيما ببدنه الملفوف، وانحدار كتفيه، وامتلاء ذراعه العارية، مع نحافة خصره تحت من تأثير ربطة الزنار، والحزور الزخرفية التي تزين ثوبه، وقد شكلت الشارتان اللتان يمسكهما في يدين بالنقش البارز في جسم تمثاله4 ونقشت بضعة سطور على صدره تشيد باتباع ملكه. وعثر عليه في مشكاة بمعبد نينورتا بعاصمته كالح، باعتباره باني المعبد ليستفيد عن طريق تمثاله بما يقدم إلى أرباب المعبد من صلوات ودعوات وقرابين. وتمثال صغير من الكهرمان كان جزءًا من حلية كبيرة، لملك آشوري

_ ـــــــ 1 E. Unger,,, Der Obelisk Des Konigs Assurnasirpal Aus Nineveh', Mitt. Der Altorientalishen Gesell, Vi, 1932; And See, Landsberger, Sam'aal, Ankara, 1948, 24. ويردها الأول إلى القرن الحادي عشر ق. م بينما يردها الثاني إلى القرن التاسع ق. م 2 Frankfort Op. Cit. Pls. 112-113, 194 B. 3 Ibid, Pl. 102 B. 4 W. Budge, Assyrian Sculptures In The British Museum. Pl. 1.

غير معروف، تضمن مزايا التمثال السابق دون عيوبه، وزاد عليها سماحة مظهره، وسلامة تكوين العينين، وصدق تمثيل الشفتين، وطرافة تشكيل الشارب مبروم الطرفين، وانعقاد يديه على صدره، وتحلية صديريته الطويلة بزخارف نباتية لطيفة1. ثم تمثال صغير للمعبود نابو، من أواخر القرن التاسع ق. م، يمثله بجسد ملفوف ذي خطوط بسيطة، وشعر كث مرسل ولحية طويلة وشارب بسيط متدل، وتاج ذي قرون، ووجه لا يخلو من سماحة يزكيها عقد يديه أسفل صدره وتشابك كفيه في ليونة لطيفة2. وجمعت بين النقش والنحت نقوش شديدة البروز أجيد تفريغ خلفياتها فبدت على هيئة التماثيل الناتئة من جدرانها، وتجلت نماذجها الكبيرة على أفاريز حجرية رجصية كست جوانب مداخل قصر آشور ناصربال، ومعبد نينورتا في كالح، وجوانب مداخل قصر سرجون ومدخل قاعة عرشه في خور سباد. وتراوحت ارتفاعاتها بين الثلاثة وبين الأربعة أمتار، وتجسمت مفرداتها على هيئة كائنات حارسة ذات هيئات بشرية مجنحة، وأخرى ذات هيئات بشرية خالصة، وثيران وأسود مجنحة برءوس بشرية ضخمة متوجة لم ينس الفنانون تفاصيلها الصغيرة حتى الأقراط المتدلية من الآذان. ولعب الخيال الفني والأسطوري دوره في تمثيل بعض هذه الكائنات الضخمة ذات الأجسام الحيوانية والرءوس البشرية بخمس سيقان، اثنتين أماميتين ضخمتين متجاورتين توحيان بطابع الثبات والاستقرار لمن يشاهدهما من الجانب، وتنسجمان مع امتلاء صدر حيوانهما وفخامة رأسه البشرية، ثم ثلاث سيقان أخريات ذوات حجم طبيعي تنسجم مع جسم الحيوان، وتتقدم إحداها الأخرى بحيث توحي في مجموعها بهيئة المشي لمن يشاهدها من الجانب. وامتازت رءوس الكائنات عند مدخل قاعة عرش سرجون بتصويرها من الأمام والتفاتها ناحية الداخلين لتملأهم روعة ورهبة. وسمحت سطوحها المجسمة المتسعة بإظهار تفاصيل تكوين الجسم البشري لا سيما صفحات الوجوه وعضلات الذراعين والساقين، وتفاصيل الثياب والأجنحة، في أناة مستحبة غطت على عيوب طابع المبالغة في تمثيل اللحى الكثة والشعور الطويلة. واستغلت أرضياتها لنقش نصوص تمجد ملك عصرها3، وهكذا جمعت بين أغراض النقش والنحت والزخرف والتسجيل والرمز بالحماية المقدسة، كما جمعت بين الأسلوب الواقعي والتخيل الأسطوري، وجمعت بين الجمود وبين مظاهر الحركة والحيل الفنية. وأدى فن الرسم الملون دوره، وبقيت منه نماذج قليلة ولكنها متقنة تشهد بتجارب طويلة سابقة، وأشهرها هي رسوم قاعة عرش سرجون والبهو المؤدي إليها؛ وتتألف من شرائط أفقية عريضة، تتكرر في كل شريط منها وحدتان زخرفيتان، إحداهما لحيوان أو كائن خرافي مقدس، والأخرى لزهرة كبيرة أو تخطيط هندسي لطيف، وتفصل بين كل شريط وآخر خطوط متجانسة، ويعلوها كلها ويتوسط اتساعها محراب مزخرف تظهر صورة الملك فيه وهو يحيي تمثال معبوده4.

_ 1 Frankfort, Op. Cit. Pls. 80-81. - وارتفاعه 24 سم ويوجد في متحف بوستن. 2 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - شكل 46 3 W.Budge, Op.Cit., Pls. Iv-Vi; G. Loud, Khorsabad, I, Fig 56; Ii, Pl. 46 A. 4 Ibid, Ii, Pls, 88-89; See Also, Layard, Monuments Of Nineveh, I, Pls. 86-87; Iraq Xii, 1950 Pl. Xxx; F. Thureau-Dangin,..Tell Barsip.54.

وواصلت الفنون الصغرى، أو الفنون التطبيقية، طريقها في زخارف النسيج ونقوش الأختام ونقوش الأواني والكئوس وزخارف، فضلًا عن تشكيل القوائم المعدنية للمشاعل وموائد القربان، وتطعيم وتكفيت اللوحات الخشبية والمرمرية وقطع الأثاث الفاخر. وعبرت وحدات هذه الفنون عن الأذواق الآشورية المعاصرة لها وانتفعت في ذلك بتراث عصرها الوسيط، ولكنها استفادت في الوقت نفسه من محصول الإمبراطورية الواسعة، فظهرت فيها تأثيرات بابلية وحيثية وسورية ومصرية، بل وتأثيرات من أرمينيا، وما حولها أيضًا1. وبلغت زخارف النسيج الآشورية مبلغًا كبيرًا من الرقة والتنوع في ملابس الملوك الخاصة، واعتمد أغلبها على زخارف نباتية اصطلاحية شاعت فيها صورة الشجرة المقدسة أو شجرة الحياة؛ ومناظر أسطورية لكائنات مجنحة خيرة وعاتية، وحيوانات أليفة وضارية2؛ وتخطيطات هندسية لطيفة تكاد تعتبر الأصل البعيد لتعاشيق الأرابيسك الإسلامية3. ومن أمتع ما يقرن بزخارف الملابس، تنوع هيئات أغطية الرءوس في المناظر الآشورية، فمنها قلانس تشبه الطاقية، وأخرى تشبه القاووق والطرطور والأسطوانة المرتفعة؛ وغيرها تشبه طربوشًا بلون واحد أو لونين قد يكون مرتفعًا يعلوه ما يشبه القمع المقلوب؛ وقد تتدلى منه عدبة طويلة تصل إلى ما تحت الكتفين، وذلك فضلًا عن التيجان المقدسة ذات الزوجين أو الثلاثة أزواج من القرون. وتنوعت طرز النعال أيضًا؛ فمنها ما يشبه الخف الصوفي؛ ومنها الطويل الذي يشبه ما يسمى الآن التوزلك أو البوت؛ ومنها الصندل العادي ذو الأشرطة؛ ومنها أشكال أخرى لا تحضرنا مرادفات أسمائها في اللغة العربية. وشكلت زخارف بعض اللوحات المرمرية، في قصر سرجون بخورسباد وقصر سينا خريب في قويونجيق بنينوى، بوحدات تشبه وحدات زخارف السجاد الشرقي المألوفة4، وقد تكون أصلًا لها أو تكون مشتقة من زخارف بسط فرشت بها أرضيات القصور الآشورية فعلًا. وانتفعت نقوش الأختام الأسطوانية والمسطحة من تراث العصر الآشوري الوسيط؛ وأحيت معه عناصر بابلية قديمة؛ واستعارت كذلك بعض الأساليب الحيثية القديمة؛ وامتازت النقوش الجيدة منها بوضوح مناظرها واستقلال مفرداتها وحيوية تفاصيلها النباتية والحيوانية، مثل حراشيف النخيل وسعفه وريش الأجنحة وزخارف الملابس؛ واستطاعت أن تعبر بوضوح عن مضمون بعض الأساطير وبعض مناظر الصيد والتعبد وتقديم القرابين. ونهل الفنانون الآشوريون من فنون سوريا الخاضعة لهم، واتخذوها معبرًا لهم إلى اقتباس فنون الترف المصرية الخالصة، والمحورة منها بالطابع السوري. وكان أمتع هذه الفنون بالنسبة لهم هو تطعيم لوحات

_ 1 See, Frankfort, Op. Cit., 101f. An Eferences.. 2 W. Budge, Op. Cit., Pis. Xlix-Liii.. 3 Ibid., Pl. Liii, 36.. 4 Perrot Et Chipiez, Histoire De L'art, Ii, Fig. 96..

العاج وجوانب الصناديق الفاخرة وتكفيت الصحاف والأواني المعدنية وزخارف المقابض العاجية للمراوح الفاخرة والمرايا المعدنية. واحتفظت أطلال قصورهم بقطع عاجية مطعمة بهيئات كائنات حيوانية زخرفية مجنحة لها رءوس الكباش، ولها أمثالها في الفن الشامي، ومنها مقبض عاجي شكل على هيئة شيخ كنعاني1، ورءوس نسوية جمعت بين الطابع السوري الشمالي والطابع الحيثي المستحدث2. واحتفظت أطلال قصور الولاة الآشوريين في أرسلان تاش بتحف بارعة أخرى عبرت بزخارفها وموضوعات نقوشها عن بضعة أساليب وأساطير مصرية خليطة مقتبسة3. وتضمنت قصور كالح وخورسباد نماذج رائعة للفن المصري السوري المقتبس، منها قطعة عاجية تمثل أنثى ذات وجه مصري نحيف طيب سمح تطل من نافذة أو كوة، هي فيما يغلب على الظن حتحور المصرية التي شبهها السوريون بعشتار، وسمتها كتب الفن الحديث "عشتار في النافذة" و"موناليزا العالم القديم"4. ثم عدد من تماثيل أبو الهول الصغيرة ذات الوجوه المصرية الصميمة. وقطعة عاجية زخرفت بورقيات البردي المصرية وزهور اللوتس وبراعمه المحورة، وتداخلت فيها صور حيوانات سورية مجنحة. وقطعة عاجية أيضًا لصندوق ظهرت عليها صور عازفات ذوات ملامح مصرية وثياب سورية يعزفن على الناي والدف والوتر في حيوية دافقة. ومقبض مروحة شكلت وجوهه الأربعة على هيئة نوبيين بملابس مصرية تعلوهم زهور اللوتس المحورة. ومقبض مرآة على هيئة أنثى تجمع بين الهيئة المصرية والملامح السورية. وصحاف نقشت حوافها العريضة بمناظر صيد مصرية رقيقة قليلة الحشو قليلة التكلف في صور الحيوان والطير والإنسان. وأخرى زخرفت من داخلها بدوائر لولبية متعاقبة حول محور نباتي صغير أحاطت بها زخرفة إنشائية كبيرة تألفت من تكرار صور حيوانين خرافيين متقابلين ذوي طابع مصري يتوج رأس كل منهما التاج المصري المزدوج، وحددت قعري الدائرة أعمدة مصرية شكلت تيجانها على هيئة الجعل المصري المجنح. وتكررت الأعمدة بأحجام صغيرة بين كل حيوانين متقابلين وحف بهما شخصان يتعبدان5. في الأدب: كان حظ الآشوريين من الخلق الأدبي نصيبًا يسيرًا نسبيًّا، فعاشوا في آداب العصور التي سبقتهم، ولكن قامت لهم مأثرة عليها، وهي تجديدهم لأغلب لوحاتها وحفظهم إياها ونشرهم لها مع بعض التحوير والإضافة أحيانًا، لا سيما منذ أن أنشأ ملكهم سرجون مكتبته في نينوى، وزاد هذه المكتبة وأسس أمثالها أولاده وحفدته، وكان أكثرهم احتفاء بالثقافات القديمة وجمعها في مكتباته هو أشور بانيبال الذي أرسل

_ 1 Thureau-Dangin, Arsian-Tash, 1931, Pls. 19, 29, 33: Frankfort, Op. Cit., Ol. 168 C-D.. 2 Ibid., Pl. 167 D-F.. 3 Ibid., Pls. 168 A-B, 169 A-B; Thureau-Dangin, Op. Cit.. 4 G. Loud, Op. Cit., Pl. 51.. 5 Ibid., Pls. 166 B, 167 A-C, 170 A-C, 171, 172 B, 173 B..

رقاعًا إلى ولاته على الأقاليم يأمرهم فيها بالتحري عن الألواح المسمارية القديمة حيثما وجدوها ويقول لكل منهم فيها "لا يجوز لأي إنسان أن يمنع شيئًا من الألواح عنك، وإذا عثرت على أيه لوحة أو رقية لم أعينها لم وتجد فيها صلاحية لقصرنا استول عليها وأرسلها إليَّ". وعثر في أطلال قصره بنينوى على لوحات كثيرة زادت من معرفة الباحثين المحدثين بالآداب القديمة. ولم تكن كل هذه الألواح أدبًا خالصًا ولا علمًا خالصًا وإنما تعلق أغلبها بالعبادات والتمائم والتعاويذ. ووجدت رسالة من هذا الملك إلى واليه في بابل يأمره فيها بأن يبحث جادًا عن لوحات تعاويذ الأنهار والشهور ورقي الوسائد الملكية وتقاويم الأيام ومراسيم رفع الأيدي ومجموعة الكروب ومجموعة سمع أنها معنونة بعنوان "لا تدع السوء يمس الذاهب إلى المزارع أو الداخل إلى القصر"، ثم أمره إلى جانب ذلك بأن يضم أشخاصًا معينين إلى معيته بعد أن سمع عن حيازتهم للوحات ثمينة قديمة1. واتخذت ألواح أخرى صبغة عملية وعلمية، فكان منها ما تحدث عن مركبات الزجاج وأطلية الخزف. ووجدت منها جداول تتضمن بضع مئات من أسماء النباتات تداخل بعضها في بعض، وعبر بعضها عن خصائص نباته وثماره واستعماله، مثل نبات القتب الذي أسموه نبات الغزل ونبات الهموم نظرًا لمفعوله المخدر الذي ينسي الهموم. وتضمنت الألواح تفاصيل عقاقير نباتية رتب كل منها باسم النبات ونوع المرض الذي يعالجه ثم طريقة تعاطيه، فكان منها ما يقول: "العرقسوس لعلاج السعال، يدق ويشرب مختمرًا". "والصبر، دواء للصفراء، يدق ويشرب"2. وكان في اطلاع بعض الملوك الآشوريين، لا سيما الملكيين آشور أخادين وآشور بانيبال على أشباه هذه العقاقير والوصفات ما جعلهم يبدون اهتمامًا كبيرًا بنشاط أطبائهم ويرسلونهم خصيصًا لعلاج أصدقائهم ثم يتلقون منهم تقارير عنهم وعن علاج ذوي قرباهم بخاصة3. وكثيرًا ما اختتمت نصوص الألواح بتحذير القارئ من سرقتها أو كسر طابع مكتبتها الخاصة أو العامة، وإلا تعرض لنقمة الآلهة. وانتفع الكتبة الآشوريون بأساليب المعاجم القديمة في بابل، وزادوا مفرداتها ومترادفاتها الأجنبية نتيجة لاتساع صلات دولتهم بجيرانها، وضمنوها مفردات خاتية وكاسية ومصرية ... ، وبعد أن كانوا يؤرخون نصوصهم في عصرهم الآشوري الوسيط بأسماء الشهور: كيناته، وسين، وألاناتو، وشاساراته، وما يشبهها من أسماء غريبة، أصبحوا يذكرون شهورهم في عصرهم الحديث بأسماء: آبو، وتشرين، وتموز، ونيسانو، وأدارو، وأولولو، وهي نفس الأسماء المعروفة للشهور الأرامية الباقية حتى الآن، مع تغييرات طفيفة.

_ 1 Ee, G. Contenau, Op. Cit., 315 F. 2 See. R. Campell Thompson, The Assyrian Herbal, 1924; On The Chemistry Of The Ancient Assyrians, 1925. 3 R.H. Pfeiffer. State Letters Of Assyriaa, 1935, Nos. 285, 288, 294, 295, Etc..; G Contenau, Op. Cit., 187 F.

ولم يخل الأدب الآشوري الخالص من مزايا خفيفة في تقاريره وأقاصيصه الحربية بخاصة، فوصف كاتب مدينة السامرة في حوليات العام الثامن لفاتحها سرجون الآشوري، قائلًا على لسانه: "لقد كانت قمة عظيمة ترتفع مثل سن الرمح وتسمو فوق الجبال حتى لكأنها رأس تعتمد السماء عليه، ولها جذور تمتد حتى تصل إلى قلب الجحيم. وكانت من خارجها كالسلسلة الفقرية للسمكة لا تسمح لأحد بالنفاذ منها". ولم يقصد كاتب سرجون بذلك أن يشيد بالمدينة، ولكنه ابتغى أن يشيد بمجهوده في تحطيمها على الرغم من حصانتها؛ إذ أتبع ذلك بوصف مسالكها الوعرة ثم عقب بخططه الحربية في تذليلها بفضل سعة أفقه وما أوحى أربابه به إليه. وعلى الرغم مما حفل به هذا الأدب الحربي من مبالغات وادعاءات ظل ذا قيمة لا تنكر في احتفاظه بأخبار شعوب قديمة لم تترك وثائق مكتوبة تنم عن تاريخها، مثل القبائل العربية الشمالية والقبائل الجبلية الشمالية، وإن كان قد صور أخبارها من وجهة نظره الخاصة. ولعبت العرافة دورها في حياة الآشوريين، وتقبلها ملوكهم قبول حسن، وتكفل بها كهنة وكاهنات كان من أنشطهم كهنة المعبود آشور وكاهنات المعبودة إشتار ... ، ويبدو أنهم كانوا ينطقون بتنبوءاتهم وهم في غيبوبة أو حالة انجذاب فتؤخذ على أنها صادرة من روح المعبود عن طريق وساطتهم، ثم يدونها كتبتهم ويرسلونها إلى القصر إذا كانت تتعلق بشخص الملك ومشروعاته. ومن طريف ما تلقاه آشور أخادين من كاهنة إشتار أنها بعد أن وعدته النصر على أعدائه توقعت ... في تصديق نبوءتها، فقالت له "ماذا في قولي الذي تحدثت به إليك لا تستطيع أن تعتمد عليه ... ؟ وقالت له كاهنة أخرى من أبلا تدعى "بعلة أبيشا" على لسان ربتها إشتار: " .... لِمَ لَمْ تصدق النبوءة السابقة التي تحدثت بها إليك؟ صدق هذه، وادعني يوم اشتداد العاصفة ... ، واشكرني ... " .... حروب آشور بانيبال مع إخوته وفي أنحاء مملكته مجالًا خصبًا لتنبوءات العرافين وأمنيات المتزلفين، فأرسل إليه رجل يذكره برؤيا رآها جده ووعده آشور النصر خلالها، ... ثم دعا له بأن يفتح أقطارًا لم يفتحها أبوه ... ، وأرسل إليه يخبره بأنه رآه في منامه ورأى معه الربة إشتار ودار بينه وبينهما حديث انتهى بطبيعة الحال بتأكيد رعاية الربة له وتأييدها إياه1. هذا عن أدوار المجد الآشوري، أما عن مرحلة انهياره، فهذه نتناولها في صفحات تالية مع مسبباتها المباشرة.

_ 1 See, R. H. Pfeiffer, “Akkadian Oracles And Prophstes”, Anet, 449-451; A. Goetze, Old Babylonian Omen Texts, 1947.

الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626 - 539 _25 d9_2582._25d9_2585"

الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626 - 539 _25 d9_2582._25d9_2585" تمهيد: عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور ... الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626 - 539ق. م" تمهيد- عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور: كان الكلدانيون "أو قبائل كالدو" فرعًا من الأراميين الذين مر بنا أنهم جعلوا ضفاف العراق قبلتهم منذ القرن الرابع عشر ق. م أو نحوه. وأحست بابل بخطورتهم على اقتصادياتها منذ القرن الثالث عشر ق. م، حين كتب كل من الملك البابلي كادشمان إيلليل والملك الحيثي خاتوسيل إلى زميله، بتعكيرهم صفو الأمن على الطرق التجارية الواصلة بين الدولتين1. وتسلل الأراميون إلى أرض بابل في أواخر عصرها الكاسي، وعند سقوطه، وشجعهم انتشار بني عمومتهم حول نهري الفرات والخابور، وظهور إماراتهم العديد فيما يجاور آشور وتضييقهم عليها في أواخر عصرها الوسيط. ثم تجدد نشاطهم في دولة بابل في أواخر عصر أسرتها الرابعة، وبلغوا غايتهم منها حين اغتصب زعيمهم أداد أبالدين عرشها في عام 1083ق. م. واحتفظ به زهاء عشرين عامًا، وهادن ملك آشور "آشور بعل كالا" وزوجه ابنته وأهداها بائنة كبيرة. ومن البدهي أنه الآراميين مكانتهم في الدولة، فزاد تدفق قبائلهم على أرضها، وسادوا "دور كوريجالزو" قرب بغداد، وانتشرت بعض قبائلهم القوية على الشواطئ الشرقية لدجلة، وكانت أقواها قبائل الحامبولو2. وأحدثت تحركاتهم هزات عنيفة في الدولة، بحيث تعاقبت على عرشها ثلاث أسر حاكمة في أقل من نصف قرن3. واستمر الأراميون في توسعهم، فامتدت قبائل كالدو في جنوبي العراق حتى الخليج العربي وكانوا ست إمارات أكبرها "بيت داكوري" و"بيت ياكين"4. وسيطرت قبائل أخرى على ما بين بابل وبورسيبا، فخافهم أهل المدينتين على مواكبهم الدينية5. وظهرت آشور حينذاك في ميدان العلاقات

_ 1 ديلابورت: المرجع السابق -ص59 Dupont Sommer, Op. Cit.,17. 2 وقامت إلى جانبها قبائل ليتلو وخندارو ليتاو وبوكودوا ... إلخ. Ibid., 23.. 3 هي الأسرات الخامسة والسادسة والسابعة. ولم تدم السبعة غير ست سنوات حكم بابل فيها رجل إلامى الأصل "انظر ديلابورت: المرجع السابق -ص60 - 61". 4 وقامت إلى جانبها إمارات لاراك وبيت أموكاني وبيت شالي. Dupont Sommer, Op. Cit., 24. 5 وكانت بورسيبا مركز عبادة نابو الذي كان له دوره بجانب مردوك في احتفالات رأس السنة في بابل.

بين الفريقين، وكانت قد بدأت عصرها الحديث في أواخر القرن العاشر فعملت فيها مر بنا آنفًا، على إضعاف جيرانها الأراميين الشماليين ثم تجرأت في عهد أداد نيراري الثاني وهاجمت البابليين وامتد تأثيرها على الأراميين المنتشرين بين بابل وبورسيبا1. وحاولت بابل بعد هدنة قصيرة أن تستخدم الأراميين لحسابها فحرضت بعض طوائف السوتيين على مهاجمة الأطراف الآشورية2، ولكن خاب مسعاها في عهد أوشكت آشور أن تبلغ فيه قمة من قمم مجدها، وهو عهد ملكها آشور ناصربال الثاني الذي اكتسح بجيشه عددًا كبيرًا من القبائل الأرامية الشمالية الضاربة على حدود العراق والشام وذكرت نصوصه أنه هجر 1500 من قبائل الأخلامو من بيت زماني التي قهرها أبوه قرب ديار بكر3. ولم يكن الآراميون بغير أثر في المجتمع العراقي، على الرغم من تفرقهم واعتمادهم على حضارة البابليين والآشوريين. فقد ترتب على انتشارهم في أجزاء شتى من بلاد النهرين، وتدخلهم في المعاملات عن طريق التجارة، ووجود بعضهم خدمًا وأرقاء في بيوت الأثرياء وضياعهم، أن وجدت لهجاتهم سبيلها إلى السكان الأصليين وكتبها بعض المتعلمين بالخط المسماري، وبلغ من أمرها أن كتبت بها نصوص قصيرة على بعض آثار شلما نصر الثالث وسرجون وسينا خريب في كالح وخورسباد ونينوى ثم نقل بعض الأراميين الغربيين الذين أبعدوا إلى آشور الخط الأرامي الغربي من مواطنه في الشام إلى العراق، ونقلوا معه طريقة الكتابة على البردي التي تعلموها من المصريين والفينيقيين. ويحتمل من أحد مناظر عهد شلما نصر الثالث أن أحد كتبته الأراميين كان يكتب له على البردي، وإذا صح ذلك كان نموذجًا لكثيرين غيره. وعندما دعا صاحب وظيفة "الرابشاقه" ملك اليهود في أورشليم إلى التسليم خاطبه بالأرامية من خارج السور، وذلك مما يعني أن أمثاله من كبار الموظفين الآشوريين كانوا يعرفونها4. وشهدت بابل حربًا أهلية بين ملكها وأخيه، واستعان ملكها "مردوك زاكير شوم" بالملك الآشوري شلما نصر الثالث فأعانه وأصبحت له اليد العليا على عرشه. وسمح ذلك للآشوري بأن يذهب بجيوشه أو بنفوذه حتى كلديا، وقال في نصوصه فيما استشهدنا به من قبل: "هبطت إلى كلديا وقهرت مدنها وسرت حتى البحر الذي يسمونه البحر المالح "الخليج العربي"؛ وتلقيت في بابل جزية أديني بن داكوري من الفضة والذهب وخشب أوشو والعاج ... ". وصور فنانوه على أبواب قصره المكسو بصفائح البرونز جزى بيت داكوري الكلدانية يحملها أهلها بين صفوف النخيل ويشرف عليها كتبة الملك وحراسة5.

_ 1 Dupont Sommer, Op. Cit., 31. 2 ديلابورت: المرجع السابق ص60. 3 Dupont Sommer Op. Cit., 18, 22. 4 ومما عثر عليه فعلًا رسالة بالأرامية موجهة من موظف آشوري يدعى بيليتر إلى موظف آشوري آخر يدعى بير أور، من منتصف القرن السابع ق. م. 5 L. King, Bronz Reliefs From The Gates Of Shalmaneser, 1915, Pl. 63.

ولم يكن شلما نصر أقل اعتزازًا بخضوع أراميي الجنوب من اعتزازه بانتصارته المتكررة على بني عمومتهم الشماليين في بيت أديني وشمآل، وبني عمومتهم الغربيين في قرقر .... "راجع قصته معهم". ومرة أخرى استعانت بابل بالكلدانيين ومن شابههم من الأراميين، فضلًا عن العيلاميين، في مهاجمة آشور بعد وفاة ملكها شلما نصر الثالث، ولكنها فشلت وقتل ملكها وخلا عرشها فترة من الزمن، ثم استعادت قواها وعاودت الكرة ضد الآشوريين في عهد ملكهم أداد نيراري الثالث ولكنه اكتسح أرضها وتلقى جزي الكلدانيين. وأصاب بابل بعد ذلك ما أصاب آشور من حيث غموض التاريخ واضطراب الحوادث، وانتهت في ذلك الحين الأسرة البابلية الثامنة، وتلتها الأسرة التاسعة التي عاصرت بداية المرحلة الآشورية الثانية من عصرها الحديث على نحو ما يرد ذكره بعد قليل.

التطور السياسي

التطور السياسي: في الفن: حاول الفن البابلي أن يحتفظ خلال فترات الضعف السياسي هذه بإثارات من تقاليده القديمة تذكر أهله بمجدهم الغابر، مع تلوينها بصبغة حديثة خفيفة تتفق مع اتجاهات عصره والتجديدات الآشورية التي ظهرت فيه. ووجد فن النقش سبيله حينذاك على نصب الهبات ونصب الحدود الإقليمية "كودورو" وعلى النصب التذكارية للملوك. فاحتفظت آثار القرن الحادي عشر ق. م بنصب صغير "من عهد نبوخذ نصر الأول" صور فنانه عليه عددًا من هيئات الأرباب وصور مقاصيرهم ونواويسهم ورموزهم الحيوانية والنجمية والاصطلاحية. وليس للفن نصيب كبير في هذا النصب فيما خلا مجهود ناقشه في تصوير مفرداته الكثيرة على مسطحه الصغير ومحاربه ... طيات الثوب الواسع لصاحب النصب في جلوسه، ولكن بقيت له قيم أخرى معمارية ودينية تمثلت في صور ما ذكرناه من المقاصير والرموز المقدسة، مثل تصوير سقوف المقاصير على هيئات مخروطية ومائلة ومقبية، وتصوير أسطون لولبي بتاج على هيئة رأسي أسدين متدابرين، وقد ظهر له ما يماثله في الفن الإيراني، ومثل وضوح التفرقة بين رموز الثالوث السماوي الكبير، الشمس والقمر والزهرة، فظهر رمز الشمس على هيئة قرص تتوسطه نجمة رباعية تنبعث الأشعة من بؤرتها؛ وظهر رمز القمر على هيئة هلال داخل قرص القمر، وظهر رمز الزهرة على هيئة نجمة مثمنة داخل قرص كبير. وظهر من رموز النصب صورة حيوان بارك يخرج من ظهره خطان لولبيان يعبران فيما يبدو عن تموجات البرق ويرمزان إلى المعبود أداد رب العواصف والبروق1. واحتفظت آثار القرن التاسع ق. م. بلوحة تذكارية مستطيلة سجلت قصة تجديد معبد شمش في سيبار "أبو حبة الحالية" خلال عهد نابو بالدينا "حوالي عام 870ق. م"2، وظهر شمش في أعلاها بهيئته البابلية التي صورتها له لوحة حمورابي، شيخًا مهيبًا برداء كاس وتاج ذي أربعة أزواج من القرون، مع تحوير

_ 1 B. Prichrd, The Ancient Near East, Fig. 142. 2 Frankfort, The Art And Architecture...., Pl. 121.

يسير في طريقة تمشيط لحيته الطويلة، وزخارف ثوبه، ووضع عصاه، وزخارف عرشه التي مثلت معبودين يرفعان سقفه، وأشرقت عليه ثلاثة أقراص قد ترمز إلى الثالوث السماوي الكبير، الشمس والقمر والزهرة. وجلس شمش بعرشه داخل ناووس ينحدر سقفه انحدارًا لطيفًا إلى الخلف وتعتمد واجهته على أسطونين صور الفنان أسطونًا منهما مضلع الساق بما يشبه حراشيف النخيل، وشكل قاعدته وتاجه بوحدات نباتية محورة اعتبرها بعض الباحثين سلفًا قديمًا لما سُمي فيما بعد باسم زخارف الأعمدة الدورية وتقدم ناووس شمش صوان استند فوقه رمزه، وهو عبارة عن قرص ضخم ذي قاعدة مزخرفة تتوسطه نجمة رباعية تنبعث الأشعة من بؤرتها. ولم يصور الفنان القرص بجانبه الضيق الظاهر، وإنما صوره بواجهته الواسعة على عادة تقاليد الفن القديم في تصوير الأشياء من أوضح هيئاتها ووجوهها، ولكنه تحرر من ناحية أخرى في تصوير معبودين متجاورين يطلان من السماء على سقف الناووس ويشدان القرص، فصورهما تصويرًا جانبيًّا سليمًا بحيث أخفى أقربهما إلى الرائي جذع زميله، وصور ذراعيهما البعيدتين أكثر انخفاضًا من ذراعيهما القريبتين، وذلك مما ينم عن إحساسه بالفارق بين ما يبدو فوق مستوى النظر وما يبدو تحته. وصور الفنان ملكه يبتغي القربى من ربه في هيئة خاشعة تنم عن إحساسه بعظم الفارق بينه وبينه وتختلف إلى حد كبير عن هيئة حمروابي القديمة أمام ربه، فصوره بحجم صغير يحيي إلهه، متواضعًا يرفع يده ويبسط كفه، ويتقدمه كاهن يأخذ بيده، ويلمس مائدة ربه بيده الأخرى متبركًا بها، وتتبعه راعيته إشتار "؟ ". وصور الفنان هذه الشخصيات الثلاث تصويرًا جانبيًا سليمًا على الرغم من صغر أحجامها، وجعل اختلاف أوضاع أيدي أصحابها سببًا للتنويع ودفع الرتابة في التصوير. ثم فصل بين هذه المجموعة المصورة وبين نصوص اللوحة بفاصل عريض يعبر عن تموجات الماء، ورتب نصوصه تحته في سطور أفقية وزعها على ثلاثة أنهر رأسية وقص فيها نبأ آخر إصلاح للمعبد في عهدي ملكين بابليين سبقا عهد ملكه بأكثر من قرنين وتخرب المعبد بعدهما إلى أن انتهز مولاه فرصة عقد صلح مع آشور والتفت إلى أداء واجباته نحو معابد أربابه. عاصرت الأسرة البابلية التاسعة بداية المرحلة الآشورية الثانية من عصرها الحديث، ولم تكن ذات أثر هام في حياة بلدها، فدانت بالطاعة لجبروت تيجلات بيليسر الثالث الآشوري. ثم انتقل الحكم منها إلى أسرة حاكمة جديدة خلال عهده، وهي الأسرة البابلية العاشرة منذ عام 732ق. م، وكان الحدث الهام في أوائل أيامها هو نجاح مردوك أبال أدين الكلدانى زعيم بيت ياكين في اعتلاء عرش بابل مستغلًا فرصة البابلية التي صاحبت انتقال العرش الآشوري إلى البيت السرجوني منذ عام 721ق. م، ومدعيًا أنه من سلالة إربا مردوك أحد ملوك الأسرة البابلية الثامنة، هادفًا بذلك إلى صبغ حكمه بصبغة شرعية، ولكن ذلك جر عليه وعلى أسرته عداء البيت السرجوني حتى عهد آشور بانيبال، كما فصلنا ذلك في حينه.

وتركت أواخر القرن الثامن ق. م نصبًا من نصب الهبات "كودورو"، ظهر عليه الملك البابلي يعلن هبته لأحد أتباعه المقربين ويضعها تحت حماية أرباب ظهرت صور مقاصيرهم، وحيواناتهم المقدسة في أعلى النصب1. وصور الفنان ملكه وتابعه تصويرًا جانبيًّا سليمًا لا سيما بالنسبة للصدر الذي لم يلترم بتقليد تصويره باتساعه، وبالنسبة لتصوير قدمي التابع العاريتين اللتين اكتفى بتصوير أصابعهما الظاهرة وحدها، فأظهر الإصبع الكبير لإحداهما والأصابع الخمس للأخرى، ولو أنه تصوير سبقت له أمثلة قديمة أخرى كثيرة. ثم صور ملامح وجه ملكه ومسطح رقبته وصدره ورداء رأسه واستدارة ذراعه بخطوط ناعمة وروح بسيطة تختلف عن الروح الآشورية الرسمية المعاصرة لها في تصوير الملوك. يقظة بابل وماذي وانهيار آشور: شكلت علاقات بابل بآشور في أواخر عهد آشور بانيبال وعقب وفاته عدة عوامل، وهي اهتزاز الحدود الآشورية تحت ضغط القبائل الهندوآرية والجبلية من السميريين والسكيثيين والماذيين، واهنزاز العرش الآشوري نتيجة للخلافات الداخلية في البيت المالك، وازدياد حقد البابلين والكلدانيين بعد الانتقامات العنيفة التي أنزلها الآشوريون بهم مرة بعد مرة، ثم انتقال الحكم في بابل إلى أسرة كلدانية قوية استطاعت أن تستغل الظروف المحيطة بها وهي الأسرة الحادية عشرة والأخيرة. وأسس الحكم البابلي الجديد كلداني يدعى نابو بولاسر "626 - 604ق. م" يحتمل أنه كان ولدًا لأمير يدعى كاندا لونو عينه آشور بانيبال على بابل بعد مقتل أخيه، وعمل قائدًا في الجيش الآشوري وحاكمًا على الأقاليم الجنوبية، ثم عمل لحسابه فزحف على بابل وولي عرشها بعد تفكك أواصر البيت الآشوري الحاكم، ولكن لم يتعد سلطانه في بداية أمره ما حولها. وتتابعت الأحداث فيما حول بلاد النهرين، ففي شرقها بدأ الماذيون يلعبون دورهم، وكان هؤلاء "وهم من سماهم الإغريق باسم الميديين" فرعًا من الجماعات الإيرانية ذات الأصل الآري، رددت النصوص الآشورية اسمهم منذ القرن التاسع ق. م على أقل تقدير "وأن كان يحتمل ورود اسم قريب من اسمهم في عهد تجلات بيليسر الأول في أواخر القرن الحادي عشر أيضًا"، ثم ذكرتهم نصوص شلما نصر الثالت هم الفرس "باراسو" في جبال كردستان - وخضع القريبون منها لسلطانها. ثم اتضحت تجمعاتهم وأطماعهم منذ أواخر القرن الثامن ق. م، ومالوا إلى التحرر من نفوذ الآشوريين، وذكرت نصوص سرجون انتصاراته عليهم وأنه نفى بعضهم إلى سوريا وأحل محلهم مهاجرين من سماريا ومن شعوب مغلوبة أخرى، وأشارت الروايات العبرية إلى شيء من ذلك. ثم نجح الماذيون في تحقيق كيانهم المستقل حوالي عام 708ق. م بزعامة "دايوكو"، وروت القصص الإغريقية عن هذا الزعيم الذي سمته

_ 1 Frankfort, Op. Cit., Pl. 120.

دايو كيس أن شعبه انتخبه ملكًا وأنه نجح في توحيد كلمة القبائل الماذية تحت حكمه واتخذ إكباتانا "وهي همدان الحالية" عاصمة. وأقام قصرة داخل حصن تحيط به سبعة أسوار، ثم احتجب عن رعاياه ولم يسمح لهم بأن يتصلوا به اتصالًا مباشرًا1. ولم يكن من المنتظر أن ترضى آشور عن انسلاخ ماذي عنها في عهدها السرجوني العظيم، فتكرر الصدام بينهما، ولكن قضاء الآشوريين على ممكلة إلام في عام 644ق. م أراح الماذيين من منافسيهم الخطرين في جنوب إيران الذين قاموا رغبتهم في الاتساع ناحية الجنوب منذ عهد ملكهم فرفارتي " Phraortes" في منتصف القرن السابع ق. م. وهكذا استغلوا الجبال الجنوبية الغنية بمعادنها وأحجارها الكريمة، كما استغلوا مزارع السفوح والوديان في بناء اقتصادهم، ولكنهم ظلوا أقل قوة من الآشوريين، وقُتل ملكهم فرافارتي في الحرب2. واتسعت أمام الماذيين فرص الانطلاق بعد أن اهتزت أركان الآشوريين بطرد حاميتهم من مصر وخروج أغلب ولايات الشام عليهم وحدوث الانقسامات الداخلية في دولتهم، فانتظمت قبائل مانداهور الماذية تحت زعامة هواخشير "كيخسرو في الفارسية وأوماكيشتار في البابلية وكياكساريس Cyaxares" في اليونانية". وتوالت هجمات جيشه على آشور منذ العام الأول من حكمه، وحاصر نينوى بعد أن أعاد تنظيم قواته على نسق التنظيم الآشوري، لولا أن اهتز الشرق حينذاك باندفاع السكيثيين الذين أخذوا يضربون شرقًا وغربًا دون هدى، ومالوا في بداية الأمر إلى محالفة الآشوريين، ولكنهم ما لبثوا حتى هاجموا كلًّا من أطراف ماذي وآشور معًا، مما اضطر هواخشير الماذي إلى التراجع عن آشور ليحمي مملكته3. وإلى الغرب من آشزر كانت دولة ليديا المتأغرقة تحاول طرد السميريين البرابرة من آسيا الصغرى. والتمس ملكها جيجيس عون آشور في عهد ملكها آشور بانيبال ولكنه لم يجد من معونتها ما كان يبتغيه، فقتل في الحرب ثم انفردت دولته بالمهمة وطردت السميريين من آسيا الصغرى في عهد ولده أرديس. واندفع السميريون في تقهقرهم على الحدود الآشورية فصدتهم عنها جيوش آشور بانيبال بعد جهد جهيد. واقتفى السكيثيون أثر السميريين في الاندفاع إلى الغرب فاقتحموا ممرات طوروس واجتاحوا مناطق غرب الدولة وولاياتها الساحلية دون مقاومة تذكر من الجيوش الآشورية التي أنهكتها الحروب المتواصلة، ولا من الفرق المؤلفة من الشعوب الخاضعة التي لم يكن لها من حسن التدريب ولا من الإخلاص للدولة ما يعوض ضعضعة الآشوريين. بل إن هذه الهزة قد شجعت المدن السورية على أن تنفض ما بقي من النفوذ الآشوري عنها، واحدة إثر الأخرى، بعد أن تبينت ضعف أصحابة. أما السكيثيون فيروي هيرودوت

_ 1 ديلابورت: المرجع السابق -ص320 Herodouts, I. 95 F.; J. Bury, The History Of Greece, 221. 2 Herodouts, I, 192.. 3 See, Landsberger-Bauer, Za. Xxxvii, Nf. Iii, 82 F..

أنهم أوشكوا أن يصلوا في اندفاعتهم إلى الحدود المصرية لولا أن صرفهم الفرعون بسماتيك عنها بالعطايا، مفضلًا ذلك عن استهلاك قوته الحربية معهم1، "وراجع ص302". وأدلى نابو بولاسر البابلي الكلداني بدوره في أحداث عصره، فاشتبكت جيوشه مع الآشوريين منذ العام العاشر من حكمه على أقل تقدير، في قابلينو ومادانو وعلى نهر الزاب وحول العاصمة آشور نفسها، وفي تكريت "تاكريتين"2، ولكن دون نتائج حاسمة لأحد الجانبين، لا سيما وأنه لم يلق العون مخلصًا من كل البابليين، كما ظلت بقية القبائل الأرامية المجاورة له حريصة على استقلالها الذاتي بجانبه. وفي ظل هذه الظروف التي أحاطت بآشور وجيرانها، تلفت كل من الطرفين القريبين منها والطامعين فيها، ونعني بهما الكلدانيين والماذيين، كل منها إلى عون الآخر، بعد أن أيقنا أنه لا قبل لأحدهما منفردًا بأن يهدم آشور، فتحالفا وأيدا تحالفهما بمصاهرة البيتين الحاكمين فيهما3، وابتدأت جيوش الحليفين تدق على أبواب آشور من جديد. ويفهم من الروايات البابلية أن المصريين كان لهم دور في معاونة الجيوش الآشورية4، وإذا صح ذلك معناه أن آشور لجأت في محنتها إلى عون مصر خصيمتها العتيدة، وأن مصر استجابت لها حرصًا على الوضع القائم ودفعًا للخطر الثنائي الجديد، ولكن الدفعة التي خرج بها الماذيون المتحفزون والبابليون الكلدانيون الحاقدون على آشور، كانت أقوى من أن تصدها دولة مزقتها الخلافات أو يصدها حليف بعيد الديار. فشدد الماذيون والبابليون حصارهم على نينوى ودمروها تدميرًا عنيفًا في عام 612ق. م، وقضوا على استقلالها، وقتلوا ملكها "سين شار إشكين" أو دفعوه إلى الاحتراق بنيرانها كما ذكرت الروايات الإغريقية، على نحو ما ملك شمش شوموكين قبل ذلك بست وثلاثين عامًا في نيران بابل. واعترفت الوثائق البابلية بأن أكثر الجهد كان من نصيب الماذيين العتاة، ليس في القضاء على نينوى وحدها، وإنما في اجتياح الأقاليم العراقية التي لم تعترف بالوضع الجديد ولم تنتظم في سلك الزعيم البابلي أيضًا. ولم يأبه الماذيون حين ذاك بمقدسات العراق ومعابدها5، ويذكر النص البابلي أنهم اكتسحوا ما فوقهم وما تحتهم وما على يمينهم ويسارهم، وكانوا كإعصار الفيضان. ولم يكن في وسع حليفهم البابلي غير السكوت في سبيل القضاء على الغول الآشوري، أو على حد تعبير النصوص البابلية لم يجد أمامه إلا أن يرسب شعره مهوشًا دون تمشيط ويؤثر النوم على الأرض دون المضاجع؛ تدليلًا على براءته من انتهاك حرمه المعابد على أيدي حلفائه6.

_ 1 Herodotus., I, 105: Ii, 30, 153-154, 157; Iv, 46.. 2 Anet, 20. 3 ديلابورت: المرجع السابق -67. 4 See, Anet, 304. 5 Ibid., 309; Npfund-Langdon, Vab. Iv, 270 F. 6 Ibidem.

وجمع الآشوريون فلولهم وتحصنوا في حران بقيادة آشور أو بالليط وريث العرش الآشوري، وكانت حران عصبًا رئيسيًّا لأحد الطرق التجارية الكبيرة في بلاد النهرين "وقد يعني اسمها معنى الطريق أيضًا"، ولكنهم ما لبثوا حتى أخلوها تحت ضغط الغزاة، فدخلها البابليون والماذيون وتركوا حامية بها "حوالي عام 610ق. م". ثم حاول آشور أو بالليط أن يجرب حظه للمرة الأخيرة فاستعان بجيش مصري على حد رواية البابليين وحاصر الحامية البابلية في حران "حوالي عام 609ق. م"، ولكن طال حصارها حتى لحقت بها النجدات البابلية والماذية وهزمت جيوشه بعد أن قاومها نحو ثلاث سنوات1. وبذلك انتهى دور الآشوريين من التاريخ بعد أن أثبتوا أنهم كانوا أعنف قوة عسكرية منظمة شهدها الشرق القديم حتى عصرهم، وبعد أن ضربوا المثل في ضراوة القتال وأساليب العنف لجيرانهم الإيرانيين، لا سيما الماذيين والفرس، وبعد أن شتتوا جهودهم بتوسيع أملاكهم إلى آفاق بعيدة يصعب الاحتفاظ بها ويصعب الدفاع عنها سواء من الشرق أم من الغرب مما أدى إلى تفسخ قواهم، وبعد أن أثاروا حقد بقية بلاد النهرين عليهم بإصرارهم على إذلال بابل والسيطرة عليها على الرغم من سمعتها الواسعة القديمة، وعلى الرغم من استفادتهم من حضارتها. الاتساع البابلي: زادت صحوة الكلدانيين البابليين بعد القضاء على الغول الآشوري، واستمروا في تقوية جبهتهم الداخلية والتمسح بالدين عن طريق تعمير المعابد وتشييد الجديد منها، وسيطروا على أواسط بلاد النهرين وجنوبها، ورضوا مؤقتًا بسيطرة الماذيين على شمال العراق وأملاك الآشوريين في شرق دجلة. ثم طمعوا في إحياء الأملاك الآشورية الغربية لحسابهم، وبدءوا يعملون للسيطرة على بادية الشام وسوريا وفلسطين، ولكن طموحهم أثار مخاوف مصر من عودة التنافس على الطرق التجارية في الشام، فخرج الفرعون نيكاو الثاني بجيشه إلى فلسطين وكسر شوكة مملكة يهوذا التي أرادت أن تنتصر في عهد يوشيا2 للقوة البابلية الجديدة، وواصل طريقة إلى سوريا وأوقف مسيرة الاحتلال البابلي الجديد، ثم واصل طريقة نحو الفرات، ولكن انتصاراته أسكرته وأخذه الزهو فعاد وتوقف بجيوشه فترة طويلة في أرض لبنان، حيث أمر بتسجيل انتصاراته على صخور وادي الكلب "تلك الصخور التي حفلت بنقوش الفاتحين والمنتصرين" فكان توقفه بجيوشه فرصة سانحة اغتنمتها الجيوش البابلية فتجمعت وأزدادت أعدادها بقيادة ولي العهد البابلي نبوخذ نصر، والتقت بالمصريين في موقعة قرقميش عام 605 "أو 604" ق. م، ونجحت في أن توقف زحفهم3. وحاول المصريون أن يعيدوا الكرة لمهاجمة مصالح بابل في الشام عن طريق البحر

_ 1 See, Gadd, The Fall Of Niniveh, 1923. 2 الملوك الثاني 23: 29 - 35 - وراجع ص302. 3 " Woolley, Carchemish, Ii 125-127."

مرة أو مرتين، ولكن مشروعاتهم لم يكتب لها التوفيق1. ويحتمل أنهم عاودوا إرسال الجيوش بالبر مرة أخرى في عهد بسماتيك الثاني "594 - 588ق. م" حيث أشارت نصوص عسكرية في أبي سنبل إلى امتداد نفوذه حتى قرقميش. ثم روى هيرودوت أن الفرعون أبريس "واح إب رع" "588 - 568ق. م" هاجم صيدا وصور برًّا وبحرًا بعد خضوعها للبابليين خوفًا من اتخاذهما سبيلًا لمهاجمة مصر عن طريق البحر2 "راجع ص305". وواصل بنوخذ نصر الثاني "وصحيح اسمه في البابلية "نابو -كدوري -أوصر" بمعنى "الإله نابو يحمي الحدود" مشروعاته في الشام بعد اعتلائه العرش "605 - 562ق. م"، وسيطر على لبنان "لبنانو" وبرر عمله فيها بمنطق الفاتحين، فاعتبر نفسه محررها وناشر السلام في ربوعها، وادعى رعايته لأهلها المشردين، وبرر اهتمامه بها بملكية ربه مردوك لغاباتها وحب أربابه العراقيين لأخشابها وروائحها الزكية، ثم وعد أهلها بأن ينقش صورته على سفوح جبالهم حتى لا يعتد معتدٍ عليهم أو يعكر أحد صفو أمنهم3. وخلدت التوراة والأساطير حروب نبوخذ نصر مع مدينتين، وهما: أورشليم عاصمة يهوذا، وصور الميناء الحصينة. وقد أسلفنا كيف تذبذبت يهوذا بين مصر وبين بابل في بداية النهضة البابلية، وكيف هزم فرعون نيكاو حاكم أورشليم اليهودي يوشيا عام 608ق. م. في مجدو، وكيف عزل ولده من بعده وعين على المدينة يهو ياقيم وألزمه الجزية. وظل الأمر كذلك حتى زال خوف أورشليم من مصر بعد موقعة قرقميش، فعادت إلى ترددها في علاقاتها مع بابل بين الطاعة وبين العصيان، حتى هاجمها نبوخذ نصر حوالي عام 600ق. م فاستسلمت له بسهولة، وأعلن له حاكمها يهو ياقيم الطاعة وصار عبده ثلاث سنوات على حد تعبير سفر الملوك، ثم ثار عليه بعدها وكون حلفًا ضده، فهاجمه نبوخذ نصر وضربه بمن خرجوا عن حلفه من أهل الشام و"أرسل ضده جيشًا مؤلفًا من كلدانيين وسوريين ومؤابيين وعمونيين" كما روت التوراة. وانتصر البابليون وأعوانهم في عام 597ق. م. وأسروا ملك أورشليم وعدة آلاف من جنوده وأهل دولته، وكان فيهم ألف من الصناع، وأمر نبوخذ نصر بنفي الأسرى جميعًا إلى بابل. وأطلق اليهود على هذا النفي اسم السبي الأول، ويبدو أن صحبهم فيه نبيهم حزقيال. وعين نبوخذ نصر "صدقيا" اليهودي واليًا على أورشليم، تحت إشرافه، فظلت يهوذا خاضعة للبابليين أحد عشر عامًا، ثم ثارت عليهم، وانقسم أهلها حينذاك شيعتين، أشرنا إليهما في صفحة 306، شيعة تزعمها صدقيا وتكلم باسمها النبيء حننيا فدعا إلى كسر نير بابل والثورة عليها باسم الرب، وشيعة أخرى مضادة تزعمها النبي إرميا ودعا معها إلى وضع أعناق الأمة تحت نير ملك بابل بأمر الرب أيضًا4

_ 1 Herodotus, Ii, 159." 2 Ibid., Ii. 161." 3 Anet, 307; F.H. Wissbach, Die Inschriften Nebukhadenzars Ii Im Wadi Brissa And Am Nahr El-Kelb, 1966; Zehnpfund-Langdon, Vab, Iv, 151 F. 4 الملوك الثاني 24: 15 - 16.

وكان في تعارض دعوة النبيين وتمسحهما في أوامر الرب ما دعا كلًّا منهما إلى إنكار نبوة الآخر1. وعاودت جيوش نبوخذ نصر مهاجمة أورشليم في عام 588 أو 587ق. م. وشددت الحصار عليها، ولكنها اضطرت إلى رفع هذا الحصار، بعد أن تحركت الجيوش المصرية لمساعدتها "في عهد واح إب رع"2، ثم عاودت حصارها مرة أخرى وضيقت عليها تضييقًا شديدًا نحو عام ونصف العام حتى دخلتها في عام 586 أو 585ق. م. ودمرتها، وأحرقت هيكل سليمان ونقلت خزائنه، ونفت أربعين ألفًا أو خمسين ألفًا من أهلها إلى بابل لينوحوا عند مياه الفرات على قول التوراة. وأسر البابليون صدقيا عند أريحا، وفعلوا معه ما اعتاد اليهود أن يفعلوه مع بعضهم البعض، بل ومع أنبيائهم أيضًا الذين كانوا يقتلونهم بغير حق، فقتلوا أولاده أمامه ثم فقئوا عينيه ليكون سفك دم أولاده آخر منظر يراه "في ربلة على نهر العاصي". واعتبرت التوراه ما حل باليهود حينذاك عقابًا لهم على "تماديهم في عصيان الرب حتى ثار غضبه على شعبه فأصعد عليهم الكلدانيين"3. وصدق الله تعالى حين قال في قرآنه الكريم: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ... } 4، والعلو هنا هو التمادي في الظلم. أما إرميا داعية الخضوع لبابل، فقد لجأ مضطرًا مع جماعة كبيرة ممن نجوا من القتل والتشريد إلى مصر، فوسعتهم رحابة صدرها5. وتابعت جيوش نبوخذ نصر مهاجمة المدن الفينيقية والسورية، وكانت أشد هذه المدن مقاومة لها مدينة صور التي ظلت على مقاومتها ثلاثة عشر عامًا "585 - 573ق. م" أبدت فيها من البسالة صورًا كثيرة وساعدها على المقاومة سهولة اتصالاتها بالبحر، ثم رضيت في نهاية الأمر بصلح اعترفت فيه بسيادة البابليين، واضطرت تحت ضغطهم إلى معاونتهم ضد مصر حين أرادوا أن يتخذوها قاعدة لمهاجمة السواحل المصرية عن طريق البحر6.

_ 1 إرميا 28: 1، 12 - 14، 15 - 17، 37: 1 - 5. 2 حزقيال 27: 15، إرميا 27: 5. 3 الأيام الثاني -الإصحاح 36. 4 سورة الإسراء -الآية 3 ومابعدها. 5 الملوك الثاني 25: 25 - 26، إرميا 44: 21، 30. 6 " Herodouts, Ii, 161."

العمران والفنون

العمران والفنون: أرادت بابل الكلدانية أن تعوض أجيال التبعية الطويلة التي مرت عليها، وقد أسكرتها نشوة النصر على الآشوريين على الرغم من قرابة الجنس والديار بينهما. ووجدت فرصتها الذهبية في طول عهد ملكها نبوخذ نصر الثاني، الذي امتد ثلاثة وأربعين عامًا، وفيما مر بنا من تعدد انتصاراته وأمجاده. فنشطت حركة العمران فيها كما لم تنشط من قبل، وبلغ محيط عمرانها حينذاك نحو 18 كيلومترًا، وذكر المؤرخون الإغريق أن أسوارها كانت أسوارًا دائرية عظيمة وأنه أحاطت بها أربعة خطوط دفاعية. أولها هو السور

الداخلي للمدينة وقد بني من اللبن، وكان ذا أبراج، وبلغ سمكه 7.12 من الأمتار، وتلاه على مبعدة اثني عشر مترًا سور آخر خارجي ضخم بلغ محيطه أحد عشر ميلًا ونصف ميل، بني من الأجر وثبت بالقار وبلغ سمكه 7.81 من الأمتار، وأطل على خندق واسع، ودعم أصحابه أساسه بجدار ساند يرتفع بارتفاع الخندق ويبلغ سمكه 3.25 من الأمتار. أما خطا الدفاع الخارجيان، فسُمي أحدهما باسم السور الماذي، وامتد من الشمال إلى الجنوب من بلدة الحديثة على نهر دجلة حتى أبو حبة على نهر الفرات، وامتد الآخر من خان الناصرية على نهر الفرات حتى مدينة كيش على أحد فروعه. وتمثلت أهم عمائر ومعالم بابل الكلدانية في قصر نبوخذ نصر؛ وفي زقورة "إ. تمن. آنكي" أو برج بابل كما سماها العبرانيون والإغريق والمسلمون؛ وحدائق المدرجات التي اشتهرت خطأ باسم الحدائق المعلقة، ثم بوابة إشتار "عشتار" فضلًا عن الأسوار الضخمة التي ذكرناها. وتعصب البابليون لتقاليدهم القديمة في تنفيذ أمثال هذه العمائر والمشروعات، وودوا لو اعتبروا تجديدات خصومهم الآشوريين كأنها لم تكن، ولو أن ذلك لم يكن متيسرًا دائمًا. فرجعوا من ناحيتهم بتخطيطات المعابد إلى أصولها البابلية القديمة، وأزادوا استخدام الآجر المحروق والمزجج، وأحلوا محل الرسوم المسطحة التي استحبها الآشوريون نقوشًا غائرة. توسط قصر نبوخذ نصر الجدار الشمالي للمدينة، وبُني داخل حصن كبير على عادة القصور الملكية في بلده، وتألف من وحدات معمارية كثيرة، وتضمن عدة أفنية، وأحاطت به ملحقاته التي يحتمل أنه كان منها بعض إدارات الدولة، وتميزت فيه قاعة عرشه "التي بلغت مساحتها 52×17 مترًا" عن قاعات العروش الآشورية ببساطة طابعها، واحتل عرشها مشكاة كبيرة "أو حنية أو محرابًا ضخمًا" توسطت الجدار المواجه للمدخل. وكسيت جدران بهو القصر الكبير بقوالب الآجر ذات السطوح الخزفيه الزرقاء الداكنة، وزخرفت في أسافلها بإفريز من الأسود الحارسة صورت تصويرًا جانبيًّا "على العكس من أسود خور سباد الآشورية التي تواجه الداخل"، كما زخرفت في أعلاها بما يمثل أساطين ذات تيجان مركبة، تصل بين تيجانها وتعولها زخارف تكوينية تتألف من زهيرات محورة ومعينات صغيرة. وتعاقبت في كل هذه الوحدات الزخرفية ألوان بيضاء وصفراء فوق الأرضية الزرقاء الداكنة فخلعت طابعًا من البهجة على زخارفها الرقيقة1. بدأ تجديد زقورة "إ. تمن. آنكي" في عهد نابو بولاسر مؤسس الأسرة. وأكدت نصوص الرجل ومناظره أنه استفتى وحي الأرباب في تخطيطها القديم واشترك مع ولديه في وضع أساسها، فحمل أدوات البناء فوق رأسه، وحمل ولي العهد طين اللبنة الأولى، ورفع ولده الآخر "نابوشوم ليشو" معولًا ومجرفة. وخدمت الزقورة معبد الإله مردوك أساسًا، وهو ذلك الإله البابلي القديم الذي اعتبر أتباعه بقية الأرباب الكبار مجرد صور لنواحي قدرته، وقالوا يمجدونه: "سين قدسيتك، وآنو نصيحتك،

_ 1 Koldewey, Das Weiderstehende Babylon, Abb. 64.

وداجان قيادتك، وإنليل ملكيتك، وأداد قدرتك، وإيا حكمتك" "وكان الآشوريون قد نسبوا مثل هذه الصفات أيضًا إلى ربهم نينورتا في عصرهم الوسيط، وإلى معبودهم الأكبر آشور في عصرهم الحديث". وخدمت زقورة بابل في أربعة معابد أخرى كبيرة أو نحوها، كان منها معبد "نين ماخ" "إي. ماه" ربة الخصب. وهي معابد أخذت في تخطيطها وتنظيم قاعاتها وقواعد تماثيلها بالأسلوب الأكدي القديم دون الأسلوب الآشوري الخصيم1. ووصف المؤرخ هيرودوت هذه الزقورة إبان اكتمالها وصفًا شائقًا2، ثم وصفت لوحة من القرن الثالث ق. م. ما بقي منها على أيامها، كما احتفظت لها أجيال الرواة العبرانيين والمسلمين بصورة أسطورية غالية. أما من حيث الواقع فلم يتبق منها ما ينم عنها حتى الآن غير خطوطها الأرضية وأطلال ثلاث درجات تؤدي إلى مسطحها الأول من ناحية الجنوب، وترتب على ذلك أن تعددت النظريات المعمارية في تصوير هيئتها الأولى2، دون أن تسلم إحداها من شك ونقد. ويحتمل مما أتى به هؤلاء جميعًا أنها بنيت من اللبن وكسيت بالآجر. وأن واجهاتها كلها شكلت فيها مشكاوات رأسية متعاقبة، وأنها توسطت فناء مسورًا عظيم الاتساع "667×365 مترًا" يقع المدخل الرئيسي لسوره ناحية الشرق، وأن طول ضلع مسطحها الأول بلغ حوالي 183 مترًا، وربما تعاقبت على جوانبه أعمدة مربعة، بينما بلغ طول ضلع مسطحها الثاني نحو 106 من الأمتار وتضمن عدة مقاصير لكبار أرباب بابل والمدن المجاروة لها مثل الأرباب: مردوك ونابو وإيا وآنو وسين وتاشمتوم ونوسكو ... ، وعدة مقاصير لكنوز الزقورة. ثم قام في وسط المسطح، وهذا هو الأهم، بناء مدرج تألف من خمسة مسطحات تصغر مساحة كل مسطح منها عما تحته ويصل بينها درج جانبي صاعد يدور حولها حتى يؤدي إلى أعلاها حيث يتوسط المسطح العلوي منها ويتوجه قدس الأقداس الكبير. ويرى المعماريون الآثاريون الأخذ بما رواه هيرودوت وغيره من أن كل مسطح من المسطحات المتعاقبة للزقورة قد لون بلون مختلف عن لون الآخر، ومن الألوان التي يقترحونها لها على التتابع ألوان: الأبيض فالأسود فالبنفسجي فالأزرق فالبرتقالي فالقرمزي فالفضي فالذهبي، ولكن كل هذه الألوان والأصباغ ذهبت معه زقورتها حينما دمر الفرس أغلبها في عهد الملك أخشويرش، وبعد أن استخدم أهل المنطقة معظم لبناتها في مبانيهم المتعاقبة3. ووصل بين زقورة بابل وبين "إساجيل" " E-Sag-Il" معبد مردوك الأرضي، طريق للمواكب ارتفعت أرضيته عن مستوى أرض المدينة ورصفت باللبن المكسو بالقار ثم غطيت ببلاطات متسعة من الحجر الجيري وحفت بها مربعات صغيرة من قطع الرخام الزاوي الأحمر "البرشيا"4. وكان يحف

_ 1 Op. Cit., Abb. 32 ; Antiquaries Journal, X, Pi. Xxxv, 374 F. 2 Herodotus. I, 181 ; O.E. Ravn, Herodotus's Description Of Babylon, 1932. 3 Memoires De L'academie Des Inscriptions, Xxxix., 1913. 4 See, Parrot, Ziggurats Et Tour De Babel, 1949. وعن طرقات أخرى مرصوفة باللبن والقار -انظر سومر 1961 - ص3.

بالطريق جداران وتطل على جانبيه أبراج متباعدة. ويبدو أن بعض واجهات جدارية كسيت بأفاريز من الخزف الملون نقشت نقشًا بارزًا بما يمثل الكائنات الحارسة وبخاصة الأسود. ويخترق طريق المواكب بوابة إشتار "قاهرة أعدائها" وكان لها أصل قديم ثم جددت في العصر الكلداني وزيد ارتفاعها حتى بلغ أربعين قدمًا، فأصبحت من معالمه الرئيسية. وتقع في الركن الشمالي الشرقي من الحصن الجنوبي لبابل وتؤدي في الوقت نفسه إلى صرحين كبيرين يرتبط بهما جسر معلق يصلهما بالقصر الملكي. وتألفت البوابة من صرحين رئيسين علتهما زخرفة معمارية مسننة. وكسيت مساحة كبيرة من جوانبها الكلدانية المستحدثة بقوالب الآجر ذات السطوح الخزفية الزرقاء، وتعاقبت على سطوحها هذه تسعة صفوف نقشت بالنقش الغائر، مثل بعضها ثيرانًا ذات أشكال محورة، ومثل بعضها صور حيوانات خرافية متباعدة، وجمع بعضها الآخر في صوره بين أجزاء التنين والنسر والأسد والأفعوان ووحيد القرن. وعبرت هذه الصور في مجموعها عن رموز حيوانية للمعبودين أداد ومردوك، وسمي بعضها باسم سيروش، وتعاقبت في جسومها وشعورها وقرونها وأقدامها ومخالبها ألوان صفراء وخضراء وزرقاء بدرجات متفاوتة، وتعاقبت ظلالها فوق أرضية زرقاء، وبهذا أكسبت بوابتها طابع الجمال وخدمت غرض الدين وغرض الزخرف معًا، وزادها جمالًا أنه أحاطت بها أطر منقوشة تتألف من مربعات زخرفية وزهيرات كبيرة رقيقة. وكانت جدران البوابة القديمة قد تضمنت قبل العصر الكلداني صور الحيوانات نفسها، ولكن بعضها كان منقوشًا فوق الآجر العادي. وعندما رفع رجال نبوخذ نصر مستوى طريق المواكب غطت هذه التعلية على جزء كبير من صور البوابة القديمة، وكان ذلك لحسن حظها إذ بقي عدد منها كاملًا حتى الآن، بينما لم يبق من مناظر الآجر الخزفي التي شكلت في عهد نبوخذ نصر نفسه غير أسافلها التي حالت ألوانها. ويبدو أن الصور القديمة والحديثة قد بلغ عددها حين اكتماله نحو 575 صورة. وصاحب الاهتمام بمعابد العاصمة بابل اهتمام مماثل بمعابد المدن الأخرى ذات الشهرة الدينية، فجددت في مدينة بورسيا "برص نمرود الحالية"، إلى الجنوب الغربي من بابل بنحو سبعة أميال، زقورة تشبه زقورة بابل، كانت بعض مداميك الآجرر فيها مزججة، وكانت مسطحاتها ملونة بألوان مختلفة، وتحدثت نصوص العصر نفسه عن عربة "صغيرة" للربة إنانا "أو إشتار" ربة الوركاء، شدت إليها سبعة أسود. أعادها نبوخذ نصر إلى معبدها "إيانا" بعد أن أبعدها عن أهل المدينة في عهد الملك إربا مردوك أحد ملوك الأسرة البابلية الثامنة وأقاموا لها تمثالًا مزيفًا، وترتب على فعلتهم هذه أن هجرت المعبودة معبدهم واعتكفت في مكان قصي كما روى نص الملك1.

_ 1 See, Anet, 399.

الأفول أمام نهضة الفرس

الأفول أمام نهضة الفرس: كانت انطلاقة بابل الكلدانية أشبه بصحوة الموت بالنسبة للعراق القديم، ولم يكن من المنتظر أن تستمر هذه الانطلاقة أمدًا طويلًا على الرغم من حدتها في عصر ماجت الهضاب الإيرانية المجاورة لها خلالة موجًا شديدًا بتحركات قبائل فتية عاتية أصرت على أن تفرض نفسها على عصرها فرضًا وأن تبدأ فيه من حيث انتهى غيرها. فقد أدى نجاح قبائل مانداهور في زعامة الدولة الماذية وتحطيم القوة الآشورية إلى نتيجتين متضادتين: نتيجة مباشرة، وهي تشجيع بقية الماذيين على مواصلة التوسع والدق العنيف على أبواب جيرانهم، ثم نتيجة لاحقة وهي تشجيع قبائل جبلية أخرى على أن تسلك سبيل الماذيين وتستفيد من تجاربهم بكل ما فيها من فشل ونجاح. ورث الماذيون أملاك الآشوريين الشمالية والشرقية كما أسلفنا، وابتلعوا مناطق أورارتو شيئًا فشيئًا، وامتدوا شمالًا بغرب حتى بلغوا نهر هاليس في آسيا الصغرى، وهناك اصطدمت أطماعهم بدولة ليديا التي جمعت في سياستها وعلومها وحياة ملوكها بين تقاليد الشرق والغرب معًا واتخذت عاصمتها في مدينة سارديس "راجع أيضًا ص308". وتطور التنافس بين الماذيين وبين الليديين بعد فترة إلى صدام مسلح لزمت بابل فيه جانب حلفائها الماذيين، ولكن هذا الصدام توقف بصلح روى المؤرخون الإغريق من أسبابه المباشرة أنه حدث في أحد أيام العام السادس للحرب "وهو ما يوافق يوم 28 مايو عام 585ق. م" أن أظلمت السماء فجأة في واضحه النهار فأجفلت جيوش الفريقين واعتبراها نذيرًا من السماء، فتوقفا عن الحرب، وقيل إن ملكيهما اتفقا على توسيط ملكي بابل وكيليكيا بينهما، ثم انتهى الأمر إلى هدنة أيدها البيتان الحاكمان بالمصاهرة، واعتبرا نهر هاليس حدًّا فاصلًا بينهما. وأضاف الإغريق أن الفيلسوف ثاليس "طاليس" الميليتي أبا العلم الإغريقي كان قد تنبأ لقومه بكسوف الشمس في نفس العام1. وهي المرة الأولى التي تنبأ فيها عالم إغريقي بحدوث ظاهرة فلكية تنبأ صحيحًا. ولكن لم يطل الأمد بالنهضة الماذية، وأحاط بها بعد وفاة ملكها هواخشير "كياكساريس"، ما أحاط بجيرانها أكثر من مرة. ترف مسرف ترتب على كثرة الأسلاب والمغانم، وطغيان سياسي ترتب على غرور الحكام الذين أسكرتهم نشوة انتصاراتهم المتكررة2، ثم طموح قبلي صدر عن جزء من الدولة للسيطرة على أجزائها الأخرى، وقد صدر في هذه المرة عن إقليم أنشان "في إلام القديمة". وهو إقليم كانت حياة أهله شاقة جافة ويمت حكامه بصلة القرابة أو المصاهرة للبيت المالك الماذي واستطاعوا أن يحتفظوا بمكانتهم إزاءه طوال ثلاث أجيال، ولكنهم ظلوا يعتقدون أنهم أعرق أصالة وأحق بالملك

_ 1 See, J. E. Bury, History Of Greece, 222. 2 See, Anet, 316. وروى المؤرخون الإغريق روايات شتى عن قسوة آخر الملوك الماذيين ستياجيس، فذكرو أنه غضب ذات مرة على أحد كبار رجال دولته فقتل ولده أمامه وأرغمة على أن يأكل أحشاءه.

وأقدر على تحقيق العدالة منه. وحقق حلمهم ذاك أميرهم "قورش" "وذكر أحد الأخبار الإغريقية أن أمه هي ابنة ستياجيس آخر الملوك الماذيين"، فلم شمل الحاقدين على البيت المالك وقضى على عرش ماذي حوالي عام 555ق. م1، وبدأ أسرة حاكمة جديدة، أو دولة جديدة ذكرتها المصادر الفارسية الحديثة باسم الدولة الهخامنشية، وأطلقت المصادر اليونانية عليها اسم الدولة الأخمينية، واعتادت المؤلفات الحديثة على أن تذكرها باسم الدولة الفارسية "الأولى" وهو ما سنجري عليه فيما يلي "راجع كذلك ص311". وكان من تمجيد هذا الملك لنفسه قوله "أنا ابن كامبوزيا "قمبيز" الملك العظيم ملك أنشان حفيد قورش الملك العظيم ملك أنشان، سليل شيشبيش الملك العظيم ملك أنشان، من أسرة "مارست" الملكية دائمًا". وقال حفيده أخشويرش ما معناه: أنا ابن الملك دارا الهخامنشي، فارسي ابن فارسي، آري من نسل آري. ورثت الدولة ملك الماذيين، ولم تكن تقف بعزائمها الجديدة عندما وقفوا عنده، فتخوفت نهضتها كل من بابل وليديا ومصر، وكانت ليديا هي البادئة بعد أن بلغت أوج مجدها وثرائها في عهد ملكها كرويسوس Croesus "560-546 ق. م" وأخضعت المدن الإيونية والأيولية في آسيا الصغرى لنفوذها، حتى امتد سلطانها من نهر هاليس إلى بحر إيحه، وطمعت في أن تستغل البحر وتسيطر على جزره، وأصبحت شيئًا عظيمًا في نظر إغريق الشرق والغرب معًا. ثم أقلقتها نهضة فارس فأرادت أن تكون هي البادئة، وطلبت عون إغريق شبه جزيرة لاكيدايمونيا وزعيمتها إسبارطه، كما طلبت عون بابل ومصر. وتقدمت جيوشها ناحية الشرق، ولكنها ما لبثت حتى تحطمت أمام الطوفان الفارسي، فتراجعت فلولها إلى سارديس ولحق بها قورش وجنوده، فدمروا العاصمة وأسروا ملكها في عام 546ق. م. قبل أن يتمكن حلفاؤه من نجدته2، ... أتت نهايته على غير ما توقع لنفسه وعلى غير ما توقع الإغريق له. وفي بابل لم تستمر النهضة بعد نبوخذ نصر طويلًا، وتعاقب ثلاثة من أسرته على العرش في مدى سبع سنوات ملؤها التفسخ والقلق، ثم انتقل الحكم منهم إلى "نابونهيد"، وكان من أسرة كهنوتية، أو على الأقل من أسرة يؤيدها الكهنة، ولو أنه لم يعتبر نفسه في نصوصه غريبًا عن الدوحة الحاكمة، فادعى أن الرؤى والآيات تعاقبت لتبشيره بأنه سيكون خليفة نبوخذ نصر ومتبعًا لسنته، برضا مردوك وبقية الأرباب. وأراد الرجل بعد اعتلائه العرش في عام 555ق. م3. أن يحقق حسن ظنه بنفسه، فأسرف في إظهار تقواه إزاء المعبودات بتجديد معابدهم وزيادتها، ومن أشهر ما جدده منها زقورة أور التي اعتبر مشيدها القديم أورنمو من أسلافه، ومعبد الشمس في سيبار الذي اعتبر مشيده نرام سين الأكدي من أجداده، وأسرف في إظهار حب العلم والشغف بجمع اللوحات والآثار القديمة4، وشاركته هذه الهواية ابنته التي عينها كبرى كاهنات رب القمر وادعى أن الرب اختارها زوجة بنفسه بعد أن هدد الدنيا

_ 1 Anet, 316. 2 Herodotus, I, 129, 177, Ete… 3 See, Anet, 309 F.. 4 انظر مجلة سومر 1961 - ص5.

باسوداد وجهه، أي بخسوفه. كما شاركته الدعوة إلى رعاية المعابد سيدة عجوز لعلها كانت أمه، تعدت المائة في عهده وكانت لا تزال ذات سلطان وقوة جسدية وعقلية كاملة1. وجرب نابونهيد أن يكون سياسيًّا، فتظاهر بمناصرة قورش الفارسي ضد الماذيين حلفاء بابل بالأمس، وهدف من ذلك تخليص مدينة حران الآشورية من سلطانهم لحسابه، ونجح في استعادتها فعلًا وجدد معبدها2، فكانت من الحسنات القليلة التي أداها لدولته. ثم تمادى في الثقة بنفسه فغزا شمال سوريا حتى وصل حماة وجبال أمانوس، وغزا جنوبها حتى إدوم وغزة. ولأمر ما أناب عنه على عرش بابل ولده بال شار أوصر "بعل إحم الملك"، واتجه إلى واحة تيماء3، ربما ليحيي أهميتها التجارية على الطريق التجاري بين ساحل البحر المتوسط وشمال غرب شبة الجزيرة العربية وبين العراق، ثم ينتفع باقتصادياتها، أو على أمل أن يستعين بها وبوسطها البدوي على تطعيم جيشه بقوات فتية يحيي بها مجد دولته ويستعد بها لمعركة قريبة لا محيص عنها بينه وبين الفرس الطموحين، أو ليتخذها ملجأ أخيرًا له لو عجز أمام الفرس. ولكن خاب أمل الرجل في هذا كله وخابت سياسته مع تيماء وجيرانها؛ إذ اشتد عليها وقتل ملكها، ثم سورها وأقام بها بضع سنوات في قصر جديد، على الرغم من سوء ظنه بأهلها وسوء ظنهم به، بينما أناب عنه ولي عهده في العاصمة بابل سرة الدولة التي وجب عليه أن يرعاها بنفسه. وعندما عاد إليها في عام 545ق. م. كان سوء الإدارة قد عمل عمله فيها، وانتشرت المجاعة حولها4. وفي هذه الظروف صحت عزيمة الملك الفارسي على ضمها إلى ملكه في بداية تنفيذ مشروعه لغزو الهلال الخصيب كله. وهنا حاول نابونهيد أن يجمع الأحلاف حوله، ولكنه لم ينجح في ذلك غير نجاح قليل، وخشي الآخرون من بطش الفرس العتاة. ويبدو أن كلف نابونهيد بآثار الماضي جعله يكثر من صور وتماثيل آلهة المدن الأخرى القديمة في عاصمته مما جلب عليه كره كهنته. فاستعاض عن ولائهم باستدعاء تماثيل المعبودات إلى بابل ليشتركوا مع إلهها مردوك في حمايتها، ولكنه بمعبوداته كان أقل من أن يقف أمام الطوفان الفارسي فانهزم. ودخل قورش بجيوشه إلى بابل وادعى في نصوصه أنها فتحت أبوابها له ورحبت به ملكًا رد عليها مقومات الحياة، وروى أن أهلها فرشوا طريقه فيها بالرياحين. وزاد قورش، أو من كتب نصوص النصر على لسانه، فرمى نابونهيد بالكفر والسخافة وتعقيد طقوس الأرباب، بل وبفساد الذوق حتى في اختيار تمثال معبوده الذي بدا وجهه فيه قائمًا كهيئة القمر في المحاق، ووصلت جدائل شعره حتى عرقوبيه. واتهمه بأنه تسبب في قتل نبلائه وتعطيل طرق التجارة

_ 1 Anet, 311, 560-62. 2 S. Smith. Babylonian Hisrtorical Texts. 1924. 27 F. 3.See, J. Lewy, Huca, 1946, 434 F. ; R..P.Dougherty, Nabonidus And Belshazzar, New Haven. 1929 ; Mizraim. I ;1933;, 140 F.; W.F. Albright. Jras. 1925. 293 F. 4 R.P.Dougherty, Records From Erech.1920.No.154; "Nabonidus In Arabia. Jaos, Xlii. 395 F. ; Anet. 1968.562-63

بمشروعاته التوسيعة الفاشلة، حتى غضب عليه كل الأرباب والناس1، وما إلى ذلك من إدعاءات يعجز التاريخ عن تبين حقيقتها لأنها صدرت عن مصدر واحد وعلى لسان منتصر لا منافس له ولا معقب عليه. وزيادة في الاستمتاع بمظاهر النصر أبقى قورش على حياة نابونهيد وبعث به إلى كرمان. ومرة أخرى هلل اليهود للمنتصر وتشفوا في المنهزم وقالوا بلسان النبي دانيال: "قسمت مملكتك وأعطيت للميديين والفرس"، وزعموا أنها كانت نبوءة كتبت على أحد جدران قصر ملك بابل2.

_ 1 Sindey Smith, Babylonian Historical Texts, Pls. V-X, P. 83 F.; E Ebelling, Aot, 368 F.; Anet, 312 F., 315 F. 2 سفر دانيال: 5: 28.

خاتمة

خاتمة: انتهى دور بابل في التاريخ القديم كدولة مستقلة في عام 539ق. م، كما انتهى قبلها دور آشور بعد عام 612ق. م، ولكن زوال دورهما السياسي لم يستتبعه إطلاقًا زوال تأثيرهما الحضاري في الشرق والغرب معًا. ولم تكن بابل أقل حظًّا من أختها في ذلك، حتى لقد رأى فيها المؤرخون الإغريق الذين زاروها منذ عصرها الفارسي وخلال عصرها السليوكي، صورة تجمعت فيها المفاخر العقلية للعراق القديم كله، فتحدثوا عن تراثها الفلكي بما فيه من تقسيمات دائرة البروج ورموزها الاثنى عشر، وإضافة وتنظيم شهر النسيء "أو الكبس" فيها على أساس دورة زمنية مقدارها ثمان سنوات ودورة أخرى مقدارها تسعة عشر عامًا، وتحدثوا عن قدرة علمائها على التنبوء بخسوف القمر مستعينين بدورة الثمانية عشر عامًا، وعن معرفتهم بالمزولة الشمسية والمزولة المقعرة ثم بالساعة المائية، مع تقسيم الساعة إلى أجزاء ودقائق ... ، وبراعتهم في استخدام الطريقة الستينية التي توارثوها عن عصورهم القديمة ... إلخ1. ومن طريف ما صوره أحد البابليين الأواخر، خريطة لما تشغله بابل وجاراتها من العالم المعروف لديه، على لوحة مسمارية سجلت في أعلاها بعض حملات سرجون الأكدي "ولعله أراد أن يفسر بها مواقع هذه الحملات"، فصور العالم على هيئة دائرة تحيط بها دائرة أوسع منها قليلًا، بهرتها بابل العظيمة على هيئة دائرة سوداء صغيرة، ويشقها طولًا الفرات ودجلة إلى حيث يصبان في مياة الخليج. ثم صور مدنًا أخرى وشعوبًا على هيئة دوائر سجل أسماءها فيها وبجوارها "ولكن دون اهتداء إلى توزيعاتها الجغرافية الصحيحة بطبيعة الحال". وصور في شمال البحر الكبير ثماني جزر قال عنها إنها لا ترى الشمس. وصور على أطراف دائرته مثلثات كبيرة تخيلها فيما يبدو جبالًا بعيدة أو رواسي ترتكز قبة السماء عليها.

_ 1 See, F. Thureau-Dangin, Esquisse D’une Histoire Du Systeme Sexagesimal, Paris, 1932; A.T. Olmstead, “Babylonian Astronomy”, Ajsk, 1938, 113-129; O. Neugebauer, The History Of Ancient Astronomy”, Jnes, Iv, 1944, 1 F.

الخرائط واللوحات

الخرائط واللوحات ...

قائمة بأهم المفردات

قائمة بأهم المفردات: "أ" إيبي 198، 199. أيريس "واح إب رع" 300، 305، 306، 309. آبو 442، 473. إبشا 186. أبو سنبل 111، 239، 278، 279، 305. أبو صير 64، 130. أبو الهول 120، 124، 125، 186، 189، 545. أبيدوس 91 - 92، 155، 156، 163. إبي سين 434، 436، 437، 448. أبيس 302، 312، 330. أتوم 65، 134، 178، 192، 331، 333. أتون 333، 334 - 337. إتى 164. إثت تاوى 177، 191. أثينا 308، 315، 316، 323، 324. آجبة 35. أحمس "الأول" 202، 203، 204، 205، 206. أحمس "ملكة" 207. أحمس "الثاني" انظر أمازيس أحمس نفرتاري 206. أحمس بانخبة 210، 213، 215. أحمس بن إبانا 202، 210، 213، 215. آخ339. أخأب 517، 518. آخناتون "أمنحوتب الرابع" 205، 208، 225 - 227، 273، 274، 335، 338، 362، 489، 502. أخلامو "قبائل" 503، 504، 508، 543، 549. أداد نيراري الثاني 513، 514. أداد نيراري الثالث 520. إدوم 265. آراميون 264، 317، 503، 508، 513، 514، 542، 548. أرتاكسرميس "الأول" 314، "الثاني" 316، 322، "الثالث" 326. إرتن حر إرو "إناروس" 314. أرسطو 321. إرشكيجال 442، 443، 478. إرميا 306، 318، 556. إسبارطه 315، 316، 322، 324، 328. إسرائيل "انظر عبرانين" أسوان "آبو –الفنتيني" 144، 317+، 349. إسين 448، 450 - 454، 455، 457. إشتار "عشار، عشترة، عشتارتة" 247، 418، 419، 476، 477، 480، 481، 501، 547، 551، 558، 560. أشدود 302، 523. إشميا 294، 532. أشمونين 154، 200، 287، 289، 290. إشنونا 445، 450 - 457. آشور 116، 224، 291، 294، 296 - 299، 300 - 303، الفصل التاسع عشر 500 - 547، 552 - 555، 561، 564. آشور أخادين 297، 528، 533، 534، 537، 547. آشور أوبالليط 490، "الأخير" 555. آشور بانيبال 298، 299، 528 - 531، 534، 536، 537، 541

آشور ناصربال "الثاني" 514 - 516، 537، 541. إضراب عمال 250، 251. إغريق 300، 301، 303، 305 - 308، 316، 318، 322، 323، 325، 328، 564. أقاوشا "قبائل" 245. الأقصر "انظر طيبة" أكد "أجادة" 417، 419، 425، 426. إكور 399، 426، 458. الإسكندر المقدوني 37، 327، 328. إلام "انظر عيلام" أمازيس "أحمس الثاني" 307 - 309، 311، 312، 313. أمنحوتب الأول 205، 206، 213. أمنحوتب الثاني 205، 322. أمنخوتب الثالث 205، 206، 208، 223 - 227، 334، 490 - 491. أمنحوتب بن حابو 211، 212، 271. أمنحوتب "كاهن" 252. أمنمحات "وزير" 165، 166، 173. أمنمحات الأول 173 - 175، 184، 350. أمنمحات الثاني 176، 185، 186، 188. أمنمحات الثالث 177، 180، 181، 182، 189، 190. أمنمحات الرابع 186، 190. أمنموبة 262، 265. أمنموبى 361، 362. أمور "أمورو، أموريون" 17، 141، 186، 196، 197، 198، 417، 447، 459. آمون "آمون رع" 163، 177، 199، 200، 201، 206، 207، 208، 234، 235، 249، 254، 257، 258، 261، 263، 285، 288، 289، 295، 296، 299، 301، 328، 331، 333، 335، 336. آمون حر "أمير يتايوس = آمون إرديس؟ " 315. آمون حر الثاني 315، 316. آمون رديس 290. أميني "ملك" 173. أميني "حاكم إقليم" 176. آن "آنو" 398، 419، 433، 439، 440، 477. إنانا 382، 385، 395، 399، 434، 442، 443، 446. إنب حج 86 - 88 انظر "منف" إنبو "أنوبيس - معبود" 340. إنبو "بطل قصة" 352 - 353. إنتف "أمير" 153، 163، 191. إنتف "حاجب" 211. إنسي 402، 404، 407، 421، 428. إنكي 391، 398، 400، 439، 442، 444، 446، 484. إنكيدو 441، 442، 444، 475 - 478. إنليل 398، 419، 421، 424، 427، 432، 435، 440، 442، 446، 449، 447، 479، 480، 481. أنوما إليش 493. أنوناكي 398، 444، 480. آني "تعاليم" 361. أهناسيا 152 - 157، 280، 281، 289، 300، 336. أوتانبشتيم "وتنابشتو، أوتونبشتيم" 478 - 481. أوتو 391، 399، 442. أوجاريت 77، 189. أور 187، 379، 396، 401، 419، 421، 432، 438، 447 - 450. أورارتو 517، 520، 521، 527، 528، 561. أورانتو 517، 518.

أورشليم 286، 294، 295، 303، 304، 305، 318، 321، 532، 556، 557. أورنانشة 404. أوروك "وركاء" 379 - 386، 390، 391، 431 - 432. أوروكاجينا 406 - 407، 432. أورنمو 432 - 433، 437، 445، 562. أوزير 64 - 66، 134، 139، 159، 171، 192، 288، 331، 332، 340، 343، 345، 346، 347، 348، 366. أوما 403، 405، 407، 444. أونو 63، 65، 88 "انظر عين شمس". آي 205. إي - دبا 445. إيا 474، 479، 480. إياح حوتب 202 - 203. إيام 141، 144، 145. إياناتم 482 - 483. إيبوور 149 - 150، 158، 363 - 365. إيتانا 482، 483. إيسة 65 - 66، 103، 104، 114، 345 - 348. إيمحوتب "مهندس" 97 - 98، 103 - 104، 142، 212. "ب" با 339، 341، 357 - 359. بابل 10، 187، 221، 222، 224، 421، الفصول 17، 18، 20. بانحسي 144، 252. بارايوتاميا 374. باراسو 520 "انظر الفرس". بارع مسو "من بحتي رع" 229. باوفرع 119، 121. ببي الأول 139، 141، 143. ببي الثاني 139، 141، 142، 143، 145، 149، 150. ببي نخت 139، 145 - 146. بتاح 88، 97، 240، 294، 333. بتاح حوتب 138، 359 - 360. بحيرة الفيوم 45، 177، 180 - 181. البحرين "انظر تلمون وهلون" البداري 47 - 49. بر إبسن 84 - 85. بردي 37، 38، 78، 79، 95، 96، 168، 199، 230، 236، 253، 259، 295، 316، 317، 323، 327، 345، 363، 368، 549. بردية تورين 38، 96، 111، 150، 193. بر رعمسسو "سان الحجر – تانيس" 232، 233، 252، 254، 278، 281. برعو 81 "انظر فرعون" 526. برقل 214، 288 "انظر نباتا" بسماتيك "الأول" 151، 298، 300 - 303. بسماتيك "الثاني" 305، 307، "الثالث" 311. بسماتيك "أمير" 315. بسوسينيس "باسباخع مني" 262، 265. بعل، بعلة 186، 248، 501. بلتسي 244، 246 "انظر بالاستو، بالاشتو في البابلية" بلوزيوم 311، 327. بنتاورة "أمير" 348، 349. بنتاورة "طالب" 199. بني حسن 182، 183، 186، 187. بهو الأساطين "بالكرنك" 271. به "بوتو" 66، 67، 75. بوابة إيمحوتب 142. بوابة إشتار "عشتار" 510. بوباسطة 281، 285. بوخوريس "باكن رلف" 287، 291، 293. بوينة "بونت" 134 - 135، 147، 166، 187، 315

بيت باكين 523، 542، 548. بي عنخ 253، 262. بيعنخي 288 - 290، 293، 294. بيك 231. بي نجم 262، 267، 268. بيوت الكا 169. "ت" تائنن 87، 88. تاسي 173. تاسوع عين شمس 65، 134، 333. تاف نخت 287، 289، 290، 291. تامري "مصر" 214. تانت آمون 254، 258، 261. تانوات آمون 299 - 300. تانيس "انظر بر رعمسسو" تاهرقه 294، 295، 297 - 300، 534. تبي خرنيسو 84، 97. تتي 139، 140. تتي شري 202. تحنيط 267، 342، 343. تحنو 246، 280، 282. تحوتمس الأول 205، 206، 207، 213، 214. تحوتمس الثاني 205، 206، 215. تحوتمس الثالث 205، 206، 207، 211، 216 - 221، 489، 492، 502. تحوتمس "الرابع" 205، 206، 207، 334، 336، 492. تحوتي "معبود" 137، 175، 177، 333، 351. تحوني حوتب 176. تدمر 508. تشريع إسين 453 - 454. تشريع إشنونا 451 - 453. تشريع أورفو 432 - 434. تشريع "إصلاحات" حور محب 210. تشريع "غير محدد" 455، 456. تشريعات آشورية 502، 510 - 512. تشريعات حمورابي البابلية 463 - 470. تعاليم تهذيبية 359 - 363. تعاليم "الوزير" 209. تفنوت 65، 349. تفيبي 152، 153. تقويم "مصري" 104، 106، "عراقي" 395، 421، 435، 487، 546. تل الفراعين 66. تل أجرب 383، 413. تل أسمر 412، 415. تماثيل "مصرية" 45، 49، 52، 53، 54، 71، 72، 100، 102، 110، 111، 120، 122، 123، 124، 125، 126، 127، 138، 143، 162، 170، 171، 181، 182، 207، 255، 273 - 276، 278، 279، 295 - 296، 309 - 310، 325، 326، 330، 341، 545 – تماثيل "عراقية" 383، 384، ... ، 412 - 413، 423، 428 - 431، 456 - 457، 470 - 471، 542، 543، 563 "انظر النقوش". تنبوءات نفرتي "انظر نفررحو". تهجير "سياسة" 516، 522، 524، 556. توابيت 47، 48، 99، 126، 161، 171، 265، 267، 268، 326، 341 "انظر نصوص التوابيت" توت عنخ آمون 205، 227، 274، 275، 288، 338. توحيد "ديني" 333 - 338. تورشا "قبائل" 240. توكلتي نينورتا الأول 494، 503. توكلتي نينورتا الثاني 514. تونيب 226. تي "ملكة" 271 - 272. تيامة 473 - 474، 484. تيجلات بيليسر الأول 507 - 508، 510، 512. تيجلات بيليسر الثالث 521 - 523

تيماء 563. "ث" ثارو 217، 230. ثكر 246، 254، 259. ثكرتي "تكلوت" 284، 287. ثمحو 141، 145، 280، 282، 285. ثني 67، 79، 86، 91، 155، 156. ثيوقراطية 261، 284، 288. "ج" جاجا معنخ 349 - 350. جانداش 486. جبيل 54، 94، 112، 147، 185، 189، 191، 225، 255+، 347، 364، 508. جدحر "تاخوس" 323، 324. جدفرع 119، 120، 121، 129، 130. جد كارع "إسي" 130، 138، 359. جدو 64. جدي 350 - 351. جر 80، 93، 94، 95. جرمو 35. جزر بحر إيجه 183، 187، 188، 203. جلجميش 11، 432، 439، 442، 444، 475، 482، 484. جمدة نصر 376، 380. جنديبو "جندب، جندبة" 517. جيجونو 395. جيجيس 300، 301، 535. جيزة 36، 111، 112، 117، 120، 121، 124، 125، 128، 137، 143، 207. "ح" حاب "أبيس" 97. حابو "معبد" 247، 277. حاتشبسوت 205، 206، 207، 208، 211، 269، 270. حانبو 167، 187، 203. حة وعرة 197، 200، 202 "انظر أفاريس" حتحور 75، 122، 126، 186، 331، 349، 545. حجر رشيد 40 - 41. حرخوف 139، 145، 146. حريحور 252، 253، 254، 261، 262. حزائيل 518، 519. حزقيا 294، 532. حساب الآخرة 117، 344. حسونة "تل" 374، 375. حسي رع 102. حعبي 340، 365. حعبي جفاي 184. حقا نخت 167، 168. حقاو خاسوت 185، 195. حلف "تل" 374 - 375. حماكا 84، 92. حنفو "حنو" 166 - 167. حنينا 306، 556. حوتب حرس 110. حوتب سخموي 80، 84. حور 63، 66، 67، 74، 75، 82، 83، 84، 85، 86، 122، 129، 134، 156، 331، 332، 333، 346، 348. حور آوت إب 190. حورمحب 205، 229، 275، 278. حورون "حورنا = حول" 124 - 125. حوريون 10، 196، 485، 490، 491، 493، 500، 512. حوني 106، 108. حيثيون "انظر خاتي

خابرياس 323، 324. خابيرو 225. خاتوسيلي 237. خاتي "خاتيون – مات خاتي" "انظر حيثيين" 10، 195، 231، 232، 234 - 239، 485، 486، 492، 493، 502، 504، 515، 517، 525. خباش 327. خريطة 230 "مناجم" 230، 232 "حربية" 458 "نيبور" 564 "بابل". خع سخم 80، 85. خع سخموي 80، 85، 86، 96، 97. خفاجي 376. خفرع 119، 121 - 125، 128، 130. خنتكاوس 127 - 128، 130. خنجر .... خنادي 155. خنسو 252، 253. خنمة نفرة حجة 186. خنوم 103 - 104، 320، 321، 331. خنوم حوتب "ملاح" 147. خنوم حوتب "وال" 174. خورسباد "دورشروكين" 373، 537 - 538. خوفو "خنوم خوفري" 111 - 119، 128. خون إنبو 366 - 368 "انظر القروي الفصيح" خوي "طبيب" 136. خوي "ملاح" 147. خيتي "الأول" 153 - 154. خيتي "الثالث أو الرابع؟ " 155 - 157، 159، 160. خيتي "بن تفيبي" 153. "د" دار الحياة 305، 314. دارا الأول 312 - 314. دار الثالث 328. دانيون "قبائل" 244، 245. داود 264، 265، 286. دب 67. دبحن 127. ددف خور 119. دلمون "تلمون" 390، 420، 440، 446. دمشق "الآرامية" 517، 518، 520. دمنهور 63. دن "وديمو" 80، 84، 94، 95. الدهور الحجرية "انظر فهرس الموضوعات" دور كوريجا لزو "عقرقوف" 487، 488. دولة البحر "البابلية" 485، 486، 490. دوموزي 392، 442، 444. ديانة الدير البحري "معبد" 207، 216. الدير البحري "مخبأ" 266، 267. دير تاسا 46 - 47، 48. ديموسثينيس 325. ديموطي "خط" 40، 78، 296، 316، 327. ديودور الصقلي 39، 95، 106، 114، 178، 181، 291، 292، 304، 327، 342. "ر" رابشاق 294، 522 "وحاشية1" 549. راحنة "لاهون" 180. رأس الشمرا 185 "انظر أوجاريت". رخميرع 206، 209، 270 "حاشية1"

رع 65، 80، 85، 104، 109، 121، 129، 130 - 132، 134، 240، 331، 332، 333، 340، 349، 353، 362، 368 إلخ. رع حرآختي 124، 199، 201، 208، 335، 353. رفح 291، 526. رمسيس الأول 229، 278. رمسيس الثاني 232 - 238، 275، 276، 277، 278، 279، 305. رمسيس الثالث 243 - 249، 276، 277، 278. رمسيوم 249، 277. ريب إدي 225. "ز" زاجيزي "لوجال" 407، 419. زبيبي "زبيبة" 522. زقورة 394 - 395، "أور" 436، "عقرقوف" 488 "بابل" 558 - 559. زو 424، 484. زوسر 96 - 106، 131. زيوسدرا 439، 440، 478. "س" سابني 145. ساحورع 130، 134، 135. سالتيس 197. السامرة 290، 291، 317، 523. سامي 6، 10، 12، 14+، 69، 141، 149، 155 - 156، 185، 186، 189، 195، 196، 377، 388، 391، 417 - 418، 423، 425، 434، 447، 448، 450، 460، 500، 503، 0508، 548 "وانظر شبه الجزيرة العربية". سايس "ساو" 64، 66، 287، 298، 300، 302، 309. ست "سوتيخ" 50، 64، 65، 66، 85، 86، 134، 198، 199، 345 - 348. ست نخت 243. ستياجيس 561. سحتب إب رع "ملك" 173+. سحتب إب رع "موظف" 177. سنجم إب 85. سخمة 331. سرجون "الأكدي" 419، 423، 425، 461. سرجون الأول "الآشوري" 500. سرجون الثاني "الآشوري" 291، 294، 523، 528، 535، 537، 539، 545. سمنخ كارع 205، 227، 274، 338. سقارة "آثار" 88، 90، 91، 92، 97 - 102، 130، 132، 133، 142، 144، 309. سقننرع 199، 200. سكيم "سشم" 188. سكيثيون 302، 553. ساحان 265، 286. سماتاوي تف نخت "قائد طيبة" 227. سمرخت 80، 84. سمنة 188، 191. سمسو إيلونا 472، 485. سمس "شمس" 524، 526. سمندس 254، 257، 261، 262. سميراميس "سمورمات، شميرام" 520. سميريون 527، 535، 552.

سنج 80. سنجار 489. سنفرو 106، 107 - 111، 121، 128، 349 - 350. سنموت 270. سنوسرت الأول 174، 175، 178، 184، 185، 189، 356 - 357. سنوسرت الثاني 176، 178، 179، 180، 186. سنوسرت الثالث 176، 178، 182، 188. سنوهي 185، 356 - 357. سهيل 103، 104. سوبار "سوبارتو" 421، 499، 500. سويدة 105، 106. سويك 181، 191، 282، 331، 333. سوبك نفرو 190 "سوبك كارع، سوبك نفرو رع" سوبيلو ليوما 493. سوسة 530، 531. سوتو "قبائل" 503. سوريا "الشام" 11 - 13، 17، 22، 25، 26، 54، 77، 94، 107، 108، 111، 112، 135، 141 - 142، 147، 167، 183، 184، 185، 186، 187، 188، 189، 190، 193، 194، 195، 196، 202، 212، 214، 216 - 221، 223، 225 - 227، 231، 234 - 240، 244، 247، 248، 253+، 286، 291، 295، 303، 304، 305، 318، 324، 327، 328، 422، 503، 508، 517، 519، 523، 533، 555، 557+، إلخ. سولون 308. سومو أبوم 460، 461، 501. سيبار 445، 461. سيبئة 291، 524، 526. سيتي الأول 105، 231، 232، 275، 277. سيتي الثاني 242. سين 297، 418، 460، 480، 546، 562. سين موبالليط 460. سينا خريب "سين أخي إربا" 294، 518، 519، 531، 535، 536. سيوة "وحي" 312، 328. "ش" شاباكا 289، 293، 295. شابتونا "ربلة" 234، 247. شانتيت "قبائل" 246. شاج نانشة "شاج أنجور" 403. شاخورو 395. شاركبرات أربعيم 419. شاروحين 202. شاشانق 281، 285، 286، 287. شبتكو 294. شبتن وبة 285، 290، 300. شبسبتاح 127. شبسرع 136. شبسكارع 130. شبسكاف 122، 128. شبه الجزيرة العربية 13 - 18، 23، 31، 32، 60، 134، 522، 523، 526، 535، 563. شرادنة 240، 245. شروكين "انظر سرجون" شعوب البحر 240، 243 - 246، 280، 506، 507. شلما نصر الأول 503. شلما نصر الثالث 516 - 518، 537، 549. شلما نصر الخامس 523. شمش 418، 463، 471، 477، 479، 505، 515

شمشي أداد الخامس 520. شمشي شوموكين 529، 535. شهور "مصرية" 105، 106 "شهور عراقية وآرامية" 396، 509، 510، 540، 546. شو 65. شوبر 400. شوسين 434، 435. شولجي 434، 435. شيلية "حضارة" 20. "ص" صا "الحجر" 64، 287، 300 "انظر ساو، سايس" صان "الحجر" 233 "وانظر حة وعرة، بر رعمسسو، تانيس" صاوي "مصر" 300 - 310. صدقيا 306، 556. صلايات 52، 57، 70، 71، 73، 74، 75، 94. صور 225، 295، 305، 306، 356، 532، 533. صيدا 225، 226، 305، 306، 356، 532، 533. "ط" طوفان "سومري" 398، 401، 439 "بابل" 475 - 482. طيبة 152، 155، 156، 157، 160، 163، 164، 169، 171، 172، 177، 181، 182، 191، 199، 200، 201، 204، 205، 208، 209، 233، 250، 251، 254، 261 - 264، 266 - 268، 276 - 278، 280، 281، 284، 285، 289، 296، 299، 300، 301، 309، 310، 321، 336، 534 "انظر الأقصر". "ع" عابيرو 225، 226. عارونا 217، 218. عامو 195، 199، 200، 201. عامو حريوشع 141. عيدو إشرتا 225، 226. عبرانيون 81، 141، 195، 196، 202، 233، 265، 286، 290، 294، 305، 306، 311، 313، 316، 317 - 322، 362، 503، 517، 519، 520، 523، 531، 533، 534، 552، 556 - 557، 564 "وانظر اسرائيليون، أورشليم، السامرة، يهود". العبيد "حضارة" 377 - 379. عحا 79 - 80، 93. عرب "انظر ساميون، وشبه الجزيرة العربية" عسكرية "مصرية" 73، 75، 93، 94، 107، 135، 141 - 142، 152، 153، 156، 165، 169، 189، 200 - 202، 212 - 215، 217 - 220، 232، 234 - 237، 240، 244 - 245، 277، 289، 301، 303، 306، 317، 324 "عراقية" 404، 407، 419، 434، 462، 508، 515، 524، 531، 539 "وراجع سياسة العلاقات الخارجية". عشتار 418، 473 "انظر إشتار". عقائد "يراجع فهوس الموضوعات". العقرب 67، 73. عمارنة "ديانة" 206، 227، 336 - 337. "رسائل" 224 - 227، 489، 492. "فن" 206، 225، 273، 275. عملة 313 "نقد" 324 "بيت المال" 82 - 83. عنات 248.

عنجاب 80، 84. عنجة 63، 69. عنجتي 63، 64. عيلام "انظر إلام" 377، 386، 420، 421، 429، 447، 448، 451، 486، 494، 530، 531. عين شمس "أونو-هليوبوليس" 65، 66، 83، 130، 178، 192، 331، 346. "غ" غزة 217، 291، 524، 526، 532. "ف" فارس "الفرس" 308، 309، 311 - 315، 316 - 328، 552+، 561، 562، 563 "وانظر عيلام" فرعون "برعو" 81 - 83، 526 ألقابه 66 - 67، 80 - 82، 121. الفرما 311، 327، 534. فلسطين "انظر بلستي، الشام، غزة، أشدود، مجدو" فنون "انظر تماثيل ونقوش، وفهرس الموضوعات" فيلاي "قبيلة" 103، 323. الفيوم 45 - 46، 177، 178، 180، 280 "انظر بحيرة الفيوم" فينيقيا "انظر الشام، جبيل، صور، صيدا" "ق" قادش 216، 218. قاع عا "قع" 80، 81، 94. قانون أحمس 308. قانون بوخوريس "باكن رنف" 291 - 293. قانون "إصلاح" حورمحب 210. قانون دارا 313. قبرص "قيرس" 308، 311، 315، 323، 527، 533. قحق ... 246. قرطاجة 312. قرقر "قرقرة" 517، 518. قرقيش 220، 303، 556. قرينة 306، 308. القروي الفصيح 160، 366 - 368 "انظر خون إنبو". قطنه 185، 219، 222، 225. قمبيز 311 - 312، 562. قناة سيزوستريس 178، قناة نيكاو 304 قناة دارا 313. قوائم ملكية "مصرية" 38، 39، 139، "عراقية" 401. "ك" كاش "كوش" 184، 200، 201، 212، 288+، 526، 534 "انظر نوبة". كاشتا 289. كالح "نمرود" 536 - 537. كامس 199، 200 - 202. كاوعب 119، 120، 121. كايسجنمي 139، 143. كتابة "مصرية" 40، 59، 74، 75، 77 - 79، 266، 296 "عراقية" 391 - 394، 425، 495.

كتب الموتى 38، 95، 326، 346 - 347. كرما 146، 184، 198. كرنك 38، 163، 177، 200، 207، 277، 278، 285، 295، 299، 335. كرويسوس 308، 562. كريت "كريتيون" 94، 167، 181، 187، 188، 198، 203، 308. كلام "كالاما" 387، 403. الكلب "نهر" 22، 234، 303، 555. كودورو 488، 550، 551. كور 442، 443، 445. كي -إن -جي 387. كيش 401 - 403، 405، 417، 421، 461. كيمة 35. "ل" لابرينثوس "اللابرنت" 181. لا مركزية "مصرية" 37، 38، 148+، 191+، 197+، "سومرية" 9، 401+، 408، 450+ "سورية" 11، 12 "عربية" 13، 14. لارسا 450، 455، 458، 459. لا شيش "لحيش" 295، 532. لاهون "لاهنة –راهنة" 178 - 180، 290. لجش 401 - 403 - 407، 421، 427، 428، 431، 448. لوجال 402، 407. لوحة المجاعة 103 - 104. لود –لود بل –نميق 497. لوكي "قبائل" 245. ليبيا "ربو -ليبيون" 240، 241، 244، 245، 280 - 283، 290، 312، 526. ليديا 300، 301، 308، 535، 553، 561، 562. ليمو 509 - 510. "م" ما "لقب" 280، 282. مات سوميريم 387. ماجان 420، 422، 429. ماخيموي "طبقة عسكرية" 285. ماذي "ماذيون –ميديون" 302، 303، 311، 524، 552، 553، 555، 561. مارتو 401، 426. ماري 420، 445، 447، 448، 457، 458، 462. ماسا حرتا "كاهن" 262، 263. ماعت "العدالة" 111، 117، 120، 124، 130، 137، 142، 159، 209، 211، 244. مانتيون 39، 95، 96، 97، 151، 153، 189، 193، 194، 195، 242، 261، 286، 300. متون الأهرام 38، 63، 66، 117، 133 - 134، 143، 161، 309، 343، 344. متون التوابيت 38، 159، 343، 344. مجدو 185، 216، 219، 303. مراكب خوفو 118 - 119، انظر أيضًا 90 - 91، 131، 340. مردوك 294، 421، 462، 471، 474، 487، 501، 506، 507، 558، 559، 560، 562، 563. مرروكا 139، 143. مرمدة بني سلامة 44 - 45.

مرترع 139، 140، 141، 143، 145. مريكارع 155 - 157. مساكن "مصرية" 44، 45، 58، 59، 60، 62، 73، 89 - 90، 93، 123 - 124، 169 - 170، 178، 179 "عراقية" 376، 378، 385، 413، 457 - 459، 536+. مسكتة 91، 118، 131. مسلة 131، 132، 178، 299، 519. مشوش "قبائل المشاوش" 244، 280 - 282. معابد الشعائر "الملكية المصرية" 90، 100، 109، 112، 117، 120، 121، 123، 126، 128، 132 - 133، 170 - 171 "انظر الرمسيوم وحابو" –معابد الشمس "المصرية" 131 - 132. معابد عبادة "مصرية" 73، 80، 98 - 100، 139، 206، 207، 208، 230، 233، 248، 249، 330 - "وانظر معابد الشمس، والأقصر والكرنك". معابد عبادة "عراقية" 378 - 379، 384، 395 - 397، 426، 488، 505 - 506 "وانظر زقورة". معابد الوادي "المصرية" 106، 117، 121 - 123. معاملات "آشورية" 509، 510، "أكدية" 425 "سومرية" 435، 436، 455 "كامية" 496 "مصرية" 292. معاهدة "مصر مع الحيثيين" 237 - 239. معرفة النار 5، 21. معنجة 91، 118، 121، 340. مصرو 523. مصري 523. مقدونيا 328. مكت رع 167، 169 - 170، 172. الملاح "قصة" 167، 354 - 356. ملوخا ... من خبر رع 205، 216، 267، 262، 263. منديس 322، 323. منف 40، 86، 83، 86 - 88، 112، 152، 161، 168، 181، 200، 233، 259، 290، 293، 294، 307، 309، 311، 315، 323، 346، 534 "انظر إنب حج". موستيرية 21. مونتو حوتب "وزير" 175. مونتو حوتب "الأول" 155. مونتو حوتب سمنخ إب تاوي 160. مونتو حوتب سمنخ كارع 165، 166، 167. مونتو حوتب تب تاوي رع 165، 166. مونتو حوتب تب حية رع 160، 163، 164، 167، 170، 171، 172. مونتومحات 296، 299، 300. منكاورع 125 - 127. مني 79، 80، 164. مؤامرة الحريم 248، 249. مورميل الثالث 227. موسى "خروج" 195، 236، 240 –"انظر عبرانيون". موشكينو 523، 524، 528. ميتان "مثن –ميتانيون" 213، 214، 216، 220، 222، 223، 224، 231، 491، 493، 503، 505. ميزوبو تاميا 374. مين 72، 165، 331. "ن" نائب الملك في النوبة 213، 214، 252، 288. نابو 294، 399. نابو بالدنيا "نصب" 550، 551.

نابو بولاسر 552 - 554. نابو نهيد 436، 562 - 563، 564. نرام سين 241، 442، 425، 426، 427، 563. نايف عاورود 322. تاييري "من أرمنيا" 507. نباتا 214، 288، 305، 312 "انظر كائن" نبت حت "نفتيس" 65، 245. نبوخذ نصر 303، 304، 306، 327، 557، 558، 560، 562. نبي رع 80. نثر رخت 96 "انظر زوسر". نخاية "ربة الكاب" 67، 82، 85. نخل مصر 526، 527. نخت حرحب "نكتانبو الثاني" 325، 326، 327، 328. نخت نيف "نكتانب الأول" 323، 324. نخن 67، 74، 79، 86. نس بانب جدة 253، 254، 257، 261، 262. نشأة الوجود "البابلية" 473 - 475. نشأة الوجود "السومرية" 398 - 401. نشأة الوجود "المصرية" 65، 88 - 89، 103، 157، 337، 340. نعرمر 74، 89، 80. نفر "فيجور" 426، 432، 437، 442، 458. نفرتيتي 206، 273، 274، 338. نفر حوتب "خع سخم رع" 191 - 192. نفروحو "انظر نفرتي" 173، 350. تفرير كارع 130، 136. نقادة 49 - 62، 65، 69. نقراطيس 307، 318، 323، 328. نقوش "رسوم، ومناظر" 36، 38، 39، 46، 50، 51 - 53، 54، 55، 56، 57، 58، 67، 75، 94، 95، 99، 101 - 103، 110، 111، 118، 120، 126، 132، 133، 134، 138، 140، 142، 144، 160 - 162، 171، 177، 182 - 183، 186، 198، 206، 207، 274، 275، 276، 277، 278، 279، 376، 377، 380، 387، 384، 385، 473، 488، 500، 505، 542 - 544، 550 - 551 "وانظر أيضًا تماثيل". ننا "ننار" 398، 434، 435، 444، 450. ثن خرساج 40، 442، 446. نهرينا 214، 215، 222، 491. النوبة "نوبيون" 54، 93، 111، 134 - 135، 141 - 142، 144 - 147، 153، 165 - 167، 183 - 184، 187، 188، 189، 193، 200، 201، 212، 213، 214، 221، 222، 223، 224، 252، 278، 281، 288+، 305، 312، 526، 534 - "وانظر أيضًا كاش –نباتا –واوات". نوبت 50، 65. نوت 65، 331. نوزي 502، 503. نون 65، 88. ني نثر 80، 85. ني ماعت حاب 96، 97، 110. ني وسررع 130، 131. نيت 64، 202، 214، 223. نيت إترت "نيتوكريس" 300. نيت إقرتي 120 - 121. نيت حوتب 80.

نيسويتي 67، 82، 85. نيكاو الأول 298. نيكاو الثاني 178، 303، 304، 559. نين جيرسو 428 - 430. نينورتا 442. نينوى 299، 373، 377، 532، 536، 537. "هـ" هانو "خانو؟ " 291، 523، 525. هداد "حداد –أداد" 265. هقر 323، 326. هكسوس 185، 194، 195 - 198، 199+، 347، 505. هنقو 140. هوارة "انظر حة وعرة" هواوا 441، 447. هوشع 290، 521. هيراطية 78، 179، 193، 266، 296، 345. هيرودوت 39، 87، 151، 181، 300، 301، 303، 307، 308، 311، 312، 342، 556، 559. هيروغليفية 40، 41، 74، 78، 133، 345. "و" واجة 67، 82، 85. واجي 80. واح إب رع 305 - 306 "انظر أبريس"، 300. واحات 10، 12، 13، 14، 135، 145، 201، 263، 280، 282 - 284، 312، 328، 364. وادي الحمامات 54، 134، 165، 166. وادي الطميلات 134، 178. وادي الملوك، وادي الملكات 228، 250، 266، 267، 272، 276. واشبتاح "بتاح واش" 136. واوات 141، 144، 167، 184 "وانظر نوبة –كاش" وبواوت 346. وجاحور رسنة 314. وحم مسوت 173، 229، 253، 254. وردسين 448، 450. وركاء "انظر أوروك" وزير 135 - 136، 138، 140، 141، 148، 165، 166، 173، 175، 209، 235، 434. وساركون 281، 284، 287، 295. وسركاف 129، 130، 131. وتأمون 253 - 259. وني 139 - 142، 149. ونيس 130، 133، 143. "ي" ياهو بن عمري 519. اليائس "حوار"158، 159، 357 - 359. يربعام 286. اليمن 23، 32، 134. يوسيبيوس 39. يهود، يهوذا "انظر عبرانيون" يهو ياقيم 303، 304، 556. يوشيا 303، 318، 555، 556. يويا 228.

الموضوعات

الموضوعات: صفحة مقدمة 1 - 4 الفصل الأول التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله 5 - 18 عموميات "5" – مصر ووادي النيل "7" – بلاد النهرين "9" – بلاد الشام "11" – شبه الجزيرة العربي "13" الفصل الثاني الشرق الأدنى ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ 19 - 32 في الدهر الحجري القديم الأسفل 19 في الدهر الحجري القديم الأوسط 21 في الدهر الحجري القديم الأعلى 21 قرائن العمران في الدهور القديمة الثلاثة 22 من السلالات البشرية 22 بدايات الزراعة في فجر التاريخ "العصر النيوليثي" 25 تعدد الحرف وبدايات الفنون 27 بداية حرفة الرعي 29 بدايات المعادن "في العصر الخالكوليثي" 30 وضوح التجمعات 31 الكتاب الأول مصر القديمة منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها 35 - 42 مصر فجر تاريخها 43 - 76 في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة": 43 في مرمدة بني سلامة "44" – في الفيوم "45" –في دير تاسا "46". في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية". 47 في البداري "47" – في حضارة نقادة الأولى "49" – في حضارة نقادة الثانية "54" – بين الصعيد والدلتا "60" – التطور الاجتماعي والسياسي نحو الوحدة "62" – من تطورات الفنون وتعبيراتها "67" – من آثار العقرب "73" – من آثار نعرمز "74".

الفصل الرابع صفحة بداية الأسرات والعصور التاريخية 77 - 95 معالم الكتابة وتوابعها "77" – الفرعون ونظم الإدارة "79" – في العمران والفكر "86" – النشاط الحدودي والخارجي "93". الفصل الخامس عصور الأهرام في الدولة القديمة 96 - 147 أولا – الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة. 96 - 106 بداية العصر "96" – إيمحوتب وشواهد العمارة والفن في سقارة "97" – قصة المجاعة "103" – التقويم "104". ثانيا – الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة 107 - 129 تجديدات عهد سنفرو، وتطور بناء الهرم "107" – عهد خوفو "111" – تعبيرات الهرم الأكبر وتوابعه "112" – هزة مؤقتة في عهد جدف رع "119" – آثار عهد خفرع "121" – أبو الهول "124" – عواقب الإسراف في عهود منكاورع وشبكاف وخنتكاوس "125". ثالثا – التقوى والرفاهة في عصر الأسرة الخامسة 130 - 138 دعوى الأصل المقدس وملوك العصر "130" – معابد الشمس "131" -أهرام العصر ومعابدها "132" متون الأهرام "133" - الاتصالات الخارجية "134" - التطور السياسي والاجتماعي "135". رابعا- البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة 139 - 147 شخصيات العصر - نمو البيروقراطية "139" - أحداث الشمال والتنظيمات العسكرية "141" – العمارة والفن والمجتمع "142" – رحلات الكشف في الجنوب "144". الفصل السادس عصر الانتقال الأول "عصر اللامركزية الأولى" 148 - 162 نهاية دورة "148" – الثورة الطبقية "149" – الغموض "150" – انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية "153" – ازدهار الفردية "156" – العصر بين دورتين تاريخيتين "160" – معالم الفن الإقليمي "161". الفصل السابع الدورة التاريخية الثانية – في الدولة الوسطى 163 - 190 أولا – عودة الوحدة في عصر الأسرة الحارية عشرة 163 - 172 ملوك العصر واسترجاع المركزية "164" – الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي "165" – صور من المجتمع "167" – في العمارة الدينية والفن "170". ثانيا – الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة 173 - 190 ملوك العصر والسياسة الداخلية "173" – في العمران "177" – في الأساليب الفنية "181" – في السياسة الخارجية "183".

الفصل الثامن صفحة عصر الانتقال الثاني "عصر اللامركزية الثانية" 191 - 203 أولا – عصر الأسرة الثالثة عشرة 191 - 194 في نصفه الأول "191" – الأفول في نصفه الثاني "193" ثانيا – محنة الهكسوس 195 ثالثا – مراحل الجهاد والتحرير 199 الفصل التاسع الدورة التاريخية الثالثة – في الدولة الحديثة 204 - 228 تمهيد 204 أولا – الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة 205 - 228 في السياسة الداخلية: ملوك العصر "205" – من شخصيات الفراعنة "أمنحوتب الأول – تحوتمس الثالث – آخناتون" – دعاوى الأصل المقدس – "في عهود حاتشبسوت وتحوتمس الثالث وتحوتمس الرابع وأمنحوتب الثالث "206" – العاصمة طيبة "208" – الوزارة "209" – إصلاحات حورمحب "210" – من كبار شخصيات الشعب "211". في السياسة الخارجية: أهدافها "212" – تطبيقاتها في عهود أحمس الأول "212" – أمنحوتب الأول "213" – تحوتمس الأول "213" – حتشبسوت "215" تحوتمس الثالث والتقاليد العسكرية "216" - أمنحوتب الثاني "222" – تحوتمس الرابع "223" – أمنحوتب الثالث "223" – رسائل العمارنة – وآخناتون "224" – خلفاء آخناتون "سمنخ كارع – توت عنخ آمون – آي "227". ثانيا – عهود الرعامسة 229 - 260 عودة الكفاح ثم الرفاهة مع عصر الأسرة التاسعة عشرة 229 - 242 السياسة الداخلية والخارجية في عهود رمسيس الأول "229" – سيتي الأول "229" – رمسيس الثاني "222" – مونبتاح "239" – سيتي الثاني ونهاية الأسرة "241". ثالثا – آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين 243 - 260 عهود ست نخت "243" – رمسيس الثالث "243" – عواقب الإسراف في عهود أواخر الرعامسة "247" حريحور "252" – قصة ونآمون "253". رابعا – الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين 261 - 268 السياسة الداخلية والخارجية في عهود الملوك نس بانب جدة – أمون منيسو – باسبا خع منى – أمنموبة – أسوخوز – باسباخع منى الثاني – كبار الكهنة من سلالة حريحور سرقات المقابر – مومياوات الملوك والكهنة "266" خامسا – نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة 269 - 279 أربع مراحل لأساليب النحت والتصوير "269" – معابد الكرنك وأبو سنبل "278"

الفصل العاشر صفحة الشيخوخة الثالثة في العصور المتأخرة 280 - 328 أولا – التخبط والتداخل في عهود الأسرات 22 - 24 280 - 287 التكوين الجنسي لقبائل الصحراء الغربية والمهجنين "280" – عهود الملوك شاشانق – وساركون – ثكرتي "284" ثانيا – دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين 288 - 299 الأصل العرقي للأسرة "288" – عهود كاشت "289" – بيعنخي "289" – تاف نخت "290" – باكن رتف "بوخوريس" وتشريعاته "291" شاباكا "293" – تاهرقه "295" تانوات آمون "299". ثالثا – نهضة العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين 300 - 310 عهود بسماتيك الأول "300" – نيكاو الثاني "303" – بسماتيك الثاني "305" – واح إب رع "305" – أحمس الثاني "307" – فنون العصر "309". رابعا – النكسة مع الغزو الفارسي 311 - 315 الحكم الفارسي "311" – الثورات المصرية "314" خامسا – ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30 316 - 328 التحرر وعصر الأسرة 28 "316" – الوثائق الآرامية في جزيرة آيو في أسوان "317" عصر الأسرة التاسعة والعشرين – وعهدا نايف عاورود، وهجير "322". عصر الأسرة الثلاثين – وعهود نخت نيف – جدحير – نخت حرحب "323" سادسا – خاتمة المطاف القديم: الغزو الفارسي الثاني "326" – غزروة الإسكندر الأكبر "328". الفصل الحادي عشر عقائد الدين والآخرة 329 - 344 أولا – عقائد التأليه 329 - 338 نشأتها "329" – خصائصها "330" – في سبيل الترابط "321" – في سبيل التوحيد "333" – دعوة آخناتون "335" ثانيا – عقائد البعث والخلود 339 - 344 مقوماتها ومسبباتها "339" – وسائل تأمين الخلود "341" متون الأهرام – متون التوابيت – كتب الموتى "343 " الفصل الثاني عشر من الأدب المصري القديم 345 - 368 أولا – في أدب الأسطورة والملحمة 345 - 349 أسطورة أوزير وتوابعها "345" – الحق والبهتان "348" – بين هلاك البشرية وإنقاذها "349"

ثانيا – في أدب القصة 349 - 359 سنقرو والحكماء "349" – قصة خوفو والحكيم جدى "350" قصة العاشقين والتمساح "351" قصة الأخوين "352" من قصص المغامرات: نجاة الملاح "354" – سنوهى "356" – اليائس من الحياة "357" ثالثا – في أدب النصيحة 359 - 363 بتاح حوتب "359" – آنى "361" – أمنموبي "361" – من نصائح المعلمين "362" رابعا – في أدب النقد والتوجعات 363 - 369 إيبولالا والثورة الطبقية "363" – القروي الفصيح "366" الكتاب الثاني العراق "بلاد النهرين منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصر الكلداني" 373 - 379 الفصل الثالث عشر فجر التاريخ العراقي "أ" في الفترة النيوليثية "جرمو – حسونة – حلف" 375 "ب" في الفترة الخالكوليثية "حضارة العبيد" 376 "ج" قبيل العصر الكتابي "حضارة الوركاء" 379 الفصل الرابع عشر أوائل العصور التاريخية – عصر بداية الأسرات السومري 387 - 416 التكوين الجنسي "387" – الكتابة المسمارية "391" – العمارة الدينية "الزقورات" "394" – العقائد "387" – التطور السياسي "401" – الفنون "408" – المساكن "413" – المقابر "414". الفصل الخامس عشر العصر الأكدي 417 - 427 البداية والحياة السياسية 417 الفنون 422 نهاية دولة 425

الفصل السادس عشر صفحة عصر الإحياء السومري 428 - 459 بدايته: في لجش "428" – في أوروك "431" 428 دولة أور: في السياسة والتشريع "432" – في الفنون "436" 432 من الأدب السومري والدين 439 نهاية أور 447 عصر أين – لارسا 450 تشريع إشنونا 451 إين 453 في لارسا 455 في الفن 456 الفصل السابع عشر دولة بابل الأولى "أو العصر البابلي القديم" 460 - 482 بدايتها 460 تشريعات حمورابي 463 في الفن 470 من الأدب البابلي 473 أساطير نشأة الوجود "473" – جلجميش وقصة الطرفان "475" صعود إيتانا إلى السماء "482" الحوار في الأساطير "482" الفصل الثامن عشر العصر الكاسي 485 - 499 الحياة السياسية: النشأة والسياسة الداخلية "485" 485 في العمارة والفن 488 العلاقات الخارجية: مع الشام ومصر "489" 489 مع آشور "490" – مع الحوريين "490" – مع الميتان "491" الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة 493 من الحياة الفكرية 495 الفصل التاسع عشر آشور 500 - 547 "أ" المراحل الأولى "العصر العتيق – العصر القديم" 500 "ب" العصر الوسيط 502 التوسع في المرحلة الأولى "503" – الفن "504" – الأفول "506".

المرحلة الثانية من العصر الوسيط 507 التوسع "507" – الفن والإدارة "509" – التشريعات "510" – النهاية "513". "ج" العصر الآشوري الحديث: 513 المرحلة الأولى: عهود أداد نيراري –توكلي فينورتا الثاني – آشور ناصر بال الثاني – شلما نصر الثالث "513" – نهاية مرحلة "520". مرحلة الأمجاد الأخيرة: التوسع الخارجي: تيجلات بيليسر الثالث "521" – عهد سرجون "523" – خلفاء سرجون: سينا خريب – آشور أخادين – آشور بانيبال "528" – مع بابل "529" – مع إلام "530" مع مصر والشام "531" – مع عرب البادية "535" – بداية النهاية "535" في العمران والفن والأدب 536 الفصل العشرون بابل الكلدانية 548 - 565 تمهيد: عودة إلى الآراميين والعلاقات مع آشور 548 التطور السياسي "548" – في الفن "550" يقظة بابل وماذي وانهيار آشور: 552 الاتساع البابلي 555 العمران والفنون 557 الأفول 561 خاتمة 564 الخرائط 566 اللوحات 568 فهرست بأهم المفردات 605

§1/1