الشرح الكبير لمختصر الأصول

أبو المنذر المنياوي

الشرح الكبير لمختصر الأصول من علم الأصول للعلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله - تعالى - تأليف الفقير إلى عفو ربه الغني: أبي المنذر: محمود بن محمد بن مصطفى المنياوي عفا الله - تعالى - عنه الطبعة الأولى 1432هـ/ 2011م المكتبة الشاملة

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة الأولى 1432 هـ / 2011 م رقم الإيداع بالمكتبة الشاملة 8/ 2011

بيان واعتذار

بسم الله الرحمن الرحيم بيان واعتذار الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى. وبعد .. فإن أصل هذا الشرح دروس كنت قد ألقيتها في إحدى الدورات العلمية على بعض طلاب العلم ممن سبق لهم التوسع نوعا ما في دراسة علم الأصول عامة، ورسالة الشيخ موضوع الشرح خاصة. وتزامن قبل الشروع في هذا الشرح أن قمت بشرح مقدمة ابن قدامة المنطقية من الروضة. ثم بدا لي أن أتخير متنا أصوليا وأقوم بشرحه محاولا من وراءه تحقيق الأهداف التالية: 1 - تطبيق قواعد المنطق والتي سبق وأن درسها الطلاب نظريا على الحدود. 2 - تنمية ملكة الاستنباط واستخراج الفوائد والمسائل من العبارات موضوع الشرح. 3 - تنمية ملكة النقد. 4 - بيان العلاقة بين أصول الفقه وأصول الدين ببيان المسائل التي أدخلها المتكلمون، وبيان ألفاظهم التي استعملوها في الحدود انتصارا لمذهبهم الكلامي الفاسد. 5 - إعداد مدرسين يستطيعون تدريس هذا المتن لغيرهم من طلاب العلم. وقد وقع اختياري على رسالة الأصول من علم الأصول، وهي وإن كانت قد سبق تدريسها بطريقة مبسطة، إلا أن الدراسة المتوسعة لها سوف تحقق الأهداف السابقة وخاصة وأنها سهلة العبارة ولن نبذل جهدا كبيرا في حل عبارتها. وأما ما كان من الهدف الرابع فبأضدادها تتميز الأشياء، فمن خلال مناقشة حدود الشيخ فسوف نتبين الخلل في الحدود الكلامية الأخرى. ومن ثمَّ فقد تم اختيار بعض طلاب العلم المتميزين، وشرح رسالة الأصول من علم الأصول بتوسع لهم. وبعد أن منَّ الله عليّ بتمام هذه الدورة، وجدت أن الشرح قد بدأ ينتشر بين طلاب

العلم، فراودتني فكرة طباعته؛ فاستخرت الله العظيم في ذلك فانشرح صدري، وبدأت أعيد النظر فيه، ولكنني عندما عرضت الأمر على بعض أساتذتي استبشر خيرا وأبدى سرورا بهذا الجهد المبذول لخدمة هذا المتن - والذي أحتسبه عند الله - إلا أنه أبدى قلقا من جهتين: الأولى - أن الشيخ - رحمه الله - قد وضع هذا المتن مبسطا لطلاب المعاهد الثانوية بما يتناسب مع مستواهم التحصيلي فكيف نطوله ونعرض فيه للخلاف، ومناقشة الحدود بما يخرج المتن عن مقصوده الأصلي. الثانية - أن تطويل الشرح بهذا الحجم الكبير لهذا المتن المختصر خروج عن المعهود، وأيضا عن مقصود الشيخ. فقلت بيانا لوجهة نظري: أما أن يكون هذا الشرح خروجا عن مقصود الشيخ - رحمه الله - فإنني لم أتعد على الكتاب الأصلي بتغيير، أو تحريف، غاية الأمر أنني شرحته ببعض التوسع، مع سهولة الألفاظ وعرض المسائل، وكما هو معلوم أن من طبيعة الشرح أن يدور بين التطويل والتوسط والاختصار، وكل هذا لا يعدو أن يكون خدمة للمتن. وأما ما كان من كبر حجم الشرح فما زالت طرائق العلماء منذ القدم مختلفة فمنهم من يجنح للاختصار، ومنهم من يتوسط، ومنهم من يطول. ومن وجهة نظري فإنه لا إشكال في التطويل للمختصرات بحد ذاته، ولكن الإشكال يكمن في تحميلها ما لا تحتمل، والتوسع بالخلاف عند من لا يفهمه ولا يتحمله من صغار طلاب العلم. كما أن طريقة التطويل، نافعة لطلاب العلم غير المبتدئين كما لا يخفى، وهي أيضا مفيدة للمبتدئين لما فيها من التطويل في التأسيس. وقد شرح الشيخ نفسه رسالته في مجلد كبير. وشرح الشيخ أحمد بن قاسم العبادي شرح المحلى على الورقات شرحا كبيرا، وآخر متوسطا، كما شرح الورقات الشيخ إبراهيم الحلبي شرحا مختصرا، وآخر متوسطا، وثالث مطولا. وقد شرح الإمام الشيرازي رسالته اللمع في شرح كبير طبع فيما يزيد على الألف

تنبيه:

صفحة. وأيضا شرح الإمام ابن قدامة مختصر الخرقي في تسع مجلدات كبار، في حين أن شرح الزركشي له يقع في ثلاث مجلدات. وشرح الشيخ أحمد بن عمر الحازمي نظم العمريطي على الورقات شرحا مختصرا في اثنتي عشر شريطا، وله شرح مطول له في خمسة وأربعين شريطا. وتتبع هذا يطول فالحمد لله أننا لم نأت ببدع من الأمر عندما أطلنا النفس في الشرح. تنبيه: ما جاء في هذا الشرح من زيادة، أو حذف لبعض القيود من حدود الشيخ العثيمين - رحمه الله -، فليس فيه استدراك على الشيخ؛ لأنه - رحمه الله - لم يشترط بداية على نفسه وضع حد جامع مانع - بل كان يرى تحريم تعلم علم المنطق -، وإنما كان غرض الشيخ توصيل المعنى في أبسط عبارة بما يتناسب مع الطلاب المبتدئين الذين ألف لهم هذه الرسالة، وأيضا نظرا لأن الوصول إلى حد جامع مانع من الصعوبة بمكان، ولذلك فحتى الحدود التي وضعتُها وانتهيت إليها قد يستدرك عليها، وإنما كان الهدف تمرين الطلاب على بعض القواعد والشروط في الحدود كما سبق وأن ذكرت، وأيضا التوسع بفتح مداخل لدراسة بعض المسائل الأخرى والتي لها علاقة مباشرة بالمسألة موضوع الدراسة بما يساعد الدارسين على تثبيت المعلومات، وتحرير الفروق بين المسائل. ويشهد الله أنني لم أقصد إن حدث مني تعقب على الشيخ في حد، أو غير ذلك - التنقص، أو الرد لمجرد الرد، بل إنني انتصرت للشيخ في عدة مواضع، ورددت على من استدرك عليه، ومنزلة الشيخ ومكانته العلمية عندي أكبر من أن يستدرك عليه مثلي، وإنما كان الغرض هو مجرد المذاكرة، وغير ذلك مما ذكرت في صدر كلامي، كما أن المخالفة بالدروان مع الدليل هو المنهج الذي تعلمناه من الشيخ - رحمه الله -. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

مقدمة المؤلف:

مقدمة المؤلف: إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}. أما بعد ... فهذا شرح لرسالة (الأصول من علم الأصول) لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - وطريقتي في الشرح سوف تكون - بإذن الله - أولا باختصار عبارة الشيخ قدر المستطاع ثم شرحها. ومنهجي في الاختصار إن أحافظ على عبارة الشيخ ولا أتصرف فيها. ومنهجي في الشرح أنني غالبا انقل ما يتضح به مقصود العبارة التي اختصرتها عن الشيخ من الأصل (¬1) أو من شرحه (¬2)، وقد أعرج أحيانا على غيرهما من كتب الشيخ؛ لتحقيق مذهب الشيخ في بعض المسائل، وقد أتبع ذلك بالنقول عن غيره من علماء المذهب الحنبلي وقد أضيف إلى ذلك بعض النقول عن غيرهم من علماء المذاهب الأخرى، أو عن بعض المعاصرين ما قد أرى أنه مناسبا وخادما للأفكار الرئيسة للمتن. كل ذلك مع التنبيه على المرجوح بدون استطراد في عرض ومناقشة الخلاف، إلا أن الأمر لا يخلو بإذن الله من بعض التنبيهات التي لها علاقة مباشرة بالمتن. ¬

_ (¬1) هذه العبارة سوف تتكرر كثيرا، ومقصودي بها "الأصول من علم الأصول" فهو أصل لمختصرنا. (¬2) ومقصودي بالشرح: شرح الأصول من علم الأصول للشيخ العثيمين.

وسبب اختصاري لعبارة الشيخ أن الشيخ - رحمه الله - قد صنف هذه الرسالة للتدريس لطلاب السنة الثالثة الثانوية في المعاهد ومن نظر فيها علم أنها كالمتن الممزوج بالشرح المبسط. فالشيخ - والله أعلم - لم يكن هدفه أن يضع هذه الرسالة على أنه متن يسهل حفظه على الطلاب، وإنما كان غرضه تقريب هذا العلم إليهم. فقلت: لعلي إن اختصرت عبارتها أن أسهل حفظها على طلاب العلم. لذلك سوف اختصر أهم النقاط الواردة في الرسالة ثم من خلالها أتوسع بذكر متعلقاتها النافعة بإذن الله. وقبل الشروع في اختصار وشرح الرسالة سوف أقدم بين يديها بالتعريف بمؤلفها، وبرسالته، فالله المستعان. المنيا في 14 شوال 1429 هـ الموافق 13/ 10 / 2008م

ترجمة الماتن:

ترجمة الماتن: هو الشيخ محمد بن عثيمين ذلك العالم الجليل والمربي الفاضل والقدوة الصالحة في العلم والزهد والصدق والإخلاص والتواضع والورع والفتوى. هو شيخ التفسير والعقيدة والفقه والسيرة النبوية والأصول والنحو وسائر العلوم الشرعية. هو العالم الداعي إلى الله على بصيرة الذي انتفع بعلمه المسلمون في شتى أنحاء العالم الإسلامي والذي أجمعت القلوب على قبوله ومحبته وفضله وعلو مرتبته. هو فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وقد أفرد تلاميذ الشيخ وغيرهم سيرة الشيخ بمؤلفات مفردة ومنها: 1 - ابن عثيمين، الإمام الزاهد": كتاب قيم يحمل في طياته سيرة الإمام ابن عثيمين رحمه الله يرويها العلماء وطلبة العلم، مع ما قيل في الشيخ رحمه الله من مراثي وأشعار .. يقع الكتاب في (1022) صفحة. 2 - الجامع لحياة العلامة محمد بن صالح العثيمين": بقلم تلميذه الشيخ "وليد بن أحمد الحسين" رئيس تحرير مجلة "الحكمة"، وهو كتاب جميل، بل من أجمل ما كُتب عن الشيخ رحمه الله، فأنصح طلبة العلم ومحبي الشيخ بقراءته، وترجم له ترجمة أيضا مختصرة في العدد الثاني من مجلة الحكمة، وقد طبعت الترجمة في رسالة مفردة بعنوان: صفحات مضيئة من حياة الشيخ محمد بن صالح العثيمين. 3 - سيرة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله": وهي رسالة لطيفة كتبها " إحسان بن محمد بن عايش العتيبي"، وهي من أول ما كُتب في رثاء الشيخ رحمه الله. 4 - صفحات مشرقة من حياة الإمام محمد بن صالح العثيمين" جاء في (176) صفحة من تأليف "حمود بن عبد الله المطر" .. 5 - أربعة عشر عاماً مع سماحة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين": وهو للشيخ "عبدالكريم بن صالح المقرن" .. جاء في (93) صفحة. 6 - لمحات من حياة سماحة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين": للشيخ

اسمه ونسبه:

"متعب بن عبدالرحمن القبيسي" .. جاء في (17) صفحة. 7 - الدر الثمين في ترجمة العلامة ابن عثيمين": شارك في إعدادها أحد عشر باحثاً معظمهم من تلاميذ الشيخ رحمه الله .. وهي رسالة صغيرة في (45) صفحة. 8 - ابن عثيمين، سيرة زاهد": وهي من تأليف "خالد قندس" من اليمن .. تقع في (20) صفحة. 9 - "صفحات من حياة الفقيد العالم الزاهد الشيخ محمد بن عثيمين" رسالة لطيفة للشيخ: عبدالله بن محمد بن احمد الطيار. 10 - وسطر مازن الغامدي (رحلتي إلى النور) وهي قصه يذكر فيها مواقفه وحياته مع الشيخ العلامة بن عثيمين، ومات قبل أن تيمها - رحمهما الله تعالى -. 11 - هذا غير الرسائل الجامعية والمقالات الكثيرة التي كتبت في أكثر المجلات والجرائد العربية وغيرها تتحدث عن حياة هذا العالم الجليل. وغير ذلك الكثير فرحم الله الشيخ رحمة واسعة. وسوف ألخص جملا مما وقفت عليه من هذه الكتب والرسائل بما يتضح به المقصود من ترجمة الشيخ - رحمه الله -، فالله المستعان. اسمه ونسبه: هو أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن سليمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أحمد بن مقبل من آل مقبل من آل ريِّس الوهيبي التميمي، وجده الرابع عثمان أطلق عليه عثيمين فاشتهر به، وهو من فخذ وهبه من تميم نزح أجداده من الوشم إلى عنيزة. مولده: كان مولده في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1347هـ، في مدينة عُنَيِّزَة - إحدى مدن القصيم- بالمملكة العربية السعودية.

وصفه:

وصفه: قصير القامة معتدل الجسد ـ إلا في مرضه الأخير فقد هزل جدا ـ ذو لحية طويلة إلى صدره بيضاء ـ ما كان يحنيها ـ أبيض البشرة بشوش دائما طلق الوجه. نشأته العلمية: نشأ الشيخ في عائلة معروفة بالتدين والاستقامة، بل وتتلمذ على بعض أفراد عائلته أمثال جده لأمه الشيخ عبدالرحمن بن سليمان آل دامغ - رحمه الله - فقرأ عليه القرآن، وحفظه، وقبل أن يتجاوز الخامسة عشر من عمره كان يحفظ - بالإضافة إلى كتاب الله - " زاد المستقنع " و" ألفيَّة ابن مالك " - كما أخبر بذلك هو عن نفسه. وقد جدَّ الشيخ ونشط في طلب العلم على قلة ذات اليد في ذلك الزمان، وقد حدَّث عن نفسه فقال إنه كان لا يملك إلا " الروض المربع " يقرأ فيه، في غرفة من طين. ثم درس على فضيلة الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -وقد توسم فيه شيخه النجابة، والذكاء، وسرعة التحصيل فكان به حفياً ودفعه إلى التدريس وهو لا يزال طالباً في حلقته. ولما فتح المعهد العلمي بالرياض أشار عليه الشيخ علي الصالحي أن يلتحق به فاستأذن شيخه عبد الرحمن السعدي فأذن له فالتحق بالمعهد العلمي في الرياض سنة 1372هـ وانتظم في الدراسة سنتين انتفع فيهما بالعلماء الذين كانوا يدرسون في المعهد حينذاك، والتقى هناك بسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ ويعتبر سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز شيخه الثاني في التحصيل والتأثر به. وتخرج من المعهد العلمي ثم تابع دراسته الجامعية انتساباً حتى نال الشهادة الجامعية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض. شيوخه: 1. جده من جهة أمه عبد الرحمن بن سليمان الدامغ - رحمه الله- درس عليه القرآن الكريم. 2. فضيلة الشيخ العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ ويعتبر

زواجه:

الشيخ عبدالرحمن السعدي شيخه الأول الذي نهل من معين علمه وتأثر بمنهجه وتأصيله واتباعه للدليل وطريقة تدريسه. 3. سماحة الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- فقرأ عليه في المسجد من صحيح البخاري ومن رسائل شيخ الإسلام بن تيمية وانتفع منه في علم الحديث والنظر في آراء فقهاء المذاهب والمقارنة بينها. 4. الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع -رحمه الله-. 5. قرأ على الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان -رحمه الله- في علم الفرائض حال ولايته القضاء في عنيزة. 6. قرأ على الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- في النحو والبلاغة أثناء وجوده في عنيزة. 7. الإمام العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ. يقول الشيخ: (كنا طلابا في المعهد العلمي في الرياض، وكنا جالسين في الفصل، فإذا بشيخ يدخل علينا، إذا رأيته قلت: هذا بدوي من الأعراب، ليس عنده بضاعة من علم، رث الثياب، ليس عليه آثار الهيبة، لا يهتم بمظهره، فسقط من أعيننا، فتذكرت الشيخ عبدالرحمن السعدي، وقلت في نفسي: أترك الشيخ عبدالرحمن السعدي، وأجلس أمام هذا البدوي؟ فما ابتدأ الشنقيطي درسه انهالت علينا الدرر من الفوائد العلمية من بحر علمه الزاخر، فعلما أننا أمام جهبذ من العلماء وفحل من فحولها، فاستفدنا من علمه، وسمته، وخلقه، وزهده، وورعه). 8. الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن رشيد ـ رحمه الله ـ 9. الشيخ عبد الرحمن الأفريقي. 10. قرأ على سماحة الشيخ عبدالله بن عقيل العقيل في الفقه ... وغيرهم. زواجه: تزوج ـ رحمه الله ـ ثلاث مرات الأولى: ابنة عمه بنت سليمان بن محمد العثيمين التي توفيت أثناء الولادة، ثم تزوج بعد وفاتها من ابنة الشيخ عبدالرحمن بن

أولاده:

الزامل العفيسان وظلت معه خمس سنوات لم ينجب منها فطلقها ثم تزوج بنت محمد بن إبراهيم التركي وهي أم أولاده، ولم يجمع بين زوجتين. أولاده: الذكور: خمسة وهم: 1. عبدالله: موظف في جامعة الملك سعود. 2. عبدالرحمن: ضابط في وزارة الدفاع. 3. إبراهيم: ضابط في الحرس الملكي. 4. عبدالعزيز: ضابط في الجوازات. 5. عبدالرحيم: موظف في الخطوط السعودية. ولم يطلب العلم أحد من أبناءه عليه ـ رحمه الله ـ، وله ثلاث بنات تزوجتْ اثنتان منهن باثنين من طلابه وهما الشيخ سامي الصقير والشيخ خالد المصلح. أعماله ونشاطه العلمي: * بدأ التدريس منذ عام 1370هـ في الجامع الكبير بعنيزة في عهد شيخه عبدالرحمن السعدي وبعد أن تخرج من المعهد العلمي في الرياض عين مدرساً في المعهد العلمي بعنيزة عام 1374هـ. * وفي سنه 1376هـ توفي شيخه عبدالرحمن السعدي فتولى بعده إمامة المسجد بالجامع الكبير في عنيزة والخطابة فيه والتدريس بمكتبة عنيزة الوطنية التابعة للجامع والتي أسسها شيخه عام 1359هـ. * ولما كثر الطلبة وصارت المكتبة لا تكفيهم صار يدرس في المسجد الجامع نفسه واجتمع إليه طلاب كثيرون من داخل المملكة وخارجها حتى كانو يبلغون المئات وهؤلاء يدرسون دراسة تحصيل لا لمجرد الاستماع - ولم يزل مدرساً في مسجده وإماماً وخطيباً حتى توفي -رحمه الله-. * استمر مدرساً بالمعهد العلمي في عنيزة حتى عام 1398هـ وشارك في آخر هذه الفترة في عضوية لجنة الخطط ومناهج المعاهد العلمية في جامعة الإمام محمد بن

جهوده الأصولية:

سعود الإسلامية وألف بعض المناهج الدراسية. * ثم لم يزل أستاذاً بفرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم بكلية الشريعة وأصول الدين منذ العام الدراسي 1398 - 1399هـ حتى توفي - رحمه الله -. * درّس في المسجد الحرام والمسجد النبوي في مواسم الحج وشهر رمضان والعطل الصيفية. * شارك في عدة لجان علمية متخصصة عديدة داخل المملكة العربية السعودية. * ألقى محاضرات علمية داخل المملكة وخارجها عن طريق الهاتف. * تولى رئاسة جمعية تحفيظ القرآن الكريم الخيرية في عنيزة منذ تأسيسها عام 1405هـ حتى وفاته - رحمه الله -. * كان عضواً في مجلس كلية الشريعة وأصول الدين بفرع الجامعة بالقصيم ورئيساً لقسم العقيدة فيها. * كان عضواً في هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منذ عام 1407هـ حتى وفاته -رحمه الله-. وكان بالإضافة إلي أعماله الجليلة والمسؤوليات الكبيرة حريصاً على نفع الناس بالتعليم والفتوى وقضاء حوائجهم ليلاً ونهاراً حضراً وسفراً وفي أيام صحته ومرضه -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-. أمضى وقته ـ رحمه الله ـ في التعليم والتربية والإفتاء والبحث والتحقيق وله اجتهادات واختيارات موفقة، لم يترك لنفسه وقتاً للراحة حتى إذا سار على قدميه من منزله إلى المسجد وعاد إلى منزله فإن الناس ينتظرونه ويسيرون معه يسألونه فيجيبهم ويسجلون إجاباته وفتاواه. جهوده الأصولية: خلف الشيخ تراثا ضخما من النتاج الأصولي بين مقروء ومسموع ومما وقفت عليه من ذلك: - رسالة الأصول من علم الأصول، وهي رسالة مختصرة في أصول الفقه

وضعت على وفق المنهج المقرر للسنة الثالثة الثانوية في المعاهد العلمية، وطبعت في دار ابن الجوزي، وتقع في (98) صفحة وهي موضوع كتابنا هذا. - شرح الأصول من علم الأصول في مجلد كبير يقع في (672) صفحة وطبع بدار البصيرة. - "منظومة أصول الفقه وقواعده" فيما يزيد على المائة بيت، وقد اشتملت على جملة من القواعد الأصولية، والقواعد الفقهية، والضوابط الفقهية، والفروق الفقهية، وشرحها الشيخ نفسه في مجلد متوسط يقع في (358) صفحة وطبع بدار ابن الجوزي - التعليق على القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة وقد نشرته مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية في مجلد كبير (451) صفحة. - شرح نظم الورقات في أصول الفقه طبعه دار ابن الجوزي في مجلد متوسط (253) صفحة. - رسالة في الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه. - شرح خاتمة منظومة السفاريني في العقيدة، وهي في علم المنطق، وذلك ضمن شرحه لنظومة السفاريني. - مختارات من أعلام الموقعين، وقد طبع في مجلد صغير بمؤسسة آسام للنشر في (153) صفحة. - "نيل الأرب من قواعد ابن رجب" وهو اختصار الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - لكتاب القواعد لابن رجب وقد اشتمل على قواعده الحسان، مع حذف فروعها. - تعليق على التعبيرات الواضحات على شرح الورقات في (9) أشرطة. - شرح قطعة من مختصر التحرير لابن النجار في (17) شريط. - شرح قطعة كبيرة من قواعد الأصول ومعاقد الفصول لصفي الدين الحنبلي حتى أول باب القياس في (14) شريط. - شرح قطعة كبيرة من قواعد ابن رجب حتى القاعدة القاعدة السابعة والعشرين بعد المائة في (18) شريط. إلى غير ذلك مما لم أقف عليه، فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وجزاه خيرا على ما قدم من خدمات جليلة للعلم وطلابه.

طلابه:

طلابه: قال الشيخ وليد الزبيري: أذكر في بداية طلبي للعلم عند الشيخ في مطلع (1402 هـ) كنا ربما لا نزيد على عشرة طلاب في المجلس الواحد، ولم تكن للشيخ شهرة على ما هو عليها الآن، ولعل اكتسابه للشهرة، وتوافد طلاب العلم عليه من كل حدب وصوب يرجع إلى عدة عوامل منها: 1 - صدقه وإخلاصه في طلب العلم والتعليم - بحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا - وبذل نفسه في ذلك. 2 - تصديه للدروس والمحاضرات والفتوى في الحرم المكي في شهر رمضان 3 - وضوحه في الأداء. 4 - سلامة المنهج في العقيدة. 5 - عدم تعصبه وجموده لمذهب معين في جميع مسائل الأحكام. 6 - تقليده بعض المناصب المهمة، مثل: عضويته في هيئة كبار العلماء، ورئاسة قسم العقيدة وجماعة تحفيظ القرآن، ومشاركته في برنامج نور على الدرب الذي يذاع في المذياع. 7 - استجابته لكثير من الدعوات الموجهة إليه لإلقاء المحاضرات في كثير من مدن المملكة. 8 - كثرة الأشرطة العلمية التي سجلت له، والتي وصلت إلى دول أوربا وأمريكا وغيرها من دول الغرب. 9 - كثرة مؤلفاته التي أكثرها صغيرة الحجم، غزيرة الفائدة، واضحة العبارة وترجم بعضها إلى عدة لغات. اهـ ومنهم: 1. الدكتور إبراهيم بن علي العبيد. 2. الدكتور أحمد بن عبدالرحمن القاضي. 3. الدكتور أحمد بن محمد الخليل. 4. الشيخ خالد بن عبدالله المصلح، زوج بنت الشيخ. 5. الدكتور خالد بن عبدالله المشيقح.

منهجه العلمي:

6. الشيخ سامي بن محمد الصقير، وهو زوح بنت الشيخ. 7. الأمير الدكتور عبدالرحمن بن سعود الكبير آل سعود. 8. الأستاذ الدكتور عبدالله بن محمد الطيار. 9. الشيخ محمد بن سليمان السلمان. 10. وليد بن أحمد الحسين. 11. الشيخ صالح بن عبدالله بن عبدالكريم الدرويش. 12. الدكتور ناصر بن عبدالله القفاري. وغيرهم الكثير. منهجه العلمي: لقد أوضح الشيخ يرحمه الله منهجه، وصرح به مرات عديدة، أنه يسير على الطريقة التي انتهجها شيخه العلامة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي يقول شيخنا أبو عبدالله: لقد تأثرت كثيرا بشيخي عبدالرحمن السعدي في طريقة التدريس، وعرض العلم، وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني. والمنهج الذي سلكه الشيخ عبد الرحمن السعدي هو منهج خرج به عن المنهج الذي يسير عليه علماء الجزيرة علماء نجد عامتهم أو غالبيتهم، حيث اعتماد المذهب الحنبلي في الفروع من مسائل الأحكام الفقهية، والاعتماد على كتاب زاد المستقنع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، فكان الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي معروفا بخروجه عن المذهب الحنبلي وعدم التقيد به في مسائل كثيرة، حتى أخبرني أحد علماء مدينة بريدة التي تبعد عن مدينة الشيخ عنيزة حوالي خمسة وعشرين كيلومترا أن علماء بريدة، رحمهم الله، في عهد الشيخ السعدي كانون ينقمون على الشيخ السعدي بسبب خروجه عن المذهب الحنبلي، حتى رفعوا عليه دعوى إلى الملك عبد العزيز آل سعود يشكونه إليه، حتى أن الشيخ السعدي، إذا أراد أن يجتمع مع محبيه ومناصريه من أهل بريدة لا يجتمع معهم في داخل مدينة بريدة، بل كانوا يخرجون إليه ويجتمعون به في أطراف المدينة، وهكذا اخبرني شيخي أبو عبد الله العثيمين. ومنهج الشيخ السعدي هو انه كثيراً ما يتبنى آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه

ابن القيم ويرجحها على المذهب الحنبلي، فلم يكن عنده الجمود تجاه مذهب معين، بل كان متجرداً للحق، وقد انطبعت هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذة محمد الصالح العثيمين. ولم يكن تبني الشيخ لآراء شيخ الإسلام نابعاً عن هوى أو تقليد أعمى، بل كان متجرداً للحق أيضا، فحيثما وجد الحق فهو ضالته ومطلبه، بل إنه خالف شيخ الإسلام في عشرات المسائل أكثر من مخالفة شيخه السعدي لشيخ الإسلام، ومخالفته لشيخ الإسلام في هذه المسائل لا يدل على استنقاصه لشيخ الإسلام ولا تقليلاً من شأن شيخ الإسلام ومكانته العلمية، ولا يدل على أنه اعلم منه في هذه المسائل، بل ربما يكون الحق في جانب شيخ الإسلام فيما خالفه فيه، ومازال العلماء قديما وحديثاً يخالف بعضهم بعضاً في عشرات أو مئات وربما ألوف المسائل لكن العيب في المخالفة أن تكون نابعة عن هوى أو سوء نية، أو عدم توفر الكفاءة العلمية وعدم الدقة في فهم النصوص واحتواء الخلاف فيها بالنسبة للمخالف، وكل هذه الصفات يتنزه عنها شيخنا رحمه الله فهو معروف بسعة علمه، ودقة فهمه، وآثاره العلمية، من مكتوب ومسموع، شاهدة على أهليته وكفاءته. وكل مسألة يخالف فيها شيخنا أبو عبد الله العثيمين من هو اعلم منه، له حظ من النظر فيها، وما كان كذلك فلا حرج في المخالفة. قال الناظم: وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلافاً له حظ من النظر ولا بأس في أن نذكر أمثلة لبعض المسائل التي خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية منها: 1 - يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الجماعة شرط لصحة الصلاة، ويرى شيخنا أنها واجبة. 2 - يرى شيخ الإسلام أن المتمتع في الحج يكفيه سعي العمرة عن سعي الحج، ويرى شيخنا أن سعي العمرة لا يكفي عن سعي الحج. 3 - يرى شيخ الإسلام جواز سفر المرأة بلا محرم مع الأمن، ويرى شيخنا عدم جواز سفر المرأة بلا محرم مطلقا. 4 - يرى شيخ الإسلام جواز الجمع بين الأختين من الرضاع، ويرى شيخنا

مؤلفاته:

التحريم لعموم حديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب). 5 - يرى شيخ الإسلام جواز دفع الزكاة في قضاء دين الميت الذي لم يخلف وفاء، ويرى شيخنا عدم الجواز. 6 - يرى شيخ الإسلام جواز تعفير الوجه بالتراب تذللاً لله تعالى ذكرها في الاختيارات ويرى شيخنا ضعف هذا القول، لان الأصل في العبادات المنع والحظر، حتى يقوم دليل على المشروعية. ... 7 - يرى شيخ الإسلام أن للأم الثلث مع الأخوة المحجوبين بالأب، ويرى شيخنا أن للأم السدس، أي أن الأخوة، وان كانوا محجوبين بالأب، لكن تأثيرهم على الأم يظل باقياً، فيحجبونها حجب نقصان من الثلث إلى السدس، وهو قول الجمهور. 8 - يرى شيخ الإسلام جواز الزيادة بين الربويين من جنس واحد في مقابلة الصنعة، ويرى شيخنا عدم الجواز للعمومات الدالة على أن الذهب بالذهب لابد فيه من التساوي وزنا بوزن، سواء بسواء، يداً بيد. 9 - يرى شيخ الإسلام أن المأموم تكفيه قراءة إمامه في الصلاة الجهرية، وهو المذهب، ويرى شيخنا وجوب قراء الفاتحة على المأموم في الجهرية. مؤلفاته: بلغت مؤلفات الشيخ ما يزيد على 125 مؤلفا بين كتاب صغير ومجلدات كبيرة ومنها: 1. مجموع فتاوى الشيخ، ويحوى المجموع حسبما أمر الشيخ كل مؤلفات الشيخ التي تبلغ مجلدين فأقل، وبلغت خمسة عشر مجلد وقد تصل إلى ثلاثين مجلدا. 2. تخريج أحاديث الروض المربع. 3. الشرح الممتع على زاد المستقنع، وهو أكبر مؤلفات الشيخ وأكثرها نفعا وفيها يظهر دقة علم الشيخ وقد يصل إلى خمسة عشر مجلد. 4. فتاوى منار الإسلام. ثلاث مجلدات. 5. نيل الأرب من قواعد ابن رجب. 6. القواعد المثلى.

عبادته

7. القول المفيد على كتاب التوحيد. ثلاث مجلدات. 8. فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام. 9. شرح العقيدة الواسطية. مجلدان. 10. شرح رياض الصالحين. سبع مجلدات. وغيرها الكثير وقد جمعت بعض آثار الشيخ ورسائله وفتاويه فبلغت بضعا وعشرين مجلدا. عبادته وعُرف عن الشيخ قيامه بالفرائض والنوافل والطاعات، ومن صور ذلك: 1 - أنه يحج في كل عام منذ سنوات طويلة. 2 - أنه يعتمر في رمضان وفي غيره من مواسم " العطلات ". 3 - أنه يقيم الليل حتى مع شدة تعبه، وقد حدَّث عن ذلك بعض تلامذته - وهو الشيخ حمد العثمان - ومما قال - بالمعنى - أنه سافر مع الشيخ إلى الرياض فمكثوا فيه وقتاً ثم غادروا إلى جدة فأدوا العمرة في مكة، فلما انتهوا من عمرتهم وإذ بالتعب قد سرى لجسدهم فاستسلموا للنوم. قال الشيخ حمد: فقمت في الليل إلى الحمام لقضاء الحاجة، وإذ بي أرى الشيخ رحمه الله قائماً يصلي!! فقلت: سبحان الله، أنا شاب واستسلمت للنوم، وهذا شيخ كبير تعب معي مثلي ثم يقوم في الليل ليصلي؟ فتشجع أخونا " حمد " ليصلي فقام وتوضأ ولما أراد أن يصلي وإذ بالنعاس يغالبه! فقال: " يا عمي! إحنا وين والشيخ وين!!؟ " فرجع للنوم! - ولا أدري أصلَّى شيئاً أو لا -. برنامج الشيخ اليومي: وعن برنامجه اليومي قال ابنه إبراهيم: إن الوالد - رحمه الله - كان عادة ما يستيقظ قبل صلاة الفجر ويوتر ثم يصلي

مواقف للشيخ:

الفجر ويرجع إلى البيت ويرتاح قليلاً، ثم بعد ذلك يبدأ اليوم إذا كان عنده محاضرة استعد لها، وإلا جلس للكتابة والرد على مكالمات السائلين حتى وقت الظهر، ثم يذهب للمسجد لصلاة الظهر، ثم يرجع للبيت مرة ثانية لمكتبته حتى يحين وقت الغداء، وهي الفرصة التي يلتقي فيها بأبنائه! وحتى في هذه اللحظة يضع التليفون بالقرب منه لمباشرة الرد على الأسئلة، ثم بعد الغداء يجلس ويرد على التليفون ثم يذهب لصلاة العصر ويجلس بعدها بالمسجد قليلاً، حيث يلتقي غالباً ببعض أهل القضايا والحاجات، ثم يعود للبيت ويجلس بالمكتبة حتى صلاة المغرب، ثم يذهب لصلاة المغرب ليبدأ بعدها الدرس إلى العشاء، ثم بعد صلاة العشاء يعود للبيت، ودائماً ما يكون لديه برنامج بعد العشاء وحتى حوالي التاسعة والنصف إما خارج " عنيزة " أو عبر التليفون أي في بلدان المملكة أو أحيانا خارج المملكة في هولندا وألمانيا وكثير من الدول، فيكون على اتصال بالمراكز هناك، ويقوم بإلقاء محاضرة ربما امتدت لساعة عبر التليفون، ثم بعدها يجلس إلى القراءة حتى حوالي الحادية عشرة. هذا هو يومه العادي. مواقف للشيخ: * دخل على الشيخ ـ رحمه الله ـ صبي دون السادسة من عمره وهو بين طلابه وأمسك بيده وقال: أبي يريد السلام عليك قبل سفره فلاطفه الشيخ والطفل آخذ بيده حتى بلغ به والده فتعجب من هذا الخلق النبيل. * ركب الشيخ مع أحد محبيه وكانت سيارة الرجل كثيرة الأعطال فتوقفت فيهم أثناء الطريق فنزل الشيخ وقال للرجال: أنت ابق مكانك وأنا أدفع السيارة!! فدفعها ـ رحمه الله ـ حتى تحركت بهم. * ويحكي مدير المعهد العلمي في عنيزة سابقا فيقول: احتجت مبلغ من المال فاقترضت من الشيخ ـ رحمه الله ـ وذكرت له أنني محتاج المبلغ لأنني سأسافر للرياض فقال لي: بي رغبة بالسفر للرياض هل تأخذني معك؟، فأخذته معي وكانت

المواصلات صعبة في تلك الفترة، فلما وصلنا أصر الشيخ على دفع مبلغ مقابل السفر، فرفضت بشدة فقال: لو أنني ما أقرضتك لكان الأمر هينا ولكن أخشى أن يكون قرضا جر نفعا!!. * أنه دعيَ لافتتاح " تسجيلات إسلامية " ضخمة، وبينما هو يتجول في أنحائها إذ يلاحظ أنه قد جعل لكل صاحب أشرطة من المشايخ لوحة كبيرة فيها اسمه، وبمروره على " زاوية " الشيخ الألباني رحمه الله رأى أن لوحة اسمه صغيرة! فأنكر عليهم الشيخ رحمه الله غاية الإنكار! وأمرهم بتكبير لوحة الشيخ أو تصغير لوحات المشايخ الآخرين. وكان ذلك، ففي اليوم التالي جاء الناس إلى " التسجيلات " وقد جعلوا لوحة الشيخ مثل أخواتها! * ولما بشَّره بعض الشباب برؤيا رآها بعض المجاهدين في الشيخ الألباني فرح بها الشيخ رحمه الله وطلب من ناقلها له أن يتصل بالشيخ الألباني من بيته ليبشره بها، لكن قدَّر الله أن لا يكون الشيخ حينذاك في بيته. وملخص الرؤيا: أن الرائي قد رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله إذا أشكل عليَّ شيءٌ في الحديث فمَن أسأل؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سل الشيخ محمد ناصر الدين الألباني!! * سافر شباب من " الأردن " إلى العمرة، وفي " خيبر " قدَّر الله عليهم حادثاً صدموا به عمود الإنارة! فهرعت الشرطة لمكان الحادث، وأصروا على السائق أن يدفع تكاليف العمود وكانوا قد قدَّروا ذلك بـ (21000) واحد وعشرون ألف ريال! وهذا السائق - ومعه المعتمرون - لا يقدرون على دفع مثل هذا المبلغ! فحجز الشرطة جواز سفر السائق لحين تدبير المبلغ ودفعه عند رجعتهم من أداء العمرة.

فغلب الشباب على أمرهم وفكروا في طريقة تحصيل المبلغ، فلم يكن أمامهم إلا عرض الموضوع على بعض المشايخ، فكان أن ذهب واحدٌ منهم - وهو الذي حدثني بالقصة - إلى الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في غرفته في الحرم المكي بعد صلاة العصر. فعرف الشيخ منه القصة، وقال له: " تعال غداً وإن شاء الله يصير خير "! قال الشاب: فلم أرجع للشيخ لأنني عرفت أن المبلغ كبير، والشيخ لا يعرفنا، ولم يُعرف عن الشيخ أنه يساعد في مثل هذه الأمور، لكنني ذهبت - والكلام لمحدثي - تحقيقاً لرغبة الشباب في أن أكلِّم الشيخ فقط. ثم رجع القوم إلى " الأردن "، وكان لا بدَّ من المرور على " خيبر "! لأخذ الجواز، ولعلَّ الله أن يكون قد رقق قلوبهم فيسقطوا عنا المبلغ. ولما دخل الشباب إلى المركز أصرَّ الضابط على إحضار المبلغ كاملاً وإلا لا سفر، فإن أرادوا السفر فمن غير السائق!! تحيَّر الشباب وسائقهم! ماذا يفعلون؟ توجهوا للشاب الذي ذهب للشيخ ابن عثيمين فقالوا له: ألم تذهب أنت للشيخ ماذا قال لك؟ قال: قال: تعال غداً!! قالوا: فهل ذهبتَ له؟ قال: لا!! قالوا: اتَّصل به لعل الله أن يكون الفرج على يديه ونحن محبوسون عن أهلنا هنا ونحن في آخر أيام رمضان!! قال: فاتَّصلتُ بالشيخ في غرفته فردَّ عليَّ وأخبرته بحالنا! قال: أنت الشاب الأردني؟؟!! قلت: نعم يا شيخ! قال: ألم أقل لك تعال في الغد، لمَ لمْ تأتِ؟ قال: استحييتُ! قال: فلمَ كلمتني إذن؟؟! على كل حال: المبلغ كان جاهزاً في اليوم نفسه!!!!! فلم يصدِّقوا، وكاد الشباب أن يطيروا فرحاً - ومعهم السائق بالطبع! -. قال الشاب: والحل يا شيخ؟

قال الشيخ: أنا أحوِّل المبلغ للمركز، وأطلب منهم أن ييسروا أمركم وترجعوا إلى أهليكم قبل العيد!! قال الشيخ: أعطني الضابط المسؤول! كلَّم الضابطُ الشيخ بنوع من اللامبالاة! قال الشيخ: المبلغ عندي وأعطني رقم حسابكم وأنا أحوله لكم وأطلقوا الشباب وسائقهم ليذهبوا إلى أهليهم! ردَّ الضابط بقلة أدب: آسفين يا شيخ! لا بدَّ من إحضار المبلغ نقداً وإلا فلن يسافروا ولن يرجعوا!! غضب الشيخ جدّاً من الضابط، وقال: أقول لك المبلغ عندي دعهم يذهبوا إلى أهليهم!! رفض الضابط مرة أخرى! أغلق الشيخ السماعة. قال الشاب: فما هي إلا لحظات إلا والمركز ينقلب رأساً على عقب!! ما الخطب؟؟ إنه أمير المدينة!! - الأمير عبد المجيد - اتصل يسأل عن الضابط الذي رفض طلب الشيخ وبدأ يهدد ويتوعد بالعقوبة!! حاول الضباط وأفراد الشرطة التستر على زميلهم!! ورأى الشباب تغير العنجهية بصورة سريعة ومذهلة! إلى رقة وأدب! فأمرهم أمير المدينة بإطلاق الشباب وسائقهم فوراً وتصليح العمود على حساب الدولة!! لا يتصور أحد مدى فرحة الشباب بهذا الخبر! فشكروا للشيخ جهوده ووقفته معهم وارتفعت أصواتهم بالدعاء للشيخ، وأكبروا في الأمير احترامه للعلماء وتقديره لمكانتهم في موقف لن ينساه أحد منهم ما عاش أبداً! * قال الشيخ وليد الحسين: ولقد لمستُ حرص الشيخ على طلابه منذ بداية ملازمتي له، وذلك عندما قصدت هذه البلاد المباركة - المملكة العربية السعودية -

قبل ثلاث عشرة سنة، وقد صحبتُ معي القليل من المال حتى نفد، ولم يبق عندي منه شيء فصبَّرتُ نفسي، وأيقنتُ أن الله سيفرج هذا الضيق: ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكنت أظن أنها لا تفرج حتى إذا ما مضى أسابيع، وأنا أعيش هذا الضيق، فإذا بالشيخ يناديني بعد صلاة الفجر، وبيده مبلغ من المال ليس بالقليل، ويعلم الله أنني لم أشكُ له حالي، ولكنه الفرج من الله. وبعد مدة من الزمن نفد ما عندي من المال، فخشيتُ أن أكون قد أحرجتُ الشيخ في مساعدته لي، أو يظن أنني لازمته من أجل المال، فقررتُ أن أرحل، وأجمع مالاً أتقوى به على طلب العلم، فرحلتُ إلى " الدمام " - حيث معارفي - وتركتُ رسالة للشيخ بيَّنتُ فيها سبب ارتحالي، فساءه ذلك جدّاً، وحاول أن يتعرف على عنواني، فتيسر له الحصول عليه وعلى رقم هاتفي، واتصل بي هاتفيّاً! وألزمني بالرجوع، وألحَّ عليَّ، فأجبتُه إلى طلبه وأنا في حرج، واستأنفتُ ملازمتي له. وكان - رحمه الله - لا يبخل عليَّ وعلى زملائي من المغتربين بالإنفاق علينا، ومتابعة أحوالنا، وتذليل الصعاب التي تواجهنا. * في إحدى عمرات الشيخ كان قد أدى العمرة مع جمع من أصحابه وقد سكنوا جميعاً في مسكن واحدٍ، وفي أثناء رجوعهم من المسجد الحرام إلى المسكن مرَّ الشيخ رحمه الله مع مَن معه على مجموعة من الشباب اللاهي وهم يلعبون " كرة القدم "! فوقف الشيخ بينهم ينصحهم ويوجههم للصلاة، فكان أن قابل أولئك الشباب الشيخَ بشيء من اللامبالاة والاستهزاء! فطلب الشيخ ممن معه أن يذهب إلى السكن ويبقى وحده مع أولئك الشباب! فكان أن حصل للشيخ ما أراده، فلما رأى الشباب أن الشيخ مصرٌّ على البقاء ليذهبوا معه للصلاة سبَّ عليه واحدٌ منهم سبّاً مقذعاً بكلمات قبيحة نابية! وقد فعل ذلك حتى لا يجعل مجالاً للشيخ في أن يبقى بينهم، وهم - بطبيعة الحال - لا يعرفون أن هذا هو الشيخ ابن عثيمين! فتبسم الشيخ! وأصرَّ على البقاء حتى يصلِّي الشباب، وأن يذهب هذا السابُّ معه!

وجلس الشيخ وسطهم على حجر مصرّاً على قوله. والشباب استاءوا من مسبَّة صاحبهم لمثل هذه " الشيبة "! فطلبوا من صاحبهم السابّ - لما رأوا إصرار الشيخ - أن يرافق الشيخ، ومعنى كلامهم أن يمشُّوه على قدر عقله! فذهب الشاب السابُّ أخيراً مع الشيخ! ولما دخلوا المسكن، استأذن الشيخ من الشاب قليلاً. فخاطب بعضُ مَن مع الشيخ ذلك الشاب: هل تعرف الشيخ ابن عثيمين من قديم!! فكاد الشاب أن يُغمى عليه من الصعقة! وقال: ماذا قلت؟ من هذا الشيخ؟ قال: هذا الشيخ ابن عثيمين! ألا تعرفه؟؟ فما كان من الشاب إلا أن تأثر من موقفه ذاك وبكى، فلما حضر الشيخ قبَّل رأسَه وطلب منه المسامحة! وما كان من الشيخ إلا أن يسامحه وهو الذي صبر عليه وهو يسبه ويشتمه، ثم علَّمه الوضوء والصلاة، فالتزم ذلك الشاب على يد الشيخ رحمه الله. فانظر إلى هذه الهمة، وهذا الحرص، وذلك الصبر من الإمام رحمه الله. * ولما أفتى الشيخ رحمه الله بفتيا معلومة اتهمه بعض الناس بتهم شتى، تتعلق باعتقاده! والشيخ مقتنع بما قال وله في ذلك سلف مثل شيخ الإسلام رحمه الله. وفي مرَّة زاره شبابٌ من طلبة العلم ومعهم أسئلة، ومن ضمن تلك الأسئلة ما يتعلق بتلك الفتوى، وما قيل في الشيخ - رحمه الله -. فأجاب الشيخ، ومن ضمن إجابته قال: إن الناس إذا رأوا إنساناً مشهوراً! تكلموا عليه وطعنوا فيه حسداً من عند أنفسهم ... إلخ. وراح الشباب ومعهم التسجيل. وفي الليل اتصل الشيخ رحمه الله بالشاب الذي أحضرهم إليه طالباً منه الشريط!! فاستغرب الشاب - أولاً - اتصال الشيخ، واستغرب أكثر من هذا الطلب!!

فطلب الشاب التوضيح من الشيخ عن سبب طلبه الشريط قال الشيخ: هناك كلمة قلتُها ما كان ينبغي لي قولها! وأرى أن تحذف من الشريط! وهي قولي " إنساناً مشهوراً "!! فهذه فيها تزكية للنفس أرى أن تحذف!!! * صلَّى الشيخ ابن عثيمين في الحرم المكي، وأراد بعد خروجه من الحرم الذهاب إلى مكان يحتاج الذهاب إليه إلى سيارة. أوقف الشيخ ابن عثيمين سيارة تاكسي، وصعد معه. وفي الطريق، أراد السائق التعرف على الراكب! السائق: من الشيخ؟ الشيخ: محمد بن عثيمين! السائق: الشيخ؟؟؟؟ - وظن أن الشيخ يكذب عليه، إذ لم يخطر بباله أن يركب معه مثل الشيخ -. الشيخ: نعم، الشيخ! الشيخ ابن عثيمين: من الأخ؟ السائق: الشيخ عبد العزيز بن باز!!!!!!!!!! فضحك الشيخ. الشيخ: أنت الشيخ عبد العزيز بن باز؟؟؟!!! لكن الشيخ عبد العزيز ضرير، ولا يسوق سيارة!! السائق: ابن عثيمين في نجد وش اللي يجيبه هنا , تمزح معي أنت؟ هنا ضحك الشيخ , وأفهمه أنه بالفعل ابن عثيمين. * سأله سائل: إذا كان القارئ يستمع إلى المسجّل فجاءت سجدة التلاوة فهل يسجد للتلاوة؟ فقال الشيخ: نعم إذا سجد المسجَّل! * كان الشيخ ابن عثيمين يتكلم في درس عن عيوب النساء في أبواب النكاح، فسأله سائل وقال له: إذا تزوجت ثم وجدت زوجتي ليس لها أسنان، فهل هذا عيب يبيح لي طلب الفسخ؟

مرض الشيخ

فضحك الشيخ وقال: هذه امرأة جيدة حتى لا تعضك! مرض الشيخ قال أحد أبناء الشيخ رحمه الله وهو عبد الله الصالح العثيمين (¬1): لقد جاء اكتشاف مرض الشيخ - رحمه الله - متأخراً، وكان اكتشافه أول الأمر في مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني، وقد قام المستشفى - إدارة ومختصين - بما يُشكرون عليه من عناية، ثم أجريت له فحوصات أخرى في مستشفى الملك فيصل التخصصي، ونال من إدارته والمختصين به كل عناية ورعاية، فجزى الله الجميعَ في المستشفيين خير الجزاء، وقد اختلفت آراء الأطباء سواء من كشفوا عليه أو من اطلعوا على التقارير عنه، واستشيروا حولها في طريقة علاجه، فكان منهم من رأى علاجه بالأشعة والكيماوي، ومنهم من لم ير ذلك، وفي تلك الظروف كان الشيخ محمد متردداً لِما رآه من اختلاف وجهات نظر الأطباء، ولمزيد من الاطمئنان - تشخيصا وعلاجا - جاءت مشورة ولاة الأمر في هذا الوطن له كي يسافر إلى أمريكا، حفظهم الله ورعاهم وجزاهم أفضل ما يجزي به عباده الصالحين على ما أبدوه تجاهه من عطف وما قاموا به من رعاية، وقد أكدت الفحوصات هناك ما تُوصل إليه من تشخيص في المملكة، واستقر الرأي الطبي على أن يعالج مدةً بالأشعة، مع جرعات مخففة بالكيماوي، ثم يبدأ العلاج بالكيماوي وحده، وسُرَّ الشيخ محمد بذلك، وقدم إلى الوطن ليبدأ في مستشفى الملك فيصل التخصصي ما استقر الرأي الطبي عليه، [وعولج] بالأشعة فعلا، على أن الأطباء رأوا أخيراً أن سلبيات علاجه بالكيماوي أوضح من إيجابياته، ففضلوا عدم علاجه به، وقبِل الشيخ ما فضَّلوه. الدرس الأخير للشيخ رحمه الله في الحرم المكي وكان صوت الشيخ يشير لما وصلت إليه حاله من تدهور في الصحة العامة، ونحول شديد في جسمه نقله عنه كل من رآه، لا سيما وأن مرض السرطان - أجارنا ¬

_ (¬1) كتبه في جريدة الجزيرة - الطبعة الأولى - محليات الخميس 23،شوال 1421، العدد 10339.

آخر ساعات الشيخ كانت مع كتاب الله

الله وإياكم - معروف عنه أنه يسبب آلاماً رهيبة ومبرحة للمصاب به لا يمكن التغلب عليها إلا بجرعات كثيرة من دواء مخدر (كالمورفين)، ولا أشك في أن الشيخ - قدس الله روحه - وكما سمعنا أيضا - قد رفض تعاطي ذلك الدواء وآثر الاحتساب فعلى الله أجره ولله الأمر من قبل ومن بعد .. بدأ الشيخ بالحديث بصوت أثقلته الآلام، فتحدث عن العيد وأن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلمين ثلاثة أعياد - الأضحى والفطر والجمعة - حق للمسلمين أن يفرحوا فيها بما أنعم الله عليهم من توفيق للأعمال الصالحة، وفصّل فيها قليلا، ثم انتقل إلى الإجابة على الأسئلة .. ثم قال الشيخ بعدها قولة حُفرت في الذاكرة!! آخر كلمات نطق بها الشيخ فأوشك على البكاء وأبكى من استمع له .. !! قال الشيخ بصوته المتعب: وحيث أن هذه الليلة هي ليلة الثلاثين من رمضان فسيكون هذا آخر درس ... وخنقته العبرة: ثم قال: لهذا العام، ولكن كان لسان الحال يقول: بل آخر درس إلى الأبد .. !!! آخر ساعات الشيخ كانت مع كتاب الله تحدث الدكتور " عامر رضوي " عن آخر ساعة في حياة فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين بأنه كان يقرأ القرآن الكريم، ثم دخل في غيبوبة وبعدها بساعة انتقل إلى جَوار ربه الكريم قبيل مغرب يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة 1421هـ بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية وصلى على الشيخ في المسجد الحرام بعد صلاة العصر يوم الخميس السادس عشر من شهر شوال سنة 1421هـ الآلاف المؤلفة وشيعته إلي المقبرة في مشاهد عظيمة لا تكاد توصف، ودفن بمكة المكرمة رحمه الله رحمة واسعة. نسأل الله تعالى أن يرحم شيخنا رحمة الأبرار وأن يسكنه فسيح جناته وأن يغفر له ويجزيه عما قدم للإسلام والمسلمين خيراً، ويعوض المسلمين بفقده خيراً، والحمد لله على قضائه، وقدره، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

التعريف بالرسالة:

التعريف بالرسالة: وأما عن الرسالة فهي رسالة مبسطة وضعها الشيخ وفق خطة محددة لتصنيف منهج معين لطلاب السنة الثالثة الثانوية في المعاهد العلمية (¬1). ولما كان المذهب المعتمد في هذه المعاهد هو المذهب الحنبلي، فيكون الشيخ قد وضع هذه الرسالة على أصول المذهب الحنبلي. إلا أنه كما سبق فالشيخ يسير في الفروع الفقهية على طريقة شيخه السعدي من عدم التقيد بالمذهب الحنبلي، وكان غالبا ما يوافق ترجيحات شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم هذا المنهج انعكس عليه في تأليفه لهذه الرسالة. فتراه في بعض المواضع يشير إلى المذهب كما سيأتي - بإذن الله - في مسألة الفاسد والباطل. وتراه يختار ترجيح تقي الدين ابن تيمية كما في رجوعه عن القول بوقوع المجاز في القرآن واللغة إلى القول بالمنع كما ذهب إليه تقي الدين وابن القيم. وكما في مسألة الإجماع الظني وهو ما لا يعلم إلا بالتتبع والاستقراء قال: (وقد اختلف العلماء في إمكان ثبوته، وأرجح الأقوال في ذلك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في "العقيدة الواسطية": "والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة). وكذلك اختياره لقول شيخ الإسلام في تحريم التقليد العام بأن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ برخصه، وعزائمه في جميع أمور دينه، حتى أنه قال في الشرح في هذه المسألة (ص/643): (وكلام شيخ الإسلام عليه نور دائما). ومن نظر للرسالة بوجهة نظر موضعية ترى غالب تعريفاته يظهر فيها النفس الاجتهادي وعدم التقيد بمذهب معين. فالخلاصة أن صياغة هذه الرسالة كانت حنبلية يخرج فيها الشيخ عما يراه مخالفا للأدلة. ¬

_ (¬1) قال الشيخ في "شرح الأصول" (ص/119): "وضعوا لنا خطة لتصنيف منهج معين للمعهد، ومشينا على هذه الخطة ".

سبب اختياري لهذه الرسالة:

وقد تناقل البعض أن رسالة الشيخ إنما هي كالشرح لورقات الإمام الجويني، ولعل ما أوهم ذلك أمران: الأول - التشابه في ترتيب غالب أبواب رسالة الشيخ والورقات. الثاني - اهتمام الشيخ بورقات الإمام الجويني فقد علق على رسالة "التعبيرات الواضحات عن شرح الورقات" لمحمد عبد رب الرسول همام، وشرح نظم العمريطي على الروقات المسمى بـ: "تسهيل الطرقات". وهذا القول ليس له حظ من النظر لمن تأمل الرسالتين، والقرائن التي تدل على ذلك: 1 - بالرغم من أن غالب كتب الأصول تتشابه في ترتيب الأبواب في الجملة إلا أن الشيخ خالف في ترتيب بعض الأبواب الإمام الجويني، فتراه أفرد بابا للمطلق والمقيد بخلاف الإمام الجويني الذي أشار إليه في نهاية العام والخاص. والإمام الجويني تكلم عن الأفعال بعد الظاهر والمؤول بينما أخرها الشيخ العثيمين إلى باب الأخبار. كما قدم الشيخ العثيمين باب الأخبار على الإجماع، بينما أخرها عنه الإمام الجويني. إلى غير ذلك من المخالفات في ترتيب بعض الأبواب. 2 - خالف الشيخُ العثيمين الإمامَ الجويني في جلِّ تعريفات الكتاب، وترجيحاته، وكذا تفاريع الأبواب. 3 - أن الشيخ وإن كان له اهتمام بالورقات إلا أنه عندما ذكر مصادره التي اعتمد عليها في تأليف هذه الرسالة لم يذكر من بينها الورقات، ولا أي شرح من شروحه، ولا أشار إليها في أي موضع من الكتاب. سبب اختياري لهذه الرسالة: وإنما وقع اختياري على رسالة الشيخ العثيمين للأسباب التالية: 1 - أن رسالة الأصول من علم الأصول قد حوت أمهات أبواب أصول الفقه، والتي يحتاج إليها المبتدئ في دراسة هذا العلم مع حسن الترتيب.

شروح الرسالة:

2 - كما سبق مرارا أن الشيخ كان حنبليا تأصيلا وتفريعا لكنه على طريقة متقدمي الحنابلة والتي يتبع فيها العالم الدليل والتي أحيا مدرستهم ابن تيمية بعد اندثارها وشيوع طريقة التقليد عند متوسطي الحنابلة، وقد انعكس مذهبه وطريقته في الترجيح على اختياراته وتعريفاته في هذه الرسالة، بمعنى أن صياغة الأصول من علم الأصول كانت حنبلية يخرج فيها الشيخ عما يراه مخالفا للأدلة، فلذلك كانت هي من أفضل ما نبدأ به لدراسة أصول الحنابلة. 3 - سهولة عبارة الشيخ ووضوحها مما يؤدى إلى سهولة الوصول للمعلومة بعيدا عن الإلغاز، والتكلفات اللغوية، التي يشتهر بها المختصرات وخاصة الأصولية. 4 - عقيدة الشيخ السلفية، وهذه قلما تجدها وخاصة عند علماء الأصول. 5 - بُعد الشيخ عن علم الكلام والمنطق الذين حشدت بهما كتب الأصول، وذلك لأنه كان يرى تحريم تعلم المنطق - رحمه الله -. 6 - ذكره للأمثلة الفقهية مع ربطها بالقواعد الأصولية، وهذا مما يساعد على تثبيت القاعدة، وحسن تصورها، وأيضا تكوين ملكة الاجتهاد والاستنباط لدى طالب العلم. شروح الرسالة: شرحها المؤلف نفسه في مجلد كبير، ويمتاز هذا الشرح بتوضيح عبارة المتن وكثرة الأمثلة. وقد توسع الشيخ - رحمه الله - في مناقشة بعض الأمثلة الفقهية، ما لم يتوسعه في مناقشة القضايا الأصولية. وقد سبرت الشرح ووقفت فيه على بعض الفوائد الأصولية التي لا توجد في الأصل ومن ذلك قوله: - إذا اجتمع مباشر ومتسبب فالضمان على المباشر إلا في حالتين: 1 - إذا كان لا يمكن تضمين المباشر كمن ألقى إنسانا لأسد فأكله. 2 - إذا كانت المباشرة مبنية على السبب كمن قتل شخصا قصاصا لشهادة الشهود ثم نكصوا واعترفوا بذلك فعليهم الضمان. (ص/240).

تراجعات وتصويبات:

- العام عمومه شمولي والمطلق عمومه بدلي (ص/251). - الاستثناء من العام متصل ومن المطلق منقطع. (ص/252 - 253). - النكرة في سياق الاستفهام الاستنكاري للعموم أما غير الإنكاري فللإطلاق (ص /254 - 255 (. - علامة (الـ) الاستغراقية أن يحل محلها كل. (ص/256). - الخاص إذا كان حكمه موافقًا للعام فإن هذا لا يسمى تخصيصًا (ص/270، 573). - (الـ) صيغة عموم وهي صيغة عموم على رأي المتعمقين في النحو، وعلى رأي المتساهلين يقولون المحلى بالـ هو صيغة العموم. (ص/307 (. - المشترك يستعمل في معانيه إذا لم يكن بينها تضاد. (ص/340). تراجعات وتصويبات: وقد تراجع الشيخ في الشرح عن بعض اختياراته في الأصل، وصوب بعض العبارات ومن ذلك: - ما قاله الشيخ في تعريف الحكم اصطلاحاً بقوله: ما اقتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع. ثم قال في الشرح (ص/39): (لو قلنا "بأعمال المكلفين"؛ لأن العمل هو الذي يشمل القول والفعل، والفعل يُؤتى به في مقابل القول بخلاف العمل. فالعمل يطلق على الفعل والقول، والقول مقابل الفعل. ففي الحقيقة لو إننا عكسنا لكان أولى). - ما قاله الشيخ في التمثيل للام الأمر بقوله تعالى: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه) [الفتح: 9]، [المجادلة: 4]. ثم قال في الشرح (ص/140): (هذه ليست آية ولكنها مثال "لام كي"، فاللام هنا " لام تعليل "، فالمثال الذي في الكتاب ليس هو الآية، فاللام في مثالنا لام الأمر). ثم فصل وذكر فروقا بين لان الأمر ولام التعليل. - ما قاله في الأصل: (ولأن نسخ أحد الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كاذبًا) ثم استدرك في الشرح (ص/401) بقوله: (ليتنا زدنا: "أو وهمًا").

شروح أخرى:

- ما رجحه في الأصل من أن قول الصحابي حجة فقال (ص/61): (الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع، وهو حجة على القول الراجح، إلا أن يخالف نصًّا أو قول صحابي آخر، فإن خالف نصًّا أخذ بالنص، وإن خالف قول صحابي آخر أخذ بالراجح منهما). وخالف ذلك في الشرح (ص/464) فقال: (والتحقيق في هذه المسألة أن يقال: أما من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن قولهم حجة فلا ريب في أنه حجة كأبي بكر وعمر، وأما من سواهما فمن كان من العلماء - علماء الصحابة المشهورين بالفقه المعروفين بالإمامة - فإن إتباعهم أولى من إتباع الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة ومالك وأشباههم، - وقال: أيضا: (فهؤلاء القول بأن قولهم حجة قول قوي جدا) -، وأما من كان دون ذلك كرجل أعرابي دخل المدينة وآمن بالرسول وعرف منه حكما، أو حكمين فإن قلنا: "قول هذا حجة" فهو قول فيه نظر قوي، وهو بعيد من الصواب ... وهذا خلاف ما مشينا عليه في الأصل). شروح أخرى: وقد اهتم العلماء وطلبة العلم بشرح هذه الرسالة وقد وقفت لها على عدة شروح، مقروءة وصوتية، ذات مشارب متفاوتة فقد تفاوتت الجهود في شرح الرسالة بين مختصر، ومطول، وملتزم بالمتن، وخارج عنه، ومن هذه الشروح شرح: - شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري وذلك في دورة عليمة سميت بدورة الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - أقيمت بدولة الكويت عام 1422 هـ، وقد قام بعض طلاب العلم بإخراجه من حيز المسموع إلى حيز المقروء، وطبع عام 1430 هـ بدار كنوز إشبيليا. - الشيخ عطاء عبد اللطيف (80) شريطا (¬1). - الشيخ أحد بن عمر الحازمي (15) شريط. - الشيخ عياض بن نامي السلمي (5) أشرطة. ¬

_ (¬1) ولم أتمكن من الوقوف على الأشرطة العشر الأخيرة، وقد وصل في الشريط السبعين حتى باب الأخبار.

- الشيخ عبد العزيز الريس (5) أشرطة. - الشيخ حامد العلي (14) شريط. - الشيخ فتحي الموصلي (36) شريط. - الشيخ سامي بن محمد الصقير (17) شريط. - الشيخ عبد الرحمن بن دخيل الله الدخيل الله. (15) شريط. - الشيخ غازي بن مرشد العتيبي (15) شريط. - الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل (11) شريط. وغيرها الكثير.

تمهيد

تمهيد قبل أن أبدأ في اختصار وشرح رسالة الأصول من علم الأصول لابد من التقدمة بين يدي ذلك بذكر بعض الجمل في الحد من: تعريفه وبيان أقسامه وشروطه ومداخل الخلل فيه، ونحو ذلك، وذلك نظرا لكثرة حاجتنا إليها عند الكلام على الحدود التي ذكرها الشيخ. الجزئيات والكليات: قال الميداني في ضوابط المعرفة (ص/30) (¬1): (تنقسم المفردات التصورية الواقعة في الذهن إلى قسمين: القسم الأول- الجزئيات. القسم الثاني: الكليّات. ولكي نعرف الجزئيات والكليات لا بد أن نعرف ما هو الجزئي وما هو الكلى أولاً، ثم ننتقل إلى بيان الكليات وأقسامها، وما يلحقها من بيان الجزئيات. أما الجزئي- فهو كل مفهوم ذهني يمتنع فرض صدقه على أكثر من فرد واحد بعينه. ويدل على الجزئي في الكلام الاسم العَلَم وما هو في قوته نحو: سعيد - خالد- صالح- فالاسم العلم موضوع لفرد بعينه، ومع تخصيص الوضع له بالفرد المعين لا يتصور الفكر جواز إطلاقه على فرد آخر مهما كان مماثلا له، لأن العَلم لم يوضع له إلا لتمييزه عن كل فرد سواه. وحينما يشترك جزئيان في اسم علم واحد فإن لكل منهما اسما خُصص له بالوضع غير اسم الأخر، فهما في الحقيقة عَلَمان لا علمٌ واحد، ولو تشابها في اللفظ، لأن من سمّاهما لم يضع في الأصل اسما واحدا إذا أطلق فُهم منه هذا أو هذا، وإنما وضع لهذا اسمه الخاص به، ولهذا اسمه الخاص به، وصادف تشابه الاسمين في اللفظ. وأما الكلي- فهو كل مفهوم ذهني لا يمنع تصوُّرُه من وقوع الشركة فيه، وإن كان لا يصدق في الواقع إلا على فرد واحد فقط، أو لا يوجد منه في الواقع أي فرد. ¬

_ (¬1) يعني وما بعدها، وهذا ديدني عند العزو بأن أقتصر على أول الصفحات، ولا أخالف ذلك إلا نادرا فلينتبه.

ويدل على الكليّ في الكلام النكرات وما كان من المعارف في قوة النكرة كالأسماء المعرفة بال التي للجنس. أمثلة الكليّ: إنسان- حيوان- نجم- طائر- شمس- قمر- خالق من العدم- معدوم- عنقاء- شريك الخالق- واجب الوجود. ... والكلى الذهني ينقسم باعتبار وجود أفراده في الخارج وعدم وجودها وباعتبار الكم والكيف إلى الأقسام التالية: الأول- كلي يستحيل عقلا وجود أي فرد من أفراده في الواقع، مثاله: (شريك الباري) سبحانه. الثاني- كلي يمكن وجود أفراد منه في الواقع الا أنه لم يوجد أي فرد منها، مثاله: (عنقاء) فهو اسم لطائر وهمي غير موجود في الواقع، ولكن لا يمنع العقل من وجود أفراد له لو وجدت، فوجودها أمر ممكن عقلا. الثالث- كلي يمكن وجود أفراد منه في الواقع إلا أنه لم يوجد منها غير فرد واحد فقط، مثاله: (شمس) و (قمر) و (إنسان) يوم لم يكن في الوجود غير آدم عليه السلام. الرابع- كلي يستحيل في العقل وجود أكثر من فرد واحد له، مثاله: (واجب الوجود) و (خالق من العدم) فإن هذا الكلي لا ينطبق إلا على الله تبارك وتعالى، ويستحيل عقلا أن ينطبق على غيره، ومتى كان الشيء مستحيلا عقلاً كان الواقع تبعا له حتما. الخامس- كلي يمكن وجود أفرادٍ منه غير متناهية العدد، ولكن لم يوجد منها الا عدد محصور، فأفراده في الواقع متناهية العدد، مثاله: (كوكب سيار) و (إِنسان) و (نجم) ونحو ذلك. السادس- كلي يمكن وجود أفراد منه في الواقع غير متناهية العدد، وقد وجد منه في الواقع أفراد غير متناهية العدد، مثاله: (علم الله تعالى) فهو غير متناهي الأفراد، و (العدد) نفسه فهو غير متناهي الأفراد أيضا .... ثم قال: خلاصة تعريفات: 1 - الكل: ما تركب من جزأين فأكثر. 2 - الكلّي: ما لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه.

الفرق بين الكل والكلي:

3 - الجزء: ما تركب منه ومن غيره كلُّ (¬1). 4 - الجزئي: ما كان معناه لا يقبل في الذهن الاشتراك). الفرق بين الكل والكلي: قال الشنقيطي في آداب البحث والمناظرة (1/ 25): وأما الفرق بين الكل والكلي فمن جهتين: الجهة الأولى: الكلي لا يمنع تعقل مدلوله من حمله على كثيرين حمل مواطأة فيجوز حمل الكلي على كل فرد من أفراده حمل مواطأة كقولك: عمرو إنسان، وخالد إنسان إلخ فالإنسان كلي وقد صح حمله على كل فرد من أفراده حمل مواطأة. وأما الكل فلا يجوز حمله على جزء من أجزائه حمل مواطأة بل حمل إضافة أو اشتقاق، فالكرسي مثلا كل مركب من خشب ومسامير، فلا يجوز أن تقول الكرسي مسمار، ولا أن تقول الكرسي خشب، ولكن يصح حمله على أجزائه بالإضافة والاشتقاق، فالإضافة كأن تقول الكرسي ذو مسامير، والاشتقاق كقولك: الكرسي مسمر، وكالشجرة فإنها كل مركب من جذوع وأغصان فلا يقال: الشجرة جذوع ولا الشجرة أغصان، وإنما يقال: الشجرة ذات جذوع وذات أغصان مثلاً. الجهة الثانية: أن الكلي يجوز تقسيمه إلى جزئياته كأن تقول: الحيوان إما إنسان وإما فرس، وإما بغل وإما حمار إلخ. بخلاف الكل فلا يجوز تقسيمه إلى أجزائه بأداة التقسيم. فلا يصح أن يقال: الكرسي إما خشب وإما مسامير - ولا أن يقال: الشجرة إما جذوع وإما أغصان، وغنما يجوز حمل الكل على أجزائه حمل مواطأة مع العطف خاصة أعني عطف بعض أجزائه على بعضها كقولك: الكرسي مسامير وخشب، والشجرة جذوع وأغصان. أقسام الكليات: قال الميداني في ضوبط لمعرفة (ص/39) وما بعدها: (وقد استقرأ علماء هذا الفن الكليات فوجدوا أنها تقع في خمسة أقسام، وهي: ¬

_ (¬1) كالمسامير بالنسبة للكرسي، وكالخشب بالنسبة إليه، وكالجذع بالنسبة للشجرة، والأغصان بالنسبة إليها.

ا- الجنس. ... 2 - النوع. ... 3 - الفصل. 4 - الخاصة. وتُسمّى أيضا (عرضا خاصّاً). 5 - العرض العام. وشرحها فيما يلي: 1 - الجنس: هو مفهوم كلي يشتمل على كل الماهية المشتركة بين متعدد مختلف في الحقيقة. مثاله: حيوان، فهو كلي يتناول الإنسان والفرس والغزال وسائر الحيوانات، وهذه الأفراد مختلفة في حقيقتها، إذ الماهية الكاملة للإنسان مخالفة للماهية الكاملة للفرس أو الغزال وإن اشتركت هذه الكليات في جزء الماهية وهي الحيوانية، ولذلك يقال على كل منها حيوان. ويعرفونه بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو؟. وهذا الاستفهام وهو (ما هو؟) يستفهم به عن الماهيات، أي عن العناصر الذاتية، لا العناصر العرضية غير الذاتية، فالعناصر الذاتية هي ما كان داخلا في حقيقة الشيء، كالحيوانية والناطقية بالنسبة إلى الإنسان، والعناصر العرضية هي ما لا يدخل في حقيقة الشيء، ولكنه من صفاته العرضية سواء كانت أعراضاً ملازمة أو مفارقة، كالمشي بالنسبة إلى الحيوان فإنه من الصفات العرضية للحيوان، وكالضحك بالنسبة إلى الإنسان فإنه من صفاته العرضية على ما يقولون. 2 - النوع: هو مفهوم كلي يشتمل على كل الماهية المشتركة بين متعدّد متفق في الحقيقة. مثاله: إنسان- فرس- غزال، فكل من هذه الأمثلة هو نوع من الأنواع التي ينقسم إليها الحيوان. ومفهوم الإنسان يشتمل على كل ماهية هذا الكلي، وهو الحيوان الناطق، ومفهوم الفرس يشتمل على كل ماهية هذا الكلي الذي هو الحيوان المعروف، وكذلك الغزال. وُيعرّفونه بأنه المقول على كثيرين متفقين بالحقيقة في جواب ما هو؟. وقد يطلق اسم النوع على بعض ما هو جنس ولكن باعتباره قسماً متميزا بالماهية عن أقسام أخرى ينقسم إليها جنسُ فوقه، مثل: الحيوان والنبات بالنسبة إلى الجسم النامي، فالجسم النامي جنس ينقسم إلى أقسام مختلفة في الحقيقة، كل قسم منها يعتبر بالنسبة إليه نوعاً من أنواعه، ثم هي أجناسٌ لما تحتها من أنواع أخرى. ويسمى هذا نوعا إضافيا لا حقيقيا، لأنه نوعٌ بالإضافة إلى جنس فوقه، وهو في

الحقيقة جنس لأنواع تحته. 3 - الفصل: هو مفهوم كلي يتناول من الماهية الجزء الذي يميز النوع عن سائر الأنواع المشاركة له في الجنس. مثاله: ناطق، فهو كلي يتناول جزء ماهية الإنسان، وهذا الجزء هو الذي يميز النوع الإنساني عن سائر الأنواع، أما الجزء الآخر من ماهيته وهو الحيوانية فهو الجزء المشترك بينه وبين سائر الأنواع (¬1). ويعرفونه بأنه كلي يقال على الشيء في جواب أي شيء هو في ذاته؟. 4 - الخاصة: مفهوم كلي هو من صفات الشيء الخارجة عن ماهيته والخاصة بها. مثالها: الضاحك إذا أطلق على الإنسان، فهو مفهوم كلي خارج عن ماهية الإنسان كما يقولون، لكنه من الصفات الخاصة بهذا النوع، فليس الضحك الذي هو ظاهرة للتعجب النفسي جزءاً من ماهية الإنسان، لكنه صفة خاصة به دون سائر الأنواع التي يتنوع إليها الحيوان، وضحك القرد قهقهة غير ناتجة عن تعجب، فليس هو كالضحك التعجبي الخاص بالإنسان. ومثال الخاصة أيضا: قابلية العلم وصنعة الكتابة بالنسبة إلى الإنسان. ويعرفونها بأنها كلية تقالُ على ما تحت حقيقة واحدة فقط قولاً عرضيّا. 5 - العرض العام: مفهوم كلي هو من صفات الشيء الخارجة عن ماهيته وغير الخاصة بها. مثاله: الماشي، إذا أطلق هذا المفهوم على الإنسان، فهو مفهوم كليّ خارجٌ عن ماهية الإنسان، وهو من الصفات التي تعرض له، إلا أن هذه الصفة غير خاصة بهذا النوع، بل هي مشتركة بينه وبين غيره من أنواع الحيوان. ويعرّفونه بأنه كلي يقالُ على ما تحت حقائق مختلفة قولاً عرَضياً. وكل من الخاصة والعرض العام ينقسم إلى قسمين: أ- فإمّا أن يكون عرضاً لازماً، وهو ما لا ينفك عن الماهية. ب- وإما أن يكون عرضا مفارقا، وهو ما يقبل الانفكاك عن الماهية ... ¬

_ (¬1) قال الشنقيطي (ص/35): (وأعلم أن الفصل إنما سمي فصلا لأنه يفصل بين الأنواع المشتركة في الصفات فالإنسان والفرس مثلا يشتركان في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية ـ فالناطق يفصل الإنسان عن الفرس المشارك له فيما ذكر والصاهل يفصل الفرس عن الإنسان كذلك).

خلاصة تعريفات:

هذه هي الكليات الخمس، وإذا نظرنا في مختلف الأجناس والأنواع وجدنا أن كل جنس ينقسم إلى أنواع مختلفة في الحقيقة، وأن الجنس قد يكون نوعا لجنس أعلى منه، وأن النوع قد يكون جنسا لأنواع تحته، فهو بالإضافة إلى ما فوقه نوع، وبالإضافة إلى ما تحته جنس، ونتدرج نزولا حتى نصل إلى أسفل الأنواع، وهو النوع الذي لا يكون جنساً لأنواع تحته، وهذا يسمى نوع الأنواع، ونتدرج صعودا حتى نصل إلى أعلى الأجناس، وهو الجنس الذي ليس فوقه جنس آخر، ويُسمى جنس الأجناس، وما بينهما متوسطاتٌ، كل واحد منها جنس لما تحته نوعٌ مما فوقه، ئم إن كل جنس عالٍ هو جنس قريب لما تحته مباشرة، وهو جنس بعيد لما دون ذلك، والبُعدُ قد يكون بمرتبة أو أكثر، وكل فصل لنوع عالٍ هو فصل بعيد لنوع دونه، لأنه يميزه عن جنس أعلى منهما نوع تمييز. خلاصة تعريفات: 1 - الكلّي: هو الذي لا يمنع نفس تصوّر مفهومه من وقوع الشركة فيه. 2 - الجنس: هو المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو؟. 3 - النوع: هو المقول على كثيرين متفقين بالحقيقة في جواب ما هو؟. 4 - الفصل: كلى يقال على الشيء في جواب: أيُّ شيء هو في ذاته؟. 5 - الخاصة: كلي مقول على أفراد حقيقة واحدة قولا عرضيا. 6 - العرض العام: كلي مقول على أفراد حقائق مختلفة قولاً عرضيّا). قال الشنقيطي (ص/35): (وأعلم أن الجنس والفصل عندهم ذاتيان بلا خلاف، والخاصية والعرض العام عرضيان عندهم بلا خلاف، والنوع فيه ثلاثة مذاهب: أحدها أنه ذاتي: بناء على أن كل ما ليس بخارج عن الذات فهو ذاتي. الثاني - أنه عرضي بناء على أن كل ما لم يدخل في الذات فهو عرضي. الثالث - وهو أقربها إلى الواقع، أنه ليس بذاتي ولا عرضي لأنه تمام الماهية، فليس جزء منها حتى يكون داخلا ومعلوم أن تمام الماهية لا يمكن خروجه عنها حتى يكون عرضياً).

تعريف الحد:

تعريف الحد: الحد لغة: المنع، وسميت الحدود حدودا لأنها تمنع من العود إلى المعصية. وسمي التعريف حدا لأنه يمنع غير أفراد المعرف من الدخول، ويمنع أفراد المعرف من الخروج. الحد اصطلاحا هو: الوصف المحيط بموصوفه المميز له عن غيره. فائدة - شروط المعرف: قال الأخضري في شرحه على السلم: (اعلم أنه يشترط في كل واحد من المعرفات: ـ أن يكون جامعاً لأفراد المحدود وهو معنى مطرداً، ـ ومانعاً من دخول غيره في الحد وهو معنى منعكساً، هذا معناه عند القرافي (¬1). وقال الغزالي وابن الحاجب المطرد المانع والمنعكس الجامع وهو الجاري على ألسنة الفقهاء. ¬

_ (¬1) وهذا الاصطلاح هو الذي سوف نسير عليه في تعريفاتنا. قال الشيخ العثيمين في شرح البيقونية: ومعنى (حدَّه) أي تعريفه، والحدُّ: هو التعريف بالشيء. ويشترط في الحد أن يكون مطرد: أي يستوعب كل ما في الشيء، وأن يكون منعكساً: يعني لا يستوعب ما خارج الشيء، يعني أن الحدّ يُشترط ألا يخرج عنه شيء من المحدود، وألا يدخل فيه شيء من غير المحدود. فمثلاً: إذا حددنا الإنسان كما يقولون: أنه حيوانٌ ناطق، وهذا الحدُّ يقولون: إنه مطرد، ومنعكس. فقولنا: (حيوانٌ) خرج به ما ليس بحيوان كالجماد. هكذا منعكس. وقولنا: (ناطق) خرج به ما ليس بناطق كالبهيم، منعكس أيضا، فهذا الحد الآن تام لا يدخل فيه شيء من غير المحدود ولا يخرج منه شيء من المحدود. ولو قلنا: إن الإنسان حيوان فقط؛ فهذا لا يصح! لماذا؟ لأنه يدخل فيه ما ليس منه، فإننا إذا قلنا إن الإنسان حيوانٌ لدخل فيه البهيم والناطق. وإذا قلنا: إن الإنسان حيوانٌ ناطق عاقل، فهذا لا يصح أيضاً؛ لأنه يخرج منه بعض أفراد المحدود وهو المجنون. مطرد: يعني ادخل الإنسان سواء كان عاقل أو غير عاقل. إذاً فلابد في الحد أن يكون مطرداً منعكساً.

أقسام الحد:

ـ وأن يكون أظهر من المحدود (¬1) لا أخفى منه ولا مساوياً له؛ فالخفي كقولنا ما هو البر فتقول الحنطة، والمساوي كقولنا المتحرك ما ليس بساكن. ـ ويجتنب فيها أيضاً الألفاظ الغريبة والمشتركة (¬2) والمجازية (¬3) وكل ما فيه إجمال؛ قال الغزالي إلا إذا كانت قرينة تدل على تفصيله فيجوز. ـ ولا يجوز أيضا بما تتوقف معرفته على معرفة المحدود للزوم الدور؛ قالوا كالعلم لا يقال فيه معرفة المعلوم لأن المعلوم مشتق من العلم، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه، فمعرفة المعلوم إذن تتوقف على معرفة على معرفة العلم، والعلم على معرفة المعلوم فجاء الدور ... ـ ويجتنب أيضا في الحدود دخول الحكم لأن التصديق فرع التصور، والتصور فرع الحد فيلزم الدور. ـ ولا يجوز أيضاً دخول "أو" في الحقيقي، قال الأصبهاني لئلا يلزم أن يكون للنوع الواحد فصلان على البدل وذلك محال، وأما في الرسم فجائز (¬4).) أقسام الحد: ينقسم الحد إلى: حد حقيقي، ورسمي، ولفظي، وتعريف بالمثال، وبالتقسيم. الحد (الحقيقي) قوله: (فالحقيقي هو القول الدال على ماهية الشيء. والماهية ما يصلح جوابا للسؤال بصيغة "ما هو"). قال الغزالي في المستصفى (1/ 13): (إن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين ¬

_ (¬1) كتعريف الغضنفر بأنه الأسد أو العقار بأنه الخمر. (¬2) كتعريف الشمس بأنها عين، ولكن مع القرينة المبينة يجوز فتقول: عين تضيء جميع آفاق الدنيا. (¬3) كتعريف البليد بأنه حمار، ولكن يجوز مع القرينة كقولك: حمار يكتب. (¬4) الرسوم - كمَا سَيَأْتِي إن شَاء الله - فِيها التَّعْرِيف بالخاص والشَّيْء الَوَاحِد يشمل عَلَى خَوَاصّ كَثِير عكس الْحَدّود فأَنها لَا تَكُون الَا بالجنس والْفَصْل. مثالَه تقَوْل مَا الَانسان؟ بالْحَدّ تقَوْل: حَيَوَان ناطق مَن غَيْر (أو) التشككية. وبالرسم تقَوْل: حَيَوَان ضاحك أو قابَل للتعلَم أو الْكِتَابَة أو. . الخ

الصفات الذاتية واللازمة والعرضية وذلك غامض فلا بد من بيانه فنقول: المعنى إذا نسب إلى المعنى الذي يمكن وصفه به وجد بالإضافة إلى الموصوف إما ذاتيا له ويسمى صفة نفس، وإما لازما ويسمى تابعا، وإما عارضا لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود، ولا بد من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في الحد والبرهان جميعا. أما الذاتي فإني أعني به كل داخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه وذلك كاللونية للسواد والجسمية للفرس والشجر فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل لو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية وكذا الفرس ولو قدر خروجها عن الذهن لبطل فهم الشجر والفرس من الذهن وما يجري هذا المجرى فلا بد من إدراجه في حد الشيء فمن يحد النبات يلزمه أن يقول جسم نام لا محالة. وأما اللازم فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له وأعني به أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له إذ الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه وإن لم يخطر بباله ذلك وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا يتصور مفارقته له ولكن فهم الأرض غير موقوف على فهم كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان فإنا نعلم أولا حقيقة الجسم ثم نطلب بالبرهان كونه مخلوقا ولا يمكننا أن نعلم الأرض والسماء ما لم نعلم الجسم. وأما العارض فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل يتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب وزرقة العين وسواد الزنجي وربما لا يزول في الوجود كزرقة العين ولكن يمكن رفعه في الوهم وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا ظل مانع نور الشمس فإنه ملازم لا تتصور مفارقته ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة

المفارقة (¬1) واستقصاء ذلك في هذه المقدمة التي هي كالعلاوة على هذا العلم غير ممكن وقد استقصيناه في كتاب معيار العلم فإذا فهمت الفرق بين الذاتي واللازم فلا ¬

_ (¬1) قال الشنقيطي في آداب البحث والمناظرة (1/ 36): (تنبيه: لا يخفى أنا ذكرنا في الأمثلة الماضية أن الناطق فصل وأنه مميز ذاتي وأنه جزء الماهية الداخل فيها الصادقَ عليها صدقاً ذاتياً وأنا ذكرنا أن الضاحك والكاتب مثلا خاصتان وأنهما عرضيان خارجان عن الماهية وليس واحد منهما جزءاً منها ولا داخلا فيها فقد يقول السامع، ما حقيقة الفرق بين الناطق والضاحك حتى صار أحدهما جزءاً من الماهية عندهم والثاني خارجاً عنها. والجواب أن لهم أجوبة متعددة كثير منها ليس فيه مقنع، وأقربها عند الذهن ثلاثة: الأول: أن الذاتي هو المعروف عند المتكلمين بالصفة النفسية وضابطه أنه لا يمكن إدراك حقيقة الماهية بدونه والعرضي يمكن إدراكها بدونه. الثاني: أن الذاتي لا يعلل والعرضي يعلل. الثالث: أن الذاتي هو الذي لا تبقى الذات مع توهم رفعه، والعرضي بخلافه وإيضاح الفوارق الثلاثة بالأمثلة كما سيأتي: كون الذات لا تعقل بدون الناطق، ولكن تعقل بدون الضاحك والكاتب فقد قالوا لو فرضنا أن عاقلا من العقلاء لم ير الإِنسان ولم يتصوره بحال فسأل عنه من يعرفه فإن عرفه له بأنه جسم دخل في التعريف (الحجر) مثلا فإن زاد في التعريف أنه (نام) دخل النبات والشجر. فإن زاد أنه (حساس) دخل الفرس مثلا. فإن زاد أنه (ناطق) مثلا انفصل عن غيره وتميز عن كل ما سواه. والنطق: في الاصطلاح عند المنطقيين (القوة العاقلة المفكرة التي يقتدر بها على إدراك العلوم والآراء) وليس المراد به عندهم الكلام. وإن قال هو منتصب القامة يمشى على اثنتين دخل الطير فإن زاد (لا ريش له) دخل منتوف الريش من الطيور وساقطه. فإن زاد أنه (ناطق) حصل التمييز والإِدراك. فإن قيل كذلك يحصل التمييز والإِدراك فيما لو قال: (أنه ضاحك). أو كاتب لأنه لا يشاركه غيره في الضحك والكتابة. فالجواب: أن يقولون الضحك حالة تعرض عند التعجب من أمر بعد أن تتفكر فيه القوة الناطقة والكتابة نقوش على هيئات ومقادير معلومة لا تحصل بتفكير القوة الناطقة، فظهر أن الضحك والكتابة فرعان عن النطق لا يوجدان إلا تبعاً له. ولا يعقلان إلا تبعاً له فلم تعقل حقيقة الإِنسان دون النطق، بخلاف الضحك، والكتابة، فإن الحقيقة تعقل بدونهما كذا قالوا. وأما الفرق الثاني: الذي هو كون الذاتي لا يعلل، والعرضي يعلل، فواضح فإنك لا تقول: لم كان الإِنسان ذا قوة مفكرة يقتدر بها على إدراك العلوم والآراء تعني النطق ولكن إذا رأيته يضحك أو يكتب شيئاً فإنك قد تقول له ما هو السبب الذي أضحكك وما هو السبب الذي حملك على كتابة هذا الذي كتبت. وأما الفرق الثالث: الذي هو أن الذاتي لا تبقى الذات مع توهم رفعه أي عدمه فواضح. لأنك لو فرضت خلو حيوان من القوة العاقلة المفكرة التي يقتدر بها على إدراك العلوم والآراء لا يمكن أن يكون ذلك الحيوان إنساناً. ولا يرد على ذلك المعتوه الذي لا عقل له. والمجنون الفاقد العقل بالكلية لأن المراد بكونه ناطقاً أن ذلك هو طبيعته وجبلته التي جبل عليها. ولو زالت عن بعض الأفراد لسبب خاص. فبهذه الفوارق الثلاثة تعرف الفرق بين الذاتي والعرضي.).

الحد الحقيقي ينقسم إلى تام وناقص:

تورد في الحد الحقيقي إلا الذاتيات وينبغي أن تورد جميع الذاتيات حتى يتصور بها كنه حقيقة الشيء وماهيته وأعني بالماهية ما يصلح أن يقال في جواب ما هو فإن القائل ما هو يطلب حقيقة الشيء فلا يدخل في جوابه إلا الذاتي). الحد الحقيقي ينقسم إلى تام وناقص: قال الميداني في ضوابط المعرفة (ص/63): (الحد التام: وهو ما كان تعريفا للشيء بذكر تمام ذاتياته، أي: بذكر جنسه وفصله (¬1) القريبين، أو بما هو مماثل لهما ... الأمثلة: أ- كتعريف الإنسان بأنه حيوانٌ ناطق (أي مفكر مدرك للكليات والجزئيات) فالإنسان نوع نريد أن نعرفه بقول يشرح حقيقته، وحقيقته تشتمل على عنصرين ذاتيين فيه هما: ¬

_ (¬1) قال النملة: والفصل يتنوع إلى نوعين: النوع الأول: الفصل القريب وهو: المميز للماهية عن مشاركتها في الجنس القريب، وذلك مثل (الناطق، للإنسان، فإن ذلك يميزه عما يشاركه في الحيوان وهو جنسه القريب. النوع الثاني: الفصل البعيد، وهو: المميز للشيء عما يشاركه في الجنس البعيد مثل: "الحساس"، للإنسان فإن ذلك يميزه عن مشاركاته في الجسم النامي، وهو جنس بعيد للإنسان.

العنصر الأول: جنسه القريب، وجنسه القريب هو الحيوان، أما النامي فهو جنس له بعيد وليس بقريب، وأما الجسم فهو جنس له أبعد بدرجتين، وكلما ابتعدنا فإننا نبتعد عن ذكر تمام ذاتياته في حدود هذا العنصر. العنصر الثاني: فصله القريب، وفصله القريب هو (ناطق). وباشتراط الفصل القريب يخرج الفصل البعيد له، كحسّاس، فإن (حسّاس) فصلٌ بعيد للإنسان وليس بقريب، إذ هو فصلٌ لجنسه وهو الحيوان، فإذا ذكر في تعريفه فصله البعيد فإنه لا يميزه عن سائر الحيوانات، وإنما يميزه فقط عن الجماد والنبات، لذلك فلا بد من ذكر فصله القريب، حتى يُميّزه تمام تمييز، وبذكر الجنس والفصل القريبين يكون التعريف بتمام ماهية الشيء، أي بتمام ذاتياته. ب- وكتعريف الإنسان بأنه جسم نامٍ حساس متفكر بالقوة مدرك للكليات والجزئيات. فقولنا: (جسم نام حساس) هو مثل قولنا (حيوان) وهو تفصيل له، فهو في قوة الجنس القريب، وقولنا: (متفكر بالقوة مدرك للكليات والجزئيات) هو بيان وتفصيل لمعنى (ناطق) ومماثل له فهو في قوة الفصل القريب، بل هو بعبارة مفصلة. الحد الناقص: وهو ما كان تعريفا للشيء بذكر البعض الذي يفصله عن غيره من ذاتياته. ويكون ذلك بذكر فصله القريب فقط، أو بذكر فصله القريب مع جنسه البعيد، أو بما هو مماثل لذلك. الأمثلة: أ- كتعريف الإنسان بأنه (الناطق) أو (المتفكر بالقوة المدرك للكليات والجزئيات). فهذا هو الفصل القريب للإنسان، أو مماثل له وفي قوته كما سبق. ب- وكتعريف الإنسان بأنه (نام ناطق) أو (جسم ناطق) فهذان تعريفان للإنسان بفصله القريب وجنسه البعيد، إلا أن الجسم جنس أبعد من نام لأنه أعلى منه).

شروط الحد الحقيقي:

شروط الحد الحقيقي: قال الغزالي في "المستصفى" (1/ 15): (إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحده حدا حقيقيا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقيا إلا بها فإن تركتها سميناه رسميا أو لفظيا ويخرج عن كونه معربا عن حقيقة الشيء ومصورا لكنّه معناه في النفس. الأولى أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول فإذا قال لك مشيرا إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد أن تقول جسم لكن لو اقتصرت عليه لبطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز به عما لا ينمو فهذا الاحتراز يسمى فصلا أي فصلت به المحدود عن غيره. الثانية أن تذكر جميع ذاتياته وإن كانت ألفا ولا تبالي بالتطويل لكن ينبغي أن تقدم الأعم على الأخص فلا تقول نام جسم بل بالعكس وهذه لو تركتها لتشوش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ فالإنكار عليك في هذا أقل مما في الأول وهو أن تقتصر على الجسم. الثالثة إنك إذا وجدت الجنس القريب فلا تذكر البعيد معه فتكون مكررا كما تقول مائع شراب أو تقتصر على البعيد فتكون مبعدا كما تقول في حد الخمر جسم مسكر مأخوذ من العنب وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذاتي ومطرد ومنعكس لكنه مختل قاصر عن تصوير كنَه حقيقة الخمر بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم وهو أيضا ضعيف بل ينبغي أن تقول شراب مسكر فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنسا أخص منه فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل إذ الشراب يتناول سائر الأشربة فاجتهد أن تفصل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك ذلك وهو كذلك عسير في أكثر الحدود فاعدل بعد ذكر الجنس إلى اللوازم (¬1) واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة فإن الخفي لا يعرف كما إذا قيل ما الأسد فقلت سبع أبخر ليتميز بالبخر عن الكلب فإن البخر من خواص الأسد لكنه خفي ولو قلت سبع شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض أقرب إلى المقصود لأنها أجلى وأكثر ما ترى ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة في الروضة (1/ 37): وينبغي أن يفصل بالذاتيات ليكون الحد حقيقيا، فإن عسر ذلك عليك فاعدل إلى اللوازم لكي يصير رسميا.

في الكتب من الحدود رسمية إذ الحقيقية عسرة جدا وقد يسهل درك بعض الذاتيات ويعسر بعضها فإن درك جميع الذاتيات حتى لا يشذ واحد منها عسر والتمييز بين الذاتي واللازم عسر ورعاية الترتيب حتى لا يبتدأ بالأخص قبل الأعم عسر وطلب الجنس الأقرب عسر فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع فتجمع أنواعا من العسر وأحسن الرسميات ما وضع فيه الجنس الأقرب وتمم بالخواص المشهورة المعروفة. الرابعة أن تحترز من الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض واذكر مرادك للسائل فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة للإنباء عنه ولو طول مطول واستعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات فإنه المقصود وهذه المزايا تحسينات وتزيينات كالأبازير من الطعام المقصود وإنما المتحذلقون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود الأصلي إلى الوسائل والرسوم والتوابع ... ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر من حيث إن لفظ العين مشترك بين الميزان والشمس والعضو الباصر لأن قرينة الحاسة أذهبت عنه الاحتمال وحصل التفهيم الذي هو مطلوب السؤال واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المرتسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها). قال الميداني في "ضوابط المعرفة" (ص/65): 3 - الرسم التامّ. ... 4 - الرسم الناقص. وسمي رسماً لأن الرسم في اللغة الأثر (¬1)، والخاصة أثر من آثار الحقيقة التي تدل عليها وتميّزها عن غيرها. ¬

_ (¬1) قال الرازي في مختار الصحاح مادة (ر س سم): الرسم الأثر ورسم الدار ما كان من آثارها لاصقا بالأرض.

3 - الرسم التام: هو ما كان تعريفا للشيء بذكر جنسه القريب مع خاصته اللازمة الشاملة، أي: مع ذكر عرضه اللازم لكل ما صدقاته (¬1) والخاص به، أو ما هو مماثل لذلك وفي قوته. فلا يصح التعريف بالعرض العام، مثل (الماشي) بالنسبة إلى الإنسان، فهو عرض ليس خاصا بالإنسان بل هو عام فيه وفي غيره من الحيوانات. ولا يصحّ التعريف بالخاصة المفارقة غير اللازمة، مثل (الضاحك بالفعل) بالنسبة إلى الإنسان، فالضحك بالفعل من خواص الإنسان المفارفة لا اللازمة، إذ قد يكون بالفعل غير ضاحك بخلاف (الضاحك بالقوة)، فهي خاصة لازمة. ولا يصح التعريف بالخاصة غير الشاملة، مثل (الكاتب) بالنسبة إلى الإنسان، وذلك لأن بعض الناس غير كاتب. الأمثلة: أ- كتعريف الإنسان بأنه (الحيوان الضاحك بالقوة) أو بأنه (الجسم النامي الحساس الضاحك بالقوة)، فالحيوان ويماثله الجسم النامي الحسّاس هو الجنس القريب للإنسان، والضاحك بالقوة هو خاصة من خواص الإنسان اللازمة له والشاملة لأفراده. ب- وكتعريف الحيوان بأنه (نام آكل) فالنامي هو الجنس القريب للحيوان، والآكل هو خاصة من خواصه اللازمة له الشاملة لأفراده. 4 - الرسم الناقص: هو ما كان تعريفا للشيء بذكر خاصته اللازمة الشاملة وحْدَها، أو مع جنسه البعيد، أو مع عرضه العامّ، أو بذكر عرضياب له تختص جملتها بحقيقته. ¬

_ (¬1) لفظ (الماصدق) أسم صناعي مأخوذ في الأصل من كلمة (ما) الاستفهامية أو الموصولية، وكلمة (صدق) التي هي فعل ماضٍ من الصدق. إذ كأن يقال مثلا: على ماذا صدق هذا اللفظ؟ فيقال في الجواب: صدق على كذا أو كذا، فاشتقوا من ذلك أو نحتوا كلمة (ماصدق) وعرّفوها بأل التعريف فصاروا يقولون: (الماصدق) ويقصدون به الفرد أو الأفراد التي ينطبق عليها اللفظ إذ يتحقق فيها مفهومه الذهني. فاللفظ الجزئي يثير في الذهن الصورة والصفات التي نعرفها عما يدل عليه هذا اللفظ، مثل: (مكة- نهر الفرات- عمر بن الخطاب) هذا هو مفهوم اللفظ، أما ماصدقه فهو مكة البلد الحرام نفسه، ونهر الفرات ذاته، وعمر بن الخطاب عينه. انظر ضوابط المعرفة (ص/45 - 46).

الأمثلة: أ- كتعريف الإنسان بأنه (الضاحك بالقوة) أو (القابل للعلم وصنعة الكتابة) فكل منها بالنسبة إلى الإنسان من خواصه اللازمة الشاملة لكل أفراده. ب- وكتعريف الإنسان بأنه (جسم ضاحكٌ بالقوة) فالجسم جنس بعيد للإنسان، وضاحك بالقوة خاصة لازمة شاملة من خواصه. ج- وكتعريف الإنسان بأنه (ماش على قدميه عريض الأظفار بادي البشرة ضحّاك بالطبع) فكل هذه عرضيات تختصُّ جملتها بحقيقة نوع الإنسان. 5 - التعريف اللفظي: وهو تعريف اللفظ بلفظ آخر مرادف له معلوم عند المخاطب، ومرادفُ الشيء هو في الحقيقة خاصة من خواصه. الأمثلة: أ- كتعريف البر بأنه (القمح). ب- وكتعريف القسورة بأنه (الأسد). ج- وكتعريف القُرء بأنه لفظ مشترك بين الحيض والطهر. 6 - التعريف بالمثال: وهو تعريف الشيء بذكر مثال من أمثلته، ومثالُ الشيء هو في الحقيقة خاصة من خواصه. الأمثلة: أ- كتعريف الاسم بأنه ما أشبه لفظ زيد ورجل والذي. ب- وكتعريف الفعل بأنه ما أشبه لفظ سَمِعَ ويقول وخُذْ. 7 - التعريف بالتقسيم: وهو تعريف الشيء بذكر الأقسام التي ينقسم إليها، ومعلوم أن أقسام الشيء خاصة من خواصه. الأمثلة: أ- كتعريف الكلمة بأنها اسم وفعل وحرف. ب- وكتعريف العدد بأنه زوج وفرد.

مداخل الخلل في الحدود:

مداخل الخلل في الحدود: قال الغزالي في محك النظر: (في حصر مداخل الخلل في الحدود: وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما. إما الخلل في الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في حد العشق أنه إفراط المحبة، وينبغي أن يقال المحبة المفرطة، فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة. ومن ذلك إن يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولك حد الكرسي أنه خشب يجلس عليه، والسيف أنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة صناعية من حديد مستطيلة مع تقوس ويقطع بها كذا، فالآلة جنس والحديد محل للصورة لا جنس، وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان والآن ليس بموجود، كقولك الرماد خشب محترق والولد نطفة مستحيلة، فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد. ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقدر حد العشرة أنها خمسة وخمسة، ومن ذلك أن يوضع القوة موضع الملكة (¬1) كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب الشهوات واللذات وهو فاسد، بل هو الذي يترك، وإلا فالفاسق أيضاً يقوى على الترك والاجتناب ولا ترك. ومن ذلك أن توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشره. وأما من جهة الفصل فبأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدلاً عن الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول. وأما القوانين المشتركة فمن ذلك أن تحد الشيء بما هو مساو له في الخفاء أو فرع له، كقولك العلم ما يعلم به أو العلم ما تكون الذات به عالمة. ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فنقول حد العلم ما ليس بظن، ولا شك ولا جهل، وهكذا حتى تحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد فيدور الأمر ولا يحصل به بيان، ومن ذا أن يوجد المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة، كقول القائل حد الأب من له ابن، ثم لا يعجز أن يقول وحد الابن ما له أب ¬

_ (¬1) ولفظه في المستصفى: أن توضع القدرة موضع المقدور.

بل ينبغي أن يقول الأب حيوان يولد من نطفته حيوان هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك، ولا يحيله على الابن، فإنهما في الجهل والمعرفة يتساويان. ومن ذلك أن يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحدّ المعلول إلا بان تدخل العلة في حدّه، كمن يقول حدّ الشمس أنه كوكب يطلع نهاراً فيقال وما حدّ النهار فيلزم أن يقول النهار هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر يكثر إحصاؤها).

أصول الفقه

أصُولُ الفِقْه تعريف الأصول لغة: قال الشيخ: (الأصول: جمع أصل وهو ما يبني عليه غيره). بدأ الماتن - رحمه الله - في تعريف أصول الفقه باعتبار مفرديه أي كلمة أصول وكلمة فقه، وذلك لأن معرفة المركب إنما تتأتى من معرفة أفراده، فبدأ بتعريف المضاف وهي كلمة أصول فقال: (الأصول: جمع أصل وهو ما يبني عليه غيره) ومثَّل لها - رحمه الله - بأصل الجدار وهو أساسه، وأصل الشجرة الذي يتفرع منه أغصانها. وهذا التعريف قاله القاضي، وأبو الخطاب، وابن عقيل من الحنابلة إلا أنه غير جامع فكما هو مقرر في علم المنطق أن من شروط الحد أو التعريف أنه يكون جامعا مانعا. بيان أن هذا التعريف لكلمة أصل غير جامع: نلاحظ أن الوالد أصل للولد، ولا يقال: إن الولد ينبني على الوالد. قال المرداوي في التحبير (1/ 147): (اختلفت عباراتهم في الأصل في اللغة، فقيل: هو ما ينبني عليه غيره، {قاله القاضي، وأبو الخطاب، وابن عقيل}، وأبو الحسين البصري في شرح العمدة '، وأبو إسحاق الشيرازي، {والأكثر} وقيل: ما يتفرع عنه غيره. وقال بعضهم: (هذه العبارة أحسن من قول أبي الحسين: ' ما ينبني عليه غيره '؛ لأنه لا يقال: إن الولد ينبني على الوالد، ويقال: إنه فرعه) (¬1). وقال الزركشي في البحر المحيط (1/ 10): (وقال أبو الحسين ما يبني عليه غيره وتبعه ابن الحاجب في باب القياس ورد بأنه لا يقال إن الولد يبنى على الوالد بل يقال فرعه). وعليه فالأولى أن يعرف الأصل لغة بأنه: (ما يتفرع عنه غيره) فيصح أن يقال: الولد فرع عن الوالد. ¬

_ (¬1) انظر أيضا الإبهاج (1/ 20).

وتعقب أيضا هذا التعريف بأن من أصول الشرع ما هو عقيم لا يقبل الفرع قال السمعاني في "قواطع الأدلة" (1/ 21): (ويقال في حد الأصل ما ابتنى عليه غيره والفرع ما ابتنى على غيره. وقيل الأصل ما يقع التوصل به إلى معرفة ما وراءه، والعبارتان مدخولتان؛ لأن من أصول الشرع ما هو عقيم لا يقبل الفرع، ولا يقع به التوصل إلى ما وراءه بحال مثل: ما ورد به الشرع من دية الجنين والقسامة (¬1) وتحمل العقل (¬2) فهذه أصول ليست لها فروع، فالأولى أن يقال: إن الأصل: كل ما يثبت دليلا في إيجاد حكم من أحكام الدين. وإذا حد هذا فيتناول ما جلب فرعا، أو لم يجلبه) ونقله عنه الزركشي في البحر المحيط (1/ 11) فقال: (كل ما ثبت دليلا في إيجاب حكم من الأحكام) فعممه، وهو أولى طالما أننا نتكلم عن التعريف اللغوي. ولما كان الأصل يستعمل في الاصطلاح بمعنى الدليل، وبمعنى القاعدة، والراجح، وغير ذلك كان الأصل كالجنس والدليل كأحد أنواعه، وعليه فتعريف الأصل بالدليل فيه نوع دور، والأولى عندي في تعريف الأصل لغة أنه: (ما كان سببا في إيجاد حكم من الأحكام)، والأحكام هنا عامة تشمل الأحكام الشرعية، والعادية، والعقلية. ويدخل في هذا التعريف ما له فرع، كالشجرة فهي أصل لفروعها؛ لأنها سببا في إيجادها، وكالأب فهو أصل لابنه؛ لأنه كان سببا في إيجاده. ¬

_ (¬1) بالفتح الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم، مع أنهم لم يشاهدوا، ولها شروط ليس هذا محل الكلام عليها، ولهذا فالقسامة أصل في الشرع مستقل بنفسه. وورد فيها الحديث الذي رواه البخاري عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال (كبر كبر). وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال (تحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم). قالوا وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال (فتبرئكم يهود بخمسين). فقالوا كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده). (¬2) أي أداء دية القتيل، والعاقلة وهم العصبة وهم القرابة من قبل الأب الذين يشتركون في دفع ديته.

تعريف الفقه

ويشمل أيضا ما ليس له فرع، كالقسامة فهي أصل للأيمان التي تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم، وذلك لأنها سبب في إيجاد الأيمان. ويدخل فيه ما يبنى عليه غيره، كالأساس فهو أصل للجدار؛ لأنه كان سببا في إيجاده. ويدخل فيه ما لا يبني عليه غيره، كالأب أصل لابنه، ولا يقال: إن الولد يبنى على الوالد، والوالد سبب في إيجاد ابنه، وهكذا. تعريف الفقه لغة: ثم ثنى الشيخ بتعريف المضاف إليه وهو كلمة (الفقه) فعرفه بقوله: (والفقه لغة: الفهم). وتعريف الفقه لغة بالفهم هو قول الأكثر، وقد عرض المرداوي لذكر الأقوال في تعريف الفقه لغة وصل بها إلى سبعة أقوال، وهي: الفهم، والعلم، والفهم والعلم، ومعرفة قصد المتكلم، وكل ما تقدم، وفهم ما يدق، والتوصل إلى علم غائب بعلم شاهد. وقد نسب هذه الأقوال ومثل لها، وكلامه لا يخلو من فائدة وإليك نصه: قال في "التحبير" (1/ 153): (قوله: {الفقه لغة: الفهم، عند الأكثر}. الفقه: مصدر فقه، يقال: فقه بكسر القاف وضمها وفتحها. فالأول لمطلق الفهم، والثاني إذا كان له سجية، والثالث إذا ظهر على غيره، قاله القرافي وجماعة. قال في ' القاموس ': (فقه ككرم وفرح فهو فقيه، وفقه كندس)، وقال في ' المصباح المنير ': (الفقه: فهم الشيء)، قال ابن فارس: (وكل علم بشيء فهو فقه). والفقه على لسان حملة الشرع: علم خاص. وفقه فقهاً من باب تعب: إذا علم، وفقه - بالضم - مثله، وقيل: الضم: إذا صار الفقه له سجية. قال أبو زيد: ' رجل فقه - بضم القاف وكسرها -، وامرأة فقهة بالضم '.) انتهى. إذا علم ذلك؛ فله معنيان: معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح. فأما معناه في اللغة فاختلفوا في تفسيره على أقوال: أحدها: أنه الفهم، قاله الأكثر؛ لأن العلم يكون عنه، قال الطوفي: (ومما يدل

على تغايرهما؛ أن الفقه يتعلق بالمعاني دون الأعيان، والعلم يتعلق بهما، فيصح أن يقال: علمت معنى كلامك وفهمته). قال الجوهري: (الفقه لغة: الفهم). قال أبو الفرج في ' الإيضاح ': (يقال في اللغة: فلان فقيه، أي: فهم، وفلان يفقه عني ما أقول، أي: يفهم عني ما أقول، وقد قال الله تعالى: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء: 78]، (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44]، (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) [هود: 91]، أي: لا يكادون يفهمون، ولكن لا تفهمون، وما نفهم كثيراً مما تقول، ونحوه قوله: {وهو إدراك معنى الكلام}. يعني: معنى الفهم: إدراك معنى الكلام، زاد ابن عقيل في ' الواضح ': (بسرعة)، ولا حاجة إليها؛ لأن من يفهم بعد حين يقال: فهم. قال القطب الشيرازي - أي: في ' شرح المختصر ' -: (المراد بالفهم الدرك لا جودة الذهن من جهة تهيئه لاقتناص ما يرد عليه من المطالب. والذهن: قوة النفس المستعدة لاكتساب الحدود والآراء). والثاني قاله القاضي في ' العدة '، وابن فارس في ' المجمل '، وأبو المعالي في ' التخليص '، والكيا، والقشيري، والماوردي وغيرهم، وحكي عن الأصحاب: العلم. لم أعلم من أين نقلت أن هذا القول حكي عن الأصحاب الآن. قال ابن فارس في ' المجمل ': (الفقه العلم، وكل علم بشيء فهو فقه). والثالث قاله ابن الصيقل، وصاحب ' روضة فقهنا '، والغزالي، والآمدي: هما، أي: الفقه لغة: الفهم والعلم. قال في ' القاموس ': (الفقه بالكسر العلم بالشيء والفهم)،ولم يحك خلافاً. يقال: فلان يفقه الخير والشر، ويفقه كلام فلان، أي: يفهمه ويعلمه. والرابع قاله القاضي في ' الكفاية ': (معرفة قصد المتكلم). قال الرازي في ' المحصول ' و ' المنتخب ': (هو فهم غرض المتكلم من كلامه). قال ابن حمدان في ' المقنع ' عن كلام القاضي في ' الكفاية ': (يبطل بكلام من لا قصد له كالنائم والصبي والمجنون). والخامس، قاله أبو الخطاب في ' التمهيد ': (الكل). أي: يطلق على الكل الذي تقدم. قال في ' التمهيد ': (يقال ' فهمت كلامك، إذا عرفته وفهمته وعلمته، كل ذلك بمثابة واحدة) انتهى. قال القرافي: (الفقه هو الفهم والعلم والشعر والطب لغة، وإنما اختصت بعض الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف)، وحكاه عن

اصطلاحا:

المازري في ' شرح البرهان '. والسادس قاله الشيرازي وغيره: (فهم ما يدق). قاله أبو إسحاق الشيرازي في ' اللمع '، وصاحب ' اللباب ' من الحنفية، ومعناه لبعض أصحابنا، قال ابن هبيرة: (هو استخراج الغوامض والاطلاع عليها)، وهو أظهر؛ فإنه لا يقال: فقهت أن السماء فوقنا، ولا أن النار حارة، ونحو ذلك، ويقال: فقهت كلامك، وهذا يقتضي أن الفقه أخص من العلم. قال ابن مفلح - من أصحابنا - عن كلام ابن هبيرة: (ولعله مراد من أطلق). والسابع: (التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد)، قاله الراغب. قال العسقلاني في ' شرح مختصر الطوفي ': (الفهم هيئة للنفس بها يتحقق معاني ما يحس، فالعلم إذن عنه، ومن ثم قيل: الفقه التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم) انتهى). والراجح أن الفقه لغة: الفهم مطلقا سواء أكان لما ظهر وبان، أو لما دق وخفي، والدليل على ذلك: مجيئه في الشرع مرادا به مطلق الفهم كما سبق في الآيات السابقة، وقوله تعالى: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه: 27، 28] فقوله: (قَوْلِي) معرف بالإضافة فيشمل ما ظهر وما خفي من قوله (¬1). وأما من قيده بالفهم الدقيق، وعلله بأنه يقال: فقهت معنى الكلام وفهمته، ولا يقال: فقهت السماء والأرض، وهذا مردود بما قاله أئمة اللغة: إن الفقه هو مطلق الفهم، وامتناع قولهم فقهت السماء والأرض إنما هو من ناحية أن الفقه يتعلق بالمعاني لا بالمحسوسات، والسماء والأرض من قبيل المحسوسات (¬2). اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية). قال الشيخ في شرح هذه العبارة: فالمراد بقولنا " معرفة " العلم والظن لأن إدراك الأحكام الفقيه قد يكون يقينَّيا وقد يكون ظنيًّا كما في كثير من مسائل الفقه. ¬

_ (¬1) انظر: شرح الشيخ أحمد الحازمي على قواعد الأصول. (¬2) انظر: التقرير والتحبير (1/ 27).

فوائد:

والمراد بقولنا:"الأحكام الشرعية" الأحكام المتلقاة من الشرع كالوجوب والتحريم (¬1)، فخرج به الأحكام العقلية كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء والأحكام العادية كمعرفة نزول الطل في الليلية الشاتية إذا كان الجو صحواً. قلت (ويخرج أيضا الأحكام الوضعية كمعرفة أن كان وأخواتها ترفع المبتدأ وتنصب الخبر، ويخرج أيضا الأحكام الحسية كالعلم أن النار محرقة، وأيضا يخرج الأحكام التجريبية (الثابتة بالتجربة) العلم بأن السم قاتل وقد تتداخل هذه الأحكام إلا أن الغرض بيان معنى الشرعية وهو خلاف كل ما سبق). والمراد بقولنا: " العملية " ما لا يتعلق بالاعتقاد كالصلاة والزكاة فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد (وتسمى العلمية) كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته فلا يسمى ذلك فقهًا في الاصطلاح قلت (وقد يخرج أيضا علم التصوف أو السلوك كحرمة الكذب والغيبة ووجوب الصدق، وهكذا فهذا في الاصطلاح لا يدخل في الفقه، ولم يدونه غالب الفقهاء في كتب الفقه). والمراد بقولنا: بأدلتها التفصيلية " أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية فخرج به أصول الفقه لأن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجمالية). والأدلة التفصيلية وهي الجزئية كقوله تعالى (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء: 32] فهذا دليل جزئي يخص مسألة واحدة معينة وهي الزني ويبين حكمها وهو تحريم الزنى. وأما الأدلة الإجمالية فهي كالقواعد الكلية ويندرج تحت كل واحدة منها أحكاما كثيرة وسوف يأتي بإذن الله الكلام عليها قريبا. فوائد: الفائدة الأولى - الفرق بين العلم والمعرفة: فرق الشيخ بين العلم والمعرفة بثلاثة فروق: الأول - المعرفة تشمل العلم والظن بخلاف العلم: قال الشيخ في الشرح (ص/24): (المعرفة هنا تشمل العلم والظن؛ لأن إدراك الأحكام الشرعية بعضه علمي، وبعضه ظني، ولهذا فإن مسائل الاجتهاد التي يختلف ¬

_ (¬1) وسوف يأتي بإذن الله في التنبيهات أن هذا المعنى غير مراد هنا.

فيها أهل العلم غالبها ظني، وليست بعلمية، ولو كانت علمية لما اختلفوا فيها، لكنها غالبها ظني فالمعرفة أيضًا تطلق على العلم والظن، كما في كثير من مسائل الفقه. ولذلك لا يوصف اللَّه بأنه عارف، ولكن يوصف بأنه عالم؛ لأن المعرفة تشمل العلم والظن. ثم قال: (وقوله: (لأن إدراك الأحكام الفقهية قد يكون يقينيا وقد يكون ظنيا كما في كثير من مسائل الفقه): ولهذا قلنا في التعريف- تعريف الفقه-: "معرفة" ليشمل العلم والظن، لأنه يوجد مسائل كثيرة من أحكام الفقه كلها ظنية). مناقشة هذا التفريق: وهذا الذي صار إليه الشيخ من أن العلم خاص بالقطعيات دون الظنيات مجرد اصطلاح خاص، وقد نسبه الكلوذاني للمتكلمين واختار عكسه حيث عرف الفقه في الشرع بقوله: (هو العلم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية دون العقلية). ثم قال: فأما قولنا: "العلم بأحكام أفعال" فنريد به ما علمناه بالشرع إما بيقين أو غالب ظن) (¬1). وقال الشيخ العروسي في "المسائل المشتركة (ص/31) وهو يبين وجوه الرد على من قال: أن الفقه من باب الظنون؛ لأنه مستفاد من الأدلة الظنية، فلا يسمى علما: (وقد تجيب طائفة أخرى - كابي الخطاب وغيره- عن هذا السؤال، بأن العلم يتناول اليقين والاعتقاد الراجح، كقوله تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) (¬2) [الممتحنة: 10] وأن تخصيص لفظ العلم بالقطعيات اصطلاح المتكلمين، والتعبير هو باللغة لا بالاصطلاح الخاص ... ). وقال المرداوي في "التحبير" (1/ 229): (يأتي العلم بمعنى الظن: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) [الممتحنة: 10]، وعكسه: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) [البقرة: 46] ... ويأتي العلم بمعنى المعرفة، ومنه: قوله تعالى: (لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة: 101]، أي: لا تعرفهم نحن نعرفهم. قال البرماوي وغيره: (قد جاء علم بمعنى عرف، ومنه: قوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) [طه: 7]، ¬

_ (¬1) انظر التمهيد (1/ 4)، والعدة للقاضي (1/ 68). (¬2) ونحوها قوله تعالى: (وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا) [يوسف: 81]، وانظر التمهيد (1/ 40).

(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر: 19]، (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) [محمد: 31]، وهو كثير). قوله: {[وعكسه]} يعني: تأتي المعرفة بمعنى العلم، وقد قال في ' المصباح ': (علمته أعلمه: عرفته، هكذا يفسرون العلم بالمعرفة، وبالعكس، لتقارب المعنيين) انتهى. قلت: وفي التنزيل: (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) [المائدة: 83]، أي : علموا). وقال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 63): (العلم يطلق لغة وعرفا على أربعة أمور: أحدها: إطلاقه حقيقة على ما لا يحتمل النقيض. الأمر الثاني: أنه يطلق (ويراد به مجرد الإدراك) يعني سواء كان الإدراك (جازما، أو مع احتمال راجح، أو مرجوح، أو مساو) على سبيل المجاز، فشمل الأربعة قوله تعالى (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف: 51] إذ المراد: نفي كل إدراك. الأمر الثالث: أنه يطلق (و) يراد به (التصديق، قطعيا) كان التصديق (أو ظنيا) أما التصديق القطعي: فإطلاقه عليه حقيقة، وأمثلته كثيرة، وأما التصديق الظني: فإطلاقه عليه على سبيل المجاز (¬1)، ومن أمثلته قوله تعالى (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ) [الممتحنة: 10]. الأمر الرابع: أنه يطلق (و) يراد به (معنى المعرفة) ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة: 101]. وتطلق المعرفة (ويراد بها) العلم، ومنه قوله تعالى: (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) [المائدة: 83] أي علموا. (و) يراد العلم أيضا (بظن) يعني أن الظن يطلق ويراد به العلم، ومنه قوله تعالى: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ) [البقرة: 46] أي يعلمون). فظهر من هذا أن العلم ليس خاصا بالقطعيات كما ذكر الشيخ، وأنه يطلق ويراد ¬

_ (¬1) وسوف يأتي بإذن الله مناقشة قضية المجاز وبيان الصواب فيها.

به الظن، والقطع، وأيضا معنى المعرفة. الثاني - المعرفة غالبًا تقال في المحسوس، والعلم يكون غالبًا في المعقول: قال في الشرح (ص/26): (المعرفة غالبًا تقال في المحسوس، والعلم يكون غالبًا في المعقول. فتقول: عرفت فلانًا، يعني: عرفت أن هذا هو فلان بن فلان. وتقول: علمت حكم الوضوء، وهذا في الأشياء المعقولة المعنوية). وهذا التفريق لا يساعد الشيخ على اختياره في تعريف الفقه بأنه معرفة الأحكام ... ، والأولى بناء على تفريقه هذا أن يعرف الفقه بأنه: العلم بالأحكام .... وقال أبو حيان التوحيدي (¬1) في المقابسات: في المقابسة السبعون (ص/272): (وسألته عن الفرق بين المعرفة والعلم؟ فقال: المعرفة أخص بالمحسوسات والمعاني الجزئية: والعلم أخص بالمعقولات والمعاني الكلية). الثالث - المعرفة انكشاف بعد لُبْس: قال في الشرح (ص/26): (قالوا: المعرفة انكشاف بعد لُبْس، أي بعد خفاء، تقول مثلا: تأملت هذا الشيء حتى عرفته). قال ابن النجار في " شرح الكوكب" (1/ 65): ("وهي" أي المعرفة "من حيث إنها علم مستحدث، أو انكشاف بعد لبس أخص منه" أي من العلم؛ لأنه يشمل غير المستحدث. وهو علم الله تعالى. ويشمل المستحدث، وهو علم العباد ") (¬2). وقد بين المرداوي الفرق بين كونها علم مستحدث، وبعد لبس فقال في "التحبير" (1/ 244): (وقوله: فهي علم مستحدث. هذا أصل وضعها في الغالب، وقيل: انكشاف بعد لبس، فهو قريب من الذي قبله، إلا أن الأول لم يكن حصل فيه لبس، بل استحدث من غير لبس). وبناء على هذا الفرق فإننا إن قلنا أن الفقه هو المعرفة فحتى لا يدخل علم الله، وإن عرفناه بأنه العلم فيكون كالجنس، وما بعده كالفصل ليخرج علم الله، وسوف ¬

_ (¬1) وقد اتهم بالزندقة فليحذر منه. (¬2) انظر أصول الفقه لابن مفلح (1/ 24).

الفائدة الثانية - لا يصح أن يقال: الله عارف:

يأتي مزيد بيان لذلك عند الكلام على إضافة قيد: المكتسبة في التعريف. وثمة فروق أخرى كثيرة بين العلم والمعرفة لا مجال لبسطها هنا (¬1). الفائدة الثانية - لا يصح أن يقال: الله عارف: قال الشيخ في الشرح (ص/24): (لا يوصف اللَّه بأنه عارف، ولكن يوصف بأنه عالم لأن المعرفة تشمل العلم والظن). وقال (ص/26): (سبق لنا أنه لا يوصف اللَّه بأنه عارف؛ لأن المعرفة تشمل العلم أو الظن. وقالوا: لأن المعرفة انكشاف بعد لُبْس، أي: بعد خفاء، تقول مثلاً: تأملتُ هذا الشيء حتى عرفته. وعلى كل حال، الأصل في الصفات: أن اللَّه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه). وكلام الشيخ واضح في بيان وجه منع وصفه تعالى بالعارف فالمعرفة تشمل الإدراك الظني للأحكام، وهذا يستحيل على الله عزوجل بل معرفته للأحكام لا تكون إلا يقينية، وكذا أن المعرفة انكشاف بعد لبس وهذا يستحيل في حقه تعالى. قال المرداوي في "التحبير" (1/ 237): (لا يوصف سبحانه وتعالى بأنه عارف؛ لأن المعرفة قد تكون علماً مستحدثاً، والله تعالى محيط علمه بجميع الأشياء على حقائقها على ما هي عليه، وهو صفة من صفاته، وهو قديم، وحكي إجماعاً. قال ابن حمدان في ' نهاية المبتدئين ': (علم الله تعالى لا يسمى معرفة، حكاه القاضي إجماعاً). وخالف الكرامية فقالوا: يوصف بأنه عارف لاتحاد العلم والمعرفة. وقال القاضي من أصحابنا في ' المعتمد ': (يجوز وصفه تعالى بأنه عارف). قلت: ومرادهم - والله أعلم -: أن المعرفة كالعلم، فكما أنه يوصف بالعلم يوصف عند هؤلاء بالمعرفة، وليس مرادهم بالمعرفة في حقه: التي هي مستحدثة بعد أن لم تكن، وإن هذا لا يقوله أحد من أهل السنة، إنما ينسب إلى الرافضة ... وحكي عن ابن الباقلاني: اتحاد العلم والمعرفة، ثم وجدته في ' المصباح المنير ' قاله، فإنه قال: (قال النيلي (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: ¬

_ (¬1) انظر مدارج السالكين (3/ 335).

60]، أي: لا تعرفونهم الله يعرفهم، قال: فإن قلت: لا تطلق المعرفة على الله؛ لأنها توهم سابقة الجهل، قلت: سابقة الجهل إنما تكون فيمن يصح عليه الجهل) انتهى. وهو كما قلنا، وقد تقدم عند قولنا: (إن العلم يأتي بمعنى المعرفة): أن البرماوي وغيره استدلوا لذلك بآيات كثيرة أن العلم من الله بمعنى المعرفة، فليعاود، ومرادهم ما قلنا). وقال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله - في "معجم المناهي اللفظية": (بسط ابن القيم - رحمه الله تعالى - في: ((مدارج السالكين)) منزلة المعرفة، مبيناً حقيقتها، والفروق بينها وبين العلم ... وفي ((بدائع الفوائد)) عقد فائدة بديعة ذكر فيها حقيقة العلم والمعرفة، ثم قال: (إذا عرف هذا فقال بعض المتكلمين: لا يضاف إلى الله سبحانه إلا العلم لا المعرفة؛ لأن علمه متعلق بالأشياء كلها مركبها ومفردها تعلقاً واحداً بخلاف علم المحدثين، فإن معرفتهم بالشيء المفرد وعلمهم به غير علمهم ومعرفتهم لشيء آخر. وهذا بناء منه على أن الله تعالى يعلم المعلومات كلها بعلم واحد، وأن علمه بصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عين علمه بكذب مسيلمة. والذي عليه محققو النظار خلاف هذا القول، وأن العلوم متكاثرة متغايرة بتكثر المعلومات وتغايرها فلكل معلوم علم يخصه. ولإبطال قول أُولئك وذكر الأدلة الراجحة على صحة قول هؤلاء مكان هو أليق به. وعلى هذا فالفرق بين إضافة العلم إليه تعالى وعدم إضافة المعرفة لا ترجع إلى الإفراد والتركيب في متعلق العلم وإنما ترجع إلى نفس المعرفة ومعناها؛ فإنما في مجاري استعمالها إنما تستعمل فيما سبق تصوره من نسيان أو ذهول، أو عزوب عن القلب، فإذا حصل وتصور في الذهن قيل: عرفه، أو وصف له صفته ولم يره، فإذا رآه بتلك الصفة وتعينت فيه قيل: عرفه ألا ترى أنك إذا غاب عنك وجه الرجل ثم رأيته بعد زمان فتبينت أنه هو؛ قلت: عرفته؟ وكذلك عرفت اللفظة، وعرفت الديار، وعرفت المنزل، وعرفت الطريق. وسر المسألة: أن المعرفة لتمييز ما اختلط فيه المعروف بغيره فاشتبه، فالمعرفة تمييز له وتعيين، ومن هذا قوله تعالى: (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) [البقرة:

الفائدة الثالثة - تقسيم الدين إلى أصول وفروع:

146]، [الأنعام: 20] فإنهم كان عندهم من صفته قبل أن يروه ما طابق شخصه عند رؤيته، وجاء (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) من باب ازدواج الكلام وتشبيه أحد اليقينين بالآخر. فتأمله، وقد بسطنا هذا في كتاب: التحفة المكية، وذكرنا فيها من الأسرار والفوائد ما لا يكاد يشتمل عليه مصنف .. ). وانظر: روضة المحبين في العارفين بالله. وفي: شأن الدعاء للخطابي قال: (وفي أسمائه: العليم، ومن صفته العلم، فلا يجوز قياساً عليه أن يسمى: عارفاً؛ لما تقتضيه المعرفة من تقديم الأسباب التي بها يتوصل إلى علم الشيء). وفي إضاءة الراموس: (ومن الفروق أن المعرفة ما يحصل بعد الجهل بخلاف العلم، ومن ثم لم يرد في صفات الله: عارف). وقد صحَّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))، لكن لا يشتق من كل فعل لله: اسم له، أو صفة له سبحانه). الفائدة الثالثة - تقسيم الدين إلى أصول وفروع: قال الشيخ في الشرح (ص/23): (وعدلنا عما يعبر به كثير من الأصوليين: "معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها التفصيلية" (¬1)؛ لأن شيخ الإسلام- رحمه اللَّه- أنكر أن تنقسم أحكام الإِسلام إلى أصل وفرع، وقال: إن هذا التقسيم بدعة ولا أصل له في كلام اللَّه ولا كلام رسوله، قال: لأن هؤلاء يجعلون الصلاة مثلاً من الفروع، وهي من أصل الأصول، فكيف نقول: أصول وفروع؟! من جاء بهذا التقسيم؟! ولهذا عدلنا فقلنا: "عملية"). جرت عادة العلماء بالتفريق بين مسائل الدين فيعتبرون بعضها أصولا، وبعضها فروعا (¬2)، وبنى البعض على هذا التفريق عدة مسائل منها: التفريق في ¬

_ (¬1) هذا التعريف قريب من التعريف الذي ذكره الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (1/ 133)، وابن اللحام في "مختصره" (ص/ 31) حيث ذكرا تعريف الفقه اصطلاحا بأنه: (العلم بالأحكام الشرعية الفرعية، عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال). (¬2) قال البغوي في " شرح السنة" (1/ 289): (العلوم الشرعية قسمان: علم الأصول، وعلم الفروع). وقال السمعاني في " قواطع الأدلة" (2/ 81): (وإذا جاز أن يتعبدنا الله به في أصول الدين جاز أن يتعبدنا ويجعله دليلا في فروعه)، وقال الرازي في " المحصول" (4/ 551): (وأما الإمامية فالإخباريون منهم مع أن كثرة الشيعة في قديم الزمان ما كانت إلا منهم فهم لا يعولون في أصول الدين فضلا عن فروعه إلا على الأخبار التي يروونها)، وقال القرافي في "شرح تنقيح الفصول" (ص/439): (وقياس الخصم الأصول على الفروع غلط لعظم التفاوت بينهما"، وتتبع الأقوال في هذا يطول.

العذر بالجهل والخطأ وغيره من العوارض في الفروع، دون الأصول، وجواز التقليد في مسائل الفروع دون الأصول، وقبول خبر الآحاد في الفروع دون الأصول. وقد نقل عن ابن تيمية نقولا كثيرة في رد هذا التقسيم وتبديعه، ومن تتبع كلامه في هذا التقسيم يجد أنه قد استخدامه في عدة مواضع من كتبه، وعليه فلابد من تحرير مذهبه في التفريق بين الأصول والفروع. تحرير مذهب ابن تيمية في التفريق بين الأصول والفروع: من تتبع كلام تقي الدين في هذا التقسيم وجد أنه لا ينكره، بل إنه قد استعمله في عدة مواضع في كتبه ... قال في "مجموع الفتاوى" (2/ 8): (الغرض هنا أن طريقة القرآن جاءت في أصول الدين وفروعه في الدلائل والمسائل بأكمل المناهج). وقال في (4/ 170): (تجد أحدهم - أي: أهل الجهل والضلال - يتكلم في أصول الدين وفروعه بكلام من كأنه لم ينشأ في دار الإسلام ولا سمع ما عليه أهل العلم والإيمان ولا عرف حال سلف هذه الأمة ... ). وقال في (10/ 363): (فمن بنى الكلام في العلم الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة وهذه طريق أئمة الهدى). قال الشيخ سعد الشثري في رسالته "الأصول والفروع" (ص/147) عندما عرض لموقف شيخ الإسلام من مسألة اشتمال الشريعة على أصول وفروع، وبعد تتبع كلامه في مؤلفاته: (وعند تأمل هذه المواقف يظهر احتمالات في تفسيرها:

الأول: أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يرى التفريق بين الأصول والفروع أولا، ويحكي المذاهب في ضابط التفريق ويختار أحدها في وقت ثم يختار رأيا ثانيا في وقت آخر ثم ترجح لديه عدم التفريق بينهما (¬1). الثاني: أنه كان يعبر بالأصول والفروع عن أحكام الشرع من أجل إفهام غيره بمراده، ويبين آراء الناس فيما يسمى أصولا، وما يسمى فروعا، وينكر نسبة التفريق بينهما إلى الشرع ... فيكون إنكاره للتفريق لأنه الصواب عنده وتعبيره بالأصول والفروع من باب مخاطبة القوم باصطلاحهم. الثالث: أن تعبيره بالأصول والفروع وذكره آراء الناس فيما يسمى أصولا وفروعا منطلق من كون هذه قضية اصطلاحية لا يترتب عليها أحكام شرعية، وينكر نسبة التفريق إلى الشرع بحيث يترتب على هذا التفريق أحكام شرعية. والفرق بين الاحتمال الثاني والثالث أنه في الاحتمال الثالث يصح عنده أن يقال الدين فيه مسائل أصول ومسائل فروع ابتداء، أما في الاحتمال الثاني فلا يصح أن يقال ذلك إلا من قبيل مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم). وأما قوله: (أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يرى التفريق بين الأصول والفروع أولا، ويحكي المذاهب في ضابط التفريق ويختار أحدها في وقت ثم يختار رأيا ثانيا في وقت آخر ثم ترجح لديه عدم التفريق بينهما). فلا دليل عليه، كما أنه لا يمكن إثبات المتقدم من المتأخر من كلامه، وسوف أعرض لبعض الضوابط في التفريق من كلام ابن تيمية، فيحمل إنكاره للتفريق على عدم انضباط بعض وجوه التفريق بينهما نظرا للوازمها الفاسدة (¬2). ¬

_ (¬1) وهذا الكلام منه لا دليل عليه، وهو لا يستطيع إثبات المتقدم من المتأخر من كلامه، وسوف أعرض لبعض الضوابط في التفريق من كلام ابن تيمية، فيحمل إنكاره للتفريق على عدم انضباط ما يرده من ضوابط. (¬2) ولعل عدم ذكر الشيخ الشثري لهذا الوجه أنه اختار وجها ضعيفا للتفريق بينهما حيث قال في رسالته (ص/147): (يظهر لي أن قطعية الدليل وظنيته ضابط صحيح للتفريق)، وقد رد تقي الدين ابن تيمية على هذا التفريق وسيأتي كلامه بإذن الله.

قال في "مجموع الفتاوى" (19/ 207): (قالوا والفرق بين مسائل الفروع والأصول إنما هو من أقوال أهل البدع من أهل الكلام والمعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره. قالوا: والفرق بين ذلك في مسائل الأصول والفروع كما أنها محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة فهي باطلة عقلا فان المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة. فمنهم من قال: مسائل الأصول هي العلمية الاعتقادية التي يطلب فيها العلم والاعتقاد فقط ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل قالوا وهذا فرق باطل فان المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنى والربا والظلم والفواحش وفى المسائل العلمية مالا يأثم المتنازعون فيه كتنازع الصحابة هل رأى محمد ربه ... وكتنازعهم في بعض الكلمات هل هي من القرآن أم لا ... ونحو ذلك فليس في هذا تكفير ولا تفسيق ... ومنهم من قال: المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي قال أولئك وهذا الفرق خطأ أيضا فان كثيرا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها وفيها ما هو قطعي بالإجماع كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قُدَامَة ورأوا أنها حلال لهم ولم تكفرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا ... وقد زنت على عهد عمر امرأة فلما أقرت به قال عثمان إنها لتستهل به استهلال من لا يعلم أنه حرام فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدوها واستحلال الزنى خطأ قطعا ... قالوا: وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفا للقول في نفسه فان الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل

المعلوم صدقه عنده وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا وقد يكون الإنسان ذكيا قوى الذهن سريع الإدراك فيعرف من الحق ويقطع به مالا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا، فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال والناس يختلفون في هذا وهذا فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال كل من خالفه قد خالف القطعي بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد وهذا مما يختلف فيه الناس فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس. ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال: المسائل الأصولية هي المعلومة بالعقل فكل مسألة علمية استقل العقل بدركها فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع قالوا فالأول كمسائل الصفات والقدر والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار. فيقال لهم: ما ذكرتموه بالضد أولى فان الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل ... ) (¬1). وعليه فيوجه ما ورد عن تقي الدين من ذكره لهذا التقسيم بأمور منها: 1 - أنه يذكره من باب إفهام الخصم بمراده. 2 - أنه يقبله من ناحية أنه لا مشاحة في الاصطلاح مع رفضه للوازم الباطلة التي قد تترتب على بعض وجوه التفريق بينهما. 3 - أنه فرق بينهما كما سيأتي - بإذن الله -. وأما إنكاره له فيحمل على بعض الوجوه الضعيفة في التفريق نظرا لما يترتب عليها من أحكام شرعية فاسدة كنحو قولهم: أن العاجز عن معرفة الحق في مسائل الأصول غير معذور، بخلاف مسائل الفروع فيعذر فيها بجهله، وقولهم: أنه لا يجوز التقليد في مسائل الأصول بل يجب تحصيلها بالاعتماد على النظر والفكر (¬2)، وقبولهم لخبر الآحاد في الفروع دون الأصول. ¬

_ (¬1) انظر منهاج السنة (5/ 87)، ومختصر الصواعق (ص/563). (¬2) وسيأتي بإذن الله مناقشة هذه المسلة في باب التقليد.

تفريق ابن تيمية بين الأصول والفروع: والذي يترجح (¬1) في ضابط التمييز بين الأصول والفروع، هو أن كل ما كان جليلا من المسائل، فهو من الأصول. وما كان دقيقا منها فهو من الفروع علميا كان أو عمليا، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى" (6/ 56): (بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين - أي العلمي والعملي - مسائل أصول والدقيق مسائل فروع. فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كالعلم بأن الله على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر). قال عبد الرزاق معاش (ص/367): (وعلى هذا الأساس جاءت مباحث هذا الباب مشتملة على المسائل الجليلة من مسائل العلم والعمل، فاشتملت على التوحيد وأنواعه والولاء والبراء، والمعلوم من الدين بالضرورة. وكل هذه المسائل متعلق إما بالعلميات أو بالعمليات، أو بهما جميعا، وكلها جليلة، فتكون من المسائل الأصول ... ). لا مشاحة في الاصطلاح: قال الشيخ العثيمين في " القول المفيد" (2/ 492) بعد أن نقل نحوا مما سبق ذكره عنه من إنكار ابن تيمية لهذا التقسيم: (ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة; فكل الدين أصول; لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروعة; فهذه عقيدة سابقة على العمل (¬2)، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله ¬

_ (¬1) وهو ترجيح عبدالرزاق بن طاهر معاش في رسالته العلمية: "الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه" والتي أشرف عليها الشيخ البراك، وقد ذكر أبو عبدالرحمن الباشا في بحثه: (تقسيم الدين إلى أصل وفرع) بعض التفريقات الأخرى عن ابن تيمية، وإنما اقتصرت على هذا التفريق لأنه أولاها عندي. (¬2) وهي من هذا الجانب تدخل في علم العقيدة أو أصول الدين، ولكن النظر للعمليات نفسها لا اعتقادها.

بها. والصحيح أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف; فليس بمقبول مطلقا). وكما سيأتي ونصطلح على تخصيص علم الفقه بالعمليات، فلا مشاحة في الاصطلاح على أن نسمى مسائل الاعتقاد بعلم أصول الدين شريطة ألا يترتب عليه مخالفة لنص شرعي وألا يتضمّن مخالفةً لأحد الأمور المقررة عند أهل العلم فإنه حينئذٍ يشاحح فيه ولا يقبل. ولتعلم أن لعلم العقيدة مسميات كثيرة عند: أهل السنة ومن ذلك أنهم أطلقوا عليه: السنة، والتوحيد، والشريعة، وأطلق عليه أهل الكلام؟: علم الكلام، وقد توسط البعض فأطلقوا عليه أصول الدين. قال الشيخ صالح آل الشيخ في "شرح العقيدة الطحاوية": ((أصول الدِّين) يُعبَّرُ بها عن العقيدة لأنَّ التعبير عن العقيدة صار فيه اشتراك. فيُعَبَّر عنها -عن العقيدة- عند أهل الحديث بما ذكرنا لك من العبارات: العقيدة، السنة، التوحيد، الشريعة، وعَبَّرَ عنها المخالفون بِعِلْمِ الكلام. والذين تركوا الفلسفة وما أصَّلَهُ علماء الكلام في بيان العقيدة إلى ما دَلَّ عليه كلام مُعَظَّمِيهم كالأشعري والماتريدي عَدَلُوا عن (علم الكلام) إلى (أصول الدين). لأنَّ كلمة أصول الدين فيها مخالفة للفظ علم الكلام المذموم، وفيها تَوَسُطْ ما بين الألفاظ الشرعية (السنة، العقيدة، التوحيد، الشريعة) وما بين قولهم: علم الكلام، فأَتوا بهذا اللفظ الذي هو بيْن اللفظين. ولهذا نقول هذا اللفظ إن كان دليله ومَأخَذُهُ هو مَأْخَذْ التوحيد والسنة والعقيدة والشريعة فلا بأس باستعماله، ولهذا يستعمله أهل السنة والجماعة، ويريدون به المعنى الصحيح وهو أنَّ (أصول الدين) المقصود بها أصول الإيمان الستة وما يَنْدَرِجُ في ذلك من المسائل الأصلية والتّبَعِيَّة. فكلمة (أصول الدين) كلمة مُرَكَّبَة مُضَافَةْ، ولذلك يقولون هي مُرِكَّبٌ إضافي؛ أُضيف فيه الأصل إلى الدين. و (أصول الدين) كلمة معناها العقيدة. يريدون بكلمة (أصول) ما يخالف الفروع وهي العمليات.

تنبيهات:

وإذا كان اللفظ محدثا أو مُصطَلحاً عليه فنقول لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح إذا كان لم يختص به أهل البدع، فاستعمله طائفة من علماء الحديث والسنة ويعنون به ما دلت عليه الألفاظ الشرعية؛ العقيدة، السنة، التوحيد، الشريعة). فالخلاصة أنه يقبل هذا التقسيم إن أردنا بذلك أن أصول الدين هي علم الاعتقاد، والفروع هي العمليات، وذلك لشرف هذا العلم لاشتماله على الركن الأكبر من شروط قبول الأعمال وهو الإيمان بالله، ولاشتماله على التوحيد الذي هو أصل دعوة الرسل وهو سابق على باقي الشرائع فهو أول ما يبدأ به الرسول دعوة قومهم، مع الأخذ في الاعتبار أن مسائل هذا العلم منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة، ومنها ما هو ظني فيهما، أو في أحدهما،، وان بعض هذه المسائل يعذر فيها بالجهل، إلى غير ذلك من عدم قبول اللوازم الباطلة التي من أجلها نفى شيخ الإسلام هذا الاصطلاح. تنبيهات: بالنظر إلى تعريف الماتن للفقه (معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية) نلحظ أمورا وهي: الأول - الفقه هو نفس الأحكام لا معرفتها ولا العلم بها: جعل الشيخ الفقه هو المعرفة لا المعروف، والصواب أن الفقه هو نفس الأحكام الثابتة في نفسها سواء وجد من يعرفها أو لم يوجد فالمعرفة ليست هي الفقه. قال المرداوي في "التحبير" (1/ 163) وهو يستعرض الأقوال في تعرف الفقه: (القول الثاني -: إنه نفس الأحكام الشرعية الفرعية، وهو أظهر، واختاره ابن مفلح، وابن قاضي الجبل، والعسقلاني شارح ' الطوفي '، وجمع كثير، لا معرفتها ولا العلم بها، إذ العلم أو المعرفة بالفقه غير الفقه، فلا يكون داخلاً في ماهيته، وما ليس داخلاً في الماهية لا يكون جنساً في حده). الثاني - موضوع علم الفقه: قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (1/ 33): (موضوع كل علم" شرعيا كان أو عقليا "ما" أي الشيء الذي "يُبحث فيه" أي في ذلك العلم "عن عوارضه" أي عوارض موضوعه "الذاتية" أي الأحوال العارضة للذات، دون العوارض اللاحقة

الثالث:

لأمر خارج عن الذات، فموضوع علم الطب مثلا: هو بدن الإنسان، لأنه يبحث فيه عن الأمراض اللاحقة له، وموضوع علم النحو: الكلمات، فإنه يبحث فيه عن أحوالها من حيث الإعراب والبناء، وموضوع علم الفرائض: التركات، فإنه يبحث فيه من حيث قسمتها ... إذا علمت ذلك: فالعوارض الذاتية هي التي تلحق الشيء لما هو هو - أي لذاته- كالتعجب اللاحق لذات الإنسان، أو تلحق الشيء لجزئه، كالحركة بالإرادة اللاحقة للإنسان "بواسطة أنه حيوان، أو تلحقه بواسطة أمر خارج عن المعروض مساو للمعروض، كالضحك العارض للإنسان" بواسطة التعجب ... ). قال المرداوي في "التحبير" (1/ 143): (موضوع الفقه: أفعال العباد من حيث تعلق الأحكام الشرعية بها). قال الغزالي في "معيار العلم": (موضوع الفقه أفعال المكلفين من جهة ما ينهى عنها أو يؤمر بها أو يباح أو يندب أو يكره). الثالث: قال المرداوي في "التحبير" (1/ 167): (فخرج بقوله: العلم بالأحكام: العلم بالذوات والصفات والأفعال. قال العلماء: (لا بد للعلم من معلوم، وذلك المعلوم إن لم يكن محتاجاً إلى محل يقوم به فهو الجوهر كالجسم، وإن احتاج؛ فإن كان سبباً بين الأفعال والذوات فهو الحكم، وإلا فهو الصفة كالحمرة والسواد)). ولكن في إطلاق خروج الصفات إشكال، وهو ما سوف نتعرض له بإذن الله في التنبيه التالي. الرابع - إشكال في إطلاق خروج الصفات: لكن في إطلاق خروج الصفات إشكال وذلك أن الحكم الشرعي خطاب الله تعالى وخطابه تعالى كلامه وكلامه صفة من جملة صفاته فيلزم من إخراج الصفات إخراج الفقه وهو المقصود بالحد (¬1). والجواب أن هذا الإشكال مبنى على أن الحكم المذكور في تعريف الفقه هو الحكم الشرعي، الذي هو خطاب الله، وصفة من صفاته، وليس هذا هو المراد هنا، ¬

_ (¬1) انظر: "نهاية السول" للإسنوي (1/ 23)

الخامس - قوله: (بأدلتها التفصيلية):

وإنما المراد هنا مطلق الحكم الاصطلاحي من مجرد النسبة بين أمر وأمر بالنفي، أو الإثبات. وعلى فرض دخول الحكم الشرعي الذي هو خطاب الله فإنه لا يصح خروجه، بل يقيد المخرج من الصفات بصفات العباد دون صفة الكلام لرب العباد. قال المطيعي في "حاشيته على نهاية السول" (1/ 23): (قال الأسنوي «لكن في إطلاق خروج الصفات أشكال الخ». أقول هذا الإشكال مبني على أن المراد بالأحكام في تعريف الفقه جمع الحكم الذي هو الخطاب الشرعي الخ وهو معناه في اصطلاح الأصوليين وهو خلاف الحق والحق أن المراد بالأحكام في تعريف الفقه النسب التامة مطلقا ولذلك فسرها الجلال المحلى في شرح على جمع الجوامع بالنسب التامة الشاملة للشرعية وغير الشرعية كما فسر قيد الشرعية بالمأخوذة من الشرع وفسر الشرع بالأدلة السمعية المبعوث بها النبي الكريم فجعل العلم في التعريف شاملا للتصور والتصديق وعمم في الأحكام فجعلها بمعنى النسب التامة الشاملة للعقلية والشرعية والنفسية والحسية فتكون قيدا مستقلا يخرج به التصورات وتكون الشرعية قيدا آخر أخرج به العلم بالنسب التامة التي ليست بشرعية وبقيد العملية يخرج النسب الشرعية الاعتقادية وبقيد المكتسب الذي هو وصف للعلم يخرج علم الله وعلم جبريل وعلم نبينا صلى الله عليه وسلم ... ). الخامس - قوله: (بأدلتها التفصيلية): وغالب من عرف الفقه من الحنابلة وغيرهم إذا ذكر هذا الحد صاغه بقوله: (عن أدلتها التفصيلية) وبينهما فرق: فقول الشيخ: (بأدلتها التفصيلية) يستلزم أن يكون الفقيه عارفا الحكم بدليله، ولكنه لا يستلزم أن يدرى وجه استنباطه. وأما قول: (عن أدلتها التفصيلية) فإنه لا يستلزم أن يكون الفقيه عارفا بالدليل، ولكنه أقرب لاستلزامه أن يكون عارفا لوجه استنباط الحكم عن الدليل. علم الله: وعليه فهذا القيد الذي ذكره الشيخ لا يمنع من دخول علم الله فالله يعرف الحكم بدليله سبحانه وتعالى.

علم الرسول:

ولا يرد على هذا ما سبق ذكره من أن الله لا يصح تسميته بالعارف فلا يدخل في هذا التعريف لضعف هذه الملازمة فلا يستلزم من الإخبار عن الله تعالى بأنه يعرف الحكم بدليله أن نسميه عارفا، فباب الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات. علم الرسول: علم الرسول قسمان ما أكتسبه عن طريق الوحي والثاني ما اكتسبه بالاجتهاد، وسوف يأتي - بإذن الله - في باب الاجتهاد بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد، فأما الأول فقد يدخل في الحد من وجه دون الآخر؛ لأن الوحي قد يخبر النبي بالحكم دون الدليل، وقد يخبره بالحكم بالدليل، وأما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الاجتهاد فهو داخل في التعريف ولا محالة. علم الملائكة: قد تتحمل الملائكة الحكم عن الله أو عن طريق النظر في اللوح المحفوظ، أو غير ذلك دون دليله، أو بدليله، فالأول لا يدخل والثاني يدخل. علم المقلد: والمقلد قد يعرف بعض الأحكام مع أدلتها فيدخل في الحد. وكل ما قلت عليه أنه داخل في الحد فهو مما يجعل الحد غير مانع. مما سبق يظهر أنه لابد من إضافة قيد (المكتسبة) أي: المستنبطة عن طريق النظر والاستدلال ليخرج علم الله عزوجل فهو علم لازم لذاته لم يكتسبه. وليخرج علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو علم مستفاد من الوحي غير مكتسب عن طريق النظر والاستدلال. ويخرج علم الملائكة فهو علم مستفاد من وحي الله إليهم، أو عن طريق النظر في اللوح المحفوظ، أو غير ذلك، فهو غير مكتسب عن طريق النظر والاستدلال. ويخرج أيضا علم المقلد؛ لأنه لم يكتسبه عن طريق النظر والاستدلال. السادس - (وهو مؤكد للأول من لزوم إضافة القيد السابق) إننا لو نظرنا إلى قول الشيخ (معرفة الأحكام) بأنه إن أراد به بعض الأحكام، دخل المقلد في الفقه، لأن كثيرا من المقلدين يعلم بعض الأحكام، مع أنه ليس بفقيه، فيكون الحد المذكور غير مانع، وإن أراد العلم بجميع الأحكام، لم يكن الحد جامعا، بل لم يوجد فقه ولا فقيه، إذ

تعريف أصول الفقه كلقب.

جميع الأحكام لا يحيط بها بشر؛ لأن الأئمة الأربعة وغيرهم سئلوا عن بعض الأحكام، فقالوا: لا ندري. وجوابه: أن لنا التزام كل واحد من القسمين، فإن التزمنا أن المراد العلم ببعض الأحكام، فالمراد العلم بها بأدلتها وأماراتها ووجه استفادتها منها، والمقلد لا يعلم بعض الأحكام كذلك، فلا يدخل في الحد، فيكون مانعا. وإن التزمنا أن المراد العلم بجميع الأحكام، فالمراد العلم بجميعها بالقوة القريبة من الفعل، والمراد بذلك تهيؤه، يعني تهيؤ المجتهد للعلم بالجميع لأهليته للاجتهاد والاستنباط، لما عنده من الاستعداد بمعرفة أدلة الأحكام، ووجوه دلالتها، وكيفية اقتباس الأحكام منها. والحاصل أنه ليس المعتبر أن يكون عالما بجميع الأحكام بالفعل، أعني يستحضرها في الحال، بل بعضها بالفعل والاستحضار، وبعضها بالقوة، بمعنى أنه يمكنه معرفتها بعرضها على أدلة الشرع التي قد استعد بمعرفتها لذلك، وهي ملكة الاستنباط، وحينئذ لا يلزم من العلم بها العلم بجميعها بالفعل، فلا يضر قول الأئمة: لا ندري في جواب ما سئلوا عنه من الأحكام، مع تمكنهم من علم ذلك بالاجتهاد قريبا، أي: على قرب من الزمان. بخلاف المقلد، فإنه لا يمكنه معرفة حكم لا يستحضره قريبا ولا بعيدا. وعليه فيكون تعريف الشيخ للفقه اصطلاحا: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة بأدلتها التفصيلية). وقد سبق بيان أن الفقه هو نفس الأحكام لا معرفتها ولا العلم بها فيكون تعريف الفقه المختار هو: (الأحكام الشرعية العملية المكتسبة بأدلتها التفصيلية). تعريف أصول الفقه كلقب. قال الشيخ: (الثاني: باعتبار كونه لقباً، فيعرف بأنه: " علم يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد "). شرح التعريف، قوله " الإجمالية " أي غير المعينة، تسمى أيضا الكلية وهي كالقواعد العامة مثل قولهم: الأمر للوجوب والنهي للتحريم، وكالعام والخاص، والمطلق والمقيد، وكالكتاب والسنة، ونحو ذلك، والأدلة الإجمالية خلاف التفصيلية التي سبق وأن تكلمنا عنها في تعريف الفقه.

تنبيهات:

فعلم الأصول إنما يبحث في هذه الأدلة الإجمالية، كمطلق الأمر، وكالإجماع والقياس فيبحث عن الأول بأنه للوجوب حقيقة أم للاستحباب، وعن الأخيرين بأنهما حجة أم لا، ويبين أقسامهما. قوله: " وكيفية الاستفادة منها " يعني أن الأصولي يضع القواعد التي عن طريقها يستطيع الفقيه معرفة كيف يستفيد الأحكام من أدلتها الجزئية أو التفصيلية، فيبين له أحكام الألفاظ ودلالاتها من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وناسخ ومنسوخ وغير ذلك. قوله: " وحال المستفيد " معرفة حال المستفيد وهو المجتهد سمى مستفيداً لأنه يستفيد بنفسه الأحكام من أدلتها لبلوغه مرتبة الاجتهاد فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك يبحث في أصول الفقه. وأقرب عبارات الحنابلة لعبارة الشيخ هي عبارة صفي الدين الحنبلي في "قواعد الأصول ومعاقد الفصول" (ص/21) حيث قال في تعريف الأصول: (معرفة دلائل الفقه إجمالا وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد) وهذا أيضا تعريف الأرموي والبيضاوي الشافعيان وغيرهما، إلا أنه يؤخذ على هذا التعريف أنه عرف علم الأصول بأنه معرفة دلائل الفقه ... ، والأولى تعريفه بأنه نفس الأدلة لا معرفتها ولا العلم بها. قال المرداوي في التحبير (1/ 177): "الأصح أن أصول الفقه: الأدلة، لا معرفتها "، وقال أيضا: "إذ العلم والمعرفة بأصول الفقه غير أصول الفقه، فلا يكون داخلاً في ماهيتها" (¬1). تنبيهات: من دقق النظر في عبارة الشيخ يجد: أولًا- أن عبارته - رحمه الله - أقرب لتعريف الأصولي لا علم الأصول، فالأصولي هو الذي يبحث عما ذكر وأما علم الأصول فهو الأدلة ذاتها. ¬

_ (¬1) انظر "نهاية السول" (1/ 16) وحاشية المطيعي عليه.

ثانيا-

ثانيًا- أنه جعل موضوع العلم (¬1) وهو: الأدلة، كالثمرة أو النتيجة أو الوظيفة لا نفس العلم. ثالثًا - قال الشيخ عياض السلمي في كتابه: " أصول الفقه الذي لا يسع الفقيهَ جهلُه" (ص/16): "عبر بلفظ الكيفية، وهي مصدر صناعي من الكيف، وليست فصيحة كما يقول أهل اللغة، والأولى أن يستعاض عنها بلفظ صفة". وجاء في "المعجم الوسيط": " (الكيفية) مصدر صناعي من لفظ كيف زيد عليها ياء النسب وتاء للنقل من الاسمية إلى المصدرية وكيفية الشيء حاله وصفته والكيفية إن اختصت بذوات الأنفس تسمى كيفية نفسانية كالعلم والحياة وإن كانت راسخة في موضعها تسمى ملكة وإلا سميت حالا كالكتابة فإنها في ابتدائها تكون حالا فإذا استحكمت صارت ملكة". وعليه فالأولى في تعريف أصول الفقه كلقب أن نقول هو: (أدلة الفقه الإجمالية وطرق (¬2) استفادة جزئياتها وحال مستفيدها) (¬3). ¬

_ (¬1) قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (1/ 36): "موضوع ذا" أي هذا العلم الذي هو أصول الفقه "الأدلة الموصلة إلى الفقه" من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ونحوها؛ لأنه يبحث فيه عن العوارض اللاحقة لها، من كونها عامة أو خاصة، أو مطلقة أو مقيدة، أو مجملة، أو مبينة، أو ظاهرة أو نصا، أو منطوقة، أو مفهومة، وكون اللفظ أمرا أو نهيا، ونحو ذلك من اختلاف مراتبها، وكيفية الاستدلال بها، ومعرفة هذه الأشياء هي مسائل أصول الفقه. وموضوع علم الفقه: أفعال العباد من حيث تعلق الأحكام الشرعية بها. تتمة وتوضيح: اختلف علماء الأصول في موضوعه على أقوال ومنها: الأول وهو رأي الجمهور وهو الراجح أن موضوعه هو الأدلة السمعية مجملة، والقول الثاني، وهو لبعض الحنفية أن موضوعه هو: الأحكام الشرعية سواء أكانت طلبية أو وضعية، والقول الثالث أن موضوعه الأدلة والأحكام الشرعية، وقد ذهب إليه صدر الشريعة من الحنفية. وانظر الأصول والفروع للشيخ الشثري (ص/62). (¬2) المراد بطرق الاستفادة: معرفة الترجيح عند التعارض مثلا، قال البناني في "حاشيته على جمع الجوامع" (1/ 35): "حقيقة الطرق هي المسالك وقد أريد بها المرجحات تشبيها لها بالمسالك بجامع التوصل بكل إلى المقصود ". (¬3) وهذا التعريف ذكره الأنصاري في لب الأصول وشرحه في غاية الأصول (ص/4) بقوله: ((أصول الفقه) أي الفنّ المسمى بهذا اللقب المشعر بمدحه بابتناء الفقه عليه ... (أدلة الفقه الإجمالية) أي غير المعينة كمطلق الأمر والإجماع من حيث إنه يبحث عن أوّلهما، بأنه الوجوب حقيقة، وعن ثانيهما بأنه حجة. (وطرق استفادة جزئياتها) التي هي أدلة الفقه التفصيلية المستفاد هو منها، والمراد بالطرق المرجحات. (وحال مستفيدها) أي وصفات مستفيد جزئيات أدلة الفقه الإجمالية، وهو المجتهد لأنه الذي يستفيدها بالمرجحات عند تعارضها دون المقلد، والمراد بصفاته شرائطه، ويعبر عنها بشروط الاجتهاد، وخرج بأدلة الفقه: غير الأدلة، كالفقه، وأدلة غير الفقه، كأدلة الكلام، وبعض أدلة الفقه، وبالإجمالية: التفصيلية، وإن لم يتغايرا إلا بالاعتبار كـ: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [الأنعام: 72]، (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) [الإسراء: 32]، وصلاته صلى الله عليه وسلّم في الكعبة، فليست أصول الفقه، وإنما يذكر بعضها في كتبه للتمثيل. (وقيل) أصول الفقه (معرفتها) أي معرفة أدلة الفقه وما عطف عليها، ورجح الأول لأن الأدلة وما عطف عليها إذا لم تعرف لم تخرج عن كونها أصولاً، والأصل قال: أصول الفقه: دلائل الفقه الإجمالية، وقيل معرفتها، ثم قال: والأصولي العارف بها وبطرق استفادتها ومستفيدها، مخالفا في ذلك الأصوليين باعترافه، وقرره في منع الموانع بما لا يشفي، وقرره شيخنا العلامة الجلال المحلي بما لا مزيد عليه، واستبعده أيضا شيخه العلامة الشمس البرماوي، وقال لا يعرف في المنسوب زيادة قيد من حيث النسبة على المنسوب إليه، وعدلت عن قوله: دلائل، إلى قولي: أدلة، لأن الموجود هنا جمع قلة لا جمع كثرة، ولما قيل إن فعائل لم يأت جمعا لاسم جنس بوزن فعيل، وإن ردّ بأنه أتى نادرا كوصائد جمع وصيد).

فائدة أصول الفقه

فائدة أصول الفقه قال الشيخ: (فائدة أصول الفقه: التمكن من حصول قدرة يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة). هذه العبارة من الشيخ جامعة لعدة فوائد وقد فصل فوائد أصول الفقه محمد الحبش في شرحه على المعتمد فقال ما محصله: الغاية الكبرى من هذا العلم الشريف وهي الوصول إلى رضا الله سبحانه وطاعة رسوله إذ لا يتوصل إلى ذلك إلا بعد معرفة أحكام المولى سبحانه وتعالى، وقد ذكروا له من الفوائدِ ما لا يستطيع أحد إحصاءه: - فهو السبيل القويم للاجتهاد وذلك أن الاجتهاد في الإسلام محكوم بموازين دقيقة يجب اتباعها وإلا كان الاجتهاد بلا ضوابط لوناً من العبث. - ومن فوائده أنه أظهر مزايا التشريع الإسلامي وحيويته ومرونته وبه حفظ الله القرآن العظيم من العبث والتأول وحفظ الأحكام من الفوضى.

أول من صنف فيه

- ومن فوائده أنه يظهر مناهج الأئمة في استنباط الأحكام وبذلك ترتفع الشحناء من النفوس ويعذر المسلم إخوانه من المسلمين فيما اختاروه من مذاهب فقهية. - إن القواعد التي أَصَّلها العلماء للاستنباط هي أيضا منهج دقيق للتفكير السليم حيث توضع العبارات في موازين دقيقة تستنبط منها الأحكام الشرعية وهكذا فإنَّ علم الأصول يكسب الطالب ملكة التفكير الصحيح السليم. - فالقواعدُ الأصولية وحدها هي الكفيلة باستنباط أحكام شرعية لكل ما يستجد من القضايا خلال تطور الحياة وتنوع العقود والمعاملات والاكتشافات. - إن علم أصول الفقه يضبط الفروع الفقهية ويردها إلى أصولها ويجمع المبادئ المشتركة ويبين أسباب التباين بينها ويظهر مبررات الاختلاف وهكذا فإنه يكون فيصلاً واضحاً يعتمده الفقيه والمجتهد في تقرير الأحكام. - ومن فوائده أنه يعتبر العماد الرئيس لمن يدرس المذاهب الإسلامية بقصد المقارنة والإفادة من اجتهاد الجميع. - وثامن هذه الفوائد هي أن يستبصر طالب العلم في اختلاف الأئمة في الفروع وما يعود به هذا الاختلاف على الفقه الإسلامي من ثراء ووفرة. أول من صنف فيه قال الشيخ: (وأول من جمعه كفن مستقل الإمام الشافعي رحمه الله). وقد صنف الإمام الشافعي (204 هـ) عدة رسائل في ذلك، فصنف الرسالة قال الحبش: وهو عبارة عن محاولة أولى لتحديد طرق الاستنباط ومصادر التشريع وقد كتبه الإمام الشافعي أساساً رداً على جماعة منكري السنة الذين ظهروا في عصره فأثبت فيه حجية السنة ثم توسع فبين مصادر التشريع تفصيلاً ومناهج الاستدلال بها. وكذلك صنف الشافعي كتباً أخرى في الأصول منها: جماع العلم وهو كتاب قصد منه إثبات وجوب اتباع خبر الآحاد الصحيح وأقام الأدلة على ذلك. ثم كتب الإمام الشافعيُّ كتابين آخرين وهما: إبطال الاستحسان وكتاب اختلاف الحديث وكلاهما من الكتب المبكرة في علم أصول الفقه). - وقيل إن أبا يوسف (182 هـ) صاحب أبي حنيفة سبق الشافعي في ذلك فقال

الأحكام

ابن خلكان في "وفيات الأعيان": " وقال طلحة بن محمد بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر ظاهر الفضل، وهو صاحب أبي حنيفة، وأفقه أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم والرياسة والقدر، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض". - وقيل أن أول من صنف هو محمد بن الحسن الشيباني (189 هـ) وقد صرح ابن النديم في «الفهرست» بان للشيباني من مؤلفاته الكثيرة تأليف يسمى ب‍ «أصول الفقه» وتأليف سماه «كتاب الاستحسان» وتأليف «كتاب اجتهاد الرأي». - وقيل أن أول من صنف هشام بن الحكم الرافضي توفي (179، وقيل 187، وقيل 198 - 199 هـ) وينسب إليه كتاب الألفاظ. ومن الملاحظ أن الشافعي تتلمذ على الشيباني والشيباني تتلمذ على أبي يوسف. الأحكام تعريف الحكم لغة: قال الشيخ: (الأحكام: جمع حكم وهو لغة القضاء). قال الفيومي: (الْحُكْمُ الْقَضَاءُ وَأَصْلُهُ الْمَنْعُ يُقَالُ حَكَمْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا إذَا مَنَعْته مِنْ خِلَافِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَحَكَمْتُ بَيْنَ الْقَوْمِ فَصَلْتُ بَيْنَهُمْ فَأَنَا حَاكِمٌ وَحَكَمٌ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْجَمْعُ حُكَّامٌ وَيَجُوزُ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ ... ) (¬1). قال المرداوي في التحبير (2/ 789): (اعلم أن الحكم مصدر قولك: حكم بينهم يحكم حكماً، إذا قضى، ومعناه في اللغة: المنع، وإليه ترجع تراكيب مادة: ح، ك، م، أو أكثرها، فمن ذلك: حكمت الرجل تحكيماً، إذا منعته مما أراد. وحكمت السفيه بالتخفيف -، وأحكمت، إذا أخذت على يده. وسمي القاضي: حاكماً؛ لمنعه الخصوم من التظالم). ¬

_ (¬1) المصباح المنير، وانظر أيضا: تهذيب اللغة، مختار الصحاح، لسان العرب، تاج العروس: مادة (ح ك م).

تعريف الحكم اصطلاحا:

تعريف الحكم اصطلاحاً: قال الشيخ: (واصطلاحاً: ما اقتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع). شرح التعريف (¬1): - ما اسم موصول بمعنى الذي أي هو الذي اقتضاه ... - الاقتضاء بمعني الطلب. - خطاب الشرع إما أن يكون مباشرا أو غير مباشر، فالأول الكتاب والثاني السنة. - أفعال أي أعمالهم سواء أكانت قولا أم فعلا أم إيجادا أم تركا، فخرج به ما تعلق بالاعتقاد فلا يسمى حكماً بهذا الاصطلاح. - المكلفين أي ما من شأنهم التكليف فيشمل الصغير والمجنون (ولنا وقفة مع هذا التعميم بعد قليل). - طلب يدخل فيه الأمر والنهي. الأمر: طلب للفعل (سواء أكان على سبيل اللزوم أم الأفضلية). النهي: طلب للترك (سواء أكان على سبيل اللزوم أم الأفضلية). - أو تخيير يعني أن المكلف مخير بين الفعل والترك. والمدقق في الأقسام الخمسة السابقة يلاحظ أن الأول هو الواجب إذ أن طلبه من للشارع للمكلف على سبيل الإلزام، والثاني هو المندوب، والثالث هو المحرم، والرابع هو المكروه، والخامس هو المباح (وهذه تسمى الأحكام الطلبية أو التكليفية). - أو وضع يعني الصحيح والفاسد ونحوهما مما وضعه الشارع من علامات وأوصاف للنفوذ والإلغاء (وهذه تسمى الأحكام الوضعية). توضيح: قال ابن النجار في " شرح الكوكب " (1/ 335): " وخرج بقوله: "المتعلق بفعل المكلف" خمسة أشياء: الخطاب المتعلق بذات الله وصفته وفعله. وبذات المكلفين والجماد. ¬

_ (¬1) وهذا الشرح مستفاد من كلام الشيخ ببعض التصرف.

تنبيهات حول التعريف:

فالأول: ما تعلق بذاته، نحو قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران: 18]. والثاني: ما تعلق بصفته، نحو قوله تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 255]. الثالث: ما تعلق بفعله، نحو قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد: 16]. الرابع: ما تعلق بذات المكلفين، نحو قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ) [الأعراف: 11]، وقوله تعالى: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [النساء: 1]. الخامس: ما تعلق بالجماد. نحو قوله تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) [الكهف: 47]، ونحوها". تنبيهات حول التعريف: التنبيه الأول: أن الشيخ حد الحكم الشرعي اصطلاحا مع أن ظاهر عبارته أنه يعرف مطلق الحكم اصطلاحا، وبينهما فرق. قال الشنقيطي في المذكرة (ص/7): " الحكم في الاصطلاح هو (إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه) نحو زياد قائم وعمرو ليس بقائم وهو ينقسم بدليل الاستقراء إلى ثلاثة أقسام: حكم عقلي وهو ما يعرف فيه (العقل) النسبة إيجابا أو سلباً نحو الكل أكبر من الجزء إيجابا، الجزء ليس أكبر من الكل سلباً. حكم عادى: وهو ما عرفت فيه النسبة بالعادة نحو السقمونيا مسهل للصفراء والسكنجبين مسكن لها. حكم شرعي: وهو المقصود وحده جماعة من أهل الأصول بأنه ... ). وعليه فكان ينبغي أن يقول الشيخ تعريف الحكم الشرعي اصطلاحا، إلا أنه يغتفر عدم ذكر هذا القيد لأن الشرعي هو المقصود، فكأن الألف واللام في قوله (الحكم) للعهد الذهني. التنبيه الثاني: قوله (ما اقتضاه) صدر بها الشيخ تعريفه - سيرا على طريقة الفقهاء، وبعض

التنبيه الثالث:

الأصوليين في تعريف الحكم - فهي كالجنس في التعريف، ومن فواصلها التي ذكرها الشيخ في التعريف: الطلب، والتخيير، والوضع. ومن تأمل هذه الفواصل مع الأخذ في الاعتبار تفسير الشيخ للاقتضاء بأنه الطلب، لاحظ الآتي: أ- فقوله في التعريف: (ما اقتضاه ... من طلب ... ) يكون تكرار ولا يصح أن يكون الفصل بنفس الجنس لما فيه من دور (¬1). ب - أن التخيير والوضع، ليس فيهما طلب فلا يصلحا أن يكونا فواصل للطلب، وقد يغتفر الأمر بالنسبة للمباح؛ للخلاف الوارد في دخوله في الأحكام الطلبية، أو على قول أن دخوله مسامحة لتكميل القسمة (¬2). ويجاب عن هذا بأن من معاني الاقتضاء: الدلالة، قال الفيومي في " المصباح المنير": (اقْتَضَى الْأَمْرُ الْوُجُوبَ دَلَّ عَلَيْهِ) (¬3). التنبيه الثالث: قال الشيخ العثيمين في شرح الأصول (ص/39): (لو قلنا "بأعمال المكلفين"؛ لأن العمل هو الذي يشمل القول والفعل، والفعل يُؤتى به في مقابل القول بخلاف العمل. فالعمل يطلق على الفعل والقول، والقول مقابل الفعل. ففي الحقيقة لو إننا عكسنا لكان أولى). ¬

_ (¬1) ويؤيد هذا تعريف بعض العلماء للحكم الشرعي بقوله: (خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال ... المكلفين بالاقتضاء أو التخيير) وزاد بعضهم: (أو الوضع)، فعبروا بالاقتضاء مكان تعبير الشيخ بالطلب، وانظر: أصول ابن مفلح (1/ 181)، المختصر لابن اللحام (ص/57)، شرح مختصر الروضة (1/ 247)، التمهيد للإسنوي (1/ 48) ن المحصول للرازي (1/ 107)، الإحكام للآمدي (1/ 135)، البحر الحيط للزركشي (1/ 91)، وغيرهم. (¬2) وسوف يأتي - بإذن الله - مناقشة ذلك. (¬3) وانظر أيضا: تاج العروس، المعجم الوسيط، مادة (ق ض ى)، والتعاريف للمناوي (1/ 585).

أيهما أعم الفعل أم العمل؟

أيهما أعم الفعل أم العمل؟ وهذا الذي استدركه الشيخ على نفسه هو المشهور للمقابلة بين القول والفعل، فالعمل يجمعهما، وقد قال به جماعة من العلماء قال المرداوي في "التحبير" (5/ 2144): (العمل يشمل القول والفعل). ويستدل لهذا القول بآيات كثيرة منها: قوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً) (¬1)، وقوله: (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (¬2)، وقوله: (وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (¬3). وقال ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (1/ 9): " رأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصص الأعمال بما لا يكون قولا وأخرج الأقوال عن ذلك وفي هذا عندي بعد وينبغي أن يكون لفظ العمل يعم جميع أفعال الجوارح نعم لو كان خصص بذلك لفظ الفعل لكان أقرب فإنهم استعملوها متقابلين فقالوا الأفعال والأقوال". ويشكل على هذا الاستدراك قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به)، فجعل العمل قسيم القول. قال ابن رجب في "فتح الباري" (1/ 6): "الفعل: من الناس من يقول: هو مرادف للعمل. ومنهم من يقول: هو أعم من العمل. فمن هؤلاء من قال: الفعل يدخل فيه القول وعمل الخوارج، والعمل لا يدخل فيه القول على الإطلاق". والمسألة خلافية وتوجيهات الأدلة فيها حمالة، والأقوال فيها محتملة. وبالنظر إلى صنيع أهل الأصول في تعريف الحكم نجد أنهم قد درجوا على استعمال لفظ "الفعل" بدلا من "العمل"، وعليه فلنتوقف في تعريف الحكم الشرعي على صنيعهم. ¬

_ (¬1) (سورة الفرقان / آية 23). (¬2) (سورة الزمر / آية 40). (¬3) (سورة الأعراف / آية 139)، (سورة هود / آية 16).

التنبيه الرابع:

التنبيه الرابع: قال الشيخ في الشرح (ص/40): (والمراد بقولنا " المكلفين" ما من شأنهم التكليف وإن كانوا في نفس الوقت غير مكلفين لوجود المانع فيشمل الصغير، والمجنون. س: وهل الصغير والمجنون يتعلق بأفعالهما حكم؟! ج: نعم، يتعلق بفعلهما حكم. س: فإن قلت: هل هم مكلفون؟ ج: نقول: نعم، هم مكلفون في الأصل، لكن وُجد مانع وهو الجنون والصغر، وإلا فإن من شأنهم أن يكلفوا. أما البعير والبقرة والشاة والحمار والهرة، فهي غير مكلفة ... الأصل: إذا قال: المكلفين الذين من شأنهم أن يكلفوا، يدخل فيهم بنو آدم بلا شك. س: وهل يدخل فيهم الجن؟ ج: نعم، الجن مكلفون في الجملة بلا شك، ولهذا يحاسبون ويعاقبون (¬1) ... ). وقول الشيخ: (فيشمل الصغير والمجنون) وقع في بعض النسخ "فلا يشمل"، وإنما نقلت عبارة الشيخ هنا كاملة ليتبين من خلال السياق المراد من عبارته، وعبارة الشيخ محتملة لكلا المعنيين، فقوله: (فيشمل) تحمل على حال الابتداء قبل ورود العارض عليهم، فهم من شأنهم التكليف وهذا يناسب ذكره للحكم الطلبي مع التكليفي في تعريف الحكم. وأما قوله: (فلا يشمل) فتحمل على حال الانتهاء بعد ورود المانع عليهم، هذا وإن كان هو الأولى إلا أنه يستلزم حذف القيد الأخير من التعريف، وهو قوله: (أو وضع). وإيضاح ذلك كما يلي: تمهيد: وهنا نكتة ينبغي التفطن لها، وهي أن الحكم الذي عرفه الشيخ يشمل الحكم الطلبي والوضعي، فالأول لا يصح أن يدخل فيه المجنون، والصغير؛ لوجود موانع التكليف فيهما، فالحديث بيَّن رفع القلم عنهم فلا عقاب ولا ثواب عليهم حال قيام ¬

_ (¬1) وسوف يأتي - بإذن الله - الكلام على تكليف الجن، وأنهم مكلفون في الجملة ولكن تكليفهم لا على حد تكليف الإنس.

العذر، وإنما هم مخاطبون بالحكم الوضعي فمن أتلف شيئا وجب علي وليه ضمانه، وأن ذلك من باب ربط الحكم بالسبب. أولاً - على اعتبار صحة قوله: (فيشمل) فيكون الظاهر من عبارته - رحمه الله - أنه يريد تعميم كلمة المكلفين لتشمل الصغير والمجنون، بمعنى أن يجعلها مرادفه لكلمة: العباد، أو الناس، كما عبر بها البعض (¬1). وعليه فيحمل قوله في التعريف: (المتعلق) على ما يشمل التعلق بواسطة والتعلق بغير واسطة، فالتعلق بغير واسطة إنما هو لخطاب الطلب، والتعليق بواسطة إنما هو لخطاب الوضع فالتكليف هنا لأصحاب الموانع إنما يكون بواسطة خطاب وليهم في الصبي والمجنون ويتجه أيضا لمالك البهيمة (¬2). وهذا الوجه هو الأولى في حمل كلام الشيخ عليه نظرا لشموله الخطاب الطلبي، والوضعي، إلا أنه يشكل عليه ما سيأتي من فروق بين الخطابين (¬3)، وأن بعض أنواع الخطاب الوضعي لا يصح أن تدخل في التعريف، وهي ما انفرد فيه خطاب الوضع عن خطاب التكليف: كزوال الشمس وسائر أوقات الصلوات أسباب لوجوبها، وطلوع الهلال سبب وجوب رمضان، وصلاة العيدين والشك والحيض مانع من الصلاة والصوم، والبلوغ شرط لوجوبها، وحؤول الحول شرط لوجوب الزكاة، فكل هذه متجردة عن خطاب الطلب، ليس هو فيها أنفسها، بل في غيرها، كالوجوب مثلا متعلق بالصلاة لا بالزوال، وبصوم رمضان لا بطلوع الهلال. فهذا القسم واضح أنه لا يؤول إلى تكليف لا بواسطة ولا بغيرها، فهذا هو أحد وجوه ترجيحي للاحتمال الثاني في كلام الشيخ. ثانيا - وأما على فرض صحة ما جاء في بعض النسخ من قوله: (فلا يشمل الصغير والمجنون) فلا يدخل فيه الحكم الوضعي، فيُلزم الشيخ بهذا التخصيص حذف ¬

_ (¬1) انظر: شرح مختصر الروضة (1/ 167)، الإبهاج (1/ 47)، التقرير والتحبير (2/ 105)، البحر المحيط (1/ 91)، التوضيح في حل غوامض التنقيح (1/ 26)، تيسير التحرير (2/ 132)، شرح التلويح على التوضيح (1/ 27). (¬2) انظر حاشية المطيعي على شرح الإسنوي لمنهاج البيضاوي (1/ 60). (¬3) وسوف يأتي - بإذن الله تعالى - مزيد بيان لهذا عند الكلام على الحكم الوضعي.

تتمة:

الحكم الوضعي من تعريف الحكم الشرعي - كما فعل الطوفي. فالمجنون والصغير مرفوع عنهم القلم فلا عقاب ولا ثواب عليهم حال قيام العذر فلا يشملهم الخطاب الطلبي، ولكنهم مخاطبون بالحكم الوضعي من باب ربط الحكم بالسبب فلم يناسب هذا الاستثناء الذي ذكره الشيخ، فيحذف هذا القيد. قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (1/ 254): (قوله: «وقيل: أو الوضع» أي: قال بعض الأصوليين: الحكم خطاب الله، المتعلق بأفعال المكلفين، بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع. وأراد بذلك دخول الأحكام الثابتة بأسباب وضعية، وهو المسمى خطاب الوضع والإخبار، وذلك نحو صحة العقد وفساده، وقضاء العبادة وأدائها، ونصب الأسباب والشروط والموانع علامات على أحكامها، فإن هذه كلها أحكام شرعية، وليست خطابا اقتضاء ولا تخييرا، فإذا قيل: أو الوضع، دخلت تلك الأحكام في الحد المذكور فكمل، والعذر لمن لم يقل: أو الوضع، هو أن الحكم الشرعي ضربان: خطابي، أي: ثابت بالخطاب، ووضعي إخباري، أي: ثابت بالوضع والإخبار، وغرضه بالتعريف هاهنا الحكم الخطابي لا الوضعي، إذ ذلك يعقد له باب مستقل يذكر فيه. ومأخذ الخلاف بينهما: أن أحدهما يريد تعريف الحكم الشرعي الأصلي، وهو الخطابي. أما الوضعي، فهو على خلاف الأصل، لضرورة قد بيناها عند ذكر خطاب الوضع. ولذلك قلنا: إن الأحكام السببية على خلاف الأصل، «والأولى أن يقال: مقتضى خطاب الشرع» المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا). ويوضحه ما قاله في "مختصر الروضة" (ص/12): (من شروط المكلف: العقل، وفهم الخطاب. فلا تكليف على صبي ولا مجنون، لعدم المصحح للامتثال منهما، وهو قصد الطاعة. ووجوب الزكاة والغرامات في ماليهما، غير وارد، إذ هو من قبيل ربط الأحكام بالأسباب، كوجوب الضمان ببعض أفعال البهائم). وعليه فالأولى حذف القيد الأخير من التعريف وهو قوله: (أو وضع). تتمة: ويلحق النائم بالصغير والمجنون لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يعقل أو

التنبيه الخامس:

يفيق" (¬1). وأيضا ينبغي التنبيه إلى أن الكافر مكلف بالشريعة - أصولا وفروعا - بمعنى أنهم يعاقبون عليها ولا تصح منهم لعدم تحقق شروط صحة الفعل منهم، قال تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)). وسوف يأتي بإذن الله زيادة بيان لذلك عند الكلام على الحكم الوضعي. التنبيه الخامس: قوله: (المكلفين) غير جامع من ناحية أنه لا يدخل فيه بعض الأفعال الخاصة بمكلف واحد كشهادة خزيمة وخصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك. قال ابن النجار في شرح الكوكب المنير (1/ 337): (وقلنا: "المكلف" بالإفراد ليشمل ما يتعلق بفعل الواحد، كخصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وكالحكم بشهادة خزيمة، وإجزاء العناق في الأضحية لأبي بردة ... ). التنبيه السادس - المعدوم ليس بشيء: من المقرر عند أهل السنة والجماعة أن المعدوم ليس بشيء خلافا للمعتزلة، فلو احترزنا عن خطاب المعدوم لقلنا: المتعلق بما يصح أن يكون فعلا للمكلف (¬2)، ويجاب عن هذا بجوابين، وهما: أن المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، والثاني أنه يصح خطاب المعدومين من هذه الأمة تبعاً للموجودين منها. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" (3/ 370) " (وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) [مريم: 9]، دليل على أن المعدوم ليس بشيء، ونظيره قوله ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وصححه الألباني. (¬2) انظر البحر المحيط للزركشي (1/ 91).

التنبيه السابع:

تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) [النور: 39]، وهذا هو الصواب، خلافا للمعتزلة القائلين: إن المعدوم الممكن وجوده شيء، مستدلين لذلك بقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس: 82]، قالوا: قد سماه الله شيئا قبل أن يقول له كن فيكون، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده، ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية: لأن المعدوم ليس بشيء، أو ليس شيئا يعتد به، كقولهم: عجبت من لا شيء، وقول الشاعر: وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا لأن مراده بقوله: غير شيء، أي: إذا رأى شيئا تافها لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلا ; لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه، والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن: من أن المعدوم ليس بشيء، والجواب عن استدلالهم بالآية: أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل، كقوله: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل: 1]، وقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الكهف: 99]، وقوله: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) [الزمر: 69] ... وأمثال ذلك، كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى أطلقت مرادا بها المستقبل ; لأن تحقق وقوع ما ذكر صيره كالواقع بالفعل، وكذلك تسميته شيئا قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى). وقال في "المذكرة" (ص/195): (قد دلت النصوص الصحيحة على خطاب المعدومين من هذه الأمة تبعاً للموجودين منها كقوله صلى الله عليه وسلم: (تقاتلون اليهود. الحديث) وقوله: (تقاتلون قوماً نعالهم الشعر. الحديث) وقوله في قصة عيسى: (وإمامكم منكم) فالمقصود بجميع تلك الخطابات: المعدومون يومئذ بلا نزاع كما هو ظاهر , وإنما ساغ خطابهم تبعاً لأسلافهم الموجودين وقت الخطاب). التنبيه السابع: ينبغي التفريق بين طريقة جمهور الأصوليين وطريقة الفقهاء وبعض الأصوليين في تعريف الحكم الشرعي. قال الشيخ عياض السلمي في " أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله" (ص/24):

(الحكم في اصطلاح جمهور الأصوليين: «خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع». وعند الفقهاء: هو مقتضى خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين الخ، أو مدلول خطاب الله الخ. ومال بعض الأصوليين إلى اختيار هذا التعريف ... ). وقال صاحب البيان المأمول: (الفقهاء وعلماء الفروع يعنون بالحكم الشرعي في لغتهم الأثر الذي يترتب على الدليل كالوجوب والحرمة والإباحة، وأما علماء الأصول فيعنون دليل الحكم الذي هو الآية أو الحديث أو نص الإجماع وهكذا، فمثلاً قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (البقرة:43) هذا هو الحكم نفسه عند الأصوليين، وأما عند الفقهاء فيعنون ما يترتب على هذا النص وهو وجوب الصلاة). وقال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (1/ 333): ("الحكم الشرعي" في اصطلاح الفقهاء: "مدلول خطاب الشرع". قال الإمام أحمد رضي الله عنه: الحكم الشرعي خطاب الشرع وقوله. قال في "شرح التحرير": والظاهر أن الإمام أحمد أراد بزيادة: "وقوله" على خطاب الشرع: التأكيد، من باب عطف العام على الخاص؛ لأن كل خطاب قول، وليس كل قول خطابا. انتهى). وسبب الاختلاف بين الطريقتين أن الأصولي يبحث في الأدلة ذاتها - التي هي موضوع علم الأصول - فيكون نظره لذات الدليل، وأما الفقيه فيبحث في متعلق الأدلة - إذ أن موضوع الفقه أفعال المكلف - فيكون نظره لمتعلق الأدلة ومدلول الخطاب وأثره المترتب عليه. وتعريف الشيخ للحكم بأنه ما اقتضاه خطاب الشرع إنما هو موافق لطريقة الفقهاء وبعض الأصوليين في تعريف الخطاب، والأولى اعتماد تعريف جمهور الأصوليين، إذ أننا نتكلم في علم الأصول لا فروعها. ومما سبق نقول أن التعريف المختار للحكم الشرعي هو (خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء، أو التخيير).

أقسام الأحكام الشرعية

أقسام الأحكام الشرعية قال الشيخ: (تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين: تكليفية ووضعية. فالتكليفية خمسة: الواجب والمندوب والمحرَّم والمكروه والمباح). الواجب، المندوب، وما ذكره الشيخ ليست هي الأحكام التكليفية لا على طريقة جمهور الأصوليين ولا على طريقة الفقهاء، وإنما هي الأفعال التي تعلق بها أثر الحكم الشرعي كما سبق التنبيه على ذلك وسيأتي - بإذن الله - مزيد بيان له. تنبيه - هل يصح إطلاق لفظ التكاليف على جميع الأحكام الشرعية؟ بيان وجه المنع من إطلاق لفظ التكاليف على جميع الأحكام الشرعية. كون الأحكام الشرعية تسمى تكليفا وتعليل ذلك بأن فيها كلفة ومشقة ليس المقصود من ذلك أن جميع الأحكام الشرعية فيها مشقة أو أن ذلك شرط لكي يصح نسبتها للشرع، وإنما غالب الأحكام قرة للعيون وسرور للقلب ولذات للأرواح وكمال للنعيم ومن تأمل قوله - صلى الله عليه وسلم - (أرحنا بها يا بلال) علم مقصود ذلك. وعليه فلا يصح إطلاق القول بأن كلها مشقات فهذا الإطلاق مخالف لما نفاه الله سبحانه من الحرج والضيق عن هذا الدين. كما أن الله سمى الأحكام شرعة ومنهاجا ونور ووصفها بأنها رحمة ويسر وتيسيرا. ولتعلم أن إطلاق لفظ التكاليف على جميع الأحكام الشرعية أول من استعمله المعتزلة إذ أن من أصولهم أن الثواب والعقاب لا يترتب إلا على عمل فيه مشقة وكلفة بل متى لم يكن العمل شاقا لم يستحق صاحبه ثوابا أصلا ولهذا جعلوا الأحكام كلها من باب التكليف. إنني لا أنفي أن بعض الأحكام تسمى تكليفا وفيها مشقة على النفس كالجهاد) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وهذه المشقة تكون معتادة قدر وسع المكلف. إلا أن الإنكار جاء على تعميم ذلك وجعل المشقة شرطا للتكليف وأن الشريعة كلها مشقات وأن المشقة والمضرة جهة لوجوب الفعل، ومن الآثار السلبية لقولهم إنكار كون المباح من الأحكام الشرعية وللرد عليهم مجال

آخر ليس هذا محله وإنما الغرض التنبيه على أصلهم وبيان فساده. قال تقي الدين ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1/ 25): (نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان وكما دل عليه القرآن لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم إن عبادته تكليف ومشقة وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ) الآية [التوبة: 120] وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: (أجرك على قدر نصبك) فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب. ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح أنه تكليف كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي كقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، (لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) [النساء: 84]، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) [الطلاق: 7] أي وإن وقع في الأمر تكليف فلا يكلف إلا قدر الوسع لا أنه يسمى جميع الشريعة تكليفا مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب ولذات الأرواح وكمال النعيم وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه وذكره وتوجه الوجه إليه فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبدا قال الله تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم: 65]). وقال الشيخ العروسي في "المسائل المشتركة" (ص/86): (أطلق الأصوليون والفقهاء على أوامر الله سبحانه ونواهيه بأنها تكاليف، وسموا الأحكام الشرعية بالأحكام التكليفية. ثم قال بعضهم في تعريف التكليف: بأنه إرادة المكلف من المكلف فعل ما يشق عليه، فلزم من ذلك أن الأحكام الشرعية خطاب الشارع بما فيه مشقة على المخاطب. وإطلاق لفظ التكاليف على جميع الأحكام الشرعية، قول مستحدث، وأول من استعمل هذا الإطلاق المعتزلة، إذ أن من أصولهم أن الثواب والعقاب لا يترتب إلا

بيان وجه صحة إطلاق التكاليف على الأحكام الشرعية:

على عمل فيه مشقة وكلفة، بل متى لم يكن الفعل شاقاً لم يستحق صاحبه الثواب أصلًا، ولهذا جعلوا الأحكام كلها من باب التكاليف، حتى اضطر بعضهم كالكعبي أنِ جعل المباح من قبيل الواجب. فظهر أن الاصطلاح على تسمية شرع الله سبحانه ومنهاجه تكاليف لا يصح لأمرين: أولًا: لعدم التسليم بصحة هذا الإطلاق وهو أن الأحكام كلها مشقات، فإن أوامر الله وشرعه ليست كلها مشقات. وهذا الإطلاق مخالف لما نفاه الله سبحانه من الحرج والضيق عن هذا الدين. ثانياً: عدم التسليمِ بصحة إطلاق هذه التسمية على جميع الأحكام، فإن الله سبحانه سماها أحكاماً، وشرعة ومنهاجاً ونوراً ووصفها سبحانه بأنها رحمة ويسر وتيسيراً ... ). بيان وجه صحة إطلاق التكاليف على الأحكام الشرعية: قال الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/68): (أنكر بعض العلماء أن تسمى أوامر الشرع ونواهيه تكاليف؛ لأنها ليس فيها مشقة (¬1). والصواب: صحة الإطلاق؛ إما من جهة أن الإطلاق جاء من قولهم: كَلِفت بالأمر، إذا أحببته، وتكاليف الشرع محبوبة للمؤمن، وإما من جهة أن التكاليف الشرعية لا تخلو من مشقة، ولكنها مشقة معتادة؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» (رواه مسلم من حديث أنس مرفوعا)، وتكون المشقة المنفية هي المشقة الخارجة عن المعتاد المؤدية إلى اختلال الحياة أو المعاش. ومما يدل على صحة تسمية أوامر الشرع تكليفا قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة 286] فالآية تدل على امتناع التكليف بما خرج عن الوسع والطاقة، وتدل على صحة التكليف بما يدخل تحت الوسع والقدرة بطريق المفهوم). ¬

_ (¬1) أحال الشيخ على مجموع الفتاوي (1/ 25 - 26)، وهو نفس الموضع الذي نقلنا عن تقي الدين منه، وتلحظ أن شيخ الإسلام لم يقل بهذا التعميم الموجود في عبارة الشيخ عياض.

الترجيح:

الترجيح: من دقق في القولين السابقين يلحظ أن الخلاف بينهما لفظي فالمنع إنما يتجه لوصف جميع الأحكام الشرعية بأن فيها مشقة وأن ذلك شرط لكي يصح نسبتها للشرع، والإثبات إنما يتجه لكون بعض الأحكام الشرعية فيها نوع مشقة وهي المشقة العادية كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود ورجم الزناة ونحو ذلك. وقد اتفقا على خروج المشقة العظيمة التي تتجاوز الحدود العادية والطاقة البشرية السوية، كالتي تؤدي إلى هلاك أحد الضرورات الخمس، فنحو هذه المشقات إنما هي مرفوعة عن الأمة، ولم يكلفنا الله بها، بل هي موجبة للرخصة والتخفيف كنحو إباحة التيمم للخوف من الاغتسال للجنابة من شدة البرد، ووجوب الفطر لكن خاف على نفسه التضرر بالصوم، ونحو ذلك مما هو معروف في محله. خاتمة - في بيان أن تقصد المشقة لا يجوز في شرعنا: قال سعود الزمانان: (يعتقد بعض الناس أن تقصد المشقة يحصل به الأجر الكبير، فترى بعض الجهلاء يستحب أداء مناسك الحج حافياً تقرباً إلى الله، حتى يتحقق فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: " أجرك على قدر نصبك "، ولحديث جابر في صحيح مسلم قال:" خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد قالوا: نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب آثاركم وفي رواية - فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا - " والذي يظهر لي أن تقصد المشقة ممنوع لما يأتي: أولاً: لا يجوز للإنسان أن يتقصد المشقة عند أدائه لأي عبادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " قول بعض الناس: الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة، التي لم يشرعها الله ورسوله، من جنس تحريمات المشركين وغيرهم ما أحل الله من الطيبات، ومثل التعمق والتنطع الذي ذمه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال:

" هلك المتنطعون " وقال: " لو مدّ لي الشهر لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم " مثل الجوع أو العطش المفرط الذي يضر العقل والجسم، ويمنع أداء واجب أو مستحبات أنفع منه، وكذلك الاحتفاء والتعري والمشي الذي يضر الإنسان بلا فائدة، مثل حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يصوم وأن يقوم قائماً ولا يجلس ولا يستظل ولا يتكلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه ... ". ثم قال - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى" (10/ 622 - 623): " فأما كونه مشقاً فليس سبباً لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقّاً ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة ... فكثيراً ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا فقد تكون المشقة مطلوبة، وكثير من العباد يرى جنس المشقة والألم والتعب مطلوباً مقرباً إلى الله، لما فيه من نفرة النفس عن اللذات والركون إلى الدنيا، وانقطاع القلب عن علاقة الجسد، وهذا من جنس زهد الصابئة والهند وغيرهم ". ثانياً: النيات في العبادات معتبرة في الشرع، فلا يصلح منها إلا ما وافق الشرع، قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - في " الموافقات" (2/ 129): " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل، فالقصد إلى المشقة باطل، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه، وما ينهى عنه لا ثواب فيه، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض ". وقال أيضا (2/ 133): " ونهيه عن التشديد - أي النبي عليه الصلاة والسلام - شهير في الشريعة، بحيث صار أصلاً قطعياً، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح، هذا واضح وبالله

التوفيق ". ثالثاً: باستقراء الأدلة الشرعية فإن الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالمشاق والإعنات، لقوله تعالى {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}، وقوله (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) [البقرة: 286]، وقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286] وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78]، وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [النساء: 28] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وقول عائشة - رضي الله عنها - (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً). رابعاً: لو قصد الشارع التكليف بالمشقة لما حصل الترخيص، فالرخص الشرعية أمر مقطوع به، ومعلوم من الدين بالضرورة، وهي لرفع الحرج والمشقة الواقعة على المكلفين، كرخص القصر، والفطر والجمع بين الصلاتين. خامساً: ثبت في شريعتنا ما يمنع من التكلف والتنطع في دين الله، لقوله تعالى: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص: 86] وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يملّ حتى تملوا). سادساً: نقل الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 122) الإجماع على عدم وجود التكليف بالمشاق غير المعتادة في الشريعة. سابعاً: لو قصدت المشقة في كل مرة وداوم عليها المكلف، لوجدت مشقة غير معتادة وحرج كبير، ممّا يفضي إلى ترك العبادة بالكلية والانقطاع عنها، وهذا النوع لم تأت به الشريعة الإسلامية، فشرع الله جل وعلا لنا الرفق والأخذ من الأعمال بما لا يحصِّل مللاً، ونبّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فقال: (القصد القصد تبلغوا) لذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التنطع وقال: (هلك المتنطعون). أما استدلالهم بحديث: (بني سلمة دياركم تكتب آثاركم) فالجواب عليه من وجهين: الوجه الأول: قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (2/ 130): " إن هذه أخبار

وبناء على ما سبق:

آحاد في قضية واحدة لا ينتظم منها استقراء قطعي، والظنيات لا تعارض القطعيات، فإن ما نحن فيه من قبيل القطعيات ". الوجه الثاني: الحديث لا دليل فيه على قصد نفس المشقة، فقد جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ما يفسره فإنه - صلى الله عليه وسلم -: (كره أن تُعرّى المدينة قِبَل ذلك، لئلا تخلو ناحيتهم من حراستها). قلت: فلا حجة لمن تعلق ببعض النصوص واستدل بها على تقصد المشقة في العبادات). وبناء على ما سبق: فإنه يصح أن يطلق على الأحكام الشرعية أنها تكليفية ويكون المقصود أنها محبوبة للمؤمن، وفي بعضها نوع مشقة معتادة، لا أن جميعها فيه مشقة وأن ذلك أساس التكليف، كما يصح أيضا أن يطلق عليها أنها شرعية، أو طلبية أو لفظية (¬1) ويكون ذلك خروجا عن إيهام اللفظ لا نفيا لمطلق صحة إطلاق التكليفية عليها. وسوف أتنقل بين الإطلاقين والله المستعان. الواجب الواجب لغة: قال الشيخ: (الواجب لغة: الساقط واللازم). الواجب لغة له معان كثيرة منها: سقوط الشيء لازما محله، ومنه قوله تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) [الحج: 36] أي سقطت ميتة لازمة محلها، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الميت: (فإذا ¬

_ (¬1) قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1047): (خطاب التكليف، ويعبر عنه - أيضا - بخطاب الشرع، وبخطاب اللفظ)، وقال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (1/ 416): (خطاب الشرع إما لفظي، أو وضعي، أي: إما ثابت بالألفاظ نحو: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [البقرة: 43]، أو عند الأسباب ونحوها: كقوله: إذا زالت الشمس، وجبت عليكم الظهر، فاللفظ أثبت وجوب الصلاة، والوضع عين وقت وجوبها).

الواجب اصطلاحا:

وجب فلا تبكين باكية) (¬1). ومنه قول قيس بن الخطيم: أَطاعَتْ بنُو عَوْفٍ أَمِيراً نَهَاهُمُ ... عن السِّلْمِ، حَتَّى كانَ أَوّلَ وَاجِبِ (¬2) واللزوم، قال الفيومي: وَجَبَ الْبَيْعُ وَالْحَقُّ يَجِبُ وُجُوبًا وَجِبَةً لَزِمَ وَثَبَتَ (¬3). الواجب اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: ما أمر به الشارع على وجه الإلزام). شرح التعريف: وهو واضح بحمد الله، (ما أمر) ليخرج غير المأمور به كالمحرم والمكروه، والمباح لذاته، بقي المندوب يشمله التعريف ولذلك قيده بقوله (على وجه الإلزام) لأن المندوب وإن كان مأمورا به إلا أنه ليس على وجه الإلزام بل الأفضلية. تنبيهات التنبيه الأول: قال الشيخ في شرح الأصول (ص/46): (الشارع هو الله أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... لكن الرسول مبلغ عن الله وشارع لعباد الله). الحنابلة تطلق لفظ الشارع على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم يقولون بمسألة التفويض ويرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يحكم بما شاء فيما شاء، ولا يكون رأيه إلا موافقا للصواب في حكم الله. قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 519): (يجوز أن يقال لنبي أو مجتهد: احكم بما شئت فهو صواب ويكون) ذلك (مدركا شرعيا ويسمى: التفويض) عند الأكثر؛ لأن طريق معرفة الأحكام الشرعية: ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والنسائي وغيرهم من حديث جابر بن عَتِيك - رضي الله عنه - وصححه الشيخ الألباني. (¬2) انظر المذكرة للشنقيطي (ص/9). (¬3) المصباح المنير مادة (وج ب).

إما التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - بإخبار رسله عنه بها، وهو ما سبق من كتاب الله سبحانه وتعالى وثبت بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما تفرع عن ذلك، من إجماع وقياس وغيرهما من الاستدلالات، وطرقها بالاجتهاد، ولو من النبي صلى الله عليه وسلم. وإما أن يكون طريق معرفة الحكم: التفويض إلى رأي نبي أو عالم، فيجوز أن يقال لنبي أو لمجتهد غير نبي: احكم بما شئت فهو صواب عند بعض العلماء، ويؤخذ ذلك من كلام القاضي وابن عقيل، وصرحا بجوازه للنبي صلى الله عليه وسلم، وقاله الشافعي وأكثر أصحابه، وجمهور أهل الحديث، فيكون حكمه من جملة المدارك الشرعية ... وتردد الشافعي، أي في جوازه، كما قال إمام الحرمين، وقال: الجمهور في وقوعه، ولكنه قاطع بجوازه. والمنع: إنما هو منقول عن جمهور المعتزلة، قاله ابن مفلح، ومنعه السرخسي وجماعة من المعتزلة؛ واختاره أبو الخطاب، وذكره عن أكثر الفقهاء، وأنه أشبه بمذهبنا؛ لأن الحق عليه أمارة، فكيف يحكم بغير طلبها؟ وقيل: يجوز ذلك في النبي دون غيره. (و) على القول بالجواز (لم يقع) في الأصح، قال ابن الحاجب: المختار أنه لم يقع، واحتج القاضي وابن عقيل وغيرهما للقول الأول: بقوله - سبحانه وتعالى -: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ) [آل عمران: 93] لأنه لا يمكن أن يحرم على نفسه إلا بتفويض الله سبحانه وتعالى الأمر إليه لا أنه بإبلاغه ذلك الحكم؛ لتخصيص هذا التحريم بنسبته إليه، وإلا فكل محرم فهو بتحريم الله سبحانه وتعالى، إما بالتبليغ، وإما بالتفويض (¬1). واستدل له أيضا بما في مسلم (فرض عليكم الحج، فحجوا، فقال رجل: أكل عام؟ فقال: لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم) (¬2) ... ). ¬

_ (¬1) قال المرداوي في "التحبير" (8/ 3998): (رد: محتمل وللمفسرين قولان، هل باجتهاد، أو بإذن الله تعالى. قال البرماوي: " قلت: وعلى كل حال فالمحرم هو الله تعالى، فالاحتمال قائم ولا دليل فيه لذلك "). (¬2) قال ابن مفلح في "أصوله" (4/ 1523): (رد: يجوز أن الله خيره في ذلك بعينه. ويجوز أن قوله- عليه السلام- بوحي).

التنبيه الثاني:

والصواب أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس مُشرِّعاً بل هو مبلغ ومطبق وناقل ومبيِّن للتشريع، وأنه كان يجتهد (¬1) فإن اخطأ نزل الوحي بتصويبه (¬2)، كما في أسارى بدر (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال: 67] وكما عوتب في ابن أم مكتوم وتحريمه - صلى الله عليه وسلم - العسل ومارية القبطية على نفسه، ولما رجع عن قوله في مسألة التأبير، ونحو ذلك (¬3). التنبيه الثاني: سبق وأن تكلمنا عن الفرق بين طريقة الفقهاء وبعض الأصوليين، وطريقة جمهور الأصوليين في تعريف الحكم الشرعي، وذكرنا أن الدليل نفسه هو الخطاب عند جمهور الأصوليين وأن المدلول أو الأثر هو الخطاب عند الفقهاء وبعض الأصوليين، وأنه ينبغي اعتماد طريقة جمهور الأصوليين في التعريف. بناء على ذلك ينبغي التفريق بين الواجب والوجوب والإيجاب. فعلى الطريقة الأولى (طريقة الأصوليين) يقال الإيجاب والتحريم والاستحباب (الندب) والكراهة والإباحة، وعلى التعريف الثاني يقال الوجوب، والحرمة، و. . . ويوضحه أن الحكم إن عرفناه بأنه خطاب الله الذي هو صفته، فيكون منه الإيجاب، أما الوجوب فإنما هو يتعلق بفعل المكلف، فهو صفة الفعل الذي وجب فهو أثر الإيجاب وهو الأليق بالتعريف الثاني، وأما الواجب فهو نفس فعل المكلف، فهو الوصف الذي ثبت للموجَب نفسه، أي قد وجب فهو واجب، وهكذا. ¬

_ (¬1) ذكر الشيخ عبد الجليل بو النصر في رسالته" اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمثلة كثيرة وشواهد تدل على ما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من اجتهاد سواء بالقول أم بالفعل أم بإقراره الصحابة أم بعدم إقرارهم، وذلك في شتى الأمور الدينية والدنيوية. (¬2) قال ابن مفلح في "أصوله" (4/ 1525): (لا يقر عليه السلام على خطأ في اجتهاده إجماعا). (¬3) انظر: التمهيد (4/ 373)، أصول ابن مفلح (4/ 1520)، التحبير (8/ 3995)، جمع الجوامع (2/ 391 - البناني)، البحر المحيط (4/ 354)، الإبهاج (3/ 196)، تيسير التحرير (4/ 236)، رفع الحاجب (4/ 567) روح المعاني (18/ 224)، أفعال الرسول للأشقر (1/ 126).

التنبيه الثالث:

وإليك مثالا للتوضيح: قوله تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) هذا خطاب من الله تعالى بإيجاب الصلاة على المكلف، وأثر هذا الخطاب أو ما ينتج عنه هو وجوب الصلاة على المكلف، وأما إقامة الصلاة فهي الواجب. قال الأشقر في هامش الواضح (ص/24): الإيجاب هو التعبير السليم، وهو طريقة الأصوليين، لا: الوجوب، ولا: الواجب ... قال ابن النجار في شرح الكوكب المنير (1/ 333): (ودل على أن الحكم صفة الحاكم، فنحو قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلَاةَ) [الإسراء: 78]، [لقمان: 17] يسمى باعتبار النظر إلى نفسه التي هي صفة لله تعالى إيجابا، ويسمى بالنظر إلى ما تعلق به، وهو فعل مكلف: وجوبا. فهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار. فترى العلماء تارة يعرفون الإيجاب، وتارة يعرفون الوجوب نظرا إلى الاعتبارين) (¬1). ومن الملاحظ أن الشيخ ما عرف الوجوب ولا الإيجاب وإنما يعرف الواجب. التنبيه الثالث: لاحظ أن الشيخ عرف الواجب لا للإيجاب ولا الوجوب، ولو أردنا أن نعرف الإيجاب لقلنا: (أمر الشارع على وجه الإلزام) لما سبق وأن بينا أن الحكم الشرعي على طريقة الأصوليين هي نفس الخطاب أو الدليل أو الطلب، إلا إننا نتمشى مع طريقة الشيخ في تعريف الواجب. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" والتي نقلها عنه المرداوي في مختصر التحرير. قال الطوفي (1/ 265): (ونحن نشير إلى حدودها المستفادة من طريق قسمتها. فالواجب - قال المرداوي: الفعل الواجب -: هو ما اقتضى الشرع فعله اقتضاء جازما. والمندوب: هو ما اقتضى فعله اقتضاء غير جازم. ¬

_ (¬1) انظر تيسير التحرير (2/ 134).

التنبيه الرابع

والمحظور: ما اقتضى تركه اقتضاء جازما. والمكروه: ما اقتضى تركه اقتضاء غير جازم. وهذه الأشياء هي محال الأحكام ومتعلقاتها، أما الأحكام نفسها فهي: الإيجاب: وهو اقتضاء الفعل الجازم. والندب: وهو اقتضاء الفعل غير الجازم. والحظر والكراهة جميعا: اقتضاء ترك الفعل الجازم، أو غير الجازم ... ). التنبيه الرابع (¬1): هذا التعريف الذي ذكره الشيخ للواجب تعريف بالحد الحقيقي، وقد خالف الشيخ هنا المشهور في المذهب من التعريف للواجب بالحد الرسمي. وقد اختار ابن مفلح، وتبعه المرداوي وابن النجار في تعريف الواجب بأنه: "ما ذم تاركه شرعًا قصدًا مطلقًا". وهذا التعريف جيد إلا أنه تعريف رسمي لا حقيقي. قال ابن النجار في شرح هذا التعريف في "شرح الكوكب" (1/ 346): (فالتعبير بلفظ " ما ذم " خير من التعبير بلفظ " ما يعاقب " لجواز العفو عن تاركه (¬2). وقولنا " شرعا " أي ما ورد ذمه في كتاب الله سبحانه وتعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو في إجماع الأمة، ولأن الذم لا يثبت إلا بالشرع خلافا لما قالته ¬

_ (¬1) راجع الفرق بين الحد الحقيقي والرسمي. (¬2) وقد بيَّن الطوفي في شرح المختصر الفرق بين الذم والعقاب، فقال (1/ 272): (كل معاقب أو متوعد بالعقاب على الترك مذموم، أي: يستحق الذم، وليس كل مذموم معاقبا، أو متوعدا على الترك، لجواز أن يقال: صل أو صم. فإن تركت، فقد أخطأت وعصيت ولا عقاب عليك، لأن العقاب موضوع شرعي، فللشرع أن يضعه له، وله أن يرفعه، والذم هو العيب، وهو نقيض المدح والحمد، يقال: ذمه يذمه: إذا عابه، والعيب: النقص. فكان الذم نسبة النقص إلى الشخص، فقولنا: " ما ذم "، أي: ما عيب " شرعا "، أي: احتراز مما عيب عقلا أو عرفا، وكثير من الأفعال يذم فاعله عرفا لا شرعا، فلا يكون واجبا، لأن الاعتبار بالذم الشرعي). ومن هنا تعرف ما في كلام الشيخ عطاء بن عبد اللطيف في شرحه لرسالة الأصول من علم الأصول من تعقبه على هذا التعريف بأنه فيه جزم بالذم، واختار أن الأولى تقييده بالاستحقاق فيقال: (ما يستحق الذم تاركه ... ) فإنه سوى بين الذم والعقاب.

المعتزلة، واحترز به عن المندوب والمكروه والمباح، لأنه لا ذم فيها. وقوله " تاركه " احترز به عن الحرام فإنه لا يذم إلا فاعله. وقوله: " قصدا " فيه تقديران موقوفان على مقدمة، وهو أن التعريف إنما هو بالحيثية، أي الذي بحيث لو ترك لذم تاركه؛ إذ لو لم يكن بالحيثية لاقتضى أن كل واجب لا بد من حصول الذم على تركه، وهو باطل. إذا علم ذلك فأحد التقديرين: أنه إنما أتى بالقصد؛ لأنه شرط لصحة هذه الحيثية؛ إذ التارك لا على سبيل القصد لا يذم. الثاني: أنه احترز به عما إذا مضى من الوقت قدر فعل الصلاة ثم تركها بنوم أو نسيان، وقد تمكن، ومع ذلك لم يذم شرعا تاركها، لأنه ما تركها قصدا. فأتى بهذا القيد لإدخال هذا الواجب في الحد، ويصير به جامعا. وقوله " مطلقا " فيه تقديران أيضا موقوفان على مقدمة، وهي أن الإيجاب باعتبار الفاعل قد يكون على الكفاية وعلى العين، وباعتبار المفعول قد يكون مخيرا كخصال الكفارة، وقد يكون محتما، كالصلاة أيضا وباعتبار الوقت المفعول فيه قد يكون موسعا كالصلاة وقد يكون مضيقا كالصوم. فإذا ترك الصلاة في أول وقتها صدق أنه ترك واجبا إذ الصلاة تجب بأول الوقت، ومع ذلك لا يذم عليها إذا أتى بها في أثناء الوقت. ويذم إذا أخرجها عن جميعه، وإذا ترك إحدى خصال الكفارة، فقد ترك ما يصدق عليه أنه لا ذم فيه إذا أتى بغيره. وإذا ترك صلاة جنازة فقد ترك ما صدق عليه أنه واجب عليه، ولا يذم عليه إذا فعله غيره. إذا علم ذلك فأحد التقديرين أن قوله مطلقا " عائد إلى الذم. وذلك أنه قد تلخص أن الذم على الواجب الموسع على المخير وعلى الكفاية من وجه دون وجه. والذم على الواجب المضيق والمحتم والواجب على العين من كل وجه. فلذلك قال " مطلقا " ليشمل ذلك كله بشرطه، ولو لم يذكر ذلك لورد عليه من ترك شيئا من ذلك.

والتقدير الثاني: أن " مطلقا " عائد إلى الترك، والتقدير تركا مطلقا ليدخل المخير والموسع وفرض الكفاية. فإنه إذا ترك فرض الكفاية لا يأثم، وإن صدق أنه ترك واجبا وكذلك الآتي به آت بالواجب، مع أنه لو تركه لم يأثم. وإنما يأثم إذا حصل الترك المطلق منه ومن غيره. وهكذا في الواجب المخير والموسع. ودخل فيه أيضا الواجب المحتم والمضيق وفرض العين، لأن كل ما ذم الشخص عليه إذا تركه وحده ذم عليه أيضا إذا تركه هو وغيره). وهناك تعريفات أخرى رسمية منقوضة بعدم الجمع أو المنع، وهذا أولاها. وقد أعرض الشيخ هنا عن هذا التعريف وقد ذكر في شرح نظم الورقات أنه معيب على طريقة المناطقة فقال (ص/28) معقبا على تعريف العمريطي للواجب بقوله: فالواجب المحكوم بالثواب ... في فعله والترك بالعقاب : (عرَّف المؤلف رحمه الله الواجب بحكمه لا بحقيقته، والتعريف بالحكم معيب عند المناطقة جائز عند الفقهاء ... فالمناطقة يقولون: وعندهم من جملة المردود ... أن تدخل الأحكام في الحدود فالمناطقة يقولون: عرِّف الشيء بماهيته لا بحكمه ... الواجب في الاصطلاح باعتبار التعريف الذاتي هو: ما أُمر به على وجه الإلزام بالفعل). وقال الشيخ عبد الحميد في "لطائف الإشارات" (ص/10) على تعريف العمريطي: (فالثواب على الفعل والعقاب على الترك أمر لازم للواجب من حيث وصفه بالوجوب وليس هو حقيقة الواجب فهذا تعريف رسمي فيصح باللازم). ولعل الشيخ العثيمين قد تأثر بشيخه الشنقيطي في تعريفه للواجب حيث قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/8): (وان شئت قلت في حد الواجب (ما أُمر به أمرا حازما). وزاد الشيخ عليه قيد (الشارع) للتنصيص على أن المقصود حد الأحكام الشرعية ومنع إيهام دخول الأحكام العقلية ونحوها في التعريف. بقي أن نشير إلى تعريف ابن عقيل للواجب حيث عرفه بأنه إلزام الشرع، وذكر

تعقب والرد عليه:

أن التعريف بالحكم معيب، قال في "الواضح" (1/ 29): (الواجب في أصل اللغة الساقط، والإيجاب الإسقاط، وهو الإلزام، وها هنا إلزام الشرع. وقد قيل: ما في فعله ثواب وعلى تركه عقاب. ولا يحتاج إلى ذكر الثواب بل إذا رسم برسم كفى قولنا: ما في تركه عقاب. وقيل: ما لا يجوز تركه. والحد هو الأول، وهذه رسوم بمتعلقات وأحكام، فالثواب والعقاب أحكام الواجب. والإيجاب شيء وأحكامه شيء آخر، والتحديد بمثل هذا يأباه المحققون، حيث أبوا أن يحدوا الأمر بما كان الممتثل له طائعا، والمتأبي عنه عاصيا، فإن هذه أحكام ومتعلقات، وإنما حدوه باستدعاء الأعلى من الأدنى فعلا). وقول ابن عقيل في تعريف الواجب بأنه (إلزام الشرع) غير مانع لدخول الحرام فيه فإن فيه أيضا إلزام للشرع بالترك. تعقب والرد عليه: مما سبق يتبين أن حد الشيخ العثيمين للواجب بالحد الحقيقي أجمع من الحد الذي ذكره ابن عقيل والشيخ الشنقيطي، وقد تعقبه الشيخ عطاء في شرحه لرسالة الأصول بأنه غير جامع من وجهين: الوجه الأول - أنه لا يدخل فيه بعض ما يستفاد منه الوجوب من غير صيغة الأمر نحو وصف الفعل بأنه فريضة، أو إنه مكتوب على المخاطبين، أو بالإخبار بأن تركه كفر، أو فسق، أو ظلم وغير ذلك مما سيأتي تفصيله - بإذن الله - في باب الأمر. ومن الملاحظ أن الشيخ عطاء استبدل كلمة (ما أمر) في تعريف الشيخ العثيمين بكلمة (ما طلب ... فعله) والطلب بالنسبة للواجب جنس بعيد لأنه يشمل الفعل والترك، وهو يؤدي مع الفصل الذي ذكره بقوله (فعله) مؤدى كلمة الأمر ولعله لجأ إلى هذا التطويل في التعريف ليدخل في الحد بعض الصيغ التي تؤدي معنى الأمر ولكنها ليست على صيغة الأمر كوصف الفعل بأنه فريضة، ونحو ذلك مما سبق التمثيل به. وهذا التعقب غير سديد؛ فمع ما فيه من التطويل نجد أن ما مثل به كوصف الفعل بأن الله فرضه، أو كتبه ... إنما هو من الأخبار، لا الطلب.

ومما يزيد الأمر وضوحا قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) [البقرة: 233] فهذا خبر وليس طلبًا، فلا يدخل في تعريف الشيخ عطاء ويدخل في تعريف الشيخ العثيمين؛ مضمن معنى الطلب. يوضحه أن قول (يتضمن) الذي ذكره الشيخ العثيمين في تعريف الأمر (قول يتضمن طلب الفعل على وجه الاستعلاء)، يُدِخل باقي الصيغ التي تدل على الأمر وليست مستفادة من صيغه الحقيقية، فالتعبير بأن الأمر فرض أو حتم ونحو ذلك متضمن لطلب الفعل وإن لم يكن بصيغة الطلب. - وأيضا نجد أن الشيخ العثيمين قد زاد قيد الاستعلاء، ولم يشر إليه الشيخ عطاء في تعريف الواجب، فأصبح تعريفه مدخول (غير مانع) فيدخل فيه الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من صيغة طلب الفعل لا على وجه الاستعلاء. الوجه الثاني - أنه لا يشمل الواجب الموسع، والكفائي، والمخير، وأفاد أنه لابد من إضافة قيد: (في بعض الوجوه)، أو (بوجه ما)، أو بحالة ما) على التعريف الذي اختاره وهو: (ما طلب الشارع فعله على وجه اللزوم) ليشمل الواجب الموسع، والكفائي، والمخير. فقال ما محصله: أن التعريف بدون هذا القيد يتجه فيه اللزوم لطلب الفعل على وجه الجزم مطلقا، فلابد وأن يأتي بالواجب الموسع في كل أوقاته ولابد وأن يأتي بكل خصال الكفارة بالنسبة للواجب المخير، ولابد وأن يأتي بالواجب الكفائي كل المكلفين لأن كل هذا يدخل تحت قوله (ما طلب الشارع فعله على وجه الجزم). وعليه ففائدة القيد (في بعض الوجوه)، أو (بوجه ما)، أو (بحالة ما) أن يخرج الواجب المخير إذا قام ببعض خصاله، ويخرج الواجب الموسع إذا قام به في آخر وقته ويخرج به الواجب الكفائي إذا قام به البعض دون البعض. وهذا التعقب غير سديد؛ وذلك لأن الخطاب التكليفي بالواجب الموسع، والمخير، والكفائي متعلق بحصة من القدر المشترك، وهو في الموسع الواجب فيه، وفي الكفائي: الواجب عليه، وفي المخير: الواجب نفسه. وهذا القدر المشترك واجب على المكلف الإتيان به، فهذه الواجبات بالنظر للقدر المشترك تكون كالواجب العيني، وعليه فلا حاجة لهذا القيد.

قال الزركشي في "البحر المحيط" (1/ 150): (وقال ابن الحاجب متعلق الوجوب هو القدر المشترك بين الخصال ولا تخيير فيه ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال ولا وجوب فيها (¬1) وقال الأصفهاني شارح المحصول لا نقول في الواجب المخير هو القدر المشترك بل الواجب هو حصة منه يصدق عليها القدر المشترك ولا سبيل إلى القول بإيجاب المشترك ويكون من صور التخيير بين الخصال الثلاث بأنه واحد ولا يتصور التخيير في الواحد). ووجه الدقة فيما قاله الأصفهاني أن ذلك يقطع النزاع مما قد يفهم من أن تعلق الوجوب بالقدر المشترك ينتج عنه تعلق الوجوب بالجميع، مع أن هذا ينافي التخيير كما ذهب إليه بعض المعتزلة مما أدى إلى إنكارهم لهذا القسم، فعبارة الأصفهاني تبين أن تعلق الوجوب إنما هو لحصة من القدر المشترك، والتي تتعلق بالفعل الواجب فعله، قال الموفق (¬2): أجمعت الأمة على أن جميع خصال الكفارة غير واجب - أي الفعل -. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (1/ 332): (الخطاب في الموسع والمخير وفرض الكفاية جميعا متعلق بالقدر المشترك، فيجب تحصيله، ويحرم تعطيله. فالمشترك في الموسع وهو مفهوم الزمان ومطلقه من الوقت المقرر المحدود شرعا، بمعنى أن الواجب إيقاعه فيما يصدق عليه اسم زمن من أزمنة الوقت الشرعي. أعني ما بين زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله في الظهر مثلا، فمتى أوقع الصلاة في هذا الزمن المطلق كان آتيا بالمشترك، فيخرج عن عهدة الواجب أداء، وإن أخره حتى خرج الوقت الشرعي، كان معطلا للمشترك عن العبادة الواجبة فيه، فيحرم عليه التأخير، ويلزمه استدراكه قضاء. والمشترك في المخير هو مفهوم أحد الخصال، فهو متعلق الوجوب وأما متعلق التخيير، فهو خصوصيات الخصال، من إطعام أو كسوة أو عتق، فالواجب عليه أن يأتي بإحدى الخصال ولا بد، وهو المشترك بين جميعها، لأن كل واحدة منها يصدق ¬

_ (¬1) انظر التحبير (2/ 896)، شرح الكوكب المنير (1/ 380). (¬2) انظر الروضة (ص/28).

عليها أنها إحدى الخصال، ولا يجوز له ترك الجميع، لئلا يتعطل المشترك، لأن الجميع أعم من المشترك، وتارك الأعم تارك للأخص ومعطل له، وله الخيار بين خصوصيات الخصال، إن شاء أطعم، أو كسا، أو عتق، فالواجب - وهو المشترك - لا تخيير فيه، إذ لا قائل بأنه إن شاء فعل إحدى الخصال، وإن شاء ترك، والمخير فيه - وهو خصوصيات الخصال - لا وجوب فيه، إذ لا قائل بأن الواجب عليه جميع الخصال على الجمع. والمشترك في فرض الكفاية هو مفهوم أي طوائف المكلفين، كإحدى الخصال في الواجب المخير، غير أن الخطاب تعلق بالجميع في أول الأمر، لتعذر خطاب بعض مجهول أو معين، مع تساوي الجميع فيه، فيكون ترجيحا من غير مرجح، ولا جرم أنه سقط الوجوب عن الجميع بفعل إحدى الطوائف، لحصول المشترك الوافي بالمقصود، وأثم الجميع بترك جميع الطوائف له، لتعطل المشترك، فهذا هو التحقيق في الأبواب الثلاثة. ثم قال: الفرق بين الأبواب الثلاثة: وهو أن المشترك في فرض الكفاية هو الواجب عليه، وهو المكلف، وفي المخير هو الواجب نفسه، وهو إحدى الخصال، وفي الموسع هو الواجب فيه، وهو الزمان. وبهذا يندفع عنا سؤال قد يستصعب، وهو أن يقال: لم لم تقولوا: إن الواجب في المخير جميع الخصال، ويسقط بفعل بعضها، كما قلتم: إن الوجوب في فرض الكفاية على الجميع، ويسقط بفعل البعض؟ فيقال: لأن إيجاب أحد هذين، أو هذه الأشياء على زيد معقول، ويجعل الخيار في التعيين إليه، فلا يلزم منه تعطيل الواجب. بخلاف إيجاب شيء ما على أحد هذين، أو هؤلاء الأشخاص، لأنه يفضي إلى أن يتواكلوا، ويحيل بعضهم على بعض، ولا مرجح فيه، فيتعطل الواجب بالكلية، إلا أن يعود الموجب، فيعين للفعل أحدهم، فيكون إيجابا مبتدأ معينا، لكن فيه تطويل لطريق تحصيل مصلحة الواجب، وتماد في إيقاعها، فكان ما سلكناه في فرض الكفاية أقرب، وهو أن يخاطب الجميع بالواجب، فإذا علموا ذلك توفرت دواعيهم، أو داعية طائفة منهم على الخروج عن العهدة، فيخرج الجميع بذلك، ولا يسعهم التواكل).

قال الشيخ: (والواجب يثاب فاعله امتثالا ويستحق العقاب تاركه).

وعليه فتعريف الواجب بالحد الحقيقي هو: (ما أمر به الشارع على وجه الإلزام). ويكون تعريفه الرسمي: (ما ذم تاركه شرعا قصدا مطلقا). وهذه التنبيهات تنسحب على باقي الأحكام الخمسة ولن أكرر ذكرها مع كل تعريف، والله الموفق. قال الشيخ: (والواجب يثاب فاعله امتثالًا ويستحق العقاب تاركه). امتثالًا أي يفعله على وجه الطاعة والقربة، فمن نوى التبرد فغسل أعضاء الوضوء لا يعد متوضئا وهكذا. وأما قوله (ويستحق) فقال الشيخ ولم نقل (ويعاقب تاركه)؛ لأنه من الجائز أن الله قد يعفو عنه، فهو مستحق للعقاب، لكن قد يعاقب وقد لا يعاقب. نكتة: يجزم بإثابة فاعل الثواب، وكذا تارك الحرام؛ لأنه وعد كما قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [الأنعام: 160]، ولكن لابد من تقييده بالامتثال. وذلك بخلاف الوعيد على ترك الواجب، وفعل الحرام فلا يجزم بلحوق العقاب؛ لأنه من الجائز أن الله قد يعفو عنه، فهو مستحق للعقاب، لكن قد يعاقب وقد لا يعاقب. أسماء الواجب: قوله: (ويسمى فرضاً، وفريضة، وحتماً، ولازماً). القول بعدم التفريق بين الفرض والواجب عند الحنابلة هو أحد الأقوال الثلاثة المنقولة عن الإمام أحمد في هذه المسألة. قال مجد الدين في المسودة (ص/ 44): مسألة: الفرض والواجب سواء وهو الذي ذكره في مقدمة المجرد وبه قالت الشافعية وعنه الفرض آكد ونصرها الحلواني وبه قالت الحنفية وهو على قولهم وروايتنا هذه ما ثبت بدليل مقطوع به وقيل هو ما لا يسقط في عمد ولا سهو وحكى ابن عقيل رواية ثالثة أن الفرض ما لزم بالقرآن والواجب ما كان بالسنة وهذه هي ظاهر كلام أحمد في أكثر نصوصه وقد حكاها ابن شاقلا وهذا القول في الجملة اختيار القاضي وغيره). ومن النتائج المترتبة على هذا الخلاف في ترادف، أو تباين الفرض والواجب:

1 - مسائل عقدية وهو أن من أنكر الفرض كفر ومن أنكر الواجب لا يكفر وهذا على رأي الحنفية (¬1) ومن وافقهم والصحيح أن من أنكر حجية ما ثبت من السنة فهو كافر، وإن كانت خبر آحاد. قال الشيخ العثيمين في "القول المفيد" (1/ 82): (أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفا أجمع القراء عليه، لكان كافرا، بخلاف الأحاديث القدسية، فإنه لو أنكر شيئا منها مدعيا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، لكان كافرا لتكذيبه النبي صلى الله عليه وسلم). قال السيوطي في "مفتاح الجنة" (ص/ 5): (اعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه وسلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة). 2 - ترتب أيضًا على الخلاف فيها مسائل أصولية منها أن الزيادة على النص نسخ وهذا لا يجوز عند الحنفية، ويعنون بالنص الكتاب والسنة المتواترة، والزيادة ما ثبت بخبر الآحاد إلا أنهم لم يلتزموا ذلك بل خالفوه في مسائل كثيرة جدا (في أكثر من ثلاثمائة موضع كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين)، ومنها على سبيل التمثيل: قولهم بفرضية الوتر، وجواز الوضوء بنبيذ التمر، وكذلك إنهم اشترطوا في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم. 3 - كما ترتب على الخلاف في هذه المسألة الأصولية مسائل فقهية كثيرة جدًا ومن تتبع مذهب الحنابلة وجد أنهم تبعا لاختلاف الروايات والأقوال في هذه المسألة اختلفت التطبيقات عليها في المسائل الفقهية فأحيانا لا يفرقون بين الفرض والواجب وأحيانا ¬

_ (¬1) قال صدر الشريعة في "التوضيح في حل غوامض التنقيح" (2/ 258): (فالفرض لازم علما وعملا حتى يكفر جاحده والواجب لازم عملا لا علما فلا يكفر جاحده بل يفسق إن استخف بأخبار الآحاد الغير المؤولة وأما مؤولا فلا ويعاقب تاركهما أي تارك الفرض والواجب إلا أن يعفو الله)، وانظر أيضا: أصول السرخسي (1/ 112)، التقرير والتحبير (2/ 107)، غمز عيون البصائر (2/ 354)، كشف الأسرار (2/ 436).

ملاحظة

يفرقون تبعا للمسلك المختار، وتتبع هذا يطول ويخرجنا عن المقصود، وقد ذكر طائفة من ذلك مجد الدين في المسودة (¬1). ملاحظة لم يتكلم الشيخ عن أقسام الواجب، وهناك مسائل أخرى هامة متعلقة بالواجب لم يتكلم الشيخ عنها هنا، وسوف يأتي بعضا منها عند الكلام على مبحث الأمر، فالله المستعان. المندوب تعريف المندوب لغة: قال الشيخ: (والمندوب لغة: المدعو). قال المرداوي في التحبير (2/ 976): {المندوب لغة: المدعو لمهم، من الندب وهو: الدعاء. قال الشاعر: لا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا وهو الطلب، ومنه الحديث ' ' انتدب الله لمن يخرج في سبيله '، أي: أجاب له طلب مغفرة ذنوبه. ويطلق أيضاً على التأثير، ومنه حديث موسى عليه السلام -: ' وإن بالحجر ندَباً بفتح الدال ستة أو سبعة ضرب موسى ' وأصله: الجرح). فائدة: فرْق بين المندوب، والمندوب إليه، فالمندوب هو المكلف ذاته، والمندوب إليه هو الفعل نفسه محل التعريف هنا. وقد اشتهر عند العلماء تعريف المندوب، وحذف كلمة (إليه) لفهم المعنى. قال الصنعاني في "إجابة السائل" (ص / 33): (المندوب لغة المدعو إليه يقال ندبته لكذا فانتدب وأصله المندوب إليه فتوسع فيه بحذف حرف الجر فاستتر فيه الضمير ثم صار اسما لهذا القسم من الأحكام). ¬

_ (¬1) ينظر بحث "الاختلاف في تباين أو ترادف الفرض والواجب سببه - ثمرته" للشيخ ترحيب بن ربيعان الدوسري، وقد نشر في العدد الثلاثين من مجلة جامعة أم القرى.

تعريف المندوب اصطلاحا:

قال الفيومي في "المصباح" مادة (ن د ب): (نَدَبْتُهُ إلَى الْأَمْرِ نَدْبًا مِنْ بَابِ قَتَلَ دَعَوْتُهُ وَالْفَاعِلُ نَادِبٌ وَالْمَفْعُولُ مَنْدُوبٌ وَالْأَمْرُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَالِاسْمُ النُّدْبَةُ مِثْلُ غُرْفَةٍ وَمِنْهُ الْمَنْدُوبُ فِي الشَّرْعِ وَالْأَصْلُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ لَكِنْ حُذِفَتْ الصِّلَةُ مِنْهُ لِفَهْمِ الْمَعْنَى) (¬1). تعريف المندوب اصطلاحاً: قال الشيخ: (ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام). شرح التعريف: (ما أمر) ليخرج غير المأمور به كالمحرم والمكروه، والمباح لذاته، بقي الواجب يشمله التعريف ولذلك قيده بقوله (لا على وجه الإلزام) لأن الواجب مأمور به على وجه الإلزام. وسوف يأتي في باب الأمر بإذن الله كيفية معرفة أنواع الأوامر ومتى يكون هذا الأمر لازما ومتى يكون على سبيل الفضيلة. تعقب والرد عليه: عرف الشيخ عطاء المندوب بقوله: (ما طلب الشارع فعله لا على وجه الجزم في حالة ما) قد يستفاد ندب الفعل من ترغيب الشارع في الفعل وعدم وضع عقاب على الترك كقوله - صلى الله عليه وسلم: (من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا) (¬2). وتعبير الماتن بلفظ الأمر أولى من التعبير بطلب الفعل كما سبق في الواجب، وذلك لأن مما يستفاد منه الندب فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يكون على وجه القربة، ولم يكن بيانا لمجل، أو امتثالا لأمر كقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من غرة كل هلال وقلما ¬

_ (¬1) وقد نقل عبارته المرداوي في "التحبير" (2/ 978)، وانظر الإبهاج (1/ 58)، وشرح الشيخ عطاء للأصول من علم الأصول الشريط الرابع. (¬2) متفق عليه من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.

تنبيه: المندوب مأمور به حقيقة:

كان يفطر يوم الجمعة) (¬1)، وهذا ليس بطلب فلا يدخل في تعريف الشيخ عطاء، ولكنه قد يدخل في تعريف الشيخ العثيمين لأن حكاية الفعل الذي ظهر فيه القربة تتضمن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وهو مأمور به شرعا؛ لقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [الأعراف: 158]، قال الأشقر في "أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - " (1/ 193): (فقد أمرنا الله - عز وجل - بإتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والإتباع في اللغة أن يسير الإنسان خلف آخر، والمراد هنا أن نتخذه - صلى الله عليه وسلم - رئيسًا، وقائدًا إلى أعمال الخير والبر نهتدي بهديه. والاتباع يكون في الأقوال والأفعال فمن استعمال الإتباع في طاعة الأقوال قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر: 18]، ومن إتباع الأفعال قوله تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) [البقرة: 145] ... ثم نقل عن القاضي عبدالجبار أن الإتباع إذا أطلق انصرف إلى إتباع الأفعال كإتباع الإمام، أما طاعة الأقوال فتسمى امتثالًا ولا تسمى إتباعًا إلا مقيدًا). وعليه فتدخل في تعريف الأمر. وقد أضاف الشيخ عطاء هذا القيد الأخير ليخرج النائم والساهي، فالنائم وقت نومه ليس مكلفا، فالشارع لم يطلب منه التكليف أثناء نومه، وكذلك الساهي إذا فعل الفعل وكان ناسيا فالنسيان عذر فإن الناسي لا يكون مطالبا بهذا الفعل حال نسيانه. وهذا التعقب لا يصح وذلك لأن الندب حكم تكليفي فالمطالب به هو المكلف فلا يصح توهم دخول غير المكلف ثم إخراجه بعد. تنبيه: المندوب مأمور به حقيقة: قال ابن النجار في شرح الكوكب المنير (1/ 405) "وهو" أي المندوب "تكليف". قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وابن عقيل ¬

_ (¬1) حسن - أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد، وغيرهم.

والموفق، والطوفي، وابن قاضي الجبل وغيرهم، إذ معناه طلب ما فيه كلفة. وقد يكون أشق من الواجب. وليست المشقة منحصرة في الممنوع عن نقيضه، حتى يلزم أن يكون منه. ومنعه ابن حمدان من أصحابنا وأكثر العلماء. قاله ابن مفلح في "أصوله". "و" هو "مأمور به حقيقة" عند أحمد والشافعي وأكثر أصحابهما. وحكاه ابن عقيل عن علماء الأصول والفقهاء، لدخوله في حد الأمر، لانقسام الأمر إليهما. وهو مستدعى ومطلوب. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، وإطلاق الأمر عليه في الكتاب والسنة. والأصل: الحقيقة، ولأنه طاعة لامتثال الأمر). قال الشنقيطي في المذكرة (ص/14): (والتحقيق أن المندوب مأمور به؛ لأن الأمر قسمان: أمر جازم أي في تركه العقاب وهو الواجب. وأمر غير جازم، أي لا عقاب في تركه وهو المندوب. والدليل على شمول الأمر للمندوب قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) [الحج: 77] أي ومنه المندوب، (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) [لقمان: 17]، أي ومنه المندوب: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) [النحل: 90]، أي ومن الإحسان وإيتاء ذي القربى ما هو مندوب، واحتج من قال أن الندب غير مأمور به بقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] قالوا في الآية التوعد على مخالفة الأمر بالفتنة والعذاب الأليم، والندب لا يستلزم تركه شيئا من ذلك، والحديث: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) مع أنه ندبهم إلى السواك قالوا فدل ذلك على أن الندب غبر مأمور به والجواب أن الأمر في الآية والحديث المذكورين يراد به الأمر الواجب، فلا ينافى أن يطلق الأمر أيضا على غير الواجب، فلا ينافى أن يطلق الأمر أيضا على غير الواجب، وقد قدمنا أن الأمر يطلق على هذا وهذا وزعم من قال أن الندب تخيير بدليل جواز تركه والأمر استدعاء وطلب. والتخيير والطلب متنافيان، زعم غير صحيح، لان الندب ليس تخييرا مطلقا بدليل أن الفعل فيه أرجح من الترك للثواب في فعله وعدم الثواب في تركه، ولان المندوب أيضا مطلوب الا أن طلبه غير جازم والندب في اللغة الدعاء إلى الفعل ... ).

أسماء المندوب:

قال الشيخ: والمندوب يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه. ولا يعاقب تاركه في الدنيا ولا في الآخرة، ولكن أفاد الشيخ العثيمين في شرح الأصول أن الإنسان قد يوبخ ويلام على ترك المستحب إذا كان هذا الترك يدل على زهده في الخير ورغبته عنه. قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 420): (وذكر القاضي وابن عقيل: يأثم بترك السنن أكثر عمره، لقوله عليه الصلاة والسلام {من رغب عن سنتي فليس مني} متفق عليه. ولأنه متهم أن يعتقده غير سنة، واحتجا بقول أحمد رضي الله عنه - فيمن ترك الوتر -: رجل سوء، مع أنه سنة. قال في شرح التحرير: والذي يظهر: أن إطلاق الإمام أحمد: أنه رجل سوء، إنما مراده من اعتقد أنه غير سنة، وتركه لذلك. فيبقى كأنه اعتقد السنة التي سنها الرسول صلى الله عليه وسلم غير سنة، فهو مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم ومعاند لما سنه، أو أنه تركه بالكلية، وتركه له كذلك يدل على أن في قلبه ما لا يريده الرسول صلى الله عليه وسلم). أسماء المندوب: قال الشيخ: ويسمى: سنة، ومسنوناً، ومستحبّاً، ونفلاً. قال ابن النجار في شرح الكوكب (1/ 404): ("وأعلاه" أي أعلا المندوب "سنة، ثم فضيلة، ثم نافلة". قال الشيخ أبو طالب - مدرس المستنصرية، من أئمة أصحابنا في "حاويه الكبير"-: إن المندوب ينقسم ثلاثة أقسام. أحدها: ما يعظم أجره، فيسمى سنة. والثاني: ما يقل أجره، فيسمى نافلة. والثالث: ما يتوسط في الأجر بين هذين"، فيسمى فضيلة ورغيبة).اهـ وأما تسميته بالسنة فقد فصل الشيخ فيه فقال في شرح الأصول (ص/53): (عند الأصوليين إذا قال: هذا سنة: يعني ليس بواجب، وكذلك مسنونا وكذلك مستحبا، وكذلك نفلا ... لكن السنة في لسان الشارع أعم من المندوب، إذ قد تطلق على الشيء الواجب، ومنه قول ابن عباس حين قرأ الفاتحة وجهر بها في صلاة الجنازة قال:

المحرم

(لتعلموا أنها سنة) ... فالسنة في لسان الشرع أعم من السنة في اصطلاح الفقهاء لأنها تشمل الواجب والمستحب). المحرم تعريف المحرم لغة: قال الشيخ المحرم لغة: الممنوع. قال الجوهري في الصحاح مادة (ح ر م): "حَرَمَهُ الشَّيءَ يَحْرِمُهُ حَرِماً وحِرْمَةً وحَريمة وحِرْماناً، وأَحْرَمَهُ أيضاً، إذا منعَه إيَّاه".اهـ ومن ذلك قوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي منعناه منهن.، وقال: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)، وقال: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) والآيات في هذا المعنى كثيرة. قال ابن عقيل في الواضح (1/ 28): (والحظر منع الشيء، فالمحظور: ما منع منه الشرع، واصله المنع، ومنه سمى المُحتَظِر مُحتظرا؛ إذ جعل حول إبله أو متاعه - في الجملة - مانعا من العَوْسَج - (شجر من شجر الشوك) -. وسميت الحظيرة بذلك من المنع).اهـ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فيما ورواه الشيخان من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - (وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه) معناه أن ملوك العرب وغيرهم يكون لكل ملك منهم حمى يحميه عن الناس ويمنعهم دخوله فمن دخله أوقع به العقوبة ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى خوفا من الوقوع فيه ولله تعالى أيضا حمى وهي محارمه أي المعاصي التي حرمها الله كالقتل والزنى والسرقة والقذف والخمر والكذب والغيبة والنميمة وأكل المال بالباطل وأشباه ذلك فكل هذا حمى الله تعالى من دخله بارتكابه شيئا من المعاصي استحق العقوبة ومن قاربه يوشك أن يقع فيه فمن احتاط لنفسه لم يقاربه ولم يتعلق بشيء يقربه من المعصية فلا يدخل في شيء من الشبهات.

تعريف المحرم اصطلاحا:

تعريف المحرم اصطلاحاً: قال الشيخ: (ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام بالترك). قوله: (ما نهى عنه) خرج ما أمر به كالمندوب والواجب، وما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته كالمباح. وقوله: (على وجه الإلزام) أخرج المكروه لأن النهي عنه ليس على سبيل الحتم واللزوم كما سيأتي. وأما قوله: (بالترك) في آخر هذا التعريف فزيادة لا حاجة لها ويستقيم التعريف بدونها، ويكون جامعا مانعا، فهي لم تضف معنى جديدا بل معناها مضمن في قوله (ما نهى عنه). تعقب والرد عليه (¬1): تعقب الشيخ عطاء الماتن في تعريفه للمحرم بأنه غير مانع، وذكر أنه لابد من إضافة قيد: (من بعض الوجوه)، أو (بوجه ما)، أو (على جهة ما)، أو بوجه من الوجوه) حتى يخرج من التعريف المكلف الذي كان نائمًا، أو كان ناسيًا، أو كان مكرهًا. وهذا التعقب غير سديد، وقد سبق ذكر أن النائم والناسي غير مكلفين فلا يصح دخولهم في الحد أساسا، وأما الإكراه فقد اختلف العلماء فيه (¬2) هل هو مانع من التكليف أم لا، وظاهر كلام الشيخ العثيمين وكذا الشيخ عطاء أنه مانع من التكليف فلا يصح التعقب به بل يكون لاحق بالنائم والناسي في عدم التكليف حال قيام المانع فلا يصح دخولهم في الحد، وأما على قول من ذهب إلى أن الإكراه ليس بمانع من التكليف فيكون داخلا في الحد ولا يصح خروجه منه، فعلى كلا التقديرين لا يصح ¬

_ (¬1) تعقب الشيخ عطاء الماتن في تعريفه للمحرم بأنه غير جامع، وقال أنه لا يدخل فيه ما يستفاد منه التحريم بغير صيغة النهي، وذلك كوصف الفعل بالتحريم، أو الحظر، أو القبح، أو بذم تاركه، أو ترتب العقاب على تركه، وأفاد أن حل هذا الإشكال إنما يتجه بتعرف المحرم بأنه (ما طلب الشارع تركه على وجه الجزم). وهذا التعقب غير سديد، وقد سبق الجواب عنه في الواجب، فلا داعي لإعادة الكلام هنا مرة أخرى. (¬2) وسوف يأتي - بإذن الله - الكلام عليه في باب موانع التكليف.

قال الشيخ: (المحرم يثاب تاركه امتثالا ويستحق العقاب فاعله).

ذكر هذا القيد الأخير في تعريف المحرم. قال الشيخ: (المحرم يثاب تاركه امتثالاً ويستحق العقاب فاعله). قال الشيخ في شرح الأصول (ص/57): (فهذا حكمه، وأنتم ربما تقرءون في بعض الكتب المختصرة يقولون: "المحرم هو ما يثاب تاركه ويعاقب فاعله" وهذا تساهل من وجهين: الوجه الأول: أنه تعريف للشيء بحكمه. والحكم يقولون هو "فرع عن التصور" فأنت صوِّره أولا بحده ثم بعد ذلك احكم عليه. أما أن تعرفه بحكمه فهذا مردود. وعندهم من جملة المردود ... أن تُدخل الأحكام في المحدود الوجه الثاني: أنهم يقولون "يعاقب" وكلمة "يعاقب" مقتضاها الجزم بالعقاب، مع أن فاعل المحرم قد لا يعاقب فقد يغفر الله له (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء: 48، 117]. وأيضا قولهم "يثاب تاركه" فهذا أيضا ليس على إطلاقه، فلابد أن تُقيِّد فتقول: "يثاب تاركه امتثالا"). فائدة. قد يترك المكلف فعل المحرم ويعاقب، وقد يتركه ولا يثاب ولا يعاقب، وقد يتركه ويثاب: أما الأول - فإن تركه عجزا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن ماجه وأحمد وغيرهما من حديث أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - (مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل به في ماله فينفقه في حقه ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول لو كان لي مثل ما لهذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما فهو يقول لو كان لي مال مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل قال قال رسول الله

أسماء المحرم:

صلى الله عليه وسلم فهما في الوزر سواء) (¬1) وأيضا كمن سعي في طريق المعصية ولكنه حال بينه وبين فعلها حائل وهكذا. وأما الثاني - كمن ترك فعله غافلا فلم يطرأ على باله مطلقا كرجل مشغول في دنياه فما فكر في يوم أن يشرب الخمر، أو إنه ما يعرف شيئا عن هذه المعصية فلم تطرأ على باله فهذا لا يثاب ولا يعاقب. وأما الثالث فهي الحالة العامة ويشترط أن يتركه امتثالا. أسماء المحرم: قال الشيخ: (يسمى: محظوراً أو ممنوعاً). للمحرم أسماء كثيرة قال ابن النجار في شرح الكوكب (1/ 386): ("ويسمى" الحرام "محظورا وممنوعا ومزجورا ومعصية وذنبا وقبيحا وسيئة وفاحشة وإثما وحرجا وتحريجا وعقوبة". فتسميته محظورا من الحظر. وهو المنع. فيسمى الفعل بالحكم المتعلق به، وتسميته معصية للنهي عنه، وذنبا لتوقع المؤاخذة عليه، وباقي ذلك لترتبها على فعله). وسوف يأتي في باب الفاسد، وباب النهي متعلقات كثيرة وهامة للمحرم. المكروه تعريف المكروه لغة: قال الشيخ: (المكروه لغة: المبغض). قال الشيخ في شرح الأصول (ص/61): (المكروه اسم مفعول من كره بمعنى أبغض، ومنه قوله تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) يعني: أبغضهم، فهو إذا في اللغة: المبغض سواء كان عينا أو وصفا أو عملا، فأي شيء تبغضه فهو مكروه عندك). ¬

_ (¬1) قال الأرناؤوط: (حديث حسن).

تعريف المكروه اصطلاحا:

تعريف المكروه اصطلاحاً: قال الشيخ: (ما نهى عنه الشارع لا على وجه الإلزام بالترك). قوله: (ما نهى عنه) خرج ما أمر به كالمندوب والواجب، وما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته كالمباح. وقوله: (لا على وجه الإلزام) أخرج المحرم لأن النهي عنه على سبيل الحتم واللزوم. وكما سبق أن قيد بالترك زيادة لا داعي منها. قال الشيخ: (المكروه: يثاب تاركه امتثالاً ولا يعاقب فاعله). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 420) ما مختصره: ((ويقال لفاعله) أي فاعل المكروه (مخالف، ومسيء، وغير ممتثل) مع أنه لا يذم فاعله، ولا يأثم على الأصح. وظاهر كلام بعضهم: تختص الإساءة بالحرام. فلا يقال: أساء إلا لفعل محرم). فائدة: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 418) ما مختصره: ((وهو) أي المكروه (في عرف المتأخرين: للتنزيه) يعني أن المتأخرين اصطلحوا على أنهم إذا أطلقوا الكراهة، فمرادهم التنزيه، لا التحريم، وإن كان عندهم لا يمتنع أن يطلق على الحرام، لكن قد جرت عادتهم وعرفهم: أنهم إذا أطلقوه أرادوا التنزيه لا التحريم. وهذا مصطلح لا مشاحة فيه. (ويطلق) المكروه (على الحرام) وهو كثير في كلام الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وغيره من المتقدمين. - (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) -. ومن كلامه " أكره المتعة، والصلاة في المقابر " وهما محرمان، لكن لو ورد عن الإمام أحمد الكراهة في شيء من غير أن يدل دليل من خارج على التحريم ولا على التنزيه: فللأصحاب فيها وجهان.

المباح

أحدهما - واختاره الخلال وصاحبه عبد العزيز وابن حامد وغيرهم - أن المراد التحريم. والثاني - واختاره جماعة من الأصحاب - أن المراد التنزيه. ومن كلام أحمد " أكره النفخ في الطعام، وإدمان اللحم والخبز الكبار " وكراهة ذلك للتنزيه. وقد ورد المكروه بمعنى الحرام في قوله تعالى ({كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}). المباح تعريف المباح لغة: قال الشيخ: (المباح لغة: المعلن والمأذون به). قال الشيخ في شرح الأصول (ص/64): والمباح لغة المعلن، كقولهم: أباح سرَّه أي أعلنه. (والمأذون فيه) أي أذنت لك في الانتفاع به، مثل: أبحتك سيارتي هذه الليلة، وأبحتك بيتي لمدة شهر. أي أذنت لك في الانتفاع به. تعريف المباح اصطلاحاً: قال الشيخ: (ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته). قوله (ما لا يتعلق به أمر) خرج الواجب والمندوب. قوله (أو نهي) خرج المحرم والمكروه. قوله (لذاته) أي بقطع النظر عن أمر آخر، فلو نظرنا إلى تناول الطعام أو الشراب لحظ النفس فهو مباح ولكن إن كان للتقوي على الصوم فهو مندوب، وكذلك القيلولة لقوى على قيام الليل فهي مندوبة أيضا. وأيضا بيع العنب مباح، ولكن إن كان لمن يعصره خمرا فهو محرم. وعليه فالحكم على الفعل بالإباحة إنما يكون بالنظر إلى لذاته بقطع النظر عن أمر آخر. وإن كان وسيلة لمحرم فهو محرم، وإن كان وسيلة لمكروه فهو مكروه، وإن كان

المباح حكم شرعي:

وسيلة لواجب فهو واجب، وإن كان وسيلة لمندوب فهو مستحب. وهذا التعريف غير جامع لدخول الإباحة العقلية فيه، وهي غير مرادة بالحد هنا، وإنما المراد المباح الشرعي، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية، وهي الحكم قبل ورود الشرع، ورفعها لا يكون نسخا، فتحريم الربا لم يكن ناسخا لإباحته في أول الإسلام؛ لأنه إباحته كانت عقلية لا شرعية، وقد يجاب عن ذلك بأن المقصود آصالة من بداية هذا المبحث هو تعريف الأحكام الشرعية لا العقلية، والمقصود هنا تعريف الإباحة الشرعية فلا وجه لتوهم دخول الإباحة العقلية في التعريف. وعلى فرض صحة هذا التعقب فالأولى تعريفه بأنه: (خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك من غير بدل)، فصدرناه بأنه خطاب الشارع مشيا على طريقة الأصوليين في تعريف الحكم الشرعي بأنه نفس الخطاب، وأيضا لإخراج الإباحة العقلية، فإنها غير منسوبة للشرع، والقيد الأخير ليخرج الواجب الموسع في أول الوقت، والواجب المخير (¬1). المباح حكم شرعي: قال الآمدي في "إحكامه" (1/ 168): (اتفق المسلمون على أن الإباحة من الأحكام الشرعية خلافا لبعض المعتزلة مصيرا منه إلى أن المباح لا معنى له سوى ما انتفى الحرج عن فعله وتركه، وذلك ثابت قبل ورود الشرع وهو مستمر بعده فلا يكون حكما شرعيا، ونحن لا ننكر أن انتفاء الحرج عن الفعل والترك ليس بإباحة شرعية وإنما الإباحة الشرعية خطاب الشارع بالتخيير على ما قررناه، وذلك غير ثابت قبل ورود الشرع، ولا يخفى الفرق بين القسمين، فإذا ما أثبتناه من الإباحة الشرعية لم يتعرض لنفيها وما نفي غير ما أثبتناه). هل يدخل المباح في الأحكام التكليفية؟ قال الشيخ: (المباح مادام على وصف الإباحة فإنه لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب). ¬

_ (¬1) انظر الإحكام للآمدي (1/ 168).

هذا كالشرح لكلمة بذاته. ومن هنا ومن كونه لا يتعلق به أمر ولا نهي فهو لا يدخل في الأحكام التكليفية ويسمى الحكم التخييري، وهو ظاهر كلام الشيخ العثيمين حيث أنه عرف الحكم الشرعي اصطلاحا بقوله: (ما اقتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع) فالطلب الحكم التكليفي، والتخيير المباح والثالث الوضعي. قال الشنقيطي في المذكرة (ص/8): (وحده - أي التكليف - في الاصطلاح قيل: إلزام ما فيه مشقة، وقيل طلب ما فيه مشقة (¬1)، فعلى الأول لا يدخل في حده الا الواجب والحرام إذ لا إلزام بغيرهما وعلى الثاني يدخل معهما المندوب والمكروه لأن الأربعة مطلوبة، وأما الجائز فلا يدخل في تعريف من تعاريف التكليف إذ لا طلب به أصلا، فعلا ولا تركا، وإنما أدخلوه في أقسام التكليف مسامحة وتكميلا للقسمة المشار إليها بقول المؤلف (وجه هذه القسمة أن خطاب الشرع أما أن يرد باقتضاء الفعل أو الترك أو التخير بينهما فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر فأن اقترن به إشعار بعدم العقاب على الترك فهو ندب وإلا فيكون إيجابا والذي يرد باقتضاء الترك نهى فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل فكراهة وإلا فحظر) كلامه واضح). يعني وتتمة القسمة فإن ورد بالتخيير فهو مباح. وقال الشيخ النملة في "إتحاف ذوي البصائر في شرح روضة الناظر" (2/ 53): (الإباحة ليست تكليفا ولا تدخل تحت الأحكام التكليفية، وهذا مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح؛ لأن التكليف هو: طلب ما فيه كلفة ومشقة بصيغة الأمر أو النهي، والإباحة ليس فيها مشقة ... ). وذهب البعض إلى إدخال المباح في الأحكام التكليفية وذلك راجع إلى تعريف التكليف عندهم. قال الشيخ في "الشرح" (ص/49): (التكليف .. معناه: ليس هو المُشِّق على الإنسان! لكن الذي يتعلق بفعل المكلفين، سواء كان مباحًا أو واجبًا أو محرمًا أو مكروهًا ... ¬

_ (¬1) وقد سبق مناقشة هذه المسألة.

فبعض العلماء يقولون: نعم (¬1). وأجاب عن هذا بجوابين (¬2)، الجواب الأول: أن المراد بالتكليف التزام الشرع ولو كان الشيء مباحًا، وبعضهم أجاب قال: إن المباح فيه شيء من التكليف، وذلك باعتقاد إباحته، وفعله على سبيل الإباحة). والقول الأول الذي ذكره الشيخ هو نحو قول المجد، حيث قال في المسودة (ص/32): (والتحقيق في ذلك عندي أن المباح من أقسام (أحكام) التكليف بمعنى أنه يختص بالمكلفين أي أن الإباحة والتخيير لا يكون الا لمن يصح إلزامه بالفعل أو الترك فأما الناسي والنائم والمجنون فلا إباحة في حقهم كما لا حظر ولا إيجاب فهذا معنى جعلها في أحكام التكليف لا بمعنى أن المباح مكلف به). وفيه بعد فالناظر في عبارته يجد أنه ربط بين الأحكام التكليفية الخمسة بالقدر المشترك بينهم وهو المكلف، وهذا خارج عن محل النزاع فإن الكلام إنما هو بالنظر إلى ذات الفعل لا إلى الفاعل. وأما ما نقله الشيخ عن البعض من قولهم: (أن المراد بالتكليف التزام الشرع ولو كان الشيء مباحًا) فلم أقف على قائله مع ما فيه من نظر، فمعنى الالتزام ينافي التخيير الذي في المباح، وقد سبق ذكر أن من معاني الواجب اللزوم، ولذا تجد ابن عقيل عندما عرف الواجب قال: (إلزام الشرع)، وقد سبق الكلام عليه. وقد يكون المراد بالتزام الشرع الثبوت والدوام على أحكامه، بمعنى أنه يسير على نهجه، ولما كان المباح حكما شرعيا فيدخل في تعريف التكليف الذي ذكره الشيخ بأنه: التزام الشرع. ولا يخلو هذا أيضا فيه نظر؛ إذ أن الالتزام يكون لما فيه طلب بالفعل أو الترك، والمباح ليس فيه واحد منهما. وأما القول الثالث الذي نقله الشيخ عن البعض من أن المباح فيه شيء من التكليف، وذلك باعتقاد إباحته، وفعله على سبيل الإباحة) فهو ضعيف قال الشيخ في "الأصل" (ص/10) وهو يعرف الحكم الشرعي بقوله (المتعلق بأفعال المكلفين): (فخرج به ما تعلق بالاعتقاد فلا يسمى حكماً بهذا الاصطلاح). ¬

_ (¬1) ظاهر الكلام أن المراد الموافقة على دخول المباح في الأحكام التكليفية، وفي الشريط الأصل سؤالا لبعض الحاضرين، ولكنه بصوت غير مسموع. (¬2) أي توجيهاتهم لدخول المباح في الأحكام التكليفية.

أسماء المباح:

قال ابن قدامة في " الروضة" (ص / 41): (فإن قيل فهل الإباحة تكليف قلنا من قال التكليف الأمر والنهي فليست الإباحة كذلك ومن قال التكليف ما كلف اعتقاد كونه من الشرع فهذا كذلك وهذا ضعيف إذ يلزم عليه جميع الأحكام). ومعنى جواب ابن قدامة أن من فسر التكليف بأنه ما كلف اعتقاده فإن تعريفه يكون منقوضا بدخول حتى الأحكام الوضعية فيه فالسبب نكلف بأن نعتقد كونه سببًا، وكذا المانع والشرط، وغيرهم. والأليق بتعريف التكليف وبحسب القواعد أن المباح لا يدخل في الأحكام التكليفية، وإنما هو قسم خاص يسمي بالأحكام التخييرية، إلا أن الأمر فيه تساهل، ولا يترتب عليه كبير فائدة من جهة تخطئة هذا القائل، أو ذاك، والخطب يسير ولا مشاحة في الاصطلاح. قال الآمدي في "إحكامه" (1/ 170): (اختلفوا في المباح هل هو داخل تحت التكليف، واتفاق جمهور من العلماء على النفي خلافا للأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، والحق أن الخلاف في هذه المسألة لفظي، فإن النافي يقول إن التكليف إنما يكون بطلب ما فيه كلفة ومشقة، ومنه قولهم كلفتك عظيما أي حملتك ما فيه كلفة ومشقة، ولا طلب في المباح ولا كلفة لكونه مخيرا بين الفعل والترك، ومن أثبت ذلك لم يثبته بالنسبة إلى أصل الفعل بل بالنسبة إلى وجوب اعتقاد كونه مباحا، والوجوب من خطاب التكليف فما التقيا على محزّ واحد). أسماء المباح: قال الشيخ: (ويسمى: حلالاً، وجائزاً). قال ابن النجار في شرح الكوكب المنير (1/ 427): ((ويطلق) مباح (وحلال على غير الحرام) فيعم الواجب والمندوب والمكروه والمباح، لكن المباح يطلق على الثلاثة، والحلال على الأربعة. فيقال للواجب والمندوب والمكروه: مباح. ويقال لهذه الثلاثة، وللمباح حلال، لكن إطلاق المباح على ما استوى طرفاه هو الأصل).

الأحكام الوضعية

وأما الجائز فخصه قوم بما عدا الحرام كالمشروع والحلال. ومن أسماءه أيضا: المأذون فيه، الطِلْق. الأحكام الوضعية سبب تسميته بالحكم الوضعي: قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (1/ 411): (ويسمى هذا النوع: خطاب الوضع والإخبار. أما معنى الوضع، فهو أن الشرع وضع، أي: شرع أمورا سميت أسبابا وشروطا وموانع تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي، فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط، وتنتفي لوجود الموانع وانتفاء الأسباب والشروط. وأما معنى الإخبار، فهو أن الشرع بوضع هذه الأمور أخبرنا بوجود أحكامه أو انتفائها عند وجود تلك الأمور أو انتفائها، فكأنه قال مثلا: إذا وجد النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة، والحول الذي هو شرطه، فاعلموا أني أوجبت عليكم أداء الزكاة، وإن وجد الدين الذي هو مانع من وجوبها، أو انتفى السوم الذي هو شرط لوجوبها في السائمة، فاعلموا أني لم أوجب عليكم الزكاة. وكذا الكلام في القصاص، والسرقة، والزنى، وكثير من الأحكام، بالنظر إلى وجود أسبابها وشروطها، وانتفاء موانعها، وعكس ذلك ... التكليف بالشريعة لما كان دائما إلى انقضاء الوجود بقيام الساعة، كما أجمع عليه المسلمون، وكان خطاب الشارع مما يتعذر على المكلفين سماعه ومعرفته في كل حال على تعاقب الأعصار وتعدد الأمم والقرون، لأن الشارع إما الله سبحانه وتعالى، وخطابه لا يعرفه المكلفون إلا بواسطة الرسل عليهم السلام الملائكة إلى الأنبياء، أو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس، وهو غير مخلد في الدنيا حتى يعرف خطاب الله تعالى وأحكامه في الحوادث بواسطته في كل وقت، بل هو بشر عاش بين الناس زمانا حتى عرفهم أحكام معاشهم ومعادهم، ثم صار إلى رحمة الله وكرامته، اقتضت حكمة الشرع نصب أشياء تكون أعلاما على حكمه ومعرفات له، فكان ذلك كالقاعدة الكلية في الشريعة، تحصيلا لدوام حكمها وأحكامها مدة بقاء المكلفين في دار

تعريف الأحكام الوضعية:

التكليف، وتلك الأشياء التي نصبت معرفات لحكم الشرع هي الأسباب والشروط والموانع ... ) (¬1). تعريف الأحكام الوضعية: قال الشيخ: (الأحكام الوضعية: ما وضعه الشارع من أمارات لثبوت، أو انتفاء، أو نفوذ، أو إلغاء). قال الشيخ في شرح الأصول (ص/69): " ما وضعه الشارع من أمارات" أي علامات. قوله: (لثبوت، أو انتفاء، أو نفوذ، أو إلغاء) مثلا: كون الشهود رجلين، فهذا ثبوت، وإذا كان الشاهد قريبا للمشهود له، فهذا انتفاء، كذلك أيضا القرابة سبب للميراث يثبت به الإرث، واختلاف الدين ينتفي به الميراث. قوله: (أو نفوذ، أو إلغاء) البيع الصحيح يقول الشارع أنه نافذ، والبيع الفاسد يقول الشارع أنه ملغي). وأقرب التعاريف وأكثرها فائدة في فهم تعريف الشيخ ما ذكره الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/55) حيث عرفه بقوله: (خطاب الله تعالى بجعْلِ الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو صحيحاً أو فاسداً). وعليه فمقصود الشيخ بـ "ثبوت": السبب، والشرط. وبـ "انتفاء": المانع، وبـ "النفوذ": الصحيح، وبـ "الإلغاء": الفاسد. أقسام خطاب الوضع هي ما يظهر به الحكم وهي العلل والأسباب، والثاني: الشروط والثالث: الموانع، والرابع: الصحة، والخامس: الفساد، وينجر الكلام إلى الرخصة، والعزيمة، والقضاء، والآداء، والإعادة، وفي بعضها خلاف في عده من الخطاب الوضعي. والشيخ لم يتكلم على أي من هذه الأقسام غير الصحة والفساد، ولكنه في شرح الأصول عرج قليلا على بعضها. ¬

_ (¬1) انظر: التحبير (3/ 1048)، شرح الكوكب (1/ 435)، المدخل (ص/158).

تنبيهات وفوائد:

تنبيهات وفوائد: وقفات مع تعريف الشيخ: 1 - من نظر في تعريف الشيخ يجد أنه ما سار على طريقة الأصوليين في تعريف الحكم الوضعي فكان الأولى أن يقول: (خطاب الله ... ). 2 - من دقق في التعريف المذكور يجد أنه غامض حيث لم يتبين من عبارة الشيخ أن هذه الأحكام الموضوعة من الشارع كعلامات لثبوت أو انتفاء أو نفوذ أو إلغاء ماذا؟! فمثلا إن قلنا أن هذه الأحكام الوضعية هي (ما وضعه الشارع من أمارات لثبوت) وسكتُ ثم قلتَ لي: لثبوت ماذا؟ لكان سؤالك متجها، وجوابه لثبوت الحكم، وعليه فالأولى إضافته للتعريف فيقال: (ما وضعه الشارع من أمارات لثبوت الحكم الشرعي، أو انتفاءه، أو نفوذه، أو إلغاءه). 3 - ذكر الشيخ كلمة (ما وضع) في تعريفه للحكم الوضعي مما يلزم منه الدَّوْر. 4 - وقد يتعقب البعض هذا التعريف بأنه معيب على كلام المناطقة إذ أنه يحتوي على أو التشكيكية. قال الأخضري في شرحه على السلم وهو يتكلم على شروط المعرفات: (ولا يجوز أيضاً دخول "أو" في الحقيقي). أي لا تدخل في الحد الحقيقي المحتوي على الفصل والجنس، وأما في الرسمي فجائز، مثالَه تقَوْل مَا الَإنسان؟ بالْحَدّ تقَوْل: حَيَوَان ناطق مَن غَيْر (أو) التشكيكية. وبالرسم تقَوْل: حَيَوَان ضاحك أو قابَل للتعلَم أو الْكِتَابَة أو ... الخ فهذا تعريف بالخاص (رسمي) وليس بالجنس والفصل (حقيقي). ويجاب بأن أو هنا للتنويع، وليس للتشكيك. قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة " (1/ 253) عند تعريفه الحكم بقوله: خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير: (ويورد المتعنتون على مثل قولنا: أو التخيير، أن «أو» للشك والترديد، والمراد من الحدود الكشف والتحقيق، وهما متنافيان. وأجيب عنه، بأن «أو» لها معان منها التنويع، نحو: الإنسان إما ذكر، أو أنثى، والعدد: إما زوج، أو فرد، أي: هو متنوع إلى هذين النوعين، وهذا المعنى هو المراد

هنا، أي: الحكم له نوعان: اقتضاء وتخيير، والتنويع، هو نفس الكشف والتحقيق، لا مناف له. وأجاب بعض الفضلاء عن مثل هذا، أنه حكم بالترديد، لا ترديد في الحكم، والشك، هو الثاني دون الأول، لأنه جزم لا شك. فإن قيل: إذا كان لـ «أو» معان، فهي مشتركة، والمشتركات لا تصلح في الحدود لإجمالها. قلنا: لا يلزم من الاشتراك الإجمال، لجواز تعيين المراد بقرينة أو غيرها، فيزول الإجمال، فيجوز). 5 - الأولى في صياغة تعريف الشيخ أن نقول: (خطاب الله الدال على ثبوت الحكم، أو انتفاءه، أو نفوذه، أو إلغاءه)، وهذا التعريف غير جامع فلم تدخل فيه بعض أنواع الحكم الوضعي الأخرى: كالرخصة، والعزيمة، والقضاء، والآداء، والإعادة، وإن كان في بعضها خلاف في عدِّه من الخطاب الوضعي، وقد يجاب عن ذلك بأنه اقتصر على الأسباب والشروط والموانع لكونها كليات الحكم الوضعي المتفق عليها، وقد ذكر معها الصحة والفساد مع أنهما مختلف في كونها من الأحكام العقلية، أم التكليفية، أم الوضعية، فكان الأولى التنصيص على باقي الأفراد. والتعريف المشهور عند الحنابلة هو: (ما استفيد من نصب الشارع علَما معرفا لحكمه) (¬1) وللعلَم المنصوب أصناف منها: العلة، والسبب، والشرط وعكسه المانع، والصحة والفساد، ونحو ذلك مما يدخل في الخطاب الوضعي. وهذا التعريف كتعريف الشيخ يسير على طريقة الفقهاء فقد عرف الحكم الوضعي بأنه الأثر المستفاد من خطاب الشرع، والأولى في تعريفه على طريقة الأصوليين أن نقول: (خطاب الله المتعلق بما نصب عَلَمًا معرفًا لحكمه). ¬

_ (¬1) انظر: مختصر الطرفي (ص/30)، المختصر (ص/65)، التحبير (3/ 1047)، شرح الكوكب (1/ 434)، المدخل (ص/158).

العلاقة بين الخطاب الوضعي والطلبي:

العلاقة بين الخطاب الوضعي والطلبي: قال الطوفي في شرح مختصر الروضة (1/ 439): (خطاب الوضع والطلب قد يجتمعان، وقد ينفرد كل واحد منهما عن صاحبه، أما اجتماعهما فكالزنى هو من جهة كونه سببا للحد خطاب وضعي، ومن جهة كونه حراما خطاب طلبي، وكذا نظائره. وأما انفراد خطاب الوضع، فكزوال الشمس وسائر أوقات الصلوات أسباب لوجوبها، وطلوع الهلال سبب وجوب رمضان، وصلاة العيدين والشك والحيض مانع من الصلاة والصوم، والبلوغ شرط لوجوبها، وحؤول الحول شرط لوجوب الزكاة، فكل هذه متجردة عن خطاب الطلب، ليس هو فيها أنفسها، بل في غيرها، كالوجوب مثلا متعلق بالصلاة لا بالزوال، وبصوم رمضان لا بطلوع الهلال. وأما انفراد خطاب الطلب، فقال القرافي في "الفروق": هو كأداء الواجبات واجتناب المحرمات، وإن كان صاحب الشرع قد جعلها سببا لبراءة الذمة، وترتيب الثواب، ودرء العقاب، غير أن هذه ليست أفعالا للمكلف، ولا نعني بكون الشيء سببا إلا كونه وضع سببا لفعل من قبل المكلف. وقال في "شرح التنقيح": لا يتصور انفراد خطاب التكليف، إذ لا تكليف إلا وله سبب أو شرط أو مانع. قلت وهذا أشبه بالصواب). الفرق بين الخطاب الوضعي والتكليفي من حيث الحكم: قال الطوفي في شرح مختصر الروضة (1/ 416): (أما الفرق بينهما من حيث الحكم، فهو أن خطاب اللفظ الذي يعبر عنه بخطاب التكليف، يشترط فيه علم المكلف وقدرته على الفعل وكونه من كسبه، كالصلاة، والصيام، والحج، ونحوها على ما سبق في شروط التكليف. أما خطاب الوضع، فلا يشترط فيه شيء من ذلك إلا ما يستثنى بعد إن شاء الله. أما عدم اشتراط العلم، فكالنائم يتلف شيئا حال نومه، والرامي إلى صيد في ظلمة أو وراء حائل يقتل إنسانا، فإنهما يضمنان ما أتلفا، وإن لم يعلما، وكالمرأة تحل بعقد وليها عليها، وتحرم بطلاق زوجها، وإن كانت غائبة لا تعلم. وأما عدم اشتراط القدرة والكسب، فكالدابة تتلف شيئا، والصبي أو البالغ يقتل خطأ، فيضمن صاحب الدابة والعاقلة، وإن لم يكن الإتلاف والقتل مقدورا ولا مكتسبا لهم،

أما المستثنى من عدم اشتراط العلم والقدرة فهو قاعدتان:

وطلاق المكره عند موقعه وهو غير مقدور له بمطلق الإكراه أو مع الإلجاء، كما سبق في موضعه. أما المستثنى من عدم اشتراط العلم والقدرة فهو قاعدتان: إحداهما: أسباب العقوبات، كالقصاص لا يجب على مخطئ في القتل لعدم العلم، وحد الزنى لا يجب على من وطئ أجنبية يظنها زوجته، لعدم العلم أيضا، ولا على من أكره على الزنى لعدم القدرة على الامتناع، إذ العقوبات تستدعي وجود الجنايات التي تنتهك بها حرمة الشرع زجرا عنها وردعا، والانتهاك إنما يتحقق مع العلم والقدرة والاختيار، والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك، والجاهل والمكره قد انتفى ذلك فيه، وهو شرط تحقق الانتهاك، فينتفي الانتهاك لانتفاء شرطه، فتنتفي العقوبة لانتفاء سببها. القاعدة الثانية: الأسباب الناقلة للأملاك، كالبيع، والهبة، والصدقة، والوصية، ونحوها: يشترط فيها العلم والقدرة، فلو تلفظ ناقل للملك، وهو لا يعلم مقتضاه لكونه أعجميا بين العرب، أو عربيا بين العجم، أو طارئا على بلد الإسلام، أو أكره على ذلك، لم يلزمه مقتضاه، لقوله عليه السلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)، وقوله سبحانه وتعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء: 29]، ولا يحصل الرضى إلا مع العلم والاختيار). الصحيح تعريف الصحيح لغة: قال الشيخ: (الصحيح لغة: السليم من المرض). قال ابن منظور في لسان العرب مادة (ص ح ح): الصُّحُّ والصِّحَّةُ والصَّحاحُ: خلافُ السُّقْمِ، وذهابُ المرض؛ وقد صَحَّ فلان من علته واسْتَصَحَّ). تعريف الصحيح اصطلاحاً: قال الشيخ: (ما ترتبت آثار فعله عليه). قال في الشرح (ص/70): (فكل شيء تترتب آثار فعله عليه فهو الصحيح، سواء

أكان عبادة، أو معاملة، أو عقدًا، فكل شيء تترتب آثاره عليه فهو الصحيح). وأكد ذلك الشيخ بقوله: (فالصحيح من العبادات: ما برئت به الذمة وسقط به الطلب. والصحيح من العقود: ما ترتب آثاره على وجوده، كترتب الملك على عقد البيع مثلاً). ثم أخذ يبين متى يكون الشيء صحيحا فقال: (ولا يكون الشيء صحيحاً إلا بتمام شروطه وانتفاء موانعه). ومثل لذلك في الأصل فقال (ص/72): (مثال ذلك في العبادات: أن يأتي بالصلاة في وقتها تامة شروطها وأركانها وواجباتها. ومثال ذلك في العقود: أن يعقد بيعًا تامًا شروطه المعروفة مع انتفاء موانعه. فإن فقد شرط من الشروط أو وجد مانع من الموانع امتنعت الصحة. مثال فقد الشرط في العبادة: أن يصلي بلا طهارة. ومثال فقد الشرط في العقد: أن يبيع مالا يملك. ومثال وجود المانع في العبادة: أن يتطوع بنفل مطلق في وقت النهي. ومثال وجود المانع في العقد: أن يبيع من تلزمه الجمعة شيئاً بعد ندائها الثاني على وجه لا يباح). والأثر المترتب على الفعل يختلف عند المتكلمين عنه عند الفقهاء، فهو عند المتكلمين: موافقة الشرع، وعند الفقهاء يفرقون بين العبادات، والمعاملات، ففي العبادة: إسقاط القضاء، وفي المعاملات: ترتب ثمرة العقد عليه، كما سيأتي قريبًا - بإذن الله - بيان ذلك. ومقصود الشيخ بالآثار المقصودة من العبادة هي براءة الذمة وسقوط الطلب، فمن أدى الصلاة مستوفاة الشروط والأركان وخالية من الموانع فقد برئت بها الذمة وسقط بها الطلب. وأما المعاملة فتختلف باختلاف نوعها، فإن كانت بيعا فهي دخول الثمن في ملك البائع والمبيع في ملك المشتري، وإن كانت إجارة فالمقصود منها تمكين المستأجر من العين المستأجرة لينتفع بها، وتمكين المؤجر من تملك الأجرة لينتفع بها، وهكذا.

تنبيهات:

تنبيهات: التنبيه الأول - تعريف الصحيح عند الفقهاء وعند المتكلمين: لم يذكر الشيخ التفرقة بين تعريف الصحيح عند الفقهاء والمتكلمين وكل من وقفت عليه ممن تكلم عن تعريف الصحيح ذكر هذا الفرق (¬1). قال ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص/58): (فالصحيح من العبادات - أي عند الفقهاء - ما أجزأ وأسقط القضاء والمتكلمون يطلقونه بإزاء ما وافق الأمر وإن وجب القضاء كصلاة من ظن أنه متطهر، وأما العقود فكل ما كان سببا لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه فهو صحيح وإلا فهو باطل فالباطل هو الذي لم يثمر والصحيح الذي أثمر). قال ابن بدران في "نزهة الخاطر العاطر" (1/ 111): (ثمرة الخلاف بين الفقهاء والمتكلمين تظهر في صلاة من ظن أنه متطهر ثم تبين له خلاف ظنه فعلى اصطلاح المتكلمين صلاته صحيحه؛ لأنه وافق الأمر المتوجه عليه في الحال، وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد فلا يشتق منه اسم الصحة، وهذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء؛ لأنها غير مجزئة ... ). التنبيه الثاني - هل يشمل تعريف الشيخ للصحة المعاملات والعبادات. بداية تعريف الشيخ إنما هو على طريقة الفقهاء لا المتكلمين، وهو تعريف للصحة عندهم في المعاملات دون العبادات، وقد اختار البعض صحة شمول التعريف لكلاهما. قال ابن مفلح في "أصوله" (1/ 253): (الصحة في العبادة: سقوط القضاء بالفعل- وفي المعاملات: ترتب ثمرة العقد عليه (¬2) - عند الفقهاء، وعند المتكلمين: موافقة الأمر، فإِذا وجدت حكم العقل بصحتها بالتفسيرين). قال الآمدي في " الإحكام " (1/ 175): (أما في العبادات فعند المتكلم الصحة عبارة عن موافقة أمر الشارع وجب القضاء أو لم يجب، وعند الفقهاء الصحة عبارة عن سقوط القضاء بالفعل فمن صلى وهو يظن أنه متطهر وتبين أنه لم يكن متطهرا ¬

_ (¬1) انظر: شرح مختصر الروضة (ص/1/ 441)، التحبير (3/ 1082)، المختصر لابن اللحام (ص/67)، شرح الكوكب (1/ 465)، المدخل (ص/164). (¬2) وهذا هو التعريف الذي اختاره الشيخ.

فصلاته صحيحة عند المتكلم لموافقة أمر الشارع بالصلاة على حسب حاله وغير صحيحة عند الفقهاء لكونها غير مسقطة للقضاء، وأما في عقود المعاملات فمعنى صحة العقد ترتب ثمرته المطلوبة منه عليه، ولو قيل للعبادة صحيحة بهذا التفسير فلا حرج). وقد نقل الطوفي هذا التوجيه الأخير، وعلله بقوله في "شرح مختصر الروضة" (1/ 445): (قال الآمدي: ولا بأس بتفسير الصحة في العبادات بهذا. قلت: لأن مقصود العبادة إقامة رسم التعبد وبراءة ذمة العبد منها، فإذا أفادت ذلك كان هو معنى قولنا: إنها كافية في سقوط القضاء، فتكون صحيحة). قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1086): (قوله: {ويجمعهما: ترتب الأثر المطلوب من الفعل عليه}. أكثر الأصوليين يفرد كل واحد من الصحة في العبادات، والصحة في المعاملات بحد، لأن جمع الحقائق المختلفة في حد واحد لا يمكن. صرح به ابن الحاجب في تقسيم الاستثناء إلى منقطع ومتصل، لكن ذلك مخصوص بما إذا أريد تمييز الحقيقة عن الأخرى بالذاتيات، وأما غيره فيجوز، فلذلك جمعنا بينهما في تعريف واحد، لصدقه عليهما، تبعا للكوراني ... قال - أي الكوراني -: (لو قيل: الصحة مطلقا: عبارة عن ترتب الأثر المطلوب من الفعل عليه، ليشمل العبادات من غير تطويل، لكان أولى. غايته: أن ذلك الأثر عند المتكلمين: موافقة الشرع، وعند الفقهاء إسقاط القضاء. وعلى هذا يكون الخلاف راجعا إلى تعيين الأثر المطلوب، لا إلى تفسير الصحة) انتهى. وقد قال القطب الشيرازي: (لو قيل: المعاملات ترتب ثمرة المطلوب منه عليه شرعا، اطرد. ولو قيل: العبادة صحيحة بهذا التفسير، فلا حرج) انتهى.) (¬1). وعليه فالتعريف المختار للصحة هو ما اختاره الشيخ مع حذف القيد الأخير لما فيه من التطويل، ويغني عن ذكره ما في التعريف من عموم: (ما ترتبت آثار فعله عليه). ¬

_ (¬1) انظر: "شرح الكوكب المنير" (1/ 468).

التنبيه الثالث: التفريق بين الأثر المترتب على آداء الواجب، والمستحب:

التنبيه الثالث: التفريق بين الأثر المترتب على آداء الواجب، والمستحب: قال الشيخ العثيمين في "الشرح" (ص/71): (العبادات منها "واجب " ففعله يقال فيه: أبرأ الذمة، ومنها "مستحب " ففعله يقال فيه: سقط به الطلب، ولا يمنع أيضا أن نقول حتى في الواجب: إنه سقط به الطلب، فالإنسان إذا صلى الظهر برئت ذمته ولم يطالب بالصلاة مرة ثانية. س: فإذا صلى راتبة الظهر، فهل نقول: برئت ذمته؟ ج: لا؛ لأنها غير مشغولة أصلاً، ولكن نقول: سقط الطلب عنه. بهذه الصلاة؛ لأنه أداها كما أمر). وقد تعقب الشيخ عطاء قول الشيخ العثيمين: (الصحيح من العبادات: ما برئت به الذمة وسقط به الطلب) فقال ما محصله: (هذه العبارة فيها حشو، وهو قوله: (برئت به الذمة)؛ لأن قوله (سقط به الطلب) يغني عن قوله (برئت به الذمة)، ولا يغني قوله (برئت به الذمة) عن (سقط به الطلب)؛ لأنه إذا كانت العبادة فريضة فلن تكون صحيحة إلا إذا كانت مستوفاة لشروطها وأركانها وواجباتها، وانتفت موانعها فتبرأ بها ذمته ويسقط الطلب عنه، فإذا قلنا سقط الطلب فيكون هذا تعبيرا صحيحا؛ لأن العبادة لما صحت سقط بها الطلب، فسقوط الطلب يلزم منه أن تبرأ ذمته بها. وأما النافلة فلم تشغل ذمته بها أصلا، ولكن إذا صحت النافلة سقط الطلب فلا يستحب له أن يعيدها. فقوله: سقط الطلب يشمل الفريضة والنافلة، وأما قوله برئت به الذمة، فهذا يشمل الفرض دون النافلة. فالأشبه أن يقال: إذا صحت العبادة سقط بها الطلب سواء كانت فريضة، أو نافلة (¬1)). ¬

_ (¬1) قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1097): (الإجزاء مختص بالعبادة مطلقا. يعني: سواء كانت العبادة واجبة، أو مستحبة، وهذا هو الصحيح، ونقله السبكي عن الفقهاء، وقال ابن العراقي: (هذا المشهور). فيقال: قراءة الفاتحة فقط تجزيء في النافلة، كما يقال ذلك في الواجب. ولا يقال لغير العبادة، فلا يقال في المعاملات تجزيء، بل موردها العبادة فقط، وقال القرافي والأصفهاني في شرحيهما ل ' المحصول '، و ' شرح التنقيح ' للقرافي وغيرهما: (يختص الإجزاء بالواجب من العبادة فقط، فلا يجري في كل مطلوب)، وانظر: شرح الكوكب (1/ 468)، المدخل (ص/166).

فائدة - الفرق بين الصحة والقبول:

من دقق في هذا القيد (برئت به الذمة) يجد أن الشيخ العثيمين زاده للدلالة على لزومه في الواجب. وحذفه الشيخ عطاء للاستغناء عنه بسقوط الطلب، ولو تأملت قول الشيخ عطاء (فسقوط الطلب يلزم منه أن تبرأ ذمته بها) لتعقبته في تعريفه للصحيح من العبادة بطرد هذه الملازمة في المستحب. ولما كان كل من الشيخين قد اتفق على أن الذمة غير مشغولة بالمستحب أصلا، فالذي أراه أن الخلاف بينهما لفظي، وحذف هذا القيد أولى حتى لا يظن من عموم كلام الشيخ العثيمين أن الذمة مشغولة بالمستحب. فائدة - الفرق بين الصحة والقبول: ذكر ابن النجار في شرح الكوكب (1/ 469) الأقوال في ذلك ثم قال: (قال ابن العراقي - وهو ولي الدين أبو زرعة ابن الحافظ العراقي الشافعي -: ظهر لي في الأحاديث التي نفي فيها القبول ولم تنتف معه الصحة - كصلاة شارب الخمر ونحوه- أنا ننظر فيما نفي، فإن قارنت ذلك الفعل معصية، - كحديث شارب الخمر ونحوه-؛ انتفى، القبول. أي الثواب، لأن إثم المعصية أحبطه، وإن لم تقارنه معصية. كحديث: "لا صلاة إلا بطهور" ونحوه، فانتفاء القبول سببه انتفاء الشرط، وهو الطهارة ونحوها، ويلزم من عدم الشرط عدم المشروط. انتهى) (¬1). وهو الراجح عندي من الأقوال في المسألة. الشرط والسبب والمانع: أشار الشيخ في الأصل إلى السبب والشرط والمانع، وفي الشرح توسع بعض الشيء في الكلام عليهم. الشرط عرفه ابن النجار بقوله: (ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته) ويزاد عليه قيد (وكان خارجا عن حقيقة الشيء).فمثلا الوضوء ¬

_ (¬1) انظر التحبير (3/ 1104).

الفاسد

شرط لصحة الصلاة عدم وجوده يلزم منه عدم صحة الصلاة ووجوده لا يلزم منه صحة ولا فساد للصلاة لاحتمال وجود مانع من الصحة غيره. وأما القيد الأخير فللتفرقة بين الشرط والركن فالركن داخل ماهية الشيء فقراءة الفاتحة ركن من الصلاة بخلاف الوضوء فهو شرط لصحتها. والسبب عرفه ابن النجار بقوله: (ما يلزم من وجوده الوجود ويلزم من عدمه العدم لذاته). ومثاله السفر لإباحة الفطر والإسكار لتحريم الخمر والصغر للحجر والولاية عليه، وكالهلال لصيام رمضان والزوال لوجوب الظهر. والقيد الأخير احترازا مما لو قارن السبب فقدان الشرط، أو وجود المانع كالنصاب قبل تمام الحول، أو مع وجود الدين. فإنه لا" يلزم من وجوده الوجود، لكن لا لذاته، بل لأمر خارج عنه، وهو انتفاء الشرط ووجود المانع. والمانع: عرفه ابن النجار بقوله: (ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم) ويضاف قيد لذاته احترازا من عدم وجود السبب. والمنع ينقسم لمانع دوام كالطلاق للنكاح، ومانع ابتداء كالإحرام للنكاح، ومانع دوام وابتداء كالرضاعة للنكاح. الفاسد تعريف الفاسد لغة: قال الشيخ: (الذاهب ضياعاً وخسراً). الفساد نقيض الصلاح (¬1)، قال الشيخ في شرح الأصول (ص/79): (كل شيء لا يستفاد منه فإنه يسمى في اللغة فاسدا، لو تغير طعم التمر قيل: هذا تمر فاسد؛ لأنه ضاع وخسره الإنسان). تعريف الفاسد اصطلاحاً: قال الشيخ: (ما لا تترتب آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً). ¬

_ (¬1) انظر مادة (ف س د) في: المحكم، العين، تهذيب اللغة، المحيط، لسان العرب.

التفريق بين الأثر المترتب على فساد الواجب، والمستحب:

ومن فهم الصحيح ظهر له وجه هذا التعريف وهو واضح فكل مالا يترتب عليه آثاره فهو فاسد سواء كان من العبادات كمن صلى بغير وضوء، أو في المعاملات كمن باع ما لا يملك ونحو ذلك. وقد سبق ذكر وجه حذف القيد الأخير فيكون تعريف الفاسد: (ما لا تترتب آثار فعله عليه). التفريق بين الأثر المترتب على فساد الواجب، والمستحب: قال الشيخ: (فالفاسد من العبادات: ما لا تبرأ به الذمة ولا يسقط به الطلب كالصلاة قبل وقتها. والفاسد من العقود: ما لا تترتب آثاره عليه كبيع المجهول). قال الشيخ في شرح الأصول (ص/80) ما ملخصه: ((الفاسد من العبادات: ما لا تبرأ به الذمة) وهذا خاص بالواجبات. وقوله: (ولا يسقط به الطلب) وهذا بالنسبة للمستحبات. لأن الواجب إذا برئت به الذمة سقط به الطلب. وهل الذمة مشغولة بالمستحب حتى نقول تبرأ به الذمة؟ ج: لا لكن الإنسان مطالب به، فإذا فعله على وجه صحيح سقط الطلب ... ). وقد سبق مناقشة زيادة قيد: (ما لا تبرأ به الذمة)، وقول الشيخ عطاء أنه يغني عنها: (ما لا يسقط به الطلب). فالأشبه أن يقال: إذا فسدت العبادة لا يسقط بها الطلب سواء كانت فريضة، أو نافلة. وقال: (وقوله: (الفاسد من العقود: ما لا تترتب آثاره عليه كبيع المجهول) فبيع المجهول لا يصح لحديث أبي هريرة: (نهى عن بيع الغرر). ومعنى عدم ترتب الآثار عليه (بيع المجهول مثلا) عدم انتقال الملك إلى المشتري، ولا يباح له انتفاعه بالمبيع، ولا يتصرف فيه، ولا يتملك البائع الثمن وهكذا. كل فاسد محرم. قال الشيخ: (وكل فاسد من العبادات والعقود والشروط فإنه محرم).

الفاسد والباطل.

وهنا قاعدة هامة أن كل فاسد محرم؛ لأن الفساد إنما جاء من نهي الشارع عن هذا الفعل، فطالما أنه فاسد فلابد وأن يكون منهيا عنه ومحرما. والكلام ينسحب على الفرق بين الفاسد والباطل. الفاسد والباطل. قال الشيخ: (والفاسد والباطل بمعنى واحد إلا في موضعين: الأول: في الإحرام فرقوا بينهما بأن الفاسد ما وطئ فيه المحرم قبل التحلل الأول، والباطل ما ارتد فيه عن الإسلام. الثاني: في النكاح فرقوا بينهما بأن الفاسد ما اختلف العلماء في فساده كالنكاح بلا ولي، والباطل ما أجمعوا على بطلانه كنكاح المعتدة). تمهيد: قال العلائي في "تحقيق المراد" (ص / 72): (والجمهور في عدم التفرقة بين الباطل والفاسد وأنهما مترادفان يطلق كل منهما في مقابلة الصحيح. وأما الحنفية فإنهم فرقوا بينهما وخصصوا اسم الباطل بما لا ينعقد بأصله كبيع الخمر والحر، والفاسد بما ينعقد عندهم بأصله دون وصفه كعقد الربا فإنه مشروع من حيث انه بيع وممنوع من حيث انه عقد ربا فالبيع الفاسد عندهم يشارك الصحيح في إفادة الملك إذا اتصل بالقبض. وحاصل هذا أن قاعدتهم انه لا يلزم من كون الشيء ممنوعا بوصفه أن يكون ممنوعا بأصله فجعلوا ذلك منزلة متوسطة بين الصحيح والباطل وقالوا الصحيح هو المشروع بأصله ووصفه وهو العقد المستجمع لكل شرائطه والباطل هو الممنوع بهما جميعا والفاسد المشروع بأصله الممنوع بوصفه ومذهب الشافعي وأحمد وأصحابهما أن كل ممنوع بوصفه فإنه ممنوع بأصله). بيان مذهب الحنابلة: قال المرداوي في التحبير (3/ 1110) بعد أن ذكر مذهب الأحناف بالتفريق بين الفاسد والباطل: (وفائدة التفصيل عندهم: أن الفاسد يفيد الملك إذا اتصل به القبض، دون الباطل، والله أعلم. والأصح - دليلا -: أن البطلان يرادف الفساد، وهما

كلام ابن رجب في المسألة:

يقابلان الصحة، كما هو مذهبنا ومذهب الشافعي ... قوله: {مع تفريقهما في الفقه بينهما في مسائل} كثيرة. قد فرق أصحابنا وأصحاب الشافعي بين الفاسد والباطل في مسائل كثيرة. قال بعض أصحابنا: (قد ذكر أصحابنا مسائل فرقوا فيها بين الفاسد والباطل، ظن بعض المتأخرين أنها مخالفة للقاعدة. والذي يظهر - والله أعلم - أن ذلك ليس بمخالف للقاعدة. وبيانه: أن الأصحاب إنما قالوا: البطلان والفساد مترادفان، في مقابلة قول أبي حنيفة، حيث قال: ما لم يشرع بالكلية هو الباطل، وما شرع أصله وامتنع لاشتماله على وصف محرم هو الفاسد، فعندنا كل ما كان منهيا إما لعينه أو لوصفه ففاسد وباطل، ولم يفرق الأصحاب في صورة من الصور بين الفاسد والباطل في المنهي عنه، وإنما فرقوا بينهما في مسائل لدليل) انتهى (¬1). قلت: غالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد، إذا كانت مختلفا فيها بين العلماء، والتي حكموا عليها بالبطلان إذا كانت مجمعا عليها، أو الخلاف فيها شاذ. ثم وجدت بعض أصحابنا قال: (الفاسد من النكاح: ما يسوغ فيه الاجتهاد، والباطل: ما كان مجمعا على بطلانه. وعبر طائفة من أصحابنا بالباطل عن النكاح الذي يسوغ فيه الاجتهاد أيضا). إذا علم ذلك؛ فقد ذكر أصحابنا مسائل الفاسد غير مسائل الباطل في أبواب منها: باب الكتابة، والنكاح، والحج، وغيرها، وقد ذكر القاضي علاء الدين في قواعده لذلك قاعدة وذكر مسائل كثيرة فليعاودها من أرادها). كلام ابن رجب في المسألة: قال ابن رجب في القواعد (ص/12) ما ملخصه: ((القاعدة التاسعة): في العبادات الواقعة على وجه محرم , إن كان التحريم عائدا إلى ذات العبادة على وجه يختص بها لم يصح , وإن كان عائدا إلى شرطها فإن كان على وجه يختص بها فكذلك أيضا , وإن كان - أي الشرط - لا يختص بها ففي الصحة روايتان أشهرهما ¬

_ (¬1) قال الكلوذاني في التمهيد (1/ 380): إنما لم يحكموا بفساده - يعني تلقي الركبان - لأنه ورد فيه دليل يدل على أنه لا يفسد وهو قوله عليه السلام: (فمن تلقى الركبان فهو بالخيار إذا دخل السوق) فدل على أن البيع صحيح. اهـ

عدمها (¬1) , وإن عاد إلى ما ليس بشرط فيها ففي الصحة وجهان واختار أبو بكر عدم الصحة وخالفه الأكثرون (¬2) فللأول أمثلة كثيرة: (منها) صوم يوم العيد فلا يصح ¬

_ (¬1) والقول بالبطلان في هذه الحالة هو الصحيح من مذهب أحمد إلا أن الأقوى أنه يقتضي الفساد لا البطلان، وهذا هو ما اختاره الطوفي وغيره، قال الطوفي في مختصره بعد أن استعرض الأقوال في المسألة: (والمختار أن النهي عن الشيء لذاته، أو وصف لازم له مبطل، ولخارج عنه غير مبطل، وفيه لوصف غير لازم تردد، والأولى الصحة). وانتصر لذلك في شرحه فقال (2/ 440): (- وإن كان النهي عن الفعل لوصف له، لكنه غير لازم؛ ففيه تردد، إذ بالنظر إلى كونه وصفًا للفعل يقتضي البطلان، كما لو نهي عنه لذاته، أو لوصف لازم، وبالنظر إلى كونه غير لازم لا يقتضي البطلان، كما لو نهي عنه لأمر خارج، وهو أولى تغليبًا لجانب العرضية على جانب الوصفية، إذ بكونه عارضًا يضعف كونه وصفًا؛ فلا يلحق بالوصف اللازم؛ لأن لزومه يؤكد وصفيته ويقويها. ومما يصلح مثالًا لهذا القسم النهي عن البيع وما في معناه من العقود وقت النداء، وإنما نهي عنه، لكونه بالجملة متصفًا بكونه مفوتًا للجمعة، أو مفضيًا إلى التفويت بالتشاغل بالبيع، لكن هذا الوصف غير لازم للبيع لجواز أن يعقد مائة عقد ما بين النداء إلى الصلاة، ثم يدركها؛ فلا تفوت؛ فالأولى في هذا العقد الصحة لوجوه: أحدها: ضعف المانع لصحته، وهو هذا الوصف الضعيف العرضي. الثاني: معارضته بأن الأصل صحة تصرفات المكلفين، خصوصًا في معاملاتهم التي راعى الشرع مصالحهم فيها؛ فلا يترك هذا الأصل إلا لدليل قوي سالم عن معارض ... الثالث: أن ضعف المانع، وقوة المعارض المذكورين، تعاضدا على تخصيص النص المقتضي للمنع، وهو قوله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، إذ ذلك يدل على أن المنهي عنه بيع خاص، وهو المفوت للصلاة، مثل أن يشرع في مساومة بيع تتطاول مدته عند تكبير الإمام للجمعة، أو قريبًا منه، وصحة البيع عند النداء تكره ولا تفسد عند أبي حنيفة وغيره، وهو وجه مخرج عندنا، وهو قوي لما ذكرنا. والصحيح من مذهب أحمد أنه لا يصح لظاهر النهي، وما ذكرناه في تضعيف اقتضائه البطلان وارد عليه، والله تعالى أعلم بالصواب). وانظر أيضا التحبير (5/ 2297). (¬2) وقد وافق الشيخ العثيمين قول الأكثرين في هذه الحالة، فقال في باب النهي: (صيغة النهي عند الإطلاق تقتضي تحريم المنهي عنه وفساده. وقاعدة المذهب في المنهي عنه هل يكون باطلاً أو صحيحاً مع التحريم كما يلي: 1 - أن يكون النهي عائداً إلى ذات المنهي عنه أو شرطه فيكون باطلاً. 2 - أن يكون النهي عائداً إلى أمر خارج لا يتعلق بذات المنهي عنه ولا شرطه فلا يكون باطلاً).

بيان أن الخلاف لفظي بين الأحناف والجمهور:

بحال على المذهب ... وللثاني أمثلة كثيرة: (منها) الصلاة بالنجاسة وبغير سترة وأشباه ذلك وللثالث أمثلة كثيرة: (منها) الوضوء بالماء المغصوب (ومنها) الصلاة في الثوب المغصوب والحرير وفي الصحة روايتان ... ومنها الصلاة في البقعة المغصوبة وفيها الخلاف ... وللرابع أمثلة منها الوضوء من الإناء المحرم ومنها صلاة من عليه عمامة غصب أو حرير أو في يده خاتم ذهب وفي ذلك كله وجهان ... ). بيان أن الخلاف لفظي بين الأحناف والجمهور: من دقق النظر فيما سبق تبين له أن الخلاف الواقع بين الحنفية والجمهور هو خلاف لفظي، فالحنابلة وإن لم يفرقوا بين الفاسد والباطل من ناحية الأصول فقد فرقوا بينهما في الفروع لدليل اقتضى ذلك. قال الشيخ النملة في شرح الروضة "إتحاف ذوي البصائر " (2/ 246): (هل الخلاف بين الحنفية والجمهور لفظي أو معنوي؟ أقول - في الجواب عن ذلك أن الجمهور قالوا: لا فرق بين الباطل والفاسد فهما اسمان لمسمى واحد، وأما الحنفية فقد فرقوا بينهما، والخلاف بينهما خلاف لفظي. قال المحلى في "شرح جمع الجوامع ": وفات المصنف - يعني ابن السبكي - أن يقول: والخلاف لفظي كما قال في الفرض والواجب إذ حاصله أن مخالفة ذي الوجهين للشرع بالنهي عنه لأصله كما تسمى بطلانا هل تسمى فسادا؟ أو لوصفه كما تسمى فسادا هل تسمى بطلانا؟ فعندهم لا، وعندنا نعم ". وقال الزنجاني في "تخريج الفروع على الأصول": "واعلم أن هذا أصل عظيم فيه اختلاف الفئتين وطال فيه نظر الفريقين، وهو على التحقيق نزاع لفظي، ومراء جدلي". بيان ذلك أن الحنفية وإن فرقوا بين الباطل والفاسد في بعض المسائل حيث أثبتوا للفاسد وجودا معترفا به عندهم، ورتبوا عليه بعض الأحكام الشرعية في حالة تنفيذ العقد والقبض، إلا أن وجوده هذا وجود ناقص في الحقيقة، ولذلك فلا حكم له قبل

العلم

القبض: أي أنه لم يرتب عليه بذاته أثره الشرعي، وإنما ترتبت عليه بعض الآثار نظرا لتنفيذ العقد فكان التنفيذ محل رعاية عندهم؛ لوجود الشبهة القائمة بسبب العقد، ولما قد يترتب في حق الغير بعد التنفيذ فكان الاعتراف ببعض هذه الآثار مراعاة لذلك الحق مع وجود الحرمة والإثم في جميع صوره. كما أن الجمهور قد يفرقون بين الفاسد والباطل أحيانا ويخرجون عما قرروه من قاعدة الترادف بينهما إذا قام لهم دليل على ذلك من الفروع. قال ابن اللحام في "القواعد والفوائد الأصولية": " ... إذا تقرر هذا فقد ذكر أصحابنا مسائل فرقوا فيها بين الفاسد والباطل " إلى أن قال: " والذي يظهر أن ذلك ليس مخالفا لقاعدة الترادف وإنما وقع التفريق في مسائل لدليل"، وقال مثل ذلك الإسنوي في "نهاية السول"، والزركشي في "البحر المحيط". بذلك تبين أن الفرق بين الفاسد والباطل قد عمل به الجمهور والحنفية في مسائل لدليل. فالحنفية لم يفرقوا بين الفاسد والباطل إلا لما قام عندهم من الدليل الذي فهموا منه هذه التفرقة، وجعلهم يعتدون بالفاسد في بعض عقود المعاملات. فيمكن أن يعتبر اعتدادهم بالفاسد - خلافا للجمهور - في كثير من المسائل خلافا فقهيا لا أصوليا، وهذا لم ينشأ عن التسمية، وإنما نشأ عن دليل خاص لدى المجتهد، فنتج من ذلك أن الخلاف لفظي بين الجميع). العلم تعريف العلم: قال الشيخ: (العلم: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً). الإدراك في التعريف جنس يشمل كل مدرك سواء كان على سبيل الجزم، أو الشك، أو التوهم، وسواء كان مطابقا لما في نفس الأمر، أم لا. معنى الإدراك: قال الشيخ الميداني في "ضوابط المعرفة" (ص/22): (الإدراك هو حصول صورة ما لأي شيء في الذهن سواء أبلغ مبلغ التحقق والجزم، أو لم يبلغ ذلك، وسواء أكان

تنبيهات وفوائد:

مطابقا للواقع والحقيقة أو غير مطابق لذلك). وقد وضح الشيخ أن كلمة الشيء عام أريد به الخصوص يعني ما يصلح لأن يدرك فلا يدخل فيها حقيقة صفات الله عز وجل ولا حقيقة ذاته وأهل السنة تفوض في الكيف دون المعنى فتثبت لله صفات لها كيف ومعنى ولكنها لا تعرف حقيقة هذا الكيف. ومعنى التعريف أن العلم هو أن ندرك ونحيط بالشيء على حقيقته يعني إدراكا مطابقا له جازما يعني بلا شك. فخرج بقوله (إدراك الشيء) عدم إدراكه بالكلية ويسمى الجهل البسيط كمن تسأله متى غزوة بدر فيقول: لا أدري. وخرج بقوله (على ما هو عليه) إدراكه على وجه مخالف لما هو عليه ويسمى الجهل المركب كمن تسأله متى غزوة بدر فيقول في السنة الثالثة للهجرة فهذا جهل مركب لأن صاحبه جاهل وجاهل أنه جاهل. وخرج بقوله: (إدراكاً جازماً) إدراك الشيء إدراكاً غير جازم بحيث يحتمل عنده أن يكون على غير الوجه الذي أدركه فلا يسمى ذلك علماً. ثم أن ترجح عنده أحد الاحتمالين فالراجح ظن والمرجوح وهم، وإن تساوى الأمران فهو شك. وبهذا تبين أن تعلق الإدراك بالأشياء كالآتي: 1 - علم وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً. 2 - جهل بسيط: وهو عدم الإدراك بالكلية. 3 - جهل مركب وهو: إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه. 4 - ظن وهو: إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح. 5 - وهم وهو: إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح. 6 - شك وهو: إدراك الشيء مع احتمال ضد مساو. تنبيهات وفوائد: مطابقا: قال الشيخ في "الشرح" (ص/90): (بعضهم قال: "جازمًا مطابقًا"، ونحن نقول: لا حاجة لـ: "مطابقًا" ما دمنا قلنا: "على ما هو عليه "؛ لأنه يكشف عن كلمة "مطابقًا"-

الحد لا يشمل العلم بالمعدوم:

يعني لو حذف وقال: "إدراك الشيء إدراكًا مطابقًا" لصح التعريف ولما كان فيه زيادة). الحد لا يشمل العلم بالمعدوم: اعترض على الحد بأنه غير جامع لعدم شموله للعلم بالمعدوم فمن المقرر عند أهل السنة والجماعة أن المعدوم ليس بشيء خلافا للمعتزلة - كما سبق بيانه -، وكونه ليس بشيء فلا يدخل في الحد المذكور. قال المرداوي في "التحبير" (1/ 219): (الشيء لا يكون إلا للموجود، فخرج غيره - أي المعدوم -، فليس بجامع) (¬1). قال الباجي في الحدود (ص/24) بعد أن عرف العلم بأنه (معرفة المعلوم على ما هو به): (وإنما قلنا المعلوم ليدخل تحته المعلوم المعدوم، والموجود، ولا يصح أن يقال إنه "معرفة الشيء على ما هو به" على قولنا أن المعدوم ليس بشيء؛ لأن ذلك كان يخرج المعلوم المعدوم عما حددناه، ويوجب ذلك بطلان الحد لقولنا وقول أكثر الأئمة أن المعدوم يصح أن يعلم. بل نعلم ذلك من أنفسنا ضرورة إن علومنا تتعلق بما عُدم من غزوة بدر وأحد، وظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثير من الصحابة - رضي الله عنهم - ممن وقع لنا العلم به من جهة الخبر المتواتر ... ). وإنما يعترض على تعريف الباجي بأمور ذكرها المرداوي في "التحبير" (1/ 219): معترضا بها على من عرف العلم بأنه (معرفة المعلوم) فقال: (الثاني قاله القاضي أبو بكر ابن الباقلاني، والقاضي أبو يعلى، وأبو الفرج في مقدمة ' الإيضاح '، وأبو الخطاب، وأبو المعالي في ' الورقات '، وغيرهم هو: (معرفة المعلوم). ورد بوجهين: أحدهما: بكون المعرفة مرادفة للعلم، وتعريف الشيء بمرادفه لا يصح. والثاني: أن لفظ معلوم مشتق من العلم، ولا بد من معرفته، فيحتاج في معرفة العلم إلى معرفة العلم، وهو دور. ولكن المعلوم يشمل الموجود وغيره، فكان أجمع من التعريف الذي قبله. قال في ' نهاية المبتدئين ': (فيه دور يمتنع، وتعريف بالأخفى، وعلم الله لا يسمى معرفة فلا يعمه)). ¬

_ (¬1) انظر: شرح مختصر الروضة (1/ 168).

الحد يدخل فيه التقليد:

وعليه فالأولى أن نستبدل كلمة الشيء بقولنا مثلا: المراد. الحد يدخل فيه التقليد: قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة " (1/ 171): (والذي فهم من كلام فخر الدين في أثناء تقسيم ذكره: أن العلم هو الحكم الجازم المطابق لموجب. فالحكم، هو إسناد الذهن أمرا إلى آخر بإيجاب أو سلب، كقولنا: العالم محدث أو ليس بقديم، والجازم: القاطع الذي لا تردد فيه، وبه يخرج الظن والشك والوهم، والمطابق: الموافق لما في نفس الأمر، وهو معنى قول غيره: والأمر في نفسه كذلك، وبه يخرج الجهل المركب، وهو الحكم الجازم غير المطابق، كقول القائل: زيد في الدار، وليس فيها، وقوله: لموجب، أي: لمدرك، استند الحكم إليه من عقل أو حس أو ما تركب منهما، وهو احتراز عن اعتقاد المقلد المطابق، فإنه حكم جازم مطابق وليس بعلم، لأنه ليس لموجب) (¬1). وعليه فلابد من إضافة هذا القيد، وهو (لموجب). هل يدخل ما يدرك بالحواس في التعريف؟ تمهيد: قال الشنقيطي في "آداب البحث والمناظرة" (ص/8): (اعلم أن العلم الحادث ينقسم أربعة أقسام، لأنه إما علم تصور، وإما علم تصديق، وكل واحد منهما إما ضروري، وإما نظري، فالمجموع أربعة من ضرب اثنين في اثنين. الأول: علم تصور ضروري. الثاني: علم تصور نظري. والثالث: علم تصديق ضروري. والرابع: علم تصديق نظري. واعلم أن علم التصور في الاصطلاح هو إدراك معنى المفرد من غير تعرض لإِثبات شيء له، ولا لنفيه عنه كإدراك معنى اللذة، والألم، ومعنى المرارة، ومعنى الحلاوة، وإدراك معنى الإِنسان، ومعنى الكاتب، فإدراك كل مفرد مما ذكرنا ونحوه ¬

_ (¬1) انظر الإبهاج (1/ 30).

أي فهم المعنى المراد به ذلك المفرد من غير تعرض لإثبات شيء، وأما علم التصديق فهو إثبات أمر لأمر بالفعل، أو نفيه عنه بالفعل، وتقريبه للذهن. فلو قلت مثلاً، الكاتب إنسان، فإدراكك معنى الكاتب فقط علم تصور وإدراكك معنى الإِنسان فقط علم تصور، وإدراكك كون الإِنسان كاتباً بالفعل، أو ليس كاتباً بالفعل، هو المسمى بالتصديق. وإنما سمي تصديقاً لأنه خبر، والخبر بالنظر إلى مجرد ذاته يحتمل التصديق والتكذيب فسموه تصديقاً، تسمية بأشرف الاحتمالين). وقد اختلف العلماء في المقصود بالعلم هل هو المعنى الأعم المنقسم إلى التصور والتصديق، أو العلم بالمعنى الأخص الذي هو قسم من أقسام التصديق (¬1)، فمن قال بالأول أدخل فيه المحسوس، ومن قال بالثاني لم يدخله في الحد. قال المرداوي في "التحبير" (1/ 223): (ثم اختلفوا بعد ذلك: هل يدخل إدراك الحواس فيما لا يحتمل النقيض؟ وهل هو من العلم أم لا؟ والصحيح عدم الدخول، فلذلك قلنا: {فلا يدخل إدراك الحواس خلافاً للأشعري وجمع} ... قال ابن قاضي الجبل: (عند الأشعري أن إدراك الحواس نوع من العلم)، قال: (وفيه نظر لجواز غلط الحس). قال الأصفهاني بعد كلام الأشعري: (ولقائل أن يقول: هذا الحد إما أن يكون للعلم بالمعنى الأخص الذي هو قسم من التصديق، أو يكون للعلم بالمعنى الأعم، المنقسم إلى التصور والتصديق، فإن كان للثاني فقيد: (لا يحتمل النقيض) غير صحيح؛ لأن الظنون والاعتقادات علم بهذا المعنى وهما يحتملان النقيض، وأيضاً التصورات الساذجة - وهو حصول صورة الشيء من غير كون اعتباره مطابقاً أو غير مطابق - علم بهذا المعنى، ولم يعتبر عدم احتمال النقيض فيه. وإن كان الأول؛ فلا نسلم اندراج إدراك الحواس تحت الحد؛ لأن إدراك الحسي من قبيل التصورات) انتهى. وقال القطب الشيرازي في ' شرح المختصر ': (في دخوله نظر؛ لأنا لا نسلم أن إدراك الحواس مما يوجب تمييزاً لا يحتمل النقيض؛ لأن الحس قد يدرك الشيء لا على ما هو عليه، كالمستدير مستوياً، ¬

_ (¬1) انظر بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 48).

التعريف المختار:

والمتحرك ساكناً، ونحوهما) انتهى). ولنصطلح أننا نعرف العلم بالمعنى الأخص الذي هو قسم من أقسام التصديق وليس المقصود بالحد هنا العلم بالمعنى الأعم المنقسم إلى التصور والتصديق. قال المرداوي في " التحبير" (1/ 228): (اعلم أن للعلم إطلاقات لغة وعرفاً. أحدها: اليقيني، وهو الذي لا يحتمل النقيض، وهو المراد بالحد الأول، وهو الأصل. الثاني: مجرد الإدراك، سواء كان جازماً، أو مع احتمال راجح، أو مرجوح، أو مساو، مجازاً، ومن هذا القبيل: قوله تعالى: (ما علمنا عليه من سوء) [يوسف: 51]، إذ المراد: نفي كل إدراك .... ) وقد سبق ذكر كلامه بتمامه. والراجح عندي دخول المدرك بالحواس في العلم إذا كان جازما مطابقا للمدرك، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل /78) قال ابن الجوزي في "زاد المسير" (4/ 475): (قال المفسرون ومقصود الآية أن الله تعالى أبان نعمه عليهم حيث أخرجهم جهالا بالأشياء وخلق لهم الآلات التي يتوصلون بها إلى العلم) , سوى الله تعالى بين السمع والبصر والفؤاد في كونها أدوات للعلم، ومن المعلوم أن الحواس قد تردك الشيء إدراكا جازما مطابقا. قال الباجي في الحدود (ص/26): (والعلم الضروري يقع من ستة أوجه: الحواس الخمس ... وقد يقع بالخبر المتواتر، ويقع العلم الضروري ابتداءً من غير إدراك حاسة من الحواس كعلم الإنسان بصحته وسقمه وفرحه وحزنه وغير ذلك من أحواله، وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الضدين لا يجتمعان وغير ذلك من المعاني ... ). وعليه فإطلاق القول بعدم دخول ما تدركه الحواس في حد العلم فيه نظر لا يخفى، وعليه فالصواب دخولها إلا فيما تبين أن إدراكها له غير جازم أو غير مطابق. والله أعلم. التعريف المختار: مما سبق يتبين أن تعريف المختار للعلم هو التعريف الذي ذكره الإمام الرازي

أقسام العلم:

ونقله عنه الطوفي حيث عرفه بأنه (¬1) (حكم الذهن بأمر على أمر حكما جازما مطابقا لموجب). أقسام العلم: قال الشيخ: (ينقسم العلم إلى قسمين ضروري ونظري: 1 - فالضروري: ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريّاً بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا استدلال. 2 - والنظري: ما يحتاج إلى نظر واستدلال). سبق بيان أن العلم ينقسم إلى تصور وتصديق، وكل منهما إما ضروري، وإما نظري. والضروري ما يكون إدراك المعلوم به ضروريا بحيث لا يحتاج إلى نظر واستدلال فيجد الإنسان نفسه مضطرا إليه بحيث لا يمكن دفعه. وأما العلم النظري هو ما يحتاج لنظر واستدلال نظر في الأدلة الشرعية أو في المقدمات ليصل إلى العلم به. قال الشنقيطي في "آداب البحث والمناظرة" (ص/10): (فاعلم أن الضروري في الاصطلاح هو ما لا يحتاج إدراكه إلى تأمل. والنظري في الاصطلاح هو ما يحتاج إدراكه إلى التأمل. فالتصور الضروري كتصور معنى الواحد ومعنى الاثنين. والتصديق الضروري كإدراك أن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أكبر من الجزء. والتصور النظري مثل له بتصور الملائكة، والجنة، فإنه نظري (¬2) ومن أمثلته تشخيص الطبيب لعين المرض (¬3) فهو تصور له بعد بحث وتأمل ونظر. والتصديق النظري كقولك: الواحد نصف سدس الاثنى عشر وربع عشر الأربعين). ¬

_ (¬1) وهذا التعريف موافق لما اصطلحنا عليه من أننا نعرف العلم بالمعنى الأخص (التصديق الضروري). (¬2) في المطبوع: (ضروري)، وما أثبته هو الموافق للسياق. (¬3) في المطبوع: (المريض)، وما أثبته هو الموافق للسياق، كذا قال محقق طبعة دار عالم الفوائد.

الكلام

الكلام سبب ذكر هذا الفصل في علم الأصول: قال المرداوي في التحبير (1/ 280): (قد سبق أن أصول الفقه يستمد من اللغة، وذلك لما كان الاستدلال من الكتاب والسنة اللذين هما أصل الإجماع بل وأصل القياس محتاجاً إلى معرفة اللغة - التي لا تعرف دلالتهما إلا بمعرفتها؛ لأنهما عربيان، وفهم معانيهما متوقف على معرفة لغة العرب، بل هما أفصح الكلام العربي - احتيج إلى معرفتها. قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [يوسف: 2]، (وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النحل: 103]، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم: 4]، وغير ذلك من الآيات). قال الجويني في "البرهان في أصول الفقه" (1/ 78): (ومن مواد أصول الفقه العربية فإنه يتعلق طرف صالح منه بالكلام على مقتضى الألفاظ ولن يكون المرء على ثقة من هذا الطرف حتى يكون محققا مستقلا باللغة والعربية). وعليه فالاستدلال بالكتاب والسنة مبني على معرفة طرق العرب في الإفهام والفهم، ومن جملة أصول الفقه طرق دلالة الألفاظ على المعاني من عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، واشتراك وإجمال، ومنطوق ومفهوم، وحقيقة ومجاز، وهذه كلها إنما يتبع فيها ما جرى عليه عرف أهل اللغة الذين نزل القرآن بلغتهم وتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بها. تعريف الكلام: اختلفت اصطلاحات اللغويين والنحويين في تعريف الكلام، فهو عند اللغويين يشمل المفيد وغير المفيد بخلاف النحويين فلا يدخل عندهم فيه غير المفيد. قال الشيخ العثيمين في "شرح الألفية": (الكلام في اللغة أعم مما قاله رحمه الله - أي عند النحويين -، الكلام في اللغة يطلق على ما تكلم به الإنسان من مفيد وغير مفيد؛ أما عند النحويين فهو لفظ مفيد). قال الشيخ: (الكلام لغة: اللفظ الموضوع لمعنى). لغة - أي عند اللغويين -، قال الشيخ في شرح الأصول (ص/99): (كل لفظ موضوع لمعنى يسمى كلاما سواء أكان فعلا، أو حرفا، أو اسما، أو جملة مفيدة، أو

جملة غير مفيدة المهم أنه لفظ وضع لمعنى، فأصوات المدافع وإشارة الأخرس لا تسمى كلاما؛ لأنها ليست لفظا). ثم قال: (أما في اصطلاح النحويين فهو اللفظ المفيد) قال في "الشرح" (ص/99): (فخرج باللفظ: الإشارة، ولو أفادت معنى فلا تسمى كلامًا، والكتابة لو أفادت معنى لا تسمى كلامًا. وخرج بقوله: "المفيد" ما لم يفد، كقولك: قام، أكل، شرب، وقولك: زيد، عمرو، خالد، وقولك: في، إلى، عن، كلا. فكل هذا لا يسمى- اصطلاحًا- كلامًا. وخرج به أيضًا قولك: إن قام زيد. فهذا ليس بكلام؛ لأنه غير مفيد، فإذا قام زيد فما الذي يحصل؟ فالجملة الآن معلقة، فلا تسمى كلامًا (¬1). ¬

_ (¬1) وقد أكد الشيخ في شرح الأجرومية ضرورة أن تكون الفائدة مما يحسن السكوت عليها للسامع، فقال (ص/57): (المراد بالمفيد: ما أفاد السامع فائدة لا يتشوف بعده إلى غيرها. فإذا قلت: نجح الطالب. فهذا أفاد، فالآن السامع لا يتشوف إلى غيرها. لكن إذا قلت: إن نجح الطالب ... لم يُفِد ... إذن لا نُسمي هذا كلامًا؛ لأنه لم يُفِد فائدة لا يتشوف السامع بعدها إلى غيرها ... ). وقد خالفه الشيخ أحمد الحازمي، وأختار أن الفائدة التامة هي التي يحسن السكوت عليها من المتكلم، بحيث لا يصير السامع منتظرا لشيء آخر انتظارا تاما، فإن وجد التركيب الإسنادى من الفعل مع فاعله، والمبتدأ مع خبره وجد أصل الكلام، وما زاد على ذلك فليس داخلا في حد الكلام من حيث الوجود. قال في شرح الألفية (الشريط الثالث) ما محصله: المفيد مقصود به مصطلح خاص عند النحاة فإذا أطلقت الإفادة فالمراد بها الفائدة التي يحسن السكوت عليها من المتكلم، وقيل: من السامع، وقيل منهما، والأول أصح؛ لأن الكلام صفة له ثم إذا سكت وحصلت الفائدة لا يسكت السامع، ولكن يسكت المتكلم، فهو أدرى بما يقول، فكما أن الكلام صفة له فكذلك السكوت يكون صفة له. هذه الفائدة إذا أطلقت عند النحاة انصرفت إلى هذا المعنى، فإذا قيل لفظ مفيد فالمراد بها الفائدة التامة بحيث يحسن السكوت عليها من المتكلم، بحيث لا يصير السامع منتظرا لشيء آخر انتظارا تاما، بمعنى أنه يوجد التركيب الإسنادي الفعل مع فاعله، والمبتدأ مع خبره، فإذا وجد الفعل مع فاعله، والمبتدأ مع خبره وجد أصل الكلام، وما زاد على ذلك من الفضلات، والمفعولات، والأحوال، والتمييز هذا ليس داخلا في حد الكلام من حيث الوجود، ولذلك قيل: انتظارا تاما، احترازا عن الانتظار الناقص ليشمل الفعل المتعدي إذا ذكر فاعله، ولم يذكر مفعوله، فإذا قلت: ضَرَب زيد، علمت أن الضرب قد وقع من زيد، وأنه فاعل الضرب وأن هذا الضرب قد وقع في الزمن الماضي، ولكن قد وقع على من؟ هل هناك انتظار أم لا؟ نعم هناك انتظار، ولكنه انتظار ناقص. هل عدم ذكر المفعول به يكون نقضا لأصل الكلام؟ لا، فالفائدة التامة حصلت بقولنا: ضرب زيد؛ لأن الفائدة التامة المراد بها وجود المسند، والمسند إليه بقطع النظر عن المتعلقات، فلو كان هذا الفعل يتعلق به ظرف زمان، أو ظرف مكان، أو جار ومجرور حينئذ نقول: هذه لا أثر لها في الحكم على اللفظ، وعلى التركيب لأنه مفيد فائدة تامة. إذن المراد بالمركب الإسنادي هو المقصود لذاته، وهذا إنما يحصل بوجود المسند والمسند إليه بقطع النظر عن المتعلقات التي تتعلق بالمسند، أو بالمسند إليه.

وخرج به على رأي بعض العلماء: "السماء فوقنا، والأرض تحتنا"؛ فهذا غير مفيد؛ فكلنا يعرف هذا. لكن هذا غير صحيح، لأنا لو قلنا بهذا لقلنا: كل ما كان معلومًا إذا وقع خبرًا فإنه ليس بكلام. فعلى هذا إذا قلت: من أكل شبع، ومن شرب روي، ومن نام استراح، ومن استظل بالسقف سلم من حرارة الشمس، لا يعد هذا كلامًا، لأن هذا معلوم، وعلى رأيهم يكون قول الشاعر: كأننا والماء من حولنا ... قومٌ جلوس حولهم ماء فهذا على قولهم ليس كلامًا، فإذا كنت جالسًا والماء من حولك، ومعك ناس فأنتم قوم جلوس حولكم ماء. فالصحيح أنه لا يُشترط أن تكون الفائدة متجددة، وأنه يجوز أن يكون الكلام كلامًا ولو كانت فيه فائدة غير متجددة). وقد عرف ابن أجروم الكلام بقوله: (اللفظ المركب المفيد بالوضع) فزاد قيدين، وهما: المركب، الوضع. وقال الشيخ العثيمين في "شرحه على الأجرومية" (ص/56): (المركب: يعني الذي يتركب من كلمتين فأكثر، تحقيقا أو تقديرًا.

فإذا قلت: هل. فهذا لفظ لكنه ليس مركبًا، فلا يسمى كلامًا عند النحويين ... لا بدّ أن يتركب من كلمتين فأكثر تحقيقًا أو تقديرًا. فمثلاً تحقيقًا إذا قلت: قام زيد. هذا مركب من "قام" و "زيد" تحقيقا. ومثال تقديرًا إذا قلت: قُم. فهذا لم يتركب من كلمتين تحقيقا، لكن تقديرا؛ لأن قُم فيها ضمير مستتر في قوة البارز فهي مركبة من كلمتين ... قوله (بالوضع) مراده بالوضع أحد أمرين: الأول: أن يكون الواضع له قاصدًا وضعه، فخرج بذلك كلام السكران والمجنون والنائم والهاذي. فهذا لا يسمى كلامًا؛ لأن واضعه غير قاصدًا له. الثاني: بالوضع. أي بالوضع العربي، بمعنى أنه مطابق للغة العربية، فلو جاءنا كلام يفيد فائدة لا يتشوف السامع بعدها إلى شيء، لكن العرب لا يفهمونه؛ فإنه لا يسمى كلامًا عند النحويين). وقد اختار الشيخ أحمد الحازمي أن المقصود بالوضع المعنى الثاني فقال (¬1) ما محصله: بالوضع، وهذا لم يذكره ابن مالك، قيل المفيد يستلزمه؛ لأنه لا يحسن السكوت من المتكلم على كلام إلا إذا كان قاصدا له، وهذا إذا فسرنا الوضع بمعنى القصد وهو ضعيف. وقالوا حتى يخرج كلام النائم والساهي والمجنون، ونحوهم، فمن طلق زوجته وهو نائم لا تطلق باتفاق. وأجيب بأن كلام النائم يسمى وكلاما وإن لم يقصده، وإنما لم يقع الطلاق لرفع التكليف عنه حال نومه لا لأن ما قاله لم يسم كلاما. والصواب أن يفسر الوضع في حد الكلام بالوضع العربي يعني أن يكون منظوما بلفظ عربي احترازا عن غيره من اللغات الأجنبية، فإن تكلم بلغة غير عربية فليس بكلام عند النحاة، وإذا اشترطنا القصد دخل معنا كلام البربري ونحوه، وخرج عن الحد كلام الساهي، والنائم، والمجنون، ومن جرى على لسانهم ما لا يقصدون. وعليه فالكلام عند النحويين يعرف بأنه: (اللفظ المركب المفيد بالوضع). ¬

_ (¬1) الشريط الثالث من "شرح الألفية".

أقل ما يتألف منه الكلام والكلم، والفرق بينهما:

أقل ما يتألف منه الكلام والكلم، والفرق بينهما: قال الشيخ في الشرح (ص/99): (أقل ما يتكون منه الكلام: اسمان، أو فعل واسم، وقد يتألف من أكثر من ذلك لكن أقله اثنان، اسمان مثل أن نقول "زيد قائم" أو "محمد رسول". أو فعل واسم مثل "قام زيد" أو "استقام محمد"). قال عباس حسن في " النحو الوافي" (1/ 15): (الكلام "أو: الجملة": هو: "ما تركب من كلمتين أو أكثر، وله معنى مفيد مستقل". مثل: أقبل ضيف. فاز طالب نبيه. لن يهمل عاقل واجبًا ... فلا بد في الكلام من أمرين معًا؛ هما: "التركيب"، و"الإفادة المستقلة" ... ثم قال: الكَلِم: هو: ما تركب من ثلاث كلمات فأكثر؛ سواء أكان لها معنى مفيد، أم لم يكن لها معنى مفيد. فالكلم المفيد مثل: النيل ثروة مصر - القطن محصول أساسي في بلادنا. وغير المفيد مثل: إن تكثر الصناعات ... ثم قال: الموازنة بين "الكلم" و"الكلام" تدل على أمرين: أحدهما: أن "الكلم" و"الكلام" يشتركان معًا في بعض الأنواع التي يصدق على كل منها أنه: "كلم" وأنه: "كلام"؛ فيصح أن نسميه بهذا أو ذاك؛ كالعبارات التي تتكون من ثلاث كلمات مفيدة؛ فإنها نوع صالح لأن يسمى: "كلامًا" أو: "كلمًا". وكالعبارات التي تتكون من أربع كلمات مفيدة؛ فإنها نوع صالح لأن يسمى: "كلامًا" أو: "كلمًا" وهكذا كل جملة اشتملت على أكثر من ذلك مع الإفادة المستقلة. ثانيهما: أن كلا منهما قد يشتمل على أنواع لا يشتمل عليها الآخر، فيصير أعم من نظيره أنواعًا، وأوسع أفرادًا، مثال ذلك: أن "الكلم" وحده يصدق على كل تركيب يحوي ثلاث كلمات أو أكثر، سواء أكانت مفيدة، مثل: "أنت خير مرشد" أم غير مفيدة، مثل: "لما حضر في يوم الخميس" فهو من هذه الناحية أعم وأشمل من الكلام؛ لأن الكلام لا ينطبق إلا على المفيد، فيكون -بسبب هذا- أقل أنواعًا وأفرادًا؛ فهو أخص. لكن "الكلام" -من جهة أخرى- ينطبق على نوع لا ينطبق عليه "الكلم" كالنوع الذى يتركب من كلمتين مفيدتين؛ مثل: "أنت عالم" وهذا يجعل الكلام أعم. وأشمل من نظيره، ويجعل الكلم أخص ... فخلاصة الموازنة بين الاثنين ... "إن بينهما العموم من وجه، والخصوص من

اللغة نوعان: مفرد ومركب:

وجه." أو: " بينهما العموم والخصوص الوجهي" ... فالكلم أعم من جهة المعنى؛ لأنه يشمل المفيد وغير المفيد، وأخص من جهة اللفظ؛ لعدم اشتماله على اللفظ المركب من كلمتين. و"الكلام" أعم من جهة اللفظ؛ لأنه يشمل المركب من كلمتين فأكثر. وأخص من جهة المعنى؛ لأنه لا يطلق على غير المفيد ... ). اللغة نوعان: مفرد ومركب: اللغة نوعان مفرد ومركب، هذا قدر متفق عليه بين النحاة والأصوليين ومعهم المناطقة، ولكنهم اختلفوا في تعريف المفرد والمركب، وقد وافق الشيخ طريقة الأصوليين والمناطقة لا النحويين في تعريف المفرد والمركب، وهذا أجود لتعلقه بعلم الأصول وهو المعني بالدراسة هنا. قال الشيخ في "الشرح" (ص/101): (واحد الكلام: كلمة وهي اللفظ الموضوع لمعنى مفرد. كل لفظٍ موضوع لمعنى مفرد - يعني: غير مركب. فإذا قلت: "عبد اللَّه " فهي كلمة يعني: لفظ موضوع لمعنى مفرد، ولا يتم بها الكلام وإن كان في اعتبار العدد كلمتين ... يعني هي: لفظ موضوع لمعنى مفرد وإن كان جملاً، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99، 100]، وقال تعالى: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) [المؤمنون: 100]. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل) والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (كلمة)). وقال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 108): (اللغة نوعان: مفرد، ومركب. المفرد في اصطلاح النحاة: هو الكلمة الواحدة كزيد. وعند المناطقة والأصوليين: لفظ وضع لمعنى، ولا جزء لذلك اللفظ يدل على جزء المعنى الموضوع له. فشمل ذلك أربعة أقسام. الأول: ما لا جزء له ألبتة، كباء الجر. الثاني: ما له جزء، ولكن لا يدل مطلقا، كالزاي من زيد.

فائدة: الكلمة واحد الكلم، أم الكلام؟

الثالث: ما له جزء يدل، لكن لا على جزء المعنى. كإن من حروف إنسان. فإنها لا تدل على بعض الإنسان، وإن كانت بانفرادها تدل على الشرط أو النفي. الرابع: ما له جزء يدل على جزء المعنى، لكن في غير ذلك الوضع كقولنا: حيوان ناطق، علما على شخص. والمركب عند النحاة: ما كان أكثر من كلمة، فشمل التركيب المزجي، كبَعْلَبَكّ (¬1)، ونحوها، والمضاف، ولو علما، كعبد الله. وعند المناطقة والأصوليين: ما دل جزؤه على جزء معناه الذي وضع له، فشمل الإسنادي، كقام زيد، والإضافي: كغلام زيد، والتقييدي، كزيد العالم).اهـ بتصرف يسير. فائدة: الكلمة واحد الكلم، أم الكلام؟ ذكر الشيخ هنا أن الكلمة واحد الكلام. والمشهور عند غالب النحاة أن الكلم جمع الكلمة لا الكلام، غير أن ابن دريد لم يفرق بين الكلم والكلام في أنهما جمع للكلمة، فقال في "جمهرة اللغة": (الكَلِمَة: معروفة، الواحدة من الكَلِم والكلام ... ). وقد وافق الشيخ العثيمين قول جمهور النحاة في شرحه على ألفية ابن مالك، حيث قال معقبا على قول ابن مالك: (الكلم واحده كلمة): (يعني أن واحد الكلم الذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام كلمة، وعلى هذا فهو اسم جنس جمعي ... واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء، مثل شجرة وشجر، وبالياء مثل رومي وروم وإنس وإنسي). الكلم اسم جنس جمعي. وقد اختلف العلماء في (الكلم) هل هو اسم جنس جمعي، أم اسم جنس. قال السيوطي في " همع الهوامع" (1/ 55): (وفي شرح التسهيل لناظر الجيش اختلف النحاة في الكلم فذهب جماعة منهم الجرجاني إلى أنه جمع للكلمة وذهب الفارسي وغيره من المحققين إلى أنه اسم جنس لها). ¬

_ (¬1) وهو اسم مركب من بعل اسم صنم وبك أصله من بك عُنُقَه أي دقها وتَباك القومُ أي ازدحموا فإما أن يكون نُسب الصنم إلى بك وهو اسم رجل أو جعلوه يبك الأعناق هذا إن كان عربياً وإن كان عجمياً فلا اشتقاق.

اسم الجنس هو المطلق

اسم الجنس هو المطلق (¬1). وأما اسم الجنس الجمعي فقال عباس حسن في "النحو الوافي" (1/ 21): (حين نسمع لفظ: "كَلِم" نفهم أمرين: أولهما: أنه يدل على جماعة من الكلمات، لا تقل عن ثلاث، وقد تزيد؛ "لأن "الكَلِم" في الأصل يتركب من ثلاث كلمات أو أكثر؛ فهو من هذه الجهة يشبه الجمع في الدلالة العددية؛ فكلاهما يدل على ثلاث أو أكثر". ثانيهما: أن "للكلم" مفردًا نعرفه ونصل إليه بزيادة تاء للتأنيث في آخره؛ فيصير بزيادتها -وموافقة اللغة- دالا على الواحد، بعد أن كان دالًا على الجمع، فتكون: "كلمة" هى مفردة: "الكلم"؛ مع أنهما متشابهان في الحروف، وفى ضبطها، ولا يختلفان في شيء؛ إلا في زيادة التاء في آخر: "الكلمة" - بموافقة اللغة -. وهو بسبب هذا يختلف عن الجموع؛ فليس بين الجموع ما ينقلب مفردًا وينقص معناه من الجمع إلى الواحد من أجل اتصال تاء التأنيث بآخره. ولذلك لا يسمونه جمعًا، وإنما يسمونه: "اسم جنس جمعيًّا". ويقولون في تعريفه: "إنه لفظ معناه معنى الجمع، وإذا زيدت على آخره تاء التأنيث -غالبًا- صار مفردًا". أو هو: "ما يُفْرَق بينه وبين واحده بزيادة تاء التأنيث -غالبًا- في آخره"، ومن أمثلته: تفاح وتفاحة -عنب وعنبة- تمر وتمرة -شجر وشجرة- وهذا هو النوع الغالب، كما أشرنا. وهناك نوع يُفرَق بينه وبين مفرده بالياء المشددة، مثل: عرب وعربيّ، جُنْد وجندي، رُوم ورومي، تُرْك وترْكيّ. وقد يُفْرَق بينه وبين واحده بالتاء في جمعه، لا في مفرده؛ مثل كَمْأة، وكمْء"). أقسام الكلمة: الكلمة إما اسم، أو فعل، أو حرف. 1 - الاسم: قال الشيخ في "الشرح" (ص/103): (الاسم: ما دل على معنى في نفسه من غير إشعار بزمن): ¬

_ (¬1) وسوف يأتي - بإذن الله - تعريف المطلق، وبيان الفرق بينه وبين النكرة.

2 - الفعل:

"ما دلَّ على معنى" وهذا جنس يدخل فيه الفعل والحرف. "ما دلَّ على معنى في نفسه " نقول: هذا لا يشمل الحرف؛ لأنه دل على معنى في غيره. وقولنا: "من غير إشعار بزمن " هذا فصل يخرج الفعل لأنه- أي الفعل- دل على معنى في نفسه مع إشعار بزمن. وقوله: (وهو ثلاثة أنواع: الأول: ما يفيد العموم كالأسماء الموصولة. الثاني: ما يفيد الإطلاق، كالنكرة في سياق الإثبات. الثالث: ما يفيد الخصوص كالأعلام) وقوله: (منها ما يفيد العموم): يعني الشمول لجميع أفراد ما دل عليه. وقوله: (كالأسماء الموصولة):الاسم الموصول: اسم دال على العموم، والمحلى بأل غير العهدية دال أيضًا على العموم ({وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ) [العصر: 1، 2] الإِنسان " أي: كل إنسان ... وقوله: (ما يفيد الإطلاق كالنكرة في سياق الإثبات):إذا قلت: أكرم رجلاً: فهذه لا تعم كل رجل، إنما يراد بها رجلاً واحدًا، فهي لا تعم جميع الرجال. لكن النكرة فيها شمول بدلي، وليس شمولاً عموميًا ... وقوله: (ما يفيد الخصوص، كا لأعلام): "الأعلام "يعني الأسماء التي وضعت علمًا على مسماها، مثل: محمد، عمر، خالد، زيد، بكر ... إلى آخره. نقول: هذه أسماء تفيد الخصوص، ولهذا تعين مسماها. و"اسم الإشارة" يُعيِّن مسماه، إذًا فهو دال على الخصوص). 2 - الفعل: قال الشيخ "الشرح" (ص/105): (والفعل: ما دل على معنى في نفسه وأشعر بهيئته بأحد الأزمنة الثلاثة: وهو إما ماضٍ: كفهم، أو مضارع: كيفهم، أو أمر: كافهم، والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق، فلا عموم له. قوله: (والفعل مما دل على معنى في نفسه): وهذا جنس يدخل فيه الاسم. وقوله: (أشعر بهيئته): مثل: "ضرب" يشعر بهيئته بزمن ماضٍ، "اضرب " يشعر

هل الفعل يفيد الإطلاق مطلقا؟

بهيئته بزمن مستقبل، "يضرب " يشعر بهيئته بزمن حاضر. أما ما أشعر بمادته لا بهيئته فإن هذا ليس فعلاً، مثل الصباح، فقول القائل: ما زرتك صباحًا، فهذا يدل على الزمن صباحًا، لكن بمادته، ونقول: زرتك ليلاً، فهذا يدل على الزمن لكن بمادته، ولهذا نقول: "أشعر بهيئته "، ليخرج ما دل على الزمان بمادته كالصباح والمساء، والليل والنهار، وما أشبه ذلك فهذا ليس بفعل. فإذا قلتَ: أصبح زيد وأمسى زيد، فهو فعل؛ لأن كلمة "أصبح" تدل على الزمن بهيئتها. وقوله: (بأحد الأزمنة الثلاثة): فالفعل ثلاثة أقسام. وقوله: (إما ماضٍ كـ "فهم" أو المضارع كـ "يفهم" أو أمر كـ "افهم". إذًا الماضي كـ "فهم " يشعر بهيئته بزمن مضى، و"يفهم" مضارع يشعر بهيئته بزمن حاضر، و"افهم" أمر يشعر بهيئته بزمن المستقبل). هل الفعل يفيد الإطلاق مطلقا؟ قال الشيخ في "الشرح" (ص/106): (وقوله: (والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق فلا عموم له): الفعل بكل أقسامه يفيد الإطلاق فليس له عموم إلا بقرينة ولهذا إذا قلت: صام زيد يوم الاثنين، فلا يدل هذا على أنه يصوم كل اثنين!! إنما يدل على أنه صام يوم الاثنين فقط ولو مرة واحدة، لكن إن وجد قرينة فتعم، كما لو قيل: كان يصوم يوم الاثنين، فكلمة: "كان" تفيد الاستمرار غالبًا، ونقول: فإن العموم منها بلفظ "كان " ... ). تضمن كلام الشيخ هنا مبحثا هاما، وهو هل الفعل يفيد الإطلاق مطلقا؟ والصواب أن الفعل المثبت (¬1) يفيد الإطلاق إلا في حالتين، وفي الحالة الثالثة خلاف، وهي: 1 - أن يكون في معرض الامتنان كقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان: 48] فيعم كل الماء الذي ينزل من السماء كالثلج والبرد والمطر. 2 - أن تكون في سياق الشرط فيعم. وسوف يأتي بإذن الله بيانهما في باب العام. ¬

_ (¬1) وسوف يأتي بإذن الله - الكلام بالتفصيل عن هذه المسألة في باب المطلق، وعن الفعل المنفي وما في معناه في باب العام.

3 - الحرف:

3 - أن يكون الفعل مضارعا ومقرونا بـ: " كان " فهل يفيد الدوام والعموم أم لا؟ فيها خلاف، وسوف نعرض لها في باب العام - بإذن الله - فهو أليق بها. 3 - الحرف: قال الشيخ في "الشرح" (ص/107): (قوله: (الحرف: ما دل على معنى في غيره): أما في نفسه فلا يدل أبدًا، ولهذا إذا قلت: الرجل في المسجد، فـ " في " ما دلت على شيء، فلولا المسجد ما دلت على شيء إطلاقًا، فالظرف هو ما بعد " في " وهو الذي استفدنا منه الظرفية، كذلك بقية الحروف ليس لها معنى في نفسها، إنما يظهر معناها بما بعدها. أ- الواو: وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم، ولا تقتضي الترتيب ولا تنافيه إلا بدليل. الواو لها معان كثيرة منها ما ذكره الشيخ أنها لمطلق الجمع أي القدر المشترك بين الترتيب والمعية، وهذا لا ينافي أنها تأتي للترتيب أو المعية لدليل. قال المرداوي في التحبير (2/ 600) ما ملخصه: (قوله: {الواو العاطفة لمطلق الجمع}. أي: للقدر المشترك بين الترتيب والمعية، عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وعليه أكثر النحاة، وذكره الفارسي، والسيرافي، والسهيلي، إجماع نحاة البصرة والكوفة. فلا تدل على ترتيب ولا معية، وهي تارة تعطف الشيء على مصاحبه كقوله تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ) [العنكبوت: 15]، وعلى سابقه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ) [الحديد: 26] وعلى لاحقه: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) [الشورى: 3]، وقد اجتمعا في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [الأحزاب: 7] وعلى هذا إذا قيل: قام زيد وعمرو، احتمل ثلاثة معان: المعية، والترتيب، وعدمه). ومن الأدلة التي تدل على أن الواو ليست للترتيب: قوله تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى: 3]. وما أخرجه أبو داود من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان)، فلو كانت الواو للترتيب لساوت ثم ولما فرق بينهما عليه الصلاة والسلام.

الفاء:

من الأدلة التي تدل على أن الواو للترتيب: قوله تعالى: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) [الحج: 77]، وما رواه مسلم في صحيحه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ الله) أبدأ بما بدأ به الله، فبدأ بالصفا فرقى عليه ... ) الحديث. وللواو معان أخرى غير ذلك تراجع في كتب حروف المعاني، أو المطولات. ب- قال الشيخ: (الفاء: وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم مع الترتيب والتعقيب، وتأتي سببية فتفيد التعليل). الفاء لها معان كثيرة منها ما ذكره الشيخ أنها لاشتراك المتعاطفين في الحكم مع الترتيب والتعقيب، وتأتي سببية فتفيد التعليل. "الفاء العاطفة" تكون "لترتيب" كـ "قام زيد فعمرو"، "و" تأتي الفاء أيضا لـ "تعقيب" والتعقيب لا يلزم منه الفورية تقول: "تزوج فلان فولد له". والسببية كقوله تعالى: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) [القصص: 15]، وقوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ) [البقرة: 37]. ج - قال الشيخ: (اللام الجارَّة: ولها معان منها التعليل، والتمليك، والإباحة). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (1/ 255): ("تأتي "اللام" الجارة "للملك حقيقة، لا يعدل عنه" أي عن الملك إلا بدليل. قاله أبو الخطاب من أصحابنا في "التمهيد". "ولها معان كثيرة": أحدها: التعليل (¬1). نحو "زرتك لشرفك"، ومنه قوله تعالى: (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء: 105]، وقوله: "أنت طالق لرضى زيد"، فتطلق في الحال، رضي زيد أو لم يرض، لأنه تعليل لا تعليق ... الخامس: التمليك. نحو: "وهبت لزيد دينارا". ومنه: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) [التوبة: 60] ... ). ومثل الشيخ في الشرح للإباحة بقوله: (للإِنسان أن يصلي النفل جالسًا مع القدرة على القيام). ¬

_ (¬1) وسيأتي - بإذن الله - الفرق بين لام الأمر ولام التعليل، في باب الأمر.

على الجارة

د- قال الشيخ: (على الجارة، ولها معان منها الوجوب). قال الشيخ في "الشرح" (ص/110): ("على الجارة" فهل هناك "على " غير جارة؟ نعم، إذا دخلت عليها "من" صارت بمعنى فوق، تقول: "دخلت عليه من على الجدار"، أي: من فوق وهذه ليست جارة فلا تدخل في كلامنا هذا. يقول: "على الجارة ولها معانٍ منها الوجوب "، فتقول: "عليك أن تخلص العبادة لله "- يعني: يجب عليك- وفي كلام الفقهاء من هذا كثير، يقولون مثلاً: "وعليه أن يقول كذا"، و"عليه أن يتوب "، و"عليه أن يسجد"، وما أشبه ذلك). وقد ذكر الشيخ أحمد الحازمي في شرحه لرسالة الأصول: أنه ليس المقصود هنا الوجوب الشرعي، وإنما المقصود الإلزام اللغوي. أقسام الكلام بدأ الشيخ بذكر أقسام الكلام من ناحية إمكان وصفه بالصدق أو الكذب فقسمه إلى خبر وإنشاء. وفيه مسائل: تعريف الخبر: قال الشيخ: (فالخبر: ما يمكن أن يوصف بالصدق، أو الكذب لذاته). قال الشيخ في الأصل: (فخرج بقولنا: "ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب" الإنشاء؛ لأنه لا يمكن فيه ذلك فإن مدلوله ليس مخبراً عنه حتى يمكن أن يقال إنه صدق، أو كذب. وخرج بقولنا: " لذاته " الخبر الذي لا يحتمل الصدق أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به وذلك أن الخبر من حيث المخبر به ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يمكن وصفه بالكذب كخبر الله ورسوله الثابت عنه. الثاني: ما لا يمكن وصفه بالصدق كالخبر عن المستحيل شرعاً أو عقلاً فالأول كخبر مدعي الرسالة بعد النبي، صلي الله عليه وسلم، والثاني كالخبر عن اجتماع النقيضين كالحركة والسكون في عين واحدة في زمن واحد. الثالث: ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب إما على السواء أو مع رجحان أحدهما كإخبار شخص عن قدوم غائب ونحوه).

اعتراضات على هذا الحد:

اعتراضات على هذا الحد: 1 - استخدام "أو" التشكيكية وقد سبق بيان عدم جواز دخولها في الحد الحقيقي. قال ابن النجار في شرح الكوكب (2/ 293): (وبمنافاة أو للتعريف؛ لأنها للترديد. فلهذا أتى الطوفي في مختصره وغيره بالواو). 2 - قال شيخ الإسلام في الرد على المنطقيين (ص/81): (يقال إدخال الصدق والكذب أو التصديق والتكذيب في حد الخبر لا يصلح؛ لأنهما نوعا الخبر وتعريفهما إنما يمكن بالخبر فلو عرف الخبر بهما لزم الدور). قال الطوفي في شرح مختصر الروضة (2/ 69): (وقد قيل في حده ما ذكرناه أولًا، وهو ما تطرق إليه التصديق والتكذيب، وقيل: ما يحتمل التصديق والتكذيب، وأورد عليه أن التصديق هو الإخبار عن كون الخبر صدقًا، أو كذبًا؛ فيكون تعريفًا للخبر بنفسه، وهو دور. قلت: هذا سؤال قوي؛ لأن قول القائل: قام زيد، جملة خبرية، فإذا قال له السامع: كذبت أو صدقت؛ فقد أجابه بجملة خبرية أيضًا، وكلا الجملتين خبر؛ فلو عرفنا الأولى بتطرق الثانية إليها، عرفنا الخبر بتطرق الخبر عليه. فالأجود إذن في تعريف الخبر ما ذكره الآمدي، وهو أن الخبر هو: (اللفظ الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم، أو سلبها عنه، مع قصد المتكلم به الدلالة على ذلك، على وجه يحسن السكوت عليه). ومعنى تعريف الأمدي (¬1) أنه عرفه بأنه اللفظ، واللفظ بالنسبة للخبر جنس بعيد وكان الأولى أن يقول القول لأنه جنس قريب للخبر، يوضحه أن اللفظ أعم من القول فاللفظ يطلق على أي صوت اعتمد على مخرج الحروف بخلاف القول فهو اللفظ الموضوع لمعنى، وهو مقصوده هنا بقرينة باقي القيود التي ذكرها في التعريف. وقوله (الدال بالوضع) يعني أن اللفظ دل على المعني ذاته بنفسه وقد احترز بذلك القيد عن أن يكون اللفظ دالا بجهة الملازمة وهي أن يكون المعنى من لوازم أو مقتضيات اللفظ - مثلا إن قلنا هذا الشراب مسكر، وعللناه بلازم الإسكار وهي ¬

_ (¬1) انظر الإحكام (2/ 15).

الرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة؛ لأن الرائحة ليست نفس العلة. وقوله: (على نسبة) أي كقولنا: قام زيد، فنسبنا القيام لزيد واحترز به عن أسماء الأعلام وعن كل ما ليس له دلالة على نسبة. وقوله (مع قصد المتكلم به الدلالة على ذلك) احتراز عن صيغة الخبر إذا وردت ولا تكون خبرا كالواردة على لسان النائم والساهي والحاكي لها أو لقصد الأمر كقوله تعالى (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [المائدة: 45] وقوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) [البقرة: 233] (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة: 228] (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] ونحوه حيث إنه لم يقصد بها الدلالة على النسبة ولا سلبها. وقوله (معلوم إلى معلوم) حتى يدخل فيه الموجود والمعدوم. وقوله (أو سلبها عنه) حتى يعم ما مثل قولنا: زيد في الدار، ليس في الدار وقوله (يحسن السكوت عليه) احتراز عن اللفظ الدال على المركب التقييدي وهو: المركب من اسمين، أو اسم وفعل، يكون الثاني قيداً في الأول، ويقوم مقامهما لفظ مفرد مثل: حيوان ناطق، وزيد كاتب، فإنه يقوم مقام الأول الإنسان، ومقام الثاني الكاتب. وهذا المركب التقييدي لا يصدق عليه حد الجملة؛ لأنه لم يفد نسبة يحسن السكوت عليها (¬1). وقد ذكر المرداوي في التحبير (4/ 1699) وما بعدها تعاريف كثيرة للخبر قل أن يسلم منها حد من خدش. ومنها ما نقله عن ابن حمدان حيث قال: (وقال ابن حمدان في ' المقنع ': هو قول يدل على نسبة معلوم إلى معلوم، أو سلبها عنه، ويحسن السكوت عليه) وهو قريب من تعريف الآمدي إلا أن الآمدي أضاف بعض القيود ليكون الحد جامعا مانعا، وعليه فنجمع بين التعريفين ونستبدل كلمة لفظ في تعريف الآمدي بكلمة قول في تعريف ابن حمدان فيكون تعريف الخبر هو (القول الدال بالوضع على نسبة معلوم إلى معلوم، أو سلبها عنه، مع قصد المتكلم به الدلالة على ذلك، على وجه يحسن السكوت عليه). ¬

_ (¬1) انظر التحبير (1/ 307)، وبيان المختصر للأصفهاني (1/ 156).

تعريف الإنشاء:

تعريف الإنشاء: قال الشيخ - رحمه الله -: (والإنشاء: ما لا يمكن أن يوصف بالصدق والكذب). قال الشيخ في شرح الأصول (ص/113): (كل كلام لا يصلح أن يقال عنه صدق أو كذب فهو إنشاء ومنه الأمر والنهي كقوله تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36]) الأمر (وَاعْبُدُوا اللَّهَ) والنهي (وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) فهذا إنشاء وليس بخبر. ومنه الاستفهام والترجي والتمني). تعقيب: بقيت أنواع أخرى لم يتكلم عليها الشيخ وهي في المذهب من الإنشاء. فال ابن النجار في شرح الكوكب (2/ 301): ((ومنه) أي من غير الخبر (الأمر) نحو قم (ونهي) نحو لا تقعد (واستفهام) نحو هل عندك أحد؟ (وتمن) نحو ليت الشباب يعود (وترج) نحو قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة: 216]} والفرق بين التمني والترجي: أن التمني يكون في المستحيل والممكن، والترجي لا يكون إلا في الممكن (وقسم) نحو قوله تعالى: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ) [الأنبياء: 57] (ونداء) نحو: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ) [النساء: 1] (وصيغة عقد) نحو وهبت ونحو قبلت (و) صيغة (فسخ) نحو أقلت). وسوف يأتي مزيد بيان لصيغ العقود ونحوها قريبا بإذن الله - تعالى -. تنبيه: التمنى، والترجي، والقسم، والنداء، ويدخل معهم العرض والتخضيض - العرض، نحو: ألا تنزل عندنا؟ والتحضيض، نحوه: هلا تنزل عندنا؟ وهو أشد وأبلغ من العرض - تسمى تنبيها. والتنبيه ليس طلباً صريحاً، بل هو إيماء إلى الطلب، فهو شبيه بالطلب الصريح، ولكونه ليس طلباً بالوضع جعله قوم كالبيضاوي قسيماً له بحيث قال: إن الكلام إما أن يفيد طلباً بالوضع، وهو الأمر والنهي، والاستفهام، أو لا، فما لا يحتمل الصدق والكذب تنبيه وإنشاء ومحتملهما الخبر. والمذهب أن الإنشاء والتنبيه مترادفان، وهو

صيغ العقود ونحوها:

ظاهر كلام الشيخ العثيمين حيث جعل الترجي والتمني من الإنشاء (¬1). صيغ العقود ونحوها: قال الشيخ: (وقد يكون الكلام خبر وإنشاء باعتبارين كصيغ العقود). قال الشيخ في " الشرح" (ص/114) ما ملخصه: (مثل صيغ البيع، والإجارة، والوقف، والرهن، والنكاح، وغير ذلك، فكل صيغ العقود لا تصلح أن نطلق عليها أنها خبر، ولا أن نطلق عليها أنها إنشاء؛ لأنها خبر وإنشاء باعتبارين ... فهي خبر باعتبار دلالتها على ما في نفس العاقد، وإنشاء باعتبار ترتب العقد عليها). وهذا الذي اختاره الشيخ هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وهو الراجح على خلاف قول الأصحاب. قال المرداوي في التحبير 4/ 1712): (قوله: {وصيغة عقد وفسخ ونحوها إنشاء} الصحيح من مذهبنا، ومذهب أكثر العلماء: أن صيغة العقود والفسوخ ونحوها إنشاء، وهو الذي يقترن معناه بوجود لفظه، نحو: بعت، واشتريت، وأعتقت، وطلقت، وفسخت، ونحوها مما يشابه ذلك مما تستحدث به الأحكام فهي أخبار في الأصل بلا شك، ولكن لما استعملت في الشرع في معنى الإنشاء اختلف فيها: هل هي باقية على أصلها من الإخبار أو نقلت؟ فأصحابنا، والأكثر على الثاني، والحنفية على الأول ... ودليل الأكثر: أنه لو كان خبراً لكان إما عن ماض، أو حال، أو مستقبل، والأولان باطلان لئلا يلزم أن لا يقبل الطلاق ونحوه التعليق؛ لأنه يقتضي توقف شيء لم يوجد على ما لم يوجد، والماضي والحال قد وجدا لكن قبوله التعليق إجماع، والمستقبل يلزم منه أن لا يقع به شيء؛ لأنه بمنزلة (سأطلق) والغرض (¬2) خلافه، إلى غير ذلك من أدلته ... وقال القاضي من أصحابنا: هي إخبار في العقود ... وقال شيخنا - يعني الشيخ تقي الدين -: هذه الصيغ إنشاء من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم، وبها تم، وهي إخبار لدلالتها على المعنى الذي في ¬

_ (¬1) انظر التحبير (4/ 1710 - 1711). (¬2) كذا بالأصل، وصوبها ابن النجار في شرح الكوكب (2/ 303) إلى: والفرض، والمعنى أي المفترض أنه علق الطلاق على أمر سيقع بوقوعه وليس إخبار عن أنه سيطلق.

مثال تطبيقي:

النفس. انتهى) (¬1). مثال تطبيقي: قال ابن النجار في شرح الكوكب (2/ 303): ("ولو قال لرجعية: طلقتك، طَلُقَت" على الصحيح الذي عليه الأكثر لأنه إنشاء للطلاق. فعلى هذا: لا يقبل قوله: أنه أراد الإخبار، وهو المراد بقوله "وفي وجه وإن ادعى ماضيا" وقد تقدم في خطبة الكتاب "أني متى قلت في وجه: كان المقدم خلافه" فعلم منها: أن الصحيح أنها تطلق، ولو قال: أردت الإخبار وذهب بعضهم إلى أنها لا تطلق، وكأنه يعني أنه قصد الإخبار عن الطلاق الماضي). والراجح عندي أنه يدان بنيته إن قصد الإخبار عن الطلاق الماضي بالإفهام أو الإسماع أو التأكيد فلا تحسب عليه طلقة جديدة، وإن قصد التأسيس أو لم يكن له نية فطلقة جديدة. والله أعلم.، مسألة: قال الشيخ: (وقد يأتي الكلام بصورة الخبر والمراد به الإنشاء وبالعكس لفائدة). قال الشيخ في "الأصل": (مثال الأول: قول تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228]. فقوله: (يَتَرَبَّصْنَ) بصورة الخبر والمراد به الأمر وفائدة ذلك تأكيد فعل المأمور به حتى كأنه أمر واقع يتحدث عنه كصفة من صفات المأمور. ومثال العكس: قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) [العنكبوت: 12]. فقوله: (وَلْنَحْمِلْ) بصورة الأمر والمراد بها الخبر أي ونحن نحمل وفائدة ذلك تنزيل الشيء المخبر عنه منزل المفروض الملزم به). نختم بمثال تطبيقي: نختم بمثال تطبيقي لنتعرف على أهمية هذا الباب في الاستدلال، قال تعالى في سورة الواقعة: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)) فقوله (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) هل هي خبر أم إنشاء؟ ¬

_ (¬1) انظر إعلام الموقعين (3/ 119) وما بعدها.

بداية اختلف العلماء في المراد هنا على قولين: الأول أنه القرآن، والثاني: اللوح المحفوظ. فإن قلنا أنه القرآن فهل الآية خبر أم إنشاء؟ فإن قلنا أنها خبر فيكون معناه أن الله يخبر أن القرآن لا يمسه إلا المطهرون، وهذا منتقض بأن القرآن يمسه الطاهر وغير الطاهر، فدل على أن الله عز وجل لم يعن بالمصحف المذكور في الآية هذا الذي بأيدي الناس، وإنما عني كتابًا آخر، وهو الذي في السماء. كما أن المراد بالمطهرين في الآية الملائكة لأنهم طهروا من الشرك والذنوب، وليسوا بني آدم؛ لأن المطهر من طهره غيره، ولو أريد بهم بنوا آدم لقيل: المتطهرون. أجاب جمهور العلماء عن اعتراض القائلين بجواز مس المحدث المصحف على أدلة التحريم بما يأتي: أولاً: أنا نمنع أن قوله سبحانه: (لَا يَمَسُّهُ) خبر فقط، بل هو خبر تضمن نهيًا؛ لأن خبر الله لا يكون خلافه، وقد وجد من يمس المصحف على غير طهارة، فتبين بهذا أن المراد النهي، وليس الخبر، وقد ورد مثل هذا كثير في الكتاب والسنة، ومنه قوله عز وجل: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) [البقرة: 233] فإنه خبر تضمن نهيًا، ومنه في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبيع أحدكم على بيع أخيه) بإثبات الياء، فإنه خبر تضمن نهيًا. وأما القول بأن الضمير في قوله سبحانه: (لَا يَمَسُّهُ) إنما يعود على الكتاب الذي في السماء وهو اللوح المحفوظ، لا على المصحف الذي بأيدي الناس، فالجواب: أن قوله سبحانه: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقعة: 80] بعد قوله سبحانه: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) فيه دلالة ظاهرة على إرادة المصحف الذي بأيدي الناس، فلا يحمل على غيره إلا بدليل صحيح صريح. كما أن القول بأن المراد بـ المطهرين في الآية هم الملائكة وليسوا بني آدم؛ لأن المطهرين هم الذين طهرهم غيرهم، وأنه لو أريد بهم بنو آدم لقيل (المتطهرون). فالجواب: أن المتوضئ يطلق عليه طاهر ومتطهر، وهذا سائغ لغة.

الحقيقة والمجاز

ومع التسليم بأن المراد بالمطهرين: الملائكة، كما هو قول جمهور المفسرين، فإنه يمكن الاستدلال بالآية بقياس بني آدم على الملائكة، أو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (من باب التنبيه والإشارة؛ لأنه إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر، والحديث مشتق من هذه الآية). وليس الغرض التعرض لمناقشة هذه المسألة وإنما الغرض معرفة كيفية الاستدلال بالآية في محل النزاع (¬1). الحقيقة والمجاز بعد أن تكلم الشيخ عن تقسيم الكلام من حيث إمكان وصفه بالصدق وعدمه (خبر، وإنشاء) ثم تكلم عن تقسيم الكلام باعتبار آخر وهو من حيث الاستعمال وقسمه بهذا الاعتبار إلى حقيقة ومجاز، وفي كلامه مسائل. بيان لابد منه: المستقرئ للجانب التاريخي لظهور المجاز يجد أن العرب لم يعرف عنهم تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ولم يذكر عنهم التعبير بلفظ المجاز الذي هو قسيم الحقيقة عند أهل الأصول، وإنما هذا اصطلاح حدث بعد القرون المفضلة. يقول شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله - في مجموع الفتاوى (7/ 88، 89)، (12/ 277): (فهذا التقسيم اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم، .. بل ولا تكلم به أئمة اللغة، .. ولا من سلف الأمة، وعلمائها وإنما هو اصطلاح حادث، .. فإن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة، ومجاز إنما اشتهر في المائة الرابعة، وظهرت أوائله في المائة الثالثة، وما علمته موجودا في المائة الثانية) (¬2). وقد اختلف العلماء في المجاز بين مجيز، ومانع، ومفصل فالجمهور على الجواز ¬

_ (¬1) وقد بحث الشيخ: عمر بن محمد السبيل هذه المسألة ورجح تحريم مس المصحف للمحدث حدثا أصغر، فلينظر بحثه. (¬2) وانظر أيضا: مختصر الصواعق المرسلة (2/ 5).

والوقوع مطلقا، وذهب بعض العلماء والمحققين منهم أبو إسحاق الاسفرائيني من الشافعية، وأبو علي الفارسي من أهل اللغة وتقي الدين وتلميذه ابن القيم والشنقيطي إلى المنع مطلقا، وذهب بعض العلماء منهم داود بن علي، ومن الشافعية ابن القاص، ومن المالكية ابن خويز منداد، ومن الحنابلة جمع منهم: أبو الفضل التميمي، وأبو عبد الله بن حامد وأبو الحسن الخرزي، وغيرهم إلى المنع في القرآن وحده دون اللغة، وانفرد داود الظاهري بالقول بالمنع في القرآن والسنة دون غيرهما، وذهب ابن حزم إلى التفصيل بين ما فيه حكم شرعي وغيره، فما فيه حكم شرعي لا مجاز فيه وما لا فلا. والشيخ العثيمين كان يرى القول الأول وهو الجواز والوقوع مطلقا ثم تبين له قول تقي الدين ووجهه فرجع إليه. قال في "شرح الأصول" (ص/119): (على كل حال نحن وضعنا في هذا الكتاب الحقيقة والمجاز وهو من تأليفنا لكن إنما وضعناه قبل أن يتبين لنا الصحة، أو يتبين لنا بيانا واضحا أنه لا مجاز). وقال في الأصل: (تقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز هو المشهور عند أكثر المتأخرين في القرآن وغيره، وقال بعض أهل العلم لا مجاز في القرآن، وقال آخرون لا مجاز في القرآن ولا في غيره وبه قال أبو إسحاق الاسفرائيني ومن المتأخرين محمد الأمين الشنقيطي، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم أنه اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة، ونصره بأدلة قوية كثيرة تبين لمن اطلع عليها أن هذا القول هو الصواب). ولقد كانت تعجبني طريقة العلامة الشنقيطي - رحمه الله - في الرد على القائلين بالمجاز في رسالته "منعُ جَوازِ المَجازِ في المُنزَّلِ للتَّعَبُّدِ والإعجَازِ" وذلك ببيان أن كل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازاً فهو - عند من يقول بنفي المجاز - أسلوب من أساليب اللغة العربية، وأنها حقائق تكلم بها العرب، ولا يجوز نفيها (¬1). والكلام في مناقشة المسألة وأدلة كل فريق يطول وليس هذا محله. ¬

_ (¬1) وقد تتبعت في تفسيره "أضواء البيان" كل ما قال فيه أنه من الأساليب، أو الإطلاقات العربية، وأودعته رسالة، وهي مقدمة للطبع بعناية شيخنا محمد بن عبدالحكيم القاضي.

تعريف الحقيقة:

تعريف الحقيقة: قال الشيخ الحقيقة هي: (اللفظ المستعمل فيما وضع له). قال في شرح الأصول (ص/120): (خرج باللفظ الإشارة، فالإشارة لا توصف بحقيقة ولا مجاز - حتى لو فهمت - لأنها ليست بلفظ، والكتابة أيضا عندهم لا تسمى حقيقة ولا مجازا من حيث الكتابة ولكن من حيث المكتوب قد يكون حقيقة أو مجازا. وقال: فخرج بقولنا: " المستعمل " المهمل فلا يسمى حقيقة ولا مجازاً. وخرج بقولنا:" فيما وضع له "المجاز؛ لأن المجاز مستعمل في غير ما وضع له). تنبيهات: التنبيه الأول: قال الشيخ في شرح الأصول (ص/120): (فنحن قلنا اللفظ المستعمل ولم نجعل اللفظ فصلا؛ لأنه جنس). نعم هو جنس ولكنه بعيد وكان الأولى استعمال الجنس القريب وهو القول كما سبق وأن نبهنا على ذلك قريبا. قال المرداوي في التحبير: (1/ 382): ({الحقيقة: قول مستعمل في وضع أول} فقولنا في الحد: (قول)، أولى من قول من قال: (لفظ)؛ لأن القول جنس قريب، لكونه لم يشمل المهمل؛ بخلاف اللفظ). التنبيه الثاني: قال المرداوي (1/ 385): (وخرج بقولنا: (مستعمل)، اللفظ قبل الاستعمال، فإنه لا حقيقة ولا مجاز على ما يأتي، إذ المجاز يعتبر له الاستعمال أيضاً). قلت: وما قاله الشيخ العثيمين له وجه فقولنا: (لفظ مستعمل) تكافئ قولنا: (قول) فأصبحت كلمة مستعمل في تعريف المرداوي زائدة ومضمنة في معنى قوله (قول) ولما كان كلامنا بداية في تقسيم الكلام من ناحية الاستعمال أصبح دخول كلمة (مستعمل) في التعريف هام كفصل للجنس القريب أو البعيد، ولذلك حسن العدول عن الجنس القريب إلى البعيد. وإن دققت في كلام المرداوي السابق وكلام ابن النجار التالي عرفت حقيقة ذلك،

التنبيه الثالث -

قال ابن النجار في شرح الكوكب (1/ 149): ("قول" أي لفظ غير مهمل "مستعمل"؛ لأنه قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجاز) فتجد أنه فسر القول بأنه لفظ مستعمل. التنبيه الثالث - قوله (فيما وضع له) يدخل فيه الحقيقة الشرعية، واللغوية، والعرفية، وذلك أن الوضع هو تعيين اللفظ للمعنى، فإن كان التعيين من جهة الشارع فوضع شرعي، وإن كان من جهة واضع اللغة فوضع لغوي، وإن كان من جهة قوم مخصوصين فوضع عرفي إما عام، وإما خاص. ولذلك فقد قسم الشيخ الحقيقة باعتبار الواضع إلى ثلاثة أقسام فإن كان الواضع الشارع فحقيقة شرعية، وإن كان اللغوي فلغوية، وإن كان العرف فعرفية. وقد عرف المرداوي الحقيقة بقوله: (قول مستعمل في وضع أول) (¬1). ثم قال في "التحبير" (1/ 385): (وخرج بقولنا: (في وضع أول)، المجاز؛ فإنه بوضع ثان، بناء على أنه موضوع وهو الصحيح على ما يأتي، أما من يقول: إنه غير موضوع، فيخرج بقيد الوضع، ولا حاجة حينئذ إلى التقييد بكونه أولاً. ودخل في قولنا: (في وضع أول) ما وضع لغة، أو شرعاً، أو عرفاً، والألفاظ الشرعية والعرفية، هي بالوضع الأول باصطلاح الشرع والعرف، وإن كانت بالوضع الثاني باعتبار اللغة، فإن الوضع الأول أعم من الوضع باعتبار اللغة، فحينئذ تكون الألفاظ المنقولة شرعية أو عرفية، بالوضع الأول باصطلاح الشرع والعرف، وإن كانت بالوضع الثاني باعتبار اللغة ... ). ، وإنما الغرض بيان أن الوضع يدخل فيه الحقيقة الشرعية والعرفية مع اللغوية، وأما وصفه بالأول، فسوف يأتي الكلام عليه في التنبيه التالي. وبذلك تعرف عدم صحة ما أشكل به البعض على هذا التعريف من أنه غير جامع، وأنه خاص بالحقيقة اللغوية، ولا يدخل فيه الحقيقة الشرعية، والعرفية، وأنه لابد من زيادة قيد: (في اصطلاح التخاطب)، فهذا القيد يؤدي نفس مؤداه قوله (فيما ¬

_ (¬1) وانظر تعريفات الحنابلة للحقيقة في: العدة (1/ 172)، التمهيد (2/ 249)، شرح غاية السول لابن المبرد (ص/107)، أصول ابن مفلح (1/ 69)، روضة الناظر (ص/173)، شرح مختصر الروضة (1/ 484)، التحبير (1/ 382)، شرح الكوكب (1/ 149)، وغيرها.

التنبيه الرابع -

وضع له). التنبيه الرابع - ولتعلم أن من قسم الكلام إلى حقيقة ومجاز أثبت أن الكلام له وضع أول أي حقيقي استعملته فيه العرب كالأسد للحيوان المفترس، فإن استعملته في وضع ثان أي في الرجل الشجاع مثلا - بشروط تأتي - يقال أن هذا مجاز. ويشكل على هذا التقسيم أمران: الأول - أن من لوازم هذا التقسيم للوضع الأول والثاني للكلام أن اللغة توقيفية، وأن الوضع الأول معروف بتوقيف من الله، ويشكل على هذا أمور منها: أن علماء اللغة مختلفون في اللغة هل هي توقيفية أم اصطلاحية أم إلهامية على أقوال ستة مبسوطة في غير هذا الموضوع، فكيف السبيل للجزم بأن هذا هو الوضع الأول، بمعنى أنهم إن احتاجوا إلى إثبات الوضع السابق على الاستعمال تعذر عليهم ذلك للخلاف الوارد في أصل اللغة هل هي توقيفية أم لا؟ وأيضا إن عكس القول عليهم بأن الوضع الثاني أول لما استطاعوا رده. وأيضا من لوازم قولهم أن اللفظ الموضوع قبل الاستعمال لا حقيقة ولا مجاز فإن استعمل في غير موضوعه صار مجاز لا حقيقة له. الثاني- قولهم أن كل مجاز يجوز نفيه. قال الشيخ في "شرح نظم الورقات" (ص/71): (ونحن نجيب عن كل هذه الأمثلة - أي التي ذكرها العمريطي انتصار للقول بالمجاز في القرآن واللغة - ونقول: الصواب أنه لا مجاز في اللغة العربية، لا في القرآن، ولا في السنة، ولا في غيرهما؛ وذلك لأن المجاز أصدق ما يكون فيه هو الذي يصح نفيه ونفي المعنى المراد بمقتضى سياقه، أو لفظه لا يمكن أبدا) ثم أخذ - رحمه الله - في الرد على الأمثلة المذكورة. قال العلامة الشنقيطي في رسالته " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " (ص 35: 38): (كل ما يسميه القائلون بالمجاز مجازاً فهو - عند من يقول بنفي المجاز - أسلوب من أساليب اللغة العربية. فمن أساليبها إطلاق الأسد مثلاً على الحيوان المفترس المعروف، وأنه

ينصرف إليه عند الإطلاق، وعدم التقييد بما يدل على أن المراد غيره. ومن أساليبها إطلاقه على الرجل الشجاع إذا اقترن بما يدل على ذلك. ولا مانع من كون أحد الإطلاقين لا يحتاج إلى قيد، والثاني يحتاج إليه؛ لأن بعض الأساليب يتضح فيها المقصود فلا يحتاج إلى قيد، وبعضها لا يتعين المراد فيه إلا بقيد يدل عليه، وكل منهما حقيقة في محله. وقس على هذا جميع أنواع المجازات. وعلى هذا، فلا يمكن إثبات مجاز في اللغة العربية أصلاً، كما حققه العلامة ابن القيم-رحمه الله- في الصواعق. وإنما هي أساليب متنوعة بعضها لا يحتاج إلى دليل، وبعضها يحتاج إلى دليل يدل عليه، ومع الاقتران بالدليل يقوم مقام الظاهر المستغني عن الدليل، فقولك: " رأيت أسداً يرمي " يدل على الرجل الشجاع، كما أن لفظ الأسد عند الإطلاق على الحيوان المفترس. ثم إن القائلين بالمجاز في اللغة العربية اختلفوا في جواز إطلاقه في القرآن ... والذي ندين به، ويلزم قبوله كل منصف محقق أنه لا يجوز إطلاق المجاز مطلقاً على كلا القولين. أما على القول بأنه لا مجاز في اللغة أصلاً - وهو الحق - فعدم المجاز في القرآن واضح، وأما على القول بوقوع المجاز في اللغة العربية فلا يجوز القول به في القرآن. وأوضح دليل على منعه في القرآن إجماع القائلين بالمجاز على أن كل مجاز يجوز نفيه، ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر، فتقول لمن قال: رأيت أسداً يرمي، ليس هو بأسد، وإنما هو رجل شجاع، فيلزم على القول بأن في القرآن مجاز أن في القرآن ما يجوز نفيه. ولا شك أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن، وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض القرآن قد شوهد في الخارج صحته، وأنه كان ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن العظيم. وعن طريق القول بالمجاز توصل المعطلون لنفي ذلك فقالوا: لا يد ولا استواء ولا نزول، ونحو ذلك في كثير من آيات الصفات، لأن هذه الصفات لم ترد حقائقها، بل هي عندهم مجازات، فاليد مستعملة - عندهم - في النعمة أو القدرة، والاستواء في الاستيلاء، والنزول نزول أمره، ونحو ذلك، فنفوا هذه الصفات الثابتة بالوحي عن طريق القول بالمجاز ... ).

الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية:

الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية: قال الشيخ: (وتنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام: لغوية، وشرعية، وعرفية. فاللغوية هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة. والحقيقة الشرعية هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع. والحقيقة العرفية هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف). قال المرداوي في التحبير (1/ 389): (الحقيقة ثلاثة أنواع: أحدها: اللغوية، وهي الأصل، كالأسد على الحيوان المفترس. الثاني: الحقيقة العرفية، وحدها: ما خص عرفاً ببعض مسمياته، يعني: أن أهل العرف خصوا أشياء كثيرة ببعض مسمياتها، وإن كان وضعها للجميع حقيقة، وهي قسمان: عامة، وخاصة. فالعامة: ما انتقلت من مسماها اللغوي إلى غيره للاستعمال العام بحيث هجر الأول، وذلك إما بتخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة بالنسبة إلى ذات الحافر، فإن الدابة وضعت في أصل اللغة لكل ما يدب على الأرض فخصصها أهل العرف بذات الحافر من الخيل والبغال والحمير ... وإما باشتهار المجاز، كإضافتهم الحرمة إلى الخمر، وإنما المحرم الشرب، وكذلك ما يشيع استعماله في غير موضوعه اللغوي، كالغائط، والعذرة، والراوية، وحقيقتها: المطمئن من الأرض، وفناء الدار (¬1)، والجمل الذي يستقى عليه الماء (¬2). والخاصة: ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم، كاصطلاح النحاة، والنظار، والأصوليين، وغيرهم على أسماء خصوها بشيء من مصطلحاتهم، كالمبتدأ، والخبر، والفاعل، والمفعول، والنقض، والكسر، والقلب، وغير ذلك مما اصطلح عليه أرباب كل فن). والحقيقة الشرعية: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في الشرع كالصلاة للعبادة المخصوصة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، وكّالإيمان، للاعتقاد والقول والعمل. ¬

_ (¬1) قال الجوهري: والعذرة: فناء الدار، سميت بذلك، لأن العذرة كانت تلقى في الأفنية، وهذا قاطع في أن أصل وضع العذرة للخارج المستقذر، ثم سمي به فناء الدار للمجاورة (¬2) إطلاق لفظ "الراوية" على ظرف الماء، وإنما هي في الأصل البعير الذي يستقى عليه.

أيها يقدم من الحقائق الثلاث:

أيها يقدم من الحقائق الثلاث: قال الشيخ في الأصل: (وفائدة معرفة تقسيم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام أن نحمل كل لفظ على معناه الحقيقي في موضع استعماله فيحمل في استعمال أهل اللغة على الحقيقة اللغوية، وفي استعمال الشرع على الحقيقة الشرعية، وفي استعمال أهل العرف على الحقيقة العرفية). قال الشنقيطي في "أضواء البيان" (2/ 238): (المقرر في الأصول عند المالكية والحنابلة وجماعة من الشافعية أن النص إن دار بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية حمل على الشرعية وهو التحقيق خلافاً لأبي حنيفة في تقديم اللغوية ولمن قال يصير اللفظ مجملاً لاحتمال هذا وذاك). قال تقي الدين في "مجموع الفتاوى" (7/ 286): (ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها وما أريد بها من جهة النبي لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم). تعريف المجاز: قال الشيخ: المجاز هو: (اللفظ المستعمل في غير ما وضع له). قال في الأصل: (فخرج بقولنا: " المستعمل " المهمل فلا يسمى حقيقة ولا مجازاً. وخرج بقولنا: " في غير ما وضع له " الحقيقة). وهذا الحد غير مانع فقد يدخل فيه ما لا يصح أن يكون مجازا على جميع الأقوال لعدم وجود علاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي، ولا وجود قرينة للصرف للمعنى المجازي كقولنا: رأيت خبرا، وتقول الخبز مجاز عن الرجل. ولذلك أضاف البعض قيودا لهذا التعريف فقالوا: لعلاقة وزاد بعضهم لعلاقة مع قرينة، وأسلم منه ما حده به ابن قدامة في الروضة (ص/175) حيث قال: (هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي على وجه يصح) (¬1). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (1/ 505): (وقولنا: على وجه يصح نريد به وجود شروط المجاز المذكورة بعد احتراز من استعماله على وجه لا يصح، ¬

_ (¬1) انظر تعريف المجاز عند الحنابلة في: العدة (172)، التمهيد (2/ 249)، شرح غاية السول لابن المبرد (ص/108)، أوصل ابن مفلح (1/ 72)، شرح الكوكب المنير (1/ 154)، وغيرها.

شروط المجاز:

وهو ما إذا انتفت شروطه أو بعضها، بأن كان لا لعلاقة، أو لعلاقة خفية (¬1)، ونحو ذلك). وقال ابن بدران في نزهة الخاطر (1/ 122): (عدل عن قولهم لعلاقة إلى قوله على وجه يصح ليعم المذهبين مذهب من يقول على وجه يصح أي بحسب غير وضع أول بل بمجرد المناسبة (¬2) كما هو رأي الأكثر، ومذهب من يقول على وجه يصح أي بوضع ثان ملحوظ فيه الوضع السابق كما هو رأي البعض بخلاف ما إذا قيل هو اللفظ المستعمل في غير وضع أول لعلاقة فإنه لا يصح إلا على مذهب الأكثرين. والحاصل أن قولنا على وجه يصح أعم من قولنا لعلاقة وقيد الصحة يخرج مثل استعمال لفظ الأرض في السماء). شروط المجاز: قال الشيخ: (ولا يجوز حمل اللفظ على مجازه إلا بدليل صحيح يمنع من إرادة الحقيقة وهو ما يسمى في علم البيان بالقرينة. ويشترط لصحة استعمال اللفظ في مجازه وجود ارتباط بين المعنى الحقيقي والمجازي ليصح التعبير عنه وهو ما يسمى في علم البيان بالعلاقة). وكلام الشيخ واضح في اشتراط وجود علاقة وقرينة ليصح المجاز. القرينة: قال الشيخ في "الشرح" (ص/125): (ولا يجوز حمل اللفظ على مجازه إلا بدليل صحيح يمنع من إرادة الحقيقة، وهو ما يسمى في علم البيان بالقرينة. فهذا من أهم ما يكون، يعني: أننا لا يمكن أن نحمل الكلام على المجاز إلا بدليل صحيح. ¬

_ (¬1) كاستعارة الأسد للرجل الأبخر بعلاقة مشابهته له في البخر، فالأسد وإن كان متصفا بالبخر فإنه لم عهد استعارته للرجل بذلك الجامع الذي هو البخر، فلا يجوز ذلك لأن المعنى يصير حينئذ متعقدا غير مفهوم. (¬2) يعني أن البعض يلحظ العلاقة بين الوضع الأول والثاني والبعض لا يلحظها ويكتفي بالمناسبة بينهما وسوف تأتي بإذن الله أمثلة لهذه الأنواع.

العلاقة:

وإذا ضربنا لهذا مثلاً في صفات الله عز وجل تبين: قال الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، فحقيقة الاستواء هو: العلو، فإذا حرَّفه أحد إلى الاستيلاء! قلنا: لا نقبل مثل هذا؛ لأن تحريفه إلى الاستيلاء إخراج له عن حقيقته، ولا يقبل إلا بدليل. وإذا قال قائل: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]،- يعني: يدي الله عز وجل - وأن المراد بهما النعمة! قلنا له: لا نقبل؛ لأن استعمال اليد في النعمة مجاز، ولا يمكن أن يحمل اللفظ على مجازه إلا بدليل صحيح يمنع إرادة الحقيقة. فإذا قال: عندي دليل صحيح يمنع إرادة الحقيقة، وهو العقل والنقل: أما النقل: فلقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]. وأما العقل: فلظهور التباين بين الخالق والمخلوق! فالجواب: أن نقول: إن إثبات اليد لا يستلزم المماثلة، فها أنت لك يد، ولبعيرك يد، فهل يداكما سواء؟ وأما الجواب عن العقل، فنقول: نعم، فالتباين بين الخالق والمخلوق صحيح، فكما أنهما متباينان بالذات، فإنهما متباينان في الصفات. وعلى كل حالٍ أهم شيء عندنا في المجاز هو: أن نمنع حمل الكلام على مجازه إلا بدليل صحيح يمنع من إرادة الحقيقة، وهذا الدليل يسميه علماء البلاغة: "القرينة" ثم يقسمون القرينة إلى حالية وإلى لفظية، وليس هذا موضع البحث). العلاقة: قال الشيخ في " الشرح" (ص/126): (قوله: (ويشترط لصحة استعمال اللفظ في مجازه وجود ارتباط بين المعنى الحقيقي والمجازي ليصح التعبير عنه، وهو ما يسمى في علم البيان بالعلاقة): فهذا أيضًا لا بد منه، لابد أن يكون هناك علاقة بين الحقيقة والمجاز، يعني: بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، من أجل أن يصح التعبير به عنه، فإن لم يكن هناك علاقة فلا يصح المجاز، فلو عبرت مثلا بالخبز عن الشاة والبيت، لا يصح؛ لعدم العلاقة، لكن لو عبرت عن العصير بالخمر يصح؛ للعلاقة، لأن أصل الخمر العصير، وتعبر باليد عن النعمة؛ لأن النعم والعطاء تكون باليد، وتعبر عن النفس بالرقبة؛ لأن الرقبة إذا قطعت مات الإنسان، لكن هل تعبر عن

أنواع العلاقة:

الإنسان بالظفر، فإذا نزلت إلى السوق وجدت ظفرًا يُحَرّج عليه- أي: يساوم عليه- فاشتريت هذا الظفر وأعتقته، فإن هذا لا يصح، فليست هناك علاقة؛ أولا: لأن الظفر لا يطلق على الإِنسان. وثانيًا: لأن الظفر جزء يسير لو فقد لا يموت الإِنسان بخلاف الرقبة. وكذلك لو قال: نزلت إلى السوق فوجدت أصبغا يُساوم عليه فاشتريته، وأعتقته؛ فإن ذلك لا يصح ... ). أنواع العلاقة: قال الشيخ: (والعلاقة إما أن تكون المشابهة أو غيرها). المجاز له أربعة أنواع (¬1): 1 - المجاز المفرد وهو عندهم الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له لعلاقة مع قرينة صارفة عن قصد المعنى الأصلي. - والعلاقة إن كانت المشابهة كقولك رأيت أسداً يرمي سمي هذا النوع من المجاز استعارة، وحد الاستعارة مجاز علاقته المشابهة. - وإن كانت علاقته غير المشابهة كالسببية والمسببية ونحو ذلك سمي مجازاً مفرداً مرسلاً كقول الشاعر: أكلت دماً إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر (¬2) أطلق الدم وأراد الدية مجازاً مرسلاً علاقته السببية لأن الدية المعبر عنها بالدم سببها الدم وهي مسبب له. ¬

_ (¬1) مستفاد من كلام الشنقيطي في المذكرة (ص/58) مع بعض التصرف والزيادات. (¬2) قائل هذين البيتين أعرابي كان قد تزوج امرأة فلم توافقه فقيل له أن حمى دمشق سريعة في موت النساء فحملها إلى دمشق وأنشد هذين البيتين: (دمشق خذيها واعلمي أن ليلة ... تمر بعودي نعشها ليلة القدر) (أكلت دما إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوى القرط طيبة النشر) أكلت دما هذا يجري مجرى اليمين والمراد بالدم الدية يريد قتل لي قتيل فأعجز عن الأخذ بثأره فأرضى بأخذ الإبل في ديته فإذا طعمت ألبناها فكأنما أشرب دم ذلك القتيل وكنى ببعيدة مهوى القرط عن طول العنق والنشر الرائحة الطيبة والمعنى إن لم أتزوج عليك امرأة حسنة طيبة الرائحة تروعك وتفزعك فقتل الله لي قتيلا أعجز عن أخذ ثأره فآخذ ديته.

2 - المجاز المركب

2 - المجاز المركب وضابطه أن يستعمل كلام مفيد في معنى كلام مفيد آخر، لعلاقة بينهما ولا نظر فيه إلى المفردات، فقد تكون حقائق لغوية، وقد تكون مجازات مفردة، وقد يكون بعضها مجازاً وبعضها حقيقة. - وعلاقته إن كانت المشابهة فهو استعارة تمثيلية، ومنها جميع الأمثال السائرة والمثل يحكي بلفظه الأول، ومثاله قولك لمن فرط في أمر وقت إمكان فرصته، ثم بعد أن فات إمكان فرصته جاء يطلبه (الصَّيفُ ضَيَّعتِ اللَبَن) وأصل المثل أن امرأة من تميم خطبها رجلان أحدهما كبير في السن وله مواشي كثيرة، والثاني شاب وماشيته قليلة، فاختارت الشاب، وكانت الخطبة زمن الصيف، ثم طلبت بعد ذلك من الكبير الذي ردت خطبته لبناً فقال لها: (الصَّيفُ ضَيَّعتِ اللَبَن) وهذا الاستعمال لعلاقة المشابهة، بين مجموع الصورتين. - وان كانت علاقته غير المشابهة، سمي مجازاً مركباً مرسلاً كقوله: هَوايَ مع الرَّكْبِ اليَمانِينَ مُصْعِدٌ ... جَنِيبٌ وجُثْمانِي بمَكَّةَ مُوثَقُ (¬1) فالبيت كلام خبري أريد به إنشاء التحسر والتأسف لان ما أخبر به عن نفسه هو سبب التحسر والتأسف، وهو مجاز مركب مرسل، علاقته السببية ... 3 - المجاز العقلي (¬2): التجوز فيه في خصوص الإسناد لا في لفظ المسند إليه ولا المسند كقول المؤمن: (أنبت الربيعُ البقلَ) فالربيع وإنبات البقل كلاهما مستعمل في حقيقته، والتجوز إنما هو في إسناد الإنبات إلى الربيع وهو لله جل وعلا عند المتكلم وكذلك هو في الواقع. 4 - مجاز النقص والزيادة: فمداره على وجود زيادة، أو نقص يغيران الإعراب. مجاز النقص مثلوا له بقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] والمراد أهل القرية. ¬

_ (¬1) ومعنى البيت هواي راحلٌ ومبعدٌ مع ركبان الإبل القاصدين نحو اليمن، منضمٌ إليهم، مقودٌ معهم، وبدني مأسورٌ مقيدٌ بمكة. (¬2) قال الشنقيطي في "المذكرة" (1/ 58) معقبا على تعريف ابن قدامة للمجاز: وتعريفه للمجاز لا يدخل فيه الا اثنان من أنواع المجاز الأربعة، وهما المجاز المفرد، الثاني المجاز المركب، والنوعان اللذان لم يدخلا في كلامه هما المجاز العقلي ومجاز النقص والزيادة.

والتحقيق أنه لا مجاز في هذه الآية (¬1)، وإنما هي أساليب استعملتها العرب، ومعان حقيقية جاءت بها اللغة، فقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) فيه حذف مضاف، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أسلوب من أساليب العربية معروف، لأنه مما يعلم وحذف ما علم جائز كما قرره علماء العربية. ولتعلم أنه جاء استعمال العرب للقرية تارة للمكان، وتارة للسكان، وقد جاء القرآن بذلك كله، قال تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأعراف: 4، 5])، وقال في آية أخرى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ) [محمد: 13]، فالمراد بالقرية هنا السكان، وكذلك قوله تعالى: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) [الكهف: 59]، والمراد السكان. وقد أطلق لفظ القرية، وأريد به المكان، قال تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) [البقرة: 259] الآية. فالحاصل أن العرب تطلق هذا اللفظ، وتريد به تارة المكان، وتارة السكان، والسياق هو الذي يحدد ذلك، وليس هذا اللفظ مجازا، وإنما أسلوب من أساليب العربية المعروفة (¬2). ومثال مجاز الزيادة عندهم قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]. قال الشيخ في "الشرح" (ص/132): (وقوله: (مثلوا للمجاز بالزيادة بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فقالوا: إن "الكاف" زائدة، لتأكيد نفي المثل عن الله): قالوا: لا يمكن أن يجتمع كلمتان دالتان على التشبيه؛ لأنه، لو اجتمع كلمتان دالتان على التشبيه لكان هذا عين التشبيه، لأن نفي النفي إثبات. فلو كان المعنى: ليس مثلَ مثلِ اللَّه شيء، لثبت المثلُ! وهذا مستحيل، والكاف: حرف يدل على التشبيه. ¬

_ (¬1) انظر كلام الشيخ العثيمين في الرد على من ذهب إلى أن في الآية مجاز في "شرح نظم الورقات" (ص/72). (¬2) انظر مجموع الفتاوى (7/ 112 - 113)، (20/ 463).

الأمر

فقالوا: "الكاف" زائدة في الكلام من حيثُ التركيب فلو قيل: ليس مثله شيء. أي ليس شيء مثله، لاستقام الكلام، إذًا فنحمل الآية الكريمة على أن "الكاف " زائدة مجازًا (¬1). س: فما الفائدة؟ ج: الفائدة: توكيد النفي، كأن هذه الجملة صارت جملتين، كل جملة فيها ما يدل على نفي الماثلة، كأنه قال: "ليس كهو شيء"، "ليس مثله شيء"، فيكون المراد بالزيادة هنا التوكيد. وبهذا التقرير نسلم من معارضات واعتراضات كثيرة وإلا فإن الناس تكلموا في هذه الآَية كلامًا طويلًا عريضًا. لكن اخترنا هذه الآية من أجل تقريب المعنى فيها، ولا نلتفت إلى ما سطره بعض العلماء حول هذه الآية، فقد أوردوا من الإِشكالات والاعتراضات والإِجابات الأشياء الكثيرة، نقول: التوكيد في اللغة العربية جارٍ مجرى التكرار، كما لو قلتَ: "جاء زيد نفسه " كأنك تقول: "جاء زيد زيد"). الأمر تعريف الأمر: قال الشيخ: (قول يتضمن طلب الفعل على وجه الاستعلاء). وهذا التعريف قريب من تعريفات الحنابلة للأمر وموافق لأصولهم. قال الشيخ (¬2): فخرج بقولنا: " قول " الإشارة فلا تسمى أمراً وإن أفادت معناه. ¬

_ (¬1) قال الشيخ في "شرح نظم الورقات" (ص/74): (هل الكاف في قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هل هي زائدة بمعنى أن وجودها كالعدم؟ الجواب: لا؛ فإنك لو حذفتها نقص توكيد الكلام، فليس فيها زيادة، وهي في مكانها لازمة؛ لأن المراد بها توكيد نفي المثل، فإذا جاءت الكاف الدالة على التشبيه مع "مثل" صار كأن "المثلَ" نُفِي مرتين، فنحن نقول: الزائد هو الذي وجوده كالعدم، والكاف في: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ) ليس وجودها كالعدم أبدا، ولو كان وجودها كالعدم لكان في كلام الله ما هو لغو لا فائدة منه، فسبحان الله! لو تصور الإنسان هذا القول لكان قولا شديدا أن يكون في كلام الله شيء زائد، ليس له معنى، فنقول: الكافُ ليس فيها زيادة، هي في موضعها أصلية حقيقية تفيد معنى أبلغ مما لو حُذِفَت). (¬2) وهذا كلامه في الأصل (ص/23)، والشرح (ص/137 - 138) مع بعض التصرف.

تنبيهات:

وخرج بقولنا: " طلب الفعل " النهي؛ لأنه طلب ترك، وليس المقصود بالفعل هنا قسيم القول، بل المراد بالفعل هنا الإيجاد ولو كان قولا. فإذا قلت لك: قل لاإله إلاالله، فهذا أمر؛ لأنني أمرتك أن توجد هذا القول، فيسمى أمرا. وخرج بقولنا: " على وجه الاستعلاء " الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من صيغة الأمر بالقرائن. الالتماس يكون من مساو، أما الدعاء فيقولون إن كان من أدنى إلى أعلى فهو دعاء وهو صحيح بالنسبة لله عزوجل، فلا شك أنه دعاء، أننا إن سألنا الله عزوجل فإننا ندعوه. لكن إن كان من أدنى إلى أعلى فينبغي أن لا نسميه دعاء، بل نسميه سؤالا؛ لأنه لا ينبغي أن يكون الدعاء إلا إلى الله عزوجل. تنبيهات: التنبيه الأول - معنى العلو والاستعلاء: هناك ألفاظ تترد عند الكلام على تعريف الأمر وهي: العلو، والاستعلاء وبينهما فرق وقد اختلف الأصوليون في اشتراطهما، أو أحدهما في حد الأمر على أقوال أربعة يأتي بيانها بإذن الله في التنبيه التالي. قال المرداوي في التحبير (5/ 2176): (قوله: {فالاستعلاء طلب بغلظة، والعلو كون الطالب أعلى رتبة، قاله القرافي}. فقال في ' التنقيح ': الاستعلاء هيئة في الأمر من الترفع وإظهار القهر والعلو يرجع إلى هيئة الآمر من شرفه وعلو منزلته بالنسبة إلى المأمور. انتهى ... قال ابن العراقي: فالعلو صفة للمتكلم، والاستعلاء صفة للكلام). التنبيه الثاني - الخلاف في اشتراط العلو أو الاستعلاء في حد الأمر: الشيخ - رحمه الله - اختار اشتراط الاستعلاء دون العلو وهو واضح من تعريفه، وقال في شرح الأصول (ص/137): (والعلماء اختاروا "على وجه الاستعلاء"؛ لأنها أصح من كلمة "على وجه العلو". ثم الاستعلاء إما أن يكون بجدارة وأحقية، وإما أن يكون بالسيطرة والقوة. فالاستعلاء إما أن يكون بحق وجدارة كالأوامر الواردة من الله إلينا وكذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا، وكذلك من الأب لابنه، وما أشبه ذلك، فهذا

واضح أن المستعلى فيها أهل للعلو، وعال على مرتبة المأمور، وقد يكون من باب الادعاء والسيطرة بلا حق). وقال الشيخ في "شرح نظم الورقات" (ص/80) معقبا على اشتراط العمريطي للعلو في حد الأمر: (وقوله رحمه الله: (ممن كان دون الطالب) أي لابد أن يكون الآمر أعلى من المأمور، وهذه العبارة فيها تسامح، وذلك لأن الأدنى قد يأمر الأعلى استذلالا له، ولهذا عبر بعضهم بقوله: على وجه الاستعلاء؛ ليشمل من وضع نفسه أعلى من المأمور، وليس بعالٍ. فلو أن الرقيق انفرد بسيده وقال له: افعل كذا وإلا رميتك بهذا السهم، وهو يقدر على هذا فماذا يكون هذا؟ هو أمر، لذا فغن السيد سوف ينفذ؛ لن العبد يرى نفسه الآن أعلى من سيده. ولذلك نقول: تحرير العبارة على وجه الاستعلاء). وقال المرداوي في التحبير (5/ 2172): (قوله: {فائدة اعتبر أبو الخطاب، والموفق، و} أبو محمد {الجوزي، والطوفي، وابن مفلح، وابن قاضي الجبل، وابن برهان} في ' الأوسط '، {و} الفخر {الرازي، والآمدي، وغيرهم فيه الاستعلاء}، وهو قول أبي الحسين من المعتزلة، وصححه ابن الحاجب، وغيره. {و} اعتبر أكثر أصحابنا، منهم: {القاضي، وابن عقيل، وابن البنا، والفخر} إسماعيل {والمجد} ابن تيمية {وابن حمدان} وغيرهم، ونسبه ابن عقيل في ' الواضح ' إلى المحققين، {وأبو الطيب} الطبري، وأبو إسحاق {الشيرازي} - نقل عنه البرماوي -، {والمعتزلة: العلو، فالمساوي} عندهم {التماس}، أعني: أمر المساوي لغيره يسمى عندهم التماسا، {والأدون سؤالا}. ونقله البرماوي عن ابن الصباغ، وحكاه ابن الصباغ عن أصحابهم، والباقلاني، وعبد الوهاب في ' الملخص '، وأبو الفضل ابن عبدان. قال القاضي عبد الوهاب في ' الملخص ': هذا عليه أهل اللغة وجمهور أهل العلم. واعتبر الاستعلاء والعلو معا ابن {القشيري والقاضي عبد الوهاب} المالكي، نقله عنهما البرماوي. تلخص في المسألة أربعة أقوال: أحدها: اعتبار العلو والاستعلاء، والثاني: عكسه، والثالث: اعتبار الاستعلاء فقط، والرابع: اعتبار العلو فقط). والراجح من هذه الأقوال ما اختاره الشيخ العثيمين وهو اشتراط الاستعلاء لا العلو

التنبيه الثالث - توجيه بعض أدلة المخالف:

لأن الاستعلاء صفة للأمر والعلو صفة للآمر وهو خارج عن ماهية التعريف. قال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح الورقات: (والأَوْلى أنْ نقول في تعريف الأمر: أنّ الأمر استدعاء الفعل ممن هو دونه على وجه الاستعلاء. استدعاء الفعل ممن هو دونه على وجه الاستعلاء، ما معناها؟ يعني أن يكون الآمر في أمره مؤكِّدا جازما، وبعض علماء الأصول يقولون على وجه العلو، وهذا ليس بصحيح؛ لأنّ العلو صفة الآمر، والاستعلاء صفة للأمر في نفسه، فيكون على وجه الاستعلاء؛ يعني الأمر فيه جزم، أو فيه شدة، وفيه غلظة، ونحو ذلك، حتى يخرج منها الالتماس والسؤال وإلى آخره). التنبيه الثالث - توجيه بعض أدلة المخالف: ليس المجال هنا لاستيعاب أدلة المخالف، وإنما سوف أذكر أشهر الأدلة والتي قد تترد في ذهن البعض من عدم اشتراط الاستعلاء. - استدلوا بقوله تعالى في سورة الشعراء: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) والمعنى بماذا تشيرون (¬1). - واستدلوا بقوله تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف: 77] وتعقب بأن هذا دعاء وليس أمرا. - واستشهدوا بقول عمرو بن العاصِ لمعاوية: أَمَرْتُكَ أَمْراً جَازِماً فَعَصَيْتَنيِ ... وَكَانَ مِنَ التَّوْفِيقِ قَتْلُ ابنِ هَاشِمِ ومعلوم أنه ليس هناك علو ولا استعلاء من عمرو على معاوية. قال العسكري في "الفروق اللغوية" (ص / 494) على هذا البيت: (هو على وجه الازدراء بالمخاطب والتخطئة له ليقبل لرأيه ومعلوم أن التابع لا يأمر المتبوع ثم يعنفه على مخالفته أمره). - والذي يظهر لي أن الخلاف هنا لفظيا فمن اشترط الاستعلاء اعتبر الأوامر التي ليس فيها استعلاء من باب الدعاء والالتماس. ¬

_ (¬1) وقد أطال في تقرير هذا المعنى الطوفي في شرح مختصر الروضة (2/ 351) فانظره.

التنبيه الرابع - للأمر صيغة موضوعة في اللغة أو (الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده):

وأما من لم يشترطه فالأمر عنده يتناول مطلق الطلب فيدخل فيه الدعاء والالتماس وهذه المسألة متعلقة بالأمر المتجرد عن القرائن هل هو للوجوب أم لغيره، وسوف يأتي بإذن الله الكلام على هذه المسألة. إلا أن هناك خلافا حقيقيا ومرجعه عقدي في تعريف الأمر وهل له صيغة أم لا؟ وهذا ما سوف نعرض له في التنبيه التالي: التنبيه الرابع - للأمر صيغة موضوعة في اللغة أو (الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده): قال الشنقيطي في المذكرة (ص/24): (اعلم أن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده فيه ثلاثة مذاهب: الأول أن الأمر بالشيء هو عين النهى عن ضده وهذا قول جمهور المتكلمين، قالوا أسكن مثلا، السكون المأمور به فيه، هو عين ترك الحركة، قالوا وشغل الجسم فراغاً هو عين تفريغه للفراغ الذي انتقل عنه، والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق وهو بالنسبة إليه أمر، وإلى الحركة نهى. قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله أعلم أن قول المتكلمين ومن وافقهم من الأصوليين أن الأمر بالشيء هو عين النهى عن ضده، مبنى على زعمهم الفاسد أن الأمر قسمان: نفسي ولفظي، وأن الأمر النفسي، هو المعنى القائم بالذات المجرد عن الصيغة وبقطعهم النظر عن الصيغة، واعتبارهم الكلام النفسي، زعموا أن الأمر هو عين النهى عن الضد، مع أن متعلق الأمر طلب، ومتعلق النهى ترك، والطلب استدعاء أمر موجود، النهى استدعاء ترك، فليس استدعاء شيء موجود، وبهذا يظهر أن الأمر ليس عين النهى عن الضد وأنه لا يمكن القول بذلك إلا على زعم أن الأمر هو الخطاب النفسي القائم بالذات المجرد عن الصيغة، ويوضح ذلك اشتراطهم في كون الأمر نهياً عن الضد أن يكون الأمر نفسياً يعنون الخطاب النفسي المجرد عن الصيغة ... أصل هذا الكلام مبنى على زعم باطل وهو أن كلام الله مجرد المعنى القائم بالذات المجرد عن الحروف والألفاظ، لأن هذا القول الباطل يقتضى أن ألفاظ كلمات القرآن بحروفها لم يتكلم بها رب السموات والأرض، وبطلان ذلك واضح.

المذهب الثاني: أن الأمر بالشيء ليس عين النهى عن ضده، ولكنه يستلزمه، وهذا هو أظهر الأقوال لأن قولك أسكن مثلا يستلزم نهيك عن الحركة لان المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده لاستحالة اجتماع الضدين وما لا يتم الواجب إلا به واجب، وعلى هذا القول أكثر أصحاب مالك، وإليه رجع الباقلانى في آخر مصنفاته وكان يقول بالأول. المذهب الثالث: أنه ليس عينه ولا يتضمنه وهو قول المعتزلة والأبياري من المالكية، وإمام الحرمين والغزالى من الشافعية، واستدل من قال بهذا بأن الآمر يجوز أن يكون وقت الأمر ذاهلا عن ضده وإذا كان ذاهلا عنه فليس ناهياً عنه إذ لا يتصور النهى عن الشيء مع عدم خطوره بالبال أصلا، ويجاب عن هذا بأن الكف عن الضد لازم لأمره لزوما لا ينفك، إذ لا يصح امتثال الأمر بحال إلا مع الكف عن ضده فالأمر مستلزم ضرورة للنهى عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين) (¬1). ¬

_ (¬1) وينظر أيضا المسائل المشتركة للعروسي (ص/113). ولتعلم أن الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة أثمر أمورا كنا في غنى عنها فقد انبرى الباقلاني للرد على المعتزلة في كتابه التقريب والإرشاد فأثمر الخلاف بينهما مسائل كلامية كثيرة منها المسألة السابقة، ومسألة: هل الأمر يستلزم إرادة الآمر؟ فاشترطت ذلك المعتزلة، وقد نقض قولهم وفند شبههم الكلوذاني في التمهيد (1/ 124: 133) وانتصر لعدم اشتراطه وهو مذهب الأشاعرة. وكلاهما مخطئ والحق وسط بينهما، فكلاهما لم يفرق بين الإرادة الشرعية والكونية قال الشيخ عياض السلمي في "أصول الفقه التي لا يسع الفقيه جهلها" (ص/218): (وهذا الخلاف لم يرد على محل واحد، والفريقان أخطآ معا؛ حيث لم ينتبهوا إلى أن الإرادة نوعان: إرادة كونية قدرية: وهذه هي التي لا بد من وقوع متعلقها فيصح أن يقال: ما أراده الله لا بد أن يقع، بمعنى ما أراد الله وقوعه إرادة كونية قدرية، أي ما قدر وقوعه وقع، والأشعرية نظروا إلى هذا النوع من الإرادة فوجدوا أن الله يأمر بأشياء ثم لا تقع فقالوا إذاً هو لم يرد وقوعها بمعنى لم يقدر في الأزل وقوعها. والنوع الثاني: الإرادة الشرعية: وهي بمعنى المحبة، وهذه تكون مع الأمر لا تفارقه، فما أمر الله به عباده فهو يحب أن يقع، ولكنه قد يقع فعلا أولا يقع تبعا لتقدير الله وإرادته الكونية، وهذه هي التي نظر إليها المعتزلة فقالوا من شرط الأمر الإرادة. وتبين من هذا أن خطأ الفريقين جاء من جهة ظنهم أن إرادة الله واحدة لا تنقسم إلى هذين القسمين. ويمكننا أن نصحح ما قاله الأشعرية من أن الأمر ليس من شرطه إرادة الآمر؛ أما الإرادة الكونية فواضح عدم التلازم بينها وبين الأمر، وأما الإرادة الشرعية فهي تابعة للأمر، فالأمر يستلزم الإرادة الشرعية ويدل عليها، فلا تكون شرطا في تسميته أمرا؛ لأن الشرط ينبغي أن يعلم تقدمه على المشروط، ولأن الشرط في اللغة العلامة، والإرادة خفية لا نعرفها إلا بالأمر فلا يصح جعلها شرطا في صحة الأمر). وانظر أيضا "المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين" (ص/118: 125).

صيغ الأمر:

والكلام على تعريف الأمر يطول جدا فقد عرض الآمدي في إحكامه لتعاريف كثيرة جدا للأمر واستطرد في نقدها ثم عرفه بأنه (طلب الفعل على جهة الاستعلاء) ولعل هذا بناء على مذهبه باعتبار الكلام النفسي، فلم يشترط أن يكون قولا، وهو مردود كما سبق والأولى أن نعرفه بما عرفه به الشيخ العثيمين بأنه: (قول يتضمن طلب الفعل على وجه الاستعلاء). صيغ الأمر: قال الشيخ: (صيغ الأمر أربع: 1 - فعل الأمر. 2 - اسم فعل الأمر. 3 - المصدر النائب عن فعل الأمر. 4 - المضارع المقرون بلام الأمر. وقد يستفاد طلب الفعل من غير صيغة الأمر مثل أن يوصف بأنه فرض، أو واجب، أو مندوب، أو طاعة، أو يمدح فاعله، أو يذم تاركه أو يترتب على فعله ثواب، أو على تركه عقاب). ذكر الشيخ هنا بعض الصيغ التي يستفاد منها الأمر وسوف نشرح كلامه في الجزئيات التالية: أولا- فعل الأمر: هو الفعلُ الّذي يدلُّ على طلبِ حدوثِ العملِ في المستقبلِ على وجهِ الاستعلاءِ، وهو مبنيٌّ دائماً: 1 - يُبنى على السّكونِ: أ- إذا لم يتصلْ به شيءٌ، مثلُ: (اسمعْ)

ثانيا - اسم فعل الأمر:

ب-أو إذا اتّصلَتْ به نونُ النّسوةِ (اسمعْن). 2 - يُبنى على الفتحِ: إذا اتّصلَت به إحدى نوني التّوكيدِ الخفيفةُ أو الثقيلةُ، مثالٌ: اسمعَنْ- اسمعَنَّ. 3 - يُبنى على حذفِ حرفِ العلّةِ: إذا كانَ معتلَّ الآخرِ، مثالٌ: اسعَ- ادنُ- امضِ. 4 - يُبنى على حذفِ النّونِ: إذا كانَ مضارعُه من الأفعالِ الخمسةِ، أي إذا اتّصلَتْ به ألفُ الاثنين أو واوُ الجماعةِ أو ياءُ المؤنّثةِ المخاطبةِ. مثالٌ: اكتبا-اكتبوا- اكتبي. ومثل له الشيخ بقوله تعالى: ({اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ) [العنكبوت: 45] فهذا فعل أمر مبني على حذف الواو. ثانيا - اسم فعل الأمر: وهو الذي يدل على معنى فعل الأمر، ولا يقبل علامة من علاماته كياء المخاطبة أو نون التوكيد، ومنه: - إيهِ: بمعنى زِدْ. (إيهِ من حديثِك الطريف). - صهْ بمعنى: اسكت. (صهْ عن بذئِ الكلام). - مَهْ بمعنى: كُفَّ. (تماديت في الأذى فمه). - آمين بمعنى: استَجِب. (ربنا أعنا على فعل الخير آمين). - حيَّ بمعنى: أَقْبِل. (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح). ثالثا - المصدر النائب عن فعل الأمر: هو مصدر ينوب عن فعل الأمر: - كقول الله تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) [محمد: 4] فضرب المصدر نائب عن فعل الأمر يعني اضربوا الرقاب. - قوله تعال: (فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 11] فسحقا: أي فبعدا شديدا، وهو مصدر "سحق" بمعنى: بعد أشد البعد، وقد ناب عن فعل الأمر، والمعنى: "اسحقوا" أي: ابتعدوا ابتعادا شديدا". - قول قطري بن الفجاءة: فَصَبْراً في مَجَالِ المَوْتِ صَبْراً ... فَما نَيْلُ الخُلُودِ بمُسْتَطَاعِ فصبرا: أي: فاصبر.

رابعا - المضارع المقرون بلام الأمر:

رابعا - المضارع المقرون بلام الأمر: قال ابن أم قاسم في "الجنَى الداني في حروف المعاني": (لام الأمر، والأولى أن يقال: لام الطلب، ليشمل: الأمر نحو (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) [الطلاق: 7]، والدعاء نحو (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) [الزخرف: 77]، قيل: والالتماس، كقولك لمن يساويك: لتفعل، من غير استعلاء. وذلك لأن الطلب إذا ورد من الأعلى فهو أمر، وإذا ورد من الأدنى فهو دعاء، وإذا ورد من المساوي فهو التماس. وهذه اللام التي للطلب كصيغة افعل، في أنها قد ترد لمعان أخر، غير الطلب، كالتهديد نحو قوله تعالى: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (¬1) [العنكبوت: 66] والأصل في ذلك معنى الطلب. مسألة: حركة هذه اللام الكسر. ونقل ابن مالك أن فتحها لغة، وحكاه الفراء عن بني سليم. ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء، وهو أكثر من تحريكها نحو (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) [البقرة: 186]، ويجوز إسكانها بعد ثم، وليس بضعيف، ولا مخصوص بالضرورة، خلافاً لزاعم ذلك. وبه قرأ الكوفيون، وقالون، والبزي (ثُمَّ لْيَقْطَعْ [الحج: 15]). تنبيه - الفرق بين لام الأمر ولام التعليل: فرق الشيخ في شرح الأصول (ص/140) بين لام الأمر ولام التعليل فقال: (إذا كانت للتعليل فهي لام كي، لا تسمى أمرا، وإذا كانت لغير التعليل وتفيد الطلب فهي لام الأمر، وهناك فرق لفظي بينهما: إذا وقعت ساكنة بعد ثم والواو والفاء فهي لام الأمر مثل قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) [الحج: 15]، اللام هنا في الموضعين لام الأمر، وكذلك في قوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج: 29] اللام أيضا لام الأمر ولو كانت لام كي لوجب أن تكسر مثل قوله: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) [العنكبوت: 66]). ¬

_ (¬1) وسوف يأتي مناقشة نوع اللام التي في الآية قريبا - بإذن الله -.

والفرق بين اللامين يتبين في هذه النقاط:

والفرق بين اللامين يتبين في هذه النقاط: 1 - فالفرق هو فرق في المعنى الذي يظهر من التعليل أو الأمر. فلام التعليل تدخل على الفعل المضارع، ويكون ما بعدها علة لما قبلها، وهذه اللام دائما تأتي مجرورة، ويسميها البعض لام كي، لأنها كثيرة المجئ مع (كي) أو بمعنى كي. أما لام الأمر: فإنها تدل على الطلب من أعلي لأقل مرتبة، أو من متساوٍ في الرتبة أو غيرهما وذلك من حيث المعنى. 2 - لام الأمر تجزم الفعل ولام التعليل تنصبه. مناقشة المثال الذي ذكره الشيخ: مثَّل الشيخ للام التعليل بقوله تعالى: (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) [العنكبوت: 66]. واعتبر الشيخ الشعراوي هذه اللام لام الأمر لا لام التعليل، فقال في "تفسيره": (واللام في {لِيَكْفُرُواْ ... } [العنكبوت: 66] ليست لام التعليل؛ لأن الكفر لم يكُنْ مقصداً لهم، وحين عادوا بعد أن نجاهم الله إنما عادوا إلى أصلهم، فاللام هنا لام الأمر كما لو قلت: قم يا زيد وليقم عمرو، وعلامة لام الأمر أن تكون ساكنة، وهي هنا مكسورة لأنها في بداية الكلام، حيث لا يُبدأ بساكن، ولو وضعنا قبلها حرفاً لتبيَّن سكونها). وعلى كل من القولين جماعة من العلماء. قال البغوي في "تفسيره" (6/ 255): (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ) هَذَا لَامُ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، كَقَوْلِهِ: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) [فُصِّلَتْ: 40]، أَيْ: لِيَجْحَدُوا نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ، {وَلِيَتَمَتَّعُوا} قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: سَاكِنَةَ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: (لِيَكْفُرُوا)، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَقِيلَ: مَنْ كَسَرَ اللَّامَ جَعَلَهَا لَامَ كَيْ وَكَذَلِكَ فِي لِيَكْفُرُوا، وَالْمَعْنَى لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ إِلَّا الْكُفْرُ وَالتَّمَتُّعُ بِمَا يَتَمَتَّعُونَ به في العالجة مِنْ غَيْرِ نَصِيبٍ فِي الْآخِرَةِ) (¬1). وقال القرطبي في " تفسيره" (13/ 363): (قوله تعالى: (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا) قيل: هما لام كي أي لكي يكفروا ولكي يتمتعوا. وقيل: (إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) ¬

_ (¬1) وانظر أيضا: تفسير القرطبي (13/ 363)، تفسير السراج المنير (3/ 201)، إعراب القرآن لمحيى الدين درويش (7/ 459)

خامسا - صيغ أخرى للأمر:

[العنكبوت: 65] ليكون ثمرة شركهم أن يجحدوا نعم الله ويتمتعوا بالدنيا. وقيل: هما لام أمر معناه التهديد والوعيد. أي أكفروا بما أعطيناكم من النعمة والنجاة من البحر وتمتعوا). قال الشربيني في "تفسير السراج المنير" (3/ 201): (وفي اللام في قوله تعالى: (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) وجهان: أظهرهما أن اللام فيه لام كي أي: يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة فيكون ذلك فعل من لا عقل له أصلاً وهم يتحاشون عن مثل ذلك، والثاني: كونها للأمر (وَلِيَتَمَتَّعُوا) باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها، وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر وعاصم بالكسر وهي محتملة للوجهين المتقدّمين، والباقون بالسكون وهي ظاهرة في الأمر فإن كانت اللام الأولى للأمر فقد عطف أمراً على مثله، فإن قيل كونها للأمر مشكل إذ كيف يأمر الله تعالى بالكفر وهو متوعد عليه؟ أجيب: بأن ذلك على سبيل التهديد كقوله تعالى: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) [فصلت: 40] وإن كانت للعلة فقد عطف كلاماً على كلام فيكون المعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يستمتعون به في العاجلة من غير نصيب في الآخرة). والأقوى عندي كلام الشيخ العثيمين من كون اللام هي لام التعليل. قال الطبري في "تفسيره" (20/ 61): (لام قوله: (لِيَكْفُرُوا) صلُحت أن تكون بمعنى كي؛ لأنها شرط، لقوله: إذا هم يشركون بالله كي يكفروا بما آتيناهم من النعم). قال ابن كثير في "تفسيره" (3/ 442): (هذه اللام يسميها كثير من أهل العربية والتفسير وعلماء الأصول لام العاقبة لأنهم لا يقصدون ذلك ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم وأما بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل). خامسا - صيغ أخرى للأمر: قال الشيخ: (وقد يستفاد طلب الفعل من غير صيغة الأمر مثل أن يوصف بأنه فرض، أو واجب، أو مندوب، أو طاعة، أو يمدح فاعله، أو يذم تاركه أو يترتب على فعله ثواب، أو على تركه عقاب). هذه الصيغ التي ذكرها الشيخ هنا تدل على مطلق الطلب للفعل سواء أكان جازما أم غير جازم فيدخل فيها الواجب والمندوب.

وقد مثل الشيخ في شرح الأصول لما ذكر فقال (ص/141) ما ملخصه: (قد نستفيد طلب الفعل بغير صيغة الأمر مثل أن يوصف بأنه فرض مثل قوله تعالى لما ذكر أصناف الزكاة قال: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 60]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم). كقوله هذا مندوب، ويندب له أن يفعل كذا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقوله: (كل معروف صدقة). أو يمدح فاعله مثل أن يرتب عليه الثواب: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ) [البقرة: 261]) وهكذا ... وقد عقد الشيخ مناع القطان بحثا في مجلة البحوث الإسلامية العدد الأول بعنوان " وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في شئون الحياة كلها" وقدم لبحثه بمقدمة ومما ذكر فيها: وليست صيغة الأمر قاصرة على صيغة واحدة فإن أساليب طلب الفعل في القرآن كثيرة منها: - الإخبار بأن الفعل مكتوب على المخاطبين كقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) [البقرة: 178]، وقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [النساء: 103]. - اقتران الفعل بألا، كقوله تعالى: (أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ) [التوبة: 13]- قال القرطبي: (توبيخ وفيه معنى التحضيض) -. - الاستفهام التعجبي والإنكاري مقرونا بترك الفعل، كقوله: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) [آل عمران: 83]. - الإخبار بأن ترك الفعل كفر، أو ظلم، أو فسق، كقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]. وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]، وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 47]. - الإخبار بأن إتيان الفعل من الإيمان أو أن تركه يناقض الإيمان، كقوله تعالى:

الأمر المتجرد عن القرائن للوجوب إلا لصارف:

(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء: 65]، وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]. ثم قال: قال الغزالي في المستصفى: (إن قول الشارع أمرتكم بكذا، وأنتم مأمورون بكذا، أو قول الصحابي أمرت بكذا، كل ذلك صيغ دالة على الأمر، وإذا قال: أوجبت عليكم، أو فرضت عليكم، أو أمرتكم بكذا أو أنتم معاقبون على تركه فكل ذلك يدل على الوجوب). الأمر المتجرد عن القرائن للوجوب إلا لصارف: قال الشيخ - رحمه الله-: (صيغة الأمر عند الإطلاق تقتضي وجوب المأمور به). وهذا الذي اختاره الشيخ هو مذهب الحنابلة (¬1) والأكثر. قال المرداوي في التحبير (5/ 2202): ((أحمد وأصحابه، والأكثر: الأمر المجرد عن قرينة حقيقة في الوجوب). هذا مذهب إمامنا وأصحابه وجمهور العلماء من أرباب المذاهب الأربعة وغيرهم. قال أبو إسحاق الشيرازي في ' شرح اللمع '، وابن برهان في ' الوجيز ': هذا مذهب الفقهاء). وفي المسألة أقوال أخري كثيرة أشهرها ثلاثة أنه للوجوب، للندب، للإباحة. قال ابن النجار في شرح الكوكب المنير (3/ 39): ((الأمر) في حالة كونه (مجردا عن قرينة) (حقيقة في الوجوب) عند جمهور العلماء من أرباب المذاهب الأربعة ... وقيل: إن الأمر المجرد عن قرينة حقيقة في الندب. ونقله الغزالي والآمدي عن الشافعي. ونقله أبو حامد عن المعتزلة بأسرها ... وقيل: إن الأمر المجرد عن قرينة حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو الطلب. فيكون من المتواطئ (¬2). اختاره الماتريدي من الحنفية، لكن قال: يحكم بالوجوب ظاهرا في حق العمل احتياطا دون الاعتقاد ... وفي المسألة اثنا عشر قولا غير هذه الثلاثة أضربنا عن ذكرها خشية الإطالة وذكر في القواعد الأصولية خمسة عشر ¬

_ (¬1) انظر: العدة (1/ 224)، التمهيد (1/ 145)، المسودة (ص/4)، أصول ابن مفلح (2/ 660)، المختصر لابن اللحام (ص/99)، القواعد والفوائد (ص/159)، وغيرها. (¬2) هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مستو في محاله. كالإنسان بالنسبة إلى أفراده، فإن الكلي فيها - وهو الحيوانية والناطقية - لا يتفاوت فيها بزيادة ولا نقص. وسمي بذلك من التواطؤ، وهو التوافق.

الأمر للفور:

قولا). قال الشنقيطي في المذكرة (ص/189): (والحق أنها للوجوب إلا بدليل صارف عنه لقيام الأدلة , كقوله (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63] فالتحذير من الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر يدل على أنه للوجوب. وقوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]، فإنه جعل أمر الله ورسوله مانعاً من الاختيار وذلك دليل الوجوب. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ) [المرسلات: 48] فهو ذم على ترك امتثال الأمر بالركوع وهو دليل الوجوب وقوله: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف: 12] فقرعه على مخالفة الأمر. وهو دليل الوجوب وقوله: (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه: 93] فهو دليل على أن مخالفة الأمر معصية. وذلك دليل الوجوب. وقوله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) [التحريم: 6] إلى غير ذلك من أدلة الكتاب والسنة. ولا خلاف بين أهل اللسان العربي أن السيد لو قال لعبده افعل فلم يمتثل فأدبه لأنه عصاه أن ذلك واقع موقعه مفهوم من نفس صيغة الأمر ... والحق أن دليل اقتضاء ((افعل)) للوجوب الشرع واللغة كما ذكرنا وقيل العقل ... ). ومذهب الحنابلة أنه يقتضيه شرعا، قلت: ولا مانع من أنه يقتضيه لغة وعقلا أيضا إذا تجرد عن القرائن. الأمر للفور: قال الشيخ: (صيغة الأمر عند الإطلاق تقتضي المبادرة بفعله - أي المأمور به - فوراً). الخلاف إنما هو بالنسبة للأمر المطلق وهو الأمر الذي لم تصحبه قرينة تدل على فور، أو على تراخي، ولم يكن محددا لفعله وقت معين، وذلك كإخراج زكاة المال

ودفعها إلى مستحقيها عند حلول الحول، وكقضاء الفوائت، وكالكفارات والنذور غير المؤقتة بوقت ... قال الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/226): (اتفق العلماء على أن الأمر إذا صحبته قرينة تدل على الفور يحمل على ذلك، وإذا صحبته قرينة تدل على جواز التراخي حمل على ذلك، وإذا حدد له وقت معين حمل على ذلك. واختلفوا في الأمر الذي لم تصحبه قرينة تدل على فور ولا على تراخي، ولم يوقت بوقت معين علام يحمل؟ ... ). والمقصود من كون الأمر للفور أن يبادر المكلف لامتثال الأمر وتنفيذه بعد سماعه دون تأخير، فإن تأخر عن الأداء كان مؤاخذا - إلا لعذر -. وما اختاره الشيخ هو ظاهر المذهب (¬1)، قال الكلوذاني في التمهيد (1/ 217) : (الأمر المطلق يقتضي تعجيل فعل المأمور به في ظاهر المذهب000 وقد أومأ إليه أحمد رحمه الله - أي القول بأنه على التراخي - في رواية الأثرم). وقال المرداوي في التحبير (5/ 2226): (وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه لا يقتضي الفور، وقاله: أكثر الشافعية، نقله الأستاذ أبو منصور، وسليم الرازي، ونصره الباقلاني، والغزالي، والآمدي، والرازي. وأخذت هذه الرواية عن أحمد من قوله عن قضاء رمضان: يفرق، قال الله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184] ... ). والراجح أنه للفور. قال الشيخ في الأصل: (ومن الأدلة على أنه للفور قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [البقرة: 148] والمأمورات الشرعية خير، والأمر بالاستباق إليها دليل على وجوب المبادرة. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كره تأخير الناس ما أمرهم به من النحر والحلق يوم الحديبية، حتى دخل على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس. ¬

_ (¬1) انظر: العدة (1/ 281)، المسودة (ص/22)، روضة الناظر (ص/202)، شح مختصر الروضة (2/ 386)، أصول ابن مفلح (2/ 680)، شرح الكوكب (3/ 48)، وغيرها.

ولأن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ، والتأخير له آفات، ويقتضي تراكم الواجبات حتى يعجز عنها). وقد ساق الشنقيطي في أضواء البيان بعض الأدلة بعبارة مختصره وأجاب عن بعض أدلة المخالفين فقال (4/ 338): (جماعة من أهل الأصول قالوا: إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور. أما الشرع - قوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران: 133]، وكقوله: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [الحديد: 21]- قوله: (سَابِقُواْ) وقوله (وَسَارِعُواْ) يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فوراً. ومن الآيات التي فيها الثناء على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) [الأنبياء: 90]. وقوله تعالى (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]. وأما اللغة: فإن أهل اللسان العربي، مطبقون على أن السيد لو قال لعبده: اسقني ماء، فلم يفعل، فأدبه، فليس للعبد أن يقول له: صيغة أفعل في قولك: اسقني ماء، تدل على التراخي، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر بل يقولون: إن الصيغة ألزمتك فوراً، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والتراخي. وأما العقل: فإنا لو قلنا: إن وجوب الحج على التراخي، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي عندها، وإما لا. والقسم الأول ممنوع، لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه، دون غيره من الأزمنة، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه. إن قلنا: إنه ليس على الفور. والحاصل: أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع. والقسم الثاني الذي هو: أن تراخيه، ليس له غاية، يقتضي عدم وجوبه، لأن ما جاز تركه جوازاً، لم تعين له غاية ينتهي إليها، فإن تركه جائز إلى غير غاية، وهذا يقتضي عدم وجوبه والمفروض وجوبه. فإن قيل: غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه. فالجواب: أن البقاء إلى زمن متأخر، ليس لأحد أن يظنه؟ لأن الموت يأتي بغتة، فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجأة، وقد قدمنا قوله تعالى في

ذلك (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) [الأعراف: 185]. فهذه جملة أدلة القائلين: بأن وجوب الحج على الفور، ومنعوا أدلة المخالفين قالوا إن قولكم: إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة، فإن قدومه سنة خمس، وقد ذكر له النَّبي صلى الله عليه وسلم وجوب الحج، وأن قوله تعالى (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة: 196]. نزلت عام ست في عمرة الحديبية. دلت على أن الحج مفروض عام ست، وأنه صلى الله عليه وسلم أخره بعد فرضه إلى عام عشر، كل ذلك مردود، بل الحج إنما فرض عام تسع، قالوا: والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع. وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمة ضمام المذكور ما نصه: وزعم الواقدي أن قدومه كان في سنة خمس، وفيه نظر. وذكر ابن هشام عن أبي عبيد: أن قدومه كان سنة تسع، وهذا عندي أرجح اهـ. منه، وانظر ترجيح ابن حجر لكون قدومه عام تسع. هذا وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) فهو أنه لم يذكر فيها إلا وجوب الإتمام بعد الشروع، فلا دليل فيها على ابتداء الوجوب. وقد أجمع أهل العلم على أن من أحرم بحج أو عمرة، وجب عليه الإتمام، ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب ... ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة، والخلاف في وجوبها معروف ... بل الذي أجمعوا عليه: هو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها، كما هو ظاهر الآية، وأن قصة ضمام بن ثعلبة، كانت عام تسع كما رجحه ابن حجر وغيره، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة، وأن الحج إنما فرض عام تسع، لأن آية (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97] هي الآية التي فرض بها الحج: وهي من صدر سورة آل عمران، وقد نزلت عام الوفود وفيه قدم وفد نجران، وصالحهم النَّبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع كما تقدم قريباً، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء، وهو الصواب إن شاء الله تعالى. وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النَّبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة، لأنه

انصرف من مكة والحج قريب، ولم يحج. لأنه لم يفرض. فإن قيل: سلمنا تسليماً جدلياً أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة، مع تمكنه منه، وقدرته عليه أن الحج لم يكن مفروضاً في ذلك الوقت، وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج عام تسع، بل أخر حجه إلى عام عشر، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر. فالجواب والله تعالى أعلم: أن عام تسع لم يتمكن فيه النَّبي، وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت، وهم عراة، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام، إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع وذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [التوبة: 28]، وعامهم هذا هو عام تسع، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع، ولذا أرسل علياً رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي ببراءة: وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا عريان، فلو بادر صلى الله عليه وسلم إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت، وهم عراة وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك، ولا سيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافياً من الموانع والعوائق بعد وجوبه عام عشر، وقد بادر بالحج فيه والعلم عند الله تعالى، وأجابوا عن قولهم: كونه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، أن يفسخوا حجهم في عمرة، دليل على تأخير الحج، لأنهم بعد ما أحرموا فيه فسخوه في عمرة، وحلوا منه بأن هذا ليس فيه تأخير الحج لعزمهم على أن يحجوا في تلك السنة بعينها، وتأخير الحج: إنما هو بتأخيره من سنة إلى أخرى، وذلك ليس بواقع هنا، فلا تأخير للحج في الحقيقة، لأنهم حجوا في عين الوقت الذي حج فيه من لم يفسخ حجه في عمرة، فلا تأخير كما ترى. وأجابوا عن قولهم: إنه لو أخره من سنة إلى أخرى، أو سنين، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤدياً لا قاضياً بالإجماع، ولو حرم التأخير، لكان قضاء بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة الموقتة بوقت معين. ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول، والحج لم يوقت بزمن معين والعمر كله وقت له، وذلك لا ينافي

خروج الأمر عن الوجوب للندب لقرينة:

وجوب المبادرة خوفاً من طرو العوائق، أو نزول الموت قبل الأداء كما تقدم إيضاحه. وأجابوا عن قولهم: إن من تمكن من أداء الحج، ثم أخره، ثم فعله لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره. ولو كان التأخير حراماً لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته، بل لا ترد إلا بما يؤدي إلى الفسق، وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف، وقول من قال: إنه لم يرتكب حراماً وشبهة الأدلة التي أقاموها على ذلك، هذا هو حاصل أدلة الفريقين. قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي وأليقهما بعظمة خالق السموات والأرض هو: أن وجوب أوامره جل وعلا كالحج على الفور، لا على التراخي، لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة، وللخوف من مباغتة الموت كقوله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران: 133]، وما قدمنا معها من الآيات وكقوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) [الأعراف: 185] ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر، والعلم عند الله تعالى ... ). خروج الأمر عن الوجوب للندب لقرينة: قال الشيخ: (وقد يخرج الأمر عن الوجوب لدليل يقتضي ذلك فيخرج عن الوجوب إلى معان منها: الندب). سبق تعريف الواجب وهو (ما أمر به الشارع على وجه الإلزام) والمندوب وهو (ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام) والمقصود بيان أنه قد تأتي قرينة أو دليل يبين أن الأمر ليس على سبيل الإلزام. مثال: وقد مثل الشيخ في الأصل لذلك فقال: (كقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) [البقرة: 282] فالأمر بالإشهاد على التبايع للندب، بدليل أن النبي صلي الله عليه وسلم اشترى فرساً من أعرابي ولم يشهد). فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا من عدم الإشهاد عند البيع بيَّن أن الأمر بالإشهاد للإرشاد والندب، والدليل الصارف هو قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا

فوائد:

} [البقرة: 283]. وفي مسائل الإمام أحمد (2/ 11) مسألة رقم (1807): (قُلْتُ - والقائل هو إسحاق بن منصور صاحب المسائل -: قول اللهِ عزَّ وجلَّ (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة: 282] إِذا بَاع بَالنقدِ أَيُشهدُ أمْ لا؟ قَالَ: إِنْ أشْهدَ فلا بأسَ، وإِنْ لمْ يشهدْ فلا بأسَ لقولِ الله سُبحانَهُ وتعالىَ: ({فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}). مثال آخر له تعلق بهذا المثال ويوضحه، فآية الدين والآية التالية لها بينتا أن توثيق الدين له طرق منها: الكتاب، والرهن، والإشهاد. قال الشنقيطي في تفسيره (1/ 184) فقال: (قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: 282] ظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة؛ لأن الأمر من الله يدل على الوجوب. ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة: 283]؛ لأن الرهن لا يجب إجماعا وهو بدل الكتابة عند تعذرها في الآية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبا. وصرح بعدم الوجوب بقوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) [البقرة: 283] فالتحقيق أن الأمر في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) للندب والإرشاد؛ لأن لرب الدين أن يهبه ويتركه إجماعا فالندب إلى الكتابة فيه إنما هو على جهة الحيطة للناس قاله القرطبي). وقد بيَّن - رحمه الله - أن قيد (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ) لا مفهوم مخالفة له لأنه جرى مجرى الغالب إذ الغالب أن الكاتب لا يتعذر في الحضر وإنما يتعذر غالبا في السفر، وعليه فالرهن جائز حضرا وسفرا وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي. فوائد: الفائدة الأولى - الفرق بين الندب والإرشاد: قال المرداوي في التحبير (5/ 2186): (والضابط فيه - أي الإرشاد - أن يرجع لمصلحة في الدنيا بخلاف الندب فإنه لمصالح الآخرة. وأيضا الإرشاد لا ثواب فيه والندب فيه الثواب) (¬1). ¬

_ (¬1) ونقل الزركشي في البحر المحيط (2/ 92) هذا الفرق عن القفال الشاشي وغيره، وانظر: شرح الكوكب (3/ 20)، المحصول (2/ 58)، المستصفى (1/ 205)، غاية الوصول في شرح لب الأصول (ص / 51)، تشنيف المسامع للزركشي (1/ 299)، الأحكام للآمدي (2/ 162)، شرح التلويح على التوضيح (1/ 287)، كشف الأسرار (1/ 163)، وغيرها.

تنبيه:

والإرشاد إنما يكون بالنظر للعادات، أو الأمور الدنيوية لذاتها (العادات المحضة) بقطع النظر عن نية الامتثال أو شائبة التعبد، كالأكل لنيل حظ النفس من الشبع، والشرب للري، والنوم لراحة الجسد، ونحو ذلك. وشأن هذه الأفعال أن تكون مباحة ما لم تخالف نصا عاما للشريعة فتكون معصية، كمن أسرف في الأكل أو الشرب، أو تناول محرما منهما، أو تعمد النوم لإضاعة الصلاة، ونحو ذلك مما هو معلوم. أما إن خالطت نية فعل هذا الأمر الإرشادي نية الامتثال - كمن نام ليتقوى على قيام الليل -، أو انفردت نية الامتثال، وتجردت عند الفاعل وانقطع نظره من مراعاة حظ نفسه، فلا شك أنه يؤجر على نية الامتثال في هاتين الحالتين، وقد فصل السبكي هذه الحالات فقال في "الإبهاج " (2/ 17): (والفرق بين الندب والإرشاد أن المندوب مطلوب لثواب الآخرة، والإرشاد لمنافع الدنيا، ولا يتعلق به ثواب البتة؛ لأنه فعل متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه، وقد يقال إنه يثاب عليه لكونه ممتثلا، ولكن يكون ثوابه أنقص من ثواب الندب؛ لأن امتثاله مشوب بحظ نفسه، ويكون الفارق إذا بين الندب والإرشاد إنما هو مجرد أن أحدهما مطلوب لثواب الآخرة والآخر لمنافع الدنيا، والتحقيق أن الذي فعل ما أمر به إرشادا إن أتى به لمجرد غرضه فلا ثواب له، وإن أتى به لمجرد الامتثال غير ناظر إلى مصلحته ولا قاصد سوى مجرد الانقياد لأمر ربه فيثاب، وإن قصد الأمرين أثيب على أحدهما دون الآخر، ولكن ثوابا أنقص من ثواب من لم يقصد غير مجرد الامتثال) (¬1). تنبيه: مما سبق يتبين أن الأمر الإرشادي هو ما كان بالنظر للمصالح الدنيوية فقط، وتحصيل حظ النفس، فإن اجتمع معه نية الامتثال فقد اجتمع الندب مع الإرشاد. وكذا الأمر بالنسبة للمكروه والنهي الإرشادي. ¬

_ (¬1) انظر حاشية البناني على جمع الجوامع (1/ 372).

الفائدة الثانية - الأوامر والنواهي التي في الآداب:

قال الزركشي في "تشنيف المسامع" (1/ 317): (الفرق بين الإرشاد والكراهة ما سبق في الفرق بينه وبين الندب، ولهذا اختلف أصحابنا في كراهة المشمس شرعية، أو إرشادية، أي متعلق الثواب، أو ترجع إلى مصلحة طبية). وقال العطار في " حاشيته على جمع الجوامع" (1/ 497): (الفرق بينه - أي الإرشاد - وبين الكراهة أن المفسدة المطلوب درؤها فيه دنيوية وفي الكراهة دينية). قال أبو زرعة العراقي في " طرح التثريب" (8/ 111) في شرح حديث: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون): (هذا النهي ليس للتحريم بل ولا للكراهة وإنما هو للإرشاد، والفرق بينه وبين ما كان للندب في الفعل وللكراهة في الترك أن ذلك لمصلحة دينية والإرشاد يرجع لمصلحة دنيوية وقد بين عليه الصلاة والسلام المعنى في ذلك بقوله في حديث جابر في الصحيحين وأن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم وأراد بالفويسقة الفأرة لخروجها على الناس من جحرها بالفساد وقوله تضرم بضم التاء وإسكان الضاد أي تحرق سريعا ... ). ومن أمثلة النهي الإرشادي أيضا: النهي عن المشي في نعل واحدة، وعن الانتعال من قيام. وأما ما كان من النواهي التي في تكون في باب المعاملات والتي لا ينفك عنها الوجه الامتثالي فلا تدخل في هذا الباب على الراجح عندي، مثل النهي عن بيع الدين بالدين، والبيعتان في بيعة، وبيع المعدوم، والمجهول، ونحو ذلك. والضابط في ذلك أن الإرشاد ما كان الأمر أو النهي فيه خاصا بالأمور الدنيوية وقاصرا على العبد، وأما ما كان منها متعديا ومنظما لعلاقته مع غيره، فالحكم يكون بالندب أو الكراهة كما قال القرافي في الفروق (2/ 373): (كل حق للعبد فيه حق لله تعالى وهو أمره عز وجل بإيصاله إلى مستحقه كأداء الديون ورد الغصوب والودائع). الفائدة الثانية - الأوامر والنواهي التي في الآداب: محل النزاع هو الأوامر أو النواهي التي لم يدل على صرفها للندب، أو الكراهية دليل شرعي كإجماع، أو نص من كتاب، أو سنة، وإنما قيل بصرفها لكونها في باب الآداب، وقد نص كثير من العلماء على أن ما كان في الآداب فهو للندب، أو

الكراهة ومثل هذا في ثنايا كلامهم ممّا يدل على أن هذه القاعدة مستعملة عندهم. قال الشيخ في شرح منظومته في الأصول: (ومن العلماء من فصل فقال: أما الأمر حين يتعلق بالآداب والأخلاق فإنه للاستحباب؛ لأنه كمال، والكمال ليس بواجب، وكذلك يقال النهي حين يتعلق بالآداب والأخلاق إنه للكراهة، أما ما يتعلق بالعبادات فإن الأمر فيه للوجوب والنهي للتحريم؛ وذلك لأنك إذا استتبعت كثيرا من الأوامر فيما يتعلق بالآداب والأخلاق وجدتها للاستحباب والندب لا للوجوب، وكذلك إذا تأملت كثيرا من النواهي في الأخلاق والآداب وجدتها للكراهة لا للتحريم. وهذا الحكم في ما لم يجمع العلماء على خلافه، فإن أجمع العلماء على خلافه فإن إجماعهم حجة معصومة). وقال في شرح الأصول (ص/158): (بعض العلماء يقولون: إن الأوامر التي لا تتعلق بالعبادة كلها للإرشاد، وان الشارع أرشدك إلى ما فيه المصلحة ولم يلزمك بها إلزاما ... فيقول كل شيء لا يتعلق بالعبادة فالأصل أنه للإرشاد ... لكن الجمهور على خلاف ذلك يقولون: كل أوامر الشرع كلها عبادة حتى ما يتعلق بالعادة فهو عبادة). محصل كلام الشيخ الأخير أنه رد على هذه القاعدة بالتفريق بين الأوامر في العبادات وغيرها من العادات والآداب، وأعاد الكل إلى أصل الخلاف في مسألة الأمر هل يفيد الوجوب، وقد سبق بيان الراجح وأنه للوجوب وهذا القول الثاني للشيخ من عدم التفريق هو الأقوى وذلك لما يأتي: 1 - عموم الأدلة التي سبق ذكرها والدالة على أن الأوامر للوجوب ولم تفرق بين ما كان في الآداب وما كان في الأحكام. 2 - أنه لا يوجد ضابط صحيح منضبط لهذا التفريق. وقد فرق بينهما ابن عبد البر في "التمهيد" (18/ 177) بقوله: (نهيه صلى الله عليه وسلم عن المشي في نعل واحدة نهي أدب لا نهي تحريم والأصل في هذا الباب أن كل ما كان في ملكك فنهيت عن شيء من تصرفه والعمل به فإنما هو نهي أدب؛ لأنه ملكك تتصرف فيه كيف شئت ولكن التصرف على سنته لا تتعدى وهذا باب مطرد ما لم يكن ملكك حيوانا فتنهى عن أذاه فإن أذى المسلم في غير حقه حرام وأما

تتمة:

النهي عما ليس في ملكك إذا نهيت عن تملكه أو استباحته إلا على صفة ما في نكاح أو بيع أوصيد أو نحو ذلك فالنهي عنه نهي تحريم فافهم هذا الأصل). وهذا التفريق لا ينضبط فالقيد الذي ذكره يعود على تعليله بالإبطال، إذ أن مفاد التعليل جواز التصرف فيه كيف شاء ثم قيد هذا الجواز بعدم التعدي في التصرف على سنته، وهذا القيد هو بعينه مفاد النهي؛ إذ أننا ما عرفنا كون هذا الفعل فيه تعدي أو غيره إلا من النهي، فإن فعل المنهي عنه يكون قد تعدي وخرج النهي عن باب الأدب. ومن الأمثلة التي تبين عدم انضباط هذا التفريق النهي عن حلق اللحية، وعن وطء المرأة وفي بطنها جنين لغيره، وعن الأكل بالشمال والشرب بها، وعن الاستنجاء باليمين، وكل هذه المناهي فيما هو مملوك لنا، وقد ذهب ابن عبر البر إلى أنها محرمة. وعليه فجعل مطلق الأمر للوجوب، وكذا مطلق النهي للتحريم - إلا لقرينة -، سواء أكان في العبادات أم الآداب هو الأولى، وخاصة أنه إن فتح مثل هذا الباب مع عدم انضباط وجه التفريق فسيكون سبيلا للتخلص من أوامر ونواهي الشريعة بزعم أنها إنما وردت في الآداب. تتمة: بقيت نقطة أشار إليها الشيخ في "شرح الأصول" (ص/156) حيث قال: (العلماء في أصول الفقه أصَّلوا هذه القاعدة - الأصل في الأمر الوجوب - لكن تطبيقها في كل مسألة جزئية فيه شيء من الصعوبة. ووجهه ما أشرتُ، أنك تجد أوامر كثيرة في القرآن وفي السنة قال العلماء فيها: إنها ليست للوجوب، فيبقي الإنسان متحيراً هل العلماء قالوا هذا بناءً علي أن الأصل في الأوامر عدم الوجوب، أو لهم قرائن وأدلة تخرج هذه الأمر المعين عن الوجوب؟ إن كان الثاني فالأمر واضح، والإنسان يبقي مطمئناً ينشرح الصدر إذا وجد دليلاً يخرجه عن الوجوب، لكن أحياناً لا يجد دليلاً يخرجه عن الوجوب، ولا ينشرح صدره بالإيجاب، ولا تطمئن نفسه للوجوب، ويخشى أن يُلزم نفسه أو يُلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به فيقع في هلكة وفي محظور. لكن الطريقة السليمة أن نقول: نمسك هذا الأصل - وهو أن الأصل في

خروج الأمر عن الوجوب للإباحة لقرينة:

الأمر الوجوب- هذا هو الأصل، ثم إذا وقع أمر نشك في كونه للوجوب، ولأن نفس المؤمن قد تدله و (الإثم ما حاك في نفسك) (¬1) قد تدله نفسه أن هذا ليس بواجب وأن الإنسان لو تركه لا يأثم، فحينئذٍ نلتمس لهذه المسألة المعنية دليلاً يخرجها عن الوجوب. س: إذا كان جمهور العلماء علي عدم الوجوب مثلاً، فهل هذه قرينة تصرفه؟ ج: لا؛ لأن الدليل هو الإجماع؛ لكن لا شك أن الإنسان يكون عنده تردد فيما إذا رأى أن جمهور العلماء يرون أن هذا الأمر ليس للوجوب). ثم قال - رحمه الله -: (وعلى كل حال إذا رأيت الجمهور على الاستحباب؛ فهنا يجب عليك أن تتوقف عن القول بالوجوب، وعلى الأقل تقول للناس افعلوا كذا، ما دام هذا هو أمر اللَّه ورسوله فافعلوه، ولا تقل هو واجب أم ليس بواجب! بل قل: افعلوه. كما لو ورد النهي نقول: اتركوه سواء قلنا مكروه أو محرم). والأولى عندي في حمل هذا التردد، أو التوقف الذي أشار إليهما الشيخ - رحمه الله - بأن يحمل على الأخذ الإجماعات الفقهية، أو الأقوال التي يكون فيها الخلاف شاذ. ويوضحه أننا نفهم الكتاب والسنة بفهم وعمل سلف الأمة، ولا نتمسك بشواذ الأقوال، وعليه فإن لم يكن هناك خلافا معتبرا في حمل الأمر أو النهي على ظاهره، وإنما كان التمسك بظاهرهما قول شاذ، فلا نقول بظاهر الأمر أو النهي، وهذا هو روح الفقه، فما كان إغفال سلف الأمة للقول بالظاهر إلا لعلة فيه، أو لدليل خفي علينا (¬2). خروج الأمر عن الوجوب للإباحة لقرينة: قال الشيخ: (وقد يخرج الأمر عن الوجوب والفورية لدليل يقتضي ذلك فيخرج عن الوجوب إلى الإباحة وأكثر ما يقع ذلك إذا ورد بعد الحظر، أو جواباً لما يتوهم أنه محظور). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم. (¬2) وقد أفردت مسألة الصوارف برسالة دكتوراه للشيخ خالد بن شجاع العتيبي بعنوان: (ضوابط صرف الأمر عن الوجوب والنهي عن التحريم) ولا تطولها يدي الآن، فلينظرها من وقف عليها.

1 - الأمر بعد الحظر.

1 - الأمر (¬1) بعد الحظر. قال الشيخ في الأصل: (مثاله بعد الحظر قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: 2]. فالأمر بالاصطياد للإباحة لوقوعه بعد الحظر المستفاد من قوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة: 1]). قال المرداوي في التحبير (5/ 2246) ما مختصره: ((أحمد، ومالك، وأصحابهما، والشافعي، والأكثر: الأمر بعد الحظر للإباحة)، هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور ومحل ذلك: إذا فرعنا على أن اقتضاء الأمر الوجوب فورد بعد حظر ففيه هذا الخلاف. والصحيح أنه للإباحة حقيقة؛ لتبادرهما إلى الذهن في ذلك؛ لعلية استعماله فيها حينئذ، والتبادر علامة للحقيقة. وأيضا: فإن النهي يدل على التحريم فورود الأمر بعده يكون لرفع التحريم وهو المتبادر، فالوجوب أو الندب زيادة لا بد لها من دليل ... (وذهب الشيخ) تقي الدين، وجمع - وهو ظاهر كلام القفال الشاشي - والبلقيني (أنه كما قبل الحظر) فهو لدفع الحظر السابق وإعادة حال الفعل إلى ما كان قبل الحظر، فإن كان مباحا كانت للإباحة نحو: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: 2]، أو واجبا كانت للوجوب ... قال الشيخ تقي الدين: وعليه يخرج (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) [التوبة: 5] الآية. (وقال: هو المعروف عن السلف والأئمة). انتهى). وفي المسألة أقوال أخر، وإنما اكتفيت بهذين القولين لأنهما الأقوى ولشهرتهما، ولأن الخلاف بينهما لفظي في وجه كما سيأتي بعد قليل - بإذن الله -. ¬

_ (¬1) ولاحظ أن المقصود بالأمر هنا هو ما كان على إحدى صيغه الأربع المعروفة (فعل الأمر، اسم فعل الأمر، المصدر النائب عن فعل الأمر، المضارع المقرون بلام الأمر) وليس مقصودا هنا الصيغ التي يستفاد منها طلب الفعل، مثل أن يوصف بأنه فرض، أو واجب، أو مندوب، أو طاعة، أو يمدح فاعله، أو يذم تاركه، أو يرتب على فعله ثواب، أو على تركه عقاب، وهكذا، بمعنى أن هذه المسالة مفترضة في نحو قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: 2]، وليست في نحو قوله: وإذا حللتم فيجب عليكم الاصطياد، وقوله: وإذا حللتم فقد فرضت عليكم الاصطياد. وراجع شرح الشيخ أحمد بن حميد على الورقات. ولاحظ أيضا أنه ليس الكلام هنا على الأمر المجرد عن القرينة، وإنما وروده بعد الحظر قرينة بسببها اختلف العلماء في كون الأمر للإباحة أم لغيرها كما سيأتي - بإذن الله - الكلام في ذلك.

قال الكلوذاني في التمهيد (1/ 179): (لنا أن الشرع لم يرد بأمر بعد الحظر إلا والمراد به الإباحة بدليل قوله تعالى: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [المائدة: 2]، (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض)، (فإذا تطهرن فأتوهن)، وقوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)، (كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروها) فدل أن هذا مقتضاه، فإن قيل قد ورد أيضا والمراد به الوجوب بدليل قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين). قيل: لا نسلم أن قتل المشركين استفيد بهذه الآية وإنما استفيد بآيات آخر نحو قوله: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم)، وقوله: (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين)، وغير ذلك من الآيات والأخبار). ومما يشكل على استقراء الكلوذاني أمثلة كثيرة منها: قال ابن اللحام في قواعده (ص/166): (الأمر بزيارة القبور للرجال أخذ غير واحد من أصحابنا من كلام الخرقى أنها مباحة لأن الأمر بزيارتها أمر بعد حظر فيقتضى الإباحة بناء على القاعدة ولكن المذهب المنصوص عن أحمد أنها مستحبة وذكره بعضهم إجماعا لأنه وإن كان بعد حظر لكنه علله عليه الصلاة والسلام بتذكر الموت والآخرة وذلك أمر مطلوب شرعا ... ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى المخطوبة هو أمر بعد حظر فيقتضى الإباحة بناء على القاعدة وهذا أحد الوجهين لأصحابنا وهو إباحة النظر لا استحبابه، والوجه الثاني وجزم به جماعة من الأصحاب منهم أبو الفتح الحلوانى وابن عقيل وصاحب الترغيب استحباب النظر إلى المخطوبة؛ لأنه وإن كان أمرا بعد حظر لكنه معلل بعلة تدل على أنه أريد بالأمر الندب وهى قوله صلى الله عليه وسلم: (فهو أحرى أن يؤدم بينكما) ... ) وذكر أمثلة وفروعا أخرى كثيرة على هذه القاعدة فلينظرها من شاء. سبب الخلاف: اتفق أصحاب القولين على أن تقدم الحظر على الأمر قرينة توجب صرف الأمر

عن ظاهره (¬1). ومن ذهب أنه الأمر بعد الحظر للإباحة فقد علله بأن ورود الأمر بعد الحظر يرفع التحريم ويتبادر إلى الذهن الإباحة. ومن قال أنه يعود إلى ما كان عليه قبل الحظر علله بأن تقدم الحظر على الأمر قرينة تبطل الوجوب (¬2) فيعود إلى ما كان عليه قبل الحظر. وهذا الأخير هو الأقوى عندي وهو الذي يجمع بين ما كان للوجوب، وللإباحة ولغيرهما. قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/190): (الذي يظهر لي في هذه المسألة هو ما يشهد له القرآن العظيم وهو أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الفعل إلى ما كان عليه قبل الحظر فان كان قبله جائزاً رجع إلى الجواز , وان كان قبله واجباً رجع إلى الوجوب. فالصيد مثلا كان مباحاً ثم منع للإحرام ثم أمر به عند الإجلال فيرجع لما كان عليه قبل التحريم. وقتل المشركين كان واجباً ثم منع لأجل دخول الأشهر الحرم ثم أمر به عند انسلاخها في قوله تعالى: ((فإذا انسلخ الأشهر الحرم ... الآية)) فيرجع إلى ما كان عليه قبل التحريم. وهكذا. وهذا الذي اخترنا قال به بعض الأصوليين واختاره ابن كثير في تفسير قوله تعالى ((فإذا حللتم فاصطادوا)). ومن الأدلة أيضا التي تدل على أنه للوجوب ما روت عائشة - رضي الله عنها -: (أن فاطمة بين أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) (¬3). ¬

_ (¬1) وأما من قال: لا يعد تقدم الحظر على الأمر قرينة لصرف الأمر عن ظاهره فقد حمله هنا على الوجوب إذا كان يقول أن الأمر المجرد عن القرائن للوجوب، أو حمله عن الاستحباب إن كان يقول أنه للاستحباب. (¬2) انظر: "أصول الفقه" للشيخ عياض (ص/265)، " التحبير" (5/ 2247). (¬3) ذكر هذا الدليل الشيخ عطاء في الشريط السادس والأربعين من شرحه على الأصول من علم الأصول.

ما كان جوابا لما يتوهم أنه محظور:

بيان أن الخلاف لفظي إذا دلت قرينة على الحكم: قال المرداوي في " التحبير" (5/ 2247) بعد أن رجح أنه للإباحة: (النهي يدل على التحريم فورود الأمر بعده يكون لرفع التحريم وهو المتبادر، فالوجوب أو الندب زيادة لا بد لها من دليل). ثم قال (5/ 2252) بعد أن ذكر الأقوال في المسألة: (تنبيه: قال الكوراني: هذا الخلاف إنما هو عند انتفاء القرينة (¬1)، وأما عند وجودها فيحمل على ما يناسب المقام بلا خلاف. انتهى). هذا التعليل من المرداوي يشعر بأن الإباحة المستفادة من الأمر بعد الحظر قد لا تكون حكما نهائيا إذا دل الدليل على غيرها، وهذا ما صرح به من كلام الكوراني. ويشعر بأن الخلاف بين المذهبين لفظيا فكون وجوب قتال الكفار مستفاد من رفع الحظر وعود الأمر إلى ما كان عليه قبل الحظر أو من دليل آخر بعد استقرار الأمر على الإباحة المستفادة من الأمر بعد الحظر، فكلا المذهبين اتفقا مآلا من حيث النظر في الأدلة لمعرفة حكم قتال المشركين قبل الحظر، أو بعد الإباحة. وقد رأيت الشيخ عياض السلمي أشار إلى نحو ما اخترته فقال في " أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله" (ص/263) بعد أن رجح القول الأول بأنه للإباحة: (وأما قول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الأمر بعد الحظر يعيد الفعل إلى ما كان عليه قبل ورود الحظر، فقد نسب للمزني، واختاره بعض المتأخرين، وقد يفسر به قول بعض المتقدمين كالقفال الشاشي، وهو قريب من حيث التطبيق من القول الأول، وفيه جمع بين الآيات التي جاء فيها الأمر بعد الحظر وحملت على الإباحة، مثل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، والآيات التي جاء فيها الأمر بعد الحظر وحملت على الوجوب، نحو: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]). ما كان جوابا لما يتوهم أنه محظور: قال الشيخ في "الأصل" (ص/26): (ومثاله جواباً لما يتوهم أنه محظور؛ قوله ¬

_ (¬1) أي الأدلة التي تدل على أن الأمر للندب أو الوجوب.

صلّى الله عليه وسلّم: (افعل ولا حرج)، في جواب من سألوه في حجة الوداع عن تقديم أفعال الحج التي تفعل يوم العيد بعضها على بعض). وقال في "الشرح" (ص/162): (هذا الأمر وقع جوابا لما يتوهم أنه محظور فلا يكون للاستحباب ولا للطلب ولكنه للإباحة). لم أقف على من ذكر هذه القاعدة غير الشيخ - رحمه الله - ومن وجهة نظري أن معنى هذه القاعدة أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون لدفع توهم الحظر، وبيان المشروعية، لا لمجرد كون الأمر مباحا. ومن الأمثلة الدالة على أنه قد يرد مرادا به الوجوب: قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما تحرجوا من التحلل من العمرة: (هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة) (¬1). فقوله: (فليحل) لبيان وجوب التحلل من العمرة لمن كان متمتعا، ودفعا لتوهم الحظر فقد كانوا يعتقدون حظر العمرة في أشهر الحج فبين لهم النبي الجواز ودفع عنهم هذا التوهم. التهديد: قال في الأصل: (التهديد كقوله تعالى: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)، (مَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً)، فذكر الوعيد بعد الأمر المذكور دليل على أنه للتهديد). قال ابن النجار في شرح الكوكب (3/ 23) وهو يتكلم عن المعاني التي ترد لها صيغة الأمر: ((و) الحادي عشر: كونها بمعنى (تهديد) نحو قوله تعالى (اعملوا ما شئتم) وقوله تعالى (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم). (و) الثاني عشر: كونها بمعنى (إنذار) نحو قوله تعالى (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) وقد جعله قوم قسما من التهديد، وهو ظاهر البيضاوي، والصواب المغايرة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.

ويخرج الأمر عن الفورية إلى التراخي:

والفرق: أن التهديد هو التخويف، والإنذار: إبلاغ المخوف. كما فسره الجوهري بهما. وقيل: الإنذار يجب أن يكون مقرونا بالوعيد كالآية والتهديد لا يجب فيه ذلك، بل قد يكون مقرونا وقد لا يكون مقرونا ... ). وبه تعلم ما في عبارة الشيخ من ذكره أنه الوعيد بعد الأمر دليل على أنه للتهديد. ويخرج الأمر عن الفورية إلى التراخي: سبق وأن ذكرت أن الأمر المطلق الذي لم تصحبه قرينة تدل على فور، أو على تراخي، ولم يكن محددا لفعله وقت معين الراجح فيه أنه على الفور. والآن يتكلم الشيخ عن الأمر الذي دلت القرينة على أنه على التراخي. قال في "الشرح" (ص/166): (. قوله: (ويخرج الأمر عن الفورية إلى التراخي): وهذا يكون في الموقت الموسع، فكل عبادة ذات وقت موسع فهي على التراخي ما دام وقتها باقيًا. فمثلًا قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء: 78]: دلوكها يعني زوالها - يعني: أقم الصلاة إذا زالت الشمس، فظاهر الآية الكريمة أنه تجب الصلاة فور الزوال، ولكن دلت النصوص الأخرى على أن وقت الظهر من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله، وعلى هذا نقول: العبادة الموقتة بوقت مضيق (¬1)، فعلها على الفور. كذلك الواجب المربوط بسبب لا يجب قبل وجود سببه، فإذا وُجد سببه، فإن كان موقتًا فهو على حسب الوقت، وإن لم يكن موقتًا فهو فوري- يجب على الفور ... كفارة اليمين إذا حنث هل هي فورية أم على التراخي؟ ج: هي على الفور فمن حين أن يحنث وجب عليه أن يكفِّر. وإذا حلق الإنسان رأسه في الإحرام، فهل يجب عليه أن يبادر بالفدية أم لا؟ ج: نعم، يجب؛ لأن السبب وجد وليست الفدية بمؤقتة، فيجب عليه أن يبادر، بناء على القول بأن الواجب على الفور). ¬

_ (¬1) بالأصل: "موسع"، وما أثبته هو الموافق للسياق.

مناقشة مثال قضاء رمضان:

مناقشة مثال قضاء رمضان: قال في "الأصل" (ص/26): (مثاله: قضاء رمضان فإنه مأمور به لكن دل الدليل على أنه للتراخي فعن عائشة -رضي الله عنها - قالت: " كان يكون علىّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان وذلك لمكان رسول الله، صلي الله عليه وسلم. ولو كان التأخير محرماً ما أُقِرّت عليه عائشة رضي الله عنها). قال في "الشرح" (ص/167): (وقضاء رمضان- قال الله تعالى فيه: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة: 184]، فهل يجب قضاء رمضان فور زوال العذر أم يجوز فيه التراخي؟ ج: نقول: الأصل أنه يجب فور زوال العذر لكن وجد دليل على أنه للتراخي، وهو حديث عائشة: (كان يكون عليَّ الصوم في رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان). وقضاء رمضان واجب، والأصل أنه على الفور، لكن هذا الحديث يدل على أنه ليس على الفور، فعائشة تقول: (ما أقضيه إلا في شعبان). فإن قلت: يرد عليك في هذا الحديث واردان: الوارد الأول: قولها: "فما أستطيع " وهذا يدل على أنها كانت تؤخره لعذر، ونحن نوافقك أنه إذا كان لعذر فهو على التراخي حتى يزول العذر، فكيف تقول: قضاء رمضان- يجوز فيه التوسع، وهي تقول: "ما أستطيع ". الوارد الثاني: أن عائشة لم تذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اطلع على ذلك حتى يكون من باب التقرير، فمن الجائز أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم، وفِعْلُ الصحابي ليس بحجة لجواز أن يفعله عن اجتهاد - والمسألة خلافية، فما هو الجواب عن هذين الواردين؟ الجواب: أما الأول: وهو قولها: "لا أستطيع " فإنها لا تقصد بعدم الاستطاعة أن هناك مانعًا بدنيًا منعها منه، كالسفر والمرض، فهي في المدينة وهي صحيحة، لكن المانع هو: لمكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا المانع ليس مانعًا من الواجب بدليل أنها كانت تصلي الصلوات مع مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -

ما لا يتم المأمور إلا به.

منها، وبدليل أنها تصوم رمضان مع مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان القضاء واجبًا على الفور لكان مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمنعها من القضاء؛ لأن هذا مكان لا يمنع من الواجبات. إذًا "فما أستطيع ": ليس المراد نفي القدرة البدنية، ولكن القدرة التي يراد بها مراعاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذه المراعاة لا تسقط الواجب. والجواب على الإِيراد الثاني من وجهين: الوجه الأول: يبعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم بما يكون لعائشة، وهي زوجته وأحب النساء إليه، ويبعد جدًا ألا يعلم أنها تؤخر القضاء. ثانيًا: على فرض أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعلم فإن اللَّه تعالى قد علم، واللَّه تعالى لا يقر أحدًا على خطأ فيِ زمن الوحي، والدليل على أن اللَّه لا يقر أحدًا في زمن الوحيِ قوِله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء: 108]، فهؤلاء القوم لا يَعلم أحد عنهم شيئًا؛ لأنهم يستخفون من الناس، فالناس لا يعلمون عنهمِ شيئًا، ولكن اللَّه سبحانه وتعالى يعلم، فبيَّن ما يبيتونه فقال: (إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) فالناس لا يعلمون ولكن الله يعلم، ولما كان هذا الأمر لا يرضاه بيَّنه- سبحانه وتعالى، فهذه الآية واضحة في أن اللَّه لا يقر أحدًا على خطأ في عهد النبوة). ما لا يتم المأمور إلا به. قال المرداوي في التحبير (2/ 931): (هذه المسألة هي المعبر عنها في الأصول: بما لا يتم الواجب إلا به واجب، وربما قيل: ما لا يتم المأمور إلا به يكون مأموراً به، وهو أجود وأشمل من حيث إن الأمر قد يكون للندب، فتكون مقدمته مندوبة، وربما كانت واجبة). قال الشيخ في الأصل: (إذا توقف فعل المأمور به على شيء كان ذلك الشيء مأموراً به فإن كان المأمور به واجباً كان ذلك الشيء واجباً، وإن كان المأمور به مندوباً كان ذلك الشيء مندوباً. مثال الواجب: ستر العورة فإذا توقف على شراء ثوب كان ذلك الشراء واجبا.

المأمورات مأمور بها، ووسائل المنهيات منهي عنها). تنبيه- الفرق بين مقدمة الوجوب ومقدمة الوجود:

ومثال المندوب: التطيب للجمعة، فإذا توقف على شراء طيب كان ذلك الشراء مندوبا. وهذه القاعدة في ضمن قاعدة أعم منها وهي: " الوسائل لها أحكام المقاصد " فوسائل المأمورات مأمور بها، ووسائل المنهيات منهي عنها). تنبيه- الفرق بين مقدمة الوجوب ومقدمة الوجود: قال الشيخ عفانة في "شرح الورقات": (هذه المسألة المعروفة عند الأصوليين بمقدمة الواجب ويقولون ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب. ومقدمة الواجب تنقسم إلى قسمين: مقدمة وجوب وتسمى مقدمة تكليف وهي ما يتوقف وجوب الواجب عليه سواء كانت سبباً أو شرطاً مثال السبب دخول الوقت للصلاة ومثال الثاني الاستطاعة للحج. ومقدمة وجود وتسمى مقدمة صحة وهي ما يتوقف وجود الواجب عليه مثل الوضوء بالنسبة للصلاة. ومقدمة الوجوب تحصيلها ليس واجباً على المكلف أما مقدمة الوجود فتحصيلها واجب على المكلف إن كانت تحت مقدوره كالوضوء بالنسبة للصلاة. وأما إن لم تكن تحت قدرته فليست واجبة عليه كحضور أربعين لصحة الجمعة عند من يشترط ذلك العدد. وخلاف الأصوليين في مقدمة الوجود فقط). قال ابن اللحام في "قواعده" (ص/ 94): (ما لا يتم الواجب إلا به للناس في ضبطه طريقان: إحداهما وهى طريقة الغزالي وأبى محمد المقدسي وغيرهما أنه ينقسم - إلى ما بكون غير - مقدور كالقدرة والأعضاء وإلى فعل غيره كالإمام والعدد في الجمعة فلا يكون واجبا وإلى ما يكون مقدورا له كالطهارة وقطع المسافة إلى الجمعة والمشاعر فيكون واجبا، قال أبو البركات وهذا ضعيف في القسم الأول إذ لا واجب هناك وفى الثاني باطل باكتساب المال في الحج والكفارات ونحو ذلك. الطريقة الثانية أن ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب كالقسم الأول وكالمال في الحج والكفارات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب مطلقا، وهذه طريقة الأكثرين من أصحابنا وغيرهم، قال أبو البركات وهى أصح وسواء كان شرطا وهو ما يلزم

النهي

من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم أو سببا وهو ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ... ) (¬1). النهي لما كان الأمر مستلزم للنهي عن الضد فالكلام الذي ذكرناه عن الأمر ينسحب على النهي. قال ابن قدامة في روضة الناظر (ص/216): (اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي على العكس فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير). تعريف النهي: قال الشيخ: (قول يتضمن طلب الكف على وجه الاستعلاء). سبق في باب الأمر بيان أن الراجح في حد الأمر اشتراط الاستعلاء دون العلو وعللته بأن الاستعلاء صفة للأمر والعلو صفة للآمر وهو خارج عن ماهية التعريف. وهذا الكلام ينسحب على تعريف النهي فيكون تعريفه: (قول يتضمن طلب الكف على وجه الاستعلاء). وقد عرفه صفي الدين الحنبلي في "قواعد الأصول ومعاقد الفصول" (ص/66) بقوله: (وهو استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء). وعرفه الطوفي في مختصر الروضة (ص/95) بقوله: (النهي: اقتضاء كف على جهة الاستعلاء). وعرفه ابن بدران في المدخل (ص / 232) بقوله: (وأما النهي فهو القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء). وتلاحظ أن البعض يعبر بالترك والآخر بالكف والترك أعم من الكف. ¬

_ (¬1) انظر المسودة (ص/54).

فائدتان:

فائدتان: الأولى: الفرق بين الترك والكف. الترك ينقسم قسمان (¬1): الأول - ترك عدمي، وهو الترك لما لم يوجد سببه المقتضي لوجوده كمن ترك معصية لأنها لم تعرض له، ولم توجد في زمانه. الثاني - ترك وجودي، وهو أن يقع الشيء، ويوجد المقتضي للفعل أو القول فيترك المكلف الفعل والقول ويمتنع عنهما. وهذا الأخير هو بمعنى الكف، وهو المراد هنا؛ وعليه فلا فرق بين الكف والترك الوجودي. قال الكفوي في الكليات (ص/903): (والنية في التروك لا يتقرب بها إلا إذا صار كفاً. وهو فعل، وهو المكلف به في النهي، لا الترك بمعنى العدم لأنه ليس داخلاً تحت القدرة للعبد) قال الأشقر في أفعال الرسول (2/ 46): (وأما الترك المقصود فهو الذي يعبر عنه بالكف، أو الإمساك، أو الامتناع). الثانية - هل الكف فعل؟ قال الأشقر في أفعال الرسول (2/ 46 - 47): (يرى كثير من الأصوليين أن الكفّ فعل من الأفعال، وهو عندهم فعل نفسي. ونُسِب إلى قوم منهم أبو هاشم الجبائي أن الكف انتفاء محضّ، فليس بفعل. والأول أولى، كما هم معلوم بالوجدان. وأيضاً نجد في الكتاب والسنة إشارات إلى أن الكف فعل ... ]. وقال الشنقيطي في أضواء البيان (6/ 317: 320) عند قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30]: (اعلم أن السبكي قال إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة «الفرقان» مسألة أصولية، ¬

_ (¬1) - انظر إغاثة اللهفان (2/ 123)، أفعال الرسول للأشقر (2/ 47).

وهي أن الكف عن الفعل فعل. والمراد بالكف الترك، قال في طبقاته: لقد وقفت على ثلاثة أدلّة تدلّ على أن الكفّ فعل لم أرَ أحدًا عثر عليها. أحدها: قوله تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30]، فإن الأخذ التناول والمهجور المتروك، فصار المعنى تناولوه متروكًا، أي: فعلوا تركه، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب «نشر البنود، شرح مراقي السعود»، في الكلام على قوله: فكفّنا بالنهي مطلوب النبيّ. قال مقيّده - عفا اللَّه عنه وغفر له -: استنباط السبكي من هذه الآية أن الكفّ فعل وتفسيره لها بما يدلّ على ذلك، لم يظهر لي كل الظهور، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلّت عليه، وهو كون الكفّ فعلاً دلّت عليه آيتان كريمتان من سورة «المائدة»، دلالة واضحة لا لبس فيها، ولا نزاع. فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية «الفرقان» هذه، فإنه قد بيّنته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة «المائدة». أمّا الأولى منهما، فهي قوله تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة: 63]، فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سمّاه اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة صنعًا في قوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، أي: وهو تركهم النهي المذكور، والصنع أخصّ من مطلق الفعل، فصراحة دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح؛ كما ترى. وأمّا الآية الثانية، فهي قوله تعالى: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 79]، فقد سمّى جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلاً، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذمّ في قوله: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، أي: وهو تركهم التناهي، عن كل منكر فعلوه، وصراحة دلالة هذه الآية أيضًا على ما ذكر واضحة، كما ترى. وقد دلَّت أحاديث نبويّة على ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فقد سمّى صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلامًا، ومما يدلّ من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه صلى الله عليه وسلم لمسجده بالمدينة:

صيغة النهي:

لئن قَعَدْنا والنبي يَعْمَل ** لذاك مِنَّا العَمَلُ المُضَلَّلُ فسمّى قعودهم عن العمل، وتركهم له عملاً مضللاً .... والصحيح أن الكفّ فعل، كما دلّ عليه الكتاب والسنّة واللغة؛ كما تقدّم إيضاحه). صيغة النهي: قال الشيخ: (بصيغة مخصوصة هي المضارع المقرون بلا الناهية). قال الكلوذاني في التمهيد (1/ 360): (للنهي صيغة موضوعة في اللغة تدل بمجردها عليه وهو قول القائل لغيره: لا تفعل على وجه الاستعلاء. وقالت المعتزلة: لا يكون نهيا لصيغة وإنما يكون لكراهة الناهي للفعل. وقالت الأشعرية: لا صيغة له كالأمر عندهم). قال الشيخ في الأصل: (وخرج بقولنا: " بصيغة مخصوصة هي المضارع المقرون بلا الناهية مثل قوله تعالى: (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الأنعام: 150] ما دل على طلب الكف بصيغة الأمر مثل دع، اترك، كف ونحوها فإن هذه وإن تضمنت طلب الكف لكنها بصيغة الأمر فتكون أمراً لا نهياً). تتمة: قال الشيخ: (وقد يستفاد طلب الكف بغير صيغة النهي مثل أن يوصف الفعل بالتحريم، أو الحظر، أو القبح، أو يذم فاعله، أو يرتب على فعله عقاب أو نحو ذلك). ذكر الشيخ وغيره (¬1) بعض الصيغ الأخرى التي يستفاد منها التحريم ومنها: 1 - أن يوصف الفعل بالتحريم كقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) [النساء: 23] الآية، وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِير) [المائدة: 3] الآية. 2 - لعن الله أو رسوله للفاعل، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فهذا دليل على النهي عن اتخاذ القبور مساجد. ¬

_ (¬1) - انظر: "أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله" للشيخ عياض السلمي (ص/271).

النهي للتحريم إلا لصارف:

وقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله النامصة والمتنمصة). 3 - توعد الفاعل بالعقاب كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [الفرقان: 68]. 4 - إيجاب الحد على الفاعل، مثل قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2]. 5 - وصف العمل بأنه من صفات المنافقين أو من صفات الكفار نحو قوله تعالى ـ عن المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 142]. 6 - الخبر، مثل قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 9]. النهي للتحريم إلا لصارف: قال الشيخ: (صيغة النهي عند الإطلاق تقتضي تحريم المنهي عنه). قال الكلوذاني في "التمهيد" (1/ 362): (النهي يقتضي التحريم خلافا لمن قال يقتضي التنزيه بمطلقه وخلافا للأشعرية في قولهم يقتضي الوقف (¬1). ¬

_ (¬1) - قال الطوفي في شرح مختصر الروضة - (2/ 443): (وقد ذكر الأصوليون في مقتضى النهي أقوال: أحدها: أن النهي للتحريم. وثانيها: أنه للكراهة. وثالثها: أنه للإباحة. ورابعها: أنه للوقف. وخامسها: أنه للقدر المشترك بين التحريم والكراهة، وهو مطلق الترك ... وسادسها: أن لفظ النهي مشترك بين التحريم والكراهة. وسابعها: أنه لأحدهما لا بعينه؛ فيكون مجملًا فيهما. وحكى القرافي عن القاضي عبد الوهاب أن من العلماء من فرق بين الأمر والنهي؛ فحمل الأمر على الندب، والنهي على التحريم؛ لأن معتمد الأمر تحصيل المصلحة، ومعتمد النهي نفي المفسدة، وعناية الحكماء بنفي المفاسد أشد من عنايتهم بتحصيل المصالح. - قلت: الأصل في هذا أن كل واحد بطبعه وعقله يؤثر دفع الضرر عن نفسه على تحصيل النفع لها إذا لم يجد بدًا من أحدهما؛ لأن دفع الضرر كرأس المال، وتحصيل النفع كالربح، والأول أهم من الثاني، والله سبحانه وتعالى أعلم.

هل النهي للبطلان أم الفساد؟

لنا أن الصحابة رضي الله عنهم عقلوا من النهي الكف عن الفعل والترك، فروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "كنا نخابر (¬1) أربعين سنة لا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فتركناها" (¬2) ولأن السيد إذا نهى عبده عن فعل الشيء فخالفه عاقبه، ولم يلم في عقوبته، فلو لم يكن النهي يقتضي التحريم والمنع لما استحق به العقوبة ... هل النهي للبطلان أم الفساد؟ قال الشيخ: (صيغة النهي عند الإطلاق تقتضي تحريم المنهي عنه وفساده. وقاعدة المذهب في المنهي عنه هل يكون باطلاً أو صحيحاً مع التحريم كما يلي: 1 - أن يكون النهي عائداً إلى ذات المنهي عنه أو شرطه فيكون باطلاً. 2 - أن يكون النهي عائداً إلى أمر خارج لا يتعلق بذات المنهي عنه ولا شرطه فلا يكون باطلاً). سبق وأن تكلمنا على الفاسد والباطل ومتعلقاته بما أغنى عن إعادته هنا. قد يخرج النهي عن التحريم إلى معان أخرى لدليل: قال الشيخ: (وقد يخرج النهي عن التحريم إلى معان أخرى لدليل يقتضي ذلك فمنها: 1 - الكراهة. 2 - الإرشاد). سبق في باب الأمر وأن ذكرنا أن الأمر المطلق للوجوب إلا لصارف، والأمر كما هو هنا فالنهي الأصل أنه للتحريم إلا لدليل، وقد ترد بعض الأدلة التي تبين أن النهي ¬

_ (¬1) - المخابرة: أصلها من الخبر، وهي الأرض الزراعية، وفُسِّر قوله: (عن المخابرة) أن يؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها. والمخابرة لها شروط وأحكام مستوفاه في كتب الفروع. (¬2) - رواه مسلم بنحوه.

لـ (¬1): كراهة: نحو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول). وتحقير: نحو قوله تعالى: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) [الحجر: 88]. وبيان العاقبة: نحو قوله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم: 42]. ودعاء: نحو قوله تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [آل عمران: 8]. ويأس: نحو قوله تعالى: (لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 66]. وإرشاد: نحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة: 101] قيل: وفيه نظر، بل هي للتحريم. والأظهر الأول. لأن الأشياء التي يسأل عنها السائل لا يعرف حين السؤال هل تؤدي إلى محذور أم لا؟ ولا تحريم إلا بالتحقق. ومثل له الشيخ بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة أعني اللهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك). وتهديد: نحو قول السيد لعبده - وقد أمره بفعل شيء فلم يفعله - لا تفعله، فإن عادتك أن لا تفعله بدون المعاقبة. والتماس: كقولك لنظيرك: لا تفعل. وتصبر: نحو قوله تعالى: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40]. وتسوية: نحو قوله تعالى: (فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ) [الطور: 16]. وتحذير: نحو قوله تعالى: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]. وبعض هذه المعاني متداخل كما أن بعض الأمثلة المضروبة لا تخلو من نظر، للخلاف الوارد في قوة ودلالة الدليل الصارف إلا أنه ينبغي أن نتقيد بفهم وعمل السلف الصالح وألا ننشئ قولا ليس لنا فيه سلف. ¬

_ (¬1) - انظر شرح الكوكب المنير (3/ 78).

التكليف

التكليف تعريف المكلف: عرفه الشيخ بقوله: (هو البالغ العاقل). وقال في الأصل: (فخرج بقولنا: " البالغ " الصغير فلا يكلف بالأمر والنهي تكليفاً مساوياً لتكليف البالغ، ولكنه يؤمر بالعبادات بعد التمييز تمريناً له على الطاعة ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها. وخرج بقولنا: " العاقل " المجنون فلا يكلف بالأمر والنهي، ولكنه يمنع مما يكون فيه تعد على غيره أو إفساد ولو فعل المأمور به لم يصح منه الفعل لعدم قصد الامتثال منه. ولا يرد على هذا إيجاب الزكاة والحقوق المالية في مال الصغير والمجنون لأن إيجاب هذه مربوط بأسباب معينة متى وجدت ثبت الحكم فهي منظور فيها إلى السبب لا إلى الفاعل). تنبيه: هذا التعريف غير مانع فقد عرفه المرداوي في التحبير (2/ 797): (والمراد بالمكلف: البالغ العاقل الذاكر غير الملجأ) وسوف يأتي بإذن الله الكلام على نوعي الإكراه الملجئ وغير الملجئ. فائدة: عرف الشيخ الحازمي في "شرحه على معاقد الفصول" المكلف بقوله: (الآدمي البالغ العاقل غير الملجئ بشرطه). وهذا يجرنا للكلام على تكليف الجن، والجن مكلفون في الجملة ولكن تكليفهم لا على حد تكليف الإنس بها. قال الطوفي في شرح الروضة (1/ 218): (وقع النزاع بين بعض الفقهاء في سنتنا هذه- وهي سنة ثمان وسبع مائة للهجرة - في أن الجن مكلفون بفروع الدين أم لا؟ واستفتي فيها شيخنا أبو العباس أحمد بن تيمية بالقاهرة- أيده الله تعالى- فأجاب فيها بما ملخصه أنهم مكلفون بها بالجملة، لكن لا على حد تكليف الإنس بها، لأنهم مخالفون للإنس بالحد فبالضرورة يخالفونهم في بعض التكاليف.

تكليف المميز:

قلت: مثاله، أن الجن قد أعطي بعضهم قوة الطيران في الهواء، فهذا يخاطب بقصد البيت الحرام للحج طائرا. والإنسان لعدم تلك القوة فيه، لا يخاطب بذلك، فهذا في طرف زيادة تكليفهم على تكليف الإنس. وأما من جهة نقص تكليفهم عن تكليف الإنس، فكل تكليف يتعلق بخصوص طبيعة الإنس، ينتفي في حق الجن، لعدم تلك الخصوصية فيهم. والدليل على تكليف الجن بالفروع، الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بالقرآن الكريم إلى الجن والإنس، فجميع أوامره ونواهيه متوجهة إلى الجنسين، وهي مشتملة على الأصول والفروع، نحو: (آمِنُوا بِاللَّهِ) [النساء: 136]، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [البقرة: 43]. وقد تضمن هذا الدليل، على أن كفار الإنس مخاطبون بها، وكذلك كفار الجن، لتوجه القرآن بجميع ما فيه إلى مؤمني الجنسين وكفارهم). ومما سبق يعرف المكلف بأنه: (الآدمي البالغ العاقل الذاكر غير الملجأ). تكليف المميز: قال الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/12): (وفي تكليف المميز، قولان: الإثبات، لفهمه الخطاب. والأظهر النفي، إذ أول وقت يفهم فيه الخطاب، غير موقوف على حقيقته، فنصب له عدم ظاهر يكلف عنده، وهو البلوغ. ولعل الخلاف في وجوب الصلاة والصوم عليه، وصحة وصيته وعتقه وتدبيره وطلاقه وظهاره وإيلائه ونحوها، مبني على هذا الأصل). وقال الشنقيطي في المذكرة (ص/28): (وأما الصبي المميز فجمهور العلماء على أنه غير مكلف بشيء مطلقاً لأن القلم مرفوع عنه حتى يبلغ، وعن أحمد رواية مرجوحة بتكليف الصبي المميز، ومذهب مالك وأصحابه تكليف الصبي بالمكروه والمندوب فقط دون الواجب والحرام، قالوا للإجماع على أنه لا إثم عليه بترك واجب ولا بارتكاب حرام لرفع القلم عنه، وأما المكروه والمندوب، فاستدلوا لتكليفه بهما بحديث الخثعمية التي أخذت بضبعي (¬1) صبى، وقالت: (يا رسول الله ألهذا حج؟ قال ¬

_ (¬1) - العضد، وقيل: الإبط، وقيل: ما بين الإبط إلى نصف العضد، وقيل: هو وسط العضد.

تكليف الكفار:

: نعم ولك أجر). وقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم) رواه أصحاب السنن من حديث علي - رضي الله عنه - نص في المسألة وأن تكليف الصبي لا يكون إلا بعد احتلامه. تكليف الكفار: قال الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/13): (الكفار مخاطبون بفروع الإسلام في أصح القولين، وهو قول الشافعي، والثاني: لا يخاطبون منها بغير النواهي، وهو قول أصحاب الرأي، والمشهور عنهم عدم تكليفهم مطلقا ... لنا: القطع بالجواز، بشرط تقديم الإسلام، كأمر المحدث بالصلاة، بشرط تقديم الطهارة. ومنع الأصل، يستلزم أن لو ترك الصلاة عمره لا يعاقب إلا على ترك الوضوء. والإجماع على خلافه والنص، نحو (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) [البقرة: 21]. قالوا: وجوبها مع استحالة فعلها في الكفر، وانتفاء قضائها في الإسلام غير مفيد (¬1). ¬

_ (¬1) - قال الطوفي في الشرح (1/ 210): (هذا دليل المانعين من تكليفهم بالفروع. وتقريره: أن التكليف لا بد وأن يكون مفيدا، إذ هو لغير فائدة عبث محال على الشرع. والفائدة إما أن تكون صحة فعلها حال الكفر، أو وجوب قضائها بعد الإسلام، وكلاهما منتف، لأن الكافر لا تصح منه عبادة فرعية حال كفره، ولا يجب عليه قضاؤها بعد الإسلام، فينتفي التكليف لانتفاء فائدته ... وتقريره - أي الجواب عن دليلهم -: أن وجوبها حال الكفر، إنما هو بشرط تقديم الشرط- وهو الإيمان- كما سبق أول المسألة وأما عدم وجوب قضائها عليهم بعد الإسلام، فنقول: قضاء العبادات اختلف فيه، هل هو بأمر جديد، أو بالأمر الأول؟ يعني: الخطاب الذي ثبت به أصل التكليف. فإن قلنا: هو بأمر جديد، سقط السؤال، لأنا نقول: قضاء العبادات، إنما لم يجب عليهم بعد الإسلام، لانتفاء ورود الأمر الجديد بها، لا أنها لم تكن واجبة عليهم حال الكفر. وإن قلنا: إن القضاء بالأمر الأول، قلنا: هم مأمورون بها حال الكفر، لكن سقط قضاؤها عنهم بعد الإسلام بدليل شرعي متجدد، نحو قوله عليه السلام: «الإسلام يجب ما قبله، والحج يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها» ...

قلنا: الوجوب بشرط تقديم الشرط، كما سبق. والقضاء بأمر جديد، أو بالأمر الأول، ولكن انتفى بدليل شرعي، نحو: «الإسلام يجب ما قبله». وفائدة الوجوب، عقابهم على تركها في الآخرة، وقد صرح به النص، نحو: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فصلت: 6، 7] (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر: 42، 43]. والتكليف بالمناهي، يستدعي نية الترك تقربا. ولا نية لكافر) (¬1). قال الشيخ العثيمين في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 168] : (من فوائد الآية أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ)؛ وهم داخلون في هذا الخطاب؛ ومخاطبتهم بفروع الشريعة هو القول الصحيح؛ ولكن ليس معنى خطابهم بها أنهم ملزمون بها في حال الكفر؛ لأننا ندعوهم أولاً إلى الإسلام، ثم نلزمهم بأحكامه؛ وليس معنى كونهم مخاطبين بها أنهم يؤمرون بقضائها؛ والدليل على الأول قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) [التوبة: 54]؛ فكيف نلزمهم بأمر لا ينفعهم؛ هذا عبث، وظلم؛ وأما الدليل على الثاني فقوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال: 38]؛ ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ممن أسلم بقضاء ما فاته من الواجبات حال كفره؛ والفائدة من قولنا: إنهم مخاطبون بها - كما قال أهل العلم - زيادة عقوبتهم في الآخرة؛ وهذا يدل عليه قوله تعالى: (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)) [المدثر: 39 - 47]) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: روضة الناظر (ص/50)، المسودة (ص/41)، شرح مختصر الروضة (1/ 205)، أصول ابن مفلح (1/ 264)، القواعد والفوائد (ص/49)، التحبير (3/ 1144)، شرح الكوكب (1/ 500)، وغيرها. (¬2) وانظر "شرح الأصول" (ص/ 198: 205).

الجهل:

الجهل: مسألة العذر بالجهل من المسائل الكبار والتي صنفت فيها مصنفات كثيرة، ولن نتعرض الآن لما يتعلق بالأحكام العلمية فهذا له مجال آخر، ولنقتصر على ما يتعلق بالأحكام الشرعية العملية. وقد تكلم الشيخ - رحمه الله - في "شرح الأصول" على قاعدة هامة وفصل فيها تفصيلا جيد فقال (ص/221): (الجهل بالمحرم لا شك أن الإنسان لا يؤاخذ به ولا يترتب عليه شيء من أحكامه مهما كان هذا الشيء المحرم. أما الجهل بالواجب فنقول أنه لا يؤاخذ به الإنسان من حيث الإثم؛ لأنه جاهل لكن من حيث القضاء فهذا فيه تفصيل: فإن كان حصل منه تفريط فإنه لا يمكن أن يتساهل معه، وإن لم يحصل منه تفريط فإن كان جاهلا بالحكم يعذر به ويرفع عنه القضاء ولنا في هذا حجج: ومنها حديث المسيء في صلاته. ومنها: حديث المستحاضة التي كانت تستحيض حيضة كبيرة تمنعها الصلاة حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اجلسي قدر ما كانت الحيضة) ولم يأمرها بالقضاء لأنها بانية على أصل يعني لها عذر، والأصل أن هذا الدم حيض ولهذا قالت: إني أستحيض حيضة شديدة كبيرة، فهذه معذورة لم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء. ومنها: حديث أهل قباء حيث صلوا بعض الصلوات إلى غير القبلة لكن لأنهم لم يعلموا بالنسخ وبنوا على أصل، والأصل: البقاء على القبلة وبقاء ما كان على ما كان). وهذه القاعدة في التفريق بين المأمورات والمحظورات في العذر فيها بالجهل تكلم بها كثير من العلماء فمنهم من أطردها، ومنهم من قيدها كالشيخ وغيره بأن تكون في حقوق الله دون حقوق العباد ومنهم من زاد على ذلك شروطا أخرى، ولن استطرد في ذكر أقوال هؤلاء، وإنما أشير إلى بعضها: قال الشيخ في "الأصل" (ص/33) عقب ذكره لهذه الموانع: (وتلك الموانع إنما هي في حق الله؛ لأنه مبني على العفو والرحمة أما في حقوق المخلوقين فلا تمنع من

ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه). وذكر الزركشي هذا القيد وبيَّن سبب التفريق بين الأوامر والنواهي فقال في "المنثور" (2/ 19): (الجهل والنسيان يعذر بهما في حق الله تعالى المنهيات دون المأمورات والأصل فيه حديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة ولم يؤمر بالإعادة لجهله بالنهي وحديث يعلى بن أمية حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم بنزع الجبة عن المحرم ولم يأمره بالفدية لجهله واحتج به الإمام الشافعي رضي الله عنه على أن من وطئ في الإحرام جاهلا، أو ناسيا فلا فدية عليه، والفرق بينهما من جهة المعنى أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل إلا بفعلها والمنهيات مزجور عنها بسبب مفاسدها امتحانا للمكلف بالانفكاك عنها وذلك إنما يكون بالتعمد لارتكابها ومع النسيان والجهالة لم يقصد المكلف ارتكاب المنهي فعذر بالجهل فيه ... ) (¬1). قال تقي الدين ابن تيمية في "شرح العمدة" (4/ 343): (لا تسقط السترة بجهل وجوبها ولا نسيان لها كما تسقط بالعجز فلو نسي الاستتار وصلى، أو جهل وجوبه، أو أعتقت الأمة في أثناء الصلاة ولم تعلم حتى فرغت لزمتهم الإعادة قاله أصحابنا؛ لأن الزينة من باب المأمور به فلا تسقط بالجهل والنسيان كطهارة الحدث وهذا لأن الناسي والجاهل يجعل وجود ما فعله كعدمه؛ لأنه معفو عنه فإذا كان قد فعل محظورا كان كأنه لم يفعله فلا إثم عليه ولا تلحقه أحكام الإثم وإذا ترك واجبا ناسيا أو جاهلا فلا إثم عليه بالترك لكنه لم يفعله فيبقى في عهدة الأمر حتى يفعله إذا كان الفعل ممكنا). فقيد الشيخ فعل الواجب بألا يكون الفعل ممكنا حتى يعذر صاحبه. والأقرب عندي في تفسير الإمكان عند شيخ الإسلام: أن يكون الفعل مقدورا بمعنى أن المكلف لم يعرض له عارض يمنعه من آداء الفعل، وأيضا أن يكون وقته باقيا. فلكي يعذر المكلف بالجهل في ترك المأمورات لابد وأن يكون الفعل غير ممكنا بأن يعرض له عارض يجعله غير قادر على آداء الفعل كمن أصيب بشلل فلا يقدر ¬

_ (¬1) - انظر: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد (2/ 127)، القواعد والأصول الجامعة (ص/133).

على القيام في الفريضة - داخل وقته -، أو يخرج وقت الفعل. وللشيخ شامي بن عجيبان في رسالته: "الجهل بأحكام المناسك" في (ص/254) كلاما دقيقا زاد فيه قيودا أخرى فقال ما ملخصه: (المبحث الأول: وقوع الجهل فيما يتعلق بحقوق الله تعالى. المطلب الأول: وقوع الجهل في ترك المأمورات. جاء في القاعدة المشهورة: (الجهل عذر في حق الله في المنهيات دون المأمورات). فإذا تعلق الجهل بترك فهل مأمور به، فإن الجهل حينئذ لا يكون عذرا في إسقاطه، وذلك (لأن الأمر يقتضي إيجاد الفعل، فما لم يفعل لم يخرج من العهدة، كما أن تارك الأمر يمكنه تلافيه بإيجاد الفعل، فلزمه ولم يعذر بجهله). أما إذا تعلق الجهل بفعل منهي عنه لا إتلاف فيه فإن الجهل حينئذ يكون عذرا في إسقاط ما يترتب على فعله؛ (لأن النهي يقتضي الكف، فالمفعول من غير قصد للمنهي عنه كلا قصد، كما أن مرتكب النهي لا يمكنه تلافيه، إذ ليس في قدرته نفي فعل حصل في الوجود، فعذر فيه). وبهذه القاعدة قال المالكية والشافعية والحنابلة، ويظهر لي أن الحنفية يتفقون مع الجمهور في القول بهذه القاعدة متى كان الجهل بالحكم في دار الإسلام، وذلك بناء على أصلهم أن الجهل في دار الإسلام ليس بمعتبر، وإنما يختلفون معهم في الجهل المتعلق بترك الواجبات الشرعية في دار الحرب، حيث يرى الحنفية أن الجهل بالواجبات في دار الحرب عذر مقبول، بينما يخالفهم الجمهور في ذلك. من ترك واجب عليه فعله، أو أتى بما يفسده جاهلا بذلك، فلا يخلو الأمر من حالين: الأول - أن يمكن تدارك ذلك الواجب المتروك فعله أو الذي أتى المكلف بما يفسده جهلا منه بذلك. فإن كان وقته باقيا فإنه يجب حينئذ على المكلف تداركه مما تركه بفعله، فإن كان ذلك الواجب مما ينبني بعضه على بعض فإنه يلزمه حينئذ إعادة جميعه. ومثال الأول - من ترك الإحرام من الميقات فإنه يلزمه الرجوع إليه والإحرام منه. وكذا حاج ترك طواف الوداع جاهلا بوجوبه، وعلم به قبل ابتعاده عن مكة،

فإنه يلزمه الرجوع للإتيان به. ومثال الثاني - إذا أحدث المحرم في الشوط الثالث من الطواف، أو دخل في بعض طوافه من خلال الحجر، ولم يتوضأ ولم يعد ذلك الشوط الذي تخلله الدخول في الحجر فورا ثم سعى بعد ذلك، فعليه إعادة جميع الطواف؛ لفساده بالحدث. وأما ما فات وقته من الواجبات المتروكة جهلا بوجوبه، فقد اختلف العلماء في وجوب تداركها بالقضاء على قولين: الأول - أنه يجب على المكلف قضاء تلك الواجبات استدراكا لمصلحتها، إذ القصد من الأمر حصول الثواب، ومن لم يأتمر لم يرج له ثواب. وبهذا قال فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة، وبه يقول الحنفية إذا كان الجهل يتلك الواجبات في دار الإسلام. القول الثاني - أنه يجب على المكلف قضاء ما فات وقته من الواجبات المتروكة جاهلا بوجوبها لسقوطها بفوات وقتها. وهذا قال الظاهرية وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. الحال الثاني - أن لا يمكن تدارك ذلك الواجب المتروك أو المفسد بفعل ما يفسده مع الجهل، وليس له بدل، فإنه حينئذ يسقط، إذ لا سبيل إلى فعله. ومثال ذلك: من ترك الجمعة جاهلا بلزومها له حتى فاتت، أو ترك الجهاد المتعين حضوره حتى فات. وكذا امرأة تركت الإحداد حتى انقضت عدتها. المطلب الثاني: وقوع الجهل في فعل المنهيات. إذا تعلق الجهل بفعل منهي عنه فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال: 1 - أن يكون لك الفعل المنهي عنه ليس من باب الإتلاف: والحكم حينئذ أنه لا يجب بفعله شيء، سوى تركه والإقلاع عنه إن كان متلبسا به عند العلم بحكمه. ومثال ذلك: محرم لبس مخيطا، أو غطى رأسه بملاصق، أو تطيب في ثوبه او بدنه جاهلا بالحكم، فمتى علم بتحريم ذلك عليه وجب عليه أن يخلع المخيط ويكشف رأسه ويغسل ما أصابه من الطيب، ولا يلزمه دم .. 2 - أن يكون ذلك الفعل المنهي عنه من باب الإتلاف: واحكم حينئذ أنه لا يعذر الجاهل بجهله في هذه الحال، ويلزمه جميع ما يترتب

على ذلك الإتلاف، إذ الإتلاف سبب، وهو من الحكم الوضعي الذي لا يشترط فيه علم المكلف. وقد اتفق على هذا فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. والقاعدة: (لا فرق في ضمان المتلف بين العلم والجهل). 3 - أن يكون ذلك الفعل المنهي عنه يترتب على ارتكابه عقوبة، فإذا تعلق به الجهل فإنه يكون شبهة في إسقاط تلك العقوبة: وبهذا قال جميع فقهاء المذاهب الأربعة، وكذلك الظاهرية. والقاعدة في هذا: (أن من جهل حرمة شيء مما يجب فيه الحد أو العقوبة وفعله لم يحد). قال في شرح مختصر الروضة: (أسباب العقوبات كالقصاص، لا يجب على مخطئ في القتل؛ لعدم العلم، وحد الزنى لا يجب على من وطئ أجنبية يظنها زوجته؛ لعدم العلم أيضا ... إذ العقوبات تستدعي وجود الجنايات التي تنتهك بها حرمة الشرع زجرا عنها وردعا، والانتهاك إنما يتحقق مع العلم ... والجاهل قد انتفى ذلك فيه، وهو شرط تحقق الانتهاك، فينتفي الانتهاك لانتفاء شرطه، فتنتفي العقوبة لانتفاء سببها). المبحث الثاني: وقوع الجهل فيما يتعلق بحقوق العباد إذا تعلق الجهل بحق من حقوق العباد، كإتلاف مال الغير جهلا، فإن الضمان يجب، ولا ينتهض الجهل عذرا لدفع الضمان. وبهذا قال فقهاء المذاهب الربعة، وأيضا الظاهرية. فالجهل لا يكون عذرا في حقوق العباد؛ لأنها مبنية على المشاحة والمضايقة). فتحصل مما سبق أن ترك المأمورات يعذر فيها المكلف بالجهل بشروط: 1 - ألا يكون مفرطا وهذا ذكره الشيخ العثيمين. 2 - ألا يكون الفعل ممكنا وهذا ذكره تقي الدين وفسرناه بأن يعرض له عارض يجعله غير قادر على أداء الفعل - داخل وقته -، أو يخرج وقت الفعل والجمهور على أن المكلف يقضي الفعل سواء أكان الوقت باقيا أم خرج الوقت وقولهم أقوي وأحوط وأبرأ للذمة لعموم حديث (فدين الله أحق أن يقضي) والمسألة فيها نزاع طويل لعدم ورود أمر جديد.

النسيان:

3 - ألا يكون في حق العباد، ذكره العثيمين الزركشي، وشامي. 4 - ألا يمكن تدراكه بألا يكون له بدل. وأما ما يتعلق بالمحظور فشرط قيام العذر بالجهل: 1 - ألا يكون فيه إتلاف. 2 - ألا يكون في حق العباد، وأما ما يتعلق بالحدود فالجهل شبهة لدرء الحد. وهذه القاعدة التي ذكرناها بعض فروعها فيه خلاف، وقد يخرج عنها بعض الفروع، وهذا لا يخرجها عن كونها كلية. قال الشاطبي في الموافقات (2/ 539): (الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضى الكلي لا يخرجه عن كونه كليا وأيضا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت). النسيان: قال الشيخ في الأصل: (فمتى فعل محرماً ناسياً فلا شيء عليه؛ كمن أكل في الصيام ناسياً. ومتى ترك واجباً ناسياً فلا شيء عليه حال نسيانه؛ ولكن عليه فعله إذا ذكره؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها"). وقيد الثاني في الشرح بألا يكون هذا الواجب مقيدا بسبب وزال السبب فقال (ص/224): (مثل لو نسيت أن تصلي الكسوف حتى انجلى، وقلنا بوجوب صلاة الكسوف، فإنك لا تقضيها لأنها لسبب وقد زال). الإكراه: قال الشيخ في الأصل: (من أكره على شيء محرم فلا شيء عليه؛ كمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومن أكره على ترك واجب فلا شيء عليه حال الإكراه، وعليه قضاؤه إذا زال؛ كمن أكره على ترك الصلاة حتى خرج وقتها، فإنه يلزمه قضاؤها إذا زال الإكراه). فائدة: قال الشيخ عياض في "أصوله" (ص/87): (الإكراه الملجئ عند الجمهور: هو الذي لا يكون للمكره فيه قدرة على الامتناع ويكون كالآلة في يد المكره، ومثلوه بما

لو ألقاه من مكان مرتفع على صبي فمات، أو ربطه وأدخله في دار حلف ألا يدخلها. وغير الملجئ عندهم ماعدا ذلك من أنواع الإكراه كالتهديد بالقتل أو الضرب أو السجن ... ). وقال الشيخ الشنقيطي في "المذكرة" (ص/30): (وأما المكره فجزم المؤلف رحمه الله بأنه مكلف وإطلاقه تكليفه من غير تفصيل لا يخلو من نظر، إذ الإكراه قسمان: قسم لا يكون فيه المكره مكلفاً بالإجماع كمن حلف لا يدخل دار زيد مثلا، فقهره من هو أقوى منه، وكبله بالحديد، وحمله قهراً حتى أدخله فيها فهذا النوع من الإكراه صاحبه غير مكلف كما لا يخفى، إذ لا قدرة له على خلاف ما أكره عليه. وقسم هو محل الخلاف الذي ذكره المؤلف، وهو ما إذا قيل له افعل كذا مثلا وإلا قتلتك، جزم المؤلف بأن المكره هذا النوع من الإكراه مكلف، وظاهر كلامه أنه لو فعل المحرم الذي أكره عليه هذا النوع من الإكراه لكان آثماً والظاهر أن في ذلك تفصيلا. فالمكره على القتل بأن قيل أقتله وإلا قتلتك أنت، لا يجوز له قتل غيره، وإن أدى ذلك إلى قتله هو، وأما في غير حق الغير الظاهر أن الإكراه عذر يسقط التكليف، بدليل قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) [النحل: 106]. وفى الحديث: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (¬1) والحديث وان أعله أحمد وابن أبى حاتم فقد تلقاه العلماء بالقبول وله شواهد ثابتة في الكتاب والسنة). وقد ختم الشيخ هذه الموانع بقوله: (وتلك الموانع إنما هي في حق الله؛ لأنه مبني على العفو والرحمة أما في حقوق المخلوقين فلا تمنع من ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه) وسبق وأن ذكرنا وجه هذا التفريق وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والمضايقة. ¬

_ (¬1) - أخرجه ابن ماجه وغيره من حديث ابن عباس، وله شواهد عن أبي ذر، وثوبان، ابن عمر، وأبي بكرة، وأبي هريرة، وعقبة، وغيرهم، وقد صححه الألباني، وانظر الإرواء (82)، ونصب الراية (2/ 64)، والتلخيص (1/ 281).

العام

العام تعريف العام: لغة: قال الشيخ: (العام لغة: الشامل ( وقال الشيخ في "الشرح" (ص/242): (العام اسم فاعل من عمَّ يعم إذا شمل. ويمكن أن يقال: إن العِمَامة من هذا الباب؛ لأنها تعم الرأس). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 454): (العموم في اللغة الشمول. يقال: هذا الكساء يعم من تحته، أي: يشملهم). فائدة - الفرق بين العام والعموم، وبين العام والأعم: قال الزركشي في "البحر المحيط" (2/ 180): (الفرق بين العموم والعام فالعام هو اللفظ المتناول والعموم تناول اللفظ لما صلح له فالعموم مصدر والعام اسم الفاعل مشتق من هذا المصدر وهما متغايران لأن المصدر الفعل والفعل غير الفاعل ومن هذا يظهر الإنكار على عبد الجبار وابن برهان وغيرهما في قولهم العموم اللفظ المستغرق فإن قيل أرادوا بالمصدر اسم الفاعل قلنا استعماله فيه مجاز ولا ضرورة لارتكابه مع إمكان الحقيقة. وفرق القرافي بين الأعم والعام بأن الأعم إنما يستعمل في المعنى والعام في اللفظ فإذا قيل هذا أعم تبادر الذهن للمعنى وإذا قيل هذا عام تبادر الذهن للفظ). قال الشيخ في "الشرح" (ص/242): (والعموم والخصوص من عوارض الألفاظ، فيقال: لفظ عام، والأعميّة والأخصية من عوارض المعنى، والعوارض بمعنى صفات، فيقال: معنى أعم ومعنى أخص، فإذا سمعتَ في كلام أهل العلم: "عام وخاص " فهو وصف للفظ، ولو سمعت "أعم، أخص" فهذا وصف للمعنى، فيقال: هذا المعنى: أعم، وهذا المعنى: أخص، معنى هذا اللفظ: أعم، ومعنى هذا اللفظ: أخص، أما اللفظ نفسه فيقال فيه: "العام "، و"الخاص "، ولهذا نقول: "العموم " و"الخصوص " من عوارض الألفاظ بخلاف "الأعميّة"، و"الأخصية" فهي من عوارض المعاني).

اصطلاحا:

اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر (. قال في "الأصل" (ص/34): (فخرج بقولنا: " المستغرق لجميع أفراده " مالا يتناول إلا واحداً كالعلم، والنكرة في سياق الإثبات كقوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [النساء: 92] لأنها لا تتناول جميع الأفراد على وجه الشمول وإنما تتناول واحداً غير معين (¬1). وخرج بقولنا: " بلا حصر " ما يتناول جميع أفراده مع الحصر كأسماء العدد مئة وألف ونحوهما). فوائد وتنبيهات: 1 - اعلم أن النكرة في سياق الإثبات من سيق الإطلاق لا العموم إلا أن يكون ممتنا بها أو في صيغة الشرط، فحينئذ تكون من صيغ العموم. وسوف يأتي بإذن الله بيان ذلك في باب المطلق. 2 - لابد من إضافة قيدين لهذا الحد ليكون مانعا وهما: (دفعة - بحسب وضع واحد). - قال الشنقيطي في المذكرة (ص/197): (وخرج بقوله: دفعة، النكرة في سياق الإثبات كرجل , فإنها مستغرقة , ولكن استغراقها بدلي لا دفعة واحدة). قال ابن بدران في المدخل (ص/ 244): (العام عمومه شمولي وعموم المطلق بدلي فمن أطلق على المطلق اسم العموم فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة والفرق بينهما أن عموم الشمول كلي يحكم فيه على كل فرد فرد وعموم البدل كلي من حيث إنه لا يمنع نفس تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه ولكن لا يحكم فيه على كل فرد بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة). وهذه فائدة في بيان الفرق بين العام والمطلق (¬2). ¬

_ (¬1) فيه نظر، فالمطلق له نوع استغراق بدلي يشمل جميع الأفراد - كما يأتي -، ولذلك فإن الصواب أن المطلق يخرج بقيد " دفعة" كما سيأتي. (¬2) وسوف يأتي - بإذن الله - في باب المطلق ذكر بعض الفروق الأخرى بينهما.

وهذه فائدة في بيان الفرق بين العام والمشترك.

- قال الطوفي في شرح مختصر الروضة (2/ 458): (وقوله: بحسب وضع واحد، احتراز من المشترك، كلفظ العين والقرء؛ فإنه لفظ مستغرق لما يصلح له من مسمياته، لكنه ليس بوضع واحد، بل بأكثر منه؛ فالقرء الدال على الحيض إنما وضع له، وكذلك القرء الدال على الطهر إنما وضع له بوضع غير الأول (¬1)، بخلاف قولنا: الرجال، فإن دلالته على جميع ما يصلح له بوضع واحد). وهذه فائدة في بيان الفرق بين العام والمشترك. ملاحظة: هذا القيد الأخير إنما يخرج المشترك ما لم تقم قرينة تبين أحد معانيه (مجمل)، وأما إذا قلنا مثلا: قتلت العيون، أو غورت العيون، فالعيون هنا عامة لقيان قرينة تبين أحد معانيها. وعليه فالعام يعرف بأنه: (اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر بحسب وضع واحد دفعة). صيغ العموم: 1 - قال الشيخ: (ما دل على العموم بمادته مثل: كل، وجميع، وكافة، وقاطبة، وعامة). قال ابن النجار في شرح الكوكب (3/ 123) ما ملخصه: (من صيغه أيضا (كل) وهي أقوى صيغه. فمادتها تقتضي الاستغراق والشمول كالإكليل لإحاطته بالرأس، والكلالة لإحاطتها بالوالد والولد. فلهذا كانت أصرح صيغ العموم لشمولها العاقل وغيره، المذكر والمؤنث، المفرد والمثنى والجمع. وهنا: فوائد منها: أن محل عمومها إذا لم يدخل عليها نفي متقدم عليها نحو لم يقم كل الرجال. فإنها حينئذ للمجموع، والنفي وارد عليه. ¬

_ (¬1) -أي أنه يدل على هذين المعنيين بوضعين مختلفين؛ فالعرب استعملت القرء مرة في الحيض ومرة في الطهر، أو بعضهم استعمله في الطهر، وبعضهم في الحيض، ثم اشتهر المعنيان فصار مشتركاً، وهذا بخلاف العام فإن اللفظ إنما وضع في اللغة ليشمل جميع أفراده.

2 - أسماء الشرط.

وسميت سلب العموم، بخلاف ما لو تأخر عنها. نحو: كل إنسان لم يقم. فإنها حينئذ لاستغراق النفي في كل فرد، ويسمى عموم السلب. قاله البرماوي (و) من صيغ العموم أيضا (جميع) وهي مثل كل، إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفة، فلا يقال: جميع رجل، وتقول جميع الناس، وجميع العبيد. (ونحوهما) أي ومن صيغ العموم أيضا: كل ما كان نحو كل وجميع، مثل أجمع وأجمعين (و) كذلك (معشر ومعاشر وعامة وكافة وقاطبة) قال الله سبحانه وتعالى {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقال تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} وقال تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة} وقالت عائشة رضي الله عنها " لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتدت العرب قاطبة " قال ابن الأثير: أي جميعهم، لكن معشر ومعاشر: لا يكونان إلا مضافين، بخلاف قاطبة وعامة وكافة فإنها لا تضاف). 2 - أسماء الشرط. مثل الشيخ لها في الأصل بقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ) [فصلت: 46]، وقول: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) [البقرة: 115]. فاسم الشرط في الآية الأولى (من) وفي الثانية (أين). وأدوات الشرط إما أن تكون جازمة تجزم فعلين مثل: إن (وهذا حرف خارج شرطنا ولا يفيد العموم والباقي أسماء تفيد العموم) - مَنْ - ما - مهما - متى - أيان - أين - أَنَّى - حيثما - كيفما - أَيّ. وغير جازمة مثل: إذا - لو - لولا - كلما - لَمَّا. 3 - أسماء الاستفهام. مثل الشيخ لها في الأصل بقوله تعالى: (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الملك: 30]، وقوله: (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص: 65]، وقوله: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [التكوير: 26]. فأسماء الاستفهام هي: (مَنْ - ما - متى - أين - كم - كيف - أي).

فائدة:

وأما: (الهمزة، هل) فهما حرفان لا يفيدان العموم. فائدة: قال المرداوي في "التحبير" (5/ 2345): (قال ابن قاضي الجبل وغيره: من، وما في الاستفهام للعموم، فإذا قلنا: من في الدار؟ حسن الجواب بواحد، فيقال مثلا: زيد، وهو مطابق للسؤال. فاستشكل ذلك قوم. وجوابه: أن العموم إنما هو باعتبار حكم الاستفهام، لا باعتبار الكائن في الدار، فالاستفهام عم جميع الرتب، فالمستفهم عم بسؤاله كل واحد يتصور كونه فيها، فالعموم ليس باعتبار الوقوع، بل باعتبار الاستفهام، واشتماله على كل الرتب المتوهمة. انتهى) وسبقه إلى ذلك القرافي، بل هو أخذه من كلامه). 4 - الأسماء الموصولة. مثل الشيخ لها في الأصل بقوله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33] وقوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69] وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [النازعات: 26] وقوله: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [آل عمران: 109]. وأسماء الموصولة هي: (الذي - التي - اللَّذان - اللَّتان - الَّذين - الَّلاتي - الَّلائي - مَنْ - ما - أيَّ. ملاحظة: لاحظ أن ((ما))، و ((من))، و ((أي)) تعم مطلقاً سواء كانت شروطاً، أو موصولات، أو استفهامية. فائدة - مَنْ للعاقل، وما لغير العاقل غالبا. - قال تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) [النور: 45] فجاءت من لغير العاقل. - وأما قوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [النساء: 3] فقال الشنقيطي في الأضواء (1/ 223): (عبر تعالى عن النساء في هذه الآية بما التي هي لغير العاقل في قوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) ولم يقل من طاب؛ لأنها هنا أريد بها الصفات لا الذوات. أي: ما طاب لكم من بكر أو ثيب أو ما طاب لكم لكونه حلالا وإذا كان المراد الوصف عبر عن العاقل بما كقولك ما زيد في الاستفهام تعنى أفاضل؟.

5 - النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام الإنكاري.

وقال بعض العلماء: عبر عنهن ب (مَا) إشارة إلى نقصانهن وشبههن بما لا يعقل حيث يؤخذ بالعوض والله تعالى أعلم.!). - وقد تستخدم ما للدلالة على العاقل وغير العاقل معا باعتبار تغليب أحدهما على الآخر كما في قوله تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [الفرقان: 17] قال الشنقيطي في الأضواء (6/ 33): (الأظهر عندي شمول المعبودين المذكورين للأصنام، مع الملائكة، وعيسى، وعزير ... عبر عن المعبودين المذكورين بما التي هي لغير العاقل فلفظة ما تدل على شمول غير العقلاء، وأنه غلب غير العاقل لكثرته). 5 - النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام الإنكاري. قال الشيخ في الأصل: (النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام الإنكاري كقوله تعالى: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 62]، [ص: 62 - 83]. (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) [النساء: 36]. (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب: 54]. (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ) [القصص: 71]). فائدتان: الأولى- النكرة المنفية أقوى في الدلالة على العموم من النكرة في سياق النفي: قال الزركشي في "معنى لا إله إلا الله" (ص / 99): (النكرة المنفية كما في كلمة الشهادة أقوى في الدلالة على العموم من النكرة في سياق النفي ولذلك قال سيف الدين الآمدي في أبكار الأفكار إن النكرة في سياق النفي لا تعم وإنما تعم النكرة المنفية). الثانية - النكرة في سياق الاستفهام الإِنكاري للعموم. قال الشيخ في "الشرح" (ص/254): (قوله: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) [الأنعام: 46]، هذا أيضًا نكرة في سياق الاستفهام الإِنكاري، وأما إذا كانت في سياق الاستفهام غير الإِنكاري فإنها لا تدل على العموم بل هي للإطلاق؛ لأنه لا يراد به النفي، وهي إنما كانت للعموم فِي سياق الاستفهام الإنكاري؛ لأن الاستفهام الإنكاري بمنزلة النفي، فإن قوله: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ) [القصص: 71] يوازن قوله: "لا إله غير الله يأتيكم بضياء " ولهذا كانت النكرة في سياق الاستفهام الإنكاري دالة على العموم. أما في سياق الإثبات فلا تدل على العموم، فلو قلتُ لك: " أكرِمْ رجلاً " فأكرمت

رجلاً واحدً، فقد امتثلت؛ لأنه يصدق عليه أنه رجل، ولو قلتُ: "أرجلاً أكرمتَ " .. استفهام يقصد به الاستعلام لا الإِنكار .. فلو قلتُ: "أرجلاً أكرمتَ " فهذا للعموم أم لا؟ ليس للعموم؛ لأنها نكرة في سياق الاستفهام لغير الإِنكار ولكنها للاستعلام؛ ولهذا لو قلتُ: أرجلاً أكرمتَ أم رجلين؟ صح الكلام، ولو كانت للعموم ما صح). 6، 7 - المعرف بالإضافة أو بأل الاستغراقية. ذكر الشيخ أن من صيغ العموم المعرف بالإضافة، أو بأل الاستغراقية مفرداً كان أم مجموعاً. قال ابن النجار في"شرح الكوكب" (3/ 129): ((و) من صيغ العموم أيضا (جمع مطلقا) أي سواء كان لمذكر أو لمؤنث، وسواء كان سالما أو مكسرا، وسواء كان جمع قلة أو كثرة (معرف) ذلك الجمع (بلام أو إضافة) مثال السالم من المذكر والمؤنث المعرف باللام: قوله تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ومثال جمع الكثرة من المذكر والمؤنث الرجال والصواحب. وجمع القلة (¬1): الأفلس (¬2) والأكباد، ومثال الجمع المعرف بالإضافة قوله تعالى: " {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وقيل: إن الجمع المذكر لا يعم، فلا يفيد الاستغراق. واستدل للأول الذي عليه أكثر العلماء والصحيح عنهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم في {السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين} في التشهد: {فإنكم إذا قلتم ذلك: فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض} رواه البخاري ومسلم. وعلى هذا الأصح: أن أفراده آحاد في الإثبات وغيره. وعليه أئمة التفسير في استعمال القرآن نحو قوله تعالى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} أي كل محسن وقوله تعالى {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} أي كل واحد منهم. ويؤيده صحة استثناء الواحد منه، نحو جاء الرجال إلا زيدا، وقيل: إن أفراده جموع، وكونه في الآيات آحاد ¬

_ (¬1) - أشهر الصيغ المستعملة في جموع القلة أربعة: 1 - أفعلة 2 - أفعل 3 - أفعال 4 - فعلة "بكسر، فسكون، ففتح". وانظر النحو الوافي (4/ 636). وجمع القلة من اثنين أو ثلاثة إلى عشرة وجمع الكثرة من أحد عشر إلى ما فوقه. (¬2) - جمع فُلس، والأكباد جمع كبد.

فوائد:

بدلالة القرينة (¬1)). فوائد: الأولى: قال الشيخ المعرف بأل، وذكر ابن النجار المعرف باللام. قال السبكي في "الأشباه والنظائر" وهو يتكلم عن صيغ العموم (2/ 119): (الألف واللام تكون اسمًا موصولًا بمعنى الذي وهي الداخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين وهذه عامة عموم الموصولات بأسرها وليست هي المعقودة لها المسألة (¬2). وتكون هي حرف تعريف - وإياه نعني - وللنحاة اختلاف في أن التعريف باللام أو مجموع الألف واللام واختلاف في أن "أل" حرف ثنائي همزته وصل؛ وذلك مذهب سيبويه أو همزته قطع وهو رأي ابن مالك، ومن أجل هذا الخلاف يقال: الألف واللام ويقال: أل وهو قول من جعله ثنائيًا همزته أصلية؛ فإنه يقول: أل ولا يقول: الألف واللام، كما لا نقول في قد: الدال والقاف: ويقال اللام وهو قول من جعل التعريف بها. والشأن في هذا سهل). قال ابن أم قاسم في "الجنى الداني": (أل لفظ مشترك؛ يكون حرفاُ، واسماً. فالاسم أل الموصولة، على الصحيح. وما سوى ذلك من أقسامها، فهو حرف. وجملة أقسامها أحد عشر قسماً: الأول: أن تكون حرف تعريف، ومذهب سيبويه أنه حرف ثنائي، وهمزته همزة وصل، معتد بها في الوضع، كالاعتداد بهمزة الوصل في استمع ونحوه، بحيث لا يعد رباعياً. وهذا هو أقرب المذاهب إلى الصواب، وقوفاً مع ظاهر اللفظ. وتقدم ذكر بقية المذاهب. واختار ابن مالك مذهب الخليل، وهو أن حرف التعريف ثنائي، وهمزته همزة قطع أصلية، ولكنها وصلت، لكثرة الاستعمال. ونصره في شرح التسهيل بأوجه، لا يسلم أكثر من الاعتراض. وقد بينت ذلك في غير هذا ¬

_ (¬1) - وقد تقوم قرينة على إرادة المجموع نحو رجال البلد يحملون الصخرة العظيمة أي مجموعهم، والصحيح في المذهب أن أفراده آحاد. (¬2) - قال الزركشي في البحر المحيط (2/ 247): (وعد الحنفية من الصيغ الألف واللام الموصولة الداخلة على اسم الفاعل والمفعول فلو قال لعبيده الضارب منكم زيدا حر ولنسائه الداخلة منكن الدار طالق عتق الجميع وطلق الكل لأن الألف واللام بمعنى الذي وهو ظاهر على القول الصحيح إنها اسم).

الثانية:

الكتاب. ثم أعلم أن من جعل حرف التعريف ثنائياً، وهمزته أصلية، عبر عنه ب أل. ولا يحسن أن يقول: الألف واللام، كما لا يقال في قد: القاف والدال. وكذلك ذكر عن الخليل. قال ابن جني: كان يقول أل، ولا يقول: الألف واللام. ومن جعل حرف التعريف اللام وحدها عبر باللام، كما فعل المتأخرون. ومن جعل حرف التعريف ثنائياً، وهمزته همزة وصل زائدة، فله أن يقول أل، وأن يقول: الألف واللام. وقد وقع في كتاب سيبويه التعبير بالأمرين. ولكن الأول أقيس). الثانية: قال الشيخ في "الشرح" (ص/256): (علامة الاستغراقية أن يحل محلها "كل" ... (إذا بلغ الأطفال) احذف "أل" وضع مكانها "كل" وإذا بلغ كل أطفال منكم الحلم فليستأذنوا فصارت "أل" الاستغراقية من صيغ العموم). الثالثة: قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/200): (قال محققو الأصوليين: لا فرق في الجموع المعرفة ((بأل)) بين جمع القلة والكثرة؛ لأن الاستغراق فيها مفهوم من الألف واللام. ولذا عم معهما المفرد - كما في: (السارق، السارقة، الزاني، الزانية) فأل هنا اسم موصول - كما ذكرنا آنفاً فكيف بالجمع).اهـ ومعنى قوله: (لا فرق) أي أن كل من هذه الصيغ يفيد العموم وإن كان بعضها أقوي في الدلالة على الاستغراق من بعض كما سيأتي التنبيه على ذلك قريبا بإذن لله تعالى. الرابعة: قال المرداوي في التحبير (5/ 2360): (قال البرماوي: زعم بعضهم أن القول بعموم الجمع المعرف إذا كان جمع قلة مشكل؛ لأنه إلى عشرة والعموم ينافي ذلك، وعنه أجوبة كثيرة: منها: جواب أبي المعالي: حمل كلام سيبويه والنحاة على المنكر وكلام الأصوليين على المعرف. ومنها: أن أصل الوضع في القلة ذلك، ولكن استعماله كالكثرة إما بعرف الاستعمال أو بعرف الشرع. ومنها: أن المقتضى للعموم إذا دخل على الواحد لا تدفعه وحدته فدخوله على جمع القلة لا يدفعه تحديده بهذا العدد من باب أولى ... ).

الخامسة:

نعم فهناك فرق بين قولي: أعطيت الرجل أفلسا، وبين: أعطيت الرجل الأفلس، فالأولى صيغة إطلاق وهي تبين أنني أعطيت الرجل إما اثنين، أو ثلاثة - على الخلاف في أقل الجمع - أو أربعة أو خمسة إلى عشرة. بخلاف الثانية فهي عامة في غير المحصور. الخامسة: قال الزركشي في "معنى لا إله إلا الله" (ص/ 90): (استغراق المفرد أكثر تناولا لأفراد المسمى من استغراق الجمع بدليل صحة لا رجال في الدار إذا كان فيها رجل أو رجلان دون لا رجل فإنه لا يصدق إذا كان فيها رجل أو رجلان ... إذا عرفت هذا فلا يخفى عليك لطف نفي المفرد في كلمة الشهادة). ومحل هذا في النفي (¬1) وأما في الإثبات فلا. فقال البستي كما نقله عنه ابن قدامة في "الروضة" (1/ 222): (الكامل في العموم هو الجمع لوجود صورته ومعناه وما عداه قاصر في العموم لأنه بصيغته إنما يتناول واحدا لكنه ينتظم جمعا من المسميات معنى فالعموم قائم بمعناها لا بصيغتها) وقال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 474): (وحاصل كلامه أن لفظ الجمع؛ كالمسلمين والمشركين، أكمل في باب العموم من غيره من ألفاظ العموم كالمفرد المعرف باللام، نحو: الزاني، والسارق، والفرق بينهما أن العموم قام بصيغة الجمع ومعناه. وتحقيق ذلك أن لفظه يفيد التعدد كما أن معناه متعدد، بخلاف اللفظ المفرد، فإن التعدد إنما هو في مدلوله لا في لفظه؛ فإنا إذا قلنا: الرجال، دل هذا اللفظ بوضعه على جماعة متعددة من ذكور بني آدم، بخلاف الرجل والسارق؛ فإنه إنما يدل بوضعه على واحد وهو ذات اتصفت بالسرقة، وعموم مدلوله إنما استفدناه من دليل منفصل، وهو كون هذا اللفظ أريد به الجنس أو غير ذلك. فعلى هذا: الجمع الذي له واحد من لفظه، كالمؤمنين، والذي لا واحد له من لفظه، كالناس، والجمع المضاف، كعبيد زيد، وكل وجميع أكمل عمومًا من أدوات الشرط، ¬

_ (¬1) - انظر التقرير والتحبير (1/ 249)، وتيسير التحرير (1/ 210).

أل العهدية:

ومن النكرة في سياق النفي نحو: لا رجل في الدار؛ لأن ألفاظها ليست جمعًا بالوضع على حد الرجال والمسلمين، وأدوات الشرط والنكرة المذكورة أكمل من المفرد المعرف؛ لأن ألفاظها وإن لم تكن صرائح في الجمع كما ذكرنا؛ فهي موضوعة له وتفيده بالجملة). أل العهدية: قال عباس حسن في"النحو الوافي" (1/ 423): (فأما"العهدية" فهي التي تدخل على النكرة فتفيدها درجة من التعريف تجعل مدلولها فردًا معينًا بعد أن كان مبهمًا شائعًا. وسبب هذا التعريف والتعيين يرجع لواحد مما يأتي: 1 - أن النكرة تذكر في الكلام مرتين بلفظ واحد، تكون في الأول مجردة من "أل" العهدية، وفي الثانية مقرونة "بأل" العهدية التي تربط بين النكرتين، وتحدد المراد من الثانية: بأن تحصره في فرد واحد هو الذي تدل عليه النكرة الأولى. نحو: نزل مطر؛ فأنعش المطر زروعنا. أقبلت سيارة، فركبت السيارة. وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}. فكل كلمة من الثلاث: "مطر - سيارة - رسول" وأشباهها قد ذكرت مرتين؛ أولاهما بغير "أل" فبقيت على تنكيرها، وثانيتهما مقرونة بأل العهدية التي وظيفتها الربط بين النكرتين ربطًا معنويًّا يجعل معنى الثانية فردًا محدودًا محصورًا فيما دخلت عليه وحده، والذي معناه ومدلوله هو النكرة السابقة ذاتها. وهذا التحديد والحصر هو الذي جعل الثانية معرفة؛ لأنها صارت معهودة عهدًا ذِكْريًّا، أي: معلومة المراد والدلالة، بسبب ذكر لفظها في الكلام السابق ذكرًا أدى إلى تعيين الغرض وتحديده بعد ذلك، وأن المراد في الثانية فردٌ معين؛ هو السابق، وهذا هو ما يسمى: "بالعهد الذِّكْري". 2 - وقد يكون السبب في تعريف النكرة المقترنة بأل العهدية هو أن "أل" تحدد المراد من تلك النكرة، وتحصره في فرد معين تحديدًا أساسه علم سابق في زمن انتهى قبل الكلام، ومعرفة قديمة في عهد مضى قبل النطق، وليس أساسه ألفاظًا مذكورة في الكلام الحالي. وذلك العلم السابق ترمز إليه "أل" العهدية وتدل عليه، وكأنها عنوانه. مثال ذلك؛ أن يسأل طالب زميله: ما أخبار الكلية؟ هل كتبت المحاضرة؟ أذاهب إلى البيت؟ فلا شك أنه يسأل عن كلية معهودة لهما من قبل، وعن محاضرة وبيت

فائدة:

معهودين لهما كذلك. ولا شيء من ألفاظ السؤال الحالية تشير إلى المراد إلا: "أل"؛ فإنها هي التي توجه الذهن إلى المطلوب. وهذا هو ما يسمى: "العهد الذهني" أو: "العهد العِلمي". 3 - وقد يكون السبب في تعريف تلك النكرة حصول مدلولها وتحققه في وقت الكلام، بأن يبتدئ الكلام خلال وقوع المدلول وفى أثنائه؛ كأن تقول: "اليوم يحضر والدي". "يبدأ عملي الساعة"، "البرد شديد الليلة" ... تريد من "اليوم" و"الساعة" و"الليلة"؛ ما يشمل الوقت الحاضر الذي أنت فيه خلال الكلام. ومثل ذلك: أن ترى الصائد يحمل بندقيته فتقول له: الطائر. أي: أصبْ الطائر الحاضر وقت الكلام. وهذا هو"العهد الحضوري". فأنواع العهد ثلاثة: "ذِكْرِيّ"، و"ذهنيّ أو علميّ"، و"حضوري" ... ). قال السيوطي في "الإتقان " (1/ 439): (العهدية إما أن يكون مصحوبها معهودا ذكريا نحو {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} {فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ} وضابط هذه أن يسد الضمير مسدها مع مصحوبها أو معهودا ذهنيا نحو {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} أو معهودا حضوريا نحو {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} قال ابن عصفور وكذا كل واقعة بعد اسم الإشارة، أو أي في النداء وإذا الفجائية، أو في اسم الزمان الحاضر نحو الآن) (¬1). فائدة: قال ابن بدران في "نزهة الخاطر" (2/ 82): (ما عرف بلام العهد لا يكون عاما؛ لأنه يدل على ذات معينة نحو لقيت رجلا فقلت للرجل) (¬2). وقال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (3/ 132): (و "لا" يعم " - أي: "اسم جنس معرف تعريف جنس" - مع قرينة عهد" اتفاقا. وذلك كسبق تنكير نحو قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} لأنه يصرفه إلى ذلك فلا يعم إذا عرف ونحو قوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} ... ). ¬

_ (¬1) - وانظر: الأشباه والنظائر للسبكي (2/ 119)، همع الهوامع للسيوطي (1/ 309). (¬2) - انظر: شرح مختصر الروضة (2/ 466)،

تنبيه:

وقال (3/ 133): ("و"من صيغ العموم أيضا "مفرد محلى بلام غير عهدية لفظا" كالسارق والزاني والمؤمن والفاسق والعبد والحر عندنا وعند أكثر العلماء) وقال الجويني في "البرهان في أصول الفقه" (1/ 233): (من سبق تنكيره وظهر ترتيب التعريف عليه فهو غير محمول على استغراق الجنس وفاقا). ونحو هذا كثير في كلامهم. تنبيه: إذا تقرر هذا علمت ما في قول الشيخ: (وأما المعرف بأل العهدية فإنه بحسب المعهود فإن كان عامّاً فالمعرف عام وإن كان خاصّاً فالمعرف خاص). أل التي لبيان الجنس: قال عباس حسن في"النحو الوافي" (1/ 425): ("أل الجنسية" فهي الداخلة على نكرة تفيد معنى الجنس المحض من غير أن تفيد العهد. ومثالها؛ النجم مضيء بذاته، والكوكب يستمد الضوء من غيره ... فالنجم، والكوكب، والضوء، معارف بسبب دخول "أل" على كل منها، وكانت قبل دخولها نكرات "وشأن النكرات كشأن اسم الجنس (¬1) لا تدل على واحد معين" وليس في الكلام ما يدل على العهد. ولدخول "أل" هذه على الأجناس سميت: "أل" "الجنسية". وهى أنواع من ناحية دلالتها المعنوية، ومن ناحية إفادة التعريف. 1 - فمنها التي تدخل على واحد من الجنس فتجعله يفيد الشمول والإحاطة بجميع أفراده إحاطة حقيقة؛ لا مجازًا ولا مبالغة، بحيث يصح أن يحل محلها لفظة "كل" فلا يتغير المعنى، نحو: النهر عذب، النبات حي، الإنسان مفكر، المعدن نافع ... فلو قلنا: كل نهر عذب، كل نبات حي، كل إنسان مفكر، كل معدن نافع ... يحذف "أل" في الأمثلة كلها وضع كلمة: "كل" مكانها - لبقي المعنى على حالته الأولى. وما تدخل عليه "أل" من هذا النوع يكون لفظه معرفة؛ تجري عليه أحكام المعرفة، ويكون معناه معنى النكرة المسبوقة بكلمة: كل؛ فيشمل كل فرد من أفراد مدلولها، مثل كلمة "المَلِك" في قول الشاعر: ¬

_ (¬1) سوف يأتي - بإذن الله - الكلام على اسم الجنس والمطلق، والفرق بينهما في باب المطلق.

إذا الملك الجبَّار صَعَّر خَدَّه ... مَشَيْنا إليه بالسيُوف نعاتبهْ (¬1) 2 - ومنها التي تدخل على واحد من الجنس، فتجعله يفيد الإحاطة والشمول؛ لا بجميع الأفراد، ولكن بصفة واحدة من الصفات الشائعة بين تلك الأفراد ... نحو: أنت الرجل علمًا، وصالحٌ هو الإنسان لطفًا، وعليّ هو الفتى شجاعة. تريد: أنت كل الرجال من ناحية العلم، أي: بمنزلتهم جميعًا من هذه الناحية، فإنك جمعت من العلم ما تفرق بينهم؛ ويُعَدّ موزعًا عليهم بجانب علمك الأكمل المجتمع فيك؛ فأنت تحيط بهذه الصفة "صفة العلم" إحاطة شاملة لم تتهيأ إلا للرجال كلهم مجتمعين. وكذلك صالح من ناحية الأدب؛ فهو فيه بمنزلة الناس كلهم؛ نال منه ما نالوه مجتمعين. وكذلك علي؛ بمنزلة الفتيان كلهم في الشجاعة؛ أدرك وحده من هذه الصفة ما توزع بينهم، ولم يبلغوا مبلغه إلا مجتمعين. وحكم ما تدخل عليه "أل" من هذا النوع كحكم سابقه لفظًا ومعنى. 3 - ومنها التي لا تفيد نوعًا من نوعي الإحاطة والشمول السابقين؛ وإنما تفيد أن الجنس يراد منه حقيقته القائمة في الذهن. ومادته التي تكوّن منها في العقل بغير نظر إلى ما ينطبق عليه من أفراد قليلة أو كثيرة، ومن غير اعتبار لعددها. وقد يكون بين تلك الأفراد ما لا يَصدق عليه الحكم.، نحو: الحديد أصلب من الذهب، الذهب أنفس من النحاس. تريد: أن حقيقة الحديد "أي: مادته وطبيعته" أصلب من حقيقة الذهب "أي: من مادته وعنصره" من غير نظر لشيء معين من هذا أو ذاك؛ كمفتاح من حديد، أو خاتم من ذهب؛ فقد توجد أداة من نوع الذهب هي أصلب من أداة مصنوعة من أحد أنواع الحديد؛ فلا يمنع هذا من صدق الحكم السالف الذي ينص على أن الحديد في حقيقته أصلب من الذهب في حقيقته من غير نظر إلى أفراد كل منهما -كما سبق- إذ إنك لا تريد أن كل قطعة من الأول أصل من نظيرتها في الثاني؛ لأن الواقع يخالفه ومثل هذا أن تقول: الرجل أقوى من المرأة، أي: أن حقيقة الرجل وجنسه من حيث عنصره المتميز -لا من حيث أفراده- أقوى من حقيقة المرأة وجنسها من حيث هي كذلك، من غير أن تريد أن كل واحد من الرجال أقوى من كل واحدة من النساء؛ لأنك ¬

_ (¬1) صعر خده: أماله وحوله عن ناحية الناس، كي لا يراهم، ترفعًا منه، وكبرًا.

تنبيه:

لو أردت هذا لخالفك الواقع. وهكذا يقال في: الذهب أنفس من النحاس، وفي: الصوف أغلى من القطن، وفي: الفحم أشد نارًا من الخشب ... وفي الماء، والتراب، والهواء، والجماد، والنبات. تقول: الماء سائل: أي: أن عنصره وطبيعته من حيث هي مادة تجعله في عِداد السوائل، من غير نظر في ذلك إلى أنواعه، أو أفراده، أو شيء آخر منه؛ فتلك حقيقته؛ أي: مادته الأصلية التي قام عليها. وتقول: التراب غذاء النبات، أي: أن عنصره وطبيعته كذلك؛ فهي حقيقته الذاتية، وماهيته التي عرف بها من حيث هي. وتقول: الهواء لازم للأحياء؛ أي: أن عنصره ومادته وحقيقته كذلك ... وهكذا. وتسمى "أل" الداخلة على هذا النوع "أل" التي للحقيقة، أو: للطبيعة، أو للماهية فلا علاقة لها بالإحاطة بالأفراد، أو بصفاتهم، أو بعدم الإحاطة. وتفيد ما دخلت عليه نوعًا من التعريف يجعله في درجة عَلَم كالجنس لفظًا ومعنى. فمعاني "أل الجنسية" إما إفادة الإحاطة والشمول بكل أفراد الجنس حقيقة، لا مجازًا، وإما إفادة الإحاطة والشمول لا بأفراد الجنس؛ وإنما بصفة من صفاته وخصائصه على سبيل المبالغة والادعاء ... وإما بيان الحقيقة الذاتية، دون غيرها. تنبيه: وبعد هذا التفصيل وبيان أنواع أل الجنسية يتبين أن مقصود الشيخ الإشارة للنوع الثالث دون النوعين الآخرين. قال في "الشرح" (ص/258): (وأما المعرف "بأل" التي لبيان الجنس؛ فلا يعم الأفراد، فإذا قلت: الرجل خير من المرأة، أو الرجال خير من النساء، فليس المراد أن كل فرد من الرجال خير من كل فرد من النساء، وإنما المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس، وإن كان قد يوجد من أفراد النساء من هو خير من بعض الرجال. إذًا التي لبيان حقيقة الجنس لا تدل على العموم، والسبب لأنها ليس فيها شيء عام، عندما أقول: الرجل أو الرجال خير من المرأة، ليس معناه أن كل رجل خير من كل امرأة بدليل أنه يوجد من بعض النساء من هو خير من بعض الرجال، فلما لم تصدق هذه الكلية على سبيل العموم علمنا أن "أل " هنا ليست للعموم).

فائدة (كان يفعل):

فائدة (كان يفعل): قال الشيخ في "الشرح" (ص/106): (وقوله: (والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق فلا عموم له): الفعل بكل أقسامه يفيد الإطلاق فليس له عموم إلا بقرينة ولهذا إذا قلت: صام زيد يوم الاثنين، فلا يدل هذا على أنه يصوم كل اثنين!! إنما يدل على أنه صام يوم الاثنين فقط ولو مرة واحدة، لكن إن وجد قرينة فتعم، كما لو قيل: كان يصوم يوم الاثنين، فكلمة: "كان" تفيد الاستمرار غالبًا، ونقول: فإن العموم منها بلفظ "كان " ... ). وقال الشيخ في منظومته في أصول الفقه وقواعده: وكانَ تَأتي للدَّوَامِ غالباً ... وليس ذا بِلازِمٍ مُصَاحِباً واعلم أن العلماء اختلفوا في صيغة الفعل المضارع إذا دخلت عليه "كان" ماذا تفيد على خمسة أقوال: الأول - أنها تفيد التكرار، وقد اختلف القائلون بهذا فجزم القاضي أبو بكر بأنها تقتضيه لغة، ونقل أبو الحسين في المعتمد عن عبد الجبار أنها تقتضيه عرفا لا لغة، وقال المرداوي في "التحبير" (5/ 2439): (وهو قوي جدا). الثاني - المواظبة والدوام. الثالث - العموم. الرابع - مطلق الفعل (¬1). الخامس - أنه لا تقتضي التكرار لا لغة ولا عرفا، واختاره في المحصول وقال النووي في شرح مسلم إنه المختار الذي عليه أكثر المحققين من الأصوليين. وجميعها أقوال في المذهب (¬2) ¬

_ (¬1) ذكر هذا مجد الدين في المسودة (ص/104) فقال بعد أن نقل أقوال أبي يعلى، والكلوذاني في المسألة: (فصارت الأقوال ثلاثة مطلق الفعل والعموم والتكرار). (¬2) وغالب أقوال الأصحاب بأنها تقتضي التكرار، أو لا تقتضيه بدون تفصيل بين اللغة والعرف إلا ما كان من المرداوي كما سبق النقل عنه، انظر: أصول ابن مفلح (1/ 843)، التحبير (5/ 2436)، شرح الكوكب (3/ 215)، وانظر أيضا: البحر المحيط (2/ 327)، الكوكب الساطع (ص/172) تشنيف المسامع (1/ 350)، حاشية العطار على جمع الجوامع (2/ 24)، حاشية البناني على جمع الجوامع (1/ 425)، شرح مسلم للنووي (9/ 68)، وأضواء البيان (1/ 289).

وقد توسع الشيخ الأشقر في عرض الأقوال الثلاثة الأول وناقشها فقال في "أفعال الرسول" (1/ 489): ((كان يفعل) والمراد به الفعل المضارع الذي دخلت عليه كان إذا عبّر به الصحابي عن شيء من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل هي دالة على مجرد وقوع الفعل منه، أم على التكرار والمواظبة، وهل تدل على العموم؟ ا- التكرار: أما دلالتها على التكرار، فذلك واضح لا خفاء به. وقال ابن دقيق العيد: (يقال: كان فعل كذا، بمعنى أنه تكرر منه فعله وكان عادة له، كما يقال: كان فلان يقري الضيف. وقد اختلف الأصوليون من أين جاءت الدلالة على التكرار: فقيل من (كان)، وهو ظاهر كلام الشاطبي ... وبه قال ابن الحاجب. وقيل من مجموع كان والفعل المضارع. وهو ظاهر كلام المحلى. ونقله صاحب تيسير التحرير. وقيل من الفعل المضارع وحده. وهذا عندي هو الصحيح من هذه الأقوال. فإن المضارع وحده يدل على التكرار والعادة المستمرة، كقولهم فلان يقري الضيف، وينفق ماله في أبواب الخير. وقد يدل على المرة الواحدة لكن بشرط استمراره برهة قبل زمن التكلم حتى وقت التكلم. فإذا جاءت (كان) قبل المضارع نقلت معنى التكرار من الحاضر إلى الماضي، ولم تزد على ذلك، فمن أين جاءت بالتكرار؟ وأيضا: لو أنها دلت على التكرار مع المضارع لدلت عليه مع الفعل الماضي لكنها لم تدل عليه، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ) [الأحزاب: 15] لا يعني أنهم عاهدوه أكثر من مرة. وقد ذكر ابن دقيق العيد أنه يجوز أن تستعمل (كان يفعل) لإفادة مجرد وقوع الفعل، وذلك صادق بالمرة الواحدة، فلا يدل على التكرار. لكنه يقول: الأول- وهو إفادة التكرار - أكثر في الاستعمال.

وأشار إلى ذلك أيضا صاحب تيسير التحرير، فإنه قال: إن إفادة (كان يفعل) التكرار أكثرية لا كلية. وعندي أن إفادة (كان يفعل) للمرة الواحدة، حق، ولكن في بعض المواقع دون بعض. فإنا قد ذكرنا أن المضارع المجرّد من (كان) قد يدل على المرة إن كان الفعل مستمرا إلى زمن التكلم، فإذا دخلت عليها (كان) أفادت ذلك الاستمرار في الزمن الماضي إلى لحظة معينة من الماضي. ومثاله أن تقول: (الخطيب يتكلم الآن على المنبر) فإذا أردت نقل ذلك إلى الماضي مع استمرار الفعل إلى وقت معين، تقول مثلاَ: دخلت المسجد وكان الخطيب يتكلم. فهذا استعمال آخر غير الاستعمال الأول، ولكل منهما موضعه، ولا يتوارد الاستعمالان على موضع واحد. وعلامة هذا النوع أن يذكر أمر كالدخول في المثال السابق، ويكون الفعل سابقا له مستمراً إليه. فما عدا هذا النوع تكون دلالته على التكرار كلية لا أكثرية فقط. فهذا تو ضيح لما في كلام ابن دقيق العيد من الإجمال. 2 - المواظبة والدوام: ومعناه عدم تخلل الترك. فهو أخص من التكرار. فإن تكرار الشيء هو فعله مرتين أو ثلاثاً أو أكثر، وهو واضح في (كان يفعل). أما الدوام الذي لا يتخلله ترك، فقد ادعاه في هذا التركيب (كان يفعل) بعض الحنابلة، ونسبه ابن تيمية (¬1) إلى أبي يعلى وأبي الخطاب الحنبليين. واستدل به أبو يعلى على الوجوب، وقال في حديث عبدالله بن زيد في استيعاب مسح الرأس: (هذا إخبار عن دوام فعله، وإنما يداوم على الواجب) ويعني بالدوام ما لم يتركه ولو مرة ... الذي أريد هنا بيانه أن (كان يفعل) لا تدل على الدوام، وإنما تدل على التكرار والعادة الماضية. ودليلنا على أن (كان يفعل) لا تدل على الدوام، أنها تدل في الماضي على ما يدل عليه (يفعل) في الحاضر، وقولنا (زيد يقري الضيف) لا يدل على أن قراه للضيف لا ¬

_ (¬1) انظر كلام المجد في المسودة (ص/104).

يتخلف البتة، بل يدل على أن عادته وأغب أحواله أن يقري الضيف. فكذلك (كان يقري الضيف) تدل على مثل ذلك في الماضي. 3 - العموم: وقد ادعى الكثيرون أن (كان يفعل) تدل أيضا على العموم في أقسام الفعل وأوجهه. وهي غير مسألة دلالة هذا التركيب على المواظبة فان المواظبة تعني تكرار الفعل دائماً عند تكرر المناسبات، وأما العموم فأن يفعله بجميع أقسامه، وعلى جميع الأوجه من الهيئات أو الأماكن أو غير ذلك. وروى القول بالعموم في صيغة (كان يفعل) (¬1) أبو يعلى، وهو ظاهر كلام الأمدي (¬2). وقد روى البخاري الحديث (كان - صلى الله عليه وسلم - يجمع الصلاتين في السفر) فقال البعض بأن ذلك يعم الجمع في السفر القصير، وفي السفر الطويل. وقول من ادّعى العموم مردود بما قال ابن قاسم في شرح الورقات: (يمكن أن يجاب بأن كان يفعل، وإن أفادت التكرار، فان كل مرة من مرات التكرار لا عموم فيها، لأنها إنما تقع في أحد السفرين، فالمجموع لا عموم فيه، إذ المركب مما لا عموم فيه لا عموم فيه. واحتمال أن بعض المرات في أحد السفرين، وبعضهما في الآخر، غير معلوم ولا ظاهر (¬3). فصار اللفظ مجملاً بالنسبة للسفر القصير كما أشار إليه الشيخ أبو إسحاق في اللمع) ... ). ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق نفس الموضع. (¬2) قال الآمدي في "إحكامه" (2/ 272): (قول الراوي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر فإنه يحتمل وقوع ذلك في وقت الأولى ويحتمل وقوعه في وقت الثانية وليس في نفس وقوع الفعل ما يدل على وقوعه فيهما بل في أحدهما، والتعين متوقف على الدليل. وأما وقوع ذلك منه صلى الله عليه وسلم متكررا على وجه يعم سفر النسك وغيره فليس أيضا في نفس وقوع الفعل ما يدل عليه بل إن كان ولا بد فاستفادة ذلك إنما هي من قول الراوي كان يجمع بين الصلاتين. ولهذا فإنه إذا قيل كان فلان يكرم الضيف يفهم منه التكرار دون القصور على المرة الواحدة). (¬3) الإمام الجويني في الورقات ومن شرحها كالشيخ العبادي وغيره يتكلمون هنا على رد دعوى العموم في الأفعال، وما يجرى مجراها كالقضايا، قال المارديني في "الأنجم الزاهرات على حل ألفاظ الورقات" (ص/142): (قال: (والعموم من صفات النطق، فلا يجوز دعوى العموم في الأفعال، وما يجري مجراها). أقول: يشير إلى أن العموم لا يكون إلا في الملفوظ، فلا يؤخذ من الأفعال كما يقال: إنه عليه السلام ' جمع في السفر بين صلاتين ' فلا يؤخذ من فعله العموم؛ لأن السفر قد يكون طويلاً وقد يكون قصيراً، فعلم أن الفعل لا يفيد العموم بل لابد من النطق ... ). نعم الأفعال لا توصف بالعموم، وصيغة (كان يجمع) لا تعم بذاتها وقتي الصلاتين المجموعتين ولا تعم كل سفر كسفر النسك، وغيره - كما سيأتي بإذن الله كلام ابن النجار عند الكلام على مسألة (الفعل المثبت لا يعم)، ولكن العموم قد يستفاد من غيرها كما في إعمال أل الاستغراقية في قوله (السفر)، وعليه فهذا المثال الذي ذكره فيه نظر بالنسبة لشموله للسفر الطويل والقصير، وإيضاحه في مقدمتين: الأولى - أن سلمنا أن (كان يفعل) تفيد التكرار كما قال أبو قاسم العبادي نفسه في "شرح الورقات" (ص/245): (والأولى أن يجاب بأنا سلمنا التكرار ... ). الثانية - بإعمال العموم في أل الاستغراقية في قوله: (السفر) ليشمل السفر القصير والطويل. والنتيجة أن الجمع بين الصلاتين تكرر في عموم السفر سواء أكان طويلا أم قصيرا. وأما جعله اللفظ مجملا بالنسبة للسفر القصير فهذا فيه إهمال لدلالة العام وتعطيل لها مع عدم وجود مخصص، وسوف يأتي قريبا بإذن الله مناقشة ذلك عند قول الماتن (يجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه). وقد راجعت شرح الشيخ العثيمين على التعبيرات الواضحات على شرح الورقات فوجدته في الشريط السادس الوجه الثاني قد وافق الشيخ على أن فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يوصف بالعموم ولكنه ذكر أن هذا المثال الذي ذكره فيه نظر، وفيه تعطيل للعموم في كلمة السفر، فالحمد لله على توفيقه.

ومن تتبع الأدلة الشرعية الوارد فيها استعمال صيغة (كان يفعل) يجد أن بعضها يدل على عدم التكرار، والبعض يدل على التكرار، وقد رأيت البعض يقول أن الأصل فيها أن تستعمل للمرة الواحدة، والتكرار يحتاج لدليل، والبعض يعكس ويقول أنها تستعمل للتكرار إلا لدليل. قال النووي في "شرح مسلم" (6/ 21): (المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أن لفظه كان لا يلزم منها الدوام ولا التكرار وإنما هي فعل ماض يدل على وقوعه مرة فإن دل دليل على التكرار عمل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها وقد قالت عائشة رضي الله عنها كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن

العمل بالعام:

يطوف ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد أن صحبته عائشة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع فاستعملت كان في مرة واحدة ولا يقال لعلها طيبته في إحرامه بعمرة لأن المعتمر لا يحل له الطيب قبل الطواف بالإجماع فثبت أنها استعملت كان في مرة واحدة كما قاله الأصوليون). وقال أيضا (9/ 68): ((عن جابر بن عبد الله قال كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة) هذا فيه دليل للمذهب الصحيح عند الأصوليين أن لفظ كان لا يقتضي التكرار لأن إحرامهم بالتمتع بالعمرة إلى الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم إنما وجد مرة واحدة وهي حجة الوداع والله سبحانه وتعالى أعلم). قال المرداوي في " التحبير" (5/ 2439): (قال البرماوي: والتحقيق ما قاله ابن دقيق العيد: إنها تدل على التكرار كثيرا، كما يقال: كان فلان يقري الضيف، ومنه كان النبي أجود الناس. الحديث. ولمجرد الفعل قليلا من غير تكرر، نحو: كان النبي يقف بعرفات عند الصخرات، وقول عائشة: كنت أطيب النبي لحله وحرمه. ولم يقع وقوفه بعرفة وإحرامه وعائشة معه إلا مرة واحدة. ومنه: ما في سنن أبي داود بسند صحيح عن عائشة، وهي تذكر شأن خيبر: كان النبي يبعث عبدالله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص النخل. فهذا لا يمكن فيه التكرار؛ لأن فتح خيبر كان سنة سبع، وعبد الله بن رواحة قتل في غزوة مؤتة سنة ثمان). الترجيح: الأقوى عندي هو أن كان يفعل تدل على التكرار إلا لقرينة. العمل بالعام: قال الشيخ: (يجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه). وقال في "الشرح" (ص/260): (يجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه. وعندنا دليل وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الحمر قال: (لم ينزل علي َّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) [سورة الزلزلة]) فهنا استعمل الرسول عليه الصلاة والسلام العمل بالعموم. فإذا العمل بالعموم واجب؛ لأن النبي

- صلى الله عليه وسلم - عمل به وهو المشرِّع، فكأنه بعمله هذا يقول لنا اعملوا كذلك. وهذا تعليل عقلي). وهذا الذي اختاره الشيخ هو أحد قولي المذهب. قال تقي الدين في "مجموع الفتاوي" (19/ 166): (العام الذي كثرت تخصيصاته المنتشرة أيضا لا يجوز التمسك به إلا بعد البحث عن تلك المسألة هل هي من المستخرج أو من المستبقى وهذا أيضا لا خلاف فيه. وإنما اختلف العلماء في العموم الذي لم يعلم تخصيصه أو علم تخصيص صور معينة منه هل يجوز استعماله فيما عدا ذلك قبل البحث عن المخصص المعارض له فقد اختلف في ذلك أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وذكروا عن أحمد فيه روايتين وأكثر نصوصه على أنه لا يجوز لأهل زمانه ونحوهم استعمال ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وهذا هو الصحيح الذي اختاره أبو الخطاب وغيره فان الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض). وقد بحث هذه المسألة الشيخ عياض السلمي (¬1) حيث قال: (الذي يظهر لي بعد استعراض أهم الآراء وأدلتها أن الراجح هو التفريق بين العلماء المجتهدين الذين أحاطوا بغالب نصوص الشريعة، وحصلوا من العلم ما يمكنهم من معرفة مراد الشارع، وسبروا غور النصوص فعرفوا الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، وعرفوا مواطن الإجماع والاختلاف، والعوام ومن يلحق بهم من المنتسبين إلى الفقه الذين أخذوا من العلم ما لا يؤهلهم للفتيا وتولي القضاء. فالقسم الأول لا ينبغي الخلاف في أن أحدهم إذا بلغته آية عامة أو حديث عام ولم يبلغه ما يخصصه، مع تمرسه بالأدلة المنقولة والمعقولة، أنه يجب عليه العمل به إذا حان وقت العمل من غير توقف، ولا يجب عليه البحث عما عساه أن يجده من مخصص أو ناسخ. ¬

_ (¬1) انظر البحث الذي نشر في مجلة البحوث الإسلامية العدد الخامس والعشرين ولقد اقتصرت على ذكر ما رجحه، ومن رام التفصيل في المسألة فعليه بالبحث المشار إليه.

فرع - هل يكفى غلبة الظن بعدم المخصص:

أما العوام ومن في حكمهم فليس لأحد منهم أن يفتي أو يحكم بالعموم على ظاهره؛ لأنهم ليسوا من أهل الفتيا والحكم، وليسوا مخاطبين بهما ... ويبدو لي أن الذين نقل عنهم المنع من العمل بالعام قبل البحث عن المخصص إنما منعوه لأحد أمرين: الأول: أنهم لا يقصدون بالبحث عن المخصص استقصاء موارد الأدلة جميعها، وإنما يقصدون مجرد التروي واسترجاع المعلومات السابقة لعرض الدليل العام عليها، فإن وجدوا فيها ما يخصصه خصصوه، وإلا عملوا به في عمومه. وهذا ظاهر من قول أبي زيد الدبوسي: (وأما الفقيه فيلزمه أن يحتاط لنفسه، فيقف ساعة لاستكشاف هذا الاحتمال بالنظر في الأشباه، مع كونه حجة للعمل به إن عمل، لكن يقف احتياطا حتى لا يحتاج إلى نقض ما أمضاه بتبين الخلاف) (¬1). الثاني: أنهم إنما منعوا ذلك خوفا من أن يقدم كل أحد على العمل بالعموم، والحكم به، وإن كان من غير أهل الاجتهاد، ولا شك أنه لو أذن لغير المجتهدين في أن يعملوا بالعموم من غير بحث عن المخصص لتعطل كثير من نصوص الشريعة الخاصة للجهل بها، وعدم البحث عنها ... ). فرع - هل يكفى غلبة الظن بعدم المخصص: قال ابن اللحام في "القواعد والفوائد الأصولية" (ص/13): (إذا قلنا على رواية اختارها أبو الخطاب وغيره يمنع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص فهل يشترط حصول اعتقاد جازم بأنه لا مخصص أو يكفى غلبة الظن بعدمه فيه خلاف اختار القاضي أبو بكر الأول وابن سريج وإمام الحرمين والغزالي الثاني) ونص عبارة الغزالي في "المستصفى" (ص/257): (والمختار عندنا أن تيقن الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز بل عليه تحصيل علم وظن باستقصاء البحث أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع ويحس من نفسه بالعجز يقينا فيكون العجز عن ¬

_ (¬1) فواتح الرحموت (1/ 267).

العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:

العثور على الدليل في حقه يقينا وانتفاء الدليل في نفسه مظنون وهو الظن بالصحابة في المخابرة ونظائرها وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر). ولا شك أن من عجز عن تمام اليقين فليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قوي غالب على ظنه. العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: قال الشيخ: (وإذا ورد العام على سبب خاص وجب العمل بعمومه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله فيختص بما يشبهها). وقال في "الأصل" (ص/36): (مثال ما لا دليل على تخصيصه: آيات الظهار فإن سبب نزولها ظهار أوس بن الصامت والحكم فيه عام فيه وفي غيره. ومثال ماد دل الدليل على تخصيصه قوله صلي الله عليه وسلم: (ليس من البر الصيام في السفر) فإن سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال: (ما هذا؟ قالوا صائم. فقال: " ليس من البر الصيام في السفر) فهذا العموم خاص بمن يشبه حال هذا الرجل وهو من يشق عليه الصيام في السفر والدليل على تخصيصه بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر حيث كان لا يشق عليه ولا يفعل صلى الله عليه وسلم ما ليس ببر). هذا الذي اختاره الشيخ هو الراجح من قولي الحنابلة في المسألة. قال ابن اللحام في " القواعد والفوائد" (ص/ 240): (إذا ورد دليل بلفظ عام مستقبل ولكن على سبب خاص فهل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب في ذلك مذهبان: أحدهما العبرة بعموم اللفظ وهو قول أحمد وأصحابه ... والمذهب الثاني العبرة بخصوص السبب وذكره أبو العباس رواية عن أحمد ... وحكاه القاضي في الكفاية عن بعض أصحابنا ... ). قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/209): (تحرير المقام في هذه المسألة أن العام الوارد على سبب خاص له ثلاث حالات:

(تنبيه)

الأولى: أن يقترن بما يدل على العموم فيعم إجماعا كقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38] لأن سبب نزولها المخزومية التي قطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها والإتيان بلفظ السارق الذكر يدل على التعميم وعلى القول بأنها نزلت في الرجل الذي سرق رداء صفوان بن أمية في المسجد فالإتيان بلفظ السارقة الأنثى دليل على التعميم أيضاً. الثانية: أن يقترن بما يدل على التخصيص فيخص إجماعا كقوله تعالى: (خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب: 50]. الثالثة: ألا يقترن بدليل التعميم ولا التخصيص وهي مسألة المؤلف. والحق فيها أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيعم حكم آية اللعان النازلة من عويمر العجلاني وهلال. وآية الظهار النازلة في امرأة أوس بن الصامت وآية الفدية النازلة في كعب بن عجرة. وآية: (وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء: 7] النازلة في ابنتي سعد بن الربيعة. وهكذا. (تنبيه) فان قيل: ما الدليل على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ فالجواب: أن ذلك دل عليه الوحي واللغة أما الوحي فان هذه المسألة سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفتى بذلك , وذلك أن الأنصاري الذي قبل الأجنبية ونزلت فيه: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود: 114] الآية. قال للنبي: ألي هذا وحدي يا رسول الله. ومعنى ذلك هل حكم هذه الآية يختص بي لأني سبب نزولها؟ فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن العبرة بعموم لفظ: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) لا بخصوص السبب حيث قال له: (بل لأمتي كلهم) وهو نص نبوي في محل النزاع. ومن الأحاديث الدالة على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أيقظ علياً وأمره وفاطمة بالصلاة من الليل، وقال له على رضي الله عنه: إن أرواحنا بيد الله إن شاء بعثنا ولي صلى الله عليه وسلم يضرب فخذه ويقول: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) [الكهف: 54]، فجعل عليا داخلاً فيها مع أن سبب نزولها الكفار الذين يجالدون في القرآن. وخطابه صلى الله عليه وسلم لواحد كخطابه للجميع كما تقدم ما لم يقم دليل

الخاص

على الخصوص. وأما اللغة فان الرجل لو قالت له زوجته: طلقني فطلق جميع نسائه لا يختص الطلاق بالطالبة التي هي السبب ... ). الخاص تعريف الخاص: أ - لغة: قال الشيخ: (الخاص لغة: ضد العام). العام لغة بمعنى الشامل، والخاص ضده فيكون بمعنى: المنفرد من قولهم: اختص فلان بكذا أي انفرد به. قال ابن منظور في "لسان العرب" مادة: خ ص ص: (خصّه بالشيء يخُصّه خَصّاً وخُصوصاً وخَصُوصِيّةً وخُصُوصِيّةً، والفتح أَفصح، وخِصِّيصَى وخصّصَه واخْتصّه: أَفْرَدَه به دون غيره. ويقال: اخْتصّ فلانٌ بالأَمر وتخصّصَ له إذا انفرد، وخَصّ غيرَه واخْتصّه بِبِرِّهِ. ويقال: فلان مُخِصٌّ بفلان أَي خاصّ به وله به خِصِّيّة). قال الفيومي في "المصباح المنير": (خَصَّصْتُهُ بِكَذَا أَخُصُّهُ خُصُوصًا مِنْ بَابِ قَعَدَ وَخُصُوصِيَّةً بِالْفَتْحِ وَالضَّمُّ لُغَةٌ إذَا جَعَلْتَهُ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ وَخَصَّصْتُهُ بِالتَّثْقِيلِ مُبَالَغَةٌ وَاخْتَصَصْتُهُ بِهِ فَاخْتَصَّ هُوَ بِهِ وَتَخَصَّصَ وَخَصَّ الشَّيْءَ خُصُوصًا مِنْ بَابِ قَعَدَ خِلَافُ عَمَّ فَهُوَ خَاصٌّ وَاخْتَصَّ مِثْلُهُ وَالْخَاصَّةُ خِلَافُ الْعَامَّةِ وَالْهَاءُ لِلتَّأْكِيدِ). ب- اصطلاحا: قال الشيخ: (اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد). وهذا التعريف الذي ذكره الشيخ من أجود تعارف العام إلا أنه غير جامع فلا يشمل نوعا من الخاص وهو الخاص بالنوع كلفظ الإنسان فإنه خاص بالنسبة إلى لفظ الحيوان ولم يخرج عن كونه عاما بالنسبة إلى ما تحته. وقد يقال أن لفظ الناس مثلا خاص بالنسبة للحيوان لأنها أحد أنواعه فالنظر إليها من ناحية كونها أحد أفراد الجنس يعطيها خصوصية نسبية لا مطلقة، ولكن لما كان

ملاحظة:

لفظ (شخص) (¬1) المذكور في التعريف يدل على الخصوصية المطلقة، ودخول النسبية فيه بنوع من التكلف حسن إضافة قيد يشملهما كما سيأتي. وقد توسع في تعريف الخاص الآمدي (¬2)، والشوكاني (¬3)، وقد اطلعت على رسالة تخصيص العام وأثره في الأحكام الفقهية" للشيخ: علي عباس الحكمي فوجدته قد استوعب غالب كلامهما وزاد عليهما وخلص إلى هذا التعريف: الخاص هو (اللفظ الموضوع لواحد ولو بالنوع، أو لمتعدد محصور) وقال (ص/49): (وهذا التعريف قد أشار إليه صدر الشريعة وابن الهمام. فاللفظ جنس، و"الموضوع" قيد مخرج المهمل الذي لم يوضع لشيء). أي أن وضعه هنا كقيد تحسبا لمن عرف الخاص بأنه: (ما ليس بعام) فاعترض عليه بدخول المهمل فيه فهو ليس بعام ولا خاص. وقال: ("ولواحد" احترازا من العام و"لو بالنوع" قيد لإدخال المطلق والنكرة في الإثبات لأنهما من الخاص باعتبار وحدة النوع، وقولنا " أو لمتعدد محصور" قيد ليشمل التعريف أسماء الأعداد والمثنى المنكر لأنها وضعت لأكثر من واحد مع الحصر). ملاحظة: "أو" في التعريف للتنويع لا التشكيك، فهي تبين نوعي الخاص الذي يطلق عليهما، قال الآمدي في "الإحكام" (2/ 219) بعد أن عرض لعدة تعاريف للخاص وبين وجوه الاعتراض عليها: (والحق أن يقال: الخاص قد يطلق باعتبارين: الأول وهو اللفظ الواحد الذي لا يصلح مدلوله لاشتراك كثيرين فيه كأسماء الأعلام من زيد وعمرو ونحوه الثاني ما خصوصيته بالنسبة إلى ما هو أعم منه ... ). تعريف التخصيص: أ-لغة: قال الشيخ: (التخصيص لغة: ضد التعميم). سبق أن ذكرنا أن الخاص لغة بمعنى المنفرد، وعليه فالتخصيص في اللغة مصدر ¬

_ (¬1) - قال الفيومي في المصباح المنير: ((الشخص) سواد الإنسان تراه من بعد ثم استعمل في ذاته). (¬2) "الإحكام" (2/ 218). (¬3) "إرشاد الفحول" (1/ 350).

خصص، بمعنى خص، والتخصيص: إفراد وتمييز بعض الشيء بما لا يشاركه فيه الجملة، وذلك خلاف التعميم (¬1). ب- اصطلاحا: عرفه الشيخ بقوله: (واصطلاحاً: إخراج بعض أفراد العام). فائدة - الفرق بين النسخ الجزئي والتخصيص: وقبل الكلام على هذا التعريف نمهد ببيان الفرق بين النسخ الجزئي والتخصيص ففي حالة النسخ الجزئي يكون الحكم قد تناول جميع الأفراد ابتداء ثم رفع بالنسبة إلى بعض الأفراد وبقي الحكم فيما عداهم. وأما في حالة التخصيص فإن حكم العام تعلق ببعض أفراده ابتداء، ولهذا يشترط في النسخ أن يكون متراخيا عن وقت العمل بالعام، بخلاف التخصيص فإنه لا يشترط أن يكون متأخرا عن وقت العمل بالعام سواء جاء مقترنا بالعام، أو متقدما عليه، أو متأخرا عنه - وذلك على القول الراجح من أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة إلى العمل به ولا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة للعمل به -. مثال النسخ الجزئي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [النور: 6]، هو نسخ جزئي للعام في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4]، لأن هذه الآية الثانية بعمومها تشمل كل قاذف سواء قذف زوجته أو غيرها، وقد شرع الحكم ابتداء عاماً، ثم قام الدليل وهو آيات اللعان على قصر الجلد على القاذف الذي يقذف غير زوجته، والدليل على ذلك ما رواه ابن ماجه وأحمد من حديث عبد الله قال: (كنا في المسجد ليلة الجمعة. فقال رجل لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، والله لأذكرن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آيات اللعان، ثم جاء الرجل بعد ذلك يقذف امرأته) الحديث. ¬

_ (¬1) - انظر لسان العرب مادة (خ ص ص).

وأما مثال التخصيص فقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ) [العنكبوت: 14] الظاهر أن الألف كاملة لكن قوله: (إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا) بين أن هذه الخمسين غير مراد دخولها في الألف بداية وأن المراد بالألف تسعمائة وخمسون عاما. وسوف يأتي أمثلة أخرى كثيرة في محلها بإذن الله. وهذا التعريف الذي ذكره الشيخ قريب من تعريف البيضاوي في المنهاج حيث عرفه بقوله: (إخراج بعض ما يتناوله اللفظ). وقال البدخشي في شرح المنهاج (2/ 75): (الإخراج فرع تناول اللفظ فحيث لا تناول فلا إخراج). وعليه فهذا التعريف غير جامع لدخول النسخ الجزئي فيه، فالأولى أن يزاد قيد: (قبل تقرر الحكم) لمنع دخول النسخ الجزئي (¬1). أو يقال في تعريفه كما قال المرداوي في التحبير (5/ 2509): (قصر العام على بعض أجزائه) فقال: (قصر) بدلا من إخراج، وذلك لأن نسخ البعض ليس قصرا بل هو رفع بعد إثبات، والتخصيص قصر للدليل العام عن إثبات الحكم قبل دخوله وقت العمل فلا يدخل النسخ في التعريف (¬2). قال الشيخ النملة في "شرح الروضة" (6/ 211): (والمراد من (قصر العام) قصر حكمه، وإن كان لفظ العام باقيا على عمومه، لكن لفظا لا حكما. وبذلك يخرج إطلاق العام وإرادة الخاص، فإن ذلك قصر إرادة لفظ العام لا قصر حكمه). قيود أخرى: وهناك بعض القيود الأخرى التي ينبغي أن تضاف لهذا التعريف ليكون جامعا مانعا منها: تقييد أفراده أو أجزائه بالغالبة: قال العطار في "حاشيته على جمع الجوامع" (2/ 31\): (ينبغي تقييد أفراده بالغالبة ليخرج النادرة وغير المقصودة فإن القصر على أحدهما ليس تخصيصا خلافا للحنفية ولذلك ضعف تأويلهم أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل بحمله على ¬

_ (¬1) - انظر رسالة "تخصيص العام" للشيخ عباس الحكمي (ص/52). (¬2) - انظر المرجع السابق (ص/53).

المخصص:

المكاتبة أو المملوكة لأنه نادر فلا يقصر عليه الحكم ... ). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (1/ 579 (: (فحصل من هذا الكلام في أمثلة التأويل والتخصيص المذكورة أن إخراج النادر من العام قريب، كإخراج المكاتبة من عموم حديث النكاح كما سبق بيانه (¬1)، وقصر العموم على النادر ممتنع، كقصر حديث النكاح على المكاتبة) (¬2). وزاد الشنقيطي قيدا آخر فعرفه في المذكرة (ص/66، 208) بقوله: (قصر العام على بعض أفراده بدليل يقتضي ذلك). وأدلة التخصيص تنقسم إلى متصلة ومنفصلة كما سيأتي قريبا. وعليه فالتخصيص هو: (قصر العام على بعض أفراده الغالبة بدليل يقتضي ذلك). المخصِّص: قال الشيخ: (والمخصِّص - بكسر الصاد - فاعل التخصيص وهو الشارع ويطلق على الدليل الذي حصل به التخصيص). المخصِّص بصيغة الفاعل - أي فاعل التخصيص - يطلق على الشارع. ويطلق على الدليل الأخص الدال على قصر العام على بعض أفراده، فيقال القرآن ¬

_ (¬1) - قال (1/ 575): (بيان قوة عموم النص المذكور من وجوه - «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل» -: أحدها: أنه صدره بلفظة: أي، وهي من ألفاظ الشرط. الثاني: أنه أكدها بما في قوله: «أيما امرأة» وهي من مؤكدات العموم وغيره. الثالث: أنه رتب بطلان النكاح على هذا الشرط المفيد للعموم في معرض الخبر، وقرائح ذوي الفصاحة لا تسمح في العموم بأبلغ من هذه العبارة، ولا أجزل من هذا الكلام. وأما ضعف تأويلهم، فإنه تخصيص بعد تخصيص، لأنهم خصوا العموم بالأمة، فقصروه عليها، ثم قصروا الأمة على المكاتبة، وهي صورة نادرة بالنسبة إلى هذا العموم المؤكد، وإطلاق مثل هذا العموم، وإرادة مثل هذه الصورة النادرة يعد عند الفصحاء إلغازا في الكلام، وهذرا من القول، بل لو قال المتكلم بمثل هذا العموم: لم أرد المكاتبة، ولم تخطر ببالي، لم يستنكر ذلك منه لقلتها وندورها بالنسبة إلى مدلول صيغة العموم، وهو جميع النساء، فما يبلغ من القلة والندرة). (¬2) - انظر روضة الناظر (ص/180).

المخصص المتصل والمنفصل:

مخصص للسنة والسنة مخصصة للقرآن، وهكذا. قال ابن النجار في " شرح الكوكب المنير" (3/ 277): ("وهو المراد هنا" فإنه الشائع في الأصول حتى صار حقيقة عرفية). وقد يطلق المخصِّص على المجتهد الذي رأى تخصيص دليل بدليل، فيقال خصص الإمام أحمد عموم الآية بكذا. المخصص المتصل والمنفصل: قال الشيخ: (ودليل التخصيص نوعان: متصل ومنفصل. فالمتصل: ما لا يستقل بنفسه. والمنفصل: ما يستقل بنفسه). فالمتصل لا يستقل بنفسه في إفادة معناه، بل يكون متعلقا بما اتصل به من الكلام كالاستثناء والشرط والغاية ونحوهم وسيأتي الكلام تفصيليا على أنواعه، ومثال الاستثناء قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)). والمنفصل وهو ما يستقل بنفسه في إفادة معناه من غير حاجة إلى كلام سابق عليه فقوله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر) عام في النوع والمقدار، وقد خصص في المقدار بقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة). فرع - يؤخذ بالتخصيص سواء تقدم المخصِّص أو تأخر: ذكر الشيخ في شرح الأصول (ص/274) مسألة هل يؤخذ بالتخصيص سواء تقدم المخصِّص أو تأخر؟ واختار الشيخ أنه ليس بشرط وأنه يحمل العام على الخاص سواء علمنا التاريخ أم لم نعلم. وهذا الذي اختاره الشيخ هو الراجح وهو أحد قولي المذهب. قال الكلوذاني في "التمهيد" (2/ 151): (يقدم العام على الخاص سواء تقدم الخاص أو تأخر أو جهل التاريخ. وبه قال أصحاب الشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة: إن تأخر الخاص كقولنا، وإن تقدم الخاص قدم العام عليه، وحكم بنسخ الخاص، وإن جهل التاريخ يتوقف فيهما، أو يرجع إلى غيرهما أو إلى ترجيح أحدهما على الآخر، وقد روي عن عبدالله عن احمد ما يدل على هذا فقال في كلام طويل: تستعمل الأخبار حتى تأتي دلالة بأن الخبر قبل الخبر فيكون الأخير أولى لأن يؤخذ به إلا أن

شيخنا تأوله على الخبرين إذا كان خاصين يكون الأخير أولى وفيه نظر). وقال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/213): (واعلم أيضاً أن التحقيق هو تخصيص العام بالخاص سواء تقدم عنه أو تأخر خلافاً لأبي حنيفة القائل بأن المتأخر منهما ناسخ , محتجاً بقول ابن عباس أو الزهري كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث وبأن العام قطعي الشمول للأفراد عنده، وعليه إن جهل التاريخ يلزم التوقف حتى يدل دليل على أحدهما (¬1). وهذا المذهب رواية أيضاً عن أحمد. والدليل على تقديم الخاص على العام مطلقاً أمران: الأول: أن الصحابة كانوا يقدمونه عليه كما قاله المؤلف وغيره ومن تتبع قضاياهم تحقق ذلك عنهم (¬2). الثاني: أن دلالة الخاص أقوى من تناول العام له فلا شك أن دلالة ((إنا معاشر الأنبياء لا نورث)) على عدم أرث فاطمة له صلى الله عليه وسلم أقوى من دلالة عموم (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) [النساء: 11] الآية. على ارثها له صلى الله عليه وسلم ورضي عنها). ¬

_ (¬1) خلاصة دليل الواقفية: أن العام من القرآن قطعي السند؛ لأنه نقل نقلًا متواترًا، ظني الدلالة على أفراد العام، وخبر الواحد قطعي الدلالة، لخصوصيته في مدلوله، ظني الثبوت من حيث السند فيتعادلان، لأن كل واحد منهما صار راجحًا من وجه، مرجوحًا من وجه آخر. انظر: شرح الطوفي "2/ 563". والراجح أنه لا يلزم التوقف لما يأتي من أدلة ولأن قطعية الدلالة في محل النزاع أقوى من قطعية الثبوت مع ظنية الدلالة فالكل وحي من عند الله وكما حقق الشنقيطي وغيره وكما هو معلوم أن خبر الآحاد قطعية من ناحية وجوب العمل بها. (¬2) ومن أمثلة ذلك أنهم: خصصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} برواية أبي هريرة عن النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا تُنْكَحُ المرأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِها". وخصصوا آية الميراث بقوله: "لَا يَرِثُ المُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَاَ الْكَافِرُ المُسْلِمَ"، " وَلَاَ يَرِثُ الْقَاتِلُ "، و "إنَّا مَعَاشِرَ الْْأَنْبِياءِ لَا نُورَثُ". وخصصوا عموم الوصية بقوله: "لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ". وعموم قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، بقوله: "حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا". إلى نظائر كثيرة لا تحصى، مما يدل على أن الصحابة والتابعين كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاص، من غير اشتغال بطلب تاريخ، ولا نظر في تقديم ولا تأخير.

المخصصات المتصلة:

المخصصات المتصلة: أولًا - الاستثناء: تعريفه: قال الشيخ: (فمن المخصص المتصل: أولاً: الاستثناء وهو لغة: من الثني وهو رد بعض الشيء إلى بعضه كثني الحبل. واصطلاحاً: إخراج بعض أفراد العام بإلا أو إحدى أخواتها). 1 - الاستثناء لغة: قال الفيومي في المصباح المنير: (الِاسْتِثْنَاءُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ ثَنَيْثُ الشَّيْءَ أَثْنِيهِ ثَنْيًا مِنْ بَابِ رَمَى إذَا عَطَفْته وَرَدَدْتُهُ وَثَنَيْتُهُ عَنْ مُرَادِهِ إذَا صَرَفْتُهُ عَنْهُ وَعَلَى هَذَا فَالِاسْتِثْنَاءُ صَرْفُ الْعَامِلِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمُسْتَثْنَى ... ) (¬1). قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة " (2/ 580): (اعلم أن الاستثناء من حيث اللفظ: استفعال إما من التثنية؛ لأن المستثنى في كلامه يثني الجملة، أي: يأتي بجملة ثانية في كلامه، نحو: قام القوم إلا زيدًا؛ فهم منه قيام القوم، وعدم قيام زيد؛ فهي جملتان، أو من: ثني الفارس عنان فرسه، إذا عطفه؛ لأن المستثنى يعطف على الجملة؛ فيخرج بعضها عن الحكم بالاستثناء) (¬2). 2 - الاستثناء اصطلاحا: عرفه الشيخ بقوله: (واصطلاحاً: إخراج بعض أفراد العام بإلا أو إحدى أخواتها). فائدة ما يطلق عليه لفظ الاستثناء في عرف الأصوليين: وهذه الفائدة هامة لابد من الوقوف عليها قبل شرح تعريف الشيخ فقد اختلفت أقوال الأصوليين فيما يطلق عليه الاستثناء وتبعا لذلك اختلفت تعريفاتهم. قال الشيخ علي الحكمي في "تخصيص العام" (ص/127): (ما يطلق عليه لفظ الاستثناء عرفا: ¬

_ (¬1) انظر مادة (ث ن ى) في: الصحاح، جمهرة اللغة، المحيط في اللغة، العين، أساس البلاغة. (¬2) انظر التحبير (6/ 2532).

اعلم أنه إذا قيل:" قام القوم إلا زيدا " فلفظ الاستثناء يطلق على أربعة أشياء: أحدها - المعنى المصدري المفهوم من الكلام، وهو الإخراج أو المنع من إرادة البعض مما تناوله صدر الكلام بالحكم أو المخالفة. الثاني - المخرج، وهو المستثنى من الحكم. الثالث - لفظ المستثنى وهو "زيد" في المثال المذكور. الرابع - مجموع لفظ "إلا زيدا" أي الأداة مع ما بعدها (¬1). قال: والذي يناسب بحثنا هو الاستثناء بمعنى الأداة وما بعدها؛ لأن الكلام هنا في أدلة التخصيص، ودليل التخصيص إنما هو اللفظ الدال على أن بعض ما تناوله العام في الظاهر غير مراد بالحكم وهو هنا الأداة مع ما بعدها). وبعد فتعريف الشيخ إنما هو باعتبار المعنى المصدري وهو الإخراج (¬2). وقد وافق الشيخ على تعريف الاستثناء بالمعنى المصدري جماعة من الأصوليين منهم: ابن النجار والطوفي، وابن الحاجب وتبعه العضد، وعرفه بذلك أيضا البيضاوي وابن السبكي وصدر الشريعة، وغيرهم. قال ابن النجار في "مختصر التحرير": " وهو إخراج ما لولاه لوجب دخوله لغة بإلا أو إحدى أخواتها" وعرفه الطوفي في مختصر الروضة (ص/111) بقوله: (الاستثناء إخراج بعض الجملة بإلا أو ما قام مقامها). اعتراضان: وقد توجه لهذا الحد اعتراضات ومنها: الأول - قوله: (إخراج) وقد عرض الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 581) لهذه الشبهة وأجاب عنها فقال: («قول من يزعم أن التعريف» يعني تعريف الاستثناء «بالإخراج»، أي: ¬

_ (¬1) حاشية السعد على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب (2/ 133). (¬2) وعرفه بناء على إطلاق لفظ الاستثناء على الأداة وما بعدها الغزالي وابن قدامة في الروضة وابن الهمام والقرافي، وانظر: "تخصيص العام" للشيخ علي الحكمي (ص/129).

بقولنا: هو إخراج بعض الجملة، «تناقض» لأن هؤلاء قالوا: تعريف الاستثناء بإخراج بعض الجملة يقتضي أن ذلك البعض دخل في الجملة المستثنى منها، ثم أخرج بالاستثناء؛ فيكون تناقضًا؛ لأنه إذا قال: قام القوم، اقتضى قيام زيد فيهم، فإذا قال: إلا زيدًا، اقتضى أنه لم يقم فيهم؛ فصار التقدير: قام زيد، لم يقم زيد، وذلك تناقض، وعلى هذا بني أبوبكر من أصحابنا أن الاستثناء في الطلاق لا يصح؛ لأنه إذا قال: أنت طالق ثلاثًا، وقعت ثلاث، فإذا قال: إلا واحدة، لم ينفعه؛ لأن الطلاق إذا وقع، لا يرتفع، ولأنه يلزم التناقض المذكور في الطلقة الثالثة. - قوله: «وليس بشيء»، أي: هذا السؤال ليس بشيء، ولا تناقض في تعريف الاستثناء بالإخراج لوجهين: أحدهما: أن متقدمي أهل العربية عرفوه بالإخراج، قال ابن جني، وحسبك به مقدمًا في هذا الشأن: الاستثناء: أن تخرج شيئًا أدخلت فيه غيره، أو تدخله فيما أخرجت منه غيره، وحينئذ يجب المصير إلى ما قالوه، واعتقاد أن لا تناقض في ذلك؛ لأنهم أهل اللغة، وهي وأهلها بريئون من التناقض فيها. الوجه الثاني: أنا إذا قلنا: قام القوم؛ فقد أسندنا القيام إلى جميعهم لعموم اللفظ فيهم، وذلك يتناول زيدًا وغيره، ولا معنى لدخوله في المستثنى منه، إلا أن القيام منسوب إليه كغيره، فإذا قلنا بعد ذلك: إلا زيدًا؛ فقد أخرجناه منهم بعد دخوله فيهم، نعم، دخوله فيهم دخول لفظي لا معنوي؛ لأن القائل يقول: قام القوم، مع اعتقاده أن زيدًا لم يقم معهم، ولذلك عطف عليه؛ فاستثناه منهم، وإذا كان دخول المستثنى وإخراجه لفظيًا: لم يلزم منه تناقض ... ) هذه المسألة سبق وأن تكلمنا عليها في الفرق بين النسخ الجزئي والتخصيص وأنه يزاد في تعريف التخصيص قيد "قبل تقرر الحكم". والطوفي هنا بين أن المقصود من دخول المستثني إنما هو دخول لفظي لا حكمي، وهذا نحو ما سبق وأن قررناه من أن التخصيص هو قصر حكم العام لا قصر لفظه وعليه فيكون الخلاف لفظيا (¬1) ولكن الإخراج المذكور في عبارة الطوفي يحتمل أن ¬

_ (¬1) وقد قرر هذا الطوفي فقال في شرح مختصر الروضة (2/ 583): (وما ذكره أبو بكر من الاستثناء في عدد الطلاق لا يصح، يشكل عليه بصحة الاستثناء في الإقرار بالمال، وقد قال به، مع أن الإنسان مؤاخذ بموجب إقراره، كما أنه مؤاخذ بموجب إيقاعه الطلاق، فلما اتفقنا على صحة الاستثناء في الإقرار بالمال، دل على أن دخول المستثنى لفظي كما قلنا، لا معنوي، وأن ذلك ليس من باب رفع الواقع، بل من باب منع الوقوع في المعنى، أو من باب التخصيص المحض، وبيان أن المستثنى غير مراد. وحينئذ تتقارب الأقوال في الاستثناء، بل تتفق، ويعود النزاع لفظيًا، والله سبحانه وتعالى أعلم).

يكون من عموم اللفظ أو الحكم؛ فينبغي أن يزاد قيد ليوضح مقصوده من هذا الإخراج فيقال مثلا: (إخراج بعض الجملة قبل إسناد الفعل إليه بإلا أو ما قام مقامها) أو يقال: (إخراج بعض الجملة من عموم حكمها بإلا أو ما قام مقامها). قال الكفوي في "الكليات": " الاستثناء ودخول المستثنى في المستثنى منه ثم إخراجه بإلا وأخواتها إنما كان قبل إسناد الفعل أو شبهه إليه، فلا تناقض في مثل: (جاءني القوم إلا زيدا) لأنه بمنزلة قولك: (القوم المخرج منهم زيد جاؤوني)، وذلك لأن المنسوب إليه الفعل وإن تأخر عنه لفظا، لكن لا بد له من التقديم وجودا على النسبة التي يدل عليها الفعل، إذ المنسوب إليه والمنسوب سابقان على النسبة بينهما ضرورة، والمنسوب إليه في الاستثناء هو المستثنى منه مع إلا والمستثنى فلا بد من وجود هذه الثلاثة قبل النسبة، فلا بد إذن من حصول الدخول والإخراج قبل النسبة، فلا تناقض"). والأولى أن نعدل في تعريفه على هذه الطريقة بقولنا: (المنع عن دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه بإلا وأخواتها) (¬1) وهذا التعريف لصدر الشريعة. الثاني: قال الشيخ علي الحكمي في "تخصيص العام" (ص/128): (انتقده العضد بأن قوله: "وأخواتها" إن كان يريد بأخوات إلا ما يدل على الإخراج، فالحد غير مانع لدخول الغاية والعطف بلا، فإنهما يدلان على الإخراج في بعض التراكيب، وليس شيء منها استثناء، فتعين أنه يريد بقوله "وأخواتها" ألفاظ الاستثناء المشهورة، وحينئذ كان الأولى أن يضع موضع "إلا وأخواتها" قيدا يدخلها ويخرج ما عداها فيقول: "بحرف وضع له". ¬

_ (¬1) انظر شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح (2/ 40).

تتمة:

ومما سبق نختار في تعريف الاستثناء بناء على هذه الطريقة بأنه: (المنع عن دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه بحرف وضع له). تتمة: قال ابن النجار في شرح الكوكب (3/ 283): (أدوات الاستثناء المشهورة ثمانية، منها: حروف باتفاق، وهي " إلا " أو وحروف على الأصح، وهي حاشا " فإنها حرف عند سيبويه دائما. ويقال فيها: حاش وحشا. ومنها ما هو فعل بالاتفاق، كـ لا يكون، أو فعل على الأصح، وهي " ليس ". ومنها ما هو متردد بين الحرفية والفعلية بحسب الاستعمال، فإن نصب ما بعده كان فعلا، وإن جر ما بعده كان حرفا، وهو " خلا " بالاتفاق، و " عدا " عند غير سيبويه. ومنها ما هو اسم، وهو " غير " و " سوى " ويقال فيه " سوى " بضم السين، و " سواء " بفتحها والمد، وبكسرها والمد، سواء قلنا هو ظرف، أو يتصرف تصرف الأسماء). شروط الاستثناء: الشرط الأول - اتصاله بالمستثنى منه حقيقة أو حكماً. قال الشيخ في "الأصل" (ص/39): (شروط الاستثناء: يشترط لصحة الاستثناء شروط منها: 1 - اتصاله بالمستثنى منه حقيقة أو حكماً. فالمتصل حقيقة: المباشر للمستثنى منه بحيث لا يفصل بينهما فاصل. والمتصل حكماً: ما فصل بينه وبين المستثنى منه فاصل لا يمكن دفعه كالسعال والعطاس. فإن فصل بينهما فاصل أو سكوت لم يصح الاستثناء مثل أن يقول: عبيدي أحرار ثم يسكت أو يتكلم بكلام آخر ثم يقول إلا سعيداً فلا يصح الاستثناء ويعتق الجميع. وقيل يصح الاستثناء مع السكوت أو الفاصل إذا كان الكلام واحداً، لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه "

فقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لِقَيْنِهِمْ وبيوتهم (¬1) فقال: " إلا الإذخر ". وهذا القول الراجح لدلالة هذا الحديث عليه (¬2)). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 297): ((وشروطه) أي شروط الاستثناء (اتصال معتاد) ثم إما أن يكون الاتصال المعتاد (لفظا) كذكر المستثنى عقب المستثنى منه، (أو) يكون الاتصال المعتاد (حكما) كانقطاعه عنه بتنفس أو سعال أو عطاس. ويأتي به عقب ذلك، فيشترط ذلك (كبقية التوابع) ... وعن أحمد رضي الله تعالى عنه: يصح في اليمين متصلا في زمن يسير إذا لم يخلط كلامه بغيره. وعنه أيضا: وفي المجلس. واختاره الشيخ تقي الدين وغيره. وروي عن الحسن وعطاء. وقيل: يصح ما لم يأخذ في كلام آخر ... ). والقول باعتبار هذا الشرط صححه الكلوذاني والمرداوي وابن النجار وغيرهم وهو مذهب جمهور العلماء قال الكلوذاني في "التمهيد" (2/ 73): (وأما التخصيص بالاستثناء فمن شرط صحته: أن يكون متصلا بالكلام، أو في حكم المتصل فأما المتصل بالكلام كقوله: له على عشرة إلا درهما، وأما الذي في حكم المتصل بالكلام فبأن يكون انفصاله قبل أن يستوفي المتكلم غرضه من الكلام نحو أن يسكت عن الاستثناء لانقطاع نفسه، أو لبلع ريق أو سعال وما أشبهه وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم). ولا يشكل عليه إلا ما روى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وبعض التابعين من القول بالجواز، وسوف نعرض - بإذن الله - لقول ابن عباس وتوجيهه بإذن الله تعالى وأدلة الجمهور باختصار، فالله المستعان. أدلة الجمهور: 1 - قال ابن النجار في شرح الكوكب (3/ 301): (واستدل للمذهب الصحيح الذي في المتن بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه؛ وليأت الذي هو خير" (¬3) ولم يقل: أو ليستثن). ¬

_ (¬1) القين هو الحداد والصائغ ومعناه يحتاج إليه القين في وقود النار ويحتاج إليه في القبور لتسد به فرج اللحد المتخللة بين اللبنات ويحتاج إليه في سقوف البيوت يجعل فوق الخشب. (¬2) وسوف يأتي - بإذن الله - الكلام على هذا الحديث قريبا. (¬3) رواه مسلم.

2 - قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2563): (وكذلك لما أرشد الله - أيوب - عليه الصلاة والسلام - بقوله: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ) [ص: 44] جعل طريق بره ذلك، ولو كان الاستثناء المتراخي يحصل به البر لما جعل الله تعالى له الوسيلة إلى البر ذلك. وفي ' تاريخ بغداد ' لابن النجار أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أراد الخروج مرة من بغداد فاجتاز في بعض الطريق وإذا برجل على رأسه سلة فيها بقل وهو يقول لآخر: مذهب ابن عباس في تراخي الاستثناء غير صحيح، ولو صح لما قال الله تعالى لأيوب عليه السلام: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ)، بل كان يقول له: استثن، ولا حاجة إلى التوسل إلى البر بذلك، فقال الشيخ أبو إسحاق: بلدة فيها رجل يحمل البقل يرد على ابن عباس لا تستحق أن يخرج منها. انتهى) (¬1). 3 - قال الزركشي في "البحر المحيط" (2/ 430): (ومثله احتجاج بعضهم بقوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ) [المائدة: 89] فلو جاز الاستثناء من غير شرط الاتصال لم يكن لشرع الكفارة وإيجابها معنى لأنه كان يستثنى). 4 - وقد استدل الكلوذاني بأدلة من اللغة وأدلة عقلية فقال في "التمهيد" (2/ 74): (والحجة في ذلك أن الاستثناء لغة وقد بينت أنه غير مستعمل في عرف اللغة وذلك لأن الإنسان إذا قال: رأيت الناس ثم قال بعد شهر: إلا زيدا، ثم قال أردت به الاستثناء من الكلام الذي قلته منذ شهر قبح ذلك عندهم وعدوه لغوا. ثم قال: دليل ثان: أن الاستثناء غير مستقل بنفسه وهو كالخبر مع المبتدأ، والجزاء مع الشرط فإنه قد ثبت أنه لو قال: زيد ثم قال: بعد شهر منطلق، أو قال: من دخل الدار، ثم قال بعد شهر: فله درهم. لم يحسن ذلك، كذلك الاستثناء. دليل ثالث: أنه لو جاز ذلك وصح لم يستقر عقد ولا إيقاع طلاق ولا عتاق، ولم يوثق بأحد في وعد ولا وعيد، لجواز أن يستثني بعد زمان ما يسقط حكم الكلام، وفي اتفاق الناس على خلاف هذا دليل على بطلانه. ¬

_ (¬1) انظر: المسودة (ص/136)، أصول ابن مفلح (3/ 901)

دليل رابع: أن من جوزه إلى سنة لم ينفصل عمن جوزه إلى سنتين وأكثر، فبطل الجميع). توجيه أثر ابن عباس: ومن أقوى ما استدل به القائلون بالجواز (¬1) أثر ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: (إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني ولو إلى سنة وإنما نزلت هذه الآية في هذا (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) قال إذا ذكر استثنى) (¬2). وهذا الأثر ضعيف، وعلى فرض صحته فيوجه بأحد الوجوه التالية: 1 - أنه على فرض صحة إسناده، فهو مضطرب المتن فقد ورد عنه الأثر بلفظ: ولو بعد حين، ولفظ: إلى أربعة أشهر، وشهر، وسنة، وعنه أبدا (¬3). ¬

_ (¬1) وقد ذكر شبههم وفندها الكلوذاني في التمهيد (2/ 75 - 76)، والآمدي في إحكامه (2/ 311: 313). (¬2) إسناده ضعيف - أخرجه الطبري في "تفسيره" (17/ 645)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 336) حديث رقم (7833)، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 48) من طريق الأعمش عن مجاهد عنه به، وهذا إسناد ضعيف فيه عنعنة الأعمش، وهو مدلس، وقال يعقوب بن شيبة في " مسنده ": (ليس يصح للأعمش عن مجاهد إلا أحاديث يسيرة، قلت لعلى ابن المدينى: كم سمع الأعمش من مجاهد؟ قال: لا يثبت منها إلا ما قال سمعت، هي نحو من عشرة، وإنما أحاديث مجاهد عنده عن أبى يحيى القتات)، وقال ابن حجر في "إتحاف المهرة" (8/ 41): (هو معلول، فقد رواه أبو معاوية، عن الأعمش، وقال فيه: قيل للأعمش: سمعته من مجاهد؟ قال: لا، حدثني به الليث، عن مجاهد)، وله طريق أخرى بنحوه فروى الطبراني في "الأوسط" (7/ 68) حديث رقم (6872)، وفي "الصغير" (2/ 115) حديث رقم (876) من طريق محمد بن الحارث الجبيلي حدثنا صفوان بن صالح ثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن حصين عن بن أبي نجيح عن مجاهد عن بن عباس: في قوله عز وجل: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) قال: (إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت) قال: (هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أن يستثني إلا في صلة يمين)، وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء فيه صفوان يدلس ويسوي، وكذا الوليد بن مسلم، وفيه ابن حصين قال عنه أبو حاتم: ليس بقوي منكر الحديث، وقال عنه أبو زرعة: لا يكتب حديثه، وابن أبي نجيح لم يسمع من مجاهد إلا أن بعض أهل العلم قبلوا روايته عنه في التفسير. (¬3) انظر: "الفتح" (11/ 603).

2 - أنه لم يقصد الاستثناء، وإنما قصد امتثال الآية، وقد ذهب إلى هذا التوجيه جماعة منهم: أبو عبيد (¬1)، والطبري، والبيهقي، والقرافي، وابن الملقن، وغيرهم. قال ابن الملقن في "البدر المنير" (8/ 124): (قال - أي البيهقي -: ويحتمل قول ابن عباس أن يكون المراد به أنه كان مستعملا للآية، وإن ذكر الاستثناء بعد حين، كما في قوله تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) لا فيما يكون يمينا قلت: وهذا ما قرره القرافي فى «الأصول» في تعليقه على الحنث، حيث قال: المروي عن ابن عباس إنما هو في استثناء المشيئة، لقوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) [الكهف: 24] (فإنه قال: إن سبب نزولها ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستثناء بالمشيئة وتقديرها كما قال ابن العصري في التفسير (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) أي إذا شئت الاستثناء): أي إذا تذكرت ولو بعد سنة فقل: إن شاء الله؛ فإنه يسقط عنك المؤاخذة في ترك الاستثناء، وقدره العراقي بأن: الذكر في زمن النسيان محال، فدل على أنه أراد طرف بمنع النسيان في جزء منه، والذكر في جزء آخر، ولم يحدده الشرع، فجاز على التراخي). 3 - أنه محمول على أنه نوى الاستثناء عند بداية كلامه فيدان به. قال الغزالي في "المستصفى" (ص/258): (ونقل عن ابن عباس أنه جوز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح عنه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه وأن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين بينه وبين الله فيما نواه ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه لأنه جزء من الكلام يحصل به الإتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما). قال الزركشي في "البحر المحيط" (2/ 431): (وقال ابن ظفر في الينبوع إذا حققت هذه المسألة ضعف أمر الخلاف فيها وتحقيقها أنه لا يخلو الحالف التارك للاستثناء من أحد ثلاثة أمور إما أن يكون نوى الجزم وترك الاستثناء فما أظن الخلاف يقع في مثل هذا أو يكون نوى أن يستثني ولم ينطق بالاستثناء ثم ذكر فتلفظ ¬

_ (¬1) نقله عنه ابن حجر في "الفتح" الموضع السابق.

الشرط الثاني - ألا يكون المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه:

به فلا يحسن أن يعد استثناؤه لغوا وإما أن يكون ذاهلا عن الأمرين معا فهذه الصورة صالحة للاختلاف ولا يظهر فيها قول من صحح الاستثناء). الترجيح: وعليه فالأقوى هو قول جمهور العلماء من أهل اللغة والأصول من أنه لابد وأن يكون الاستثناء متصل بحيث لا يفصل بينه وبين صدر الكلام فاصل من كلام آخر، أو سكوت يعد فاصلا عرفا، ولا يضر الفصل بالسعال، أو التنفس، ونحوهما مما لا يعد فاصلا عرفا (¬1). وأما استدلال الماتن بحديث استثناء الإذخر فقيل فيه أن الاستثناء فيه كان منقطعًا، وأن الإذخر لم يكن من الخلا ولم يتناوله الكلام بداية، وإنما أراد العباس - رضي الله عنه - تأكيد ذلك فصدقه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى فرض كونه من الاستثناء المتصل فيجمع بينه وبين أدلة الجمهور بأن هذا الفصل هنا كان يسيرا، ولا يعد فاصلا عرفا. وعلى هذا الوجه تتجه الرواية المنقولة عن الإمام أحمد بجواز الفصل بزمان يسير ما دام في المجلس (¬2)، وقد اختار هذه الرواية ابن تيمية (¬3) مع أنها خلاف الرواية الصحيحة في المذهب. قال ابن عقيل في "الواضح" (3/ 461): (وقد حكى شيخنا عن أحمد اختلاف الرواية، وليس يظهر من ذلك ما يوجب اختلافا؛ لأنه سهل في اليمين إذا سكت قليلا، ثم قال: إن شاء الله. وهذا يجب أن يكون محمولا على يسير لا يُعدُّ في الكلام فصلا ولا قطعا). الشرط الثاني - ألا يكون المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه: قال الشيخ: (ألا يكون المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه، وقيل لا يشترط ذلك فيصح الاستثناء وإن كان المستثنى أكثر من النصف. أما إن استثنى الكل فلا ¬

_ (¬1) انظر: "تخصيص العام" للشيخ علي الحكمي (ص/138). (¬2) انظر التمهيد (2/ 73). (¬3) انظر المسودة (ص/137).

يصح على القولين. وهذا الشرط فيما إذا كان الاستثناء من عدد، أما إن كان من صفة فيصح وإن خرج الكل أو الأكثر). وهنا أربعة صور في حالتين فيكون المجموع ثمانية: أولًا - بالنسبة للاستثناء من للعدد: وصورها أنه يشترط أن يكون المستثنى أكثر أو أقل أو مساو للنصف أو مستغرقا، عرض الشيخ للأولى والثانية والرابعة، ولم يتكلم عن الثالثة وهي استثناء النصف، إلا أنه أختار في الشرح عدم اشتراط ذلك وصحح استثناء النصف. قال في "الشرح" (ص/283): (فإذا كان أقل أو مساويًا، فالاستثناء صحيح. وإلا فلا يصح ... قال بعض العلماء: إن الاستثناء يصح ولو كان المستثنى أكثر من المستثنى منه، فلو قال: له عليَّ عشرة إلا ستة، صح الاستثناء ولزمه أربعة، وكذا لو قال: عشرة إلا سبعة أو إلا ثمانية أو إلا تسعة. قالوا: لأنه متى أمكن تصحيح كلام المكلف وجب تصحيحه، إذ إن الأصل في النطق الصحة حتى يقوم دليل على البطلان، فمتى أمكن تصحيح كلام المكلف وجب أن يصحح، وهذا يمكن. وقولكم: خلاف الفصيح، نقول: وليكن خلاف الفصيح، فلا يغير الحكم، فلا يضر أن يكون خلاف الفصيح (¬1). وأما قولكم: لماذا لم يقل أربعة بدلاً من عشرة، نقول: ولماذا لم يقل سبعة بدلاً من عشرة إلا ثلاثة، ولماذا لم يقل ستة بدلاً من عشًرة إلا أربعة، والإِنسان قد يكون له ملاحظة في التعميم ثم الإِخراج والاستثناء. وعلى كل حال: القول الراجح: أن هذا ليس بشرط، وأنه يجوز أن يكون المستثنى أكثر من النصف). ¬

_ (¬1) قال الآمدي في "الإحكام" (2/ 321): (والقول بأن ذلك مستقبح ركيك في لغة العرب ليس فيه ما يمنع مع ذلك من استعماله، ولهذا فإنه لو قال له علي عشرة إلا درهما كان مستحسنا ولو قال له علي عشرة إلا دانقا ودانقا إلى تمام عشرين مرة كان في غاية الاستقباح وما منع ذلك من صحته واستعماله لغة).

وقال (ص/283): (إذا استثنى الكل فإنه لا يصح، لماذا؟ لأن استثناء الكل يستلزم رفع الكل!! ورفع الشيء بعد الإِقرار به لا يصح. فلو قال: له علي عشرة إلا عشرة لزمته العشرة كلها). فتحصل من ذلك أن الاستثناء إن كان من عدد فيصح أن يكون المستثنى أقل، أو مساو، أو أكثر من النصف، ولا يصح أن يستثنى الكل. ثانيًا - بالنسبة للاستثناء من الصفة: واختيار الشيخ هنا واضح، وأنه يصح الاستثناء، وإن خرج الكل، أو الأكثر. قال في "الشرح" (ص/285): (أما إن كان من صفة، فيصح، وإن خرج الكل أو الأكثر، مثاله: قوله تعالى لإبليس: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر: 42] المراد بالآية هنا على حسب ما سقناها .. المراد بالعبودية فيها: "العبودية العامة" يعني: إن الناس الذين هم عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين. أما إذا جعلنا العبودية هنا "عبودية خاصة" فالاستثناء هنا منقطع، وليس له تعلق بما ذكرنا؛ لأن يكون معناه: إن عبادي الذين تعبَّدوا لي ليس لك عليهم سلطان، لكن من اتبعك من الغاوين فلك عليهم سلطان. وحينئذ فلا يدخل في الباب الذي نحن فيه، فكلامنا في أن "عبادي " هنا يراد بها العبودية العامة، ويستثنى منها: إلا من اتبعك من الغاوين. ولو قلت: أعط من في البيت إلا الأغنياء، فتبين أن جميع من في البيت أغنياء صح الاستثناء، ولم يعطوا شيئًا). تحرير المذهب (¬1): قال الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/112): (وأن لا يكون مستغرقًا إجماعًا. وفي الأكثر والنصف خلاف. واقتصر قوم على الأقل، وهو الصحيح من مذهبنا). وقال في "شرح مختصر الروضة " (2/ 597): (يشترط لصحة الاستثناء أن لا يكون مستغرقًا فإن كان مستغرقًا نحو: له علي عشرة إلا عشرة، بطل «إجماعًا (¬2) وفي ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد (2/ 77)، الواضح (3/ 470)، روضة الناظر (ص/255)، أصول ابن مفلح (3/ 913)، المختصر لابن اللحام (ص/119)، المدخل (ص/255). (¬2) وخالف في ذلك ابن طلحة الأندلسي في كتابه المدخل، وقوله شاذ. قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2571): (قوله: {استثناء الكل باطل} عند العلماء، وحكاه الآمدي، وابن الحاجب، وابن مفلح، وغيرهم إجماعا، {وشذ بعضهم} في حكاية خلاف، فقال ابن طلحة المالكي في كتاب ' المدخل ' له في الفقه: إذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، هل يقع الطلاق؟ على قولين ... ). وقال السبكي في "الإبهاج في شرح المنهاج":) 2/ 147): (وعدم الاستغراق الشرط الثاني عدم الاستغراق فان المستغرق مثل عشرة إلا عشرة باطل اتفاقا كما نقله الأئمة لكن قال القرافي نقل ابن طلحة في مختصره المعروف بالمدخل فما إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا ثلثا قولين: احدهما انه استثناء وينفعه وهذا غريب).

الأكثر والنصف» نحو: له علي عشرة إلا ستة، أو: خمسة - «خلاف. واقتصر قوم على الأقل» أي: على صحة الاستثناء الأقل، نحو: له علي عشرة إلا أربعة، «وهو الصحيح من مذهبنا». قال صاحب «المحرر» من أصحابنا: يصح استثناء الأقل دون الأكثر في عدد الطلاق والمطلقات والأقارير نص عليه. وفي النصف وجهان، وقيل: يصح في الأكثر أيضًا. قلت: المصحح لاستثناء الأكثر هم أكثر الفقهاء والمتكلمين، والمانع منه أصحابنا وبعض الفقهاء والقاضي أبو بكر في آخر أقواله. - ولنذكر توجيه الأقوال المذكورة: - أما عدم صحة الاستثناء المستغرق؛ فلإفضائه إلى العبث وكونه نقضًا كليًا للكلام، ورجوعًا عن الإيجاد إلى الإعدام؛ فعلى هذا يلغو الاستثناء، ويلزم المستثنى، فإذا قال: له علي عشرة إلا عشرة، أو: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا؛ لزمه عشرة، وطلقت ثلاثًا. وأما وجه الخلاف في استثناء الأكثر؛ فمن صححه، احتج بوجوه: أحدها: قوله سبحانه وتعالى حكاية عن إبليس: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) [سورة ص]، وقال سبحانه وتعالى في آية أخرى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر: 42]؛ فاستثنى في الأولى العباد المخلصين من بني آدم، وفي الثانية الغاوين من العباد، وأيهما كان

الأكثر حصل المقصود. ولتقرير الدليل من ذلك وجه آخر، وهو أنه سبحانه وتعالى استثنى الغاوين من العباد، والغاوون أكثر؛ بدليل قوله عز وجل: (وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف: 17]، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [العنكبوت: 63]، (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [البقرة: 100] ... والجواب الصحيح عن الآية: هو أنا نمنع من استثناء الأكثر إذا صرح بعدد المستثنى منه، أما إذا لم يصرح به؛ فهو جائز باتفاق، كما إذا قال: خذ ما في هذا الكيس من الدراهم إلا الزيوف، وكانت أكثر، والآية من هذا الباب لم يصرح فيها بعدد المستثنى منه، بل قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ عِبَادِي)، وهو مقدار غير معين، بخلاف: له عندي مائة إلا تسعين؛ فهذا هو الممنوع). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 306): ((ويصح استثناء النصف) في أحد الوجهين لأصحابنا. قال في الإنصاف: وهو المذهب. قال ابن هبيرة: الصحة ظاهر المذهب، وصححه في التصحيح، وتصحيح المحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير، واختاره ابن عبدوس في تذكرته وجزم به في الإرشاد والوجيز والمنور، ومنتخب الآدمي ... والوجه الثاني: لا يصح. (لا الأكثر) يعني أنه لا يصح استثناء أكثر من النصف من عدد مسمى، كقوله: له علي عشرة إلا ستة، عند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأصحابه وأبي يوسف وابن الماجشون، وأكثر النحاة. وذكر ابن هبيرة: أنه قول أهل اللغة. ونقله أبو حامد الإسفراييني وأبو حيان في الارتشاف عن نحاة البصرة. ونقله ابن السمعاني وغيره عن الأشعري. وقيل: بلى. قال ابن مفلح: وعند أكثر الفقهاء والمتكلمين: يصح. ويستثنى من القول بعدم صحة استثناء الأكثر ما أشير إليه بقوله (إلا إذا كانت الكثرة من دليل خارج عن اللفظ) نحو قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر: 42] وقوله تعالى: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)) وقوله تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103] لأن هذا تخصيص بصفة ... فلو قال: اقتل من في الدار إلا بني تميم، أو إلا البيض، فكانوا كلهم ` بني تميم أو بيضا لم يجز قتلهم، بخلاف العدد ... ).

هل يشترط لصحة الاستثناء أن يكون المستثنى من نفس جنس المستثنى منه؟

الترجيح: ظهر مما سبق أنه يصح في المذهب استثناء الأقل، ولا يصح استثناء الكل، وأما استثناء النصف ففيه خلاف، وظاهر المذهب أنه يصح، وأما استثناء الأكثر فالراجح في المذهب أنه لا يصح، وما اختاره الشيخ العثيمين من صحة الاستثناء للأكثر هو الأولى، وهو قول أكثر الفقهاء، والمتكلمين، واختاره الغزالي وابن الحاجب، والبيضاوي، وغيرهم (¬1). وهناك شروطًا أخرى لصحة الاستثناء لم يتكلم عليها المؤلف كأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وكأن يلي الاستثناء الكلام بلا حرف عطف، وأن لا يكون الاستثناء من شيء معلوم مشار إليه، وأن يكون المستثنى بعضا من المستثنى منه قصدا لا تبعا، وأن ينوي الاستثناء حين النطق بالمستثنى منه ... ولن نستطرد في الكلام على هذا الشروط؛ لأن هذا يخرجنا عن منهجنا في شرح الكتاب إلا أن مسألة الاستثناء المنقطع تكلم عليها الشيخ في الشرح عند مسألة الفرق بين العام والمطلق، وهي من الأهمية بمكان نظرا لتعلق كثير من الفروع الفقهية بها، وعليه فسوف نناقشها الآن - بإذن الله -. هل يشترط لصحة الاستثناء أن يكون المستثنى من نفس جنس المستثنى منه؟ اشترط الحنابلة هذا الشرط ولم يحكموا بصحة الاستثناء المنقطع. قال ابن بدران في "المدخل" (ص/ 254 (: (يشترط أن لا يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه فلا يصح أن يقال قام القوم إلا حمارا مع إرادة الحقيقة فإن أراد المجاز صح هنا بأن يجعل الحمار كناية عن البليد والكلام هنا في فن الأصول لا في فن النحو لأن كلامنا في التخصيص وعدمه والنحاة يتكلمون على الجواز لغة لا شرعا على أن أهل العربية يسمون الاستثناء من غير الجنس منقطعا ويقدرون إلا فيه بمعنى لكن لاشتراكهما في معنى الاستدراك بها فافترقا وأما قول الخرقي في مختصره ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلا إلا أن يستثني عينا من ورق أو ¬

_ (¬1) انظر: المستصفى (1/ 259)، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (3/ 260)، نهاية السول (2/ 411).

ورقا من عين فإنه راجع إلى الاستثناء من الجنس غاية ما فيه أنه استثنى من الجنس البعيد وهو المال). وقال المرداوي في "التحبير" (6/ 2548 (: (} أحمد، وأصحابه، ومحمد، وزفر، وحكي عن الأكثر لا يصح الاستثناء من غير الجنس}، حكاه الآمدي عن الأكثر. وذكر التميمي أن أصحاب الإمام أحمد اختلفوا، وقال ابن برهان: قول عدم صحته قول عامة أصحابنا والفقهاء قاطبة، وهو المنصور، نقله ابن مفلح عنه ... وحكاه جماعة عن أبي حنيفة، واختاره ألكيا، وابن برهان، وحكي عن ابن الباجي، وابن خويزمنداد. وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية بصحة استثناء أحد النقدين من الآخر، فإذا قال: له عندي مائة إلا دينارا، أو مائة دينار إلا ألف درهم، صح اختاره الخرقي، وجماعة من أصحابنا، منهم: أبو حفص العكبري والحلواني صاحب ' التبصرة '، وقدمه في ' الخلاصة ' لابن الْمُنَجَّى و ' شرح ابن رزين '. ثم اختلف الأصحاب في مأخذ هذه الرواية، فقال في ' روضة فقه أصحابنا ' بناء على أنه جنس، أو جنسان، وإن قلنا: هما جنس صح، وإلا فلا. وقال القاضي في ' العدة '، وابن عقيل في ' الواضح ': لأنهما كالجنس في أشياء فكذا في الاستثناء. وقال الموفق في ' المغني ': يمكن حمل هذه الرواية على ما إذا كان أحدهما يعبر به عن الآخر، أو يعلم قدره منه. وقال الطوفي في ' شرح مختصره ' في الأصول: إنما صح ذلك استحسانا، وأجراه بعض أصحابنا على ظاهره، وأنهما نوعان، فيصح استثناء نوع من نوع آخر، فقال: يلزم من هذه الرواية صحة استثناء نوع من آخر. فقال أبو الخطاب: يلزم منها صحة استثناء ثوب ونحوه من دراهم. وقاله المالكية، وابن الباقلاني، وجماعة من المتكلمين، والنحاة. قال الموفق في ' المغني ': وقال مالك، والشافعي: يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقا؛ لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب. انتهى. قال البرماوي: ولهذا نقل الأستاذ أبو إسحاق الاتفاق على صحة الاستثناء من غير الجنس. وللشافعية كالقولين، قاله ابن مفلح، والأشهر عن أبي حنيفة صحته في مكيل أو موزون من أحدهما فقط ... قوله: {ويشترط لصحته مخالفة في نفي الحكم، أو في أن المستثنى حكم آخر

له مخالفة بوجه}. لابد في الاستثناء المنقطع من مخالفة المستثنى للمستثنى منه في نفي الحكم، نحو: ما جاءني القوم إلا حمارا، أو ما جاء زيد إلا عمرا. أو إن في المستثنى حكم آخر، له مخالفة مع المستثنى منه ... فائدة: قال ابن قاضي الجبل: ينقسم الاستثناء إلى منقطع ومتصل، وفي ضبط المنقطع إشكال، فكثير من العقلاء يعتقدون أن المنقطع الاستثناء من غير الجنس، وليس كذلك فإن قوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) [الدخان: 56] منقطع على الأصح مع أن المحكوم عليه بعد إلا هو نقيض المحكوم عليه أولا ومن جنسه. وكذلك قوله تعالى: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً) [النساء: 29] منقطع، مع أن المحكوم عليه بعد إلا هو عين الأموال التي حكم عليها قبل إلا، بل المحقق أن يعلم أن المتصل عبارة عن أن تحكم على جنس كما حكمت عليه أولا بنقيض ما حكمت فيه أولا، فمتى انخرم قيد من هذين القيدين كان منقطعا ويكون المنقطع بحكم على جنس كما حكمت عليه أولا بغير ما حكمت عليه أولا، وعلى هذا يكون الاستثناء في الآيتين منقطعا، فإن نقيض (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) يذوقون فيها الموت ولم يحكم به بل بالذوق في الدنيا، ونقيض: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) كلوها بالباطل ولم يحكم به، وعلى هذا تخرج أقوال العلماء في الكتاب والسنة ولسان العرب. انتهى). فتحصل مما سبق أن القول الصحيح في المذهب هو أنه يشترط لصحة الاستثناء أن يكون المستثنى من نفس جنس المستثنى منه، وأنه لا يصح الاستثناء المنقطع، إلا في النقدين ففي رواية الإمام أحمد جواز استثناء أحد النقدين من الآخر وقد اختلف الأصحاب في توجيه هذه الرواية، واختار أبو الخطاب وغيره إجراءها على ظاهرها وأنهما نوعان فيصح استثناء نوع من آخر كثوب من دراهم كما سبق نقله عن الطوفي. وهذه الرواية المخرجة على قول الإمام أحمد في النقدين هي الموافقة لقول الجمهور بصحة الاستثناء المنقطع وهذا القول هو الراجح. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" (3/ 466):) قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [مريم: 62]. ذكر جل وعلا في هذه الآية

تنبيهان:

الكريمة: أن المؤمنين إذا أدخلهم ربهم جنات عدن التي وعدهم (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا) أي في الجنات المذكورة (لَغْوًا) أي كلاماً تافهاً ساقطاً كما يسمع في الدنيا. واللغو: هو فضول الكلام، وما لا طائل تحته. ويدخل فيه فحش الكلام وباطله ... ونظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان: . وَما بِالرَبعِ مِن أَحَدِ إِلّا الأَوارِيَّ ... (¬1) (فالأواري) التي هي مرابط الخيل ليست من جنس (الأحد). وقول الفرزدق: وبنتِ كريمٍ قدْ خطبنا ولمْ يكنْ ... لها خاطبٌ إلاَّ السنانُ وعاملهْ وقول جران العود وبَلْدةٍ لَيس بها أَنِيْسُ ... إِلاَّ اليَعافِيرُ وإِلاَّ العِيسُ (فالسنان) ليس من جنس (الخاطب) و (اليعافير والعيس) (¬2) ليس واحد منهما من جنس (الأنيس) ... وبهذا الذي ذكرنا تعلم صحة وقوع الاستثناء المنقطع كما عليه جماهير الأصوليين خلافاً للإمام أحمد بن حنبل وبعض الشافعية القائلين: بأن الاستثناء المنقطع لا يصح؛ لأن الاستثناء إخراج ما دخل في اللفظ، وغير جنس المستثنى منه لم يدخل في اللفظ أصلاً حتى يخرج بالاستثناء. تنبيهان: الأول - اعلم أن تحقيق الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع يحصل بأمرين يتحقق بوجودهما أن الاستثناء متصل. وإن اختل واحد منهما فهو منقطع: الأول أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، نحو: جاء القوم إلا زيداً. فإن كان من غير جنسه فهو منقطع، نحو: جاء القوم إلا حماراً. والثاني أن يكون الحكم على ¬

_ (¬1) وتتمة البيتين: وَقَفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائِلُها ... ... عَيَّت جَواباً وَما بِالرَبعِ مِن أَحَدِ إِلّا الأَوارِيَّ لَأياً ما أُبَيِّنُها ... ... ... وَالنُؤيَ كَالحَوضِ بِالمَظلومَةِ الجَلَدِ (¬2) قال الحربي في غريب حديثه: (واليعافير: الظباء والعيس: البقر).

ثانيا - التخصيص بالشرط:

المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه. ومعلوم أن نقيض الإثبات النفي كالعكس. ومن هنا كان الاستثناء من النفي إثباتاً، ومن الإثبات نفياً. فإن كان الحكم على المستثنى ليس نقيض الحكم على المستثنى منه فهو منقطع ولو كان المستثنى من جنس المستثنى منه. فقوله تعالى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) [الدخان: 56] استثناء منقطع على التحقيق، مع أن المستثنى من جنس المستثنى منه. وكذلك قوله: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [النساء: 29] وإنما كان منقطعاً في الآيتين لأنه لم يحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه. فنقيض: (لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ): هو يذوقون فيها الموت. وهذا النقيض الذي هو ذوق الموت في الآخرة لم يحكم به على المستثنى بل حكم بالذوق في الدنيا. ونقيض (لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) كلوها بالباطل ولم يحكم به في المستثنى. فتحصل أن انقطاع الاستثناء قسمان: أحدهما بالحكم على غير جنس المستثنى منه. كقولك: رأيت أخويك إلا ثوباً. الثاني: بالحكم بغير النقيض. نحو: رأيت أخويك إلا زيداً لم يسافر. التنبيه الثاني: اعلم أنه يبنى على الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع بعض الفروع الفقهية. فلو أقر رجل لآخر فقال له: علي ألف دينار إلا ثوباً. فعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله (إلا ثوباً) لغواً وتلزمه الألف كاملة. وعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع لا يلغى قوله (إلا ثوباً) وتسقط قيمة الثوب من الألف ... ). ثانيًا - التخصيص بالشرط: تعريف الشرط: أ- لغة: قال الشيخ - رحمه الله -: (الشرط وهو لغة: العلامة). الشرْط بالسكون: إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه من العقود، وجمعه شروط. والشرَط - بفتح الراء- وهو العلامة. وجمعه: أشراط، ومنه أشراط الساعة أي

تنبيهات:

علاماتها (¬1). ب- اصطلاحا: سبق وأن ذكرنا تعريف الشرط فقلنا: الشرط عرفه ابن النجار بقوله: (ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته) ويزاد عليه قيد (وكان خارجا عن حقيقة الشيء). فمثلا الوضوء شرط لصحة الصلاة، عدم وجوده يلزم منه عدم صحة الصلاة، ووجوده لا يلزم منه صحة ولا فساد للصلاة لاحتمال وجود مانع من الصحة غيره. وأما القيد الأخير فللتفرقة بين الشرط والركن فالركن داخل ماهيته الشيء فقراءة الفاتحة ركن من الصلاة بخلاف الوضوء فهو شرط لصحتها. تنبيهات: الأول - الشرط ينقسم لأربعة أقسام: قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (1/ 455): ((وهو) أي الشرط منحصر في أربعة أنواع. الأول: شرط (عقلي كحياة لعلم) لأنها إذا انتفت الحياة انتفى العلم، ولا يلزم من وجودها وجوده. (و) الثاني (شرعي، كطهارة لصلاة. و) الثالث (لغوي، كأنت طالق إن قمت، وهذا) النوع (كالسبب) فإنه يلزم من وجود القيام وجود الطلاق ومن عدم القيام عدم الطلاق المعلق عليه. (و) الرابع (عادي، كغذاء الحيوان) إذ العادة الغالبة: أنه يلزم من انتفاء الغذاء انتفاء الحياة ومن وجوده وجودها؛ إذ لا يتغذى إلا الحي. فعلى هذا: يكون الشرط العادي كالشرط اللغوي في كونه مطردا منعكسا) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: المحكم، مختار الصحاح، المصباح المنير، القاموس المحيط، لسان العرب: مادة (ش ر ط)،وانظر:"شرح الكوكب" (1/ 452)، البحر المحيط للزركشي (2/ 466)، وغيرهم. (¬2) زاد المرداوي وغيره بعد هذه العبارة: (ويكونان من قبيل الأسباب لا من قبيل الشروط، كما تقدم في الشرط اللغوي) واعلم أن التحقيق أن كل من السبب والشرط قد يكون شرعيا وعاديا وعقليا فيكون الناتج ستة أقسام وانظرها بأمثلتها في التحبير (2/ 924)، وشرح الكوكب (1/ 182)، وما ذكره هنا إنما هو من قبيل السبب العادي وأما مثال الشرط العادي كنحو وضع سلم للصعود عليها للسقف، وأما اللغوي فيفارقهم والتحقيق أنه شرطه سبب كما سيأتي بإذن الله.

الثاني - الشروط اللغوية أسباب:

الثاني - الشروط اللغوية أسباب: ومعنى قولنا: (الشروط اللغوية أسباب) أن الشرط اللغوي يسمى شرطا من حيث الاسم، وهو سبب من حيث المعنى والحكم؛ لأنه ينطبق عليه تعريف السبب؛ لأنه يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته. قال المرداوي في " التحبير" (3/ 1068 (: (الشرط اللغوي، والمراد به: صيغ التعليق ب ' إن ' ونحوها من أدوات الشرط، وهو ما يذكر في أصول الفقه في المخصصات للعموم، نحو: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) [الطلاق: 6]، ومنه قولهم في الفقه: الطلاق والعتق المعلق بشرط، ونحوهما، نحو: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو حرة، وقولهم: لا يجوز تعليق البيع على شرط ونحوه، فإن دخول الدار ليس شرطا لوقوع الطلاق شرعا ولا عقلا، بل من الشروط التي وضعها أهل اللغة. وهذا - كما قال القرافي وغيره -: (يرجع إلى كونه سببا يوضع للمعلق، حتى يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته). قال ابن النجار في "الكوكب المنير" (3/ 340): ("ويختص" الشرط "اللغوي منه" أي من الشرط المطلق "بكونه" أي بكون الشرط اللغوي "مخصصا" قال البرماوي، في شرح منظومته: الشرط ثلاثة أقسام، ثم قال: الثاني اللغوي، والمراد به صيغ التعليق "بإن" ونحوها، وهو ما يذكر في أصول الفقه في المخصصات للعموم نحو "قوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) [الطلاق: 6]، ومنه قولهم في الفقه: العتق المعلق على شرط، والطلاق المعلق على شرط. وهذا -كما قال القرافي وغيره- يرجع إلى كونه سببا، حتى يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، ووهم من فسره هناك بتفسير الشرط المقابل للسبب والمانع، كما وقع لكثير من الأصوليين كالطوفي، فجعل (¬1) المخصص هنا من الشرط اللغوي، ووهم من قال غيره). ¬

_ (¬1) أي القرافي.

الثالث - إشكال:

قال القرافي في "الفروق" (1/ 107): (الشروط اللغوية أسباب بخلاف غيرها من الشروط العقلية كالحياة مع العلم، أو الشرعية كالطهارة مع الصلاة، أو العادية كالسلم مع صعود السطح فإن هذه الشروط يلزم من عدمها العدم في المشروط ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم، فقد يوجد المشروط عند وجودها كوجوب الزكاة عند دوران الحول الذي هو شرط، وقد يعدم لمقارنة الدين لدوران الحول مع وجود النصاب، وأما الشروط اللغوية التي هي التعاليق كقولنا: إن دخلت الدار فأنت طالق، يلزم من الدخول الطلاق ومن عدم الدخول عدم الطلاق، إلا أن يخلفه سبب آخر كالإنشاء بعد التعليق وهذا هو شأن السبب أن يلزم من عدمه العدم إلا أن يخلفه سبب آخر فإذا ظهر أن الشروط اللغوية أسباب دون غيرها ... ثم إن الشرط اللغوي يمكن التعويض عنه والإخلاف والبدل كما إذا قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا ثم يقول لها أنت طالق ثلاثا فيقع الثلاث بالإنشاء بدلا عن الثلاث المعلقة، وكقوله إن أتيتني بعبدي الآبق فلك هذا الدينار، ولك أن تعطيه إياه قبل أن يأتي بالعبد هبة فتخلف الهبة استحقاقه إياه بالإتيان بالعبد ويمكن إبطال شرطيته كما إذ أنجز الطلاق فإن التنجيز إبطال للتعليق). الثالث - إشكال: قال الشيخ السلمي في " أصوله" (ص / 346 (: (ولا يقال: قد يوجد الطلاق ولو لم يوجد الخروج بلا إذن، لأن المقصود وقوع الطلاق بسبب الخروج، وأما وقوعه بسبب آخر فلا يمتنع، وهذا جار في الأسباب الأخرى فإنهم يقولون ـ مثلا ـ: الردة سبب للقتل، مع أن القتل قد يكون لأجل الزنى مع الإحصان. وقد زاد المحققون في تعريف السبب قولهم: لذاته، أي: بالنظر إلى هذا السبب دون غيره من الأسباب، حتى لا يرد مثل هذا الاعتراض على قولهم: السبب يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم). الرابع- قد يكون الشرط اللغوي شرعيا: قال الشيخ عباس الحكمي في رسالته "تخصيص العام" (ص/210): (وقد يكون الشرط شرعيا لغويا من حيثيتين، فهو من حيث حكم به الشرع شرعيا، ومن حيث أنه مدخول لأداة الشرط لغويا. وكل الشروط الشرعية الواردة في القرآن والسنة من

الخامس - تعريف الشرط اللغوي:

هذا القبيل). قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (1/ 456): ((و) الشرط (اللغوي: أغلب استعماله في) أمور (سببية عقلية) نحو إذا طلعت الشمس فالعالم مضيء (و) سببية (شرعية) نحو قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) [المائدة: 6] فإن طلوع الشمس سبب ضوء العالم عقلا والجنابة سبب لوجوب التطهير شرعا ... ). الخامس - تعريف الشرط اللغوي: عرفه الشيخ بقوله: (تعليق شيء بشيء وجوداً أو عدماً بإن الشرطية أو إحدى أخواتها). وعرفه الزركشي في "البحر المحيط" (3/ 119) بقوله: (الشرط في اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين إن وإذا أو ما يقوم مقامهما من الأسماء والظروف الدالة على سببية الأول ومسببية الثاني). وعرفه التفتازاني في "التلويح على التوضيح" (1/ 274) بقوله: (وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه شيء من الأدوات المخصوصة الدالة على سببية الأول ومسببية الثاني ذهنا أو خارجا، سواء كان علة للجزاء مثل إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود أو معلوما مثل إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة أو غير ذلك مثل إن دخلت الدار فأنت طالق). السادس - أما باقي أنواع الشرط فهي من المخصصات المنفصلة. قال الشيخ عياض السلمي في " أصوله" (ص/238): (والصواب أن مقصودهم بالشرط في باب التخصيص الشرط اللغوي، وأما الشرط العقلي والشرعي فإنهما من المخصصات المنفصلة، فالأول تخصيص بالعقل، والثاني تخصيص بنص أو قياس ونحوهما، مما ثبت به كون الشيء شرطا شرعيا، فإن ثبت بنص قيل إن المخصص للعموم النص، وإن ثبت بقياس قيل المخصص القياس). أدوات الشرط: أدوات الشرط كثيرة ومنها: إن المخففة - إذا - إذْ ما - لو - لولا - أنى - حيثما - متى - مهما - كيفما - مَنْ - ما - أي - أين - أيان ... كقوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:

أحكام الشرط:

6]، وكقول: إن جاء زيد أكرمته. وكقول: إذا أحمر البُسْر فأتنا وهكذا ... قال الشيخ في "الشرح" (ص/288): (ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط عاملة أو غير عاملة، ولا بين أن تكون الأداة اسمية أو حرفية. (فإن) حرف شرط، وم (مَنْ) اسم شرط). أحكام الشرط: قال الشيخ: (والشرط مخصص سواء تقدم أم تأخر). قال في "الأصل" (ص/40): (مثال المتقدم قوله تعالى في المشركين: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة: 5]. ومثال المتأخر قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [النور: 33]). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 343): ("ويتقدم" الشرط "على الجزاء لفظا" أي في اللفظ "لتقدمه" أي تقدم الشرط على الجزاء "في الوجود طبعا" لأن الجزاء إنما يكون بعد شيء يجازى عليه). فإن تأخر في اللفظ كان كالمتقدم من ناحية المعنى. ثم قال - أي الشيخ في "الشرح" في نفس الموضع السابق: (يشترط في الشرط ما يشترط في الاستثناء، يعني أن يكون من متكلم واحد، وأن يكون متصلا به حقيقة أو حكما، فإن لم يكن من متكلم واحد لم يصح، فلو قال قائل: (أكرم زيدا)، قال الآخر: (إن زارك) لا يصح؛ لأن المتكلم غير واحد. ولو قال: (أكرم زيدا) ثم بعد مدة يمكنه الكلام فيها قال: (إن زارك) لا يصح؛ لأنه لا بد أن يكون متصلا). تتمة: قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2624 (: (قوله: {ويجوز إخراج الأكثر به}. قال في ' المحصول ': اتفقوا على أنه يحسن التقييد بشرط أن يكون الخارج منه أكثر من الباقي، وإن اختلفوا فيه في الاستثناء. انتهى. فلو قال: أكرم بني تميم إن كانوا علماء، وكان الجهال أكثر جاز، بل ولو كان الكل جهالا، يخرج الكل بالشرط).

ثالثا - التخصيص بالصفة:

ثالثًا - التخصيص بالصفة: قال الشيخ: (ثالثاً: الصفة وهي: ما أشعر بمعنى يختص به بعض أفراد العام من نعت أو بدل أو حال). أولا - تعريفها: الصفة المرادة هنا التي تخصص العام عند الأصولين ليس المقصود بها النعت فقط، بل ما هو أعم من ذلك، فكل وصف أو معنى يمكن أن يحصر عموم العام في بعض الأفراد أو يخرج بعض الأفراد هذا يسمونه صفة، سواءً كان جاراً ومجروراً أو كان نعتاً أو كان حالاً فهذه كلها يعدونها من التخصيص بالصفة (¬1). وعرفها الشيخ بقوله: (ما أشعر بمعنى يختص به بعض أفراد العام). وعرفها ابن النجار (¬2) بقوله: (ما أشعر بمعنى يتصف به أفراد العام). وعرفها المرداوي (¬3) بقوله: (ما أشعر بمعنى ينعت به أفراد العام) وكلاهما فيه دور فتعريف الشيخ أفضل من تعريفهما. وعليه فالتعريف المختار للصفة هنا: (ما أشعر بمعنى يختص به بعض أفراد العام). ثانيا - أمثلة عليها: ومثل لها الشيخ بقوله: (من نعت أو بدل أو حال) 1 - (من نعت): وقال في "الأصل" (ص/41): (مثال النعت: قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [النساء: 25]). فلفظ (فَتَيَاتِكُمُ) هنا جمع مضاف إلى معرفة وهي من صيغ العموم، ثم قال في وصفهن: (المُؤْمِنَاتِ) هذا قيد خصص عموم قوله (فَتَيَاتِكُمُ) فذهب جمهور العلماء إلى أن من لم يستطع مهر الحرة يجوز له أن يتزوج أمة لكن لابد وأن تكون مؤمنة. ¬

_ (¬1) انظر شرح الشيخ السلمي على الورقات. (¬2) شرح الكوكب (3/ 347). (¬3) التحبير (6/ 2626).

2 - (أو بدل): قال في "الأصل": (ومثال البدل: قوله تعالى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]). البدل نوع مستقل من المخصصات المتصلة ولم أقف على من ذكره كمثال للتخصيص بالصفة غير الشيخ، بل ما وقفت عليه من كلامهم التفريق بينهما. قال الزركشي في البحر المحيط (2/ 486): (البدل قائم بنفسه وليس تبيينا للأول كتبيين النعت الذي هو تمام المنعوت وهو معه كالشيء الواحد) وقد اختلف العلماء في عده من المخصصات المنفصلة. قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2529): (قوله: {فالمتصل: استثناء متصل [وشرط]، وصفة، وغاية، وزاد الآمدي ومن تبعه} - كابن الحاجب - {بدل البعض}. أما الأربعة الأول فلا خلاف في أنها من المخصصات، وأما بدل البعض فذكره الآمدي ومن تبعه من المخصصات. قال الأصفهاني في ' شرح المختصر ' وغيره: وقد زاد المصنف بدل البعض عن الكل؛ لأنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ. قال: وفيه نظر، فإن المبدل في حكم المطرح والبدل قد أقيم مقامه فلا يكون مخصصا له ... انتهى. قال البرماوي: من المخصصات المتصلة بدل البعض من الكل، مثل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97]، (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ) [المزمل: 2، 3]، (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ) [المائدة: 71]، عده ابن الحاجب من المخصص، وأنكره الصفي الهندي في ' الرسالة السيفية '، قال: لأن المبدل منه كالمطرح فلم يتحقق فيه معنى الإخراج والتخصيص لا بد فيه من الإخراج، فلذلك قدروا في آية الحج: ولله الحج على المستطيع. وكذا انظر الأصفهاني كما تقدم، ومن ثم لم يذكره الأكثر - منهم: السبكي -، وعللوه بما تقدم. لكن قال البرماوي: فيما قالوه نظر من وجهين: أحدهما: أن أبا حيان نقل التخصيص بالبدل عن الشافعي؛ إذ قال في قصيدته التي مدح فيها الشافعي: إنه هو الذي استنبط الفن الأصولي، وإنه الذي يقول بتخصيص العموم بالبدلين. ومراده بدل البعض، وبدل الاشتمال، فاستفدنا منه أن بدل

المخصصات المنفصلة.

الاشتمال في معنى بدل البعض في التخصيص عند من يقول به، ومعناه ظاهر؛ لأن قولك: أعجبني زيد علمه، يكون الأول معبرا به عن مجموع ذاته وعلمه وسائر أوصافه، فإذا قلت: علمه، تخصص الحكم بعلمه فقط، وفهم بعضهم من البدلين بدل البعض، وبدل المطابقة. والوجه الثاني: أن ما قالوه في اطراح المبدل منه إنما هو تفريع على أن المبدل منه مطرح، وهو أحد الأقوال في المسألة، والأكثر على خلافه. انتهى). قال الشيخ عباس الحكمي في رسالته "تخصيص العام" (ص/243): (ثم إن كون المبدل منه في نية الطرح هو أنه غير منظور إليه من حيث الحكم على جميع أفراده لا أنه غير مذكور، والتخصيص من عوارض الألفاظ، وقد ذكر اللفظ العام في الكلام وذكر التخصيص، فلا وجه لإنكار عد البدل من المخصصات). 3 - (أو حال): قال في "الأصل" (ص/41): (ومثال الحال: قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93]. الآية). قال الزركشي في "البحر المحيط" (2/ 486): (التخصيص بالحال هو في المعنى كالصفة). قال الشيخ السلمي في "شرح الورقات": (- قوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [النساء: 93]، لو لم تأتي كلمة (مُّتَعَمِّداً) وهي حال هنا والأصوليون يسمونها صفة ويجعلونه من التخصيص بالصفة، لو لم ترد كلمة: (مُّتَعَمِّداً) أصبحت من يقتل مؤمنا فجزائه جنهم، لكن هل كل من قتل مؤمناً يعني ولو خطأ يستحق هذا العقاب؟ الجواب لا، بدليل قوله تعالى: (مُّتَعَمِّداً) فقوله (مُّتَعَمِّداً) هذا تخصيص بالصفة، كانت الآية عامة لولا هذا التخصيص، فهذا هو التخصيص بالصفة). المخصصات المنفصلة. تمهيد - الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص: وقبل الكلام على هذه المخصصات أذكر الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص لتعلقه المباشر بها.

اهتم العلماء ببيان الفرق بينهما وذكروا فروقا كثيرة غالبها لا يسلم من الاعتراض. - بداية نذكر مثالا للعام الذي أريد به الخصوص ليتضح الكلام: العام الذي أريد به الخصوص، هو الذي لفظه عام من حيث الوضع ولكن اقترن به دليل يدل على أنه مراد به بعض مدلوله اللغوي مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران: 173]، فلفظ الناس عام ولكنه لم يرد به عموم الناس بدليل قوله: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) فدل على وجود أناس جمعوا، وأناس مجموع لهم، وأناس نقلوا الخبر للمجموع لهم. فلفظ الناس تكرر مرتين والمراد به في الأولى: نعيم بن مسعود، أو ركب عبد القيس، وفي الثانية: أبو سفيان ومن معه من الأحزاب (¬1). - أصح الفروق بينهما (¬2): 1 - قال المرداوي في "التحبير" (5/ 2381): (قال البرماوي: قول بعض متأخري الحنابلة فالذي أريد به خصوص يحتاج لدليل معنوي يمنع إرادة الجميع فتعين له البعض، والمخصوص يحتاج لدليل لفظي غالبا، كالشرط والاستثناء والغاية والمنفصل) (¬3). 2 - قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (3/ 160): (وقال شيخ الإسلام البلقيني: الفرق بينهما ... أن قرينة المخصوص قد تنفك عنه؛ وقرينة الذي أريد به الخصوص لا تنفك عنه). بعض الفروق الأخرى وبيان وجه الاعتراض عليها: 1 - قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 166): (وفرق بينهما أبو حامد بأن الذي أريد به الخصوص: ما كان المراد به أقل. وما ليس بمراد هو الأكثر. قال ابن هبيرة: وليس كذلك العام المخصوص: لأن المراد به هو الأكثر، وما ليس بمراد: هو الأقل). ¬

_ (¬1) "أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله" (ص/297). (¬2) انظر "تخصيص العام" (ص/ 34) لعلي الحكمي. (¬3) وقد نسب إليهم تفريقا آخر سوف أتكلم عنه بعد قليل بإذن الله - تعالى -.

أولا - التخصيص بالحس:

وهذا التفريق إنما يتأتى على قول من رجح أنه لا يستثنى من العام أكثر من النصف، وقد سبق وأن بينا أن هذا القول مرجوح وأنه يجوز أن يستثنى من العام أكثر من النصف، وعليه فقد يكون المراد من العام المخصوص الأقل (¬1). 2 - قال المرداوي في "التحبير" (5/ 2381): (قال البرماوي بعد أن حكى الفروق في ذلك: ويعلم من ذلك أن قول بعض متأخري الحنابلة في الفرق بأن العام الذي أريد به الخصوص أن يطلق المتكلم اللفظ العام ويريد به بعضا معينا والعام المخصوص هو الذي أريد به سلب الحكم عن بعض منه). قال الشيخ علي الحكمي في "تخصيص العام" عن هذا الفرق: (غير صحيح؛ لأن الأدلة العامة إنما سيقت لبيان الحكم في الأفراد، لا لسلب الحكم عن بعضها، وإنما يستفاد نفي الحكم عن البعض من دليل آخر ... ). وهناك فروقا أخرى بينهما أهملت ذكرها والكلام عليها، وهذا التفريق وان اهتم به بعض الأصوليين إلا أنه لا يترتب عليه عمل؛ لأنهم كالمتفقين على أن العام المخصوص لم يرد به جميع أفراده منذ أن تكلم الله به كالعام المراد به الخصوص (¬2). أولاً - التخصيص بالحس: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 278): (المراد بالحس المشاهدة) (¬3). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 552): (قوله: «والمخصصات»، أي: والأدلة المخصصات، يعني أدلة التخصيص «تسعة «: -» الحس»، أي: أحدها الحس، «كخروج السماء والأرض من» قوله عز وجل في صفة الريح العقيم: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا) [الأحقاف: 25]؛ فإننا علمنا بالحس أنها لم تدمر السماء والأرض مع أشياء كثيرة؛ فكان الحس مخصصًا لذلك. قلت: وفي الاستدلال بالآية الكريمة نظر كما سبق في صدر الباب) - يشير لقوله في الصفحة السابقة -: (وقوله سبحانه وتعالى في صفة الريح التي أهلكت عادًا: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا)، وهو مخصوص بأشياء كثيرة لم تدمرها، ¬

_ (¬1) انظر "تخصيص العموم" (ص/ 34). (¬2) انظر أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ص/298). (¬3) وانظر أيضا: جمع الجوامع (2/ 60 - حاشية العطار).

كالسماوات والأرض. قلت: هذه الآية يحتج بها الأصوليون على إطلاق العام وإرادة الخاص، ولا حجة فيها؛ لأنها جاءت في موضع آخر مقيدة بما يمنع الاستدلال بها على ذلك، وهو قوله عز وجل: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات: 41، 42]، والقصة واحدة؛ فدل على أن قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} مقيد بما أتت عليه، كأنه سبحانه قال: تدمر كل شيء أتت عليه، وحينئذ يكون التدمير مختصًا بذلك؛ فتكون الآية خاصة أريد بها الخاص؛ فلا يصح الاحتجاج بها على ما يذكرون). قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2638): (قوله: {منه الحس}. يجوز التخصيص بالحس، أي: المشاهدة، كقوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل: 23]، (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) [الأحقاف: 25] فنحن نشاهد أشياء كثيرة لم تؤتها بلقيس كملك سليمان، ونحن نشاهد أشياء كثيرة لم تدمرها الريح كالسموات، والجبال، وغيرها. ونحوه قوله تعالى: (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات: 42]، (يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص: 57] فإنا نشاهد أشياء لم تجعلها كالرميم، وأن ما في أقصى المغرب والمشرق لم يجب إليه. واعلم أن هنا ثلاثة أشياء: الأول: أن هذه الأمثلة لا تتعين أن تكون من العام المخصوص بالحس، فقد يدعى أنها من العام الذي أريد به الخصوص. الثاني: أن ما كان خارجا بالحس قد يدعى أنه لم يدخل حتى يخرج، كما يأتي نظيره في التخصيص بالعقل، فليكن هذا على الخلاف الذي هناك. الثالث: يؤول التخصيص بالحس إلى أن العقل يحكم بخروج بعض الأفراد بواسطة الحس، فلم يخرج عن كونه خارجا بالعقل فليكونا قسما واحدا، وإن اختلف طريق الحصول (¬1)). وقد رجح الشيخ - رحمه الله - أن التخصيص بالحس والعقل ليس من العام المخصوص بل هو من العام الذي أريد به الخصوص ووصفه بأنه قول قوي جدا (¬2). ¬

_ (¬1) بمعني أن المخصص فيهما هو العقل مرة بواسطة الحواس ومرة بلا واسطتها. (¬2) انظر شرح الأصول (ص/300).

ثانيا - التخصيص بالعقل:

ثانيا - التخصيص بالعقل: قال مجد الدين في "المسودة" (ص/106): (مسألة يجوز تخصيص العموم بدليل العقل نص عليه وهو قول أكثر أهل العلم وقال قوم لا يجوز ذلك وهم من المتكلمين. قال الجويني: أبى بعض الناس تسمية ذلك تخصيصا وهى مسألة قليلة الفائدة ولست أراها خلافية وأشار إلى أنه نزاع في عبارة وأنهم جعلوا ذلك بيانا ويقال لهم بل التخصيصات بيان. قلت: الذين يجعلون العقل مخصصا فانه والله أعلم لأن العقل مثل المخصصات اللفظية المتصلة ... ). وقال القاضي في العدة (2/ 547): (يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل) (¬1). وهذا هو أحد الأقوال في المذهب (¬2) والراجح أن هذا ليس تخصيصا وإنما من باب العام الذي أريد به الخصوص كما سبق في التخصيص بالحس. قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2639): (قوله: {والعقل أيضا} من المخصصات المنفصلة. العقل ضروريا كان أم نظريا، فالضروري كقوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرعد: 16]، فإن العقل قاض بالضرورة أنه لم يخلق نفسه الكريمة، ولا صفاته (¬3). والنظري كتخصيص قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97] فإن العقل بنظره اقتضى عدم دخول الطفل، والمجنون بالتكليف بالحج؛ لعدم فهمهما، بل هما من جملة الغافلين الذين هم غير مخاطبين بخطاب التكليف. قال بعض أعيان الشافعية: لا خلاف في ذلك. قال البرماوي: نعم، منع كثير من العلماء أن ما خرج من الأفراد بالعقل من باب التخصيص، وإنما العقل اقتضى عدم دخوله في لفظ العام، وفرق بين عدم دخوله في لفظ العام، وبين خروجه بعد أن دخل ... ). ¬

_ (¬1) انظر أيضا التمهيد (2/ 101) (¬2) وقال القاضي في العدة (2/ 547): (يجوز تخصيص العموم بدلالة العقل) وانظر أيضا التمهيد (2/ 101). (¬3) قال الشنقيطي في المذكرة (ص/209): (دل العقل على أنه تعالى لا يتناوله ذلك وان كان لفظ الشيء يتناوله كقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وقوله: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ) [الأنعام: 19]).

بيان أن الخلاف لفظي:

ومما سبق يتضح رجحان ما أشار إليه الشيخ في الأصل بقوله: (ومن العلماء من يرى أن ما خص بالحس والعقل ليس من العام المخصوص وإنما هو من العام الذي أريد به الخصوص إذ المخصوص لم يكن مراداً عند المتكلم ولا المخاطب من أول الأمر وهذه حقيقة العام الذي أريد به الخصوص). بيان أن الخلاف لفظي: قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2641): (قال البرماوي: نعم اختلف في أن هذا الخلاف هل هو معنوي، أو لفظي لا فائدة فيه؟ وبالثاني قال الباقلاني، وإمام الحرمين، وابن القشيري، والغزالي، وألكيا، وغيرهم، ووافقهم القرافي، والتاج السبكي، وغيرهم - وهو الذي صححناه في المتن -. وقال أبو المعالي: الخلاف لفظي عند التحقيق، ويشهد له قول الأستاذ أبو منصور: أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم، واختلفوا في تسميته تخصيصا ... ). ثالثا التخصيص بالشرع: قال الشيخ: (وأما التخصيص بالشرع فإن الكتاب والسنة يخصص كل منهما بمثلهما وبالإجماع والقياس). ومحصل ما ذكر الشيخ هنا تخصيص الكتاب بالكتاب، والكتاب بالسنة، والسنة بالكتاب والسنة بالسنة، والكتاب بالإجماع، والسنة بالإجماع، والكتاب بالقياس، والسنة بالقياس. وقد مثل الشيخ في الأصل لهذه الأنواع إلا السادس، ولم يتعرض للخلاف الوارد في بعضها كالخلاف في تخصيص القرآن والسنة المتواترة بالسنة الآحادية، والخلاف في تخصيص عموم القرآن والسنة بالقياس (¬1). ¬

_ (¬1) وقد توسع في عرض الخلاف في هذه المسألة الشيخ علي الحكمي في "تخصيص العام" (ص/315: 334) وعرض للمذاهب الثمانية في المسألة وعرض أدلتهم وناقش بينها ثم اختار أن تخصيص العام بالقياس جائز وصحيح ولكنه ليس على إطلاقه بل ينبغي النظر إلى مراتب العموم والقياس، فإن كان القياس أقوى من العام قدم القياس في الصورة التي هي أقوى من العام، وإن كان القياس أضعف قدم العام، وإن تساويا في القوة فالأولى جمعا بين الأدلة أن يخصص العام بالقياس.

قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (3/ 359): ((يخصص الكتاب ببعضه و) يخصص أيضا (بالسنة مطلقا) أي سواء كانت متواترة أو آحادا (و) تخصص (السنة به) أي بالقرآن (وببعضها) أي تخصص السنة ببعضها (مطلقا) أي سواء كانت متواترة أو آحادا. فمن أمثلة تخصيص الكتاب بالكتاب: قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228] فإن عمومه خص بالحوامل في قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4] وخص أيضا عمومه الشامل للمدخول بها وغيرها بقوله تعالى في غير المدخول بها (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) [الأحزاب: 49]. ونحو ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة: 234] خص بقوله سبحانه وتعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ونحو ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) [البقرة: 221] خص بقوله سبحانه وتعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [المائدة: 5] والمخالف في مسألة تخصيص الكتاب بالكتاب بعض الظاهرية، وتمسكوا بأن التخصيص بيان للمراد باللفظ فلا يكون إلا بالسنة، " لقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44] ... وأجيب بأن التخصيص لا يخرج عن كونه مبينا إذا بين ما أنزل بآية أخرى منزلة كما بين ما أنزل إليه من السنة. فإن الكل منزل (¬1). ومثال تخصيص الكتاب بالسنة، حتى مع كونها آحادا عند أحمد ومالك والشافعي رضي الله عنهم: قوله سبحانه وتعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) [النساء: 24] فإنه مخصوص بقوله - صلى الله عليه وسلم-: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) متفق عليه. ¬

_ (¬1) وقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) يدل على أن القرآن فيه تبيان لكل شيء.

ونحوه تخصيص آية السرقة بما دون النصاب، وقتل المشركين بإخراج المجوس، وغير ذلك ... ومثال تخصيص السنة بالكتاب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أبين من حي فهو ميت) رواه ابن ماجه، خص بقوله سبحانه وتعالى: (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) [النحل: 80]. ومن أمثلته أيضا: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عبادة بن الصامت - رضي الله تعالى عنه - (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب: جلد مائة والرجم) والمقصود بيان السبيل في قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) فقوله صلى الله عليه وسلم: (البكر بالبكر، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) يشمل الحرة والأمة، ولكن الأمة خصت بقوله سبحانه وتعالى: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء: 25] فدل على أنه ليس عليهن قتل لأن القتل لا ينصف كما أن عليهن جلد خمسين لا مائة جلدة وهكذا. ومن ذلك حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) خص بقوله سبحانه وتعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29]. ومثال تخصيص السنة بالسنة: قوله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر) فإنه مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وهو كثير ... (وبإجماع) يعني أن العام يخص بإجماع (والمراد دليله) أي دليل الإجماع، لا أن الإجماع نفسه مخصص؛ لأن الإجماع لا بد له من دليل يستند إليه، وإن لم نعرفه (¬1). ¬

_ (¬1) قال الشيخ علي الحكمي في " تخصيص العام" (ص/314): (لا خلاف بين العلماء في أن المخصص حقيقة هو سند الإجماع، وأن للإجماع فائدة هي تقوية ذلك المستند وجعله في درجة يكون معها صالحا لتخصيص كل من القرآن والسنة المتواترة حتى عند القائلين بقطعية دلالة العام؛ لأن الإجماع أقوى من النصوص، لعدم احتماله النسخ، ولا التخصيص، وهي محتملة لذلك).

ومثلوه بقوله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4] خص بالإجماع على أن العبد القاذف يجلد على النصف من الحر، لكن قال البرماوي: في التمثيل بذلك نظر، لاحتمال أن يكون التخصيص بالقياس (¬1) ... وجعل بعض العلماء من أمثله المسألة: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة: 9] خص بالإجماع على عدم وجوب الجمعة على العبد (¬2) والمرأة (¬3) ... (و) يجوز تخصيص اللفظ العام أيضا (بالقياس) قطعيا كان أو ظنيا، ثم إن كان قطعيا خص به العام قطعا، قاله الإبياري في شرح البرهان وغيره، وإن كان ظنيا، فالذي عليه الأئمة الأربعة والأشعري والأكثر: جواز التخصيص به، وعند ابن ¬

_ (¬1) أي أن الصحابة قاسوا العبد على الأمة بجامع الرق وأجمعوا على أن حده نصف حد الحر في القذف وغيره فالقياس هو المخصص لعموم الآية الموجبة لتمام حد الحر عليه والإجماع رفع القياس لرتبة القطع كما سبق بيان ذلك، هذا على فرض صحة الإجماع، ولكنه لم يصح قال ابن رشد في بداية المجتهد (2/ 331): (واختلفوا في العبد يقذف الحر كم حده فقال الجمهور من فقهاء الأمصار حده نصف حد الحر وذلك أربعون جلدة وروي ذلك عن الخلفاء الأربعة وعن ابن عباس وقالت طائفة حده حد الحر وبه قال ابن مسعود من الصحابة وعمر بن عبد العزيز وجماعة من فقهاء الأمصار وأبو ثور والأوزاعي وداود وأصحابه من أهل الظاهر) كما أن هذا القياس منقوض وليس هذا محل بسط الخلاف في هذه المسألة. (¬2) قال ابن قدامة في "المغني" (2/ 95): (فصل فأما العبد ففيه روايتان إحداهما لا تجب عليه الجمعة وهو قول من سمينا في حق المسافر والثانية تجب عليه ولا يذهب من غير إذن سيده نقلها المروزي واختارها أبو بكر وبذلك قالت طائفة إلا أن له تركها إذا منعه السيد). (¬3) قال ابن قدامة في المرجع السابق (2/ 94): (أما المرأة فلا خلاف في أنها لا جمعة عليها. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن لا جمعة على النساء ولأن المرأة ليست من أهل الحضور في مجامع الرجال ولذلك لا تجب عليها جماعة)، وعليه فيستقيم هذا المثال في حق المرأة دون العبد.

سريج والطوفي من أصحابنا: يخصص القياس الجلي دون غيره، وهو قول جماعة من الشافعية ... ). ومن أمثلة تخصيص عموم القرآن بالقياس تخصيص عموم قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور: 2] .. فان عموم الزانية خصص بالنص وهو قوله في الإماء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [النساء: 25]. فقيس عليها العبد بجامع الرق فيلزم جلد العبد خمسين لقياسه على الأمة ويخرج بذلك من عموم ((الزاني)) الذي يجلد مائة. - وهذا القياس للعبد على الأمة بجامع الرق خصص قوله - صلى الله عليه وسلم -: «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» في تنصيف الحد والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور. - ومن أمثلة تخصيص القياس لعموم القرآن: تخصيص عموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) [البقرة: 275] بقياس الأرز على البر في تحريم بيعه متفاضلا أو نسيئة وكذلك كل ما وجدت فيه علة الربا الموجودة في الأجناس الربوية المنصوص عليها في قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلا مثلا بمثل سواء بسواء) فمقتضى الآية حل جميع أنواع البيع، وخصها الحديث بتحريم بيع الأجناس الربوية المذكورة بجنسها إلا يدا بيدا مثلا بمثل ثم استنبط الفقهاء من حديث النهي علة التحريم - على خلاف بينهم فيها - وألحقوا بتلك الأجناس كل ما وجدت فيه العلة وخصوا الآية بذلك. بقيت لنا أمثلة على تخصيص السنة بالإجماع. قال المرداوي في "التحبير" (2/ 2670): (وأما تخصيص السنة العامة بالإجماع فلم أرهم تعرضوا له كأنهم استغنوا بمثال تخصيص القرآن). ومن أشهر الأمثل على ذلك تخصيص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) إذ أن (شيء) نكرة في سياق النفي فتعم لكن هذا

المطلق والمقيد

العموم مخصوص بما تغير بالنجاسة بالإجماع (¬1) (¬2). - هناك أنواعا من المخصصات لم يذكرها الشيخ - رحمه الله - ومنها: التخصيص بفعله وتقريره - صلى الله عليه وسلم -، والتخصيص بالمفهوم، وبالعرف والعادة وبمذهب الصحابي وبالمصالح المرسلة وغير ذلك، وليس المجال هنا للكلام عن هذه الأنواع حتى لا نخرج عن مقصودنا. وأما مسألة تعارض العام والخاص فقد عرض لها الشيخ في باب التعارض فلنؤجله إلى محله هناك، والله المستعان. المطلق والمقيد تعريف المطلق: 1 - لغة: قال الشيخ: (المطلق لغة: ضد المقيد). المطلق في اللغة: من الإطلاق بمعنى الإرسال، فهو المرسل، أي: الخالي من القيد. قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (3/ 392): ("المطلق" مأخوذ من مادة تدور على معنى الانفكاك من القيد). قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" مادة (ط ل ق): (الطاء واللام والقاف أصلٌ صحيحٌ مطّرد واحد، وهو يدلُّ على التَّخلية والإرسال. يقال انطلقَ الرّجل ينطلق انطلاقاً. ثمَّ ترجع الفروع إليه، تقول أطْلَقْتهُ إطلاقاً. والطِّلْق: الشيء الحلال، كأنَّه قد خُلِّيَ عنه فلم يُحظَر ... والطَّالق: النّاقة تُرسَل ترعى حيث شاءت. ويقال للظَّبْي إذا مرَّ لا يُلوِي على شيء: قد تَطلَّق ... ) (¬3). ¬

_ (¬1) هذا المثال ذكره الشيخ العثيمين في شرحه لهذا الحديث من بلوغ المرام. (¬2) قال شمس الدين الزركشي في شرحه على مختصر الخرقي (1/ 15): ((إلا ما غير ريحه أو طعمه) إلا أن الشافعي رحمه الله قال: هذا الحديث لا يثبت أهل العلم مثله. إلا أنه قول العامة، لا أعرف بينهم فيه خلافاً، وكذلك قال أحمد رحمه الله: ليس فيه حديث، ولكن الله تعالى حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه، فذلك طعم الميتة أو ريحها، فلا تحل له). (¬3) انظر مادة (ط ل ق) في: أساس البلاغة، الصحاح، تاج العروس، لسان العرب.

2 - اصطلاحا: قال الشيخ: (ما دل على الحقيقة بلا قيد). وهذا التعريف موافق لما عرفه به السبكي حيث عرفه في "جمع الجوامع" بقوله: (الدال على الماهية بلا قيد) (¬1). وعرفه الآمدي وابن الحاجب بأنه: (ما دلَّ على شائع في جنسه). وقريبا منه تعريف الحنابلة فقد عرفه ابن قدامة في الروضة (ص/259): (المطلق هو المتناول لواحد لا بعينه باعتباره حقيقة شاملة لجنسه) (¬2). وقد سلك العلماء مسلكين في تعريف المطلق فمنهم من سوى بينه وبين النكرة فلم يفرق بين هذه التعاريف، ومنهم من فرق بينهما وهو الراجح: قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/217) تعليقا على تعريف ابن قدامة السابق: (مشى المؤلف إلى اتحاد النكرة والمطلق (¬3) الذي هو اسم الجنس وكثير من الأصوليين يفرقون بينهما). ¬

_ (¬1) وقريب منه ما عرفه به الرازي ووافقه عليه القرافي والبيضاوي بأنه (اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي هي). (¬2) وانظر: "قواعد الأصول ومعاقد الفصول لصفى الدين الحنبلي" (ص / 14)، و"شرح مختصر الروضة" (2/ 630)، و"التحبير" (6/ 2711) و"شرح الكوكب المنير" (3/ 392)، و"المدخل" (ص / 260)،وغيرها. (¬3) وانتصر لذلك القرافي في "العقد المنظوم في "الخصوص والعموم" (1/ 188)، والشيخ إبراهيم بن عبدالله بن إبراهيم في "الدليل الشرعي بين الإطلاق والتقييد" (ص/49، 54)، وأيضا تعقب الزركشي ابن السبكي في "جمع الجوامع (2/ 81 - حاشية العطار) في تفريقه بينهما، وانظر تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع (1/ 402)، وقال الشيخ العثيمين في "شرح ألفية ابن مالك": (قوله: (من ذاك) أي من علم الشخص (أم عريط للعقرب) العقرب معروف، وكلمة (عقرب) اسم جنس، لكن (أم عريط) هذه علم جنس، فإذا قلت: لدغتني عقرب، فهذا اسم جنس. وإذا سألك سائل وجدك تتلوى: ما الذي أصابك؟ فقلت: لدغتني أم عريط، فهذا علم جنس. فإن قيل: أم عريط أي العقارب؟ قلنا: هذا علم للجنس عموماً، يعني: كأننا تخيلنا أن الجنس شخص قائم وضعنا له علماً هو أم عريط؛ لكن النكرة أو اسم الجنس عقرب، فلا نتخيل أن هناك مجموعة أو أن الجنس كله سميناه بهذا الاسم، بل عقرب معناه واحد من العقارب، هذا هو الفرق بين علم الجنس وبين اسم الجنس).

الفرق بين اسم الجنس (المطلق) والنكرة:

وإليك بيان الفرق بين المطلق (اسم الجنس) والنكرة ليتضح الفرق بين هذه التعريفات: الفرق بين اسم الجنس (المطلق) والنكرة: قال الشنقيطي في "رحلة الحج إلى بيت الله الحرام" (ص/36): (المطلق هو اسم الجنس بعينه عند جمهور الأصوليين، وجمهورهم على أن النكرة والمطلق الذي هو اسم الجنس أمران متغايران خلافا لابن الحاجب والآمدي وطائفة والفرق بينهما عند القائل به: أن المطلق هو ما دل على الماهية بلا قيد، والنكرة ما دل على الواحد الشائع في جنسه. ومما يوضح الفرق بينهما أن المطلق الذي هو اسم الجنس يكون موضوع القضية الطبيعية، ولا يكون موضوع كلية ولا جزئية، والنكرة تكون موضوع الكلية والجزئية، ولا تكون موضوع الطبيعية فبهذا يظهر الفرق. والقضية الطبيعية عند المناطقة هي التي حكم بمحمولها على ماهية موضوعها (¬1) الذهنية من حيث هي ماهية وحقيقية، مع قطع النظر عن وجود تلك الماهية الذهنية في أفرادها الخارجية ولذا لو حمل محمولها على أفراد موضوعها الخارجية لكذبت باعتبار كونها طبيعية ومثالها أعني الطبيعية قولك حيوان جنس وإنسان نوع فحكمك بالجنسية على الحيوانية، وبالنوعية على الإنسانية إنما هو باعتبار ماهية الحيوان والإنسان الذهنية دون أفرادها الخارجية، فالجنسية المحكوم بها على الحيوان والنوعية المحكوم بها على الإنسان كلتاهما لا يصدق الحكم بها إلا على الماهية، وإن حكمت بها على الأفراد كذبت لأن أفراد الإنسان مثلا كزيد وعمرو ليس واحد منها يصح الحكم عليه بالنوعية لأنها كلها أشخاص فلو قلت زيد نوع وعمرو نوع لكان كذبا مع صدق قولك إنسان نوع فظهر قصد الماهية دون الأفراد. وكذلك أفراد الحيوان لا يصدق الحكم على واحد منها بأنه جنس، فلو قلت الإنسان جنس والفرس جنس مثلا لكان كذبا لأن أفراد الحيوان أنواع لا أجناس والحكم على النوع بأنه جنس كذب ظاهر، فكذب قولك الفرس جنس والإنسان جنس مع صدق ¬

_ (¬1) إذا قلنا: "زيد قائم" فالموضوع هو زيد، والمحمول هو قائم.

قولك الحيوان جنس يظهر به قصد الماهية دون الأفراد، وهذا يخالف الكلية والجزئية اللتين موضعهما النكرة فالحكم بالمحمول فيهما إنما هو على أفراد الموضوع لا على ماهيته العارية من اعتبار الأفراد فقولك كل إنسان حيوان الحكم في هذه الكلية بالمحمول الذي هو الحيوان على كل فرد من أفراد الموضوع الذي هو الإنسان، لصدق قولك زيد حيوان وعمرو حيوان مثلا، وليس الحكم على الماهية لأن ماهية الإنسان شيء واحد مركب عندهم من حيوانية وناطقية والشيء الواحد لا يجوز دخول السور عليه لعدم تعدده، فلا يجوز مع اعتبار الماهية قولك كل إنسان؛ لأن ماهية الإنسان شيء واحد كما هو مقرر في مبحث أطراف السور وما ذكرنا من الحكم بالمحمول على أفراد الموضوع في الكلية، ومثلنا له هو بعينه في الجزئية؛ لأن الفرق بين الكلية والجزئية إنما هو بشمول الحكم جميع الأفراد وعدمه، فإن شمل الحكم بالمحمول جميع أفراد الموضوع فهي كلية، نحو كل إنسان حيوان، وإلا فجزئية نحو بعض الحيوان إنسان، والحكم في كل منهما على الأفراد لا على الماهية، فظهر الفرق بين اسم الجنس الذي هو المطلق وبين النكرة، بأن الأول موضوع الطبيعية، والأخير موضوع الكلية والجزئية. وقد بنى الأصوليون على هذا الفرق مسألة تزيده إيضاحا وبيانا وهي ما لو قال لزوجته: إن ولدت ذكرا فأنت طالق، فولدت ذكرين. فعلى مراعاة المطلق الذي هو اسم الجنس الدال عندهم على الماهية بلا قيد تطلق زوجته؛ لأنه علق طلاقها على ماهية الذكر، وقد وجدت، ولا نظر إلى الأفراد في المطلق وعلى مراعاة النكرة الدالة على الواحد الشائع لا تطلق زوجته؛ لأنه علق على ولادتها واحدا بمقتضى النكرة الدالة على الواحد الشائع، فلم تلد واحدا بل ولدت اثنين، فجاءت بغير المعلق عليه ... ). - قال الزركشي في "البحر المحيط" (3/ 3): (المطلق ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي وقال في المحصول ما دل على الماهية من غير أن يكون له دلالة على شيء من قيودها ...... وقال ابن الزملكاني في البرهان جعل صاحب المحصول المطلق والنكرة سواء وخطأ القدماء في حدهم له بما سبق ... ورد عليه الأصفهاني في شرح المحصول وقال لم يجعل الإمام المطلق والنكرة سواء بل غاير بينهما فإن

تعقب:

المطلق الدال على الماهية من حيث هي هي والنكرة الدال عليها بقيد الوحدة الشائعة). وحاصل هذا الفرق أن النكرة يعتبر فيها قيد الوحدة على مذهب أغلب العلماء بعكس المطلق إن عُرِّف بدلالته على الماهية من حيث هي هي ـ فإنه يَرِدُ فيه التعدد، والكثرة. وعليه فيكون المطلق أعم من النكرة لدلالة الماهية على الوحدة وغيرها، فاسم الجنس روعي فيه القدر المشترك لا بقطع النظر عن وجوده في بعض الأفراد ويوضحه المثال السابق الذي ذكره الشنقيطي فإنما طلقت المرأة مراعاة للماهية التي علق عليها الرجل الطلاق التي تحقق بولادة ذكرين، وأما إن نظرا إلى النكرة فلا تطلق لدلالتها على الوحدة والتعيين فلم تأت بالشرط المعلق عليه طلاقها. ومن هذا ظهر قوة التعريف الذي أختاره الشيخ - رحمه الله - حيث عرف المطلق باعتبار الحقيقة، أو الماهية لا باعتبار الوحدة. تعقب: ولما كان المطلق عكس المقيد، وقد استخدم الشيخ في تعريف المطلق كلمة: (قيد) فيخشى من ذلك الدور، ولذلك فالأولى أن نعدل عن كلمة (قيد) بكلمة: (وصف زائد عليها) فيكون تعريف المطلق: (الدال على الحقيقة من غير وصف زائد عليها) (¬1). فائدتان: الفائدة الأولى - النكرة في سياق الإثبات: اعلم أن النكرة في سياق الإثبات من صيغ الإطلاق لا العموم إلا أن يكون ممتنا بها أو في صيغة الشرط، فحينئذ تكون من صيغ العموم. قال الشيخ في "الشرح" (ص/243): (النكرة في سياق الإثبات لا تدل على العموم إلا إذا كانت في سياق الامتنان، فإنها تكون للعموم، فالنكرة إذا كانت في سياق الامتنان فإنها للعموم لأننا لو جعلناها محصورة لا تدل على العموم لم يكن الامتنان كاملا، فإذا جاءت نكرة في سياق الامتنان فهي دالة على العموم). قال الشنقيطي في "أضواء البيان" (1/ 289): (قال ولي الدين والفعل في سياق الثبوت لا يعم كالنكرة المثبتة إلا أن تكون في معرض الامتنان كقوله تعالى: ( ¬

_ (¬1) وهذا التعريف ذكره الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/367).

الفائدة الثانية - الفعل المثبت لا يعم:

وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) [الفرقان: 48]). اهـ. من الضياء اللامع لابن حلولو). أي: فتعم كل الماء الذي ينزل من السماء كالثلج والبرد والمطر، ونحو ذلك. قال الزركشي في "معنى لا إله إلا الله" (ص/ 100): (النكرة في سياق الإثبات لا تعم كذا أطلق جماعة من الأصوليين والحق غيره وأنها بحسب المقامات. والذي أريده هنا أنه تستثنى من ذلك صورتان إحداهما إذا كانت في سياق الشرط نبه عليه الإمام في البرهان. الثانية إذا كانت في سياق الامتنان نص عليه القاضي أبو الطيب الطبري). الفائدة الثانية - الفعل المثبت لا يعم: قال الشيخ في "الشرح" (ص/106): (وقوله: (والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق فلا عموم له): الفعل بكل أقسامه يفيد الإطلاق فليس له عموم إلا بقرينة ولهذا إذا قلت: صام زيد يوم الاثنين، فلا يدل هذا على أنه يصوم كل اثنين!! إنما يدل على أنه صام يوم الاثنين فقط ولو مرة واحدة، لكن إن وجد قرينة فتعم، كما لو قيل: كان يصوم يوم الاثنين، فكلمة: "كان" تفيد الاستمرار غالبًا، ونقول: فإن العموم منها بلفظ "كان " ... ). تضمن كلام الشيخ هنا مبحثا هاما، وهو هل الفعل يفيد الإطلاق مطلقا؟ والجواب أن الفعل المطلق في سياق الإثبات كالنكرة في سياق الإثبات يفيد الإطلاق، وذلك لأن الفعل مضمن المصدر. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" (1/ 289): (وجه كون الفعل في سياق الثبوت لا يعم هو أن الفعل ينحل عند النحويين وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن وينحل عند جماعة من البلاغيين عن مصدر وزمن ونسبة فالمصدر كامن في معناه إجماعا والمصدر الكامن فيه لم يتعرف بمعرف فهو نكرة في المعنى ومعلوم أن النكرة لا تعم في الإثبات وعلى هذا جماهير العلماء). قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (2/ 634): («يقال: فعل مقيد، أو مطلق، باعتبار اختصاصه ببعض مفاعيله، من ظرف» زمان أو مكان، ونحوه من المفاعيل، كالمصدر، والعلة، والآلة، ومحل الفعل، وعدم اختصاصه بذلك ... وقد يقيد الفعل ببعض مفاعيله دون بعض ; فيكون مطلقا مقيدا، بالإضافة إلى

تعريف المقيد:

بعضها دون بعض، كقوله: صم يوم الاثنين ; فالصوم مقيد من جهة ظرف الزمان ; مطلق من جهة ظرف المكان، ولو قال: صم في مكة يومين لكان على العكس من ذلك) (¬1). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 213): () فعله) أي فعل النبي (صلى الله عليه وسلم المثبت وإن انقسم إلى جهات وأقسام لا يعم أقسامه وجهاته)؛ لأن الواقع منها لا يكون إلا بعض هذه الأقسام من ذلك ما روي {أنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة} فإنها احتملت الفرض والنفل، بمعنى أنه لا يتصور أنها فرض ونفل معا، فلا يمكن الاستدلال به على جواز الفرض والنفل داخل الكعبة، فلا يعم أقسامه {وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر، لا يعم وقتيهما} أي وقت الصلاة الأولى ووقت الصلاة الثانية، فإنه يحتمل وقوعهما في وقت الصلاة الأولى ويحتمل وقوعهما في وقت الصلاة الثانية، والتعيين موقوف على الدليل، فلا تعم وقتي الأولى والثانية، إذ ليس في نفس وقوع الفعل المروي ما يدل على وقوعه في وقتيهما. ومثله ما روي {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد غيبوبة الشفق} فإن صلاته احتملت أن تكون بعد الحمرة، واحتملت أن تكون بعد البياض، ولا يحتمل أن تكون بعدهما. إلا على رأي من يجوز حمل المشترك على معنييه ( ولا) يعم (كل سفر) كسفر النسك وغيره، فإنه لا يدل عليه الفعل أيضا) (¬2). تعريف المقيد: أ- لغة: قال الشيخ: (المقيد لغة: ما جعل فيه قيد من بعير ونحوه). المقيد في اللغة: مقابل المطلق، تقول العرب: قيدته وأقيده تقييدًا، فرس مقيد، أي: ¬

_ (¬1) انظر الروضة (ص/260). (¬2) انظر: أصول ابن مفلح (2/ 842)، المختصر لابن اللحام (ص/111)، التحبير (5/ 2436) (1/ 112)، البحر المحيط (2/ 322)، إحكام الآمدي (2/ 272)، حاشية العطار على جمع الجوامع (2/ 72)، التقرير والتحبير (1/ 281)، تيسير التحرير (1/ 247)، إرشاد الفحول (1/ 313)، أصول السرخسي (1/ 21)، الدليل الشرعي بين الإطلاق والتقييد (ص/68 - 69).

تعقب:

ما كان في رجله قيد أو عقال مما يمنعه من التحرُّك الطبيعي. قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة مادة (ق ي د): (القَيْد، وهو معروفٌ، ثُمَّ يستعارُ في كل شيءٍ يَحْبِس. يقال: قيَّدْتُه أُقََيِّده تقييداً. ويقال: فرَسٌ قَيْدُ الأَوَابِدِ، أي فكأنَّ الوحشَ من سُرعةِ إدراكه لها مُقيَّدة ... ). ب- اصطلاحاً: قال الشيخ: (ما دل على الحقيقة بقيد). اختلف الأصوليون في تعريفه بناء على اختلافهم في تعريف المطلق؛ لأن المقيد عكس المطلق فلما عرف الشيخ المطلق بقوله: (ما دل على الحقيقة بلا قيد) عرف المقيد بأنه: (ما دل على الحقيقة بقيد) وهكذا. وعرفه ابن قدامة في "الروضة" (ص/260) بأنه: (المتناول لمعين أو لغير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 631) " («والمقيد ما تناول معينا»، نحو: أعتق زيدا من العبيد ; أو موصوفا بوصف زائد على حقيقة جنسه، نحو: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء: 92]، و (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) [النساء: 92]، وصف الرقبة بالإيمان، والشهرين بالتتابع، وذلك وصف زائد على حقيقة جنس الرقبة والشهرين؛ لأن الرقبة قد تكون مؤمنة وكافرة، والشهرين قد يكونان متتابعين وغير متتابعين) (¬1). تعقب: يؤخذ على تعريف الشيخ بأنه استخدم في تعريف المقيد كلمة (قيد) مما يجعل التعريف فيه دور، والأولى أن نعدل عنها بقولنا (بوصف زائد عليه) فيكون المقيد هو: (ما دل على الحقيقة بوصف زائد عليها). فوائد: - قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 393): (وتتفاوت مراتبه في تقييده باعتبار قلة القيود وكثرتها، فما كثرت فيه قيوده كقوله تعالى: (عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ¬

_ (¬1) انظر: التحبير (6/ 2714)، المختصر لابن اللحام (ص/125)، شرح الكوكب المنير /393) ، المدخل لابن بدران (ص/260).

- الفرق بين العام والمطلق:

أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) (سورة التحريم / آية 5) الآية أعلى رتبة مما قيوده أقل، (وقد يجتمعان) أي الإطلاق والتقييد (في لفظ) واحد (با) عتبار (الجهتين) فيكون اللفظ مقيدا من وجه مطلقا من وجه آخر، نحو قوله تعالى (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (سورة النساء آية 92) قيدت الرقبة من حيث الدين والإيمان فتتعين المؤمنة للكفارة، وأطلقت من حيث ما سوى الإيمان من الأوصاف، ككمال الخلقة والطول والبياض وأضدادها ونحو ذلك، فالآية مطلقة في كل رقبة مؤمنة وفي كل كفارة مجزئة، مقيدة بالنسبة إلى مطلق الرقاب ومطلق الكفارات. ثم اعلم أن الإطلاق والتقييد تارة يكونان في الأمر، كأعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة، وتارة في الخبر، كلا نكاح إلا بولي وشاهدين، ولا نكاح إلا بولي رشيد وشاهدي عدل). - الفرق بين العام والمطلق: محصل ما ذكره الشيخ في "الشرح" (ص/ 251) من فروق بين العام والمطلق ثلاثة: ا- أن العام يشمل جميع أفراده على سبيل العموم، وأما المطلق فلا يعم جميع الأفراد إلا على سبيل البدل بمعنى أن العام عمومه شمولي والمطلق عمومه بدلي (¬1). 2 - العام يدخله التخصيص، والمطلق يدخله التقييد (¬2). 3 - العام يصح الاستثناء منه استثناء متصلاً، ولا يصح الاستثناء من المطلق إلا استثناء منقطعًا (¬3). العمل بالمطلق: قال الشيخ: (يجب العمل بالمطلق على إطلاقه إلا بدليل يدل على تقييده). وهنا مسألتان: ¬

_ (¬1) وقد سبق كلام ابن بدران في بيان الفرق بين العموم البدلي والشمولي عند الكلام على تعريف العام. (¬2) وهذا الفرق واضح من تعريف العام والمطلق، والتخصيص والتقييد وقد سيقت أمثلة كثيرة على التخصيص بأنواعه، وعلى التقييد. (¬3) وقد سبق الكلام على الاستثناء المنقطع عند الكلام على شروط صحة الاستثناء.

حمل المطلق على المقيد:

الأولى - العمل بالمطلق قبل البحث عن مقيد والقول فيها كالقول في العام وقد سبق، قال الزركشي في "البحر المحيط" (3/ 5): (العمل بالمطلق قبل البحث عن المقيد ينبغي أن يكون على الخلاف السابق في العموم). الثانية - الدليل الشرعي المطلق إذا لم يرد ما يقيده يجب حمله على إطلاقه، كما أن العام إذا لم يرد ما يخصصه يجب حمله على عمومه (¬1). حمل المطلق على المقيد: قال الشيخ: (وإذا ورد نص مطلق ونص مقيد وجب تقييد المطلق به إن كان الحكم واحداً وإلا عمل بكل واحد على ما ورد عليه من إطلاق أو تقييد). وقال في الأصل: (مثال ما كان الحكم فيهما واحداً: قوله تعالى في كفارة الظهار: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) (سورة المجادلة / آية 3)، وقوله في كفارة القتل: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) (سورة النساء / آية 92). فالحكم واحد هو تحرير الرقبة فيجب تقييد المطلق في كفارة الظهار بالمقيد في كفارة القتل ويشترط الإيمان في الرقبة في كل منهما. ومثال ما ليس الحكم فيهما واحداً: قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (سورة المائدة / آية 38). وقوله في آية الوضوء: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) (سورة المائدة / آية 6). فالحكم مختلف ففي الأولى قطع وفي الثانية غسل فلا تقيد الأولى بالثانية بل تبقى على إطلاقها ويكون القطع من الكوع مفصل الكف، والغسل إلى المرافق).اهـ ومثال ما اتحد حكمه وسببه: كما لو قال في كفارة الظهار: (اعتق رقبة)، وقال عن نفس الكفارة في موضع آخر: (اعتق رقبة مؤمنة) فهنا يحمل المطلق على المقيد، وتقيد الرقبة بالإيمان. ومثال ما اختلف حكمه واتحد سببه: مثل آية الوضوء؛ قال الله - تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة: 6]، وقال تعالى: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة: 6]؛ ففي ¬

_ (¬1) انظر: "أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله" - (ص / 368).

شروط حمل المطلق على المقيد:

الآية: تقييد غسل اليدين إلى المرفقين، وفي التيمم إطلاق الأيدي، وسببهما واحد وهو الحدث فلا يحمل المطلق على المقيد هنا، وفي بعض هذه الحالات خلاف في المذهب وغيره، والراجح هنا ما اختاره الشيخ من حمل المطلق على المقيد عند إتحاد الحكم سواء اتحد السبب أم اختلف. شروط حمل المطلق على المقيد: اشترط القائلون بالحمل شروطا كثيرة وقد ذكرها الزركشي في البحر المحيط ولخصها عنه الشوكاني في إرشاد الفحول، والسلمي في أصوله، ومن هذه الشروط (¬1): 1 ـ أن يكون القيد من باب الصفات، كالإيمان في الرقبة، ولا يصح أن يكون في إثبات زيادة لم ترد في المطلق، ولذلك لا يصح أن يقال: يجب أن يُيَمم الرجلين والرأس إذا أراد التيمم. 2 ـ أن لا يعارض القيد قيدٌ آخر، فإن عارضه قيد آخر لجأ المجتهد إلى الترجيح. مثاله: حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، ورد بلفظ: فليغسله سبعا إحداهن بالتراب، وورد بلفظ: أولاهن، وبلفظ أخراهن، وكلها صحيحة السند، فالأولى مطلقة، والثانية والثالثة مقيدتان بقيدين متضادين فلا يمكن حمل المطلق على المقيد هنا إلا بترجيح. 3 ـ أن يكون ورود المطلق في باب الأوامر والإثبات، أما في سياق النفي والنهي فلا يحمل المطلق على المقيد، فلو قال: لا تعتق مكاتبا، ثم قال: لا تعتق مكاتبا كافرا، فلا يحمل المطلق على المقيد؛ لأنه لو أعتق مكاتبا مؤمنا لأخل بعموم اللفظ الأول. كذا قالوا، ولا يخفى أن النكرة في سياق النفي والنهي تكون للعموم فلا يكون تقييدها من تقييد المطلق بل من تخصيص العام، والعام لا يخصص بما يدل على ثبوت الحكم لبعض أفراده. ¬

_ (¬1) انظر البحر المحيط (3/ 14)، وإرشاد الفحول (2/ 9)، وأصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ص/372).

المجمل والمبين

4 ـ أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد، فإن قام دليل يمنع منه لم يجز، ويمكن أن نمثل له بإطلاق الرقبة في كفارة الظهار في قوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)، [المجادلة: 3] وتقييد الرقبة في كفارة القتل بالإيمان كما في قوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء: 92] فقد تقرر حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة فالواجب تحرير رقبة مؤمنة في كفارة الظهار، ولنفترض أنه ورد نص آخر في كفارة الظهار ينص على اجزاء الرقبة الكافرة نحو: فتحرير رقبة مؤمنة أو كافرة، لكان ذلك دليلا مانعا من حمل المطلق على المقيد، فيجزئ في الظهار رقبة مؤمنة، أو كافرة (¬1). المجمل والمُبْيَّن تعريف المجمل: أ- لغة: قال الشيخ: (المجمل لغة: المبهم والمجموع). قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2749): ((المجمل لغة المجموع)، أو المبهم، (أو المحصل). قال ابن مفلح: المجمل لغة المجموع من أجملت الحساب. وقيل: أو المبهم ... وقال البرماوي: المجمل أصله من الجمل وهو الجمع، ومن معانيه اللغوية أيضا الإبهام، من أجمل الأمر، أي: أبهمه، ومنه التحصيل، من أجمل الشيء حصله.) (¬2). ب- اصطلاحا: قال الشيخ: (ما يتوقف فهم المراد منه على غيره). قال الشيخ في "الأصل": (ما يتوقف فهم المراد منه على غيره إما في تعيينه أو بيان صفته أو مقداره. مثال ما يحتاج إلى غيره في تعيينه قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة: 228] فإن القرء لفظ مشترك بين الحيض والطهر فيحتاج في تعيين أحدهما إلى دليل. ¬

_ (¬1) ذكر هذا المثال إبراهيم بن عبدالله في "الدليل الشرعي بين الإطلاق والتقييد" (ص/138). (¬2) انظر مادة جمل في: معجم مقاييس اللغة، مختار الصحاح، لسان العرب، المصباح المنير.

ومثال ما يحتاج إلى غيره في بيان صفته: قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [البقرة: 43] فإن كيفية إقامة الصلاة مجهولة تحتاج إلى بيان. ومثال ما يحتاج إلى غيره في بيان مقداره: قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) فإن مقدار الزكاة الواجبة مجهول يحتاج إلى بيان). وقريب من تعريف الشيخ تعريف القاضي في العدة (¬1) (1/ 142) حيث عرفه بقوله: (وأما المجمل فهو ما لا ينبئ عن المراد بنفسه، ويحتاج إلى قرينة تفسره مجمل في جنس الحق وفي قدره، ويحتاج إلى دليل يفسره ويبين معناه. فأما قوله تعالى: (أَقِيمُوا الْصَّلاَةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ) فإن ذلك مجمل؛ لأن الصلاة في اللغة: دعاء، فكان كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) [سورة الأنفال: 35]، وفي الشريعة هي: التكبير والقيام والقراءة والركوع والسجود والتشهد والسلام، ولا يقع على شيء من ذلك اسم الصلاة. فإذا كان اللفظ لا يدل على المراد به ولا ينبئ عنه وجب أن يكون مجملا. وكذلك الزكاة في اللغة: النَّمَاء والزيادة، من قولهم: زكا الزرع إذا زاد ونما. والمراد في الشريعة بالزكاة غير ذلك، واللفظ لا يدل عليه ولا ينبئ عنه ... ). - وللحنابلة تعريف آخر له، قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2750): (قوله: (واصطلاحا: ما تردد بين محتملين فأكثر على السواء). قاله الطوفي في ' مختصره '، لكن قال: اللفظ المتردد إلى آخره فيرد عليه الأفعال، نحو القيام من الركعة الثانية قبل التشهد؛ لتردده بين الجواز والسهو فلذلك حذفتها ليدخل الإجمال الفعلي فإن المجمل يتناول القول والفعل والمشترك والمتواطئ. واحترز بقوله: (بين محتملين) عما له محتمل واحد كالنص. وقوله: على السواء، احتراز عن الظاهر، وعن الحقيقة التي لها مجاز). ¬

_ (¬1) وأيضا تعريف: الشيرازي في "اللمع" (ص/49)، والباجي في "الحدود" (ص/45)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 234)، ونص عبارة الشيرازي: (المجمل هو ما لا يعقل معناه من لفظه ويفتقر في معرفة المراد إلى غيره)، وعرفه الأزميري في "حاشيته على مرآة الأصول" (1/ 410): (ما خفي مراده بحيث لا يدرك إلا ببيان يرجي).

- العلاقة بين المجمل والمشترك:

- العلاقة بين المجمل والمشترك: المشترك هو: هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر، ومعنى ذلك أن يتحد اللفظ ويتعدد المعنى كالعين فإنها وضعت للباصرة، والجارية، والجاسوس، والذهب. - اختلف العلماء في حمل المشترك على معانيه والراجح الجواز بشرط ألا تكون المعاني متنافية ويمكن أن تكون مراده من اللفظ: قال الشنقيطي في " أضواء البيان" (1/ 336): (التحقيق جواز حمل المشترك على معنييه كما حققه الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن وحرر أنه هو الصحيح في مذاهب الأئمة الأربعة رحمهم الله). وقيد ذلك الشيخ العثيمين في "شرح الأصول" (ص/340) بألا يكون بين المعنيين تضاد فقال: (إذا قال قائل: "ألستم تقولون بجواز استعمال اللفظ المشترك في معنيين"؟ الجواب: بلى، ولكن نقيد ذلك بما إذا كان ليس بينهما تضاد، أما إذا كان بينهما تضاد فلا يمكن أن يستعمل اللفظ بمعنى وضده، فهنا إذا قلنا القرء هو الحيض، فلا يمكن أن نقول: القرء هو الطهر للتنافي لكن إذا كانا لا يتنافيان (¬1) مثل (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) [التكوير: 17] أي: إذا أقبل أو إذا أدبر، فهنا لا يتنافيان، لأن من الممكن أن الله يقسم به حال إقباله، حال إدباره؛ لأن كلا من آيات الله عز وجل). - إذا علمت ذلك فاعلم أن المشترك يكون من قبيل المجمل عند من منع من حمله على معانيه، وأما من يحمله على معانيه فليس من قبيل المجمل إلا أن تكون متضادة فلا تحمل على أحد المعاني، وأيضا ما لم تكن هناك قرينة تعين أحد المعاني، فمثلا قول بن عباس - رضي الله عنهما -: (في المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها) (¬2) فالأمر بترك الصلاة أيام إقرائها قرينة على أن القرء هنا هو الحيض، وأما القرء في الآية فهو من قبيل المجمل. ¬

_ (¬1) () إذا كانت المعاني التي يحتملها اللفظ غير متنافية ويمكن أن تكون مراده من اللفظ فإنه يحمل عليها جميعا. وانظر قواعد وانظر قواعد التفسير للشيخ خالد السبت (ص/677). (¬2) رواه الدارمي وإسناده صحيح.

الفرق بين المجمل والمشترك

الفرق بين المجمل والمشترك (¬1): نقل الزركشي عن أبي العز المقترح أن الإجمال بالنسبة إلى الفهم، والاشتراك بالنسبة إلى وضع اللفظ واستعماله. قال السلمي: (ولبيان ذلك أقول: كون الدليل مجملا أمر نسبي يختلف من عالم لآخر، فقد يكون الدليل مجملا عند عالم ومبينا عند غيره، وذلك بحسب ما يصل إليه اجتهاد كل منهما. وأما الاشتراك فهو من حيث الوضع في اللغة، فاللفظ قد يكون مشتركا ولكنه يستعمل في أحد معانيه فلا يكون مجملا، وقد يغمض المراد منه فيكون مجملا. وأيضا فإن الإجمال في الأدلة الشرعية قد بين، ولم يبق لفظ مجمل لا بيان له على الأرجح من قولي العلماء. أما الاشتراك فلا أحد يدعي انتهاءه من اللغة العربية، ولهذا فإن الكلام في الاشتراك بحث لغوي صرف لا ينبغي أن يحشر في أصول الفقه، وأما الكلام في الإجمال فهو أصل يجب أن لا يخلو منه كتاب في أصول الفقه). الفرق بين المجمل والمبهم: قال الشيخ الشنقيطي في "مقدمة تفسيره" (ص/28): (المبهم أعم من المجمل عموما مطلقا، فكل مجمل مبهم، وليس كل مبهم مجملا، فمثل قولك لعبدك: تصدق بهذا الدرهم على رجل، فيه إبهام وليس مجملا؛ لأن معناه لا إشكال فيه، لأن كل رجل تصدق عليه به حصل به المقصود). تعريف المُبْيَّن: أ- لغة: قال الشيخ: (المُبْيَّن لغة: المُظْهَّر والمُوْضَّح). قال الفيومي في "المصباح" (¬2): (بَانَ الْأَمْرُ يَبِينُ فَهُوَ بَيِّنٌ وَجَاءَ بَائِنٌ عَلَى الْأَصْلِ وَأَبَانَ إبَانَةً وَبَيَّنَ وَتَبَيَّنَ وَاسْتَبَانَ كُلُّهَا بِمَعْنَى الْوُضُوحِ وَالِانْكِشَافِ وَالِاسْمُ الْبَيَانُ). ¬

_ (¬1) انظر البحر المحيط للزركشي (3/ 46)، وأصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ص/399). (¬2) انظر مادة ب ي ن) في الصحاح، ولسان العرب، وغيرها.

العمل بالمجمل:

ب- اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: ما يفهم المراد منه). قال الشيخ في الأصل: (مثال ما يفهم المراد منه بأصل الوضع: لفظ، سماء، أرض، جبل، عدل، ظلم، صدق، فهذه الكلمات ونحوها مفهومة بأصل الوضع ولا تحتاج إلى غيرها في بيان معناها. ومثال ما يفهم المراد منه بعد التبيين قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فإن الإقامة والإيتاء كل منهما مجمل ولكن الشارع بينهما فصار لفظهما بينا بعد التبيين). قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2797): (تقدم أن للمجمل تعريفات وتقسيمات فخذ ضدها في المبين، فإن قلت: المجمل ما تردد بين محتملين فأكثر على السواء فقل: المبين ما نص على معنى معين من غير إبهام. وإن قلت: المجمل ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين، فقل: المبين ما فهم منه عند الإطلاق معنى معين من نص، أو ظهور بالوضع، أو بعد البيان، وكذا سائر التعريفات الصحيحة). والشيخ - رحمه الله - قد ذهب في تعريف المُبْيَّن إلى أنه يطلق على الدليل المحتاج إلى بيان، كالمجمل بعد ورود بيانه، كما يطلق على الخطاب الذي ظهر معناه ابتداء، وهذا أحد الأقوال الثلاث في تعريف المبين، والقول الثاني أنه يطلق على الدليل الذي حصل به التبيين وهو المبيِّن، والقول الثالث أنه يطلق محل التبيين وهو المدلول وتبعا لاختلاف وجهات النظر اختلفت عبارات العلماء في تعريفه (¬1). والخطب يسير، فإنه لا حاجة لعقد باب مستقل له، وإنما ينبغي أن يلحق بالمجمل. العمل بالمجمل: قال الشيخ: (يجب على المكلف عقد العزم على العمل بالمجمل متى حصل بيانه) ومفهومه أنه لا يعمل به قبل التبيين. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 655): (قوله: «وحكمه التوقف على البيان الخارجي»، أي: وحكم المجمل أن يتوقف فيه على الدليل المبين للمراد به، خارجًا عن لفظه، كما أن حكم النص والظاهر المبادرة إلى العمل بما ظهر منهما، ¬

_ (¬1) انظر نشر البنود (1/ 226)، وإحكام الآمدي (3/ 29)، وغيرها ...

مراتب البيان:

ولأن الله تعالى لم يكلفنا العمل بما لا دليل عليه، والمجمل لا دليل على المراد به؛ فلا نكلف بالعمل به. فهذا دليل على أنه لا يلزمنا العمل بالمجمل. والدليل على أنه لا يجوز لنا ذلك أيضًا: هو أن في العمل به تعرضًا بالخطأ في حكم الشرع، والتعرض بالخطأ في حكم الشرع لا يجوز، وإنما قلنا: إن فيه تعرضًا بالخطأ؛ لأن اللفظ إذا تردد بين معنيين؛ فإما أن يرادا جميعًا، أو لا يراد واحد منهما، أو يراد أحدهما دون الآخر؛ فهذه أربعة أقسام، يسقط منها الثاني، وهو أن لا يراد واحد منهما؛ لأن ذلك ليس من شأن الحكماء، أن يتكلموا كلامًا لا يقصدون به معنى، يبقى ثلاثة أقسام، لا دليل على إرادة واحدة منها. فإذا أقدمنا على العمل قبل البيان، احتمل أن نوافق مراد الشرع؛ فنصيب حكمه، واحتمل أن نخالفه؛ فنخطئ حكمه؛ فتحقق بذلك أن العمل بالمجمل قبل البيان تعرض بالخطأ في حكم الشرع. وأما أن ذلك لا يجوز؛ فلأن حكم الشرع يجب تعظيمه، والتعرض بالخطأ فيه ينافي تعظيمه؛ فيكون ذلك ضربًا من الإهمال له، وقلة المبالاة والاحتفال به، وذلك لا يجوز). مراتب البيان: قال الشيخ: (وبيانه صلى الله عليه وسلم إما بالقول، أو بالفعل، أو بالقول والفعل جميعاً). قال في "الأصل" (ص/47): (والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته جميع شريعته أصولها وفروعها حتى ترك الأمة على شريعة بيضاء نقية ليلها كنهارها ولم يترك البيان عند الحاجة إليه أبداً. وبيانه صلى الله عليه وسلم إما بالقول، أو بالفعل، أو بالقول والفعل جميعاً. مثال بيانه بالقول: إخباره عن أنصبة الزكاة ومقاديرها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " فيما سقت السماء العشر". بياناً لمجمل قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ). ومثال بيانه بالفعل: قيامه بأفعال المناسك أمام الأمة بياناً لمجمل قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97]. وكذلك صلاة الكسوف على صفتها هي في الواقع بيان لمجمل قوله صلى الله عليه

فروع:

وسلم: (فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا). ومثال بيانه بالقول والفعل: بيانه كيفية الصلاة فإنه كان بالقول كما في حديث المسيء في صلاته حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر) الحديث. وكان بالفعل أيضاً كما في حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر. الحديث، وفيه ثم أقبل على الناس وقال: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي)). فروع: 1 - ذكر الشيخ البيان بالفعل ومنه أيضا: البيان بالكتابة وذلك مثل كتابه لأهل اليمن الذي فيه بيان زكاة بهيمة الأنعام، والديات. وكالبيان بالإشارة: كقوله: (الشهر هكذا وهكذا وهكذا) الحديث (¬1). وبالترك، والمقصود به أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم فعل الشيء مع وجود المقتضي وانتفاء الموانع، كما ترك الوضوء مما مسته النار مع أنه كان يتوضأ من الأكل مما مسته النار (¬2). وهذه الأنواع من البيان بالفعل على القول الراجح. 2 - لا يشترط في المُبْيِّن أن يكون أقوى سنداً أو دلالة من المُبْيَّن بل يجوز بيان مجمل القرآن أو السنة المتواترة بأخبار الآحاد، والمنطوق بالمفهوم. ومثال الأول بيان الكتاب بالسنة كقوله تعالى: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة: 230]، بين صلى الله عليه وسلم نكاح الزوج الثاني بأنه الوطء بقوله لامرأة رفاعة القرظي: (حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك). ومثال البيان بالمفهوم: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (في أربعين شاة شاة) فقد بين مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (في الغنم السائمة زكاة) أن ذلك خاص بغير المعلوفة. ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) أخرجاه في الصحيحين.

الظاهر والمؤول

3 - لا يجوز تأخير البيان لمجمل أو ظاهر لم يرد ظاهره عن وقت الحاجة إلى العمل به، وأما تأخير البيان إلى وقت الحاجة إلى العمل به فالتحقيق أنه جائز وواقع وهو مذهب الجمهور. 4 - ليس من شرط البيان أن يعلمه جميع المكلفين الموجودين في وقته بل يجوز أن يكون بعضهم جاهلا به، ومثال ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن عموم قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) [النساء: 11]، لا يتناول الأنبياء بقوله: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث " فلا يقدح في هذا البيان أن فاطمة رضي الله عنها لم تعلم به وجاءت إلى أبي بكر تطلب ميراثها منه صلى الله عليه وسلم. (¬1) الظاهر والمؤول تعريف الظاهر: أ- لغة: قال الشيخ: (الظاهر لغة: الواضح والبين). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 459): ("الظَّاهِرِ لُغَةً" أَيْ فِي اللُّغَةِ خِلافُ الْبَاطِنِ، وَهُوَ "الْوَاضِحُ" الْمُنْكَشِفُ. وَمِنْهُ ظَهَرَ الأَمْرُ: إذَا اتَّضَحَ وَانْكَشَفَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ الشَّاخِصِ الْمُرْتَفِعِ، كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الأَشْخَاصِ: هُوَ الْمُرْتَفِعُ الَّذِي تَبَادَرُ إلَيْهِ الأَبْصَارُ كَذَلِكَ فِي الْمَعَانِي). قال ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة": (الظاء والهاء والراء أصلٌ صحيحٌ واحدٌ يدلُّ على قوّةٍ وبروز. من ذلك ظَهَرَ الشيءُ يظهرُ ظهوراً فهو ظاهر، إذا انكشفَ وبرزَ. ولذلك سمِّيَ وقت الظُّهرِ والظَّهيرة، وهو أظهر أوقات النّهار وأَضْوَؤُها. والأصل فيه كلّه ظهر الإنسان، وهو خلافُ بطنه، وهو يجمع البُروزَ والقوّة ... ) (¬2). ب- اصطلاحا: عرفه الشيخ بقوله: (واصطلاحاً: ما دل بنفسه على معنى راجح مع احتمال غيره). ¬

_ (¬1) راجع مقدمة أضواء البيان فقد تكلم فيها عن أنواع البيان بما لا تجده في غيره. (¬2) انظر تاج العروس، ولسان العرب، المصباح المنير، وغيرها مادة (ظ هـ ر).

تنبيه:

اعلم أن الكلام إما أن يحتمل معنى واحداً فقط فهذا هو النص (¬1) نحو قوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) [البقرة: 196]. وإما أن يحتمل معنيين فأكثر، فان كان أظهر في أحدهما فهو الظاهر ومقابله المحتمل المرجوح. وان كان لا رجحان له في أحد المعنيين أو المعاني فهو المجمل. كالعين والقرء ونحوهما. قال الشيخ في "الأصل" (ص/49): (فخرج بقولنا: " ما دل بنفسه على معنى " المجمل لأنه لا يدل على المعنى بنفسه. وخرج بقولنا: " راجح " المؤول لأنه يدل على معنى مرجوح لولا القرينة. وخرج بقولنا: " مع احتمال غيره " النص الصريح لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً). تنبيه: قول الشيخ في التعريف (ما) هي من صيغ العموم فيدخل فيها كل ما يدل بنفسه من قول أو فعل على معنى راجح مع احتمال غيره. ومثال الأفعال الظاهرة كمن وزع على الناس رسائل مفيدة، فهذا ظاهر في الوقف، ولكنه يحتمل أنه وزعها كعارية مردودة. وعليه فقول الشيخ في "الشرح" (ص/358): (ما بمعنى لفظ ... ) يجعل الحد غير جامع والأولى بقاء التعريف على عمومه ليشمل القول والفعل. أقسام الظاهر: والظاهر إما أن يكون ظاهرا بوضع اللغة، أو بوضع العرف، أو بوضع الشرع، وزاد الكلوذاني قسما رابعا وهو الظاهر بالدليل. ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة في "الروضة" (ص/ 177): (النص وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال كقوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) وقيل هو الصريح في معناه وحكمه أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخوقد يطلق النص على ما لا يتطرق إليه احتمال يعضده دليل فإن تطرق إليه احتمال لا دليل عليه فلا يخرجه عن كونه نصا. الظاهر وهو ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره وإن شئت قلت ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر فحكمه أن يصار إلى معناه الظاهر ولا يجوز تركه إلا بتأويل).

فمثال الظاهر باللغة: الأمر يحتمل الإيجاب ويحتمل الندب والاستحباب إلا أنه في الإيجاب أظهر، ومثل النهي يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، إلا أنه في التحريم أظهر. (¬1) ومثاله عند القائلين بالحقيقة والمجاز - لفظ الأسد فإنه إن أطلق يراد به الحيوان المفترس دون الرجل الشجاع. ومثال الظاهر بالعرف: لفظ الغائط، فإنه إن أطلق يراد به عرفا الخارج المخصوص من الإنسان لا المطمئن من الأرض. قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 459): (الظاهر (اصطلاحا) أي في اصطلاح الأصوليين (ما) أي لفظ (دل دلالة ظنية وضعا) كأسد (أو عرفا) كغائط. فالظاهر الذي يفيد معنى مع احتمال غيره، لكنه ضعيف، فبسبب ضعفه خفي. فلذلك سمي اللفظ لدلالته على مقابله - وهو القوي - ظاهرا كالأسد، فإنه ظاهر في الحيوان المفترس ويحتمل أن يراد به الرجل الشجاع مجازا. لكنه احتمال ضعيف، والكلام في دلالة اللفظ الواحد ليخرج المجمل مع المبين؛ لأنه - وإن أفاد معنى لا يحتمل غيره - فإنه لا يسمى مثله نصا). ومثال الظاهر بالشرع: الصلاة والصيام فإن الصيام إمساك مخصوص في زمن مخصوص، وكذلك الصلاة (¬2). ومثل له الشيخ في الأصل بقوله: (مثاله قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا من لحوم الإبل) (¬3). فإن الظاهر من المراد بالوضوء غسل الأعضاء الأربعة على الصفة الشرعية دون الوضوء الذي هو النظافة). وأما القسم الرابع وهو الظاهر بالدليل، فقد مثل له الكلوذاني في التمهيد بقوله (1/ 8) بقوله: (وأما الظاهر بالدليل فمثل قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ¬

_ (¬1) انظر التمهيد للكلوذاني (1/ 8). (¬2) المرجع السابق نفس الموضع. (¬3) روى أحمد في "مسنده" من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم إبل فقال توضؤوا منها) الحديث وصحح الأرناؤوط إسناده في هامش المسند.

تعريفات الظاهر عند الحنابلة:

حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) [البقرة: 233]، ومثل قوله عز اسمه: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) [الواقعة: 79]، فإن هذا ظاهره ظاهر الخبر، غير أنا حملناه على الأمر بدليل أنا لو حملناه على ظاهره لأدى أن يكون خبر الله بخلاف مُخبَرِه؛ لأنا نجد الوالدات يرضعن أولادهن أكثر من حولين وأقل من حولين، نرى المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر فحملنا قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) أي يجب على الوالدة أن ترضع الولد، وحملنا قوله: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي لا يجوز أن يمسه إلا المطهرون). وإذا دققت النظر في هذين المثالين تجد أن الشيخ قد ذكر أن المعنى المتبادر منهما هو الخبر، وهناك احتمال بعيد بأن المراد منهما الإنشاء، وقد اختار الشيخ العدول إلى هذا الاحتمال البعيد لما ذكره من دليل حسي، وهذا هو التأويل - كما سيأتي - لا الظاهر، وعليه فلا يصح هذا القسم من أقسام الظاهر (¬1). تعريفات الظاهر عند الحنابلة: حول معنى التعريف الذي ذكره تدور تعريفات الحنابلة ومن هذه التعريفات: ما قاله أبو يعلى في "العدة" (1/ 140): (الظاهر: ما احتمل معنيين أحدهما أظهر من الآخر). ونحوه تعريف ابن قدامة في "روضة الناظر" (1/ 178): (الظاهر وهو ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره، وإن شئت قلت: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر). ونقله الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/42) فقال: (والظاهر: اللفظ المحتمل معنيين فأكثر، هو في أحدها أظهر، أو ما بادر منه عند إطلاقه معنى مع تجويز غيره). ثم تعقيه في الشرح (1/ 558) بقوله: («اللفظ المحتمل معنيين فأكثر هو في أحدها أظهر» وينبغي أن يقال: هو في أحدها أرجح دلالة، لئلا يصير تعريفا للظاهر بنفسه. فقولنا: هو اللفظ المحتمل معنيين: احتراز من اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا، فإن ذلك هو النص كما سبق. ¬

_ (¬1) انظر رسالة الظاهر والمؤول عند الأصوليين (ص/120).

فائدة:

وقولنا: فأكثر. لأن اللفظ قد يحتمل معنيين ومعاني، ولهذا قلنا: هو في أحدها أرجح، لأن المعنيين فأكثر جمع لا تثنية، فكان ذلك أجود من قول الشيخ أبي محمد: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر. قوله: «أو ما بادر منه عند إطلاقه معنى، مع تجويز غيره». هذا تخيير بين التعريفين، أي: الظاهر هو اللفظ المحتمل، إلى آخره، أو اللفظ المتبادر منه معنى، مع تجويز غير، بأيهما شئت عرفه، لأنهما سواء. فقولنا: «ما بادر منه عند إطلاقه» احتراز مما لا يتبادر منه عند إطلاقه معنى، لأن ذلك هو المجمل، كالقرء عند إطلاقه، لا يتبادر منه حيض ولا طهر. وقولنا: عند إطلاقه: احتراز مما كانت مبادرة المعنى منه لا عند إطلاقه فقط، بل مع قرينة أو دليل آخر، فإن ذلك، وإن سمي ظاهرا باعتبار ظهور المراد منه، إلا أنه مجاز، إذ ليس ظاهرا بذاته، بل بالدليل الخارج، ونحن كلامنا في الظاهر بذاته). وعرفه مجد الدين في "المسودة" (ص / 513) بقوله: (الظاهر هو لفظ معقول يبتدر إلى فهم البصير بجهة الفهم منه معنى مع تجويز غيره ممالا يبتدره الظن والفهم) هذا حد الاسفرائينى وصوبه الجوينى وزيف ما سواه). وقال المرداوي في "التحبير" (6/ 2847): (قوله: (واصطلاحا: ما دل دلالة ظنية وضعا: كأسد، وعرفا: كغائط). قاله الآمدي وغيره. فالظاهر الذي يفيد معنى مع احتمال غيره، لكنه ضعيف؛ فبسبب ضعفه خفي فلذلك سمي اللفظ لدلالته على مقابله وهو القوي ظاهرا كالأسد؛ فإنه ظاهر في الحيوان في دلالة اللفظ الواحد ليخرج المجمل مع المبين؛ لأنه وإن أفاد معنى لا يحتمل غيره، فإنه لا يسمى مثله نصا). فائدة: التعاريف السابقة تدل على أن الظاهر صفة للفظ؛ لأن اللفظ هو الذي احتمل معنيين، وهذا من ناحية الاستعمال، وأما حقيقة الظاهر فتطلق على المعنى الراجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا، فيكون تعريف الظاهر بناء على هذا بأنه: الاحتمال الراجح ... قال الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/42): (والظاهر: حقيقة، هو الاحتمال

العمل بالظاهر:

المتبادر، واستعمالا، اللفظ المحتمل معنيين فأكثر، هو في أحدها أظهر ... ) (¬1) ثم قال في "شرح مختصر الروضة" (1/ 558): (قوله: «والظاهر حقيقة» أي: في نفس الأمر، هو الشاخص المرتفع ... وكما أن المرتفع من الأشخاص هو الظاهر الذي تبادر إليه الأبصار، فكذلك المعنى المتبادر من اللفظ، هو الظاهر الذي تبادر إليه البصائر والأفهام. أما إطلاق الظاهر على اللفظ المحتمل أمورا، هو في أحدها أرجح، فهذا اصطلاح لا حقيقة. قوله: «واستعمالا»، أي: والظاهر في استعمال الفقهاء: هو «اللفظ المحتمل معنيين فأكثر هو في أحدها أظهر» ... ) العمل بالظاهر: قال الشيخ في "الأصل" (ص/49): (العمل بالظاهر واجب إلا بدليل يصرفه عن ظاهره؛ لأن هذه طريقة السلف، ولأنه أحوط، وأبرأ للذمة، وأقوى في التعبد، والانقياد). وهذا الذي اختاره الشيخ هو أحد أقوال المذهب، وقد اختاره جماعة منهم ابن قدامة، والطوفي، وابن بدران، واختاره أيضا الشيخ الشنقيطي وغيرهم (¬2). والقول هنا كالقول في العام والمطلق فلا تستعمل ظواهر الكتاب قبل البحث عما يفسرها من السنة وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم فان الظاهر الذي لا يغلب على الظن انتفاء ما يعارضه لا يغلب على الظن مقتضاه فإذا غلب على الظن انتفاء معارضه غلب على الظن مقتضاه وهذه الغلبة لا تحصل للمتأخرين في أكثر العمومات إلا بعد البحث عن المعارض (¬3). قال مجد الدين في "المسودة" (ص/ 11): (في إتباع الظواهر ثلاث روايات إحداهن إتباعها مطلقا ابتداء إلا أن يعلم ما يخالفها ويبين المراد بها والثاني لا تتبع حتى يعلم ما يفسرها وهو الوقف المطلق ولا أبعد أنه قول طائفة من المحدثين كما في القياس ¬

_ (¬1) وانظر "المدخل" لابن بدران (ص / 188). (¬2) انظر: الروضة (ص/178)، شرح مختصر الروضة (1/ 559)، نزهة الخاطر العاطر (2/ 20)، المذكرة (ص/174). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (19/ 166).

تعريف المؤول:

وكذلك حكى أبو حاتم في اللامع أن أكثر ظواهر القرآن تدل على الأشياء بأنفسها ومن الناس من قال كل شيء منه محتاج إلى تفسير الرسول والأئمة التي أخذت عن الرسول والثالث وهو الأشبه بأصوله وعليه أكثر أجوبته أنه يتوقف فيها إلى أن يبحث عن المعارض فإذا لم يوجد المعارض عمل بها وهذا هو الصواب إن شاء الله كما اختاره أبو الخطاب. ثم إن هنا لطيفة وهي أن أحمد لم يقف لأجل الشك في اللغة كما هو مذهب الواقفة في الأمر والعموم وقد سلم الظهور في اللغة ولكن هل يجوز العمل بالظن المستفاد من الظواهر والأقيسة هذا مورد كلامه فتدبره ففرق بين وقف لتكافؤ الاحتمالات عنده وان سلم ظهور بعضها في اللغة لكن لأن التفسير والبيان قد جاء كثيرا بخلاف الظهور اللغوي إما لوضع شرعي أو عرفي أو لقرائن متصلة أو منفصلة فصاحب هذه الرواية يقف وقفا شرعيا والمحكى خلافهم في الأصول يقفون وقفا لغويا). وقال تقي الدين في "مجموع الفتاوي" (7/ 392): (فالأمور الظنية لا يعمل بها حتى يبحث عن المعارض بحثا يطمئن القلب إليه وإلا أخطأ من لم يفعل ذلك ... ). تعريف المؤول: أ- لغة (¬1): قال الشيخ: (المؤول لغة: من الأول وهو الرجوع). قال ابن النجار في " شرح الكوكب" (3/ 460): ("وَالتَّأْوِيلُ لُغَةً: الرُّجُوعُ" وَهُوَ مِنْ آلَ يَئُولُ: إذَا رَجَع. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: (وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) [آل عمران: 7] أَيْ طَلَبَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَوَّلْت الشَّيْءَ، أَيْ فَسَّرْته، مِنْ آلَ إذَا رَجَعَ؛ لأَنَّهُ رُجُوعٌ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى ذَلِكَ الَّذِي آلَ إلَيْهِ فِي دَلالَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [الأعراف: 53] أَيْ مَا يَئُول إلَيْهِ بَعْثُهُمْ وَنُشُورُهُمْ). ب- اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: ما حمل لفظه على المعنى المرجوح). قال الشيخ في "الشرح" (ص/363): (المؤول لابد وأن يكون له معنيان: أحدهما ¬

_ (¬1) انظر مادة (أول) في: لسان العرب، ومعجم مقاييس اللغة، وتهذيب اللغة، وتاج العروس وغيرها.

تنبيه:

راجح، والثاني مرجوح - قلت: وهذا على الأغلب وإلا فقد يكون له عدة معان -، فخرج بذلك النص؛ لأنه لا يدل إلا على معنى واحد. وخرج المجمل؛ لأنه لا يدل على معنى (¬1)، أو يدل على معنيين لا يترجح أحدهما على الآخر (¬2). وخرج الظاهر؛ لأنه يدل على المعنى الراجح. وبهذا الفصل خرجت هذه المحترزات). إذا علم ذلك فحمل اللفظ على ظاهره ليس تأويلا، وكذا حمل المشترك ونحوه من المساوي على أحد محمليه، أو محامله لدليل لا يسمى تأويلا، وحمله على المجموع لا يسمى تأويلا أيضا. تنبيه: كما سبق وأن نبهت في تعريف الظاهر من إنه يشمل القول والفعل فكذلك المؤول، وعليه فهذا التعريف غير جامع لتقييده باللفظ. قال المرداوي في " التحبير" (6/ 2850): (قال أبو محمد (الجوزي: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لاعتضاده بدليل). قال ابن قاضي الجبل: قلت الحد غير جامع؛ لأن التأويل قد يكون في الفعل). وقيل في تعريفه (¬3): "حمل ظاهر على محتمل مرجوح". وهذا يشمل التأويل الصحيح والفاسد، فإن أردت الصحيح زدت في الحد: "بدليل يصيره راجحا". وهذا التعريف جيدا إلا أن فيه تعريف للتأويل بالظاهر، فيتوقف تعريفه على تعريفه، وهذا عيب في الحد الحقيقي، قال الغزالي في "المستصفى" (1/ 17) وهو يتكلم عن شروط الحد الحقيقي: (أن تحترز من الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة ¬

_ (¬1) أي معين، وإلا فالذي لا يدل على معنى مطلقا هو المهمل. (¬2) قال المرداوي في "التحبير" (6/ 2849): (وكذا حمل المشترك ونحوه من المساوي على أحد محمليه، أو محامله لدليل لا يسمى تأويلا، وحمله على المجموع لا يسمى تأويلا أيضا). (¬3) وهذا التعريف قاله المرداوي في "التحبير" (6/ 2849)، وقاله أيضا: ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 460)، والسبكي في "جمع الجوامع" (2/ 88)، وابن الحاجب كما في "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" (3/ 450)، والشوكاني في "إرشاد الفحول" (2/ 32).

مثال للتأويل الصحيح:

المترددة ... ). فالأولى في تعريفه أن يعمم هذا التعريف أو تعريف الشيخ فيقال: (ما حمل على المعنى المرجوح) أو (ما حمل على محتمل مرجوح) والأول أجود وأعم من الثاني؛ لأن قوله في الثاني: (محتمل) فيه إشارة إلى أن المعنى المحمول عليه وإن كان مرجوحا إلا أن هناك علاقة احتمالية بين المعنى الأول والثاني، وهذا يخرج بعض أنواع التأويل الفاسد من الحد وهي التي لا علاقة بين معنى الكلمة، والمعنى المحمول عليه. ومن الأمثلة على هذا النوع من التأويل الفاسد ما ذكره الشيخ عطية في "تتمة أضواء البيان" (8/ 580): (التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير، وهو صرف اللفظ عن ظاهره، لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة. ومن اللعب في التأويل في هذه الآية، ما يفعله بعض العوام: رأيت رجلاً عامياً عادياً، قد لبس حلة كاملة من عمامة وثوب صقيل وحزام جميل مما يسمونه نصبة، أي بدلة كاملة، فقال له رجل: ما هذه النصبة يا فلان؟ فقال له: لما فرغت من عملي نصبت، كما قال تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الشرح: 7]. كما سمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده، ويقول لزميله: ألا تعرف لي شخصًا أنصب عليه، أي آخذ قرضة منه، فقلت له: ولم تنصب عليه؟ والنصب كذب وحرام. فقال: إذا لم يكن عند الإنسان شيء، ويده خالية فلا بأس، لأن الله قال: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ)، وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم، أو أصحاب الأهواء لنحلهم). وعليه فالتعريف الصحيح للتأويل هو: (ما حمل على المعنى المرجوح)، وهذا يشمل التأويل الصحيح والفاسد، فإن أردت الصحيح زدت في الحد: "بدليل يصيره راجحا". مثال للتأويل الصحيح: قوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) رواه البخاري، والصقب القرب والملاصقة والمراد به الشفعة فهذا الحديث ظاهر في ثبوت الشفعة للجار الملاصق والمقابل أيضا مع احتمال أن المراد بالجار الشريك المخالط، لكن هذا الاحتمال

أقسام التأويل:

ضعيف بالنسبة إلى الظاهر فلما نظرنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري، صار هذا الحديث مقويا لذلك الاحتمال الضعيف في الحديث المتقدم حتى ترجحا على ظاهره فقدمناهما وقلنا لا شفعة إلا للشريك المقاسم وحملنا عليه الجار في الحديث الأول وهو حمل سائغ في اللغة. (¬1) أقسام التأويل: قال الشيخ: (والتأويل قسمان: صحيح مقبول، وفاسد مردود. 1 - فالصحيح: ما دل عليه دليل صحيح. 2 - والفاسد: ما ليس عليه دليل صحيح). شروط التأويل الصحيح (¬2): 1 - أن يكون المُؤَوِل من أصحاب الملكات الاجتهادية. 2 - أن يكون اللفظ مما يقبل التأويل أصلا فلا يكون نصا. 3 - أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي يؤول إليه، وان يكون احتمال اللفظ له على أساس من وضع اللغة، أو عرف الاستعمال، أو مما عرف من استعمال القواعد الشرعية كنحو تخصيص عام أو تقييد مطلق. 4 - أن يقوم التأويل على دليل صحيح قوي يؤيده. 5 - ألا يعارض التأويل نصوصا صريحة قطعية الدلالة في التشريع. أنواع دليل التأويل التي تقوي الاحتمال المرجوح على الظاهر (¬3): 1 - دليل التأويل قد يكون نصا يوافق الاحتمال المرجوح. ومثاله قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) [المائدة: 3] وقد خص بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أحلت لنا ميتتان ودمان). 2 - قد يكون ظاهرا آخر أقوى من الأول. ¬

_ (¬1) انظر: "شرح مختصر الروضة" (1/ 562)، و "المدخل" لابن بدران (1/ 188). (¬2) انظر رسالة "الظاهر والمؤول عند الأصوليين" (ص/150) وما بعدها. (¬3) انظر المرجع السابق (ص/154) وما بعدها.

ومثاله قوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) فظاهرها أنها عامة في تحريم الأكل والانتفاع إلا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - (هلا انتفعتم بإهابها) بين أن هذا الظاهر غير مراد وأنه ينتفع من الميتة بإهابها بعد دبغه. 3 - قد يكون قياسا راجحا. ومثاله تخصيص عموم قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [سورة النور: آية 2] .. فان عموم الزانية خصص بالنص وهو قوله في الإماء: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) [سورة النساء: آية 25]. فقيس عليها العبد بجامع الرق فيلزم جلد العبد خمسين لقياسه على الأمة ويخرج بذلك من عموم ((الزاني)) الذي يجلد مائة. 4 - قد يكون قرينة. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (1/ 564): (القرينة المتصلة، كالمناظرة التي حصلت بين أحمد والشافعي رضي الله عنهما. قال أحمد في رواية صالح وحنبل: كلمت الشافعي في هذه المسألة، يعني أن الواهب ليس له الرجوع فيما وهب، لقوله عليه السلام: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه، فقال الشافعي- وكان يرى أن له الرجوع-: ليس بمحرم على الكلب أن يعود في قيئه قال أحمد: فقلت له: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس لنا مثل السوء»، فسكت، يعني الشافعي. قلت: فالشافعي تمسك بالظاهر، وهو أن الكلب لما لم يحرم عليه الرجوع في قيئه، فالظاهر أن الواهب إذا رجع مثله في عدم التحريم، لأن الظاهر من التشبيه استواء المشبه والمشبه به من كل وجه، مع احتمال أن يفترقا من بعض الوجوه احتمالا قويا جدا، فضعف حينئذ جانب أحمد في الاستدلال جدا، لأنه لم يبق معه إلا احتمال ضعيف جدا، فقواه بالقرينة المذكورة وهي قوله عليه السلام في صدر الحديث المذكور: «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه» وهي دليل قوي، وجعل ذلك مقدما على المثل المذكور، وهو دليل الاهتمام به، فأفاد ذلك لغة وعرفا، أن الرجوع في الهبة مثل سوء، وقد نفاه صاحب الشرع، وما نفاه صاحب الشرع يحرم إثباته، فلزم من ذلك أن جواز الرجوع في الهبة يحرم إثباته، فيجب نفيه، وهو

تنبيهان:

المطلوب). تنبيهان: الأول - التأويل مشترك (¬1): التأويل في عرف السلف يطلق بمعنى تفسير الكلام وبيان معناه، ويطلق بمعنى مآل الشيء فإن كان في طلب فبامتثاله، وإن كان في خبر فبوقوعه. وأما التأويل في عرف المتأخرين فهو الذي نتكلم عنه. الثاني: قال الشيخ في "الأصل" (ص/50): (والتأويل قسمان: صحيح مقبول، وفاسد مردود. 1 - فالصحيح: ما دل عليه دليل صحيح كتأويل قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] إلى معنى واسأل أهل القرية لأن القرية نفسها لا يمكن توجيه السؤال إليها. 2 - والفاسد: ما ليس عليه دليل صحيح كتأويل المعطلة قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5] إلى معنى استولى. والصواب أن معناه العلو والاستقرار من غير تكييف ولا تمثيل). وعلق في "شرح الأصول" (ص/385) على المثال الأول بقوله: ((وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) هذا حقيقة، ولا داعي للقول بالتأويل أصلا. وهذا هو الصحيح، وهذا هو الذي اخترناه أخيرا بناء على ألا مجاز في القرآن ... وشيخ الإسلام ومن تبعه يقولون: ليس للفظ معنى ذاتي خلق معه، بل معنى اللفظ ما يدل عليه سياقه. وهذا الذي جعلهم يقولون ليس هناك مجاز). ¬

_ (¬1) انظر رسالة "الإكليل في المتشابه والتأويل" لتقي الدين، وشرح الأصول (ص/364) وما بعدها.

النسخ

النسخ تعريف النسخ: أ- لغة: قال الشيخ: (النسخ لغة: الإزالة والنقل). يطلق النسخ في اللغة على الإزالة سواء أقيم شيء مكانه أم لا. وعلى النقل والتحويل سواء أكان النقل حسيا من مكان لآخر، أو معنويا من حالة إلى أخرى فهذه أربعة معان للنسخ. المعنى الأول: قال ابن منظور في اللسان مادة (ن س خ): (والنَّسْخ: إِبطال الشيء وإِقامة آخر مقامه؛ وفي التنزيل: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] ... ). وقال الزبيدي في "تاج العروس": (نسخ: (نَسخه) بِهِ، (كَمَنَعَه)، ينسَخُه، وانتَسَخَه: (أَزَالَهُ) به وأَدالَهُ. والشيءُ يَنسَخ الشيْءَ نَسْخاً، أَي يُزِيله ويكون مكانَه. والعرب تقول: نَسَخَت الشَّمسُ الظِّلَّ وانتَسَخَتْه: أَزالَتْه، والمعنَى أَذْهَبَت الظِّلَّ وَحلَّتْ مَحلَّه ... ). المعنى الثاني: ومن هذا المعنى قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) [الحج: 52]. المعنى الثالث: قال الزبيدي في "تاج العروس": (والنَّسْخ: نَقْلُ الشَّيءِ من مَكانٍ، إِلى مَكَانٍ وهو هو ... (و) نَسَخَ (الكِتَابَ: كَتَبَهُ عن مُعَارَضَةٍ). وفي (التهذيب): النَّسخ اكتِتَابُك كِتَاباً عن كِتَابٍ حَرْفاً بحرّف، (كانْتَسَخَه واسْتَنْسَخَه)، والكاتب ناسخ ومُنْتَسِخ. (و) المكتوب (المَنْقُولُ منه النُّسْخَة، بالضّم)، وهو الأَصْل المُنَتَسَخُ منه. وفي التنزيل: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية: 29] أَي نستنسِخ ما تَكتُب الحَفَظَةُ فيثبتُ عند الله تعالى ... (و) نَسَخَ (ما في الخَلِيَّة: حَوَّلَه إِلى غَيْرِهَا).

المعنى الرابع: قال الزبيدي في "تاج العروس": ((والتَّنَاسُخُ والمُنَاسَخَةُ في) الفرائض و (المِيرَاثِ: مَوْتُ وَرَثَةٍ، بَعْدَ وَرَثةٍ وأَصْلُ المِيرَاث قائمٌ لم يُقْسَمْ)، (و) كذالك (تَناسُخُ الأَزْمِنَة)، وهو (تَدَاوُلُهَا)، وفي الحديث (لم تكن نُبُوَّةٌ إِلاّ تَنَاسَخَتْ) (¬1)، أَي تَحوَّلتْ من حالٍ إِلى حالٍ، أَي أَمْر الأُمّةِ وتغايُر أَحوالِها. (أَو انقراضُ قَرْنٍ بَعْدَ قَرْنٍ آخَرَ (¬2). ومنه) الفِرقَةُ (التَّنَاسُخِيَّةُ)، وهي طائفةٌ تقولُ بتناسُخِ الأَرواحِ وأَنْ لا بَعْثَ). - وكون النسخ لغة بمعنى الإزالة هو الأنسب لمعناه الاصطلاحي - كما سيأتي -. ب- اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب والسنة). قال الشيخ (¬3): فالمراد بقولنا: " رفع حكم " أي تغييره من إيجاب إلى إباحة، أو من إباحة إلى تحريم مثلاً. فخرج بذلك تخلف الحكم لفوات شرط أو وجود مانع مثل أن يرتفع وجوب الزكاة لنقص النصاب أو وجوب الصلاة لوجود الحيض فلا يسمى ذلك نسخاً. "رفع حكم دليل" يعني: رفع حكم دليل والدليل باق، "أو لفظه": ولكن حكمه باق،"أو لفظه وحكمه": وهذا ممكن، ولهذا نقول: "أو" هنا ليست للتنويع بل هي مانعة ¬

_ (¬1) رواه مسلم في صحيحه من حديث عتبة بن غزوان - رضي الله عنه -، وقال القرطبي في المفهم: (وقوله: (وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت، حتى يكون آخرها ملكا) يعني: أن زمان النبوة يكون الناس فيه يعملون بالشرع، ويقومون بالحق، ويزهدون في الدنيا، ويرغبون في الآخرة، ثم إنه بعد انقراضهم، وانقراض خلفائهم يتغير الحال، وينعكس الأمر، ثم لا يزال الأمر في تناقص، وإدبار إلى ألا يبقى على الأرض من يقول: الله! الله! فيرتفع ما كان الصدر الأول عليه، وهذا هو المعبر عنه هنا: بالتناسخ). المقصود بيان تحول أمر الأمة وتغاير أحوالها من حال إلى حال بعد زمان النبوة. (¬2) المقصود أن الأزمنة والقرون يحل بعضها مكان الآخر بعد انقضائه، وتتغير تبعا لذلك أحوال الأمة. (¬3) هذا نص عبارات الشيخ من "الأصل" (ص/40)، وشرح الأصول (ص/385: 387).

تنبيهات:

خلو - يعني: لا يخلو أن يكون رفع حكم أو رفع لفظ أو رفع حكم ولفظ، فله ثلاثة أوجه. ما دمنا قلنا: "رفع" فإنه يلزم أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ؛ لأن الرافع يكون بعد المرفوع (¬1). وقوله: (دليل شرعي) يخرج ما ليس دليلا شرعيا كالأوامر الصادرة من الحكام والولاة والأمراء وما أشبه ذلك، فإذا رفعوا الأمر الأول وأتوا بأمر جديد لا يسمى نسخا اصطلاحا؛ لأن هذا ليس من الأمور الشرعية بل من الأمور العرفية الوضعية. ونحن إنما نتكلم عن الشرعية (¬2). وخرج بقولنا: " بدليل من الكتاب والسنة " ما عداهما من الأدلة كالإجماع والقياس فلا ينسخ بهما. تنبيهات: الأول - شرح وبيان محترزات أخرى لقيود التعريف: قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 256): (فسر الرفع بأنه إزالة الحكم على وجه، لولاه لبقي ثابتًا، كرفع الإجارة بالفسخ؛ فإنه يغاير زوالها بانقضاء مدتها؛ لأن فسخها قطع لدوامها، لسبب خفي عن المتعاقدين عند ابتداء العقد وانقضاء مدتها هو ارتفاع حكمها لسبب علماه عند ابتداء العقد، وهو انقضاء الأجل؛ فمن استأجر أرضًا سنة، علم عند ابتداء العقد أن عند انتهاء السنة، يرتفع حكم الإجارة، ولو انقطع ماء الأرض، أو بانت مستحقة في أثناء السنة؛ فللمستأجر الفسخ، مع عدم علمه عند ابتداء العقد بانقطاع ماء الأرض، واستحقاقها؛ فكذلك نسخ الحكم، هو قطع لدوامه، لا ¬

_ (¬1) سيأتي مناقشة هذا الكلام قريبا - بإذن الله تعالى -. (¬2) قال ابن الجوزي في " نواسخ القرآن" (ص/ 24) وهو يتكلم عن شروط النسخ: (الشرط الثالث أن يكون الحكم المنسوخ مشروعا أعني أنه ثبت بخطاب الشرع فأما إن كان ثابتا بالعادة والتعارف لم يكن رافعه ناسخا بل يكون ابتداء شرع وهذا شيء ذكر عند المفسرين فإنهم قالوا كان الطلاق في الجاهلية لا إلى غاية فنسخه قوله {الطلاق مرتان} وهذا لا يصدر ممن يفقه لأن الفقيه يفهم أن هذا ابتداء شرع لا نسخ).

بيان انتهاء مدته في علم الله تعالى، إذ ذلك لا يسمى نسخًا، كما أن انقضاء مدة الإجارة لا يسمى فسخًا). قوله: (رفع حكم) أي رفع تعلقه بأفعال المكلفين لا رفعه هو، فإنه أمر واقع، والواقع لا يمكن رفعه. قوله: (رفع) يخرج المخصصات المتصلة كالاستثناء والشرط ونحوهما؛ لأن المتصل يكون مبينا لا رافعا (¬1). قوله: (دليل شرعي) يخرج النقل عن البراءة الأصلية أو العقلية، فلا تسمى نسخا (¬2). قوله: (بدليل من الكتاب والسنة) يخرج ما رفع حكمه بدليل عقلي، كسقوط غسل الأعضاء المقطوعة من جسم المكلف. ويخرج أيضا ما زال حكمه لانتهاء غايته، وانقضاء وقته. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 258): (وأيضا احتراز من زوال الحكم بالموت والجنون، فإن من مات، أو جن، انقطعت عنه أحكام التكليف، وليس ذلك بنسخ ; لأن انقطاع الأحكام عنهما لم يكن بخطاب، وكذلك ارتفاع حكم الصوم بمجيء الليل، وحكم ¬

_ (¬1) راجع الفرق بين النسخ الجزئي والتخصيص، سوف يأتي قريبا زيادة بيان لذلك. (¬2) قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/15): (اعلم أن الإباحة عند أهل الأصول قسمان: الأولى: إباحة شرعية أي عرفت من قبل الشرع كإباحة الجماع في ليالي رمضان المنصوص عليها بقوله: " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ " ونسمى هذه الإباحة الإباحة الشرعية. الثانية: إباحة عقلية وهى تسمى في الاصطلاح البراءة الأصلية والإباحة العقلية وهى بعينها (استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه) ومن فوائد الفرق بين الاباحتين المذكورتين أن رفع الإباحة الشرعية يسمى نسخا كرفع إباحة الفطر في رمضان، وجعل الإطعام بدلا عن الصوم المنصوص في قوله: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184] فانه منسوخ بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185]. وأما الإباحة العقلية فليس رفعها نسخا لأنها ليست حكما شرعيا بل عقليا، ولذا لم يكن تحريم الربا ناسخا لإباحته في أول الاستلام لأنها إباحة عقلية)، وأيضا من الأمثلة على الإباحة الشرعية قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله تعالى {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}. منقطع أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم، فهو عفو، لأنه على البراءة الأصلية. انظر أضواء البيان (7/ 498).

ثانيا - مناقشة قيد التراخي في الناسخ:

الفطر بمجيء النهار ليس نسخا ; لأنه لم يكن بطريق شرعي، بل بانتهاء غاية الحكم، وانقضاء وقته، ويلزم من عرف النسخ بانتهاء مدة الحكم، أن يجعل دخول الليل نسخا للصوم؛ لأن بدخوله بان انتهاء مدة الصوم، لكن لم يسم الأصوليون ذلك نسخا). قوله (السنة) يدخل في عمومها النسخ بالفعل والتقرير. ثانيا - مناقشة قيد التراخي في الناسخ: سبق وأن ذكرت قول الشيخ: (ما دمنا قلنا: "رفع" فإنه يلزم أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ؛ لأن الرافع يكون بعد المرفوع) فالشيخ يرى أن تعريف النسخ بأنه رفع يغني عن ذكر قيد التراخي. وتعقب الطوفي هذه الملازمة فقال في "شرح مختصر الروضة" (2/ 258): (الاحتراز الثالث: اشتراط التراخي في الخطاب الرافع، حيث قلنا: رفع الحكم بخطاب متراخ: احتراز من زوال الحكم بخطاب متصل، كالشرط والاستثناء، نحو: أنت طالق إن دخلت الدار، فإن قوله: إن دخلت الدار. قد رفع حكم عموم وقوع الطلاق، الذي دل عليه: أنت طالق. وقوله: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة، هذا الاستثناء رفع عموم الطلاق الثلاث، حتى رده إلى اثنتين. وقوله تعالى: (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) [البقرة: 230]؛ فالغاية المذكورة رفعت عموم التحريم؛ فهذا كله وأمثاله ليس بنسخ؛ لأنه وإن كان رفعًا لحكم بخطاب، لكن ذلك الخطاب غير متراخ؛ فهو تخصيص لا نسخ، وهو معنى قولنا: فإنه بيان لا نسخ؛ لأن التخصيص بيان). وأعلم أن هذا القطع للملازمة لا يلزمنا، فالتخصيص عندنا قصر وليس بإخراج ولا رفع، ويلزم من ذلك أن يكون التخصيص بيانا لا رفعا للحكم، وعليه فالمستثني لم يدخل في الحكم حتى يخرج منه، وعليه فيلزم من تعريف النسخ بأنه رفع عدم دخول التخصيص في التعريف، فلا يلزم ذكر قيد التراخي. إلا أن الأولى ذكر هذا القيد للدلالة على ضرورة تأخر الناسخ عن المنسوخ، وخروجا من الإجمال إلى البيان لا لإخراج التخصيص. وأولى التعريفات ما اختاره الطوفي بأنه: (رفع الحكم الثابت بطريق شرعي، بمثله، متراخ عنه). قال في "شرح مختصر الروضة" (2/ 259): (قوله: «والأجود»، أي: في

النسخ جائز عقلا وواقع شرعا:

تعريف النسخ، «أن يقال: رفع الحكم الثابت بطريق شرعي، بمثله متراخ عنه»، وإنما كان هذا أجود، لما ذكرنا من أنه يتناول ما ثبت بالخطاب، أو ما قام مقامه من إشارة أو إقرار فيهما، أي: في المنسوخ والناسخ، فإن كل واحد منهما ثبت تارة بالخطاب، وتارة بما قام مقام الخطاب، ورفع ذلك والرفع به يسمى نسخًا، ولو اقتصرنا على قولنا: رفع الحكم بالخطاب، كما سبق في التعريف الأول، لخرج منه ما ثبت بغير الخطاب، كالإشارة، والفعل، والإقرار، أعني: التقرير الذي هو أحد أقسام السنة، كما سبق فيها؛ فلا يكون الحد جامعًا) (¬1). النسخ جائز عقلاً وواقع شرعاً: قال الشيخ: (والنسخ جائز عقلاً وواقع شرعاً). قال في الأصل: (أما جوازه عقلاً: فلأن الله بيده الأمر وله الحكم؛ لأنه الرب المالك فله أن يشرع لعباده ما تقتضيه حكمته ورحمته وهل يمنع العقل أن يأمر المالك مملوكه بما أراد؟! ثم إن مقتضى حكمة الله ورحمته بعبادة أن يشرع لهم ما يعلم تعالى أن فيه قيام مصالح دينهم ودنياهم والمصالح تختلف بحسب الأحوال والأزمان فقد يكون الحكم في وقت أو حال أصلح للعباد ويكون غيره في وقت أو حال أخرى أصلح والله عليم حكيم. وأما وقوعه شرعاً فلأدلة منها: 1 - قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106]. 2 - قوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) [الأنفال: 66]. (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) [البقرة: 187] فإن هذا النص في تغيير الحكم السابق. 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها" (¬2) فهذا نص في نسخ النهي عن زيارة القبور). ¬

_ (¬1) انظر "التحبير" (6/ 2976). (¬2) أخرجه مسلم من حديث بريدة - رضي الله عنه -.

تنبيهان:

تنبيهان: الأول - قول الأصفهاني في نفيه جواز النسخ شرعا: قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 270): («وخالف أبو مسلم» يعني: الأصفهاني، في جواز النسخ شرعًا، أي: أن الذي دل على امتناع النسخ هو الشرع، لا العقل، «لقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت: 41، 42]، والنسخ إبطال» قوله: «وليس بشيء»، يعني: ما احتج به أبو مسلم لا حجة فيه؛ لأن المراد من قوله تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ)، أي: لا يأتيه الكذب، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يعني الكتب السالفة لا تكذبه، بل هي موافقة له، (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ)، أي: من بعد نزوله وانقضاء عصر النبوة، بأن يقع بعض ما وعد به من المخبرات، على خلاف ما تضمنه من الإخبارات ... قوله: «ثم الباطل غير الإبطال»، هذا رد آخر على أبي مسلم، وهو أن الآية إنما دلت على نفي الباطل عن القرآن، لا على نفي الإبطال، والنسخ إبطال للحكم، لا باطل لاحق بالقرآن، ولله سبحانه وتعالى أن يبطل من أحكام شرعه ما شاء، ويثبت ما شاء؛ فما نفته الآية غير ما أثبتناه. ومعنى إبطال الحكم بالنسخ: أن ما كان مشروعًا صار غير مشروع. ثم إن أبا مسلم يدعي امتناع النسخ شرعًا دعوى عامة، والآية التي احتج بها، إنما تدل - لو دلت - على امتناع النسخ في القرآن خاصة، والدعوى العامة لا تثبت بالدليل الخاص. ثم هو محجوج بإجماع الأمة على نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، لما قبلها من الشرائع، مع أنها شرائع حق صحيحة، لا يأتيها الباطل. فجوابه عنها هو جوابنا عن لحوق النسخ للقرآن، غير أن أبا مسلم يجعل كل ما سماه غيره نسخًا، من باب انتهاء الحكم بانتهاء مدته ووجود غايته، لا من باب ارتفاعه بورود مضاده؛ فهو معنى قول بعض الأصوليين: إن النسخ بيان انتهاء مدة الحكم ... ). - وقد اختلف في قول الأصفهاني المعتزلي - على فرض ثبوته عنه (¬1) - فهو قول شاذ مخالف للكتاب والسنة وإجماع من سبق وقد وصفه بذلك أبو الحسين البصري ¬

_ (¬1) لا أقول هذا تشكيكا في ثبوت القول عنه، وإنما لما وقفت عليه ممن قال أنه لا يصح عنه.

وهو معتزلي أيضا فقال في "المعتمد" (1/ 370): (اتفق المسلمون على حسن نسخ الشرائع إلا حكاية شاذة عن بعض المسلمين أنه لا يحسن ذلك). وقال الشوكاني في "إرشاد الفحول" (2/ 52): (النسخ جائز عقلا واقع سمعا بلا خلاف في ذلك بين المسلمين إلا ما يروي عن أبي مسلم الأصفهاني فإنه قال أنه جائز غير واقع وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلا فظيعا وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين لا بخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية). - فقيل - يعني في توجيه هذا القول الشاذ -: أنه محمول على إنكار التسمية فهو يسميه تخصيصا لا نسخاً فيكون الخلاف في الاصطلاح لا الجواز. قال الشيخ في تفسير البقرة: (من فوائد الآية - أي قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا) -: ثبوت النسخ، وأنه جائز عقلاً، وواقع شرعاً؛ وهذا ما اتفقت عليه الأمة إلا أبا مسلم الأصفهاني؛ فإنه زعم أن النسخ مستحيل؛ وأجاب عما ثبت نسخه بأن هذا من باب التخصيص؛ وليس من باب النسخ؛ وذلك لأن الأحكام النازلة ليس لها أمد تنتهي إليه؛ بل أمدها إلى يوم القيامة؛ فإذا نُسِخت فمعناه أننا خصصنا الزمن الذي بعد النسخ. أي أخرجناه من الحكم.؛ فمثلاً: وجوب مصابرة الإنسان لعشرة حين نزل كان واجباً إلى يوم القيامة شاملاً لجميع الأزمان؛ فلما نُسخ أخرج بعض الزمن الذي شمله الحكم، فصار هذا تخصيصاً؛ وعلى هذا فيكون الخلاف بين أبي مسلم وعامة الأمة خلافاً لفظياً؛ لأنهم متفقون على جواز هذا الأمر؛ إلا أنه يسميه تخصيصاً؛ وغيره يسمونه نسخاً؛ والصواب تسميته نسخاً؛ لأنه صريح القرآن: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا)؛ ولأنه هو الذي جاء عن السلف .. ) (¬1). قال البعلي في "المختصر" (ص/ 137): (وخالف أكثر اليهود في الجواز وأبو مسلم الأصفهاني في الوقوع وسماه تخصيصا فقيل خالف فالخلاف إذا لفظي). وقال المحلي في "شرح جمع الجوامع" (2/ 88 - حاشية البناني): (النسخ واقع عند كل المسلمين، وسماه أبو مسلم الأصفهاني من المعتزلة تخصيصاً، لأنه قصر الحكم ¬

_ (¬1) وانظر شرح الأصول (ص/393).

الثاني - الحجة الثانية عند من أنكر النسخ هو القول بالبداء:

على بعض الأزمان، فهو تخصيص في الأزمان كالتخصيص في الأشخاص. فقيل: خالف في وجوده حيث لم يذكره باسمه المشهور، فالخلف الذي حكاه الآمدي وغيره عنه من نفيه وقوعه لفظي لما تقدم من تسميته تخصيصاً) (¬1). الثاني - الحجة الثانية عند من أنكر النسخ هو القول بالبداء: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 536): ("ولا يجوز البداء على الله" سبحانه و"تعالى"، "وهو تجدد العلم"، "وهو" أي القول بتجدد علمه جل وعلا "كفر" بإجماع أئمة أهل السنة قال الإمام أحمد رحمه الله: من قال: إن الله تعالى لم يكن عالما حتى خلق لنفسه علما فعلم به فهو كافر. وقال ابن الزاغوني: البداء: هو أن يريد الشيء دائما، ثم ينتقل عن الدوام لأمر حادث لا بعلم سابق قال: أو يكون سببه دالا على إفساد الموجب لصحة الأمر الأول، بأن يأمره لمصلحة لم تحصل فيبدو له ما يوجب رجوعه عنه. اهـ). قال الشنقيطي في " أضواء البيان" (2/ 446): (وما زعمه المشركون واليهود: من أن النسخ مستحيل على الله لأنه يلزمه البداء، وهو الرأي المتجدد ظاهر السقوط، واضح البطلان لكل عاقل؛ لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة، بل الله جل وعلا يشرِّع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة. فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة. كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء؛ لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له، على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح. وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ، وتمحضها في الناسخ بقوله هنا: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) [النحل: 101] وقوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 106]، وقوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا ¬

_ (¬1) وانظر أيضا التحبير شرح التحرير (6/ 2991).

ما يمتنع نسخه:

تَنْسَى. إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) [الأعلى: 6، 7] فقوله: (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) بعد قوله: (إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ) يدل على أنه أعلم بما ينزل. فهو عالم بمصلحة الإنسان، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي). ما يمتنع نسخه: قال الشيخ: (ما يمتنع نسخه: 1 - الأخبار إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر فلا يمتنع نسخه. 2 - الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان). أولا - الكلام على نسخ الأخبار (¬1): اعلم أن الخبر يتعلق به ثلاثة أمور: تلاوته، والإخبار به، والنسبة التي اشتمل عليها الخبر والتي بمقتضاها يحكم بصدق الكلام، أو كذبه، أما الأول والثاني فهما من باب نسخ الأحكام التكليفية لا من باب نسخ الأخبار إلا أن الأصوليين يذكرون الكلام عليهما نظرا لتعلقهما بالأخبار. أما الخبر من حيث تلاوته فيجوز نسخة بلا خلاف بين العلماء سواء أكان مما يتغير كقولنا: زيد مؤمن، أو كان مما لا يتغير كقولنا: الله موجود. أما من حيث التكليف بالإخبار به فإن كان مما يتغير كقولنا: أخبر زيدا بأن عمرا آمن، فلا خلاف في جواز نسخه. وأما إن كان مما لا يتغير كأخبر زيدا بأن الله موجود. فإن كان من غير أن يكلف بالإخبار بنقيضه كأن يقول لا تخبره بأن الله موجود فلا خلاف في جواز نسخه. وإن كان نسخه بالتكليف بالإخبار بنقيضه كأن يقول له أخبر محمدا بأن الله ليس بموجود. فقد اختلف فيه، فالمعتزلة يمنعون ذلك بناء على أن ذلك يفضي إلى الكذب وهو قبيح عقلا فكيف يجوز التكليف به. ¬

_ (¬1) انظر: التحبير (6/ 3010: 3016)، وشرح الكوكب (3/ 543: 545)، الإحكام للآمدي (3/ 156: 158)، نظرية النسخ في الشرائع (141: 143).

والأشاعرة يجوزونه بناء على قولهم بأن الحسن ما أمر به الشارع، والقبيح ما نهى عنه الشارع، وقالوا إن سلمنا فرضا قبح الكذب فقبحه إنما هو باعتبار فاعله لا باعتبار التكليف به، ولا مانع عقلا من أن يبيحه الشرع لغرض المكلف من جلب مصلحة أو درء مفسدة. وهذا الخلاف بينهم قائم على أساس أقوالهم في مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وقد اختلفت فيها الأقوال إلى ثلاثة: القول الأول: أن حُسْن الأشياء وقُبْحها، والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة الشرع، وهو قول جماهير الأشاعرة. القول الثاني: أن حُسْن الأشياء وقُبْحها، والثواب عليها والعقاب يعرف من جهة العقل، وهو قول المعتزلة والرَّافضة. القول الثالث: أن حُسْن بعض الأشياء وقُبْحها قد يعرف من جهة العقل دون ترتيب ثواب أو عقاب على ذلك، وهو قول أهل السنة والجماعة من السلف ومن تبعهم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم واختاره الزركشي من الشافعية، وهو قول الماتريديَّة والكرَّاميَّة. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (8/ 431): (الناس في مسألة التحسين والتقبيح (على ثلاثة أقوال طرفان ووسط: (الطرف الواحد) قول من يقول بالحسن والقبح ويجعل ذلك صفات ذاتية للفعل لازمة له ولا يجعل الشرع إلا كاشفا عن تلك الصفات لا سببا لشيء من الصفات فهذا قول المعتزلة وهو ضعيف ... وأما الطرف الآخر فهو قول من يقول إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام ولا على صفات هي علل للأحكام بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر. ويقولون أنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن

يأمر بالظلم والفواحش وينهى عن البر والتقوى والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط وليس المعروف في نفسه معروفا عندهم ولا المنكر في نفسه منكرا عندهم .... قد ثبت بالخطاب والحكمة الحاصلة من الشرائع ثلاثة أنواع: (أحدها) أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة ولو لم يرد الشرع بذلك كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم والظلم يشتمل على فسادهم فهذا النوع هو حسن وقبيح وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك لا أنه أثبت للفعل صفة لم تكن لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك وهذا مما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح فإنهم قالوا إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسولا وهذا خلاف النص قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [سورة الإسراء: الآية 15] ... والنصوص الدالة على أن الله لا يعذب إلا بعد الرسالة كثيرة ترد على من قال من أهل التحسين والتقبيح أن الخلق يعذبون في الأرض بدون رسول أرسل إليهم. (النوع الثاني) أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا وإذا نهى عن شيء صار قبيحا واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع. و (النوع الثالث) أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد هل يطيعه أم يعصيه ولا يكون المراد فعل المأمور به كما أمر إبراهيم بذبح ابنه فلما أسلما وتله للجبين حصل المقصود ففداه بالذبح ... فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان وأن الأفعال ليست لها صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة وهو الصواب). وبناء على هذا فالراجح في هذه المسألة القول بمنع النسخ في هذه الحالة. وأما الخبر من حيث النسبة التي اشتمل عليها والتي بمقتضاها يصدق الكلام، أو يكذب: فإن كان المضمون مما لا يتغير فلا يجوز نسخه بالإجماع، حكاه أبو إسحاق

المروزي، وابن برهان، وذلك كصفات الله تعالى، وأخبار ما كان وما يكون، وأخبار الأنبياء عليهم السلام، وأخبار الأمم السالفة، والأخبار عن الساعة وأمارتها ونحوه. قال ابن مفلح: ونسخ مدلول خبر لا يتغير محال إجماعا. قال القاضي في " العدة" (3/ 825): (الخبر هل يصح نسخه أم لا؟ ينظر فيه: فإن كان لا يصح أن يقع إلا على الوجه المخبر به، فلا يصح نسخه، كالخبر عن الله تعالى بأنه واحد ذو صفات، والخبر بموسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء أنهم كانوا أنبياء موجودين، والخبر بخروج الدجال في آخر الزمان ونحو هذا، فهذا لا يصح نسخه؛ لأن نسخه والرجوع عنه يفضي إلى الكذب، وهذا لا يجوز على الله تعالى، فلم يجز ذلك). وأما إن كان مما يتغير كإيمان زيد - مثلا - وكفره، ففيه أقوال كثيرة منها: القول الأول - أنه لا يجوز نسخه، وهو الأصح في المذهب وعليه الأكثر. قال ابن مفلح: منعه جمهور الفقهاء والأصوليين، فمن أصحابنا ابن الأنباري، وابن الجوزي، والموفق، وجزم به في ' الروضة '. ومن الشافعية وغيرهم كالصيرفي، وأبي إسحاق المروزي، والباقلاني، والجبائي، وابنه أبي هاشم، وابن السمعاني، وابن الحاجب، قال الأصفهاني: هو الحق. القول الثاني - يجوز نسخ ذلك: وهو قول القاضي أبي يعلى، والفخر الرازي، وأبو عبد الله، وأبو الحسين البصريان، وعبد الجبار، ونسبه ابن برهان للمعظم. واختاره الشيخ تقي الدين. قال أبو يعلى في "العدة" (3/ 825): (وإن كان مما يصح أن يتغير، ويقع على غير الوجه المخبر عنه، فإنه يصح نسخه كالخبر عن زيد بأنه مؤمن أو كافر، أو عبد أو فاسق، فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن، جاز أن يقول بعد ذلك: هو كافر. وكذلك يجوز أن يقول: الصلاة على المكلف في المستقبل، ثم يقول بعد مدة: ليس على المكلف فعل الصلاة؛ لأن نسخ ذلك لا يفضي إلى الكذب في الخبر؛ لأنه يجوز أن تتغير صفته من حال إلى حال، كما يجوز أن يتغير حكم المكلف عن العبادة

من زمان إلى زمان) (¬1). القول الثالث - التفصيل بين الخبر عن الماضي فيمتنع نسخه؛ لأنه يكون تكذيبا، دون المستقبل؛ لجريانه مجرى الأمر والنهي، فيجوز أن يرفع به، وهذا القول اختيار ابن عقيل، والخطابي، وابن القطان، وسليم الرازي، والبيضاوي في ' مختصره '. وهذا التفصيل مبني على أن الكذب لا يكون في المستقبل، بل في الماضي، ومنصوص أحمد أنه يكون في المستقبل كالماضي. وقد بين الرزكشي أن الخلاف في مسألة النسخ في الأخبار بين من جوزه ومن منعه يرجع إلى الخلاف في حد النسخ عنده. فقال في "البحر المحيط" (3/ 177): (أن الخلاف مبني على تفسير النسخ وهل هو رفع أو بيان كما صرح به القاضي فقال: ذهب كل من قال بأن النسخ بيان (¬2) وليس برفع حقيقي إلى جواز النسخ في الأخبار على هذا التأويل، قال: وأما نحن إذا صرنا إلى أنه رفع لثابت حقيقي وأن المبين ليس بنسخ أصلا فلا نقول على هذا بنسخ الأخبار لأن في تجويزه حينئذ تجويز الخلف في خبر الله وهو باطل وهذا بخلاف تجويز النسخ في الأوامر والنواهي لأنه لا يدخلها صدق ولا كذب. اهـ، ومن هذا يعلم أن من وافق القاضي في تفسيره بالرفع وقال بتجويز النسخ في الأخبار فلم يتحقق ولم يقف الهندي على كلام القاضي فقال لا يتجه الخلاف إن فسرنا النسخ بالرفع لأن نسخه حينئذ يستلزم الكذب وإنما يتم إذا فسرناه بالانتهاء فإنه لا يمتنع حينئذ أن يراد من الدليل على ثبوت الحكم في كل الأزمنة لا بعضها). والذي أراه في هذه المسألة أن كلا القولين بالمنع والجواز لم يتواردا على محل واحد وأن الخلاف بينهما خلافا لفظيا، فمن قال بالمنع نظر للخبر قبل وقوعه، ومن قال بالجواز نظر إليه بعد وقوعه. ¬

_ (¬1) انظر المسودة (ص/177). (¬2) وقد عرف القاضي النسخ في "العدة" (1/ 155) بقوله: (وأما النسخ فحده: بيان انقضاء مدة العبادة التي ظاهرها الإطلاق. وإن شئت قلت: بيان ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان ... ).

1 - النسخ في مكارم الأخلاق ومساوئها:

وعليه فلا بد من تقييد إطلاق كلا القولين، فمن قال بالمنع يقيد قوله بأن يكون الرفع قبل وقوع الخبر، ومن قال بالجواز يقيد قوله بأن يكون البيان بعد وقوع الخبر على نحو ما أُخبر به. ولنتوقف مع ما مثلوا به عن الخبر الذي يقبل التغيير من إيمان زيد، فلو أخبر الشارع بإيمان زيد فهو لا محالة واقع وصدق، والقول بجواز نسخ هذا الخبر يحتمل أحد أمرين أن ينسخ قبل وقوعه، أو بعد وقوعه، فإن كان الأول لزم تكذيب الخبر ويمتنع نسخه على كلا القولين، وإن كان بعد وقوعه فلا مانع من نسخه على كلا القولين. فرع: يجوز نسخ الخبر إذا كان مرادا به الإنشاء: إن كان الخبر عن حكم جاز نسخه قطعا بلا خلاف؛ لأنه في الحقيقة إنشاء، قاله البرماوي وغيره. وذلك كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) [سورة البقرة: الآية 228]، وقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) [سورة البقرة: الآية 240] وقوله: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [سورة آل عمران: الآية 97]. ثانيا - لا تنسخ الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان: قال في "الأصل" (ص/53): (الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان كالتوحيد وأصول الإيمان وأصول العبادات ومكارم الأخلاق من الصدق والعفاف والكرم والشجاعة ونحو ذلك فلا يمكن نسخ الأمر بها وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن ونحو ذلك، إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم). تضمن كلام الشيخ جملة من الأحكام التي لا يدخلها النسخ، وسوف نفصل الكلام عن جزئيات الكلام. 1 - النسخ في مكارم الأخلاق ومساوئها: قال المرداوي في "التحبير" (6/ 3109): (وأما ما قبح وحسن لذاته كمعرفة الله تعالى، وتحريم الكفر، والظلم، والكذب، والقبائح العقلية، وشكر المنعم، فهل

2 - لا نسخ في القواعد الكلية:

يجوز نسخ وجوبه وتحريمه أم لا؟ فمن نفى الحسن والقبح، ورعاية الحكمة في أفعاله يجوز نسخ ذلك ومن أثبت ذلك منع النسخ، ذكره الآمدي وغيره؛ لأن المقتضى للحسن والقبح حينئذ صفات وأحكام لا تتغير بتغير الشرائع فامتنع النسخ لاستحالة الأمر بالقبيح، والنهي عن الحسن. وأما من نفى ذلك - وهو الصحيح - فإنه يجوز نسخ هذه الأمور لقول الله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) [سورة الرعد: الآية 39]، وقوله تعالى: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [سورة إبراهيم: الآية 27]). والأقوى جواز النسخ لما يقبل التغير. فمثلا الكذب قبيح، ولكن قد يبيحه الشرع لغرض المكلف من جلب مصلحة أو درء مفسدة. قال ابن حجر في " فتح الباري" (5/ 300): (واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم). وقال ابن حزم في " مراتب الإجماع" (ص/ 156): (واتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة. واتفقوا على تحريم الكذب في غير الحرب وغير مداراة الرجل امرأته وإصلاح بين اثنين ودفع مظلمة). قال ابن حجر في " فتح الباري" (6/ 159): (قال النووي الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة (¬1) لكن التعريض أولى وقال بن العربي الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا انتهى). 2 - لا نسخ في القواعد الكلية: وقد قرر الشاطبي أن النسخ لم يقع في القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينات. ¬

_ (¬1) يشير إلى ما رواه مسلم من حديث أم كلثوم - رضي الله عنها - مرفوعا: (لم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها).

3 - لا نسخ في أصل التوحيد:

فقال في "الموافقات" (3/ 104): (النسخ لا يكون في الكليات وقوعا وإن أمكن عقلا ويدل على ذلك الاستقراء التام وأن الشريعة مبنية على حفظ الضروريات والحاجيات والتحسينيات وجميع ذلك لم ينسخ منه شئ ... ثم قال: (لم يثبت نسخ لكلي ألبتة ومن استقرى كتب الناسخ والمنسوخ تحقق هذا المعنى فإنما يكون النسخ في الجزئيات منها). وقال (3/ 117): (القواعد الكلية من الضروريات والحاجيات والتحسينيات لم يقع فيها نسخ وإنما وقع النسخ في أمور جزئية بدليل الاستقراء فإن كل ما يعود بالحفظ على الأمور الخمسة ثابت وإن فرض نسخ بعض جزئياتها فذلك لا يكون إلا بوجه آخر من الحفظ وإن فرض النسخ في بعضها إلى غير بدل فأصل الحفظ باق إذ لا يلزم من رفع بعض أنواع الجنس رفع الجنس ... ). 3 - لا نسخ في أصل التوحيد: وقال السرخسي في " أصوله" (2/ 59): (ليس في أصل التوحيد احتمال النسخ بوجه من الوجوه؛ لأن الله تعالى بأسمائه وصفاته لم يزل كان ولا يزال يكون ومن صفاته أنه صادق حكيم عالم بحقائق الأمور فلا احتمال للنسخ في هذا بوجه من الوجوه ألا ترى أن الأمر بالإيمان بالله وكتبه ورسله لا يحتمل التوقيت بالنص وأنه لا يجوز أن يكون غير مشروع بحال من الأحوال). وقال المرداوي في "التحبير" (6/ 2995): (لا يدخل النسخ أصل التوحيد بحال؛ لأن الله تعالى بأسمائه، وصفاته لم يزل، ولا يزال) (¬1). تتمة - في بيان ما يمتنع نسخه من الأحكام: - الأحكام الحسية والعقلية: جاء في " التوضيح في حل عوامض التنقيح" (2/ 70): (الحكم إما أن لا يحتمل النسخ في نفسه كالأحكام العقلية مثل وحدانية الله وأمثالها وما يجري مجراها كالأمور الحسية). وقال المريني في "القواعد الأصولية عند الإمام الشاطبي من خلال كتابه الموافقات" ¬

_ (¬1) انظر المدخل (ص/222).

- الوعود من الله لا من غيره:

(ص/335) (¬1): (أما الأحكام الحسية: فلقد أجمع العلماء على أن الأحكام الحسية لا يدخلها نسخ، ولا تكون محالًّا له؛ وذلك لأنها من الأمور المشاهدة التي تراها العيون، ولا تختلف تلك الرؤية بالنسبة لعالم، وعالم آخر، وبالنسبة لزمن، وزمن آخر. ومثل الأمور الحسية: كون النار محرقة، والعالم حادث، والسماء فوق الأرض. فهذه الأمور، ومثيلاتها لا تتبدل، إلا أن يشاء الله - تعالى - كالمعجزة التي حصلت لإبراهيم الخليل - عليه السلام). - الوعود من الله لا من غيره: قال تعالي: (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [سورة الروم: آية 6] فالنسخ في الوعود كذب والكذب محال علي الله عز وجل. قال السبكي في "رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب" (4/ 79): (ونسخ الوعد لا يفضي إلى الكذب كما عرفت؛ لأنه إنشاء، ولكنه لا يقع؛ لأنه إخلاف في الإنعام، وهو على الرب - تعالى - مستحيل. قال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: سبحان من إذا وعد وفى، وإذا توعد عفا). وجاء في "المسودة" (ص / 178): (فضابط القاضي أن الخبر إن قبل التغيير جاز النسخ وإلا فلا وعلى هذا فيجوز نسخ الوعد والوعيد قبل الفعل كقوله (من بنى هذا الحائط فله درهم) ثم رفع ذلك والفقهاء يفرقون بين التعليق وبين التخيير). شروط النسخ: 1 - تعذر الجمع بين الدليلين: قال الشيخ وهو يتكلم عن شروط النسخ: (تعذر الجمع بين الدليلين). قال المرداوي في " التحبير" (6/ 2983): (قوله: (لا نسخ مع إمكان الجمع)؛ لأنا إنما نحكم بأن الأول منسوخ إذا تعذر علينا الجمع بينهما، فإذا لم يتعذر وجمعنا بينهما بمقبول فلا نسخ. قال المجد في ' المسودة ' (¬2) وغيره: لا يتحقق النسخ إلا مع التعارض، فأما مع إمكان الجمع فلا، وقول من قال: نسخ صوم عاشوراء برمضان، أو نسخت الزكاة كل صدقة سواها، فليس يصح إذا حمل على ظاهره؛ ¬

_ (¬1) وأحال على "النسخ في دراسة الأصوليين" (ص/388). (¬2) انظر المسودة (ص/207).

2 - العلم بتأخر الناسخ:

لأن الجمع بينهما لا منافاة فيه، وإنما وافق نسخ عاشوراء صوم فرض رمضان، ونسخ سائر الصدقات فرض الزكاة فحصل النسخ معه، لا به، وهو قول القاضي (¬1) وغيره. انتهى). قال ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص/23): (الشروط المعتبرة في ثبوت النسخ خمسة: الشرط الأول أن يكون الحكم في الناسخ والمنسوخ متناقضا بحيث لا يمكن العمل بهما جميعا فإن كان ممكنا لم يكن أحدهما ناسخا للآخر وذلك قد يكون على وجهين: الوجه الأول أن يكون أحد الحكمين متناولا لما تناوله الثاني بدليل العموم والآخر متناولا لما تناوله الأول بدليل الخصوص فالدليل الخاص لا يوجب نسخ دليل العموم بل يبين أنه إنما تناوله التخصيص لم يدخل تحت دليل العموم. والوجه الثاني أن يكون كل واحد من الحكمين ثابتا في حال غير الحالة التي ثبت فيها الحكم الآخر مثل تحريم المطلقة ثلاثا فإنها محرمة على مطلقها في حال وهي ما دامت خالية عن زوج وإصابة فإذا أصابها زوج ثان ارتفعت الحالة الأولى وانقضت بارتفاعها مدة التحريم فشرعت في حالة أخرى حصل فيها حكم الإباحة للزوج المطلق ثلاثا فلا يكون هذا ناسخا لاختلاف حالة التحريم والتحليل). 2 - العلم بتأخر الناسخ: قال ابن الجوزي في " نواسخ القرآن" (ص/23): (الشرط الثاني أن يكون الحكم المنسوخ ثابتا قبل ثبوت حكم الناسخ ... فمتى ورد الحكمان مختلفين على وجه لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك الآخر ولم يثبت تقديم أحدهما على صاحبه بأحد الطريقين امتنع ادعاء النسخ في أحدهما). طرق معرفة تأخر الناسخ: قال الشيخ وهو يتكلم عن شروط النسخ: (العلم بتأخر الناسخ ويعلم ذلك إما بالنص أو بخبر الصحابي، أو بالتاريخ). أولًا- النص: ¬

_ (¬1) انظر العدة (3/ 835).

ثانيا- خبر الصحابي:

مثل له الشيخ في "الأصل" (ص/53) بقوله صلى الله عليه وسلم: (كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة) (¬1). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 563) وهو يتكلم عن طرق معرفة تأخر الناسخ: ((و) الوجه الثاني من طريق معرفة تأخر الناسخ (قوله صلى الله عليه وسلم) نحو (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) وقريب من هذا: أن ينص الشارع على خلاف ما كان مقررا بدليل، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين على تأخر أحدهما، فيكون ناسخا للمتقدم). ثانيًا- خبر الصحابي: مثل له الشيخ في "الأصل" بقول عائشة رضي الله عنها - " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات" (¬2). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 563) وهو يتكلم عن طرق معرفة تأخر الناسخ: ((و) الوجه الرابع من طرق معرفة تأخر الناسخ (قول الراوي) للناسخ (كان كذا ونسخ، أو رخص في كذا ثم نهي عنه ونحوهما) كقول جابر رضي الله عنه (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) وكقول علي رضي الله عنه (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام للجنازة، ثم قعد) وفي معنى ذلك كثير فإن قيل: قول الراوي ينسخ به القرآن والسنة المتواترة، على تقدير وجودها، مع أنه خبر آحاد، والآحاد لا ينسخ به المتواتر؟ قيل: هذا حكاية للنسخ، لا نسخ، والحكاية بالآحاد يجب العمل بها كسائر أخبار الآحاد وأيضا: فاستفادة النسخ من قوله: إنما هو بطريق التضمن، والضمني: يغتفر فيه ما لا يعتبر فيما إذا كان أصلا، كثبوت الشفعة في الشجر تبعا للعقار ونحوه (لا) قول الراوي (ذي الآية) منسوخة (أو ذا الخبر منسوخ، حتى يبين الناسخ) للآية أو الخبر. ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "صحيحه " (2/ 1023) حديث رقم (1406) من حديث الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه - رضي الله عنه - به. (¬2) رواه مسلم في "صحيحه " (2/ 1075) حديث رقم (1452).

ثالثا- التاريخ:

قال ابن مفلح: وإن قال صحابي: هذه الآية منسوخة لم يقبل حتى يخبر بماذا نسخت قال القاضي: أومأ إليه أحمد، كقول الحنفية والشافعية قالوا: لأنه قد يكون عن اجتهاد فلا يقبل. وذكر ابن عقيل رواية أنه يقبل، كقول بعضهم بعلمه، فلا احتمال؛ لأنه لا يقوله غالبا إلا عن نقل وقال المجد في المسودة: إن كان هناك نص يخالفها عمل بالظاهر). ثالثًا- التاريخ: مثل له الشيخ في "الأصل" بقوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) [الأنفال: 66]. الآية، فقوله: (الْآنَ) (¬1) يدل على تأخر هذا الحكم وكذا لو ذكر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حكم بشيء قبل الهجرة ثم حكم بعدها بما يخالفه فالثاني ناسخ). رابعًا- الإجماع: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 563): ("وطريق معرفته" أي معرفة تأخر الناسخ من وجوه. أحدها: "الإجماع" على أن هذا ناسخ لهذا، كالنسخ بوجوب الزكاة سائر الحقوق المالية. ومثله ما ذكر الخطيب البغدادي: أن زر بن حبيش قال لحذيفة (أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع) وأجمع المسلمون على أن طلوع الفجر يحرم الطعام والشراب، مع بيان ذلك من قوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة: 187] الآية قال العلماء في مثل هذا: إن الإجماع مبين للمتأخر، وإنه ناسخ لا إن الإجماع هو الناسخ). خامسًا- فعله صلى الله عليه وسلم: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 563) وهو يتكلم عن طرق معرفة تأخر الناسخ: ((و) الوجه الثالث (فعله) صلى الله عليه وسلم في ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله واختاره القاضي وأبو الخطاب، وبعض الشافعية، وقد جعل العلماء من ذلك نسخ الوضوء مما مست النار بأكله صلى الله عليه وسلم من الشاة ولم يتوضأ ¬

_ (¬1) قال في شرح الأصول (ص/413): (الآن ظرف للحاضر، وهذا يقتضي أن ما قبله مغاير لما بعده.

3 - ثبوت الناسخ:

وهو ظاهر ما قدمه ابن قاضي الجبل، ومنع ابن عقيل القول بفعله صلى الله عليه وسلم، وحكي عن التميمي، واختاره المجد في المسودة لأن دلالته دونه). 3 - ثبوت الناسخ: قال الشيخ وهو يتكلم عن شروط النسخ: (ثبوت الناسخ واشترط الجمهور أن يكون أقوى من المنسوخ فلا ينسخ المتواتر عندهم بالآحاد وإن كان ثابتاً، والأرجح أنه لا يشترط أن يكون الناسخ أقوى؛ لأن محل النسخ الحكم ولا يشترط في ثبوته التواتر). محصل هذا الشرط أن الشيخ يشترط في الناسخ أن يصح نسبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكون ضعيفا، فلم يشترط أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ بل اكتفى بمجرد صحة نسبته للشرع فينسخ خبرُ الآحاد المتواترَ والقرآنَ. تنبيه: قوله: (لأن محل النسخ الحكم ولا يشترط في ثبوته التواتر). المقصود من هذا التعليل بيان أن الحكم (¬1) - عند الشيخ - لا يشترط فيه أن يكون قطعيا، بمعنى أنه يمكن أن يكون قطعيا أو ظنيا، وعليه فمحل الإشكال لا يزال قائما، وهو إن كان الحكم قطعيا هل ينسخ بالظني؟ وأما قوله: (لأن محل النسح الحكم) فقد يتوهم منه أن اللفظ ليس محلا للنسخ مع أنه أحد أنواع النسخ، ويجاب عن ذلك بأن التلاوة حكم، أو في معناه، قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 274): (التلاوة حكم، والمراد بها متعلق الحكم ; فلأنه يجب تلاوتها في الصلاة، وتصح وتنعقد بها، وتستحب كتابتها، والوجوب، والصحة، والاستحباب أحكام متعلقة بالتلاوة ; فهي حكم أو في معنى الحكم). وسيأتي مزيد بيان لذلك بإذن الله - تعالى - عند الكلام على أنواع النسخ في المسالة التالية. ¬

_ (¬1) وذلك إعمالا لعود الضمير في قوله: (في ثبوته) على أقرب مذكور، وهو: الحكم.، فإن قلنا أنه يعود على الناسخ كان هذا استدلا من الشيخ بمحل النزاع؛ لأن المانع يمنع من أن يكون الناسخ ظنيا.

الخلاف في نسخ المتواتر بالآحاد:

وكان الأولى أن يعلل الشيخ اختياره بقوله: (لأن الكل شرع من عند الله، قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [سورة النجم: 3، 4]. أو يقول: (إن الناسخ في الحقيقة إنما جاء رافعًا لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه، وذلك ظني وإن كان دليله قطعيًا، فالمنسوخ إنما هو هذا الظني لا ذلك القطعي) (¬1). الخلاف في نسخ المتواتر بالآحاد: اختلف العلماء في نسخ القرآن والمتواتر بخبر الآحاد على ثلاثة أقوال: قال ابن عقيل في "الواضح" (4/ 258): (في نسخ القرآن بالسنة، عن أحمد روايتان: إحداهما: لا يجوز نسخه إلا بالقرآن، وبها قال الشافعي، وأكثر أصحابه. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز بالسنة المتواترة. وعن مالك، وابن سريج من أصحاب الشافعي مثله. وأنه يجوز بالمتواتر منها، وهو مذهب المعتزلة والأشعرية. وأختلف أهل الظاهر في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز نسخ القرآن بالمتواتر والآحاد، وعن أحمد مثله لأنه استدل في النسخ بالآحاد بقصة أهل قباء، فصار قائلا بالنسخ بالتواتر من طريق التنبيه رواها عنه الفضل بن زياد، وهي تشبه مذهبه في إثبات الصفات بأخبار الآحاد، وإثبات الصفات لله سبحانه أكثر من النسخ. واختلف القائلون بذلك والمانعون منه، هل وجد ذلك؟ فقال قوم: لم يوجد ذلك، وإليه ذهب شيخنا الإمام أبو يعلى وابن سريج من أصحاب الشافعي، وقوم من المتكلمين). وما اختاره الماتن من جواز نسخ المتواتر بما ثبت من أخبار الآحاد هو الأقوى. قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/86): (التحقيق الذي لا شك فيه هو جواز وقوع نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه والدليل الوقوع. أما قولهم أن المتواتر أقوى من الآحاد والأقوى لا يرفع بما هو دونه فإنهم قد غلطوا فيه غلطاً عظيماً مع كثرتهم وعلمهم وإيضاح ذلك أنه لا تعارض البتة بين خبرين (¬2) مختلفي التاريخ لإمكان صدق كل منهما في وقته وقد أجمع جميع النظار أنه ¬

_ (¬1) انظر نزهة الخاطر العاطر (1/ 154)، وإرشاد الفحول (2/ 68) وأضواء البيان (6/ 62). (¬2) الظاهر أن مراد الشيخ بالخبر هنا ما أريد به الإنشاء، وقد يكون هذا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فإن كان لا تعارض البتة بين خبرين مختلفي التاريخ لإمكان صدق كل منهما في وقته، فبالأولى ألا يكون هناك تعارض بين أمرين أو نهيين مما لا يتطرق إليهما التصديق أو التكذيب.

لا يلزم التناقض بين القضيتين إلا إذا اتحد زمانهما أما إن اختلفا فيجوز صدق كل منهما في وقتها، فلو قلت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى بيت المقدس وقلت أيضاً لم يصل إلى بيت المقدس وعنيت بالأولى ما قبل النسخ وبالثانية ما بعده لكانت كل منهما صادقة في وقتها. ومثال نسخ القرآن بأخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه نسخ إباحة الحمر الأهلية مثلاً المنصوص عليها بالحصر الصريح في آية (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) [الأنعام: 145] الآية. بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه لأن الآية من سورة الأنعام وهي مكية أي نازلة قبل الهجرة بلا خلاف وتحريم الحمر الأهلية بالسنة واقع بعد ذلك في خيبر ولا منافاة البتة بين آية الأنعام المذكورة وأحاديث تحريم الحمر الأهلية لاختلاف زمنهما، فالآية وقت نزولها لم يكن محرماً إلا الأربعة المنصوصة فيها وتحريم الحمر الأهلية طارئ بعد ذلك والطروء ليس منافاة لما قبله وإنما تحصل المنافاة بينهما لو كان في الآية ما يدل على نفي تحريم شيء في المستقبل غير الأربعة المذكورة في الآية وهذا لم تتعرض له الآية بل الصيغة فيها مختصة بالماضي لقوله: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ) بصيغة الماضي ولم يقل فيما سيوحى إلي في المستقبل وهو واضح كما ترى والله أعلم. وأما آية الوصية للوالدين والأقربين فالتحقيق أنها منسوخة بآية المواريث والحديث بيان للناسخ وبيان المتواتر لا يشترط فيه التواتر كما تقدم والحديث يشير إلى أن الناسخ لها آيات المواريث لأن ترتيبه - صلى الله عليه وسلم - نفى الوصية للوارث بالفاء على إعطاء كل ذي حق حقه يعني الميراث في قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) يدل على ذلك. وأما قول عمر - رضي الله عنه -: (لا ندع كتاب ربنا) الخ، فالحق في ذلك ليس معه رضي الله عنه بل مع المرأة المذكورة وهي فاطمة بنت قيس رضي الله

شروط أخرى للنسخ

عنها قالت إن زوجها طلقها آخر ثلاث تطليقات فلم يجعل لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفقة ولا سكنى وعندما سمعت قول عمر لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة الخ .. قالت بيني وبينكم كتاب الله قال الله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) [الطلاق: 1] حتى قال: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) فأي أمر يحدث بعد الثلاث وصرح أئمة الحديث بأنه لم يثبت من السنة ما يخالف حديثها، فالسنة معها وكتاب الله معها فلا وجه للاستدلال بمخالفة عمر لما سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن من حفظ حجة علي من لم يحفظ (والذي يظهر والله تعالى أعلم أن عمر لم يخالفها ولكنه لم يثق في روايتها وعلى هذا فلا منافاة إذا). وقد سبق وأن ذكرت وجهين من وجوه الترجيح، مما يقوي القول بالجواز العقلي والشرعي، وأما الكلام على الوقوع ومناقشة هذه الأمثلة التي ساقها العلامة الشنقيطي فسيأتي قريبا بإذن الله. وأما حديث: (كلامي لا ينسخ كلام الله وكلام الله ينسخ كلامي وكلام الله ينسخ بعضه بعضا) فهو حديث موضوع (¬1). شروط أخرى للنسخ (¬2): الأول: أن يكون المنسوخ شرعيًّا لا عقليًّا. ¬

_ (¬1) قال الشيخ الحويني في "النافلة" بعد أن حكم عليه بالوضع: (أخرجه الدارقطني (4/ 145)، ومن طريقه أبو الفتح المقدسي في ((تحريم نكاح المتعة)) (135) من طريق جبرون بن واقد، حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا: ((كلامي لا ينسخ كلام الله وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضا)). قلت: وسنده تأليف. وآفته: جبرون بن واقد الإفريقي. قال الذهبي: ((متهم فإنه روى بقلة حياء عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعا: كلام الله ينسخ كلامي .... وهو موضوع)). أه‍. وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 180) ترجمة رقم (368)، وقال: حديث منكر. قال ابن عبدالهادي في "رسالة لطيفة" (ص/23): (ليس له إسناد أو له إسناد ولا يحتج بمثله النقاد من أهل العلم). وقال ابن القيسراني ذخيرة الحفاظ (4/ 1920): (فيه جبرون بن واقد منكر الحديث). (¬2) التحبير (6/ 2994)، المدخل (1/ 222)، إرشاد الفحول (2/ 55)، نظرية النسخ في الشرائع (ص/111)، الإحكام للآمدي (3/ 126)، نواسخ القرآن (1/\25)، البحر المحيط (3/ 157).

أقسام النسخ باعتبار المنسوخ:

الثاني: أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ، متأخرا عنه، فإن المقترن كالشرط، والصفة، والاستثناء لا يسمى نسخًا بل تخصيصا. الثالث: أن يكون النسخ بشرع، فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخًا، بل هو سقوط تكليف. الرابع: أن لا يكون المنسوخ مقيدًا بوقت، أما لو كان كذلك فلا يكون انقضاء وقته الذي قيد به نسخًا له. الخامس: أن يكون مما يجوز نسخه، فلا يدخل النسخ أصل التوحيد؛ لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال، وسبق الكلام على تفصيل نسخ الأخبار (¬1). أقسام النسخ باعتبار المنسوخ: قال الشيخ: (ينقسم النسخ باعتبار النص المنسوخ إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما نسخ حكمه وبقي لفظه، وحكمة نسخ الحكم دون اللفظ بقاء ثواب التلاوة وتذكير الأمة بحكمة النسخ. الثاني: ما نسخ لفظه وبقي حكمه، وحكمة نسخ اللفظ دون الحكم اختبار الأمة في العمل بما لا يجدون لفظه في القرآن وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى. الثالث: ما نسخ حكمه ولفظه). وقال في "الأصل" (ص/54): (ينقسم النسخ باعتبار النص المنسوخ إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما نسخ حكمه وبقي لفظه، وهذا هو الكثير في القرآن. مثاله: آيتا المصابرة، وهما قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [لأنفال: من الآية65]، نسخ حكمها بقوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [لأنفال:66]. وحكمة نسخ الحكم دون اللفظ، بقاء ثواب التلاوة، وتذكير الأمة بحكمة النسخ. ¬

_ (¬1) هناك شروطا أخرى للنسخ لا داعي للتطويل بذكرها نظرا لورود الخلاف فيها.

الثاني: ما نسخ لفظه وبقي حكمه كآية الرجم، فقد ثبت في "الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان فيما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى، إذا أحصن من الرجال والنساء، وقامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف). وحكمة نسخ اللفظ دون الحكم اختبار الأمة في العمل بما لا يجدون لفظه في القرآن، وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى، عكس حال اليهود الذين حاولوا كتم نص الرجم في التوراة (¬1). الثالث: ما نسخ حكمه ولفظه: كنسخ عشر الرضعات في حديث عائشة رضي الله عنها - قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات" (¬2) -) (¬3). ¬

_ (¬1) قال الزركشي في "البرهان" (2/ 37): (هنا سؤال وهو أن يقال ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها وأجاب صاحب الفنون فقال إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسارعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي). (¬2) رواه مسلم في "صحيحه " (2/ 1075) حديث رقم (1452). وأما العشر فهي مثال لما نسخ حكما وتلاوة، وأما الخمس فهي مثال لما نسخ تلاوة وبقي حكما، وتتمته: (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن)، وهذا مشكل فظاهره أن النسخ تم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجاب النووي عن هذا الإشكال بقوله في شرح مسلم (10/ 29): (معناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدا حتى أنه صلى الله عليه وسلم توفى وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى). (¬3) انظر: العدة (3/ 780)، التحبير (6/ 3029)، شرح الكوكب المنير (3/ 554)، المدخل (ص/ 215).

فوائد:

فوائد: الأولى: قال الشنقيطي في المذكرة (ص/ 69) (¬1): يتوجه على هذا الذي ذكر في هذا البحث ثلاثة أسئلة: 1ـ الأول: أن يقال كيف ساغ نسخ الحكم دون التلاوة مع أن التلاوة دليل الحكم، فكيف يرفع المدلول مع بقاء دليله؛ لأن هذا يلزمه الدليل بلا مدلول، وهو محال، إذ لا تعقل الدلالة بدون مدلول. 2 ـ الثاني: أن يقال تقدم في حد النسخ أنه رفع الحكم إلى آخره فكيف يدخل نسخ التلاوة مع بقاء الحكم؛ لأن الحكم فيه لم يرفع. 3 ـ الثالث: أن يقال ما حكمة نسخ اللفظ مع أنه إنما نزل ليتلى ويثاب عليه فكيف يرفع، إذ رفعه يقتضي انتقاء حكمته. الجواب عن السؤال الأول هو أنا لا نسلم كون اللفظ دليلاً على الحكم بعد نسخ الحكم، بل هو إنما يكون دليلاً عليه عند انفكاكه عما يرفع حكمه، فإذا جاء الخطاب الناسخ لحكمه زالت دلالته على الحكم بالكلية، كما قدمنا في الفوارق بين النسخ والتخصيص. وإيضاحه أن الحكم الشرعي المنسوخ مع بقاء اللفظ الدال عليه سابقاً، وتلاوة ذلك اللفظ وكتابته في القرآن وانعقاد الصلاة به كلها أحكام شرعية من أحكام ذلك اللفظ، وكل حكم شرعي فهو قابل للنسخ. قال في المراقي: وكل حكم قابل له وفى ... نفي الوقوع لاتفاق قد قفى وإذا عرفت ذلك عرفت أنه لا مانع من نسخ بعض أحكام اللفظ كالتحريم، والوجوب المفهوم منه، مع بقاء أحكام أخر من أحكامه لم تنسخ، كالتعبد به وأجزائه في الصلاة ونحو ذلك. ¬

_ (¬1) انظر أيضا: شرح مختصر الروضة (2/ 273).

الفائدة الثانية:

فآية الاعتداد بحول مثلاً، نسخ ما دلت عليه من إيجاب تربص الحول على المتوفى عنها، وبقيت أحكام أخر من أحكامها لم تنسخ، وهي قراءتها في الصلاة، وكتابتها مع القرآن في المصحف، وهو واضح كما ترى. والجواب عن السؤال الثاني: هو أن نسخ التلاوة فقط معناه نسخ التعبد بلفظه والصلاة به وكتبه مع القرآن في المصحف وهذه أحكام من أحكامه، فلا مانع من نسخها مع بقاء حكم آخر لم ينسخ، وهو ما دل عليه اللفظ، فآية الرجم مثلاً لا مانع من نسخ التعبد بها والصلاة بها، وكتبها في المصحف مع بقاء حكم آخر من أحكامها لم ينسخ، وهو رجم الزانيين المحصنين كما تقدم مثله فان قيل: كيف الجمع بين هذا وبين قولهم هذا منسوخ تلاوة لا حكماً لأنه يفهم منه أن نسخ التلاوة مناف لنسخ الحكم. فالجواب أن الحكم المنفى عنه النسخ في قولهم لا حكماً غير الحكم المثبت له النسخ بنسخ التلاوة لأنها أحكام قد نسخ بعضها دون بعض كما تقدم قريباً. الجواب عن السؤال الثالث: هو أنه لا مانع من أن يكون أصل المقصود من المنسوخ تلاوة لا حكماً إنما هو الحكم دون التلاوة، لكنه أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ معين ليثبت به الحكم ويستقر الحال، والحال أنه هو المقصود فلا مانع من نسخ اللفظ، لأن المقصود هو مجرد الحكم فانه قيل: فان جاز نسخ التلاوة فلينسخ الحكم معها لأن الحكم تبع للتلاوة فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل. فالجواب: أن التلاوة حكم، وانعقاد الصلاة بها حكم آخر ودلالتها على ما دلت عليه حكم آخر، فلا يلزم من نسخ التعبد بها وعدم الصلاة بها نسخ حكمها الذي دلت عليه، فكم من دليل لا يتلى ولا تنعقد به صلاة، والآية المنسوخة تلاوتها مع بقاء حكمها دليل لنزولها وورودها، لا لكونها متلوة في القرآن والنسخ لا يرفع ورودها ونزولها، ولا يجعلها كأنها غير واردة بل يلحقها بالوارد الذي لا يتلى). الفائدة الثانية: قال الشيخ - رحمه الله - في "الشرح" (ص/421): (هذا وقد اشتهر أن لفظ الآية المنسوخة: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم)

ولكن هذا لا يصح لأن هذا النص مخالف لهذا الحديث إذ أن هذا النص ربط الحكم بالشيخوخة، والحديث الصحيح ربط الحكم بالإحصان. ويتبين ذلك لو أن شابا كان محصنا فزنى فمقتضى الآية التي زُعم أنها منسوخة أن لا يرجم؛ لأنه ليس بشيخ ولو زنى شيخ لم يتزوج فمقتضى الآية المنسوخة أن يرجم!! إذا فهي مخالفة للواقع ولما كانت مخالفة للواقع علم أن لفظها لا يصح. ثم إنك تشعر بركاكة اللفظ، والقرآن كما نعلم لفظه بليغ جدا، وفيه أيضا راحة يرتاح له الإنسان، فقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) لا تجد فيه الرونق الذي في كلام الله - عزوجل - فهو بعيد عن أن يكون كلام الله باعتبار لفظه وهو لا يمكن أن يكون الحكم الذي نزل ونُسخ لفظه باعتبار مدلوله ومعناه إذا فاللفظ منكر حتى لو فرض أن السند لا بأس به، أو حسن، أو حتى صحيح، فلا يمنع أن يكون شاذا). وقد اعترض الشيخ على إثبات قرآنية آية الرجم بأمرين: الأول - مخالفة هذه الآية لما رواه مسلم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) إذ أن الآية ربطت الحكم بالشيخوخة والحديث ربطه بالثيوبة أو الإحصان، فالعمل على خلاف الظاهر من عمومها (¬1). الثاني - ركاكة لفظها. والجواب عن ذلك بأن يقال: بداية ورد الحديث في إثبات أن هذه الآية مما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها كانت قرآنا يقرأ من حديث: عمر، وزيد، وأبيّ، والعجماء - رضي الله عنهم - (¬2) وبعض طرقها فيه كلام وبعضها ثابت إلا أن هذه الطرق بمجموعها تنتهض للاحتجاج. والجواب عن الاعتراض الأول من مقدمتين: ¬

_ (¬1) انظر: فتح الباري (12/ 143). (¬2) انظر السلسلة الصحيحة (2913)، ورسالة أسانيد آية الرَّجم للشيخ حمد بن إبراهيم العثمان.

الأولى - إن قوله (الشيخ والشيخة) عام أريد به الخاص (¬1)، وهو المحصن من الشيوخ، وإنما قلنا ذلك توفيقا بين عمل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من رجم المحصن دون غيره، وتوفيقا بين الآية والحديث، وإلى هذا أشار جماعة من السلف، قال الإمام مالك - رحمه الله- في «الموطأ» (2/ 824): «قوله (الشيخ والشيخة) يعني الثيِّب والثَّيبة». الثانية - أن هذا من باب التعبير عن الجنس بالأنقص، قال الزركشي في "البرهان" (2/ 35): (وفي هذا سؤالان الأول ما الفائدة في ذكر الشيخ والشيخة وهلا قال المحصن والمحصنة؟ وأجاب ابن الحاجب في أماليه عن هذا بأنه من البديع في المبالغة وهو أن يعبر عن الجنس في باب الذم بالأنقص فالأنقص وفي باب المدح بالأكثر والأعلى فيقال لعن الله السارق يسرق ربع دينار فتقطع يده والمراد يسرق ربع دينار فصاعدا إلى أعلى ما يسرق وقد يبالغ فيذكر مالا تقطع به كما جاء في الحديث (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده) وقد علم أنه لا تقطع في البيضة وتأويل من أوله ببيضة الحرب تأباه الفصاحة). وينتج عن هاتين المقدمتين أن جنس المحصن يرجم إذا زنى، وهو الموافق للحديث وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء - رضي الله عنهم -. وأما الجواب عن الشبهة الثانية - فيقال على التسليم جدلا بركاكة لفظها، فذلك لأنها سيقت بالمعنى. قال الشيخ مساعد الطيار (¬2): (ويعترض البعض أن هذه ليست على نسق القرآن ونظمه المعروف، ونقول: هاهنا قاعدة، وهي: (إن أيَّ آيةٍ نُسِخت فإنه يزول عنها ما للقرآن من خصائصه في نظمه وإعجازه)، ولذا قد تروى بالمعنى، وهنا يزول الإشكال). تتمة: قال الآمدي في "الإحكام " (3/ 167): (ولا يمكن أن يقال أن ذلك لم يكن قرآنا ¬

_ (¬1) انظر رسالة: أسانيد آية الرَّجم. (¬2) في تعليقه على النوع السابع والأربعين من الإتقان.

أقسام النسخ باعتبار الناسخ:

بما روي عن عمر أنه قال: لولا أنني أخشى أن يقال: زاد عمر في القرآن ما ليس منه لكتبت: الشيخ والشيخة إذا زنيا على حاشية المصحف وذلك يدل على أنه لم يكن قرآناً. لأنا نقول: غاية قول عمر الدلالة على إخراج ذلك عن المصحف والقرآن لنسخ تلاوته وليس فيه دلالة على أنه لم يكن قرآناً). قال الزركشي في "البرهان" (2/ 36): (ظاهر قوله (لولا أن يقول الناس) الخ أن كتابتها جائزة وإنما منعه قول الناس والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة لأن هذا شأن المكتوب وقد يقال لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر رضي الله عنه ولم يعرج على مقال الناس لأن مقال الناس لا يصلح مانعا). أقسام النسخ باعتبار الناسخ: قال الشيخ: (وينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أربعة أقسام: الأول: نسخ القرآن بالقرآن. الثاني: نسخ القرآن بالسنة. الثالث: نسخ السنة بالقرآن. الرابع: نسخ السنة بالسنة). قال في "الأصل" (ص/55): (وينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أربعة أقسام: الأول: نسخ القرآن بالقرآن؛ ومثاله آيتا المصابرة. الثاني: نسخ القرآن بالسنّة؛ ولم أجد له مثالاً سليماً. الثالث: نسخ السنة بالقرآن: ومثاله نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة، باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه) [البقرة: 144]. الرابع: نسخ السنة بالسنة، ومثاله قوله صلّى الله عليه وسلّم: "كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية، فاشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا مسكراً" (¬1)). ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "صحيحه" من حديث بريدة - رضي الله عنه (3/ 1584) حديث رقم (977) بنحوه.

1 - أمثلة لنسخ القرآن بالسنة:

ذكر الشيخ هنا بعض أنواع النسخ باعتبار الناسخ، وهناك أنواعا أخرى جائزة في المذهب لم يذكرها الشيخ، منها: نسخ متواتر السنة بمتواترها، ونسخ آحاد بمتواتر من السنة، وقاعدة المذهب أنه يشترط أن يكون المنسوخ مثل الناسخ أو أعلى منه، وأما دونه فقد سبق تفصيل الخلاف فيها وبيان أن الراجح الجواز، وفي المذهب يجوز نسخ الفحوى والنسخ بها، ويجوز نسخ حكم مفهوم المخالفة. وإليك - زيادة في الفائدة - شيئا من التفصيل في النقاط التالية: مثل الشيخ لبعض الأنواع، ولم يذكر مثالا لنسخ القرآن بالسنة. 1 - أمثلة لنسخ القرآن بالسنة: المثال الأول - نسخ قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 180] بالنسبة للفرع الوارث بآيات المواريث، وكما هو معلوم أن من شروط النسخ التعارض وعدم إمكان الجمع، والجمع ممكن بين هذه الآية وآيات المواريث، فما نسخ وجوبه بقي جوازه أو ندبه - على الخلاف المعروف في المسألة - وعليه فالجمع بينهما ممكن بأن الوصية للوارث جائزة أو مستحبة مع ثبوت الإرث. إذا تقرر هذا علم أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» (¬1) إنما نسخ ما بقى من الجواز أو الندب للتحريم فلا يجوز الوصية للفرع الوارث. قال ابن حزم في "الإحكام" (4/ 511): (ومما نسخ من القرآن بالسنة قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة:180] نسخ بعضها قوله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث وقد قال قوم إن آيات المواريث نسخت هذه الآية. قال أبو محمد وهذا خطأ محض لأن النسخ هو رفع حكم المنسوخ ومضاد له وليس في آية المواريث ما يمنع الوصية للوالدين والأقربين إذ جائز أن يرثوا ويوصى لهم مع ذلك من الثلث). ¬

_ (¬1) صحيح وورد عن عدة من الصحابة منهم: عمرو بن خارجة، وأبي أمامة، وابن عباس، وأنس، وابن عمر، وغيرهم وانظر: "التلخيص" (3/ 1082)، و"الإرواء" (1655).

قال الصنعاني في "سبل السلام" (3/ 106): (والحديث دليل على منع الوصية للوارث وهو قول الجماهير من العلماء. وذهب الهادي وجماعة إلى جوازها مستدلين بقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) الآية قالوا ونسخ الوجوب لا ينافي بقاء الجواز. قلنا نعم لو لم يرد هذا الحديث فإنه ناف لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث ... ) (¬1). قال القرطبي في "تفسيره" (2/ 263): (وقال بن عباس والحسن أيضا وقتادة: الآية عامة وتقرر الحكم بها برهة من الدهر ونسخ منها كل من كان يرث بآية الفرائض وقد قيل: إن آية الفرائض لم تستقل بنسخها بل بضميمة أخرى وهي قوله عليه السلام: (إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) رواه أبو أمامة أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح فنسخ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث على الصحيح من أقوال العلماء ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية وبالميراث إن لم يوص أو ما بقى بعد الوصية لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع ... ونحن وإن كان هذا الخبر بلغنا آحادا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربين الوارثين منسوخ بالسنة وأنها مستند المجمعين والله أعلم). المثال الثاني: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: 6]. وقرأ (وَأَرْجُلَكُمْ) بالجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر. وقد روي المسح على القدمين عن علي وابن عباس وأنس - رضي الله عنهم - وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك (¬2). ورواية الجر هذه تأولها قوم على المسح على الخفين، وذهب الطحاوي وابن حزم إلى أنها في مسح الرجلين وأنها منسوخة. ¬

_ (¬1) انظر نيل الأوطار (6/ 152). (¬2) انظر الفتح (1/ 266).

قال ابن حزم في " الإحكام" (4/ 510): (ومما نسخت فيه السنة القرآن قوله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ... ) الآية) فإن القراءة بخفض أرجلكم وفتحها كلاهما لا يجوز إلا أن يكون معطوفا على الرؤوس في المسح ولا بد لأنه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن المعطوف عليه لأنه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان لا تقول ضربت محمدا وزيدا ومررت بخالد وعمرا وأنت تريد أنك ضربت عمرا أصلا (¬1) فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صح أن المسح منسوخ عنهما. وهكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام ويل للأعقاب والعراقيب من النار ... ). قال الطحاوي في " شرح معاني الآثار - (1/ 39): (حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو، قال: " تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى بلال: " ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا " (¬2) ... قال أبو جعفر: فذكر عبد الله بن عمرو أنهم كانوا يمسحون حتى أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسباغ الوضوء وخوفهم فقال: " ويل للأعقاب من النار " فدل ذلك أن حكم المسح الذي كانوا يفعلونه قد نسخه ما تأخر عنه مما ذكرنا , فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار). ¬

_ (¬1) والصواب أن قراءة النصب ثابتة وهي تدل على الغسل، فالغسل ثابت بالقرآن، والعرب لا تفصل بين المتماثلات إلا لعلة وهي الترتيب هنا، قال الشنقيطي في " أضواء البيان" (1/ 330): (أما قراءة النصب: فلا إشكال فيها لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه وتقرير المعنى عليها: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم}. وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب لأن الرأس يمسح بين المغسولات ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة). (¬2) رواه البخاري (1/ 33) حديث رقم (60)، ومسلم (1/ 214) حديث رقم (241).

2 - نسخ متواتر السنة بمتواترها:

وهناك أمثلة أخرى أعرضت عن ذكرها فالغرض التنبيه وليس الاستقصاء (¬1). 2 - نسخ متواتر السنة بمتواترها: قال المرداوي في "التحبير" (6/ 3040): (وأما نسخ متواتر السنة بمتواترها فجائز عقلا وشرعا، ولكن وقوعهما متعذر في هذه الأزمنة، وقد تقدمت الأحاديث، وأنها قليلة جدا ... ). 3 - نسخ آحاد بمتواتر من السنة: قال المرداوي في "التحبير" (6/ 3041): (وأما نسخ الآحاد من السنة بالمتواترة فجائز، ولكن لم يقع). 4 - يجوز نسخ الفحوى والنسخ بها: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 481): (فالمفهوم نوعان, أحدهما: مفهوم موافقة والثاني: مفهوم مخالفة، أشير إلى أولهما بقوله: "فإن وافق" أي وافق المسكوت عنه المنطوق في الحكم "ف" هو "مفهوم موافقة، ويسمى فحوى الخطاب ولحنه" أي لحن الخطاب (¬2). فلحن الخطاب ما لاح في أثناء اللفظ "و"يسمى أيضا "مفهومه" أي مفهوم الخطاب. قاله القاضي أبو يعلى في العدة، وأبو الخطاب في التمهيد. "وشرطه" أي شرط مفهوم الموافقة "فهم المعنى" من اللفظ "في محل النطق" و "أنه" أي المفهوم "أولى" من المنطوق "أو مساو" له. وبعضهم يسمي الأولوي بفحوى الخطاب، والمساوي بلحن الخطاب. فمثال الأولوي: ما يفهم من اللفظ بطريق القطع؛ كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد. ومثال المساوي: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [النساء: 10] فالإحراق مساو للأكل بواسطة الإتلاف في ¬

_ (¬1) انظر نواسخ القرآن (ص/26)، المحلى (4/ 509). (¬2) ويسمى أيضا: إشارة، وإيماء. وقال الشنقيطي في " المذكرة" (ص / 89): (وضابط مفهوم الموافقة هو ما دل اللفظ لا في محل النطق على أن حكمه وحكم المنطوق به سواء وكان ذلك المدلول المسكوت عنه أولى من المنطوق به بالحكم أو مساوياً له).

الصورتين. وقيل: إن الفحوى: ما نبه عليه اللفظ، واللحن: ما يكون محالا على غير المراد في الأصل والوضع). إذا علمت معنى فحوى الخطاب فالمذهب أنه ينسخ وينسخ به. قال ابن النجار في "شرح الكوكب": (3/ 576): ((ويجوز النسخ بالفحوى) عند الأئمة الأربعة والمعظم. قال ابن مفلح: الفحوى يَنسخ ويُنسخ به قال الآمدي: اتفاقا وفي التمهيد: المنع عن بعض الشافعية (¬1)، وذكره في العدة عن الشافعية، قال فيما حكاه الإسفراييني: واختاره بعض أصحابنا لنا: أنه كالنص، وإن قيل: قياس قطعي. انتهى. (و) يجوز أيضا (نسخ أصل الفحوى) وهو التأفيف، كما لو قال: رفعت تحريم التأفيف مثلا (دونه) في أنواع الأذى وهو الفحوى؛ لأنه لا يلزم من إباحة الخفيف إباحة الثقيل، وهذا اختيار القاضي أبي يعلى وابن عقيل والفخر إسماعيل البغدادي. وحكي عن الحنفية وغيرهم وقال الموفق في الروضة، وتبعه الطوفي: بالمنع وذكره الآمدي قول الأكثر؛ لأن الفرع يتبع الأصل فإن رفع الأصل فكيف يبقى الفرع؟ (وعكسه) يعني أنه يجوز نسخ الفحوى - وهو الضرب مثلا - دون أصله وهو التأفيف، كما لو قال: رفعت تحريم كل إيذاء غير التأفيف فيجوز ذلك في ظاهر كلام أكثر أصحابنا، وعليه أكثر المتكلمين، قاله البرماوي؛ لأن الفحوى وأصله مدلولان متغايران فجاز نسخ كل منهما على انفراده ومنع من ذلك المجد وابن مفلح وابن قاضي الجبل وابن الحاجب وغيرهم، وقيل: إن نسخ أحدهما يستلزم نسخ الآخر قال في جمع الجوامع: والأكثر أن نسخ أحدهما يستلزم نسخ الآخر، ثم قال المحلي شارحه: واعلم أن استلزام نسخ كل منهما ينافي ما صححه في جمع الجوامع من جواز نسخ كل منهما دون الآخر، فإن الامتناع مبني على الاستلزام، والجواز مبني على عدمه. ¬

_ (¬1) وذلك لأنه عندهم ليس مفهوما من نفس اللفظ، ولكنه قياس جلي أو قياس في معنى الأصل.

5 - ويجوز نسخ حكم مفهوم المخالفة:

وقد اقتصر ابن الحاجب على الجواز مع مقابله، والبيضاوي على الاستلزام وجمع المصنف - يعني صاحب جمع الجوامع - بينهما). وظاهر كلام الشنقيطي في "المذكرة" قطع هذا التلازم وأنه يجوز أن ينسخ أصل الفحوى دونها، والعكس، قال (ص/ 89): (وجمهور علماء الأصول على أنه مفهوم من نفس اللفظ وليس بقياس خلافاً للشافعي الذي يسميه القياس الجلي، والقياس في معنى الأصل، وإذا كان مدلولاً عليه باللفظ فلا مانع من نسخه دون أصله والنسخ به وهذا قول الجماعة من أهل الأصول، قالوا: يجوز عقلاً أن ينسخ الضرب ويبقى التأفيف كعكسه مثلاً قالوا: ولا مانع عقلاً من ذلك وقد يأمر بعض الملوك بقتل إنسان محترم عنده جداً فينهي عن التأفيف في وجهه وغير ذلك من الازدراء به مع أنه أمر بقتله مع أن القتل أشد ايذاءاً من التأفيف وغيره من الازدراء). ثم قال (ص/90) تمثيلا لنسخ الفحوى والنسخ بها: (ومثال نسخ الفحوي والنسخ بها يذكرونه عادة على سبيل الفرض والتقدير، ويمكن عندي أن يمثل للنسخ بمفهوم الموافقة بما لو فرضنا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) ورد قبل نزول آية " فلا تقل لهما أف" وعمل به قبل نزولها، لأن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ كما قدمنا وإيضاحه أن قوله في الحديث يحل عرضه، أي بقوله مطلني وعقوبته أي بالحبس، وعموم الحديث يشمل الوالد إذا مطل دين ولده وهو غني، وفحوى قوله " فلا تقل لهما أف" تدل على أنه لا يحبس الوالد في دين عليه لولده لأن الحبس أشد ايذاءاً من التأفيف، فإن ورد هذا المخصص قبل العمل بالعام فهو تخصيص، وإلا فهو نسخ وهو المقصود بالتقدير في المثال المذكور). 5 - ويجوز نسخ حكم مفهوم المخالفة: قال ابن النجار في " شرح الكوكب" (3/ 488): ("وإن خالف" يعني، وإن خالف المفهوم - وهو المسكوت عنه - حكم المنطوق "ف" هو "مفهوم مخالفة" ويسمى دليل الخطاب. وإنما سمي بذلك؛ لأن دلالته من جنس دلالات الخطاب، أو لأن الخطاب دال عليه، أو لمخالفته منظوم الخطاب). وقال في (3/ 578): ("و" يجوز أيضا نسخ "حكم مفهوم المخالفة إن ثبت"، وإلا

مسألة - حكمة النسخ

فلا. يعني أنه يجوز نسخ حكم المسكوت الذي هو مخالف للمذكور، مع نسخ الأصل ودونه، قاله كثير من العلماء، وقد قالت الصحابة رضي الله عنهم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء": منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" مع أن الأصل باق. وهو وجوب الغسل بالإنزال. "ويبطل" حكم مفهوم المخالفة "بنسخ أصله" على الصحيح، اختاره القاضي وجزم به الموفق في الروضة، كذلك الطوفي؛ لأن فرعه وعدمه كالخطابين, واختاره ابن فورك. والقول الثاني: أنه لا يبطل بنسخ أصله, وهو وجه لأصحابنا، ذكره القاضي. قال البرماوي: وأما نسخ الأصل بدون مفهومه الذي هو مخالف له حكما: فذكر الصفي الهندي فيه احتمالين، قال: وأظهرهما أنه لا يجوز؛ لأنه إنما يدل على ضد الحكم باعتبار القيد المذكور، فإذا بطل تأثير ذلك القيد بطل ما ينبني عليه. اهـ. وعلى هذا: فنسخ الأصل نسخ للمفهوم منه والمعنى: أنه يرتفع الحكم الشرعي الذي حكم به على المسكوت بضد حكم المذكور (¬1). "ولا ينسخ به" أي بمفهوم المخالفة على الصحيح قطع به في جمع الجوامع وصرح به السمعاني، لضعفه عن مقاومة النص (¬2).وقيل: بلى؛ لأنه في معنى المنطوق). مسألة - حكمة النسخ: قال الشيخ: (حكمة النسخ: 1 - مراعاة مصالح العباد بتشريع ما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم. 2 - التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال. ¬

_ (¬1) قال الشنقيطي في "المذكرة " (ص/ 91): (منطوق اللفظ إذا نسخ بطل حكم ما تفرع عليه من مفهوم وما ألحق به بعلته، فلو فرضنا نسخ قوله " كل مسكر حرام" لبطل قياس النبيذ على الخمر بجامع الاسكار، ولو فرضنا نسخ إيجاب الزكاة في السائمة لبطل مفهومه الذي هو عدم وجوبها في المعلوفة لبطلان أصله وهكذا ... ) (¬2) وهذا هو الراجح، قال في "المذكرة" (ص/92): (واعلم أنه لا يجوز النسخ بمفهوم المخالفة لضعفه وللاختلاف في اعتباره).

3 - اختبار المكلفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم إلى آخر ورضاهم بذلك. 4 - اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إلى أخف ووظيفة الصبر إذا كان النسخ إلى أثقل). قال الشيخ في "الشرح" (ص/431): (للنسخ حكم متعددة وكذا جميع الشرع مبني على الحكم، لكن من الحكم ما يعلم ومن الحكم ما لا يعلم، فالحكم المعلومة واضحة، وغير المعلومة يسميها العلماء تعبدية يعني أن الحكمة منها أن الله استعبدنا بها، ولكننا لا ندري ما هو السبب. وهذه الأمور التعبدية كوجوب غسل اليد إذا قام الإِنسان من نومه ثلاثًا قبل أن يدخلها في الإِناء، ومن العلماء من يحاول أن يجد لها حكمة ولكن نحن لا يهمنا، نحن نعلم أن الله تعالى حكيم، فكل شيء يفعله الله عز وجل أو يشرعه فهو مبنيٌ على الحكمة، لكن عقولنا بقصورها لا تدرك بعض الحكم فتفوتها ويقول الله عز وجل: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الإسراء: 85]. فالمهم يجب أن تؤمن بأنه ما من شيء يشرعه الله عز وجل إلا وهو مبنيٌ على الحكمة. ومن ذلك النسخ، وكون الحكم ينتقل من شيء لآخر ذلك لابد له من حكمة، وهي كثيرة). وقد سبق بيان بعض حكم النسخ عند الكلام على أقسام النسخ باعتبار النص المنسوخ، وذكر الشيخ هنا بعض الحكم الأخرى للنسخ منها: 1 - مراعاة مصالح العباد بتشريع ما هو أنفع لهم في دينهم ودنياهم. فالله - عز وجل - إذا نسخ حكما دل على أن الناسخ أنفع للعباد، والأول أيضا كان نافعا ولكنه منفعته كانت مؤقتة، فلما زالت انتقلنا إلى الثاني لمنفعته الدائمة المستمرة. 2 - التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال. قال الشيخ في "الشرح" (ص/432): (أي أن التشريع يتطور حتى يبلغ الكمال، ولهذا لم تجب الصلاة إلا قبل الهجرة بنحو سنة، أو ثلاث سنين، أو خمس، والزكاة وجبت في السنة الثانية، وقيل: إنها وجبت في مكة ولكن في السنة الثانية بينت الأنواع

والمقادير ... إلخ، والصوم في السنة الثانية، والحج في السنة التاسعة فكل هذا من أجل أن يتطور التشريع حتى يبلغ الكمال. وهذا كما أنه مقتضى الحكمة شرعًا، فهو مقتضى الحكمة قدرًا وانظر إلى الإِنسان أول ما يولد فهو صغير وضعيف القوة، ثم يزداد ويتطور حتى يصل إلى درجة الكمال). 3 - اختبار المكلفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم إلى آخر ورضاهم بذلك. قال في الشرح (ص/433): (وذلك من أشد ما يكون، فبعض الناس لا يرضى أن تتحول الأحكام أحيانًا كذا وأحيانًا كذا، ولهذا لما حولت القبلة ارتد بعض الناس، كما قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) [البقرة: 143]. فالمهم أن في النسخ اختبارًا للمكلفين هل يرضون بالأحكام ويتقبلون وإذا قيل لهم هذا حلال فعلوه، وإذا قيل هذا حرام أمسكوا عنه، وإذا قيل هذا واجب التزموا به وقاموا به، وهذا لا شك أنه من أكبر الحكم. س: فإذا قال قائل: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام: 53]. الجواب: بلى هو أعلم بالشاكرين وأعلم بالمتقين. ولكن علمه لا يترتب عليه الجزاء، فلا يترتب الجزاء حتى يجرب العبد الشكر والتقوى، أما قبل ذلك فهو علم لا يتعلق بنا نحن - أي: بالنسبة للتكليف والإِثابة أو العقوبة). 4 - اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إلى أخف ووظيفة الصبر إذا كان النسخ إلى أثقل. قال في "الشرح" (ص/433): (النسخ قد يكون إلى أخف أو إلى أثقل أو إلى مساوٍ، وهذه ثلاثة أقسام " فلو رأينا نسخ تحريم الخمر لوجدناه إلى أثقل، ولو نظرنا إلى المصابرة لوجدناها إلى أخف، ولو نظرنا إلى الصوم وجدناه إلى أثقل، كان بالأول مخيرًا بين الصوم والفداء ثم تعين الصوم، هذا من جهة أخف: من جهة أنه إذا نام أو صلى العشاء وجب عليه الإمساك، ثم رخص لهم إلى طلوع الفجر فهو من هذه الجهة أخف، واستقبال القبلة مساو لأن الإِنسان من حيث العمل والتكليف: لا يفرق بين أن يستقبل الكعبة أو بيت المقدس. إذًا اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان

الأخبار

النسخ إلى أخف مثل آية المصابرة، لما أوجب الله على المسلمين أن يقاوم الواحد منهم عشرة كان في هذا صعوبة فلما تحول الحكم إلى أن يقابل الواحد اثنين مع زيادة العدد صار في هذا تخفيف. إذًا فعلى الإنسان أن يشكر الله على هذه النعمة فإذا كان النسخ إلى أثقل فعليه أن يصبر وأن يقول سمعنا وأطعنا، لا يكون متبعًا لهواه: إذا جاءه الحكم موافقًا له قبل وإذا كان مخالفًا لا يقبل، فالمؤمن هو الذي يتبع الهدى لا الهوى: أما أن يتبع الهوى إن كان شيئًا خفيفًا قبله، وإن كان شيئًا ثقيلاً تركه، فهذا ليس بمؤمن حقيقة (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ) [المؤمنون: 71] فهذه أربع حكم من حكم النسخ). الأخبار تعريف الخبر: أ- لغة: قال الشيخ: (تعريف الخبر: الخبر لغة: النبأ). قال الزبيدي في "تاج العروس (مادة: ن ب أ): ((النَّبَأُ مُحَرَّكَةً: الخَبَرُ) وهما مترادفانِ، وفرَّق بينهما بعضٌ، وقال الراغبُ: النَّبأُ: خَبَرٌ ذو فائدةٍ عظيمةٍ، يَحْصُل بهِ عِلْمٌ أَو غَلَبَةٌ ظَنَ، ولا يُقال للخَبَر في الأَصْلِ نَبَأٌ حتى يَتَضَمَّنَ هذه الأَشياءَ الثلاثةَ ويَكونَ صادِقاً ... ) (¬1). ب- المراد به هنا: قال الشيخ: (والمراد به هنا: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو ووصف). قال الشيخ في "شرح الأصول" (ص/435): (فيكون مرادفا للسنة). مقصود الشيخ هنا التكلم على السنة كمصدر للتشريع وأعقب هذا الباب بالكلام على الإجماع ¬

_ (¬1) انظر: مادة (ن ب أ) في مفردات القرآن للراغب، والفروق اللغوية (ص/523).

ثم القياس، ولم يتكلم على القرآن كمصدر أول للتشريع. لم يتكلم الشيخ هنا عن تعريف الخبر اصطلاحا، فقد سبق تعريفه في باب الكلام، وإنما تكلم عن تعريفه المراد هنا، وهو أنه مرادف للسنة، ولا مشاحة في الاصطلاح وقد اختلف العلماء في الخبر، والحديث، والسنة أيهم أعم من الآخر على أقوال: قال القارئ في "شرح نخبة الفكر" (ص/ 153): (الخبر عند علماء هذا الفن مرادف للحديث) وهو في اللغة ضد القديم وفي اصطلاحهم: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعله، وتقريره، وصفته حتى في الحركات، والسَّكَنَات، في اليقظة، والمنام ذكره السخاوي، وفي ' الخلاصة ': أو الصحابي، أو التابعي ... إلخ. ويرادفه السُّنة عند الأكثر. وأما الأثر: فمن اصطلاح الفقهاء: فإنهم يستعملونه في كلام السلف، والخبر في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام. وقيل: الخبر والحديث: ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام. والأثر: أعم منهما، وهو الأظهر ... ). قال الشيخ طاهر الجزائري في " توجيه النظر" (1/ 40): (وأما السنة فتطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبي عليه الصلاة والسلام من قول أو فعل أو تقرير فهي مرادفة للحديث عند علماء الأصول). شرح التعريف: وقد فصل ابن النجار في تعريف السنة اصطلاحا، وزاد الهم ولم يذكر الوصف، وسيأتي بإذن الله بعد ذكر كلامه الكلام على الهم والوصف. فقال في "مختصر التحرير" في تعريف السنة: (اصطلاحا قول النبي صلى الله عليه وسلم غير الوحي ولو بكتابة وفعله ولو بإشارة وإقراره وزيد الهم). وشرحها في "شرح الكوكب المنير" (2/ 160) (¬1) بقوله: (السنة في اصطلاح علماء الأصول (قول النبي صلى الله عليه وسلم غير الوحي) أي غير القرآن (ولو) كان أمرا منه (بكتابة) (كأمره صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه بالكتابة يوم الحديبية)، وقوله صلى الله عليه وسلم (اكتبوا لأبي شاه) يعني الخطبة التي ¬

_ (¬1) وانظر التحبير (3/ 1421).

خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بالكتابة إلى الملوك ونحو ذلك. (وفعله) صلى الله عليه وسلم. واعلم أن القول وإن كان فعلا فهو عمل بجارحة اللسان، والغالب استعماله فيما يقابل الفعل كما هنا، حتى (ولو) كان الفعل (بإشارة) على الصحيح؛ لأنه كالأمر به، كما في حديث كعب بن مالك: (لما تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت أصواتهما، حتى سمعها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فخرج إليهما، حتى كشف حجرته فنادى فقال يا كعب، قال: لبيك يا رسول الله - فأشار إليه بيده - أن ضع الشطر من دينك، فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه) رواه البخاري ومسلم. واسم ابن أبي حدرد: عبد الله، واسم أبيه سلامة بن عمير، ومنه (إشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أن يتقدم في الصلاة) متفق عليه. (وطاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى على ركن أشار إليه). ومن الفعل أيضا: عمل القلب، والترك فإنه كف النفس، وقد سبق أنه لا تكليف إلا بفعل. فإذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد فعل شيء كان من السنة الفعلية، كما في حديث عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن ينحي مخاط أسامة، قالت عائشة: دعني يا رسول الله حتى أكون أنا الذي أفعل. قال: يا عائشة، أحبيه فإني أحبه) رواه الترمذي في المناقب. وحديث أنس (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى رهط - أو أناس - من العجم. فقيل: إنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم، فاتخذ خاتما من فضة) رواه البخاري ومسلم. ومثله حديث جابر (أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يسمى بيعلى، أو ببركة، أو أفلح، أو يسار أو نافع ونحو ذلك، ثم رأيته سكت بعد عنه، فلم يقل شيئا، ثم قبض ولم ينه عن ذلك) رواه مسلم. وإذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ترك كذا، كان أيضا من السنة الفعلية، كما ورد (أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله:

تنبيهات:

أمسك الصحابة رضي الله عنهم وتركوه، حتى بين لهم أنه حلال، ولكنه يعافه)، ولكن هذا النوع مقيد بتصريح الراوي بأنه ترك، أو قيام القرائن عند الراوي الذي يروي عنه أنه ترك. والمراد من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله: ما لم يكن على وجه الإعجاز. (وإقراره) يعني أن السنة شرعا واصطلاحا: قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره على الشيء يقال أو يفعل، فإذا سمع النبي صلى الله عليه وسلم إنسانا يقول شيئا، أو رآه يفعل شيئا فأقره عليه، فهو من السنة قطعا. (وزيد الهم) أي وزاد الشافعية على ما ذكر من أقسام السنة: ما هم النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ولم يفعله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بحق محبوب مطلوب شرعا؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات. ومنه: همه صلى الله عليه وسلم بمعاقبة المتخلفين عن الجماعة). تنبيهات: الأول - سار الشيخ هنا على طريقة المحدثين لا الأصوليين في تعريف السنة. وقد سلك الأصوليون في تعريف السنة طريقين: المسلك الأول - الاقتصار على الأقوال والأفعال. قال السبكي في "جمع الجوامع" (2/ 128 - حاشية العطار): (السنة وهي أقوال محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله، ومنها تقريره؛ لأنه كف عن الإنكار والكف فعل كما تقدم). وقال البناني في "حاشيته" (2/ 94): (قوله: (ومنها تقريره لأنه كف الخ) جواب لما يقال من أن التعريف غير جامع لخروج تقريراته - صلى الله عليه وسلم - بأن التقرير داخل في الفعل؛ لأنه كف عن الإنكار والكف فعل كما تقدم، ويؤخذ من هذا كما قال بعضهم أن من الأفعال أيضا الهم والإشارة فلا يخرجان عن التعريف إذ الهم نفسي كالكف عن الإنكار والإشارة فعل الجوارح، فإذا هم بشيء وعاقه عنه عائق أو أشار لشيء كان ذلك الفعل مطلوبا شرعا؛ لأنه لا يهم ولا يشير إلا بحق، وقد بعث - صلى الله عليه وسلم - لبيان الشرعيات). وقال الأشقر في "أفعال الرسول" (1/ 18): (السنة في اصطلاح الأصوليين ما

صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من الأقوال والأفعال. وهي في اصطلاح المحدثين لمعنى أوسع من ذلك، إذ هي عندهم: "ما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو صفة خَلْقيّة، أو خُلُقيّة ... " وإنما جعلوها كذلك لأنهم أهل العناية برواية الأخبار. أما في اصطلاح الفقهاء فالسنة بمعنى النافلة والمندوب، أي ما يتقرب به إلى الله تعالى مما ليس بمتحتم على المسلم. ونلاحظ أن بعض الأصوليين قال في تعريف السنة: إنها ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، وبعضهم يضيف الترك، وبعضهم يضيف الهم والإشارة ونحو ذلك. والأولى ترك ذكر ما عدا الأقوال والأفعال، كما صنع البيضاوي في المنهاج؛ لأن كل ما ذكر مما سواهما فهو فعل على الراجح. وأما من ادعي أن شيئا مما ذكر ليس فعلا، وأنه حجة، فيلزمه ذكره في التعريف). المسلك الثاني - زيادة الإقرار (¬1). قال الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/49): ((والسنة) لغة: الطريقة، (وشرعا)، اصطلاحا: ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا، أو فعلا، أو إقرارا). قال الزركشي في "البحر المحيط" (3/ 236): (وتطلق - أي السنة - وهو المراد هنا على ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقرير والهم، وهذا الأخير لم يذكره الأصوليون ولكن استعمله الشافعي في الاستدلال). ونلحظ مما سبق أمرين: الأول - أن الأصوليين لم يذكروا الوصف وإنما ذكره المحدثون. الثاني - أن زيادة الهم في تعريف السنة استعملها الشافعي. ¬

_ (¬1) انظر: المدخل لابن بدران (ص/199)، الإحكام للآمدي - (1/ 223)، شرح العضد (2/ 22)، التقرير والتحبير (2/ 297)، مسلم الثبوت (2/ 97)، إرشاد الفحول (1/ 95)، "أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله" (ص/ 103) وسيأتي كلامه قريبا - بإذن الله - وغيرها.

الثاني - الكلام على زيادة الوصف في تعريف السنة:

ولنتوقف مع هذين الأمرين في التنبيهين التاليين: الثاني - الكلام على زيادة الوصف في تعريف السنة: ذكر الشيخ الصفة في تعريف السنة تمشيا مع اصطلاح المحدثين دون الأصوليين. عرف السبكي في "جمع الجوامع" السنة بقوله: (وهي أقوال محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله) فقال العطار في " حاشيته على جمع الجوامع" (2/ 128): (ولم يذكر الصفات مع أنها من السنة لأن الكلام في السنة التي هي من أصول الفقه ولا كذلك الصفات القائمة بذاته صلى الله عليه وسلم). قال الشيخ عياض في "أصوله" (ص/ 103): (تعريف السنة: في الاصطلاح: ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير. هذا تعريفها عند الأصوليين. وعند المحدثين: زيادة: الوصف، إذ يقولون السنة: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف. ويريدون بالوصف ما ورد عن الصحابة من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان وصفا خَلْقيا أو خلُقيا. والأصوليون لم يدخلوا هذا النوع في السنة؛ لأنهم يتكلمون عن السنة التي هي دليل يستدل به ويتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم فيه، ولا شك أن صفات الرسول التي ليست من فعله لا يمكن أن تكون دليلا على الوجوب أو الاستحباب؛ إذ لا يتعلق بها حكم). الثالث - هل الهم من أقسام السنة؟ (هل الهم بالفعل حجة؟) اختلف العلماء فيه على قولين: الأول - أنه حجة، وهو مذهب الشافعية (¬1). الثاني - أنه ليس بحجة وهو اختيار الشوكاني (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 279)، الأم (1/ 251)، حاشية العطار على جمع الجوامع (2/ 128). (¬2) إرشاد الفحول (1/ 118) ونص عبارته: (والحق أنه ليس من أقسام السنة؛ لأنه مجرد خطور شيء على البال من دون تنجيز له، وليس ذلك مما آتانا الرسول، ولا مما أمر الله سبحانه بالتأسي به فيه وقد يكون إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما هم به للزجر كما صح عنه أنه قال: "لقد هممت أن أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم").

قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1433): (قوله: (وزيد الهم). أي: بفعل، رأيت ذلك للشافعية، ومثلوه: بما إذا هم النبي بفعل وعاقه عنه عائق، كان ذلك الفعل مطلوبا شرعا؛ لأنه لا يهم إلا بحق محبوب مطلوب شرعا؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات، وذلك كما في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم فيما رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وقال: (صحيح على شرط مسلم): ' استسقى رسول الله وعليه خميصة سوداء، فأراد رسول الله أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت قلبها على عاتقه '. فالمراد: لولا ثقل الخميصة، فاستحب الشافعي - رضي الله عنه - لأجل هذا الحديث للخطيب في الاستسقاء مع تحويل الرداء تنكيسه، بجعل أعلاه أسفله. قلت: مذهب الإمام أحمد وأصحابه لا يزيد على التحويل. وقال ابن العراقي: (قلت: وكذا همه بمعاقبة المتخلفين عن الجماعة، استدل به على وجوبها. وقد يقال: الهم خفي فلا يطلع عليه إلا بقول أو فعل، فيكون الاستدلال بأحدهما، فلا يحتاج حينئذ إلى زيادة) (¬1) انتهى. وعلى القول الأول: الفرق بينه وبين ما تقدم من عمل القلب والترك: أن الذي هنا أخص؛ لأن الهم عزم على الشيء بتصميم وتأكيد، قاله البرماوي) (¬2). وإطلاق كلا القولين ليس بصواب، والصواب التفصيل فاعتبار كون الهم حجة أم لا يختلف تبعا لنوعه، وقد فصل الشيخ الأشقر في "أفعال الرسول" (2/ 134) فقال بعد أن ذكر قولي العلماء في المسألة ما ملخصه: (الهم بالشيء أمر نفسي لا يظهر لنا إلا بإحدى طريقتين: الطريق الأولى - أن يخبرنا به النبي - صلى الله عليه وسلم -: وحينئذ فلا يخلو من أحوال: 1 - إما أن يخبرنا به على سبيل الزجر عن عمل معين. فيدل على تحريم ذلك العمل أو كراهته، بدلالة القول، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لقد هممت أن ¬

_ (¬1) وسوف يأتي أن الهم له أنواع، ومنها الهم المجرد، وأن يحول بينه وبين الفعل فاعل. (¬2) انظر: شرح الكوكب المنير (2/ 166).

آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار). دلّ ذلك على وجوب حضورها، وتحريم التخلف عنها، وهي دلالة قولية، من حيث إنه بين بقوله ما يفيد أن ما فعلوه هو ذنب ... 2 - وإما أن يخبرنا بهمه مبينا لنا أنه ترك ما هم به وعدل عنه لأنه تبين له أن الداعي له غير صحيح، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (بقد هممت أن أنهي عن الغيلة، حتى ذكر لي أن فارس والروم يغيلون فلا يضر ذلك أولادهم). والحكم على هذا النوع واضح. 3 - وإما أن يخبرنا بأنه ترك الفعل اكتفاء بغيره من الدلالات، ولا شك في حجية هذا النوع، ومنه حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر فأعهد، أن يقول قائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون). 4 - وإما أن يخبرنا بأنه هم بالشيء ولم يفعله دون زيادة، وهو الهم المجرد ومثاله حديث: (لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي). قولنا في ذلك: الظاهر أن الهم لا يدل على مثل ما يدل عليه الفعل لو فعله فما قال الشوكاني من أن "الهم ليس تنجيزا للفعل" صحيح، وينبغي أن يعتمد، فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يُخْرِج ما هم به إلى حيز الوجود، فيحتمل أن تكون هناك موانع شرعية منعته من ذلك، أو أنه - صلى الله عليه وسلم - وجد السبب أقل من أن يكون كافيا لبناء الحكم عليه. فلا يتم القول بأن الهم المجرد قسم من أقسام السنة ... الطريق الثانية - أن يحول بينه وبين الفعل حائل جعله يترك الفعل بعد أن عالجه، وهذا النوع هو الذي قال فيه الشافعي ما قال واعتبره حجة ... ومن أمثلته حديث: (أنه - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بضب محنوذ فأهوى بيده ليأكل، فقيل " أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل. فقيل: ضب فرفع يده) ففيه دلالة على جواز الإقدام على أكل ما لا يعرفه، غذ لم يظهر فيه علامة التحريم. قولنا في ذلك: أن هذا النوع عندنا أعلى من الذي قبله؛ لأن المانع خارجي،

أنواع فعله صلى الله عليه وسلم:

والمباشرة قد وقعت، فالقول بأنه من أقسام السنة لا يستبعد. والتفريق بين النوعين واضح، فإن هذا النوع في حقيقته من أقسام العزم، والعزم أعلى أنواع الهم. وينبغي حمل كلام الشافعي على هذا النوع خاصة، خلافا للزركشي الذي جعل مذهب الشافعي أن الهم مطلقا من السنة ... ). التعريف المختار: أولى التعريفات عندي هي الطريقة الأولى للأصوليين من أن السنة هي: (: ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا، أو فعلا). وقد بينت قبل ذلك أن الكف فعل، ويدخل في الكف التقرير والهم. ولا يشكل على ذلك أن القول فعل لللسان فيدخل في الفعل؛ لأن الغالب استعمال القول في مقابلة الفعل، وللفوارق بين القول والفعل في الاستدلال والاستنباط، فالأولى التفريق بينهما. أنواع فعله صلى الله عليه وسلم: قال الشيخ - رحمه الله -: الأول: ما فعله بمقتضى الجبلة فلا حكم له في ذاته، ولكن قد يكون مأموراً به أو منهياً عنه لسبب، وقد يكون له صفة مطلوبة كالأكل باليمين أو منهي عنها كالأكل بالشمال. الثاني: ما فعله بحسب العادة وقد يكون مأموراً به أو منهّياً عنه لسبب. الثالث: ما فعله على وجه الخصوصية فيكون مختصاً به. ولا يحكم بالخصوصية إلا بدليل؛ لأن الأصل التأسي به. الرابع: ما فعله تعبداً فواجب عليه حتى يحصل البلاغ ثم يكون مندوباً في حقه وحقنا على أصح الأقوال. الخامس: ما فعله بياناً لمجمل من نصوص الكتاب أو السنة فواجب عليه حتى يحصل البيان ثم يكون له حكم ذلك النص المبين في حقه وحقنا. وأما تقريره صلى الله عليه وسلم على الشيء فهو دليل على جوازه على الوجه الذي أقره قولاً كان أم فعلاً. فأما ما وقع ولم يعلم به فإنه لا ينسب إليه ولكنه حجة لإقرار الله له).

الفعل الجبلي:

الفعل الجبلي: الفعل الجبلي إن كان جبليا محضا فمباح، وأما إن كان له صلة بالعبادة فالقول بالندب فيه متجه. قال ابن مفلح في "أصوله" (1/ 328): (ما كان من أفعاله - عليه السلام - من مقتضى طبع الإنسان وجبلته - كقيام وقعود - فمباح له ولنا اتفاقا). قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1455): (ما كان من أفعاله جبليا واضحا: كالقيام والقعود، والذهاب والرجوع، والأكل والشرب، والنوم والاستيقاظ، ونحوها، {فمباح، قطع به الأكثر} ولم يحكوا فيه خلافا؛ لأنه ليس مقصودا به التشريع، ولا تعبدنا به، ولذلك نسب إلى الجبلة، وهي: الخلقة؛ لكن لو تأسى به متأس فلا بأس، كما فعل ابن عمر (¬1)، فإنه كان إذا حج يجر بخطام ناقته حتى يبركها حيث بركت ناقته تبركا بآثاره. وإن تركه لا رغبة عنه ولا استكبارا، فلا بأس. ونقل ابن الباقلاني، والغزالي في ' المنخول ' قولا: إنه يندب التأسي به. ونقل أبو إسحاق الأسفراييني وجهين، هذا، وعزاه لأكثر المحدثين، والثاني: لا يتبع فيه أصلا. فتصير الأقوال ثلاثة: مباح، ومندوب، وممتنع. ويحكى قول رابع: بالوجوب في الجبلي وغيره. قيل: وهو زلل. وحكى ابن قاضي الجبل: الندب عن بعض الحنابلة والمالكية. وحكاه القرافي في ' التنقيح '، وقطع به الزركشي شارح ' جمع الجوامع ' فقال: (أما الجبلي: فالندب لاستحباب التأسي به). قوله: {فإن احتمل الجبلي وغيره}، من حيث إنه واظب عليه: {كجلسة الاستراحة، وركوبه في الحج، ودخوله مكة من كداء، ولبسه السبتي والخاتم، وذهابه ورجوعه في العيد، ونحوه}: كتطيبه عند الإحرام، وعند تحلله، وغسله بذي طوى، والاضطجاع بعد سنة الفجر، ونحوها، {فمباح عند الأكثر}، حكاها إلكيا الهراسي؛ لإجماع الصحابة عليه، وقطع به ابن القطان، والماوردي، والروياني، وغيرهم. {وقيل: مندوب، وهو أظهر} وأصح، {وهو ظاهر فعل} الإمام {أحمد، فإنه تسرى، واختفى ثلاثة أيام}، ثم انتقل إلى موضع آخر، اقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) وسوف يأتي تفصيل القول في فعله - رضي الله عنه -.

في التسري، واختفائه في الغار ثلاثا {وقال: ' ما بلغني حديث إلا عملت به، حتى أعطي الحجام دينارا '. وورد} أيضا {عن} الإمام {الشافعي} ذلك، فإنه جاء عنه أنه قال لبعض أصحابه: ' اسقني قائما، فإنه - صلى الله عليه وسلم - شرب قائما '. ومنشأ الخلاف في ذلك: تعارض الأصل والظاهر، فإن الأصل عدم التشريع، والظاهر في أفعاله التشريع؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات. قلت: أكثر ما حكيناه من الأمثلة مندوب، نص عليه إمامنا وأصحابه: كذهابه من طريق ورجوعه في أخرى في العيد، حتى نص عليه الإمام أحمد في الجمعة أيضا، ودخوله مكة من كداء، وتطيبه عند الإحرام، وغسله بذي طوى، والاضطجاع بعد سنة الفجر. واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في جلسة الاستراحة، هل هي مستحبة أم لا؟ والمذهب أنها ليست مستحبة. قال الإمام أحمد: (أكثر الأحاديث على هذا). وعنه رواية: أنها تستحب، لحديث مالك بن الحويرث: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض) متفق عليه. وحمله الموفق وجماعة: على أن جلوسه كان في آخر عمره حين ضعف. وحاصل ذلك: أن من رجح فعل ذلك والاقتداء به والتأسي، قال: ليس من الجبلي، بل من الشرعي الذي يتأسى به فيه، ومن رأى أن ذلك يحتمل الجبلي وغيره، فيحمله على الجبلي، فألحقه به) (¬1). قال الشيخ الأشقر في "أفعال الرسول" (1/ 220) ما ملخصه: (الأفعال الجبلية على ضربين: الضرب الأول: فعل يقع منه - صلى الله عليه وسلم - اضطراراً دون قصد منه لإيقاعه مطلقاً وذلك ما نقل أنه كان هذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وإذا كره شيئا رؤى في وجهه، وكتألمه من جرح يصيبه، أو حصول طعم الحلو والحامض في فمه من طعام يأكله ... ¬

_ (¬1) انظر شرح الكوكب (2/ 178).

أقسام الفعل الجبلي الاختياري:

الضرب الثاني: الأفعال الجبلية الاختيارية، وهي ما يفعله عن قصد وإرادة، ولكنها أفعالا تدعو إليها ضرورته من حيث هو بشر، ويوقعها الإنسان قصداً عند شعوره بتلك الضرورة. إلّا أن إيقاعها تابع لإرادته وقصده، بحيث يستطيع الامتناع عن ذلك في وقت دون وقت. ومثال هذا الضرب: تناول الطعام والشراب، وقضاء الحاجة، واتخاذ المنزل، والملابس، والفراش، والمشي والجلوس والنوم والتداوي من المرض، والنكاح. والفعل الجبلي الاختياري مهما كان نوعه يدل على الإباحة، ولا يدل على استحباب أو وجوب، ما لم يقترن بقول أو قرينة تدل على ذلك، أو يكون له صلة بالعبادة. أقسام الفعل الجبلي الاختياري: الفعل الجبلي الاختياري على قسمين، لأنه إما أن يكون له صلة بالعبادة، أو لا يكون له بها صلة. القسم الأول - الفعل الجبلي الصرف: والمراد به ما ليس له صلة بالعبادة، كأكل طعام معين كالتمر واللحم والعسل، وسير في طريق معين، ولبس ثياب ذات شكل معين، كالقباء والعباء والقميص، أو من مادة معينة كالقطن والصوف. وهذا النوع من الأفعال يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الإباحة. والمشهور عند الأصوليين أنه لا أسوة فيه، بل من شاء أن يفعل مثله فعل، ومن شاء أن يترك تركه، دون أن يكون للفعل ميزة على الترك من ثواب أو غيره، ودون أن يكون في الترك ذم شرعي. قال ابن تيمية: "لو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا بحكم الاتفاق، مثل نزوله في السفر بمكان أو أن يفضل في إداوته ماء فيصبه في أصل شجرة، أو أن تمشي راحلته في أحد جانبي الطريق، ونحو ذلك، فهل يستحب قصد متابعته في ذلك؟ كان ابن عمر يحب أن يفعل مثل ذلك (¬1). وأما الخلفاء الراشدون وجمهور ¬

_ (¬1) قال الشيخ الأشقر في "أفعال الرسول" (1/ 228): (كان يَتَتَبَع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمواضع التي سار فيها أو جلس فيها. ومما يرويه المحدثون من ذلك أنه رضي الله عنه جر خطام ناقته حتى أبركها في الموضع الذي بركت فيه ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسار براحلته في جانب من الطريق سارت فيه ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " لعل خفاً يقع على خف". ونزل تحت شجرة كان نزل تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصب في أصلها الماء. وبال في موضع بال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالت عائشة: "ما كان أحدُ يتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي منازله، كما كان يتبعها ابن عمر". وشبيه بذلك ما نُقِل عنه أنه كان يلبس النعال السبتية اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان ابن عمر يستجمر بالألُؤَّة غير مُطَرَّة، وبكافور يطرحه مع الألوة، ثم قال: "هكذا كان يستجمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ").

الصحابة فلم يستحبوا ذلك؛ لأن هذا ليس بمتابعة لها، إذ المتابعة لا بد فيها من القصد، فإذا لم يقصد هو ذلك الفعل، بل حصل له بحكام الاتفاق، كان غير متابع له في قصده ... يقول: ولم يكن ابن عمر ولا غيره، يقصدون الأماكن التي كان ينزل فيها، ويبيت فيها، مثل بيوت أزواجه، ومثل مواضع نزوله في مغازيه، وإنما كان الكلام في مشابهته في صورة الفعل فقط وإن كان هو لم يقصد التعبد به. فأما الأمكنة نفسها فالصحابة متفقون على أنه لا يعظم منها إلا ما عظمه الشارع ". وقد يظن لأول وهلة أن هذا وهم من ابن تيمية، فقد صح عن ابن عمر أنه تحرى الأمكنة التي حصل الفعل النبوي فيها بحكم الاتفاق ... وقد بين ابن تيمية مراده في موضع آخر، حيث بين أن ما فعله ابن عمر لم يزد فيه على أنه كان يختار إحدى الصورتين الممكنتين في الفعل الواحد، وهي الموافقة لما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الأخرى، بأن تحضره الصلاة مثلا في بقعة معينة قد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية منها فيختار الصلاة في تلك الناحية ويترك سائر نواحيها. والمستنكر عند ابن تنمية، ويدعى الاتفاق على إنكاره، أن تعظم بقعة لم يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيمها، ويظهر ذلك بأن ينشئ المسلم لها سفرا طويلا أو قصيراً. فهذا تقييد جيد في المسألة وتحرير صحيح لمحل النزاع. هذا وقد عورض ما كان يفعله ابن عمر من هذا النوع، بما فعله والده رضي الله عنهما. قال ابن حجر: ثبت عن عمر أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان.

القسم الثاني: الفعل الذي له علاقة بالعبادة.

فسأل عن ذلك. فقالوا: قد صلى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: (من عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا). ورأينا في مثل ذلك أن الفعل الجبلي الصرف لا يدل على الاستحباب مطلقاً بل يدل على الإباحة. وسواء أكان مما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم الترجيح فيه، أو مما لم يواظب عليه. ورأينا قي ما نقل عن ابن عمر أنه فعل ذلك لا على سبيل التعبيد لله بذلك. أعني لا على سبيل أنه مستحب شرعاً وإنما فعله بداعي عظم المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو يسلي نفسه، أو يستثير شوقه، بأن يعمل صورة ما عمل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الذي يقتدي به في هذا فهو عمر رضي الله عنه، ثاني الراشدين، اللذين أمرنا أن نقتدي بسنتهم، وهذا من سنتهم. القسم الثاني: الفعل الذي له علاقة بالعبادة. وهو ما وقع في أثناء العبادة، أو في وسيلتها، أو قبلها قريبا منها، أو بعدها كذلك. فمما وقع في أثناء العبادة نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالمحصب ليلة النفر، وقبض الأصابع الثلاث في التشهد، ووضعها على الأرض مضمومة في السجود، وجلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى وبعد الثالثة، والتطيب للإحلال من الإحرام، واتكاؤه - صلى الله عليه وسلم - أثناء الخطبة على قوس أو عصا، ولبس النعلين في الصلاة، يحتمل أنه فعله لكونه من سنة الصلاة، ويحتمل أنه فعله على سبيل الجواز فقط، كما يلبس في الصلاة قطنا أو صوفا أو غير ذلك. ومما وقع في وسيلة العبادة دخوله مكة من طريق كُدَيّ، وخروجه من طريق كَدَاء ودخوله المسجد الحرام من باب بني شيبة، وطوافه - صلى الله عليه وسلم - بالبيت راكبا على بعير، وكذلك في السعي بين الصفا والمروة، ووقوفه في الموقف بعرفات على بعير، وعودته - صلى الله عليه وسلم - من صلاة العيد من طريق غير طريق الذهاب، وذهابه إلى العيد ورجوعه منه ماشيا، ووقوع صلاته في السفر في مواضع معينة.

الفعل العادي:

ومما وقع قبل العبادة قريباً منها: اضطجاعه - صلى الله عليه وسلم - قبل صلاة الفجر بعد أن يصلي النافلة. ومما وقع بعد انتهاء العبادة انصرافه - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عن يمينه أو عن يساره. فهذا القسم الثاني وهو ما له صلة بالعبادة، بأنواعه الأربعة أعلى من القسم الذي قبله، والقول بالندب فيه أظهر من القسم الأول، وهو ما لا صلة له بالعبادة. فإذا انضم إلى صلته بالعبادة عنصر التكرار والمواظبة عليه قوي القول بالندب فيه). الفعل العادي: قال الشيخ الأشقر في "أفعال الرسول" (1/ 237) ما ملخصه: (نقصد بالفعل (العادي) في هذا المبحث ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - جريا على عادة قومه ومألوفهم، مما يدل (¬1) دليل على ارتباطه بالشرع، كبعض الأمور التي تتصل بالعناية بالبدن، أو العوائد الجارية ببن الأقوام في المناسبات الحيوية، كالزواج والولادة والوفاة. ومن أمثلتها أنه - صلى الله عليه وسلم - لبس المِرْط المُرَحّل، والمخَطط، والجبّة، والعمامة، والقباء. وأطال شعره، واستعمل القرب الجلدية في خزن الماء، وكان يكتحل، ويستعمل الطيب والعطور. وحكم هذه الأمور العادية وأمثالها، كنظائرها من الأفعال الجبلية، والأصل فيها جميعا أنها تدل على الإباحة لا غير، إلا في حالين: ا- أن يرد قول يأمر بها أو يرغب فيها، فيظهر أنها حينئذ تكون شرعية. 2 - أن يظهر ارتباطها بالشرع بقرينة غير قولية، كتوجيه الميت في قبره إلى القبلة، فإن ارتباط ذلك بالشرع لا خفاء به). الفعل الخاص به - صلى الله عليه وسلم -: قال ابن مفلح في "أصوله" (1/ 328): (وما اختص به كتخييره نساءه بينه وبين الدنيا، وزياد ته منهن على أربع، ووصاله الصوم- فمختص به اتفاقًا). ¬

_ (¬1) وكذا بالأصل، والصواب والموافق للسياق: (مما لا يدل).

الخصائص التي تدخل في موضوع بحثنا:

قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1454): (ما كان من أفعاله مختصا به فواضح. وله خصائص كثيرة، وذكرها أصحابنا وغيرهم في كتاب النكاح، وأفردت بالتصانيف. قال الإمام أحمد - رضي الله عنه -: (خص النبي بواجبات، ومحظورات، ومباحات، وكرامات) (¬1). قال الشيخ الأشقر في "أفعال الرسول" (1/ 262) ما ملخصه: (بعض الأفعال التي كان يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي مما أبيح له خاصة من دون سائر المؤمنين، أو وجب عليه دونهم؛ وبعض ما حرم عليه، حرم عليه خاصة من دونهم. وهذا النوع من الأفعال داخل فيما يسمى الخصائص النبوية. الخصائص التي تدخل في موضوع بحثنا: لا يدخل في بحثنا الآتي، ما شاركته أمته - صلى الله عليه وسلم - فيه وانفردوا به عن سائر الأنبياء وأممهم؛ لأن الغرض بيان ما تقتدي به الأمة فيه من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، والذي تشاركه فيه الأمة أمره واضح لا خفاء به. وأيضا لا يدخل في بحثنا ما كان من الخصائص في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، لخروجها عن نطاق التكليف. ولا يدخل ما كان صفة من صفاته البدنية، كخاتم النبوة، وسائر ما ليس من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -. فانحصرت الخصائص النبوية التي سنبحثها في هذا الفصل، هي ما كان حكماً شرعيا لفعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم -، في هذه الدنيا، مما ينفرد به عن أمته، سواء شاركه فيه غيره من الأنبياء، أو لم يشاركه فيه منهم أحد. عدد الخصائص: ذكر صاحب كشف الظنون أن السيوطي ذكر في والخصائص الكبرى أنه تتبع الخصائص عشرين سنة حتى زادت عنده على الألف. وهو قد قصد أن يكون كتابه: "مستوعبا لما تناقلته أئمة الحديث بأسانيدها المعتبرة، ... أورد فيه كل ما ورد ". غير أنه لم يلتزم الصحة، إنما التزم أن لا يذكر خبراً في ذلك موضوعاً. ويفهم من ¬

_ (¬1) انظر شرح الكوكب (2/ 178).

ذلك أنه لم يلتزم ترك الضعيف من الأخبار، فورد في كتابه أخبار ضعيفة كثيرة. بل ادعى محقق الكتاب أن السيوطي لم يلتزم بشرطه في تنزيه كتابه عن الأخبار الموضوعة. وبعض ما ذكره من الاختصاص دعوى لا سند لها. فلو أن ما جعله من الخصائص عرض على ميزان النقد لما ثبت منه في تقديري أكثر من ثلث الألف أو ربعه. وهذا في الخصائص بصفتها العامة. أما ما اختص به - صلى الله عليه وسلم - في أحكام أفعاله، فإن بعض فقهاء الشافعية والمالكية ذكروها في مؤلفاتهم في أوائل كتاب النجاح، لما كان كثير من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - هي في باب النكاح. وأوله من استطرد إليها المدني صاحب الشافعي رضي الله عنهما. وقد ذكرها القرطبي المالكي بالتفصيل، وحصرها في 37 خاصة، قال: إن منها المتفق عليه، والمختلف فيه. وذكرها السيوطي، فجعلها 65 خاصة. وذكرها الرملي الشافعي في شرح المنهاج فجعلها 47 خاصة. ولعله ما يصح دليله من كل ما ذكر قريب من خمس عشرة خاصة لا أكثر. منها في الواجبات: التهجد بالليل، وتخيير نسائه. ومنها في المحرمات: تحريم الزكاة عليه وعلى آله، وتحريم أكل الأطعمة الكريهة الرائحة، وتحريم التبدل بأزواجه. ومنها في الجائزات: خُمس خُمسِ الغنيمة، وخُمس الفيء، والوصال، والزيادة على أربع نسوة، وسقوط القسم بين زوجاته، والقتال بمكة. الاستدلال بأفعاله صلى الله عليه وسلم الخاصة به في الأحكام المماثلة: إذا ثبتت الخصوصية في فعل من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها تقتضي أن حكم غيره ليس كحكمه وذلك إجماع، إذ لو كان حكمه حكم غيره لما كان للاختصاص معنى. ثم إنه وأن امتنعت مشاركتنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في خصوصياته، فإن للاقتداء به فيها وجهاً واضحاً، فإنه إذا امتنع من أكل الثوم والبصل لكونهما محرمين عليه خاصة، فيتجه أن يقال: إن من اقتدى به في الامتناع من ذلك يؤجر، ويكون في

حقه مكروهاً وإذا وجب عليه تخيير نسائه إذا بدا منهن الضيق، استُحِبَّ ذلك لغيره. يرى أبو شامة أن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - ممنوع في ما أبيح له خاصة، لدلالة الخصوصية على امتناع ذلك قي حقه غيره. وأن الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستحباب ثابت فيما فعله على سبيل الوجوب، وفي ترك ما تركه على سبيل الحرمة. فيندب لنا على هذا القول: فعل ما فعله يكن مما اختص به من الواجبات، ويندب لنا التنزه عما تركه مما اختص به من المحرمات. فخصوصيته - صلى الله عليه وسلم -على هذا القول، إنما هي في تحتم الفعل أو الترك بالنسبة إليه، والمشاركة بيننا وبينه هي في أصل مطلوبية الفعل أو الترك المقتضية للاستحباب أو الكراهة، وتمتنع المشاركة في ما زاد على ذلك وهو تحتّم الفعل أو الترك، لدلالة الخصوصية على هذا الامتناع. وقال أبو شامة: إن ما ذكره "لا نزاع فيه لمن فهم الفقه وقواعده، ومارس أدلة الشرع ومعاقده ومعانيه". وقد نقل الشوكاني بعض كلام أبي شامة، ووافقه على ما ذهب إليه ونقله قبله الزركشي في البحر وأقره. إلا أن الشوكاني قيد هذه المسالة بأنه إذا علم بدليل قوي الحكم في حقنا فهو المعتمد، فإن عارض القول ما يستفاد من هذه القاعدة يقدًم الدليل القولي. ما يختص به صلى الله عليه وسلم في أفعال غيره: وذلك ما شرعه الله تعالى من الأحكام من فعل غيره بسببه - صلى الله عليه وسلم -، تعظيما لمقامه ورفعاً لشأنه. ومنه أنه لا يرثه أحد من أقاربه ولا زوجاته، ومنه أن ما تركه من ماله صدقة، وأنه لا يحل لأحد نكاح زوجاته بعده، وأنهن أمهات المؤمنين، ومن فعل منهن معصية يضاعف لها العذاب ضعفين، ومن يقنت منهن لله ورسوله فلها الأجر مرتين، وتحريم رفع الصوت فوق صوته، والكذب عليه عمدا كبيرة، ويجب القتل عله من سبه أو هجاه. هل يصح تعدية هذه الخصائص إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم: ينقل عن بعض الصوفية أنه ادعى لنقسه في أتباعه أشياء من مثل هذا النوع من

خاصة التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم:

الخصائص. فنُقل عن بعضهم أن الولي فِي أتباعه ومريديه كالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه، ولهذا يجعلون لشيوخهم من الخصائص مثل ما هو ثابت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز عندهم نكاح امرأة الشيخ بعد موته، ولا يجوز رفع الصوت عنده. إن ما تقدم ذكره من الإجماع على عدم جواز الاشتراك فيما ثبت من خصائصه ينفي دعوى مشاركة (الأولياء) في خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. ولما كانت خصائصه - صلى الله عليه وسلم - لا تدل قي حقنا على المماثلة، فلذلك يكون من حرَّم على الناس لنفسه مثل ما حرّم عليهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد حرم ما ليس حراما، وذلك لا يجوز. وكذا من أوجب عليهم لنفسه مثل ما وجب عليهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أوجب ما ليس بواجب وذلك لا يجوز. وقد ورد عن أبي بردة الأسلمي، قال: أغلظ رجل لأبي بكر الصديق. قال، فقال أبو برزة: ألا أضرِب عنقه؟ قال: فانتهزه أبو بكر، وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله. فلو كان للولي أن يكون له مشاركة في هذا النوع من الخصائص، لكان أول الناس بذلك صديق الأمة أفضلها بعد نبيها وأكرم (أوليائها) على الله. خاصة التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم: من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - التبرك بآثاره والاستشفاء بها، فقد نقل أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه، ومج فيه، ثم قال لأبي موسى وبلال: (اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما، ونحوركما). وتوضأ وصب على جابر، وأمر بشعره أن يقسم بين المسلمين. وكان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه. وبعض ثيابه كانت تغسل بعده ويعطي ماؤها للمرضى. وجمعت أم سليم عرقه لتطيب به. وشرب بعضهم دم حجامته - صلى الله عليه وسلم -. والدليل على أن هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، أن الصحابة رضي

الفعل التعبدي:

الله عنهم لم يتبركوا بأفاضلهم. وليس في الأمة بعد نبيها أفضل من أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. فلم ينقل عن أحد منهم، ولو حادثة واحدة، أنهم تبركوا بهؤلاء الأولياء الأربعة أو غيرهم، فهذا إجماع على الترْك. والتبرك هنا ليس له وجه إلا اعتقادهم أن ذلك خاص به - صلى الله عليه وسلم - إذ لو كان للتشريع لعملوا به ليبينوه للأمة). الفعل التعبدي: قال الشيخ في "الشرح" (ص/443): (وهذا يشتبه كثيرًا بالثاني والأول، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل فعلاً فيشتبه على الإنسان، هل فعله تعبدًا أو فعله من أجل العادة أو فعله بمقتضى الجبلة فلا بد من تمييز فيقال: ما ظهر فيه ملائمته للنفس فهو جِبِلَّة، وما ظهر منه موافقة للعادة بحيث يقدر الذِّهْنُ أن الناس لو كانوا لا يفعلون هذا ما فعله، أو لو كانوا يفعلون شيئًا آخر لفعله حكمنا بأنه عادة، وما ظهر فيه قصد التعبد بحيث لا يكون ملائمًا لمقتضى الجبِلَّة، ولا موافقًا للعادة فالظاهر أنه إنما فعله على سبيلِ التعبد، ولكن لو بقي الأَمر عليك مشكلاً فهل تقول الأصل أن ما فعله فهو عبادة أو تقول: الأصل المنع حتى يقوم دليل على قصد التعبد؛ لأن العبادة لا تشرع إلا بدليل واضح، فإن لم يكن هناك دليل واضح فالواجب ألا تقدم على التعبد بها لله تعالى، وهذا هو الأقرب. وعُلم من قول المؤلف: (حتى يحصل البلاغ) أنه لو حصل البلاغ بغير الفعل لم يكن الفعل واجبًا، لكن إذا قُدِّر أنه لا طريق لعلم الأمة بمشروعية هذا الفعل إلا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان فعلُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبًا؛ يعني يجب عليه أن يفعل من أجل إبلاغ الشرع. علمنا الوجوب من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]، ولقوله تعالى: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) [الشورى: 48] والآيات في هذا المعنى متعددة. بعد أن يحصل البلوغ ويعلم الناس به يكون مندوبًا في حقه وحقنا، وهذا هو أصح الأقوال، وهناك قول: أنه يجب علينا وعليه، وهناك قول: أنه يندب لنا وله، فالأقوال إذًا ثلاثة:

الفعل البياني:

قول: إنه يجب علينا وعليه. وقول آخر: يندب لنا وله. وقول ثالث: وهو الصحيح يجب عليه ويندب لنا). وقال في "الأصل" (ص/57): (ما فعله تعبداً فواجب عليه حتى يحصل البلاغ لوجوب التبليغ عليه، ثم يكون مندوباً في حقه وحقنا على أصح الأقوال، وذلك لأن فعله تعبداً يدل على مشروعيته، والأصل عدم العقاب على الترك فيكون مشروعاً لا عقاب في تركه، وهذا حقيقة المندوب. مثال ذلك: حديث عائشة أنها سئلت بأي شيء كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يبدأ إذا دخل بيته؟ قالت: (بالسواك)، فليس في السواك عند دخول البيت إلا مجرد الفعل، فيكون مندوباً). الفعل البياني: البيان واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: 44]، وحكم الفعل البياني يكون بحسب ما هو بيان له، فإن كان الفعل بيانا لآية دالة على الوجوب، دل على الوجوب، وإن كان المبين ندبا كان الفعل البياني ندبا، وإن كان إباحة كان الفعل مباحا. قال المرداوي في "التحبير" (3/ 1462): (قوله: {وما كان بيانا بقوله - صلى الله عليه وسلم - كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وفعله عند الحاجة كقطع السارق من الكوع}، وإدخال المرافق والكعبين في الغسل، {فبيان} لقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38]، ولقوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة: 6]، وهذا متفق عليه عند العلماء، وواجب عليه الإعلام به، لوجوب التبليغ عليه. فإن قلت: لا يتعين التبليغ بالفعل. قلت: لا يخرج ذلك عن كونه واجبا، فإن الواجب المخير توصف كل من خصاله بالوجوب. قال العضد: (ومعرفة كونه بيانا، إما بقول، وإما بقرينة. فالقول نحو: (خذوا عني مناسككم)، و (صلوا كما رأيتموني أصلي). والقرينة مثل: أن يقع الفعل بعد إجمال: كقطع يد السارق من الكوع دون المرفق والعضد، بعدما نزل قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ

جهات الفعل البياني:

وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [المائدة: 38]، والغسل إلى المرافق بإدخال المرافق أو إخراجها بعدما نزلت: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة:6] انتهى) (¬1). قال الشيخ الأشقر في "أفعال الرسول" (1/ 284) ما ملخصه: (مرادنا بالفعل البياني، ما وقع بياناً للمشكل من مجمل وغيره مما ورد في القرآن وتكفلت السنة ببيانه، وهر الذي نقصده هنا أيضاً أما الفعلي الواقع بيانا ابتدائية فهو من الفعل المجرد. جهات الفعل البياني: للفعل البياني ثلاث جهات، يستفاد من كل منها نوع من الأحكام: الجهة الأولى: جهة أنه امتثال للأمر أو النهي في العبادة، فإذا بين - صلى الله عليه وسلم - آية الحج بأن حج وقال لهم: (خذوا مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) فإن حجه في حد ذاته امتثال لما أوجب الله عليه من الحج، وبجزيء عنه، فيسقط عنه الفرض بذلك. ويعترض هنا سؤال، وهو أنه هل يمكن أن يتجرد الفعل البياني عن جهة الامتثال هذه، فيتخلص بياناً؟ وصورة ذلك أن يأتي - صلى الله عليه وسلم - بفعل هيئته هيئة العبادة، وهو لا يقصد العبادة، وإنما يقصد مجرد التعليم، كما يفعله المعلّمون أحيانا من أداء صورة الصلاةِ مثلاً على سبيل التمثيل لطلبتهم، دون أن يقصدوا الصلاة. ومثال ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار بن ياسر حين أراد أن يعلمه التيمم: (إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا .. ) الحديث. فلا يبعد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان متوضئا وأن ما فعله من التيمم صوري. وحتى لو لم يكن متوضئا فالظاهر أنه كان بالمدينة، والتيمم للحاضر لا يجزئ. ومن جهة أخرى، قد تنفرد جهة الامتثال، فيكون الفعل امتثالًا مجردا من دون أن يكون بياناً لشيء. ومن ذلك ما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعله في خلواته مما لا يطلع عليه أحد من الأمة " لأن ما أريد به البيان يلزم إظهاره ". ¬

_ (¬1) انظر العدة (3/ 734)، أصول ابن مفلح (1/ 329)، شرح الكوكب (1/ 377).

ما يعرف به الفعل البياني:

الجهة الثانية: جهة أنه امتثال لما أمر به من البيان. وهو من هذه الجهة واجب أو مستحب كما تقدم. وقد يختلف حكم الفعل الواحد من هاتين الجهتين، فيكون مندوبا من حيث إنه امتثال للأمر بعبادة مندوبة، واجبا من حيث إنه امتثال للأمر بالبيان. الجهة الثالثة: جهة ما يحصل بالفعل من البيان، فيعلم به تفاصيل الفعل الذي أمرنا به، ويعلم أنه واجب في حقنا أو مندوب أو مباح، وذلك بتعلقه بما هو بيان له، فإن تعلق بآية دالة على الوجوب، دل على الوجوب، وإن تعلق بآية دالة على الندب دلّ على الندب، وإن تعلق بما دل على الإباحة دلّ على الإباحة. ما يعرف به الفعل البياني: الطريق الأولى: القول الصريح، بأن يقول - صلى الله عليه وسلم - ما فعلته أو ما سأفعله، هو بيان لكذا. وهذه أعلى الطرق. ومثاله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر لما أراد أن يعلمه التيمم: (إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، ثم ضرب بيده إلى الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمن، وظاهر كفيه، ووجهه). فمسح الكفين يبين به الإشكال في المراد باليد في آية التيمم. الطريق الثانية: إجماع العلماء على أن الفعل المعين بيان لآية معينة. كإجماعهم في أعداد الركعات في الصلوات، وما فيها من الأركان التي اتفقوا عليها أن ذلك بيان للصلاة المأمور بها في الكتاب. وأن مقادير الزكاة التي أخذها - صلى الله عليه وسلم - هي بيان للزكاة المأمور بها. الطريق الثالثة: أن يرد خطاب مجمل، ولم يبينه - صلى الله عليه وسلم - بالقول، وأتى وقت التنفيذ، ففعل - صلى الله عليه وسلم - أمامهم فعلا صالحاً للبيان، فيعلم الحاضرون أنه بيان لذلك المجمل. هذا بالنسبة إلى من شاهد الفعل الواقع بعد المجمل. أما بالنسبة إلى من لم يشاهده، كغير الصحابي، فإننا إذا بلغنا الفعل النبوي يحتمل عندنا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد بينه بالقول ولم يبلغنا. فيكون الظاهر عندنا أن الفعل بيان. قاله الغزالي، ومثاله أنه تعالى أمر بالوقوف بعرفة، ولم يذكر وقت الوقوف، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - تاسع ذي الحجة، فتبين بذلها وقته للواقفين معه. الطريق الرابعة: أن يُسال - صلى الله عليه وسلم - عن بيان مشكل، فيفعل فعلاً

ما يدل عليه الفعل البياني من الأحكام:

ويعلم بقرائن الأحوال أنه يريد جواب السائل، كالذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصلاة، فقال: (صل معنا) فصلى في اليوم الأول في أول الوقت، وصلى في اليوم الثاني في آخره، فعلم بذلك أول الوقت وآخر. ولما قال - صلى الله عليه وسلم -: (أين السائل؟ الوقت ما بين هذين). زاد ما علم من القرائن توكيداً، وانتقل بذلك إلى الطريقة الأول. الطريق الخامسة: وقد قررها أبو نصر القشيري، وخلاصتها أن يعتبر الفعل بيانا للمجمل، إن كان المجمل قد ورد، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يصلح أن يكون بيانا لذلك المجمل، ولم تقترن بالفعل قرينة تدل على أنه هو البيان، ولم يرد بيان آخر قولي ولا فعلي وتوفى النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يرد بيان غير ذلك الفعل الصالح للبيان. قال القشيري: "ولا يخترم - صلى الله عليه وسلم - مع بقاء الالتباس في اللفظ المجمل. فيحمل فعله على البيان في مثل هذه الصورة إجماعا من الأمة". ومثاله الجزية، إذ قد وردت مجملة، وأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقادير معينة. ما يدل عليه الفعل البياني من الأحكام: حكم الفعل البياني عند الأصوليين بحسب ما هو بيان له، فيرجع إلى المبين في معرفة حكمه. فإن كان الفعل بيانا لآية دالة على الوجوب، دل على الوجوب، كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [البقرة: 43] بيّن - صلى الله عليه وسلم - بفعله ميقات صلاة الظهر مثلاً، فيجب إيقاعها في ذلك الوقت. ويبين أنها أربع ركعات، فلا يجزئ غير ذلك. وبين ما فيها من القيام والركوع والسجود. فوجب الإتيان بها في الصلاة. وكذلك الجمعة، بين - صلى الله عليه وسلم - بفعله أنها ركعتان. ودليل كون الفعل بيانا في أكثر هذه الفروع الإجماع. وإن كان المبين ندبا كان الفعل البياني ندبا كإقامة ثالث أيام التشريق بمنى إلى ما قبل الغروب، وكأفعال العمرة. وإن كان إباحة كان الفعل مباحا.

الأجزاء غير المرادة من الفعل البياني:

الأجزاء غير المرادة من الفعل البياني: المشكلة الكبرى في الأفعال البيانية، وخاصة في العبادات، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل الفعل بجميع أجزائه، الواجبة والمندوبة، ويفعل في أثنائه بعض الأفعال المباحة أيضا، ولا ينفصل في بادي الرأي واجبه من مندوبه من مباحه. وقد قال ابن الهمام: "أن الاستقراء يدل على أن كثيرا من الأفعال البيانية تشتمل على أفعال غير مرادة من المجمل ". ويمثل كثير من الأصوليين للفعل البياني بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلونها بيانا لآيات الأمر بإقام الصلاة، وبحجه - صلى الله عليه وسلم -، ويجعلونه بيانا لآية: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97] ويقولون: إن دليل كون صلاته - صلى الله عليه وسلم - وحجه، بياناً للآيتين هو الطريق القولي، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا كما رأيتموني أصلي). وقوله: (خذوا عني مناسككم). ففي الصلاة كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم فيرفع يديه حذو منكبيه، ويكبِّر، ثم يضع يديه على صدره، ثم يقرأ الفاتحة وسورة سرا في بعض الصلوات، وجهرا في بعضها ... إلى آخر ما يذكر في صفة صلاته - صلى الله عليه وسلم -. ومن المعلوم أن ذلك كله ليس بواجب، بل قد قال ابن قدامة: " إن أكثر أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة مسنونة غير واجبة ". وكذلك صفة أداء المناسك من طوافِ القدوم، والرمل، والاضطباع، وركعتي الطواف، والصلاة داخل الكعبة، والشرب من ماء زمزم، والسعي مع الهرولة، إلى غير ذلك. فما يقوله جمهور الأصوليين، من أن الفعل الواقع بيانا لواجب فهو واجب، مشكل؛ لأنه يقتضي أن جميع ما فعله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة التي صلاها بيانا هو واجب، وكذلك جميع أفعاله في أخذ الزكاة، وفي الحج، وغير ذلك مما فعله بياناً. وهذا ما لا يقول به من الفقهاء أحد. وقد أجاب به أبو شامة: سلمنا أن الحديث يدل على أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - بيان، لكنها بيان للصلاة المطلوبة من المسلمين، بواجباتها وسننها وما يجوز

الاختلاف في أن ما ورد عليه الفعل مجمل أو غير مجمل:

فيها، فلماذا يحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على أنه للوجوب خاصة؟. بل الناتج من كون صلاته بياناً أن يكون كله فعل فعله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة دائراً بين هذه الأنواع الثلاثة، والعمدة في تمييز بعضها عن بعض إما القول، وإما الإجماع، وإما القرائن الأخرى، ولا يصلح الفعل وحده دليلاً. ولذلك قال الجصاص: (أمرنا بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - على وصف هو أن نصلي كما رأيناه يصلي. فنحتاج أن نعلم كيف صلى من ندب أو فرض فنفعل مثله). قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خذوا عني مناسككم) لا يتعين أن يكون المراد به ملاحظة أفعاله بخصوصها، بل يصدق على الأخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - من أقواله بسؤاله عما يشكل عليهم، والاستماع إلى ما يأمر به ويرشد إليه. فأقصى ما يدل عليه الحديث، أن يدل على مشروعية أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الحج، أما التفريق بين واجبها ومندوبها فلابد من المصير إلى وجه آخر في الدلالة على ذلك. وحكم أفعاله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الناحية حكم سائر الأفعال المجردة. والخلاصة: أن هذين الحديثين لا يصلحان دليلا على أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة والحج واجبة، بناء على أنها بيان للواجب. بل أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في هاتين العبادتين مختلطة واجبها بمندوبها غير متميزة، والعمدة في تمييز ذلك على الأدلة الأخرى. وينظر في كل فعل بخصوصه ما يحتف به من القرائن. الاختلاف في أن ما ورد عليه الفعل مجمل أو غير مجمل: إن الفعل إذا ورد وله علاقة بنص قرآني، فلا بد من اعتبار كون النصّ مجملًا حتى يكون الفعل بيانا له، فمن لم يثبت أنه مجمل، لم يكن الفعل عنده بياناً ويتبين ذلك بمثالين فرعيين: الأول: قوله تعالى في آية الوضوء: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [المائدة: 6]، مع فعله - صلى الله عليه وسلم - في وضوئه، فإنه (أدار الماء على مرفقيه). من العلماء من قال إن (إِلَى) مجمل؛ لأنه يكون بمعنى انتهاء الغاية، ويكون بمعنى (مع)، فهو مشترك، والمشترك مجمل، فجاء الفعل مبينا أن (إِلَى) بمعنى (مع) دون

التقرير:

معنى انتهاء الغاية، واقتضى ذلك وجوب غسل المرفقين. ومنهم من قال إن (إِلَى) واضح لانتهاء الغاية، وذلك بيّن، فلا يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - بيانا، ويكون غسله - صلى الله عليه وسلم - لمرفقيه مندوبا. وقد قال بالوجوب عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال بعض أصحاب مالك وداود لا يجب، وحكي ذلك عن زفر. الفرع الثاني: المضمضة في الوضوء، هي واجبة عند أحمد وابن أبن ليلى، مسنونة عند الحنفية والمالكية والشافعية. فمن قال بوجوبها فوجهته عنده أن الله قال في شأن الوضوء (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة: 6] والفم يحتمل أنه داخل في مسمى (الوجه) ويحتمل أنه ليس بداخل لأنه غير مواجه. فكان ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من المضمضة بياناً فيدل على أن الفم من الوجه، فيجب غسله. ومن قال بأنها مستحبة فهو يقول: الفم غير داخل قطعا في مسمى الوجه، وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من المضمضة زيادة فعلية صرفة، فتكون مستحبة). التقرير: قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (2/ 62 (: (السنة النبوية منحصرة في هذه الأقسام: القول، والفعل، والإقرار (¬1)، أي: تقرير من يسمعه يقول شيئا، أو يراه يفعله، على قوله أو فعله، بأن لا ينكره، أو يضم إلى عدم الإنكار تحسينا له، أو مدحا عليه، أو ضحكا منه على جهة السرور به، كتبسمه من قيافة مجزز المدلجي حين رأى زيدا وأسامة نائمين قد بدت أقدامهما من قطيفة ; فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. وكضحكه من الحبر الذي جاءه ; فقال: إن الله يوم القيامة يضع الأرض على أصبع والسماء على أصبع. الحديث فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - تصديقا لما قال الحبر). ¬

_ (¬1) راجع ما سبق ذكره عند تعريف الخبر من أن الإقرار يدخل في الفعل.

تعريف الإقرار

تعريف الإقرار (¬1): هو كف (¬2) النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنكار على ما علم به من قول، أو فعل. شروط صحة دلالة التقرير (¬3): الشرط الأول - أن يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل، سواء سمعه، أو رآه مباشرة، وهو الأكثر من الأقارير المحتج بها، أو حصل في غيبته ونقل إليه كما نقل إليه خبر تأخيرهم لصلاة العصر حتى غربت الشمس يوم بني قريظة (¬4). قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (2/ 62 (: (شرط كون إقراره حجة، بل شرط كون تركه الإنكار إقرارا: علمه بالفعل؛ لأنه بدون العلم لا يوصف بأنه مقر أو منكر). ومما يقوم مقام العلم أن يشيع الفعل وينتشر ويكثر وقوعه بين الصحابة فيكون مثل هذا الفعل حجة، وذلك لأحد أمرين: الأول - أنه يغلب على الظن مع كثرة وقوع الفعل وانتشاره اطلاعه - صلى الله عليه وسلم - عليه. الثاني - على فرض عدم علم النبي - صلى الله عليه وسلم - به مع انتشاره، فإن الحجة تكون في إقرار الله - تعالى -، وسيأتي تفصيل الكلام على هذه المسألة قريبا - بإذن الله - (¬5). الشرط الثاني - قال ابن الحاجب أن يكون قادرا على الإنكار. قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (2/ 62 (: (شرط كون إقراره حجة، بل شرط كون تركه الإنكار إقرارا: قدرته على الإنكار؛ لأنه مع العجز لا يدل على أنه مقر، كحاله مع الكفار في مكة قبل ظهور كلمته) (¬6). ¬

_ (¬1) ذكر هذا التعريف الشيخ الأشقر في "أفعال الرسول" (2/ 90). (¬2) الكف فعل كما سبق وأن بينا، وقولنا كف أولى من قولنا سكوت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يسكت عن المنكر لكن يغيره بيده. (¬3) لخصتها من كلام الشيخ الأشقر في أفعال الرسول (2/ 104) مع بعض الزيادات. (¬4) وسوف يأتي أثر عمر- رضي الله عنه- في اشتراط ذلك عند الكلام على إقرار الله - تعالى-. (¬5) وقد استفدته من كلام الشيخ عياض السلمي في شرح الورقات"، وسوف يأتي نص كلامه. (¬6) وقد اعتبر هذا الشرط أيضا ابن مفلح في "أصوله" (1/ 354).

وذهب الباقلاني والزركشي إلى أن إنكار المنكر لا يسقط عن النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الخوف على نفسه لأمرين: أن الله تعالى ضمن له النصر والظفر على أعدائه بقوله: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر: 95]، وقوله: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67]. والثاني: أن تركه الإنكار يوهم جواز الشيء ونسخ النهي. وتابعهم المرداوي في عدم اعتبار هذا الشرط فقال في "التحبير" (3/ 1492): (لم يقيد المسألة بكونه قادرا عليه، كما ذكره ابن الحاجب وغيره، إذ لا حاجة إليه؛ لأن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن وجوب إنكاره المنكر لا يسقط عنه بالخوف على نفسه، وإن كان ذلك إنما هو لعدم تحقق خوفه، بعد إخبار الله تعالى عنه بعصمته من الناس) (¬1). وقد أجاب الشيخ الأشقر على أدلة الباقلاني بقوله: (آية العصمة متأخرة في العهد المدني، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحرس قبل ذلك حتى نزلت. وأما كفاية المستهزئين فهي خاصة بهم، وليست عامة في من يخاف منهم. ولذلك يظهر لنا أن هذا الشرط معتبر في الإقرار في أوائل العهد المدني، أما في العهد المكي فلم يتبعه - صلى الله عليه وسلم - إلا خلص المؤمنين، فلا خشية منهم. وأما بعد نزول آية العصمة فلا. وأما في العهد المدني قبل نزولها فيمكن تحقيق الخشية من جهة بعض من مردوا على النفاق من أهل المدينة. وإنما يعتبر هذا الشرط بقدره، وحيث يتحقق لخوفه - صلى الله عليه وسلم - على نفسه وجه، والأصل عدم الخوف. وأما استدلال الباقلاني بأن ترك الإنكار خوفا يوهم الجواز، فإن الإمارات لا تخفى على الحاضرين لو حصل شيء من ذلك، فلا يتحقق ما ذكر). ومن دقق في كلامهما علم أنه لا منافاة بينهما، فمقصود من أعتبر هذا الشرط اعتباره في أوائل العهد المدني، ومقصود من لم يعتبره اعتبار ما كان بعد هذه الفترة من حراسة المؤمنين له، ثم نزول آية العصمة بما يحقق للنبي القدرة على الإنكار. ¬

_ (¬1) وأقره ابن النجار في "شرح الكوكب" (2/ 194).

تقرير الله - تعالى -

الشرط الثالث - أن يكون المقَر منقادا للشرع، بأن يكون مسلما سامعا مطيعا، أما إن كان كافرا، فإن تقريره لا يدل على رفع الحرج، وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود والنصارى على بِيَعهم وكنائسهم وعلى عباداتهم. الشرط الرابع - أن لا يكون قد علم من حاله - صلى الله عليه وسلم - إنكاره لذلك الفعل قبل وقوعه وبعد وقوعه، حتى استقر ذلك شرعا ثابتا، وحكما راسخا لا يحتمل التغيير ولا النسخ. وذلك كعبادة غير الله ونكاح المحارم. الشرط الخامس - أن لا يمنع من الإنكار مانع سوى ما تقدم. فإن وجد مانع صحيح أمكن إحالة الإقرار عليه، فلا يكون حجة. ومن هذه الموانع أن يسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - في انتظار الوحي، ويعلم ذلك من حاله، فلا يكون سكوته قبل البيان حجة على انتفاء الحرج عن الفعل. تقرير الله - تعالى - (¬1): قال الشيخ: (فأما ما وقع ولم يعلم به فإنه لا ينسب إليه ولكنه حجة لإقرار الله له). وقال في "الأصل" (ص/60): (فأما ما وقع في عهده ولم يعلم به فإنه لا ينسب إليه، ولكنه حجة لإقرار الله له، ولذلك استدل الصحابة رضي الله عنهم على جواز العزل بإقرار الله لهم عليه، قال جابر رضي الله عنه: كنا نعزل والقرآن ينزل، متفق عليه، زاد مسلم: قال سفيان: ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن. ويدل على أن إقرار الله حجة، أن الأفعال المنكرة التي كان المنافقون يخفونها يبينها الله تعالى وينكرها عليهم، فدل على أن ما سكت الله عنه فهو جائز). وهذا القول أشار إليه تقي الدين في "المسودة" (¬2). قال تقي الدين في "المسودة" (ص/512): (البيان من الله عز وجل يحصل بالفعل كالآيات التي بعث بها الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وكالعقوبات التي أنزلها ¬

_ (¬1) وقد صنف عبدالحميد بن علي أبو زنيد رسالة بعنوان (إقرار الله جل جلاله في زمن النبوة ومدى الاحتجاج به) ولم أقف منها إلا على خاتمتها. (¬2) وانظر أصول الفقه لابن مفلح (2/ 584).

بالمنذرين ويحصل بالإقرار كقول جابر رضي الله عنه (كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) والتحقيق أن يقال بيان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم قسمان فعل وترك أما الترك فقد يدل على عدم التحريم تارة وعلى عدم الوجوب أو الاستحباب أخرى وهذا هو الإقرار على ما فعلوه والثاني الإمساك عن الأمر بالشيء أو فعله على تفصيل في هذا القسم وأما الفعل فإنزال الكتاب أو خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تمام التقسيم فلا تغفل عن الدلالة العدمية فإنها أصل معتمد وهى غير استصحاب الحال). وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين" (2/ 387): (وقد احتج به جابر في تقرير الرب في زمن الوحي كقوله كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهي عنه القرآن وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها وهو يدل على أمرين: أحدهما أن أصل الأفعال الإباحة ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله. الثاني أن علم الرب تعالى بما يفعلون في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي وإقراره لهم عليه دليل على عفوه عنه والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوا عنه استصحابا وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرا لحكم الاستصحاب). وقال المرداوي في "التحبير" (5/ 2021) وهو يتكلم عن حجية قول الصحابي: كنا نقول أو نرى على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لم يذكر الأصوليون وغيرهم أنه حجة لتقرير الله تعالى، وذكره الشيخ تقي الدين محتجا بقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: (كنا نعزل والقرآن ينزل) لو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن متفق عليه. وهو ظاهر الدلالة). قال الصنعاني في " إجابة السائل شرح بغية الآمل" (ص / 35): (تستفاد الإباحة من الإقرار على الفعل في زمن الوحي وهو نوعان: إقرار الرب، وإقرار رسوله صلى الله عليه وسلم فمن إقرار الرب حديث جابر كنا نعزل والقرآن ينزل ومن إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم قول حسان لعمر كنت أنشد وفيه من هو خير منك).

من قال بعدم حجيته:

من قال بعدم حجيته: وقد ذهب ابن عقيل إلى عدم حجية الإقرار من الله فقال في "كتاب الجدل" (ص/5): (وتزيد السنة على الكتاب بقسمين يختصانها دون الكتاب: الفعل والإقرار على الفعل ... إقرار الله على ما يعلم قبحه لا يدل على التشريع؛ لأنه إنما أقر بتأخير المؤاخذة والإمهال عن المعالجة، وذلك لإقرار لا يجلب أن يكون ما (¬1) العاصي عليه شرعا ولا جائزا، مع أنه ما أقر مع النهي على ألسنة الرسل، فالرسل سفراء عنه في إنكار المفاسد والنهي عنها، والحث على المصالح المأمور بها). ومما يدل على هذا القول ما رواه أحمد (¬2) وغيره عن رفاعة بن رافع وكان عقبيا بدريا قال: (كنت عند عمر فقيل له: إن زيد بن ثابت يفتى الناس في المسجد، قال زهير في حديثه: الناس برأيه في الذي يجامع ولا ينزل. فقال: أعجل به، فأتى به فقال يا عدو نفسه، أو قد بلغت أن تفتى الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيك؟ قال: ما فعلت ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أي عمومتك. قال: أبي بن كعب، قال زهير: وأبو أيوب، ورفاعة بن رافع، فالتفت إلى ما يقول هذا الفتى، وقال زهير: ما يقول هذا الغلام، فقلت: كنا نفعله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسألتم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كنا نفعله على عهده فلم نغتسل، قال: فجمع الناس، واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء، إلا رجلين: علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، قال: فقال علي: يا أمير المؤمنين إن أعلم الناس بهذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى حفصة فقالت: لا علم لي، فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل، قال فتحطم عمر - يعنى تغيظ - ثم قال: لا يبلغني أن أحدا فعله ولا يغسل إلا أنهكته عقوبة). فقول عمر - رضي الله عنه -: (فسألتم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ظاهر في أنه لم يعتبر إلا إقرار النبي إن علم بالأمر. ¬

_ (¬1) كذا العبارة بالأصل والمعنى المراد واضح. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 115)، وصححه الأرناؤوط.

الترجيح:

بيان أن الزيادة التي في حديث جابر مدرجة: قال ابن حجر في " فتح الباري" (9/ 305): (وزاد إبراهيم بن موسى في روايته عن سفيان أنه قال حين روى هذا الحديث أي لو كان حراما لنزل فيه وقد اخرج مسلم هذه الزيادة عن إسحاق بن راهويه عن سفيان فساقه بلفظ كنا نعزل والقرآن ينزل قال سفيان لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن فهذا ظاهر في أن سفيان قاله استنباطا واوهم كلام صاحب العمدة ومن تبعه أن هذه الزيادة من نفس الحديث فأدرجها وليس الأمر كذلك فإني تتبعته من المسانيد فوجدت أكثر رواته عن سفيان لا يذكرون هذه الزيادة). الترجيح: والذي يترجح في هذه المسألة لابد من تقييد كون إقرار الله حجة أن ينتشر الفعل ويكثر وقوعه بين الصحابة. قال الشيخ عياض السلمي في "شرح الورقات": (إقرار الله -جل وعلا- بمعنى عدم نزول ما يخالف ذلك، وعدم تكلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما يخالف ما هو موجود، فهذا تكلم عنه بعض الأصوليين على ندرته، وقلة الذين تكلموا فيه، لكن له أصل، وأصله ما ثبت عن جابر -رضي الله عنه- أنه قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان شيئًا ينهى عنه لنهانا عنه)، فهذا دليل على أنه يرى أن عدم نزول القرآن بالنهي عن واقعة كثيرة الحصول في المجتمع المسلم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم- وعدم بيان المنع منها أو النهي عنها دليل على أنها جائزة، استدل على جواز العزل بأنهم كانوا يفعلون ذلك، وأنه كان أمر مشتهراً؛ ولهذا فيمكن أن نقول: أنه إذا فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - شيئًا وكثر ذلك فيهم، ولم يأت قرآن يدل على المنع منه، ولم يمنع منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيكون هذا من باب التقرير، لكن لابد من شرطه وهو: أن يكون كثير الوقوع، ولا يصح أن نقول أن كل من فعل فعلاً من الصحابة أو ممن كان على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى من الأعراب الذين لم يَفِدُوا عليه، كل من فعل فعلاً في عهد الرسول ولم يأت القرآن بالمنع منه فيكون جائزاً، هذا ما أعرف أحداً يقول به، وإن وجد من يقول به ففي ظني أنه غير صحيح، لا نقول: إن كل ما كان موجوداً ولو على ندرة أنه إذا

أقسام الإسناد باعتبار من انتهى إليه:

لم ينزل قرآن بالنهي عنه ولم يتكلم الرسول في النهي عنه فمعنى هذا أنه جائز، هذا غير صحيح، لكن حينما يكثر ذلك ويشتهر يكون إقراراً إما من الله -جل وعلا- أو من رسوله -صلى الله عليه وسلم، فلابد فيه من الكثرة ومن الاشتهار ... ). أقسام الإسناد باعتبار من انتهى إليه: قال الشيخ: (أقسام الخبر باعتبار من يضاف إليه: ينقسم الخبر باعتبار من يضاف إليه إلى ثلاثة أقسام: مرفوع، وموقوف، ومقطوع). وقول الشيخ في "شرح الأصول" (ص/459): (المراد بالخبر هنا الخبر النبوي، وإنما قلنا ذلك لأجل أن يخرج الحديث القدسي؛ لأنه مضاف إلى الله تعالى) فيه نظر؛ إذ أن محصل كلام الشيخ أن الموقوف، والمقطوع أقسام من الحديث النبوي، وليس كذلك، وقد درج العلماء على أن يجعلوا مورد هذا التقسيم النسبة إلى من أسند إليه. قال ابن حجر في "النخبة": (الإسناد إما أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم تصريحا أو حكما من قوله أو فعله أو تقريره أو إلى الصحابي ... أو إلى التابعين ... فالأول: المرفوع، والثاني الموقوف، والثالث المقطوع). فائدة: قيد الشيخ الخبر هنا بالنبوي ليخرج الحديث القدسي، وهذا الكلام يستقيم على جهة ولا يستقيم على أخرى. الجهة التي يقصدها الشيخ أن الحديث القدسي أو الإلهي ينسب إلى الله تعالى فلا يقال أنه من السنة. والجهة الثانية التي لا يستقيم عليها إخراج الحديث القدسي من هذا التقسيم أن علم الحديث دراية يشمل الحديث القدسي. قال نور الدين عتر في "منهج النقد في علوم الحديث" (1/ 321): (وقد تعرض المحدثون لدراسة المتن من جوانبه العديدة الأخرى استكمالا لبحثهم في القبول والرد، واستيفاءًا لما يحتاج إليه الباحث. ولدى استقراء هذه الأنواع من علوم الحديث وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاث زمر هي:

المرفوع:

أولا: علوم المتن من حيث قائله، وهي أربع: الحديث القدسي، المرفوع، الموقوف، المقطوع ... ). وقد غلَّب الشيخ الجانب الأول إذ أن المراد بالخبر هنا السنة أو الحديث النبوي. المرفوع: قال الشيخ: (فالمرفوع: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة، أو حكماً فالمرفوع حقيقة: قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله (¬1)). لم يذكر الشيخ الوصف هنا، ولعله أدخله في المرفوع حكما؛ إذ الوصف هو ما ورد عن الصحابة من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان وصفا خَلْقيا أو خلُقيا، فالأنسب أن يلتحق بالمرفوع حكما. قال الشيخ في "شرح الأصول" (ص/459): (سمي مرفوعا لارتفاع رتبته بنسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن الصحابي رفعه إلى منتهاه وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالمرفوع حقيقة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله وإقراره، فمثال قوله: (إنما الأعمال بالنيات)، (لا يقبل الله صلاة بغير طهور) (من غشنا فليس منا)، ومثال فعله - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذا سجد فرج بين يديه)، و (كان يرفع يديه إذا كبر للصلاة)، ومثال إقراره: كإقراره الجارية على قولها إن الله في السماء، وكإقراره الرجل على ختم الصلاة بقل هو الله أحد). المرفوع حكما: قال ابن حجر في النخبة (ص/49): (ومثال المرفوع من القول حكما لا تصريحا: أن يقول الصحابي - الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات - ما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب؛ كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء ((عليهم الصلاة والسلام))، أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة. وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص. وإنما كان له حكم المرفوع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له، ومالا مجال للاجتهاد فيه ¬

_ (¬1) وقد سبق بيان دخول التقرير في الفعل.

يقتضي موقِفا للقائل به، ولا موقِف للصحابة إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة، فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني، وإذا كان كذلك؛ فله حكم ما لو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو مرفوع؛ سواء كان مما سمعه منه أو عنه بواسطة). وقد ذكر الشيخ في شرحه للبيقونية بعض الضوابط للمرفوع حكما فقال (ص/51): (والعلماء قالوا في الضابط في المرفوع حكماً، هو الذي ليس للاجتهاد، والرأي فيه مجال، وإنما يؤخذ هذا عن الشرع. مثل: ما إذا حدَّث الصحابي عن أخبار يوم القيامة، أو الأخبار الغيبية، فإننا نقول فيه: هذا مرفوع حكماً؛ لأنه ليس للاجتهاد فيه مجال. وكذلك لو أن الصحابي فعل عبادة لم ترد بها السنة، لقلنا هذا أيضاً مرفوع حكماً. ومثَّلوا لذلك بأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - صلى في صلاة الكسوف، في كل ركعة ثلاث ركوعات، مع أن السنة جاءت بركوعين في كل ركعة، وقالوا: هذا لا مجال للرأي فيه، ولا يمكن فيه اجتهادٌ، لأن عدد الركعات أمرٌ توقيفي يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة، فلولا أن عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - علماً بهذا ما صلى ثلاث ركوعات في ركعة واحدة، فهذا مرفوعٌ حكماً؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيه. وكذلك إذا قال الصحابي: من السنة كذا، فإنه مرفوع حكماً؛ لأن الصحابي إذا قال: من السنة، فإنما يعني به سنة الرسول صلى الله عليه وسلّم، كقول ابن عباس - رضي الله عنهما - حين قرأ الفاتحة في صلاة الجنازة وجهر بها، قال: لتعلموا أنها سنة، أو ليعلموا أنها سنة. وكما قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: من السنة إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعاً، فهذا وأمثاله يكون من المرفوع حكماً؛ لأن الصحابي لا يُضيف السنة إلا إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلّم (¬1). ¬

_ (¬1) وقد استدل الحافظ في النزهة لهذا القول فقال (ص/50): (وقد روى البخاري في صحيحه في حديث ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة. قال ابن شهاب: فقلت لسالم: أفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: وهل يعنون بذلك إلا سنته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فنقل سالم - وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة أنهم إذا أطلقوا السنة؛ لا يريدون بذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ... ).

وأيضاً لو أخبر أحدٌ من الصحابة عن الجنة والنار لقلنا: هذا مرفوعٌ حكماً، إلا أنه يُشترط في هذا النوع: ألا يكون الصحابي ممن عُرف بكثرة (¬1) الأخذ عن بني إسرائيل، فإن كان ممن عُرفوا بذلك، فإنه لا يُعتبر له حكم الرفع؛ لاحتمال أن يكون ما نقله عن بني إسرائيل، وهؤلاء كثيرون أمثال: عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فإنه أخذ جملة كبيرة عن كتب أهل الكتاب، في غزوة اليرموك، مما خلَّفه الروم أو غيرهم، لأن في هذا رخصة، فإذا عُرف الصحابي بأنه ينقل عن بني إسرائيل، فإنه لا يكون قوله مرفوعاً حكماً .... كذلك من المرفوع حكماً، إذا نسب الشيء إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فقيل: كانوا يفعلون كذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم، فهذا من المرفوع حكماً. وأمثلته كثيرة: مثل قول أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - نحرنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فرساً في المدينة وأكلناه. فهنا لم تصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلّم علم به، لأنها لو صرحت به لكان مرفوعاً صريحاً، فإذاً هو مرفوع حكماً. ووجه ذلك: أنه لو كان حراماً ما أقره الله تعالى، فإقرار الله عز وجل له يقتضي أن يكون حجة - وقد علمت فيما سبق - أن من العلماء من يقول: هذا ليس مرفوعاً حكماً، ولكنه حجة، وقال: إنه ليس مرفوعاً لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يعلم به، لكنه حجة لأن الله تعالى علم به فأقره (¬2). كذلك من المرفوع حكماً ما إذا قال الصحابي: روايةً. ¬

_ (¬1) والصواب أنه لا يشترط أن يكون من المكثرين ليرد حديثه، وإنما يكتفى أن يعرف بالأخذ عن أهل الكتاب، وعليه فمفهوم المخالفة من هذا القيد معطل، كنحو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً). (¬2) وقد سبق تفصيل القول في إقرار الله فراجعه.

تتمة: إذا خالف قول الصحابي القياس فهل يكون لقوله حكم الرفع؟

مثاله: اتصل السند إلى الصحابي فقال: عن أبي هريرة رواية: من فعل كذا وكذا، أو من قال كذا وكذا، فإن هذا من المرفوع حكماً، لأن قول الصحابي رواية، لم يصرح أنها رواية عن النبي صلى الله عليه وسلّم، لكن لما كان الغالب أن الصحابة يتلقون عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، جعله العلماء من المرفوع حكماً. كذلك من المرفوع حكماً: إذا قال التابعي عن الصحابي: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، مثل ما يقوله بعض التابعين: عن أبي هريرة يرفعه، أو عن أبي هريرة رفعه، أو عن أبي هريرة يبلغ به، كل هذا من المرفوع حكماً وذلك لأنه لم يصرح فيه بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلّم). وزاد الشيخ في "الأصل" (ص/61): (ومنه قول الصحابي: أمِرنا أو نهينا، أو نحوهما؛ كقول ابن عباس رضي الله عنهما: أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض. وقول أم عطية: نهينا عن إتباع الجنائز، ولم يعزم علينا). وقال ابن حجر في النزهة (ص/51): (ويلتحق بقولي: ((حكما))؛ ما ورد بصيغة الكناية في موضع الصيغ الصريحة بالنسبة إليه صلى الله عليه وآله وسلم؛ كقول التابعي عن الصحابي: يرفع الحديث، أو: يرويه، أو: ينميه، أو: رواية، أو: يبلغ به، أو: رواه. وقد يقتصرون على القول مع حذف القائل، ويريدون به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كقول ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: (تقاتلون قوما) الحديث. وفي كلام الخطيب أنه اصطلاح خاص بأهل البصرة ... ثم قال: (ومن ذلك: أن يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله ((تعالى)) أو لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو معصية؛ كقول عمار: ((من صام اليوم الذي يشك فيه؛ فقد عصى أبا القاسم ((صلى الله عليه وسلم)) فلهذا حكم الرفع أيضا؛ لأن الظاهر أن ذلك مما تلقاه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم). تتمة: إذا خالف قول الصحابي القياس فهل يكون لقوله حكم الرفع؟ وأما إن عارض القياس فالمسألة خلافية والظاهر عند أحمد حمل قولي الصحابي على التوقيف وتقديمه على القياس، وخالف أبو الخطاب وابن عقيل، وسيأتي مناقشة هذه المسألة - بإذن الله - في باب القياس.

فائدة:

فائدة: وقد عرض الشيخ في شرح الأصول (ص/460) لمسألة ما إذا أضيف إلى سنته من غير الصحابة، فقال: (ما أضيف إلى سنته ولو من غير الصحابة فهو مرفوع حكما، لكنه في الواقع إن كان من الصحابي فهو متصل، وإن كان ممن بعده فهو منقطع). وقد نقل ابن عبد البر (¬1) الاتفاق على أن ذلك في حكم المرفوع كالصحابي، وفي نقل هذا الاتفاق نظر. قال العراقي في التقييد والإيضاح (ص/68): (إذا قال التابعي من السنة كذا كقول عبيدالله بن عبد الله بن عتبة: السنة تكبير الإمام يوم الفطر ويوم الأضحى حين يجلس على المنبر قبل الخطبة تسع تكبيرات رواه البيهقي في سننه، فهل هو مرسل مرفوع، أو موقوف متصل؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي حكاهما النووي في شرح مسلم وشرح المهذب وشرح الوسيط قال والصحيح أنه موقوف انتهى. وحكى الداودى في شرح مختصر المزني أن الشافعي رضي الله عنه كان يرى في القديم أن ذلك مرفوع إذا صدر من الصحابي أو التابعي ثم رجع عنه لأنهم قد يطلقونه ويريدون سنة البلد انتهى. وما حكاه الداودي من رجوع الشافعي عن ذلك فيما إذا قاله الصحابي لم يوافق عليه فقد احتج به في مواضع من الجديد فيمكن أن يحمل قوله ثم رجع عنه أي عما إذا قاله التابعي والله أعلم). وظاهر اختيار ابن حجر التسوية بين الصحابي وغيره بشرط ألا يضيفه التابعي إلى غير النبي كسنة العمرين (¬2). تتمة: قال العراقي في التقييد والإيضاح (ص/67): (المسألة الأولى - فإذا قال التابعي: كنا نفعل فليس بمرفوع قطعا، وهل هو موقوف؟ لا يخلو إما أن يضيفه إلى زمن الصحابة، أم لا فيحتمل، فإن لم يضفه إلى زمنهم فليس بموقوف أيضا، بل هو ¬

_ (¬1) انظر النزهة (ص/50). (¬2) المرجع السابق نفس الموضع، وقال ملا على القارئ في شرح النخبة (ص/ 562): (أي أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وغُلِّب عمر لكونه أخفِّ وأخصر، ولتقابله بالقمرين لفظاً).

مقطوع، وإن أضافه إلى زمنهم فيحتمل أن يقال إنه موقوف؛ لأن الظاهر اطلاعهم على ذلك، وتقريرهم، ويحتمل أن يقال ليس بموقوف أيضا؛ لأن تقرير الصحابي قد لا ينسب إليه بخلاف تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أحد وجوه السنن (¬1) ... وأما المسألة الثانية - فإذا قال التابعي: أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا، فجزم أبو نصر بن الصباغ في كتاب العدة في أصول الفقه أنه مرسل، وذكر الغزالي في المستصفى فيه احتمالين من غير ترجيح هل يكون موقوفا، أو مرفوعا مرسلا ... ). وقال الشيخ العثيمين في "شرح الأصول" (ص/461): (وليس قول التابعي - أي أُمرنا - كذلك؛ لأنه يحتمل أنه أَمْرُ الخليفة. فلو قال التابعي: هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صار مرفوعا صريحا لكنه منقطع أو مرسل، فإذا قال التابعي: أمرنا رسول الله فهو مرسل). والمذهب التسوية بين الصحابي والتابعي في المسائل الثلاث إلا أن تقي الدين قد نسب للمذهب وجها في قول التابعي: (كانوا يفعلون) واختار أنه ليس بحجة. قال المرداوي في "التحبير" (5/ 2027): (قول التابعي: أمرنا، أو نهينا، أو من السنة}، كقول الصحابي ذلك عند أصحابنا، وأومأ إليه أحمد في ' من السنة ' لكنه كالمرسل. قال أبو الخطاب في ' التمهيد ': وأصل ذلك المراسيل وفيها روايتان. وقال ابن قاضي الجبل: لو قال تابعي: من السنة كذا، كأنه بمنزلة المرسل، حجة على إحدى الروايتين. وقال الشيخ: هما سواء، وإن كان قول الصحابي أولى. انتهى. وكذا قال الطوفي في ' من السنة ' فقال: وقول التابعي والصحابي في حال حياة الرسول وبعد موته سواء إلا أن الحجة في قول الصحابي أظهر. قوله: {وقوله: ' كانوا يفعلون ' كقول الصحابي ذلك. ذكره القاضي، وأبو الخطاب، وابن عقيل، وغيرهم، وخالف الشيخ} تقي الدين وقال: ليس بحجة؛ لأنه قد يعني من أدركه كقول إبراهيم النخعي: كانوا يفعلون. يريد أصحاب عبد الله بن مسعود، وأشار إلى أنه وجه لنا) (¬2). ¬

_ (¬1) وسيأتي الكلام في ذلك قريبا - بإذن الله -. (¬2) انظر: العدة (3/ 992)، المسودة (ص/265)، روضة الناظر (ص/92)، شرح مختصر الروضة (2/ 196).

الموقوف:

الموقوف: قال الشيخ: (الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع. وهو حجة على القول الراجح إلا أن يخالف نصاً أو قول صحابي آخر. والصحابي: من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك). تعريف الموقوف: قال ابن الصلاح في "مقدمته" (ص/ 46): (وهو ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم، ولا يتجاوز به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وتعقب الزركشي هذا التعريف في "نكته على مقدمة ابن الصلاح" (1/ 412) يقوله: (هذا التعريف غير صالح إذ ليس كل ما يروى عن الصحابي من قوله موقوفا فقد تظهر قرينة تقتضي رفعه لكونه مما لا مجال للاجتهاد فيه وأنه لم يقله إلا توقيفا)، وهذا التعقب جيد وله وجه، إذ أن ابن الصلاح جعل وقف القول علي الصحابة وعدم التجاوز به إلى النبي كونه مرويا عن الصحابة. ويستقيم الكلام ويزول الإشكال إن جعلنا عجزها شرطا لتحقق صدرها، بمعنى أننا نحكم بالوقف إذا لم يصح أن نتجاوز به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ حكم الرفع، فيكون التعريف: (ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها، فيوقف عليهم، ما لم يتجاوز به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). ومقصوده بقوله: (ونحوها) تقريرهم، وقد سبق بيان دخول التقرير في الفعل. وقوله: (ما يروى) يعني مما كان متصلا أم منقطعا. وقوله: (فيوقف) أي أنه لا يأخذ حكم الرفع، إلا أن هذا القيد فيه دور ويمكن الاستغناء عنه بقولنا: (ما لم يتجاوز به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وكذلك نستبدل قوله (أو) التشكيكية بالواو. فيكون التعريف المختار للموقوف: (ما يروى عن الصحابة رضي الله عنهم من

هل تقرير الصحابي حجة:

أقوالهم وأفعالهم (¬1)، ما لم يتجاوز به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وإن عرفت كذلك، فاعلم أن تعرف الشيخ جيد، إلا أن فيه إجمالا. فائدة: هل تقرير الصحابي حجة: ليس المقصود أن ذلك حجة ملزمة كالكتاب والسنة، وإنما المقصود أنه دلالة على ذهاب الصحابي إلى هذا القول - وسيأتي قريبا الكلام عن حجية قول الصحابي -. وسبق كلام العراقي في الخلاف في اعتبار تقرير الصحابي، وهذه المسألة فرع على مسألة هل ينسب لساكت قول، والكلام فيها معروف قال الشيخ عبدالله الفوزان في "تيسير الوصول إلى قواعد الأصول ومعاقد الفصول": (لا ينسب لساكت قول، ثم إنه لا يجزم بأن هذا الساكت بلغه ذلك القول، أو يكون بلغه وقام مانع من الاعتراض، إمَّا لهيبة القائل، أو لأنه لا يرى الإنكار في مسائل الاجتهاد، أو لكونه يخاف على نفسه، أو أنه أنكر ولم يبلغنا إنكاره، إلى غير ذلك من الاحتمالات الواردة في مثل هذه الحال. وقد جعل المصنف المسألة عامة في مجتهدي الأعصار، وبعض الأصوليين يخص ذلك بالصحابة رضي الله عنهم دون من بعدهم؛ لأن منصبهم الشريف لا يقتضي السكوت في موضع المخالفة). وهذا الأخير هو الراجح عندي، فروى الشيخان من عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) ونحن نشهد بالله أنهم وفوا بهذه البيعة وقالوا بالحق وصدعوا به ولم تأخذهم في الله لومة لائم ولم يكتموا شيئاً منه مخافة سوط ولا عصاً ولا أمير ولا وال كما هو معلوم لمن تأمله من هديهم وسيرتهم، وعليه فتقرير الصحابي قول له. ¬

_ (¬1) ويدخل التقرير في الفعل كما سبق بيان ذلك.

حجة قول الصحابي

حجة قول (¬1) الصحابي: تحرير محل النزاع: قول الصحابي إما أن يثبت له حكم الرفع أو لا؟ والأول سبق الكلام عنه، وكلامنا فيما لم يثبت له حكم الرفع - وهو لا يخلو من أن يشتهر، أو لا يشتهر، أو لا يعلم اشتهر أم لم يشتهر. - والأول وهو ما اشتهر من أقوالهم: إما أن يوافقه سائر الصحابة على ذلك، أو يخالفوه، أو لا ينقل لنا كلامهم في ذلك. - فإن اشتهر قوله ووافقه الصحابة فهو إجماع وهو حجة باتفاق. - وإن اشتهر فخالفوه، فهنا ثلاث مسائل: الأولى - أن قول بعضهم ليس حجة على بعض: قال الجويني: [واجمعوا أن قول الصحابي لا يكون حجة على الصحابي] (¬2). قال الآمدي: [اتفق الكل على أن مذهب الصحابة في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين، إماماً كان أو حاكماً أو مفتياً] (¬3). قال الشوكاني: [اعلم أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر. وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر والآمدي وابن الحاجب وغيرهم] (¬4). قال الشنقيطي: [قول الصحابي الذي ليس له حكم الرفع ليس بحجة على مجتهد آخر من الصحابة إجماعاً] (¬5). الثانية - ألا نخرج عن أقوالهم: قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يقول: (إذا كان في المسألة عن النبي صلى الله عليه ¬

_ (¬1) دأب العلماء على التبويب لهذه المسألة بالقول، وهي عندي أعم من ذلك فيدخل فيها كل ما نسب للصحابي، ويدخل فيها عندي الإقرار. (¬2) الاجتهاد (ص/121). (¬3) الإحكام (4/ 385). (¬4) إرشاد الفحول (ص/405). (¬5) المذكرة (ص/166).

وسلم حديث لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة ولا من بعدهم خلافه وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم نخرج عن أقاويلهم إلى قول من بعدهم) (¬1) - وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان - بإذن الله - في باب الإجماع -. الثالثة - أننا نرجح من بين أقوالهم ما ترجحه القرائن. قال تقي الدين في "مجموع الفتاوى" (20/ 14): (وان تنازعوا - أي الصحابة - رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء). - وأما أن يشتهر ولا يعلم له مخالف أو موافق فهذا هو الإجماع السكوتي، وهو حجة ظنية على الراجح من أقوال العلماء. قال تقي الدين في "مجموع الفتاوى" (20/ 14): (وأما أقوال الصحابة فان انتشرت ولم تنكر في زمانهم فهي حجة عند جماهير العلماء). وإن لم يشتهر قوله أولم يعلم هل اشتهر أم لا؟. فهذا هو موطن النزاع. وزاد البعض قيودا أخرى لتخصيص محل النزاع أكثر، وهذه الشروط متفق عليها: - ومنها: ألا يخالف الصحابي نصا من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، وأما إن عارض القياس فالمسألة خلافية والظاهر عند أحمد حمل قولي الصحابي على التوقيف وتقديمه على القياس، وخالف أبو الخطاب. قال الجيزاني في "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة" (ص/219): (قول الصحابي الذي اتفق الأئمة على الاحتجاج به لا يكون مخالفًا للقياس. أما إن كان مخالفًا للقياس: فالأكثر على أنه يحمل على التوقيف؛ لأنه لا يمكن أن يخالف الصحابي القياس باجتهاد من عنده. وقول الصحابي المخالف للقياس - عند هؤلاء - مقدم على القياس؛ لأنه نص ¬

_ (¬1) انظر المسودة (ص/248).

والنص مقدم على القياس، وقد تعارض دليلان والأخذ بأقوى الدليلين متعين. وذهب بعض الأئمة إلى أن قول الصحابي لا يكون حجة إذا خالف القياس؛ لأنه قد خالفه دليل شرعي وهو القياس، وهو لا يكون حجة إلا عند عدم المعارض). وسيأتي مناقشة هذه المسألة - بإذن الله - في باب القياس. - ومنها: ألا يكون ثبت عنه الرجوع عن قوله كما نقل في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - الرجوع عن قوله بعدم صحة صوم من أصبح جنبا، وهكذا. الأقوال في المسألة: اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال كثيرة تزيد على الستة أقوال، ولن استطرد في تتعبها - حتى لا نخرج عن المقصود - وسأكتفي بتحرير أقوال المذاهب الأربعة وخاصة قول الحنابلة، ثم أعرض أقوال الشيخ مع الترجيح: تحرير أقوال الأئمة الأربعة (¬1): المشهور عن الأحناف القول بحجية قول الصحابي مطلقا، والقول بحجية قول الصحابي قول مشهور عن مالك وقد نسبه إليه كثير من المالكية، وذكر القاضي عبد الوهاب المالكي أن الأصح الذي يقتضيه مذهب مالك أن قول الصحابي ليس بحجة. للإمام الشافعي رحمه الله قولان في المسألة: القول الأول: القديم ولا يختلف أصحابه أنه يرى الاحتجاج بقول الصحابي في قوله القديم. القول الثاني: الجديد وهو القول بعدم حجية قول الصحابي وقد اختلف في نسبة هذا القول للشافعي رحمه الله وأكثر أتباعه ينقلون عنه ذلك. للإمام أحمد رحمه الله قولان في المسألة: الأول: أن قوله ليس حجة وقد أومأ إلى هذا في عدة روايات منها: 1 - قال في رواية أبي داود: " ليس أحد إلا آخذ برأيه وأترك ما خلا النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬2). ¬

_ (¬1) بحث في ملتقى أهل الحديث مع بعض الزيادات. (¬2) مسائل أبي داود (ص 276) العدة لأبي يعلى (4/ 1183 (.

2 - ونقل المروذي عنه أنه قال في حد قاذف أم الولد: " ابن عمر يقول على قاذف أم الولد الحد (¬1) وأنا لا أجترئ على ذلك إنما هي أمة أحكامها أحكام الإماء " (¬2). 3 - نقل الميموني عنه أنه قيل له: إن قوماً يحتجون في النخل بفعل أبي بكر، فقال: هذا فعل ورأي من أبي بكر ليس هذا عن النبي- صلى الله عليه وسلم -" (¬3). 4 - ونقل عنه الميموني أنه سأله عن المسح على القلنسوة؟ فقال: ليس فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -شيء وهو قول أبي موسى (¬4) وأنا أتوقاه " (¬5). القول الثاني: أن قوله حجة: 1 - قال ابن هانئ في مسائله (2/ 165): (قلت لأبي عبدالله: حديث عن رسول الله مرسل برجال ثبت أحبُّ إليك، أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت؟ قال أبو عبدالله رحمه الله: عن الصحابة أعجب إليّ). 2 - روى أبو يعلى في الطبقات والخلال والحافظ ابن الجوزي في المناقب عن عبدوس بن مالك أبو محمد العطار قال سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة وترك المراء والجدال والخصومات في الدين). 3 - قال في رواية أبي طالب: في أموال المسلمين إذا أخذها الكفار ثم ظهر عليه المسلمون فأدركه صاحبه فهو أحق به، وإن أدركه وقد قسم فلا حق له كذا قال عمر ولو كان القياس كان له ولكن كذا قال عمر) (¬6). 4 - ونقل عنه أبو الحارث: (ترك الصلاة بين التراويح واحتج بما روي عن عبادة بن الصامت وأبي الدرداء فقيل له فعن سعيد والحسن أنهما كانا يريان الصلاة ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 439). (¬2) العدة لأبي يعلى (4/ 1183 - 1184). (¬3) العدة (4/ 1184). (¬4) أثر أبي موسى -رضي الله عنه - في المسح على القلنسوة ذكره ابن حزم في المحلى (8/ 84). (¬5) ونقل هذا أيضاً ابن هاني في مسائله (1/ 19). (¬6) العدة (4/ 1181) وينظر مسائل أبي داود (ص 243).

بين التراويح فقال: أقول لك أصحاب النبي وتقول التابعون) (¬1). والروايات عن أحمد في هذا القول كثيرة جداً وظاهرة. قول الشيخ: رجح الشيخ القول المشهور عند الحنابلة وغيرهم من أن قول الصحابي حجة فقال في "الأصل" (ص/61): (الموقوف: ما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع، وهو حجة على القول الراجح، إلا أن يخالف نصًّا أو قول صحابي آخر، فإن خالف نصًّا أخذ بالنص، وإن خالف قول صحابي آخر أخذ بالراجح يَا منهما). وخالف الشيخ ذلك فقال في "الشرح" (ص/464): (والتحقيق في هذه المسألة أن يقال: أما من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن قولهم حجة فلا ريب في أنه حجة كأبي بكر وعمر، وأما من سواهما فمن كان من العلماء - علماء الصحابة المشهورين بالفقه المعروفين بالإمامة - فإن إتباعهم أولى من إتباع الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة ومالك وأشباههم، - وقال أيضا: (فهؤلاء القول بأن قولهم حجة قول قوي جدا) -، وأما من كان دون ذلك كرجل أعرابي دخل المدينة وآمن بالرسول وعرف منه حكما، أو حكمين فإن قلنا: "قول هذا حجة" فهو قول فيه نظر قوي، وهو بعيد من الصواب ... وهذا خلاف ما مشينا عليه في الأصل). وحقيقة قول الشيخ هذا أنه مركب من عدة أقوال، فالقول بأن الحجة فيمن نص النبي على قولهم كأبي بكر وعمر، وظاهر عبارته أنه يخصصهما دون غيرهما من باقي الخلفاء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)، وهذا القول لم أقف على قائله، قال ابن قدامة في "الروضة" (ص/165): (ذهب آخرون إلى أن الحجة قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) وقريب منه ما نسبه العلائي في "إجمال الإصابة" للبعض ولم يسمهم فقال (ص/51): (القول باتفاق الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأنه هو الحجة دون غيره فقد نقله جماعة من المصنفين دون أن يسموا قائله). وأما تفريق الشيخ بين من اشتهر بالفقه وغيره فهو قول بعض الأحناف. ¬

_ (¬1) العدة (4/ 1182).

الأدلة والترجيح:

قال علاء الدين البخاري في " كشف الأسرار" (3/ 324):) وعن الشيخ أبي منصور عن أصحابنا أن تقليد الصحابي واجب إذا كان من أهل الفتوى ولم يوجد من أقرانه خلاف ذلك أما إذا خالفه غيره فلا يجب تقليد البعض ولكن وجب الترجيح بالدليل). وأما القول بعدم حجية قول الصحابي مطلقا فهو قول الأشاعرة وأكثر المتكلمين والمعتزلة، ونسب للشافعي في الجديد - على خلاف في صحة هذه النسبة له -، واختاره أبو الخطاب من أصحابنا. الأدلة والترجيح: ومحصل ما استدل به الشيخ لترجيح هذا القول: قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165]، وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء: 80]، وقوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7]، قال: (معلوم أننا لو اتبعنا الصحابة لكنا أطعنا غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا دليل على وجوبه، ولا على مشروعيته أيضا؛ ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - كغيرهم غير معصومين من الخطأ، تخفى عليهم الحجة، ويحصل منهم السهو والنسيان). وهذه الأدلة العامة التي ذكرها الشيخ من أن إتباع الصحابة طاعة لغير النبي لعدم عصمتهم من الخطأ - على فرض التسليم بشمولها لمحل النزاع - فهي تشمل من كان فقيها وغيره، إلا ما قد يقال أنها مخصصة بأبي بكر وعمر للنص على الإقتداء بهما، ويلحق بهما عثمان وعلي (¬1)، ويشكل على هذا أن الأمر بالإقتداء بهم ليس فيه الحصر بل إن ذكرهم إنما كان للاهتمام بهم. قال ابن قدامة في " روضة الناظر" (ص/ 166): (الصحابة أقرب إلى الصواب وأبعد من الخطأ لأنهم حضروا التنزيل وسمعوا كلام الرسول منه فهم أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد فيكون قولهم أولى كالعلماء مع العامة وما ذكروه من عدم العصمة ¬

_ (¬1) وذلك على فرض أن الإقتداء بهم يشمل ما كان راجعا لسنة النبي وما كان مبتدأ من عندهم على سبيل الاجتهاد، وهذا القول هو الراجح، وفي هذه المسألة أقوال كثيرة ذكرتها في كتابي في أصول البدع.

فلا يلزم فإن المجتهد غير معصوم ويلزم العامي تقليده وقول من خص الأئمة بالاحتجاج بقولهم لا يصح لما ذكرناه من عموم الدليل في غيرهم وتخصيصهم بالأمر بالاقتداء بهم في سيرتهم وعدلهم ويحتمل أنه ذكرهم لكونهم من جملة من يجب الاقتداء بهم). ويوضح هذا الأدلة التي تدل على الإقتداء بمطلق الصحابة، وأن الإقتداء بهم ومتابعتهم في أقوالهم وأفعالهم ليس خارجا عن طاعة الله ورسوله، وإليك طرفا من ذلك: ذكر الشيخ ترحيب الدوسري في رسالته: "حجية قول الصحابي عند السلف" أدلة عامة كثيرة من القرآن استدل بها على حجية قول الصحابة. ثم ذكر بعض الأحاديث، وهي أخص في محل النزاع، ومنها: 1 - ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من وجوه متعددة أنه قال:- (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم). فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن خير القرون قرنه مطلقاً. وذلك يقتضي تقديمهم في كل بابٍ من أبواب الخير. وإلا لو كانوا خيراً من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقاً. فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطأوا هم لزم أن يكون ذلك القرن خيراً منهم من ذلك الوجه لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن. ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة لأن من يقول قول الصحابي ليس بحجة يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولاً ولم يخالفه صحابي آخر وفات هذا الصواب الصحابة. ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء فكيف يكونون خيراً ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما أخطأوا فيه. ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها. 2 - ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري قال:- صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء فجلسنا. فخرج علينا. فقال:- (ما زلتم ههنا). فقلنا:- يا رسول الله صلينا معك

المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء. قال:- (أحسنتم وأصبتم) -ورفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء -. فقال:- (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي. فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون. وأصحابي أمنة لأمتي. فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون). ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه وكنسبة النجوم إلى السماء. ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم. - وأيضاً - فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم وحرزاً من الشر وأسبابه. فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنةً للصحابة وحرزاً لهم. وهذا من المحال. الآثار السلفية: 1 - ما قاله عمر بن الخطاب لطلحة بن عبيدالله - رضي الله عنهما- حينما رآه لابساً ثوباً مصبوغاً وهو محرم:- (إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس ... ) (¬1). 2 - وقال عبد ربه: كنا عند الحسن في مجلس فذكر كلاما وذكر أصحاب النبي فقال: (أولئك أصحاب محمد، كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه، وإقامة دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم كانوا ورب الكعبة على الهدى المستقيم) (¬2). 3 - قول إبراهيم النخعي:- لو بلغني أنهم - يعنى الصحابة - لم يجاوزوا بالوضوء ظفراً لما جاوزته به. 4 - وقوله - أيضاً -: لو أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مسحوا على ظفر لما غسلته التماس الفضل في إتباعهم. ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ وغيره بإسناد صحيح. (¬2) ونقل نحوه عن ابن مسعود وابن عمر بأسانيد ضعيفة وقواهما محقق جامع بيان العلم (2/ 948) أثر رقم (1810).

تعريف الصحابي:

5 - قول الشعبي:- ما حدثوك به عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخذه. وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحش. - وقد حكى العلائي إجماع التابعين على الاحتجاج بقول الصحابي فقال: (إن التابعين أجمعوا على اتباع الصحابة فيما ورد عنهم، والأخذ بقولهم، والفتيا به، من غير نكير من أحد. وكانوا من أهل الاجتهاد أيضاً) (¬1). وبعد فالراجح عندي هو أن قول الصحابي حجة. تعريف الصحابي: قال الشيخ: (والصحابي: من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك). قال الشيخ في "الشرح" (ص/469): ((وقوله: (من اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -): سواء رآه أم لم يره، وسواء سمعه أم لم يسمعه، فلو قدر أن رجلا أعمى أصم اجتمع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على ذلك فهو صحابي وإن لم يره ويسمعه، ولا يشترط أن يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلو حضر مجلسا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو صحابي (¬2). وقوله: (اجتمع بالنبي): هذا قيد لابد منه، فهو وصف أي أن يكون مجتمعًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حال كونه نبيا، فإن اجتمع به قبل أن يرسل مؤمنا بأنه ¬

_ (¬1) من أراد الاستزادة من الأدلة على ذلك فلينظر إعلام الموقعين (4/ 111)، وما بعدها، فقد ساق فيه بضعاً وأربعين وجهاً على وجوب إتباع الصحابة، والموافقات للشاطبي (4/ 74: 80)، ورسالة: حجية قول الصحابي عند السلف للدكتور ترحيب الدوسري، وكتاب "الأدلة المختلف فيها" للدكتور عبدالحميد أبو المكارم (ص/279: 316)، وغيرهم. (¬2) قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (2/ 470): (ودخل في قولنا: "من لقي" من جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مميز فحنكه النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن الحارث بن نوفل، أو تفل في فيه كمحمود بن الربيع، بل مجه بالماء كما في البخاري، وهو ابن خمس سنين أو أربع. أو مسح وجهه، كعبد الله بن ثعلبة بن صعير- بالصاد وفتح العين المهملتين - ونحو ذلك. فهؤلاء صحابة، وإن اختار جماعة خلاف ذلك كما هو ظاهر كلام ابن معين وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم وأبي داود وابن عبد البر، وكأنهم نفوا الصحبة المؤكدة).

سيبعث ثم لم يره بعد أن بعث فليس بصحابي، فلابد أن يكون مجتمعًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حال نبوته. س: وهل يشمل من اجتمع به بعد موته وقبل دفنه - يعني حضر وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ج: في هذا خلاف: فمنهم من يقول: إنه إذا حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته وقبل دفنه فهو صحابي؛ لأن نبوته - صلى الله عليه وسلم - لا تنقطع بموته. ومنهم من قال: ليس بصحابي؛ لأنه اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ميت. وانتفاء الصحبة في هذه الحال واضح جدًا بخلاف ما لو اجتمع به وهو حي وهذا هو الأقرب أنه لا بد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - حيًا (¬1). س: وهل يشمل ذلك من اجتمع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في غير الأرض أو في الأرض على وجه كونه آية مثل عيسى ابن مريم فإنه اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعيسى ابن مريم حي بلا شك؛ لأنه سوف ينزل في آخر الزمان فهل نقول إن عيسى صحابي؟ ج: نقول: هو في رتبة أفضل من الصحبة ولهذا أجمع الصحابة على أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ولو كان عيسى صحابيًا لكان خير هذه الأمة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام لكن لما كان عيسى في وصف أعلى من وصف الصحبة نقول: هو نبي وهو أعلى من هذا بل هو من أولي العزم أي: في أعلى مراتب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، فمن تحذلق من المتأخرين وقال إن في هذه الأمة من هو أفضل من أبي بكرِ وعمر وهو: عيسى ابن مريم! فنقول له: ¬

_ (¬1) قال ابن النجار (2/ 466): (وقولنا: "حيا" احتراز ممن رآه بعد موته كأبي ذؤيب الشاعر خالد بن خويلد الهذلي؛ لأنه لما أسلم وأخبر بمرض النبي صلى الله عليه وسلم: سافر ليراه، فوجده ميتا مسجى فحضر الصلاة عليه والدفن، فلم يعد صحابيا، وعده ابن منده في الصحابة، وقال: مات على الحنيفية. وفي "شرح التدريب"، ومن عده من الصحابة فمراده الصحبة الحكمية، دون الاصطلاحية.

أولاً: عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - نبي، والنبوة أفضل من الصحبة. والثاني: أنه لم يجتمع به في حال تشبه اجتماع الناس به في الدنيا، بل اجتمع به في حال يعد آية سواءً في السماء أو في بيت المقدس، ولذلك لم يخطر في بال الصحابة - رضي الله عنهم - أنه من الصحابة فكانوا يقولون: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر. ولابد أيضًا أن يكون مؤمنًا به (¬1) فإن كان مؤمنًا بغيره كما لو اجتمع به نصراني يؤمن بالأديان السابقة. لكن لم يؤمن بالرسول إلا بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم -فلا يكون صحابيًا. وقوله: (ومات على ذلك): فإن مات على الردة فليس بصحابي؛ لأن الردة تبطلِ جميع الأعمال، قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان: 23] والردة تمحو حتى الإسلام فضلاً عن الصحبة، فإن ارتد ثم عاد إلى الإِسلام فإن الأصح من أقوال أهل العلم أن صحبته تعود (¬2)؛ لأن الله تعالى اشترط لبطلان العمل بالردة أن يموت الإنسان على ردته فقال الله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) [البقرة: 217]). ¬

_ (¬1) وقول الشيخ: (مؤمنا) قيد هام، قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (2/ 185): (وإنما شرطنا مع ذلك الإيمان؛ لأن الكفار الذين صحبوه ورأوه عليه السلام، لا يسمون صحابة بالاتفاق؛ فدل على أن الإيمان شرط في إطلاق اسم الصحابي). وقال ابن النجار في "شرح الكوكب" (2/ 467): (وقولنا "مسلما" ليخرج من رآه واجتمع به قبل النبوة ولم يره بعد ذلك، كما في زيد بن عمرو بن نفيل. فإنه مات قبل المبعث. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يبعث أمة وحده" كما رواه النسائي، وليخرج أيضا من رآه وهو كافر، ثم أسلم بعد موته). (¬2) قال الحافظ في "النزهة" (ص/52): (وقولي: ((ولو تخللت ردة))؛ أي: بين لقيه له مؤمنا به وبين موته على الإسلام؛ فإن اسم الصحبة باق له، سواء أرجع إلى الإسلام في حياته صلى الله عليه وآله وسلم أو بعده، وسواء ألقيه ثانيا أم لا!. وقولي: ((في الأصح))؛ إشارة إلى الخلاف في المسألة. ويدل على رجحان الأول قصة الأشعث بن قيس؛ فإنه كان ممن ارتد، وأتي به إلى أبي بكر الصديق أسيرا، فعاد إلى الإسلام، فقبل منه ذلك، وزوجه أخته، ولم يتخلف أحد عن ذكره في الصحابة ولا عن تخريج أحاديثه في المسانيد وغيرها.

فوائد:

قيد آخر: وزاد ابن النجار قيدا آخر في التعريف فقال في "شرح الكوكب" (2/ 471): ((قال في الأصل) أي قال صاحب التحرير في التحرير (ولو جنيا في الأظهر) أي ولو كان من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مسلما جنيا في الأظهر من قولي العلماء ليدخل الجن الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم من نصيبين وأسلموا، وهم تسعة أو سبعة من اليهود بدليل قوله تعالى: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) [الأحقاف: 30] وذكر في أسمائهم: شاص، وماص، وناشى، ومنشى، والأحقب، وزوبعة، وسرق، وعمر، وجابر. وقد استشكل ابن الأثير في كتابه " أسد الغابة " قول من ذكرهم من الصحابة. فإن بعضهم لم يذكرهم في الصحابة، وبعضهم ذكرهم قال في شرح التحرير قلت: الأولى أنهم من الصحابة. فإنهم لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به وأسلموا، وذهبوا إلى قومهم منذرين). وعليه فيكون التعريف بعد إضافة هذا قيد أن قد يكون جنيا: (من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ولو جنيا مؤمناً به ومات على ذلك) (¬1). فوائد: الأولى - وافق الشيخ في الاكتفاء بالرؤية مذهب الحنابلة: قال ابن بدران في "المدخل" (ص/209): (والصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه يقظة حيا عند الإمام أحمد وأصحابه والبخاري والأكثر مسلما ولو ارتد ثم أسلم ولم يره ومات عليه ولو جنيا في الأظهر). قال القاضي في "العدة" (3/ 987): (ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن اسم الصحابي مطلق على من رأى النبي عليه السلام، وإن لم يختص به اختصاص ¬

_ (¬1) وللشيخ محمد السماحي في "المنهج الحديث في علوم الحديث" قسم الرواة (ص/17) بحث جيد في تعريف الصحابي فعرفه بقوله: (من لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته في عالم الشهادة مسلما ومات على إسلامه)، فزاد قيدين، وهما: في حياته، وفي عالم الشهادة، وأخرج بالأول من رآه مناما، ومن رآه بعد موته قبل الدفن، وبالثاني من رآه من النبيين ليلة الإسراء. ولا أرى كبير فائدة من إضافة هذين القيدين، ويغني عنهما قيد اللقى مع باقي القيود المذكورة.

الثانية - هذا التعريف مخالف لطريقة جمهور الأصوليين:

المصحوب، ولا روى عنه الحديث؛ لأنه قال في رواية عبدوس بن مالك العطار: أفضل الناس بعد أهل بدر القرن الذي بعث فيهم، كل من صحبه سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه، فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، فقد أطلق اسم الصحبة على من رآه، وإن لم يختص به) (¬1). الثانية - هذا التعريف مخالف لطريقة جمهور الأصوليين: وهذا التعريف الذي ذكره الشيخ مشى فيه على طريقة المحدثين كالبخاري وغيره، وقد قال به بعض الأصوليين كابن حزم، والآمدي، والشوكاني، وغيرهم وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وأصحابه (¬2). والطريقة الثانية هي لجمهور الأصوليين، فالصحابي عندهم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به مدة تكفي عرفا لوصفه بالصحبة، ومات على الإسلام. قال الشيخ عياض السلمي في " أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله" (ص/184): (والسر في اختلافهم في المراد بالصحابي أن المحدثين يعنون الصحابي الراوي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مؤمن به ومات على إسلامه وجب قبول روايته والحكم بصحة سماعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد وجدوا بالاستقراء والتتبع أن الذين ثبت لهم ذلك كلهم عدول، فقرروا أنه لا حاجة للبحث في عدالتهم، وأن روايتهم مقبولة، سواء أكانوا ممن لازموا النبي صلى الله عليه وسلم أو من الأعراب الذين رأوه مرة واحدة بعد إسلامهم. وأما الأصوليون فإنهم يتكلمون عن الصحابي الذي له اجتهاد في الأحكام الشرعية وله فقه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويمكن تقليده وإتباع رأيه، وهذا ¬

_ (¬1) انظر: الواضح (5/ 59)، المسودة (ص/263)، الروضة (ص/119)، شرح مختصر الروضة (ص/2/ 185)، التحبير (4/ 1996)، شرح الكوكب المنير (2/ 472). (¬2) وللشيخ عبد الله السعد في مقدمة رسالة "الإبانة لما للصحابة من المنزلة والمكانة" للشيخ حمد بن عبدالله بن إبراهيم الحميدي، فصلا في بيان حد الصحبة انتصر فيها لهذا القول، ورد على شبهات من قال باشتراط طول الملازمة في الصحبة في مبحث فريد، ولولا خشية الإطالة لذكرت نص كلامه.

الثالثة - قطع الملازمة بين تعريف الأصوليين للصحابي وحجية قوله:

لا يحصل إلا لمن لازم النبي صلى الله عليه وسلم فترة طويلة وأخذ عنه وأفاد من علمه وخلقه وسيرته، وأما من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة فإنه لا يكتسب بهذه الرؤية فقها وعلما يجعله من أهل الاجتهاد في الشريعة، ولذلك لا يمكن أن يقال إن رأيه حجة، وهم إنما عرفوا الصحابي الذي وقع الخلاف في حجية قوله). الثالثة - قطع الملازمة بين تعريف الأصوليين للصحابي وحجية قوله: وليس بلازم لكل من عرف الصحابي على طريقة الأصوليين أن يكون قوله حجة فالغزالي عرفة على طريقة الأصوليين ثم رجح أن قول الصحابي ليس بحجة. والراجح تعريف المحدثين وذلك بدليل: ما رواه الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري ففي رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقولون فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ( ورواية مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون نعم فيفتح لهم). قال تقي الدين في "مجموع الفتاوي" (20/ 298): (وحديث أبى سعيد هذا يدل على أن صاحب النبي هو من رآه مؤمنا به وإن قلت صحبته، كما قد نص على ذلك الأئمة أحمد وغيره، وقال مالك: من صحب رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم

فائدتان:

- سنة أو شهرا أو يوما أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك وذلك أن لفظ الصحبة جنس تحته أنواع يقال صحبه شهرا وساعة وقد بين في هذا الحديث أن حكم الصحبة يتعلق بمن رآه مؤمنا به فانه لابد من هذا). وبدليل ما رواه الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - مرفوعا: (طوبى لمن رآني وطوبى لمن رأى من رآني ولمن رأى من رأى من رآني وآمن بي) (¬1) ويستفاد منه أن مدار ثبوت هذا الفضل للقرون الثلاثة الفاضلة من الصحابة والتابعين وأتباعهم على الرؤية والإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. فائدتان: الأولى - هل يشترط أن يكون من لقى النبي مميزا حتى يحكم له بالصحبة؟ الأصل أنه لا تصح رؤية إلا من مميز يستطيع التمييز بين الأشياء المرئية، ولا تكتمل حاسة البصر عند الطفل وتمييز الأشياء إلا قرابة سن الخمس سنوات، وعليه فلا يصح أن ننسب الرؤية لأمثال محمد بن أبي بكر المولود قبل الوفاة النبوية بثلاثة أشهر وأيام، وهذا وإن لم تصح نسبة الرؤية إليه ولكن صدق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه ويكون صحابيا من ناحية الاصطلاح من هذه الحيثية خاصة؛ لشرف رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - له. وعليه فالراجح أن من مات عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة وهو دون سن التمييز أنه يثبت له حكم الصحبة اصطلاحا. قال المرداوي في " التحبير" (4/ 2000): (دخل في قولنا: من لقي، من جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غير مميز فحنكه: كعبد الله بن الحارث بن نوفل، أو تفل في فيه: كمحمود بن الربيع، بل مجه بالماء كما في البخاري، وهو ابن خمس سنين أو أربع أو مسح وجهه: كعبد الله بن ثعلبة بن صعير - بالصاد وفتح العين المهملتين - ونحو ذلك. فهؤلاء صحابة وإن اختار جماعة خلاف ذلك، كما هو ظاهر كلام ابن معين، وأبي زرعة الرازي، وأبي حاتم، وأبي داود، وابن عبد البر، وغيرهم، وكأنهم نفوا الصحبة المؤكدة) (¬2). ¬

_ (¬1) حسنه الشيخ الألباني - رحمه الله - وانظر "الصحيحة" (1254). (¬2) انظر شرح الكوكب (2/ 470).

الثانية - حكم حديثهم:

قال السخاوي في " فتح المغيث" (3/ 95): (وأما الصغير غير المميز كعبدالله بن الحارث بن نوفل وعبدالله بن أبي طلحة الأنصاري وغيرهما ممن حنكه النبي ودعا له ومحمد بن أبي بكر الصديق المولود قبل الوفاة النبوية بثلاثة أشهر وأيام فهو وإن لم تصح نسبة الرؤية إليه صدق أن النبي رآه ويكون صحابيا من هذه الحيثية خاصة وعليه مشى غير واحد ممن صنف في الصحابة خلافا للسفاقسي شارح البخاري فإنه قال في حديث عبدالله بن ثعلبة بن صغير وكان النبي قد مسح وجهه عام الفتح ما نصه إن كان عبدالله هذا عقل ذلك أو أعقل عنه كلمة كانت له صحبة وإلا كانت له فضيلة وهو في الطبقة الأولى من التابعين وإليه ذهب العلائي حيث قال في بعضهم لا صحبة له بل ولا رؤية وحديثه مرسل وهو وإن سلم له الحكم لحديثهم بالإرسال فإنهم من حيث الرواية أتباع فهو فيما نفاه مخالف للجمهور). الثانية - حكم حديثهم: ورواية هؤلاء وإن ثبت لهم منزلة الصحبة حكما إلا أن روايتهم من قبيل المرسل، وهي بين مراسيل الصحابة، ومراسيل التابعين. قال الحافظ في " فتح الباري" (7/ 3): (هل يشترط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه أو يكتفي بمجرد حصول الرؤية محل نظر وعمل من صنف في الصحابة يدل على الثاني فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق وإنما ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام كما ثبت في الصحيح أن أمه أسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة وذلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الإسفرايني ومن وافقه على رد المراسيل مطلقا حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء لان أحاديثهم لا من قبيل مراسيل كبار التابعين ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يلغز به فيقال صحابي حديثه مرسل لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة). قال السخاوي في "فتح المغيث" (1/ 154): (أما من أحضر إلى النبي غير مميز كعبيدالله بن عدي ابن الخيار فإن أباه قتل يوم بدر كافرا على ما قاله ابن ماكولا وعد ابن سعد أباه في مسلمة الفتح وكمحمد بن أبي بكر رضي الله عنهما فإنه ولد عام

المقطوع:

حجة الوداع فهذا مرسل لكن لا يقال إنه مقبول كمراسيل الصحابة لأن رواية الصحابة إما أن تكون عن النبي أو عن صحابي آخر والكل مقبول واحتمال كون الصحابي الذي أدرك وسمع يروي عن التابعين بعيدا جدا بخلاف مراسيل هؤلاء فإنها عن التابعين بكثرة فقوى احتمال أن يكون الساقط غير الصحابي وجاء احتمال كونه غير ثقة) (¬1). وبعد .. فالمذهب فيه روايتان في قبول الحديث المرسل، ومرسل هؤلاء يتميز على مرسل التابعين بأنهم عدول، وطبقتهم فوق طبقة كبار التابعين، وعليه فالراجح عندي قبول هذا النوع بشرط أن يعتضد مرسلهم بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسندا كان أو مرسلا؛ ليترجح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر. المقطوع: تعريف المقطوع: قال الشيخ - رحمه الله -: (المقطوع: ما أضيف إلى التابعي فمن بعده). قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (2/ 224): (المقطوع وهو: ما ينتهي إلى التابعي قولا وفعلا ومن دون التابعي كذلك من أتباع التابعين فمن بعدهم فيه - أي التسمية - مثله - أي (مثل) ما ينتهي إلى التابعي). وإقرار التابعي فمن دونه ليس بحجة. تعريف التابعي: قال الشيخ - رحمه الله -: (التابعي: من اجتمع بالصحابي مؤمناً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ومات على ذلك). وقال في "الشرح" (ص/471): (وظاهر كلام العلماء أنه لا تشترط طول الصحبة بين التابعي والصحابي، وأنه لو جلس معه ساعةً أو ساعتين ثم فارقه ولم يره بعد ذلك فهو تابعي). وتعريف الشيخ واضح في اشتراطه الاجتماع دون الصحبة، وأن يكون مؤمنا، وهو موافق لتعريف الحافظ ابن حجر. ¬

_ (¬1) انظر: تدريب الراوي (1/ 196)، اليواقيت والدرر (1/ 506)، توجيه النظر إلى أصول الأثر (2/ 561).

فقد عرف الصحابي في النزهة (ص/ 51) بقوله: (من لقي النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مؤمنا به ومات على الإسلام، ولو تخللت ردة؛ في الأصح. والمراد باللقاء ما هو أعم من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر وإن لم يكالمه، وتدخل فيه رؤية أحدهما الآخر، سواء كان ذلك بنفسه أو بغيره). ثم قال في تعريف التابعي (ص/52): (التابعي: وهو من لقي الصحابي كذلك، وهذا متعلق باللقي، وما ذكر معه؛ إلا قيد الإيمان به؛ فذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا هو المختار؛ خلافا لمن اشترط في التابعي طول الملازمة، أو صحبة السماع، أو التمييز). ومقصود الحافظ أن الإيمان خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يعني لا يصح أن نقول في التعريف: (لقى الصحابي مؤمنا به) بل نقول مؤمنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فالإيمان خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد فهم البعض أن معنى عبارته أنه لا يشترط في التابعي أن يكون مسلما وقت اجتماعه بالصحابي. قال المناوي في "اليواقيت والدرر" (2/ 217 (: (التابعي، وهو: من لقى الصحابي كذلك، وهذا متعلق باللقي. وما ذكر معه إلا قيد الإيمان به فذلك خاص بالنبي. وقال الكمال ابن أبي شريف: قوله خاص بالنبي أي فإنه لا يشترط في التابعي أن يكون وقت تحمله عن الصحابي مؤمنا، بل لو كان كافرا ثم أسلم بعد موت الصحابي وروى سميناه تابعيا وقبلناه. انتهى). وهذا خطأ في فهم عبارة الحافظ وعبارته لا تحتمله، فلو أراد الحافظ هذا المعنى لقال: قيد الإيمان خاص بتعريف الصحابي (¬1). وقول أبو سعيد - رضي الله عنه - في الحديث الذي رواه مسلم: (فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون نعم فيفتح لهم) يدل على الاكتفاء بمجرد رؤية الصحابي ليحكم له بأنه تابعي. وقال العراقي في " التقييد والإيضاح" (1/ 317): (الراجح الذي عليه العمل قول الحاكم وغيره في الاكتفاء بمجرد الرؤية دون اشتراط الصحبة وعليه يدل عمل أئمة ¬

_ (¬1) انظر شرح علي القاري للنزهة (ص/595)، حاشية لقط الدرر (ص/166).

الحديث مسلم بن الحجاج وأبى حاتم بن حبان وأبى عبد الله الحاكم وعبد الغنى بن سعيد وغيرهم وقد ذكر مسلم بن الحجاج في كتاب الطبقات سليمان بن مهران الأعمش في طبقة التابعين وكذلك ذكره ابن حبان فيهم، وقال إنما أخرجناه في هذه الطبقة لأن له لقيا وحفظا رأى أنس بن مالك وإن لم يصح له سماع المسند عن أنس وقال على بن المدينى لم يسمع الأعمش من أنس إنما رآه رؤية بمكة يصلى خلف المقام فأما طرق الأعمش عن أنس فإنما يرويها عن يزيد الرقاشى عن أنس، وقال يحيى بن معين كل ما روى الأعمش عن أنس فهو مرسل وقد أنكر على أحمد بن عبد الجبار العطاردى حديثه عن فضيل عن الأعمش قال رأيت أنسا بال فغسل ذكره غسلا شديدا ثم توضأ ومسح على خفيه فصلى بنا وحدثنا في بيته وقال الترمذي لم يسمع من أحد من الصحابة وأما رواية الأعمش عن عبد الله بن أبى أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الخوارج كلاب النار فهو مرسل فقد قال أبو حاتم الرازى أنه لم يسمع من ابن أبى أوفى وهذا الحديث وإن رواه إسحق الأزرق عنه هكذا كما رواه ابن ماجه في سننه فقد رواه عبيد الله بن نمير عن الأعمش عن الحسين بن واقد عن أبى غالب عن أبى أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس للأعمش رواية عن أحد من الصحابة في شيء من الكتب الستة إلا هذا الحديث الواحد عند ابن ماجه وكذلك عد عبدالغنى بن سعيد الأزدى الأعمش في التابعين في جزء له جمع فيه من روى من التابعين عن عمرو بن شعيب وكذلك عد فيهم أيضا يحيى بن أبى كثير لكونه لقى أنسا وقد قال أبو حاتم الرازى أنه لم يدرك أحدا من الصحابة إلا أنس بن مالك فانه رآه رؤية ولم يسمع منه كذا قال البخارى وأبو زرعة قال أبو زرعة وحديثه عن أنس مرسل. قلت في صحيح مسلم روايته عن أبى أمامة عن عمرو بن عنبسة لحديث إسلامه ولكن مسلما قرن رواية يحيى بن أبى كثير مع رواية شداد أبى عمار وكان اعتماد مسلم على رواية شداد فقط فانه قال فيه قال عكرمة ولقى شداد أبا أمامة فذكره وسكت عن رواية يحيى بن أبى كثير عن أبى أمامة وهى بصيغة العنعنة والله أعلم. وذكر عبد الغنى بن سعيد أيضا جرير بن حازم في التابعين لكونه رأى أنسا، وقد روى عن جرير أنه قال مات أنس ولى خمس سنين وذكر عبد الغنى بن سعيد أيضا

موسى بن أبى عائشة في التابعين لكونه لقى عمرو بن حريث. وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث في النوع الرابع عشر هم طبقات خمس عشرة طبقة آخرهم من لقى أنس بن مالك من أهل البصرة ومن لقى عبد الله من أبى أوفى من أهل الكوفى ومن لقى السائب بن يزيد من أهل المدينة إلى آخر كلامه. ففي كلام هؤلاء الأئمة الاكتفاء في التابعي بمجرد رؤية الصحابي ولقيه له دون اشتراط الصحبة ... ). قال الطرهوني: (ولعلَّ اعتبارَ الرؤيةِ قولٌ أقوى وأرجح، للحديث الذي ذكرناه في تعريف الصحابي، وهو حديث الغزو السابق الذي فيه: (يغزو فئامٌ من الناس ... فيقال لهم: هل فيكم من رأى من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، فهذا الحديث العظيم اعتُبِرَ فيه رؤيةُ من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في الحقيقة مرتبطٌ بشرف رؤيتِه - صلى الله عليه وسلم - لأن من رآه شرُفَ برؤيته؛ وكذلك من رأى من رآه فقد شرف برؤية من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاعتبار الرؤية لعله أقوى وأرجح). فرع - هل يشترط أن يكون من لقى الصحابي مميزا حتى يحكم له بأنه تابعي؟ اشترط ذلك ابن حبان فقال في كتاب "الثقات" (6/ 270) في ترجمة خلف بن خليفة: (قال خلف بن خليفة: كنت في حجر أبى إذ مر رجل على بغل أو بغلة فقيل هذا عمرو بن حريث صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو حاتم رضي الله عنه لم يدخل خلف بن خليفة في التابعين وإن كان له رؤية من الصحابة لأنه رأى عمرو بن حريث وهو صبي صغير ولم يحفظ عنه شيئا فان قال قائل: فلم أدخلت الأعمش في التابعين وإنما له رؤية دون رواية كما لخلف بن خليفة سواء؟ يقال له: إن الأعمش رأى أنسا بواسط يخطب والأعمش بالغ يعقل وحفظ منه خطبته ورآه بمكة يصلى عند المقام وحفظ عنه أحرفا حكاها فليس حكم البالغ إذا رأى وحفظ كحكم غير البالغ إذا رأى ولم يحفظ). وقد سبق في مبحث تعريف الصحابي إلحاق محمد بن أبي بكر المولود قبل الوفاة النبوية بثلاثة أشهر وأيام برتبة الصحابة اصطلاحا، وهو وإن لم تصح نسبة الرؤية إليه ولكن صدق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه ويكون صحابيا من هذه

أقسام الخبر باعتبار طرقه:

الحيثية خاصة، ومثل هذا الحكم لا يصح تعديته إلى غيره صلى الله عليه وسلم لعدم صحة قياس النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره. وعليه فكلام ابن حبان له وجه. والراجح في حديث هذه الطبقة من غير المميزين لرؤية الصحابي أنه من قبيل المعضل على أحسن أحواله سواء ألحقناهم بطبقة التابعين حكما أم بتابعيهم حقيقة. وبناء على ما تقدم يكون تعريف التابعي: (من اجتمع بالصحابي مميزا مؤمناً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على ذلك). أقسام الخبر باعتبار طرقه: 1 - المتواتر: قال الشيخ: (ينقسم الخبر باعتبار طرقه إلى متواتر وآحاد: فالمتواتر: ما رواه جماعة كثيرون يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب وأسندوه إلى شيء محسوس). وقال في "الشرح" (ص/474): (المتواتر لا بد فيه من اجتماع ثلاثة شروط: الأول: أن يرويه جماعة كثيرة. والثاني: يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب. والثالث: أن يسندوه إلى أمر محسوس، فلو جاءنا رجل ثقة ثقة ثقة بخبر عن ألف واحد فلا نقول إن خبره متواتر؛ لأن المصدر واحد فالتواتر لابد من تتابعه). واعلم أن هذه الشروط ينقصها شرط وثمرة. قال ابن حجر في "النزهة" (ص/17): (فإذا جمع هذه الشروط الأربعة - وهي عدد كثير، أحالت العادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستند انتهائهم الحس، وانضاف إلى ذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه، فهذا هو المتواتر). اعلم أن حصول العلم هو ثمرة لتحقق الشروط الأربعة وليس هو شرطا زائداً عليها. واعلم أيضا أنهما متلازمان، بمعنى أن حصول العلم تابع ولازم لتحقق الشروط الأربعة، وهو أيضا علامة عليها بمعنى أنه متى حدث هذا العلم اليقيني عند السامع علمنا لزوم تحقق هذه الشروط، لا أنا بتحقق هذه الشروط نستدل على حصول

2 - الآحاد:

العلم فتنبه!. وعليه فتعريف المتواتر (ما رواه جماعة كثيرون يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه وأسندوه إلى شيء محسوس). 2 - الآحاد: أولا - الصحيح: قال الشيخ: (والآحاد: ما سوى المتواتر وهو من حيث الرتبة ثلاثة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف. فالصحيح: ما نقله عدل تام الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة القادحة). سوف يأتي شرح هذا التعريف عند الكلام على الحديث الحسن إلا أن الشيخ قيد العلة هنا بكونها قادحة، وكذا في الحديث الحسن، وهذا يجري على طريقة الفقهاء، أما المحدثون فلا يقيدون العلة بكونها قادحة بل يعلون بمطلق العلة، وعليه، فالأرجح على طريقة المحدثين حذف هذا القيد من تعريف الحديث الصحيح، والحسن، فيكون تعريف الحديث الصحيح: ما أتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه بغير شذوذ ولا علة. قال ابن حجر في "النكت" (1/ 235): (من العلل ما يجري على أصول الفقهاء وهي العلل القادحة. وأما العلل التي يعلل بها كثير من المحدثين ولا تكون قادحة فكثيرة. منها: أن يروي العدل الضابط عن تابعي مثلاً عن صحابي حديثاً فيرويه عدل ضابط غير مساو له في عدالته وضبطه وغير ذلك من الصفات العلية عن ذلك التابعي بعينه عن صحابي آخر، فإن مثل هذا يسمى علة عندهم لوجود الاختلاف على ذلك التابعي في شيخه، ولكنها غير قادحة لجواز أن يكون التابعي سمعه من الصحابيين معاً من هذا جملة كثيرة). ثانيا - الحسن: قال الشيخ: (والحسن: ما نقله عدل خفيف الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة القادحة. ويصل إلى درجة الصحيح إذا تعددت طرقه ويسمى (صحيحاً لغيره). والصواب هنا حذف قيد القادحة كما سبق في الصحيح، فيكون تعريف الحسن:

شرح موجز للتعريف:

(ما اتصل إسناده بنقل العدل الذي خف ضبطه عن مثله أو أضبط منه إلى منتهاه بغير شذوذ ولا علة). شرح موجز للتعريف: العدالة: قال الشيخ في"الشرح" (ص/476): (العدل - كما قال العلماء - هو من استقام في دينه ومروءته. فاستقامة الدين: فعل الواجبات وترك المحرمات. واستقامة المروءة: التخلي عما يخالف عادات الناس وأخلاقهم وآدابهم). التعريف المشهور المتداول للعدالة هو تعريف ابن حجر، ولذا فإننا سوف نبدأ بذكره ونتوقف معه، قال ابن حجر في شرح النخبة (ص/25): (والمراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة). واعترض الصنعاني في "ثمرات النظر في علم الأثر" على هذا التعريف بعدة اعتراضات، واختار أن مدار العدالة على مظنة صدق الراوي دون بقية الشروط المذكورة في تعريف العدالة، وقد ذكرت اعتراضاته في شرح الموقظة، وليس هذا مجال الكلام على ذلك، سوف يأتي - بإذن الله - طرفا من ذلك عند الكلام على الحسن لغيره هنا. الضبط: تعريفه: قال الصنعاني في "توضيح الأفكار" (1/ 8): (الضابط عندهم من يكون حافظا متيقظا غير مغفل ولا ساه ولا شاك في حالتي التحمل والأداء وهذا الضبط التام وهو المراد هنا). أي في تعريف الحديث الصحيح، وأما الحديث الحسن فراويه خفيف الضبط. بمَّ يعرف الضبط؟ قال ابن الصلاح في "مقدمته" (ص/61): (يعرف كون الراوي ضابطا بأن نعتبر روايته بروايات الثقاة المعروفين بالضبط والإتقان. فإن وجدنا رواياته موافقة - ولو

أقسام الضبط:

من حيث المعنى - لرواياتهم، أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا. وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه، ولم نحتج بحديثه، والله أعلم). أقسام الضبط: قال الصنعاني في "توضيح الأحكام" (1/ 19): (فالذي ذكر المحدثون أربع صور: تام الضبط، خفيفه، كثير الغلط، من غلطه أكثر من حفظه، فالأوليان مقبول من اتصف بهما، والأخريان مردود من اتصف بهما). فائدة: يكفى للحكم على الحديث بأنه حسن لذاته أن يكون روايا واحدا على الأقل من رواته خفيف الضبط. اتصال السند: وقال المليباري في رسالته علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين النقاد: (وأما العنصر الثاني - أي اتصال السند - فيعرف بما يلي: تصريح كل من سلسلة الإسناد بما يدل على سماعه للحديث من مصدره الذي روى عنه ذلك الحديث، كقوله ك (سمعت فلاناً) أو (سمعنا فلاناً) أو (حدثني فلان) أو (حدثنا) أو (قرأت عليه) أو (حدثني قراءة عليه) أو (حدثنا قراءة عليه) أو (أخبرني) أو (أخبرنا) أو (أنبأني) أو (أنبأنا) أو (قال لي) أو (قال لنا)، أو نحو ذلك من العبارات الدالة على أن الراوي قد لقي من فوقه، وأنه سمع منه ذلك الحديث. 2 - عنعنة الراوي، إذا لم يكن مدلساً، أو مرسلاً، فتفيد عنعنته الاتصال، وأما إن كان الراوي المعنعن مدلساً، فعنعنته تحمل على الانقطاع لقوة احتمال تدليسه في الإسناد بإسقاط شيخه الذي سمع منه هذا الحديث. وكذا الأمر إذا اختلف العلماء في سماع الراوي ممن فوقه عموماً، ولم يتبين الراجح في ذلك، فإن الحكم على الإسناد باتصاله حينئذ متوقف على ما يزول به احتمال الانقطاع، من القرائن ... ). الشاذ: وهو: (ما خالف فيه الثقة من هو أرجح منه عدداً، أو عدالة، أو ضبطاً).

العلة:

العلة: وهي: (هي سبب خفي يقدح في صحة الحديث). والعلة تكون في الإسناد كالتعليل بالوقف والإرسال، وتكون في المتن مثل حديث نفي البسملة في الصلاة. وتعرف العلة عن طريق تجميع طرق الحديث، والنظر في الرواة، والموازنة بين ضبطهم وإتقانهم، ثم الحكم على الرواية المعلولة. - الصحيح لغيره: قال ابن حجر في "النزهة" (ص/29): (وبكثرة طرقه يصحح؛ وإنما يحكم له بالصحة عند تعدد الطرق؛ لأن للصورة المجموعة قوة تجبر القدر الذي قصر الوصفين به ضبط راوي الحسن عن راوي الصحيح، ومن ثم تطلق الصحة على الإسناد الذي يكون حسنا لذاته لو تفرد إذا تعدد). ثالثا - الضعيف: قال الشيخ: (والضعيف ما خلا من شرط الصحيح والحسن. ويصل إلى درجة الحسن إذا تعددت طرقه على وجه يجبر بعضها بعضاً ويسمى (حسناً لغيره). وهذا التعريف الذي ذكره الشيخ مقارب لتعريف ابن الصلاح حيث قال في "مقدمته" (ص/41): (كل حديث لم يجتمع فيه صفات الحديث الصحيح، ولا صفات الحديث الحسن المذكورات فيما تقدم، فهو حديث ضعيف). وقال ابن حجر في " النكت على ابن الصلاح" (1/ 491 (: (اعترض عليه بأنه لو اقتصر على نفي صفات الحسن لكان أخصر لأن نفي صفات الحسن مستلزم لنفي صفات الصحيح وزيادة ... ). وعليه فالأولى أن نقول في تعريف الضعيف: (ما خلا من شروط الحسن). - الحسن لغيره: وقول الشيخ: (على وجه يجبر بعضها بعضاً) فيه إجمال، وقد بيَّن الشيخ مراده في الشرح (ص/481) فذكر أنه يتقوى مثل حديث المستور أو سيء الحفظ إذا تعددت طرقه، أما إن كان في الطرق من يتهم بوضع الحديث، أو كان رواة الحديث مبتدعة

فرووا حديثا يقوي بدعتهم، فلا يتقوى حديث مثل هؤلاء. وما اختاره الشيخ من رد حديث المبتدع فيما يقوي بدعته هو المشهور، إلا أن الراجح خلافه: قال الصنعاني في "ثمرات النظر" قال (ص/103: 105): (سبقت الإشارة إلى أنهم قد استثنوا من المبتدعة الداعية فقالوا ولا يقبل خبره قال في التنقيح فإن قلت ما الفرق بين الداعية وغيره عندهم قلت ما أعلم أنهم ذكروا فيه شيئا ولكن نظرت فلم أجد غير وجهين: أحدهما أن الداعية شديد الرغبة في استمالة قلوب الناس إلى ما يدعوهم إليه فربما حمله عظيم ذلك على تدليس أو تأويل. الوجه الثاني أن الرواية عن الداعية تشتمل على مفسدة وهي إظهار أهليته للرواية وأنه من أهل الصدق والأمانة وذلك تغرير لمخالطته وفي مخالطة من هو كذلك للعامة مفسدة كبيرة قلت وهذا الوجه الآخر قد أشار إليه أبو الفتح القشيري نقله عنه الحافظ ابن حجر ثم قال في التنقيح والجواب عن الأول أنها تهمة ضعيفة لا تساوي الورع أي المانع الشرعي الذي يمنع ذلك المبتدع المتدين من الفسوق في الدين وارتكاب دناءة الكذب الذي يتنزه عنه كثير من الفسقة المتمردين كيف والكاذب لا يخفى تزويره وعما قليل ينكشف تدليسه وتغريره ويفهمه النقاد وتتناوله ألسنة أهل الأحقاد وأهل المناصب الرفيعة يأنفون من ذلك فكيف إذا كانوا من أهل الجمع بين الصيانة والديانة. وقد احتجوا بقتادة لما قويت عندهم عدالة أمانته وهو داعية على أصولهم إلى بدعة الاعتزال. قال الذهبي في التذكرة كان يرى القدر ولم يكن يقنع حتى كان يصيح به صياحا. ثم قال صاحب التنقيح والجواب عن الثاني أنا نقول إما أن يقوم الدليل الشرعي على قبولهم أو لا إن لم يدل على وجوب قبولهم لم نقبلهم دعاة كانوا أو غير دعاة وإن دل على وجوب القبول لم يصلح ما أورده مانعا من امتثال الأمر ولا مسقطا انتهى. فعلمت من هذا كله قبول من لم يتهم بالكذب وعدم شرطية العدالة بالمعنى الذي أرادوه وهو أنه لا يرد من المبتدعة إلا من أجاز الكذب لنصرة مذهبه كالخطابية). ومما يؤيد ما قاله أيضاً إخراج الأئمة في دواوين السنة لبعض المبتدعة فيما يتعلق ببدعتهم، فقد روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه: عن عدي بن

حجية هذه الأقسام:

ثابت عن زر قال: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمّي - صلى الله عليه وسلم - إليّ أنّ لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. وعدي بن ثابت: قال عنه الذهبي في الكاشف: ثقة، لكنه قاص الشيعة وإمام مسجدهم بالكوفة. - والأولى أن نعرف الحسن لغيره بقولنا: (هو الضعيف إذا تعددت طرقه، ولم يكن سبب ضعفه فسق الراوي أو كذبه). حجية هذه الأقسام: قال الشيخ: (وكل هذه الأقسام حجة سوى الضعيف فليس بحجة لكن لا بأس بذكره في الشواهد ونحوها). القسم المقبول من الحديث على أربع درجات: أعلاها: الصحيح لذاته، يتلوه: الصحيح لغيره، ثم الحسن لذاته، وأخيرا: الحسن لغيره، وهذه الأقسام يحتج بها، ويرجح أعلاها على من دونه في الرتبة عند التعارض وعدم إمكان الجمع. وأما الحديث الضعيف فليس بحجة. وقد أجاز البعض العمل بالضعيف بشروط وهي: 1 - أن لا يكون موضوعاً. 2 - أن يعرف العامل به كونه ضعيفاً. 3 - أن لا يُشهر العمل به. 4 - أن يكون في فضائل الأعمال. 5 - أن يندرج تحت أصل من أصول الشريعة. وذهب الشيخ العثيمين في "الشرح" (ص/481) إلى عدم جواز العمل بالضعيف مطلقا، وهو مذهب: يحيى بن معين، وأبو بكر بن العربي، وابن حزم، وهو ظاهر صنيع البخاري ومسلم، والشوكاني، ومن المعاصرين: أحمد شاكر، والألباني، وغيرهم إلى عدم جواز العمل بالضعيف مطلقاً، وهذه المسألة نحناج إلى بسط سوف نعرض له - بإذن الله - في دروس المصطلح.

صيغ الأداء:

- لا بأس بذكر الضعيف في "الشواهد والمتابعات" (الاعتبار): قال الشيخ في "الشرح" (ص/483): (وقوله: لكن لا بأس بذكره في الشواهد ونحوها)؛ لأن ذكره في الشواهد قد يكون منه فائدة: وهو أنه إذا تعددت طرقه صار الحديث حسنًا لغيره، فلا بأس أن يذكر في الشواهد ونحوها ليكون معتبرًا به). صيغ الأداء: قال الشيخ: (للحديث تحمل وأداء فالتحمل: أخذ الحديث عن الغير. والأداء: إبلاغ الحديث إلى الغير. وللأداء صيغ منها: 1 - حدثني: لمن قرأ عليه الشيخ. 2 - أخبرني: لمن قرأ عليه الشيخ أو قرأ هو على الشيخ. 3 - أخبرني إجازة أو أجاز لي: لمن روى بالإجازة دون القراءة. والإجازة: إذنه للتلميذ أن يروي عنه ما رواه وإن لم يكن بطريق القراءة. 4 - العنعنة وهي: رواية الحديث بلفظ عن. وحكمها الاتصال إلا من معروف بالتدليس فلا يحكم فيها بالاتصال إلا أن يصرح بالتحديث). قال الذهبي في "الموقظة" (فـ (حدَّثَنا) و (سَمِعتُ) لِمَا سُمِع من لفظ الشيخ. واصطُلِح على أنَّ (حدَّثَني) لِمَا سَمِعتَ منه وحدَك، و (حدَّثَنا) لِمَا سَمِعتَه معَ غيرك. وبعضُهم سَوَّغ (حدَّثَنا) فيما قراه هو على الشيخ. وأما (أخبَرَنا) فصادِقةٌ على ما سَمِع من لفظ الشيخ، أو قرأه هو، أو قرأه آخَرُ على الشيخِ وهو يَسمع. فلفظُ (الإخبار) أعمُّ من (التحديث). و (أخبرني) للمنفرِد. وسَوَّى المحققون كمالكٍ والبخاريِّ بين (حدَّثنا) و (أخبِرنا) و (سَمِعتُ)، والأمرُ في ذلك واسع. فأمَّا (أنبأنا) و (أنا) فكذلك، لكنها غلَبتْ في عُرف المتأخرين على الإجازة). وباقي الكلام واضح وقد اختصرت الكلام هنا، وسوف يأتي له مزيد بيان في دروس المصطلح - بإذن الله -.

الإجماع

الإجماع تعريف الإجماع لغة: قال الشيخ: (الإجماع لغة: العزم والاتفاق). الإجماع في اللغة يطلق على معنيين وهما: أولا: العزم والتصميم على الشيء، يقال: أجمع فلان على كذا إذا عزم وصمم عليه، وأجمع الأمر إذا عزم عليه، والأمر مُجْمَع وأجمعتُ المسير والأمر، وأجمعت عليه إذا عزمت عليه، يتعدى بنفسه وبالحرف. ومن ذلك قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) [يونس: 71] أي: اعزموا أمركم وادعوا شركائكم. ومنه أيضا قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ) [يوسف: 15] أي: عزموا أن يجعلوه. ومنه حديث: (من لم يجمع الصوم من الليل فلا صيام له) أي من لم يعزم على الصيام فينويه. ثانيا: الاتفاق، يقال أجمعت الجماعة على كذا إذا اتفقوا عليه. ومن خلال هذين المعنيين يظهر الفرق بينهما من وجهين: الأول: أن الإجماع بمعنى العزم يتصور من واحد، وكذلك يتصور أيضا من أكثر من واحد، وهذا بخلاف الإجماع بمعنى الاتفاق، فلا يتصور إلا من اثنين فأكثر. الثاني: أن الإجماع بمعنى العزم يتعدى بنفسه وبالحرف، وأما الإجماع بمعنى الاتفاق فلا يتعدى بنفسه (¬1). وإذا رجعنا إلى آراء علماء الأصول في معنى الإجماع لغة، فنجد أن عبارات معظم الأصوليين تدور حول معنى إطلاق الإجماع في اللغة على العزم والاتفاق من غير تفصيل في ذلك، من هؤلاء: أبو إسحاق الشيرازي، والجويني، والآمدي، وابن الحاجب، والطوفي، والسبكي، والإسنوي، والتفتازاني، والزركشي، وابن الهمام، وابن النجار. وأما بعضهم فقد فصل في معنى الإجماع. ¬

_ (¬1) انظر رسالة "الإجماع عند الأصوليين" للشيخ أحمد عزب (ص/29).

تعريف الإجماع اصطلاحا:

فمنهم من قال: إن الإجماع لفظي مشترك بين العزم والاتفاق، كالغزالي وفخر الدين الرازي. ومنهم من ذهب إلى أن المعنى الأصلي له الاتفاق، وأما العزم يرجع إليه؛ لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه كالقاضي الباقلاني وأبي يعلى. ومنهم من قال إن المعنى الأصلي له العزم وأما الاتفاق فزم ضروري للعزم إذا وقع من جماعة. قال علاء الدين السمرقندي في الإجماع: هو العزم التام. وقال السمعاني: إن الإجماع بمعنى الاتفاق أشبه باللغة، وبمعنى العزم أشبه بالشرع، وكذا قال ابن برهان. فائدة الخلاف: أنه إن كان الإجماع بمعنى العزم يصح الإجماع من واحد، وإن كان بمعنى الاتفاق لا يصح إلا من جماعة. وأما الأنسب بالمعنى الاصطلاحي - من المعنيين - هو الاتفاق، ولكن لكلا المعنيين علاقة واضحة بالمعنى الاصطلاحي، وإن كان الاتفاق أوضح علاقة، لأن في الاتفاق جمع الآراء وفي العزم جمع الخواطر، ولا يمكن اتفاق الآراء إلا بعد جمع كل صاحب رأي خواطره عند الحكم على مسألة ما، أو إذا وقع العزم من جماعة على حكم كان الاتفاق من لوازمه ضرورة (¬1). تعريف الإجماع اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي). قال في "الأصل" (ص/64): (فخرج بقولنا: " اتفاق " وجود خلاف ولو من واحد فلا ينعقد معه الإجماع. وخرج بقولنا " مجتهدي " العوام والمقلدون فلا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم. وخرج بقولنا: " هذه الأمة " إجماع غيرها فلا يعتبر. وخرج بقولنا: " بعد النبي صلى الله عليه وسلم "، اتفاقهم في عهد النبي صلى الله ¬

_ (¬1) انظر رسالة "الإجماع عند الأصوليين" للشيخ سيد أشرف (ص/18).

تتمة:

عليه وسلم، فلا يعتبر إجماعاً من حيث كونه دليلاً لأن الدليل حصل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير ولذلك إذا قال الصحابي كنا نفعل أو كانوا يفعلون كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان مرفوعاً حكماً لا نقلاً للإجماع. وخرج بقولنا: "على حكم شرعي" اتفاقهم على حكم عقلي أو عادي فلا مدخل له هنا إذ البحث في الإجماع كدليل من أدلة الشرع). تتمة: قال الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/129): (المعتبر في الإجماع قول أهل الاجتهاد، لا الصبيان والمجانين قطعا، وكذا العامي المكلف على الأكثر ... ويعتبر في إجماع كل فن قول أهله، إذ غيرهم بالإضافة إليه عامة. أما الأصولي غير الفروعي وعكسه، والنحوي في مسألة مبناها على النحو فقط، ففي اعتبار قولهم الخلاف في تجزيء الاجتهاد، والأشبه اعتبار قول الأصولي والنحوي فقط لتمكنهما من درك الحكم بالدليل). وقال في "الشرح" (3/ 33): (حجة الجمهور على عدم اعتبار قول العامي، وهي من وجهين: أحدهما: أن قول العامي غير مستند إلى دليل، وإلا لم يكن عاميا، وما ليس مستندا إلى دليل، يكون جهلا وخطأ؛ لأن الشرع حرم القول بغير علم، والجهل والخطأ غير معتبر. الوجه الثاني: أن العامي إذا خالف أهل الاجتهاد، فقال بالنفي، وقالوا بالإثبات أو بالعكس، فإما أن يعتبر قولاهما، فيجتمع النقيضان، أو يلغى قولاهما فيرتفع النقيضان، وتخلو الواقعة عن حكم، أو يقدم قول العامي، فيفضي إلى تقديم ما لا مستند له على ما له مستند، والكل «باطل فتعين الرابع» وهو تقديم قول المجتهد عليه، وهو المطلوب ... قوله: و «يعتبر في إجماع كل فن قول أهله» كالفقيه في الفقه، والأصولي في الأصول، والنحوي في النحو، والطبيب في الطب «إذ غيرهم» أي: غير أهل ذلك الفن «بالإضافة» إلى ذلك الفن «عامة» ... قوله: «أما الأصولي غير الفروعي» أي: العالم بأصول الفقه دون فروعه،

ككثير من الأعاجم تتوفر دواعيهم على المنطق والفلسفة والكلام، فيتسلطون به على أصول الفقه، إما عن قصد، أو استتباع لتلك العلوم العقلية، ولهذا جاء كلامهم فيه عريا عن الشواهد الفقهية المقربة للفهم على المشتغلين، ممزوجا بالفلسفة، «وعكسه» يعني: الفروعي غير الأصولي «والنحوي في مسألة مبناها على النحو» أي: تنبني عليه، كمسألة استيعاب الرأس بالمسح، المبنية على أن الباء للإلصاق، أو التبعيض، ومسائل الشروط في الطلاق، ومسائل الإقرار، نحو: له علي كذا وكذا درهما، أو درهم بالرفع، أو الجر غير درهم، على الوصف أو الاستثناء وأشباه ذلك. «ففي اعتبار» قول هؤلاء «الخلاف في تجزيء الاجتهاد». ومعنى ذلك: أن الاجتهاد هل يجوز تجزئته؟ بمعنى أن يكون الشخص مجتهدا في مسألة من المسائل دون غيرها، فإن أجزنا ذلك، اعتبر قول هؤلاء، لأن كلا منهم وإن لم يكن أهلا للاجتهاد في جميع المسائل، لكنه أهل للاجتهاد في بعضها، مثل أن يبني الأصولي وجوب الزكاة على الفور على أن الأمر على الفور، ونحو ذلك، والنحوي مسائل الشروط في الطلاق على باب الشرط والجزاء في العربية، وإن لم يجز تجزيء الاجتهاد، لم يجز ذلك، والأشبه القول بتجزيء الاجتهاد، إذ لا يمتنع وجود أهلية الاجتهاد كاملة بالنسبة إلى بعض المسائل دون بعض ... وله: «والأشبه» يعني بالصواب وما دل عليه الدليل «اعتبار قول الأصولي والنحوي فقط» دون الفقيه الصرف «لتمكنهما» يعني الأصولي والنحوي «من درك الحكم» أي: من إدراكه، واستخراجه «بالدليل» هذا بقواعد الأصول، وهذا بقواعد العربية، لأن علمهما من مواد الفقه وأصوله، فيتسلطان به عليه؛ ولأن مباحث الأصول والعربية عقلية، وفيهما من القواطع كثير، فيتنقح بها الذهن، ويقوى بها استعداد النفس لإدراك التصورات والتصديقات، حتى يصير لها ذلك ملكة، فإذا توجهت إلى الأحكام الفقهية، أدركتها، إذ هي في الغالب لا تخالف قواعد الأصول العقلية إلا بعارض بعيد، أو تخصيص علة، ومع ذلك فهو لا يخفى على من مارس المباحث الأصولية ... ).

قيود أخرى:

قيود أخرى: لابد من إضافة بعض القيود لهذا التعريف ليكون جامعا مانعا، هي: 1 - قيد: في عصر، أي من العصور: أما قول الشيخ (اتفاق مجتهدي هذه الأمة) يشعر بعدم انعقاد إجماع إلى يوم القيامة؛ لأن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تشمل جميع من اتبعه إلى يوم القيامة ومن كان منهم موجودا في عصر من العصور فهو يعم بعض الأمة لا كلها. وعليه فلابد من إضافة قيد: في عصر؛ ليصح كون اتفاق أهل الاجتهاد في أي عصر من العصور إجماعا صحيحا. وقد زاد هذا القيد جماعة من الحنابلة: قال أبو يعلى في "العدة" (1/ 170): (اتفاق علماء العصر على حكم النازلة). قال ابن عقيل في "الواضح" (1/ 42): (اتفاق فقهاء العصر على حكم الحادثة). قال ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص/130): (اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من أمور الدين). قال الطوفي في "البلبل" (ص/128): (اتفاق مجتهدي العصر من هذه الأمة على أمر ديني). قال المرداوي في "التحبير" (4/ 1522): (اتفاق مجتهدي الأمة في عصر على أمر، ولو فعلاً، بعد النبي). قال ابن النجار في "مختصر التحرير": (اتفاق مجتهدي الأمة في عصر على أمر ولو فعلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم). وكل هذه التعاريف غير جامعة ولا مانعة، إلا أن الغرض بيان ذكرهم لقيد العصر. 2 - قيد: ألا يسبق الإجماع خلاف مستقر: قال الشيخ في "الأصل" (ص/66): (أن لا يسبقه خلاف مستقر، فإن سبقه ذلك فلا إجماع؛ لأن الأقوال لا تبطل بموت قائليها. فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق، وإنما يمنع من حدوث خلاف، هذا هو القول الراجح لقوة مأخذه ... ). قال ابن بدران في "المدخل" (ص/278): (واصطلاحا اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر من العصور على أمر ومن يرى انقراض العصر يزيد إلى انقراض

3 - قيد عدالة المجتهدين:

العصر ومن يرى أن الإجماع لا ينعقد مع سبق خلاف مستقر من حي أو ميت جوز وقوعه يزيد لم يسبقه خلاف مجتهد مستقر). وسوف يأتي - بإذن الله - الكلام على المسألتين وإنما الغرض التنبيه على ترجيح الشيخ ووجه إضافة هذا القيد. 3 - قيد عدالة المجتهدين: اختلف العلماء في اشتراط قيد العدالة للمجتهدين على أقوال خمسة (¬1). قال القاضي أبو يعلى في "العدة" (4/ 1139): (ولا يعتبر في صحة انعقاد الإجماع بأهل الضلال والفسق، وإنما الإجماع إجماع أهل الحق، الذين لم يثبت فسقهم وضلالهم. وقد قال أحمد - رحمه الله-، في رواية بكر بن محمد عن أبيه: "لا يشهد عندي رجلٌ، ليس هو عندي بعدل، وكيف أجوز حكمه؟! يعنى: الجَهْمي". وبهذا قال الرازي والجرجاني. وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه يعتد في الإجماع بمن يخالف الحق، كما يعتد بأهل الحق، سواء عظمت معصية المخالف للحق أو لم تعظم. وهو اختيار أبي سفيان الحنفي. وذكر الإسفراييني: إن ارتكب بدعة كفر بها لم يعتد بقوله، وإن فسق بها، أو أتى كبيرة يعتد به " (¬2). ¬

_ (¬1) وقد ذكرها، وذكر أدلة كل قول، وناقش بينها: الشيخ سيد أشرف، في رسالته "الإجماع عند الأصوليين" (ص/136) وما بعدها وأيضا الشيخ أحمد عزب في رسالته "الإجماع عند الأصوليين" (ص/116) وما بعدها. (¬2) ثم أخذ يسوق الأدلة على اشتراط عدالة المجتهدين لينعقد بهم الإجماع، وقد تعقب استدلالاته تلميذه الكلوذاني في التمهيد (3/ 253) وما بعدها ورجح عدم اشتراط عدالتهم، ولم أشأ أن استطرد في ذكر هذه الأدلة لأنها غالبها أعم من محل النزاع، ولا يخلو الاستدلال بها على أحد القولين من نظر، حتى أن الشيخ أحمد عزب قال (ص/122): (أن العدالة تشترط للمجمعين؛ لأن الأدلة التي أثبتت حجية الإجماع وإن لم تتضمن نصا اشتراط العدالة لكن يفهم منها ذلك؛ لأن الفاسق غير العدل يحتمل أن يكون كاذبا فيما ادعاه، متبعا في ذلك هواه، فهو ليس أهلا لأن يؤخذ لمخالفته). والتعليل الذي ذكره يقوي وجه الترجيح الذي اخترته وسيأتي قريبا - بإذن الله -. وانظر أيضا: التحبير (4/ 1560)، وشرح الكوكب المنير (2/ 228)، ونزهة الخاطر العاطر (1/ 239).

وقال المجد في "المسودة" (ص/ 297): (ولا يعتد بخلاف الفاسق وبه قال الجرجاني والرازي وأكثر الشافعية وقال أبو سفيان الحنفى وبعض المتكلمين يعتد به واختاره الجوينى وأبو الخطاب كالجوينى وكذلك الاسفرائينى وقال بعض الشافعية يسأل فان ذكر مستندا صالحا اعتد به وإلا فلا بخلاف العدل فانه يعتد بخلافه من غير أن يسأل). وبيان الراجح عندي يتضح من خلال بيان هذين الأصلين: الأول - سبق في شرحي للموقظة أن حققت أن مبنى العدالة يدور على ظن الصدق دون غيره من الشروط كاجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة. الثاني - أن العدالة ليست شرطا في الاجتهاد، وإنما هي شرط في الفتيا، أو الحكم؛ وذلك لأن الفتيا، أو الحكم إنما هي خبر عن حكم الله الذي وصل إليه المجتهد باجتهاده، ويدخل في ذلك إخبارنا عن اجتهاده. قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (3/ 43): (ويجاب عما قاله القاضي: بأن العدالة تعتبر للرواية والشهادة، لا للنظر والاجتهاد، وهو المراد في باب الإجماع، وللقاضي أن يقول: هو مخبر عن نفسه بما أدى إليه نظره واجتهاده، وخبره غير مقبول لفسقه). قال الشنقيطي في "المذكرة": (ص/288): (والعدالة ليست شرطاً في أصل الاجتهاد، وإنما هي شرط في قبول فتوى المجتهد). وقال السمعاني في " قواطع الأدلة" (2/ 306): (وليس يعتبر في صحة الاجتهاد أن يكون رجلا ولا أن يكون حرا ولا أن يكون عدلا وهو يصح من الرجل والمرأة والحر والعبد والفاسق وإنما تعتبر العدالة في الحكم والفتوى فلا يجوز استفتاء الفاسق وإن صح استفتاء المرأة والعبد ولا يصح الحكم إلا من رجل حر عدل فصارت شروط الفتيا أغلظ من شروط الاجتهاد بالعدالة لما تضمنه من القبول وشروط الحكم أغلظ من شروط الفتيا بالحرية والذكورية لما تضمنه من الإلزام).

تتمة - هل يعتد بخلاف الظاهرية في الإجماع؟

قال الشيخ عياض السلمي في " أصوله" (ص/454): (العدالةُ: وهي شرطٌ لقَبول الاجتهاد والاعتدادِ به، فمن ليس عدلاً مقبولَ الرواية لا يُقبلُ قولُه في الشرع، كما لا يُقبلُ خبرُ مَن ليس عدلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الفُتيا خبرٌ عن حكم الله تعالى). وعليه فمن غلب على الظن صدقه فهو عدل يقبل اجتهاده وخبره عن اجتهاده، ومن غلب على الظن كذبه، وعدم صدقه فاجتهاده وإن كان صحيحا لتوفر شروط الاجتهاد فيه إلا أن خبره عن اجتهاده يكون غير مقبولا فلا يعتد به في الإجماع. وعليه فلابد من إضافة قيد العدالة للمجتهدين، وهذا جار على أصول المذهب. ومما سبق يكون تعريف الإجماع: (اتفاق العدول من مجتهدي هذه الأمة في عصر بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي غير مسبوق بخلاف مستقر). تتمة - هل يعتد بخلاف الظاهرية في الإجماع؟ قال الشيخ في شرح الأصول (ص/489): (بعض العلماء يحصل منهم بعض الخطأ في بعض الطوائف حيث لا يعتبرون إجماعهم، فيرى بعض الفقهاء وأصحاب الرأي أن خلاف الظاهرية لا يعتبر، ويقول: إن الأمة تُجمع ويحكم بإجماعها ولو خالفها أهل الظاهر في هذا الحكم. فمثلاً: عندهم ابن حزم، وداود الظاهري وغيرهما من أهل الظاهر لا يعتد بخلافهم إذا أجمع الفقهاء على قولٍ، وهؤلاء المخالفون لهم، فإجماع الفقهاء حجة ملزمة، ولكن هذا القولُ ضعيفٌ؟ والصواب أن قول الظاهرية يخرم الإجماع إن كان مخالفًا له؛ لأن الظاهرية لا شك أن مذهبهم صحيح، وإن كان عندهم خطأ كثير لكن خطؤهم لا يوجب رد قولهم مطلقًا، فلهم أقوال صحيحة موافقة لظاهر النصوص والصواب فيها معهم. فالصواب أن قول أهل الظاهر معتبر، وأنه إذا خالف قولَ غيرهم لم يكن ثم إجماع). وهذا القول الذي اختاره الشيخ هو أحد الأقوال الثلاثة المشهورة في المسألة وهو الأرجح وهو رأي كثير من الحنابلة واختاره غير واحد من المحققين كابن القيم، وذهب الطوفي في "التعيين في شرح الأربعين" (ص/244) أن خلافهم غير معتبر مطلقا.

حجية الإجماع:

ومما يرجح اعتبار قولهم (¬1): أن إنكارهم للقياس لا يعني خروجهم من دائرة العلماء؛ لأنهم مجتهدون توفرت فيهم جميع أدوات الاجتهاد، كما أنه يلزم من عدم الاعتداد بخلافهم عدم الاعتداد بخلاف منكري حديث الآحاد - مطلقا أو في وقائع معينة - ومنكري العمل بالحديث المرسل، ومن يرى نسخ القرآن بالسنة، ومنكري العموم، وغير ذلك من صور عدم العمل ببعض آحاد الأدلة المتفق عليها من الكتاب والسنة. حجية الإجماع: قال الشيخ في "الأصل" (ص/64): (الإجماع حجة لأدلة منها: 1 - قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143]، فقوله: (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يشمل الشهادة على أعمالهم وعلى أحكام أعمالهم والشهيد قوله مقبول. 2 - قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) [النساء:59] دل على أن ما اتفقوا عليه حق. 3 - قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة). 4 - أن نقول: إجماع الأمة على شيء إما أن يكون حقّاً وإما أن يكون باطلاً، فإن كان حقّاً فهو حجة، وإن كان باطلاً فكيف يجوز أن تجمع هذه الأمة التي هي أكرم الأمم على الله منذ عهد نبيها إلى قيام الساعة على أمر باطل لا يرضى به الله؟! هذا من أكبر المحال). الخلاف في حجية الإجماع خلاف ضعيف، وجماهير أهل العلم من لدن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين والأئمة الأربعة ومن بعدهم من أهل العلم على الاحتجاج به ولزوم حجيته. وخالف في ذلك النظّام والقاشاني من المعتزلة، وأكثر الخوارج. - وجه الاستدلال بالآية الأولى: قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 15): (قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ ¬

_ (¬1) انظر: الاعتداد بخلاف الظاهرية في الفروع الفقهية "دراسة تأصيلية" للدكتور/عبد السلام بن محمد الشويعر.

أُمَّةً) وَسَطًا «أي: عدولا» خيارا، كذلك قال أئمة أهل اللغة والتفسير ... قوله تعالى: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143] أي: لتشهدوا يوم القيامة على الأمم أن أنبياءهم بلغوهم أمر الله تعالى بالتوحيد وأحكامه، فدل على أن المراد بالوسط من تقبل شهادته، خصوصا في ذلك اليوم، على ذلك الخلق العظيم: وهو العدل وإذا ثبت أن الوسط في الآية الكريمة هو العدل، فالاستدلال بها من وجهين: أحدهما: أن وصفهم بالعدالة في سياق المدح، وإنما يحسن المدح إذا كانوا على الصواب في أقوالهم وأفعالهم، وذلك يوجب أن ما اتفقوا عليه يكون صوابا. الوجه الثاني: أن الوصف بالعدالة، إما لكل واحد منهم أو لمجموعهم، والأول باطل قطعا، لوجود آحاد الفساق فيهم كثيرا، فتعين الثاني، وهو أن الوصف بالعدالة لمجموعهم، وذلك يقتضي أن ما يقولونه مجتمعين عليه حق وصواب، لأن قائل غير الحق والصواب يكون كاذبا، والكاذب لا يكون عدلا ... ). - وجه الاستدلال بالآية الثانية: وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 59]:أنه تعالى أمر في الآية بالرد إلى الله ورسوله، أي الكتاب والسنة، بشرط وجود التنازع في الحكم بين المؤمنين؛ ليرتفع التنازع ويحصل الاتفاق بينهم، وذلك يدل على أنه إذا لم يوجد التنازع بل كان الحكم مجمعا عليه فلا يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ لانعدام المشروط بشرطه، بل يكتفى بالإجماع عنهما، فكان الإجماع حجة، يجب العمل به كالكتاب والسنة. ومن أقوى الأدلة على حجية الإجماع قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115]، وجه الاستدلال بها أنه سبحانه توعد بالنار من اتبع غير سبيل المؤمنين، وذلك «يوجب إتباع سبيلهم» وإذا أجمعوا على أمر، كان سبيلا لهم

، فيكون إتباعه واجبا على كل واحد، منهم ومن غيرهم، وهو المراد بكون الإجماع حجة (¬1). وقد أورد البعض على الاستدلال بهذه الآيات بعض الاعتراضات الضعيفة، فلا حاجة لذكرها (¬2). - وجه الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتى على ضلالة). وفي معنى هذا الحديث أحاديث أخرى كثيرة تشهد لمعناه. وكلمة: (ضلالة) نكرة في سياق النفي فتعم جميع الضلال من كفر وكل معصية، فإن ثبت انتفاء اجتماع الأمة على خطأ، صار ما اجتمعت عليه حقا واجب الإتباع. قال الشيخ في "الأصل" (ص/65): (إجماع الأمة على شيء إما أن يكون حقّاً وإما أن يكون باطلاً، فإن كان حقّاً فهو حجة، وإن كان باطلاً فكيف يجوز أن تجمع هذه الأمة التي هي أكرم الأمم على الله منذ عهد نبيها إلى قيام الساعة على أمر باطل لا يرضى به الله؟! هذا من أكبر المحال). وفي الباب أدلة أخرى من المنقول والمعقول دالة على حجية الإجماع، وفيما تقدم كفاية. ولنتوقف قليلا مع بعض الشبه التي عرضت للمخالف، ومنها: قال عرض الشيخ على الراشدي في رسالته: (الإجماع عند الإمام النووي) (1/ 123) لبعض هذه الشبه فقال: (الشبهة الأولى - قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [النساء: 59] ولم يذكر الإجماع ولو كان حجة لذكره. الشبهة الثانية - قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - حين بعثه إلى اليمن قاضيا: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله، قال: فبسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد ... ؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو؛ فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: ¬

_ (¬1) شرح مختصر الروضة (3/ 15). (¬2) انظرها في الأحكام للآمدي (1/ 170)، والمحصول (4/ 46) ورسالة "الإجماع عند الأصوليين" للشيخ سيد أشرف (ص/53).

الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)، ولم يذكر الإجماع؛ فدل على أنه ليس بحجة. الشبهة الثالثة - قوله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم بعضكم رقاب بعض) ومن أجاز رجوعهم إلى الكفر لا يكون إجماعهم حجة. الشبهة الرابعة - يستحيل أن يجوز الخطأ على الواحد من الأمة، ولا يجوز على جماعتهم، كما يستحيل أن يكون كل واحد منهم مصيبا وجماعتهم غير مصيبين. والجواب عن الشبهة الأولى: أن الرد إلى الله والرسول إنما يكون عند الاختلاف، وأما عند الإجماع فلا رد. وعن الثانية: أنه لم يذكر الإجماع؛ لأنه لا إجماع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن الثالثة: لعله أراد بعض الأمة، او المراد كفر دون كفر، كما هو قول السلف. وعن الرابعة: أن جواز الخطأ في حال الانفراد، وأما في حال الاجتماع فإنهم معصومون). ويقال أيضا في الجواب عن الشبهة الثانية أن الحديث ضعيف لا يثبت (¬1). ¬

_ (¬1) إسناده ضعيف - أخرجه أبو داود في "سننه" (3/ 303) حديث رقم (3592)، والترمذي في "سننه"، (3/ 616) حديث رقم (1327، 1328)، أحمد في "مسنده" (5/ 236، 242)، والدارمي في "سننه" (1/ 72) حديث رقم (168)، والطبراني في "الكبير" (20/ 170) حديث رقم (362)، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 114) - كلهم - من طريق شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو عن رجال من أصحاب معاذ عن معاذ - رضي الله عنه - به. قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل"، والحديث قال عنه الشيخ الألباني في " الضعيفة " (2/ 273) حديث رقم (881): منكر.

أنواع الإجماع:

أنواع الإجماع: قال الشيخ: (الإجماع نوعان: قطعي، وظني. فالقطعي: ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة). قال في "شرح الأصول" (ص/496): (فالذي يعلم بالضرورة وقوعه من الأمة هو إجماع قطعي، ومعنى بالضرورة أي: بدون نظر وتأمل- يعني لا يحتاج أن ننظر: هل أجمعوا أم لم يجمعوا؛ لأنه معروف. ثم قال: (فإن قيل: لعل فيه خلافًا. قلنا: لا يمكن أن يخالف أحد في هذا، إلا من كان حديث عهد بإسلام، لا يدري عن الإِسلام شيئًا، أما من عاش بين المسلمين فإنا نعلم أنه يعتقد وجوب الصلوات الخمس، وكذلك تحريم الزنا، فإن العلماء مجمعون عليه إجماعًا قطعيًا، وكذلك حِلّ الخبز فهو مجمع عليه). ثم قال الشيخ: (والظني: ما لا يعلم إلا بالتتبع والاستقراء) (¬1). وقال في "شرح الأصول" (ص/498): (الثاني هو الظني، والظني: ما لا يعلم إلا بالتتبع والاستقراء، يعني ليس معلومًا بالضرورة، بل مُتَتبَّع، فَيُتتبَّع من الكتب التي تنقل الآَثار عن المتقدمين، وتتبع الكتاب التي ألفها المتأخرون، وينظر فإذا أجمعت الكتب والآثار على حكم من الأحكام قلنا: هذا إجماع، لكنه ليس قطعيًا، ليس إجماعًا قطعيًا لأنه يجوز أن يكون هناك خلاف لم نعلمه). هذا محصل كلام الشيخ في بيان نوعي الإجماع. وأما تفسير الشيخ للظني بما ثبت بالتتبع والاستقراء فقد تبع فيه تقي الدين ابن تيمية حيث قال في "مجموع الفتاوى" (19/ 267): (والإجماع نوعان قطعي فهذا لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعي على خلاف النص، وأما الظني فهو الإجماع الإقراري والاستقرائي بأن يستقرىء أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافا أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدا أنكره). ¬

_ (¬1) قال تقي الدين في "مجموع الفتاوى" - (19/ 267): (وأما الظني فهو الإجماع الإقراري والاستقرائي بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافا أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدا أنكره).

تنبيه:

وزاد تقي الدين: الإقراري وسوف يأتي - بإذن الله - الخلاف في اعتباره في آخر باب الإجماع. تنبيه: في حصر ما ثبت بالتتبع والاستقراء في الظني دون القطعي نظر؛ إذ أن الاستقراء منه ما هو تام ومنه ما ناقص. قال ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (4/ 418): ((والاستقراء بالجزئي على الكلي) الذي هو أحد أصناف الاستدلال نوعان: أحدهما: استقراء تام، وهو ما أشير إليه بقوله (إن كان) أي الاستقراء (تاما) أي بالكلي (إلا صورة النزاع، ف) هو (قطعي) عند الأكثر، وحد هذا: بأنه إثبات حكم في جزئي لثبوته في الكلي نحو: كل جسم متحيز. فإنا استقرأنا جميع جزئيات الجسم فوجدناها منحصرة في الجماد والنبات والحيوان، وكل من ذلك متحيز فقد أفاد هذا الاستقراء الحكم يقينا في كلي، وهو الجسم الذي هو مشترك بين الجزئيات. فكل جزئي من ذلك الكلي يحكم عليه بما حكم به على الكلي، إلا صورة النزاع فيستدل بذلك على صورة النزاع، وهو مفيد للقطع ... النوع الثاني: استقراء ناقص، وهو ما أشير إليه بقوله (أو) إن كان (ناقصا) أي بأن يكون الاستقراء (بأكثر الجزئيات) لإثبات الحكم الكلي المشترك بين جميع الجزئيات ... (ويسمى) هذا عند الفقهاء (إلحاق الفرد بالأعم الأغلب، ف) هو (ظني) ويختلف فيه الظن باختلاف الجزئيات. فكلما كان الاستقراء في أكثر كان أقوى ظنا (وكل) من النوعين (حجة) أما الأول: فبالاتفاق، وأما الثاني: فعند صاحب الحاصل والبيضاوي والهندي، وبعض أصحابنا وغيرهم ... ). فإن كان الاستقراء تاما فهو حجة قطعية، وثبت عن طريق جمع كبير من العلماء يبلغون حد التواتر فهو حجة قطعية، وذلك على مقتضى كلام ابن قدامة وسيأتي. ولنتوقف الآن مع طريقة ابن قدامة في التقسيم وطريقته في تعيين القطعي والظني. قال في "الروضة" (ص/154): (الإجماع ينقسم إلى: مقطوع، ومظنون.

فالمقطوع ما وجد فيه الاتفاق مع الشروط (¬1) التي لا يختلف فيه مع وجودها ونقله أهل التواتر. والمظنون ما تخلف فيه أحد القيدين بأن يوجد مع الاختلاف فيه كالاتفاق في بعض العصر وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة أو يوجد القول من البعض والسكوت من الباقين أو توجد شروطه لكن ينقله آحاد). قال الطوفي (3/ 127) شارحا كلام ابن قدامة: (أما الشيخ أبو محمد، فقال: الإجماع إما مقطوع أو مظنون، فالمقطوع ما وجد فيه جميع الشروط التي لا يختلف فيه مع وجودها، ونقل تواترا، والمظنون ما اختل فيه أحد القيدين، بأن يوجد على وجه مختلف فيه متواترا، ومتفقا عليه آحادا. مثال المختلف فيه: أن يتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول، أو يؤخذ بقول البعض وسكوت البعض، أو يوجد الاتفاق في بعض العصر ولم ينقرض حتى خولف، أو يجمع الصحابة بدون التابعي المعاصر ... ومثال المتفق عليه آحادا: أن ينقل إجماع الصحابة بشروطه المتفق عليها بطريق الآحاد). وقال أيضا (3/ 126): («الإجماع إما نطقي، أو سكوتي» وكل واحد منهما: إما «تواتر أو آحاد». فالنطقي: ما كان اتفاق مجتهدي الأمة جميعهم عليه نطقا، بمعنى أن كل واحد منهم نطق بصريح الحكم في الواقعة، نفيا أو إثباتا. وهذا معنى قوله: «إما نطقي من الكل». والسكوتي: ما نطق به البعض، وسكت البعض، وكل واحد من هذين إما أن ينقل تواترا أو آحادا، أي: ينقل بالتواتر أو الآحاد أن جميع المجتهدين نطقوا بصريح الحكم، أو ينقل بالتواتر أو الآحاد أن بعض المجتهدين أفتى، وبعضهم سكت ... قوله: «ومراتبها» أي: مراتب أقسام الإجماع «متفاوتة» في القوة والضعف، وأقواها النطقي المتواتر، ثم النطقي المنقول آحادا، لضعف الآحاد عن التواتر، ثم ¬

_ (¬1) وسوف يأتي قريبا الكلام على شروط الإجماع.

الخلاصة:

السكوتي المتواتر، ثم السكوتي المنقول آحادا ... فهذه أربع مراتب، طرفان وواسطتان، لأنها إما نطقي متواتر، أو سكوتي آحاد، هذان طرفان، في كل واحد منهما جهتا قوة أو ضعف، أو نطقي آحاد، أو سكوتي متواتر، هذان واسطتان، في كل واحدة منهما جهة قوة وجهة ضعف، وذلك ظاهر، فإن أردنا الترجيح بين الواسطتين، فالنطقي الآحاد أولى بالرجحان، لأن الاحتمالات القادحة في السكوتي أكثر وأقوى منها في الآحاد). وزاد الشنقيطي نوعا آخر للقطعي، وهو القولي المشاهد قال في "المذكرة" (ص/153): (واعلم أن الإجماع الذي هو حجة قاطعة عند الأصوليين هو القطعي لا الظني. والقطعي هو القولي المشاهد أو المنقول بعدد التواتر والظني كالسكوتي والمنقول بالآحاد) فالقولي المشاهد يكون حجة قاطعة في حق المشاهد، كما أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل قاطع في حق من شافهه به، فأما إن نقل لنا بطريق الآحاد كان حجة ظنية. الخلاصة: وبعد هذه النقول يتبين أنهم قعدوا ومثلوا للإجماع القطعي والظني: فالإجماع القطعي هو: ما وجد فيه الاتفاق مع الشروط التي لا يختلف فيه مع وجودها ونقله أهل التواتر، كالذي يعلم بالضرورة وقوعه من الأمة، ومنه النطقي المتواتر، والقولي المشاهد في حق من شاهده. والإجماع الظني هو: ما تخلف فيه أحد القيدين (الاتفاق أو تحقق بعض الشروط) بأن يوجد مع الاختلاف فيه كالاتفاق في بعض العصر وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة أو توجد شروطه لكن ينقله آحاد (النطقي المنقول آحادا)، وكالإجماع الإقراري والإجماع الاستقرائي (وهو ما لا يعلم إلا بالتتبع والاستقراء الناقص) وكالإجماع السكوتي المتواتر، أو السكوتي المنقول آحادا. فروع: الأول - حكم مخالف الإجماع القطعي والظني: قال الشيخ: (ويكفر مخالفه - أي القطعي - إذا كان ممن لا يجهله). وقال الطوفي قي "مختصر الروضة" (ص/137): (ومنكر حكم الإجماع الظني لا

الثاني - يكفر منكر الإجماع الضروري، والمشهور سواء أكان منصوصا عليه أم لا:

يكفر، وفي القطعي النفي والإثبات، والثالث: يكفر بإنكار مثل الصلوات الخمس دون غيرها). وقال تقي الدين في "مجموع الفتاوي" (7/ 39): (كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نص عن الرسول فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين فإنها مما بين الله فيه الهدى ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر كما يكفر مخالف النص البيِّن. وأما إذا كان يُظن الإجماع ولا يُقطع به فهنا قد لا يقطع أيضا بأنها مما تبين فيه الهدى من جهة الرسول ومخالف مثل هذا الإجماع قد لا يكفر بل قد يكون ظن الإجماع خطأ والصواب في خلاف هذا القول، وهذا هو فصل الخطاب فيما يكفر به من مخالفة الإجماع وما لا يكفر. والإجماع هل هو قطعي الدلالة أو ظني الدلالة فان من الناس من يطلق الإثبات بهذا أو هذا ومنهم من يطلق النفي لهذا ولهذا والصواب التفصيل بين ما يقطع به من الإجماع ويعلم يقينا أنه ليس فيه منازع من المؤمنين أصلا فهذا يجب القطع بأنه حق وهذا لابد أن يكون مما بين فيه الرسول الهدى). وقال - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى" (19/ 269): (وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع هل يكفر على قولين والتحقيق أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألة لا نص فيها فهذا لا يقع وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره). وهذا محصل ما وقفت عليه من أقوال في حكم مخالف الإجماع، وأرجح الأقوال عندي ما ذكره الشيخ رحمه الله حيث قال وهو يتكلم عن الإجماع القطعي: (ويكفر مخالفه إذا كان ممن لا يجهله). الثاني - يكفر منكر الإجماع الضروري، والمشهور سواء أكان منصوصا عليه أم لا: قال المرداوي في "التحبير" (4/ 1679): ({ابن حامد، وجمع، يكفر منكر حكم إجماع قطعي}، والقاضي وأبو الخطاب، وجمع لا، ويفسق والطوفي، والآمدي، ومن تبعه يكفر بنحو العبادات الخمس، وهو معنى كلام أصحابنا في الفقه: يكفر بنحو العبادات الخمس. قال ابن مفلح: واختاره بعض أصحابنا - مع أنه حكى الأول

عن أكثر العلماء - ولا أظن أحداً لا يكفر من جحد هذا. انتهى. ولهذا وغيره قلنا: والحق أن منكر المجمع عليه الضروري، والمشهور المنصوص عليه. كافر قطعاً، وكذا المشهور فقط، لا الخفي في الأصح فيهما. فهنا أربعة أقسام: الأول: المجمع عليه الضروري، ولا شك في تكفير منكر ذلك، وقد قطع الإمام أحمد، والأصحاب: بكفر جاحد الصلاة، وكذا لو أنكر ركناً من أركان الإسلام، لكن ليس كفره من حيث كون ما جحده مجمعاً عليه فقط، بل مع كونه مما اشترك الناس في معرفته فإنه يصير بذلك كأنه جاحد لصدق الرسول. ومعنى كونه معلوماً بالضرورة أن يستوي خاصة أهل الدين، وعامتهم في معرفته حتى يصير كالمعلوم بالعلم الضروري في عدم تطرق الشك إليه، لا أنه يستقل العقل بإدراكه فيكون علماً ضرورياً، كأعداد الصلوات، وركعاتها، والزكاة، والصيام، والحج، وزمانها، وتحريم الزنا، والخمر، والسرقة، ونحوها. وإن لم يكن معلوماً من الدين بالضرورة، ولكن منصوص عليه مشهور عند الخاصة والعامة فيشارك القسم الذي قبله في كونه منصوصاً، ومشهوراً، ويخالفه من حيث إنه لم ينته إلى كونه ضرورياً في الدين فيكفر به جاحده أيضاً. وإن لم يكن منصوصاً عليه لكنه بلغ مع كونه مجمعاً عليه في الشهرة مبلغ المنصوص بحيث تعرفه الخاصة، والعامة فهذا أيضاً يكفر منكره في أصح قولي العلماء، حكاها الأستاذ أبو إسحاق وغيره؛ لأنه يتضمن تكذيبهم تكذيب الصادق. وقيل: لا يكفر لعدم التصريح بالتكذيب، وإن لم يكن منصوصاً عليه، ولا بلغ في الشهرة مبلغ المنصوص؛ بل هو خفي، لا يعرفه إلا الخواص، كإنكار استحقاق بنت الابن السدس مع البنت، وتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالاتها، أو إفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة، ونحوه، فهذا لا يكفر جاحده، ولا منكره لعذر الخفاء، خلافاً لبعض الفقهاء في قوله: إنه يكفر؛ لتكذيبه الأمة. ورد: بأنه لم يكذبهم صريحاً، إذا فرض أنه لم يكن مشهوراً، فهو مما يخفى على مثله، فهذا تحقيق هذه المسألة وتحريرها ... ). وخلاصة كلام المرداوي أنه ألحق بالضروري: المشهور سواء أكان منصوصا عليه أم لا في أنه يكفر منكره.

الثالث - يثبت الإجماع بخبر الواحد ويكون حجة ظنية توجب العمل

الثالث - يثبت الإجماع بخبر الواحد ويكون حجة ظنية توجب العمل (¬1): قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (3/ 128): (العلماء اختلفوا في ثبوت الإجماع بخبر الواحد. قال الآمدي: فأجازه الحنابلة، وبعض الشافعية، وبعض الحنفية، وأنكره الباقون. وقال القرافي: الإجماع المروي بأخبار الآحاد حجة، يعني عند مالك، خلافا لأكثر الناس. قلت: احتج المانعون بأنه - يعني خبر الواحد - «ظني» أي: إنما يفيد الظن: «فلا يثبت قاطعا» وهو الإجماع، وحاصله أن الإجماع قاطع، وخبر الواحد ظني، فلا يثبت القاطع بالظني؛ لأن الضعيف لا يكون مستندا للقوي. قوله: «لنا:» أي: على أن الإجماع المروي آحادا حجة وجهان: أحدهما: أن «نقل الخبر الظني» آحادا يوجب العمل «فنقل الإجماع القطعي» آحادا «أولى» أن يوجب العمل، لأن الظن واقع في ذات خبر الواحد وطريقه، والإجماع إنما وقع الظن في طريقه لا في ذاته، وإذا وجب العمل بالأول، كان بالثاني أوجب. الوجه الثاني: أن «الظن متبع في الشرع» وهو مناط العمل، كما تقرر في غير موضع «وهو - يعني الظن - حاصل بما ذكرنا» يعني الإجماع المنقول آحادا ... وأيضا فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل قاطع في حق من شافهه به، كما أن الإجماع في نفسه قاطع، ثم إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نقل آحادا، كان حجة ; كذلك الإجماع إذا نقل آحادا، كان حجة، ولا فرق ... ) (¬2). الرابع: هل يختص انعقاد الإجماع بالصحابة: قال الشيخ: (وقد اختلف العلماء في إمكان ثبوته وأرجح الأقوال في ذلك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في العقيدة الواسطية: " والإجماع الذي ينضبط ¬

_ (¬1) وسوف يأتي قريبا - بإذن الله - بيان الشروط التي ذكرها الشيخ لاعتبار حجية هذا الإجماع (الظني). (¬2) انظر: روضة الناظر (ص/ 154)، إرشاد الفحول (1/ 161)، الإبهاج (2/ 394)، الإحكام للآمدي (1/ 343)، البحر المحيط (6/ 487)، وغيرها.

تحرير مذهب شيخ الإسلام:

ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة "). وقال في "الشرح" (ص/498) موضحا قول تقي الدين: (فهذا هو الإجماع الذي ينضبط، هو الذي يكون عليه السلف الصالح، والسلف الصالح هم: الصحابة والتابعون وتابعوهم يعني: القرون المفضلة الثلاثة. وقوله: (إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشرت الأمة) أي: بعد السلف الصالح كثر الاختلاف، وصار كل إنسانٍ يأتي بقولٍ ورأيٍ من عنده. "وانتشرت الأمة": بمعنى تفرقت، لأن الممالك الإسلامية اتسعت بالفتوح، وحصلت فتن وحروب، فلا نكاد نجمع أقوال العلماء من أدنى الدولة الإِسلامية إلى أقصاها، فانتشرت الأمة ولا يمكن الإحاطة بقولها، فأما السلف الصالح فيمكن). وهنا نرى أن الشيخ فسر السلف الصالح في كلام تقي الدين بالقرون الثلاثة المفضلة، ولتقي الدين كلاما آخر فيه تخصيص هذا العموم بالصحابة. قال في " مجموع الفتاوى - (11/ 341): (الإجماع متفق عليه بين عامة المسلمين من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والكلام وغيرهم في الجملة وأنكره بعض أهل البدع من المعتزلة والشيعة لكن المعلوم منه هو ما كان عليه الصحابة وأما ما بعد ذلك فتعذر العلم به غالبا ولهذا اختلف أهل العلم فيما يذكر من الإجماعات الحادثة بعد الصحابة واختلف في مسائل منه كإجماع التابعين على احد قولي الصحابة والإجماع الذي لم ينقرض عصر أهله حتى خالفهم بعضهم والإجماع السكوتي وغير ذلك). وقال في منهاج السنة (2/ 601): (ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة ومتنازعون في إجماع من بعدهم). تحرير مذهب شيخ الإسلام: سبق أن نقلنا أن الإجماع عند شيخ الإسلام ينقسم إلى إجماع قطعي، وظني، فالأول هو الذي ينضبط ولا ينعقد على خلاف نص، وهذا الذي يكفر مخالفه، وعند شيخ الإسلام أن هذا خاص بالصحابة، بخلاف الإجماع الاستقرائي، والإقراري فهذا

والإجماع الظني عند شيخ الإسلام حجة ظنية:

إجماع ظني ولا ينضبط، ولا يعارض به نصوص الكتاب والسنة. والإجماع الظني عند شيخ الإسلام حجة ظنية: قال في " مجموع الفتاوى" (19/ 267): (والإجماع نوعان قطعي فهذا لا سبيل إلى أن يعلم إجماع قطعي على خلاف النص وأما الظني فهو الإجماع الإقرارى والاستقرائي بأن يستقرئ أقوال العلماء فلا يجد في ذلك خلافا أو يشتهر القول في القرآن ولا يعلم أحدا أنكره فهذا الإجماع وإن جاز الاحتجاج به فلا يجوز أن تدفع النصوص المعلومة به لأن هذا حجة ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها فانه لا يجزم بانتفاء المخالف وحيث قطع بانتفاء المخالف فالإجماع قطعي وأما إذا كان يظن عدمه ولا يقطع به فهو حجة ظنية والظني لا يدفع به النص المعلوم لكن يحتج به ويقدم على ما هو دونه بالظن ويقدم عليه الظن الذي هو أقوى منه فمتى كان ظنه لدلالة النص أقوى من ظنه بثبوت الإجماع قدم دلالة النص ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا والمصيب في نفس الأمر واحد). الترجيح: والراجح أن انعقاد الإجماع لا يختص بالصحابة لشمول الأدلة التي سبق وأن سقتها في بيان حجية الإجماع للصحابة وغيرهم. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 47): (لا يختص الإجماع بالصحابة، بل إجماع كل عصر حجة، خلافا لداود، وعن أحمد مثله». قال الشيخ أبو محمد: وقد أومأ أحمد إلى نحو من قوله، يعني قول داود. قال الآمدي: ذهب أهل الظاهر، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه إلى أن الإجماع المحتج به مختص بالصحابة - رضي الله عنهم -، وذهب الباقون إلى أن إجماع أهل كل عصر حجة، وهو المختار. قلت: المشهور من مذهب أحمد ما حكيناه أولا كقول الأكثرين. قوله: «لنا: المؤمنون» إلى آخره، أي: لنا على أن إجماع كل عصر حجة وجهان: أحدهما: أن دليل السمع متناول لأهل كل عصر، وصادق عليهم، فيكون إجماعهم حجة.

أما الأول فلأن قوله - عز وجل -: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء: 115]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (ما رآه المسلمون حسنا .. ) (¬1) و (يد الله على الجماعة) «صادق على أهل كل عصر» إذ تصح تسميتهم مؤمنين ومسلمين، وجماعة تعريفا وتنكيرا. وأما الثاني: وهو كون إجماعهم حجة؛ فلأنه إذا تناولهم لفظ المؤمنين، وصدق عليهم، حرم خلافهم لقوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) الآية، كما سبق. فثبت بهذا أن إجماع كل عصر حجة. الوجه الثاني: أن المعقول من الدليل السمعي، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] الآية، وأخواتها مما سبق ; هو «إثبات الحجة الإجماعية مدة التكليف». إذ تقدير الكلام: إن سبيل المؤمنين حق، فاتبعوه ما دمتم مكلفين. والخطاب للموجودين، ولمن سيوجد، وإذا كان الأمر كذلك، فالتكليف «ليس مختصا بعصر الصحابة» بل هو دائم مستمر عصرا بعد عصر حتى تقوم الساعة، فيجب العمل بمعقول الدليل السمعي في إثبات الإجماع في كل عصر من أعصار مدة التكليف، وذلك إنما يكون باتفاق أهل ذلك العصر، إذ ما قبله وبعده معدوم. قوله: " قالوا: السمعي خطاب لحاضريه ". هذا حجة الظاهرية: أن دليل السمع الذي ثبت به الإجماع " خطاب لحاضريه " أي: لحاضري ذلك الخطاب كقوله - عز وجل -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة: 143]، الآيتين. وهذا خطاب للحاضرين " فيختص " بمقتضاه، وهو كون الإجماع حجة " بهم " دون غيرهم، لعدم تناول الخطاب له. قوله: " قلنا: " إلى آخره. هذا جواب ما ذكروه، أي: قلنا: الجواب عن الوجه " الأول " وهو قولهم: " السمعي خطاب لحاضريه فيختص بهم " أنه " باطل بسائر خطاب التكليف " نحو: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43] ونحوه كثير، ¬

_ (¬1) ضعيف مرفوعا، حسن موقوفا.

توجيه قول الإمام أحمد

فإنه خطاب للحاضرين، وعم غيرهم ممن بعدهم، ولم يختص بهم. وعنه جواب آخر وهو: أن من نصوص الدليل السمعي ما ليس خطابا للحاضرين، نحو قوله - عز وجل -: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) [النساء: 115] الآية، وهي عامة في المخاطبين وغيرهم، والأحاديث أيضا في ذلك عامة، فبذلك يحصل العموم لغير الصحابة ... ) (¬1). توجيه قول الإمام أحمد (¬2): قال الشيخ أحمد عزب في رسالته "الإجماع عند الأصوليين" (ص/78): ( وقد نقل عن الإمام أحمد - رحمه الله - ما يشعر بأنه يقول بعدم حجية الإجماع، ألا وهي ما يروى عنه من أنه قال: "من ادعى الإجماع فهو كاذب" فيمكن تأويل هذه العارة الموهمة لإنكاره إمكان نقل الإجماع بعدة تأويلات: أولًا - أنه محمول على استبعاد انفراد إطلاع ناقله، ومعنى ذلك أن من ادعى الإجماع منفردا حيث لم يطلع عليه غيره فهو كاذب، لأنه لو كان صادقا لأطلع عليه غيره (¬3). ثانيًا - أنه محمول على الورع، وذلك لجواز أن يكون هناك خلاف في المسألة لم يبلغه، ومعنى ذلك أي من ادعى وقوع الإجماع جازما به مع احتمال وجود خلاف لم يبلغه فهو كاذب، ويؤيد هذا لفظ الإمام أحمد - رحمه الله - في رواية ابنه عبدالله حيث قال: (من ادعى الإجماع فقد كذب، لعل الناس قد اختلفوا، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا). ثالثًا - أنه أراد غير إجماع الصحابة، ومعنى ذلك أن من ادعى إجماعا غير إجماع الصحابة فهو كاذب لتعذر العلم به (¬4). ¬

_ (¬1) انظر: المسودة (ص/284)، العدة (4/ 1092)، التمهيد (3/ 224)، روضة الناظر (ص/147)، المذكرة (ص/155)، المدخل (ص/280). (¬2) وانظر رسالة الشيخ سيد أشرف الإجماع عند الأصوليين (ص/43). (¬3) وظاهر هذا التأويل أنه في المسائل التي تتوافر الهمم على نقلها، أو يمكن حمله على الإجماع القطعي، وأما الظني فقد سبق جواز نقله بطريق الآحاد. (¬4) ويتجه هذا الوجه على إحدى الروايات عن الإمام أحمد كما سبق بيان ذلك.

شروط الإجماع

رابعًا - أنه أراد بذلك الإنكار على فقهاء المعتزلة الذين يدعون إجماع الناس على ما يقولون، وهم أقل الناس معرفة بأقوال الصحابة والتابعين. وهكذا عد عرض هذه التأويلات يتبين لنا ما يحمل عليه قول الإمام أحمد - رحمه الله - في قوله السابق). شروط الإجماع (¬1): الشرط الأول - قال الشيخ - رحمه الله -: (أن يثبت بطريق صحيح بأن يكون إما مشهوراً بين العلماء، أو ناقله ثقة واسع الإطلاع). وقال في "شرح الأصول" (ص/501): (أي: بأن يكون الإجماع مشهورًا بين العلماء فكل من تكلم عن مسالةٍ قال: المسألة فيها إجماع، فيكون الإجماع مشهورًا. وهذا أحد الطريقين. والطريق الثاني: أن يكون ناقل الإجماع ثقة واسع الاطلاع. "ثقة": أي أمينًا، فلا ينقل الإجماع إلا وهناك إجماع. "واسع الاطلاع" فإن لم يكن واسع الاطلاع - وإن كان ثقة - لا يقبل، مثل أن نعلم أن هذا الرجل رجل مقلد لا يعدو كتب أصحاب المذهب فكيف ينقل الإجماع! فإن هذا لا يصح منه دعوى الإجماع؛ لأنه ليس واسع الاطلاع، لكن إذا علمنا من تأليفه أنه واسع الاطلاع وينقل أقوال أهل العلم من كل مذهب ومن كل طبقةٍ، فإنه إذا نقل الإجماع وهو ثقة، فقد ثبت الإجماع، وهذا في الإجماع غير القطعي أما القطعي فقد سبق أنه لا يحتاج إلى ثقة ناقل لأنه متفق عليه). وذكر الشيخ أن هذه الشروط إنما هي لاعتبار حجية الإجماع الظني، لا القطعي. وسبق أن تكلمنا على أنه يصح ثبوت الإجماع بخبر الواحد، وأولى منه المشهور فلا إشكال - عندنا -. بقي أن ننظر في الشرطين اللذين وضعهما الشيخ لقبول الإجماع المنقول بخبر الآحاد. الشرط الأول - أن يكون ثقة، وفسره في "الشرح" بقوله: ("ثقة": أي أمينًا، فلا ينقل الإجماع إلا وهناك إجماع). ¬

_ (¬1) هذه الشروط غير الشروط والقيود المذكورة في التعريف.

الشرط الثاني -

وأكد ذلك قوله في "الشرح الممتع" (2/ 126): (وقوله: «ثقة»، الثِّقة هو: مَنْ يُوثق بقوله؛ لكونه مُكَلَّفاً صدوقاً. أي: بالغاً عاقلاً لم يُعرف بالكذب، أو بالعجلة والتَّسرع). والمعروف عن العلماء تفسير الثقة بأنه العدل الضابط، وهذا أعلى شروط قبول الرواية، ولكن الشيخ توسع في رسم أطر التوثيق لناقلي الإجماع. وقد سبق لنا بيان أن مدار العدالة على الصدق، فوافقنا الشيخ في ذلك، ولله الفضل والمنة. وكأن الشيخ بشرطه في كون ناقل الإجماع بألا يكون معروفا بالعجلة والتسرع: يشير إلى نحو ما اشترط في راوي الحديث بأن يكون ضابطا: بألا يكون ممن كثر، أو فحش خطأه. ولكن ما هي حدود الحكم على ناقل الإجماع بأنه متعجل، أو متسرع: إن تتبعنا الإجماعات المنقولة وجدنا أن غالبها أو أكثرها لم يصح فيها إجماع بل إن الخلاف فيها مشهورا بين العلماء فهنا نقول أن هذا الناقل للإجماع متعجل أو متسرع، وهذا يوجب التوقف فيما ينفرد بنقله من إجماعات حتى نعلم أنه ليس ثم خلاف في المسألة. - وأما مسالة أنه يشترط أن يكون واسع الإطلاع - يعني بالمسألة التي نقل فيها الإجماع -. ولعل مقصود الشيخ أن ينبه على مسألة ينبغي التفطن لها، وهي مراعاة اصطلاح ناقلي الإجماع، وذلك إما تصريحهم بمذهبهم، أو عن طريق تتبع ما ينقلوه من إجماعات، فالبعض يطلق الإجماع ويريد إجماع أهل مذهبه أو أهل بلده أو إجماع الأئمة الأربعة، ومنهم من لا يعتد بخلاف الظاهرية، ومنهم من يعتد بخلاف الزيدية، وغير ذلك من الاصطلاحات. الشرط الثاني - قال الشيخ: (ألا يسبقه خلاف مستقر فإن سبقه ذلك فلا إجماع لأن الأقوال لا تبطل بموت قائليها، فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق، وإنما يمنع من حدوث خلاف، هذا هو القول الراجح لقوة مأخذه وقيل لا يشترط ذلك فيصح أن ينعقد في العصر الثاني على أحد الأقوال السابقة ويكون حجة على من بعده).

قال الشيخ في "الشرح" (ص/501): (أن لا يسبقه خلاف مستقر فإن سبقه فلا إجماع، حتى وإن أجمع القرن الثاني على أحد قولي القرن الأول فإنه لا إجماع ... ثم قال: يشترط في الإجماع ألا يسبقه خلاف مستقر فإن سبقه خلاف مستقر فلا إجماع، وإن سبقه خلاف ولم يستقر مثل أن يختلف أصحاب هذا القرن ثم يتفقون فهذا خلاف غير مستقر يصلح بعده الإجماع ... ثم قال: الإِجماع لا يرفع الخلاف السابق لكنه يمنع من حدوث خلاف هذا هو القول الراجح لقوة مأخذه. وقيل: لا يشترط ذلك فيصح أن ينعقد في العصر الثاني على أحد الأقوال السابقة ويكون حجةً على من بعده، لكن هذا القول مرجوح، فبعض العلماء يقول: إذا اختلف القرن السابق على قولين- يعني: صاروا على قولين أو أقوال- ثم جاء القرن الذي بعدهم وأجمع على أحد الأقوال، فإن بعض العلماء يرى أن هذا إجماع، ولكن الصحيح أنه ليس بإجماع، والعلة أن الأقوال لا تموت بموت قائليها فهي باقية، فإن انقرضوا وماتوا فأقوالهم باقية، ودليل هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسانُ انقطعَ عنه عملُهُ إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنتفع به ... ). وإذا قلنا: إن قول الإِنسان يموت بموته لم ينتفع الناس به بعد الموت. فالصواب بلا شك أن الأقوال لا تموت بموت قائليها وأنها باقية، وعلى هذا فإذا قال قائل: أجمع أهل هذا العصر على قول، قلنا: ولكن خالفهم أهل العصر الأول، أو بعض أهل العصر الأول فلا إجماع). وكلام الشيخ هنا هو الراجح فإن كانت الأقوال باقية فلا يصح إجماع لبقاء الخلاف ببقاء هذه الأقوال، فإن أجمعوا على أحد الأقوال كانوا بعض الأمة لا كلها لخلاف أصحاب القول الأول. هذا بخلاف ما إن اختلف أهل عصر ولم يستقر الخلاف ثم اتفقوا على أحد الأقوال فهنا يصح الإجماع لانتفاء الخلاف واتفاق أهل العصر على قول واحد. قال ابن قدامة في "روضة الناظر" (ص/148): (وإذا اختلف الصحابة على قولين فأجمع التابعون على أحدهما فقال أبو الخطاب (¬1) والحنفية يكون إجماعا لقوله عليه ¬

_ (¬1) التمهيد (3/ 298).

انقراض العصر:

السلام لا تزال طائفة من أمتي على الحق وغيره من النصوص ولأنه اتفاق من أهل عصر فهو كما لو اختلف الصحابة على قولين ثم اتفقوا على أحدهما. وقال القاضي (¬1) وبعض الشافعية لا يكون إجماعا لأنه فتيا بعض الأمة لأن الذين ماتوا على القول الآخر من الأمة لا يبطل مذهبهم بموتهم ولذلك يقال خالف أحمد أو وافق بعد موته فأشبه ما إذا اختلفوا على قولين فانقرض القائل بأحدهما، فإن قيل إن ثبت نعت الكلية للتابعين فيكون خلاف قولهم حراما وإن لم يكونوا كل الأمة فلا يكون قولهم إجماعا أما أن يكونوا كل الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض. قلنا: الكلية تثبت بالإضافة إلى مسألة حدثت في زمنهم أما ما أفتى به الصحابي فقوله لا يسقط بموته ولو مات القائل فأجمع الباقون على خلافه لا يكون إجماعا، ولو حدثت مسألة بعد موته فأجمع عليها الباقون على خلافه كان إجماعا. ومن وجه آخر أن اختلاف الصحابة على قولين اتفاق منهم على تسويغ الأخذ بكل واحد منهما فلا يبطل إجماعهم بقول من سواهم). انقراض العصر: قال الشيخ: (ولا يشترط على رأي الجمهور انقراض عصر المجمعين). وقال في "الأصل" (ص/67): (ولا يشترط على رأي الجمهور انقراض عصر المجمعين فينعقد الإجماع من أهله بمجرد اتفاقهم، ولا يجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته بعد، لأن الأدلة على أن الإجماع حجة ليس فيها اشتراط انقراض العصر، ولأن الإجماع حصل ساعة اتفاقهم فما الذي يرفعه؟). المقصود بانقراض العصر هو موت جميع من هو من أهل الاجتهاد في وقت نزول الحادثة بعد اتفاقهم على حكم فيها. وقد اختار الشيخ الرواية التي أومأ إليها أحمد، وهي اختيار الكلوذاني (¬2). وأما اشتراط انقراض العصر فهو ما ذهب إليه أحمد، وهو مذهب أكثر الأصحاب كالقاضي (¬3)، وابن عقيل (¬4). ¬

_ (¬1) العدة (4/ 1105)، وانظر أيضا: الواضح (5/ 155)، والمسودة (ص/290)، وشرح مختصر الروضة (3/ 95)، وشرح الكوكب المنير (2/ 272). (¬2) التمهيد (3/ 347). (¬3) العدة (4/ 1095). (¬4) الواضح (5/ 142)، وانظر أيضا: المسودة (ص/287)، والروضة (ص/145)، وشرح مختصر الروضة (3/ 66)، والتحبير (4/ 1617)، وشرح الكوكب المنير (2/ 246)، والمدخل (ص/281).

شبهة

واختيار الشيخ هو الراجح لهذه الأدلة (¬1): الأول: أن الدليل السمعي الدال على صحة الإجماع وعصمته «عام» في كونه حجة قبل انقراض العصر وبعده «فالتخصيص» بأنه إنما يكون حجة بعد انقراض العصر «تحكم» من غير دليل. الثاني - «لو اشترط» انقراض العصر لصحة الإجماع «لما صح احتجاج التابعين على متأخري الصحابة به» أي: بالإجماع، إذ قد كان للصحابة أن يقولوا للتابعين: كيف تحتجون علينا بالإجماع وهو لم يصح، ولم يستقر بعد، لأن شرط صحته انقراض عصر المجمعين عليه، وهو باق لأننا نحن من المجمعين، وها نحن باقون، لكن التابعون كانوا يحتجون بالإجماع على متأخري الصحابة، كأنس وغيره، ويقرونهم عليه، فدل على أن انقراض العصر لا يشترط لصحة الإجماع. وأيضا: فإن الصحابة كانوا يحتجون بالإجماع بعضهم على بعض، وعلى بعض التابعين. الثالث - أن اشتراط الانقراض إنما كان لاحتمال الرجوع قبل الانقراض عن الخطأ، فإذا كان قولهم صوابا بظاهر النصوص استحال الرجوع عنه؛ فلا معنى لاشتراط الانقراض (¬2). شبهة (¬3): فإن قيل: أن الصحابة لو اختلفوا على قولين فهو إجماع منهم على تسويغ الخلاف، وأن الحق محصورين في أحد هذين القولين، فلو رجعوا إلى قول واحد صارت المسألة إجماعا آخر منهم على عدم تسويغ الخلاف وعدم جواز الأخذ إلا بأحد القولين ¬

_ (¬1) انظر شرح مختصر الروضة (3/ 67 - 68). (¬2) نفائس الأصول (6/ 2679). (¬3) انظر التمهيد (3/ 355) ونزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر (1/ 250).

الإجماع السكوتي:

، وهو الذي صاروا إليه آخرا، وهذا إجماع معارض للأول، وتعارض الإجماعين باطل، لكن اتفاقهم على أحد القولين بعد اختلافهم في المسألة إجماع صحيح لا يلزم منه محال كاتفاق الصحابة على قتال مانعي الزكاة وعلى أن الأئمة من قريش، وعلى تحريم المتعة، ونظائر ذلك كثيرة، وإنما يصح بتقدير اشتراط انقراض العصر لأن الإجماع الأول لم يستقر إذن حتى يعارض الإجماع الثاني. والجواب عن هذه الشبهة أن هذه حالة خاصة بخلاف مسألتنا من إجماعهم على أحد القولين، وحالتنا هذه فيها أن الإجماع الأول من حصر الحق في أحد هذين القولين وتسويغ الخلاف فيهما، فهذا الإجماع يكون حجة بشرط ألا يحصل منهم اتفاق على أحد أقوالهم. وبيان ذلك أن الحق في أحد القولين، فالحق واحد لا يتعدد، فإن ظهر لأحدهما قبل أن ينخرم عصره ظهور حجة أحد القولين أو أن الدليل الذي اعتمد عليه منسوخا جاز له الرجوع عن قوله والاتفاق على القول الذي ظهر دليله. وليس هذا من مسألة أن يتفقوا بداية على قول، فقد ظهر بالأدلة أن هذا الإتفاق حجة، وأنه معصوم، وأن الحق فيما اتفقوا عليه، وإن لم ينخرم عصرهم. وعليه فهذه حالة خاصة، فالإجماع الأول الذي انعقد على تسويغ الخلاف في كلا القولين إنما يكون حجة بشرط ألا يحصل منهم اتفاق على أحد قوليهم قبل أن ينخرم عصرهم. وبهذا ظهر الفرق بين الحالتين، وأنه لا يقاس أحدهما على الأخرى من اشتراط انخرام العصر في كلاهما. الإجماع السكوتي: قال الشيخ: (وإذا قال بعض المجتهدين قولاً أو فعل فعلاً واشتهر ذلك بين أهل الاجتهاد ولم ينكروه مع قدرتهم على الإنكار فقيل: يكون إجماعاً. وقيل: يكون حجة لا إجماعاً. وقيل: ليس بإجماع ولا حجة. وقيل: إن انقرضوا قبل الإنكار فهو إجماع وهذا أقرب الأقوال). أقوال الحنابلة: القول الأول - أنه حجة وإجماع:

هو ظاهر كلام أحمد، واختاره القاضي أبو يعلى، وابن عقيل وأبو الخطاب، وابن قدامة، وغيرهم كما يظهر من دفاعهم عن هذا القول. (¬1) القول الثاني أنه حجة وليس بإجماع: والمقصود أنه يكون حجة ظنية لا إجماع قطعي، ونسبه المرداوي، وابن النجار لأحمد وأصحابه (¬2). وأما القول الذي اختاره الشيخ من أنهم إن انقرضوا قبل الإنكار فهو إجماع، وعلله في الأصل بقوله: (لأن استمرار سكوتهم إلى الانقراض مع قدرتهم على الإنكار دليل على موافقتهم) وهذا القول هو قول الجبائي المعتزلي واختيار الآمدي (¬3). والراجح أن الإجماع السكوتي حجة ظنية - كما سبق الكلام على ذلك عند أنواع الإجماع - ولكن بشروط: قال المرداوي في "التحبير" (4/ 1604): ({أحمد، وأصحابه، وأكثر الحنفية، والمالكية، وحكي عن الشافعي، وأكثر أصحابه: لو قال مجتهد قولاً وانتشر ولم ينكر قبل استقرار المذاهب فإجماع}. أي: ظني وذلك لأن الظاهر (¬4) الموافقة لبعد سكوتهم عادة ... ) ثم قال (4/ 1611): (تنبيه: حيث قلنا: إنه إجماع، أو حجة لا بد يشترط له شروط، منها: كون ذلك في المسائل التكليفية. وأن يكون في محل الاجتهاد. وأن يطلعوا على ذلك. وأن لا يكون هناك أمارة سخط، وإن لم يصرحوا به. وأن يمضي قدر مهل النظر عادة في تلك الحالة. وأن لا ينكر ذلك مع طول الزمان. فخرج ما ليس من مسائل التكليف كما تقدم، وما إذا كان القائل مخالفاً للثابت القطعي فالسكوت عنه ليس دليلا على موافقته، وخرج أيضاً ما لم يطلع عليه الساكتون فإنه ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد (2/ 223)، العدة (4/ 1170، 1172)، الواضح (5/ 201)، الروضة (ص/151)، شرح مختصر الروضة (3/ 79). (¬2) انظر التحبير (4/ 1604)، شرح الكوكب المنير (2/ 254). (¬3) انظر شرح مختصر الروضة (3/ 79). (¬4) والظهور لا يكفي في كونه إجماعا قطعيا، بل في كونه حجة، وانظر شرح الإيجي على مختصر ابن الحاجب (2/ 248).

تنبيه:

لا يكون حجة قطعاً. وخرج أيضاً ما إذا كان هناك أمارة سخط فإنه ليس بحجة بلا خلاف، كما أنه إذا كان معه أمارة رضى يكون إجماعاً (¬1). وخرج أيضاً به ما إذا لم تمض مدة للنظر؛ لاحتمال أن يكون الساكت في مهلة للنظر. ومن شرط محل الخلاف أيضاً أن لا يطول الزمان مع تكرر الواقعة (¬2). وأن يكون قبل استقرار المذاهب، فأما بعد استقرارها فلا أثر للسكوت قطعاً، كإفتاء مقلد سكت عنه المخالفون للعلم بمذهبهم، ومذهبه، كحنبلي يفتي بنقض الوضوء بمس الذكر، فلا يدل سكوت من يخالفه - كالحنفية - على موافقته (¬3)، والله أعلم. تنبيه: ينبغي أن يدخل في المسألة ما إذا فعل بعض أهل الإجماع فعلاً ولم يصدر منهم قول، وسكت الباقون عليه، أن يكون هذا إجماعاً سكوتياً بناء على ما سبق من المرجح في أصل الإجماع أنه لا فرق بين القول والفعل) (¬4). فتحصل من كلام المرداوي بعض الشروط لاعتبار الإجماع السكوتي حجة ظنية وهي: 1 - أن يكون ذلك في المسائل التكليفية. 2 - أن يكون في محل الاجتهاد. 3 - أن يطلع باقي المجتهدين على ذلك. 4 - أن لا يكون هناك أمارة سخط، وإن لم يصرحوا به. 5 - أن لا يكون معه أمارة رضى وإلا كان إجماعاً. 6 - أن تمضي مدة كافية للنظر والتأمل في حكم الحادثة عادة. ¬

_ (¬1) قال الشيخ سيد أشرف في رسالته "الإجماع عند الأصوليين" (ص/102): (إذا اعتبرنا السكوت دليلا على الرضا قطعا كان إجماعا قطعيا، وإن اعتبرناه دليلا ظنيا على الرضا كان حجة أو إجماعا ظنيا، وغن لم نعتبره دليلا عليه أصلا لم يكن إجماعا ولا حجة). (¬2) إن تكرر السكوت مع طول الزمن، وكانت الفتوى فيما يعم به البلوى، فالإجماع هنا يكون حجة قطعية؛ لأن تكرر السكوت والحال هذا يحدث علما ضروريا بالرضا. وانظر رسالة الإجماع عند الأصوليين للشيخ سيد أشرف (ص/83). (¬3) وهذا بخلاف ما إذا كانت حادثة جديدة وليس للمذاهب المستقرة فيها أقوال، فهنا سكوتهم يدخل في الإجماع السكوتي، وانظر الإجماع عند الأصوليين لسيد أشرف (ص/82). (¬4) انظر: شرح الكوكب المنير (2/ 253).

ملاحظة - الإجماع السكوتي غير مختص بالصحابة:

7 - أن لا ينكر ذلك مع طول الزمان. 8 - أن لا يطول الزمان مع تكرر الواقعة. 9 - أن يكون قبل استقرار المذاهب. فإذا اجتمعت هذه الشروط كان الإجماع السكوتي حجة ظنية. ملاحظة - الإجماع السكوتي غير مختص بالصحابة: اختلف فيها الحنابلة على قولين: القول الأول - أنه مختص بالصحابة: وهو ظاهر كلام الأكثرين أن افتراضهم هذه المسألة في عصر الصحابة دون غيرهم. قال القاضي في " العدة" (4/ 1170): (إذا قال بعض الصحابة قولا، وظهر للباقين، وسكتوا عن مخالفته والإنكار عليه حتى انقرض العصر، كان إجماعا. وهذا ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- في رواية الحسن بن ثواب، قال: "أذهب في التكبير غداة يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ قال: بالإجماع: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس". وظاهر هذا: أنه جعله إجماعا، لانتشاره عنهم، ولم يظهر خلافه ... ) (¬1). القول الثاني - أنه غير مختص بالصحابة: قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 78): (اعلم أنه في " الروضة " فرض هذه المسألة في الصحابة، وليس مختصا بهم، بل هذه مسألة الإجماع السكوتي، منهم ومن غيرهم من مجتهدي الأعصار ... ) (¬2). وقال علاء الدين الكناني في شرحه على مختصر الروضة المسمى "سواد الناظر" (3/ 583): (إذا اشتهر في عصر الصحابة أو غيرهم قول بعضهم التكليفي وبلغ علماء العصر ومضت مدة ... فإجماع). والراجح أن من دقق في الشروط السابقة علم أنه غير مختص بالصحابة (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر التمهيد (3/ 323)، روضة الناظر (ص/151)، المسودة (ص/299). (¬2) وانظر أيضا نزهة الخاطر العاطر (1/ 257). (¬3) انظر رسالة "الإجماع عند الأصوليين" (ص/101) للشيخ سيد أشرف.

القياس

القياس تعريف القياس: أ- لغة: قال الشيخ: (القياس لغة: التقدير والمساواة) (¬1). القياس في اللغة مصدرا لفعل قاس يقيس قيسا وقياسا، وله في اللغة معنيان: أولهما التقدير، تقول: قاس الفلاح الأرض بالقصبة أي قدرها بها، وتقول: قاس التاجر الثوب بالذراع أي قدره به. وثانيهما: المساواة، تقول: أسامة لا يقاس بخالد، أي: لا يساويه (¬2). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 5): ("القياس لغة: التقدير والمساواة" فالقياس في اللغة يدل على معنى التسوية على العموم؛ لأنه نسبة وإضافة بين شيئين، ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان، ولا يقاس بفلان، أي يساوي فلانا، ولا يساوي فلانا). قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (3/ 218): (قَوْلُهُ: «الْقِيَاسُ»، أَيِ: الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ «لُغَةً»، أَيْ: فِي اللُّغَةِ «التَّقْدِيرُ، نَحْوُ: قِسْتُ الثَّوْبَ بِالذِّرَاعِ»، أَيْ: قَدَّرْتُهُ بِهِ، «وَالْجِرَاحَةَ بِالْمِسْبَارِ»، وَهُوَ مَا يُسْبَرُ بِهِ الْجُرْحُ، أَيْ: يُرَازُ بِهِ لِيُعْلَمَ عُمْقُهُ، وَهُوَ مَعَ الْجِرَاحِيَّةِ شِبْهُ الْمِيلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قِسْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ: قَدَّرْتُهُ عَلَى مِثَالِهِ، يُقَالُ: قِسْتُ «أَقِيسُ وَأَقُوسُ»، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، وَنَظَائِرُهُ فِي اللُّغَةِ كَثِيرَةٌ، وَالْمَصْدَرُ قَيْسًا وَقَوْسًا بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ مِنْ بِنَاءٍ أَقِيسُ قِيَاسًا، وَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مَصْدَرِ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَأَقُوسُ «قَوْسًا». قَوْلُهُ: «وَقِيَاسًا فِيهِمَا»، أَيْ: فِي اللُّغَتَيْنِ تَقُولُ: قِيَاسًا، فَتَقُولُ: أَقِيسُ قِيَاسًا، وَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مَصْدَرِ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَأَقُوسُ قِيَاسًا، وَقِيَاسُهُ: قِوَاسًا، لَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ، انْقَلَبَتْ يَاءً، كَمَا قَالُوا: قَامَ قِيَامًا، وَصَامَ صِيَامًا، وِصَالَ صِيَالًا، وَأَصْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ الْوَاوُ). ¬

_ (¬1) انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس، لسان العرب، الصحاح للجوهري مادة (ق ي س). (¬2) انظر رسالة قياس الأصوليين بين المثبتين والنافين لمحمد عبداللطيف (ص/9).

قال الشيخ محمد عبد اللطيف في رسالة "قياس الأصوليين بين المثبتين والنافين" (ص/11): (وهناك معان لغوية كثيرة للقياس وردت في كتب الأصوليين ولم يرد لها ذكر في كتب اللغة من بين هذه المعاني: (الاعتبار) تقول قاس شيء علاء شيء إذا أعتبره. ومنها: أيضا (الإصابة) تقول: قاس محمدًا الشيء إذا أصابه؛ لأن القياس يصاب به حكم الله في الفرع الذي تحققت فيه علة الأصل. ومنها: (المماثلة) فقد قال الماوردي والروياني في كتاب القضاء: القياس في اللغة المماثلة، تقول: هذا قياس هذا أي مثله). وكل هذه المعاني متقاربة في المعنى. ب- اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: تسوية فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما). قال في "الشرح" (ص/510): (هذه أربعة أشياء: تسوية فرع بأصل في حكَم لعلةٍ جامعةٍ، هذه أربعة أمور: يعني: أن نسوي الفرع بالأصل في حكمه من أجل أنهما متفقان في العلة الموجبة للحكم فهذه أربعة أمور: "فرع ": وهو مقيس. "وأصل ": وهو المقيس عليه. "وحكم ": وهو ما اقتضاه الدليل الشرعي من وجوبٍ أو تحريم، أو صحة أو فسادٍ أو غيرها، فهذا هو الحكم، وعرفتم فيما سبق الأحكام التكليفية الخمسة والأحكام الوضعية التي ذكرنا منها ثلاثة، فالحكم إذًا هو ما اقتضاه الدليل الشرعي "من وجوب "- بأن نقول: هذا واجب قياسًا على هذا. "أو تحريم ": بأن نقول: هذا حرام قياسًا على هذا. "أو صحة": بأن نقول هذا صحيح قياسًا على هذا. "أو فساد": فنقول: هذا فاسد قياسًا على هذا. "أو إباحة": بأن نقول: هذا مباح قياسا على هذا، أو ما أشبه ذلك. المهم أن الحكم هو ما اقتضاه الدليل الشرعي، فسُوِّي الفرع بالأصل في ذلك

ملاحظة:

الحكم. وقوله: ("العلة": فهي المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل) (¬1): مثال ذلك إذا قلنا: إن العلة في جريان الربا في البُرِّ أنه مكيل، فنلحق به على هذا كلَّ ما كان مَكيلاً؛ لأن العَلةَ التي أوجَبَتَ الحكَمَ وهو جريان الربا في البُرِّ هي الكيل، فإذا وجدت هذه العلة في أي شيء جرى فيه الربا قياسًا على البُرِّ. وإذا قلنا إن العلة الطعم ولم نعتبر الكيل، قلنا: يجري الربا في كل مطعوم. وإن قلنا: الكيل والطعم قلنا: يجري الربا في كل مكيل مطعوم. فالمهم أن العلة هي الوصف أو المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل، وبناءً على ذلك فلا قياس في الأمور التعبدية التي لا نعقل علتها لفوات ركن من أركان القياس وهو العلة الجامعة بين الأصل والفرع ولهذا قلنا: وهذه الأربعة أركان القياس). ملاحظة: عرف الشيخ القياس بناء على إحدى طريقتي الأصوليين في تعريف القياس، وهي الطريقة التي تنظر للقياس على أنه دليل شرعي مستقل بذاته، سواء تفطن له المجتهد فاستدل به على حكم غير المنصوص أم لم يتفطن له، وجد مجتهد أم لم يوجد، وأما الطريقة الثانية فتنظر إلى القياس على أنه عمل من أعمال المجتهد (¬2). قال الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/142): (نجد أن للأصوليين اتجاهين رئيسين في تعريفه: الأول: جعل القياس اسما لفعل المجتهد الذي ينظر في المسألة غير المنصوص على حكمها ليلحقها بالمنصوص عليها. الثاني: جعل القياس اسما للتساوي الواقع بين المسألتين، سواء تفطن له المجتهد فاستدل به على حكم غير المنصوص أم لم يتفطن له. وعلى هذا يمكن أن نعرفه بناء على الاتجاه الأول بأنه: إلحاق فرع بأصل في الحكم الشرعي الثابت له لاشتراكهما في علة الحكم. ¬

_ (¬1) وسوف يأتي قريبا - بإذن الله - تعالى الكلام على تعريف العلة. (¬2) انظر رسالة "قياس الأصوليين بين المثبتين والنافين" لمحمد عبداللطيف (ص/13، 39).

ومثله التعبير بلفظ: حمل فرع على أصل في حكم ... الخ. وكذا قولهم: حمل معلوم على معلوم ... الخ. وأما على الاتجاه الثاني فيمكن أن يعرف بأنه: مساواة فرع لأصل في حكم شرعي لاشتراكهما في علة الحكم). والظاهر والله أعلم أن صورة القياس العملية تشمل الطريقتين، فهما يلتقيان في المعنى، وإن اختلفتا في الألفاظ. وإيضاحه أنه (¬1) عند النظر في التطبيق العملي لعملية القياس الأصولي نجد أنه لابد فيها من أمرين: 1 - المساواة في العلة، وهذا المساواة علامة نصبها الشارع لتدل على الحكم، وليس من فعل المجتهد. 2 - إلحاق أصل وحمل الصورة غير المنصوص عليها بالمنصوص عليها عند المساواة في العلة، وهذا عمل من أعمال المجتهد. وهكذا نرى أن صورة القياس العملية تشمل التعريفين، وعلى هذا التعريف بالمساواة أو بالإثبات قد تلاقيا في المعنى وإن اختلفا في اللفظ. قال البناني في "حاشيته على جمع الجوامع" (2/ 203): (وكونه فعل المجتهد لا ينافي أن ينصبه الشارع دليلا إذ لا مانع من أن ينصب الشارع حمل المجتهد الذي من شأنه أن يصدر عنه دليلا سواء وقع أم لا). وهذا التعميم الذي في كلام البناني يلتقي مع مذهب الحنابلة في مسألة التفويض. قال المرداوي في "التحبير" (8/ 3995): (يجوز أن يقال لنبي ومجتهد: احكم بما شئت فهو صواب، ويكون مدركا شرعيا، ويسمى التفويض عند الأكثر ... ) وفي المذهب أقوال أخر، وقد سبق الكلام عن التفويض، والصواب أن النبي قد يجتهد، وقد يخطئ، كذا العالم أيضا، والفرق بينهما أن النبي لا يقر على باطل، فإن أخطأ فلا بد وأن ينزل الوحي بتصويبه. وعليه فالعموم الذي في كلام البناني يحمل على ما إذا وقع منه الإصابة لا بمجرد الاجتهاد. ¬

_ (¬1) انظر الموازنة بين دلالة النص والقياس الأصولي للدكتور أحمد الصاعدي (2/ 242)، ونقلها عنه فهد الجهني في رسالته "القياس عند الإمام الشافعي" (ص/176).

تعريفات الحنابلة للقياس:

تعريفات الحنابلة للقياس: - عرفه ابن النجار في "مختصر التحرير" بقوله: "وشرعا تسوية فرع بأصل في حكم، واصطلاحا رد فرع إلى أصل بعلة جامعة ". - عرفه القاضي في "العدة" (1/ 174) بقوله: (القياس: رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما. وقيل: حمل الفرع على الأصل بعلة الأصل. وقيل: موازنة الشيء بالشيء. وقيل: اعتبار الشيء بغيره. والأول والثاني صحيحان. وأما الثالث والرابع ففيهما احتمال؛ لأنهما لا يعبران عن صفة القياس في أحكام الشريعة، والمقصود ها هنا العبارة عن القياس في الأحكام الشرعية، وهو على التفسير الذي ذكرناه). - قال المرداوي في "التحبير" (7/ 3117): ({واصطلاحاً}، أي: في اصطلاح علماء الشريعة. اختلف العلماء في تعريفه اختلافاً كثيراً جداً، وقل أن يسلم منها تعريف. فقال القاضي، وأبو الخطاب، وابن البنا: هو رد فرع إلى أصله بعلة جامعة. وفي ' التمهيد ' أيضاً: تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم، واختاره أبو الحسين البصري. قال ابن مفلح: ومراده تحصيل مثل حكم الأصل، ومعناه في ' الواضح '، وقال: إنه أسد ما رآه. قال ابن مفلح: لكن هو نتيجة القياس لا نفسه. انتهى ... وقريب منه ما قاله الموفق، والطوفي، وغيرهما: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما ... وقال ابن المني، وابن حمدان: مساواة معلوم لمعلوم في معلوم ثالث، يلزم من مساواة الثاني للأول فيه مساواته في حكمه. قال ابن مفلح: ' وهو معنى من قال مساواة فرع لأصل في علة حكمه '. انتهى). - عرفه ابن قدامة في "الروضة" (ص/275): (وهو في الشرع حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما، وقيل حكمك على الفرع بمثل ما حكمت به في الأصل لاشتراكهما في العلة التي اقتضت ذلك في الأصل، وقيل حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما بجامع بينهما من إثبات حكم، أو صفة لهما، أو نفيهما

اعتراضات على التعريف:

عنهما، ومعاني هذه الحدود متقاربة). - قال الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/145): (شرعا: حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما، وقيل: إثبات مثل الحكم في غير محله لمقتض مشترك. وقيل: تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره بجامع مشترك، ومعانيها متقاربة، وقيل غير ما ذكر). اعتراضات على التعريف: حقيقة أن إيجاد حد للقياس مما يصعب، وغالب التعريفات التي ذكرها العلماء له لا تسلم من اعتراض، وسوف نناقش بعض الاعتراضات الواردة على تعريف الشيخ - رحمه الله - حتى نصل إلى تعريف سالم من المعارضة. الاعتراض الأول: اعترض على استعمال كلمتي الأصل والفرع في الحد بعدة اعتراضات منها: أ- أنه يلزم منه الدور، وإيضاحه أن الأصل والفرع لا يعرفان إلا بعد معرفة حقيقة القياس، فأخذهما في تعريفه دور. وأجاب المرداوي عن هذا الاعتراض في التحبير" (7/ 3119) بقوله: (إنما نعني بالفرع صورة أريد إلحاقها بالأخرى في الحكم، لوجود العلة الموجبة للحكم فيهما، وبالأصل: الصورة الملحق بها، فلا يلزم دور من كون لفظ الفرع والأصل، يشعر أن لا يكون هذا فرع وذاك أصل، إلا أن يكون هذا مقيساً على ذلك). ب- أن الأصل غالب استعماله في الموجودات، فيوهم استعماله بعدم دخول المعدومات في القياس، مع أن غالب القياس فيها. قال الآمدي في "إحكام الإحكام" (3/ 205): (ولو قال حمل فرع على أصل ربما أوهم اختصاصه بالموجود من جهة أن وصف أحدهما بكونه فرعا والآخر بكونه أصلا قد يظن أنه صفة وجودية والصفات الوجودية لا تكون صفة للمعدوم وإن لم يكن حقا فكان استعمال لفظ المعلوم أجمع وأمنع وأبعد عن الوهم الفاسد). قال عيسى منون في نبراس العقول (ص/23): (رفع إيهام كون المقيس والمقيس عليه وجوديين لأن الأصل ما تولد منه الشيء والفرع ما تولد عن الشيء، مع أنك

علمت أن القياس يجري في المعدومات أيضا، وإنما عبرنا بالإيهام لأن الأصلية والفرعية قد تكون في المعدومات فإن عدم المشروط مفرع على عدم الشرط وعدم الملزوم مفرع على عدم اللازم إلا أن استعمالهما في الموجودات أكثر ... ). وعليه فقد عرفت أن استخدام كلمة أصل وفرع لا يلزم منه الدور في التعريف، وأن الأصل والفرع قد يستخدمان في المعدومات أيضا. الاعتراض الثاني: أن هذا التعريف لا يدخل فيه التسوية بين الأصل والفرع في النفي. قال الآمدي في "الإحكام" (3/ 206): (وأما القيد الثاني - أي للتعريف الذي نقله عن القاضي أبي بكر: في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما - فإنما ذكره لأن حمل الفرع على الأصل قد بان أن معناه التشريك في الحكم وحكم الأصل وهو المحمول عليه قد يكون إثباتا وقد يكون نفيا وكانت عبارته بذلك أجمع للنفي والإثبات). قلت: والإطلاق الذي في تعريف الشيخ يدخل فيه التسوية بين الأصل والفرع في النفي والإثبات، ويكون إضافة قيد النفي حشو. الاعتراض الثالث: قال المرداوي في "التحبير" (7/ 3125): (لم يرد بالحد قياس الدلالة وهو الجمع بين أصل وفرع بدليل العلة كالجمع بين الخمر والنبيذ بالرائحة الدالة على الشدة المطربة (¬1). ولا قياس العكس: وهو تحصيل نقيض حكم المعلوم في غيره لافتراقهما في علة الحكم، مثل: لما وجب الصوم في الاعتكاف بالنذر وجب بغير نذر، عكسه ¬

_ (¬1) قياس الدلالة يجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة، وهو إما بملزومها أو أثرها، أو حكمها، ليدل اشتراكهما في الدليل على اشتراكهما في العلة، فيلزم اشتراكهما في الحكم، وسمي بقياس الدلالة؛ لأن الجامع فيه دليل العلة لا نفسها. وذكر الشنقيطي في "المذكرة" (ص/250) أمثلة فقال: (مثال الجمع بملزومها: الحاق النبيذ بالخمر في المنع بجامع الشدة المطربة لأنها ملزومة للأسكار الذي هو العلة. ومثال الجمع بأثر العلة: الحاق القتل بالمثقل بمحدد في القصاص بجامع الإثم، لأن الإثم أثر العلة التي هي القتل العمد العدوان. ومثال الجمع بحكم العلة: الحكم بحياة شعر المرأة قياساً على سائر شعر بدنها بجامع الحلية بالنكاح والحرمة بالطلاق، وكقولهم بجواز رهن المشاع قياساً على جواز بيعه بجامع جواز البيع).

الصلاة لما تجب فيه بالنذر لم تجب بغير نذر. وقيل: بلى، وقيل: ليسا بقياس} قال ابن حمدان في ' المقنع ' وغيره: المحدود هنا هو قياس الطرد فقط. وقال القاضي عضد الدين وغيره: (القياس المحدود هو قياس العلة) انتهى. قال الآمدي في 'المنتهى' القياس في اصطلاح الأصوليين ينقسم إلى قياس العكس وحده بالحد المذكور، وإلى قياس الطرد هو: عبارة عن الاستواء بين الفرع والأصل في العلة المستنبطة من حكم الأصل. وقال ابن مفلح: ' وقياس الدلالة لم يرد بالحد ... ). - وبالنسبة لقياس الدلالة يمكن أن يدخل في الحد لو عبرنا بكلمة (وصف جامع) بدلا من (علة جامعة). قال الشيخ السلمي في "أصوله" (ص/154): (أكثر الأصوليين يعبرون عن الوصف الجامع بالعلة، ثم يذكرون من شروط العلة أن تكون وصفا مناسبا، وهذا لا يستقيم على قول من يرى جواز الاستدلال بقياس الشبه وقياس الدلالة؛ لأن الوصف الجامع في هذين القياسين هو الشبه في الأول ودليل العلة في الثاني، ولا يشترط لهما ظهور المناسبة، فالوصف الجامع الذي هو ركن من أركان القياس قد يكون علة، وقد يكون دليل العلة، وقد يكون وصفا شبهيا). أما قياس العكس فلا يدخل في حد قياس العلة لاختلاف النوعين. قال السلمي (ص/143): (والقياس ينقسم إلى قياس طرد وقياس عكس، ولكن العلماء حين يعرفونه إنما يعرفون قياس الطرد لأنه الأصل، أما قياس العكس فقل من يراعيه عند تعريف القياس؛ إما لأنه لا يرى حجيته، وإما لقلة وروده في كلام الفقهاء، وإما لاختلاف الحقيقتين وتعذر الجمع بينهما في تعريف واحد). قال الآمدي في "الإحكام" (3/ 204): (وإن كان قياس العكس قياسا حقيقة غير أن اسم القياس مشترك بين قياس الطرد وقياس العكس فتحديد أحدهما بخاصيته لا ينتقض بالمسمى الآخر المخالف له في خاصيته وإن كان مسمى باسمه ولهذا فإنه لو حدت العين بحد يخصها لا ينتقض بالعين الجارية المخالفة لها في حدها وإن اشتركا في الاسم والمحدود ها هنا إنما هو قياس الطرد المخالف في حقيقته لقياس العكس) (¬1). ¬

_ (¬1) وإن أردت التوسع في تعريف القياس والاعتراضات الواردة عليه انظر نبراس العقول (ص/13: 46).

شرح التعريف:

وعليه فتعريف القياس هو تسوية فرع بأصل في حكم بوصف جامع بينهما. شرح التعريف: التسوية: بداية .. اعلم أن الظاهر من المراد بالمساواة هو ما كان صحيحا في نفس الأمر وفي الواقع، وإيضاحه أن المساواة إما أن تكون بحسب نظر القائس، وقد تكون بحسب الواقع وفي نفس الأمر، فيكون لها فردان أحدهما كامل، وهو ما كانت المساواة فيه في الواقع ونفس الأمر، وثانيهما غير كامل وهو ما كانت المساواة فيه بحسب نظر القائس، والمقرر أن اللفظ عند إطلاقه لا ينصرف إلا إلى فرده الكامل (¬1). ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في هذا الحد هل يدخل فيه القياس الفاسد أم أنه للصحيح فقط. والاختلاف في هذه المسألة يدور على الترجيح في مسألة هل الحق واحد أم يتعدد. وبناء على أن الراجح أن الحق واحد لا يتعدد فإن هذا التعريف لا يشمل القياس الفاسد. فإذا أردنا أن يدخل فيه القياس الفاسد أضفنا قيد: (عند المثبت) أو (في نظر المجتهد). وأما بالنسبة لطريقة المصوبة التي ترى أن الحق يتعدد، وأن كل مجتهد مصيب، فإنما تضيف هذا القيد: (عند المثبت) أو (في نظر المجتهد) لتعرف القياس الصحيح؛ لأن الكل حق وصواب فكان كل القياس الصادر عن نظر المجتهد حق وصواب، القياس صحيح. قال عيسى منون في نبراس العقول (ص/26): (الأمر الثالث: ما ذكر في هذا المقام من أن هذا القيد لإدخال الفاسد إنما يظهر على مذهب المخطئة أي القائلين بأن المجتهد يخطئ ويصيب وأن القياس يكون صحيحا معتبرا من الأدلة الشرعية إذا وافق الواقع ويكون فاسدا غير معتبر من الأدلة إذا لم يوافق الواقع، وأما المصوبة الذين يقولون: إن كل مجتهد مصيب وأن مدار الأحكام الشرعية على ما أدى إليه نظر ¬

_ (¬1) انظر: قياس الأصوليين بين المثبتين والنافين (ص/35).

تتمة وبيان:

المجتهد حتى لو تغير اجتهاده وعدل عن قياس إلى دليل آخر لا يحكم على القياس الأول بالفساد بل هو دليل انتهى حكمه كالمنسوخ- فيلزمهم هذا القيد إذ ليس عندهم إلا الاشتراك في نظر المجتهد. فلو حذف هذا القيد مع أن المتبادر الاشتراك في الواقع ونفس الأمر خرج عن التعريف جميع أفراد المعرف ولم يصدق على فرد منها. فإن قيل إذا كان الاشتراك عند المصوبة لا يكون إلا بنظر المجتهد انصرف عند الإطلاق إلى ذلك ولا يحتاج لذكر هذا القيد عندهم. (قلت): ذكرنا سابقا أن الاشتراك إذا أطلق انصرف إلى الموافق لما في نفس الأمر لأنه الفرد الكامل فلا يفهم أهل العرف العام إلا ذلك ولا ينظر إلى اصطلاح المصوبة فتأمل. فإن قيل: هل يعقل قياس فاسد عند المصوبة؟ قلت: نعم بأن يكون إلحاق الفرع بالأصل وتشبيهه به من غير أن يكو المشبِه - بكسر الباء - معتقدا ذلك، ولكن هذا خارج عن التعريف ذكر القيد أو حذف. فإذا أردنا شموله له نقول في التعريف: تشبيه فرع بأصل؛ لأنه قد يكون مطابقا لحصول الشبه وقد لا يكون وقد يكون المشبه يرى ذلك وقد لا يراه. كذا في العضد، ووضحه العلامي السعد بما حاصله: إن التشبيه هو الدلالة على مشاركة في أمر هو وجه الشبه والجامع فإن كان حاصلا فالتشبيه مطابق وإن لم يكن حاصلا فغير مطابق وعلى كل تقدير فالمشبِه - بكسر الباء - إما أن يعتقد حصوله فصحيح في الواقع أو في نظره وأما ن لا يعتقد حصوله ففاسد. اهـ). تتمة وبيان: اعلم أن القياس الفاسد - الذي ليس فيه موافقة لما في نفس الأمر - ينقسم إلى قسمين، وهو ما ظهر فيه عدم الموافقة، وما لم يظهر فيه عدم الموافقة، وقد اختلف العلماء القسم الثاني، هل يلحق بالصحيح، أم بالفاسد. والموافق لأصولنا من أن الحق واحد عدم إلحاقه بالصحيح فهو غير مطابق لما في نفس الأمر، إلا انه لما لم يظهر لنا عدم موافقته، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإنه لحين ظهور وجه عدم موافقته فإنه يلحق بالصحيح، ويسمى الصحيح حكما، ومثاله الخلاف في علة الربا في الأجناس الربوية هل هي الكيل أو الطُّعْمُ أو القوت،

تعريف العلة:

كذا الخلاف في علة ولاية الإجبار في البكر الصغيرة هل هي: البكارة، فيلحق بها البكر البالغة، أو الصغر، فيلحق بها الصغيرة الثيب، وكذا الخلاف في علة قتل المرتد هل هي: تبديل الدين، فيلحق به المرأة، أو إعانة الكفار فلا يلحقها به. والأقوى من الناحية العملية أن هذا النوع ما لم تظهر وجه المخالفة فيدخل في الصحيح حكما. قال عيسى منون في "نبراس العقول" (ص/25): (الأمر الثاني أن الفاسد هو ما كان الاشتراك فيه غير موافق لما في الواقع ونفس الأمر أعم من أن يظهر ذلك فنحكم بفساده أو لا يظهر. فهل إذا حذف هذا القيد يخرج عن التعريف كل من القسمين أو يخرج الأول فقط وهو ما ظهر فساده؟ والجواب: أن المفهوم من عبارة الإسنوي ومثلها عبارة ابن السبكي أن هذا القيد لإدخال القسمين معا. والمفهوم من شرح المحلى على جمع الجوامع أنه لإدخال القسم الأول فقط. أما الثاني فداخل في الصحيح حتى يظهر فساده إذ الفاسد في نفس الأمر قبل ظهور فساده معتبر من الأدلة الشرعية ومحكوم عليه بالصحة وإلا لامتنع الحكم بالصحة على كثير من الأدلة لعدم الإطلاع فيها عل الواقع ونفس الأمر. فإن قيل كيف يكون الفاسد في نفس الأمر صحيحا موافقا لما في نفس الأمر؟ قلت: الموافقة لما في نفس في القياس المعتبر صحيحا أعم من أن تكون حقيقة أو حكما. وبهذا ظهر أن التحقيق ما جرى عليه المحلى). تعريف العلة: قال الشيخ: (والعلة: المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل). أسماء العلة: البعض يطلق عليها اسم الأمارة والعلامة والمعرف والباعث والموجب والسبب والداعي والمناط والمؤثر ... قال المرداوي في "التحبير" (7/ 3177): (العلة هي: العلامة والمعرف عند أصحابنا والأكثر، لا المؤثر فيه، وقالت المعتزلة: المؤثر بذاته، والغزالي وسليم، والهندي: بإذن الله تعالى، والرازي: بالعرف، والآمدي ومن تبعه الباعث). ثم قال (7/ 3185): (قد يعبر عن العلة بألفاظ ذكرها المقترح، السبب: الأمارة

تعريفها

، الداعي، المستدعي، الحامل، المناط، الدليل، المقتضي، الموجب المؤثر. وزاد غيره: المعنى، وكل ذلك اصطلاح سهل). قال الشيخ العروسي في "المسائل المشتركة" (ص/289): (والقول المحقق أن إطلاق اسم الأمارة والعلامة والمعرف والباعث والموجب صحيح كما أن من سماها السبب والداعي والمستدعي والحامل والمناط والدليل والمقتضي والموجب والمؤثر كذلك صحيح، ولكن من سماها أمارة وعلامة، ولم يجعلها إلا مجرد ذلك، وسلبها التأثير فقوله باطل ... وقد يكون من أطلق على العلة اسماً من هذه الأسماء فقد راعى بعض أوصافها الشهيرة أو المميزة، كمن سماها المناط، لأن الحكم ناط بها أي تعلق، ومن سماها المقتضى لاقتضائها الحكم، ولكن بعضاً من هذه التسميات مراعى فيها مخالفة المعتزلة الذين يقولون أن العلة تؤثر في الحكم بذاتها، وقد بالغوا أحياناً في رد بعض هذه التسميات كما تعسفوا في تأويل بعضها مما ورد استعماله من قبل الذين استعملوها من علماء هذا الفن). تعريفها (¬1): اعلم أن العلماء اختلفوا في تعريف العلة اختلافا كبيرا على أقوال متعددة تبعا لاختلاف مشربهم العقدي. وقد عرفها الشيخ العثيمين في "شرح نظم الورقات" (ص/188) بقوله: (الوصف المناسب للحكم الجامع بين الأصل والفرع)، وهذا أدق من تعريف الباب إلا أنه أيضا ينقصه بعض القيود وسوف يتضح ذلك من خلال التعريف الذي سوف أذكره بإذن الله. وقد عرفها المرداوي في "التحبير" (7/ 3177) بأنها: (وصف ظاهر منضبط معرف للحكم). وقد اعتمد الشيخ السلمي هذا التعريف إلا أنه زاد فيه أن الدليل هو الذي دل على أن هذا الوصف مناط للحكم، فعرفها بأنها: (وصف ظاهر منضبط دل الدليل على ¬

_ (¬1) انظر في تعريف العلة: روضة الناظر (ص/276)، شرح مختصر الروضة (3/ 315)، التحبير (7/ 3177)، شرح الكوكب المنير (4/ 39)، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين (ص/70: 102)، نقض العلة عند الأصوليين وأثره في الفقه (ص/3 " 36).

كونه مناطا للحكم) وتعريف الشيخ السلمي جيد وقد ذكر في كلامه مذاهب العلماء في بيان أثر العلة في الحكم، وسوف أنقله لدقته واستيعابه، قال - حفظه الله - في "أصوله" (ص/146): (العلة في اللغة: المرض، أو هي تغير المحل. وفي الاصطلاح اختلف في تعريفها، وأحسن ما قيل في تعريف العلة، أنها: «وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطا للحكم». ومعنى قولهم: (وصف) أي: معنى من المعاني، ولهذا كثر في كلام الأصوليين والفقهاء إطلاق المعنى على العلة، بل إن المتقدمين لا يكادون يذكرون (العلة) بل (المعنى). وقولهم: (ظاهر): قيد يخرج الوصف الخفي الذي لا يطلع عليه إلا من قام به، مثل الرضى في البيع، فإنه لا يعلل به وإنما يعلل انعقاد البيع بقول الشخص بعت أو قبلت، فالنطق بالصيغة وصف ظاهر، ولهذا جعل هو العلة في انعقاد البيع. قولهم: (منضبط)، الوصف المنضبط هو الذي لا يختلف باختلاف الأفراد ولا باختلاف الأزمنة والأمكنة. ومثلوا لغير المنضبط بالمشقة إذا قيل: علة الفطر في السفر المشقة، فإن المشقة تختلف باختلاف الأفراد والأزمان والأمكنة. ومثلوا للمنضبط بالسفر إذا عللنا جواز الفطر به. وقولهم: (دل الدليل على كونه مناطا للحكم)، أي: قام دليل معتبر من الأدلة الدالة على العلة على أن هذا الوصف علة الحكم. ومعنى قولهم: (مناطا للحكم) أي: متعلَّقا للحكم، بمعنى أن الحكم يعلق على هذا الوصف فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه. وهذا التعريف يصلح لجميع المذاهب مع اختلافهم في أثر العلة، وذلك أن العلماء اختلفوا في أثر العلة في الحكم على ثلاثة مذاهب: 1ـ مذهب المعتزلة: أن العلة لها أثر في ثبوت الحكم، فهي المثبتة للحكم، كما أن العلة العقلية هي المثبتة لحكمها، فكما نقول: التسويد علة لكون المحل أسود، والأكل علة للشبع، والشرب علة للري، نقول: اختلاف الوزن علة لتحريم بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة مع التفاضل، وهكذا.

2 ـ مذهب الأشاعرة: أن العلة ليس لها أثر في وجود الحكم، وإنما هي علامة مجردة عليه، والحكم يسند لله وحده لا للعلل. 3 ـ المذهب الثالث: أن العلة لها أثر في الحكم، ولكن ليست مؤثرة بذاتها، بل الله جل وعلا هو الذي جعلها مؤثرة، وهذا القول هو اللائق بمذهب السلف؛ لأنه مقتضى نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) [المائدة: 32]، وقوله: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر: 7]، وقوله: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ) [الزخرف: 55]. وهذا خلاف نقل إلى أصول الفقه من خلافهم في علم الكلام؛ فإن المعتزلة يثبتون الأسباب ويجعلونها مؤثرة بنفسها، أو يسندون التأثير إليها، والأشعرية ينكرون أثر الأسباب ويجعلون المؤثر هو الله وحده، والأسباب والعلل عندهم ليست إلا علامات على أن الله أراد وجود المسبب، فالمعتزلة يقولون: النار محرقة بذاتها، إلا إن أراد الله أن يسلبها هذه الخاصية فإنه على كل شيء قدير، والأشعرية يقولون: النار لا تكون محرقة إلا إذا أراد الله لها ذلك. والقول الحق في ذلك هو الجمع بين القولين، فلا ننكر أثر الأسباب والسنن التي جعلها الله في الكون لعمارته وبقائه، وفي الوقت نفسه لا نقول إن ذلك يكون بغير إرادة الله وتدبيره، بل نقول: العلل والأسباب لها تأثير، ولكن تأثيرها ليس بذاتها، بل الله جل وعلا هو الذي جعلها كذلك، وبهذا لا نكون أثبتنا خالقا مع الله، بل الله خالق كل شيء فهو خالق الأسباب والمسببات. ومذهب المعتزلة والماتريدية أقرب إلى مذهب السلف من مذهب الأشاعرة في هذه المسألة. وقد بنى الأشاعرة مذهبهم في كون العلة مجرد علامة، على مذهب فاسد وهو عدم تعليل أفعال الله، وهذا يناقض كثيراً من نصوص القرآن والسنة، كقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) [المائدة: 32]، وقوله تعالى: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) [الحديد: 23]، وقوله (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر: 7].

وهو أيضا يناقض ما ذكروه في مواضع من باب القياس ... ). وقد بين هذا التناقض وذكر جوابهم عنه الشيخ العروسي حيث قال في "المسائل المشتركة" (ص/272): (وبعض هؤلاء النافين للتعليل والحكمة اضطروا إلى إثباته والقول به في الأمر والنهي، ولكنهم يجعلون التعليل في الأمر والنهي- أي الحكمة والمصلحة فيها- تعودان إلى العباد وحدهم دون أن تكون هناك حكمة تعود إلى الله سبحانه، بل صرح القرافي أنه لم يُدَّعَ التعليلُ إلا في الشرع، وأما الخلق فليس فيه مصلحة للخلق حتى يقال فيه بالتعليل، لأن الكلام في الفقه ومسائله يقتضي القول بالتعليل لأنها مصالح للخلق، فاثبتوا الأحكام بالعلل، والعلل بالمناسبات والمصالح، ولم يمكنهم الكلام في الفقه إلا بذلك لتوقف القياس عليها، ولكنهم جعلوا اقتران الأحكام بتلك العلل والمناسبات اقترانا عاديًا غير مقصود في نفسه، والعلل والمناسبات أمارات لذلك الاقتران. قال ابن التلمساني: ويمتنع جعل العلة الشرعية مؤثرة على أصلنا، فإن الحكم الشرعي يرجع عندنا إلى خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال العباد على وجه مخصوص، وخطابه وكلامه سبحانه وتعالى قديم، والقديم لا يعلل، فضلًا عن أن يعلل بعلة حادثة، ولأن العلة في الخمر- الإسكار، وهو متحقق قبل التحريم. وإن اعترف بعضهم بوجود هذه الحكم والمصالح في بعض الأحكام، ولكن ذلك في زعمه إنما وجدت على سبيل الجواز والتفضل. يقول القرافي في هذا المعنى: "وأما كون الزنا قطعيًا، وتحريمه من ضروريات الدين فمسلم، غير أن إباحته جائزة على الله تعالى، فله سبحانه وتعالى أن يراعي الأصلح للعباد وأن لا يراعيه، غير أن عادته- تعالى- التفضل على عباده بشرع تحصيل المصالح ودرء المفاسد على سبيل التفضل ". وقد استشكل بعضهم إثبات تعليل الأحكام، لأنه يصادم الأصل المشهور بنفي التعليل كما حصل لإبن الحاجب عند الكلام على دليل العمل بالسبر والتقسيم، فإنه نقل إجماع الفقهاء على أنه لابد للحكم من علة، وهذا معارض للأصل المشهور وهو نفي العلل في الخلق والأمر. وشعر بعضهم بالحرج أن يقول خلاف الأصل الذي سار عليه الأشعري، ورأى في التأويل مخرجًا فقال: إن الأدلة لا تدل على إثبات التعليل

حجية القياس:

وجوبًا بل على إثباته تَفَضُّلًا وإحسانًا. ولما ذكر لبعضهم أن الأمة أجمعت على تعليل أفعال الله سبحانه وأحكامه - وللإجماع هيبته- لم يعجزه ذكاؤه أن يوجه الإجماع على مجمل التعليل في جملة الأحكام، وأما آحاد المسائل فلا. ثم إن هؤلاء لما أثبتوا التعليل في أحكام الله سبحانه، أثبتوه على وجه التفضل منه سبحانه واللطف لا على وجه الوجوب كما يقوله المعتزلة ... ثم قال: القول الثالث: هو مذهب جمهور المسلمين، وقول جميع الصحابة وأئمة التابعين، وهو أنهم يثبتون الحكمة والتعليل في خلقه سبحانه وأمره، ولكن لا يثبتونه على قاعدة القدرية المعتزلة، الذين ينكرون قدرة الله تعالى وعموم مشيئته وقدرته، ولا ينفونه نفي الجهمية والأشاعرة الذين لم يثبتوا إلا إرادة بلا حكمة، وأثبتوا مشيئة الله سبحانه بلا رحمة ولا محبة ولا رضا. فأهل السنة التابعون للصحابة يقرون بالقدر وبالشرع وبالحكمة والتعليل في خلق الله وأمره، ويقرون بما جعله سبحانه من الأسباب والمصالح التي جعلها رحمة للعباد. فكل ما خلقه الله سبحانه فله فيه حكمة، كما قال سبحانه وتعالى (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل: 88]). وبعد فالتعريف الذي ذكره الشيخ عياض جيد وعليه فيكون تعريف العلة: (وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطا للحكم). حجية القياس: قال الشيخ: (وقد دل على اعتباره دليلاً شرعيّاً: الكتاب والسنة وأقوال الصحابة). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 215): ("وهو" أي القياس "حجة" عند الأكثر من أصحابنا وغيرهم. وقد احتج القاضي وغيره على العمل بالقياس بقول أحمد رحمه الله: لا يستغني أحد عن القياس، وقوله في رواية الميموني: سألت الشافعي عنه، فقال: ضرورة، وأعجبه ذلك. وذكر ابن حامد عن بعض أصحابنا: أنه ليس بحجة، لقول أحمد في رواية الميموني: يجتنب المتكلم هذين الأصلين: المجمل، والقياس. وحمله القاضي وابن عقيل على قياس عارضه سنة.

قول ابن حزم وأدلته

قال ابن رجب: فتنازع أصحابنا في معناه. فقال بعض المتقدمين والمتأخرين: هذا يدل على المنع من استعمال القياس في الأحكام الشرعية بالكلية. وأكثر أصحابنا لم يثبتوا عن أحمد في العمل بالقياس خلافا، كابن أبي موسى، والقاضي، وابن عقيل، وغيرهم، وهو الصواب. انتهى). وقد ألقى الشيخ الشنقيطي محاضرة في المسجد النبوي في التفسير عند قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف: 12] ناقش فيه فضيلته إثبات القياس على منكريه، وأورد أقسام القياس وأمثلته العديدة، وقد لخصت هذه المحاضرة، ووضعت عناوين لفقراتها وعلقت عليها: قول ابن حزم وأدلته (¬1): قال ابن حزم: لا يجوز اجتهاد كائناً ما كان ولا يجوز أن يتكلم في حكم إلا بنص من كتاب أو سنة أما من جاء بشيء لم يكن منصوصاً في الكتاب ولا السنة فهو مشرع ضال، ويزعم أم ما ألحقه الأئمة من الأحكام المسكوت عنها واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال ويستدل بعشرات الآيات يقول: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) [الأعراف: 3]، والمقاييس لم تنزل علينا من ربنا، ويقول: (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) ¬

_ (¬1) وانظر رسالة "ملخص إبطال القياس". وأما ابن حزم ومن تبعه فإنهم لا يقولون بالتعليل أصلًا، والنصوص التي وردت معللة يسمون العلة سببا ولا يطردونها. قال ابن حزم في الأحكام (8/ 563): (ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها لكنا نقول إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله تعالى أسبابا ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب لما جعلت أسبابا له). وقال أيضا (8/ 566): (فاعلم الآن أن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه البتة لأنه لا تكون العلة إلا في مضطر، واعلم أن الأسباب كلها منفية عن أفعال الله تعالى كلها وعن أحكامه حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله صلى الله عليه وسلم).وانظر "المسائل المشتركة" للشيخ العروسي (ص/274). وجاء في فتاوي اللجنة رقم (8895): (وإنما نفى ابن حزم وجوب الزكاة في عروض التجارة لأنه لا يقول بتعليل الأحكام، والقول بعدم تعليل الأحكام وأنها لم تشرع لحكم قول باطل، والصحيح أنها معللة، وأنها نزلت لحكم، لكنها قد يعلمها العلماء فيبنون عليها، ويتوسعون في الأحكام، وقد لا يعلمها العلماء فيقفون عند النص ... )

[سبأ: 50] فجعل الهدى بخصوص الوحي لا بخصوص المقاييس. ويقول: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) [المائدة: 49] والمقاييس لم تكن مما أنزل الله ويقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 47] والقياس لم يكن مما أنزل الله ويأتي بنحو هذا من الآيات في شيء كثير جداً. ويقول إن القياس لا يفيد إلا الظن والله يقول: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [يونس: 36] وفي الحديث: (إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث) (¬1). ويقول: إن كل ما لم يأت بنص من كتاب أو سنة لا يجوز البحث عنه. بعض ما سكت عنه الشارع لا يمكن أن تكون عفواً ولابد من النظر فيها والاجتهاد: ويقول إن الله حرم أشياء وأحل أشياء وسكت عن أشياء لا نسياناً رحمة بكم فلا تسألوا عنها (¬2)، وبحديث: (ما سكت الله عنه فهو عفو). ويقول إن ما لم يأت في كتاب ولا سنة فالبحث عنه حرام وهو معفوا لا مؤاخذة فيه. وهو باطل من جهات كثيرة، منها أن ما يسكت عنه الوحي منه ما يمكن أن يكون عفواً كما قال فنحن مثلاً وجب علينا صوم شهر واحد وهو رمضان وسكت الوحي عن وجوب شهر آخر فلم يجب علينا إلا هذا ... أما أنه توجد أشياء لا يمكن أن تكون عفواً ولابد من النظر فيها والاجتهاد ومن أمثلة ذلك مسألة العول. ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) حديث: ((إن الله تعالى فرض فرائض؛ فلا تضيِّعوها، وحد حدوداً؛ فلا تعتدوها، وحرم أشياء؛ فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان؛ فلا تسألوا عنها)).رواه: الدارقطني، وابن بطة في ((الإبانة))، والطبراني في ((الكبير))، والبيهقي، وأبو نعيم في ((الحلية))؛ كلهم من طريق مكحول عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه. ومكحول لم يصحَّ له سماع من أبي ثعلبة. وللحديث شواهد بمعناه. وقد ضعفه الشيخ الألباني في " غاية المرام " (رقم/4) والشيخ الحويني في الفتاوي الحديثية، وحسنه لغيره في "شرح الطحاوية" (ص/ 302).

مسألة العول:

مسألة العول: فكما قال الفرضيون إن أول عول نزل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال الزوج: يا أمير المؤمنين هذه تركة زوجتي ولم تترك ولداً والله يقول في محكم كتابه: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ) [النساء: 12] فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد فلي نصف ميراثها بهذه الآية ولا أتنازل عن نصف الميراث بدانق، فقالت الأختان: يا أمير المؤمنين هذه تركة أختنا ونحن اثنتان والله يقول: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) [النساء: 176] والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق، فقال عمر رضي الله عنه: ويلك يا عمر والله ان أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان، وان أعطيت الثلثين للأختين لم يبق للزوج النصف ونقول يا ابن حزم كيف تسكت عن هذا ويكون هذا عفواً والوحي سكت عن هذا ولم يبين أي النصين ماذا نفعل فيهما فهذا لا يمكن أن يكون عفواً ولابد من حل فلا نقول لهم تهارشوا على التركة تهارش الحمر أو ننزعها من واحد إلى الآخر فلابد من إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به وحل معقول بالاجتهاد فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العول لمثل هذا، فقال له العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين أرأيت هذه المرأة لو كانت تطالب بسبعة دنانير ديناً وتركت ستة دنانير فقط ماذا كنت فاعلاً؟ قال: اجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء وأعطي لكل واحد من أصحاب الدنانير نصيباً من السبعة قال كذلك فافعل، أصل فريضتها من ستة لأن فيها نصف الزوج يخرج من اثنين وثلثا الأختين يخرجان من ثلاثة مخرج النصف ومخرج الثلث متبايناً فنضرب اثنين في ثلاثة بستة ثم نجعل نقطة زائدة وهي المسمى بالعول فهي فريضة عائلة بسدسها إلى سبعة فجعل تركة المرأة سبعة أنصباء، وقال للزوج حفك نصف الستة وهي الثلاثة فخذ الثلاثة من سبعة، وبقي من السبعة أربعة فقال للأختين لكما الثلثان من الستة وهما أربعة فخذاها من سبعة، فصار النقص على كل واحد من الوارثين ولم يضيع نصاً من نصوص القرآن الكريم. وكان ابن حزم في هذه المسألة يخطئ جميع الصحابة.

المسألة المنبرية:

ويقول ابن العباس وعامة الصحابة على غلط وان هذا الفعل الذي فعلوا لا يجوز وأن الحق مع ابن عباس وحده الذي خالف عامة الصحابة في العول. وقال الذي نعلم أن الله لم يجعل في شيء واحد نصفاً وثلثين، فرأي ابن عباس أن ننظر في الورثة إذا كان أحدهما أقوى سبباً نقدمه ونكمل له نصيبه ونجعل النقص على الأضعف، فابن عباس في مثل هذا يقول ابن الزوج يعطى نصفاً كاملاً لأن الزوج لا يحجبه الأبوان ولا يحجبه الأولاد بخلاف الأختين لأنهما أضعف سبباً منه لأنهما يحجبهما الأولاد ويحجبهما الأب ونعطي للأختين نصفاً وهذا تلاعب بكتاب الله، الله يقول: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ) [النساء: 176] وهو يقول فلهما النصف فهذا عمل بما يناقض القرآن. المسألة المنبرية: مع أن ابن حزم ورأي ابن عباس يقضي عليه وتبطله المسألة المعروفة عند الفرضيين بالمنبرية وإنما سميت المنبرية لأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أفتى فيها وهو على المنبر أثناء خطبته لأنه افتتح خطبته على المنبر وقال: الحمد لله الذي يجزي كل نفس بما تسعى واليه المآب والرجعي، فسمع قائلاً يقول: ما تقولون فيمن هلك عن زوجة وأبوين وابنتين؟ فقال علي رضي الله عنه: صار ثمنها تسعاً، ومضى في خطبته. وقوله: صار ثمنها تسعاً لأن هذه الفريضة فيها ابنتان وأبوان وزوجة، الابنتان لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لهما الثلثان والأبوان لكل واحد منهما السدس وذلك يستغرق جميع التركة لأن السدسين بثلث وتبقى الزوجة تعول لها بالثمن والفريضة من أربعة وعشرين وثمنها ثلاثة يعال فيها بثمن الزوجة وثمن الأربعة والعشرين ثلاثة وإذا ضم الثمن الذي عالت به الفريضة إلى أصل الفريضة أي إذا ضم الثمن الذي هو ثلاثة فريضة الزوجة إلى الأربعة والعشرين التي هي أصل الفريضة صارت سبعة وعشرين. والثلاثة من السبعة والعشرين تسعها ومن الأربعة والعشرين ثمنها، فهذه لو قلنا لابن حزم أيهما يحجب هل الابنتان يحجبان لا والله، هل الأبوان يحجبان لا والله هل الزوجة تحجب لا والله ليس فيهم من يحجبه أحد وكلهم أهل فروض منصوصة في كتاب الله ولا يحجب أحد منهم أبداً فبهذا يبطل قوله

إن من هو أضعف سبباً فانه يحجب ويقدم عليه غيره. داود الظاهري كان لا ينكر القياس الجلي: داوود بن علي الظاهري كان لا ينكر القياس المعروف الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ويقول له القياس الجلي وهو المعروف عند الفقهاء بالقياس الجلي وإلغاء الفارق ويسمى نفي الفارق وهو نوع من تنقيح المناط. أمثلة على هذا النوع والرد على ابن حزم في إنكاره: فقد أجمع جميع المسلمين على أن المسكوت عنه فيه يلحق بالمنطوق وان قول ابن حزم: انه مسكوت عنه لم يتعرض له أنه كذب محض وافتراء على الشرع وأن الشرع لم يسكت عنه. وقوله تعالى:" فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ " يقول ابن حزم إن هذه الآية، ناطقة بالنهي عن التأفيف ولكنها ساكتة عن حكم الضرب (¬1)،ونحن نقول: لا والله لما نهى عن التأفيف ¬

_ (¬1) قال ابن حزم في " الإحكام" (7/ 371): (أما قول الله تعالى (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23، 24] فلو لم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربهما ولا قتلهما، ولما كان فيها إلا تحريم قول (أُفٍّ) فقط، ولكن لما قال الله تعالى في الآية نفسها (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) اقتضت هذه الألفاظ من الإحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل والرحمة لهما والمنع من انتهارهما وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق فبهذه الألفاظ وبالأحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين بكل وجه وبكل معنى والمنع من كل ضرر وعقوق بأي وجه كان لا بالنهي عن قول (أُفٍّ) وبالألفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة أن من سبهما أو تبرم عليهما أو منعهما رفده في أي شيء كان من غير الحرام فلم يحسن إليهما ولا خفض لهما جناح الذل من الرحمة. ولو كان النهي عن قول (أُفٍّ) مغنيا عما سواه من وجوه الأذى لما كان لذكر الله تعالى في الآية نفسها مع النهي عن قول (أُفٍّ) النهي عن النهر والأمر بالإحسان وخفض الجناح والذل لهما معنى فلما لم يقتصر تعالى على ذكر الأف وحده بطل قول من ادعى أن بذكر الأف علم ما عداه وصح ضرورة أن لكل لفظة من الآية معنى غير سائر ألفاظها ولكنهم جروا على عادة لهم ذميمة من الاقتصار على بعض الآية والإضراب عن سائرها تمويها على من اغتر بهم ومجاهرة لله تعالى بما لا يحل من التدليس في دينه ... قال أبو محمد ومن البرهان الضروري على أن نهي الله تعالى عن أن يقول المرء لوالديه ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عما عدا الأف أن من حدث عن إنسان قتل آخر أو ضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود وبصق في وجهه فشهد عليه من شهد ذلك كله فقال الشاهد إن زيدا يعني القاتل أو القاذف أو الضارب قال لعمرو يعني المقتول أو المضروب أو المقذوف لكان بإجماع منا ومنهم كاذبا آفكا شاهد زور مفتريا مردود الشهادة فكيف يريد هؤلاء القوم بنا أن نحكم بما يقرون أنه كذب فكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله تعالى الحكم بما يشهدون أنه كذب ونحن نعوذ بالله العظيم من أن نقول إن نهي الله عز وجل عن قول للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب لهما أو القتل أو القذف فالذي لا شك فيه عند كل من له معرفة بشيء من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شيء من ذلك فبلا شك يعلم كل ذي عقل أن النهي عن قول ليس نهيا عن القتل ولا عن الضرب ولا عن القذف وأنه إنما هو نهي عن قول فقط.

وهو أخف الأذى فقد دلت هذه الآية من باب أولى على أن ضرب الوالدين أشد حرمة وان الآية غير ساكتة عنها بل نبهت على الأكبر بما هو أصغر منه فلما نهت عن التأفيف وهو أقل أذية من الضرب لم تسكت عن الضرب. ونقول: إن قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) [الزلزلة: 7، 8] إن هذه الآية ليست ساكتة عن عمل مثقال جيل أحد فلا نقول نصت على الذرة وما فوق الذرة فهو مسكوت عنه فلا يؤخذ من الآية فهي ساكتة عنه بل نقول إن الآية غير ساكتة عنه وإن ذلك المسكوت عنه يلحق بذلك المنطوق. وكذلك قوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2] من جاء بأربعة عدول لا نقول أربعة عدول مسكوت عنها بل نقول إن الآية التي نصت على قبول شهادة العدلين دالة على قبول شهادة أربعة عدول. ونقول: إن قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [النساء: 10] لا نقول كما يقول ابن حزم ساكنة عن إحراق مال اليتيم وإغراقه لأنها نصت على حرمة

أكله فقط، بل نقول: إن الآية التي نهت عن أكله دلت على حرمة إغراقه وإحراقه بالنار لأن الجميع إتلاف. ومما يدل على أن ما يقوله ابن حزم لا يقول به عاقل أن ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن البول في الماء الراكد يقول ابن حزم: لو بال في قارورة وصبها في الماء لم يكن هذا من المكروه لأن النبي لم ينه عن هذا وإنما قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الراكد في الماء الدائم ثم يغتسل فيه) ولم يقل لا يبولن أحدكم في إناء ثم يصبه فيه فهذا لا يعقل أيعقل أحد أن الشرع الكريم يمنع من أن يبول إنسان بقطرات قليلة أقل من وزن ربع كيل ثم انه يجوز له أن يملأ عشرات التنكات بولاً يعد بمئات الكيلوات ثم يصبها في الماء وأن هذا جائز. وأيضاً في الحديث: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) فألحق به الفقهاء إذ كان في حزن شديد مفرط يذهل عقله، أو فرح شديد مفرط يدهش عقله أو في عطش شديد مفرط يدهش عقله أو في جوع شديد يدهش عقله، ونحو ذلك من مشوشات الفكر التي هي أعظم من الغضب فليس في المسلمين من يعقل أن يقال للقاضي أحكم بين الناس وأنت في غاية تشويش الفكر بالجوع والعطش المفرطين أو الحزن والسرور المفرطين، أو الحقن والحقب المفرطين والحقن مدافعة البول والحقب مدافعة الغائط، والإنسان اذا كان يدافع البول أو الغائط مدافعة شديدة كان مشوش الفكر مشغول الخاطر لا يمكن أن يتعقل حجج الخصوم، ومثل هذا، لذا قال العلماء لا يجوز للقاضي أن يحكم وهو مشوش الفكر. وكذلك قال الله: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) [النور: 4] ولم يصرح في الآية الا أن يكون القاذف ذكر والمقذوفة أنثى فلو قذفت أنثى ذكراً أو قذف لا مؤاخذة فيه لأن الله إنما نص على قذف الذكور بالإناث لأنه قال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) وما أراد ابن حزم هنا أن يدخل الجميع في عموم المحصنات فقال: المحصنات نعت للفروج، والذين يرمون الفروج المحصنات فيشمل الذكور والإناث يرد عليه أن المحصنات في القرآن لم تأت قط للفروج وإنما جاءت للنساء وكيف يأتي ذلك في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) [النور: 23]، وهل يمكن أن تكون الفروج غافلات مؤمنات. هذا مما لا يعقل.

شدة ابن حزم على الأئمة:

وكذلك نص الله جل وعلا على أن المبتوتة إذا نكحت زوجاً غير زوجها الأول نص على أنها ان طلقها الزوج الأخير طلقها الأول ثلاث طلقات فصارت مبتوتة حراماً عليه الا بعد زوج ثم تزوجها زوج فدخل بها ثم طلقها هذا الزوج الأخير فانه يجوز للأول أن ينكحها لأنها حلت بنكاح الثاني، والله إنما صرح في هذه السورة بنص واحد وهو أن يكون الزوج الذي حللها إنما طلقها لأنه قال في تطليق الأول، فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره. ثم قال في تطليق الزوج الذي حللها، فان طلقها فلا جناح عليهما أي على الزوجة التي كانت حراماً والزوج الذي كانت حراماً عليه أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله، فنص على طلاق المحلل خاصة فان طلقها أرأيتم لو حللها وجامعها مائة مرة حتى حلت وكانت كماء المزن ثم مات قبل أن يطلقها أو فسخ حاكم عقدهما بموجب آخر كالإعسار بنفقة أو غير ذلك من أسباب الفسخ أيقول مسلم هذه لا تحل للأول لأن الله ما نص الا على قوله فان طلقها فان مات لم تحل لأن الموت ليس بطلاق، هذا مما لا يقوله عاقل. وأمثال ذلك كثيرة جداً. شدة ابن حزم على الأئمة: ونحن نضرب مثلاً فانه من أشد ما حمل به الأئمة رحمهم الله مسألة حديث تحريم ربا الفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فقد أربى. فابن حزم يقول: ليس في الدنيا يحرم فيه ربا الفضل الا هذا ويقول الدليل على أنهم مشرعون وأن أقوالهم كلها كاذبة أن بعضهم كالشافعي يقول علة الربا في البر الطعم ويقيس كل مطعوم على البر فيقول كل المطعومات كالفواكه كالتفاح وغيره من الفواكه يحرم فيه الربا قياساً على البر بجامع الطعم وأبو حنيفة وأحمد يقولان علة الربا الكيل ويقولان كل مكيل يحرم فيه الربا قياساً على البر فيحرمان الربا في النورة والأشنان وكل مكيل فيقول فيه ابن حزم هذا يقول العلة الطعم ويلحق أشياء وهذا يقول العلة الكيل ويلحق أشياء أخرى. وكل منهم يكذب الآخر فهذه كلها قياسات متناقضة والأقوال المتكاذبة والأحكام التي ينفي بعضها بعضاً لا يشك عاقل في أنها ليست من

الأدلة على جواز إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به:

عند الله وأمثال هذا كثيرة ونحن نضرب مثلاً لهذه المسألة ونقول إن الأئمة رضي الله عنهم أبا حنيفة وأحمد والشافعي رحمهم الله الذين سخر ابن حزم من قياساتهم هم أولى بظواهر النصوص من ابن حزم، ونقول لابن حزم مثلاً: أنت قلت انك مع النصوص في الظاهر وقلت: ألم تعلموا أني ظاهري وإني ... على ما بدا حتى يقوم دليل فهذا الإمام الشافعي الذي قال إن علة الربا في البر الطعم استدل بحديث ثابت في صحيح مسلم وهو حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم قال: (كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل). الحديث. فالإمام الشافعي فيما سخر منه ابن حزم أقرب لظاهر نصوص الوحي من ابن حزم وكذلك الإمام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى اللذان قالا إن علة الربا في البر الكيل استدلا كذلك بالحديث الصحيح، وكذلك الميزان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بين المكيلات وبين أن الربا حرام فيها قال: وكذلك الميزان. والتحقيق أن وكذلك الموزونات مثل المكيلات، فجعل معرفة القدر علة للربا وقوله: وكذلك الميزان ثابت في الصحيحين ... وهذا الحديث قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك كل ما يكال أو يوزن وهذا أقرب لظاهر نص النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن حزم الذي يسخر من الإمام أحمد وأبي حنيفة رحمهما الله. الأدلة على جواز إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به: والحاصل أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق أمر لا شك فيه وأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل. والله جل وعلا قد بين نظائر في القرآن يعلم بها إلحاق النظير والنبي - صلى الله عليه وسلم - أرشد أمته إلى ذلك في أحاديث كثيرة. فمن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة للصائم فقال له: (أرأيت لو تمضمضت) فهذا إشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قياس القبلة على المضمضة بجامع أن القبلة مقدمة الجماع والمضمضة مقدمة للشرب فكل منهما مقدمة الإفطار وليس بإفطار ومحل كون القبلة كالمضمضة إذا كان صاحبها لا يخرج منه شيء أما إذا كانت القبلة تخرج منه شيئاً

فهو كالذي إذا تمضمض ابتلع شيئاً من الماء فحكمه حكمه. وكذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث ثابتة متعددة في الصحيحين أنه سأله رجل مرة وامرأة مرة أنهما سألاه عن دين يقضيانه عن ميت لهما، مرة تقول مات أبي ومرة تقول أمي وكذلك الرجل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى) فهو تنبيه منه - صلى الله عليه وسلم - على قياس دين الله على دين الآدمي بجامع أن الكل حق مطالب به الإنسان وأنه يقضي عنه بدفعه لمستحقه. وأمثال ذلك كثيرة. ومن أصرحها ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل، كان الرجل أبيض وامرأة بيضاء فولدت له غلاماً أسود فأصاب الرجل فزعاً من سواد الغلام وظن أنها زنت برجل أسود وجاءت بهذا الغلام فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منزعجاً وأخبره بأنها جاءت بولد أسود وكان يريد أن يلاعنها وينفي عنه الولد باللعان زعماً أن هذا الولد من زان أسود وأنه ليس ولده لأنه هو أبيض وزوجته بيضاء فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هل لك من إبل؟) قال: نعم. قال: (ما ألوانها؟) قال حمر. قال: (هل فيها من أورق) والأورق المتصف بلون الورقة والورقة يكون لوناً كحمام الحرم يعني سواد مع بياض يكون في الإبل. قال الرجل إن فيها لورق. قال: (ومن أين جاءتها تلك الورقة؟) آباؤها حمر وأمهاتها حمر فمن أين جاءتها تلك الورقة؟ قال: لعل عرقاً نزعها. قال له: (وهذا الولد لعل عرقاً نزعه). فاقتنع الأعرابي وهذا إلحاق نظير بنظير. وفي الجملة فنظير الحق حق ونظير الباطل باطل، وهذا مما لا شك فيه، وأن القياس منه قياس صحيح لا شك فيه كالأقيسة التي ذكرنا ومنه قياس فاسد، والقرآن ذكر بعض الأقيسة الفاسدة وبعض الأقيسة الصحيحة. ومن الأقيسة الصحيحة في القرآن قوله تعالى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران: 59] ... الله جل وعلا قاس لهم هذا الولد على آدم بجامع أن آدم وجد ولم يكن له أم ولا أب خلق ولم يكن له أم ولا أب، فالذي خلق آدم ولم يكن أب ولا أم فهو قادر على أن يخلق عيسى من أم ولم

القياس الفاسد:

يكن له أب، كما خلق حواء من ضلع رجل. وكذلك قاس الموجودين زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأمم الماضية وقال لهم: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) [محمد: 10] ثم بين إلحاق النظير بالنظير فقال: وللكافرين أمثالها، كأن الموجودين زمن النبي فرع والكفار المتقدمون أصل، والحكم الذي يهددون به العذاب والهلاك والعلة الجامعة تكذيب الرسل والتمرد على رب العالمين. وأمثال ذلك في القرآن كثير. القياس الفاسد: أما القياس الفاسد الذي يكون مخالفاً للنصوص كقياس إبليس لعنه الله وكالأقيسة المخالفة للنصوص. وكأقيسة الشبه المبنية على الفساد فان الكفار جاؤوا بقياس الشبه كثيراً باطلاً ومثله باطل كما قالوا في يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف: 77] فأثبتوا السرقة على أخ يوسف لأن يوسف قد سرق قبله والأخ شبيه بالأخ فيلزم من مشابهتهما أن يكونا متشابهين في الأفعال وأن هذا سرق كما سرق ذلك. وهذا قياس شَبَه باطل. خاتمة والجمع بين الأقوال والأدلة: وعلى كل حال فالقياس هو قسمان صحيح وقياس فاسد فما جاء به الظاهرية من ذم القياس والسلف فهو ينطبق على القياس الفاسد، والقياس الصحيح هو إلحاق النظير بالنظير على وجه صحيح لا شك في صحته. والصحابة كذلك يلحقون المسكوت بالمنطوق به وهذا كثير وقد مثلنا له بأمثلة كثيرة. شروط القياس: قال الشيخ: (شروط القياس: 1 - أن لا يصادم دليلاً أقوى منه ويسمى القياس المصادم لما ذكر (فاسد الاعتبار). 2 - أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص أو إجماع فإن كان ثابتاً بقياس لم يصح القياس عليه.

الشرط الأول - ألا يكون فاسد الاعتبار:

3 - أن يكون لحكم الأصل عله معلومة. 4 - أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم. 5 - أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل). أجمل الشيخ هنا الكلام على شروط القياس، فدمج ما يتعلق منها بالأصل، وبالفرع، وبالحكم، وبالعلة، وذكر بعض ذلك ... الشرط الأول - ألا يكون فاسد الاعتبار: قال الشيخ في "الشرح" (ص/520): (قلنا أن لا يصادم دليلاً أقوى منه، ولم نقل أن لا يصادم نصًا، لأن الدليل قد يكون بالنص وبالإجماع وبأقوال الصحابة - على القول بأنها من الأدلة- فلهذا نقول: "أن لا يصادم دليلاً أقوى منه ". ووجه هذا الشرط: أن الأخذ بالأدنى وطَرْحَ الأقوى خلافُ الحكمةِ وخلافُ المعقول، بل وخلافُ المنقول أيضًا، لأنا نرى أن القياس المصادم لما هو أقوى منه قد أبطله الله- عزِ وجل- قال الله تعالى للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (البقرة: 30) قاسوا ما سيجعله الله على ما قد جعله الله فيما مضى، حيث كان في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء، فقال الله تعالى: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) لهذا يُشترط أن لا يصادم القياسُ دليلاً أقوى منه، فلا اعتبار بقياس يصادم النص، والمراد بالنص: الكتابُ والسُّنةُ أو الإِجماع- وسبق تعريفه- أو أقوال الصحابة إذا قلنا أن قول الصحابي حجة (¬1) ... وعلى كل حالٍ ففي الحال التي نقول فيها: إن قول الصحابي حجة لو أن أحدًا من الناس قاس قياسا يقتضي مخالفة قول الصحابي، فهذا القياس لا عبرة به وبهذا قال: ويُسمَّى القياس المصادم لما ذكر- من النص والإجماع وقول الصحابة- يسمى "فاسد الاعتبار "، وهذا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها- يعنى كأنه اعتبار فاسد، والاعتبار: هو القياس. إذًا فكلُّ قياس خالف دليلاَ أقوى منه فسمه "فاسد الاعتبار" ولا يؤخذ به ... ¬

_ (¬1) وسبق بيان ترجيح الشيخ من أن قول أبو بكر وعمر، علماء الصحابة المشهورين بالفقه المعروفين بالإمامة حجة دون من سواهم.

أولا - معنى فساد الاعتبار لغة

(مثاله أن يقال: يصح أن تزوج الرشيدة نفسها بغير ولى قياسًا على صحة بيعها مالها بغير ولي) لو قال قائل: المرأة الرشيدة تبيع مالها بدون ولي، إذًا فهي تزوج نفسها بغير ولي قياسًا علي بيع مالها بغير ولي؛ لأن هذا تصرف في نفسها، وذاك تصرف في مالها، فهذا مثل هذا. نقول له: هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه مخالف للكتاب والسنة، فإن الكتاب والسنة قد دلا على أنه لا يصح تزويج المرأة إلا بولي، قال الله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) (البقرة: 237) فإن الذي بيده عقدة النكاحِ- على أحد القولين- هو الَوَليَ (¬1)، وقالَ تعالى: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 232)، ولولا اشتراط الولي لكان عضله وعدمه سواءً، لأنه إذاَ عضلها زوجت نفسها. ومن أدلة القرآن أيضًا قوله تعالى: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) (البقرة: 221)، فقوله: (تُنْكِحُوا) الخطاب فيه موجه إلى الأولياء. وأما السنة فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قال: "لا نِكَاحَ إلا بوليِّ ". إذا نقول: هذا القياس فاسد الاعتبار- أعني: قياس تزويج المرأة نفسها بغير ولي علي جواز بيعها مالها بغير ولي؛ لمصادمته النص- وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاح إلا بولي " وقد بينا أن القراَن يدل على ذلك أيضًا). أولا - معنى فساد الاعتبار لغة (¬2): هو مركب من فساد واعتبار، والفساد خروج الشيء عن الاعتدال، وهو ضد الصلاح. وأما (الاعتبار) فهو مصدر على وزن (افتعال) من لفظ: عبر يعبر عبورا، أي: انتقل، يقال: عبرت النهر أعبره عبرا وعبورا، إذا قطعته من هذا الجانب إلى الجانب الآخر. قال أبو البقاء: الاعتبار مأخوذ من العبور وهو المجاوزة من شيء إلى شيء. ¬

_ (¬1) والقول الثاني أنه الزوج. (¬2) انظر: الاعتراضات الواردة على القياس (ص/ 309).

ثانيا - تعريفه اصطلاحا:

ويستعمل الاعتبار بمعنى التدبر والنظر في الشيء بحيث ينتقل ويعبر به من الشيء إلى غيره، ويتوصل به من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد ولهذا سمى القياس اعتبارا وقد أشير هذا المعنى في قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2]. وقد بين الشيخ معناه بأنه من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ومعناه أن القياس فاسد. قال المرداوي في "التحبير" (7/ 3555): (وإنما سمي هذا النوع بذلك؛ لأن اعتبار القياس مع النص والإجماع اعتبار له مع دليل أقوى منه، وهو اعتبار فاسد لحديث معاذ، فإنه أخر الاجتهاد عن النص. قال العسقلاني: ' سمي بذلك؛ لأن الفساد ليس في وضع القياس وتركيبه، بل لأمر من خارج وهو عدم صحة الاحتجاج به مع وجود النص المخالف له، لحديث معاذ حيث أخر العمل بالقياس (¬1). وصوبه، فدل على أن رتبة القياس بعد النص. ولأن الظن المستفاد من النص أقوى من الظن المستفاد من القياس، وكذا الصحابة لم يقيسوا إلا مع عدم النص). ثانيا - تعريفه اصطلاحا: أشار الشيخ إلى تعريفه اصطلاحا بأنه ما صادم دليلا أقوى منه. وبين أن الدليل إما أن يكون كتابا أو سنة أو إجماعا أو أقوال الصحابة (¬2). وجعل الشيخ معارضة القياس لقول الصحابي قادحا في القياس هو ظاهر المذهب، ولم أر من أضافه هنا، وسيأتي قريبا - بإذن الله - عرض الخلاف في ذلك. واقتصر ابن قدامة في تعريفه لفساد الاعتبار على أنه ما خالف نصا، وزاد المرداوي وابن النجار: أو إجماعا. ¬

_ (¬1) حديث منكر، وانظر "السلسلة الضعيفة" (881). (¬2) وقد سبق مناقشة مسألة حجية قول الصحابي، واختيار أنه حجة، ولذلك سأبقي التنصيص على أقوال الصحابة ضمن الأدلة التي تصادم القياس. وانظر رسالة: " تعارض القياس مع الأدلة المختلف فيها - دراسة نظرية تطبيقية" فقد عرض فيها لتعارض القياس مع شرع من قبلنا، وإجماع أهل المدينة، والاستصحاب، والعرف والاستحسان، وغيرها من الأدلة المختلف فيها.

الأمثلة:

الأمثلة: قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (3/ 467): (مثال ما خالف نص الكتاب: قولنا: يشترط تبييت النية لرمضان، لأنه صوم مفروض، فلا يصح تبييته من النهار كالقضاء، فيقال: هذا فاسد الاعتبار، لمخالفته نص الكتاب، وهو قوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، فإنه يدل على أن كل من صام يحصل له الأجر العظيم، وذلك مستلزم للصحة، وهذا قد صام، فيكون صومه صحيحا. ومثال ما خالف السنة قولنا: لا يصح السلم في الحيوان، لأنه عقد يشتمل على الغرر، فلا يصح، كالسلم في المختلطات، فيقال: هذا فاسد الاعتبار، لمخالفة ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص في السلم (¬1). ومثال ما خالف الإجماع أن يقول الحنفي: لا يجوز أن يغسل الرجل زوجته؛ لأنه يحرم النظر إليها، فحرم غسلها كالأجنبية فيقال له: هذا فاسد الاعتبار، لمخالفته الإجماع السكوتي، وهو أن عليا غسل فاطمة، ولم ينكر عليه، والقضية في مظنة الشهرة، فكان ذلك إجماعا كما سبق في بابه). حكمه، ووجوه الجواب عنه: اعلم أن الأصوليين اتفقوا من ناحية الجملة على القياس إذا خالف أو عارض دليلا أقوى منه فيعد فاسد الاعتبار، ويحكم ببطلانه. ولكنهم اختلفوا في بيان مراتب القياس من حيث القوة والضعف والجلاء والخفاء، واختلفوا أيضا في مراتب من أخبار الآحاد، وفي تخصيص عموم الكتاب به. ¬

_ (¬1) ظاهر عبارته أنه يستدل بالأدلة العامة للترخيص في السلم، والأولى الاعتراض على القياس بما رواه مسلم من حديث أبي رافع - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا فقال (أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء).

وقد سبق بيان أن القياس له مراتب من حيث القوة والضعف والجلاء والخفاء، فالقياس الذي في معنى الأصل أقوى من القياس الجلي، الجلي أقوى من الخفي، وقياس العلة أقوى من قياس الدلالة. ثم عند معارضة القياس مع دليل آخر فلابد من النظر إلى قوة النص الذي هو أصل القياس. ومما سبق يتبين أن الأصوليين متفقون على أن القياس إذا خالف دليلا أقوى منه أنه يصح الاعتراض عليه بفساد الاعتبار، وأنه على المستدل بالقياس أن يجيب عنه بأحد الأجوبة الآتي ذكرها، وإلا فقياسه باطل (¬1). قال ابن النجار في " شرح الكوكب" (4/ 239): ("وجوابه" أي وجواب القدح بفساد الاعتبار: إما "بضعفه" بأن يمنع صحة النص بالطعن في سنده، بأن يقول: لا نسلم صحة تغسيل علي لفاطمة. وإن سلم فلا نسلم أن ذلك اشتهر، وإن سلم فلا نسلم أن الإجماع السكوتي حجة، وإن سلم. فالفرق بين علي وغيره: أن فاطمة زوجته في الدنيا والآخرة بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فالموت لا يقطع النكاح بينهما، بخلاف غيرهما. أو يقول في مسألة السلم: لا نسلم صحة الترخيص في السلم، وإن سلمنا فلا نسلم أن اللام فيه للاستغراق. فلا يتناول الحيوان، وإن صح السلم في غيره. "أو" ب "منع ظهوره" أي ظهور النص، بأن يقول في مسألة الصوم: لا نسلم أن الآية تدل على صحة الصوم بدون تبييت النية؛ لأنها مطلقة، وقيدناها بحديث (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل). "أو" بـ "تأويله" أي تأويل النص، بأن يقول في مسألة الصوم: إن الآية دلت على ثواب الصائم، وإنا لا نسلم أن الممسك بدون تبييت النية صائم، أو يقول: إن النص المعارض للقياس مؤول بدليل يرجحه على الظاهر. "أو" بـ "القول بموجبه" بأن يقول: أنا أقول بموجب النص، إلا أن مدلوله لا ينافي ¬

_ (¬1) انظر: الاعتراضات الواردة على القياس (ص/316).

قياسي، كأن يقول في مسألة الصوم: إن الآية دلت على أن الصائم يثاب وأنا أقول بموجبه. لكنها لا تدل على أنه لا يلزمه القضاء والنزاع فيه! "أو" بـ "معارضته" أي معارضة النص "بمثله" أي بنص مثله. فيسلم القياس حينئذ لاعتضاده بالنص الموافق له) أهـ. ومثال للمعارضة للنص بمثله (¬1): قول الحنفي: لا يجوز للإمام أن يحكم في الأسرى بالفداء؛ لأن فيه إعانة لأهل الحرب بالمقاتلين، كإعانتهم بالمال والسلاح. فيقول المعترض: هذا قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه يخالف قوله تعالى: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [محمد: 4] فيجيب المستدل بأن هذه الآية معارضة بآية أخرى، وهي قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الأنفال: 67]. مخالفة القياس لقول الصحابي: وأما إن عارض قول الصحابي الذي لم يشتهر، ولم يعلم له مخالف القياس فالمسألة خلافية والظاهر عند أحمد حمل قول الصحابي على التوقيف وتقديمه على القياس، وخالف أبو الخطاب (¬2). قال القاضي أبو يعلى في "العدة" (4/ 1178): (إذا قال بعض الصحابة قولاً ولم يظهر في الباقين، ولم يعرف له مخالف، فإن كان القياس يدل عليه: وجب المصير إليه والعمل به. وإن كان القياس يخالفه، فإن كان مع قول الصحابي قياس أضعف منه كان قول الصحابي مع أضعف القياسين أولى؛ لأنه لا يمتنع أن يكون كل واحد منهما حجة حال الانفراد، ثم يصير حجة بالاجتماع ... وإن لم يكن مع قول الصحابي قياس: ففيه روايتان: ¬

_ (¬1) المرجع السابق (ص/323). (¬2) التمهيد (4/ 1180)، وانظر: المسودة (ص/418)، وشرح مختصر الروضة (3/ 186)، وشرح الكوكب (4/ 424)، إجمال الإصابة للعلائي (ص/73).

-إحداهما: أنه حجة، مقدم على، القياس؛ ويجب تقليده. وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى هذا في مواضع من مسائله: فقال في رواية أبي طالب "في أموال المسلمين إذا أخذها الكفار، ثم ظهر عليه المسلمون، فأدركه صاحبه فهو أحق به، وإن أدركه وقد قُسِم فلا حق له، كذا قال عمر، ولو كان القياس كان له. ولكن كذا قال عمر". وكذلك نقل أبو طالب عنه في رجل يصوم شهرين من كفارة، فتسحر بعد طلوع الفجر وهو لا يعلم، ثم علم: "يقضي يوماً مكانه، وإن أكل ناسياً بالنهار، فليس عليه شيء. فقيل: فإذا لم يعلم، فهو كالناسي؟. فقال: كذا في القياس، ولكن عمر أكل في آخر النهار يظن أنه ليل، قال: اقض يوماً مكانه". وفي رواية أخرى: القياس مقدم عليه. أومأ إليه - رحمه الله- في مواضع من مسائله ... نقل المروذي عنه: "ابن عمر يقول: على قاذف أم الولد (¬1) الحد. وأنا لا أجترئ على ذلك، إنما هي أمة، أحكامها أحكام الإماء". وهذا صريح من كلامه في أن أقواله ليست بحجة ... واختلف أصحاب أبي حنيفة، فذهب البَرْدَعى والرازي والجرجاني: إلى أنه حجة، يترك له القياس. وحكى الرازي عن الكرخى أنه قال: "أما أنا فلا يعجبني هذا المذهب"، وكان لا يرى قول الصحابي فيما يسوغ فيه الاجتهاد حجة. واختلف أصحاب الشافعي، فقال في القديم: هو حجة. وقال في الجديد: ليس بحجة. وبه قال عامة المتكلمين من المعتزلة والأشعرية. فالدلالة على أنه حجة، يُترك له القياس: قوله عليه السلام: (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم)، ... ) اهـ ثم أخذ يسوق الأدلة على حجية قول الصحابي، وقد سبق بيان أنه حجة، وهذه ¬

_ (¬1) هي الأمة التي يجامعها سيدها فتلد منه، فإن هذه تبقى أم ولد، فإن مات سيدها عتقت، وهناك خلاف بين العلماء فيها هل تلحلق بالحرة أم بالأمة؟؛ لأنها شبيهة بالحرة وفيها شبه بالأمة.

الشرط الثاني:

المسألة تعود إليها فمن يرى أن قول الصحابي حجة فإنه يعارض به القياس ويقدمه عليه، ومن لا فلا كالكلوذاني. الشرط الثاني: قال الشيخ: (أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص أو إجماع فإن كان ثابتاً بقياس لم يصح القياس عليه). قال الشيخ في "شرح الأصول" (ص/523): (إن كان حكم الأصل- ثابتا بقياس لم يصح القياس عليه ... فهذه ثلاثة علل لاشتراط أن يكون الأصل المقيس عليه ثابتًا بنصٍّ أو إجماع - وهي: أولاَ: يجب القياس على الأصل الأول، فهو أولى. ثانيًا: قد يكون الفرع المقيس عليه غير صحيح أصلاً. ثالثًا: أن القياس على الفرع تطويل بلا فائدة. مثال ذلك: أن يقال يجري الربا في الذرة قياسًا على الرز ويجري في الرز قياسًا علي البُر، فالقياس هكذا غير صحيح، ولكن يقال يجري الربا في الذرة قياسًا على البُر، ليقاس على أصل ثابت بنص ... ثم قال: على كلِّ حالٍ نقول: إن قياس الفرع على الفرع ثم الفرع على أصل: غير صحيح شكلاً وحكمًا؛ لأنا ذكرنا في إحدى العلل أن قياس الفرع الذي جعل أصلاً في القياس الثاني قد يكون غير صحيح، وحينئذٍ لا يصح الحكم؟ فالقياس إذًا غير صحيح شكلاً وحكمًا، فنحن نبطله ونقول: لا تقس هذا القياس، بل ارجع إلى الأصل الأول وقس عليه وينتهي الإِشكال. ثم قال: ثم لاحظ أنه في باب المناظرة قد نقول: يجري الربا في الذرة قياسًا على الرز، وفي الرز قياسًا على البر، فيمنَعُ الخصمُ قياسَ الرز على البر وحينئذٍ يبطل قياسك. فهذه المسألة نافعة حتى في باب المناظرة وهي أن ترجع إلى الأصل الأول). وهذا الذي اختاره الشيخ هو ظاهر كلام أحمد، وأحد قولي المذهب، والقول الأخر بالجواز (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: العدة (4/ 1361)، التمهيد (3/ 443)، شرح الكوكب المنير (4/ 26)، المدخل (ص/308)، نزهة الخاطر العاطر (2/ 200).

قال ابن قدامة في الروضة (ص/315): (أركان القياس وهي أربعة أصل وفرع وعلة وحكم فالركن الأول له شرطان: أحدهما أن يكون ثابتا بنص أو اتفاق من الخصمين فإن كان مختلفا فيه أو لا نص فيه لم يصح التمسك به ... وقال بعض أصحابنا يجوز القياس على ما ثبت بالقياس لأنه لما ثبت صار أصلا في نفسه فجاز القياس عليه كالمنصوص ولعله أراد ما ثبت بالقياس واتفق عليه الخصمان ... ). قال المرداوي في " التحبير" (7/ 3156): (قوله: {وكونه غير فرع في ظاهر كلام أحمد، وقاله الحنفية، وأكثر الشافعية. واختاره القاضي، وقال يجوز أن تستنبط من الفرع المتوسط علة ليست في الأصل ويقاس عليه. وقال - أيضاً -: ' يجوز كون الشيء أصلا لغيره في حكم وفرعاً لغيره في حكم آخر '.وجوزه الفخر، وأبو الخطاب، ومنعه أيضاً. وقال - أيضًا - هو، وابن عقيل، والبصري، وبعض الشافعية: يقاس عليه بغير العلة التي يثبت بها، وحكي عن أصحابنا. ومنعه الموفق، والمجد، والطوفي، وغيرهم مطلقاً إلا باتفاق الخصمين، والشيخ (¬1) في قياس العلة فقط}). قال الطوفي في "البلبل" (ص/151): (فشرط الأصل ثبوته بنص، وإن اختلفا فيه ; أو اتفاق منهما ولو ثبت بقياس، إذ ما ليس منصوصا ولا متفقا عليه لا يصح التمسك به لعدم أولويته، ولا يصح إثباته بالقياس على أصل آخر؛ لأنه إن كان بينه وبين محل النزاع جامع، فقياسه عليه أولى، إذ توسيط الأصل الأول تطويل بلا فائدة، وإلا لم يصح القياس لانتفاء الجامع بين محل النزاع وأصل أصله). وقال في "شرحه" (3/ 292): (قوله: «ولو ثبت بقياس»، أي: إذا كان الأصل متفقا عليه، حصل المقصود، ولو كان ثبوته بالقياس، وهو قول بعض أصحابنا؛ لأنه لما ثبت صار أصلا بنفسه، فجاز القياس عليه كالمنصوص والمجمع. مثاله: أن يقول: قد اتفقنا على تحريم الربا في الأرز قياسا على البر بجامع الكيل، فيحرم في الذرة قياسا على الأرز، لكن هذا يفضي إلى العبث المذكور، وينافي ¬

_ (¬1) أي تقي الدين ابن تيمية، وقال في "المسودة" (ص/354): (والصواب أن العلة إذا كانت واحدة فقد يكون فيه إيضاح وان كانت في مضمونها بأن كان أحدهما قياس أو كلاهما قياس دلالة جاز لان الدليل لا ينعكس وان كانا قياس علة لم يجز ... ).

قولنا بعد: إن الأصل لا يصح إثباته بالقياس ... قوله: «ولا يصح إثباته بالقياس على أصل آخر» إلى آخره، أي: لا يصح إثبات الأصل المقيس عليه بقياسه على أصل آخر، وإن شئت، قلت: لا يصح أن يكون فرعا لأصل آخر. مثاله: أن يقيس الذرة على الأرز المقيس على البر، فلا يصح؛ لأنه إن كان بين ذلك الأصل الآخر الذي قاس عليه وهو البر هاهنا وبين محل النزاع - وهو الذرة - جامع، فقياس محل النزاع على ذلك الأصل الآخر البعيد وهو البر أولى؛ لأن توسيط الأول الذي قاس عليه محل النزاع، وهو الأرز «تطويل بلا فائدة»، إذ عوض ما نقول: يحرم التفاضل في الذرة قياسا على الأرز، وفي الأرز قياسا على البر، فلنقل: يحرم التفاضل في الذرة قياسا على البر، إذ توسيط الأرز في البين عبث، «وإلا»، أي: وإن لم يكن بين الأصل الآخر الثاني، وبين محل النزاع جامع، «لم يصح القياس»، كما لو قاس الذرة على الأرز، والأرز على الحديد، «لانتفاء الجامع بين محل النزاع» وهو الذرة، «وأصل أصله» وهو الحديد، الذي جعله أصلا للأرز، الذي هو أصل الذرة. وكذلك لو قال المستدل في اشتراط النية للوضوء: عبادة، فيفتقر إلى النية كالتيمم، فلو منع الحكم في التيمم، فأثبت الحكم فيه قياسا على الصلاة، فإن جمع بين التيمم والصلاة بكونهما عبادة، قلنا: فقس الوضوء على الصلاة بجامع العبادة، ولا حاجة إلى توسيط التيمم، وإن جمع بينهما بكون التيمم طهارة، لم يصح القياس؛ لأن الصلاة ليست طهارة، والجامع بينهما منتف. واعلم أنا قد ذكرنا قبل هذا بيسير أن الأصل يجوز أن يثبت بالقياس، وهاهنا ذكرنا أنه لا يجوز، وهما قولان لأصحابنا، والقول بعدم الجواز هو المشهور لإفضاء القول بالجواز إلى العبث المذكور، ولا يمكن أن يخرج للقول بالجواز فائدة إلا أن يكون الأصل ثابتا بقياس شبهي، ومحل النزاع يلحق به بقياس جلي بحيث يكون محل النزاع بأصله أشبه منه بالأصل البعيد، كما لو جعلنا علة الفضة الوزن والثمنية جميعا، وقسنا عليه الحديد قياسا شبهيا لاشتراكهما في الوزن، ثم قسنا الصفر أو الرصاص ونحوه على الحديد، لكن هذا أيضا لا جدوى له، إذ القياس

الشرط الثالث - أن يكون لحكم الأصل علة معلومة:

الجلي بين محل النزاع وأصله وهما الصفر والحديد مستند إلى قياس ضعيف شبهي، وهو قياس الحديد على الفضة، فلنسترح من هذا التكليف، ولنجزم ببطلان كون الأصل ثابتا بالقياس). الشرط الثالث - أن يكون لحكم الأصل علة معلومة: قال في "الشرح" (ص/529): (إن القياسَ إلحاقُ فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما، فلا بد أن تكون علة الأصل- وهو المقيس عليه- معلومة من أجل أن نجمع بينه وبين الفرع فيها، إذ لو لم تتحقق العلة في الفرع لم يصح القياس، فإن كان حكم الأصل تعبديًا محضًا لم يصح القياس عليه). قال ابن قدامة في الروضة: (ص/317): (أن يكون الحكم - أي حكم الأصل - معقول المعنى إذ القياس إنما هو تعدية الحكم من محل إلى محل بواسطة تعدي المقتضى وما لا يعقل معناه كأوقات الصلوات وعدد الركعات لا يوقف فيه على المعنى المقتضى ولا يعلم تعديه فلا يمكن تعدية الحكم فيه). وعبارة المرداوي في "التحبير" أشمل فقال (7/ 3146): (من شرط حكم الأصل المقيس عليه أن لا يكون معدولاً به عن سنن القياس، أي عن طريقه المعتبر فيه لتعذر التعدية حينئذ وذلك على ضربين: أحدهما: لكونه لم يعقل معناه، إما لكونه استثني من قاعدة عامة كالعمل بشهادة خزيمة وحده فيما لا يقبل شهادة الواحد فيه، أو لم يستثن كتقدير نصب الزكوات، وأعداد الركعات، ومقادير الحدود والكفارات. والضرب الثاني: ما عقل معناه ولكن لا نظير له ... ). الأصل في أحكام الله التعليل: قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (3/ 411): (الأصل في الأحكام التعليل، فمهما أمكن جعل الحكم معللا، لا يجعل تعبدا). قال الشيخ في "الشرح" (ص/526): (كل أحكام الله لها علل، لكن عقولنا تقصر أحيانًا عن إدراك هذه العلة وإذا قصرت عقولنا عن إدراك هذه العلة، نسمي الحكم تعبديًا- يعني: ليس لنا فيه إلا التعبد فقط، وأحيانا يلجأ الإنسان إلى القول بالتعبد سدًا للباب، وهذا حسن؛ - يعني اللجوء إلي القول بالتعبد في المسائل التي تخفي حكمتها

القياس في العبادات:

فهو أحسن بكثير من محاولة إثبات علة قد تكون عليلة. وهذا له فوائد: أولا - لنعوِّد الناس على تمام الاستسلام لله عز وجل، وأنَّنا نتعبد لله بهذا سواء علمنا الحكمة أم لم نعلم. وثانيا - أننا إذا اعتمدنا على النص انقطع النزاعِ بين المؤمنين، وإلا فإن الكافر يجادل، لكن المؤمن يعرف قول الله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36). فكثير من الناس يحاول التماس علة للأحكام الشرعية- وهذا حسن، ولا ننكره بل نؤيده- لكن كوننا نجعله أصلا فيكون الأصلُ هو معرفة العلة، فهذا فيه نظر، بل ينبغي أن نعوِّد الناسَ اللجوء إلى حكم الله ورسوله ... ). القياس في العبادات: قال الشيخ في "شرح الأصول" (ص/529): (إذا كان حكم الأصل تعبديًا محضًا لم يصح القياس عليه؛ ولهذا قلنا: لا قياس في العبادات- ليس في شروطها وأركانها- لكن في أصل مشروعيتها ... ). اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في عدم جواز إثبات عبادة جديدة زائدة على العبادات المعلومة بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة بالقياس مثل إثبات صلاة سادسة أو إيجاب صوم شهر آخر غير رمضان بالقياس، وذلك لأمور كثيرة منها: 1 - أن العبادات توقيفية. 2 - أن إثبات عبادات جديدة بطريق غير النقل يعد ابتداعا في الدين. 3 - أن كل عبادة في نفسها أصل من حيث أنها عادة مبتدأة مستقلة ولا يمكن إثبات أصل بالقياس. وقد سبق ذكر أنه لا يجري القياس فيما لا يعقل معناه من العبادات، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، وذلك لأن القياس فرع تعقل المعنى فما لا يهتدي العقل إلى تعقل معناه لا يمكن أن يجري القياس فيه كأعداد الصلوات وعدد الركعات، ونصب الزكوات، ونحو ذلك. ومما سبق نستطيع تحرير محل الخلاف بين العلماء:

إذا نظرت إلى كلام الأصوليين وأمثلة الفقهاء وجدت أنهم اختلفوا في إظهار أحكام العبادات الغير منصوصه بالقياس، ولم يختلفوا في إثبات عبادة مبتدأة بالقياس، ومن أمثلة ذلك: - هل يقاس وجوب النية في الوضوء على وجوبها في التيمم؟ - هل يصلي العاجز عن الصلاة قاعدا أو مومئا برأسه - وهما المنصوص عليهما - بالإيماء بالحاجب قياسا على المنصوص من صلاة العاجز عن القيام جاسا أم مومئا برأسه. - هل يقاس الجمع بين الصلاتين في الثلج والبرد على عذر المطر بجامع أن الكل عذر يصعب الخروج معه إلى الصلاة في وقتها المحدد؟،إلى غير ذلك من الأمثلة (¬1). قال عيسى منون في نبراس العقول (ص/140) بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: (من مجموع ما سبق ومن الدليل الذي أقامه المانع أن الممنوع إما إثبات عبادة زائدة عن العبادات الواردة في تلك الأصول، أو إثبات كيفية خاصة لتلك العبادات دون ما يعرض لتلك العبادات من الصحة والفساد والفرضية والنفلية وغير ذلك من الشروط والموانع والأسباب ... ). وجمهور الأصوليين على إثبات القياس في العبادات وخالف في ذلك الأحناف. وتوسع الحنابلة في إثبات القياس في العبادات، وفيما يتضمن معنى العبادة وغيره من الكفارات والحدود. فالكفارت دائرة بين العبادة والعقوبة، فهي متضمنة للعبادة من حيث أنها تؤدى بالصوم أو الصدقة، أو العتق، ويشترط النية في أدائها، وأما تضمنها معنى العقوبة فلأنها لم تجب ابتداء تعظيما لله تعالى كسائر العبادات بل وجبت جزاء للعبد على ارتكاب المحظور. وأيضا الحدود فإنها شرعت زواجر، وهي أيضا تتضمن معنى التعبد لما فيها من تقدير من قبل الشارع. ¬

_ (¬1) انظر رسالة القياس في العبادات حكمه وأثره لمحمد منظور (ص/429).

وقال الشيخ محمد منظور في "القياس في العبادات" (ص/541): (إن العلماء اتفقوا على أن الحدود والكفارات مقدرة شرعا فهي توقيفية، فليس لأحد أن يثبت حدا أو كفارة في الشرع ابتداء بالقياس؛ لأن ذلك نصب الشريعة بالرأي. وفي الحقيقة أن معنى إثبات حد أو كفارة ابتداء بالقياس إنشاؤهما من غير أصل وليس ذلك من القياس الشرعي في شيء. فمعنى إجراء القياس في الكفارات إلحاق مخالفة شرعية غير منصوص على كفارتها بمخالفة شرعية معينة منصوص على كفارتها لجامع بينهما، مثل إلحاق القتل عمدا بالقتل خطأ في وجوب الكفارة بجامع القتل بغير حق. ومعنى أجراء القياس في الحدود إلحاق جناية غير منصوص على حدها بجناية منصوص على حدها لجامع بينهما، مثل النباش بالسارق في قطع اليد بجامع الأخذ خفية من الحرز). قال القاضي في " العدة " (4/ 1409 (: (يجوز إثبات الحدود والكفارات والمقدرات والأبدال بالقياس، ويجوز قياسها على المواضع التي أجمع على ثبوت ذلك فيها ... وهو قول أصحاب الشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يثبت ذلك بالقياس ... ) (¬1). والقول بجريان القياس في العبادات وما تضمن معناها هو الراجح لعموم الأدلة المثبتة للقياس ولم يثبت ما يخرج العبادات منها. بالإضافة إلى أن من ذهب لنفي القياس في العبادات خالفوا هذا الأصل وقاسوا فيها، ومن أمثلة ذلك: قال السرخسي في "المبسوط" (1/ 35): (ويجوز افتتاح الصلاة بالتسبيح والتهليل والتحميد في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله). فقاسوا ألفاظ التسبيح والتهليل والتحميد على لفظ التكبير بجامع التعظيم لله باللسان في جواز افتتاح الصلاة به. ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد (3/ 449)، الروضة (ص/338)، شرح مختصر الروضة (3/ 451)، نزهة الخاطر العاطر (2/ 225)، شرح مختصر أصول الفقه (ص/202).

وهذا المثال أقوى الأمثلة عندي في الاعتراض عليهم وهناك أمثلة أخرى خارجة عن محل النزاع عندي كتطهير الثوب النجس بالمائعات إلحاقا لها بالماء، بجامع كون كل منها مزيلا للعين والأثر، وأيضا قاسوا غير الحجر على الحجر في جواز الإستجمار به بجامع إزالة النجاسة في الكل. وعندي أن هذا من باب العادات لا العبادات فلا يشترط لها النية. قال تقي الدين في مجموع الفتاوي (21/ 59): (القصد في إزالة النجاسة ليس بشرط عند أحد من الأئمة الأربعة ولكن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ذكروا وجها ضعيفا في ذلك ليطردوا قياسهم في مناظرة أبى حنيفة في اشتراط النية في طهارة الحدث كما أن زفر نفى وجوب النية في التيمم طردا لقياسه وكلا القولين مُطْرَح). الشرط الرابع - أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم: قال في "الشرح" (ص/531): (الأصل أن تكون - أي علة الحكم - مشتملة على معنى مناسب للحكم مثل: أكرم اليتيم ليتمه، أطعِم المسكين لمسكنته، أعِنِ المجاهد لجهاده؛ يعني لا بد أن تكون علةُ الحكم مشتملة على معنى مناسب للحكم. ثم ضرب المؤلف مثلاً بالإسكار بالخمر- والخمر حرام لأنها مسكرة ... والإِسكار هو تغطية العقل على وجه اللذة والطرب). وكلام الشيخ واضح لا يحتاج إلى بيان ولم يتوسع الشيخ في الكلام على مسلك المناسبة ولا بيان أقسامها عند الحنابلة فلا داعي للتشعب بذكر ذلك حتى لا نخرج عن المقصود. قال في "الأصل" (ص/71): (فإن كان المعنى وصفاً طرديًّا لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به، كالسواد والبياض مثلا. مثال ذلك: حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن بريرة خيرت على زوجها حين عتقت قال: وكان زوجها عبداً أسود، فقوله: "أسود"؛ وصف طردي لا مناسبة فيه للحكم، ولذلك يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد وإن كان أبيض، ولا يثبت لها إذا عتقت تحت حر، وإن كان أسود). وقال في "الشرح" (ص/ 532): (الوصف الطردي هو الوصف الذي لا مناسبة فيه للحكم، وإذا لم يصح التعليل به لم يصح القياس عليه؛ لأن العلة حينئذٍ ساقطة.

قوله: (كالسواد والبياض مثلاً) فمثلاً لو جاء في الحديث أن رجلاً كثير الشعر ضخم البدن مفتول العضلات جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: يا رسول الله، إني جامعت امرأتي في رمضان، فماذا عليَّ؟ يقول: عليك كذا وكذا، فهذه الأوصاف هل هي أوصاف طردية؛ أي لو استفتانا رجل نحيف أصلع رخي العضلات هل يكون حكمه كحكم الأول أم يختلف؟ الجواب: أن حكمه كحكم الأول تمامًا مع أن الأول كان كثير الشعر مفتول العضلات كبير الجسم، وهذا- الثاني- نحيف أصلع رخي العضلات، مع ذلك كله نقول: أن حكمه كحكمه، لأن الأوصاف المذكورة أوصاف طردية لا مناسبة لها). يشير الشيخ بعدم صحة القياس في الوصف الطردي لقادح عدم التأثير ... قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 547): (اعلم أن التأثير هو إفادة الوصف أثره، فإذا لم يفده، فهو عدم التأثير. قوله: «وهو ذكر ما يستغني عنه الدليل في ثبوت حكم الأصل، إما لطرديته»، «أو لثبوت الحكم بدونه». يعني أن عدم التأثير: هو ذكر وصف، أو أكثر تستغني عنه العلة في ثبوت حكم أصل القياس، إما لكون ذلك الوصف طرديا لا يناسب ترتب الحكم عليه، أو لكون الحكم ثبت بدونه. مثال الأول؛ وهو ما عدم تأثيره لكونه طرديا: قول القائل في أن الفجر لا يقدم أذانها على الوقت: «صلاة لا تقصر، فلا يقدم أذانها على الوقت، كالمغرب»، وذلك، لأن «باقي الصلوات تقصر»، ولا يقدم أذانها على وقتها، فبقي قوله: لا تقصر؛ وصفا طرديا، لأنه غير مناسب لتقديم الأذان على الوقت، ولا عدمه. وتحقيق الكلام في هذا: أن القياس المذكور اقتضى تعليل عدم تقديم الأذان بعدم القصر، فكأنه قال: لا يقدم الأذان على الفجر، لأنها لا تقصر، واطرد ذلك في المغرب، لكنه لم ينعكس في بقية الصلوات، إذ مقتضى القياس المذكور أن ما يقصر من الصلوات يجوز تقديم أذانه على وقته من حيث انعكاس العلة، لكن الأمر ليس كذلك ... وإذا ألغي قوله: لا تقصر؛ لم يبق لاختصاص الأصل المذكور - وهو المغرب - وجه، إذ كل الصلوات لا يقدم أذانها.

ومثال الثاني، وهو ما يستغني عنه الدليل لثبوت الحكم بدونه: قوله في بيع الغائب: «مبيع لم يره» العاقد، «فلم يصح بيعه، كالطير في الهواء»، وذلك لأن عدم الرؤية ههنا عديم التأثير في الأصل، وهو بيع الطير، لأن «بيع الطير في الهواء ممنوع»، أي: لا يصح وإن كان مرئيا. وعدم التأثير ههنا من جهة العكس كما تقدم، لأن تعليل عدم صحة بيع الغائب بكونه غير مرئي يقتضي أن كل مرئي يجوز بيعه، وقد بطل بيع الطير في الهواء. وذكر النيلي هذا المثال على غير هذه الصفة، فقال: مبيع لم يره فلا يصح، كما إذا باع ميتة لم يرها، وهو في معنى النظم الأول، لأن عدم الرؤية في بيع الميتة عديم التأثير، إذ نجاستها تستقل بالبطلان كما أن الغرر في بيع الطير في الهواء بعدم القدرة عليه يستقل بالبطلان. ومن أمثلة ذلك: قول المستدل: مس ذكره، فوجب عليه الوضوء، كما لو مس وبال، فإن مس الذكر مع البول عديم التأثير لاستقلاله بنقض الوضوء إجماعا. واعلم أن الأول يسمى عدم التأثير في الوصف، لأن الوصف طردي غير مؤثر، كقوله: صلاة لا تقصر، والثاني يسمى عدم التأثير [في الأصل]، كعدم الرؤية في بيع الميتة والطير في الهواء لاستغناء حكم الأصل في ثبوته عنه). ثم هناك أقساما أخرى مختلف فيها وهي: عدم التأثير في الحكم، وفي الفرع فلا داعي لذكرهما، فإنما الغرض التنبيه على القادح. الشرط الخامس- أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل): قال في "الأصل" (ص/71): (أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل؛ كالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف). قال المرداوي في "التحبير" (7/ 3298): (من شروطه - أي الفرع - أن يشتمل على علة حكم الأصل بتمامها حتى لو كانت ذات أجزاء، فلا بد من اجتماع الكل في الفرع، وهذه العبارة أحسن من عبارة ابن الحاجب ومن تبعه: ' أن يساوي الفرع في العلة علة الأصل '، لأن لفظ المساواة قد يفهم منع الزيادة، فيخرج قياس الأولى، بخلاف هذه العبارة فإن الزيادة لا تنافيه، وهي شاملة لقياس الأولى، والمساوي، والأدون. إذا علم ذلك فإن كان وجودها بتمامها فيه قطعيا كقياس الضرب للوالدين

قادح المنع

على قول 'أف' بجامع أنه إيذاء، وكالنبيذ يقاس على الخمر بجامع الإسكار، ويسمى الأول قياس الأولى، والثاني قياس المساواة، وكل منهما قطعي. وإن كان وجود العلة بتمامها ظنيا فالقياس ظني، ويسمى قياس الأدون كقياس التفاح على البر في أنه لا يباع إلا يدا بيد ونحو ذلك بجامع الطعم، فالمعنى المعتبر وهو الطعم موجود في الفرع بتمامه، وإنما سمي قياس أدون؛ لأنه ليس ملحقا بالأصل إلا على تقدير أن العلة فيه الطعم، فإن كانت فيه تركب من الطعم مع التقدير بالكيل، أو كانت العلة القوت أو غير ذلك لم يلحق بالتفاح. وظهر بذلك أنه ليس المراد بالأدون أن لا يوجد فيه المعنى بتمامه، بل أن تكون العلة في الأصل ظنية. قال ابن مفلح تبعا لابن الحاجب: ' من شروط الفرع مساواة علة الأصل فيما يقصد من عين العلة أو جنسها، كالشدة المطربة في النبيذ، وكالجناية في قياس قصاص طرف على النفس '. أما العين: فكقياس النبيذ على الخمر بجامع الشدة المطربة، وهي بعينها موجودة في النبيذ. وأما الجنس: فكقياس الأطراف على القتل في القصاص بجامع الجناية المشتركة بينهما، فإن جنس الجناية هو جنس لإتلاف النفس والأطراف، وهو الذي قصد الاتحاد فيه ... ) (¬1). ثم تكلم الشيخ عن قادح المنع، وهو إذا ما لم تتحق علة الأصل في الفرع. فقال في "الأصل" (ص/71): (فإن لم تكن العلة موجودة في الفرع لم يصح القياس. مثال ذلك: أن يقال العلة في تحريم الربا في البر كونه مكيلاً، ثم يقال: يجري الربا في التفاح قياساً على البر، فهذا القياس غير صحيح، لأن العلة غير موجودة في الفرع، إذ التفاح غير مكيل). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 481): (السؤال «الرابع: المنع». قوله: «وهو منع حكم الأصل» ليس المراد حصر جنس المنع في منع حكم الأصل، بل هو على أربعة أضرب. وشرع في ذكرها واحدا بعد واحد: أولها: «منع حكم الأصل». ¬

_ (¬1) انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 308)، شرح الكوكب المنير (4/ 106).

أقسام القياس

الثاني: «منع وجود المدعى علة» أي: منع وجود الوصف الذي ادعى المستدل أنه العلة في الأصل. الثالث: منع كونه علة في الأصل. الرابع: منع وجوده في الفرع، فكأنه قال: المنع، وهو ينقسم إلى منع حكم الأصل، ومنع وجود العلة فيه، ومنع علية الوصف، ومنع وجوده في الفرع. ومثال ذلك فيما إذا قلنا: النبيذ مسكر، فكان حراما قياسا على الخمر، فقال المعترض: لا نسلم تحريم الخمر، إما جهلا بالحكم، أو عنادا، فهذا منع حكم الأصل. ولو قال: لا أسلم وجود الإسكار في الخمر؛ لكان هذا منع وجود المدعى علة في الأصل. ولو قال: لا أسلم أن الإسكار علة التحريم، لكان هذا منع علية الوصف في الأصل، ولو قال: لا أسلم وجود الإسكار في النبيذ؛ لكان هذا منع وجود العلة في الفرع، ففي الأصل ثلاثة منوع، وفي الفرع منع واحد) (¬1). أقسام القياس القياس الجلي: قال الشيخ: (فالجلي: ما ثبتت علته بنص أو إجماع أو كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، والخفي: ما ثبتت علته باستنباط ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع) (¬2). قال في "الأصل" (ص/72): (مثال ما ثبتت علته بالنص: قياس المنع من الاستجمار بالدم النجس الجاف على المنع من الاستجمار بالروثة، فإن علة حكم الأصل ثابتة بالنص حيث أتى ابن مسعود رضي الله عنه إلى النبي صلّى الله عليه ¬

_ (¬1) انظر: روضة الناظر (ص/340)، مختصر البعلي (ص/153)، التحبير (7/ 3566)، شرح الكوكب المنير (4/ 246)، المدخل (ص/348). (¬2) قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 223 (: (اعلم أن للقياس أقساما باعتبارات: أحدها: إما جلي: وهو ما كانت العلة الجامعة فيه بين الأصل والفرع منصوصة، أو مجمعا عليها، أو ما قطع فيه بنفي الفارق، كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب. وإما خفي: وهو ما كانت العلة فيه مستنبطة).

وسلّم بحجرين وروثة؛ ليستنجي بهن، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: "هذا ركس" والركس النجس. ومثال ما ثبتت علته بالإجماع: نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقضي القاضي وهو غضبان، فقياس منع الحاقن من القضاء على منع الغضبان منه من القياس الجلي، لثبوت علة الأصل بالإجماع وهي تشويش الفكر وانشغال القلب. ومثال ما كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع: قياس تحريم إتلاف مال اليتيم باللبس على تحريم إتلافه بالأكل للقطع بنفي الفارق بينهما. والخفي: ما ثبتت علته باستنباط، ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع. مثاله: قياس الأشنان على البر في تحريم الربا بجامع الكيل، فإن التعليل بالكيل لم يثبت بنص ولا إجماع، ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، إذ من الجائز أن يفرق بينهما بأن البر مطعوم بخلاف الأشنان). ذكر الشيخ هنا تقسيم القياس من حيث قوته وضعفه إلى: جلي وخفي، وقسمه ابن عقيل وغيره إلى: جلي وخفي وواضح، وقسمه القاضي وغيره إلى: واضح وخفي (¬1). قال المرداوي في "التحبير" (7/ 3457): (القياس له اعتبارات، فتارة يكون باعتبار قوته وضعفه، وتارة باعتبار علته، وكل منهما له أقسام. فالقياس ينقسم باعتبار قوته وضعفه إلى: جلي وخفي. فالجلي: ما قطع فيه بنفي الفارق كقياس الأمة على العبد في السراية وغيرها، في العتق وغيره في قوله: ' من أعتق شركا له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ... الحديث '.، فإنا نقطع بعدم اعتبار الشارع الذكورة والأنوثة فيه. ومثل قوله: ' أيما رجل أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه '، نقطع أن المرأة في معناه. ومثله قياس الصبية على الصبي في حديث: ' مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم على تركها لعشر '، فإنا نقطع - أيضا - بعدم اعتبار الشرع الذكورة والأنوثة، ونقطع بأن لا فارق بينهما في الموضعين. وأما الخفي: فهو خلاف الجلي، وهو ما كان احتمال تأثير الفارق فيه ¬

_ (¬1) انظر: الواضح لابن عقيل (2/ 54)، والجدل له أيضا (ص/11)، العدة (4/ 1325)، شرح مختصر الروضة (3/ 223)، التحبير (7/ 3457)، شرح الكوكب المنير (4/ 207)، المختصر لابن اللحام (ص/150).

الإلحاق بنفي الفارق:

قويا، كقياس القتل بمثقل على القتل بمحدد في وجوب القصاص، وقد قال أبو حنفية بعدم وجوبه في المثقل. وقسمه بعضهم إلى: جلي وخفي وواضح. فالجلي: ما تقدم، والخفي: قياس الشبه، والواضح: ما كان بينهما. وقال بعضهم: الجلي ما كان ثبوت الحكم فيه في الفرع أولى من الأصل كالضرب مع التأفيف. قال بعضهم: وينبغي تمثيله بقياس العمياء على العوراء في منع التضحية بها. والواضح: ما كان مساويا له كالنبيذ مع الخمر. والخفي: ما كان دونه كقياس اللينوفر على الأرز بجامع الطعم، وكونه ينبت في الماء، ويرجع ذلك إلى الاصطلاح ولا مشاحة فيه. قال في ' المقنع ': وقيل الجلي قياس المعنى، والخفي قياس الشبه، وقيل: الجلي ما فهمت علته كقوله: ' لا يقضي القاضي وهو غضبان '). الإلحاق بنفي الفارق: والإلحاق بنفي الفارق قد يكون مظنونا، وقد يكون مقطوعا به، وقد اختلف العلماء في الإلحاق هل هو قياس أم لا؟ بيان مذهب الحنابلة في أنه ليس بقياس: قبل أن نعرض الخلاف في مفهوم الموافقة هل هو قياس أم لا، وقبل أن نبين أنواعه نبدأ ببيان مذاهب العلماء في دلالته على مدلوله هل هي قياسية أم لفظية، ثم نبين أن الصحيح من مذهب الحنابلة أن دلالته لفظية وليس بقياس. قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/ 232): (اعلم أنه نفي الفارق إنما هو قسم من تنقيح المناط، وهو مفهوم الموافقة بعينه، واختلف العلماء في دلالته على مدلوله هل هي قياسية أو لفظية، ولهم في ذلك أربعة مذاهب. الأول: أن دلالة مفهوم الموافقة إنما هي من قبيل القياس، وهو المعروف عند الشافعي بالقياس في معنى الأصل، ويقال له القياس الجلي. الثاني: أن دلالة الموافقة لفظية لكن لا في محل النطق، لأن ما دل عليه اللفظ في محل النطق هو المنطوق وما دل عليه لا في محل النطق هو المفهوم، وكلاهما من دلالة اللفظ. الثالث: أنها دلالة لفظية مجازية عند القائلين بالمجاز وهو عندهم من المجاز

المرسل، ومن علاقات المجاز المرسل " الجزئية " والكلية، قالوا: ففي مفهوم الموافقة يطلق الجزء ويراد الكل، وبعبارة أخرى يطلق الأخص ويراد الأعم فقد أطلق التأفيف في الآية وأريد به عموم الأذى مجازا مرسلا، كما زعموا. قالوا: وكذلك أطلق النهي عن أكل مال اليتيم، وأريد الإتلاف، فيدخل الإحراق والإغراق وغيرهما من أنواع الإتلاف، مجازا مرسلا كما زعموا أيضاً. الرابع: أنها لفظية لأن العرف اللغوي نقل اللفظ من وضعه لمعناه الخاص إلى ثبوته فيه، وفي المسكوت عنه أيضا، قالوا: فعرف اللغة نقل التأفيف من معناه الخاص إلى عموم الأذى، ونقل أكل مال اليتيم من معناه الخاص إلى عموم الإتلاف، وعلى هذا تكون دلالته لفظية من قبيل العرفية وأكثر الأصوليين على أن اللفظ دل عليه لا في محل النطق). قال القاضي أبو يعلى في " العدة" (4/ 1333):) فأما الحكم الثابت من طريق التنبيه فلا يسمى قياسا، وإنما هو مفهوم الخطاب وفحواه، نحو قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) [الإسراء: 23] إن الضرب ونحوه من الإضرار بالوالدين ممنوع منه بمعنى اللفظ ... وقد أومأ إليه أحمد - رحمه الله - في رواية أحمد بن الحسين بن حسان فقال: "إنما القياس أن يقيس الرجل على أصل، فأما أن يجيء إلى أصل فيهدمه فلا". فحد القياس بما كان على أصل مستنبط. وكذلك قال في رواية الميموني: "سألت الشافعي عن القياس فقال: عند الضرورة، وأعجبه ذلك". ومعنى قوله: "عند الضرورة". إذا لم يجد دليلا غيره من كتاب أو سنة، والاحتجاج بالتنبيه يجوز مع وجود دليل غيره. وقال في رواية الميموني: "بر الوالدين واجب، ما لم يكن معصية، قال تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ). فاحتج على وجوب برهما بقوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) فدل على أنه مستفاد من جهة اللفظ. وهو قول أصحاب أبي حنيفة (¬1). وقال أصحاب الشافعي: ذلك مستفاد من جهة ¬

_ (¬1) علق المحقق على الكتاب هنا فقال: (هذا العزو ليس محررا، فإن أصحاب الإمام أبي حنيفة مختلفون في هذه المسألة، فبعضهم قال: بأنه مفهوم من دلالة النص، وبعضهم قال: إنه مستفاد من ... جهة القياس، وسموه قياسا جليا. انظر: ميزان الأصول للسمرقندي ص (398) وكشف الأسرار (1/ 73) وأصول السرخسي (241) وأصول الشاشي ص (104)).

القياس، لكنه قياس جلي لا يحتاج إلى فكر وتأمل (¬1). وهو اختيار أبي الحسن الجزري من أصحابنا. ذكره في جزء فيه مسائل الأصول، في موضعين منه، فقال: مفهوم النص هو القياس. دليلنا: أن القياس ما يختص بفهمه أهل النظر والاستدلال، فيفتقرون في إثبات الحكم به إلى ضرب من النظر والاستدلال والتأمل بحال الفرع والأصل. فأما ما دل عليه فحوى الخطاب الذي ذكرناه، فإنه يستوي فيه العالم والعامي العاقل الذي لم يدر ما القياس، فكيف يجوز إجراء اسم القياس عليه؟!. وأيضا: فإن أهل اللغة لا يختلفون أن من نهي عن التأفيف لوالديه، عقل منه تحريم الشتم والضرب، كما أن من أمر بتعظيم زيد، عقل منه ترك الاستخفاف به. وكما أن من وصف بالعجز عن حمل شيء يسير، عقل منه عجزه عن حمله ما هو فوقه. ومن حمل نفسه على دفع ذلك لم يكن في حد من يناظر. وإذا كان هذا من اللفظ لم يجز إطلاق اسم القياس عليه. ¬

_ (¬1) علق المحقق هنا فقال: (هذا رأي الإمام الشافعي كما في الرسالة ص (513)، وهو ما نقل عنه في جمع الجوامع (1/ 242). وقد اختاره إمام الحرمين في البرهان (م/786)، حيث قال: ( ... وهذه مسألة لفظيه، ليس وراءها فائدة معنوية، ولكن الأمر إذا رد إلى حكم اللفظ فعد ذلك من القياس أمثل، من جهة أن النص غير مشعر به من طريق وضع اللغة وموجب اللسان). ولكن هناك رأيا ثانيا لبعض الشافعية، وهو: أن دلالته لفظية، ولهم في تفسير ذلك اتجاهان: الأول: أنها فهمت من ناحية اللغة، وهذا ما نسبه الشيرازي في التبصرة ص (227) إلى بعض الشافعية، ولم يفصل. الثاني: أنها فهمت من السياق والقرائن، وهو قول الغزالي في المستصفى (2/ 190) والآمدي في الإحكام (3/ 63). وبناء على ما تقدم يكون عزو المؤلف عن أصحاب الشافعي أنهم يقولون بأنه مستفاد من جهة القياس ليس محررا، فإن ذلك قول إمامهم وبعض أصحابه، إلا أن يكون القول الثاني لم يقل به أحد من الشافعية حتى انقضى زمن المؤلف، فيتجه. والله أعلم).

بيان أنواع إلحاق المسكوت بالمنطوق:

ولأن ذلك يضاف إلى الخطاب، فيقولون: مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه يدل على ثبوته نطقا. ولأن ما ثبت باللفظ ليس من شرطه أن توجد صيغة اللفظ فيه، ألا ترى أنه لو قال: اقتلوا أهل الذمة لأنهم كوافر، جاز قتل عبدة الأوثان بهذا اللفظ، وإن لم يتناولهم اللفظ من طريق الصيغة، لكن من طريق العلة والشبه، فكذلك هاهنا ... ) (¬1). وقال المرداوي في "التحبير" (6/ 2882): (قوله: {ودلالته لفظية}. اختلف العلماء في دلالة مفهوم الموافقة هل هي لفظية، أو قياس؟ على قولين: أحدهما: أن دلالته لفظية، وهو الصحيح، نص عليه الإمام أحمد، وقاله من أصحابه القاضي أبو يعلى، والشيخ تقي الدين، وابن عقيل، وحكاه عن أصحابنا ... ) (¬2). بيان أنواع إلحاق المسكوت بالمنطوق: تكلم ابن قدامة في "الروضة" (ص/293) على بيان أنه ينقسم إلى مقطوع ومظنون وفي كل منهما إما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، أو مساويا له، فتحصل له أربعة أقسام، ومثَّل لكل بأمثلة، وتعقبه الشنقيطي في بعض هذه الأمثلة، وفي وجه إلحاقها بقسمها، وسوف أنقل كلام الشنقيطي لتحريره. قال في "المذكرة" (ص/249): (اعلم أولا: أن الإلحاق من حيث هو ضربان: الأول: الإلحاق بنفي الفارق. الثاني: الإلحاق بالجامع وضابط الأول أنه لا يحتاج فيه إلى التعرض للعلة الجامعة، بل يكتفي فيه بنفي الفارق المؤثر في الحكم كإلغاء الفارق بين البول في الماء الراكد، وبين البول في إناء وصبه فيه. إذا علمت ذلك فاعلم أن التحقيق أن نفي الفارق أربعة أقسام؛ لأن نفيه إما أن يكون قطعياً أو مظنوناً وفي كل منهما أما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، أو مساوياً له. فالمجموع أربعة: الأول: هو ما كان المسكوت عنه فيه أولى بالحكم من المنطوق مع القطع بنفي الفارق كإلحاق أربعة عدول بالعدلين في قبول الشهادة في قوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ ¬

_ (¬1) انظر: روضة الناظر (ص/263). (¬2) انظر أيضا: الواضح لابن عقيل (2/ 50)، والجدل له أيضا (ص/11)، القواعد لابن اللحام (ص/286) وشرح الكوكب (3/ 483)، وغيرها.

عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق: 2] والى مثقال الجبل بمثل الذرة في المؤاخذة في قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) [الزلزلة: 7] الآية. وكإلحاق الضرب بالتأفيف في الرحمة في قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) [الإسراء: 23] الآية. الثاني: هو ما كان المسكوت عنه فيه مساوياً للمنطوق مع القطع بنفي الفارق أيضاً كإلحاق إحراق مال اليتيم وإغراقه بأكله في الحرمة في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [النساء: 10] الآية. وكإلحاق صب البول في الماء بالبول فيه. المذكور في حديث: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه. الحديث). الثالث: هو ما كان المسكوت عنه فيه أولى مع نفي الفارق بالظن الغالب كإلحاق شهادة الكافر بشهادة الفاسق في الرد المنصوص عليه بقوله تعالى: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 4]. لاحتمال الفرق بأن الكافر يحترز عن الكذب لدينه في زعمه والفاسق متهم في دينه، وكإلحاق العمياء بالعوراء في منع التضحية المنصوص في الحديث. فالعمياء أولى بالحكم المذكور من العوراء، ولكن نفي الفارق مظنون ظنا غالبا مزاحما لليقين، وليس قطعياً كما قاله غير واحد، ووجه ذلك أن الغالب على الظن أن علة منع التضحية بالعوراء هي كون العور نقصاً في ثمنها وقيمتها، والعمياء أحرى بذلك من العوراء ولكن هناك احتمال آخر، هو أن تكون العلة هي: أن العور مظنة الهزال لأن العوراء ناقصة البصر إذ لا ترى إلا ما قابل عينها المبصرة ونقص بصرها المذكور مظنة لنقص رعيها، ونقص رعيها مظنة لهزالها، وهذه العلة المحتملة ليست موجودة في العمياء لأن من يعلفها يختار لها أجود العلف، وذلك مظنة السمن. وبما ذكرنا تعلم أنه لا يلزم من كون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق أن يكون قطعيا، وأنه لا يلزم أيضاً من كونه مساويا أن يكون نفي الفارق ظنيا. الرابع: هو ما كان المسكوت عنه فيه مساويا للمنطوق به مع كون نفي الفارق مظنونا لا مقطوعا، كإلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق المنصوص عليه في العبد في الحديث الصحيح فالغالب على الظن أنه لا فرق في سراية العتق بين الأمة والعبد لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يعلق بواحد منهما حكم من

قياس الشبه:

أحكام العتق. وهناك احتمال آخر هو الذي منع كون نفي الفارق قطعيا، وهو احتمال أن يكون الشارع أنما نص على العبد في قوله: (من أعتق شركا له في عبد). الحديث لخصوصية في العبد لا توجد في الأمة، وهي أن العبد إذا أعتق يزاول من مناصب الرجال ما لا تزاوله الأنثى ولو حرة). قياس الشبه: قال الشيخ: (قياس الشبه: وهو أن يتردد فرع بين أصلين مختلفي الحكم وفيه شبه بكل منهما فيلحق بأكثرهما شبهاً به. وهذا القسم من القياس ضعيف). ذكر الشيخ هنا أحد أقسام القياس من ناحية مناسبة الوصف المعلل به للحكم وهو قياس الشبه، فعرفه، ومثَّل له، واختار ضعفه. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 424): (اعلم أن ظاهر كلام أهل اللغة والأصول الفرق بين المثل والشبه والمماثلة والمشابهة، وإن مثل الشيء ما ساواه من كل وجه في ذاته وصفاته، وشبه الشيء وشبيهه ما كان بينه وبينه قدر مشترك من الأوصاف. وحينئذ تتفاوت المشابهة بينهما قوة وضعفا بحسب تفاوت الأوصاف المشتركة بينهما كثرة وقلة، فإذا اشتركا في عشرة أوصاف، كانت المشابهة بينهما كثرة أقوى مما إذا اشتركا في تسعة فما دون، وعلى هذا القياس ... قوله: «قيل: إلحاق الفرع» أي: اختلف في تعريف قياس الشبه، فقيل: هو «إلحاق الفرع المتردد بين أصلين بما هو أشبه به منهما» أي: من ذينك الأصلين. وهذا قول القاضي يعقوب من أصحابنا وغيره. ومن أمثلته تردد العبد بين الحر والبهيمة، في التمليك، فمن قال: يملك بالتمليك; قال: هو إنسان يثاب ويعاقب وينكح ويطلق، ويكلف بأنواع من العبادات، ويفهم ويعقل، وهو ذو نفس ناطقة، فأشبه الحر. ومن قال: لا يملك ; قال: هو حيوان يجوز بيعه ورهنه وهبته وإجارته وإرثه أشبه الدابة. وعلى هذا خرج الخلاف في ضمانه إذا تَلِفَ بقيمته، وإن جاوزت دية الحر إلحاقا

له بالبهيمة والمتاع في ذلك، وبما دون دية الحر بعشرة دراهم تشبيها له به، وتقاعدا به عن درجة الحر. وكذا المذي تردد بين البول والمني، فمن حكم بنجاسته، قال: هو خارج من الفرج لا يخلق منه الولد، ولا يجب به الغسل، أشبه البول، ومن حكم بطهارته، قال: هو خارج تحلله الشهوة، ويخرج أمامها، فأشبه المني، وزعم بعضهم أن الخلاف في طهارة المذي مبني على أنه جزء من المني، أو رطوبة ترخيها المثانة. واعلم أنك إذا تفقدت مواقع الخلاف من الأحكام الشرعية، وجدتها نازعة إلى الشبه بهذا التفسير، فإن غالب مسائل الخلاف تجدها واسطة بين طرفين تنزع إلى كل واحد منهما بضرب من الشبه فيجذبها أقوى الشبهين إليه، فإن وقع في ذلك نزاع، فليس في هذه القاعدة، بل في أي الطرفين أشبه بها حتى يلحق به. وقد ذكرت جملة من أمثلة ذلك في «القواعد الكبرى» و «تلخيص الحاصل» ... قوله: «وقيل: الجمع» هذا تعريف آخر لقياس الشبه، وهو: «الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على حكمة ما». وقال في «الروضة»: على حكمة الحكم «من جلب مصلحة، أو دفع مفسدة» وهذا نحو مما اختاره الآمدي، وذلك لأن الأوصاف، يعني التي اقترن بها الحكم في الأصل ثلاثة أقسام، لأنها «إما مناسب معتبر» أي: تعلم مناسبته للحكم، واعتبار الشرع له، لأجل مناسبته قطعا، كمناسبة شدة الخمر للتحريم، والقتل للقصاص، والقطع للسرقة، والزنا للحد، وغير ذلك من الأوصاف المناسبة لأحكامها، وهي كثيرة جدا، أو ليس مناسبا ولا معتبرا، كلون الخمر وطعمها، إذ لا يناسبان تحريمها، وكقول القائل: إنما قتل القاتل، وحد السارق والزاني والقاذف; ووجبت الكفارة على الأعرابي، لكونه أسود، أو أبيض، أو طويلا، أو قصيرا ونحو ذلك، فهذا طرد محض نعلم قطعا أن الشرع لم يعلق الحكم عليه لما سبق من أن تصرفه لا يخرج عن تصرف العقلاء، وهذا خارج عنه، فلا يكون تصرفا له، وأيضا لإلفنا منه في موارد تصرفه ومصادرها عدم الالتفات إلى مثل هذا الوصف، فهذان الطرفان معلوما الحكم. أما القسم الثالث; وهو «ما ظن» أنه «مظنة للمصلحة» أي: يوهم اشتماله على مصلحة الحكم، وظننا أنه مظنتها من غير قطع بذلك، ورأينا الشارع قد اعتبره في

بعض الأحكام، فهذا هو الشبهي، وسمي بذلك لتردده بالشبه بين القسمين الأولين، وهما المناسب والطردي ; لأنه من حيث إنا لم نقطع بانتفاء مناسبته، واشتماله على المصلحة، بل ظننا ذلك فيه أشبه المناسب المقطوع باشتماله على المصلحة، ومن حيث إنا لم نقطع بمناسبته واشتماله على المصلحة أشبه الطردي المقطوع بخلوه عن المناسبة المصلحية. وذلك كما ألحقنا نحن والحنفية «مسح الرأس بمسح الخف في نفي» تكرار المسح «لكونه ممسوحا» فقلنا: ممسوح في الطهارة، فلا يسن تكراره، كمسح الخف، وألحقه الشافعي «بباقي أعضاء الوضوء في» إثبات التكرار «لكونه أصلا في الطهارة» فقال: مسح الرأس أصل في طهارة الوضوء، فسن تكراره على الوجه واليدين والرجلين. وفي كل واحد من القياسين جامع وفارق، إذ الأول قياس ممسوح على ممسوح، فالمسح جامع، ولكنه قياس أصل على بدل، فهذا هو الفارق، إذ مسح الرأس أصل في الوضوء، ومسح الخف بدل فيه عن غسل الرجلين، والثاني قياس أصل على أصل، فهذا هو الجامع، لكنه قياس ممسوح على مغسول، فهذا هو الفارق. ومن أمثلته: قولنا في الوضوء: طهارة، أو طهارة حكمية، أو طهارة موجبها في غير محل موجبها، فاشترطت لها النية كالتيمم، وإلى هذا أشار الشافعي - رضي الله عنه - بقوله: طهارتان، فكيف يفترقان؟، وهو كقول الصديق - رضي الله عنه - لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. قلت هذا أجود ما قرر في قياس الشبه وعليه الأكثرون، ولما قرره الغزالي بمعناه قال: وإن لم يرد الأصوليون بقياس الشبه هذا، فلست أدري ما الذي أرادوه، وبم فصلوه عن الطرد المحض، وعن المناسب؟! قلت: حاصل الأمر أن الوصف الشبهي شأنه أن يكون مرتفعا عن الطردي، وإلا لم يعتبر باتفاق، ومنحطا عن المناسب، وإلا لم يختلف فيه عند من اعتبر المناسبة، ومن استقرأ أقيسة الفقهاء القائلين بالشبه، رأى أقيستهم تارة يتخيل فيها الاشتمال على المناسبة المصلحية، وتارة لا يتخيل فيها شيء من ذلك. قوله: «فالأول قياس العلة» إلى آخره، أي: فالأول من أقسام الوصف الثلاثة

المذكورة وهي المناسب، والطردي، والشبهي. فالجمع بين الأصل والفرع بالوصف المناسب هو قياس العلة، لأن الحكم ثبت في الفرع بعلة الأصل، كثبوت التحريم في النبيذ بعلة الإسكار التي ثبت بها تحريم الخمر، وإثبات القصاص في المثقل بعلة القتل العمد والعدوان التي ثبت بها في المحدد، «وكذلك اتباع كل وصف ظهر كونه مناطا للحكم» بنص أو إجماع أو غير ذلك، فهو من قبيل قياس العلة، لأنا لا نعني بقياس العلة إلا اتباع مناط الحكم في الجمع بين الأصل والفرع به. «والثاني: طردي» وهو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يعلم خلوه عن المصلحة، وعدم التفات الشرع إليه كما سبق من قولهم: مائع (¬1) لا يبنى على جنسه القناطر، أو لا يصاد منه السمك، أو لا تجري عليه السفن، أو لا ينبت فيه القصب، أو لا يعوم فيه الجواميس، أو لا يزرع عليه الزروع، ونحو ذلك، أو يقال: أعرابي أو إنسان، فوجبت عليه الكفارة قياسا على الأعرابي المذكور في الحديث. «والثالث: الشبه» أي: قياس الشبه وهو الجمع بين الأصل والفرع بوصف شبهي، وهو ما نزل عن المناسب وارتفع عن الطردي، أو ما توهم اشتماله على المصلحة، ولم يقطع بها فيه على ما سبق بيانه والخلاف فيه. فإن قيل: كل قياس فهو مشتمل على شبه واطراد، إذ الوصف في قياس العلة في الفرع يشبه الوصف في الأصل لأنه مثله، والمثلية أخص من المشابهة، والأعم لازم للأخص، كوصف الإسكار في النبيذ هو مساو لوصف الإسكار في الخمر في ماهية ¬

_ (¬1) كالنبيذ والخل مثلا في عدم إزالة النجاسة، أو الوضوء به، والمقصود بيان أن هذه الأوصاف طردية، قال الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/170): (وأما قول بعضهم في الاستدلال على أن النبيذ لا يجوز الوضوء به: النبيذ مائع لا تبنى على مثله القناطر فلا يجوز الوضوء به كاللبن. فهذا قد جعله بعضهم من قياس الدلالة؛ لأن كونه لا تبنى على مثله القناطر دليل على قلته وعدم توافره، والشرع يبني على قلة الشيء وندرته أحكاما كما في التيمم، فإن الشرع جعله بالتراب لتوافره ولم يجعله بالمسك مثلا أو بغيره مما يشبه التراب ولا يتيسر لكل أحد. وقال آخرون: بل هذا المثال من قياس الطرد الباطل؛ فكون الشيء لا تبنى على مثله القناطر، وصف طردي، لا مناسبة بينه وبين الحكم الذي رتب عليه وهو عدم جواز الوضوء به).

الإسكار، وهو مطرد أيضا، وكذلك قياس الشبه الوصف فيه مطرد، إذ بدون الاطراد لا يكون شبها معتبرا، وإذا كان كل قياس مشتملا على الشبه والاطراد، فلم خص كل واحد من الأقيسة باسمه العلم عليه، كقياس العلة والطرد والشبه؟. فالجواب: أن كل واحد منها أضيف إلى أخص صفاته وأقواها، لأن العلية أخص صفات المناسب المؤثر، والطرد أخص صفات الطردي، والشبه أخص صفات الشبهي، وهذا كما يقسم الجسم إلى نباتي وحيواني وإنساني إضافة لكل قسم منها إلى أخص أوصافه، وهي النباتية في النبات، والحيوانية في الحيوان، والإنسانية في الإنسان. قال الغزالي: أنواع القياس أربعة: المؤثر، ثم المناسب، ثم الشبه، ثم الطرد، فأدناها الطردي الذي ينبغي أن ينكره كل قائل بالقياس، وأعلاها المؤثر وهو الذي في معنى الأصل، وهو الذي ينبغي أن يقر به كل منكر للقياس. قال: ويعرف كون المؤثر مؤثرا بنص، أو إجماع، أو سبر حاصر. قوله: «وفي صحة التمسك به» أي: بقياس الشبه «قولان لأحمد والشافعي - رضي الله عنهما -، والأظهر» - يعني من القولين - «نعم» أي: يصح التمسك به «لإثارته الظن خلافا للقاضي» أبي يعلى وغيره في أنه لا يصح التمسك به. حجة من صحح التمسك به من وجهين: أحدهما: أنه يثير ظنا غالبا بثبوت حكم الأصل في الفرع، وكل ما أثار ظنا غالبا، فهو متبع في العمليات، فالقياس الشبهي متبع في العمليات، ولا نعني بصحة التمسك به إلا هذا. بيان الأولى; وهي إثارته الظن هو أنا إذا رأينا حكما ثبت في محل مشتمل على أوصاف غلب على ظننا أن تلك الأوصاف مشتملة على علة الحكم، ثم إذا رأينا محلا آخر قد وجدت فيه تلك الأوصاف أو أكثر، غلب على ظننا أن هذا المحل كذلك المحل في اشتماله على المصلحة، وحينئذ يغلب على ظننا استواؤهما في الحكم. بيان الثانية; وهي أن ما أثار الظن متبع، بالقياس على العموم وخبر الواحد ونحوهما. الوجه الثاني: أن التعبد في حكم الأصل خلاف الأصل، فهو معلل بالمصلحة،

لكن المصلحة لا منصوص عليها، ولا ظاهرة المناسبة، فتعين اشتمال أوصاف المحل عليها، فإذا شارك محل الأصل محل آخر في تلك الأوصاف، وجب إلحاقه به في الحكم، لغلبة الظن تساويهما فيه، وهذا الوجه في معنى الأول. قال الشيخ رشيد الدين الحواري في تقرير هذا: إن لله - عز وجل - في كل حكم يثبته سرا وحكمة، فهذا الحكم الثابت في الأصل لا يخلو عن مصلحة، ولا يعرف غير تلك المصلحة، وفي محل الإجماع أوصاف يعرف أن بعضها لا يخلو عن المصلحة قطعا، ويوهم اشتمال البعض على المصلحة، فإذا جمع بين الأصل والفرع بما يوهم اشتماله على المصلحة; كان هذا قياسا شبهيا. مثاله: أن يقول: حرم الشارع الربا في البر والشعير، فلا يخلو من أن يكون حرمه لكونه مكيلا، أو لكونه مطعوما، ونعلم أنه حرمه لمصلحة لا نعلم عينها، لكن الأشبه أن المصلحة في ضمن الطعم، لكونه مظنة المصالح الكثيرة، لكونها قوام العالم المعينة على العبادة بخلاف الكيل، إذ لا مصلحة فيه. قلت: هذا المثال صحيح، لكن تعليل التحريم بالطعم المتضمن لمصلحة قوام العالم فاسد الوضع، لأن ما كان قواما للعالم هو من أكبر النعم فلا يناسب التحريم لأجله، اللهم إلا أن يقال بأنه حرم التفاضل تحصيلا للتناصف في هذه النعمة، ودفعا للتغابن فيها، فيكون ذلك صحيحا مناسبا، والتعليل بالكيل أنسب، لأن المعقول من تحريم الربا نفي التغابن في الأموال، وأكلها بالباطل، فإضافته إلى ما يتحقق به التفاضل وهو الكيل والوزن أولى. قال: والفرق بين الشبه والمناسبة أن المناسبة يتعين فيها المصلحة بخلاف الشبه، فإن المصلحة فيه مطلقة; يعني مبهمة. قلت: وحاصل هذا الفرق أن المناسب يؤثر في عين المصلحة، والشبه يؤثر في جنسها، فبينهما من الفرق نحو ما بين الوصف المؤثر والملائم والغريب. حجة القاضي في منع التمسك بالشبه وهو القاضي المالكي- أحسبه عبد الوهاب (¬1) - ; وهو أن الدليل ينفي العمل بالظن مطلقا لقوله تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ ¬

_ (¬1) قال محقق شرح الطوفي: وهذا يناقض ما سبق من تصريحه بأنه أبو يعلى، وما سيأتي من ذكره " المجرد" و "التعليقة" وهما لأبي يعلى. وقول المؤلف: "أحسبه " يدل على عدم تأكده من أنه عبدالوهاب.

شَيْئًا) [النجم: 28] ; خالفناه في قياس المناسبة للدليل الراجح والاتفاق، ففي قياس الشبه يبقى على موجب الدليل، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - إنما اجتمعت على المناسبة لا على الشبه، فوجب أن لا يكون حجة. وأجيب بوجوه: أحدها: المعارضة بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2]، وقياس الشبه نوع من الاعتبار. والثاني: قوله عليه السلام: نحن نحكم بالظاهر وقياس الشبه يفيد الظاهر، فيجب الحكم به عملا بالنص. الثالث: أنه مندرج في عموم قول معاذ - رضي الله عنه - أجتهد رأيي وقد صوبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن يكون صوابا. الرابع: ما أشرنا إليه من دلالة قياس إخراج الموتى من الأرض على إخراج الحب منها على قياس الشبه عند ذكر أدلة أصل القياس (¬1). الخامس: أن القاضي خالف مذهبه حيث احتج بقياس الشبه كثيرا في «المجرد» و «التعليقة الكبرى» وغيرهما. قوله: «والاعتبار بالشبه حكما لا حقيقة خلافا لابن علية، وقيل: بما يظن أنه مناط للحكم». ¬

_ (¬1) قال في (3/ 255): (الطريق الثالث من طرق القياس العقلي في إثبات المعاد: قياس إخراج الموتى من الأرض أحياء على إخراج الحب الميت من الأرض حيا، أو نقول: قياس إعادة الموتى بعد تلاشيهم واستهلاكهم على إعادة الحب بعد تلاشيه واستهلاكه ... وقد تضمن هذا الطريق نوعين من القياس: أحدهما: قياس شبهي، وهو قياس إحياء الأبدان بالأرواح على إحياء الأرض بخضرتها وزهرتها بعد يبسها ومحولها، والجامع بينهما أن الخضرة والنضارة للأرض تشبه الروح للجسد، وهذا جامع شبهي لا شك فيه، وهو مجازي أيضا؛ لأن الموت حقيقة في الأجسام الحيوانية أو في الذوات الحية، واستعماله في الأرض والبلد نحو قولنا: أرض ميتة وبلد ميت، مجاز لما ذكرنا ... ).

قياس العكس:

هذه المسألة ليست من مسائل «الروضة» ومعناها أنه إذا صح التمسك بقياس الشبه، فهل المعتبر بالشبه الحكمي، أو بالشبه الحقيقي، أو بما غلب على الظن أنه مناط الحكم منهما؟ فيه ثلاثة أقوال: مثال الشبه الحكمي: شبه العبد بالبهيمة في كونهما مملوكين، والملك أمر حكمي. ومثال الشبه الحقيقي: شبهه بالحر في كونهما آدميين وهو وصف حقيقي. قال القرافي: أوجب ابن علية الجلسة الأولى قياسا على الثانية في الوجوب، وهذا شبه صوري لا حكم شرعي. مثال الثالث: أنا ننظر في البنت المخلوقة من الزنى، فهي من حيث الحقيقة ابنته، لأنها خلقت من مائه، ومن حيث الحكم أجنبية منه، لكونها لا ترثه ولا يرثها، ولا يتولاها في نكاح ولا مال، ويحد بقذفها، ويقتل بها، ويقطع بسرقة مالها، فنحن ألحقناها ببنته من النكاح في تحريم نكاحها عليه نظرا إلى المعنى الحقيقي، وهو كونها من مائه، والشافعي ألحقها بالأجنبية في إباحتها له نظرا إلى المعنى الحكمي، وهو انتفاء آثار الولد بينهما شرعا فقد صار كل من الفريقين إلى اعتبار الوصف الذي غلب على ظنه أنه مناط الحكم في الأصل، وهذا هو الأشبه بالصواب، لأن الظن واجب الاتباع، وهو غير لازم أبدا للشبه حكما، ولا للشبه حقيقة، بل يختلف باختلاف نظر المجتهد، فيلزم كل واحد منهما تارة، والله تعالى أعلم بالصواب. واعلم أن قياس الشبه ينتفع به الناظر في استخراج الحكم دون المناظر لخصمه، لأن الخصم لو منع حصول الظن من الوصف الشبهي، لاحتاج المستدل إلى بيان اشتماله على المصلحة، ولا طريق له إلى ذلك إلا السبر والتقسيم. وحينئذ يبقى قياس الشبه واسطة لاغية لا أثر لها) (¬1). قياس العكس: قال الشيخ: (قياس العكس: وهو: إثبات نقيض حكم الأصل للفرع لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه). ومثل له في "الأصل" (ص/74) بقوله: (ومثلوا لذلك بقوله صلّى الله عليه وسلّم: ¬

_ (¬1) انظر في قياس الشبه: الواضح (2/ 55)، والعدة (4/ 1325)، وغيرهما.

(وفي بضع أحدكم صدقة). قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). فأثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم للفرع وهو الوطء الحلال نقيض حكم الأصل وهو الوطء الحرام لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه، أثبت للفرع أجراً لأنه وطء حلال، كما أن في الأصل وزراً لأنه وطء حرام). وقال في "الشرح" (ص/552): (فإن قيل: قياس العكس فهو على غير القياس لغة واصطلاحًا، ففي اللغة هو المساواة، وفي الاصطلاح: تسوية فرع بأصل لعلة جامعة، وهذا نقيض حكم الأصل، فكيف يسمى قياسًا؟ قلنا: قياس العكس ليس قياسا مطلقًا، وهو قياس صحيح، والرسول - صلى الله عليه وسلم - استعمله لكنه لا يدخل في القياس عند الإطلاق، فليس قياسًا مطلقًا بل هو كاسمه: "قياس العكس "). عرفه المرداوي في " التحبير" (7/ 3125 (: (هو تحصيل نقيض حكم المعلوم في غيره لافتراقهما في علة الحكم) (¬1). قال القاضي أبو يعلى في " العدة" (4/ 1414): (الاستدلال بالشيء من طريق العكس صحيح، كالاستدلال به على وجه الطرد. وهو مثل استدلالنا على طهارة دم السمك بأنه يؤكل دمه، فدل ذلك على طهارته. ألا ترى أن سائر الحيوانات التي كانت دماؤها نجسة لم تؤكل بدمائها. ومثل استدلالنا على قراءة السورة غير مسنون في الأخريين، أنه لو كان من سنة القراءة فيها قراءة السورة لوجب أن يكون من سنته الجهر بها. ألا ترى أن الأوليين لما كان من سنتها قراءة السورة كان من سنتها الجهر. ومثل استدلالنا على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مسنون في التشهد الأول، أنه لو كان من سنته الصلاة لكان من سنته الدعاء. ألا ترى أن التشهد الأخير، لما كان من سنته الصلاة، كان من سنته الدعاء ... ). وقال المرداوي في "التحبير" (7/ 3128 (: (قال البرماوي: في حجية قياس ¬

_ (¬1) انظر شرح الكوكب المنير (4/ 8).

العكس، خلاف وكلام الشيخ أبي حامد يقتضي المنع، لكن الجمهور على خلافه. قال أبو إسحاق الشيرازي في ' الملخص ': ' اختلف أصحابنا في الاستدلال به على وجهين، أصحهما - وهو المذهب - أنه يصح، استدل به الشافعي في عدة مواضع. والدليل عليه: أن الاستدلال بالعكس استدلال بقياس مدلول على صحته بالعكس، وإذا صح القياس في الطرد وهو غير مدلول على صحته، فلأن يصح الاستدلال بالعكس وهو قياس مدلول على صحته أولى '. قال البرماوي: (ويدل عليه أن الاستدلال به وقع في القرآن والسنة وفعل الصحابة: فأما القرآن: فنحو قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [الأنبياء: 22]. فدل على أنه ليس إله إلا الله لعدم فساد السموات والأرض. وكذلك قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82]. ولا اختلاف فيه فدل على أن القرآن من عند الله بمقتضى قياس العكس. وأما السنة: فكحديث: (يأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام؟ - يعني: أكان يعاقب؟ - قالوا: نعم، قال: فمه!). فقاس وضعها في حلال فيؤجر على وضعها في حرام فيؤزر بنقيض العلة. وأما الصحابة - رضي الله عنهم - ففي ' الصحيحين ' عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: (من مات يشرك به شيئاً دخل النار، وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة). وفي بعض أصول مسلم روي عن النبي: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قال: وقلت أنا: من مات يشرك به شيئاً دخل النار). قلت: والذي يغلب على الظن أن هذا اللفظ في البخاري. وكل منهما يحصل به المقصود، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة عليه. لكن رواهما مسلم عن جابر مرفوعاً، فلا حاجة إلى القياس. ويجمع بين الروايتين أنه عند ذكر كل لفظة كان ناسياً للأخرى كما جمع به النووي. فظهر بذلك كله أنه حجة ... ) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: المسودة (ص/379)، شرح مختصر الروضة (3/ 222)، شرح الكوكب المنير (4/ 400).

التعارض

التعارض لما أنهى الشيخ الكلام على الأدلة الشرعية بدأ بالكلام على هذا الباب الذي يدفع التعارض بين الأدلة ويبين كيفية الترتيب بينها. ولما كان هذا الباب موضوع نظر المجتهد وضروراته؛ لأن الأدلة الشرعية متفاوتة في مراتب القوة، فيحتاج المجتهد إلى معرفة ما يقدم منها وما يؤخر؛ لئلا يأخذ بالأضعف منها مع وجود الأقوى. ولما كان المجتهد هو من يقوم بالترجيح بين الأدلة ويبين ترتيبها، ويزيل التعارض الظاهري بينها قدم الموفق، وابن مفلح، وغيرهما باب الاجتهاد على هذا الباب، لكن الرازي في ' المحصول ' وأتباعه قدموا التعارض والتراجيح على الاجتهاد؛ لأنه المقصود، وذلك ما يتوقف عليه المقصود (¬1). تعريف التعارض: لغة: قال الشيخ: (التعارض لغة: التقابل والتمانع). مادة عَرَضَ في اللغة لها معان كثيرة منها (¬2): - الظهور، يقال: عَرَضَ له كذا، أي ظهر، وعرضت عليه أمر كذا وعرضت له الشيء أي: أظهرته له وأبرزته، ومنه قوله تعالى: (وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا) [الكهف: 100]. والشيء معروض لك: موجود ظاهر لا يمنع، وأظهره عليه: أراه إياه. ولعل هذا المعنى - الظهور - معنى متأصل في جميع المعاني التي تدل عليها مادة عَرَضَ. - ومنها: المقابلة، يقال: عارض الشيء بالشيء معارضة: قابله، وعارضت كتابي بكتابه أي قابلته. وفلان يعارضني أي يباريني، ويقال: عارض فلان فلانا إذا أخذ في طريق وأخذ الآخر في طريق فالتقيا وتقابلا، ومنه الحديث إن جبريل عليه ¬

_ (¬1) انظر " التحبير" للمرداوي (8/ 4119). (¬2) انظر رسالة: "أثر التعارض بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله في العبادات" (ص/16) وما بعدها.

اصطلاحا:

السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة وأنه عارضه العام مرتين أي كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن من المعارضة المقابلة 0 والتقابل بين شيئين لا يتحقق إلا بظهورهما وبروزهما في مواجهة بعضهما. - ومن معانيها أيضا المنع، يقال: اعترض الشيء إذا صار عارضا ومانعا، والأصل فيه أن الطريق إذا أعترض فيه بناء أو غيره منع السابلة من سلوكه. ومنه قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا) [البقرة: 224] أي لا يمنعه يمينه من ان يتقي الله ويصل رحمه ويصلح بين الاثنين. ويقال: اعترض الشيء دون الشيء، أي حال دونه، ومنى سمي السحاب عارضا؛ لأنه يحول دون أشعة الشمس، ومنه قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) [الأحقاف: 24]. ومنه اعتراضات الفقهاء؛ لأنها تمنع التمسك بالدليل، وتعارض البينات لأن كل واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها. ولعل سبيل التمانع بين الشيئين هو ظهورهما وبروزهما لبعضهما. اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر). قوله: (تقابل) جنس في التعريف يدخل فيه كل تقابل لأي شيئين أو كثر. وقد اعترض البعض بأن التقابل مشترك حيث يستخدم بمعنى التدافع والتمانع أيضا، ولا يحسن استخدامه في التعريف. أجيب عنه: بأن التقابل يلزم منه التدافع والتمانع؛ لأن الدليلين إذا تقابلا على محل واحد في وقت واحد وأحدهما ينفي ما يثبته الآخر فإنه يلزم من ذلك أن يدفع كل منهما الآخر، ويمنعه فيتدافعان ويتمانعان بعد تقابلهما فيكون التدافع والتمانع لازمان للتقابل، وعليه فلا يكون من قبيل المشترك، وبالتالي فلا يقدح في التعريف (¬1). وعلى التسليم بكونه مشتركا فإن القيود أو الفواصل المذكورة في باقي الحد تزيل ما فيه من إجمال. ¬

_ (¬1) انظر رسالة التعارض والترجيح في الأقيسة بين النظرية والتطبيق (ص/152).

قوله: (الدليلين) قيد يبين أن التقابل إنما يكون بين الدليلين ويخرج به التعارض بين غير الأدلة. اعتراضان على هذا القيد: الأول: وقد اعترض البعض على التقييد بالدليلين فقط، فهو يشعر بمنع وقوع التعارض بين أكثر من دليل. ويجاب عن ذلك بأن القيد ليس للحصر وإنما هو لبيان أقل ما يقع فيه التعارض، وهذا أولى من قولنا: (الأدلة) فقد يستفاد منها أن التعارض لا يكون بين دليلين على الخلاف في أقل الجمع. الثاني: واعترض على التعميم الذي في قوله: (الدليلين) بشموله للقطعي والظني من الأدلة، والصحيح في المذهب أن التعارض لا يكون بين الأدلة القطعية ولا بين القطعية والظنية، وقد وقع الخلاف في وقوعه بين الظنيين. قال الشيخ العثيمين في "مجموع الفتاوى والرسائل" (4/ 49): (إذا قيل بالتعارض بين دليلين فإما أن يكونا قطعيين، أو ظنيين، أو أحدهما قطعيا والآخر ظنيا فهذه ثلاثة أقسام: الأول: القطعيان: وهما ما يقطع العقل بثبوت مدلولهما، فالتعارض بينهما محال، لأن القول بجواز تعارضهما يستلزم إما وجوب ارتفاع أحدهما وهو محال، لأن القطعي واجب الثبوت، وإما ثبوت كل منهما مع التعارض وهو محال أيضا، لأنه جمع بين النقيضين. فإن ظن التعارض بينهما فإما أن لا يكونا قطعيين، وإما أن لا يكون بينهما تعارض بحيث يحمل أحدهما على وجه، والثاني على وجه آخر، ولا يرد على ذلك ما يثبت نسخه من نصوص الكتاب والسنة القطعية، لأن الدليل المنسوخ غير قائم فلا معارض للناسخ. الثاني: أن يكونا ظنيين إما من حيث الدلالة، وإما من حيث الثبوت فيطلب

الترجيح بينهما ثم يقدم الراجح. الثالث: أن يكون أحدهما قطعيا، والآخر ظنيا، فيقدم القطعي باتفاق العقلاء، لأن اليقين لا يدفع بالظن). قال ابن قدامة في " روضة الناظر" (ص / 387): (ولا يتصور التعارض في القواطع إلا أن يكون أحدهما منسوخا، ولا يتصور أن يتعارض علم وظن لأن ما علم كيف يظن خلافه وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم). قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/292): (وأعلم أن التعارض لا يكون بين قطعيين ولا بين قطعي وظني وإنما يكون بين ظنيين فقط. وأعلم أن تعادل الدليلين الظنيين بحسب ما يظهر للمجتهد جائز اتفاقاً، أما تعادلهما في نفس الأمر فاختلف فيه فنقل الإمام أحمد والكرخي أنه لا يمكن تعادلهما في نفس الأمر وصححه صاحب جمع الجوامع، والأكثرون على جوازه، ومنهم من قال: هو جائز غير واقع). وقال المرداوي في " التحبير" (8/ 4126): (التعادل بين قطعيين ممتنع قطعا سواء كانا عقليين أو نقليين، أو أحدهما عقليا والآخر نقليا؛ إذ لو فرض ذلك لزم اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما، وترجيح أحدهما على الآخر محال فلا مدخل للترجيح في الأدلة القطعية؛ لأن الترجيح فرع التعارض ولا تعارض فيها فلا ترجيح ... ومثل ذلك القطعي والظني، أعني أنه لا تعادل بينهما ولا تعارض لانتفاء الظن؛ لأنه يستحيل وجود ظن في مقابلة يقين خلافه، فالقاطع هو المعمول به والظن لغو، وكذلك لا يتعارض حكم مجمع عليه مع حكم آخر ليس مجمعا عليه. قوله: {وكذا ظنيان عند أحمد، وأكثر أصحابه، والكرخي، وبعض الشافعية ... ، وقال القاضي وابن عقيل والأكثر: يجوز تعادلهما كما في نظر المجتهد اتفاقا وحكي عن أحمد}). وقال علوي الشنقيطي في "نشر البنود" (2/ 514) شارحا قوله في المراقي: والاعتدال جائز في الواقع ........ يعني: أن تعادل الدليلين الظنيين في الواقع أي في نفس الأمر جائز عند الأكثر، والمراد بالتعادل تنافيهما على حكمين متناقضين مع اتحاد الفعل من غير مرجح

لأحدهما على الآخر إذ لا محذور في ذلك. وقال الإمام أحمد والكرخي من الحنفية بالمنع حذرا من التعارض في كلام الشارع، وإنما اشترطنا في الظنيين عدم المرجح لأحدهما ولم نشترطه في القطعيين لأن القطعيين لا يمكن الترجيح فيهما ولا التأويل. ...... كما يجوز عند ذهن السامع يعني: أن التعادل بين الظنيين في ذهن السامع لهما وهو المجتهد جائز وواقع اتفاقا وهو منشأ تردده). والمقصود هنا مجرد التنبيه على وقوع الخلاف في التعارض بين الظنيين دون غيرهما مما كانا قطعيين، أو أحدهما قطعي، والآخر ظني، وسوف يأتي - بإذن الله - الترجيح في مسألة وقوع التعارض بين الظنيين. - قوله: (بحيث يخالف أحدهما الآخر) قيد ثان يبين أن التقابل بين الأدلة إنما يكون على وجه مخالفة أحدهما للآخر وقد عبر المرداوي وغيره هذا القيد بقوله: (على سبيل الممانعة). وفي هذا القيد إطلاق للمخالفة فيصح أن تكون حقيقية، أو صورية أي في الظاهر فقط (من وجهة نظر المجتهد). وبتعبير أخر يصح أن تكون كلية أو جزئية كالتعارض بين العام والخاص والمطلق والمقيد. وسوف يأتي ما في هذا الإطلاق وأحوال تقييده قريبا - بإذن الله -. قال الشيخ في "الأصل" (ص/80): (لكن لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع، ولا النسخ، ولا الترجيح؛ لأن النصوص لا تتناقض، والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن وبلّغ، ولكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره. والله أعلم). وقال في "مجموع الفتاوى والرسائل" (8/ 85): (لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبدًا؛ لأن الكل حق، والحق لا يتعارض، والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82]؛ فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك؛ فاعلم أن

تنبيهات:

هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك؛ فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة؛ فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت؛ لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية؛ بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق؛ كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه. ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم؛ لأن هذه الطريق طريق الراسخين في العلم، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكمًا). تنبيهات: الأول - المقصود بما كان قطعيا من الأدلة، هو ما كان قطعيا في دلالته وثبوته، وما كان ظنيا أي في دلالته أو في ثبوته. قال الشيخ الشنقيطي في "نثر الورود" (2/ 582) شارحا قول العلوي الشنقيطي: ولا يجئ تعارضٌ إلا لما ... من الدليلين إلى الظن انتمى : (يعنى أنه لا يجوز عقلا تعارض دليلين إلا إذا كانا ظنيين، أما إذا كانا قطعيين فلا يمكن عقلا تعارضهما سواء كانا نقليين أو عقليين أو أحدهما نقليا والثاني عقليا، وكذلك لا يتعارض قطعيٌّ وظنيٌّ لوجوب إلغاء الظني في مقابلة القطعي، والظن يتطرق الدليل من جهتين: من جهة السند ولو كانت الدلالة قطعية، ومن جهة الدلالة وإن كان السند قطعيا، فيعرف من ذلك أن القطعي المذكور لابد أن يكون قطعي المتن والدلالة). وقال الشيخ العثيمين في "مجموع الفتاوى والرسائل" (4/ 49): وهو يتكلم عن أنواع التعارض بين الأدلة: (الثاني: أن يكونا ظنيين إما من حيث الدلالة، وإما من حيث الثبوت فيطلب الترجيح بينهما ثم يقدم الراجح).

الثاني- شروط التعارض الحقيقي بين الأدلة:

الثاني- شروط التعارض الحقيقي بين الأدلة: قال الشنقيطي في "آداب البحث والمناظرة" (ص/54): (واعلم أن المنطقيين يقولون إنه يشترط لتحقيق التناقض بين القضيتين الاتحاد في تسعة أُمور: الأول: اتحاد المحمول (¬1) فلو اختلف جاز كذبهما وصدقهما كقولك زيد ضاحك (¬2) زيد ليس بكاتب. الثاني: اتحاد الموضوع. فلو اختلف جاز صدقهما وكذبهما كقولك: زيد عالم وعمرو ليس بعالم. الثالث: اتحاد الزمان: فإن اختلف الزمان جاز صدقهما وكذبهما كقولك: النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس، النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى بيت المقدس فإن قصدت بالأول ما قبل النسخ وبالثاني ما بعده صدقتا وإن عكست كذبتا. الرابع: اتحاد المكان: فإن اختلف جاز صدقهما وكذبهما كقولك: زيد صلى - تعني في المسجد - زيد لم يصل تعني في الدار. الخامس: الفعل والقوة: فإن قصد بإحدى القضيتين الفعل وبالأخرى القوة جاز صدقهما وكذبهما كقولك الخمر في الدن مسكرة تعني بالقوة والخمر في الدن ليست بمسكرة تعني بالفعل فهما صادقتان ولو عكست في القصد لكانتا كاذبتين. السادس: الكل والبعض: فإن اختلفا في الكل والبعض جاز صدقهما وكذبهما كقولك: الزنجي أبيض تعني بعضه وهو أسنانه. وبياض عينيه. الزنجي ليس بأبيض تعني سائر بدنه. السابع: الإِضافة: فإن اختلفتا في الإِضافة جاز كذبهما وصدقهما كقولك زيد أب وزيد ليس بأب تعني بالأول أنه أب لعمرو .. وبالثاني لبكر. أنه ليس أباً لبكر. ¬

_ (¬1) التأليف بين مفردين لا يخلو إما أن ينسب أحدهما إلى الآخر بنفي أو بإثبات، كقولنا: العالم حادث، والعالم ليس بقديم، يسمي النحويون الأول مبتدأ والثاني خبرا، ويسميهما المناطقة: موضوع، ومحمول. (¬2) وتسمى هذه بقضية حملية نسبة إلى معنى الحمل الموجب أو السالب الذي يجري فيها بين موضوعها ومحمولها.

الثالث - هل يقع تعارض بين الأدلة الظنية؟

الثامن: الشرط. فإن اختلفتا في الشرط جاز كذبهما وصدقهما كقولك: زيد يدخل الجنة وزيد لا يدخل الجنة تعني بالأول بشرط موته على الإِيمان وبالثاني بشرط موته على الكفر. التاسع: اتحادهما في التحصيل والعدول فإن كانت إحداهما محصلة والأخرى معدولة لم يتناقضا لصدق السالبة المحصلة مع صدق الموجبة المعدولة كما هو معروف في محله. وكذلك تصدق المحصلة الموجبة مع صدق السالبة المعدولة. هكذا يقولون. والتحقيق أن التناقض بين القضيتين يتحقق بالوحدة في شيء واحد وهو النسبة الحكمية. بأن تكون النسبة المثبتة هي بعينها النسبة المنفية). الثالث - هل يقع تعارض بين الأدلة الظنية؟ (¬1) والكلام واضح في منع التعارض بين القطعيين، أو بين قطعي وظني، وأما ما كان بين الأدلة الظنية فلا خلاف في وقوعه من وجهة نظر المجتهد وأما ما كان حقيقيا فقد وقع فيه الخلاف. والراجح أن التعارض الحقيقي في الواقع وفي نفس الأمر يبن الأدلة الظنية ممتنع، كالأدلة القطعية، وإنما يكون التعارض فيهما من وجهة نظر المجتهد فقط (¬2)، وذلك (¬3) لأن كتاب الله سالم من الاختلاف والاضطراب والتناقض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق، قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82] ولهذا مدح الله تعالى الراسخين في العلم حيث قالوا: (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) [آل عمران: 7]؛ أي: محكمه ومتشابهه حق (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضًا، بل ¬

_ (¬1) انظر العدة (5/ 1536)، والتمهيد للإسنوي (ص/505)، الأحكام للآمدي (4/ 203). (¬2) انظر مسألة (لا تعارض في الشريعة في نفس الأمر بل في نظر المجتهد) في الموافقات للشاطبي (4/ 294). (¬3) انظر: " معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة" للجيراني (ص/268). (¬4) انظر: "الفقيه والمتفقه" (1/ 221)، و"إعلام الموقعين" (2/ 294)، و"تفسير ابن كثير" (1/ 542).

يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) (¬1). كما أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحيحة مبرأة من التناقض والاختلاف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من التناقض والاختلاف بإجماع الأمة، لا فرق في ذلك بين المتواتر والآحاد، قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4]. وكل هذه الأدلة تشمل الظني والقطعي منهما. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوي" (8/ 29): (الأدلة الصحيحة لا يكون مدلولها إلا حقا والحق لا يتناقض بل يصدق بعضه بعضا). وقال في "المسودة" (ص/274): (لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه وليست مع أحدهما ترجيح يقدم به ذكره أبو بكر الخلال). وقال في "مجموع الفتاوي" (7/ 40): (إذا قلنا الكتاب والسنة والإجماع فمدلول الثلاثة واحد فان كل ما في الكتاب فالرسول موافق له والأمة مجمعة عليه من حيث الجملة فليس في المؤمنين الا من يوجب اتباع الكتاب وكذلك كل ما سنه الرسول فالقرآن يأمر باتباعه فيه والمؤمنون مجمعون على ذلك وكذلك كل ما أجمع عليه المسلمون فانه لا يكون الا حقا موافقا لما في الكتاب والسنة لكن المسلمون يتلقون دينهم كله عن الرسول وأما الرسول فينزل عليه وحى القرآن ووحى آخر هو الحكمة كما قال: (ألا إنى أوتيت الكتاب ومثله معه (¬2) (). قال الكلوذاني في "التمهيد" (4/ 349): (لا يجوز أن تعتدل الأمارتان في المسألة عند المجتهد، فلا تترجح إحداهما على الأخرى، وبه قال الكرخي وأبو سفيان السرخسي وأكثر الشافعية، وقال الجبائي وابنه: يجوز ذلك ويكون المجتهد مخيرا في الأخذ بأي الحكمين شاء ن وغليه ذهب الرازي والجرجاني من الحنفية. ¬

_ (¬1) رواه أحمد وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبي عن جده، وصححه الشيخ الألباني والشيخ الأرناؤوط. (¬2) رواه أحمد، وأبو داود من حديث المقدام بن معد يكرب - رضي الله عنه - وصححه الشيخ الألباني والشيخ الأرناؤوط.

وجه الأول: أنه لو جاز ذلك أدى إلى حصول الشك في الحكم الشرعي، وذلك لا يجوز، وبيان تأديه إلى الشك: أن المخبرين المتساويين في الصدق لو أخبرنا أحدهما بأن الرسول دخل البيت في وقت عينه، وكنت معه لم أفارقه، ولم أغفل عن مشاهدته إلى أن خرج منه، ولم أره يصلى فيه. وأخبرنا الآخر: أنه رآه يصلي فيه، فإنا نشك هل صلى فيه أو لم يصل، ولا يجوز أن نظن صدق أحدهما ولا كل واحد منهما، وغنما لا يظن كذب أحدهما؛ لأم الظن: هو تغليب أحد المخبرين على الآخر، وذلك لا يحصل إلا بأمارة ترجح أحد المخبرين على الآخر وقد عدم ذلك، فإن كل واحد من المخبرين حاله في الثقة كحال الآخر، وكذلك في تجويز الخطأ عليه، وإنما لم يظن صدق كل واحد منهما لما بينا من أن الظن يحتاج إلى أمارة يرجح بها، فإذا كان في كل واحد منهما أمارة ترجحه على الآخر فيكون الآخر ناقصا عنه، وهذا تناقض، لأنه يؤدي إلى أن يكون كل واحد منهما زائدا على الآخر، وكل واحد منهما ناقصا عنه، وهذا محال فلم يبق إلا الشك ولا يجوز أن يحكم بالشك بحال ... ثم قال: دليل آخر: وهو أن مساواة الأمارتين تقتضي إثبات حكميهما إما على الجمع وذلك غير ممكن وإما على التخيير والأمة مجمعة على أن مسائل الاجتهاد ليس المجتهد يتخير فيها ولا تلزم الكفارة والإبل في الزكاة (¬1)؛ لأنها ليست من مسائل الاجتهاد، وغنما يتبع فيها نص الشرع، ولأن المسالة مبنية على أن الحق من قول المجتهدين في واحد، وما عداه خطأ، وقد دللنا عليه، وإذا ثبت ذلك بطل أن تتكافأ الأمارات لأن مع التكافؤ لا نعلم الحق من الخطأ). قال المرداوي في " التحبير" (8/ 4131): "اختلف العلماء في تعادل دليلين ظنيين على أقوال: أحدها: أنه محال، وهذا الصحيح عندنا، وعليه الإمام أحمد، والأصحاب، وأكثر الشافعية، والكرخي، والسرخسي، وحكاه الإسفراييني عن أصحابه، وحكاه ابن عقيل عن الفقهاء، ويأتي كلام الخلال، وابن خزيمة. ¬

_ (¬1) يشير - رحمه الله - إلى أن الشرع خير المكفر عن يمينه بين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، وكذا خير المزكي من الإبل إذا بلغت مائتين بين أربع حقاق وخمس بنات لبون. ولم يرد الشرع بالجمع بين خصال الكفارة أو الأربع حقاق والخمس بنات لبون في زكاة الإبل.

والقول الثاني في المسألة: يجوز تعادلهما، وبه قال القاضي أبو يعلى في ' مختصره '، وابن عقيل في ضمن مسألة القياس، وأبو بكر الرازي، والجرجاني، والجبائي وابنه، وابن الباقلاني، وقال: قاله الأشعري، وكل من صوب كل مجتهد، وأنه حكي عن الحسن العنبري، وقاله أكثر العلماء، وذكره بعض أصحابنا رواية عن أحمد، واختاره الآمدي وذكره عن أكثر الفقهاء، كما في نظر المجتهد اتفاقا ... احتج من منع التعادل في الأمارتين في نفس الأمر مطلقا بأنه لو وقع، فإما أن يعمل بهما وهو جمع بين المتنافيين، أو لا يعمل بواحد منهما فيكون وضعهما عبثا، وهو محال على الله تعالى، أو يعمل بأحدهما على التعيين، وهو ترجيح من غير مرجح، أو لا على التعيين بل على التخيير، والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها، لأنه لما جاز له الفعل والترك كان هذا معنى الإباحة فيكون ترجيحا لإحدى الأمارتين بعينها. وأجيب: بأن ذلك لا يقتضي الإباحة، بل تخيير للعمل بإحدى الأمارتين شاء، لا عمل بأي الفعلين شاء، بدليل أنه لو كانت إحداهما تقتضي تحريمه لا يقال: هو مخير بين فعله مع كونه حراما وبين غيره، فإذا عمل بأحدهما وجب أن يعتقد بطلان الآخر، بخلاف الإباحة فإنه لا يعتقد فيها فساد ما لم يفعل، ونظيره في الشرع التخيير بين أن يصلي المسافر قصرا أو إتماما، فإنه إذا جاز له ترك الركعتين عند اختيار القصر، لا يقال: إن فعل الركعتين مباح. قال البرماوي: وفيه نظر، واحتج من جوز تعادل الأمارتين في نفس الأمر بالقياس على جواز تعادلهما في الذهن، وبأنه لا يلزم من فرضه محال، وقد أجيب عن ذلك. وقال ابن عبد السلام في ' قواعده ': لا يتصور في الظنون تعارض كما لا يتصور في العلوم، إنما يقع التعارض بين أسباب الظنون، فإذا تعارضت: فإن حصل الشك لم يحكم بشيء، وإن وجد ظن في أحد الطرفين حكمنا به؛ لأن ذهاب مقابله يدل على ضعفه وإن كان كل منهما مكذبا للآخر تساقطا، وإن لم يكذب كل واحد منهما صاحبه عمل به حسب الإمكان كدابة عليها راكبان يحكم لهما بها؛ لأن كلا من اليدين لا تكذب الأخرى. انتهى. قال البرماوي: ' وهو نفيس؛ لأن الظن هو الطرف الراجح، ولو عورض بطرف آخر راجح، لزم أن يكون كل واحد منهما راجحا مرجوحا، وهو محال ' انتهى ... واعلم أنه لا تعارض بالحقيقة في حجج

الشرع ... قال أبو بكر الخلال من أئمة أصحابنا المتقدمين: لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان ليس مع أحدهما ترجيح يقدم، فأحد المتعارضين باطل إما لكذب الناقل، أو خطأ بوجه ما من النقليات، أو خطأ الناظر في النظريات، أو لبطلان حكمه بالنسخ. انتهى. وقال إمام الأئمة أبو بكر ابن خزيمة: لا أعرف حديثين صحيحين متضادين، فمن كان عنده شيء منه فليأتني به لأؤلف بينهما، وكان من أحسن الناس كلاما في ذلك، نقله العراقي في 'شرح ألفيته في الحديث'). قال السبكي في "جمع الجوامع": يمتنع تعادل القاطعين أي تقابلهما بأن يدل كل منهما على منافي ما يدل عليه الآخر إذ لو جاز ذلك لثبت مدلولاهما فيجتمع المتنافيان فلا وجود لقاطعين متنافيين كدال على حدوث العالم ودال على قدمه ... ولباحث أن يقول لا بعد في أن يجري فيهما الخلاف الآتي في الأمارتين لمجيء توجيهه الآتي فيهما وكذا يمتنع تعادل الأمارتين أي تقابلهما من غير مرجح لإحداهما في نفس الأمر على الصحيح حذرا من التعارض في كلام الشارع ... ). وقال العطار في "حاشيته على جمع الجوامع" (2/ 358): (قد يستشكل جريان الخلاف فيهما مع ما قرره آنفا من لزوم اجتماع المتنافيين حيث أدرجهما في القاطعين وعلل امتناع التعارض فيهما باجتماع المتنافيين والفرق بينهما وبين الأمارتين ما أشاروا إليه من أن مدلول الدليل القطعي يجب أن يكون حاصلا بخلاف مدلول الأمارة فيلزم اجتماع المتنافيين في تعارض القاطعين ولا يلزم في تعارض الأمارتين، ويمكن أن يقال يلزم في تعارض تجويز اجتماع المتنافيين لأن الكلام في تعارضهما في نفس الأمر وتعارضهما فيه يستلزم اجتماع المتنافيين، غاية الأمر أن مدلول الأمارتين لا يجب أن يكون حاصلا واجتماعهما ممتنع فتجويزه كذلك لأن تجويز الممتنع ممتنع، وحينئذ فمن أجازه في الأمارتين يلزمه القول بالجواز في النقليين القطعيين، وعند هذا يتضح قول الشارح: ولباحث أن يقول ... إلخ ... ). وقال الشيخ الشنقيطي في " نثر الورود " (2/ 582) في شرح قول الشيخ علوي الشنقيطي: والاعتدال جائز في الواقع ... كما يجوز عند ذهن السامع : (التحقيق أن الكتاب والسنة ليس فيهما تعارض في نفس الأمر، وإنما

رابعا - الفرق بين التعارض والتعادل:

التعارض بحسب ما يظهر للناظر). رابعا - الفرق بين التعارض والتعادل: (¬1) ظاهر صنيع المرداوي في التحبير، وابن النجار في شرح الكوكب تبعا له إثبات التغاير بينهما حيث أنهما عرفا التعارض ثم اتبعاه بتعريف التعادل. قال محقق شرح الكوكب هامش (4/ 606): (فرق المؤلف هنا بين التعادل والتعارض جريا على التفريق بينما في اللغة، فالتعادل لغة التساوي، وعدل الشيء - بالكسر- مثله من جنسه أو مقداره، ومنه قسمة التعديل في الفقه، وهي قسمة الشيء باعتبار القيمة والمنفعة لا المقدار، أما التعارض لغة فهو التمانع، ومنه تعارض البينات، لأن كل واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها. بينما ذهب جماهير علماء الأصول إلى استعمال التعادل في معنى التعارض، لأنه لا تعارض إلا بعد التعادل، وإذا تعارضت الأدلة، ولم يظهر -مبدئيا- لأحدها مزية على الآخر فقد حصل التعادل بينهما، أي التكافؤ والتساوي). وقد ذهب الشيخ عياض السلمي إلى التفريق بينهما فقال في "أصوله" (ص/415): (التعارض في اللغة بمعنى: التقابُل، وهو تفاعُلٌ من العُرْض، بالضم، وهو الناحية. وفي الاصطلاح: تقابُل الدليلين على سبيل الممانعة. والمناسبة بين المعنيين (اللغوي، والاصطلاحي): أن الدليلَ المعارضَ لدليلٍ آخَرَ كأنه يقفُ في الناحية المقابلة للناحية التي يقفُ فيها الدليلُ الآخَرُ. أو أن كلاًّ منهما يقفُ في عُرْض الآخَر. والتعادُل في اللغة: التساوي، وعدل الشيء: مثيلُه من جنسه. وفي الاصطلاح: جعله بعضُ الأصوليين مساوياً للتعارُض. والصواب: أن التعادُلَ يعني تساوي الدليلين من كلّ وجهٍ، بحيثُ لا يبقى لأحدهما مزيةٌ على الآخَر. وإذا حصل التعادُلُ ينسدُّ بابُ الترجيح، ولم يبقَ إلاّ أنْ يذهبَ المجتهدُ إلى تساقط ¬

_ (¬1) انظر رسالة " التعارض والترجيح في الأقيسة بين النظرية والتطبيق" (ص/155: 158).

خامسا - تقييدات للتعريف، وأحوال ذلك:

الدليلين، والبحثِ عن أدلّةٍ أخرى، أو يتوقَّفَ، أو يتخيَّرَ، أو يذهبَ إلى الأشدِّ، أو إلى الأخفِّ من الحكمين اللذين دلَّ عليهما الدليلان المتعادلان. وأما التعارُض فهو يعني تقابُلَ الدليلين في الظاهر، بحيث يبدو للناظر إليهما في أول الأمر أنهما متنافيان، ويُمكن بشيءٍ من النظر، والتفكُّر الوصولُ إلى الجمع بينهما أو ترجيحِ أحدهما). وذهب ابن قدامة إلى أن التعارض هو التناقض فقال في "روضة الناظر" (ص/ 387): (واعلم أن التعارض هو التناقض) (¬1). والتسوية بين التعارض والتعادل هو الأقوى عندي. خامسا - تقييدات للتعريف، وأحوال ذلك: سبق أن ذكرت أن الراجح عندي التسوية بين التعارض والتعادل، وأنه لا فرق بين الأدلة الظنية والقطعية في امتناع وقوع التعارض بينهما بمعنى أنه يمتنع حدوث تعارض حقيقي بين الأدلة، وأنه إذا حدث تعارض بين الأدلة فإنه يكون صوريا أي من وجهة نظر المجتهد. وعليه فيكون تعريف التعارض أو التعادل: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة الصورية. وهذه هي الحالة الأولى. الحالة الثانية: أن يسوي بين التعارض والتعادل: وهناك اتجاهان: الأول - أن يجوز وقوع التعارض الحقيقي بين الأدلة الظنية بخلاف القطعية. فهذا يلزمه نحوا من هذا التعريف للتعارض أو التعادل: تقابل الدليلين غير الظنيين (¬2) على سبيل الممانعة الصورية، والظنيين على سبيل الممانعة. ¬

_ (¬1) وانظر المستصفى (ص/376). (¬2) وإنما عدلت عن قولي (القطعيين) لقولي: (غير الظنيين) ليشمل التقابل بين القطعيين، وبين القطعي والظني.

الحالة الثالثة:

أما إن عرف كلا من الوجهين بمفرده فيلزمه التناقض، وإيضاحه أنه سوي بين التعارض والتعادل ثم جعل التعارض بين الأدلة الظنية حقيقي، بخلاف القطعية فالتعارض بينها صوريا، فإنه يلزم من ذلك أن يجعل التعارض الكلي (الحقيقي أو التعادل) خاصا بالأدلة الظنية، ويجعل التعارض خاصا بالأدلة القطعية صوريا أي من وجهة نظر المجتهد، والفرض أنه سوي بين التعارض والتعادل فليزمه التناقض. الثاني - أن يجعل التعارض الحقيقي جائز بين جميع الأدلة سواء أكانت قطعية أم ظنية، وقد أشار له المحلى في شرح جمع الجوامع وسبق ذكره وبيان العطار له. وعليه فليزمه ألا يقيد التعريف بأي قيد. الحالة الثالثة: أن يفرق بين التعارض والتعادل، فهذا يلزمه أن يجعل التعارض الحقيقي بين الأدلة الظنية جائز، وبين القطعية ممتنع. فيعرف التعارض بأنه: تقابل الدليلين غير الظنيين على سبيل الممانعة الصورية. ويعرف التعادل بأنه: التقابل بين الدليلين الظنيين على سبيل الممانعة. الحالة الرابعة: أن يفرق بين التعارض والتعادل، ويسوي بين الأدلة الظنية وغير الظنية من حيث امتناع التعارض بينها، أو جوازه، وكلاهما مرفوض؛ لأنه يؤدي إلى التناقض، وبيان ذلك: أنه بناء على أنه يسوي بين الأدلة الظنية والقطعية من حيث جواز وقوع التعارض الحقيقي بينهم، وعليه فيكون تعريف كلا من التعارض أو التعادل: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة. ويكون تعريفهما بناء على أنه سوى بين الأدلة القطعية والظنية من حيث امتناع وقوع التعارض الحقيقي بينهم: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة الصورية. والفرض أنه فرق بين التعادل والتعارض فيلزمه التناقض. نكتة: سبق أن ظاهر صنيع المرداوي التفرقة بين التعارض والتعادل، وسبق بيان أنه اختار المنع من التعارض بين الأدلة الظنية وغيرها.

أقسام التعارض:

وعليه فهو يتبع الفرض الثاني من الحالة الرابعة من حيث امتناع وقوع التعارض الحقيقي بين الأدلة سواء أكانت قطعية أم ظنية، ولكنه عرف التعارض بقوله: (التعارض: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة ولو بين عامين في الأصح) فلم يقيده بالتعارض الصوري، وكذا ظاهر صنيعه أنه لم يسوي بينه التعارض والتعادل، والفرض أنه كان يلزمه التسوية. أقسام التعارض: قال الشيخ: (وأقسام التعارض أربعة: القسم الأول: أن يكون بين دليلين عامين ... ). قال المرداوي في "التحبير" (8/ 4127): (قوله: {ولو بين عامين في الأصح}. يعني أنه يجوز تعارض عامين عند أكثر العلماء، بل غالبهم أطلق العبارة في التعارض، فشمل العامين وغيرهما مما يمكن التعارض فيه. وذكر بعض أصحابنا عن قوم منع تعارض عمومين بلا مرجح. وقد خص الإمام أحمد ' نهيه عن الصلاة بعد الصبح والعصر ' بقوله: ' من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها '. وذكر القاضي، وأصحابه، والموفق، والشافعية، تعارضهما؛ لأن كلا منهما عام من وجه وخاص من وجه. وقدم الحنفية النهي لذكر الوقت فيه) (¬1). وقد علل ابن قدامة الجواز بقوله في "الروضة" (ص/252): (وقال قوم لا يجوز تعارض عمومين خاليين عن دليل الترجيح لأنه يؤدي إلى وقوع الشبهة وهو منفر عن الطاعة. قلنا بل ذلك جائز ويكون مُبَيَّنا للعصر الأول وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة ويكون ذلك محنة وتكليفا علينا لنطلب دليلا آخر ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا وأما التنفير فباطل فقد نفر طائفة من الكفار من النسخ ثم لم يدل ذلك على استحالته والله أعلم). وفيما قال نظر، إذ أنه محصلته أن الرواة ونقلة الأخبار لم يبلغوا الدين كاملا لنا، ¬

_ (¬1) انظر أيضا أصول ابن مفلح (4/ 1582)، وشرح الكوكب لمنير (4/ 605)

بل تركوا بعض الأدلة لم ينقلوها لنا حتى اندرست. وقال ابن اللحام في "مختصره" (ص / 169): (قال طائفة من أصحابنا يجوز تعارض عمومين من غير مرجح. والصواب ما قاله أبو بكر الخلال لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه ليس مع أحدهما ترجيح يقدم به فأحد المتعارضين باطل إما لكذب الناقل أو خطئه بوجه ما في النقليات أو خطأ الناظر في النظريات أو لبطلان حكمه بالنسخ). دلالة العموم قد تكون قطعية وقد تكون ظنية وأحوال ذلك: قال المرداوي في "التحبير" (5/ 2338): (قوله: {ودلالته على أصل المعنى قطعية (¬1)}، وهذا بلا نزاع. قوله: {وعلى كل فرد بخصوصه بلا قرينة، ظنية عند أكثر أصحابنا، والأكثر}، منهم من الحنفية الماتريدي ومن تبعه من مشايخ سمرقند. قال ابن اللحام في ' أصوله ': وعلى كل فرد بخصوصه ظنية عند الأكثر. وقال في ' جمع الجوامع ': هو عن الشافعية. وقال في ' القواعد الأصولية ': هذا المشهور عند أصحابنا وغيرهم. وقد ذكر القاضي وأصحابه، واستدلوا لذلك بأن التخصيص بالمتراخي لا يكون نسخا (¬2)، ولو كان العام نصا على أفراده لكان نسخا، وذلك أن صيغ العموم ترد تارة باقية على عمومها، وتارة يراد بها بعض الأفراد ¬

_ (¬1) والمقصود بذلك كما قال الشيخ عياض السلمي: " دلالة العام على أخص الخصوص أي على أقل ما يطلق عليه اللفظ فقد نص كثير من الأصوليين على أنها قطعية. ومرادهم أن العام لابد أن يدل على هذا القدر قطعاً، ولكن هذا القدر ليس معيناً بل شائعاً في أفراد العام". وهناك صورة أخرى الراجح فيها أن دلالة العام عليها قطعية وهي صورة السبب، قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (3/ 187): " (وصورة السبب قطعية الدخول في العموم) عند الأكثر (فلا يخص باجتهاد) فيتطرق التخصيص إلى ذلك العام، إلا تلك الصورة، فإنه لا يجوز إخراجها" وانظر التحبير (5/ 2400)، مختصر ابن اللحام (ص/110)، وقال الشنقيطي في " المذكرة" (ص / 203 (: "وجمهور أهل الأصول على أن صورة السبب قطعية الدخول في العام فلا يجوز إخراجها منه بمخصص وهو التحقيق. وروي عن مالك أنها ظنية الدخول كغيرها من أفراد العام ". (¬2) راجع الفرق بين النسخ الجزئي والتخصيص.

، وتارة يقع فيها التخصيص، ومع الاحتمال لا قطع، بل لما كان الأصل بقاء العموم فيها كان هو الظاهر المعتمد للظن، ويخرج بذلك عن الإجمال. وقال ابن عقيل: والفخر إسماعيل من أصحابنا، وحكي عن الإمام الشافعي، حكاه الأبياري عن الشافعي والمعتزلة أن دلالته قطعية، وروي عن الحنفية. قال ابن عقيل في ' الواضح ': إذا تعارضت دلالة العام والخاص في شيء واحد تساويا. انتهى. تنبيه: قوله: {بلا قرينة} يقتضي كل فرد: كالعمومات التي يقطع بعمومها ولا يدخلها تخصيص، كقوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 29]، (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [البقرة: 284]، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6]، ونحوه. وإن اقترن به ما يدل على أن المحل غير قابل للتعميم فهو كالمجمل يجب التوقف فيه إلى ظهور المراد منه، كقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الحشر: 20] ذكره ابن العراقي. تنبيه آخر: قد علم مما قررناه أن لفظ العام له دلالتان دلالة على المعنى الذي اشتركت فيه أفراده، وهي التي بينا أن الحكم فيها على الكلي وليس للعام بها اختصاص فإنها تتعلق بالكلي سواء كان فيه عموم أو لا، ودلالته على كل فرد من أفراده من خصوص، وهي التي لها خصوصية بالعام، ويعبر عنها بالكلية، أما الأولى فقطعية بلا شك، وهو محل وفاق. ومعنى القطع فيه دلالة النصوصية، أي: هو نص بالقطع فيه من هذه الحيثية، فيكون كدلالة الخاص. والدلالة الثانية محل خلاف والأكثر على أنها ظنية كما تقدم). والراجح عندي أن دلالة العام على أفراده بلا قرينة ظنية، وعلى كلا الاحتمالين يمتنع وقوع التعارض الحقيقي بين العامين لما سبق وأن قدمنا من أنه يمتنع وقوع التعارض بين الدليلين الظنيين كالقطعيين. قال الشيخ: (القسم الأول: أن يكون بين دليلين عامين وله أربع حالات: 1 - أن يمكن الجمع بينهما بحيث يحمل كل منهما على حال لا يناقض الآخر فيها فيجب الجمع. 2 - فإن لم يمكن الجمع فالمتأخر ناسخ إن علم التاريخ فيعمل به دون الأول 3 - فإن لم يعلم التاريخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجح.

تتمات:

4 - فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف). تتمات: هل مطلق التعارض ينافي الترجيح: أعلم أن التعارض الحقيقي بين الأدلة ينافي الجمع والترجيح والنسخ بين الأدلة، فالتعارض الحقيقي الذي توارد فيه الدليلان المتساويان في القوة والثبوت بالسلب والإيجاب على محل واحد في زمن واحد وجهة واحدة ينافي طرق التوفيق بين الدليلين. وأما التعارض الظاهري فلا ينافي الجمع ولا الترجيح ولا النسخ. سبق وأن ذكرت قول الخلال: (لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان ليس مع أحدهما ترجيح يقدم، فأحد المتعارضين باطل إما لكذب الناقل، أو خطأ بوجه ما من النقليات، أو خطأ الناظر في النظريات، أو لبطلان حكمه بالنسخ). وقال الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/417) بعد أن ذكر شروط التعارض: (وهذه الشروط التي يذكرها بعضُ الأصوليين لو تحقّقت لانسدَّ بابُ الترجيح، وامتنع الجمعُ بين الدليلين، وامتنع القولُ بالنسخ؛ لأن الدليلين إذا تساويا في الثبوت والقوَّة لا يُمكنُ الترجيحُ بينهما، وإذا اتّحدا في المحلّ والزمان والجهة لا يُمكنُ الجمعُ بينهما، ولا القولُ بنسخ أحدهما بالآخَر). أيهما يقدم النسخ أم الجمع: ما ذهب إليه الشيخ هو مذهب الجمهور، وخالف الأحناف فقدموا النسخ على الجمع. قال ابن قدامة في "الروضة" (ص/251): (إذا تعارض عمومان فأمكن الجمع بينهما بأن يكون أحدهما أخص من الآخر فيقدم الخاص أو يكون أحدهما يمكن حمله على تأويل الصحيح والآخر غير ممكن تأويله فيجب التأويل في المؤول ويكون الآخر دليلا على المراد منه جمعا بين الحديثين إذ هو أولى من إلغائهما وإن تعذر الجمع بينهما لتساويهما ولكونهما متناقضين كما لو قال من بدل دينه فاقتلوه من بدل دينه فلا تقتلوه فلا بد أن يكون أحدهما ناسخا للآخر فإن أشكل التاريخ طلب الحكم من دليل غيرهما). قال ابن أمير الحاج في "التقرير والتحبير" (3/ 4): (حكمه أي التعارض صورة

ماذا يفعل المجتهد إن لم يمكنه الجمع أو الترجيح، ولم يعلم الناسخ:

النسخ إن علم المتأخر فيكون ناسخا للمتقدم وإلا إذا لم يعلم المتأخر فالحكم الترجيح لأحدهما على الآخر بطريقه إن أمكن ثم الجمع بينهما إن أمكن إذا لم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لأن إعمال كليهما في الجملة حينئذ أولى من إلغاء كليهما بالكلية وإلا إذا لم يعلم المتقدم ولم يمكن ترجيح أحدهما ولا الجمع بينهما تركا أي المتعارضان إلى ما دونهما من الأدلة). والأولى أن يقدم الجمع على الترجيح؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما، وأما الخلاف في تقديم النسخ على الجمع أو العكس فهو من وجهة نظري خلاف لفظي، فإنه إن صحت شروط النسخ (¬1) لم يمكن الجمع، وإن أمكن الجمع فلا يتحقق النسخ. قال المرداوي في " التحبير" (6/ 2983): (قوله: {لا نسخ مع إمكان الجمع}؛ لأنا إنما نحكم بأن الأول منسوخ إذا تعذر علينا الجمع بينهما، فإذا لم يتعذر وجمعنا بينهما بمقبول فلا نسخ. قال المجد في ' المسودة ' وغيره: لا يتحقق النسخ إلا مع التعارض، فأما مع إمكان الجمع فلا). قال ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص/23): (الشروط المعتبرة في ثبوت النسخ خمسة: الشرط الأول أن يكون الحكم في الناسخ والمنسوخ متناقضا بحيث لا يمكن العمل بهما جميعا فإن كان ممكنا لم يكن أحدهما ناسخا للآخر ... ). ماذا يفعل المجتهد إن لم يمكنه الجمع أو الترجيح، ولم يعلم الناسخ: إذا وجد المجتهد دليلان متعارضان فإنه يجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع والتوفيق بين الأدلة، فإن تعذر عليه ذلك - ولم يكن أحدهما منسوخا، فإنه يتوقف عن الاستدلال بأيهما لحين ظهور وجه الجمع بينهما، أو الترجيح لأحدهما على الآخر، وإنما قلنا بالتوقف لأن الحق واحد لا يتعدد، ولم نقل بالتخيير بين أيهما لأن هذا يستلزم تعدد الحق، وأنه ليس محصورا في واحد منهما. ¬

_ (¬1) راجع شروط النسخ والتي سبق وأن تكلمنا عنها في باب النسخ.

قال الشيخ الجيزاني في "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة " (ص / 272): (ولعل الصواب هو التوقف في هذين الدليلين، والبحث عن دليل جديد. وهذا يوافق منهج السلف فإنهم كانوا يطلبون الدليل في القرآن، فإن لم يجدوه في القرآن طلبوه في السنة، فإن لم يجدوه في السنة طلبوه في الإجماع، وهكذا .... ). وقال الشيخ عياض في "أصوله" (ص/418): (وإذا تحقّقت الشروطُ السابقةُ في الدليلين المتعارضين، فما موقفُ المجتهد؟ اختلف العلماءُ في ذلك: فذهب بعضهم إلى التخيير، بأنْ يكونَ المكلَّفُ مخيَّراً بين العمل بهذا الدليل أو ذاك، ونُسب للشافعي، واختاره القاضي الباقلانيّ والغزاليّ. وهذا يُناسبُ القائلين: إن كلَّ مجتهدٍ في الظنيات مصيبٌ، وأن الحقَّ عند الله يُمكنُ أنْ يتعدّدَ. ولا يُناسبَ المُخطِّئةَ. وذهب بعضُهم إلى التوقُّف، وهو يُناسبُ القولَ بتخطئة بعض المجتهدين، وأن المصيبَ واحدٌ. وذهب بعضهم إلى أن على المجتهد أنْ يأخذَ بالأشدِّ؛ لأن الحقَّ شديدٌ. وذهب آخرون إلى أن عليه أنْ يأخذَ بالأيسر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يَسِّروا، ولا تُعَسِّروا» (متفق عليه عن أنس وأبي موسى). والراجح - إن شاء الله تعالى - أنْ يُقال: هذا قد يكونُ في حقّ بعض المجتهدين دون بعضٍ؛ ولذا فإن المجتهدَ إذا لم يتّضحْ له رجحانُ أحد المتعارضَينِ يلزمُه أنْ يتوقّفَ ويبحثَ عن دليلٍ آخَرَ، يُؤيِّدُ هذا الدليلَ أو ذاك ... ). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 617): (إذا تعارض دليلان عند المجتهد، ولم يترجح أحدهما، لزمه التوقف، وهو قول أكثر الحنفية والشافعية، وقال بعض الفئتين»: «يخير بالأخذ بأيهما شاء». قلت: ذكر الغزالي بناء ذلك على التعيين والتصويب، فمن قال: المصيب واحد؛ قال: لا تعارض في أدلة الشرع من غير ترجيح، وإنما هذا لعجز المجتهد، فيلزمه التوقف، أو الأخذ بالاحتياط، أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح. أما المصوبة، فقال بعضهم: يتوقف، وقال القاضي منهم: يتخير.

قوله: «لنا:» إلى آخره. هذه حجة التوقف. وتقريرها: أن الدليلين إذا تعارضا، فإما أن يعملهما، أي: يعمل بهما جميعا، أو يعمل أحدهما. والأول يوجب الجمع بين النقيضين؛ النفي والإثبات، والتحليل والتحريم، وهو باطل، والثاني ترجيح بلا مرجح، وهو تحكم، «فتعين التوقف على ظهور المرجح». ويرد على هذا الدليل أن القسمة فيه غير حاصرة، إذ بقي قسمان آخران: أحدهما: إهمال الدليلين، والرجوع إلى ما قبل الشرع. والثاني: التخيير بينهما، وهو مدعى الخصم، والقسمان لم يتعرض فيه لهما. قوله: «قالوا:»، إلى آخره. هذه حجة أصحاب التخيير، وهي من وجهين: أحدهما: أن التوقف إما أن يكون لا إلى غاية، أو إلى غاية، والأول باطل، لأن «التوقف لا إلى غاية تعطيل» للواقعة عن حكم، وربما لم يكن الحكم قابلا للتأخير، والثاني أيضا باطل، لأن غاية التوقف إما مجهولة أو معلومة، والأول ممتنع، لأنه يوقع الجهالة في أحكام الشرع، وليس شأنها ذلك، والثاني باطل أيضا، لأن ظهور المرجح ليس إلى المجتهد، فلا يصح أن تكون غاية التوقف معلومة، وإذا انتفى التوقف إلى غاية أو إلى غير غاية؛ تعين التخيير، وهو أن يعمل بأي الدليلين شاء. الوجه الثاني: أن الشرع قد ورد بالتخيير، فينبغي أن لا يكون ممتنعا ههنا. أما ورود الشرع به، ففي صور: منها: أن المزكي إذا كان عنده مائتان من الإبل، خير بين أن يخرج عنها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون؛ على حساب في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. فقد وجد مقتضى إخراج الحقاق وبنات اللبون. ومنها: أن العامي إذا أفتاه مجتهدان، يخير بين قوليهما، أو إذا وجد مجتهدين يخير بين استفتاء أيهما شاء. ومنها: أن المصلي عند الكعبة يتخير في استقبال أي جدرانها شاء. ومنها: في خصال الكفارة يتخير بين العتق والإطعام والصيام. ونحو هذه الصور من صور التخيير واقع في الشرع. وأما أنه ينبغي أن لا يمتنع التخيير ههنا، فلأنها صور شرعية، فجاز التخيير فيها كسائر صور الشرع التخييرية.

القسم الثاني:

قوله: «قلنا:»، إلى آخره. هذا جواب عن الوجه الأول. وتقريره: أنا لا نسلم أنه إذا امتنع التوقف تعين التخيير، بل «يتوقف حتى يظهر» له «المرجح، ولا استحالة» في ذلك، «كما يتوقف إذا لم يجد دليلا ابتداء» حتى يجد دليلا، كما يتوقف عند تعارض البينتين على المرجح. أما «التخيير» فإنه «رافع لحكم كل» واحد من «الدليلين»، فلا يجوز، إذ حكم أحدهما الإثبات المعين، وحكم الآخر النفي المعين، والتخيير رافع لكل منهما، كالجمع بينهما لو تصور، وحيث يتصور. قلت: وحاصل هذا الجواب التزام التوقف إلى غاية مجهولة، لأنه معنى التوقف إلى ظهور المرجح. قوله: «والتخيير في الصور المذكورة». هذا جواب الوجه الثاني، وهو أن «التخيير في الصور المذكورة قام دليله» شرعا، والتخيير في محل النزاع لم يقم دليله شرعا، فلا يصح إلحاقه به، والله تعالى أعلم بالصواب) (¬1). القسم الثاني: قال الشيخ: "القسم الثاني: أن يكون التعارض بين خاصين فله أربع حالات أيضاً. 1 - أن يمكن الجمع بينهما فيجب الجمع. 2 - فإن لم يمكن الجمع فالثاني ناسخ إن علم التاريخ. 3 - فإن لم يمكن عمل بالراجح إن كان هناك مرجح. 4 - فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف ". وما قيل على القسم الأول ينطبق على هذا القسم. ولا داعي للتطويل بمناقشة الأمثلة التي ذكرها الشيخ - رحمه الله - فوجوه الجمع، أو الترجيح بينها معروفة. القسم الثالث: قال الشيخ - رحمه الله -: (القسم الثالث: أن يكون التعارض بين عام وخاص ¬

_ (¬1) انظر: روضة الناظر (ص/372)، المدخل (ص/378)، المستصفى (1/ 364).

القسم الرابع:

فيخصص العام بالخاص). ومثل له الشيخ في "الأصل" (ص/79) بقوله: (مثاله: قوله صلّى الله عليه وسلّم: "فيما سقت السماء العشر" وقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فيخصص الأول بالثاني، ولا تجب الزكاة إلا فيما بلغ خمسة أوسق). والكلام واضح وقد سبق الكلام على التخصيص والخلاف بين الجمهور والأحناف فيه فراجعه. القسم الرابع: قال الشيخ - رحمه الله -: (القسم الرابع: أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فله ثلاث حالات: 1 - أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر فيخصص به. 2 - وإن لم يقم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر عمل بالراجح. 3 - وإن لم يقم دليل ولا مرجح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني وجب العمل بكل منهما فيما لا يتعارضان فيه والتوقف في الصورة التي يتعارضان فيها). وضابطُ الأعمِّ والأخصِّ من وجهٍ: قال القرافي في "شرح تنقيح الفصول": (وقوله تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) [النساء: 23] يتناول المملوكتين والحُرَّتين، وقوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء: 3] يتناول الأختين والأجنبيتين، وضابطُ الأعمِّ والأخصِّ من وجهٍ: أن يوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه، وقد وجد الأول في الأختين الحرتين بدون المِلْك، ووجد الثاني في المملوكات الأجنبيات بدون الأُخُوَّة، واجتمعا معاً في الأختين المملوكتين، فكلٌّ منهما حينئذ أعم من الآخر من وجهٍ وأخص من وجهٍ، فلا رجحان لأحدهما على الآخر من هذا الوجه ... ). قال المرداوي في " التحبير": (1/ 42): (شأن العموم والخصوص من وجه أن يجتمعا في صورة، وينفرد كل واحد منهما في صورة، فيجتمع الحمد والشكر في الثناء باللسان، وينفرد الحمد بالثناء على الصفات الحميدة من غيره، وينفرد الشكر بالثناء بالجنان والأركان).

موقف المجتهد لإزالة هذا التعارض:

موقف المجتهد لإزالة هذا التعارض: ومحصل ما ذكر في المذهب أنه يصار عن تعارضهما إلى الترجيح بينهما أو إلى دليل آخر كما قال المجد في المسودة (ص/125) (¬1). قال الشيخ: (القسم الرابع: أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه. فله ثلاث حالات: 1 - أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر فيخصص به. مثاله: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة: 234]، وقوله: (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق: 4] فالأولى خاصة في المتوفى عنها عامة في الحامل وغيرها. والثانية خاصة في الحامل عامة في المتوفى عنها، وغيرها لكن دل الدليل على تخصيص عموم الأولى بالثانية، وذلك أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال فأذن لها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تتزوج، وعلى هذا فتكون عدة الحامل إلى وضع الحمل سواء كانت متوفى عنها أم غيرها). وهذا المثال الذي ذكره فيه نظر لوجوه منها: 1 - أن آية البقرة ليس فيها عموم وإنما هي خاصة بعدة الوفاة، وقوله: (أَزْوَاجاً) إنما هي نكرة في سياق الإثبات فليست من صيغ العموم، وإنما هي مطلقة. قال الشنقيطي في "أضواء البيان" (1/ 150): (جماعة من الأصوليين ذكروا أن الجموع المنكرة لا عموم لها، وعليه فلا عموم في آية البقرة ; لأن قوله: (وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً) جمع منكر فلا يعم بخلاف قوله: وأولات الأحمال، فإنه مضاف إلى معرف بأل، والمضاف إلى المعرف بها من صيغ العموم). 2 - على فرض أن هاتين الآيتين بينهما عموم وخصوص وجهي فما سلكه الشيخ من تخصيص لآية البقرة بآية الطلاق إنما هو في حقيقته ترجيحا بمرجح خارجي؛ لأنه ليس تقديم خصوص أحدهما على عموم الآخر بأولى من العكس، فالشيخ رجح ¬

_ (¬1) وقال ابن قدامة في "الروضة" (ص/251) يعدل إلى دليل الترجيح، وقال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (2/ 577)، والمرداوي في "التحبير" (6/ 2649): يطلب الترجيح.

تقديم خصوص آية الطلاق على عموم آية البقرة دون العكس لدليل من الخارج، وهو حديث سبيعة - رضي الله عنها -. قال الإسنوي في "التمهيد" (1/ 507): (إذا كان بين الدليلين عموم وخصوص من وجه وهما اللذان يجتمعان في صورة وينفرد كل منهما عن الآخر في صورة كالحيوان والأبيض فيطلب الترجيح بينهما لأنه ليس تقديم خصوص أحدهما على عموم الآخر بأولى من العكس فإن الخصوص يقتضي الرجحان وقد ثبت ههنا لكل واحد منهما خصوص بالنسبة إلى الآخر فيكون لكل منهما رجحان على الآخر). وقد بين القرطبي وجه الجمع بين الآيتين فقال في تفسير آية البقرة (3/ 147): عدة الحامل المتوفى عنها زوجها وضع حملها عند جمهور العلماء. وروى عن على بن أبى طالب وابن عباس أن تمام عدتها آخر الأجلين، واختاره سحنون من علمائنا. وقد روى عن ابن عباس أنه رجع عن هذا. والحجة لما روى عن على وابن عباس روم الجمع بن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) وبين قوله: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) وذلك أنها إذا قعدت أقصى الأجلين فقد عملت بمقتضى الآيتين، وإن اعتدت بوضع الحمل فقد تركت العمل بآية عدة الوفاة، والجمع أولى من الترجيح باتفاق أهل الأصول. وهذا نظر حسن لولا ما يعكر عليه من حديث سبيعة الأسلمية وأنها نفست بعد وفاة زوجها بليال، وأنها ذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرها أن تتزوج، أخرجه في الصحيح. فبين الحديث أن قوله تعالى: (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) محمول على عمومه في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، وأن عدة الوفاة مختصة بالحائل من الصنفين). 2 - قال الشيخ في "الأصل" (ص / 80):) وإن لم يقم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر عمل بالراجح. مثال ذلك: قوله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) وقوله: (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس). وقال في "الشرح الممتع" (4/ 124) تعليقا على قول الحجاوي: (وَيَحْرُمُ تَطَوُّعٌ

بِغَيْرِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الأَوْقَاتِ الخَمْسَةِ حَتَّى مَا لَهُ سَبَبٌ): (قوله: «ويحرم تطوع بغيرها» أي: بغير المتقدِّمات مِن إعادة الجَماعةِ، وركعتي الطَّواف، وكذلك تحيَّة المسجدِ لمَن دَخَلَ والإمامُ يخطبُ، وسُنَّة الظُّهر البعديَّة لمَن جمعَها مع العصرِ وسُنَّة الفجر قبلها. قوله: «حتى ما له سبب» أي: لا يجوزُ التطوُّع في هذه الأوقات حتى الذي له سببٌ. وذلك لعموم الأدلَّةِ؛ في أنَّه لا صلاةَ في هذه الأوقات، فعمُوم النَّهي مقدَّمٌ على عموم الأمر؛ لأنَّ الذي له سببٌ تعارَضَ مع أحاديثِ النَّهي حيث كان كلٌّ منهما عاماً مِن وجهٍ، خاصاً مِن وجهٍ. مثال ذلك: تحية المسجد، فيها قوله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا دخلَ أحدُكُمُ المسجدَ فلا يجلسْ حتى يركعَ ركعتين) ففيه عمومٌ في الوقت مستفادٌ مِن قوله: (إذا دَخَلَ)؛ لأنَّ (إذا) شرطيَّةٌ ظرفيةٌ، أي: في أيِّ وَقْتٍ دَخَلَ المسجدَ فلا يجلسْ حتى يصلِّيَ ركعتين، وفيه خُصوصٌ في الصَّلاةِ، وهو أنَّ هذه الصلاةَ المأمورَ بها على سبيل العُمومِ صلاةٌ مخصوصةٌ، وهي تحيَّةُ المسجدِ، ففيه عمومٌ وفيه خصوصٌ. وقوله: (لا صَلاةَ بعد العصر حتى تغيبَ الشَّمسُ) فيه عمومٌ، وفيه خصوصٌ. فيه عمومٌ في الصَّلاةِ في قوله: (لا صَلاَةَ) لا تحيَّةَ مسجدٍ ولا غيرَها، وفيه خُصوصٌ في الوقت (بعدَ العصرِ) فصار عمومُ الوقت في قوله: (إذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ). وخصوصُ الوقت في قوله: (بعدَ العصرِ) وصار عمومُ الصَّلاةِ في قوله: (لا صلاة بعدَ العصرِ) وخصوصُ تحيَّةِ المسجدِ، فلهذا صار بينهما عمومٌ وخصوصٌ، فإذا دَخَلَ إنسانٌ المسجدَ بعدَ العصرِ فإنْ قلتَ له: «صَلِّ» خالفتَ النَّهيَ ووافقتَ الأمرَ، وإن قلت: «لا تصلِّ» وافقتَ النَّهيَ وخالفتَ الأمْر، فالمؤلِّفُ يقول: وافق النَّهي فلا تُصَلِّ. والحجةُ في ذلك: أنه اجتمعَ مُبيحٌ وحاظرٌ، أو اجتمعَ أمْرٌ ونهيٌ، فالاحتياطُ التجنُّبُ خوفاً مِن الوقوع في النَّهي، كما قالوا: إذا اجتمعَ مبيحٌ وحاظرٌ قُدِّمَ الحاظرُ، فلذلك نمتنعُ ونقتصرُ على ما وَرَدَ به النَّصُّ مِن إعادةِ الجَمَاعةِ وركعتي الطَّواف وما أشبههما.

وذهبَ بعضُ أهلِ العِلْم: إلى ترجيحِ الأمرِ الخاصِّ. وعلّلوا ذلك: بأنَّه تعارضَ عامَّان وخاصَّان، والعامُّ في النَّهي مخصوصٌ بمسائلٍ متفقٍ عليها. فالعامُّ في النَّهي: (لا صلاةَ بعدَ العصرِ حتى تغربَ الشَّمسُ) مخصوصٌ بمسائلٍ متَّفقٍ عليها، وهي قضاءُ الفرائضِ، وإعادةُ الجماعةِ، وفِعْلُ ركعتي الطَّوافِ، وركعتي تحيَّةِ المسجدِ لمَن دَخَلَ والإمامُ يخطبُ يومَ الجُمُعةِ، فلمَّا كان هذا العمومُ مخصوصاً بمسائلَ؛ صارت دلالتُه على العمومِ ضعيفةً؛ لأنَّه لما اسْتُثنيَ منه أشياءٌ، ضعف عمومُه. حتى إنَّ بعضَ العلماءِ مِن الأصوليين قال: إنَّ العامَّ إذا خُصَّ بطلت دلالتُه على العموم نهائيًّا؛ لأنَّ تخصيصَه يدلُّ على عدمِ إرادةِ العموم. وإذا بطلَ عمومُه لم يكن معارضاً للأحاديثِ الدَّالةِ على فِعْلِ الصَّلواتِ التي لها سببٌ. والقولُ الصحيحُ في هذه المسألةِ: أنَّ ما له سببٌ يجوز فِعْلُه في أوقاتِ النَّهي كلِّها، الطويلةِ والقصيرةِ لِما يأتي: أولاً: أنَّ عمومَه محفوظٌ، أي: لم يُخصَّصْ، والعمومُ المحفوظُ أقوى مِن العمومِ المخصوصِ. ثانياً: أنْ يُقال: ما الفرقُ بين العمومِ في قوله: (مَنْ نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها فَلْيُصلِّها إذا ذَكَرَها). وقوله: (إذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ حتى يُصلِّيَ ركعتين)؟. فإذا قلتم: إنَّ قولَه: (مَن نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها) عامُّ في الوقت فليَكُن قولُه: (إذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ) عامًّا في الوقتِ أيضاً ولا فَرْقَ. فإنَّ قولَه: (مَن نامَ عن صَلاةٍ أو نسيَها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرَها) خاصٌّ في الصلاةِ عامٌّ في الوقتِ. وكذلك (إذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ حتى يُصلِّيَ ركعتين) خاصٌّ في الصَّلاة عامٌّ في الوقتِ، فكيف تأخذون بعموم: (مَن نامَ عن صَلاةٍ أو نسيَها) وتقولون: إنَّه مخصِّصٌ لعموم: (لا صَلاةَ بعدَ الصُّبح) أو (بعدَ العصرِ) ولا تأخذون بعمومِ: (إذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ فلا يجلَسْ حتى يصلِّي ركعتين). ثالثاً: أنَّها مقرونة بسبب، فيبعد أنْ يقعَ فيها الاشتباهُ في مشابهة المشركين؛ لأنَّ النَّهيَ عن الصَّلاةِ قبلَ طلوعِ الشَّمسِ وقبلَ غروبِها، لئلا يَتَشَبَّهَ المُصلِّي المسلمُ

الترتيب بين الأدلة:

بالمشركين الذين يسجدونَ للشَّمسِ إذا طلعتْ وإذا غربتْ، فإذا أُحيلت الصَّلاةُ على سببٍ معلومٍ كانت المشابهةُ بعيدةً أو معدومةً. رابعاً: أنَّه في بعضِ ألفاظِ أحاديثِ النَّهي: (لا تَحرَّوا بصلاتِكُم طُلوعَ الشَّمسِ ولا غُروبَها) والذي يُصلِّي لسببٍ لا يُقال: إنَّه متحرٍّ. بل يُقال: صَلَّى للسَّببِ. والمتحرِّي: هو الذي يَرْقبُ الشمسَ، فإذا قاربتِ الطُّلوعَ مثلاً قامَ وصَلَّى، أو الذي يرقبُ وَقْتَ النَّهي، فإذا جاءَ وَقْتُ النَّهي قامَ وصَلَّى. وهذا مذهبُ الشافعي وإحدى الرِّوايتين عن الإمام أحمدَ رحمه الله، واختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية، وشيخِنا عبدِ الرَّحمن بنِ سعدي، وشيخِنا عبدِ العزيزِ بنِ باز. وعلى هذا؛ إذا دخلتَ المسجدَ لصلاةِ المغربِ قبلَ الغُروبِ بربع ساعة مثلاً؛ تُصلِّي ولا حَرَج، بل لو جلستَ لكنت واقعاً في نَهْيِ الرَّسولِ صلّى الله عليه وسلّم عن الجلوسِ لمَن دَخَلَ المسجدَ حتى يُصلِّيَ ركعتين ... ). 3 - قال الشيخ: (وإن لم يقم دليل ولا مرجح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني وجب العمل بكل منهما فيما لا يتعارضان فيه والتوقف في الصورة التي يتعارضان فيها). ولا يوجد له مثال، وقد سبق الكلام على هذه الحالة. الترتيب بين الأدلة: قال الشيخ: (إذا اتفقت الأدلة السابقة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) على حكم أو انفرد أحدها من غير معارض وجب إثباته، وإن تعارضت وأمكن الجمع وجب الجمع وإن لم يكن الجمع عمل بالنسخ إن تمت شروطه. وإن لم يمكن النسخ وجب الترجيح). مسألة - لا قياس مع النص: ذكر الشيخ هنا أنه يمكن أن تتفق الأدلة الأربعة على حكم شرعي، ومثل له في "الشرح" بالبيع فذكر أدلة الكتاب والسنة والإجماع على جوازه قال (ص/587): (وكذلك مما يدل على جواز البيع "القياس": ومعناه النظر الصحيح- وذلك أن الحاجة داعية إلى جواز البيع. فأنا مثلا أحتاج إلى شيء معك وأنت تحتاج إلى شيء معي، فلا بد من المبايعة، ولولا المبايعة لأخذته منك بالقوة وأخذته مني بالقوة، وحينئذٍ

تحصل الفتنة والشر والفساد). أوافق الشيخ في مقصوده من جواز تعاضد القياس مع الكتاب والسنة والإجماع للدلالة على حكم شرعي، ولكن ما ذكره هنا في المسألة السابقة فليس قياسا بالمعنى الاصطلاحي، وإنما هو دليل من المعقول (¬1) على شرعيته. قال قاسم القونوي (¬2): (والمعقول وهو أن الحاجة ماسة إلى شرعيته، فإن الناس يحتاجون إلى الأعواض، والسلع والطعام والشراب الذي في أيدي بعضهم، ولا طريق لهم إلا بالبيع والشراء؛ فإن ما جبلت عليه الطباع من الشح والضنة وحب المال يمنعهم من إخراجه من غير عوض، فاحتاجوا إلى المعاوضة، فلهذا كان من الضروري أن يَحِلَّ البيعُ فأحله الله عزّ وجل) (¬3). إلا أنه لا مانع من تعاضد أدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس على حكم شرعي، وإنما الممنوع أن يكون القياس مصادما للنص، وهو ما يسمى فساد الاعتبار كما سبق بيانه. قال الشيخ النملة في " الجامع لمسائل أصول الفقه": (يشترط في الفرع: أن يكون خالياً عن نص أو إجماع ينافي حكم القياس؛ فإنْ وُجِدَ نص أو إجماع ينافي الحكم الذي أخذناه عن طريق القياس: فلا يصح القياس؛ لأنه لا قياس مع النص. ثم قال: إذا وجد نص أو إجماع في حكم الفرع موافق للقياس؛ فإنَّا ننظر: 1 - إن كان هذا النص أو الإجماع الدال على ثبوت حكم الفرع بعينة هُوَ الذي دل على حكم الأَصْل. ¬

_ (¬1) المعقول يعني أنه معلل، وقال الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/442): (والمراد بالمعقولين: الأقيسةُ وطرقُ الفقه الأُخرى، التي ليست بنقلٍ ولا قياسٍ، ويُسميها بعضُهم الاستدلالَ، ويَدخل فيها الاستصحابُ بأنواعه، والاستصلاحُ، والاستقراءُ عند مَن يرى حجيته). (¬2) هو قاسم بن عبد الرحمن بن عمر بن رسلان ابن نصير بن صالح البلقيني الأصل، القاهري، الشافعي (زين الدين) فقيه. ولد بالقاهرة سنة 795 هـ، ونشأ بها، وتوفي سنة 861 هـ. من تصانيفه: شرح التنبيه، شرح الحاوي، وشرح المنهاج. انظر ترجمته في: الضوء اللامع للسخاوي (6/ 181، 182)، معجم المؤلفين لكحالة (8/ 106). (¬3) أنيس الفقهاء (ص/201 - 202) بتصرف يسير.

وجوه الترحيج:

مثل: ما لو جعلنا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مسكر حرام " هو الأَصْلُ في تحريم الخمر، فالقياس باطل؛ لأَنَّ نسبة دلالة النص أو الإجماع على حكم الفرع وحكم الأَصْل على السواء، فلا فرق بينهما، فليس جعل تلك الصورة أصلا والأخرى فرعا أولى من العكس. 2 - وإن كان هذا النص أو الإجماع الدال على ثبوت حكم الفرع غير النص أو الإجماع الدال على حكم الأَصْلُ: فالقياس جائز؛ لأَنَّ ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز؛ لإفادة زيادة الظن). وجوه الترحيج: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 616): ("و" أما "الترجيح" فهو "تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى لدليل" ولا يكون إلا مع وجود التعارض. فحيث انتفى التعارض انتفى الترجيح؛ لأنه فرعه، لا يقع إلا مرتبا على وجوده). ثم قال (4/ 627): ("ويكون" الترجيح "بين" دليلين "منقولين" كنصين "و" بين "معقولين" كقياسين "و" بين "منقول ومعقول" كنص، وقياس، فهذه ثلاثة أقسام ... أما القسم "الأول" وهو الذي بين منقولين، فيكون "في السند والمتن، ومدلول اللفظ وأمر خارج" عما ذكر، فهذه أربعة أنواع. أما وقوعه في السند: فلكونه طريق ثبوته، وأما وقوعه في المتن: فباعتبار مرتبة دلالته، وأما وقوعه في مدلول اللفظ وأمر خارج فلما يترتب على اللفظ، وما ينضم إليه من أمر خارج من أحد الأحكام الخمسة المدلول عليها به. ثم قال في " المختصر" ما مختصره: (السند يرجح بالأكثر رواة، أو أكثر أدلة، وبالأزيد ثقة، وبفطنة، وورع، وعلم، وضبط ... ومتصل على موقوف، ومنقطع ومتفق على رفعه، أو وصله: على مختلف فيه ... وقوله صلى الله عليه وسلم على فعله وهو على تقريره وما لا تعم به البلوى في الآحاد على ما تعم به ... المتن يرجح منه نهي على أمر وأمر على مبيح ... ومفهوم موافقة على مخالفة ... عام لم يخصص أو قل تخصيصه على عكسه ... المدلول يرجح على إباحة وكراهة وندب: حظر وعلى إباحة ندب وعليه وجوب، وكراهة وعلى نفي: إثبات وإن استند النفي إلى علم بالعدم فسواء وكذا العلتان وعلى

1 - يرجح النص على الظاهر.

مقرر ناقل وعلى مثبت حد: دارئه وعلى نافي عتق وطلاق: موجبهما ... الخارج يرجح بموافقة دليل آخر إلا في أقيسة تعدد أصلها مع خبر، فيقدم عليها فإن تعارض ظاهر قرآن وسنة وأمكن بناء كل واحد منهما على الآخر، أو خبران، مع أحدهما ظاهر قرآن، والآخر ظاهر سنة: قدم ظاهرها ... ). ثم قال (4/ 751): ("وضابط الترجيح" يعني القاعدة الكلية في الترجيح "أنه متى اقترن بأحد" دليلين "متعارضين أمر نقلي" كآية أو خبر "أو" أمر "اصطلاحي" كعرف أو عادة "عام" ذلك الأمر "أو خاص، أو" اقترن بأحد الدليلين "قرينة عقلية، أو" قرينة4 "لفظية، أو" قرينة "حالية، وأفاد" ذلك الاقتران "زيادة ظن: رجح به" ... "وتفاصيله" أي: تفاصيل الترجيح "لا تنحصر" وذلك: لأن مثارات الظنون التي بها الرجحان والترجيح كثيرة جدا. فحصرها بعيد؛ لأنك إذا اعتبرت الترجيحات في الدلائل من جهة ما يقع في المركبات من نفس الدلائل ومقدماتها، وفي الحدود من جهة ما يقع في نفس الحدود من مفرداتها، ثم ركبت بعضها مع بعض حصل أمور لا تكاد تنحصر). قال الشيخ: (فيرجح من الكتاب والسنة: النص على الظاهر. والظاهر على المؤول. والمنطوق على المفهوم. والمثبت على النافي. والناقل عن الأصل على المبقي عليه. والعام المحفوظ على غير المحفوظ. وما كانت صفات القبول فيه أكثر على ما دونه. وصاحب القصة على غيره. ويقدم من الإجماع: القطعي على الظني. ويقدم من القياس: الجلي على الخفي) 1 - يرجح النص على الظاهر. اعلم أن الكلام إما أن يحتمل معنى واحداً فقط فهذا هو النص نحو قوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) [البقرة: 196]. وإما أن يحتمل معنيين فأكثر، فان كان أظهر

2 - يرجح الظاهر على المؤول.

في أحدهما فهو الظاهر ومقابله المحتمل المرجوح. فمثال الظاهر باللغة: الأمر يحتمل الإيجاب ويحتمل الندب والاستحباب إلا أنه في الإيجاب أظهر، ومثل النهي يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، إلا أنه في التحريم أظهر. ومثال الظاهر بالعرف: لفظ الغائط، فإنه إن أطلق يراد به عرفا الخارج المخصوص من الإنسان لا المطمئن من الأرض. ومثال الظاهر بالشرع: الصلاة والصيام فإن الصيام إمساك مخصوص في زمن مخصوص. قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (3/ 698 (: (الترجيح اللفظي من جهة المتن - " فمبناه "، أي: هو مبني على " تفاوت دلالات العبارات في أنفسها، فيرجح الأدل منها فالأدل "، أي: إن العبارات تتفاوت في الدلالة على المعاني بالقوة والضعف، والبيان والإجمال، والإيضاح والإشكال، فما كان منها أقوى دلالة، قدم على غيره. وهذه قاعدة هذا القسم، " فالنص مقدم على الظاهر "، لأن النص أدل، لعدم احتماله غير المراد، والظاهر محتمل غيره وإن كان احتمالا مرجوحا، لكنه يصلح أن يكون مرادا بدليل). وعليه فدلالة النص أقوى من دلالة الظاهر على المعنى المراد فيقدم عليه. 2 - يرجح الظاهر على المؤول. سبق وأن ذكرنا أن تعرف المؤول الصحيح (ما حمل على المعنى المرجوح بدليل يصيره راجحا). كتأويل قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف: 82] إلى معنى واسأل أهل القرية لأن القرية نفسها لا يمكن توجيه السؤال إليها. وكما تأولنا قوله - صلى الله عليه وسلم - (الجار أحق بصقبه) والصقب: القرب والمجاورة بالجار المخالط لحديث: (إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة). وعليه فيقدم الظاهر على المؤول؛ لأن الظاهر دلالته على المعنى جلية بخلاف المؤول فدلالته على المعنى خفية.

3 - يرجح المنطوق على المفهوم.

3 - يرجح المنطوق على المفهوم. قال الشيخ في "الشرح" (ص/590): ("المنطوق " ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق. و"المفهوم ": ما دلَّ عليه اللفظ لا في محل النطق. فهذا هو الفرق بينهما). واعلم أن المفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، ومفهوم الموافقة قد يكون أولى بالحكم من المنطوق أو مساو فكيف يتقدم عليه. قال الشنقيطي في " المذكرة" (ص / 89): (وضابط مفهوم الموافقة هو ما دل اللفظ لا في محل النطق على أن حكمه وحكم المنطوق به سواء وكان ذلك المدلول المسكوت عنه أولى من المنطوق به بالحكم أو مساوياً له). فمثال الأولوي: ما يفهم من اللفظ بطريق القطع؛ كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب؛ لأنه أشد. ومثال المساوي: تحريم إحراق مال اليتيم الدال عليه قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [النساء: 10] فالإحراق مساو للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين. وعليه فلابد من تقييد هذه القاعدة بكون المفهوم مفهوم مخالفة فتصير: (يقدم المنطوق على مفهوم المخالفة). وقد مثل له الشيخ في "الشرح" (ص/590) بترجيح منطوق حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: (الماءُ طهورٌ لا يُنجِّسْه شيءٌ) على مفهوم حديث القُلَّتين ولفظه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) فإنه يُؤخذُ منه - بطريق مفهوم المخالَفة - أن ما نقص عن القُلَّتين يتنجّسُ بملاقاة النجاسة، وإنْ لم يتغيّرْ، ومنطوقُ الأول يدلُّ على عدم تنجُّسِه إذا لم يتغيّر لونُه أو طعمُه أو ريحُه. تنبيه: ذهب الشيخ أحمد الحازمي في شرحه للأصول من علم الأصول إلى تقييد هذه القاعدة بأن يكون كلا من المنطوق والمفهوم خاصين، فإن كان المنطوق عاما،

والمفهوم خاصا - قال: كما هنا - فيبنى العام على الخاص ويكون الراجح أن نحمل حديث أبي سعيد على أنه إذا وقعت النجاسة في ماء ولم تغيره على ما زاد على القلتين، وأما حديث ابن عمر فهو باق على أصله وأن ماء دون القلتين ينجس بمجرد الملاقاة. بداية - هذا القيد الذي ذكره الشيخ الحازمي لا يلزم الشيخ لأنه من باب الجمع، والشيخ ذكر أنه يلجا لتقديم المنطوق على المفهوم إذا تعذر الجمع، فقال: (قال الشيخ: (إذا اتفقت الأدلة السابقة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) على حكم أو انفرد أحدها من غير معارض وجب إثباته، وإن تعارضت وأمكن الجمع وجب الجمع وإن لم يكن الجمع عمل بالنسخ إن تمت شروطه. وإن لم يمكن النسخ وجب الترجيح) فكأنه ذكر هذا القيد ضمنيا، وأن مسألته فيما إذا تعذر الجمع بينهما. كما أنه يشكل على ترجيح الشيخ أحمد الحازمي أمران: الأول - أن هذا المفهوم غير معتبر كما قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (31/ 106): (قوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) مع قوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) فمن قال أن المفهوم حجة يخص به العموم خص عموم قوله (الماء طهور لا ينجسه شيء) بمفهوم (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) مع أن مفهوم العدد أضعف من مفهوم الصفة وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما ومن امتنع من ذلك قال قوله (الماء طهور) عام وقوله (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) هو بعض ذلك العام وهو موافق له في حكمه فلا تترك دلالة العموم لهذا). وقال في " الفتاوى الكبرى" (2/ 413): (في حديث القلتين: أنه سئل عن الماء يكون بأرض فلاة وما ينويه من الدواب والسباع فقال: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) وفي لفظ: (لم ينجسه شيء)، وأما مفهومه إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت مخالف الحكم في المنطوق بوجه من الوجوه ليظهر فائدة التخصيص بالمقدار، ولا يشترط أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت مناقضة للحكم في كل صورة من صور المنطوق، وهذا معنى قولهم: المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن كل ما لم يبلغ القلتين ينجس، بل إذا قيل بالمخالفة

في بعض الصور حصل المقصود (¬1). وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا التقدير ابتداء، وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة التي تردها السباع والدواب، والتخصص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة باتفاق كقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ) [الأنعام: 151] فإنه خص هذه الصورة بالنهي لأنها هي الواقعة لا لأن التحريم يختص بها، وكذلك قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة: 283] فذكر الزمن في هذه الصورة للحاجة، مع أنه قد ثبت سائل أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة، فهذا رهن في الحضر، فكذلك قوله: إذا بلغ الماء قلتين، في جواب سائل معين بيان لما احتاج السائل إلى بيانه، فلما كان حال المسؤول عنه كثيرا قد بلغ قلتين، ومن شأن الكثير أنه لا يحمل الخبث فلا يبقى الخبث فيه محمولا، بل يستحيل الخبث فيه لكثرته، بين لهم أن ما سألتم عنه لا خبث فيه فلا ينجس، ودل كلامه صلى الله عليه وسلم على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولا فحيث كان الخبث محمولا موجودا في الماء كان نجسا، وحيث كان الخبث مستهلكا غير محمول في الماء كان باقيا على طهارته، فصار حديث القلتين موافقا (¬2) لقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء)، والتقدير فيه لبيان صورة السؤال، لا أنه أراد أن كل ما لم يبلغ قلتين فإنه يحمل الخبث، فإن هذا مخالف للنص، إذ ما دون القلتين قد لا يحمل الخبث ولا ينجسه شيء كقوله: (الماء الطهور لا ينجسه شيء)، وهو إنما أراد إذا لم يتغير في الموضعين، وأما إذا كان قليلا فقد يحمل الخبث لضعفه). الثاني - حد التفريق بين القليل والكثير غير منضبط، وقد اختلف العلماء في تحديد مقدار القلتين اختلافا كثيرا. ¬

_ (¬1) وهي أن ما دون القلتين قد يحمل الخبث ويتغير به، وما كان قلتين أو أكثر لم يحمل الخبث. (¬2) قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوي" (31/ 107): (قوله: (الماء طهور) عام وقوله: (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) هو بعض ذلك العام وهو موافق له في حكمه فلا تترك دلالة العموم لهذا).

4 - يرجح المثبت على النافي

4 - يرجح المثبت على النافي (¬1). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 700): (قوله: " والمثبت "، أي: ويقدم الخبر المثبت " على النافي "، يعني الدال على ثبوت الحكم على الخبر الدال على نفيه، كإثبات بلال - رضي الله عنه - صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة على رواية ابن عباس في نفيها؛ لأن عند المثبت زيادة علم ممكنة وهو عدل جازم بها. قوله: " إلا أن يستند النفي إلى علم بالعدم، لا عدم العلم، فيستويان " يعني أن نفي النافي إن استند إلى عدم العلم، كقوله: لم أعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى بالبيت، ولم أعلم أن فلانا قتل فلانا، لم يلتفت إليه، وكان إثبات المثبت للصلاة، وقتل فلان مقدما لما سبق. وإن استند نفي النافي إلى علم بالعدم، كقول الراوي: اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل بالبيت، لأني كنت معه فيه، ولم يغب عن نظري طرفة عين فيه، ولم أره صلى فيه، أو قال أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يصل فيه، أو قال: اعلم أن فلانا لم يقتل زيدا، لأني رأيت زيدا حيا بعد موت فلان، أو بعد الزمن الذي أخبر الجارح أنه قتله فيه. فهذا يقبل، لاستناده إلى مدرك علمي، ويستوي هو وإثبات المثبت، فيتعارضان، ويطلب المرجح من خارج. وكذلك كل شهادة نافية استندت إلى علم بالنفي، لا إلى نفي العلم، فإنها تعارض المثبتة، لأنها تساويها، إذ هما في الحقيقة مثبتتان، لأن إحداهما تثبت المشهود به، والأخرى تثبت العلم بعدمه). قال المرداوي في "التحبير" (8/ 4186): (يرجح المثبت على النافي عند أحمد، والشافعي، وأصحابهما، وغيرهم، وجزم به القاضي في ' العدة '، وابن عقيل في ' الواضح '، وأبو الخطاب في ' التمهيد '، والموفق في ' الروضة '، وغيرهم من الأصحاب، وغيرهم. قال البرماوي: يرجح عند الفقهاء، كدخوله البيت، قال بلال: ' صلى فيه '، وقال أسامة: ' لم يصل '، وكذا ابن عباس، فأخذ بقول بلال وسن ¬

_ (¬1) انظر العدة (3/ 1036) الواضح (5/ 90)، أصول ابن مفلح (4/ 1602)، المسودة (ص/279)، المدخل (ص/339)، المختصر في أصول الفقه (ص/171)، جمع الجوامع (2/ 413 - حاشية العطار).

الصلاة في البيت المشرف. وقال القاضي أبو يعلى في ' الكفاية '، وأبو الحسين: هما سواء، فلا يرجح أحدهما على الآخر. قال ابن مفلح: ' والمراد ما قاله الفخر إسماعيل - وتبعه الطوفي في ' مختصره ' إن استند النفي إلى علم بالعدم لعلمه بجهات إثباته فسواء '. قلت: وينبغي أن يكون هذا والذي قبله سواء، أعني بلا خلاف. ومعنى استناد النفي إلى علم بالعدم: أن يقول الراوي: أعلم أن رسول الله لم يصل في البيت؛ لأني كنت معه فيه، ولم يغب على نظري طرفة عين فيه، ولم أره صلى فيه، أو قال: أخبرني رسول الله أنه لم يصل فيه، أو قال: أعلم أن فلانا لم يقتل زيدا؛ لأني رأيت زيدا حيا بعد موت فلان، أو بعد الزمن الذي أخبر الجاني أنه قتله فيه، فهذا يقبل لاستناده إلى مدرك علمي، ويستوي هو وإثبات المثبت فيتعارضان، ويطلب المرجح من خارج. وكذا حكم كل شهادة نافية استندت إلى علم بالنفي لا إلى نفي العلم فإنها تعارض المثبتة، لأنها تساويها، أو هما في الحقيقة مثبتان؛ لأن أحدهما تثبت المشهود به، والأخرى تثبت العلم بعدمه ... وقال القاضي في ' الخلاف '، وأبو الخطاب في ' الانتصار '، في حديث ابن مسعود ليلة الجن: النفي أولى. واختاره الآمدي ... ). والراجح عندي أنه يقدم المثبت على النافي؛ لأن مع المثبت زيادة علم مع إفادته للتأسيس، والتأسيس أولى من التأكيد إلا أن يستند النفي إلى علم بالعدم، فيستويان ويطلب الترجيح بينهما أو يتوقف في الاستدلال بهما. قال المرداوي في "التحبير" (8/ 4194): (استدل للأول وهو الصحيح: بأن مع المثبت زيادة علم. قالوا (¬1): يؤخر النفي ليكون فائدته التأسيس (¬2). رد: فيه رفع حكم المثبت. فإن عورض بمثله (¬3). رد: إن صح فرفع ما فائدته التأكيد بخلاف ¬

_ (¬1) أي الآمدي، والمرداوي يرد على ما ساقه الآمدي من استدلالات لترجيح أن النافي مقدم على المثبت. (¬2) قال الآمدي في "الإحكام" (4/ 271): (النافي لو قدرنا تقدمه على المثبت كانت فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التأسيس وفائدة التأسيس أولى فكان القضاء بتأخيره أولى). (¬3) وعبارة الآمدي: (فإن قيل إلا أنه يلزم من تأخره مخالفة الدليل المثبت ورفع حكمه دون تقدمه. قلنا هو معارض بمثله فإنا لو قدرنا تقدم النافي فالمثبت بعده يكون نافيا لحكمه ورافعا له).

بعض الاستثناءات ومناقشتها:

العكس. فإن قيل: بل رفع حكما تأسيسيا وهو الباقي على الحال الأصلي، وزيادة تأكيد النافي بخلاف العكس (¬1). رد بالمنع). بعض الاستثناءات ومناقشتها: أولا- إلا أن يستند النفي إلى علم بالعدم: فهنا يتعادلان، وقد سبق الكلام عنه. ثانيا - إلا أن يكونا في حد (¬2): قال المرداوي في "التحبير" (8/ 4198): (قوله: {وداريء حد، وفي ' الكفاية ' و ' الواضح '، وابن البناء وقال: هو المذهب: المثبت، وفي ' العدة ': سواء كالغزالي، والموفق}. الصحيح أن داريء الحد مقدم على مثبته. قال الشريف أبو جعفر، والحلواني من أصحابنا يقدم نافي الحد على مثبته، ورجحه أبو الخطاب في ' التمهيد '، وغيره، وعليه الأكثر؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، روي عن الصحابة، وفيه أخبار ضعيفة، ولقلة مبطلات نفيه، وكتعارض بينتين، ولأن إثباته خلاف دليل نفيه. قال الآمدي: ولأن الخطأ في نفي العقوبة أولى من الخطأ في تحقيقها، على ما قاله عليه الصلاة والسلام: ' لأن تخطيء في العفو خير من أن تخطيء في العقوبة '. واختار القاضي أبو يعلى في ' العدة '، والقاضي عبد الجبار، والموفق، والغزالي: أنهما سواء؛ لأن الشبهة لا تؤثر في ثبوت مشروعيته بدليل أنه يثبت بخبر الواحد، والقياس مع قيام الاحتمال، فالحد إنما يؤثر في إسقاطه لشبهته، وإذا كانت في نفس الفعل أو بالاختلاف في حكمه، كأن يبيحه قوم ويحرمه آخرون كالوطء في ¬

_ (¬1) وعبارة الآمدي: (فإن قيل المثبت وإن كان رافعا لحكم النافي على تقدير تأخره عنه فرافع لما فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخر النافي كان مبطلا لما فائدته التأسيس فكان فرض تأخر المثبت أولى قلنا إلا أنه وإن كانت فائدة النافي التأكيد على تقدير تقدمه فالمثبت يكون رافعا لحكم تأسيسي وهو الباقي على الحال الأصلي وزيادة ما حصل من النافي من التأكيد ولا كذلك ما لو كان النافي متأخرا فإنه لا يرفع غير التأسيس وما لا يفضي إلى رفع التأسيس مع التأكيد يكون أولى مما يفضي إلى رفع الأمرين معا). (¬2) انظر: التمهيد (3/ 212)،أصول ابن مفلح (4/ 1605)، شرح الكوكب المنير (4/ 689)، التقرير والتحبير (3/ 32)، تيسير التحرير (3/ 161)، الإبهاج (3/ 236)، المحصول (5/ 590)، البحر المحيط (4/ 468).

إلا أن يكونا في طلاق أو عتاق

نكاح بلا ولي أو بلا شهود. وليس الخلاف لفظيا كما قد يتوهم من أن قول التساوي يؤول إلى تقديم النافي، فإنهما يتعارضان فيتساقطان، ويرجع إلى غيرهما، فإن كان هناك دليل شرعي حكم به، وإلا نفي الآخر على الأصل، فيلزم نفي الحد، بل الخلاف معنوي على الصواب، فإن الأول ينفي الحد بالحكم الشرعي، والآخر يقول بالنفي استصحابا للأصل. وقدم القاضي في ' الكفاية ' المثبت، وقاله: ابن البنا، وابن عقيل في ' الواضح '، لتقديم أحمد خبر عبادة في ' الجلد والرجم ' لإثباته بخبر واحد وقياس، لأن الموجب للحد يوافق التأسيس، وموافقة التأسيس أولى من موافقة النفي الأصلي، لأن التأسيس يفيد فائدة زائدة. رد: لا شبهة فيهما. قال الطوفي: قلت: ' فهو من باب تعارض الناقل والمقرر '. وقال البرماوي: ' موضوع هذه المسألة أن يكون الإثبات والنفي شرعيين، فأما إن كان النفي باعتبار الأصل فهو مسألة الناقل والمقرر السابقة '. انتهى). إلا أن يكونا في طلاق أو عتاق (¬1): قال المرداوي في "التحبير" (8/ 4193): (وقيل: إن كان في طلاق وعتاق، قدم النافي وإلا المثبت. وقيل: بالعكس. وقيل: لا يتعارضان لامتناع التعارض بين الفعلين، لاحتمال وقوعهما في حالين). وقال في (8/ 4201): (قوله: {وموجب عتق وطلاق، وقيل نافيهما، وظاهر ' الروضة ': سواء كعبد الجبار}. أدخل جماعة هذه الصورة في جملة صور المقرر والناقل، وحكي الخلاف في الجميع، وحكوا قولا بالفرق بين العتق والطلاق وغيرهما، وأفردهما جماعة، ولا شك أنهما من جمل النفي والإثبات. إذا علم ذلك فرجح أبو الخطاب تقديم موجب العتق، وذكره قول غير عبد الجبار. وقاله الحنفية أو الكرخي منهم، وهو ظاهر ما قدمه ابن الحاجب لقلة سبب مبطل الحرية ولا تبطل بعد ثبوتها، ولموافقة النفي الأصلي رفع العقد. وظاهر ' الروضة ': سواء، كعبد الجبار، لأنهما حكمان. قال ابن مفلح: ' ويتوجه احتمال تقدم النفي - كقول ¬

_ (¬1) انظر: التمهيد (3/ 213)، أصول ابن مفلح (4/ 1608)، شرح الكوكب المنير (4/ 691)، التقرير والتحبير (3/ 32)، تيسير التحرير (3/ 161)، البحر المحيط (4/ 468)، جمع الجوامع (2/ 413 - العطار)، المحصول (5/ 589).

5 - يرجح الناقل عن الأصل على المبقي عليه

بعضهم - لموافقة دليل بقاء الصحة، ومثله الطلاق ' انتهى. ويحتمله كلام الطوفي في ' مختصره '). 5 - يرجح الناقل عن الأصل على المبقي عليه (¬1). قال المرداوي في "التحبير" (4/ 4194): (قوله: {وناقل عن الأصل، وعند الرازي والبيضاوي والطوفي المقرر}. إذا تعارض حكمان أحدهما مقرر للحكم الأصلي، والآخر ناقل عن حكم الأصل. فالناقل مقدم عند الجمهور؛ لأنه يفيد حكما شرعيا ليس موجودا في الآخر، كحديث: ' من مس ذكره فليتوضأ '، مع حديث: ' هل هو إلا بضعة منك؟ (¬2) '. والمخالف في ذلك الرازي، وأتباعه: كالبيضاوي، وغيره. فقالوا: يترجح المقرر؛ لأن الحمل على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى مما يستفاد من العقل. واختاره الطوفي في ' شرحه ' فقال: والأشبه تقديم المقرر لاعتضاده بدليل الأصل، قال: وهو الأشبه بقواعده، وقواعد غيره في اعتبار الترجيح مما يصلح له، واليد صالحة للترجيح انتهى. قيل: والتحقيق في المسألة تفصيل، وهو أنه يرجح المقرر فيما إذا تقرر حكم الناقل مدة في الشرع عند المجتهد، وعمل بموجبه، ثم نقل له المقرر وجهل التاريخ؛ لأنه حينئذ عمل بالخبرين الناقل في زمان والمقرر بعد ذلك ¬

_ (¬1) انظر: العدة (5/ 1533)، التمهيد (4/ 241)، شرح مختصر الروضة (3/ 702)، شرح الكوكب المنير (4/ 687)، جمع الجوامع (2/ 412 - العطار)، غاية الوصول (ص/161). (¬2) وقد بين الشيخ العثيمين في شرح الأصول (ص/592) أن هذين الحديثين لا يجري فيهما باب الترجيح؛ لإمكان الجمع والجمع بينهما له وجهان: الأول أن نحمل حديث طلق بن علي على نفي الوجوب، وحديث بسرة على إثبات الاستحباب، والوجه الثاني أن نحمل حديث طلق على ما إذا مسه لغير شهوة وحديث بسرة على ما إذا مسه لشهوة وهذا أيضًا وجه حسن، ويؤيده أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علله بعلةٍ لا يمكن انتقاضها وهي قوله: "إنما هو بضعة منك " وهذا التعليل الباقي إلي يوم القيامة يقتضي أن يبقى الحكم المعلل به إلى يوم القيامة، لكنه يشير إلى أنك إذا مسست ذكرك كمسِّ البضعة من جسمك فلا وضوء عليك، وإن مسسته المسَّ الذي يحتمل وجود الناقض فعليك الوضوء ... أهـ ملخصا. والأولى أن نمثل له بترجيحُ أحاديثِ تحريمِ الحُمُرِ الأهليةِ على الأحاديث التي فيها إباحتُها؛ لأن التحريمَ ناقلٌ عن حكم الأصل.

6 - يرجح العام المحفوظ على غير المحفوظ.

، فأما إن كان الثابت بمقتضى البراءة الأصلية، ونقل الخبران، فإنهما يتعارضان هنا، ويرجع إلى البراءة الأصلية. بل عبد الجبار يقول: إن تقديم الناقل أو المقرر على الاختلاف ليس من باب الترجيح بل من باب النسخ. وهو ضعيف؛ لأنه لا يتوقف رفعه على ما يرفع به الحكم الشرعي). وما ذهب إليه الجمهور أولى لأن الناقل فيه زيادة على المبقى على البراءة الأصلية بإثباته حكما شرعيا ليس موجودا في الأصل. قال المجد في "المسودة" (ص/281): (واذا كان أحدهما يوافق النفي الأصلي والآخر ناقل عنه قدم دفعا لاحتمال النسخ مرتين ذكره أبو الخطاب). وإنما يتحقق النسخ مرتين إذا قلنا أن رفع الإباحة العقلية نسخا، وليس كذلك. 6 - يرجح العام المحفوظ على غير المحفوظ. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 706): («فيرجح المجرى على عمومه على المخصوص». أي: إذا تعارض عامان أحدهما باق على عمومه، والآخر قد خص بصورة فأكثر ; رجح الباقي على عمومه على المخصوص، لأنه مختلف في بقائه حقيقة أو مجازا، وحجة، أو غير حجة، والباقي على عمومه لا خلاف في بقائه حقيقة وحجة، فكان راجحا. قلت: وكذلك يقدم ما كان أقل تخصيصا على الأكثر تخصيصا، مثل أن يخص أحدهما بصورة، والآخر بصورتين، فالأول أرجح، لأنه أقرب إلى الأصل، وهو البقاء على العموم ومخالفة الأصل فيه أقل). قال الشنقيطي في "المذكرة" (ص/300): (العام الذي لم يدخله تخصيص، مقدم على العام الذي دخله تخصيص، وهذا رأي جمهور أهل الأصول، ولم أعلم أحداً خالف فيه إلا صفي الدين الهندي، والسبكي ... وحجة الجمهور أن العام المخصص اختلف في كونه حجة في الباقي بعد التخصيص، والذين قالوا هو حجة في الباقي قال جماعة منهم هو مجاز في الباقي، بخلاف الذي لم يدخله تخصيص، فهو سالم من ذلك، وما اتفق على أنه حجة وأنه حقيقة أولى مما اختلف في حجيته وهل هو حقيقة أو مجاز. وإن كان الصحيح أنه حجة وحقيقة في الباقي بعد التخصيص، لأن مطلق

الخلاف يكفي في ترجيح غيره عليه. وحجة الصفي الهندي والسبكي أن الغالب في العام التخصيص، والحمل على الغالب أولى، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى بخلاف الباقي على عمومه. ومثال هذه المسألة قوله تعالى: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) الآية [النساء: 23]. فانه عام في كل أختين سواء كان الجمع بينهما بنكاح أو بملك يمين، وهذا العام لم يدخله تخصيص فهو مقدم على عموم قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) الآية [المؤمنون: 5، 6]. فان قوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) شامل بعمومه للأختين إلا أن عموم (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) يخصصه عموم (وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ) [النساء: 23]، فلا تحل الأخت من الرضاعة بملك اليمين إجماعاً، ويخصصه أيضاً عموم. ({وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) الآية [النساء: 22]. فلا تحل موطوءة الأب بملك اليمين إجماعاً. فان قيل: عموم (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) مخصص بعموم (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ). فالجواب أن ذلك التخصيص هو محل النزاع، والاستدلال بصورة النزاع ممنوع بأطباق النظار، كما هو معلوم في محله. فان كان كل واحد من العامين دخله تخصيص فالأقل تخصيصاً مقدم على الأكثر تخصيصاً، ومثال هذا ما لو ذبح الكتابي ذبيحة، ولم يسم عليها الله، ولا غيره، فعموم قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة: 5] يقتضي إباحتها. وعموم: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 121] يقتضي تحريمها، وكل من العمومين دخله تخصيص إلا أن الأول خصص مرة واحدة، والثاني خصص مرتين، فالأول أقوى لأنه أقل تخصيصاً لأن قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة: 5] لم يخصص إلا تخصيصه واحدة وهي بما إذا لم يسم الكتابي على ذبيحته غير الله كالصليب، أو عيسى، فان سمى على ذبيحته غير الله، دخلت في عموم (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [المائدة: 3]، على الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه. أما الآية (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 121] فقد خصصت تخصيصتين، خصصها الجمهور بغير الناسي، فتارك التسمية نسياناً

7 - يرجح ما كانت صفات القبول فيه أكثر على ما دونه.

تؤكل ذبيحته عند الجمهور، وحكى عليه ابن جرير الإجماع مع أنه خالف فيه اثنان. وخصصه الشافعي وأصحابه بما ذبح لغير الله). 7 - يرجح ما كانت صفات القبول فيه أكثر على ما دونه. يشير الشيخ - رحمه الله - في هذه القاعدة والتالية لها إلى بعض المرجحات من ناحية السند. قال الشيخ في "الشرح" (ص/596): (هذا في الحديث الشاذ والمحفوظ، ومرَّ علينا في المصطلح: "الشاذ" ما رواه الثقة مخالفًا لمن هو أرجح منه: عددًا أو حفظًا، فإذا كان عندنا راويان رويا حديثًا متعارضًا لكنَّ أحدَهما أقوى من الآخر حفظًا وأمسَّ بالشيخ الذي رويا عنه الحديث - فتقدِّم الثاني- لدينا رجلان رويا عن شيخ حديثًا، كل واحد منهما رواه على وجه يخالف الآخر، وكل منهما ثقة، لكن أحدهما أقوى في الأوثقية وأشد وثوقًا في الشيخ مثل أن يكون صهره أو ابن عمه أو ابن أخيه أو خادمه- مثل نافع عن ابن عمر- فهنا نقدِّم الثاني؛ لأن صفات القبول فيه أقوى وأكثر من الآخر). قال الجويني في " البرهان" (2/ 757): (ومما نذكره في فروع هذا الفصل أنه إذا روى راويان خبرين وكل واحد منهما ثقة مقبول الرواية لو انفرد ولكن في أحدهما مزية ظاهرة في قوة الحفظ والضبط والاعتناء بالوعي فهذا مما يرى أهل الحديث مجمعين على التقديم فيه وهو كما روى عبيد الله بن عمر العمري مع ما رواه أخوه عبد الله بن عمر العمري في سهم الفارس من المغنم فقال الأئمة حديث عبيد الله مقدم وإن كان أخوه عبد الله عدلا فإن بينهما تفاوتا بينا قال محمد بن إسماعيل البخاري بينهما ما بين الدينار والدرهم والفضل لعبيد الله وهذا وإن ظهر من خدمة الحديث فإذا رجع الأمر إلى العلم فالقول عندي في الخبرين مع اختصاص إحدى الروايتين بالمزية كالقول في اختصاص أحد الخبرين بكثرة الرواة مع الاستواء في الصفات المرعية وقد سبق ذلك مفصلا غير أن التمسك بحديث عبيد الله حتم من جهة أن القول متعلق بالتقدير وهو متلقى من توقيف الشارع ولا مجال للقياس فيه والرأي لا يضبط منتهى الغناء والكفاية).

8 - يرجح صاحب القصة على غيره

8 - يرجح صاحب القصة على غيره (¬1). قال القاضي أبو يعلى في "العدة" (3/ 1019) وهو يتكلم عن وجوه الترجيح من ناحية الإسناد: (الثالث: أن يكون أحد الراويين مباشرا لما رواه؛ لأن المباشر أعرف بالحال، ومثاله ما قلناه في رواية أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نكح ميمونة وهو حلال) أنه أولى من رواية ابن عباس: (أنه نكحها وهو حرام)؛ لأن أبا رافع كان السفير بينهما، والقابل لنكاحها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الرابع: أن يكون أحد الراويين صاحب القصة، كميمونة، قدمنا قولها: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان، على قول ابن عباس؛ لأنها المعقود عليها، فهي أعرف بوقت عقدها من غيرها لاهتمامها به ومراعاتها لوقته. ومنع الجرجاني: أن يكون هذا ترجيحا، وقال: هذا الحكم لا يعود إلى صاحب القصة، وإنما يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون الغير أقرب إليه، وأعرف بأحواله في نفسه من المرأة. والصحيح ما ذكرنا؛ لأن صاحب القصة أعرف بذلك من غيره) (¬2). 9 - يقدم من الإجماع: القطعي على الظني. سبق بيان أن الإجماع نوعان قطعي وظني، فإن تعارضا فيقدم الإجماع القطعي. قال الشيخ في "الشرح" (ص/598): (فإذا كان لدينا مسألتان: (إحداهما) الإجماع فيها قطعي. و (الثانية) الإجماع فيها ظني، وتعارضتا، فنقدم ما كان الإِجماع فيها قطعيًا؛ لأن ما كان الإجماع فيها ظنيًا فنحن في شكٍّ من دليله؛ لأن الإِجماعَ دليل إذا تُيُقِّن، فإذا وُجد دليل قطعي متيقن وجب تقديمه على الإجماع الظني لأنه أقوى منه). ¬

_ (¬1) انظر المسودة (ص/275)، أصول ابن مفلح (4/ 1587)، شرح مختصر الروضة (3/ 694)، شرح الكوكب (4/ 637)، المدخل (ص/397). (¬2) ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث بحمل حديث ابن عباس على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان محرما بمعنى أنه دخل في حرمة لا تنتهك، وهي حرمة الشهر الحرام، فمن المعلوم أن عمرة القضاء كانت في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة من سنة سبع، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام، أو في الحرم أو غير ذلك. وانظر أضواء البيان للعلامة الشنقيطي (5/ 21).

10 - يقدم من القياس: الجلي على الخفي.

10 - يقدم من القياس: الجلي على الخفي. وقد سبق بيان أن القياس له مراتب من حيث القوة والضعف والجلاء والخفاء، فالقياس الذي في معنى الأصل أقوى من القياس الجلي، والجلي أقوى من الخفي، وقياس العلة أقوى من قياس الدلالة. المفتى والمستفتي تعريف المفتى: قال الشيخ: (المفتي: هو المخبر عن حكم شرعي). وهذا الحد غير مانع وينبغي إضافة بعض القيود له ليكون جامعا مانعا: أولاً - من المقرر أن المفتي لا يكون إلا مجتهدا (¬1)، وغير المجتهد لا يكون مفتيا حقيقة، وعليه فلما كان هذا الحد يدخل فيه من أخبر عن حكم الله بغير علم بالدليل سواء أكان مقلدا أم متخيلا. فكان لابد من تقييده بما يميز المجتهد من غيره مثلا بإضافة قيد: استنبطه من الأدلة التفصيلية، أو لكونه من أهل الفتيا، ونحو ذلك. قال ابن النجار في " شرح الكوكب المنير " (4/ 570): ("وما يجيب به المقلد عن حكم فإخبار عن مذهب إمامه، لا فتيا" قاله أبو الخطاب وابن عقيل والموفق). وقال الأشقر في رسالته "الفتيا ومناهج الإفتاء" (ص/10): (وقولنا "بدليله" يخرج به قول من أخبر بالحكم عن تخيل منه لا عن علم، وكذا يخرج به قول من قال تقليدا لغيره فهو حينئذ حكاية ونقل لا فتيا؛ لأنه لا يعلم أن ما قاله حكم الله). قال العكبري الحنبلي في "رسالة في أصول الفقه" (ص/ 125): (والمفتي هو المخبر بالحكم الشرعي مع كونه من أهل الفتيا). قال ابن حمدان في "صفة الفتوى" (ص / 4): (المفتى هو المخبر بحكم الله تعالى لمعرفته بدليله). ثانيًا - هذا الحد يدخل فيه الإرشاد، ولابد من إضافة قيد: (لمن سأل) للتفريق بين المفتى والمرشد؛ وذلك لأن الإخبار بحكم الله تعالى من غير سؤال هو إرشاد. ¬

_ (¬1) انظر: التحبير (8/ 4070)، المدخل (ص/293)، شرح الكوكب المنير (4/ 557).

وللمفتي تعريف آخر:

ثالثًا - هذا الحد يدخل فيه التعليم، ولابد من إضافة قيد: (أمر نازل (¬1)) للتفريق بين المفتى والمعلِّم؛ وذلك لأن الإخبار بحكم الله تعالى في غير أمر نازل هو تعليم (¬2). رابعا - هذا الحد يدخل فيه الإخبار بجميع الأحكام الشرعية، ولابد من تقييدها بكونها عملية ليخرج مما يتعلق بالاعتقاد والسلوك ونحو ذلك كما سبق في تعريف الفقه. وعليه فيكون تعريف المفتى: (المخبر بحكم شرعي عملي مكتسب من أدلته التفصيلية لمن سأل عنه في أمر نازل) (¬3). وللمفتي تعريف آخر: قال ابن حمدان في "صفة الفتوى" (ص / 4): (المفتى: هو المتمكن من معرفة أحكام الوقائع شرعا بالدليل مع حفظه لأكثر الفقه). ¬

_ (¬1) وقد عرف الشيخ الجيزاني في كتابه "فقه النوازل" (1/ 24) النازلة بقوله: ما استدعي حكما شرعيا من الوقائع المستجدة. أو هي الوقائع المستجدة الملحِّة. وبيَّن أن هذا التعريف للنازلة لابد من اشتمالها على ثلاثة معان: الأول- الوقوع: أي الحلول والحصول. وقد خرج بهذا القيد المسائل غير النازلة وهي المسائل الافتراضية المقدرة وهذه المائل الافتراضية نوعان: إما مسائل مستحيل وقوعها، وإما مسائل يبعد وقوعها. الثاني - الجدة: أي عدم وقوع المسائل من قبل. فالنوازل إذن تختص بنوع من الوقائع وهي المسائل الحادثة التي لا عهد للفقهاء بها حيث لم يسبق أن وقعت من قبل. الثالث - الشدة: ومعناها أن تستدعي المسألة حكما شرعيا بحيث تكون ملحة من جهة النظر الشرعي). والنازلة قد تقع لشخص، أو لمجموعة من الأفراد، وقد تكون عامة لقطر أو لعموم المسلمين، وتطبيق الشرط الثاني وحصر موضوع الفتوى في الأمور المستجدة التي لا حكم سابق فيها مطلقا فيه تضييق لموضوع الفتوى، والأقوى عندي أنه لا يشترط في الواقعة المستفتى فيها ألا يكون عليها دليل مطلقا بل الذي يشترط ألا يكون عليها دليل قطعي، وأما ما تعارضت فيه الأدلة - ظاهريا -، وكان الدليل عليها ظنيا فيدخل في مجال الفتوى بل إن هذا هو الغالب على موضوع الفتوى وانظر الفتوى وأهميتها للشيخ عياض السلمي (ص/12). (¬2) ظاهر صنيع الماتن أنه لا يفرق بين هاتين الحالتين كما سيأتي كلامه في شروط وجوب الفتوى. (¬3) انظر رسالة "الفتيا ومناهج الإفتاء" للشيخ محمد سليمان الأشقر (ص/9) ومنه استفدت ذكر القيدين السابقين.

تعريف المستفتي:

قال ابن بدران في "المدخل" (ص / 479): (وقيل: المفتي من تمكن من معرفة أحكام الوقائع على يُسر، من غير تعلم آخر). وقد تعقب ابن الصلاح هذا التعريف فقال في "أدب المفتي والمستفتي" (ص / 88): (وفصل الإمام أبو المعالي ابن الجويني صفات المفتي ثم قال القول الوجيز في ذلك إن المفتي هو المتمكن من درك أحكام الوقائع على يسر من غير معاناة تعلم وهذا الذي قاله معتبر في المفتي ولا يصلح حدا للمفتي والله أعلم). تعريف المستفتي: قال الشيخ: (المستفتي: هو السائل عن حكم شرعي). ومما سبق من تعريف المفتى فلابد من تقييد التعريف السابق بكونه عمليا وفي نازلة فيصبح تعريف المستفتي هو: (السائل عن حكم شرعي عملي في نازلة ما). شروط جواز الفتوى: الشرط الأول: قال الشيخ: (يشترط لجواز الفتوى شروط منها: 1 - أن يكون المفتي عارفاً بالحكم يقيناً أو ظنّاً راجحاً وإلا وجب عليه التوقف). هذا الشرط فيه إشارة إلى ما سبق تقريره من أن من شروط المفتى أن يكون مجتهدا ليكون عنده القدرة على التوصل إلى معرفة الأحكام الشرعية. قال في "الشرح" (ص/600): (هذا أهم الشروط، أن يكون المفتي عارفًا بالحكم "يقينًا": مثل أن يعرف أن الميتة حرام، "أو ظنًا" بحيث تكون الأدلة مشتبهة: إما في ثبوتها، وإما في دلالتها، وإما في احتمال معارض، وما أشبه ذلك. المهم أن يكون في الدليل اشتباه، فهنا قد لا يصل الإنسان إلى العلم الذي لا يقبل الاحتمال، فيكون عنده ظن. والظن ظنان: "ظن ليس مبنيًا على اجتهاد وإنما هو تخرُّص مطلق! فهذا هو المذموم، ومنه قول بعض العوام أو المتحذلقين من الذين يدعون العلم- إذا سئل عن شيء قال: والله "أظن " أن هذا حرام، أما الذي يبحث في الأدلة ويراجع ولكنه لم

الشرط الثاني:

يصل إلى حدِّ اليقين، فإنه إذا حكم بذلك فقد حكم بما يستطيع، وقد قال الله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16] وأيضًا فإن الإنسان قد لا يصل إلى العلم القطعي، ولو أنَّا ألزمنا المفتين بألا يفتوا إلا بما اقتضى العلم لتعطلت كثير من الأحكام الشرعية .. فإن كثيرًا من الأحكام الشرعية مبني على الظن- بعد الاجتهاد-. وقوله: (وإلا وجب عليه التوقف): "وإلا": أي: وإلا يكن عارفًا يقينًا أو ظنًا يجب عليه التوقف. ويقال إن مالك بن أنس- رحمه الله- إمام دار الهجرة وهو أحد الأئمة الأربعة جاءه رجل من بلاد خراسان أرسله أهل البلد يسألونه عن مسألة، فسأله، فقال: "لا أدري "! قال: "فماذا أقول لأهل خراسان؟! " قال: "قل لهم إن الإمام مالكًا يقول: لا أدري). الشرط الثاني: قال الشيخ: (أن يتصور السؤال تصوّرا ًتاماً). قال في "الأصل" (ص/83): (فإذا أشكل عليه معنى كلام المستفتي سأله عنه، وإن كان يحتاج إلى تفصيل استفصله، أو ذكر التفصيل في الجواب، فإذا سئل عن امرئ هلك عن بنت وأخ وعم شقيق، فليسأل عن الأخ هل هو لأم أو لا؟ أو يُفَصِّلُ في الجواب، فإن كان لأم فلا شيء له، والباقي بعد فرض البنت للعم، وإن كان لغير أم فالباقي بعد فرض البنت له، ولا شيء للعم). الشرط الثالث: قال الشيخ: (أن يكون هادئ البال فلا يفتي حال انشغال فكره بغضب أو هم أو ملل أو غيرها). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 547): ((وهي) أي: الفتيا (في حالة غضب ونحوه) كشدة جوع، وشدة عطش، وهم، ووجع، وبرد مؤلم، وحر مزعج، ومع كونه حاقنا، أو حاقبا، أو نحو ذلك (كقضاء) فتحرم على الصحيح، كالصحيح في قضاء القاضي في تلك الحالة ويعمل بفتياه إن أصاب الحق، كما ينفذ

الشرط الرابع: ألا يترتب على الفتوى ما هو أكثر ضررا منها.

قضاؤه في تلك الحالة إن أصاب الحق) (¬1). قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (4/ 227): (ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد أو جوع مفرط أو هم مقلق أو خوف مزعج أو نعاس غالب أو شغل قلب مستول عليه أو حال مدافعه الأخبثين بل متى أحس من نفسه شيئا من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وكمال تثبته وتبينه امسك عن الفتوى فإن أفتى في هذه الحالة بالصواب صحت فتياه ولو حكم في مثل هذه الحالة فهل ينفذ حكمه أولا ينفذ؟ فيه ثلاثة أقوال: النفوذ وعدمه والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ وبين أن يكون سابقا على فهم الحكومة فلا ينفذ والثلاثة في مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى). والتفصيل هذا هو الأقوى، وقد فصل الشيخ في "الشرح" (ص/608) حالات الغضب فقال: (العلماء يقولون: إن الغضب له ثلاث مراحل: (أول، ونهاية، ووسط) أما (النهاية): فإنها تلحق صاحبه بالمجانين، فلا حكم لقوله أبدًا، فكل أقواله لا تُعتبر؛ لأنه مثل المجنون حتى وإن كان ذلك في طلاق امرأته، فلا تطلق. وأما (الابتداء وهو أول الغضب): فهذا لا أثر له- يعني: أن وجوده كعدمه، فَتُعتبر أقول أصحابه، ويؤاخذ بها. (الحال الثالثة للغضب): حال وسط: لا في أوله ولا في نهايته، فهذا موضع نزاع بين أهل العلم: هل يعفى عنه؟ بمعنى: هل تُعتبر أقوال صاحبه أو لا تعتبر، فلو طلق زوجته في هذه الحالة فهل تطلق أو لا تطلق؟ قال بعض العلماء: "تطلق " وقال آخرون: "لا تطلق "؛ لأن هذا الرجل مغلوب على أمره كأنه أكره على ذلك من غضبه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله). الشرط الرابع: ألا يترتب على الفتوى ما هو أكثر ضررا منها. قال الشيخ في "الشرح" (ص/618): (فإن ترتب عليها ما هو أكثر وجب الإمساك؛ وعلى هذا فينبغي أن يكون هذا الشرط شرطًا لجواز الفتوى لا لوجوبها (¬2)، فيشترط ¬

_ (¬1) انظر: المسودة (ص/486)، أصول ابن مفلح (4/ 1546)، صفة الفتوى لابن حمدان (ص/34). (¬2) ولذلك نقلت هذا الشرط هنا مع الشروط التي ذكرها الشيخ لجواز الفتوى، بعد أن كان ذكره في الأصل ضمن شروط وجوب الفتوى.

شروط وجوب الفتوى:

ألا يترتب على الفتوى ما هو أعظم ضررًا، فإن ترتب عليها ما هو أعظم فإنه يجب الإمساك). وهذه الشروط الأربعة إذا أختل شرط منها حرمت الفتوى (¬1). شروط وجوب الفتوى: الأول - وقوع الحادثة المسئول عنها: قال الشيخ: (ويشترط لوجوب الفتوى شروط منها: 1 - وقوع الحادثة المسئول عنها إلا أن يكون قصد السائل التعلم فإنه لا يجوز كتم العلم). قال الشيخ في "الشرح" (ص/611): (فلا بد أن تكون الفتوى واقعة فإن لم تكن واقعة لم تجب عليه الفتوى، وقد كان بعض السلف يفعل ذلك، إذا سئل عن مسألة قال: "هل وقعت؟ " إن قال السائل: "نعم" أجاب، وإن قال: "لا" قال: "نحن في عافية منه، فلا نجيبك حتى تقع ". وقوله: (إلا أن يكون قصد السائل التعلم) فحينئذ يجب عليه أن يفتيه). وينبغي تقييد ذلك بأن يكون السائل أهلا للجواب، وإلا لم يكن كتما للعلم. الثاني - ألا يكون في البلد غيره من أهل الفتيا: وقد أضاف الحنابلة شرطا آخر - وهو ألا يكون في البلد غيره من أهل الفتيا: قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 583): (لمفت ردها) أي: رد الفتيا (و) محله إذا كان (في البلد غيره) أي: الراد. وهو (أهل لها) أي: للفتيا (شرعا) وهذا الذي عليه جماهير العلماء؛ لأن الفتيا - والحالة هذه - في حقه سنة. وقال الحليمي الشافعي: ليس له ردها، ولو كان في البلد غيره؛ لأنه بالسؤال تعين عليه الجواب (وإلا) أي: وإن لم يكن في البلد غيره (لزمه الجواب) قطعا، ذكره أبو الخطاب وابن عقيل وغيرهما (إلا عما لم يقع) فإنه لا يلزمه الجواب عنه (و) إلا (ما لا يحتمله سائل) فإنه لا يلزمه إجابته (و) إلا (ما لا ينفعه) أي: ¬

_ (¬1) انظر شرح الأصول (ص/610).

الثالث - ألا يكون للسائل مقصد سيئ من السؤال:

ينفع السائل من الجواب، فإنه يلزمه أن يجيبه، وقد سئل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقال للسائل: أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟ وسئل عن مسألة في اللعان؟ فقال: سل - رحمك الله - عما ابتليت به، وسأله مهنا عن مسألة؟ فغضب وقال: خذ - ويحك - فيما تنتفع به، وإياك وهذه المسائل المحدثة، وخذ ما فيه حديث. وسئل عن مسألة؟ فقال: ليت إنا نحسن ما جاء فيه الأثر. ولأحمد عن ابن عمر " لا تسألوا عما لم يكن، فإن عمر نهى عن ذلك " وله أيضا عن ابن عباس، أنه قال عن الصحابة: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم، واحتج الشافعي على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه بقوله تعالى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [المائدة: 101] ... ). الثالث - ألا يكون للسائل مقصد سيئ من السؤال: قال الشيخ: (ألا يعلم من حال السائل أن قصده التعنت أو تتبع الرخص أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض أو غير ذلك من المقاصد السيئة). قال في "الشرح" (ص/613): (فإن علم أن قصده التعنت- يعني: الإشقاق على المسئول وإظهار عجزه- فإنه لا يجب عليه أن يجيب، فلو علمتَ أن هذا السائل لم يأت ليسأل إرادة للعلم، إنما أراد أن يسأل لإِظهار عجزك أمام الناس، فلك أن تقول: "لا أدري " أو: "لا أجيبك ". وكذلك إذا علمت أنه لما أخبرته بالحكم قال: "أين الدليل؟ " فأتيت بالدليل، فجعل يجادل: هذا الدليل يحتمل كذا وكذا، ويأتي له بألف احتمال، فهذا يُعرف منه أنه أراد التعنت، فلك أن تقول: "لا، ما عندي غير هذا"، ولا حرج عليك في هذا. ولهذا خيَّر اللهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الحكم وعدمه إذا سأله أهل الكتاب قال: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة: 42]، لأنهم لن يأتوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعرفة الحق، بل يريدون إعناته، وأحيانًا

ما يلزم المستفتي:

يريدون مصلحة لهم كما تحاكموا إليه في الزنى (¬1) ... ). ثم قال: (وهل الأولى أن نجيبه أو ندعه؟ الجواب أن يقال: في ذلك تفصيل: إذا كان متعنتًا فالمطلوب إهانته. وإهانته تكون على وجهين: فتارة تكون إهانته بإجابته وبيان بطلان حججه، فإذا كان في إجابته على حججه وإبطال حججه إهانة له؛ فالأولى أن يجاب، بل يجب، وإذا كان في هجره وعدم إجابته إهانة له؛ فإنه لا يجاب، فالإِنسان يعرف حاله: إذا كان هذا المتعنت قويًا عنيفًا بليغًا مُبينًا فالأولى ألا يجاب لاسيما إذا كان المسئول ليس بذاك القوي في الإِقناع، فإن بعض الناس يكون عنده علم ولكن ليس عنده قوة للمرافعة والمهاجمة فانسحابه من الأصل خير من كونه يتورط، وأما إذا كان عنده من القوة والمرافعة والمناظرة والعلم ما يستطيع أن يبدد به ظلام هذا الرجل فالأولى أن يجيبه حتى يكسر شوكته). ثم قال: (وقوله: (أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض): وهذا كثير الآن، يجيء المستفتي يسأل العالم ليرى ماذا عنده وليس قصده الحق، وإذا علم ما عنده ذهب إلى العالم الثاني وسأل وقال: ماذا تقول في كذا وكذا؟ قال: أقول كذا وكذا. قال: لكن فلان يقول: كذا وكذا، فما قصده؟! أي أنه يضرب رأي العالم الثاني برأي العالم الأول. وقد يريد أن يتبجح في المجالس يقول: أنا سألت فلانًا وقال: هذا حرام، وسألت فلانًا وقال: هذا حلال. ثم يضرب آراء العلماء بعضها ببعض). ما يلزم المستفتي: قال الشيخ: (الأول: أن يريد باستفتائه الحق والعمل به لا تتبع الرخص وإفحام المفتي وغير ذلك من المقاصد السيئة. الثاني: ألا يستفتي إلا من يعلم أو يغلب على ظنه أنه أهل للفتوى وينبغي أن يختار أوثق المفتين علماً وورعاً وقيل يجب ذلك). قال الشيخ العثيمين في رسالة "الخلاف بين العلماء" وهو يتكلم عن العامي: (فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن مَن يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكلٌّ يقول: إنه عالم، ¬

_ (¬1) فقد أرادوا أن يبدلوا حكم الله بألا يرجموا الشريف منهم.

أو كلٌّ يقال عنه: إنه عالم، فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى مَن هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل مَن شئت ممَّن تراه من أهل العلم، والمفضول قد يوفَّق للعلم في مسألة معيَّنة، ولا يوفَّق مَن هو أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟ فمنهم مَن يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل مَن يراه أوثق في علمه من علماء بلده، لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه مَن يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك مَن تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار مَن تراه أقوى علماً إذ لا فرق. ومنهم مَن يرى: أن ذلك ليس بواجب؛ لأن مَن هو أقوى عِلماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها، ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل. والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل مَن يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب، لأن من هو أفضل قد يخطأ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 571): (ولعامي تقليد مفضول) من المجتهدين عند الأكثر من أصحابنا، منهم: القاضي وأبو الخطاب وصاحب الروضة، وقاله الحنفية، والمالكية، وأكثر الشافعية، وقيل: يصح إن اعتقده فاضلا أو مساويا، لا إن اعتقده مفضولا؛ لأنه ليس من القواعد: أن يعدل عن الراجح إلى المرجوح، وقال ابن عقيل وابن سريج والقفال والسمعاني: يلزمه الاجتهاد. فيقدم الأرجح، ومعناه قول الخرقي والموفق في المقنع، ولأحمد روايتان، واستدل للأول بأن المفضول من الصحابة والسلف كان يفتي مع وجود الفاضل، مع الاشتهار والتكرار، ولم ينكر ذلك أحد، فكان إجماعا على جواز استفتائه مع القدرة على استفتاء الفاضل، وقال - تعالى - فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43، الأنبياء: 7] وأيضا: فالعامي لا يمكنه الترجيح لقصوره ولو كلف بذلك لكان تكليفا بضرب من الاجتهاد، لكن زيف ابن الحاجب ذلك بأن الترجيح يظهر بالتسامع

، ورجوع العلماء إليه، وإلى غيره لكثرة المستفتين، وتقديم العلماء له (ويلزمه) أي: ويلزم العامي (إن بان له الأرجح) من المجتهدين (تقليده) في الأصح، زاد بعض أصحابنا، وبعض الشافعية: في الأظهر. قال الغزالي: لا يجوز تقليد غيره، قال النووي: وهذا، وإن كان ظاهرا ففيه نظر، لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة مع وجود أفاضلهم. (ويقدم الأعلم) من المجتهدين (على الأورع) في الأصح؛ لأن الظن الحاصل بالأعلم؛ ولأنه لا تعلق لمسائل الاجتهاد بالورع (ويخير) العامي (في) تقليد أحد (مستويين) عند الأكثر من أصحابنا وغيرهم، قال في الرعاية: ولا يكفيه من لم تسكن نفسه إليه فلا بد من سكون النفس والطمأنينة به، وقيل لأحمد: من نسأل بعدك؟ قال: عبد الوهاب الوراق، فإنه صالح، مثله يوفق للحق) (¬1). وعند اختلاف المفتين، وتعارض الفتاوى فللعلماء أقوال فيما يلزم المستفتي: أحدها: يأخذ بأغلظهما، والثاني: بأخفهما، والثالث: يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع، والرابع: يسأل مفتياً آخر فيأخذ بفتوى من وافقه، والخامس: يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء (¬2). وقال الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/486): (يجوزُ للعاميّ أنْ يسألَ مَن شاء من المفتين، وله أنْ يسألَ المفضولَ مع وجود الفاضل، عند أكثر العلماء. واستدلُّوا على ذلك: بالإجماع؛ أخذاً مما عليه الحالُ وقتَ الصحابة والتابعين، فإن العوامَّ كانوا يسألون المفضولَ فيُفتيهم، ولا يأمرُهم بسؤال الفاضل. ولم يُعهدْ عن أحدٍ من الصحابة أنه كان لا يُفتي مع وجود الأفضل منه في البلدة، وقد أفتى ابنُ عباسٍ وابنُ عمر في حياة الخلفاء الأربعة، رضي الله عنهم أجمعين. ¬

_ (¬1) انظر التحبير (8/ 4080). (¬2) انظر: آداب الفتوى والمفتي والمستفتي (ص/47)، التمهيد (4/ 403)، المسودة (ص/411)، مجموع الفتاوي لابن تيمية (33/ 168)، صفة الفتوى (ص/80)، إعلام الموقعين (4/ 264)، الإحكام للآمدي (4/ 243)، آداب الفتوى للنووي (ص/77)، التقليد وأحكامه للشثري، وقد توسع في عرض القوال وأدلتها ومناقشتها (ص/162).

الاجتهاد

الواجب على المستفتي إذا تعارضت الفتاوى: أنْ يأخذَ بفتوى الأعلم من المفتين، فإنْ تساووا أخذَ بقول الأتقى والأورع، فإنْ جهل الأعلمَ أو الأورعَ سأل العارفين بهم عن ذلك، ثم أخذ بمَن يغلب على ظنه أنه الأعلمُ أو الأتقى. والدليل على صحّته: أن فتوى العالم عند العاميّ كالدليل عند المجتهد، وإذا تعارضت الأدلّةُ عند المجتهد وجب عليه طلبُ الترجيح، فكذلك العاميّ إذا تعارضتْ عنده الفتاوى). الاجتهاد تعريف الاجتهاد: لغة: قال الشيخ: (الاجتهاد لغة: بذل الجَهد لإدراك أمر شاق). قال الطوفي في "مختصر الروضة" (ص/173): (الاجتهاد لغة: بذل الجهد في فعل شاق، فيقال: اجتهد في حمل الرحى لا في حمل خردلة) (¬1). الاجتهاد: افتعال من جهد يجهد: إذا تعب، والجهد بضم الجيم وفتحها: الطاقة، وبفتحها فقط: المشقة. قال الزبيدي في "تاج العروس" (الجَهْدُ)، بالفتح: (الطَّاقَةُ) والوُسْع، (ويُضَمّ. و) الجَهْد، بالفتح فقط: (المَشَقَّة). قال ابن الأَثير: قد تكرَّرَ لفْظ الجَهْد والجُهْد في الحديث، وهو بالفتح المَشقَّة، وقيل المُبالغةُ والغاية. وبالضّمّ: الوُسْعُ والطّاقَةُ، وقيل: هما لغتانِ في الوُسْع والطّاقَة، فأَمّا في المَشقّة والغايةِ فالفتحُ لا غَيرُ، ويريدُ به في حديث أُمّ مَعْبد في الشَّاةِ الهُزالَ. ومن المضموم حديثُ الصَّدَقة: (أَيُّ الصَّدَقة أَفضل؟ قال: جُهْدُ المُقِلّ) أَي قَدْرُ ما يَحتمله حالُ القليلِ المالِ. (و) في التنزيلِ: (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) [التوبة: 79] قال الفراءُ: الجُهْد في هذه الآيةِ الطاقَةُ، تقولُ: هذَا جُهْدِي، أَي طَاقَتي. وقُرِىء (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) و (جُهْدَهُمْ)، بالضّمّ والفتح، الجُهْد، بالضّمّ: الطَّاقَة، والجَهْد، بالفتح، من قولك (اجَهَدْ جَهْدَك ¬

_ (¬1) انظر: قواعد الأصول (ص/101)، المختصر في أصول الفقه (ص/163).

اصطلاحا

) في هذا الأَمْرِ، أَي (ابلغْ غايَتَك). (وجَهَدَ، كمنَعَ)، يَجْهَد جَهْداً: (جَدَّ، كاجْتَهَدَ. و) جَهَدَ (دَابَّتَه) جَهْداً (: بَلَغَ جَهْدَهَا)، وحَمَل عليها في السَّيْر فوقَ طاقتِها، (كأَجْهَدَهَا). وفي (الصّحاح): جَهَدْته وأَجْهَدْته بمعنًى. قال الأَعشى: فجَالَتْ وَجَالَ لَهَا أَرْبَعٌ ... جَهَدْنَ لها مَعَ إِجْهَادِهَا) (¬1). اصطلاحا: قال الشيخ: (واصطلاحاً: بذل الجَهد لإدراك حكم شرعي). وتعريف الشيخ قريب من تعريف ابن قدامة في الروضة، والطوفي في مختصرها وابن مفلح في "أصوله". فقد عرفه ابن قدامة في الروضة (ص/352) بقوله: (بذل المجهود في العلم بأحكام الشرع). وعرفه الطوفي في "البلبل" (ص/173): (بذل الجهد في تعرف الحكم الشرعي). وعرفه ابن مفلح في "أصوله" (4/ 1469): (استفراغ الفقيه وسعه لدرك حكم شرعي). وبعض هذه التعاريف فيه دور (¬2)، كما أنها غير جامعة، ولابد من إضافة بعض القيود لها، وبيان ذلك كالتالي (¬3): أولا - استعماله لكلمة: "الجَهد" في تعريف الاجتهاد فيه دور. ثانيا - يدخل فيه بذل الجهد من غير الفقيه كالنحوي وغيره، ويدخل فيه إدراك المقلد للأحكام الشرعية فهو إدراك لا عن طريق النظر والاستدلال بل عن طريق حفظه للمتون أو حفظ النصوص الشرعية الدالة على الحكم صراحة. ¬

_ (¬1) انظر مادة (ج هـ د) في: مشارق الأنوار، مختار الصحاح، لسان العرب، المعجم الوسيط. (¬2) وكذا تعريف ابن مفلح على قول سيأتي. (¬3) وسوف نقتصر بالكلام على تعريف الماتن، ويظهر ما في الباقي تبعا.

وعليه فالتعريف المختار للاجتهاد هو: (بذل الفقيه وسعه لاكتساب حكم شرعي ظني عملي من أدلته التفصيلية) (¬1). فقولنا: (بذل وسعه) إخراج للتقصير في النظر والاكتفاء من ذلك ببعض الوسع الذي يمكنه أن يزيد عليه. وقولنا: (الفقيه) المراد به هنا المتهيئ لمعرفة الأحكام، فهي أولى من قول من قيد التعريف بقوله: (ممن هو أهله). وظاهر صنيع ابن الحاجب وغيره من ذكر هذا القيد قصد الفقيه نفسه لا تهيؤه، وهذا يلزم منه الدور. وحجته أن قوله (استفراغ الوسع) جنس يدخل فيه الفقيه وغيره، فذكر قيد: الفقيه احتراز عن استفراغ غير الفقيه وسعه. ولا يزال الدور يلزمه أيضا. وقد اعترض التفتازاني في "حاشيته على شرح المختصر" (3/ 579) على كلام ابن الحاجب فقال: (قوله: (احتراز عن استفراغ غير الفقيه) الظاهر أنه لا وجه لهذا الاحتراز، فإنه لا يصير فقيها إلا بعد الاجتهاد، اللهم إلا أن يراد بالفقه التهيؤ لمعرفة الأحكام ... ). واعتراض التفتازاني وجيه فذكر الفقيه في تعريف الاجتهاد يلزم منه الدور،، فمعرفة الفقيه تتوقف على معرفة الاجتهاد، فالفقيه لا يصير فقيها إلا بعد الاجتهاد. ولا يقال أن هذا القيد بالتفسير الذي ذكرناه يستغني عنه بقيد اكتساب أو استنباط المذكورة عقبه في التعريف؛ لأنا استفدنا من هذا القيد صفة المكتسب أو المستنبط، وفرق بين القدرة على الاكتساب أو الاستنباط والاكتساب أو الاستنباط نفسه، والحدود تحتاج إلى بيان وإيضاح. ¬

_ (¬1) وهذا التعريف مستفاد من تعريف الشيخ علي عباس الحكمي في "الاجتهاد ومدى الحاجة إليه في الفقه الإسلامي" (ص/1) إلا أني عدلت بعض ألفاظه وزدت عليه قيد (الظنية)، وانظر في تعريف الاجتهاد: أصول ابن مفلح (4/ 1469)، روضة الناظر (ص/352)، شرح مختصر الروضة (3/ 576)، قواعد الأصول (ص/101)، التحبير (8/ 3865)، صفة الفتوى (ص/14)، شرح الكوكب (3/ 576)، المدخل (ص/367)، المختصر في أصول الفقه (ص/163).

وقولنا: (لاكتساب) بمعنى لاستنباط، وإنما قيدنا التعريف بهذا القيد؛ ليخرجَ بذلُ الوُسع لإدراك الحكم الشرعيِّ بحفظ متون الفقه، أو بحفظ النصوص الشرعية الدالّة صراحةً على الحكم، فهذا العملُ - وإنْ كان اجتهاداً في اللُّغة - لكنه ليس اجتهاداً في الاصطلاح. قولنا: (شرعي)، قال الشيخ علي عباس الحكمي في "الاجتهاد ومدى الحاجة إليه في الفقه الإسلامي" (ص/3): (والشرعي: إخراج للأحكام العقلية والحسية واللغوية، فإن اجتهاد الفقيه في شيء من ذلك لا يسمى اجتهادا شرعيا. واعتراض زكريا الأنصاري: بأنه لا يحتاج إلى هذا القيد نظرا إلى حيثية كون المستنبط فقيها، يجاب عنه: بأن المقصود من التعريف إيضاح المعرف، وتبيينه ومنع دخول ما سواه، وهو يقتضي ذكر هذا القيد، ليخرج الاجتهاد في غير الأحكام الشرعية، وأما النظر إلى حيثية كون المستنبط فقيها فإن ذلك غير ظاهر في منع ما سوى الحكم الشرعي وإخراجه من التعريف ولو سلم فلا يكفي بالالتزام في التعريف. وقولنا: (ظني) أي أن مجال الاجتهاد إنما هو في الأحكام الشرعية العملية ظنية الثبوت أو الدلالة أو كلاهما، أو النوازل التي لا نص فيها أصلا دون المسائل قطعية الثبوت والدلالة. قال الشيخ بكر أبو زيد في " المدخل المفصل" (1/ 82) مبينا مجالات الاجتهاد: (الأَحكام تدور في قالبين: الأول: ما كان من كتاب أو سنة أو إِجماع قطعي الثبوت والدلالة، أو معلوماً من الدِّين بالضرورة، كمسائل الاعتقاد وأَركان الإسلام، والحدود، والفضائل، والمقدرات كالمواريث، والكفارات ... ونحو ذلك. فهذه لا مسرح للاجتهاد فيها بإِجماع، وطالما أَنَّها ليست محلاً للاجتهاد فلا يُقال فيها: كل مجتهد مصيب، بل المجتهد فيها مقطوع بخطئه وإثمِه، بل وكفره في مواضع. الثاني: ما سوى ذلك؛ وهو ما كان بنص قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو عكسِهِ، أو طرفاه ظنيان، أو لا نص فيه مطلقاً من الواقعات والمسائل، والاقضيات المستجدة، فهذه محل الاجتهاد في أُطرِ الشريعة، وعلى هذا معظم أَحكام الشريعة؛ فهذا محل الاجتهاد ومجاله).

قيد وتوضيحه:

قيد وتوضيحه: لا خلاف في أن المجتهد فيما هو مقطوع به مخطئ وآثم، إلا أن تقي الدين ابن تيمية خصَّ ذلك بما إن خفي الدليل القطعي فيكون حينئذ المجتهد معذورا. قال في "المسودة" (ص/441): (ذكر أبو المعالي أن المسائل قسمان قطعية ومجتهد فيها والقطعية عقلية وسمعية فالعقلي ما أدرك بالعقل سواء كان لا يدرك الا به كوجود الصانع وتوحيده وكونه متكلما ... قال: أو كان مما يدرك بالعقل والسمع جميعا كمسألة الرؤية وخلق الأفعال، وأما الشرعية فما عرف من أحكام التكليف بنص كتاب، أو سنة متواترة، أو بإجماع كوجوب الصلوات وكتقديم خبر الواحد على القياس إذا كان نصا. والمجتهدات ما ليس فيه دليل مقطوع به. قلت: تضمن هذا أن ما يعلم بالاجتهاد لا يكون قطعيا قط، وليس الأمر كذلك فرب دليل خفى قطعي. قال: وقد تكلموا في الفرق بين الأصول والفروع، فقيل: الأصل ما فيه دليل قطعي، والفرع بخلافه. فعند هؤلاء الأصل ما عددناه قطعيا، وعبر عنه القاضي بأن كل مسألة يحرم الخلاف فيها مع استقرار الشرع ويكون معتقد خلافها جاهلا فهي من الأصول عقلية كانت، أو شرعية، والفرع ما لا يحرم الخلاف فيه، أو ما لا يأثم المخطئ فيه. قلت: كثير من مسائل الفروع قطعي، وإن كان فيها خلاف وإن كان لا يأثم المخطئ فيها لخفاء الدليل عليه كما قد سلمه فيما إذا خفى عليه النص). وهذا فرض جدلي إذا أن المفترض أن الأدلة القطعية لا تخفى على المجتهد، إلا أنه يقال: إن خفى الدليل القطعي على المجتهد لسهو أو نسيان أو غفلة فهو معذور غير مخطئ، وعليه فاجتهاده في هذه الحالة إنما كان لعدم علمه بالدليل القطعي، فهذا على خلاف الأصل، وهذه الحالة لا ينقض بها الأصل العام من أنه لا اجتهاد في المسائل القطعية. وباقي قيود التعريف سبق شرحها في حد الفقه.

تعريف المجتهد:

تعريف المجتهد: قال الشيخ: (المجتهد: من بذل جهده لذلك). وتعريفه عندي على اعتبار تفسير الفقيه في تعريف الاجتهاد بأنه التهيؤ لمعرفة الأحكام الشرعية يكون: (الفقيه الذي يبذل وسعه لاكتساب حكم شرعي ظني عملي من أدلته التفصيلية). وأما على اعتبار أن كلمة الفقيه المراد به من توفرت فيه شروط الاجتهاد فيكون التعريف: (من بذل وسعه لاكتساب حكم شرعي ظني عملي من أدلته التفصيلية). وكما سبق أن الأول أولى. شروط الاجتهاد تكلم الشيخ عن بعض شروط الاجتهاد وترك الكلام على بعض الشروط الأخرى الهامة كإسلام المجتهد فالاجتهاد عبادة والإسلام شرط في كل عباده (¬1)، وغير المسلم مهما بلغ من العلم بعلوم الشريعة لا يُقبلُ اجتهادُه (¬2). وأن يكون عاقلا؛ لأن من لا عقل له لا يدرك علما، لا فقها ولا غيره (¬3).وأن يكون بالغا أو مميزا على الخلاف الوارد في اشتراط ذلك، إلى غير ذلك من الشروط. - الشرط الأول: قال الشيخ: (أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها) (¬4). لم يختلف العلماء في اشتراط معرفة أدلة الأحكام في الجملة، ولكن وقع الخلاف في عدد هذه الأدلة. ¬

_ (¬1) انظر حاشية المطيعي على نهاية السول (4/ 547). (¬2) "أصول الفقه" لعياض السلمي (ص/451). (¬3) "التحبير" (8/ 3870). (¬4) انظر: العدة (5/ 1594)، وروضة الناظر (ص/352)، والتحبير (8/ 3870)، ومختصر ابن اللحام (ص/163)، والمدخل (ص/368).

وسبب اختلافهم هل يكتفي بمعرفةُ الآيات والأحاديث الدالة على الأحكام بطريق النصّ أو الظاهر، دون ما دل على الأحكام بطريق الإشارة أو مفهومِ المخالفة، ونحوِهما من طرق الدلالة الخفيّة. فمن قال بالأول قال بحصر الأدلة فقالوا من الآيات يكتفى بخمسمائة آية (¬1) وقيل تسعمائة (¬2)، وقيل غير ذلك (¬3). ومن قال بالثاني لم يحصر الآيات في آيات الأحكام وحسب بل زاد ما يتعلق بالوعد والإخبار عن أمور الآخرة أو القرون السالفة والأقاصيص والمواعظ ونحوهم، فقل أن يوجد في القرآن الكريم آية إلا ويستنبط منها شيء (¬4). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 577): (أما الكتاب: فالواجب عليه أن يعرف منه ما يتعلق بالأحكام، وهو قدر خمسمائة آية، كما قال الغزالي وغيره، والصحيح أن هذا التقدير غير معتبر، وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصر، فإن أحكام الشرع كما تستنبط من الأوامر والنواهي؛ كذلك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها، فقل أن يوجد في القرآن آية إلا ويستنبط منها شيء ¬

_ (¬1) نقل ذلك عن الغزالي والرازي وابن قدامة وابن العربي، وغيرهم ولعلهم ذهبوا لذلك لما رأوا مقاتل بن سليمان أول من أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية. (¬2) نقل عن ابن المبارك، وانظر رسالة "الاجتهاد في الإسلام" (ص/66). (¬3) قال المرداوي في "التحبير" (8/ 3871): (وقد قيل: إن آيات الأحكام مائة آية، حكاه ابن السيوطي في شرح منظومته ' جمع الجوامع ' وحكى البغوي عند قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة: 269] ' عن الضحاك أنه قال: في القرآن مائة آية وتسع آيات ناسخة ومنسوخة، وألف آية حلال وحرام، لا يسع المؤمنين تركهن حتى يتعلموهن ' انتهى). (¬4) قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 460): ("و" أن يكون عالما ب "الأدلة السمعية مفصلة، واختلاف مراتبها" وليس المراد: أن يعرف سائر آيات القرآن، وجميع أحاديث السنة، وإنما المراد: ما يحتاج إلى معرفته. "فمن الكتاب والسنة: ما يتعلق بالأحكام" وقد ذكروا أن الآيات خمسمائة آية، وكأنهم أرادوا ما هو مقصود به الأحكام بدلالة المطابقة أما بدلالة الالتزام: فغالب القرآن، بل كله؛ لأنه لا يخلو شيء منه عن حكم يستنبط منه). وقال الرزكشي في البحر المحيط (4/ 490): (قال ابن دقيق العيد: «ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والالتزام»).

من الأحكام. وكأن هؤلاء الذين حصروها في خمسمائة آية إنما نظروا إلى ما قصد منه بيان الأحكام دون ما استفيدت منه، ولم يقصد به بيانها. قوله: «وكذلك من السنة»، أي: ويشترط أن يعرف من السنة الأحاديث التي تتعلق بالأحكام، كما يشترط أن يعرف الآيات التي تتعلق بها من القرآن قلت: فالكلام هنا في التقدير، كالكلام هناك، أعني أن استنباط الأحكام لا يتعين له بعض السنة دون بعض، بل قل حديث يخلو عن الدلالة على حكم شرعي). وأيد السيوطي ما أشار إليه الطوفي من عدم الحصر لأدلة الأحكام وأحاديثها حيث قال في رسالته " الرد على من أخلد إلى الأرض" (ص/150): (ذكر الغزالي في المستصفى: إنه لا يلزم في الاجتهاد الإحاطة بجميع نصوص الكتاب والسنة، بل تكفيه الإحاطة بما يتعلق منها بالأحكام، وهو خمسمائة آية من الكتاب، وأحاديث مضبوطة من السنة بالكتب، وإن لم تكن محصورة .. ولا حاجة إلى معرفة ما يتعلق منها بالوعد والإخبار عن أمور الآخرة أو القرون السالفة. واستشكله التبريزي في تنقيحه قال: بأن العلم بحصر دلائل الأحكام يتوقف على استقراء جميع جمل الكتاب والسنة وفهم مقاصدها، فكيف يجوز له الاقتصار على علم بعضها؟ وكيف يأمن أن يكون وراء ما حوى وحصر أدلة يمكن استفادة حكم الواقعة منها؟؛ فإن وجوه أدلة الدلائل قد تختلف باختلاف نظر المجتهدين فيختص البعض بدرك ضروب منها، ولهذا عد من خاصية الشافعي - رضي الله عنه - التفطن لدلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أستيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده) على نجاسة الماء القليل بوقوع النجاسة فيه من غير تغيير، ودلالة قوله عليه السلام أن إحداهن تمكث شطر دهرها لا تصم ولا تصلي على تقدير أكثر مدة الحيض بخمسة عشر يوما. ودلالة قوله تعالى: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [مريم: 92، 93] على أن من ملك ولده عتق عليه، وما أظن أن أهل الحصر عدوا هذه الآية من أدلة الأحكام - انتهى كلام التبريزي. وقال الزركشي في البحر: ضبط بعضهم معرفة ما يحتاج إليه من السنن المتعلقة

بالأحكام بثلاثة آلاف حديث. وشدد أحمد فسئل كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي، أيكفيه مائة ألف؟ .. قال: لا. قيل: مائتا ألف؟ قال: لا. قيل: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا. قيل: أربعمائة ألف؟ قال: لا. قيل خمسمائة الف؟ قال: أرجو. قال الزركشي: وكان مراده بهذا العدد آثار الصحابة والتابعين، وطرق المتون، ولهذا قال: من لم يجمع طرق الحديث لم يحل له الحكم ولا الفتيا .. قال بعض أصحابه: ظاهر هذا أنه لا يكون من أهل الاجتهاد حتى يحفظ هذا العدد ... ). وقد اختار الشيخ عياض السلمي أنه يكتفى بمعرفة الأدلة الدالة على الأحكام بطريق النصّ أو الظاهر دون ما كانت دلالته خفية، فقال في "أصوله" (ص/451): (معرفةُ الآيات والأحاديث الدالة على الأحكام بطريق النصّ أو الظاهر، ومعرفة ما يصِحُّ من تلك الأحاديث وما لا يصِحُّ. أما الآياتُ والأحاديثُ الدالّةُ بطريق الإشارة أو مفهومِ المخالفة، ونحوِهما من طرق الدلالة الخفيّة، فلا يُشترَطُ معرفتُها، كما لا يلزمُ معرفةُ أكثر من دليلٍ واحدٍ على الحكم، إذا لم تكنْ في الدليل الآخَر زيادةُ حكمٍ تتعلَّقُ بشروطه أو قيوده، ونحو ذلك. والدليلُ على اشتراط هذا القدر: أن مَن اجتهد قبلَ تحصيله فقد يُخالفُ المنصوصَ عليه في القرآن أو السنة، فيكونُ اجتهادُه باطلاً. وأما الدليلُ على عدم اشتراط ما زاد على ذلك فهو: أن الصحابةَ كانوا يجتهدون مع غفلتهم عن بعض ما دلّ عليه القرآن بطريق الإشارة أو الالتزام، ولم يكن اجتهادُهم واقعاً ممن ليس أهلاً. ولما عُرفَ عنهم من أنهم يعذرون المخطئَ إذا لم يكن الدليلُ ظاهراً قوياّ. ومما يُؤيِّدُ ما ذكرته أن الإحاطةَ بكلِّ ما في القرآن من المعاني ليس ممكناً، فلو اشترطنا ذلك لما تمكن أحدٌ من الاجتهاد).

فائدة:

والأليق بحال المجتهد الشرط الأول وعدم الاكتفاء بمعرفة الأدلة الدالة على الأحكام بطريق النصّ أو الظاهر دون ما كانت دلالته خفية. وحصر الأدلة في عدد معين لا دليل عيه، وأحكام الشرع كما تستنبط من الأوامر والنواهي؛ كذلك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها، فقل أن يوجد في القرآن آية إلا ويستنبط منها شيء من الأحكام. وليس معنى ذلك أن المجتهد يستحضر جميع ما ورد في المسالة من أدلة بل يجتهد قدر طاقته وهو دائر بين الأجر والأجرين. والصحابة هم أعلم الناس بالأدلة ووجوه دلالتها على الأحكام، إلا أنه قد يخفى على بعضهم بعض الأدلة سواء أكانت دلالتها على الحكم ظاهرة أم خفية، وليس معنى هذا الاكتفاء ببعض الأدلة دون بعض بل المقصود وجود ملكة الاستنباط وبذل الوسع في معرفة الحكم الشرعي. وأما القول بأن الإحاطةَ بكلِّ ما في القرآن من المعاني ليس ممكناً، فلو اشترطنا ذلك لما تمكن أحدٌ من الاجتهاد، فليس بصحيح فمن عرف دلالات الألفاظ، وأصول الفقه سهل عليه استنباط الأحكام من الأدلة بالقوة القريبة، وإنما يكفيه أن يستقرئ الأدلة للوصول للحكم الشرعي، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد جمعت السنة في دواوين وسهل الوقوف على الأدلة أكثر من ذي قبل. فائدة: قال الطوفي في " شرح مختصر الروضة" (3/ 578): (قوله: «بحيث يمكن استحضارها للاحتجاج بها، لا حفظها»، أي: القدر المعتبر معرفته للمجتهد من القرآن الكريم لا يشترط في حقه أن يحفظه، وإن حفظه، فلا يشترط حفظه بلفظه، بل يكفيه أن يكون مستحضرا، بمعنى أنه يعرف مواقعه من مظانه، ليحتج به عند الحاجة إليه، لأن مقصود الاجتهاد - وهو إثبات الحكم بدليله - يحصل بذلك) (¬1). وقد ذهب بعض العلماء إلى اشتراط حفظ جميع القرآن: فقد نقله ابن عقيل عن كثير من العلماء فقال في "الواضح" (1/ 270): (ويجب عند كثير من أهل العلم أن ¬

_ (¬1) انظر: "شرح الكوكب المنير" (4/ 461).

الشرط الثاني:

يكون حافظا لكتاب الله جميعه، ومحيطا بالسنن المتضمنة للأحكام. وذهب المحققون إلى أنه يلزمه أن يحفظ من الآي ما يتعلق به أحكام الفقه، وما هو ناسخ ومنسوخ وتاريخ ذلك وفي ذلك كفاية له عن القصص والمواعظ والأمثال والزواجر إذ لا يتعلق بذلك حكم شرعي ... ). وقال ابن اللحام في " المختصر في أصول الفقه" (ص/ 163): (نقل القيرواني في المستوعب عن الشافعي أنه يشترط في المجتهد حفظ جميع القرآن ومال إليه أبو العباس) (¬1). والقول الأول من أنه لا يشترط في المجتهد حفظ ما يتعلق بالأحكام من الأدلة، حيث أمكنه استحضار ذلك عند إرادة الاحتجاج أولى، وذلك لأن مقصود الاجتهاد من إثبات الحكم بدليله يحصل بمجرد الاستحضار دون الحفظ. الشرط الثاني: قال الشيخ: (أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه). قال الطوفي في "مختصر الروضة" - (ص / 174) وهو يتكلم عن شرط المجتهد: (معرفة صحة الحديث اجتهادا كعلمه بصحة مخرجه وعدالة رواته، أو تقليدا كنقله من كتاب صحيح ارتضى الأئمة رواته) (¬2). قال ابن النجار في " شرح الكوكب " (4/ 461): ("و" يشترط في المجتهد أيضا: أن يكون عالما ب "صحة الحديث وضعفه" سندا ومتنا، ليطرح الضعيف حيث لا يكون في فضائل الأعمال، ويطرح الموضوع مطلقا، وأن يكون عالما بحال الرواة في القوة والضعف، ليعلم ما ينجبر من الضعف بطريق آخر "ولو" كان علمه بذلك "تقليدا كنقله" ذلك "من كتاب صحيح" من كتب الحديث المنسوبة لأئمته كمالك وأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والدارقطني والترمذي والحاكم وغيرهم؛ لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجاز الأخذ بقولهم، كما يؤخذ بقول المقومين في القيم) (¬3). ¬

_ (¬1) انظر أيضا: (شرح مختصر الروضة (3/ 578)، التحبير (8/ 3868). (¬2) انظر مختصر ابن اللحام (ص/163). (¬3) انظر: التحبير (8/ 3875)، وروضة الناظر (ص/353).

الشرط الثالث:

الشرط الثالث: قال الشيخ: (أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع). وعبارة الشيخ تضمنت شرطين وهما: معرفة الناسخ والمنسوخ، ومواقع الإجماع. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 580): (قوله: «والناسخ والمنسوخ منهما»، أي: من الكتاب والسنة، لأن المنسوخ بطل حكمه، وصار العمل على الناسخ، فإن لم يعرف الناسخ من المنسوخ، أفضى إلى إثبات المنفي، ونفي المثبت، وقد اشتدت وصية السلف واهتمامهم بمعرفة الناسخ والمنسوخ، حتى روي عن علي - رضي الله عنه - أنه رأى قاصا يقص في مسجد الكوفة وهو يخلط الأمر بالنهي والإباحة بالحظر، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، ثم قال له: أبو من أنت؟ قال: أبو يحيى، قال: أنت أبو اعرفوني، ثم أخذ أذنه ففتلها، وقال: لا تقص في مسجدنا بعد. «ويكفيه» من معرفة الناسخ والمنسوخ أن يعرف «أن دليل هذا الحكم غير منسوخ»، يعني ولا يشترط أن يعرف جميع الأحاديث المنسوخة من الناسخة، والإحاطة بمعرفة ذلك أيسر من غيره، لقلة المنسوخ بالنسبة إلى المحكم من الكتاب والسنة. وقد صنف في ناسخ القرآن ومنسوخه أبو جعفر النحاس، والقاضي أبو بكر بن العربي، ومكي صاحب «الإعراب»، ومن المتقدمين هبة الله بن سلامة، ومن المتأخرين ابن الزاغوني، وابن الجوزي وغيرهم، وفي ناسخ الحديث ومنسوخه الشافعي، وابن قتيبة، وابن شاهين، وابن الجوزي، وغيرهم، ويعرف ذلك معرفة جيدة من تفاسير القرآن والحديث البسيطة كتفسير القرطبي، وشرح مسلم للنواوي، وغيرهما. وقد سبقت الطرق التي يعرف بها الناسخ والمنسوخ ... قوله: «ويكفيه معرفة أن هذه المسألة مجمع عليها أم لا». هذا كما سبق في القدر الكافي من الناسخ والمنسوخ، وهو أن يعلم أن هذه المسألة مما أجمع عليه، أو مما اختلف فيه، ولا يشترط أن يعلم الإجماع والخلاف في جميع المسائل، ولعل هذا ينزع إلى تجزؤ الاجتهاد على ما سيأتي إن شاء الله تعالى) (¬1). ¬

_ (¬1) انظر أيضا: روضة الناظر (ص/353)، التحبير (8/ 3872، 3873)، شرح الكوكب (4/ 461، 464)، المدخل (ص/371، 372).

الشرط الرابع:

الشرط الرابع: قال الشيخ: (أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص أو تقييد أو نحوه). يعني أنه يشترط أن يعرف المجتهد الأدلة الخاصة التي تخصص العام، والمقيدة التي تقيد الأدلة المطلقة، وقوله: (أو نحوه) فسره بقوله: (ما يرد على النصوص من الشرط والاستفهام وغير ذلك) (¬1). وهذا الشرط يدخل في الشرط الأول الذي ذكره الشيخ، وله تعلق بالشرط التالي، فلا داعي لعده شرطا زائدا. الشرط الخامس: قال الشيخ: (أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين ونحو ذلك). تضمن كلام الشيخ اشتراط العلم بأصول الفقه، وبعض ما يحتاج إليه المجتهد من اللغة. قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 581): (يشترط للمجتهد أن يعرف «من النحو واللغة ما يكفيه في معرفة ما يتعلق بالكتاب والسنة من نص وظاهر، ومجمل، وحقيقة ومجاز، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، ودليل خطاب ونحوه»، كفحوى الخطاب ولحنه ومفهومه، لأن بعض الأحكام يتعلق بذلك ويتوقف عليه توقفا ضروريا، كقوله - عز وجل -: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، يختلف الحكم برفع (الجروح) ونصبها (¬2) كما سبق في أن شرع من قبلنا شرع لنا، وكقوله - ¬

_ (¬1) شرح الأصول (ص/630). (¬2) قال محقق شرح الكوكب المنير (4/ 463): (قرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة بالنصب "والجروح قصاص"، وقرأها ابن كثير وعامر وأبو عمرو وأبو جعفر بالرفع، استئنافا عما قبلها، كما قرأها الكسائي وأبو عبيد بالرفع وعطف الجمل في الآية: "وكتبنا عليهم فيها: أن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص"، ويختلف المعنى بحسب كل قراءة، قال ابن المنذر: "ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام يتضمن بيان الحكم للمسلمين" أي وليس مكتوبا في التوراة، ويلتزم به المسلمون جميعا، ويكون أول الآية من شرع من قبلنا، وفيه اختلاف بين الأئمة والعلماء).

عليه السلام -: " لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ " الرواية بالرفع وهو يقتضي أن الأنبياء لا يورثون مطلقا، ورواه الشيعة «صدقة» بالنصب (¬1) وهو يقتضي نفي الإرث عما تركوه للصدقة، ومفهومه أنهم يورثون غيره من الأموال، حتى إنهم بناء على ذلك ظلموا أبا بكر - رضي الله عنه - وشنعوا عليه بأنه منع فاطمة حقها، وكقوله - عليه السلام -: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رواه الشيعة بالنصب أبا بكر وعمر على النداء، أي: يا أبا بكر، فعلى رواية الجر هما مقتدى بهما، وعلى رواية النصب هما مقتديان بغيرهما، وكذلك قوله - عليه السلام - في حديث محاجة آدم وموسى: فحج آدم موسى برفع آدم على أنه فاعل وموسى مفعول، وعكس القدرية ذلك، فنصبوا آدم تصحيحا لمذهب القدر (¬2). وقد فرق الفقهاء بين من يعرف العربية وغيره في مسائل كثيرة من باب الطلاق والإقرار على ما تقرر في كتب الفقه، وبنى محمد بن الحسن على قواعد العربية كثيرا من ذلك، كفرقه بين قول القائل: أي عبيدي ضربك فهو حر، وبين قوله: أي عبيدي ضربته، فهو حر، وذكر الجرجاني جملة من ذلك في كتاب مفرد، وذكرت كثيرا من ذلك في كتاب «الرد على منكري العربية». ¬

_ (¬1) قال العراقي في " طرح التثريب" (6/ 206): (هذه الرواية صريحة في الرد على بعض جهلة الشيعة حيث قال في الرواية التي سقناها من مسلم ما تركنا صدقة أنه بالنصب على أن ما نافية وهو غلط قبيح بل هو بالرفع وما موصولة وروايتنا صريحة في ذلك لقوله فيها فهو صدقة). (¬2) قال الشيخ العثيمين في شرح لمعة الاعتقاد (ص/162): (القدرية: وهم الذين يقولون بنفي القدر عن أفعال العبد، وأن للعبد إرادة وقدرة مستقلتين عن إرادة الله وقدرته، وأول من أظهر القول به معبد الجهني في أواخر عصر الصحابة تلقاه عن رجل مجوسي في البصرة. وهم فرقتان غلاة، وغير غلاة، فالغلاة ينكرون علم الله، وإرادته، وقدرته، وخلقه لأفعال العبد وهؤلاء انقرضوا أو كادوا. وغير الغلاة يؤمنون بأن الله عالم بأفعال العباد، لكن ينكرون وقوعها بإرادة الله، وقدرته، وخلقه، وهو الذي استقر عليه مذهبهم).

الشرط السادس:

وعلم تتعلق به الأحكام الشرعية هذا التعلق جدير أن يكون معتبرا في الاجتهاد، ويلحق بالعربية التصريف لما يتوقف عليه من معرفة أبنية الكلم والفرق بينهما كما سبق في باب المجمل من لفظ مختار ومغتال، فاعلا ومفعولا ... لا يشترط معرفة دقائق العربية والتصريف حتى يكون كسيبويه، والأخفش، والمازني، والمبرد، والفارسي، وابن جني ونحوهم، لأن المحتاج إليه منها في الفقه دون ذلك.) (¬1). وقال أيضا في (3/ 577): (" وشرط المجتهد إحاطته بمدارك الأحكام "، أي: طرقها التي تدرك منها، ويتوصل بها إليها، " وهي الأصول " المتقدم ذكرها، وهي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال، والأصول المختلف فيها، " وما يعتبر للحكم في الجملة " من حيث الكمية والمقدار حيث يعتبر ذلك للحكم، أو من حيث الكيفية كتقديم ما يجب تأخيره، وتأخير ما يجب تقديمه؛ لأن ذلك كله آلة للمجتهد في استخراج الحكم، فوجب اشتراطه، كالقلم للكاتب، والقدوم ونحوه للنجار) (¬2). قال ابن عقيل في "الواضح" (1/ 272): (ويجب في الجملة أن يكون عالما بجميع أصول الفقه وأدلة الأحكام، وما هو أولى بالتقديم منها، على ما تقدم من ترتيبنا). الشرط السادس: قال الشيخ: (أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها). والمدقق يرى أن هذا ليس شرطا وإنما هو كالثمرة، أو النتيجة لتحقق الشروط السابقة فمن تحققت فيه الشروط السابقة تكونت عنده هذه القدرة، ومن لم تتوفر فيه هذه الشروط فهو قاصر غير كامل الأهلية لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. تجزؤ الاجتهاد: قال الشيخ: (والاجتهاد قد يتجزأ فيكون في باب واحد من أبواب العلم أو في مسألة من مسائله). ¬

_ (¬1) انظر: الواضح (1/ 269)، والروضة (ص/353)، والتحبير (8/ 3875)، وشرح الكوكب المنير (4/ 462). (¬2) انظر "روضة الناظر" (ص/352)، والمختصر لابن اللحام (ص/163)، وقواعد الأصول (ص/101).

أنواع المجتهدين:

تمهيد: قبل الكلام على هذه المسألة أرى أنه لابد من التوطئة لها بذكر بعض المسائل المتعلقة بها وهي: 1 - أنواع المجتهدين: قال ابن الصلاح في "أدب المفتي" (ص/86): (ينقسم المفتي إلى قسمين مستقل وغير مستقل: القسم الأول المفتي المستقل وشرطه أن يكون مع ما ذكرناه قيما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ... فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية ولن يكون إلا مجتهدا مستقلا. والمجتهد المستقل هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد. القسم الثاني المفتي الذي ليس بمستقل ومنذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق والمجتهد المستقل وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة وللمفتي المنتسب أحوال أربع: الأولى (¬1) أن لا يكون مقلدا لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لكونه قد جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل وإنما ينتسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد ودعا إلى سبيله ... ¬

_ (¬1) وقد أطلق السيوطي على مجتهدي القسم بالأول: المجتهد المستقل، وأطلق على أهل هذه الحالة من الغير مستقلين: المجتهد المطلق فقال في "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض" (ص/112): (وأما المجتهد المطلق غير المستقل، فهو الذي وجدت فيه شروط الاجتهاد التي اتصف بها المجتهد المستقل، ثم لم يبتكر لنفسه قواعد، بل سلك طريقة إمام من أئمة المذاهب في الاجتهاد، فهذا مطلق منتسب لا مستقل ولا مقيد) ثم قال (ص/115) بعد أن نقل عن النووي في مقدمة المجموع كلام ابن الصلاح السابق: (فانظر رحمك الله كيف قسما المجتهد الذي ليس بمستقل إلى أربعة أقسام: الأول المطلق وهو: الذي لم يقلد إمامه ولكن سلك طريقه في الاجتهاد. والثاني المقيد وهو: الذي يسمى مجتهد التخريج. والثالث مجتهد الترجيح. والرابع مجتهد الفتيا). والمشهور عند الحنابلة إطلاق اسم المجتهد المطلق أو المستقل على القسم الأول، وأما القسم الثاني بكل حالاته فيطلقون عليهم: المجتهد المقيد غير المطلق، أو المستقل، ولا مشاحة في الاصطلاح.

تنبيهات

فتوى المنتسبين في هذه الحالة في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل بها ويعتد بها في الإجماع والخلاف والله أعلم. الحالة الثانية أن يكون في مذهب إمامه مجتهدا مقيدا فيستقل بتقرير مذاهبه بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده ومن شأنه أن يكون عالما بالفقه خبيرا بأصول الفقه عارفا بأدلة الأحكام تفصيلا بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيما بإلحاق ما ليس بمنصوص عليه في مذهب إمامه بأصول مذهبه وقواعده ولا يعرى عن شوب من التقليد له لإخلاله ببعض العلوم والأدوات المعتبرة في المستقل مثل أن يخل بعلم الحديث أو بعلم اللغة والعربية وكثيرا ما وقع الإخلال بهذين العلمين في أهل الاجتهاد المقيد ويتخذ نصوص إمامه أصولا يستنبط منها نحو ما يفعله المستقل بنصوص الشارع وربما مر به الحكم وقد ذكره إمامه بدليله فيكتفي بذلك فيه ولا يبحث هل لذلك الدليل من معارض ولا يستوفي النظر في شروطه كما يفعله المستقل وهذه صفة أصحاب الوجوه والطرق في المذهب. وعلى هذه الصفة كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم ومن كان هذا شأنه فالعامل بفتياه مقلد لإمامه لا له؛ لأن معوله على صحة إضافة ما يقوله إلى إمامه لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع والله أعلم. تنبيهات الأول الذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأن من كانت هذه حالته ففرض الكفاية لا يتأدى به ووجهه أن ما فيه من التقليد نقص وخلل في المقصود وأقول إنه يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في أحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى لأنه قد قام في فتواه مقام إمام مطلق فهو

يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيا قائما بالفرض فيها والتفريع على الصحيح في أن تقليد الميت جائز. الثاني قد يوجد من المجتهد المقيد الاستقلال بالاجتهاد والفتوى في مسألة خاصة أو باب خاص كما تقدم في النوع الذي قبله والله أعلم الثالث يجوز له أن يفتي فيما لا يجده من أحكام الوقائع منصوصا عليه لإمامه بما يخرجه على مذهبه هذا هو الصحيح الذي عليه العمل وإليه مفزع المفتين من مدد مديدة فالمجتهد في مذهب الشافعي مثلا المحيط بقواعد مذهبه المتدرب في مقاييسه وسبل تصرفاته متنزل كما قدمنا ذكره في الإلحاق بمنصوصاته وقواعد مذهبه منزلة المجتهد المستقل في إلحاقه ما لم ينص عليه الشارع بما نص عليه وهذا أقدر على هذا من ذاك على ذاك فإن هذا يجد في مذهب إمامه من القواعد الممهدة والضوابط المهذبة ما لا يجده المستقل في أصل الشرع ونصوصه ثم إن هذا المستفتي فيما يفتيه به من تخريجه هذا مقلد لإمامه لا له، قطع بهذا الشيخ أبو المعالي ابن الجويني في كتابه الغياثي، وأنا أقول ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في أن ما يخرجه أصحابنا رحمهم الله على مذهب الشافعي رضي الله عنه هل يجوز أن ينسب إليه واختار الشيخ أبو إسحاق أنه لا يجوز أن ينسب إليه والله أعلم الرابع تخريجه تارة يكون من نص معين لإمامه في مسألة معينة وتارة لا يجد لإمامه نصا معينا يخرج منه فيخرج على وفق أصوله بأن يجد دليلا من جنس ما يحتج به إمامه وعلى شرطه فيفتي بموجبه ثم إن وقع النوع الأول من التخريج في صورة فيها نص لإمامه مخرجا خلاف نصه فيها من نص آخر في صورة أخرى سمي قولا مخرجا وإذا وقع النوع الثاني في صورة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك سمي ذلك وجها ويقال فيها وجهان وشرط التخريج المذكور عند اختلاف النصين أن لا يجد بين المسألتين فارقا ولا حاجة في مثل ذلك إلى علة جامعة وهو من قبيل إلحاق الأمة بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا له في عبد قوم عليه ومهما أمكنه الفرق بين المسألتين لم يجزله على الأصح التخريج ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما معتمدا على الفارق وكثيرا ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق والله أعلم

الحالة الثالثة أن لا يبلغ رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها وبنصرته يصور ويحرر ويمهد ويقرر ويزيف ويرجح لكنه قصر عن درجة أولئك إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم وإما لكونه لم يرتض في التخريج والاستنباط كارتياضهم وإما لكونه غير متبحر في علم أصول الفقه على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أداته على أطراف من قواعد أصول الفقه وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الخامسة من الهجرة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه تصانيف بها معظم اشتغال الناس اليوم ولم يلحقوا بأرباب الحالة الثانية في تخريج الوجوه وتمهيد الطرق في المذهب وأما في فتاويهم فقد كانوا يتبسطون فيها كتبسيط أولئك أو قريبا منه ويقيسون غير المنقول والمسطور على المنقول والمسطور في المذهب غير مقتصرين في ذلك على القياس الجلي وقياس لا فارق الذي هو نحو قياس الأمة على العبد في إعتاق الشريك وقياس المرأة على الرجل في رجوع البائع إلى عين ماله عند تعذر الثمن، وفيهم من جمعت فتاويه وأفردت بالتدوين ولا يبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه ولا تقوى كقوتها والله أعلم. الحالة الرابعة أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها غير أن عنده ضعفا في تقرير أدلته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم وأما ما لا يجده منقولا في مذهبه فإن وجد في المنقول ما هذا في معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما كما في الأمة بالنسبة إلى العبد المنصوص عليه في إعتاق الشريك جاز له إلحاقه به والفتوى به وكذلك ما يعلم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب وما لم يكن كذلك فعليه الإمساك عن الفتيا فيه ... قلت وينبغي أن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة وفي الحالة التي قبلها بأن يكون المعظم على مد ذهنه ويكون لدربته متمكنا من الوقوف على الباقي بالمطالعة أو

تحرير محل النزاع ببيان معنى التجزؤ وهل كل الشروط السابقة تقبل التجزؤ؟

ما يلتحق بها على القرب كما اكتفينا في أقسام الاجتهاد الثلاثة الأول بأن يكون المعظم على ذهنه ويتمكن من إدراك الباقي بالاجتهاد على القرب ... ) (¬1). وذكر نحوه ابن حمدان في "صفة الفتوى" ثم قال (ص/24): (القسم الثالث - المجتهد في نوع من العلم، فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وأن جهل أحاديث النكاح وغيره وقيل يجوز ذلك في الفرائض دون غيرها وقيل بالمنع فيهما وهو بعيد. القسم الرابع - المجتهد في مسائل أو في مسألة وليس له الفتوى في غيرها، وأما فيها فالأظهر جوازه ويحتمل المنع لأنه مظنة القصور والتقصير. ثم قال: فمن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة من غير ضرورة فهو عاص آثم لأنه لا يعرف الصواب وضده فهو كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر لأنه بفقد البصر لا يعرف الصواب وضده (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) [المطففين: 4]، قال ابن الجوزي: يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنوا أمية ومن تصدى للفتيا ظانا أنه من أهلها فليتهم نفسه وليتق ربه). 2 - تحرير محل النزاع ببيان معنى التجزؤ وهل كل الشروط السابقة تقبل التجزؤ؟ الشروط العامة السابقة يلزم اجتماعها في المجتهد المستقل، ولكن المجتهد في مسألة واحدة أو باب واحد لا يشترط فيه اجتماع كل هذه الشروط، بل يشترط أن يعرف منها ما يتعلق بالباب الذي سوف يجتهد فيه أو المسألة. إلا أن بعض الشروط كلية لا تقبل التجزؤ كمعرفته للغة العرب، وأصول الفقه، وكذا معرفته لما يتعلق بصحة الحديث إن قلنا أنه لا يكتفى بالتقليد فيه. فعلى سبيل المثال من أراد أن يحصل آلة الاجتهاد في باب البيوع، فلابد وأن يتعرف على الأدلة الخاصة بهذا الباب، وما نسخ منها، ومواقع الإجماع فيه، ويكون على بصيرة في فهم اللغة، وما يحتاج إليه في المسألة من أصول الفقه فهذا تتكون له ملكة الاستنباط في هذا الباب أو هذه المسألة. ¬

_ (¬1) انظر المسودة (ص/487)، صفة الفتوى (ص/16)، التحبير (8/ 3881)، شرح الكوكب المنير (4/ 467)، المدخل (ص/374).

الأقوال في المسألة والترجيح:

قال الشيخ عياض السلمي في "أصوله" (ص/455): (المقصود بتجزئة الاجتهاد: أنْ يكونَ الفقيهُ مجتهداً في بابٍ من أبواب الفقه دون غيره، أو في مسألةٍ دون مسألةٍ. وهذه المسألةُ من المسائل التي طال كلامُ الأصوليين فيها، ويُمكنُ تلخيصُه فيما يلي: ليس من محلّ النزاع أنْ يجتهدَ في مسألةٍ فقهيةٍ مَن لم تتوافرْ فيه شروطُ الاجتهاد العامّة، وهي: معرفةُ العربية، ودلالات الألفاظ، والقدرة على الاستنباط، ومعرفةُ ما يحتاج إليه في المسألة من أصول الفقه. فمن لم يحصل هذه الشروط لا يُمكنُ أنْ يُعدَّ مجتهداً في شيءٍ من مسائل الفقه. ولهذا قال ابنُ الزملْكانيّ: «فما كان من الشروط كلّياً، كقوّةِ الاستنباط، ومعرفةِ مجاري الكلام، وما يُقبَلُ من الأدلّة، وما يُردُّ، ونحوِه، فلا بدَّ من استجماعه بالنسبة إلى كلّ دليلٍ ومدلولٍ، فلا تتجزّأ تلك الأهليّةُ» (¬1). وإنما موضعُ النزاع أن مَن له قدرةٌ على النظر في الأدلّة والاستنباط منها، وحصّل الشروطَ العامّةَ للاجتهاد إذا لم يُحطْ بأدلّة الفقه كلِّها، هل له أنْ يجتهدَ في المسائل التي أحاط علماً بأدلّتها؟). الأقوال في المسألة والترجيح: قال الشيخ شعبان محمد إسماعيل في كتابه "الاجتهاد الجماعي ": (وقد اختلف العلماء في مسألة تجزؤ الاجتهاد على أربعة مذاهب: المذهب الأول: أن ذلك جائز وهو مذهب الجمهور، من الشافعية كالآمدي وابن السبكي والغزالي، والحنفية كالكمال بن الهمام، وصاحب مسلم الثبوت، والمعتزلة كأبي علي الجبائي وأبي عبدالله البصري، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن القيم (¬2). ¬

_ (¬1) نقله عنه الزركشي في: "البحر المحيط" (4/ 499)، وابن أمير الحاج في "التقرير والتحبير" (3/ 391). (¬2) وللحنابلة أقوال في المسألة، قال ابن مفلح في "أصوله" (4/ 1469): (يتجزأ الاجتهاد عند أصحابنا وغيرهم، وجزم به الاَمدي، خلافا لبعضهم. وذكر بعض أصحابنا مثله، وقولا " يتجزأ في باب لا مسألة "). وانظر: التمهيد (4/ 393)، الروضة (ص/353)، صفة الفتوى (ص/24)، إعلام الموقعين (4/ 216)، شرح مختصر الروضة (3/ 585)، التحبير (8/ 3886)، شرح الكوكب المنير (4/ 437)، المدخل (ص/373).

واستدلوا على مذهبهم بأدلة كثيرة نكتفي منها بما يأتي: أولاً: بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) ووجه الدلالة من الحديث: أن الإنسان لو تمكن من جمع الأدلة في مسألة معينة كان متمكناً من الوصول إلى العلم بحكم هذه المسألة من دليلها، فتركه إلى التقليد خلاف المعقول، وخلاف ما أفاده الحديث، لأن ما كان عن تقليد فيه ريب، وما كان عن دليل يكون خالياً من هذا الريب، فيكون المكلف مأموراً بالاجتهاد فيما حصّل فيه شروطه. ثانياً: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (استفت نفسك ون أفتاك المفتون). ووجه الدلالة من الحديث: أن في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باستفتاء النفس ترجيح لاجتهاد الإنسان على اجتهاد غيره، فيجب العمل باجتهاده فيما يعن له من مسائل كملت أهليته للاجتهاد فيها. ثالثاً: أن المجتهد في بعض المسائل يعرف الحكم فيها عن دليل منصوب من قبل الشارع، فيجب إتباعه ولا يسوغ له تركه بقول أحد، فثبت بذلك وجوب الاجتهاد فيما يمكنه. رابعاً: لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع المسائل، واللازم منتف، لأن كثيراً من المجتهدين قد سئل عن عدة مسائل فأجاب عن البعض ولم يجب عن البعض الآخر، ولم ينازع أحد في كونهم مجتهدين، فقد روي عن الإمام مالك أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن أربع وقال في الباقي: لا أدري. المذهب الثاني: أن ذلك غير جائز، وأن العالم لا يقال له مجتهد إلا إذا أحاط بأدلة الفقه جميعها. وعلى ذلك بعض الأصوليين، منهم الإمام أبو حنيفة (¬1) والشوكاني وغيرهما. قال الشوكاني: (إن العلماء قد اتفقوا على أن المجتهد لا يجوز له الحكم بالدليل حتى تحصل له غلبة الظن بحصول المقتضي وعدم المانع، وإنما يحصل ذلك للمجتهد ¬

_ (¬1) قال ملا خسرو في "مرقاة الأصول" (2/ 468 - مرآة الأصول): (كونه غير مجزئ هو الصواب المروي عن الإمام لما مر في حد الفقه أن الفقيه هو الذي له ملكة الاستنباط في الكل).

المطلق، وأما مَن ادعى الإحاطة بما يحتاج إليه في مسألة دون مسألة فلا يحصل له شيء من غلبة الظن، لأنه لا يزال يجوز وجود غير ما وصل إليه علمه). واستدلوا على ذلك: بأن كل إنسان يبحث عن الحكم لو لم يكن عالماً بجميع المدارك ومحيطاً بكل الأدلة لا يجوز له الاجتهاد، لأنه قد يتعلق الحكم الذي يبحث عنه ببعض ما يجهله، فلا يكون الحكم صحيحاً. فالاجتهاد في بعض الأبواب غير جائز. ويمكن مناقشة ذلك: بأن ذلك مخالف للواقع، فليس هناك من المجتهدين مَن علم كل المدارك، حتى الأئمة المتبوعون، وإلا لما توقف بعضهم عن الفتوى، كالإمام مالك .. وكم توقف الإمام الشافعي - رحمه الله- بل بعض الصحابة - رضي الله عنهم - توقفوا في العديد من المسائل، وكان بعضهم يحيل على البعض الآخر. فإذاً لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي، فيفتي فيما يدري أنه يدري، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري، فيتوقف فيما لا يدري، ويفتي فيما يدري. المذهب الثالث: التوقف وعدم الجزم برأي معين، وهو ما ذهب إليه ابن الحاجب، ولعله رأى أن الأدلة متكافئة، وهي متعارضة فيلزم التوقف. وأقول: إن المتأمل في أدلة المذاهب المختلفة يدرك أن الأدلة غير متكافئة، فأدلة المذهب الأول قوية وراجحة، ويؤيدها الواقع الذي لا يمكن إنكاره، فالترجيح هنا وارد. المذهب الرابع: أن الاجتهاد يتجزأ بالنسبة للفرائض دون غيرها من أبواب الفقه. ونسب هذا الرأي إلى ابن الصباغ من الشافعية. وحجة مَن ذهب إلى ذلك: أن لباب المواريث أدلة خاصة، فيجوز أن يجتهد فيها، ولا يمنعه جهله بأدلة الأبواب الأخرى من الفقه. والواقع أن هذه التفرقة لا معنى لها، فلا فرق بين المواريث وغيرها من أبواب الفقه، وما دام أصحاب هذا المذهب يجوزون الاجتهاد في باب المواريث فيجوز في غيرها، حيث لا فارق بينهما متى وجدت الشروط التي تؤهله للاجتهاد في مسألة ما. الراجح في المسألة: ويبدو من خلال العرض للأدلة السابقة والمناقشات الواردة عليها أن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من تجزؤ الاجتهاد، ... وهذا إنما يتم بشرطين:

ما يلزم المجتهد:

الأول: أن تكون لديه الأهلية العلمية العامة للفهم والاستنباط. بمعنى أن يكون عنده إلمام مناسب بمثله من الشروط بالنسبة للمجتهد المطلق. الثاني: أن يدرس موضوعه أو مسألته دراسة مستوعبة، بحيث يحيط بها من جميع جوانبها، حتى يتمكن من الاجتهاد فيها.) (¬1). ما يلزم المجتهد: قال الشيخ: (يلزم المجتهد أن يبذل جهده في معرفة الحق ثم يحكم بما ظهر له فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور له. وإن لم يظهر له الحكم وجب عليه التوقف وجاز التقليد حينئذ لضرورة). قال الشيخ في "الشرح" (ص/633): (إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد وهذا الكلام من المؤلف يدل على أن المجتهد مخطئ ومصيب، وليس كل مجتهد مصيبًا- وهو كذلك- والدليل قوله: "إذَا حَكَمَ الحاكمُ فاجتهد فأصابَ فله أجرَانِ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطا فله أجر " وهذا صريح في أن المجتهد وإن أخطأ فله أجر لأنه تعب وحرص على إدراك الحق، ولم يوفق له، فيكون له أجر التعب، أما أجر الإِصابة فهو محروم منه لأنه لم يصب، وأما إذا اجتهد فأصاب فإن له أجرين: الأجر الأول التعب في الاجتهاد وطلب الأدلة، والأجر الثاني: إصابة الحق. أما ثبوت الأجر على الوجه الأول فظاهر؛ لأن الإنسان عمل وتعب فهو مكتسب وقد قال الله تعالى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة: 286]، لكن حصول الأجر على الوجه الثاني وهو إصابة الحق فيه شيء من الإشكال، ولكن هذا الإِشكال يتبين بأن نقول: إن مجرد إصابة الحق فيها أجر لأن إصابة الحق إظهار له، ثم إن الغالب أنه لم يصب إلا لزيادة تحريه واجتهاده فيكون اجتهاد المصيب في الغالب أكثر من اجتهاد المخطئ، ولهذا صار له أجران). ¬

_ (¬1) وانظر أيضا في ذكر الخلاف ومناقشة المسألة: "الاجتهاد ومدى الحاجة إليه في الشرع الإسلامي للشيخ علي بن عباس الحكمي (ص/34: 37)، و"الاجتهاد في الإسلام" للدكتورة نادية شريف العمري (ص/164: 173).

- متى يتوقف المجتهد:

- متى يتوقف المجتهد: سبق في باب التعارض الكلام على مسألة: ماذا يفعل المجتهد إن لم يمكنه الجمع أو الترجيح، ولم يعلم الناسخ: وقلنا: إذا وجد المجتهد دليلان متعارضان فإنه يجمع بينهما بوجه من وجوه الجمع والتوفيق بين الأدلة، فإن تعذر عليه ذلك - ولم يكن أحدهما منسوخا، فإنه يتوقف عن الاستدلال بأيهما لحين ظهور وجه الجمع بينهما، أو الترجيح لأحدهما على الآخر، وإنما قلنا بالتوقف لأن الحق واحد لا يتعدد، ولم نقل بالتخيير بين أيهما لأن هذا يستلزم تعدد الحق، وأنه ليس محصورا في واحد منهما. - تتمة: المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم فإنه يحكم بما ظهر له، ولم يجز له التقليد، والكلام على بعض الحالات التي قيل أن المجتهد يقلد فيها: ذكر الشيخ أن المجتهد إذا اجتهد ولم يظهر له الحكم وجب عليه التوقف وجاز التقليد حينئذ لضرورة. وعبارة الشيخ عامة في جواز التقليد للمجتهد في كل الحالات التي لم يظهر له فيها الحكم سواء أكان لتعارض الأدلة، أو لضيق الوقت، ونحو ذلك والراجح خلافه كما سيأتي. ومن الحالات التي قيل فيها أن المجتهد أيضا يجوز له التقليد: قيل قبل أن يجتهد - وهو أهل له -، وعند العمل لا الإفتاء، وقيل يجوز أن يقلد من هو أعلم منه مطلقا، وقيل: من الصحابة دون من غيرهم. قال ابن قدامة في "الروضة" (ص/377): (المجتهد الذي صارت العلوم عنده حاصلة بالقوة القريبة من الفعل من غير حاجة إلى تعب كثير بحيث لو بحث عن المسألة ونظر في الأدلة استقل بها ولم يفتقر إلى تعلم من غيره فهذا المجتهد هل يجوز له تقليد غيره؟ قال أصحابنا ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت ولا سعته لا فيما يخصه ولا فيما يفتي به لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره لأن تقليد من لا تثبت عصمته ولا تعلم إصابته حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس ولا نص ولا قياس إذ المنصوص عليه العامي مع

المجتهد وليس ما اختلفنا فيه مثله فإن العامي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه والمجتهد قادر فلا يكون في معناه ... ). قال الطوفي في "شرح مختصر الروضة" (3/ 629): (يجوز للعامي تقليد المجتهد ولا يجوز ذلك لمجتهد اجتهد، وظن الحكم، اتفاقا فيهما»، أي: في الصورتين المذكورتين. أي: أن العامي يجوز له تقليد المجتهد بالاتفاق، وأن المجتهد إذا اجتهد وغلب على ظنه أن الحكم كذا لا يجوز تقليد غيره بالاتفاق أيضا، أي: لا خلاف في ذلك. «أما من لم يجتهد» في الحكم بعد، وهو متمكن من معرفته بنفسه «بالقوة القريبة من الفعل»، لكونه أهلا للاجتهاد، «فلا يجوز له» تقليد غيره «أيضا مطلقا»؛ لا لأعلم منه ولا لغيره؛ لا من الصحابة - رضي الله عنهم (¬1) - ولا غيرهم؛ لا للعمل ولا للفتيا؛ لا مع ضيق الوقت ولا سعته. «وقيل: يجوز» - يعني التقليد - لهذا المجتهد المذكور «مع ضيق الوقت» عن معرفة الحكم باجتهاده، مثل أن ضاق وقت الصلاة، وقد أشكل عليه بعض شروطها وأركانها، بحيث لو أخرها ليستوفي النظر في ذلك فات وقتها؛ جاز له أن يقلد بعض الأئمة في ذلك. «وقيل»: يجوز له التقليد «ليعمل» به «لا ليفتي» به - يعني فيما يخصه دون ما يتعلق به حكم غيره - وهو قول بعض العراقيين. «وقيل»: يجوز له التقليد «لمن هو أعلم منه» من الصحابة أو غيرهم، دون غيره، وهو قول محمد بن الحسن. «وقيل»: يجوز تقليد غيره «من الصحابة» دون غيرهم. قوله: «لنا: مجتهد فلا يقلد». أي: لنا على أن المجتهد لا يقلد غيره وجهان: ¬

_ (¬1) سبق وأن ذكرنا أن قول الصحابي حجة، وعليه فالرجوع إلى قول الصحابي ليس بتقليد، وقال تقي الدين في "المسودة" (ص / 418): (ذكر أيضا أبو الخطاب أنه لا خلاف في أنه يجوز ترك قول الأعلم لاجتهاده ثم ذكر بعد هذا أن قول الصحابي ليس من صور هذه المسألة فانه يجب عليه ترك اجتهاده لقول الصحابي عند من جعله حجة ولا يجب عليه تقليد غيره وحكى أبو المعالي في كتاب الاجتهاد عن الإمام أحمد قال فأما تقليد الصحابة قال أحمد العالم قبل اجتهاده يقلد الصحابي ويتخير في تقليده من شاء منهم ... ).

أحدهما: القياس على ما لو اجتهد، وظن الحكم، لأن الكلام في مجتهد لم يجتهد بالفعل، فنقول: هذا مجتهد، فلا يجوز له تقليد غيره، «كما لو اجتهد وظن الحكم»، فإنه لا يجوز له تقليد غيره اتفاقا، كذلك ههنا، والجامع بينهما أهلية الاجتهاد، ولا أثر للفرق بينهما، بأن ذلك قد اجتهد بالفعل، وظن الحكم، بخلاف هذا، لأن ذلك تفاوت يسير، لأن تحصيل ظن الحكم على هذا يسير، بأن يجتهد كما اجتهد غيره. الوجه الثاني: أنه ربما اجتهد، فتبين له خطأ من قلده. وحينئذ كيف يجوز أن «يعمل بما يعتقد خطأه؟» ولقائل أن يقول: إنا إذا جوزنا له تقليد ذلك الغير، فإنما ذلك بشرط أن لا يوجد منه اجتهاد في ذلك الحكم بنفسه، فإن وجد منه اجتهاد تعين ما صار إليه اجتهاده وسقط التقليد، كواجد الماء بعد التيمم وسائر المبدلات بعد إبدالها. قوله: «نعم» أي: لا يجوز للمجتهد أن يقلد غيره. «نعم له أن ينقل مذهب غيره للمستفتي»، إرشادا له إليه، «ولا يفتي هو بتقليد أحد». قوله: «قالوا:» يعني من جوز التقليد احتجوا بوجوه: أحدها: قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] «وهذا» وإن كان أهلا للاجتهاد، لكنه «لا يعلم» هذا الحكم الخاص، فيتناوله عموم هذا النص، فجاز له التقليد كالعامي. الوجه الثاني: قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: 59]، «وهم العلماء»، أمر بطاعتهم، وذلك بتقليدهم فيما يخبرون به عن الشرع، والخطاب للمؤمنين، وهو يتناول هذا المجتهد وغيره. الوجه الثالث: «أن الأصل جواز التقليد» لامتناع حصول أدوات الاجتهاد في كل أحد عادة «ترك» ذلك «في من اجتهد» وظن الحكم، «لظهور الحق له بالفعل، فمن عداه» يبقى «على الأصل» وهو جواز التقليد، فثبت بهذه الوجوه أن هذا المجتهد المذكور يجوز له التقليد. قوله: «قلنا:» إلى آخره هذا جواب الوجوه المذكورة. أما قوله - عز وجل -: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)، فالمأمور بالسؤال هم «العامة» بدليل قوله - عز وجل -: (إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، ولا نسلم أن هذا لا يعلم بل هو يعلم الحكم «بالقوة القريبة» من الفعل، لأن الفرض أنه مجتهد، «بخلاف العامي»؛ فإنه لا سبيل له إلى معرفة

قوله: «الأصل جواز التقليد».

الحكم بالاجتهاد. وأما قوله - عز وجل -: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) فلا نسلم أنهم العلماء، بل هم «الولاة»، لأن ذلك هو المتبادر من لفظ: (وَأُولِي الْأَمْرِ) بدليل قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83]، ولو كان أولو الأمر ههنا العلماء لم يستقم، إذ لا قول لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والفرض أنه - عز وجل - لامهم على ترك الرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، وهم أمراؤهم ورؤساؤهم الذين التزموا طاعتهم. وإن سلمنا أن أولي الأمر هم العلماء «فجوابه ما ذكر» يعني في الجواب عن الوجه الأول من أن المأمور بطاعة العلماء هم العامة لا المجتهدون، «ثم هو معارض بعموم» قوله - عز وجل -: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) [الحشر: 2] وقوله - عز وجل -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24] وقوله - عز وجل -: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] أمر بالاعتبار وهو الاجتهاد، وحض على التدبر والاستنباط، وهو يدل على وجوبه على العموم، «ترك في العامي لعدم أهليته» ففي غيره يبقى على مقتضاه في وجوب الاجتهاد وذلك يعارض ما ذكرتم من دلالة طاعة أولي الأمر على التقليد. قوله: «الأصل جواز التقليد». قلنا: لا نسلم، بل الأصل منعه، لأنه أخذ بغير دليل. قوله: لامتناع حصول أدوات الاجتهاد في كل أحد عادة. قلنا: لا نسلم أن هذا يجيز التقليد. ثم الكلام فيمن حصل أدوات الاجتهاد. قلت: هذه المسألة المتنازع فيها واسطة بين طرفين، فتجاذباها، وذلك لأن العامي يقلد باتفاق، والمجتهد إذا ظن الحكم باجتهاد لا يقلد باتفاق. أما المجتهد الذي لم يجتهد في الحكم، ويظهر له فهو متردد بين الطرفين، فبالنظر إلى أنه لم يحصل له ظن الحكم يلحق بالعامي، وبالنظر إلى أن فيه أدوات الاجتهاد، وهو قادر على معرفة الحكم بقوته القريبة من الفعل يلحق بالمجتهد الذي ظن الحكم في عدم جواز التقليد، ولا يخفى أنه به أشبه، وكذلك الكلام فيمن تمكن

قوله: «ووجه بقية التفاصيل ظاهر»

من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، كالنحوي في مسألة نحوية، والمحدث في مسألة خبرية تتعلق بعلم أحوال الرواة، ونحو ذلك؛ هو محل اجتهاد، وإلحاقه بالعامي أشبه بخلاف المجتهد المستقل بمعرفة الحكم إذا اجتهد. فحصل من هذا الباب أن المراتب أربع: عامي محض. متمكن من الاجتهاد في البعض دون البعض. مجتهد كامل لم يجتهد. مجتهد كامل اجتهد وظن الحكم. فالطرفان قد عرف حكمهما وهو أن العامي يقلد، والمجتهد بالفعل الظان للحكم لا يقلد، والمجتهد الكامل الذي لم يجتهد مختلف فيه، والأظهر أنه لا يقلد، ويلحق به من اجتهد بالفعل، ولم يظن الحكم لتعارض الأدلة أو غيره بطريق أولى، والمتمكن من الاجتهاد في البعض دون البعض الأشبه أن يقلد؛ لأنه عامي من وجه، ويحتمل أن لا يقلد، لأنه مجتهد من وجه، فهو محل اجتهاد، وله مراتب متعددة بحسب ما يتمكن من الاجتهاد فيه من المسائل. قوله: «ووجه بقية التفاصيل ظاهر» يعني التفاصيل المذكورة في «المختصر» وكذا في غيره. أما الفرق بين ضيق الوقت وسعته، فلأن في تقليده مع ضيق الوقت تحصيلا للعمل في وقته بقول مجتهد ما، فهو أولى من إخلاء الوقت عن وظيفته لتوقع ظهور الحكم بالاجتهاد. وأما الفرق بين تقليده للعمل والفتيا؛ فلأن تقليده ليعمل به هو تصرف فيما يخص نفسه من العمل، فجاز كتوكيله في حق نفسه، بخلاف تقليده لفتيا الغير، لأنه كتوكيله في حق غيره. وأما الفرق بين تقليده من هو أعلم منه دون غيره؛ فلأن تقليده أعلم منه يفيده ظنا غالبا أعلى من ظهور ظنه ورتبته، إذ الغالب أن الأعلم أقرب إلى الحق، والإصابة عليه أغلب، فصار كاجتهاده هو في الحكم بخلاف تقليده دونه، إذ لا يفيده الظن ومن هو مثله، إذ لا مرجح له على اجتهاده لنفسه.

التقليد

ويشبه هذا من مسائل الفروع أن من أودع شيئا وعين له موضعا، فنقله المودع إلى أحرز منه، لم يضمن إن تلف، وإن نقله إلى مثله أو دونه ضمن. والفرق بين تقليده الصحابي دون غيره: أن الصحابي أقرب إلى الإصابة من غيره لما عرف من خصائص الصحابة رضي الله عنهم. قوله: «ودليل ضعفها عموم الدليل» أي: دليل ضعف التفاصيل المذكورة عموم الدليل المذكور على المنع من التقليد، كما تقرر في الوجهين الأولين) (¬1). وعليه فالراجح أن المجتهد المستقل ليس له تقليد مجتهد آخر مع ضيق الوقت ولا سعته لا فيما يخصه ولا فيما يفتي به لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة كأحمد والشافعي ولا يفتي من عند نفسه بتقليد غيره، وأما المجتهد في مسألة أو في باب له أن يقلد في غير ما هو مؤهل للاجتهاد فيه. التقليد تعريف التقليد لغة: قال الشيخ: (التقليد لغة: وضع الشيء في العنق محيطاً به كالقلادة). قال ابن أبي الفتح في "المطلع" (ص/206): (التقليد مصدر قلد قال الجوهري وتقليد البدنة أن يعلق في عنقها شيء ليعلم أنها هدي). قال المردوي في " التحبير" (8/ 4011): (التقليد في اللغة: جعل الشيء في العنق من دابة وغيرها محيطا به، وهذا احتراز مما لم يكن محيطا بالعنق، فلا يسمى قلادة في عرف اللغة ولا غيرها، والشيء المحيط بشيء يسمى قلادة وجمعها قلائد، ومنه قوله تعالى: (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ) [المائدة: 2]، يعني: ما يقلده الهدي في عنقه من النعال وآذان القرب) (¬2). ¬

_ (¬1) انظر: العدة (4/ 1237)، الروضة (ص/377)، المسودة (ص/416)، قواعد الأصول (ص/104)، المدخل (ص/382)، الأحكام للآمدي (4/ 210)، الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي (3/ 271)، التمهيد للأسنوي (ص/524). (¬2) وانظر: العدة (4/ 1216)، أصول ابن مفلح (4/ 1531)، شرح مختصر الروضة (3/ 650)، شرح الكوكب المنير (4/ 529).

تعريف التقليد اصطلاحا:

وجاء في المعجم الوسيط مادة قلد: ((قلد) الشيء قلدا لواه يقال قلد الحديدة رققها ولواها على شيء والحبل فتله والماء في الحوض ونحوه جمعه فيه والحمى فلانا أخذته كل يوم والزرع سقاه. (أقلد) البحر عليهم غرقهم وأطبق عليهم. (قلده) القلادة جعلها في عنقه والبدنة علق في عنقها شيئا ليعلم أنها هدي وفلانا السيف ألقى حمالته في عنقه ويقال قلد فلانا نعمة أعطاه عطية أو أسدي إليه معروفا وقلده قلادة سوء هجاه هجاء يلازمه أثره وفلانا الأمر أو العمل فوضه إليه وألزمه إياه ويقال قلد الشيخ حبله خرف فلا يلتفت لرأيه وفلانا اتبعه فيما يقول أو يفعل من غير حجة ولا دليل وحاكاه يقال قلد القرد الإنسان. (تقلد) القلادة لبسها والسيف علقه عليه والأمر احتمله. (القلادة) ما يجعل في العنق من حلي ونحوه ووسام يجعل في العنق تمنحه الدولة لمن تشاء تقديرا له (محدثة) (ج) قلائد وقلائد الشعر البواقي على الدهر منه ... ) (¬1). تعريف التقليد اصطلاحا: عرفه الشيخ بقوله: (إتباع من ليس قوله حجة). صدر الشيخ تعريف التقليد بأنه إتباع، وهذا يجرنا للكلام على التقليد والإتباع. التقليد والإتباع: الإتباع لغة: قال الزبيدي في "تاج العروس" مادة (ت ب ع): (تَبِعَهُ، كفَرِحَ يَتْبَعُهُ تَبَعاً، مُحَرَّكَةً، وَتَبَاعَةً، كسَحَابَةٍ: مَشَى خَلْفَهُ أَوْ مَرَّ به فمَضَى مَعَهُ، يُقَالُ: تَبعَ الشَّيْءَ تَبَاعاً، فِي الأَفْعَالِ. وتَبِعَ الشَّيْءَ تُبُوعاً: سارَ في إِثْرِهِ ... ). معنى الإتباع في الاصطلاح: قال الشيخ العثيمين - رحمه الله - في رسالة "الخلاف بين العلماء": (الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: 1 ـ عالِم رزقه الله عِلماً وفهماً. ¬

_ (¬1) انظر مادة (ق ل د) في: تهذيب اللغة، الصحاح، المحيط في اللغة، لسان العرب، تاج العروس.

2 ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحِّر. 3 ـ عامي لا يدري شيئاً. أما الأول: فإن له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه مَن خالفه من الناس، لأنه مأمور بذلك. قال تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83] وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله. أما الثاني: الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول، فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في ذلك، وألا يقصِّر عن سؤال مَن هو أعلى منه من أهل العلم؛ لأنه قد يخطأ، وقد لا يصل علمه إلى شيء خصَّص ما كان عامًّا، أو قيَّد ما كان مطلقاً، أو نَسَخَ ما يراه محكماً. وهو لا يدري بذلك. أما الثالث: وهو مَن ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]، وفي آية أخرى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) [النحل: 43، 44]. فوظيفة هذا أن يسأل ... ). مرتبة الإتباع هي لمن هو قاصر عن مرتبة الاجتهاد، فهو يفهم الحجة ويعرف الدليل ولكنه في نفس الوقت ليس عنده القدرة على الاستقلال بفهم الأدلة واستنباط الأحكام منها، وقد لا يكون قادراً على دفع الشُّبَه عن الدليل والجواب عن أدلة القول الآخر. فهذا فيه شبه بكلا الطرفين - أي المجتهد والمقلد -، والأقوى عندي حفاظا على جانب الفتوى، وللأدلة التي ساقها الآمدي أنه يلحق بجانب المقلد، قال الآمدي في " الإحكام" (4/ 234): (العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد وإن كان محصلا لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه إتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين ومنع من ذلك بعض معتزلة البغداديين وقالوا لا يجوز ذلك الا بعد أن يتبين له صحة اجتهاده بدليله ونقل عن الجبائي أنه أباح ذلك في مسائل الاجتهاد دون غيرها كالعبادات الخمس والمختار إنما هو المذهب الأول ويدل عليه النص والإجماع

والمعقول: أما النص فقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] وهو عام لكل المخاطبين ويجب أن يكون عاما في السؤال عن كل ما لا يعلم بحيث يدخل فيه محل النزاع وإلا كان متناولا لبعض ما لا يعلم بعينه أو لا بعينه والأول غير مأخوذ من دلالة اللفظ والثاني يلزم منه تخصيص ما فهم من معنى الأمر بالسؤال وهو طلب الفائدة ببعض الصور دون البعض وهو خلاف الأصل وإذا كان عاما في الأشخاص وفي كل ما ليس بمعلوم فأدنى درجات قوله (فَاسْأَلُوا) الجواز وهو خلاف مذهب الخصوم. وأما الإجماع فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير فكان إجماعا على جواز إتباع العامي للمجتهد مطلقا. وأما المعقول فهو أن من ليس له أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية إما أن لا يكون متعبدا بشيء وهو خلاف الإجماع من الفريقين وإن كان متعبدا بشيء فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم أو بالتقليد الأول ممتنع لأن ذلك مما يفضي في حقه وفي حق الخلق أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش وتعطيل الصنائع والحرف وخراب الدنيا وتعطيل الحرث والنسل ورفع الاجتهاد والتقليد رأسا وهو من الحرج والإضرار المنفي بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78] وبقوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) وهو عام في كل حرج وضرار ضرورة كونه نكرة في سياق النفي ... ). وقال عضد الدين الإيجي في "شرح مختصر المنتهى" (3/ 634): (من لم يبلغ درجة الاجتهاد يلزمه التقليد سواء كان عاميا أو عالما بطرف صالح من علوم الاجتهاد). وقد عرض الشاطبي للقولين فيه حيث قال في "الاعتصام" (2/ 343): (المكلف بأحكامها - أي الشريعة - لا يخلو من أحد أمور ثلاثة: أحدها - أن يكون مجتهدا فيها فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها. والثاني - أن يكون مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جملة فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه وعالم يقتدي به.

وقد فرق بينهما جماعة من العلماء:

والثالث - أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه فلا يخلو إما أن يعتبر ترجيحها أو نظره أو لا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه. والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه متوجه شطره فالذي يشبهه كذلك، وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم فكذلك من نزل منزلته). وقد فرق بينهما جماعة من العلماء: قال الشيخ سعد الشثري في: "التقليد وأحكامه" (ص/31): (ذهب بعض أهل العلم إلى التفريق بين رتبة الإتباع والتقليد: فقالوا: التقليد التزام المكلف مذهب غيره بلا حجة. وأما الإتباع: فهو ما ثبت عليه حجة. وممن قال بذلك ابن خويز منداد المالكي، وابن عبدالبر، وابن القيم، والشاطبي، وغيرهم. وهؤلاء سوغوا الإتباع ومنعوا التقليد. قالوا: إن الناس حولهم فيهم المجتهد نادرا، المقلد كثيرا، ونلاحظ وجود قسم آخر وسط بين النوعين السابقين وهذا ما نسميه الإتباع، ونسمي أصحابه متبعين. وهؤلاء ليس عندهم القدرة على الاستقلال وفهم الأدلة واستنباط الأحكام منها، ولكنهم في نفس الوقت يفهمون الحجة ويعرفون الدليل فتسميتهم مقلدين ظلم لمعرفتهم بالدليل، وليسوا مجتهدين لعدم استقلالهم بالنظر. قالوا: ولأن ثمة فرقا بينهما، فالتقليد لا يستعمل إلا في الموافقة العمياء بدون دليل، أما الإتباع فهو للموافقة ... فالموافقة نوعان: موافقة عمياء وموافقة مبصرة مميزة، لذا مدح الله أهل هذه المرتبة، قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر: 18]. وكثير من أهل الأصول على عدم التفريق بينهما، يدل على ذلك تفسير كثير منهم التقليد بالإتباع. قالوا: ويدل على ذلك أن معنى الإتباع والتقليد واحد من جهة اللغة.

معنى الإتباع عند العلامة الشنقيطي:

قالوا: بل قد أطلق الله تعالى لفظ الإتباع على المقلدين، قال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170]. وبعد أن بينا ذلك نقول: إن الإتباع أمر عام، والتقليد جزء من أجزائه هذا في اللغة. أما الاصطلاح فلا مشاحة في الاصطلاح). معنى الإتباع عند العلامة الشنقيطي: وقد فسر الشيخ الشنقيطي منزلة الإتباع بمعنى غير المعنى المتبادر من كلام الشيخ الشثري السابق، فقال في "أضواء البيان" (7/ 351): (اعلم أن مما لا بد منه معرفة الفرق بين الإتباع والتقليد، وأن محل الإتباع لا يجوز التقليد فيه بحال. وإيضاح ذلك: أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين، لا يجوز فيه التقليد بحال ; لأن كل اجتهاد يخالف النص، فهو اجتهاد باطل، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد; لأن نصوص الكتاب والسنة، حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان. ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابا أو سنة أو إجماعا إذ لا أسوة في غير الحق، فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الإتباع فقط. ولا اجتهاد، ولا تقليد فيما دل عليه نص، من كتاب أو سنة - سالم من المعارض. والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم. وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه، وهو قوله: التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوع منه في الشريعة، والاتباع ما ثبت عليه حجة. وقال في موضع آخر من كتابه: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح. وكل من أوجب عليك الدليل إتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع. اهـ وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين

الترجيح:

التقليد والاتباع، فقال أبو داود: سمعته يقول: الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخير. انتهى محل الغرض منه. قال مقيده عفا الله عنه، وغفر له: أما كون العمل بالوحي إتباعا لا تقليدا فهو أمر قطعي، والآيات الدالة على تسميته إتباعا كثيرة جدا ; كقوله تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3]. وقوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر: 55] ... والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة. فالعمل بالوحي، هو الإتباع كما دلت عليه الآيات. ومن المعلوم الذي لا شك فيه، أن إتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه من الوجوه، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه. فاتضح من هذا الفرق بين الإتباع والتقليد، وأن مواضع الإتباع ليست محلا أصلا للاجتهاد ولا للتقليد، فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة ; لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنا من كان كما لا يخفى. وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد، وموضع الإتباع ليس محل اجتهاد. فجعل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط، كما ترى ... ). ومنزلة الإتباع على هذا المعنى لا ينكرها أحد، وهي خارجة عن موضوعنا فموضوعنا في التقليد والاجتهاد وهذا لا يكون إلا في المسائل الظنية، وراجع ما سبق في تعريف الاجتهاد. الترجيح: والراجح عندي أن ليس هناك ثمة واسطة بين المجتهد والمقلد فقد قال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) فلم يجعل منزلة وسط بين منزلة السائل ومنزلة المسئول فالقسمة ثنائية، وكما قد سبق وأن ذكرت أنواع المجتهدين وأحكامهم، فأقول أيضا أحوال المقلدين تختلف وهو على طبقات فمنهم من هو على دراية ببعض الأدلة

تتمة:

، منهم من قارب الوصول إلى أحد الأنواع من مرتبة المجتهد، ومنهم ما لا يعرف عن أحكام الشرع شيئا. وبالنظر في أقوال من أثبت هذه الواسطة بين مرتبة الاجتهاد، والتقليد، فهو عنده لاحق بأحد المرتبتين، وقد سبق بيان أن الأولى إلحاقه بالمقلد لقصوره، ومراعاة لحرمة العلم، ولما سبق من أدلة؛ وعليه فلا أجد أي أثر لهذا التفريق فكما قال الشيخ الشثري أنه لا مشاحة في الاصطلاح. تتمة: هل يلزم المجتهد ذكر الدليل؟ لا يلزم المجتهد ذكر الدليل وخاصة أنه قد يخفى وجه دلالته على العامي المستفتي. قال النووي في " آداب الفتوى" (ص / 85): (وينبغي للعامي أن لا يطالب المفتي بالدليل ولا يقل لم قلت فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة طلبها في مجلس آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة ... ) (¬1). قال عضد الدين الإيجي في "شرح مختصر المنتهى" (3/ 634): (من لم يبلغ درجة الاجتهاد يلزمه التقليد سواء كان عاميا أو عالما بطرف صالح من علوم الاجتهاد. وقيل: إنما يلزم هذا العالم التقليد بشرط أن يتبين له صحة اجتهاد المجتهد بدليله، لنا قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] وهو عام في جميع من لا يعلم العلم، فإن علة الأمر بالسؤال هو الجهل، والأمر المقيد بالعلة يتكرر بتكررها، فنقول: وهذا غير عالم بهذه المسألة، فيجب عليه فيها السؤال، ولنا أيضا لم تزل العلماء يستفتون فيفتون ويتبعون من غير إبداء المستند وشاع وذاع ولم ينكر عليهم فكان إجماعا) (¬2). ¬

_ (¬1) وانظر: المسودة (ص/495)، صفة الفتوى (ص/84)، شرح الكوكب (4/ 594)، آداب المفتي والمستفتي (ص/171)، وانظر كلام ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 261)، وتوجيه محمد حسنين مخلوف له في بلوغ السول (ص/98). (¬2) وانظر كلام الآمدي والذي سبق نقله آنفا.

اعتراضات على التعريف:

اعتراضات على التعريف: الأول، والثاني - قال الشيخ الشثري معترضا على من عرف التقليد بأنه إتباع في رسالة "التقليد" (ص/25): (ورُد عليه بأن الإتباع غير التقليد، ويظهر لي أن التقليد جزء من الإتباع لا كله) وأما كونه غيره فهذا على قول من جعل القسمة ثلاثية، وقد سبق وبينا أن القسمة ثنائية فلا يلزمنا هذا الاعتراض. ولما كان الإتباع أعم من التقليد من ناحية اللغة فيكون الإتباع جنسا في التعريف فلا وجه لهذا الاعتراض. فالإتباع يدخل فيه كل ما يتبع من: كتاب، وسنة، وقول صاحب، وإجماع، ومجتهد، ومقلد، وإتباع الآباء والأجداد وإتباع القاضي للشهود، ونحو ذلك، قال الشيخ في "الأصل" (ص/87): (فخرج بقولنا: "من ليس قوله حجة"؛ إتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإتباع أهل الإجماع، وإتباع الصحابي، إذا قلنا أن قوله حجة، فلا يسمى إتباع شيء من ذلك تقليداً؛ لأنه إتباع للحجة). وقد أضاف الشيخ باقي القيود في التعريف ليكون فصلا يخرج به ما دخل في التعريف مما لا يشمله. ولكن التعريف لا يزال غير مانعا، ولابد من إضافة قيد: (في حكم شرعي) لإخراج حكم القاضي بشهادة الشهود، وكذا التقليد في الأمور الدنيوية (¬1). الثالث - وبالنظر إلى التعريف بما سبق من قيود حتى الآن - (إتباع من ليس قوله حجة في حكم شرعي) - نجد أن كلمة (حجة) نكرة في سياق النفي -؛ لأن: ليس فعل يدل على نفي مضمون الجملة في الحال - وعليه فهي تفيد العموم، فالمعنى أنه لا يصح أن يسمى الإتباع تقليدا إلا في حال كون قول المتَّبع ليس بحجة. وهنا إشكال فقد أطلق البعض على أن قول المجتهد حجة في حق العامي لأمر الشرع للمقلد بسؤاله، وأطلق البعض عليه أنه إتباع لا تقليد فيخرج من التعريف بناء على هذا (¬2). ¬

_ (¬1) انظر التقليد للشيخ الشثري (ص/29). (¬2) قال المرداوي في "التحبير" (8/ 4016): (ولو أفتى المفتي العامي بحادثة بحكم. فذهب معظم الأصوليين إلى أنه مقلد لانطباق تعريف التقليد عليه. وذهب الباقلاني في ' التقريب ': ' إلى أن المختار أنه ليس بتقليد أصلا، فإن قول العالم حجة في حق المستفتي، نصبه الله تعالى علما في حق العامي، وأوجب عليه العمل به كما أوجب على المجتهد العمل باجتهاده، وخرج من هذا أنه لا يتصور تقليدا مباحا لا في الأصول ولا في الفروع. ثم قال الباقلاني: إنه لو جاز تسمية هذا تقليدا لجاز أن يسمى التمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل تقليدا ' انتهى). وقال الزركشي في "البحر المحيط" (4/ 557): (في أن أخذ العامي بقول المجتهد هل يسمى تقليدا أم لا فقيل ليس بتقليد لأنه لا بد له من نوع اجتهاد وبه جزم القاضي والغزالي والآمدي وابن الحاجب وحكاه العبادي في زيادته عن الأستاذ أبي إسحاق لأنه بذل مجهوده في الأخذ بقول الأعلم وقال القاضي في مختصر التقريب الذي نختاره أن ذلك ليس بتقليد أصلا فإن قول العالم حجة في حق المستفتي نصبه الرب علما في حق العامي فأوجب عليه العمل به كما أوجب على المجتهد العمل باجتهاده واجتهاده علم عليه ويتخرج من هذا أنه لا يتصور تقليد مباح في الشريعة لا في الأصول ولا في الفروع إذ التقليد على ما عرفه القاضي إتباع من لم يقم بإتباعه حجة ولم يستند إلى علم قال ولو ساغ تسمية العامي مقلدا مع أن قول العالم في حقه واجب الإتباع جاز أن يسمى المتمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل مقلدا قال القاضي ولأنه يستند إلى حجة قطعية وهو الإجماع فلا يكون تقليدا وهذا بناء منه على أحد تفسيري التقليد وذهب معظم الأصوليين قاله إمام الحرمين إلى أنه مقلد له فيما يأخذه لأنا إن فسرناه بقبول القول بلا حجة فقد تحقق ذلك إذ قوله في نفسه ليس بحجة وإن فسرناه بقبول القول مع الجهل بمأخذه فهو متحقق في قول المفتي أيضا قال ابن السمعاني ولعله الأولى لأنه لا يعرف حجة ما يصير إليه من الحكم قبل والإجماع سبق القاضي على أن العوام يقلدون المجتهدين ولو لم يكن تقليدا فليس في الدنيا تقليد ومن نظر كتب العلماء والخلافيين وجدها طافحة بجعل العوام مقلدين ... ).

وللخروج من هذا الإشكال لابد من إضافة قيد (في ذاته) في للتعريف. قال الشيخ الشثري في "التقليد" (ص/30): (قولنا: في ذاته؛ لإدخال إتباع قول المجتهد في حق العامي؛ لأنه حجة لا في ذاته، ولكن بالنصوص من الكتاب والسنة الآمرة بإتباعه، ولإخراج إتباع الإجماع؛ لأنه حجة بذاته). الرابع والخامس - اعترض الشيخ الشثري على التعريف في كتابه "التقليد" (ص/27) بأن فيه إلباسا؛ وعلل اعتراضه بقوله: (إذ قد يظن أن (الإتباع) مضاف إلى فاعله). وهذا الاعتراض بعيد فمحصل ما اعترض به أن المصدر وهو الإتباع أضيف على

قيود أخرى ومناقشتها:

فاعله فصار معنى الجملة في تعريف التقليد: إتباع المجتهد الذي ليس قوله حجة، وحذف المفعول مع تعلق الغرض بذكره لعدم الدلالة عليه، فأصبحت الجملة غير تامة كما أنها قد توهم معنى فاسدا فقد جعلت أن المجتهد هو الذي يتبع. والصواب أن المصدر مضاف إلى مفعوله الذي هو المقلد فهو الذي يتبع المجتهد الذي قوله ليس بحجة كما هو ظاهر عبارة الشيخ العثيمين - رحمه الله -. قيود أخرى ومناقشتها: زاد الشيخ الشثري في رسالته "التقليد وأحكامه" (ص/29) بعض القيود الأخرى، فعرف التقليد بقوله: (التزام المكلف في حكم شرعي مذهب من ليس قوله حجة في ذاته). ثم بين محترزات التعريف فقال: (قولنا: التزام: جنس في التعريف. قولنا: المكلف؛ ليشمل الرجال والنساء، وغير المكلف لا عبرة به في الأحكام التكليفية ... قولنا: مذهب؛ ليشمل القول والعمل والاعتقاد، ويخرج عمل القاضي بقول الشهود. قولنا: من، اسم موصول). (التزام): والتزام فيه معنى الثبوت والدوام والوجوب، قال الفيومي في "المصباح" مادة (ل ز م): (لَزِمَ الشَّيْءُ يَلْزَمُ لُزُومًا ثَبَتَ وَدَامَ، وَلَزِمَهُ الْمَالُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَجَبَ حُكْمُهُ ... ). وقد اختلف العلماء في حكم التقليد ومن الذي يقلد، في حكم تكرار السؤال عن تكرر الحادثة، وقد اختار الشيخ الشثري أن التقليد واجب وهو في حق العامي للمجتهد، وأنه لا يجب تكرر السؤال، وهذه المعاني توافق معنى اللزوم الذي اختاره في تعريف التقليد، ومن خالف في احد المعاني السابقة فلا يصلح هذا المعنى له، ويكون لفظ الإتباع أولى. وعليه فبناء على ما سبق، ومراعاة لمن فرق بين الإتباع والتقليد، فالأولى تعريف التقليد بأنه التزام، وإن كان يصح تعريفه بأنه إتباع.

المكلف: وهنا إشكال وهو من يصح أن يقع منه التقليد، هل يصح من العامي فقط أم يصح من المجتهد في باب، أو من المجتهد المطلق عند ضيق الوقت، أو فيما يخصه، وقد سبق بيان أن المجتهد المطلق لا يقلد مطلقا، وأن المجتهد في باب فهو كالعامي في غيره من الأبواب ويقلد فيها، وأن المتبع - على فرض صحة هذا التقسيم - كالعامي من ناحية عين سؤاله للمجتهد. وعليه فأصبح عندنا أن التقليد محصور في العامي، والمتبع (¬1) الذي قد يفهم الحجة ويعرف الدليل ولكنه في نفس الوقت ليس عنده القدرة على الاستقلال بفهم الأدلة واستنباط الأحكام منها وقد لا يكون قادراً على دفع الشُّبَه عن الدليل والجواب عن أدلة القول الآخر. فلابد من تخصيص المكلف بما يفيد ذلك، كقولنا: (من غير معرفة رجحان دليله) (¬2)، فيدخل فيه العامي من باب أولى. مذهب: قولنا: مذهب؛ ليشمل القول والعمل والاعتقاد، ويخرج عمل القاضي بقول الشهود. قال الشيخ عبدالله عمر الشنقيطي في رسالته "التقليد في الشريعة الإسلامية" (ص/13): (المذهب في إصطلاح الأصوليين: هو الرأي الصادر عن اجتهاد صحيح. فيشمل القول الصادر عن المجتهد في مسألة من مسائل الفقه، أو في مسألة من مسائل أصول الدين على رأي من يرى التقليد فيها، وكذلك يشمل الفعل كأن يفعل المجتهد عباده أو معاملة فإن فعله يدل على أن هذا رأيه. ولا يشمل ذلك تقريره غيره على فعل صدر منه إذا لم يقترن بما يدل على الرضى لجواز أن يكون ما فعله العامي مذهبا لغير ذلك المجتهد ... ). ¬

_ (¬1) وهذا بناء على اختيارنا أن القسمة ثنائية، وأما من يرى أن القسمة ثلاثية فلا يدخل عنده المتبع في حد التقليد، فيخصصه بالعامي فقط، وأما من يرى أن المجتهد يقلد عند ضيق الوقت كالشيخ العثيمين فلابد وأن يخصصه بما يفيد ذلك، وهكذا. (¬2) انظر "أصول الفقه" للشيخ عياض السلمي (ص/477).

مواضع التقليد:

ومما سبق يكون تعريف التقليد هو: (التزام المكلف في حكم شرعي مذهب من ليس قوله حجة في ذاته من غير معرفة رجحان دليله). مواضع التقليد: قال الشيخ - رحمه الله -: (يكون التقليد في موضعين: الأول: أن يكون المقلد عاميّاً لا يستطيع معرفة الحكم بنفسه ففرضه التقليد، ويقلد أفضل من يجده علماً وورعاً فإن تساوى عنده اثنان خير بينهما. الثاني: أن يقع للمجتهد حادثة تقتضي الفورية ولا يتمكن من النظر فيها فيجوز له التقليد حينئذ). وقد سبق الكلام على هذه المسائل وبيان أنه يجوز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل، وأنه عند التعارض يقدم الأعلم من المفتين، فإنْ تساووا أخذَ بقول الأتقى والأورع، فإنْ جهل الأعلمَ أو الأورعَ سأل العارفين بهم عن ذلك، ثم أخذ بمَن يغلب على ظنه أنه الأعلمُ أو الأتقى. وقد سبق بيان أن المجتهد لا يقلد مطلقا بما يغني عن إعادته هنا. حكم التقليد في أصول الدين: قال الشيخ: (واشترط بعضهم لجواز التقليد أن لا تكون المسألة من أصول الدين (¬1) التي يجب اعتقادها، والراجح أن ذلك ليس بشرط). خالف الشيخ قول الأكثرين من الأصحاب والمشهور من المذهب، واختار قول بعض الحنابلة والشافعية واختيار تقي الدين ابن تيمية من أنه يجوز التقليد في مسائل أصول الدين (¬2). ¬

_ (¬1) راجع كلامنا على التفريق بين الأصول والفروع عند الكلام على تعريف الفقه. (¬2) انظر: العدة (4/ 1217)، التمهيد (4/ 396)، الواضح (5/ 237)، المسودة (ص/407)، النبوات (ص/42)، مجموع الفتاوى (20/ 202)، أصول ابن مفلح (4/ 1533)، شرح مختصر الروضة (3/ 656)، التحبير (8/ 4017)، شرح الكوكب (4/ 533)، الفصل لابن حزم (4/ 28)، المحصول للرازي (6/ 125)، الإبهاج (3/ 270)، اللمع (ص/125)، الفقيه والمتفقه (2/ 128)، الإحكام للآمدي (4/ 229)، البحر المحيط للزركشي (4/ 560)، إرشاد الفحول (2/ 241)، الأصول والفروع للشثري (ص/530)، وقد صنفت رسائل وأبحاث مفردة في هذه المسألة من ذلك: رسالة الجيس والكمين لقتال من كفر عامة المسلمين لابن بو جمعة الوهراني، التقليد في باب العقائد وأحكامه لناصر الجديع، التقليد في مسائل الإيمان وأصول الاعتقاد، لرشيد بن حسن بن محمد، وهو منشور في مجلة الحكمة، العدد (32)، حكم التقليد في أصول الدين، لخالد حسين الخالد، وهو بحث منشور في مجلة جامعة دمشق، العلوم الإنسانية عدد شوال/1412هـ.

قال تقي الدين في "مجموع الفتاوى" (20/ 202): (أما في المسائل الأصولية فكثير من المتكلمة والفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يوجب النظر والاستدلال على كل أحد حتى على العامة والنساء حتى يوجبوه في المسائل التي تنازع فيها فضلاء الأمة قالوا لأن العلم بها واجب ولا يحصل العلم إلا بالنظر الخاص. وأما جمهور الأمة فعلى خلاف ذلك فان ما وجب علمه إنما يجب على من يقدر على تحصيل العلم وكثير من الناس عاجز عن العلم بهذه الدقائق فكيف يكلف العلم بها وأيضا فالعلم قد يحصل بلا نظر خاص بل بطرق أخر من اضطرار وكشف وتقليد من يعلم أنه مصيب وغير ذلك وبإزاء هؤلاء قوم من المحدثة والفقهاء والعامة قد يحرمون النظر في دقيق العلم والاستدلال والكلام فيه حتى ذوى المعرفة به وأهل الحاجة إليه من أهله ويوجبون التقليد في هذه المسائل أو الإعراض عن تفصيلها وهذا ليس بجيد أيضا فان العلم النافع مستحب وإنما يكره إذا كان كلاما بغير علم أو حيث يضر فإذا كان كلاما بعلم ولا مضرة فيه فلا بأس به وإن كان نافعا فهو مستحب فلا إطلاق القول بالوجوب صحيحا ولا إطلاق القول بالتحريم صحيحا ... ). وقد استدل الشيخ العثيمين لصحة إيمان المقلد في "شرح السفارينية" (ص/311) بما يلي: (1 - أن الله أحال على سؤال أهل العلم في مسألة من مسائل الدين التي يجب فيها الجزم، فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43] ونسألهم لنأخذ بقولهم، ومعلوم أن الإيمان بأن الرسل رجال من العقيدة ومع ذلك أحالنا الله فيه إلى أهل العلم. 2 - وقال تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس: 94]، ويسألهم ليرجع إليهم، وإذا كان الخطاب هذا للرسول ولم

أنواع التقليد:

يشك فنحن إذا شككنا في شيء من أمور الدين نرجع إلى الذين يقرؤون الكتاب إلى أهل العلم لنأخذ بما يقولون، إذن هذا عام يشمل مسائل العقيدة. 3 - أننا لو ألزمنا العامي بمنع التقليد والتزام الأخذ بالاجتهاد لألزمناه بما لا يطيق، وقد قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [البقرة: 286]. فالصواب المجزوم به القول الثاني: أن ما يطلب فيه الجزم يكتفي فيه بالجزم سواء عن طريق الدليل، أو عن طريق التقليد). وقد اختلف العلماء هل يأثم المقلد في أصول الدين مع الحكم بصحة إيمانه أم لا يأثم؟ والراجح أنه لا يأثم إذ أن الاجتهاد ليس في مقدوره و (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (¬1). أنواع التقليد: قال الشيخ: (التقليد نوعان عام، وخاص: 1 - فالعام: أن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ برخصه وعزائمه في جميع أمور دينه. وقد اختلف العلماء فيه فمنهم من حكى وجوبه لتعذر الاجتهاد في المتأخرين ومنهم من حكى تحريمه لما فيه من الالتزام المطلق لاتباع غير النبي صلى الله عليه وسلم) ينبغي أن ننتبه إلى أن المقلدين والمجتهدين على طبقات، وقد اصطلحنا على أن منزلة الإتباع تدخل ضمنا في مرتبة التقليد ما لم يُحَصِّل أصحابها ملكة الاستنباط ويحققوا شروط الاجتهاد. وسبق وأن تكلمت على طبقات المجتهدين، وبينت أن طبقة المجتهد المستقل هو الذي لا يتقيد بمذهب، ولا يقلد أحدا. وعليه فالأقوى عندي في حكم التمذهب على من دون المجتهد المستقل هو التفصيل: فالعامي أو المقلد الذي لا دراية عنده بالأدلة ولا يملك أي نوع من النظر فهذا الأقوى عندي أنه لا يتمذهب بل إن مذهبه هو مذهب مفتيه، وإنما سمى عاميا اشتقاقا من العمى فهو بيد من أخذ بيده، وهذا هو الأولى في حمل كلام ابن القيم عليه إن ¬

_ (¬1) وراجع كلام تقي الدين السابق.

أضفنا إلي ذلك التعصب. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" (4/ 261): (وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا فيه مذهبان: أحدهما - لا يلزمه وهو الصواب المقطوع به إذ لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأ أهلها من هذه النسبة بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له؛ لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال ويكون بصيرا بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه، وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك ألبتة بل قال: أنا شافعي، أو حنبلي، أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه، أو نحوي، أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله. يوضحه أن القائل إنه شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم انه متبع لذلك الإمام سالك طريقه وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال فأما مع جهله وبعده جدا عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره ولا يلزم أحدا قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره. وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام وهم أعلى رتبة وأجل قدرا وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك ... ومن صحح للعامي مذهبا قال هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي انتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده وهذا الذي قاله هؤلاء لو صح للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه أو أرجح منه أوغير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها بل يلزم منه أنه إذا رأى نص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدم عليها قول من انتسب إليه ... ). وأما من ارتقى عن هذه المنزلة، وله نوع نظر في الأدلة، إلا أنه قاصر عن

مرتبة الاجتهاد فهذا الراجح في حقه هو جواز التمذهب دون التعصب، وفائدة التمذهب أن يتحصل عند الطالب منهج ومعيار منضبط وغير متناقض في النظر إلى المسائل الفقهية، وأيضا سيحقق له التدرج والترقي في سلم العلم، فكل مذهب من المذاهب تعاقبت أجيال على خدمته على مدار قرون طوال، وصنف العلماء فيه مؤلفات كثيرة منها ما يقتصر على رواية واحدة ثم يتدرج، ويعرض للطالب روايتين، وهكذا، وهذه المزية لا يجدها في غير كتب المذاهب، وإنما أنكر الناس التمذهب حينما خلطوه بالتقليد المذموم الذي يتعصب فيه الطالب للإمام ويعتقد أنه قد أحاط بكل مسائل الدين وأدلتها، وأنه معصوم عن الخطأ. وعليه فالصواب أن الطالب يجوز له أن يتمذهب، شريطة ألا يتعصب، بل يرجع عما ظهر له خطأ إمامه فيه، وأقوال الأئمة كثيرة في النهي عن تقليدها. قال المرداوي في "التحبير" (8/ 4086): (ذكر بعض أصحابنا، والمالكية، والشافعية: هل يلزم التمذهب بمذهب والأخذ برخصه وعزائمه؟ على وجهين: أشهرهما: لا، كجمهور العلماء فيتخير. والثاني: يلزمه. واختيار الآمدي منع الانتقال فيما عمل به. وقال الشيخ تقي الدين في الأخذ برخصه وعزائمه: طاعة غير النبي في كل أمره ونهيه وهو خلاف الإجماع، وتوقف أيضا في جوازه. وقال أيضا: إن خالفه لقوة الدليل، أو زيادة علم، أو تقوى، فقد أحسن، ولم يقدح في عدالته بلا نزاع، وقال أيضا: بل يجب في هذه الحال، وأنه نص أحمد. وكذا قال القدوري الحنفي: ما ظنه أقوى، عليه تقليده فيه، وله الإفتاء به حاكيا مذهب من قلده. وذكر ابن هبيرة من مكائد الشيطان: أن يقيم أوثانا في المعنى تعبد من دون الله، مثل: أن يتبين الحق، فيقول: ليس هذا مذهبنا، تقليدا لمعظم عنده قد قدمه على الحق. وقال ابن حزم: أجمعوا أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل، فلا يحكم ولا يفتي إلا بقوله '. واختار النووي أنه لا يلزمه، وقيل: يلزمه التمذهب بمذهب. قال في ' الرعاية ': هذا الأشهر فلا يقلد غير أهله. وقال في ' آداب المفتي ': يجتهد في أصح المذاهب فيتبعه. وقال بعض الشافعية - وهو الكيا - فإنه قطع بأنه يلزمه التمذهب. فعلى هذا يلزمه أن يختار مذهبا يقلده في كل شيء، وليس له التمذهب لمجرد التشهي. قال النووي: ' هذا كلام الأصحاب والذي يقتضيه أنه لا

يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، لكن من غير تلقط للرخص، ولعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه ' انتهى. قوله: {ولا يجوز للعامي تتبع الرخص، وحكي إجماعا، وخالف ابن هبيرة، ويفسق عند أحمد وغيره، وحكي عنه: لا، وحمل القاضي الأول على غير متأول أو مقلد، والحنفية كالقاضي: له أن يتمذهب بمذهب فيأخذ به في الأصح}. يحرم على العامي تتبع الرخص، وهو: أنه كلما وجد رخصة في مذهب عمل بها ولا يعمل بغيرها في ذلك المذهب، بل هذه الفعلة زندقة من فاعلها، كأن القائل بهذه الرخصة في هذا المذهب لا يقول بالرخصة بتلك الرخصة الأخرى. ومما يحكى أن بعض الناس تتبع رخص المذاهب وأقوال العلماء وجمعها في كتاب، وذهب بها إلى بعض الخلفاء، فعرضها على بعض العلماء الأعيان، فلما رآها قال: ' يا أمير المؤمنين هذه زندقة في الدين، ولا يقول بمجموع ذلك أحد من المسلمين '. قال ابن عبد البر: لا يجوز للعامي تتبع الرخص إجماعا. ونقل عن إسحاق المروزي جوازه، لكن الذي في ' فتاوى الحناطي ' عنه أنه قال: من تتبع الرخص فسق، وأن ابن أبي هريرة قال: لا يفسق. وحكاه الرافعي عنه في كتاب ' القضاء '. وحكى الجواز عن المروزي في ' جمع الجوامع '، وغيره. وقال المحلي في ' شرحه ': (والظاهر أن هذا النقل عنه سهو، لما في ' الروضة '، وأصلها عن الحناطي وغيره عن أبي إسحاق المروزي: أنه يفسق بذلك، وعن ابن أبي هريرة: أنه لا يفسق). ولذلك قطع به السيوطي في شرح منظومته ' جمع الجوامع '. وكنت قد نقلت ذلك عن المروزي فأصلحته، وذكرته عن ابن أبي هريرة لذلك، ويحمل أن يكون للمروزي قولان. فعلى الأول يفسق عند الإمام أحمد، ويحيى القطان، وغيرهما من العلماء، ولكن حمله القاضي على غير متأول أو مقلد. قال ابن مفلح: ' وفيه نظر، وذكر بعض أصحابنا في فسق من أخذ بالرخص روايتين، وإن قوي دليل، أو كان عاميا فلا، كذا قال، وقالت الحنفية: كالقاضي أبي يعلى: إلا أن يتمذهب بمذهب فيأخذ به في الصحيح ') (¬1). ¬

_ (¬1) انظر: المسودة (ص/414)، الوصول إلى علم الأصول لابن برهان (ص/369)، إعلام الموقعين (4/ 261)، أصول الفقه لابن مفلح (4/ 1563) المختصر (ص/168)، شرح الكوكب المنير (4/ 574).

2 - التقليد الخاص:

2 - التقليد الخاص: قال الشيخ: (والخاص: أن يأخذ بقول معين في قضية معينة فهذا جائز إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد). ولا يخرج المقلد في هذه القضية الخاصة عن أن يكون: إما مجتهدا، أو مقلدا، وقد سبق بيان الراجح أن المجتهد لا يقلد، وأما المقلد فله أن يسأل مفتيا عن حادثة ويأخذ بقوله، وقد سبق ذكر ضوابط ذلك، وهذا هو المعروف في عهد السلف الصالح. فتوى المقلد: قال الشيخ: (قال ابن القيم: "ذلك جائز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد" (¬1)، وهو أصح الأقوال وعليه العمل). قال ابن النجار في "شرح الكوكب" (4/ 557) ما ملخصه: ("لا يفتي إلا مجتهد". عند أكثر الأصحاب، ومعناه عن أحمد، فإنه قال: وينبغي أن يكون عالما بقول من تقدم، وقال أيضا: ينبغي للمفتي أن يكون عالما بوجوه القرآن، والأسانيد الصحيحة ¬

_ (¬1) ونص عبارته كما ذكرها في إعلام الموقعين (1/ 45) قال: (قلت هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد: أحدها - أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد لأنه ليس بعلم والفتوى بغير علم حرام ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم وهذا قول أكثر الأصحاب وقول جمهور الشافعية. والثاني أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يفتي به غيره وهذا قول بن بطة وغيره من أصحابنا قال القاضي ذكر بن بطة في مكاتباته إلى البرمكي لا يجوز له أن يفتي بما سمع من يفتي وإنما يجوز أن يقلد لنفسه فأما أن يتقلد لغيره ويفتي به فلا. والقول الثالث أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد وهو أصح الأقوال وعليه العمل قال القاضي ذكر أبو حفص في تعاليقه قال سمعت أبا علي الحسن بن عبد الله النجاد يقول سمعت أبا الحسين بن بشران يقول ما أعيب على رجل يحفظ عن أحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي بها).

والسنن. وقال أيضا: لا يجوز الاختيار إلا لعالم بكتاب وسنة ... وقال صاحب التلخيص والترغيب: يجوز للمجتهد في مذهب إمامه، لأجل الضرورة. وقال أكثر العلماء: يجوز لغير المجتهد أن يفتي، إن كان مطلعا على المأخذ، أهلا للنظر ... "وما يجيب به المقلد عن حكم فإخبار عن مذهب إمامه، لا فتيا" قاله أبو الخطاب وابن عقيل والموفق. "ويعمل بخبره" أي: بخبر المخبر "إن كان عدلا" لأنه ناقل كالراوي) (¬1). قال في ابن القيم في "إعلام الموقعين" (4/ 196): (إذا تفقه الرجل وقرأ كتابا من كتب الفقه أو أكثر وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح فهل يسوغ تقليده في الفتوى فيه للناس أربعة أقوال: الجواز مطلقا، والمنع مطلقا، والجواز عند عدم المجتهد ولا يجوز مع وجوده، والجواز إن كان مطلعا على مأخذ من يفتي بقولهم والمنع إن لم يكن مطلعا ... وكلام أصحاب أحمد في ذلك يخرج على وجهين فقد منع كثير منهم الفتوى والحكم بالتقليد وجوزه بعضهم لكن على وجه الحكاية لقول المجتهد كما قال أبو إسحاق بن شاقلا وقد جلس في جامع المنصور فذكر قول أحمد أن المفتي ينبغي له أن يحفظ أربعمائة ألف حديث ثم يفتي فقال له رجل أنت تحفظ هذا فقال إن لم أحفظ هذا فأنا أفتي بقول من كان يحفظه وقال أبو الحسن بن بشار من كبار أصحابنا ما ضر رجلا عنده ثلاث مسائل أو أربع من فتاوي الإمام أحمد يستند إلى هذه السارية ويقول قال أحمد بن حنبل). والراجح أنه لا يفتي إلا مجتهد سواء أكان مستقلا أو مقيدا بمذهب، والمجتهد في باب أو مسألة لا يفتى إلا في الباب أو المسألة التي هو أهل للنظر فيها دون غيرها، وأما من دون هؤلاء وليس على صفة من صفاتهم فلا يحل له الفتوى لا لنفسه ولا لغيره، وغاية الأمر أنه إن عدم العالم المجتهد في بلدة ما، واحتيج إلى فتوى المقلد فهنا يجوز له أن ينقل أقوال العلماء، فيقول قال أحمد، قل الشافعي، وهكذا ويكون ¬

_ (¬1) انظر: المسودة (ص/485)، أصول ابن مفلح (4/ 1555)، التحبير (8/ 4070)، المختصر لابن اللحام (ص/167)، المدخل (ص/392)، البحر المحيط (4/ 586)، آداب المفتي والمستفتي (ص/101)، آداب الفتوى للنووي (ص/33)، إرشاد الفحول (2/ 247).

قبول قوله من باب الخبر لا الإفتاء، ولابد أن يكون عالما بما ينقل من أحكام بصيرا بمواردها وشمولها لمحل النزاع، وهذه حالة ضرورة على خلاف الأصل. قال ابن حمدان في "صفة الفتوى" (ص/24) بعد أن ذكر نحوا مما سبق ذكره من أقسام المجتهدين: (فمن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة من غير ضرورة فهو عاص آثم (¬1)؛ لأنه لا يعرف الصواب وضده فهو كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر؛ لأنه بفقد البصر لا يعرف الصواب وضده (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين: 4، 5] قال ابن الجوزي: يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، ومن تصدى للفتيا ظانا أنه من أهلها فليتهم نفسه وليتق ربه فإن الماهر في علم الأصول، أو الخلاف، أو العربية دون الفقه يحرم عليه الفتيا لنفسه ولغيره؛ لأنه لا يستقل بمعرفة حكم الواقعة من أصول الاجتهاد لقصور آلته ولا من مذهب إمام لعدم حفظه وإطلاعه عليه على الوجه المعتبر فلا يحتج بقوله في ذلك وينعقد الإجماع دونه على أصح المذهبين ... وقيل يجوز لمن حفظ مذهب ذي مذهب ونصوصه أن يفتي به عن ربه وإن لم يكن عارفا بغوامضه وحقائقه وقيل لا يجوز أن يفتي بمذهب غيره إذا لم يكن متبحرا فيه عالما بغوامضه وحقائقه كما لا يجوز للعامي الذي جمع فتاوي المفتين أن يفتي بها. وإذا كان متبحرا فيه جاز أن يفتي به والمراد بقول من منع الفتوى به أنه لا يذكره على صورة ما يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى غيره ويحكيه عن إمامة الذي قلده لصحة تقليد الميت، فعلى هذا من عددناه من أصناف المفتين من المقلدين ليس على الحقيقة من ¬

_ (¬1) قال النووي في " شرح مسلم" (12/ 13): (قوله صلى الله عليه وسلم (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) قال العلماء أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم فإن أصاب فله أجران أجر باجتهاده وأجر بإصابته وإن أخطأ فله أجر باجتهاده وفي الحديث محذوف تقديره إذا أراد الحاكم فاجتهد قالوا فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقه ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك وقد جاء في الحديث في السنن القضاة ثلاثة قاض في الجنة واثنان في النار قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار وقاض قضى على جهل فهو في النار).

المفتين ولكن قاموا مقامهم وأدوا عنهم فعدوا معهم وسبيلهم في ذلك أن يقولوا مثلا مذهب أحمد كذا وكذا ومقتضى مذهبه كذا وكذا أو نحو ذلك ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامة إن كان ذلك منه اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال جاز ... ). وكتبه حامدا ومصليا ... أبو المنذر محمود بن محمد بن مصطفى المنياوي وكان الفراغ من تبييضه يوم الاثنين 9 من شهر رجب لعام 1431هـ الموافق 21 من شهر يونيه لعام 2010م أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتقبل مني هذا العمل وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وألا يجعل لأحد فيه شيئا، وأن يدخر لي أجره يوم ألقاه. وأرجو من الله أن يكتب له القبول وأن ينفع به المسلمين، أنه ولي ذلك وهو القادر عليه. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

§1/1