الشبهات وأثرها في العقوبة الجنائية في الفقه الإسلامي مقارنا بالقانون

منصور الحفناوي

مقدمة

مقدمة: بسم الله الذي يهدي إلى الحق، وإلى الطريق السوي المستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده1. وصلى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه، بعثه الله للناس بما يحييهم وأمرهم بالاستجابة إليه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 2، وأنزل عليه شريعة من الأمر قويمة محكمة تهدف خير الناس، ونفعهم ودفع الحرج عنهم، شريعة ربطت الدنيا بالآخرة، فعاش المسلم في ظلها ينعم بطاعة الله، وثوابه في كل ما يأتيه من عمل صالح، ويراقب الله ويخشى عقابه على كل ما قاربه من شر أو ضرر، ظهر ذلك واضحًا في نتاج الفكر الإسلامي، الذي سبر أغوار الحياة، وشمل جوانبها، فلم يجد فيها صحيحًا واضحًا قويمًا إلا ما شرعه الله سبحانه وتعالى لخلقه، وما ذلك إلا تصديقًا لما أخبر به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما، لن تضلوا أبدًا كتاب الله وسنتي". وهذان هما الدستور، يحكمان حيان الإنسان بما وضعا من نظم، وتشريعات، وقواعد تنظم السلوك الإنساني: وتعني هذه الدراسة بجانب من الجوانب التشريعية الإسلامي إلا وهو تشريعات التجريم، والعقاب في الفقه الإسلامي.

_ 1 من الآية 88 من سورة الأنعام. 2 من الآية 24 من سورة الأنفال.

هذا الجانب الذي توهم أدعياء التحضر أنه لا يواكب الحضارة البشرية في عصرها الحديث، وهم واهموان في هذا جانبهم الصواب فيما ذهبوا إليه. ودعواهم هذه وأن كانت تستهدف أبعاد التقنينات الإسلامي عن مجال التطبيق، فإنها توجب أيضًا على المشتغلين بالفكر الإسلامي أن يشحذوا هممهم لكشف كنوز تراثهم وتشريعاتهم، وبهذا يمكنهم أن يدحضوا كل هذه الافتراءات بالحجة والدليل. وهذا ما حدى بي إلى أن أنتحي هذا الجانب من الدراسة التشريعية إذ أنه في تقديري من أهم ما يجب دراسته، وإبانة ما فيه من فكر إسلامي عادل وقويم إذا ما قيس، وقورن بالفكر الوضعي في هذا المجال، مغتنمًا هذه الصحوة الدينية التي كثيرًا ما يسمع صوتها، وهو ينادي بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإحلالها بدلًا من التقنينات الوضعية، وعلى الأخص في مجال التجريم والعقاب، هذا الجانب الذي عطل في أكثر بلاد العالم الإسلامي، واستعيض عنه بالفكر البشري الذي يخضع للتغيير، والتبديل نتيجة الهوى والرغبة، ولا غرو فهو في غالبه فكر حل بلادنا مع ظروف قهر، واستبداد وتسلط من المخرب الأجنبي الذي ادعى لنفسه أنه يريد أن يعمر بلادنا، وحتى في أشد أوقات العداء له أطلقنا عليه كلمة مستعمر، ولا عجب فما أكثر أسماء الأضداد استعمالًا بين شعوب الأمة الإسلامية. إن عجز القوانين الوضعية عن الوصول إلى مخرج مما يزداد انتشارًا كل يوم بين صفوف الأمة من جرائم، وفساد أصبح أمرًا واضحًا لا يحتاج إلى برهان، بل إن التقنينات الوضعية بما وضعت من نظم تكون أحيانًا عاملًا من عوامل إذكاء روح الجريمة بين الناس.

إن ذلك كله أصبح عاملًا ملزمًا لكل مسلم، ومريد للخير أن يوجه إلى الطريق السوى بقلمه وفكره، وبكل ما في وسعه، ومن بين ما يقدم في هذا المجال الدراسة الفقهية التي تكشف ما في الفقه الإسلامي من تفوق، وسمو على كل التقنينات، والفكر الوضعي. وأن الفقه الإسلامي في شتى مجالاته، وعلى الأخص في مجال التجريم والعقاب قد وصل بالناس إلى بر الإمان يوم حكمهم، وقضى بينهم بقضائه العادل، ومبدئه القويمة الرشيدة. وليس ذلك من باب العاطفة الدينية التي لا يقوم عليها دليل، وإنما الدليل واضح نطق به إنسان غير مسلم يوم قال لعمر قولته المشهورة: حكمت فعدلت، فأمنت فنمت يا عمر. وقد كان عمر -رضي الله تعالى عنه- منفذا لتعاليم الإسلاام قاضيًا بين الناس بقانون العدل وقضائه، ولم تكن لديه هذه الكثرة الكثيرة من السجون التي تعج بمن فيها من مجرمين عائدين محترفين، أن حال الأمة الإسلامية الآن ينادي بأعلى صوته. يطلب عودة إلى ما كانت الإمة عليه يوم لم يكن فيها مسجون، ولا سجن ولا مظلوم، ولا مهضوم، واستوى الناس فيها أمام حكم الإسلام، فاقتضص عمر لأحد رعاياه من حاكم مصر، وجلس علي وهو خليفة المسلمين بجوار يهودي أمام قاض من رعية علي ومحكوميه، ويطلب القاضي من علي البينة، والدليل على كل ما يقول. إأن كل ما خطه البشر من تقنينات وضعية لم يبق حال الجريمة على ما هي عليه، وهذا أضعف الثمرات المرجوة منه وأدناها، وإنما زادت الجريمة عما كانت عليه من ذي قبل، في ظل هذه التقنينات الوضعية، واحترف المجرمون، وتزايد عدد معتادي الإجرام، والعائدون إلى

السجون، وطفح الكيل، فعقدت الندوات والمؤتمرات تبحث عن حلول، وتطلب علاجًا، جربوا كل عقاقير الفكر ولم يصلوا، مع أن الدواء الناجح أمامهم، وهم يصدون أبصارهم عنه. أنه العلاج الذي قدره من خلق الناس وعلم ما ينفعهم، وليس ذلك محض خيال، وإنما هو الواقع المجرب. لهذا كله، ودعوة إلى محاولة إقناع عن طريق المقارنة بين النظام التشريعي الجنائي الإسلامي، والتقنينات الوضعية، في جانب من قواعده الحاكمة -إن صح التعبير وجازت المقارنة- ولتقديم دليل جديد لكل من أراد المعرفة، وتطلع إلى حلول وعلاج -إن كان صادقًا في تطلعاته ونواياه- أقدم هذه الدراسة حول مبدأ من مبادئ الترشيع العقلي الإسلامي العادل، هذا المبدأ الذي يعد تجسيدا واضحًا لكل ما حاط به هذا التشريع الإسلامي الإنسان من راعية، وحماية وأمن وأمان، لم يضارعه في ذلك أو يدانيه أي تقنين وضعي أيا كان واضعه، ومقننه. وسيتضح ذلك بإذن الله تعالى وعونه فيما قدمت من دراسة لموضوع الشبهات، وأثرها في العقوبة الجنائية في الفقه الإسلامي مقارنًا بالقانون، ولا يخفى أن المقارنة أن أجيزت، فإنما هي مقارنة بين ما شرع منذ أربعة عشر قرنًا، ولا يزال ثابتًا شامخًا عظيمًا لم ولن يتغير؛ لأنه لا تبديل لكلمات الله ذلك الدين القيم، وبين أحدث ما وصلت إليه النظريات القانونية الوضعية. والشريعة وإن كانت أجل من أن تقارن بغيرها من التقنينات الوضعية، إلا أن هذه الدراسة محاولة لدحض مزاعم لم تبن على دراسات علمية، إذ هي دعاوى قد صدرت عمن لم يدرس الشريعة

ولم يقف على ما فيها من أحكام محكمة، ودعاوى تصدر عن جهل أحكام هذه الشريعة دعاوى باطلة، ومفتراه ولا عجب. فقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وقد ينكر الفم طعم الشهد من سقم وقد قسمت هذه الدراسة إلى تمهيد وبابين وخاتمة: أولًا: التمهيد: "كلمة عامة عن الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي المقارن" ويتكون من فصلين: الفصل الأول: كلمة عامة عن الجريمة في الفقه الإسلامي المقارن، ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: تعريف الجريمة والجناية، وبيان ما بينهما من اتفاق، وتعريف الجريمة عند القانونيين، وتقسيمها إلى جناية وجنحة ومخالفة. المبحث الثاني: أقسام الجريمة: وفيه خمسة مطالب: "أ" المطلب الأول: أقسام الجريمة باعتبار ما تقع عليه. "ب" المطلب الثاني: أقسام الجريمة باعتبار العقوبة المستحقة. وما يترتب على ذلك من حيث إمكان العفو عن الجاني، ومدى ما للقاضي من سلطة حيال العقوبة الحدية.

ج: المطلب الثالث: أقسام الجريمة باعتبار الحق المعتدى عليه، وما لكل قسم من هذه الأقسام من سمات من حيث لزوم الخصومة، أو مواصفات الإثبات، أو التقادم والتوبة وما ينتج عنها من آثار في كل من الشريعة والقانون. د: المطلب الرابع: أقسام الجريمة من حيث القصد وعدمه، وإشارة إلى الجرائم المقصودة وغير المقصودة بين المباشرة، وعدمها. هـ: المطلب الخامس: الجريمة من حيث الإيجاب والسلب. المبحث الثالث: أركان الجريمة: وفيه ثلاثة مطالب: أ: المطلب الأول: الركن الشرعي للجريمة، وما يتصل به من قاعدة لا تجريم، ولا عقاب إلا بشرع مبلغ، وما يرتبط بهذه القاعدة من سريان النص من حيث الزمان والمكان والأشخاص، وحدود ذلك من الشريعة والقانون. ب: المطلب الثاني: الركن المادي للجريمة، وما يتصل من المساهمة الجنائية، وعقوبة كل من المساهمين في رأي فقهاء الشريعة والقانون. ج: المطلب الثالث: الركن الأدبي للجريمة، وما يتصل به من الإدراك والإرادة المختارة. الفصل الثاني: العقوبة وبعض الجوانب المتعلقة بها، ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: العقوبة وأقسامها. ويشتمل على مطلبين:

أ: المطلب الأول: تعريف العقوبة عند اللغويين، وفقهاء الشريعة والقانونيين. ب: المطلب الثاني: أقسام العقوبة إذ ينقسم باعتبارات مختلفة إلى أقسام عدة: فتنقسم باعتبار ذاتيتها إلى: 1- عقوبة أصلية. 2- عقوبة بديلة. 3- عقوبة تبعية. وتنقسم باعتبار التحديد وعدمه إلى: 1- عقوبة حدية. 2- عقوبة تعزيزية. ثم بيان المراد بالعقوبة الحدية، مع ذكر عقوبة الزنا في كل من الشريعة والقانون. وعقوبة السرقة، وآراء الفقهاء في القطع في السرقة الأولى، ثم عقوبة الحرابة. وعقوبة شرب الخمر، وبيان الرأي في كونها عقوبة حدية، أم تعزيزية ثم عقوبة الردة. المبحث الثاني: بعض سمات التشريع العقابي في كل من الشريعة والقانون، ويشتمل على ثلاثة مطالب: أ: المطلب الأول: أهداف التشريع العقابي، ورعاية ظروف الجاني. ب: المطلب الثاني: موقف الشريعة والقانون من العقاب على الجريمة منذ نشأة فكرتها.

ج: بين الشريعة والقانون في مجال التنظيم العقابي من حيث أحكام البناء التشريعي، وأساس التشريع العقابي، وما يترتب عليه. الباب الأول: الشبهات: ويشتمل على تمهيد وثلاثة فصول. أما التمهيد: فيتناول بيان مدى حرص الإسلام على أن يستر الإنسان أخاه. الفصل الأول: تعريف الشبهة، وبيان الرأي في أعمالها في الحدود، ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: المراد بالشبهة عند اللغويين، وفقهاء الشريعة وبيان ما يجري مجرى الشبهة من الشك والنسيان، أو السهو وما يتصل بذلك من حديث عن القاعدتين الأصوليتين: اليقين لا يزال بالشك، والأصل براءة الذمة، وأثر هاتين القاعدتين في التقنينات الحديثة، والفرق بين أعمال كل من هاتين القاعدتين في كل من الفقه الإسللاامي، والقانون الوضعي. المبحث الثاني: أثر الشبهة في الحد: وهو عبارة عن بيان ما ذهب إليه كل ممن أعمل الشبهة، ومن لم يعملها ومناقشة ذلك. الفصل الثاني: الشبهات التي تعتري أركان الجريمة. ويشتمل على مبحثين:

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي. ويشتمل على ثلاثة مطالب: أ: المطلب الأول: شبهة الدليل. ب: المطلب الثاني: شبهة الحق. ج: المطلب الثالث: شبهة الملك. وتنقسم هذه الشبهة إلى: 1- شبهة الملك الخالص. 2- شبهة الملك المشترك. 3- شبهة إباحة الملك. مع بيان ما قيل في ذلك من آراء. المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي. ويشتمل على مطلبين: أ: المطلب الأول: بيان المراد بالجهل وأقسامه من حيث الاعتداد به في درء العقوبة الحدية من عدمه، مع بيان وجهة نظر فقهاء القانون في الجهل بالأحكام. ب: المطلب الثاني: بيان المراد بالإرادة، وبيان المراد بالإكراه، وما يعتد به منه في درء العقوبة الحدية. الفصل الثالث: الإثبات: ويشتمل تمهيدًا، وثلاثة مباحث: التمهيد: وفيه تعريف الإثبات، وبيان طرقه التي سيعرض لها البحث.

المبحث الأول: الإقرار. ويشتمل على ثلاثة مطالب: أ: المطلب الأول: شروط المقر الذي يعتد بإقراره في إلزامه العقوبة الحدية، وآراء الفقهاء في ذلك. ب: المطلب الثاني: شروط في الإقرار الذي يعتد به، والقول في الرجوع عنه فيما يتصل بحق الله سبحانه وتعالى. ج: المطلب الثالث: الإقرار عند فقهاء القانون، ومقارنة ذلك بما جاء عن فقهاء الشريعة. المبحث الثاني: الشهادة. ويشتمل على مطلبين: أ: المطلب الأول: شروط في الشاهد الذي يعتد بشهادته، وما يتصل بذلك من الحديث عن الرؤية، والذكورة والنطق والرأي فيه. ب: المطلب الثاني: شروط في الشهادة من حيث وضوحها، وإفادتها اليقين، ورأي فقهاء الأحناف في مسألة التقادم، وقدرة المشهود عليه على الدفاع عن نفسه، والرأي في ذلك. المبحث الثالث: القرائن. معناها وأعمالها في إثبات الحدود والرأي في ذلك. الباب الثاني: الجرائم الحدية. الشبهات التي تعتريها، وما لها من أثر في عقوباتها، ويشتمل على خمسة فصول. الفصل الأول: جريمة الزنا، وما يتعلق بها من شبهات. ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في الركن الشرعي للجريمة. كالوطء بعد النكاح الباطل: وهو كل نكاح لم يصح لا بأصله، ولا بوصفه أو كالوطء بعد النكاح الفاسد: وهو ما كان عقده صحيحًا بأصله دون وصفه. المبحث الثاني: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية، لقيام شبهة في القصد الجنائي، سواء كان ذلك نتيجة جهل الفاعل، بالحكم الشرعي أم بمن وقع عليه الفعل جهلًا يعتد به، أم كان انتقاء القصد الجنائي نتيجة إكراه الفاعل إكراهًا يعتد فه في درء العقوبة، وما ذكره فقهاء القانون بالنسبة لذلك. المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية، لقيام شبهة في إثباته، ويشمل ذلك الحديث عن اشتراط تعدد الإقرار، وبدء القاضي بالرجم، واشترط أن يكون الشهود أربعة، أن يؤدوا الشهادة في مجلس واحد، وأن يعينوا شريك المشهود عليه، وأن يبدأ الشهود بالرجم. الفصل الثاني: جريمة السرقة وما يتعلق بها من شبهات، ويشتمل الحديث عنها عن مبحثين: المبحث الأول: جريمة السرقة الصغرى. ويشتمل الحديث عنها على مطلبين: أ: المطلب الأول: وفيه تعريف السرقة عند اللغويين والفقهاء، والقانونيين مع بين ما بين هذه التعاريف من اتفاق واختلاف. ب: المطلب الثاني: وفيه بيان أنواع من السرقات اختلف الفقهاء في القول بوجوب الحد بها نظرًا لقيام شبهة من الشبهات، التي تعتري الركن الشرعي لجريمة السرقة، ويشمل ذلك الحديث عما يأتي:

1- كون المسروق محرزًا والخروج به من حرزه. 2- بيان الرأي في فعل النشال وما يلزمه به. 3- مناقشة ما قيل في ما يلزم النباش. 4- سرقة أحد الزوجين من مال الآخر، وما يراه فقهاء القانون في ذلك. 5- سرقة المال الذي له فيه شركة أو حق، وحديث عن السرقة من بيت المال. أو المال العام، ورأي فقهاء الشريعة والقانون في حكم ذلك. 6- الاشتراك في السرقة صوره، وبيان الرأي فيه. 7- سرقة ما اختلف في ماليته. 8- الخصومة: آراء الفقهاء في اشتراط قياسها لإيجاب القطع. المبحث الثاني: جريمة السرقة الكبرى "الحرابة". ويشتمل الحديث عنها على مطلبين: أ: المطلب الأول: تعريفها عند اللغويين والفقهاء. ب: المطلب الثاني: سرقات اختلف في وجوب حد الحرابة بها. ويشتمل ذلك الحديث عما يأتي: 1- إذا قام بالحرابة جماعة، ولم يبلغ نصيب الفرد منهم نصابًا. 2- أخذ المال على سبي المغالبة في مكان آهل بالسكان، ورأي القانون في ذلك. 3- من تقع منهم، أو عليهم الحرابة ومناقشة ذلك. 4- الحرابة بمشاركة الصبي أو المجنون. 5- حرابة القرابة المحرمية.

الفصل الثالث: جريمة شرب الخمر، وما يتعلق بها من شبهات، ويشتمل الحديث عنها ثلاثة مباحث. المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي، ويشمل ذلك الحديث عما يأتي: 1 شرب قليل الأنبذة، وما قيل فيه من آراء. 2- وصول الخمر في الجوف عن غير طريق الفم، والرأي في ذلك. المبحث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد لقيام شبهة في القصد الجنائي، وما ورد من أقوال في ذلك. المبحث الثالث: الشبهات التي تعتري إثبات شرب الخمر. الفصل الرابع: جريمة القذف، وما يتلعق بها من شبهات، ويشمل الحديث عنها مبحثين: المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي، ويشمل ذلك الحديث عما يأتي: 1- القذف عن طريف الكناية، أو التعريض وما ورد في ذلك من آراء. 2- الشهادة بالزنا إذا جرح الشهود أو أحدهم. المبحث الثاني: شروط في المقذوف، ويتناول ذلك ما يأتي. 1- أن يكون بالغًا عاقلًا. 2- إسلام المقذوف، وما ذهب إليه ابن حزم. 3- عفة المقذوف.

الفصل الخامس: جريمة الردة وما يتعلق بها من شبهات. ويشتمل الحديث عنها مبحثين: المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي لجريمة الردة، ويشمل ذلك الحديث عما يأتي: 1- إذا قال الكافر: لا إله إلا الله ثم رجع إلى ما كان عليه. 2- من أسلم وهو سكران. 3- من أسلم مكرهًا. 4- إسلام الصبي. 5- السحر تعليمه وتعلمه. المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي. وذكرت بعد ذلك أثر الشبهات في العقوبة التعزيرية، ثم الخاتمة وقد أبرزت فيها أهم نقاط البحث، ثم ما عن لي من مقترحات، وقد حاولت في كل ما عرضت من قضايا ذكر الاتجاهات الفقهية لأئمة فقه الشريعة الإسلامية مغلبًا ما أراه راجحًا مستدلًا لما أقول، ثم أذكر رأي القانون إذا كانت المسألة التي أتحدث عنها قد تناولها القانونيون، من غير تكلف أو افتعال لتغليب، رأي فقهاء الشريعة، أو لإيجاد وجه شبهه، أو اتفاق بين ما ذكره فقهاء الشريعة، ورجال القانون، إذ إن الفقه الجنائي الإسلامي لا يضيره أن يخالفه الفقه الجنائي الوضعي، ولا يؤكد من كماله أن يأخذ القانونيون بما ذكره من نظريات. وقد أشرت إلى مصادر البحث، ومراجعه ذاكرًا أسم مؤلفيها، وطبعتها ودار نشرها إن وجد ذلك، ونظرًا لتعدد الطبعات ودور النشر في بعض ما رجعت إليه نظرًا لارتيادي دور كتب متعددة، وعدم تيسر حصولي على مصادر البحث، ومراجعه بصفة مستقرة، فقد أشرت إلى ذلك في مواضع كثيرة.

كما أن بعض الآراء الفقهية لم يتيسر لي الوقوف عليها من مراجعها الأصلية لعدم استطاعتي الحصول عليها، فأشرت إلى الكتب التي وجدت فيها هذه الآراء، هذا هو جهدي المتواضع فإن أكن قد وفقت فيه، فالحمد لله سبحانه وتعالى أولًا وأخيرًا، فهو الموفق والمعين {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} . وأن أكن قد قصرت وتعثرت خطواتي، فعذري أن الطريق شاق، ويغفر لي أني طالب علم أنشد المعرفة، جزى الله عني خيرًا كل من دلني عليها. {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} 1 وأخيرًا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 2.

_ 1 من الآية 10 من سورة الكهف. 2 من الآية 43 من سورة الأعراف.

التمهيد

التمهيد الفصل الأول: كلمة عامة عن الجريمة في الفقه الإسلامي المقارن المبحث الأول: الجريمة والجناية أولا: تعريف الجريمة ... باب: التمهيد الفصل الأول: كلمة عامة عن الجريمة في الفقه الإسلامي المقارن المبحث الأول: "لجريمة والجناية" أولًا: تعريف الجريمة جاء في كتب اللغة الجرم: التعدي، والجرم: الذنب والجمع أجرام وجروم، وهو الجريمة، وأجرم فهو مجرم، وأجرم جنى جناية، والجاني والمجرم: المذنب1. وفي الحديث الشريف: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن أمر لم يحرم، فحرم على الناس من أجل مسألته" 2، وفي القرآن الكريم اشتقاقات كثيرة كل منها يحمل في بنائه هذه الأحرف الثلاثة "جرم"، وقد غاير كل منها الآخر في معناه ومؤداه، وأن كانت كلها تدور حول معان متقاربة بل ومتداخلة أحيانًا. فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} 3 {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} 4، {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} 5، {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ

_ 1 لسان العرب، مادة جرم. 2 رواه البخاري ومسلم وابن حنبل. معجم ألفاظ الحديث ط لندن. صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، وتكلف ما لا يعنيه جـ9 ص117. ط دار الشعب "أبي داود ج2 ص507 ط الحلبي". "3، 4" 12، 18 من سورة المائدة. 5 الآية 89 من سورة هود.

جَهَنَّمَ} 1، {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا} 2، {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيه} 3. فالمشتقات من مادة "جرم" في كل هذه الآيات الكريمة، قد دار معناها حول الأذناب، والمخالفة. والنهي للمسلمين عن أن يحملهم البغض، والخلاف حملًا آثمًا مخالفًا لما يأمر به الله سبحانه وتعالى، ويرضاه الدين4 من هذا كله يتضح أن كلمة جريمة تطلق على كل عمل خالف به فاعله أمر ربه، وحاد به عن الطريق المستقيم وجانب باتيانه، الحق والعدل، مع مراعاة أن الأعمال التي يجرمها الشرع تتفاوت في كمها، وكيفها طبقًا لما وضحه الشرع وبينه.

_ 1 الآية 74 من سورة طه. 2 الآية 11 من سورة المعارج. 3 الآية 25 من سورة سبأ. 4 القرطبي ج3 ص2043، ج4 ص 3318، ج5 ص4267 ط دار الشعب الجريمة للشيخ أبو زهرة ص25 در الفكر، التشريع الجنائي عبد القادر عوده ط ص66 ط دار التراث. والجريمة قد وجدت قبل أن تلمس قدم الأرض، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الآيات 11-13] من سورة الأعراف كما وجدت الجريمة من الإنسان منذ عصره الأول، وأول مخالفة هي ما حدث من الإنسان الأول بالاعتداء الذي صدر منه، وزوجه بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها. المدخل للفقه الإسلامي لأستاذي الدكتور محمد سلام مدكور ص722 ط الرابعة دار النهضة العربية 1969م.

كما أن العقاب عليها إما أن يكون عقابًا دنيويًا -بدنيا كان، أو ماليًا أوهما معًا وإما أن يكون عقابًا أخرويًا مرجع الحكم فيه إلى الله سبحانه وتعالى" "إن شاء سامح وغفر، وإن شاء عاقب واقتص". {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} 1. وما خصه الفقهاء من هذا ببحوثهم هو ما يفصل فيه القاضي، ويعاقب عليه سواء أكانت العقوبة حدية، أم تعزيرية. وقد وضح ذلك من تعريفهم للجريمة بأنها محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد، أو تعزير2 وعلى هذا فهي عند الفقهاء أخص منها عند اللغويين.

_ 1 الآية 14 من سورة الفتح. 2 الأحكام السلطانية للماوردي ص192 ط الأولى مطبعة السعادة

ثانيا: تعريف الجناية

ثانيًا: تعريف الجناية هي لغة اسم لما يجنيه المرء من شر اكتسبه، يقال: جنى على قومه جناية أذنب ذنبًا يؤاخذ عليه. وأصله من جنى الثمر: وهو أخذه من الشجر، وعو عام، إلا أنه خص بما يحرم من الفعل. ويسمى مكتسب الشر جانبًا، والذي وقع عليه الشر: مجنيا عليه، فالجناية هي الذنب، والجرم، وما يفعله الإنسان مما يوجب العقاب، أو القصاص في الدنيا والآخرة1.

_ 1 لسان العرب ج 18 ص168 الدار المصرية للتأليف، المصباح المنير ج1 ص58.

والجناية في الشرع: اسم لفعل مجرم سواء أكان في مال أو نفس، لكن في عرف الفقهاء: الفعل المؤثم الواقع على النفس والأطراف، سواء أكان قتلًا أم ضربا أم جرحًا، أم غير ذلك. وقد خصها بعض الفقهاء بما وقع من جرائم الحدود والقصاص1، وزاد على ذلك بعض فقهاء الأحناف، فأطلقها على كل فعل مجرم سواء أكان في مال أم كان في نفس1. وقد اتجه ابن قدامة هذا الاتجاه في تعريفه للجريمة، فأطلقها على كل فعل فيه عدوان على نفس أو مال، ثم أشار إلى ما تعارف عليه الفقهاء من الحنابلة وغيرهم من أنهم خصوا الجريمة بالتعدي على الأبدان بما يوجب قصاصًا، أو غيره2، فقال: "لكنها في العرف" أي عرف الكتاب في الفقه، مخصوصة بما يحصل من التعدي على الأبدان. وسموا الجناية على الأموال غصبًا ونهبًا وسرقة، وجناية واتلافًا3. وذكر فقهاء الشافعية أن الجناية أعم من أن تكون قتلًا، أو قطعًا أو جرحًا، فهي تشمل الجنايات على الأموال والأعراض، والأنساب والعقول والأديان4. أما ابن رشد فقد ذهب إلى أن الجنايات التي لها حدود مشروعة هي ما يأتي:

_ 1 تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي ج6 ص97 البحر الرائق "لابن نجيم ج8 ص327 ط دار المعرفة بيروت. 2 كشاف القناع ج3 ص332. 3 المغني ج7 ص625 الجريمة للشيخ أبو زهرة ص60-26 ط دار الفكر العربي. 4 حاشية الباجوري ج2 ص524 ط الحلبي.

1- جنايات على الأبدان والنفوس، والأعضاء وأشار إليها بما يسمى قتلًا وجرحًا. 2- جنايات على الفروج، وهي المسماة زنا وسفاحًا. 3- جنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذًا بحرب سمى حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمي بغيًا، وما كان منها مأخوذًا على وجه المغافصة1 من حرز يسمى سرقة، وما كان منها يعلو مرتبة، وقوة سلطان سمي غصبًا. 4- جنايات على الأعراض، وهي المسماة قذفًا. 5- جنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الله من المأكولات والمشروبات، وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط2. وابن رشد لم يذكر ضمن ما ذكره من الجنايات ما يقع من جنايات على الدين، والعقيدة كما ذكر فقهاء الشافعية. واقتصار ابن رشد على ما ذكر هنا ناتج من أنه يتكلم عن الجنايات التي لها حدود مشروعة. ويبين من هذه التعريفات مدى ما بين الجريمة، والجناية من تطابق، واتفاق عند بعض الفقهاء إلى الحد الذي أصبح به اللفظان عندهم يرادف كل منهما الآخر. ومن هنا كان إطلاقي لفظ الجريمة في مختلف الموضوعات على كل ما هو مأثم شرعًا خصوصًا، أما جمهور فقهاء الحنابلة، ومن وافقهم فقد

_ 1 المغافصة المفاجأة والأخذ على غرة، المنجد مادة غفص. 2 بداية المجتهد ونهاية المقصد لابن رشد ج2 ص426-427 ط مكتبة الكليات الأزهرية.

خصوا الجناية يما يقع على الأموال من غصب، وسرقة إتلاف، وخصوا الجريمة بما يقع من تعد على الأبدان. أما شراح القانون الوضعي، فإنهم قد قسموا الجريمة إلى جناية وجنحة، ومخالفة الأمر الذي يترتب عليه تخصيص نوع من الجرائم لا يجوز إطلاق جناية عليها عند فقهاء القانون، إذ أنهم قد عرفوا الجريمة بأنها: الفعل أو الترك الذي نص القانون على عقوبة مقررة له، أو أنها: سلوك غير مشروع سواء أكان فعلًا أم امتناعا يمكن إسناده لمرتكبه، ويقرر له القانون عقوبة أو تدبيرًا احترازيًا، وخصوا الجناية من ذلك بأنها ما كان معاقبًا عليه بعقوبات الإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة كانت أو مؤقتة، أو السجن، وهذا ما نصت عليه المادة العاشرة من قانون العقوبات، كما أطلقوا على الفعل أو الترك جنحة إذا كان معاقبًا عليه بعقوبة الحبس التي تزيد على أسبوع، أو بالغرامة التي تزيد على جنيه مصري "المادة 11"، فإذا لم يزد الحبس على أسبوع، أو لم تزد الغرامة على جنيه مصري كان الفعل، أو الترك حنيئذ مخالفة طبقًا لما نصت عليه المادة "12" من قانون العقوبات1. ويتبين من هذا أن القانونيين يطلقون على السلوك غير المشروع جناية إذا كانت العقوبة المقررة له هي الإعدام، أو الأشغال الشاقة مؤبدة كانت، أو مؤقتة أو السجن.

_ 1 شرح قانون العقوبات القسم العام لكل من أ. د. محمود مصطفى ص35 ط 1974م أ. د. محمود نجيب حسني ص45 سنة 1977م، أ. د. أحمد الألفي ص40، 49 ط 1977م أ. د. فتحي سرور 143، التشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر عوده ط ص68.

أما جمهور فقهاء الشريعة، فإن الجناية عنةدهم تطلق على كل ما جرم من سلوك فعلًا كان، أو امتناعًا ما دام الإثم قد لزم من قام به حتى ولو لم يترتب على هذا الإثم عقوبة من العقوبات الدنيوية، ومن هنا جاء قول الفقهاء: الجناية على الحج والجناية على الصيام، إلى غير ذلك من العبادات. فالجناية هنا بإطلاقها العام تشمل كل ما جرم، بصرف النظر عما يلزم به من وقع منه هذا السلوك. مع ملاحظة أن الشريعة الإسلامي قد نصت على عقوبات جرائم معينة وحددتها، وتركت تحديد عقوبات باقي الجرائم لولي الأمر الذي يعالج ذلك بما يتفق، وهدف المشروع وغايته. ونظرًا لما يعتري المجتمع من ظروف، ومتغيرات لزم ولي الأمر دوام النظر في معالجة ذلك بما يحقق المصلحة التي استهدفهًا المشروع الحكيم.

المبحث الثاني: أقسام الجريمة

المبحث الثاني: أقسام الجريمة المطلب الأول: أقسام الجريمة باعتبار ما تفع عليه ... المطلب الأول: أقسام الجريمة باعتبار ما تقع عليه ما يقع من الجاني قد يصيب المجني عليه إصابة ينتج عنها الإتيان على ما هو ضروري بالنسبة له. وقد تقع هذه الجناية على أمر آخر من الأمور الحاجية، أو الأمور التحسينية ومن هنا ينقسم ما يقع من الجاني إلى ما يأتي: 1- جرائم تقع على الضروريات. 2- جرائم تقع على الحاجيات. 3- جرائم تقع على التحسينات. أولًا: الضروريات هي الأمر المقصودة لذاتها، وما يقع من اعتداء على هذه الأمور الضرورية يعد من أغلظ الجرائم، وأشدها عقابًا، ويتضح فيما يأتي: أ: جرائم يقع الأعتداء فيها على أمر لازم لبقاء حياة الإنسان، ووجوده مثل جرائم الاعتداء على النفس الإنسانية بالقتل، أو قطع أحد الأطراف. ب: جرائم يقع الاعتداء فيها على الفروج كالزنا، وما ينتج عنه من إفساد للحرث والنسل. ج: جرائم يقع الأعتداء فيها على الأموال، كالسرقة التي هي اعتداء على المال الموجود في حوزة صاحبة بما يعرضه للضياع غالبًا؛ لأن الآخذ يصعب تحديده ودفعه لمجيئه مستترًا. د- جرائم يقع الاعتداء فيها على الأنساب والأعراض، كالقذف وما ينتج عنه من إشاعة للفاحشة، وطعن في الأعراض، وما يتبع ذلك.

هـ: جرائم يقع الأعتداء فيها على العقل الذي ميز الله به الإنسان، وجعله منا ط التكليف، فالاعتداء عليه بالكسر، أو غيره اعتداء على أمر ضروري إذ المحافظة عليه حق لله والمجتمع. و: جرائم يقع الاعتداء فيها على الدين، وهو من أهم الضروريات والزمها، ومن هذه الجرائم الارتداد والكفر، والزندقة لما ينشأ عنها من إفساد بعد هداية وإصلاح، ولذا فإن مثل هذه الجرائم البغيضة تجب مقاومتها، بقوة وحزم يصلان إلى قتل الجاني. ثانيًا الحاجيات هي: الأمور التي ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي مصالح لا تنفك عن حاجة الإنسان. وما يقع من جرائم على هذه الأمور الحاجية يتضح فيما يلي: أ: جرائم يقع الاعتداء فيها على حرية الإنسان، بحسبه أو تقييد فكره. ب: جرائم يقع الاعتداء فيها على المال، بنهبه أو اغتصابه، فهذه الجرائم تقع على حق التملك، إلا أن الاعتداء فيها يمكن دفعه ويسهل إثباته، ويستطيع ولي الأمر إعادة المال بيسر لوضوح أمر الجاني بخلاف السرقة لتخفي الجاني فيها، ومجيئه مستترًا. ج: جرائم يقع الأعتداء فيها على العرض بصورة لا تصل حد الزنا، مثل معانقة الأجنبية، وغير ذلك مما يؤدي إلى الجريمة الحدية. د: جرائم يقع الاعتداء فيها على العقل، ولكن لا ينتج عنها ذهابه، كتعاطي أنواع من المخدرات لا تصل بمن تعاطاها إلى حد إذهاب العقل إلا أن تعاطيها ما يؤدي إلى الإدمان، وما ينتج عنه. هـ: جرائم يقع الاعتداء فيها على الدين، ولكنها لا تصل بمن

وقعت منه إلى حد الكفر أو الزندقه، وذلك كأن ينسب إلى الدين ما ليس منه مما قد ينفر الناس، أو يشكك في العقيدة. ثالثًا: الجرائم التي يقع الاعتداء على الأمور التحسينية: مثل ما يقع على الإنسان فيما يمس كرامته بما لا يصل إلى حد القذف، ومثل ما يقع على المال من جرائم يترتب عليها ضياعه كالنصب، وما يماثله، ومثل جرائم كشف الستر والتجسس على الأسرار، والعورات التي تقع بالإنسان، وتلحق به الإيذاء والضرر. وأقسام الجريمة باعتبار ما يقع عليه بالصورة التي أوضحتها منها ما يعاقب عليه بأشد العقوبات، وأقساها نظرًا؛ لأنها جرائم وقعت على أمور ضرورية مقصودة لذاتها أكد الشرع على حمايتها، وعدم الاقتراب منها وحدد العقوبة التي تنزل بكل من يعبث بهذه الضروريات. ومن أقسام الجريمة ما يقع على أمور حاجية، أو وتحسينية وهي جرائم تقع على أمر غير مقصود لذاته، ومثل هذه الجرائم أباح الشارع لولي الأمر أن يضع لها من العقوبات ما يكفل حماية المجتمع وأمنه.

المطلب الثاني: أقسام الجريمة بإعتبار العقوبة المستحقة

المطلب الثاني: أقسام الجريمة باعتبار العقوبة المستحقة تختلف الجريمة قوة وضعفًا بقدر ما تحلق بالمجني عليه من ضرر، وبقدر ما تخيف المطمئنين، وتروع المجتمع الهادئ الآمن، وتهدر قيمه ومن هنا اختلف العقوبة المستحقة من جريمة إلى آخرى، ولذا يمكن أن تقسم الجرائم باعتبار العقوبات المترتبة إلى قسمين أساسيين: القسم الأول: جرائم ذات عقوبة محددة من لدن الشارع الحكيم لا تتغير عقوبتها باختلاف زمان، أو مكان طالما وقعت الجريمة، وتحققت شروط إلزام عقوبتها. وتنقسم هذه الجرائم المحددة العقوبة إلى: 1- جرائم حدية إذا ثبتت على الجاني لزمته عقوبتها، ولم يعد لأحد الحق في إسقاط هذه العقوبة، أو استبدال عقوبة أخرى بها. وهذه الجرائم هي: "أ" الزنا، "ب" شرب الخمر عند من يرى أن عقوبتها من العقوبات الحدية، "ج" السرقة، "د" القذف، "هـ" الردة، "و" الحرابة. ويطلق الفقهاء على هذه الجرائم الحدود دون ذكر لفظ الجريمة، وعند الحديث عن العقوبة يذكرون لفظ الجريمة التي يعاقب عليها بعد ذكر كلمة الحد، فيقولون مثلًا: حد الزنا، ويريدون بذلك العقوبة المعاقب بها من أتى جريمة الزنا، وهكذا: 2- جرائم القصاص والدية: وهي: القتل العمد، أو شبه العمد، أو الخطأ، والجناية على ما دون النفس عمدًا أو خطأ1. فهذه الجرائم كلها جرائم حدد المشرع عقوبتها، وجعل العقوبة فيها حقًا للمعتدى عليه، ثم لورثته من بعده. فجرائم القصاص حدد الله سبحانه وتعالى عقوبتها، فيما جاء به القرآن الكريم من قول الله سبحانه وتعالى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2.

_ 1 يقصد بالاعتداء على ما دون النفس الاعتداء الذي لا ينتج عنه موت المعتدى عليه. 2 الآية: 178 من سورة البقرة.

"أ" دية تجب أصلًا على القاتل. "ب" دية تجب بدلًا عن القصاص. فالدية التي تجب أصلًا على القاتل هي: دية القتل الخطأ. وقد بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدودها بأن قضى أن من قتل خطأ، فديته مائة من الإبل1. وقدرت الدية بثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، واستمر الأمر كذلك حتى استخلف عمر -رحمه الله- فقام خطيبًا فقال: "ألا إن الإبل قد غلت ففرضها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح مقدارًا لم يحفظه من روى ذلك". هذا وغيره مما ذكره المحدثون والفقهاء مطولًا في باب الدية2، أرى أن يلتزم به كحد أدنى للدية بالنسبة لكل ما تجب فيه الدية سواء أكان نفسًا بشرية أم عضوًا من الأعضاء، أو أكثر مع إمكان الزيادة على هذا المقدار على سبيل التعويض في حالة ما إذا كان الشخص المعتدى عليه ذا قيمة خاصة بين مواطنيه وأقرانه، وكذا بالنسبة للعضو الذي تعرض للتلف بسبب الاعتداء؛ لأن الأعضاء تتفاوت قيمتها من شخص

_ 1 سنن أبي داود ج2 ص491-492 ط مصطفى الحلبي. 2 المراجع السابق. الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ شلتوت ص399، وما بعدها ط مكتبة الجمهورية العربية، العقوبة للشيخ أبو زهرة ص606 وما بعدها ط دار الفكر. النظام العقابي الإسلامي دراسة مقارنة د. أبو المعاطي حافظ ص 427، وما بعدها.

لآخر، إذ أن يد الفارس نفعها أكبر من يد العاطل، وقدم لاعب الكرة مثلًا -التي يعتمد عليها في مهارته- تزيد قيمة الاعتماد عليها عن قدم غيره، وهكذا كل عضو أساسي يعتمد عليه صاحبه أكثر من غيره من ذوي الحرف الأخرى في تحصيل كسبه، وإنقاذ عمله. وقد يستأنس لذلك بما روي عن الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- من أنه كان يغلظ الدية الواجبة على الوالد الذي قتل ولده عمدًا1. وبما روي عن الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه- من أنه كان يغلظ الدية في قتل الخطأ إذا كان القتل قد وقع في الحرم، أو في الأشهر الحرم، أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل2. وقد روى مثل ذلك أيضًا عن الإمام أحمد -رضي الله تعالى عنه3.

_ 1 المدونة ج6 ص306-307ط 1323 هـ. 2 يقول الشيرازي: وإن كان القتل في الحرم أو في الأشهر الحرم، أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل وجبت دية مغلظة، لما روى مجاهد أن عمر -رضي الله تعالى عنه- قضى قتل في الحرم أو في الأشهر الحرم أو محرمًا، بالدية وثلث الدية، وروى أبو النجيح عن عثمان -رضي الله تعالى عنه- أنه قضى في امرأة قتلت في الحرم، فجعل الدية ثمانية آلاف دية وألفين للحرم، وروى نافع بن جبير أن رجلًا قتل في البلد الحرام في الأشهر الحرم، فقال ابن عباس: ديته اثنا عشر ألفًا وللشهر الحرام أربعة آلاف، فكملها عشرين ألفًا، فإن كان القتل في المدينة، ففيه وجهان أحدهما أنه يغلظ. المهذب ج2 ص196 ط عيسى الحلبي. 3 يقول ابن قدمة: وذكر أصحابنا أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء، إذا قتل في الحرم، والشهور الحرم، وإذا قتل محرمًا في الحرم أو في الشهر الحرام، فأما إذا قتل ذا رحم محرم، فقال أبو بكر: تغلظ ديته. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أننا لا تغلظ.. وعن ابن عمر أنه قال: من قتل في الحرم أو ذا رحم محرم، أو في الشهر الحرام فعليه دية وثلث المغني ج7 ص772-774 ط مكتبة الجمهورية العربية.

كما جاء عن فقهاء الشيعة الزيدية ما يفيد تغليظ الدية في بعض الحالات، كما في دية شبه العمد، فتغلظ عندهم في الدراهم، والغنم، والبقر، والحلل بزيادة خمس الدية، واعتبر التغليظ في الإبل بأسنانها1. ففي كل ما سبق مما ذكره الفقهاء غلظت، وتغليظها وأن كان مرجعه فيما ذكر هو الوصف الذي يربط الجاني بالمجني عليه، أو مراعاة للمكان أو الزمان الذين وقعت فيهما الجريمة، إلا أنه وصف خرجت به الدية عن مقدراها، وزادت عن حدها الواجب للحالات الأخرى التي لم يتوافر فيها وصف من هذه الأوصاف السابقة التي أوردها الفقهاء اجتهادًا، واستئناسًا بذلك أرى أن يلتزم بالقدر الذي حدد دية -كحد أدنى بالنسبة لما تجب فيه الدية نفسًا، أو غيرها ثم بعد ذلك يمكن أن يزاد في الدية الاعتبارات الأخرى يقدرها الإسلام، ويرفع من شأن، ومنزلة من تتوفر فيه هذه الاعتبارات على سبيل التعويض، وأمر ذلك كله متروك تقديره لولي الأمر، ما دام النظر إلى ذلك معتبرًا من باب تقدير العقوبات التعزيرية. فما يزيد عن الدية العادية نظرًا؛ لأن من وقع عليه ما يوجب الدية له منزلة خاصة -هو عقوبة تعزيرية يلزم بها الجاني زيادة على العقوبة المقررة من لدن الشارع الحكيم. القسم الثاني: جرائم ليست لها عقوبة محددة، إذ لم يرد نص من الشارع بتقدير عقوبة محددة لها، وإنما ترك لولي الأمر، فهو الذي يضع العقوبة المناسبة لكل جريمة من هذه الجرائم التعزيرية بما يكفل حماية المجتمع، وأمن الفرد والحفاظ على القيم، والفضائل

_ 1 الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، لشرف الدين بن الحسين بن أحمد اليمني الصنعاني ج4 ص249-252 ط مطبعة السعادة سنة 1349هـ.

والأخلاق، ومن ثم يمكن أن تختلف هذه العقوبات باختلاف الزمان والمكان، وكذا باختلاف الأشخاص1.

_ 1 الرأي المعتمد عند فقهاء الأحناف؟؟ أن التعزير عقوبة مفوضة إلى رأي الحاكم من حيث المبدأ، والحاكم يحدد لكل عقوبة حدًا أعلى وحدًا أدنى، والقاضي يختار المناسب من الحدين أو ما بينهما وما يعلم أن الجاني ينزجر به مع النظر إلى حال الجريمة والمجرم، أما بالنسبة للجريمة، فيقول الاسترشمني: "ينبغي أن ينظر القاضي إلى سببه، فإن كان من جنس ما يجب به الحد، ولم يجب لمانع وعارض يبلغ التعزير أقصى غايته، ولكنه مفوض إلى رأي الإمام فصول الاسترشمني ص14، وبالنسبة للمجرم ومراعاة حاله يقول الزيلعي: أنه في تقدير التعزير ينظر إلى أحوال الجانين، فإن من الناس من ينزجر باليسر، ومنهم من لا ينزجر إلا بالكثير، ويرى بعض الأحناف عدم تفويض القاضي في العقوبة التعزيرية لغلبة جهل القضاة، وعدم الرأي فيهم من حيث الدين والدنيا، وقد قال الطرسوسي في شرح منظومة الكنز بحواز التفويض للقاضي المجتهد الذي يعرف الأحكام الشرعية، والذي أرجحه هو أن تقدير العقوبة التعزيرية متروك لولي الأمر يقدره حسب المصلحة. ونظرًا؛ لأن ولي الأمر غالبًا ما يكون من غير المختصين في أمور التشريع، فإنه يختار لذلك من هو أهله من العلماء المتخصصين، ويجعل لكل عقوبة حدًا أعلى، وحدًا أدنى والقاضي مفوض حينئذ في اختيار العقوبة المناسبة من بين ما قدره ولي الأمر، كما أنه لا يجوز أن يلي القضاء من يجهل الأحكام الشرعية هذا، والراجح عند الحنفية هو الذي عليه المالكية، وهو ما رآه الشافعية والحنابلة كل ذلك إذا لم يكن التعزير بالضرب، فإذا كان التعزير ضربًا، فولي الأمر مقيد بحيث لا يزيد ما حدده الفقهاء فيما ذكروه. ابن عابدين 3/ 183، السندوق 7/ 603-605، تبصرة الحكام 2/ 366، نهاية المحتاج 7/ 174-175 الماوردي ص224، السياسة الشرعية ص53، الحسبة ص38، د. عبد العزيز عامر: التعزير ط 393-401 الإسلام عقيدة وشريعة، الشيخ محمود شلتوت ص 311 ط دار الشرق النظام العقابي الإسلامي. د. أبو المعاطي حافظ ص473-474

والتقسم السابق للجرائم المبني على أساس تقدير العقوبة، أو عدم تقديرها يظهر أثره بالنسبة للجرائم، وعقوبتها من حيثيات مختلفة. أما بالنسبة لجرائم القسم الأول، وعقوبتها فإن منها جرائم لا يجوز العفو عنها إذا بلغت الحاكم حتى ولو لم يحكم فيها. ومنها ما أجاز فقهاء الشافعية، وابن قدامة العفو فيها حتى وإن رفع الأمر للقاضي نظرًا؛ لأن الحق للآدمي، وتلزم مطالبته1. أما الجرائم التي لا يجوز العفو عمن ارتكبها إذا بلغت الحاكم، فمثل جريمة الزنا، وجريمة شرب الخمر عند من يرى أن عقوبتها من العقوبات الحدية. أما جريمة القذف، فإن هناك من الفقهاء من أجاز العفو عن الجاني مطلقًا رفعت إلى القاضي، وحكم فيها أو لم يحكم فيها، بشرط أن يكون العفو خالصًا لوجه الله. ومن الفقهاء من قيد العفو فيها بكونه قد وجد قبل صدور الحكم، أما إذا وجد بعد صدور الحكم فلا أثر له؛ لأنه بعد الحكم في جريمة القذف أصبح الاستيفاء حقًا لله تعالى، ولم

_ 1 ذهب فقهاء الشافعية إلى أن عفو المقذوف يسقط الحد عن القاذف؛ لأن ما يجب بالقذف من حد، وتعزير هو حق للمقذوف يستوفي إذا طلبه، ويسقط إذا عفى عنه، ووافقهم في ذلك ابن قدامة؛ لأن الحق في إسقاط عقوبة القذف لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه. المهذب ج2 ص274 المغني ج8 ص269 أما فقهاء الأحناف، فإنهم لم يجيزوا إسقاط عقوبة القذف بعفو المقذوف إذا ثبتت -الجريمة بالحجة، بدائع الصنائع ج9 ص4601 مطبعة الإمام بالقلعة.

يعد للمقذوف حق حينئذ، وبين القائلون بعدم قيام أثر للعفو رأيهم بقولهم: إن حقوق العباد بطريق المماثلة، إما صورة ومعنى، وإما معنى لا صورة؛ لأنها تجب بمقابلة المحل جبرًا، والجبر لا يحصل إلا بالمثل ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى، فلا يكون حقه ولا ينفي كونه حقًا لله تعالى اشتراط الدعوى من المقذوف1. والذي أميل إليه أنه إذا كان إثبات الجريمة بالبينة، وقد حكم القاضي بالعقوبة الحدية، فلا أثر لعفو المقذوف حينئذ، لكون الحق أصبح لله تعالى خالصًا أما إذا كان عفو المقذوف قبل حكم القاضي بالعقوبة الحدية، فإن ذلك العفو ينتج أثره، ولا يلزم الجاني بالعقوبة الحدية، نظرًا لانعدام المطالبة وطلبًا للستر على المقذوف؛ لأن في إنقاذ الحد على القاذف زيادة أعلام بما كان منه من قذف، وهو أمر مطلوب دفعه، ومنعه وإزالته، أما جرائم القصاص فإن العفو فيها ممكن، سواء قبل رفع الدعوى أو بعد رفعها قبل صدور الحكم، أو بعد صدوره؛ لأن الحق الغالب هنا هو حق العبد2. أما بالنسبة لأثر العفو في جريمة السرقة، فإن ما رود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أفاد جواز عفو المسروق منه عن السارق قبل رفع الأمر إلى القاضي، أما بعد رفع الأمر للقاضي، فلا أثر للعفو حينئذ، لما روي من أن رجلًا جاء بسارق ردائه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمر النبي بالسارق أن يقطع، فقال من جاء به: لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فهلا قبل أن تأتيني"

_ 1 بدائع الصنائع للكاساني ج9 ص4203 مطبعة الإمام بالقلعة. فتح القدير لابن الهمام ج5 ص327 ج الحلبي. 2 لمرجع السابق، الأم للإمام الشافعي ج6 ص13ط دار الشعب.

قال الشوكاني: هذا الحديث رواه الخمسة إلا الترمذي1، أما فقهاء الشيعة الزيدية، فقد ورد عنهم أن مما يسقط القطع عن السارق عفو المسروق منه، فإذا كان المال المسروق مملوكًا لشخص واحد، وعفا عن السارق سقط القطع، وإن ألزم السارق رد المال. أما لو كان المال المسروق مملوكًا لجماعة، فقد اشترط فقهاء الشيعة الزيدية لإسقاط القطع، أن يكون العفو عن السارق قد صدر عن جميع الخصوم الذين لهم حق في المال المسروق، حتى ولو طلبوا رد المال، ولو لم يكن نصيب كل واحد منهم إلا دون النصاب.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص145، وذهب الإمام أبو حنيفة، ومحمد إلى أن السارق إذا وهب المسروق بعد القضاء، وقبل الإمضاء سقط عنه الحد، وقد ردوا على ما ذهب إليه أبو يوسف من القول بوجوب القطع استنادًا لما جاء به الحديث المذكور: بأن لا حجة لأبي يوسف فيه؛ لأن المروي قوله: هو عليه صدقة وقوله: "هو" يحتمل أنه أراد به المسروق، ويحتمل أنه أراد به القطع، وهبة القطع لا تسقط الحد: يدل عليه أنه روى في بعض الرويات أنه قال: وهبت القطع. وكذا يحتمل أنه تصدق عليه بالمسروق، أو وهبة منه، ولكنه لم يقبضه والقطع إنما يسقط بالهبة مع القبض: بدائع الصنائع ج9 ص4279. وما ذهب إليه أبو حنيفة، ومحمد بعيد الاحتمال: إذ كيف يتصور أن المسروق منه يهب القطع؟ وأما ما قالاه من أن بعض الروايات قد جاءت بذلك، فهي رويات لرواة اختلط عليهم الأمر، وأمثال هؤلاء لا يعتد برواياتهم هذه في أمور التشريع الخاصة بالحدود، أما قولهما بأنه تصدق عليهم بالمسروق، أو وهبه ولكنه لم يقبضه، فهو قول لا تنهض به حجة؛ لأنه لو أمكن إسقاط القطع في مثل ذلك بالهبة لأمضى ذلك الرسول قبض الموهوب، أو لم يقبض؛ لأنه لا يتصور من الرسول قطع يد لتأخر قبض الموهوب.

وعلى هذا، فلو عفا البعض وتمسك البعض لزم السارق القطع. وأجابوا عما يمكن أن يوجه إليهم من اعتراض مصدره أنهم فرقوا بين عفو أحد الشركاء هنا، وبين عفو أحد الشركاء في استحقاق القصاص إذ أنهم قالوا بأن عفو أحد الشركاء في استحقاق القصاص، إذ أنهم قالو بأن عفو أحد الشركاء في القصاص يترتب عليه إسقاطه أجابوا بقولهم: أن الشركاء في القصاص لا يستحق كل منهم إلا البعض، والقصاص لا يتبعض لذا، فإنه يسقط بعفو أحد الشركاء. أما القطع، فإنه لكل واحد من الشركاء ثبت له بهتك حرزه1. هذا ما قاله فقهاء الشيعة الزيدية، وإن كنت أخالفهم الرأي نظرًا؛ لأنهم لم يذكروا سندهم الذي اعتمدوا عليه في القول بذلك. كما أن الحديث السابق يدل دلالة قاطعة على عكس ما قالوا به، وذهبوا إليه إذ أن المسروق منه لما وجد أن السارق ستقطع يده، بادر بالعفو عنه ووهبه ما سرقه، ومع ذلك أجابه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "هلا قبل أن تأتيني". وهذا ولا شك بين واضح في إثبات ما دامت الخصومة قد وجدت، وقضى في القضية، وحكم على السارق بالقطع. فلا عبرة بعد ذلك بعفو المسروق منه؛ لأن الحق في القطع وإنفاذه حينئذ أصبح لله سبحانه وتعالى: وحق الله تعالى هنا لا يجوز التنازل عنه.

_ 1 شرح الأزهار ج4 ص374 ط حجازي سنة 1357 هـ التاج المذهب لأحكام المذهب، لأحمد بن القاسم العنسي اليمني الصنعاني ج4 ص328 ط، أولى عيسى الحلبي، ويراجع ما جاء من أقوال الفقهاء في اشتراط النصاب من عدمه نيل الأوطار ج7 ص141-143.

وما بقي للآدمي بعد الحكم بالعقوبة هو ملكيته لما سرق منه إن شاء طالب به، وإن شاء تنازل عنه. أما بالنسبة لجرائم القسم الثاني، وهي الجرائم التعزيرية، فإن منها جرائم لا تقبل العفو فيها -وعفو المجني عليه في هذه الجرائم، وإن كان لا يسقط العقوبة كلية، إلا أنه يعد من الظروف المخففة عن الجاني. والجرائم التي لا تقبل العفو فيها -مع اعتبار العفو فيها ظرفًا مخففًا هي الجرائم التي تمس حقوق المجتمع. أما الجرائم التي تقع على الأفراد، ويعاقب عليها تعزيريا، فإن من حق هؤلاء الأفراد الذين وقعت عليهم أن يعفو عما يمسهم، ويتصل بحقوقهم، وللقاضي بعد ذلك أن يعفو عن الجاني كلية. فإذا لم يعف الأفراد عما يتصل بحقوقهم من الجرائم التعزيرية، فإن للقاضي أن يعفو عن الجاني إذا رأى أن ذلك أصلح للمجتمع، وأنفع وهذا ما ذهب إليه فقهاء الشافعية1. أما ما عليه الجمهور، فإنه لا يجوز للقاضي أن يعفو عما يتصل بحقوق العباد من جرائم تعزيرية إلا بموافقتهم2. ثانيًا: مدى ما للقاضي من سلطة حيال العقوبة الحدية ذهب فقهاء أهل السنة، ومن وافقهم إلى أن جرائم القسم الأول ذات العقوبة المحددة، إذا رفع أمرها للقاضي، وثبتت عنده لم يكن له

_ 1 أسنى المطالب ج4 ص162-163، نهاية المحتاج ج7 ص175. 2 حاشية ابن عابدين ج3 ص188 تبصرة الحكام لابن فرحون على هامش فتح العلي المالك ج2 ص 369، مواهب الجليل ج 6 ص 320 المغني ج10 ص 349 يراجع التعزير الدكتور عبد العزيز عامر ص 414-425 التشريع الجنائي ج1 ص 81-82.

سوى الحكم بعقوبتها، وإنفاذها على الجاني عملًا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "تخافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب"، كما بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إنما أهلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفس محمد بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها" 1، فقد أفاد الحديث بجانب التسوية بين الناس "الزام السارق الحد"، فالسيدة فاطمة -رضي الله تعالى عنها-، وهي من أشراف القوم وسادتهم بين -صلى الله عليه وسلم- أنه لو كان منها هذه الجناية الحدية لإلزمها العقوبة، وأقامها عليها، ولم يكن له وهو النبي الموحي إليه بالشرع أن يعفي أحب الناس إليه من العقوبة الحدية إذا لزمتها. أما فقهاء الشيعة الزيدية، فقد أجازوا للإمام إسقاط الحدود عن بعض الناس إذا كان ذلك لمصلحة. وله أيضا تأخيرها إلى وقت آخر لمصلحة، كما أجاز بعضهم للإمام إسقاط القصاص إذا كان فيه مصلحة2. والقائلون بذلك لم يقدموا دليلًا على ما ذهبوا إليه سوى ما ساقوه من أن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أخر قتل بني قينقاع حين طلب ذلك منه عبد الله بن أبي أكثر من مرة. ودليلهم هذا وإن صلح الاستدلال به على جواز تأخير إقامة الحد لمصلحة ما -وهذه قضية لا خلاف عليها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخر إقامة بعض الحدود لظروف خاصة بمن سيقام عليها الحد-3

_ 1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص148 المعني ج8 ص241 فتح القدير ج5 ص212. 2 شرح الأزهار ج 4 ص334. 3 سنن أبي داود ج 2 ص461-463 نيل الأوطار ج7 ص125-128 الروض النضير ج4 ص201-203 ط أولى السعادة سنة 1349 هـ.

إن صلح الاستدلال بذلك على تأخير إقامة الحد، فإنه لا يصلح دليلًا على جواز إسقاط الحدود بعد لزومها، بل هو دليل على إلزام الحد إذا وجهت اقامته، وثبتت على الجاني جنايته. أما جرائم القسم الثاني ذات العقوبة التعزيرية، فقد خول الشرع الشريف لولي الأمر فيها سلطات واسعة، بحيث يلائم بين الجريمة، وعقوبتها بما يراه رادعًا للجاني محققًا أمن المجتمع، مراعيًا لكل ما يحيط بالجريمة، والمجرم من ظروف وملابسات، وبخاصة في الجرائم التي يترتب عليها حق لأحد الأفراد. أما إذا ترتب على الجريمة حق لأحد الأفراد، كان على ولي الأمر مراعاة هذا الحق بدقة، وإلزام الجاني بما يكفل لصاحب الحق استيفاء حقه1، ويلاحظ في ذلك كله أن يكون دافع القاضي مراعاة الله سبحانه وتعالى، وإصلاح شأن الأمة.

_ 1 فتح القدير ج5 ص345-346 ط الحلبي. التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عوده ط82 ط بيروت.

المطلب الثالث: أقسام الجريمة بإعتبار الحق المعتدى عليه

المطلب الثالث: أقسام الجريمة باعتبار الحق المعتدى عليه تنقسم الجريمة باعتبار المعتدى عليه إلى أقسام عدة1 منها ما يأتي:

_ 1 ذكر الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور أن للحق في اللغة العربية عدة معان، كلها ترجع إلى الثبوت والوجوب، ثم ذكر أن الشرعيين لم يصطلحوا على تفسير خاص للحق اكتفاء بمعناه اللغوي، ونقل سيادته بعض تعريفات لفقهاء معاصرين يقول الأستاذ الشيخ علي الخفيف: وهو مصلحة مستحقة شرعًا -مذكرات لطلبة الدراسات العليا ص36. وعرفه الأستاذ الزرقا بأنه: "اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفًا"، الفقه الاسلامي في ثوبه الجديد ج2 ص11. أما عن أقسام الحق، فتختلف تبعًا لاختلاف المعنى الذي يدور عليه التقسيم باعتبار من يضاف إليه قسمه الأحناف، ومن تابعهم إلى قسمين: حق الله، وحق العبد: وفرعوًا منهما قسمين آخرين: هما ما اجتمع فيه الحقان، وحق الله غالب، أو حق العبد غالب. وعرف فقهاء الأخناف حق الله بأنه ما يتعلق به النفع العام للعامل، وحفظ النظام العام فيه، ونسبته إلى الله على وجه التعظيم، والاهتمام به وليصير من النظام بالتعبير القانوني. ويعرفون حق العبد بأنه ما تتعلق به مصلحة خاصة دنيوية، كحرمة مال الغير، وهي الحقوق التي تتعلق بالأفراد، وليس للنظام العام فيها دخل، وهي قريبة من المسائل التي ينظمها القانون الخاص في القولين الوضعية.

أولًا جرائم يقع الاعتداء، فيها على حق الله تعالى، وهو الحق الذي يخص المجتمع، ويتعلق به الصالح العام. والجرائم التي تقع على هذا الحق تلحق ضررًا عامًا بأمن المجتمع، وسلامته مع ما تحمله في طيها من اعتداء على شخص، أو أكثر من أفراد المجتمع، غير أن الشارع قد نظر إلى ما في هذا النوع من الجرائم من ضرر عام، وعنى به وقدمه عند محاكمة الجاني، وإلزامه العقوبة. والاهتمام بهذا الحق العام أهتمام للشخص ورعاية له، كما أن تغليب الحق العام ينتج فوائد جمة، ويحقق مصالح الجميع. كما أن مثل هذه الجرائم تعامل معاملة خاصة من حيث الشكل القضائي، وسمات العقوبة ولزومها للجاني، وعدم جواز العفو عنه، إلى آخر ما يترتب على ذلك، فجريمة الزنا مثلًا قد تقع بين رجل لم

_ وقسم فقهاء الأحناف الحق إلى: أ: حق الله الخاص: وهو الذي لا يملك أحد إسقاطه، والذي نقابله في القوانين الوضعية ما يعرف بالنظام العام الذي تمثله النيابة العامة، ومنه عقوبات الحدود عدا حد القذف. ب: حق العبد الخالص: وهو ما شرع لمصلحة دنيوية خاصة بالفرد كحق الدية -وبدل المتلف، والمغصوب، وحق الشفعة، وحق المشترى في تملك المبيع، والبائع في تملك الثمن. ج: ما اجتمع فيه الحقان وحق الله غالب: وهو حد القذف وإن كان الكاساني من فقهاء الأحناف قد عد حد القذف من الحقوق الخالصة لله، فلا يسقط بالعفو من العبد، وقد روي عن أبي يوسف أنه يسقط بالعفو "التوضيح والتلويح ج3 ص178".

يسبق له الزواج وامرأة مثله غير متزوجة، ولا يوجد في قرابتها أحد، وفي مكان يجوز أن لا ينكر عليهما أحد ممن فيه هذا الفعل، كما أنهما أتيا هذه الجريمة عن رغبة واختيار، ففي ظل ذلك كله قد خلت الجريمة في الظاهر عن الاعتداء الشخصي، ولكنها مع ذلك لم تخل عن الاعتداء على حق المجتمع الإسلامي بصفة خاصة، والمجتمع الإنساني بصفة عامة، فهذه الجريمة قد خالفت ما عليه السلوكي، والأخلاقي من وحهة النظر الإسلامي بصفة خاصة، ووقع بقيامها اعتداء على الأعراض مما يعرض نظام الحياة إلى الخلل والفوضى. لذا تولى المشروع الحكيم بيان كل ما يحيط بهذه الجريمة، وتحديده تحديدًا بينا من أول أفعالها حتى تنفيذ العقوبة بمن وقعت منه هذه الجريمة، وما ماثلها من جرائم متعلقة بالاعتداء على المجتمع، والواقعة على الحق العام. ثانيًا: جرائم يقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى، وحق للعبد غير أن حق العبد هنا غلبه الشرع وقدمه. ومن هنا فمع أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تولى تحديد عقاب مثل ذلك من جرائم القصاص، وما دار في فلكها، وحدد سمات التقاضي فيها، وبين العقوبة وأمر بإنفاذها بالصورة التي حددها، مع ذلك فإن المشرع الحكيم مراعاة منه لحق العبد المعتدى عليه، وأوليائه من بعده. جعل لهم حق إسقاط هذه العقوبة التي حكم بها على الجاني إذا أرادوا ذلك وطلبوه، سواء عوضوا عنه أو لم يعوضوا. وما ذلك من الشارع إلا مراعاة لما للعبد من حق، فإذا عفا صاحب الحق اعتبر عفوة، وترتب عليه إسقاط العقوبة عن الجاني، لتحقق هدف المشرع من شفاء صد المجني عليه، وراحة نفسه.

أما في النوع الأول، وهو الاعتداء على حق خالق لله خالص بالمجتمع، فالضرر قد وقع عامًا، ولذا فإنه لا يقبل عفو من وقع عليه الضرر المباشر؛ لأن دائرة من أصيبوا بالضرر قد تخطت حدود من أصيب مباشرة بالجريمة، وشملت المجتمع بأسره، ولا يتصور العفو من كل فرد في المجتمع عما أصابه حتى، وإن أمكن تصور ذلك فإنه قد بقي الاعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، وليس من سلطان لأحد حينئذ بحيث يعفو عن الجاني أو يسامحه؛ لأن ذلك لله وحده. ثالثًا: جرائم يقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى، وحق للعبد غير أن حق العبد المعتدى عليه، وإن كان ظاهرًا وواضحًا، إلا أن حق الله سبحانه وتعالى قد غلبه، وذلك كما في جريمة القذف، فهذه الجريمة وقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى، وحق للعبد. غير أن المشروع غلب حق الله سبحانه وتعالى لما يترتب على هذه الجريمة من إشاعة الفاحشة، والتشكيك في الأعراض والأنساب. لذا فإن أمر هذه الجريمة إذا وصل إلى القاضي، فلا شفاعة ولا عفو ولكن لا بد من إنفاذ العقوبة المقدرة عقابًا لمن أجرم بقذفه غيره، هذا في الدنيا ولقد أخبر الله سبحانه عن عذاب القاذف أيضًا في الآخرة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. بل إن من الفقهاء من ذهب إلى عد جريمة القذف من الجرائم

_ 1 الآية 19 من سورة النور. 2 الآية 23 من سورة النور.

التي يقع الاعتداء فيها على حق خالص لله سبحانه وتعالى، ووجهة نظر فقهاء الأحناف في قولهم بذلك أن حقوق العباد هي التي تجب فيها العقوبة بطريق المماثلة بين ما وقع من الجاني، وما يعاقب به، كما هو الحال في جرائم القصاص، أما ما لا تجب فيه العقوبة على أساس المماثلة بين الجريمة، وما يلزم به الجاني، فإنها كلها جنايات وقعت على حق الله، وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة، ومنفعة جزائها تعود إلى العامة، يكون الجزاء الواجب فيها حقا لله تعالى عز شأنه على الخلوص، تأكيدًا للنفع والدفع كيلا يسقط بإسقاط العبد، وهو معنى نسبة هذه الحقوق إلى الله تبارك وتعالى، وهذا المعنى موجود في حد القذف؛ لأن مصلحة الصيانة ودفع الفساد يحصل للعامة بإقامة هذا الحد، فكان حق الله تعالى عز شأنه على الخلوص كسائر الحدود، إلا أن الشرع شرط فيها الدعوى من المقذوف، وهذا لا ينفي كونه حق لله عز وجل شأنه على الخلوص كحد السرقة، لا ينفي أنه خالص حق لله تعالى عز شأنه اشتراط الدعوى فيه. ولأن المقذوف يطالب القاذف ظاهرًا، وغالبًا دفعا للعار عن نفسه، فيحصل ما هو المقصود من شرع الحد؛ ولأن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة إما صورة ومعنى، وإما معنى لا صورة؛ لأنها تجب بمقابلة المحل جبرًا، والجبر لا يحصل إلا بالمثل، ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى، فلا يكون حقه. وأما حقوق الله سبحانه وتعالى، فلا تعتبر فيها المماثلة؛ لأنهما تجب جزاء للفعل كسائر الحدود1. وتعليل فقهاء الأحناف هذا، وإن كان له وجاهته إلا أنه غير ما عليه الجمهور، كما أنه لا بد من مراعاة ما بين الجرائم من مغايرة من حيث ما يتبع من إجراءات التقاضي؛ لأنها أمور جوهرية، ولازمة لا بد

_ 1 البدائع للكسائي ج9 ص4203 مطبعة الإمام.

من مراعاتها، وهذه الأمور الإجرائية تنتج نوعًا من الفروق بين الجرائم الحدية بعضها البعض. وتظهر أن منها ما تقام الدعوى فيه حسبة، ومنها ما لا تقام الدعوى فيه كذلك، وإنما لا بد من أن ترفع من المجني عليه. وهذه كلها أمور يترتب عليها كثير من النتائج، كما أن المقذوف قد يحجم عنه رفع الدعوى صيانة لعونه، عن أن تلوكه الألسنة، ويشاع ما قدف به. وفي هذه الحالة لا تقام الدعوى الحدية على الجاني، ولا يلزم بعقوبة جنائية. هذه هي أقسام الجريمة باعتبار الحق المعتدى عليه، الوثيقة الصلة بموضوع هذا البحث. ولكل قسم من هذه الأقسام سماته الخاصة التي يغاير غيره من باقي الأقسام فيها كلها أو في بعضها، وهذه المغايرة يترتب عليها بعض الآثار، والمحصلات من حيث: أ: لزوم الخصومة أو عدم لزومها. ب: مواصفات الإثبات. ج: التقادم وما يترتب عليه. د: التوبة وما ينتج عنها من آثار. "أ- الخصومة وممن تشترط" إذا كان الحق المعتدى عليه حقًا خالصًا لله سبحانه وتعالى، فإن الخصومة غير لازمة، بمعنى أنه لا يلزم لإقامة الحد أن يطالب به فرد

من الأفراد، ويكفي أن تثبت الجريمة على الجاني عند القاضي سواء أكان عن طريق المحتسب، أم إقرار الجاني مثلًا. أما إذا كان الحق المعتدى عليه للعبد حق فيه، فإن أبا حنيفة، والشافعي، وابن حنبل يشترطون قيام الخصومة ممن له نصيب في الحق المعتدى عليه، فإذا لم توجد الخصومة، فلا يلزم الجاني بالعقوبة الحدية حتى وإن أقر على نفسه، فلو جاء سارق مقرًا بجريمته، فإنهم لا يلزمونه الحد إلا إذا قامت الخصومة؛ لأن قيام الخصومة عندهم شرط لظهور السرقة، والخصم هو المسروق منه، فلا بد من حضوره مخاصمًا السارق؛ لأن المال يباح بالبذل والإباحة، فيحتمل أن مالكه أباحه إياه أو وقفه على المسلمين، أو على طائفة السارق منهم، أو أذن له في دخول حرزه، فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة1. أما الإمام مالك وأبو ثور، فإنهما يريان أن السارق يقطع، ولا يفتقر إلى دعوى ولا مطالبة، إذ إن قيام الخصومة عندهما ليست بشرط لاسيتفاء الحد. وأكثر من ذلك يرى أن الإمام مالك أن السارق إذا جاء مقرًا بسرقته، فكذبه رب المال المسروق، فإن السارق يقطع أيضًا ويصير المتاع المسروق للسارق، إلا أن يدعيه ربه بعد ذلك. وكذا يقطع السارق إذا أخذ في الليل المتاع المسروق، وقال السارق: رب المتاع أوصلني لأخذه، فلا يصدق ولو صدقه رب المتاع أنه أرسله لكنه إذا أتى بما يشبه، فإنه يصدق ولا يقطع، بأن دخل من مداخل الناس

_ 1 فتح القدير ج5 ص400ط الحلبي، مغني المحتاج ج4 ص176 المغني ج8 ص285-286، ج9 ص215-216ط مكتبة الجمهورية العربية.

وخرج من مخارجهم في وقت يشبه أنه أرسله فيه1. وما ذهب إليه الأئمة أبو حنيفة، والشافعي، وابن حنبل هو ما أرجحه لقيام شبهة الإباحة، فقد يكون المال المسروق قد أباحه مالكه للسارق، أو جعل له حقًا فيه. واستنادًا لما روي من أن رجلًا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله إني سرقت جملًا لبني فلان، فطهرني فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم، إنا افتقدنا جملًا لنا، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقطعت يده2. فلو لم تكن الخصومة شرطًا لإقامة الحد هنا لما أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحاب الجمل حتي يحضروا، ويسألهم فيؤكدوا ما وقع تأكيدًا على سبيل الخصومة. ب- مواصفات الإثبات: حدد الشارع الحكيم طريق إثبات الجرائم الحدية تحديدًا لا مجال معه لإضافة أو انتقاص، فقد بين عدد شهود إثبات كل جريمة ومواصفاتهم، وصيغة شهادتهم، وبين الأقرار وحدد ما يكون به ملزمًا كل ذلك وما يتعلق به، وصحة الشارع بطريقة لم يرد عن فقيه من الفقهاء إن قال بما يغايرها، كل ما هنالك أن منهم من حاول التدقيق التماسًا للشبهة، ودفعًا للعقوبة.

_ 1 الخرشي ج8 ص95، 96 ط بيروت، شرح الزرقاني على مختصر خليل ج8 ص97 ط الأميرية. 2 رواه ابن ماجه في سننه ج2 ص863 باب السارق يعترف وزاد عليه: قال ثعلبة أنا انظر إليه حين قطعت يده، وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار.

فقد اشترط فقهاء الأحناف لإثبات الجريمة المتعلقة بحق الله سبحانه وتعالى عن طريق الإقرار، أن يكون إقراره بعد الشهود الذين حدد الشارع عددهم لإثبات الجناية الحدية. فقد نقل عنهم: فلما أوجب سبحانه في الشهادة على الزنا أربعة على خلاف المعتاد في غيره، فكذا يعتبر في إقراره، إنزالًا لكل إقرار منزلة شهادة واحدة، ولو لم يكن ذلك لكان القياس يقتضيه1. وقولهم: "إن كل ما يسقط بالرجوع عن الإقرار، فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود2، وفقهاء الأحناف لم يشترطوا ذلك في الإقرار بحق العبد"3. وما ذهب إليه فقهاء الأحناف هنا لم يتشرطه الإمام مالك، والإمام الشافعي سواء أكنت الجناية قد وقعت على حق خالص لله سبحانه وتعالى، أم على حق شاركه فيه العبد4. كما أن الإمام الشافعي قد أجاز إثبات جناية القذف بنكول القاذف عن اليمين، وألزمه العقوبة الحدية بنكوله5.

_ 1 فتح القدير ج5 ص221 ط الحلبي. 2 بدائع "الصنائع للكاساني ج4 ص50. 3 يقول الكاساني: وأما العدد في الإقرار بالقذف، فليس بشرط بالإجماع البدائع ج7 ص56. 4 يقول ابن رشد: "أما عدد الإقرار الذي يجب به الحد، فإن مالكًا والشافعي يقولان يكفي في وجوب الحد اعترافه به مرة واحدة، وبه قال داود، وأبو ثور الطبري وجماعة، بداية المجتهد ج2 ص473 مغني المحتاج ج4 ص150. 5 حكى ذلك الشيخ أبو زهرة في كتابه الجريمة ص75 مستدلًا عليه بروايات أوردها عن الكاساني، يرجع إلى تفصيل القول في الحكم بالنكول إلى كتاب القضاء في الإسلام للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور، فقد فصل القول في ذلك ص89، 90.

هذا ما ذهب إليه الفقهاء، في اعتبار التسوية بين عدد الشهود، وعدد مرات الإقرار تسوية لازمة. أما من حيث الرجوع عن الإقرار، فإن فقهاء الأحناف والحنابلة قد رأوا أن الرجوع عن الإقرار يسقط الحد الواجب على من اعتدى على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى. أما جمهور فقهاء الشافعية، فقد نقل عنهم: أن المقر إذا أقر بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة، ثم رجع في إقراره لم يقبل رجوعه؛ لأنه قد أقر بحق ثبت لغيره، فلم يعد يملك إسقاطه بغير رضاه، وإن أقر بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظر، فإن كان حد الزنا، أو حد الشرب قبل رجوعه1. أما الإمام مالك، فقد فصل القول في ذلك بأنه إذا كان الرجوع لشبهة قبل، وأما إن كان إلى غير شبهة فقد وردت عنه، روايتان إحداهما يقبل وهي الرواية المشهورة، والثانية لا يقبل رجوعه2. وقد ذهب ابن أبي ليلى3، وأبو ثور4 وغيرهما إلى عدم

_ 1 المهذب ج2 ص245، مغني المحتاج ج4 ص150. 2 بداية المجتهد ج2 ص474 ط المنياوي، الموطأ ص245ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. 3 محمد بن عبد الرحمن، أنصاري كوفي فقيه، قاضي الكوفة ومن أصحاب الرأي، له أخبار مع الإمام أبي حنيفة، وغيره توفى بالكوفة عام 148هـ. 4 إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الفقيه، صاحب الإمام الشافعي، قال ابن حيان: كان أحد أئمة الدنيا فقها، وعلمًا، وفضلًا. صنف الكتب ونوع الفروع على السنن توفي ببغداد سنة 240 هـ سنة 854م، الإعلام للزركلي ص 12 المطبعة العربية.

قبول الرجوع عن الإقرار بذلك، نظرًا؛ لأنه حق ثبت بالإقرار، فلا يسقط بالرجوع كالقصاص وحد القذف. وما ذهبوا إليه مردود بما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد عرض للمقر بالرجوع بإعراضه عنه، ولو لم يكن لذلك التعريض فائدته لما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم-1، وسيأتي الحديث عن ذلك مفصلًا عند بيان الرأي في الرجوع عن الإقرار2. هذا بالنسبة للرجوع عن الإقرار بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، أما الرجوع عن الإقرار بحق العبد، فإنه لا يلتفت إليه، ولا يسقط ما ألزم المقر به نفسه. وفرق من أسقط بالرجوع عن الإقرار حق الله سبحانه وتعالى، ولم يسقط بالرجوع حق العبد، بأن الرجوع في الأول خبر يحتمل الصدق، وليس أحد يكذبه فيه، فتتحقق به الشبهة في الإقرار السابق عليه، فيندرئ بالشبهة؛ لأنه أرجح من الإقرار السابق. بخلاف ما فيه حق العبد من القصاص وحد القذف؛ لأن العبد يكذبه في أخباره الثاني، فينعدم أثره في إخباره الأول بالكلية3. ج- التقادم وما يترتب عليه: قبل نظر الدعوى أو الحكم فيها، أو بعد صدور الحكم. أ: يراد بالتقادم هنا أن تمضي مدة كان يمكن للمدعي أن يتقدم

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص150 المهذب ج2 ص345 بداية المجتهد ج2 ص474. 2 الفصل الثالث من الباب الأول من هذا البحث. 3 المهذب ج2 ص345، فتح القدير ج5 ص223، الجريمة للشيخ أبو زهرة ص75.

خلالها بدعواه للقاضي لم يتقدم بها، مع عدم وجود مانع يمنعه1. والفقهاء قد فرقوا حينئذ بين أن قيام الدعوى حسبة، أو من المجني عليه، ويتم إثباتها عن طريق البينة، وبين أن يكون الجاني هو الذي أتى مقرًا بجنايته رافعًا أمره للقاضي طالبًا تطهير نفسه. وقد رأي الفقهاء عدا ابن أبي ليلى أن التقادم لا يؤثر إذا جاء الجاني مقرًا على نفسه بجنايته؛ لأنه والحالة هذه يسند لنفسه ما يلزمه العقوبة الحدية التي قد يترتب عليها القضاء عليه، ومثل من يقدم على ذلك لا يتصور منه الكذب على نفسه. هذا بالنسبة للإقرار بالجرائم الحدية المتقادمة عدا جريمة شرب الخمر، إذ إن الإمام أبو حنيفة، وصاحبه أبو يوسف قد رأيا أن

_ 1 يرى الإمام أبو حنيفة أن تحديد المدة التي يعد مرورها تقادمًا أمر متروك لرأي القاضي في كل عصر يقدره، حسبما تقتضي الوقائع والأحوال؛ لأن ما يعد تقادمًا في وقعة معينة ببلد معين قد لا يعد تقادمًا في بلد آخر بالنسبة لنفس الواقعة إذا اتحدت ظروفهما، أو اختلف وكذا إذا تغايرت الوقائع، والأمر في رأيي يحتاج إلى قواعد ثابتة حتى ولو اختلفت في بلد عن آخر، حتى لا يصبح الأمر عرضة، لأن يتلاعب فيه تحت ضغط حاكم، أو صاحب سلطة، وقد نقل عن أبي يوسف أن المدة المعتبرة تقادمًا في رأيه شهر، ويرى محمد أنها ستة أشهر، أو مفوضة إلى رأي القاضي، فتح القدير ج5 ص282، 303 البحر الرائق ج5 ص29.

الإقرار بها متقادمة لا يترتب عليه إلزام المقر بها عقوبتها الحدية1. ومن الفقهاء من يرى أن الحدود جميعها تسقط بالتقادم، فلا تقام عقوبتها المقدرة على الجاني سواء أجاء مقرًا بجنايته المتقادمة، أم أقيمت عليه الدعوى، وتم إثباتها بالبينة. وأساس ذلك القول عند من يراه: أن الهدف من إقامة الحدود هو الردع، والزجر للجاني وغيره، وذلك -في رأي من قال بهذا القول- لن يتحقق إلا إذا أقيمت العقوبة الحدية فور وقع الجريمة الموجهة لها. كما أن التأخير -في رأيهم- قد يتأتى معه توبة الجاني، وإقراره بجنايته بعد فوات مدة تعد تقادما عليها، ما هو إلا دليل على توبته، وطلبه التطهير من كل ما علق به، حتى وإن كانت نتائجه إزهاق روحه. وعقاب من أصحاب هذه حالة عقاب لنفس ثابت، وأنابت وعادت إلى رشدها، وأتبعت طريق ربها وهديه2.

_ 1 وقولهما هذا أخذا بما قاله ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- ولم يوافقه فيه حد من بقية الصحابة رضوان الله عليهم أجميعن، إذ أنه يرى أنه يشترط أن يؤتى بالشارب، وأثر الخمر ما زال قائمًا، أو أن يقر بجنايته وأثرها ما زال موجودًا. فتح القدير ج5 ص216-222، ص 279 وما بعدها، ص302-304 البحر الرائق ج5 ص22، 29، ج8 ص207. 2 فتح القدير ج5 ص279 ط مصطفى الحلبي.

وهذا الرأي، وإن كانت له وجاهته مما جعل الماوردي1، وأبا يعلي2 وابن قيم الجوزية3 يرونه، إلا أنه رأي يحتاج إلى دليل؛ لأن القول بأن الهدف من الحدود هو الردع، والزجر لم يسلم به كل الفقهاء كما سيأتي. كما أن مسألة التوبة هذه لا تصلح شبهة لدرء الحد؛ لأن ادعاءها أمر يسهل على الجاني، والتحقق من صدقه أمر غير ميسور؛ لأن ذلك سر بين العبد وربه، ولا يلعم السر أو يحصل ما في الصدور إلا الله.

_ 1 أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب، أقضى قضاة عصره من العلماء الباحثين أصحاب التصانيف الكثيرة النافعة، ولد في البصرة سنة 364هـ 974م، وانتقل إلى بغداد، كان يميل إلى الاعتزال، وكانت له مكانة رفيعة عند الخلفاء توفى في بغداد سنة 450 هـ، 1058م من كتبه أدب الدنيا والدين، والأحكام السلطانية الحاوي في فقه الشافعية نيف وعشرون جزءًا. الأعلام للزركلي ج2 ص690. 2 محمد أبو الحسين بن محد بن خلف بن الفراء أبو يعلي المعروف بالقاضي الكبير، فقيه حنبلي له مؤلفاته الكثيرة، منها أحكام القرآن، وعيون المسائل والأحكام السلطانية توفي سنة 458هـ. 3 محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعيد الزرعي الدمشقي، أبو عبد الله شمس الدين من أركان الإصلاح الإسلامي، واحد كبار العلماء ولد في دمشق سنة 961هـ 1292م تتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، وهو الذي نشر عليه وسجن معه في قلعة دمشق كان حسن الخلق محبوب -عند الناس، له تصانيف كثيرة، منها أعلام الموقعين، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية زاد المعاد، مفتاح السعادة، أخبار النساء توفى في دمشق سنة 751هـ، 1350م الأعلام للزركلي ج3 ص871.

ولو كان الأمر، كما رأى أصحاب هذا الرأي، الذي يسقط الحدود بالتقادم لسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من جاءه معترفًا بالزنا متى زنيت لجواز أن يكون إقراره بزنا قديم، لكنه لم يسأله، وليست هناك قرينة تدل على حداثة الواقعة كما أن هذا المقر لا يشك أحد في توبته؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر أن توبته لو تابها أهل مكس1 لغفر لهم، ومع ذلك أقيم عليه الحد هذا هو أثر التقادم في الإقرار بالجناية الحدية المتقادمة. أما إقامة دعوى بالجناية المتقادمة، وإثبات هذه الجناية الحدية، عن طريق البينة، فللفقهاء فيها آراء. 1- يرى فقهاء الأحناف، وابن أبي ليلى القول بعدم سماع شهادة على جريمة حدية قيدمة، وقع الاعتداء فيها على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، وذلك؛ لأن الشهادة بهذه الجرائم تؤدي حسبة، ولا يلزم أن يسبقها دعوى من أحد، فإذا تأخر الشهود من غير عذر مقبول، حامت الشبهات حول شهادتهم، وشهادة مثل هذه لا يثبت بها حد من حدود الله سبحانه وتعالى2. أما الجرائم الحدية القديمة التي تتعلق بحق العبد، فإن الشهادة تسمح فيها وتثبت الجناية بها، ويلزم الجاني بما يترتب على جناية. وذلك مبني على أساس أن مثل هذه الجرائم يلزم أن تقام الدعوى

_ 1 مكس بفتح الميم وسكون الكاف بعدها: هو من يتولى الضرائب التي تؤخذ من الناس بغير حق، والمكس النقص والظلم، نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص124-128 ط مصطفى الحلبي. 2 روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: أيما شهود شهدوا على حد لم يشهدوا عنه حضرته، فإنما شهدوا على ضغن، فلا شهادة لهم. فتح القدير ج5 ص279، البحر الرائق ج5 ص21، 22 ط بيروت.

بها من جانب الحق المعتدى عليه حتى يمكن أن تسمح الدعوى، والشهادة بها. وعلى هذا فإن تأخر قيام الدعوى من جانب المجني عليه، لا يعد مطعنًا في صحة ما يدلي به الشهود، ولا تقوم به شبهة في شهادتهم1. 2- يرى الأئمة مالك، والشافعي، وأحمد بصحة سماع الشهادة على الجرائم الحدية القديمة، والحكم بمقتضاها بالعقوبة الحدية، سواء أوقعت هذه الجريمة الحدية المتقادمة على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، أم على حق من حقوق العبد. أما بالنسبة لسماع الشهادة بالجريمة الحدية المتقادمة الواقعة على حق العبد، والاعتداد بها، فقد سبق الحديث عنه، ولم يختلف الفقهاء عليه أما بالنسبة لما وقع على حق من حقو الله سبحانه وتعالى، فإن الأئمة مالكا والشافعي، وابن حنبل قد قاسوه بما وقع على حقوق العبد. وقالوا: ما دام التقادم لا يمنع سماع الشهادة بما وقع من جرائم حدية على حق من حقوق العباد، والاعتداد بها في إلزام الجاني بالعقوبة الحدية المقررة لجنايته، فإنه لا يوجد ما يمنع سماعها أيضًا في حقوق الله سبحانه وتعالى، ما دام الشهود عدولًا غير مطعون في عدالتهم. والتأخير وحده في آداء الشهادة لا يكفي لرد شهادتهم، وعدم الاعتداد بها2.

_ 1 المرجعين السابقين، المغني ج9 ص215، الخرشي ج7 ص187 اللباب في شرح الكتاب للميداني ج3 ص58 ط صبيح سنة 1935م البدائع للكاساني ج7 ص46، 47 ط الجمالية سنة 1328هـ. 2 فتح القدير ج5 ص279، المغني ج8 ص207 المهذب ج2 ص226 الخرشي ج7 ص187.

وقياس أصحاب هذا الرأي حقوق الله سبحانه وتعالى على حقوق العباد في جواز سماع الشهادة بالجناية المتقادمة، والعمل بمقتضاها قياس فيه نظر. وذلك؛ لأن الإعتداء على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، يمكن أن تقام الدعوى به حسبة، بخلاف الاعتداء على حق العبد، فالتأخير إذا كان في قيام الدعوى إذا اعتدى على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، مع انعدام ما يبرر التأخير، يورث شبهة، ويوجد شكا. والحدود تدرأ بالشبهات. كما أن الشهود لو طلبوا لأداء الشهادة بجناية حدية، وقعت على حق العبد، فتأخروا في الحضور دون سبب مقبول لتأخرهم، ثم جاءوا بعد مرور مدة تعد تقادمًا، فإن شهادتهم والحالة هذه تصبح مشوبة بشك، وشبهة، فهم متهمون -لذا، فإنه لا تثبت بها الجريمة الحدية، ولا يلزم بها عقوبة مقدرة، وكل ما يلزم بها في جريمة السرقة هو رد المال فقط، ولا يلزم بها حد في باقي الجرائم الحدية. لقيام الشبهة في الشهادة المتأخرة، هذا مع عدم تحقق التهمة بالنسبة للشهود، أما إذا تحققت التهمة، فإن شهادتهم ترد لاتهامهم بها شيء من مال، أو حد1. ب- آراء الفقهاء في تنفيذ الحكم المتقادم: ذهب الإمام أبو حنيفة، والصاحبان إلى أن تأخير تنفيذ الحكم بالعقوبة الحدية، التي ألزم بها الجاني نتيجة شهادة الشهود عليه بجنايته التي ارتكبها باعتدائه على حق الله تعالى الخالصة بترتب على هذا التأخير منع إقامة هذه العقوبة الحدية.

_ 1 البحر الرائق ج5 ص22، فتح القدير ج5 ص297.

أما إذا كانت الجناية قد وقعت على حق من حقوق العباد، فإن تأخير تنفيذ العقوبة الحدية لا يترتب عليه أي أثر، ويلزم الجاني بها متى أمكن تنفيذها عليه. وقد بنى الإمام أبو حنيفة، ومن وافقه قولهم هذا على أساس أن الإمضاء عندهم من القضاء بحقوق الله سبحانه وتعالى، بخلاف حقوق الآدميين، كما أن الحاكم بلا شبهة، وعلى هذا فإن الاستيفاء من تتمة القضاء، أو هو هنا إذا لم يحتج إلى التلفظ بلفظ القضاء حتى جاز له الاستبقاء من غير تلفظ به، بخلافه في حقوق العباد، فإنه فيها لإعلام من له الحق بحقية حقه، وتمكينه من استيفائه، وإذا كان كذلك كان قيام الشهادة شرطًا حال الاستيفاء، كما هو شرط حال القضاء بقح العباد إجماعًا، وبالتقادم لم تبق الشهادة، فلا يصح هذا القضاء الذي هو الاستيفاء، فانتفيى الاستيفاء1. أما الإمام مالك، والشافعي وابن حنبل، وزفر من فقهاء الأحناف، ومن وافقهم وهم الجمهور، فإنهم قد نفوا وجود أي أثر لتقادم الحكم يمنع تنفيذه متى أمكن التنفيذ على الجاني، ما دام لم يطرأ رجوع من الشهود عن شهادتهم التي أدين الجاني على أساس قيامها صحيحة متكاملة الأركان، والشروط عند نظر القضية أمام القاضي، فإذا حكم القاضي بالعقوبة الحدية، ولم يرجع الشهود عن شهادتهم لزمت الجاني العقوبة الحدية، متى أمكن تنفيذها عليه، ولا علاقة عندهم بين الاستيفاء

_ 1 فتح القدير ج5 ص281 ط الحلبي، البحر الرائق ج5 ص22 ط بيروت. حاشية ابن عابد ج3 ص218 ط الأميرية، التشريع الجنائي عبد القادر عوده ص738-780 ط دار التراث.

وحضور الشهود، أو غيابهم وكذا حياتهم أو موتهم؛ لأن المعول عليه عندهم هو قيام الشهادة على الجناية الحدية قيامًا صحيحًا حال القضاء، واستمرار ذلك دون رجوع من الشهود كما في الإقرار. أما إذا رجع الشهود عن شهادتهم، فإن رجوعهم هذا يترتب عليه وقف تنفيذ العقوبة الحدية، كما في الرجوع عن الإقرار أيضًا1، وسيأتي بيان ذلك مفصلًا2. وما ذهب إليه جمهور الفقهاء هو الذي يناسب طبيعة العقوبة الجنائية، ويلائم أحوال الناس، وظروف الحياة. لأن إلزام الشهود بالحضور في أوقات متعددة فيه إثقال عليهم، وتعطيل لمصالحهم، ومدعاة وتحريض على عدم الإقدام على تحمل الشهادة، والإدلاء بها. وهذا أمر ملحوظ في الحياة اليومية إذ يقع كثير من الجرائم، والأحداث تحت سمع وبصر العامة، ولا يحاول أحد أن يمد يده ليمنعها حتى ولو بأداء الشهادة على الجاني، نظرًا لما يتبع ذلك من إلزام بالحضور للإدلاء بأقواله وشهادته بما رأى، وغالبًا ما يصيبه بسبب كثرة استدعائه للإدلاء بأقواله ضرر جسيم وتعطيل وإرهاق، ولهذا فإنه إذا حضر الشاهد، وأدى شهادته وحكم بمقتضاها، فليس هناك ما يدعو، لأن تلزمه بما لا يطيقه، وأن تشترط وجوده عند التنفيذ أيضًا، وعلى الأخص

_ 1 بداية المجتهد ج2 ص474، شرح الزرقاني على مختصر خليل ج8 ص81 ط الأميرية الخرشي ج8 ص80، المهذب ج2 ص345، المغني ج8 ص197 فتح القدير ج5 ص223، ص281، البحر الرائق ج5 ص22- مباني تكملة المنهاج لأبي القاسم الموسوي ج1 ص176 ط النجف الأشرف. 2 الباب الأول الفصل الثالث من هذا البحث.

إذا تقادم الأمر؛ لأن ذلك يوقع الإضرار به، ويدعوه إلى أن يكتم شهادته. بالإضافة إلى أن الفقهاء قد تحروا الدقة في طرق إثبات الجنايات الحدية إلى الحد الذي يكاد ينعدم فيه ذلك عن طريق شهادة الشهود. وقد ذهب الشيخ أبو زهرة إلى محاولة تغليب وجهة نظر الإمام أبو حنيفة، والصاحبين بقوله: ولعل الأولى أن تقول: إن التأخير عن التنفيذ يكون مظنه توبة المرتكب، والحكم في ذاته زجر، والناس يتزجرون بصدوره، وما يريد الله تعالى عذاب عبيده، ولكن يريد إصلاح قلوبهم ويطهر جمعهم، ولعلهم قاسوا حال التأخير في التنفيذ حتى هرب، ولم يعد إلا بعد زمن، بحال رجوع المقر في إقراره بعد الحكم، وقبل التنفيذ1. وهذا القول فيه نظر إذ إن الشيخ أبو زهرة قد بنى تغليب وجهة نظر الإمام، والصاحبيين على أساس أن من هرب مدة تعد تقادمًا قد انصلح قلبه، وبذا يكون الهدف قد تحقق، فلم يبق هناك داع لإقامة الحد الذي وصفه بأنه عذاب. إذ كيف يكون الهرب دليلًا على الصلاح؟ كما أنه لو كان إصلاح القلب هو هدف العقوبة وحده، لكان من انصلح قلبه من غير هروب بالعفو عنه ممن هرب حتى انصلح قلبه. هذا مع أن إصلاح القلب -وهو أمر لا يستطيع الوقوف عليه إلا من أعلمه الله- لا يكفي وحده لإسقاط العقوبة الحدية عمن لزمته، ولا أدل على ذلك مما سبق من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد

_ 1 العقوبة للشيخ أبو زهرة ص254.

أقام الحد على أشخاص، أخبر بأنهم قد تابوا توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم. التقادم وأثره في القانون الوضعي: تحديث فقهاء القانون الوضعي عن التقادم، وأثره في إسقاط الاتهام في الدعوى، وإسقاط العقوبة المحكوم بها، وإن كانوا قد فرقوا بين المدة المعتبرة تقادمًا مسقطًا بالنسبة للحاليين، وكذا بالنسبة لكل عقوبة، فقد نصت المادة 15 من قانون الإجراءات الجنائية على ما يأتي: تنقضي الدعوى الجنائية في مواد الجنايات بمضي عشر سنين من يوم وقوع الجريمة، وفي مواد الجنح بمضي ثلاث سنين، وفي مواد المخالفات بمضي سنة ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. كما نصت المادة 528 من قانون الإجراءات الجنائية على ما يأتي: تسقط العقوبة المحكوم بها في جناية بمضي عشر سنين ميلادية إلا عقوبة الإعدام، فإنها تسقط بمضي ثلاثين سنة، وتسقط العقوبة المحكوم بها في جنحة بمضي خمس سنين، وتسقط العقوبة المحكوم بها في مخالفة بمضي سنتين1، هذا وإن التقى أثر التقادم في القانون مع ما قرره فقهاء الشريعة إلا أن هناك فروقًا جوهريرة سأشير إليها فيما يأتي:

_ 1 شرح قانون العقوبات أ. د. محمود مصطفى ص672-675.

التقادم بين الشريعة والقانون: تمثل الفروق الجوهرية بين مقالة فقهاء الشريعة، ورجال القانون في التقادم، وما له من أثر، فيما يأتي: أولًا: من حيث المادة المعتبرة تقادمًا: وضح مما سبق عرضه أن من الفقهاء من حدد مدة معينة للتقادم تصل في أقصاها إلى ستة أشهر، وقد ذهب الإمام أبو حنيفة، ومن رافقه إلى أن تحديد المدة المعتبرة تقادمًا أمر متروك للقاضي، أو لولي الأمر بقدراته حسبما تقتضي الوقائع والأحوال1. أما رجال القانون، فقد حددوا المدة المعتبرة تقادمًا سواء أكان ذلك بالنسبة لانقضاءالدعوى، أم بالنسبة لإسقاط العقوبة تحديدًا وضح منه مدى القارق الزمني ما حدده بعض الفقهاء، وما حدده القانون2. وإن كان الإمام أبو حنيفة، ومن وافقه قد ترك الأمر في التحديد لولي الأمر، أو القاضي ولم ينص على مدة معينة. وما ذهب إليه أبو حنيفة له وجاهته، إذ أنه قد عالج الأمر علاجًا مناسبًا لاحظ فيه الوقائع والأشخاص. ورجال القانون وإن لاحظوا فيما حددوه اختلاف المدة المعتبرة تقادمًا باختلاف التكييف القانوني للواقعة، إلا أنهم قد ساووا بين الأشخاص والبلاد، ولم يراعوا اختلاف الطبائع والعادات، ويبين

_ 1 فتح القدير ج5 ص282، 303 البحر الرائق ج5 ص29. 2 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. محمود مصطفى ص672-675 ط سنة 1974م.

مما سبق أيضًا أن فقهاء الشريعة لم يفرقوا بين المدة المعتبرة تقادمًا مسقطًا لإقامة الدعوى، وما يعد مسقطًا للعقوبة الحدية المحكوم بها، إلا ما جاء خاصًا بجناية شرب الخمر كما سبق. أما رجال القانون، فإنهم قد فرقوا بين ما يعد تقادما مؤثرًا في إسقاط الدعوى، وبين ما يعد تقادمًا مؤثرا في إسقاط العقوبة المحكموم بها، بل غرقوا أيضا فيما يؤثر في الحالين باعتبار الكيف القانوني للواقعة والعقوبة؟ وهذا الأمر يحتاج إلى إعادة نظر، وتقنين يناسب كل واقعة، وظروفها بشرط أن يوكل ذلك لذويه، وأن يباعد بينه وبين الرغبات التي قد تخرجه عن إطار تحري العدالة. ثانيًا: باعتبار ما وقع عليه السلوك الإجرامي وضح مما سبق أن الجرائم الحدية التي وقع الاعتداء فيها على حق من حقوق العباد لا تتأثر بالتقادم، سواء من حيث سماع الدعوى، أو من حيث إلزام الجاني بما حكم به من عقوبة حدية، وإن تقادم الحكم لا يؤثر ما دام لم يوجد ما ينقضه من انتقاض في الإثبات، أو غيره عدا التقادم. أما ما وقع فيه الاعتداء حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، وجاء إثباته عن طريق شهادة الشهود، فقد ذهب فقهاء الأحناف، وابن أبي ليلى أن مثل ذلك يؤثر فيه التقادم سواء في سماع الدعوى به، أو في تنفيذ الحكم المتقادم الناتج عنه. أما فقهاء القانون، فإنهم لم يفرقوا بين ما وقع عليه السلوك الإجرامي من حيث هو حق للفرد أم للمجتمع.

فالسلوك الإجرامي بصفة عامة عند فقهاء القانون خاضع لتأثير التقادم فيه، كل ما هنالك اختلاف ما يعد تقادمًا مؤثرًا بإختلاف وصف هذا السلوك، ونوع العقوبة المحددة له. ولا يخفى ما في هذا السلوك الذي سلكه القانون من إضاعة كثير من حقوق الآدميين، الأمر الذي يترتب عليه غرس الاضطراب، وعوامل الفوضي بين صفوف المجتمع، وإشاعة الأحقاد فيه. ثالثًا: من حيث التلازم بين عدم سماع الدعوى وزوال آثار الجريمة، من ذهب من فقهاء الشريعة إلى عدم سماع الدعوى في جريمة من الجرائم المتقادمة التي وقع الاعتداء فيها على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، لم يقل بإسقاط كل ما للجريمة من آثار بالنسبة للجاني. فمن لم يلزم الجاني في جريمة الزنا -إذا تقادمت- العقوبة الحدية لا يلزم الشهود الذين جاءوا يشهدون عليه بها -بعد فوات مدة تعد تقادمًا- عقوبة القذف. وذلك؛ لأن الجريمة وإن سقطت إقامة الدعوى بها لتقادمها إلا أن آثارها باقية. لذا فلا تقوم في حق الشهود عليها جريمة قذف للجاني. أما فقهاء القانون، فإنهم يرون أن إسقاط الدعوى يسقط معه كل آثارهما أما إسقاط العقوبة، فإن من أسبابه ما يقتصر على إسقاط العقوبة فقط، وتبقى الآثار، ومنها ما يمحو كل الآثار الجنائية1.

_ 1 أ. د. محمود مصطفى أن الدعوى الجنائية تسقط بأسباب: منها ما هو خاص ببعض الجرائم التي يعلق تحريك الدعوى، والسير فبها على إرادة صاحب الشأن كما أن الزنا، والسرقة بين الأصول والفروع، ومنها ما هو عام مثل وفاة المتهم والعفو عن الجريمة، ومضي المدة. = ثم يقول: الأسباب العامة التي ينقضي بها العقوبة منها ما يقتصر أثره على إسقاط العقوبة، وهي وفاة المحكوم عليه، ومضي المدة والعفو عن العقوبة، ومن الأسباب: ما يكون أبعد أثرًا فيمحو الحكم، ويزيل الآثار الجنائية: وهي العفو عن الجريمة "العفو الشامل" ورد الاعتبار، القسم العام ص672 وما بعدها، الإجراءات الجنائية فقرة 98- وما بعدها، 104، 415.

رابعًا: من حيث إمكان إلزام الجاني عقوبة من نوع آخر ذهب من يعمل أثرًا للتقادم من فقهاء الشريعة الإسلامية إلى أن من سقطت الدعوى بالجريمة الحدية في حقه، أو زالت عنه العقوبة الحدية المحكوم عليه بها، لتقادم ذلك بالنسبة له، يمكن للقاضي أن يلزمه بعقوبة تعزيرية حسبما يرى. فسقوط سماع الدعوى، أو إلزام العقوبة للتقادم، لا ينفي حق القاضي في إلزام الجاني عقوبة من العقوبات التعزيرية المناسبة. أما فقهاء القانون، فلا يرون مثل ذلك، إذ أن من سقط سماع الدعوى في حقه، أو زالت عنه العقوبة للتقادم لا يمكن للقاضي أن يلزمه بعقوبة أخرى نظير جنايته، أو العقوبة التي سقطت لتقادم أي منهما. ولا يخفى ما في النظم العقابي الذي أخذ به فقهاء الشريعة في هذا الموضوع من علاج، وإصلاح للمجرم. إذ أن تركه بلا أي عقاب، قد يكون فيه بالنسبة لكثير من المجرمين تحريض على الجريمة، واستساغة لها طالما قد أعفي، ونجا من كل عقوبة بأمر من القانون نفسه.

د: التوبة وما ينتج عنها من آثار الجرائم: التي يأتيها الجاني إما أن تكون جرائم تعزيرية، أو جرائم حدية. والجرائم التعزيرية قد فوض الشارع فيها ولي الأمر في اختيار ما يناسب كل جريمة، ومن جناها من العقوبات. وعلى هذا فإن ولي الأمر إذا رأى أن الجاني قد تاب توبة ظهرت أماراتها، فإن له أن يعفو عنه، ويكفي ما كان من أمر إحضاره، أو حضوره لمجلس القضاء، ويطالب بما للآدميين من أموال، إن كانت جنايته قد أتت عليها إلا أن يسامحوه فيها. يدل على قبول التوبة، وإسقاط العقوبة التعزيرية بها ما ورد من أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا، فأقمه علي، ولم يسأله الرسول، وحضرت الصلاة، فصلى الرجل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما انتهت الصلاة، قام الرجل، وقال: يا رسول الله إني أصبت حد، فأقم علي ما في كتاب الله قال -صلى الله عليه وسلم-: "أليس قد صليت معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك، أو حدك". أخرجه البخاري ومسلم. وفي رواية: إني عالجت امرأة من أقصى المدينة، فأصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا فأقم علي ما شئت، فقال له عمر: لقد ستر الله عليك، لو سترت على نفسك1. فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسقط العقوبة عن هذا الرجل لتوبته التي رأى أماراتها في مجيئه تائبًا يطلب أن تقام عليه العقوبة.

_ 1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص114 ط مصطفى الحلبي.

والعقوبة هنا عقوبة تعزيرية بدليل ما جاء في الرواية الأخيرة، وأمرها هنا مفوض لولي الأمر. أما الجرائم الحدية، فإن ما وقع منها على حق العبد، فإنه لا أثر للتوبة فيه، وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء. يقول الإمام الشافعي عند حديثه عن التوبة، وأثرها في إسقاط الحدود: "فإما حدود الآدميين من القذف وغيره، فتقام أبدًا لا تسقط"1. أما ما وقع من الجرائم الحدية على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى، فإن للفقهاء فيه مقالًا. إذ إن منه جرائم اتفق الفقهاء على إسقاط عقوباتها الحدية بالتوبة، ألا وهي جريمة الحرابة بشرط أن تكون من المحارب قبل القدرة عليه أخذا بما جاء من قول الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. فالآية قد نصت على أن توبة المحارب قبل القدرة عليه تسقط عنه حد الحرابة.

_ 1 الأم ج7 ص51 ط دار الشعب. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج7 ص6 سنة 1292هـ البدائع للكاساني ج7 ص96، فصول الاستروشني ص3، 4 مواهب الخليل ج7 ص316 جناية المجتهد ج2 ص382، المغني ج8 ص295-296 أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ج2 ص197، 198ط سنة 1325هـ مطبعة الكردي بالأزهر. 2 الآية 34 من سورة المائدة.

أما ما لزمه من حدود أخرى، فإن بعض فقهاء الشافعية، والحنابلة قد قالوا بأن توبة المحارب قبل القدرة عليه يترتب عليها إسقاط كل ما لزمه من حدود، وقع الاعتداء على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى. وقد أجاب الإمام الشافعي على ما يمكن أن يثار من أن الآية الكريمة إنما تتكلم عن الحرابة، وهذه قرينة على أن أثر التوبة قاصر على التأثير في الحرابة فقط، فقال بعد أن ذكر أن الحد حدان، حد الله تعالى وحد للآدميين: "فأما أصل حد الله تبارك وتعالى في كتبه، فقوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، إلى قوله {رَحِيم} ، فأخبر الله تبارك اسمه بما عليهم من الحد إلا أن يتوبوا من قبل أن يقدر عليهم، ثم ذكر حد الزنا والسرقة، ولم يذكر فيما استثنى، فاحتمل ذلك أن لا يكون الاستثناء إلا حيث جعل في المحارب خاصة، واحتمل أن يكون كل حد لله عز وجل، فتاب صاحبه قبل أن يقدر عليه سقط عنه، كما احتمل حين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حد الزنا في ماعز "ألا تركتموه" أن يكون كذلك عند أهل العلم، السارق إذا اعترف بالسرقة، والشارب إذا اعترف بالشرب، ثم رجع عنه قبل أن يقام عليه الحد، سقط عنه. ومن قال هذا: قاله في كل حد لله عز وجل، فتاب صاحبه قبل أن يقدر عليه سقط عنه حد الله تبارك وتعالى في الدنيا، وأخذ بحقوق الآدميين، واحتج بالمرتد عن الإسلام، ثم رجع إلى الإسلام، فيسقط عند القتل1. وما دام إطلاق الآية الكريمة قد احتمل أن يكون أثر التوبة مسقطًا لكل حد لله عز وجل، فلم يضيق الأمر إذا.

_ 1 الأم ج7 ص51ط دار الشعب نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ج8 ص6 القرطبي ج3 ص2155 دار الشعب.

كما أن في إسقاط كل ما لزمهم زمن حرابتهم، وما كان قبله نتيجة توبتهم في ذلك حيث لهم على الإسراع إلى التوبة، وترغيب لهم فيها، ومزيد العون لهم وضمهم إلى صفوف الأمة. ولا يخفى أن في إلزامهم عقوبة ما ارتكبوا من حدود غير الحرابة، ومطالبتهم بهذه الحدود بعد توبتهم عن الحرابة، وعودتهم إلى حوزة الأمة، فيه تنفير لهم فقد يكون منهم من ارتكب جناية حدية يترتب عليها إلزامه الرجم، فإذا علم أنه إذا تاب وعاد إلى حوزة الأمة، أقيم عليه حد الرجم -فإنه لا بد أن يحجم عن العودة إلى صفوف الأمة. ويثبت على ما هو فيه من تشريد لنفسه، وإضرار للآخرين. والتوبة إذا أسقطت حد الحرابة مع ما فيها من هتك للحريات، واستباحة للأموال، وإرهاب وقطع سبيل فأولى بها أن تسقط ما دون ذلك من حدود. وهذا ما ذهب إليه ابن تيمية، وابن القيم من فقهاء الحنابلة1. كما ذهب جمهور فقهاء الشيعة الزيدية إلى أن من جاء إلى الإمام تائبًا قبل القدرة عليه سقط عنه كل ما لزمه من حد، وسقط عنه أيضًا ما قد أتلف من حقوق الآدميين، ولو كان الذي عليه قتلًا2. ولا يخفى ما في القول بإسقاط كل حد بالتوبة من تعويض حقوق الآدميين إلى الضياع، ودمائهم إلى الإهدار وحرمانهم إلى تهتك، فما أسهل على أصحاب النزوات إذا انكشف سترهم، ادعاء التوبة كي يفلتوا من عقاب جرائمهم.

_ 1 المغني ج8 ص295-296، "أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ج2 ص197. 2 شرح الأزهار ج4 ص378 ط حجازي بالقاهرة سنة 1357هـ.

المطلب الرابع: أقسام الجريمة من حيث القصد وعدمه

المطلب الرابع: أقسام الجريمة من حيث القصد وعدمه تنقسم الجرائم من حيث القصد، وعدمه إلى جرائم مقصودة، وجرائم غير مقصودة. أولًا: الجرائم المقصودة هي الجرائم التي تعمد الجاني القيام بها مريدًا تحقيق نتيجة سلوكه عالمًا بأن سلوكه هذا منهي عنه معاقب عليه. ومن هذا يتضح أن عناصر الجريمة العمدية، أو أركانها المكونة لها هي: العمد، والإرادة الفاعلة المختارة، والعلم بالنهي والتجريم. ثانيًا: الجرائم غير المقصودة هي الجرائم التي لم تكتمل أركانها من عمد، وإرادة فاعله مختارة وعلم بالتحريم. فالجريمة إذا وقعت، وكانت غير متعمدة، فهي الجريمة الخطئية1. والخطأ نوعان: خطأ في القصد، وخطأ في الفعل.

_ 1 هذا ما قاله الإمام، وإن كان أكثر الفقهاء قد رأى أن غير العمد قسمان: أ: شبه العمد. ب: الخطأ وزاد غيره القتل بالتسبب. وذكر بعضهم ما جرى مجرى الخطأ، واعتبره قسمًا رابعًا، ومثل له بما إذا انقلب نائم على شخص فقتله، مواهب الجليل ج6 ص241 ط أولى السعادة. أحكام القرآن للرازي ج2 ص223 ط أولى مطبعة الأوقاف المغني ج7 ص637، مغني المحتاج ج4 ص3-5.

فالخطأ في القصد يتمثل في أن يأتي الفاعل فعلًا لا يريد به إصابة المقتول، كأن يريد صيد طير وهدف، وما يجوز له فعله، فيئول الأمر إلى اتلاف إنسان حر مسلمًا كان أو كافرًا له عهد، فيكون الواجب بذلك دية على عاقلة الفاعل ويلزم هو بعتق رقبة مؤمنة، والأصل في وجوب الدية والكفارة قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 1. ولا قصاص في شيء من هذا؛ لأن الله تعالى، أوجب الدية ولم يذكر قصاصًا؛ ولأنه لم يوجب قصاصا في عمد الخطأ، ففي الخطأ أولى. والخطأ في الفعل يتمثل في أن يقصد الفاعل -وهو في أرض الحرب قتل من يظنه كفرًا، ويكون مسلمًا أسلم، وكتم إسلامه إلى أن يقدر على التخلص إلى أرض الإسلام، ولا خلاف في أن هذا خطأ لا يوجب قصاصًا؛ لأنه لم يقصد قتل مسلم، فأشبه ما لو ظنه صيدًا فبان أدمي، إلا أن هذا لا يجب فيه دية أيضًا ولا يجب إلا الكفارة، وهذا ما روي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، ومجاهد وعكرمة وقتادة، والأوزاعي والثوري، وأبي ثور وأبي حنيفة، وعن الإمام أحمد رأيان أحدهما تجب به الدية، والكفارة وهو ما ذهب إليه الإمام مالك، والإمام الشافعي لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ؛ ولأنه قتل مسلما خطأ، فوجبت ديته كما لو كان في دار الإسلام. وذهب ابن قدامة إلى القول بوجوب الدية فقط، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} ، ولم يذكر

_ 1 الآية 92 من سورة النساء.

دية هنا مع أنه ذكرها فيما قبله، وذكره لهذا قسمًا مفردًا يدل على أنه لم يدخل في عموم الآية التي احتج بها من أوجب الدية مع الكفارة هنا، ويخص بها عموم ما ورد1. وقد علل ذلك التقسيم بأن الإنسان يتصرف بفعل القلب، والجوارح، فيحتمل في كل منهما الخطأ على الانفراد2. أما بالنسبة للإرادة الفاعلة المختارة، فهي شرط أساسي لكي تكون الجناية عمدية. فإذا انتفت يعتد به، تغير التجريمي للواقعة أما إذا كان انتفاء الإرادة لا يرقى إلى تغيير الوصف التجريمي للواقعة، فإنه يعد انتفاء لا أثر له، ويعامل الفاعل معاملة المريد المختار لسلوكه. وعلى هذا إذا ما أكره شخص على ارتكاب جناية قتل، فقام بارتكابها فإن هذا الشخص يعامل على أساس أنه فاعل مختار لما أتى، وذلك؛ لأن الضرر المدفوع عن نفسه لا يزيد عن الضرر الذي وقع منه. كما أن الضرر الذي يدفعه عن نفسه غير متيقن، ومثل هذا لا يجوز دفعه بما هو أكثر منه، أو مثله من ضرر متيقن، وعلى هذا فإنه لا يجوز أن يقوم شخص بقتل آخر تحت تأثير الإكراه بالقتل، وأنه إن فعل ذلك لم يكن له فيما فعله عذر. وأيضًا لا يجوز لمكره قطع عضو من إنسان تحت تأثير الإكراه بقطع عضو من أعضائه هو إن لم يفعل، فإن نفذ ما أكره عليه لم يعد

_ 1 المغني ج7 ص650-652 مواهب الجليل ج6 ص241، المهذب ج2 ص189 مغني المحتاج ج4 ص3-5 بدائع الصنائع ج7 ص179 مغني البحر الرائق ج8 ص74. 2 تبيين للحقائق للزيلعي ج6 ص101.

الإكراه هنا عذرًا يعفيه من العقاب، إذ الراجح عند الشافعية هنا لزوم القصاص، ويرى الأئمة مالك وأحمد، وزفر تخفيف العقوبة، وعند أبي يوسف، ورواية عند الشافعية الدية، ويرى الإمام أبو حنيفة، ومحمد التعزير1. أما بالنسبة للعلام بالتجريم، فإنه شرط لاعتبار الفعل جناية عمدية يعاقب عليها بالعقوبة الأصلية. فإذا انتفى العلم بصورة معتبرة شرعًا، فإن الجريمة وإن كانت ثابتة في حق من قام بها، إلا أنه يعاقب عليها بالعقوبة الأصلية الموضوعة لها. ومثله ما يقع من غير المكلف، فإنه لا يعاقب عليه بالعقوبة الموضوعة لما وقع منه، وإن ألزم بالتعويض المالي؛ لأن الجريمة حينئذ قد اعتبرت مما جرى مجرى الخطأ2. أولًا: لا يتصور وجود الشروع المعاقب عليه إلا في الجرائم المقصودة، أما في الجرائم غير المقصودة -وهي الجرائم غير العمدية-، فلا يتصور فيها شروع معاقب، نظرًا؛ لأن إرادة الجاني لم تتجه إلى تحقيق النتيجة. ثانيًا: الجرائم المقصودة يأثم مرتكبها منذ نية ارتكابها؛ لأنه نوى

_ 1 يراجع مواهب الجليل ج6 ص242 الخرشي ج8 ص80 المغني ج7 ص645، المهذب ج2 ص189 بدائع الصنائع ج7 ص179 البحر الرائق ج8 ص74 القرطبي ج5 ص3799، الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390، 391. 2 المغني لابن قدامة ج7 ص637، ط مكتبة الجمهورية العربية، الجريمة للشيخ أبو زهرة ص542 ط دار الفكر.

إرتكاب معصية، فإذا استمر ولم يعدل عما نواه، وبلغ الإثم تمامه، ووقعت الجريمة لزمت الجاني عقوبة جريمته. أما إذا عدل عما نواه، وتراجع فلا عقوبة تحلقه على نيته هذه. أما الجريمة غير المقصودة، فالنية ليست موجودة أصلًا، ومن ثم فلا عقاب ولا إثم إلا إذا وقع من الجاني ما يأثم به، وعقاب الجاني حينئذ على ما كان منه من إهمال، وعدم احتياط. وهذا مقيد بما إذا كان قصد الفاعل في أول الأمر مباحًا، أما إذا كان غير مباح، فإنه إثم حتى ولو لم تتجسد هناك جريمة. ثالثًا: لا يتصور وجود الاشتراك إلا في الجرائم المقصودة، أما في الجرائم غير المقصودة، فلا يتصور فيها اشتراك. فإذا تمت مساهمة من الفاعل الأصلي في الجريمة غير المقصودة اعتبر كل من ساهم فاعلًا أصليًا يعاقب على ما وقع منه من فعل. رابعًا: الجرائم المقصودة إذا وقع فيها اعتداء على النفس يعاقب عليه بالقصاص بصورته، ومعناه أما الجرائم غير المقصودة، فلا يعاقب عليها بالقصاص من حيث الشكل إذا وقعت على النفس، وإنما العقاب على هذه الجرائم يتم بالقصاص معنى، كاستحقاق الدية مثلًا. الجرائم المقصودة وغير المقصودة بين المباشر وعدمها: الجرائم المقصودة غالبًا ما تقع بالمباشرة، التي هي عبارة عن اتجاه الجاني للعدوان على المجني عليه. ومن غير الغالب تقع الجرائم المقصودة بغير المباشرة، كأن يكون وقوعها بالتسبب مثلًا، كما إذا أتى شخص فعلًا منهيا عنه، كأن وضع

سيارته في مكان غير مسموح بوضعها فيه، ثم جاء شخص آخر لم يكن وجود السيارة، ولم يستطع رؤيتها لوجود ما يمنع ذلك من العوامل الجوية، فنتج عن وجود السيارة الأولى في المكان الممنوع تواجدها فيه اصطدام السيارة الثانية بها مما ترتب عليه موت قائد السيارة الثانية، ومثل ما ترتب على شهادة الشهود زورًا على شخص بريء بأنه ارتكب جناية من الجنايات التي يعاقب عليها بالإعدام، فأعدم نتجية هذه الشهادة الزور. والجرائم غير المقصودة تقع أيضًا بالمباشرة، كما يحدث عند ما يطلق الصياد مقذوفا ناريًا ليصيد طيرًا، فإذا بهذا المقذوف يصيب إنسانًا. وتقع أيضًا بغير المباشرة كما إذا قام أحد المزارعين برش زراعته بمبيد حشري، فأتى شخص لا يعلم رش الزراعة بالمبيد، وأكل منها فمات متأثر بما أكل1. ولقد ذهب جمهور فقهاء الأحناف إلى عدم التسوية بين عقوبة الجريمة المقصودة إذا وقعت بالمباشرة، وبين مثيلتها إذا وقعت بغير المباشرة، فمن يسقي إنسانا سمًا قاتلًا بطريق الإكراه متعمدًا قتله، فيقتل المكره نتيجة شربه هذا السم، فإن الجاني في هذا ومثله يعد مرتكبًا جناية قتل عمدية يجب القصاص فيها. وإن كان الإمام أبو حنيفة لا يرى في مثل هذا إلا الدية على

_ 1 بين الخرشي أن الاتلاف بالتسبب هو أن يفعل فعلًا يكون سببًا للاتلاف، والمعني أن من حفر بئرًا في موضع لا يجوز له حفرها فيه، كطريق المسلمين، أو حفرها في موضع يجوز له حفرها فيه كبيته، وقصد بذلك الضرر كهلاك شخص معين، وهلك فيها ذلك المعين فإنه يقتل به، فإن هلك فيها غير المعين فعليه ديته إن كان حرًا أو قيمته، إن كان عبدًا. الخرشي ج8 ص8.

العاقلة أما إذا شربه بمحض إرادته، فلا قصاص ولا دية سواء علم الشارب أن ما شربه سم، أو لم يعلم1. وقد نسب جمهور الفقهاء إلى التسوية بين ما يقع من الجرائم المقصودة بالمباشرة وغير المباشرة، مستدلًا على ذلك بما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع اليهودية التي دست السم في الطعام، فمات بسببه أحد الصحابة2.

_ 1 البحر الرائق ج8 ص335-336 ط بيروت. 2 مسند أبي داوود ج2 ص482، المغني ج7 ص643 مغني المحتاج ج4 ص7 الجريمة للشيخ أبو زهرة ص153.

بامتناعه عن القيام بما ألزم به، قد سلك سلوكًا يعاقب عليه، سواء أكان هذا الإلزام قانونيًا أم أخلاقيًا. ويتطلب بيان ذلك عربض وجهة النظر الفقهية من فقهاء الشريعة، ورجال القانون، عرضًا موجزًا. وجهة نظر فقهاء الشريعة: اتفق فقهاء الشريعة على أن كل ما طلبه الشرع، يأثم من يتركه، ويؤاخذ على هذا الترك قضائيًا، إذ تحققت بسبب هذا الترك نتائج أمكن إثباتها هي، وما تترتب عليه. فمن كان عنده فضل زاد ولم يعد به على من لا زاد له، كان آثما فإذا كان ذلك في صحراء، أو وقعت مجاعة، ولم يجد المحتاج للطعام غيره، وبخل به مالكه، ونتج عن ذلك أن مات المحتاج إلى الزاد جوعًا، فإن الامتناع من مالك فضل الزاد هنا سلوك يعاقب عليه. والفقهاء وإن اتفقوا على عقوبته إلا أن منهم من قال: إنه يعاقب بعقوبة القاتل عمدصا، ومنهم من رأى غير ذلك. وقبل عرض مقالة الفقهاء، أعرض للحديث عن الترك بشيء، من البيان من حيث هو جريمة أم لا، وإذا كان جريمة فهل ترتب عليه حدوث جريمة أخرى أم لم تترتب؟ ينقسم الترك من حيث هو جريمة أم لا إلى قسمين: 1- ترك ليس بجريمة، وذلك كترك الشخص فعل ما أبيح له فعله، تركًا لا يترتب عليه شيء ما. 2- ترك هو في حد ذاته جريمة، كما إذا ترك الشخص فعل أمر كلفه الشرع بفعله. وهذا النوع من الترك ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ترك هو في حد ذاته جريمة، ولكن لا يترتب عليه حدوث جريمة أخرى، ومثل ذلك ترك القيام بالعبادات الكلف به، من زكاة وصيام وصلاة، وكذا ترك إطعام الجائع، وسقي العطشان في المكان الآهل بالسكان، إذا قام بذلك الإطعام والسقي شخص آخر. القسم الثاني: ترك هو في حد ذاته جريمة، وينتج عن جريمة أخرى، ومثله ترك صرة المولود بعد قطعها دون ربطها حتى يموت، ومثله أيضًا ما روي من أن رجلًا استسقى قومًا، فلم يسقوه حتى مات من العطش، فضمنهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، الدية1 فالترك المعاقب عليه قضائيًا هو ما كان في حد ذاته جريمة، سواء أنتج عنه جريمة أخرى أم لا -مع ملاحظة أن الترك إذا لم ينتج عنه جريمة، فإنما يعاقب عليه من لازمه، وظل على تركه، وعصيانه لأوامر الشارع الحكيم. أما من تاب، وانصاع لما أمره به الشرع، فإنه يتوب الله عليه، ويعفو عنه. أما الترك الذي ينتج عنه جريمة أخرى -كامتناع الأم عن إرضاع ولدها حتى يموت- فهو ما يعاقب عليه؛ لأنه ترك أنتج جريمة تسمى بالجريمة السلبية. وللفقهاء آراء فيما يلزم به مرتكب الجريمة السلبية من عقوبة فقهاء المالكية قاسوا فعل من منع إنسانًا طعامًا، أو شرابًا قاصدًا قتله، حتى مات بفعل من قام بخنق إنسان، فعندهم أن كل منهما قد ارتكب

_ 1 المحلي لابن حزم ج10 ص22.

جريمة قتل عمدية، تستحق على ارتكابها عقوبة القتل قصاصًا1، ومثل هذا أيضًا قاله فقهاء الشافعية والحنابلة2. كما يقول ابن حزم في الذين لم يسقوا شخصًا طلب منهم السقيا حتى مات: "إن الذين لم يسقوه إن كانوا يعلمون أنه لا ماء ألبته إلا عندهم، ولا يمكنه إدراكه أصلًا حتى يموت، فهم قتلوه عمدًا، وعليهم القود ... وهكذا القول في الجائع، والعاري.. وهكذا كمن أدخوله بيتًا، ومنعوه الطعام حتى مات"3. من هذا يبين أن الترك الذي هو موقف سلبي قد يكون، وجريمة في حد ذاته، وقد يترتب عليه جريمة أخرى يلزم التارك بعقوبتها ما دام قد قصد العدوان. هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، أما الإمام أبو حنيفة، فإنه لا يسوي بين عقوبة الجريمة بالترك، وبين مثيلتها التي وقعت بالعمل الإيجابي. فهو يرى أن من لم يعط إنسانًا طعامًا، وهو يعلم أن لا طعام هناك يمكن لهذا الإنسان الحصول عليه حتى مات الطالب للطعام جوعًا، فإن الممتنع عن إعطائه الطعام لا تلزمه القصاص، ولا يلزم أيضًا بالدية.

_ 1 الخرشي ج8 ص7، مواهب الجليل للحطاب ج6 ص240 ط السعادة حاشية الدسوقي ج4 ص385، الشرح الكبير للدردير ج4 ص215. 2 مغني المحتاج ج4 ص5 ط الحلبي، المهذب ج2 ص ص176، نهاية المحتاج ج7 ص239 الفتاوى الكبرى لابن حجر ج4 ص220-221 ط الميمنية المغني ج7 ص643، الشرح الكبير ج9 ص327 ط المنار. 3 المحلى ج10 ص522 مطبعة الجمهور العربية سنة 1971.

وحكى صاحب البحر الرائق ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن من أدخل إنسانًا في بيت حتى مات جوعًا أو عطشًا، لا يضمن شيئًا، ومن طين على آخر بيتا حتى مات جوعًا، أو عطشًا لم يضمن شيئا، أما صاحباه أبو يوسف ومحمد فقد قالا في هاتين الحالتين بوجوب الدية على الفاعل. وقد ورد أن محمدًا قال: يوجع الفاعل عقوبة والدية على عاقلته، وأن كانت الفتوى في ذلك كله هي ما قاله الإمام أبو حنيفة1. هذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة في مثل هذه الجرائم، مع أن القتل فيها لم يكن نتيجة الترك فقط، وإنما وجد معه عمل إيجابي، ألا وهو حبس هذا الإنسان، ومنعه من أن يصل إليه، أو يصل هو إلى طعام. كما أنه لا يخفى ما للحبس من دور هام في تحصيل جريمة القتل هذه، ومع هذا فالإمام أبو حنيفة لا يرى فيما ذكر قصاصًا، ولا دية لكون الإهلاك حصل نتجة الجوع والعطش، وهما عنده ليسا من صنع الحابس، فلا يوصف الحابس إذا عند أبي حنيفة بأنها القاتل في كل ذلك2. ويبين من هذا أن الإمام أبا حنيفة، والصاحبين لا يسوون بين الجرائم التي تقع بالفعل، وبين مثيلاتها من الجرائم التي تقع بالترك، فيما يترتب على كل منهما من نتائج وأحكام، وما يلزم الجاني من عقوبة.

_ 1 يقول ابن نجيم: ومن أدخل إنسانًا في بيت حتى مان جوعا، أو عطشا لم يضمن شيئًا في قول أبي حنيفة، وقالا: عليه الدية، وفي الخانية قال محمد: يعاقب الرجل وعلى عاقلته الدية. وفي الظاهرية، ولو أن رجلًا أخذ رجلًا، فقيده وحبسه حتى مات جوعًا: قال محمد: أوجعه عقوبة والدية على عاقلته، والفتوى على قول أبي حنيفة أنه لا شيء عليه. البحر الرائق ج8 ص336 ط دار المعرفة بيروت. 2 البدائع للكاساني ج7 ص335، الجريمة للشيخ أبو زهرة ص 141 التشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر ج1 ص86، 90.

فهم وإن قرروا عقوبة لما يقع بالترك من جرائم، إلا أنها تقل عن عقوبة نفس الجرائم إذا وقعت بالفعل الإيجابي. بينما ذهب فقهاء الشافعية، ومن وافقهم وهم الجمهور، إلى التسوية بين عقوبة ما يقع بالفعل، وما يقع بالترك من جرائم ما دامت النتيجة النهائية للفعل والترك واحدة. بل حتى ولو لم يصاحب الترك عمل إيجابي في تحصيل النتيجة. فهم قد رأيا أن من يأخذ طعام شخص آخر، وهما في مكان ليس فيه طعام غيره، فمات المأخوذ منه طعامه جوعًا، فإن الآخذ يكون قد ارتكب جريمة قتل عمدية. علمًا بأن الآخذ للطعام هنا قد ارتكب جريمة اغتصابه، وهي جريمة لا يعاقب عليها بعقوبة القتل العمد، لكنه لما كان أخذه للطعام قد نتج عنه ترك غيره بلا طعام، الأمر الذي يترتب عليه موت المأخوذ منه، فإنه والحالة هذه يعتبر ارتكب جناية قتله عمدًا، وتلزم آخذ الطعام هنا عقوبة القتل العمد. هذا ما ذهب إليه فقهاء الشريعة من رأي فيما يلزم بكل من الجريمة الإيجابية والسلبية، يبين منه مدى عنايتهم ببحثهما، وفي وقت لم تحظ فيه الجريمة من غيرهم أو بيان. وجهة نظر فقهاء القانون: ذكر رجال القانون عند حديثهم عن الجرائم الإيجابية والسلبية أن القصد الجنائي قد يكون إيجابيًا، بمعنى أن يقوم الجاني بعمل من الأعمال العدوانية؛ لتنفيذ قصده الجنائي، كأن يطلق النار على من يريد قتله، أو يطعنه بسلاح قاصدًا القضاء عليه.

وقد يكون سلبيًا، بمعنى أن يمتنع الجاني عن القيام بعمل ما قاصدًا بذلك قتل إنسان. ولكنهم اعتبروا أن القصد في هذا النوع الأخير ما هو إلا نوع من الإهمال الفاحش، ترتب عليه مسئولية من أهمل، عن وقوع جناية غير عمدية، وبينوا أنه لا يعاقب ما يعاقب به من وقعت منه هذه الجناية بفعل إيجابي1. هذه وجهة نظر رجال القانون، بصورة إجمالية، وهي تحتاج إلى شيء من الإيضاح، الأمر الذي يقتضي عرض مقالة رجال القانون في بعض بلاد العالم، وعلى الأخص في كل من ألمانيا وفرنسا، نظرًا؛ لأن رجال القانون في مصر قد اهتموا بدراسة اتجاه هاتين المدرستين، كما أن بعض ما ذهب إليه فقهاء الشريعة الإسلامية قد بدا واضحًا، فيما ذهبت إليه آراء هاتين المدرستين. وجهة نظر رجال القانون الألماني: ذهب فقهاء القانون الألماني إلى أن الجرائم السلبية التي تقع نتيجة امتناع عن القيام بعمل ما من الأعمال، ينظر قبل الحكم على الممتنع، إلى امتناعه الذي نتج عنه وقوع الجريمة؛ لتحديد ما إذا كان هذا الامتناع عن عمل قد كلفه به القانون، بمعنى أنه وظيفته تحتم عليه القيام بما امتنع عن القيام به. أم أن مبادئ الأخلاق، والمروءة والدوافع الإنسانية هي التي تطالبه بالقيام بما امتنع عنه، وليس القانون.

_ 1 الأحكام العامة في القانون الجنائي، للأستاذ الدكتور علي بدوي ص375.

فإن كان قد امتنع عن القيام بعمل ألزمه به القانون، وجبت معاقبته على ما وقع من جريمة نتيجة موقفه السلبي، وامتناعه، بعقوبة تماثل عقوبة من ارتكب نفس الجريمة بفعل إيجابي، ويتضح ذلك فيما لو امتنع محول القطارات المكلف بالعمل، عن تحويل القطار من طريق إلى آخر، قاصدًا بذلك وقوع تصادم هذا القطار، وقطار آخر أو وقع حادث غير التصادم أو غيره، فرتب هذا الحادث على امتناعه عن تحويل القطار. فإن المحول الذي ألزمه القانون بتحويل القطار فامتنع، يعاقب على ما وقع من جرائم نتيجة امتناعه، بعقوبة من يقوم بإحداث هذه الجرائم بعمل إيجابي. ومثل ذلك أيضًا، الأم التي تمتنع عن إرضاع ولدها: وليس هناك من يرضعه غيرها -قاصدة بامتناعها قتله، فإنها والحالة هذه تعاقب إذا مات الولد بعقوبة القتل العمد. وكذلك بالنسبة لعامل المجاري الذي يقوم بكشف فتحاتها للإصلاح، ثم يرى طفلًا أو أعمى قد أشرف على الوقوع فيها، فيمتنع هذا العامل عن إبعاده عنها، فإذا وقع فيها الطفل، أو الأعمى مثلًا فمات عوقب هذا العامل بعقوبة القتل العمد. أما لو لم يكن الممتنع ملزمًا قانونًا بالعمل الذي امتنع عن القيام به، فإنه لا يعاقب على امتناعه، ولا عما نتج عنه من أحداث؛ لأنه في هذه الحالة لم يخالف القانون. وإن كان قد خالف مبادئ الأخلاق والإنسانية. فالشخص العادي الذي يمتنع عن إنقاذ أعمي، أو غريق أشرفا على الهلاك حتى هلكا لا يلزمه عقابا على امتناعه هذا بالرغم مما وقع

من هلاك، أو غيره لأشخاص كل يمكن أن يمد إليهم يد عون، أو مساعدة تحول بينهم وبين ما تردوا فيه، نظرًا لكونه غير مكلف بالعون والمساعدة قانونًا. وجهة نظر رجال القانون الفرنسي: كان القانون الفرنسي القديم متأثرًا بالقانون الكنسي، ولذا فإنه كان ينص على أن من يقدر على منع الفعل المكون للجريمة ولا يمنعه، يعتبر مقترفًا له. أما ما ذهب إليه القانون الفرنسي حديثا، فهو أن من يمتنع عن أداء واجب قاصدًا بامتناعه وقوع جريمة، لا يعد مسئولا عن هذه الجريمة مسئولية من قام بارتكابها بفعل إيجابي. واستثني من ذلك حالات خاصة تعززها أيضًا النصوص القانونية. وذلك كما جاء في المادة 312 عقوبات بعد تعديلها في ديسمبر 1958، والتي تقرر معاقبة من يمتنع بنية القتل عن تقديم الطعام، أو العناية بصغير يقل عمره عن 15 سنة بعقوبة القتل العمد. كما أضاف البعض حالات أخرى مثل امتناع من أوجب عليه القانون أداء عمل، كمن وكل إليه قيادة أعمى، أو تغذية طفل أو مجنون أو أشل، فمن وكل إليه شيء من ذلك، فامتنع عن أداء واجبه فحدثت إصابة، أو وفاة من وكل به، فإنه والحالة هذه تجب معاقبته على جناية عمدية؛ لأن امتناعه حنيئذ يصل في قسوته حد الارتكاب1.

_ 1 الأحكام العامة في القانون الجنائي أ. د. علي بدوي ص 72، 73.

ما عليه القانون في مصر: أما ما عليه القانون في مصر، فهو التسوية بين الفعل والامتناع في ترتيب المسئولية الجنائية، متى توافرت علاقة السببية بين السلوك، والنتيجة بشرط أن يكون الامتناع مخالفًا لإلزام قانوني، أو أن الشخص الممتنع هو الذي أوجد الظروف التي أدت إلى وقوع الحادث. فمن أدى إهماله إلى إشعال النار في مكان كان فيه طفل، وكان في وسعه إنقاذه إلا أنه تعمد تركه حتى يموت، فإنه يسأل عن قتل هذا الطفل عمدًا1. ورأى رجال القانون في العقوبة على الجرائم التي تقع بالترك يتلاقى في جملته مع ما يراه الإمام أبو حنيفة، وإن كان الفقه الألماني قد توسع إلى حد ما في الجرائم التي تقع بالترك، عن القانون الفرنسي الحديث، أما القديم فإنه كان يقارب ما عليه جمهور الفقهاء الشرعيين الذين رأوا أن الالتزام الديني هو أساس ما يحاسب عليه الإنسان، ولذا فإن للالتزام الديني درجة ما للإلزام القضائي في القوانين الوضعية، من تحمل التبعة المحاسبة القانونية على كل ما ينص القانون على المحاسبة عليه.

_ 1 الأحكام العامة في قانون العقوبات. أ. د: السعيد مصطفى سنة 46، 58. قانون العقوبات أ. د: السعيد مصطفى ص269. شرح قانون العقوبات القسم العام. أ. د: محمود نجيب حسني ص332. شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص 62، 63 الجريمة للشيخ أبو زهرة ص147.

المبحث الثالث: أركان الجريمة

المبحث الثالث: أركان الجريمة مدخل ... المبحث الثالث: أركان الجريمة عرف اللغويون الركن بأنه الجانب الأقوى، وأركان كل شيء جوانبه التي يستند إليها ويقوم بها، والتي هي جزء من ماهيته، كالركوع بالنسبة للصلاة1. وعرفه جمهور الفقهاء بأنه ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان جزءًا من ماهيته أو شرطًا له. أما فقهاء الأحناف، فإنهم قد عرفوه بأنه ما لا يتم الشيء إلا به، وكان جزءًا منه2. ويبين من هذا اتقاف اللغويين، وفقهاء الأحناف على أن ركن الشيء ما كان جزءًا من ماهيته. وطبقًا لهذا فإن ما يصدق عليه مفهوم ركن الجريمة هو ما يأتي: أولًا: ما يقوم به الجاني من تفكير وتدبير، وإعداد نفسي بإرادة، وإدراك معتبرين شرعًا، مع علمه بما سيترتب على سلوكه من نتائج ومسببات، وهذا هو ما يطلبق عليه الركن المعنوي للجريمة. ثانيًا: قيام الجاني بالسلوك المادي المكون للجريمة، سواء أكان هذا السلوك إيجابيًا أم سلبيًا -فعلًا أم امتناعًا- قام به الجاني بمفرده أم شاركه غيره. وهذا هو ما يطلق عليه الركن المادي للجريمة. هذان وحدهما هما اللذان يصدق عليهما تعريف اللغويين، وفقهاء الأحناف للركن؛ لأنهما جزء من ماهية الجريمة.

_ 1 لسان العرب مادة ركن. 2 المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص513 ط سنة 1389 هـ النهضة العربية.

وذهب إلى ذلك أيضًا بعض فقهاء القانون، إذ قالوا: إن اعتبار نص القانون الذي يبين الفعل المكون للجريمة، والعقوبة التي تفرض على مرتكبه ركنًا من أركان الجريمة، أمر غير منطقي؛ لأن القانون هو خالق الجريمة، ومن غير المتصور اعتبار الخالق عنصرا فيما يخلقه1. هذا ما ذهب إليه كثيرون من فقهاء القانون. غير أن فيما ذهب إليه فقهاء الشريعة حين عرف جمهورهم الركن بأنه ما لا يتم الشيء إلا به، سواء أكان منه أو شرطًا له، في ذلك رد لما قد أثير من اعتراضات فقهاء القانون الوضعي؛ لأن النص على الفعل المكون للجريمة، والعقوبة التي تفرض على مرتكبها، إن لم يكن داخلًا ضمن الفعل المادي الذي يكونت الجريمة، فهو من غير نزاع شرط لتجريم هذا الفعل المادي والعقاب عليه، إذ بدون وجود هذا الشرط لا يعد الفعل جريمة معاقبًا عليها عقابًا قضائيا. وما دام النص على تجريم الفعل شرطًا للعقاب عليه، فهو إذن ركن بمفهوم الجمهور للركن. وعد الشرط ركنا لا يترتب عليه عد الخالق عنصرًا فيما يخلقه، كما قال فقهاء القانون؛ لأن هذا العنصر غير خالق لنفسه، وإنما هو من وضع المشرع، الذي رأى أن يرتب على وجود هذا العنصر وجود شيء آخر، وهذا هو ما يساير المنطق. وقد حاول بعض فقهاء القانون الوضعي أن يتفادى الطعن الموجه

_ 1 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: محمود مصطفى ص37-38 ط سنة 1974م. شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص88 ط سنة 1977م.

لعد النص المنشئ للجريمة ركنا من أركانها، فقام بتعريف هذا الركن بأنه الصفة غير المشروعة للسلوك. وقال: فهذه الصفة متميزة عن نص التجريم، وإن كانت مستخلصة منه1، وهذا لا يحل القضية كما عالجها تعريف جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية إذ أن ما يعد ركنًا شرعيًا عند فقهاء القانون الوضعي، ليس هو المنطوق المادي للنص المنشئ للجريمة، وإنما هو ما فهم منه، وما أضفاه على السلوك من صفة غير مشروعة. وعلى هذا فمحاولة تفادي الطعن الموجه بتعريف الركن بأنه الصفة غير المشروعة للسلوك، محاولة لم تقدم جديدًا لحل القضية، وإنما قامت بتفسير المقصود من النص المنشىء للجريمة فقط، وبقى معها لطعن الموجه كما هو. وإما الذي حسم القضية ورد الطعن الموجه ردًا مقنعًا، فهو تعريف فقهاء الشريعة الإسلامية. ونخلص من هذا إلى أنه لا بد لقيام جريمة من وجود ثلاثة عناصر أساسية هي العنصر الشرعي، والعنصر المادي، والعنصر المعنوي. فالعنصر الشرعي هو عبارة عن النص الذي يحرم السلوك، ويعاقب عليه، والعنصر المادي هو عبارة عن السلوك المكون للجريمة. والعنصر المعنوي هو عبارة عن الصلة النفسية بين السلوك، وبين من قام به، وهو مكلف مسئول عن سلوكه2.

_ 1 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص88. 2 المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص 725-728ط سنة 1389 هـ دار النهضة العربية.

هذه هي العناصر أو الأركان العامة التي لا بد من وجودها لقيام جريمة ما من الجرائم. وهذا لا يمنع من وجود أركان خاصة لا بد من توافرها لقيام جرائم معينة؛ لأنه لا يمكن الحكم لقيام هذه الجرائم المعينة، إلا إذا توافرت في السلوك وغيره أركان خاصة بالإضافة إلى الأركان العامة للجريمة. إذ لا يمكن أن تقوم مثلًا جريمة زنا إلا إذا توافر ركن الوطء، وهو ركن خاص بهذه الجريمة وحدها. وكذا لا يمكن أن تقوم جريمة السرقة إلا إذا توافر ركن الأخذ خفية. فهذان الركنان، وما يماثلهما أركان خاصة، لا بد من توافرها في جرائم معينة؛ لأن هذه الجرائم لا تقوم إلا بتوافر بعض هذه الأركان الخاصة، إذ لا يكفي وجود الأركان العامة لقيام مثل هذه الجرائم. هذه فكرة موجزة عن الأركان العامة والخاصة للجريمة. ولا يخفى منهج فقهاء الشريعة الإسلامية في دراستهم لهذه الأركان، إذ أنهم قد تحدثوا عن أركان كل جريمة على حدة عند حديثهم عن الجريمة التي تخصها هذه الأركان. كما أنهم لم يفردوا دراسة مستقلة لأركان الجريمة بصفة عامة، كما هو منهج رجال القانون. وهذا ما أحاول تناوله مبينًا الأركان العامة للجريمة، تاركًا بيان الأركان الخاصة إلى حين الحديث عن كل جريمة على حدة1.

_ 1 سيأتي ذلك في الباب الثاني من هذا البحث.

المطلب الأول: الركن الشرعي للجريمة

المطلب الأول: الركن الشرعي للجريمة يراد بالركن الشرعي: النص الذي يجرم السلوك -إيجابا أو سلبا- ويضع عقابًا يلزم به كل من وقع منه هذا السلوك المجرم، سواء عن طريق الإيجاب أو السلب. وعلى هذا فإنه إذا لم يرد نص يجرم السلوك، فهو سلوك مباح طالما لم يترتب عليه مضارة؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة1. أمكا إذا ترتب عليه مضارة، فهو إذا عمل مجرم طبقًا لما ورد به النهي عن المضارة، في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" 2. وقد ناقش الأستاذ الدكتور: سلام مدكور هذه القضية مناقشة مستفيضة يعنينا منها هنا، ما جاء من أن الأصل فيما سكت عنه الشارع، الإباحة هذه هي خلاصة لما ورد في هذه القضية على ألسنة الفقهاء

_ 1 هذا ما اختاره. أ. د: سلام مدكور في قوله: ما دمنا قد اخترنا القول -بالإباحة، فإننا نشير إلى القائلين به من الأصوليين والفقهاء، ونبسط وجه الاستدلال به، جاء في التحرير ج2 ص172 "المختاران الأصل الإباحة عن جمخور الحنفية والشافعية، ومثله في مسلم الثبوت" ط49. ويقول ابن عابدين ط ص78. وهذا ما جرى عليه صاحب الهداية. الفتح على الهدية ج3 ص295-296، وصاحب الخانية في أوائل الحظر والإباحة، ونقل عن شرح التحرير أنه قول معتزلة البصرة، وكثير من الشافعية، وأكثر الحنفية لا سيما العراقيين. الإباحة أ. د: سلام مدكور ص504. 2 رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس، الجامع الصغير ج3 ص427 الإباحة أ. د: سلام مدكور ص498.

والأصوليين، من أنه لا حكم لأفعال العقلاء ورود النص، ومن أن الحق أصالة الإباحة فيما ليس فيه نص من الأفعال النافعة، وهو ما يطلق عليه إباحة أصلية. ومن أنه لا يكلف شرعًا إلا من كان قادرًا على فهم دليل التكليف، أهلًا لما كلف به، ولا يكلف شرعًا إلا بفعل ممكن مقدور للمكلف معلوم له علمًا يحمله على امتثاله1. وعلى هذا، فإنه يتحتم أن يكون الفعل المكلف به معلومًا للمكلف علما يحمله على الامتثال لما علم، فإن لم يخضع لما كلف به وعلمه، لزمته العقوبة لمخالفته، وعدم امتثاله لما نص عليه الشرع. ومن هنا فقهاء الشريعة قد اعتادوا عند حديثهم عن كل جريمة، أن يذكروا النصوص التي تجرم الفعل، وتلزم العقاب عليه، مبينين وقت نزول النص وسببه إن اقتضى الأمر. والحديث عن الركن الشرعي يتطلب بيان ما يجب أن يتوفر للنص التشريعي من سمات تتمثل فيما يأتي من كونه: 1- نافذا وقت وقوع الجريمة. 2- ساريا على مكان وقوعها. 3- ملزمًا للشخص الذي وقعت منه. وقبل الحديث عن هذه السمات الواجب توافرها في النص التشريعي أحب أن أشير في كلمة موجزة إلى موقف الشريعة الإسلامية بالنسبة لتجريم الأفعال والعقاب عليها، والتزامها في ذلك بما شرعته هي من أنه لا تجريم، ولا عقاب بشرع مبلغ.

_ 1 الإباحة أ. د: سلام مدكور ص505 أصول الفقه لفضيلة الشيخ عبد الوهاب خلاف ص173 ط الثانية.

لا تجريم ولا عقاب إلا بشرع مبلغ: منذ بدء الخليقة وضع الله سبحانه وتعالى قواعد تشريعية عادلة، وقاطعة فلا جريمة ولا عقوبة إلا بشرع مبلغ، ويحدد ويوضح. وليس ذلك في الأمور القضائية التي تحكم علاقات الناس فحسب، وإنما أيضًا في الأمور الدينية، التي تنظم علاقات الناس بخالقهم. ولا أدل على ذلك مما جاء به القرآن الكريم مما كان من أمر آدم عليه السلام حين أسكنه الله الجنة، وأباحها له، عدا شجرة نهاه عن الأكل منها: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} 1. فهذا النهي تشريع بلغ لآدم أولًا، ثم لما لم يلتزم به ألزم بما ترتب على المخالفة: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} 2 {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} 3. كما جاء القرآن الكريم بنصوص واضحة، وصريحة خاصة بتقرير هذا المبدأ السماوي العدل مثل قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 4. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} 5.

_ 1 الآية 35 من سورة البقرة. 2 الآية 121 من سورة طه. 3 الآية 36 من سورة البقرة. 4 الآية 15 من سورة الإسراء، تفسير القرطبي ج5 ص3847 ص4295. 5 الآية 59 من صورة القصص.

هذا هو المبدأ التشريعي السماوي عرفه آدم أبو البشر، قبل أن تخطو قدم إنسان فوق هذه الأرض. كما ضمن إليه سبحانه وتعالى ما أنزله على خاتم الرسل والأنبياء، هذا المبدأ التشريعي، وطبقه فقهاء المسلمين والتزموا به1.

_ 1 ذكر الأستاذ الدكتور محمود مصطفى أن قاعدة لا جريمة، ولا عقوبة إلا بنص لم تكن معروفة في مصر قبل قوانين سنة 1883م، وقد تكفل بالرد عليه الأستاذ الدكتور سلام مدكور، فقال: نحن نوافقه على أنها لم تكن معروفة لدينا في قانون موضوع، لكنا نقول: أنها كانت معروفة في الفقه الإسلامي، بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} ، ومن القواعد الأساسية في الأشياء والأفعال الإباحة وهاتان القاعدتان، تفيد كل منها أن الركن الشرعي للجريمة هو وجود نص محرم، فإذا لم يوجه نص يحرم الفعل أو الترك، كان ذلك الفعل مباحًا لا إثم فيه. كما أن ما جاء النص بتحريمه إنما يعتبر جريمة بتقرير عقوبة عليها، حدًا كانت العقوبة أو تعزيرًا، وفي ذلك يقول الماوردي في الأحكام السلطانية ص211: الجرائم محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير". وعلى هذا فإن كانت القوانين الوضعية جميعها في مختلف الأوطان لم تعرف هذه القاعدة إلا في القرن الثامن عشر، أو حتى الثالث عشر في إنجلترا، فإنها جاءت في التشريع الإسلامي من نحو أربعة عشر قرنا هجريا، وقد كان المطبق في مصر قبل سنة 1883 هي أحكام الشريعة، ومعنى هذا أن القاعدة المذكورة كانت معروفة في مصر معمولًا بها قبل أن تعرف مصر التقنين، والقوانين بصفة عامة، الإباحة عند الأصوليين أ. د: سلام مدكور ص50-51 ط سنة 1965 دار النهضة العربية.

القوانين الوضعية، وقاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص: ذكر فقهاء القانون أن هذه القاعدة عرفها القانون الروماني، ونص عليها العهد الأعظم الذي منحه أحد ملوك إنجلترا لرعاياه سنة 1915م في المادة 39 من هذه العهد1، ولكنه لم يكن مبدأ ملزمًا. فقد كان قضاة القوانين الوضعية يجرمون ما يشاءون من الأفعال، ويعاقبون بأي عقوبة يرونها دون قيد أو شرط2. كما تدخلت عوامل عدة بالنسبة للأشخاص والأفعال، والعقوبات التي أن كان القرن الثامن عشر، الذي تعالت فيه صيحات الفلاسفة والمصلحين، مطالبة بوضع ضوابط للقضاء، والتنديد بهذه الفوضى في التجريم والعقاب، ولكنهم لم يقترحوا حلا إيجابيًا لتحقيق العدالة، وبناء الإصلاح القضائي، حتى قام المحامي الإيطالي "بيكاريا" بنشر مقترحاته البناءة لإصلاح القضاء في كتابه المشهور عن الجرائم والعقوبات، والذي أخرجه سنة 1764م، والذي اعتبر بسببه الأب الروحي لعلماء القانون الجنائي3، ثم ظهر هذا المبدأ -لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص- في إعلان حقوق الإنسان سنة 1774م، ولم تتم صياغته الواضحة المحددوة إلا في المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان4، الذي أصدره رجال الثورة الفرنسية سنة 1789م -هذه لمحة موجزة عن قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص في كل من الشريعة والقانون، ومنها يظهر:

_ 1 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص93. 2 شرح قانون العقوبات أ. د: مصطفى السعيد ص101 التشريع الجنائي عبد القادر عوده ط ص157. 3 شرح قانون العقوبات أ. د: محمود مصطفى ص64. 4 شرح قانون العقوبات أ. د: أحمد الألفي ص93. الجريمة والمجرم والجزاء أ. د: رمسيس بهنام ص90-91.

أن الشريعة الإسلامية التي سبقت قواعد التقنين الوضعي قد جاءت بنظام متكامل للتجريم والعقاب. فهي قد جاءت بتحديد واضح للجرائم وعقوباتها، وشددت في تحديد بعض الجرائم وتعيين عقوباتها، نظرًا لما لهذه الجرائم من طبيعة خاصة ونظرا؛ لأنها تمس أمن المجتمع وسلامته، وعرفت هذه الجرائم بجرائم الحدود والقصاص. كما وضعت القواعد العامة التي تشمل كل ما يمكن أن يقع من جرائم مختلفة، وأعطت ولي الأمر الحق في أن يختار ما يناسب هذه الجرائم من عقوبات، كما أنه تجدر الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية قد أفسحت مجال الاجتهاد أمام الفقهاء قضاء كانوا أو غير قضاة، وحثتهم على تقصي النصوص، واستنباط الأحكام منها، وقياس القضايا بعضها على بعض، وتطبيق أحكام ما ورد فيه نص على غيره مما لم يرد فيه نص مما يماثله طبقًا لقواعد الفقه وأصوله. ولذا فإن الفقيه يمكنه الحكم بإباحة بعض ما لم ينص الشرع صراحة على أنه مباح، وطبقًا لمفهوم المخالفة يمكن أيضًا أن يحكم الفقيه بحظر أشياء لم يرد نص من الشارع بحظرها. وهذا مما امتازت به الشريعة على القانون في مجال التجريم والعقاب، إذ أنه لا يسمح لقضاة القانون الوضعي أن يجرموا أفعالًا، أو أن يحكموا بعقوبات، طبقًا لقياس أو غيره مما أعطت الشريعة فيه الحق للقاضي في الاجتهاد، وأعمال القواعد القياسية1 بشرط أن يستهدف في

_ 1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء أ. د: سلام مدكور ص507. دار النهضة.

ذلك مصلحة الناس جميعًا، دون تفرقة أو تمييز، لحسب أو جاه أو سلطان. هذه إشارة موجزة وضح فيها ما للشريعة الإسلامية من أصالة في مجال تقعيد القواعد والأصول التشريعية، أعاود بعدها الحديث عما يجب أن يتوافر للنص التشريعي من سمات، وشروط، حتى يمكن أن يلتزم به، ويطبق على كل ما يقع من أحداث. أولًا: سريان النص من حيث الزمان اتفق رجال القانون على عدم سريان القوانين الجنائية إلا على ما يقع اعتبارا من تاريخ العمل بها، ولا يرتب القانونيين لها أثرًا فيما وقع قبل صدورها، والعمل بها إلا في حالة ما إذا كان في ذلك نفع للمتهم الذي لم يتم الحكم عليه بصورة نهائية1. ورجال القانون قد أخذوا في ذلك بما جاءت به الشريعة الإسلامية منذ بدء تشريعها، فيما حكاه القرآن الكريم من قضايا، وأحكام منها على سبيل المثال، وما جاء من قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} ، حتى قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} 2. فالآية الأولى حرمت نكاح زوجات الآباء، وذلك منذ نزلت هذه

_ 1 شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: محمود مصطفى ص95 وما بعدها. شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص109 وما بعدها. الجريمة والمجرم والجزاء أ. د: مسيس بهنام ص92 وما بعدها. 2 من الآيتين 22، 23 من سورة النساء.

الآية وبينت أنه فاحشة، وأن كان منه في الماضي لا عقاب عليه1. أما الآية الثانية، فإنها قد بينت أنواعًا من المحرمات آخرها تحريم الجمع بين الأختين، ثم وضحت أن ما وقع من هذه المحرمات قبل نزول هذه الآية، فإنه لا عقاب عليه2. فهذه النصوص وما يماثلها ببين منهما ما وضحته الشريعة الإسلامية من قواعد وأصول تشريعية، تحكم العمل في تطبيق النص الجنائي، وتقضي بأنه لا يجرم سلوك إلا بعد ورود النص الذي يجرمه، وأخذ بهذا وتطبيقا له على ما يلتزم به من نصوص تشريعية، وضع الأصوليون قاعدة عدم رجعية النصوص الجنائية، والتزموا بها، وإن كانوا قد استثنوا منها أمرين. الأول: ويخص ما وقع قبل ورود النص من جرائم خطيرة تمس النظام، والأمن ففي مثل ذلك أجازوا أن يكون للأحكام المتعلقة بمثل هذه الجرائم أثر رجعي. الثاني: ويختص بما إذا كان في تطبيق النصوص التشريعية الجديدة نفع للجاني، فإنهم والحالة هذه أجازوه رجعية النص، وتطبيقه حتى لو كان صدور هذا النص بعد الحكم في الواقعة3. فهاتان هما الحالتان اللتان استثنيتا من عدم رجعية النص، وإن كان المشرع الوضعي قد استنثى من هاتين الحالتين بعض الوقائع، ورأى عدم الأخذ فيها بتطبيق مبدأ الأخذ بالقانون الأصلح للمتهم4.

_ 1 تفسير القرطبي ج2 ص1673 ط دار الشعب. 2 المرجع السابق ج2 ص1689. 3 المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص725-726 ط الرابعة دار النهضة العربية. 4 وذلك خاص بالحالات التي تحكمها القوانين المحددة الفترة شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د: أحمد الألفي ص131 ط 1977م.

وقد أثيرت بعض أقول حاولت التشكيك في الالتزام بهذه القاعدة، فزعموا أن من النصوص التشريعية ما طبق على وقائع سابقة على نزوله، وضربوا لذلك مثالًا بما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 1. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} 2. ذكر القرطبي أن آية اللعان نزلت بعد قول هلال بن أمية للنبي -صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله من أمري ما يبرئ ظهري من الحد3. ولا يخفى أن في تطبيق ما نزلت به الآيات من أحكام -في شأن من قذف زوجته ومن ظاهر- تخفيفًا لما كان موجودًا قبل نزول الآيات من عقاب، وفي ذلك نفع للجاني ومصلحة له4.

_ 1 الآيتان 6-7 من سورة النور. 2 الآيات 1-3 من سورة المجادلة. 3 فقد ذكر القرطبي أن آية اللعان نزلت بعد ما كان من مناقشة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين هلال بن أمية الذي رمى زوجته بشريك بن سمحاء، أحكام القرآن ج5 ص 4575. 4 نقد كان حكم ذلك قبل نزول الآية الكريمة "إثبات ما قذفها به، وإلا لزمته عقوبة القذف"، وقد ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلب من هلال بن أمية البينة على ما قال، وإلا أقام عليه عقوبة القذف. أما بالنسبة لإقامة البينة، فلم يستطع ذلك هلال، بدليل أنه قال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلًا على امرأته يلتمس البينة، وبذا أصبح ابن أمية ملزمًا بالعقوبة، وتطبيق النص عليه يعفيه من غير شك، فهو إذا أنفع له تفسير القرطبي ج5 ص4575. أما آية الظهار فقد كان فيها تخفيف التحريم المؤيد الذي كان مطبقًا قبل نزولها بالنسبة لكل من ظاهر من زوجته، وآية المجادلة جاءت بما فيه المصلحة تفسير القرطبي ج7 ص6439 وما بعدها ج8 ص6443.

أما آية الحرابة، فقد اختلف في سبب نزولها. والذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين1. وقال الإمام مالك والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: أنها نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد2. وقال ابن جرير الطبري: أن الآية قد نزلت بعد عقاب العرنيين، فيكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد عاقبهم طبقًا لقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 3.

_ 1 هم قوم قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عريبة، وآلمهم الجو في المدينة، فأمر لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بلقاح يشربون ألبانها فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا النعم، فأرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أحضرهم، وعاقبهم بجريمة حرابتهم. القرطبي ج3 ص2145 ط دار الشعب، الطبري ج18 ص53 الألوسي ج18 ص79. 2 تفسير القرطبي ج3 ص2146 ط دار الشعب. 3 الآية 40 من سورة الشورى.

وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 1 وعلى هذا تكون الآية قد نزلت بحكم جديد، يطبق على كل من يأتي مثل ذلك السلوك، وطبقًا لهذا الرأي، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يطبق حكم الآية بأثر رجعي على من وقعت منه جريمة الحرابة، قبل ورود النص المحدد لعقوبتها2. أما على قول الجمهور، فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتطبيق ما جاء بها من عقاب على من وقع منه فعل سابق على ورود النص، يكون قد وضع قاعدة رجعية النص الجنائي بالنسبة للجرائم الخطيرة، التي تعرض أمن الدولة وسلامتها للخطر. هذا هو سريان النص الجنائي، وضحته الشريعة الإسلامية، والتزم به قضاتها ولم تعرفه القوانين الوضيعة إلا بعد مجيء الثورة الفرنسية فقط3. ثانيًا: سريان النص من حيث المكان الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للناس كافة في كل زمان ومكان، واقتضت حكمته تعالى أن يبقى أناس حتى اليوم لا تطبق شريعة الله وأحكامه، التي ضمنها ما أنزله على رسوله -صلى

_ 1 الآية 194 من سورة البقرة. 2 تفسير الطبري ج6 ص119. 3 القانون الجنائي أ. د: علي بدوي ص116-117 الموسوعة الجنائية ج5 ص568 التشريع الجنائي الإسلامي أ. د: عبد القادر عوده ط ص226-273 ط دار التراث.

الله عليه وسلم-، ومن بين العوامل التي يرجع إليها ذلك، عدم وصول سلطان الدولة الإسلامية إلى حيث يقيمون. من هنا قسم الفقهاء العالم من حيث بسط سلطان الإسلام عليه إلى دارين دار الإسلام، ودار الحرب، ومنهم من زاد دار العهد. أما دار الإسلام: فهي الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام، ويأمن من فيها بأمان المسلمين سواء أكانوا مسلمين أم ذميين1. وبلاد المسلمين كلها تعتبر دار واحدة، ولو اختلفت حكامها، وصارت دولًا شتى، لنفوذ حكم الإسلام فيها؛ لأن هذه الفرقة لا تقضي على نفوذ حكم الإسلام فيها جميعها2. والأصل في أهل دار الإسلام الأصليين أن يكونوا مسلمين، ولكن قد يكون من سكانها غير المسلمين، وهم الذميون. ولأهل دار الإسلام -سواء المسلمين منهم والذميون- العصمة في أنفسهم وأموالهم3.

_ 1 شرح السرخسي ج 3/ 18 السياسة الشرعية، أو نظام الدولة الإسلامية للمرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف ص69 بدائع الصنائع ج7 ص130، أسنى المطالب ج4 ص240. 2 الوصايا في الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص54. 3 بدائع الصنائع ج7 ص106 أسنى المطالب ج4 ص210 أحكام الزميين والمسلمين في دار الإسلام، رسالة دكتوراه إعداد د/ عبد الكريم زيدان، بإشراف أ. د. محمد سلام مدكور، المغني ج10 ص578 ط المنار.

أما دار الحرب، فهي الدار التي لا سلطان للمسلمين عليها، وهي الدار التي شوكتها لأهل الكفر، ولا سلطان عليهم. وأهل دار الحرب هم الحربيون، والحربى لا عصمة له في نفسه، ولا في ماله بالنسبة لنا؛ لأن العصمة لا تكون إلا بالإيمان، أو الأيمان وليس لحربي واحد منهما1، ومن كان مسلمًا ومقيمًا بدار الحرب، فإنه لا يمنع من دخول دار الإسلام، بل إن الإمام أبا حنيفة يرى أنه لا بد من دخوله دار الإسلام حتى يصبح معصوم الدم والمال؛ لأن العصمة عنده أساسها منعة الإسلام القائمة على أساس قوته وسلطانه2. أما دار العهد: أو دار الصلح، فهي البلاد التي لم يستول عليها المسلمون استيلاء يمكنهم من تطبيق شرائعهم، وسننهم فيها، ولكن أهلها دخلوا في عقد مع المسلمين، وعهدهم على شرائط معينة3. هذا ويرى بعض فقهاء القانون الدولي أن اصطلاح "دار الإسلام"

_ 1 شرح الأزهار ج4 ص552 شرح النيل ج10 ص395. 2 بدائع الصنائع ج7 ص252 البحر الرائق ج3 ص102. 3 نظم الحكم في الإسلام أ. د: سلام مدكور محاضرات ألقيت على طلبة معهد الدوريات العربية في العام الدراسي 1977-1978م تحت الطبع التاج المذهب لأحكام المذهب شرح فن الأزهار، لأحمد بن القاسم الصنعاني ج4 ص458 ط أولى تفسير المنار ج10 ص279 العلاقات الدولية في الإسلام للشيخ أبو زهرة ص54، الشرع الدولى في الإسلام د/ نجيب الأرمنازي ص50.

اصطلاح مقبول في وقت ظهور الإسلام، وذلك؛ لأن اصطلاح "الدولة" بمفهومها الحديث لم يكن معروفًا وقتذاك. كما أن اصطلاح دار الحرب، اصطلاح عادي يتميز بالعمومية واليسر إذ يجمع بين كل المجتمعات الإنسانية، التي لم يكن يربط بينها، وبين الدولة الإسلامية أي رباط، والتي كانت ترفض التعاون السلمي مع الدولة الإسلامية1. هذا هو تقسيم الفقهاء للعالم من حيث بسط سلطان الإسلام عليه، أما إمكان أحكام الشريعة الإسلامية، وسريان نصوصها على المقيمين فيه، فهو ما سأتناوله في الصفحات التالية:

_ 1 أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية د: حامد سلطان ص116.

الشريعة الإسلامية، والمبادئ التي تحكم سريان النص على المكان: الأصل كما سبق أن تطبق أحكام الإسلام على الناس عامة، ولكن ما عليه المسلمين من حال أدى إلى قصر تطبيق هذه الأحكام على من يدين بدين الإسلام بصفة خاصة، وبالولاة للدولة الإسلامية بصفة عامة، وعلى ضوء هذا اتجه فقهاء الإسلامي إتجاهين أساسيين، يحكمان سريان تطبيق أحكام الشريعة على المكان، خصوصًا من حيث الإلزام الجنائي. الاتجاه الأول: ويمكن أن يطلق عليه اتجاه الإقليمية. يقوم هذا الاتجاه على الأسس الآتية: الأساس الأول: الولاية على المكان الذي وقعت فيه الجريمة. الأساس الثاني: من وقعت منه الجريمة. الأساس الثالث: نوع الجريمة التي وقعت. أما بالنسبة للاتجاه الأول الذي يقرن العقوبة على الجريمة بالولاية على المكان الذي وقعت فيه الجريمة وقت وقوعها، فإن أقوال الفقهاء بالنسبة لذلك تنحصر فيما يأتي: 1- تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على كل من يقيم في إطار حدود الدولة الإسلامية "أي على إقليمها"، سواء أكان مسلمًا أم ذميًا أم مستأمنا. 2- تطبق أحكام الشريعة الإسلامية على كل من يقيم على إقليم الدولة الإسلامية، عدا المستأمن إذا ارتكب جريمة تمس حقا لله "هو الذي يعرف الآن بحقوق الجماعة".

وليس معنى هذا أن يترك المستأمن يفلت من الالتزام بضمان ما أتلفه، وإنما عليه ضمانه لا على سبيل العقوبة، وإنما على سبيل التعويض1. ويتفق هذه الاتجاه، وما يطبقه فقهاء القانون من مبدأ الإقليمية، والذي يعني أن يطبق القانون الجنائي للدولة على كل ما يقع على إقليمها من جنايات، وغيرها، وعدم تطبيق هذا القانون خارج إقليم الدولة2. غير أن هذا الإتجاه الأول لفقهاء الشريعة يرى بعض القائلين به عدم معاقبة من لا يقيم إقامة دائمة بالدولة الإسلامية، على ما يأتيه من جرائم يقع الاعتداء فيها على حق خالص، أو غالب لله سبحانه وتعالى. تقييم الاتجاه الأول لفقهاء الشريعة: راعى الإمام الأعظم أبو حنيفة، ومن وافقه في أخذهم بهذا الاتجاه الحرية الشخصية للأفراد إلى حد كبير، وقد راقت هذه المراعاة كثيرين من فقهاء القانون الوضعي، فنسجوا على منوالها. غير أن الاتجاه قد فتح الباب على مصراعيه أمام الدولة الإسلامية، إذا ذهبوا إلى دولة أخرى، فإن كثيرين منهم يعبون الجرائم في نهم، وينتهكون الحرمات، لأمنهم حينئذ وبعدهم عن تطبيق عقوبات ما تردوا فيه من جرائم عليهم. وذلك وآثاره ليس يخاف على أحد.

_ 1 فتح القدير ج6 ص21-26، البحر الرائق ج5 ص186 بدائع الصنائع ج7 ص131-134 ط الجمالية، الأم للإمام الشافعي ج7- ص325 ط دار الشعب المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص723 ط الرابعة سنة 1969 دار النهضة العربية. 2 شرح قانون العقوبات لكل من أ. د: محمود مصطفى ص119، أ. د: محمود نجيب حسني ص131، أ. د: أحمد الألفي ص139.

كما أن القول بالتفريق بين المستأمن وغيره، ممن يقيم بالدولة الإسلامية في محاولة إنجاء المستأمن، وغيره من العقاب على بعض ما يرتكبه من جرائم، قد فتح باب مفارقة الجرائم أمام هؤلاء المستأمنين، وقد يكون منهم من لا رادع له من خلق أو دين، وإنجاؤه من العقاب تضييع لحرمات الله، وحث له ولغيره على الإثم والخطيئة، ولكم عانت الأمة من التفريق في المعاملة القانونية، وألوان الحماية المختلفة1. وإنه لمن الأنفع للدولة وللأفراد جميعًا، أن يدفع الفساد بالعقوبة العنيفة الرادعة. وفي ذلك الخير وحماية الأخلاق، والفضيلة بدلًا من أن تراعى حرية بعض فاسدي النفوس والطبائع، الذين يعيثون في الأرض فسادًا، وهم آمنون من العقاب. مما لا شك فيه أن الضرب على أيدي هؤلاء، وإلزامهم عقوبة ما ارتكبوه من جرائم حتى ولو لم تكن الأفعال محرمة في قانون وطنهم أنفع من كل الوجوه، مما ذهب إليه، ورعاه الإمام أبو حنيفة، أيا كان هدفه، أو قاعدته التي اعتمد عليها في القول بذلك. الاتجاه الثاني: ويمكن أن يطلق عليه اتجاه الإلزام الشخصي. والولاية فيه أعم من سابقه، إذ أنه مبني على أساب ولاية الدولة الإسلامية على كل من يقيم، أو يوجد فيها وقت ارتكابه الجريمة بصرف النظر عن ديانته، أو بلده التابع له، سواء أكان مسلمًا أم ذميًا، أم مستأمنًا. ثم يلزم القائلون بهذا الاتجاه أيضًا كل مسلم عقوبة جنايته التي

_ 1 التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عوده ط ص290 ط بيروت.

ارتكبها في أي مكان حتى ولو كانت قد وقعت في دار الحرب، وكذا الحال بالنسبة للذي يعد في رعايا الدولة الإسلامية، فمعيار الأفعال، وإلزام العقوبة عليها يلزم به كل رعايا الدولة الإسلامية، سواء ارتكبوا جرائمهم دار الإسلام أم في دار الحرب، ما دامت الشريعة الإسلامية قد جرمت الفعل، وألزمت من قام به العقوبة. فالإلزام عند أصحاب هذا الاتجاه إلزام شخصي، لا علاقة له بالإقليم الذي وقعت الجريمة على أرضه، من حيث إعفاء من وقعت منه هذه الجريمة، لكون أهل هذا الإقليم لا يعتبرون ما وقع جريمة يعاقب عليها. إذ المقياس هو نظرة الشريعة الإسلامية لما وقع، من حيث تجريمه أو إباحته، إلى الشخص الذي وقع منه الفعل، أهو أحد رعايا الدولة الإسلامية، أم من غيرهم1. الاتجاه الثاني: ومبدأ العينية والشخصي لاحظ فقهاء القانون الوضعي أن مبدأ الإقليمية ترد عليه بعض استثناءات يحتاج علاجها وجود مبادئ أخرى لتدراك إفلات المجرم، ومحاولة لتتبعه وإنزال العقاب به. لذا فقد وضعوا مبادئ أخرى بجانب مبدأ الإقليمية، وذلك كمبدأ

_ 1 المدونة الكبرى ج16 ص91 ط أولى مطبعة السعادة، مواهب الجليل ج3 ص358 ط الحلبي المهذب للشبرازي ج1 ص383 ط المنار. المغني ج10 ص 439، 537 ط المنار الجريمة للشيخ أبو زهرة ص347. اتشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عوده ج1 ص287-289.

العينية، ومبدأ الشخصية بنوعيها الإيجابي والسلبي، ويعني مبدأ العينية ملاحقة الجاني بصرف النظر عن جنسيته، إذا ارتكب جنايات معينة، وهي عادة تتمثل في الجنايات التي تمس أمن الدولة وسلامتها، سواء ارتكبت داخل الدولة، أو خارجها بصرف النظر عن كون هذه الأفعال معاقبا عليها في مكان ارتكابها أو لا. وهذا المبدأ لا يعني إلا بأمن الدولة فقط، وإن كان غالبًا ما يوجه إلى العناية بأمن الحاكم وسلامته، والحفاظ على حكمه وسلطانه، يصرف النظر عن أي شيء آخر. ومبدأ العينية هذا ما هو إلا بداية سير فقهاء القانون الوضعي نحو الاتجاه الثاني لفقهاء الشريعة الإسلامية، الذي لم يعن بأمن الدولة فقط، أو بالحفاظ على طائفة دون أخرى، أو إقليم دون إقليم، وإنما عني بالحفاظ على الأمة كلها وسلوكياتها وأخلاقياتها؛ لأن ذلك أساس البناء الشامخ للأمم وحضاراتها. أما مبدأ الشخصية، فإنه يعني في أحد مفهوميه تتبع المواطن إذا ارتكب جريمة في الخارج؛ لأن على الدولة أن تضمن حسن سلوك رعاياها خارج حدودها أيضًا، كما أن ذلك يعمل على مكافحة الجريمة، وتهدئة الشعور العام1. غير أن هذا المبدأ يشترط للعقاب على السلوك، أن يكون سلوكًا مجرمًا في المكان الذي وقع فيه، وأن يكون سلوكه هذا مكونًا جريمة في قانون بلده "جناية أو جنحة في القانون المصري". وبذا يظهر شمول الإتجاه الثاني لفقهاء الشريعة الإسلامية، لمبدأ

_ 1 شرح قانون العقوبات. أ. د: محمود مصطفى ص130-136، والتشريع الجنائي ج1 ص295.

العينية والشخصية والزيادة عليهما؛ لأنه يعني بالأمن العام للفرد والأمة، ولا يعنيه أن يكون الفعل معاقبًا عليه في المكان الذي وقع فيه أم لا، وإنما المعيار هو ما تقرره الشريعة؛ لأن ما يقرره الأفراد يخضع للأهواء، والرغبات، وهو سهل التغير والتبديل. أما ما تقرره الشريعة الإسلامية، فهو بجانب كونه قانونًا واجب الاتباع -هو أيضًا جزء من عقيدة ثابتة، لا تخضع لشهوة أو هوى. كما أن البلاد الإسلامية كلها من وجهة نظر الشريعة، بلد واحد، فالجاني أينما ذهب فشريعة الإسلام تحكمه، وهذا أقدر على استئصال الإجرام والمجرمين، وإحكام القبضة القانونية، وهو حلم مشرعي القانون. ثالثًا: حدود سريان النصوص الجنائية على الأشخاص 1- القانون الوضعي، وحدود سريان النص الجنائي على الأشخاص: حتى قيام الثورة الفرنسية لم تكن تعرف القوانين الوضعية طريق المساواة في تطبيق النصوص الجنائية على الأشخاص، فقد كان التمييز واضحًا في وضع المحكمة وسيرها، وفيما يحكم به، بل وفي كيفية تنفيذ العقوبة. وبعد قيام الثورة الفرنسية، بدأ وضع قاعدة تحكم سريان النص الجنائي على جميع من يقيم على إقليم الدولة. غير أن هذه القاعدة لم تسلم من الاستثناءات، فخص بعض الأفراد بإعفاءات معينة، وأكثر من ذلك نص عليها في دساتير بعض الدول، ومن هذه الفئات المستثناة على سبيل المثال:

"أ" رئيس الدولة: إذ هو لا يخضع للقانون كما يخضع له باقي الأفراد. بحجة أنه مصدر السلطة العليا والقانون، وإن كانت بعض الدساتير قد نصت على إخضاعه للقانون عند ارتكابه جناية الخيانة العظمى. "ب" رؤساء الدولة الأجنبية: فهؤلاء لا يخضعون لأي قانون جنائي في أي بلد يذهبون إليه، سواء أكانوا في زيارة رسمية أو غيرها، هم ومن معهم من أفراد أسرهم، ومرافقيهم من حاشية، وأتباع. "ج" رجال السلك السياسي، وأعضاء الهيئات التشريعية: وإعفاء هؤلاء ليس مثار جدل -معلن على الأقل-، وإنما الجدل الذي يدور هو حول طبيعة هذه الإعفاءات من تطبيق القانون عليهم، أم إعفاء من المثول أمام القضاء، إلى آخر ما زال يدور همسًا في غالبه1. هذا هو موقف القوانين الوضعية في مسألة حدود سريان النصوص الجنائية على الأشخاص، في نهاية القرن العشرين. وهو يماثل ما كان عليه القوم منذ أربعة عشر قرنًا، يوم جاء يلتمسون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إعفاء إحدى شريفاتهم، وكانت قد سرقت، فأنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك منهم، وأنزل بها العقوبة2.

_ 1 شرح قانون العقوبات أ. د: محمود نجيب ص113، الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د: سمير الجنزوري ص251-258. 2 الخراج لأبي يوسف ص50، نيل الأوطار للشوكاني ج7.

2- الشريعة الإسلامية، وحدود سريان النص الجنائي على الأشخاص: سوى الله سبحانه وتعالى بين الناس في أصل الخلقة، فالناس جميعًا أبناء لآدم عليه السلام، وجعل الله سبحانه وتعالى أساس المفاضلة بينهم واحدًا، وهو التقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . وهذا ما التزم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأكده بقوله: "لا فضل لعربي على أعجمي إلى بالتقوى". وهذه المفاضلة هي مقياس الناس عند ربهم سبحانه وتعالى، أما عند الاحتكام للقانون الشرعي، فالناس سواسية كأسنان المشط، والتسوية بينهم واجبة1. والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أبى هذا الأساس الثابت يوم خرج، وهو مريض يتحامل على كتفي بعض أصحابه، حتى وصل إلى المنبر، ولم يستطع الوقوف، فجلس ثم قال: "أيها الناس من كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهري فليستقد منه، ومن أخذت له مالًا فهذا مالي، فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ مني حقا إن كان له، أو حللني فلقيت ربي، وأنا طيب النفس" 2. ولقد علم الصحابة الأجلاء ذلك جيدًا، وطبقو وجعلوا منه قانونًا نافذًا، وأمرًا ساريًا على جميع الناس. فهذا عمر بن الخطاب خليفة المسلمين، يعلن للناس جميعا في موسم الحج، وقد جمع ولاة أمصاره على مشهد من الحجاج، وقال للجميع: أيها الناس إني لم أرسل إليكم عمالًا ليضربوا أبشاركم، ولا يأخذوا أموالكم

_ 1 الإقناع ج5 ص145 صبيح الطبعة الثالثة. 2 تاريخ ابن الأثير ج2 ص154 ط بولاق.

وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به شيئًا سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقص منه: وقد رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه1. وهكذا يسوي الإسلام بين الحاكم والمحكوم، ويشترط في الحاكم شروطًا لا بد من أن تتوفر في سلوكه حتى يكون أهلًا لتولي سلطة حكم الدولة الإسلامية. وقد رأى بعض فقهاء الشريعة عزل رئيس الدولة إذا ارتكب منكرًا، أو أقدم على فعل محظور، وتحكمت فيه شهوته، وتسلط عليه هواه؛ لأن من كان هذا حخاله عد من الفساق، ولا تنعقد له إمامة المسلمين، ويعزل منها إن كان قد وليها2. أما موقف فقهاء الشريعة الإسلامية في سريان النص الجنائي على الأشخاص، فيمكن إجماله في اتجاهين متقاربين. الاتجاه الأول: يرى الإمام الشافعي، والإمام مالك تطبيق النص الجنائي على الجميع، الحاكم والمحكوم، لا يعفي أحد من انطباق النص الجنائي عليه مهما كان وضعه وسلطانه، وعند أصحاب هذا الاتجاه رئيس الدولة، "الإمام" مسئول عن كل ما يأتيه من جرائم، سواء وقع الاعتداء فيها على حق الله، أم على حق العبد، ويقوم بتنفيذ العقوبة على الإمام من ينوب عنه في القضاء، أو في تنفيذ العقوبات3.

_ 1 المرجع السابق ج3 ص208، الخراج لأبي يوسف ص66. 2 الأحكام السلطانية للماوردي ص14. أسنى المطالب لأبي بحر زكريا الأنصاري ج4 ص111. 3 الأم ج6 ص36 المهذب ج3 ص189، المدونة ج16 ص57 فقه القرآن والسنة للشيخ شلتوت ص97.

الاتجاه الثاني: ويخالف الإمام أبو حنيفة أصحاب الاتجاه الأول بالنسبة لرئيس الدولة، إذا لم تكن هناك سلطة تعلوه، أو تستطيع تنفيذ العقوبة عليه، فإنه والحالة هذه إذا ارتكب جناية، وقع الاعتداء فيها على ما فيه حق الله، فإن القائلين بهذا الاتجاه يعفو رئيس الدولة "الإمام" من إقامة الحد عليه. لأن إقامة الحد عند أصحاب هذا الاتجاه حق لله تعالى، ورئيس الدولة هو المكلف بذلك، ولا ولاية لأحد عليه، فمن يحاكمه؟ ولا يعقل أن ينكل الإمام، ويعرضها للخزي والهوان، كما أن الإمام إذا وجب عليه حد لارتكابه إحدى الجرائم الموجبة للحد، والتي يلزم بارتكابها الرجم مثلًا، كان مهدر الدم، فإذا قتله أي فرد من الأمة لا يعاقب على قتله بالقصاص نظرًا؛ لأنه قتل شخصًا مباح الدم، وبذا يصبح الحاكم عرضه لتسلط العامة عليه، وهذا ما لم يرتضه القائلون بهذا الاتجاه1. وليس معنى هذا أن يصبح الفعل الذي يقوم به رئيس الدولة غير مجرم، بل هو فعل مجرم، ولكن العقاب عليه غير ممكن، إلا في حالة ما إذا فصل رئيس الدولة بين السلطات، وجعل القضاء سلطة مستقلة، وعين من يقوم بالقضاء في الدولة، وأناط بمن يقوم بالقضاء سلطة تنفيذ ما يقضى به، إذا حدث ذلك فإن ما يقوم به رئيس الدولة من أفعال مجرمة تلزمه عقوبتها، ويقوم القاضي بتنفيذ العقوبة الحدية على رئيس الدولة إذا ارتكب من الأفعال ما يوجبها عليه2.

_ 1 حاشية الطهاوي على الدر المختار ج4 ص260 ط الثالثة. 2 فتح القدير ج4 ص161 الأميرية.

المسلمون والذمييون: وقاعدة المساواة في سريان النص على الأشخاص الشريعة الإسلامية شريعة المساواة والعدل، وأساسها القوي الذي تعتمد عليه في تشريعها الأحكام، والإلزام بها هو القيدة الدينية. ومن هذا المنطلق كانت معاملتها للمسلم حسبما تقتضي عقيدة الإسلام، ولغير المسلم تقضي عقيدته الدينية. ومن هنا اختلف تطبيق بعض النصوص، ولم يكن إلزام المسلم، والذمي بها على حد سواء. وليس هذا من باب الاستثناء الذي يرد دائمًا في القوانين الوضعية، وإنما هو من باب تأكيد مبدأ العدالة، إذ كيف أن تسوي بين اثنين بالحكم عليهما في قضية واحدة لارتكابهما فعلًا واحدًا بحكم متماثل، بينما عقيدة أحدهما تبيح بالفعل، وعقيدة الآخرة تجرمه. وعلى سبيل المثال لا يمكن أن تحكم بحكم متماثل، ومتساو على كل من مسلم وذمي شربا خمرا، إذ إن عقيدة المسلم تجرم ذلك تجريمًا حديًا أما غير المسلم، فقد يعتقد طبقًا لما تعلم إباحة شرب الخمر، وعدم تجريمه1. من هنا كانت الجرائم في الشريعة الإسلامية قسمين: القسم الأول: جرائم يعاقب مرتكبها، مسلمًا كان أم غير مسلم. القسم الثاني: جرائم يعاقب مرتكبها إذا كان مسلمًا فقط. وهذا وإن وافق في الظاهر ما في القوانين الوضعية من جعل بعض الجرائم عامًا، يوقع العقاب عليه بالنسبة لكل من يرتكبه من رعايا الدولة، وبعض الجرائم خاصا يعاقب على ارتكابها البعض دون البعض

_ 1 الإقناع ج5 ص20 ط صبيح ط "الثالثة".

الآخر، إلا أن ذلك يخلف في حقيقته، وأساسه وجوهره ما في القوانين الوضعية -إذ أن أساس التفرقة في التشريع الإسلامي، هو ما يعتقد من العقائد الدينية بالنسبة لكل شخص، وليست التفرقة ناتجة عن وضع طبقي أو جاه، أو سلطان. ومع كل ما سبق بيانه، فقد تبقى بعض الشبه يمكن لمن ولعوا بها أن يثيروها، ويتمثل فيما جاء من خلاف بين أقوال بعض الفقهاء بالنسبة لبعض القضايا الآتية: 1- يرى الإمام أبو حنيفة أن من شروط الإحسان في جريمة الزنا، الإسلام وعلى هذا فلا يعد الذمي محصنًا عنده، ولا تلزمه عقوبة الرجم إذا زنى، وإنما عقوبة الذمي على ارتكابه جريمة الزنا هي دائمًا الجلد. بينما ذهب جمهور فقهاء المسلمين إلى أن الإسلام ليس شرطًا من شروط الإحصان، وعلى هذا فمن الذمي يلزمه ما يلزم المسلم من عقوبة على جريمة الزنا، سواء أكانت العقوبة جلدا أم رجما1. 2- يرى الإمام أبو حنيفة القصاص من المسلم إذا قتل ذميًا، تمسكًا منه بعموم النص. بينما يرى غيره عدم جواز القصاص من المسلم إذا قتل ذميًا، وأن يكون سلوكه هذا مكونا جريمة في قانون بلده "جناية، أو جنحه في تمسكا من هؤلاء بما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أنه لا يقتل مسلم بكافر2، إذ أنهم قد فسروا الكافر بأنه غير المسلم. بينما فسر الإمام أبو حنيفة الكافر بأنه من لا عهد له. وأخلاف في ذلك، وما ماثله خلاف في تفسير النص وفهمه. وتفسير النص وفهمه أمر من أمور الإجتهاد المشروع الذي لم يختلف أحد على إباحته من فقهاء أهل السنة؛ لأنه يفتح باب شحذ الذهن، وتحري الدقة في استنباط الحكم، وذلك كل مبعث رحمة وهداية3.

_ 1 بدائع الصنائع للكاساني ج7 ص38. البحر الرائق لابن نجيم ج5 ص11 ط دار المعرفة بيروت. الإقناع ج5 ص8 الثالثة. 2 صحيح البخاري كتاب الديات باب لا يقتل مسلم بالكافر ج9 ط دار الشعب. 3 أستاذي الدكتور سلام مدكور تاريخ التشريع الإسلامي ص48.

المطلب الثاني: الركن المادي للجريمة

المطلب الثاني: الركن المادي للجريمة هو مظهر الجريمة المجسد الناتج عما دار في فؤاد مرتكب الجريمة قبل وقوعها، وقيامه بسلوك تسبب في وقوع الجريمة، وتحققها. فالركن المادي هو الذي توجد بتحققه الجريمة، وتتخطى مرحلة التفكير، والإعداد إلى حيز الوجود والإعلان، وبذا يمكن إثبات ما كان خفيًا من تفكير وتدبير؛ لأنه لا يمكن إثبات ذلك إلا بقيام الأثر في الخارج. وهذا الأثر هو مزاج بين التفكير والسلوك، ما هو إلا المحصلة النهائية لكل ما قام به الفاعل، متجسدًا في النتيجة المجرمة، ويتكون الركن المادي مما يأتي: أولًا: السلوك غير المشروع الذي يقوم به الجاني. ثانيًا: النتيجة التي تنجم عن هذا السلوك، وتتحصل بسببه سواء قصدها الفاعل أو لم يقصدها.

ثالثًا: الصلة التي تربط بين السلوك، والنتيجة بصورة تجعلها ناتجة عنه واقعة بسببه1. هذه مكونات الركن المادي التي إذا وجدت تحقق وجوده الذي هو تجسيد للجريمة الكاملة. أما إذا لم تكتمل هذه المكونات بسبب قيام مانع خارج عن إرادة الجاني، فإن ما يقع يعد شروعًا في جناية، إلا إذا كان ما وجد يشكل في حد ذاته جناية كاملة من الجنايات، وإن نقصت عن التي كان يريد الجاني تحقيقها. هذا ما ذهب إليه فقهاء القانون؛ لأنهم قد عرفوا الشروع بأنه: البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية، أو جنحة إذا أوقف أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها2. وذلك كمن يصوب مقذوفًا لعدوه، يقصد قتله، فيطيش المقذوف، وتنعدم النتيجة تمامًا. أو تتحقق النتيجة غير أن علاقة السببية بينها، وبين الفعل قد

_ 1 الجريمة للشيخ أبو زهرة ص384 "العودة للجريمة" د. محمود نجيب حسني ص316، شرح قانون العقوبات د. أحمد الألفي ص253. د. سمير الجنزوري ص270 "المدخل الإسلامي للفقه الإسلامي د. سلام مدكور ص727. 2 المادة 45 من قانون العقوبات. شرح قانون العقوبات القسم العام د. محمود نجيب حسني ص353. شرح قانون العقوبات العام د. أحمد الألفي ص287، 288 شرح قانون العقوبات القسم العام د. محمود مصطفى ص308.

انعدمت كما إذا أصاب المقذوف من صوب إليه إصابة يسيرة، وفي أثناء ذلك حدثت غارة جوية، فمات من صوب إليه المقذوف بسبب حدوث الغارة الجوية، وليس بسبب الإصابة اليسيرة الناتجة عن المقذوف. ففي كلتا الحالتين توافر الفعل الجاني كل عناصر الجريمة التامة، غير أنه لم يحقق الأثر الذي أراده الجاني، ولا علاقة للمقذوف بما وقع من نتيجة لذا، فإن فعل الجاني هنا يعد شروعًا، ويعاقب عليه بعقوبة الشروع، وليس بعقوبة الجريمة الكاملة، فإذا كان عدم اكتمال الجريمة راجعًا إلى إرادة الفاعل نتيجة عدولة الاختياري عن إتمامها، ومحاولته تجنب النتيجة التي كان يبغي تحقيقها بحيث لم تتم هذه النتيجة، فإن الشروع ينعدم حينئذ، وترغيبًا في العدول الاختياري، والحث عليه يرى فقهاء القانون عدم المعاقبة، حنيئذ عما تم قبل هذا العدول الاختياري، وهذا أسلوب من أساليب السياسة الجنائية، يهدف إلى مكافحة الجريمة. ويعتبر العدول اختياريًا إذا كان نابغا من داخل الجاني نفسه، كأن راجع نفسه، أو أشفق على المجني عليه، أو خاف أن يلحقه عار أو عقاب. هذا ما قاله فقهاء القانون1. أما فقهاء الشريعة، فإنهم لم ينظروا لما سبق على أساس أنه جريمة ناقصة، فلم يسموه شروعًا، وإنما عالجوه على أساس أنه جريمة لها عقابها الخاص بها، سواء أكان عقابًا محددًا من قبل المشرع، أم من قبل ولي الأمر2. وقد يظن أن فقهاء الشريعة لم يعرفوا الشروع الذي تحدث عنه

_ 1 المراجع السابقة. 2 الأحكام السلطانية للماوردي ص206، 207 ط مطبعة السعادة التشريع الجنائي للأستاذ عبد القادر عودة ج1 ص 345ط دار التراث. الجريمة للشيخ أبو زهرة ص393.

القانونيون لكن حقيقة الأمر هي أن فقهاء الشريعة عالجوا ما أسماه رجال القانون شروعا، عالجوه على أساس أنه جرائم لها عقوباتها الخاصة بها. فإذا جاء رجال القانون، وأطلقوا على هذا النوع من الجرائم مسميات خاصة بها، فإن ذلك يكون من باب الجرائم المعروفة مسميات عصرية، ولا يعني ذلك اكتشاف ما لم يعرف. والجريمة في كل مراحلها قد يقوم بها شخص واحد، وقد يشاركه آخرون عمله، أو مرحلة من مراحله، لذا لزم بيان المساهمة الجنائية في كلمة موجزه لما لها من صلة بما نحن فيه. المساهمة الجنائية: وتعني قيام عدد من الأشخاص بأعمال تقضي في مجموعها إلى قيام جريمة، بحيث يسهم عمل كل شخص منهم في احداث هذه الجريمة، مع قيام رابطة معنوية بينهم جميعًا. وعلى هذا يمكن تمييز الجريمة التي تقع نتيجة المساهمة الجنائية عن غيرها من تلك الجرائم التي يرتكبها فاعل واحد بمفرده، مهما تعددت وتغايرت، وأيضًا بين تعدد الجناة، وتعدد جرائمهم، مثلما يحدث عند التجمهر من وقوع حوادث متعددة، من إحراق وتدمير وغير ذلك، دون أن يكون من المتجمهرين اتفاق على إحداث تلك الجرائم. ولذا فإن كل من يرتكب جريمة يسأل عنه فقد دون غيرها، مما ارتكبه الآخرون، وإن كان هناك توافق بين الإدارات المتعددة إلا أن هذا التوافق، وتوارد الخواطر لا يرقيان إلى مرتبة الاتفاق، وبذا يخرج عن حيز المساهمة الجنائية؛ لأن إرادة كل منهم صادرة عن باعث خاص به، إذا تصادف أن كان لغيره باعث يسير في نفس الاتجاه، فإنه لا يمكن

أن يترتب عليه مسئولية تضمانية بينهم مع أن عدوانهم قد يقع على شخص واحد1. وهذا ما ذهب إليه فقهاء الشريعة، إذ فرقوا بين التوافق والتمالؤ، وحاسبوا من توافقت إرادتهم، فقاموا بارتكاب جرائم، حاسبوهم على أساس مسئولية كل فرد عما قام به من أفعال فقط. لأن توافقهم جاء نتجية توارد الخواطر، وليس ناتجًا عن إتفاق سبق أما التمالؤ، فإنه يقضي وجود اتفاق مسبق بين الشركاء، وعزمهم على ارتكاب جريمتهم مجتمعين مستهدفين غرضًا واحد. لذا فإن كلا من المتماثلين يعتبر فاعلًا أصليًا، ويسأل عن الجريمة كاملة، وإن كان الإمام أبو حنيفة لا يفرق بين التوافق والتمالؤ، فحكمها واحد عنده، ويسأل كل فاعل في الحالتين عما جناه فقط2. أركان المساهمة الجنائية: تقوم المساهمة الجنائية على ركنين أساسيين وضحًا مما سبق وهما: الركن الأول: تعدد الجناة، فلو لم يتعدد الجناة لم تكن هناك مساهمة جنائية، وإنما جناية ارتكبها شخص واحد. الركن الثاني: وحدة الجريمة، ويراد بها أن تؤدي أفعال عدد من

_ 1 شرح قانون العقوبات لكل من د. محمود مصطفى ص325، 334 د. محمود نجيب حسني ص398، د. أحمد الألفي ص304، 306 د. سمير الجنزوري ص353، د. رمسيس بهنام ص391. 2 الإقناع لشرف الدين موسى الحجاوي ج7 ص261 ص263 ط الحلبي الشرح الكبير للدردير ج4 ص217، 218 ط الأميرية تبيين الحقائق ج6 ص114 ط الأميرية، البحر الرائق ج8 ص310 ط أولى.

الأشخاص إلى أحداث جريمة واحدة، نشأت بسبب أفعالهم مجتمعة، في وحدتها المادية والمعنوية. ويراد بالوحدة المادية: أن تكون نتيجة أفعالهم جميعًا واحدة مترتبة على ما قاموا به، متصلة بكل فعل من أفعالهم اتصال المسبب بالسبب. وليس معنى ذلك إنه إذا تخلف فعل واحد من هذه الأفعال تخلفت النتيجة تمامًا وإنما اختلفت النتيجة، سواء انعدمت، أو اتخذت شكلًا آخر. ويراد بالوحدة المعنوية أن يكون هناك قصد، وإرادة ترتبط بينهم تستهدف تحقيق النتيجة، ويتجسد بذلك القصد وحده الركن المعنوي للجريمة1. المساهمة الجنائية، والجرائم المحددة العقوبة: تنقسم الجرائم المحددة العقوبة في الفقه الإسلامي، من حيث قبولها للمساهمة الجنائية، وإمكان وقوعها بالمشاركة من عدمه إلى ما يأتي: أولًا: جرائم لا تقع بالمساهمة والاشتراك، ويندر وقوعها من فرد واحد، وهي جرائم الحرابة، إذ إنها عمل يستلزم اشتراك عدد من الأفراد، واتفاقهم على العدوان، وتعاونهم على الإثم. فالاتفاق ركن من أركان هذه الجريمة، ولا يتصور إلا بين عدد من الأفراد.

_ 1 شرح قانون العقوبات د. محمود نجيب حسني ص400.

ثانيًا: جرائم شخصية لا يتصور وقوعها بالاشتراك، أو إمكان وجود المساهمة الجنائية في قيام ركنها المادي، إذ هي جرائم فردية بحته. وذلك مثل جرائم القذف وشرب الخمر، والزنا؛ لأن من يقارف هذه الجرائم، ويدلي بدلوه فيها لا يعد شريكًا، وإنما هو فاعل أصلي. وإذا أمكن تصور قيام جماعة بجريمة من هذه الجرائم، فإن كلا منهم يعاقب على أساس أنه فاعل أصلي، ارتكب جريمة بمفرده. ثالثًا: جرائم يمكن أن تتأنى من فرد أو من جماعة، أي أن إمكان قيام المساهمة الجنائية فيها متوافر، حتى في إيجاد الركن المادي لكل جريمة من هذه الجرائم، وذلك كما في جرائم السرقة، فإنه يمكن أن يساهم في قيامها أكثر من فرد. كما يمكن أن يقوم بها فرد واحد، وإن كان جمهور الفقهاء قد اشترطوا لمعاقبة المساهمين في قيامها أن يكون كل منهم قد سرق نصابًا، أو سيناله ما قيمته ذلك من المسروق1، ومثل ذلك أيضًا جرائم القصاص، فإنه يمكن أن يقوم بها فرد واحد يمكن أن يقوم بها عدة أفراد، وإن كان الإمام أبو حنيفة لم يعتبر الاشتراك في هذه الجريمة موجبًا للعقوبة الأصلية لها، إلا في حالة ما إذا قتل جماعة فردًا واحدًا، وإن كان ذلك عنده على خلاف القياس2. أنواع المساهمة الجنائية: المساهمة الجنائية باقتضائها قيام عدد من الأشخاص مشتركين بأحداث جناية واحدة، تكون قد شملت نوعين من المساهمة.

_ 1 حاشية الدسوقي ج4 ص235 الخرشي ج81 ص95 الموطأ بشرح الرفاني ج5 ص115، المغني ج8 ص282 مباني المنهاج ج1 ص289 المبسوط ح9 ص147. 2 البحر الرائق ح8 ص354.

لأن المساهمة قد تكون نتيجة لارتكاب بعض الأعمال المكونة للركن المادي للجريمة، وهذه هي السياسة الأصلية. وقد تكون المساهمة نتيجة للقيام بعمل غير رئيسي في تنفيذ الجريمة بعيدًا عن الأعمال المكونة للركن المادي لها، وهذه هن المساهمة التبعية. وأساس هذه التفرقة: أن الأول يباشر تنفيذ الركن المادي للجريمة، فهو إذا شريك في المباشرة. أما الثاني: فإنه يتسبب في الجريمة، باتفاقه أو تحريضه أو بذله العون، ولكنه لا يباشر تنفيذ ركن الجريمة المادي، فهو إذا شريك بالتسبب1. المساهمة الأصلية: وهي الحالة التي يكفي لوجودها أن يقوم الفاعل باتيان عمل هو في حد ذاته كاف لاعتباره بادئًا في تنفيذ الجريمة، حتى ولو كان هذا العمل خارجًا عن الركن المادي لها. وذلك كمن يوقف عربة بها شخص يقصد قتله، ثم يقوم زميل من أوقف العربة بقتل الشخص الذي بداخلها. وكمن يكسر بابا ليمكن آخر من الدخول للسرقة، وتتم السرقة. فموقف العربة، وكاسر الباب في هاتين الحالتين قد ساهما مساهمة أصلية في قيام الجريمة، وإن كان فعل كل منهما قد خرج عن حيز الركن المادي للجريمة نظرًا؛ لأن كلا منهما قد توافرت لديه نية من نوع

_ 1 شرح الزرقاني على مختصر خليل ج8 ص10 ط مطبعة محمد مصطفى.

خاص -ولذا اعتبر فاعلين أصليين، ولم يعتبرا شريكين1. وما ذهب إليه فقهاء القانون، يوافق ما ذهب إليه الفقه المالكي الذي يسوي بين المباشرة للقتل والإعانة عليه، وحضوره فالمباشرة عند فقهاء الماليكة تصدق على الفاعل، والمعين على الفعل والحاضر وقت وقوع الجريمة، إذا قبل قيامها، واشترط لاعتبار من أعان، أو من حضر مساويين للمباشرة أن يكونوا بحيث لو استعان بهم أعانوه، أو إذا لم يقم المباشر بالقتل قام به الباقون2. وقد خالف هذا جمهور الفقهاء من الأحناف، والشافعية والحنابلة والظاهرية، وقالوا: إن القصاص على من قام بالقتل فقط، وليس على من شارك بعمل يخرج عن حيز الركن المادي قصاص، حتى وإن توافرت لديه نية القتل3. جاء في كتاب الأم: ما ذكر عن أبي حنيفة -رضي الله عنه- في الرجل يمسك للرجل، فيضربه بسلاح فيموت مكانه، إنه لا قود على الممسك والقود على القاتل، ولكن الممسك يوجع عقوبة، ويستودع في السجن. وقال أهل المدينة: إن أمسكه وهو يرى أن يرد قتله قتلا به جميعًا قال الشافعي -رحمه الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، وقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} ، فكان معروفًا عند من

_ 1 شرح قانون العقوبات لكل من أحمد نجيب حسني ص406 د. محمود مصطفى ص331، سنة 1977م الأسس العامة لقانون العقوبات د. سمير الجنزوري ص365 ط سنة 1977م. 2 مواهب الجليل ج6 ص242، الشرح الكبير ج4 ص218. 3 البحري الرائق ج8 ص354 برائع الصنائع ج4 ص180 المغني ج9 ص580-581 المحلي ج13 ص564.

خوطب بهذه الآية أن السلطان لولي المقتول على القتال نفسه، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من اعتبط مسلمًا بقتل فهو قويده، وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} . ولم أجد أحدًا من خلق الله تعالى يقتدي به حد أحدًا قط على فعل غير فعل نفسه.. فلو أن رجلًا حبس رجلًا لرجل، فقتله قتل به القاتل وعوقب الحابس، ولا جوز في حكم الله تعالى إذا قتلت القاتبل بالقتل أن أقتل الحابس بالحبس، والحبس غير القتل وروى علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال في رجل قتل رجلًا متعمدًا، وأمسكه آخر. يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت1. وما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع لتوافقه مع ما تقضي به الأدلة، ويراه العقل. المساهمة التبعية: وهي الحالة التي يقوم فيها الجاني بعمل ثانوي بحيث لا يعد نشاطه جزءا رئيسيًا في قيام الركن المادي، وإنما هو من عمل تحضيري لا يكفي أن يعتبر فاعله شارعًا في الجريمة بافتراض عدم تمامها. ولقد حدد القانون ما يمكن أن تتم به المساهمة التبعية، وجعلها التحريض والاتفاق، والمساعدة التي لا ترقى إلى تتميم الجريمة أو تسهيلها، ولا تكون معاصرة لتنفيذ الجريمة، وتسمى الأعمال التحضيرية للجريمة. وهي في الأصل أعمال مشروعية في نظر القانون، أي ليس معاقبًا عليها ابتداء، والذي جعلها تدخل في حيز الأعمال غير المشروعة، علاقتها بالأفعال التنفيذية للجريمة.

_ 1 الأم: للإمام الشافعي ج7 ص300-301.

والمساهمة التبعية في الجريمة يقرر القانون لها عقوبة الجريمة المساهم فيها، شأنها في ذلك شأن المساهمة الأصلية، إذ يحكمها نص واحد من حيث تطبيق العقوبة عليهما، إلا في بعض حالات مستثناه جعل المشرع فيها للمساهمة التبعية عقوبة أقل من عقوبة الجريمة المساهم فيها1. كما أن هناك حالات يغلظ المشرع فيها العقوبة على المساهمة أكثر من العقوبة على الجريمة نفسها2. أما عند فقهاء الشريعة الإسلامية، فالأمر مختلف عما ذهب إليه فقهاء القانون. إذ إن الإمام أبا حنيفة لا يسوى بين عقوبة الفاعل الأصلي والشريك، إلا إذا كان الشريك قد أكره الفاعل الأصلي، أو أمره أن يقتل، أمرًا بلغ درجة الإكراه3. أما الأئمة مالك، والشافعي وأحمد، فإنهم لا يسوون بين الفاعل الأصلي والشريك، إلا إذا كان الفاعل الأصلي غير مميز، وكان كالآلة في يد الشريك يحركها كيفما يشاء. وإن كان الإمام ملك يرى معاقبة الشريك بعقوبة الفاعل الأصلى

_ 1 المادة 235 من قانون العقوبات تقرر أن للشريك في القتل العمد المعاقب عليه بالإعدام، عقوبة الإعدام، أو الأشغال الشاقة المؤبدة. 2 المواد 138، 140، 142 من قانون العقوبات تقرر لمن يساعد مقبوضًا عليه على الهرب عقوبة أشد من العقوبة التي يقررها لقانون الجريمة الهارب نفسه، وتزاد العقوبة شدة إذا كان من يساعد على الهرب هو المكلف بالحراسة شرح قانون العقوبات د. محمود نجيب حسنى ص411. 3 بدائع الصنائع للكاساني ج4 ص180 ط أولى مطبعة الجمالية.

إذا كان حاضرًا وقوع الجريمة، وفي وضع من ينفذها ما لم ينفذها الفاعل الأصلي1. ويبين مما سبق أن الفقه الوضعي يعاقب من ساهم في جناية، إما بعقوبة الفاعل الأصلي، أو بعقوبة أشد منها، أو بعقوبة أقل، ومعاقبة الشريك بعقوبة مساوية لعقوبة الفاعل الأصلي، أو أقل منها لا تخرج عما رآه فقهاء الشريعة من حيث مقدار العقوبة مع اختلاف في التفصيل بالنسبة للشريك، أما معاقبة الشريك بعقوبة أشد من عقوبة الفاعل الأصلي، فهي التي تحتاج إلى وقفة، إذ هي حالة غير واردة بالنسبة لجرائم القتل. ومما هو معلوم أن كل عقوبات الفقه الوضعي -غير عقوبة الإعدام- عقوبات تعزيرية، يد المشرع في اختيارها حرة، كما أن للقاضي حرية اختيار أحد حدي العقوبة المقررة للجريمة أو ما بينهما، طبقًا لما يراه مناسبا للحالة التي يحكم فيها. والقاضي حين يحكم على من قام بالمساهمة بعقوبة أشد بما حكم بها على الفاعل الأصلي، فإنه يراعى ما وقع فيه المساهم من خروج عما يمليه عليه واجب العمل المكلف به بالإضافة إلى المُساهمة في الجريمة التي ارتكبها الفاعل الأصلي. أما بالنسبة لما ذهب إليه فقهاء الشريعة الإسلامية من تسوية بين عقوبة من أسهم في قتل إنسان، وبين عقوبة الفاعل الأصلي، أو عدم التسوية بين عقوبة كل منهما، فإن المقياس الذي أراه مناسبًا لاعتبار كل منهما فاعلًا أصليًا يجب معاقبته بعقوبة مساوية لعقوبة من

_ 1 النرديري: الشرح الكبير ج4 ص216، 218. الشيرازي: المهذب ج2 ص189 ابن قدامه المغني ج9 ص131.

قام بتنفيذ الجريمة، هو وجود رابطة السببية بين فعل كل من الفاعل الأصلي والمساهم، وبين النتيجة التي تحققت ثمرة لما قاما به. فإذا وجدت رابطة السببية بين الفعل الذي قام به الفاعل الأصلي، والفعل الذي قام به المساهم، وبين النتيجة التي تحققت، فإن كلا من الفاعل الأصلي والمُساهم تلزمه عقوبة الجريمة التي وقعت، أما إذا لم توجد رابطة السببية هذه بين فعل المُساهم وبين النتيجة، فإن عقوبة الجريمة التي وقعت تلزم الفاعل الأصلي فقط. وإن جاز للقاضي أن يُعاقب المُساهم في هذه الحالة بعقوبة تعزيرية مُناسبة لما وقع منه من فعل.

المطلب الثالث: الركن الأدبي للجريمة

المطلب الثالث: الركن الأدبي للجريمة وهو ما يعنيه فقهاء القانون بالركن المعنوي. إذ إن الجريمة ليست كيانًا ماديًا فقط، ولكن هذا الكيان المادي لا بد وأن يُحاط برباط من الصلة النفسية التي تجمع بينه، وبين من يقوم بذلك الكيان المادي للسلوك الذي أسبغ عليه المشرع صفة التجريم، وعاقب على اقترافه، والقيام به كما أم من يقوم بذلك السلوك لا بد، وأن يكون من الأشخاص ذوي الصفة الأدبية، التي تجعلهم أهلًا للمساءلة، وتحمل التبعة، وانضوائهم تحت لواء من يسألون عما يقترفونه من الأعمال التي يحويها المُشرع. وقديمًا لم يكن ذلك واضحًا أمام واضعي القوانين، إذ كان يحاكم الحيوان، والجماد، والإنسان على السواء1. تغيرت المفاهيم، وأصبحت القواعد القانونية لا تلزم إلا بمساءلة الإنسان عما يأتيه من الأعمال. ذلك؛ لأن الإنسان وحده هو صاحب الإرادة التي يعتد بها لدى المُشرع، وهو الذي يوجه تلك الإرادة حسبما يشاء ورغب، وإن كان هناك من رأي أن بعض العوامل تؤثر على سلوكه إلى حد الوصول إلى حتمية السلوك.

_ 1 شرع قانون العقوبات د. محمود نجيب حسني ص531 ط سنة 1977م.

كما أن المسئولية الأدبية تمر بمراحل تحتم أن تكون العقوبة أحيانًا في شكل تدبير احترازي أو تعزيري، حسبما يتفق وحال من خالف أمر المشرع، وما يستلزم البحث بيانه هنا هو ما يقوم به الركن الأدبي لدى الجاني، ويصبح به أهلًا للمساءلة الجنائية، وذلك محدد في عنصرين أساسيين: أولهما: الإدراك: إذ لا بد من أن يكون من يقوم بالسلوك مدركًا إدراكًا يعتد به حتى يمكن معاقبته على سلوكه. فإذا فقد هذا العنصر من قام بالسلوك، انعدمت مساءلته جنائيًا عما قام به استنادًا لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يبرأ" 1. ثانيهما: الاختيار: أي أن يكون من قام بالسلوك المُعاقب عليه، قد قام بسلوكه مختارًا بناء على رغبة منه واختيار حر. فإذا اختلت إرادة من يقوم بالسلوك: فإن تلك الإرادة تصبح إرادة معينة، وعليه تنعدم مساءلة صاحب هذه الإرادة المعينة2. لأن الأصل أنه لا يساءل جنائيًا إلا من أتي متعمدًا فعلًا قد حرمه الشارع لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ

_ 1 نيل الأوطار ج6 ص160، سنن أبي داود ج2 ص452 ط مصطفى الحلبي. 2 أصول الفقه للشيخ الخضري ص109 ط ثانية، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص251 ط دار الكتب.

مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} 1. هذا هو الأصل، وإن كانت الشريعة قد عاقبت على الخطأ في بعض الجرائم استثناء من هذا الأصل، كما هو الحال في عقابها على جرائم القتل الخطأ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 2. هذه بعض الجوانب المتعلقة بالجريمة فيما يتصل بموضوع البحث، حاولت فيها إلقاء الضوء على ما لفقهاء الشريعة الإسلامية من وجهات نظر في كل ما عرضت من موضوعات، مقارنا ذلك بما ذهب إليه فقهاء القانون الوضعي. وقد ظهر واضحا في كل ذلك مدى سمو نظرة الشريعة الإسلامية، وأصالتها وشمولها، سمو من شرعها على غيره ممن خلق، وصدق الله العظيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} .

_ 1 الآية: 5 من سورة الأحزاب، والتي يتضح منها أنه لا يعاقب على الجرائم العمدية إلا من قام بها متعمدا إتيانها أما من وقعت منه هذه الجرائم العمدية بطريق الخطأ، فإنه لا يعاقب عليها بعقوبتها الموضوعة لمن أتاها عمدا. كما أن من وقعت منه الجريمة العمدية، وهو مكره على إثباتها إكراها يعتد به فإنه أيضا لا يلزم بعقوبتها، كما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وما روي من أن رقيقا وقع على وليدة، فاستكرهها حتى اقتضها، فجلده عمر ونفاه ولم يجلد الوليدة؛ لأنها استكرهت"، سنن ابن ماجه ج1 ص659 ط الحلبي، صحيح البخاري ج9 ص27 ط دار الشعب. 2 من الآية 92 من سورة النساء.

الفصل الثاني: العقوبة وبعض الجوانب المتعلقة بها

الفصل الثاني: العقوبة وبعض الجوانب المتعلقة بها المبحث الأول: العقوبة وأقسامها المطلب الأول: معنى العقوبة ... الفصل الثاني: العقوبة وبعض الجوانب المتعلقة المبحث الأول: العقوبة معناها وأقسامها ويشتمل على مطلبين. المطلب الأول: معنى العقوبة. المطلب الثاني: أقسام العقوبة. المطلب الأول: معنى العقوبة جاء في كتب اللغة: عاقبته عقابا، ومعاقبة بذنبه وعلى ذنبه: أخذه به واقتص منه والاسم العقوبة. والعرب تقول: أعقبت الرجل: أي جازيته بخير وعاقبته: أي جازيته بشر. فالعاقبة الجزاء بالخير والعقاب الجزاء بالشر1. وعرفها الفقهاء بأنها جزاء وضعه الشارع للردع عن ارتكاب ما نهى عنه، وترك ما أمر به2. وذكر الفقهاء الأحناف أن الحد هو العقوبة المقدرة شرعا، وقال المرغيناني: الحد هو العقوبة المقدرة لله تعالى، وعلى هذا فلا يسمى القصاص حدا؛ لأنه حق العبد. ولا التعزير لعدم التقدير على ما عليه عامة شيوخ الأحناف، أما على

_ 1 المنجد: مادة عقب ط بيروت سنة 1937م. 2 أستاذي الدكتور سلام مدكور المدخل للفقه الإسلامي ص31، وقد عرف المارودي الجريمة بأنها محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير، فالعقوبة عنده هي هذه الزواجر التي وضعت لكل من ارتكب محظورا شرعيا، الأحكام السلطانية ص214ط المطبعة المحمودية.

التعريف الأول الذي يورد القيد المذكور من كونه حقا لله، فيسمى القصاص حدًّا1. وقد بين الشاطبي أن حق الله وحق العبد ثابتان في كل حكم، ورأي أن حق الله هو عبادته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وحق العبد ما فيه مصلحة للعباد إما عاجلا، وإما آجلا2. كما عرف القانونيون العقوبة بأنها الجزاء الذي يقرره القانون، ويوقعه القاضي، من أجل الجريمة، ويتناسب معها. أو بأنها جزاء يوقع باسم المجتمع تنفيذا لحكم قضائي على من تثبت مسئوليته على الجريمة، فالعقوبة جزاء ينطوي على ألم يحيق بالمجرم نظير مخالفته القانون3، وتعريفات فقهاء الشريعة تؤدي في مجموعها إلى أن العقوبة هي: الجزاء الذي يستحقه الجاني نظير ما وقع عنه منه من معصية لأمر الشارع، أو نهيه سواء أكان هذا الجزاء مقدار من قبل الله سبحانه

_ 1 فتح القدير ج5 ص212، وقد ذكر القرطبي عند بيانه معنى قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} "أن معنى ذلك من جازى الظلم بمثل ظلمه، فيسمى جزاء "العقوبة جزاء العقوبة عقوبة لاستواء الفعلين في الصورة، فهو مثل {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية 40 من سورة الشورى، ومثل {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} "من الآية 194 من سور البقرة" الجامع لأحكام القرآن ج5 ص4482. 2 يراجع المدخل للفقه الإسلامي ص424، وقد بين ابن تيمية، وأن العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الخلق، وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة بهم، الفتاوي ص171، وراجع المدخل للفقه الإسلامي ص731. 3 شرح قانون العقوبات د. محمود نجيب حسني ص721. شرح قانون العقوبات د. محمود مصطفى ص537.

وتعالى، حقًا لله أو للعبد، أو كان مقدرا من قبل ولي الأمر بما خول الله له من سلطة. ولا تختلف تعريفات القانونيين عن ذلك كثيرًا، سوى أن من العقوبة من وجهة نظر الشريعة، ما هو مقدر ومحدد، من قبل الله سبحانه وتعالى، فإذا ثبتت جنايته حكم القاضي بما حدده المشرع، من غير زيادة أو نقصان. ومن العقوبات ما هو متروك لولي الأمر يحدده، ويقدره بقدر الجريمة مع مراعاة الظروف التي أحاطت بها، متوخيًا تحقيق العدالة1، أما العقوبة من وجهة النظر القانونية، فإنها مقدرة كلها من لدن ولي الأمر غير أن لكل عقوبة حدا أعلى وحدا أدنى، وللقاضي سلطة اختيار العقوبة المناسبة من بين ما قدره ولي الأمر للواقعة مراعيًا الإطار الذي حدده القانون. وسيتضح ذلك كله بما له، وما عليه من خلال ما سيأتي من حديث عن أقسام العقوبة، وبيان كل قسم. وكذا فيما سيتبع ذلك من بيان الملامح البارزة، والهامة للنظام العقابي، كما وضعته الشريعة الإسلامية مستهدفة العدل، والإصلاح، والرحمة.

_ 1 المدخل للفقه الإسلامي د. سلام مدكور ص733. العقوبة للشيخ أبو زهرة ص66.

المطلب الثاني: أقسام العقوبة

المطلب الثاني: أقسام العقوبة تنقسم العقوبة باعتبارات مختلفة إلى أقسام عدة: فتنقسم أولًا باعتبار ذاتيتها إلى: 1- عقوبة أصلية. 2- عقوبة بديلة. 3- عقوبة تبعية. 4- عقوبة تكميلية. 1- العقوبة الأصلية: هي العقوبة التي حددها المشرع الحكيم، ونص على لزومها لكل من أتى جريمة معينة. ومن ذلك العقوبات الحدية التي نص الشارع على وجوبها على من ارتكب من الجنايات الحدية، كالسرقة أو الزنا أو شرب الخمر، عند من رأى ذلك. ومثل عقوبة القصاص التي تلزم كل من ارتكب جناية من الجنايات التي توجبها، وكذا الدية والكفارة. وكالعقوبات التعزيرية التي نص المشرع عليها، ولم تصل مقدار العقوبة للحدية. 2- العقوبة البدلية: هي العقوبات التي يلزم بها الجاني لسبب من الأسباب، التي يراها المشرع مانعة من إلزام الجاني العقوبة الأصلية المقررة للجنايات التي ارتكبها. وذلك كما إذا اندرأ الحد عن الجاني لقيام شبهة من الشبهات المانعة من إلزام الجاني العقوبة الحدية لكن الجناية لا تزال قائمة، ففي مثل ذلك يلزم الجاني بعقوبة من العقوبات البدلية على سبيل التعزير كإلزامه

الدية مثلا بدلا من القصاص الذي اندرأ عنه لسبب من الأسباب التي يقرها الشرع. والعقوبات البدلية هذه ما هي في حقيقتها، إلا عقوبات أصلية غير أنها أخف من غيرها. ولذا فإن القاضي لما لم يلزم الجاني بالعقوبة الأشد لسبب شرعي ألزمه بعقوبة أصلية أخرى، ولكنها هنا بدلًا من العقوبة الأشد. 3- العقوبة التبعية: هي العقوبة التي تلزم الجاني بناء على ما ارتكب من جناية استحق بارتكابها عقوبة من العقوبات الأصلية، التي يترتب على الحكم بها عليه، إلزامه بعقوبة أخرى لم ينص عليها القاضي في حكمه، ولكنها مترتبة على ارتكاب الجريمة، والحكم عليه بعقوبتها، ومثل ذلك: حرمان القاتل من أن يرث المقتول، فإن الحرمان هنا عقوبة تبعية تلزم الجاني بمجرد حكم القاضي عليه بأنه هو الذي -أي الجاني- ارتكب جناية قتل مورثه. 4- العقوبة التكميلية: هي العقوبة التي تلحق الجاني نتيجة الحكم عليه بعقوبة أصلية بشرط أن ينص القاضي في حكمه على إلزام الجاني العقوبة التكميلية، ومثل ذلك: عقوبات النفي أو التغريب، التي ينص القاضي في حكمه على إلزام الجاني بجانب عقوبته الأصلية، عقوبة التغريب هذه. والعقوبة التكميلية توافق العقوبة التبعية في أن كلًا منهما تأتي مترتبة على الحكم بعقوبة أصلية.

ويختلفان في أن العقوبة التكميلية لا بد وأن يحكم بها القاضي على الجاني، مع حكمه عليه بالعقوبة الأصلية. أما العقوبة التبعية، فإنها لا يشترط فيها ذلك، إذ أنها تلزم الجاني بمجرد إلزامه بعقوبة أصلية من العقوبات التي يتبعها غيرها. هذه هي أقسام العقوبة باعتبار ذاتيتها. ولما كان هذا البحث خاصًا بالشبهات التي تعترى العقوبات الحدية، التي هي أحد أنواع العقوبات الأصلية. لذا فسأقصر التفصيل على بيان هذه العقوبات الحدية التي هي مقررة، ومحددة من لدن المشرع الحكيم. بادئا ببيان الحكمة من تقسيم العقوبات إلى عقوبات حدية، وعقوبات تعزيرية. معرفًا العقوبة الحدية، ذاكرًا العقوبات التي حددها المشرع الحكيم، ونص على بيانها. أولًا: الحكمة من تقسيم العقوبات إلى حدية، وتعزيرية قد يسأل سائل لماذا حدد المشرع بعض العقوبات، ونص على ذلك وبينه، وترك البعض الآخر ولم يحدده؟ أو يقول قائل: لماذا لم يترك المشرع لولي الأمر شأن تحديد العقوبات كلها، وتقديرها حسبما يرى ولي الأمر ويقدر؟ والإجابة عن مثل هذا سهلة ميسورة لمن تدبر حكمة المشرع ورعاها.

أما بالنسبة للسؤال الأول: فإن المتدبر أن المشرع الحكيم العليم الخبير بالنفوس والعقول، في كل أطوارها وأزمانها، يعلم أن الناس سيعتريها، من الأحداث والأحوال، وأمور دينها ومعيشتها ما ينشأ عنه استحداث أمور لم تكن من قبل موجودة؛ لأن الأحداث، والأشياء لا تنتهي عند حد أو زمن. لذا ورعاية من المشرع الحكيم لخلقه، لم ينص على كل العقوبات على سبيل الحصر والتحديد، والتقدير. وإنما ترك لولي الأمر أن يضع من العقوبات، ويستحدث ما يناسب الجرائم المختلفة التي تستحدث، وتنشأ تبعًا لتطور الأحداث، واختلاف الظروف والأحوال. واقتصر سبحانه وتعالى على تحديد بعض العقوبات، وتقديرها بالنسبة لجرائم معينة ناط بها هذه العقوبات المقدرة من لدنه، حفظًا للأمور الضرورية للإنسانية جمعاء، والتي لا تختلف بالنسبة لأنفس دون آخرين، ولا لزمن دون زمن. أما بالنسبة للسؤال الثاني: فإن من تبصر يجد أن الشريعة الإسلامية هدفها خلق المجتمع الفاضل، الذي يأمن الناس فيه على أنفسهم، وأعراضهم، ودينهم ودنياهم، وكل ما لا تتحقق إنسانيتهم إلا به من ضروريات لذا رأى المشرع هذه الضروريات، وحدد عقوبة من يعتدي عليها، لا فرق بين رئيس ومرءوس أو غني وفقير، وإنما الجميع سواء. أما عدا ذلك، فلولي الأمر أن يضع من التشريعات ما يحميه، ويحفظه ملتزمًا في ذلك الحق، والعدل بالصورة التي يرضى عنها الله ورسوله.

ثانيًا: العقوبة الحدية الحد في اللغة المنع.. لذا سمي البواب حدادا، لمنعه الناس من الدخول، وسمي السجان حدادا لمنعه من في السجن من الخروج. ويطلق للحد على الفصل بين الشيئين؛ لئلا يختلط أحدهما بالآخر، وجمعه حدود وحد كل شيء منتهاه؛ لأنه يرده ويمنعه عن التمادي، وحدود الديار نهايتها لمنعها ملك الغير عن الدخول فيها، أو خروج بعضها إليه. ويسمى اللفظ المانع حدا؛ لأنه يجمع معنى الشيء، ويمنع دخول غيره فيه، وسميت العقوبات حدودا؛ لأنها موانع من ارتكاب أسبابها معادوة، وحدود الله محارمه؛ لأنها ممنوع عنها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} ، وهي أيضا أحكامه؛ لأنها تمنع من التخطي إلى ما وراءها ومنه {حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 1، أما عند الفقهاء فالحد يطلق على العقوبة شرعًا، ومنهم زاد على ذلك قيدًا آخر بقوله "حقًا لله تعالى"2. فمن رأي أن الحد هو العقوبة المقدرة شرعًا، جعل المعيار عنده للتسمية تقدير الشارع للعقوبة، سواء أكان الحق المعتدى عليه لله سبحانه وتعالى، كما في جنايات الزنا والسرقة مثلًا. أم كان الحق المعتدى عليه حقًا للعبد كما في الجنايات المعاقب عليها قصاصًا، وكون العقوبة الحدية مقدرة من لدن الشارع الحكيم، ويترتب

_ 1 لسان العرب. 2 البحر الرائق ج5، ص2، شرح التحرير ج2، ص42ط الحلبي كشاف القناع للبهوتي ج6، ص77، المبسوط ج9، ص36، شرح الزرقاني ج4، ص2.

عليه مغايرتها للعقوبات التعزيرية؛ لأن تقدير هذه العقوبات مرده لولي الأمر، وقد يشاره في ذلك القاضي الذي يحكم الواقعة من هنا، فإن من يرى أن الحدود هي العقوبة المقدرة شرعًا، جعلها تشمل القصاص وحد القذف، وحد الردة، وحد الزنا، وحد السرقة، وحد الشرب على الرأي القائل بأنه من العقوبات الحدية. أما حد قطع الطريق، فمن الفقهاء من عهده حدا متميزا، ومنهم من اكتفى بذكر حد السرقة، وجعل نوعين سرقة صغرى وسرقة كبرى، وأطلق السرقة الكبرى على قطع الطريق، لما فيه من الإرهاب وإخافة السالكين، وما إلى ذلك1. ومن زاد على تعريف الحد السابق "حقا لله"، فإنه قصر العقوبات الحدية على العقوبات التي ليس للعبد حق فيها يخول له إسقاطها، أو إبدالها بغيرها. والعقوبات الحدية عند أصحاب هذا الاتجاه هي: حد الزنا، وحد السرقة، وحد الشرب عند عده عقوبة مقدرة، "وحد القذف"؛ لأنه متى ثبت لم يعد للمجني عليه حق إسقاطه، وحد السكر عند من يشترط للعقوبة على شرب أنواع معينة من الشراب أن تصل بمن شربها إلى السكر. كما أن من أصحاب هذا الاتجاه من ذكر قطع الطريق، ومنهم من لم يذكره باعتبار أنه داخل في حد السرقة الذي يشمل السرقة الصغرى، والسرقة الكبرى. كما أن هؤلاء أيضًا من لم يذكر حد الردة، بناء على أن المرتد

_ 1 تحفة المُحتاج لأحمد بن حجر ج9، ص101 ط مصطفى محمد.

عندما يعامل معاملة الكافر الحربي من حيث إهدار الدم، وكما أنه لا يسمى قتل الكافر الحربي حدًا. كما أن من قيد الحد يذكر قيد "حق الله"، جعل منه حد البغي الذي هو عقوبة مقدرة حقًا لله تلزم كل من خرج على الإمام، بشروطها كما أخرج عقوبة القصاص من الحدود؛ لأنها وإن كانت عقوبة مقدرة شرعًا، إلا أنها حق للعبد يمكنه التنازل عنه وإسقاطه، حتى بعد الحكم بها على الجاني1. وما كان كذلك من العقوبات، فإنه يكون قد خرج عن النطاق الذي رسمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعقوبات الحدية، إذ العقوبات الحدية لا يجوز إسقاطها، أو الشفاعة فيها، إذا وجبت وألزم الجاني بها. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أنكر شفاعة من جاء يشفع في حد من حدود الله تعالى، وقال: -صلى الله عليه وسلم: "فما بلغني من حد، فقد وجب" 2. لهذا كله، فسأقصر حديثي على العقوبات الحدية التي تلزم الجاني، ولا تسقط عنه، طالما ارتكب حدها، وألزمه القاضي بها.

_ 1 كشاف القناع ج6، ص77 وما بعدها، بدائع الصنائع ج7، ص33، البحر الرائق ج5، ص27-31 المبسوط ج9، ص133. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص298-300. 2 شرح فتح الباري على صحيح البخاري ج12، ص78.

عقوبة جريمة الزنا: تختلف النظم التشريعية الوضعية في نظرتها إلى الزنا، فالتشريع الإنجليزي لا يعقاب على الزنا حتى وإن وقع من زوج أو زوجة، ووجهة النظر عندهم مبنية على أساس أنه لا فائدة من معاقبة من لا تردعه مبادئ الأخلاق، هذا فضلًا على أن إثارة الفضيحة قد ينجم عنها ضرر بالعائلة، أبلغ مما يترتب للمجتمع. الجزاء الطبيعي في نظر المشرع الإنجليزي هو الحكم بالطلاق، أو الفرقة1، أما باقي التشريعات الوضعية الأخرى، فإنها تتفق والتشريع الإنجليزي في عدم العقاب على الزنا إذا ما تم برضاء الرجل والمرأة، إذ أن ما تم بينهما في نظر هذه التشريعات علاقات شخصية بحتة لا يتدخل القانون فيها، طالما ليست هناك علاقة زوجية تربط أحدهما بشخص آخر. أما ما تعاقب عليه من زنا، فهو ما وقع من رجل، أو امرأة أثناء ارتباطهما بزواج صحيح من وجهة النظر القانونية. والعقاب هنا في حقيقته ليس عقابًا على الفعل، وإنما عقاب على الاعتداء على حرمة العلاقة الزوجية. كما أن هذه النظم ضيقت من داترة العقاب على ذلك، فاشترطت لتحريك الدعوى، أن يقوم به المجني عليه وحده.

_ 1 كما أوصى المؤتمر الدولي التاسع لقانون العقوبات المنعقد بلاهاي في أُغسطس سنة 1964م بعدم تحريم الزنا. شرح قانون العقوبات القسم الخاص أ. د. محمود مصطفى ص334ط سنة 1975م.

كما نص المُشرع المصري على أن هذه الجريمة لا تقوم بالنسبة للزوج، إلا إذ وقع منه الزنا في منزل الزوجية. وجعل للزوج الحق في إسقاط العقوبة عن زوجته إذا زنت حتى بعد الحكم النهائي عليها. ثم بعد ذلك كله جعل عقوبة الزوجة إذا زنت الحبس مدة لا تزيد على سنتين، وعقوبة الزوج إذا زنى الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر1. هذه هي نظرة التشريعات الوضعية لجريمة الزنا، والعقوبة عليها. أما الشريعة الإسلامية، فإنها قد وضعت من النظم ما يمكن معه للإنسان السوي أن يعف نفسه، ويحفظ عرضه من الدنس، ولم تبح العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة بأي صورة من الصور إلا في ظل العلاقة الشرعية، التي تكفلت الآيات القرآنية ببيانها: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 2، والعادون هؤلاء رصدت لهم الشريعة الإسلامية من العقاب ما يكفل إصلاحهم، وتخليص المجتمع من شرهم، والقضاء على هذه الجريمة، فهي قد أمرت برجمه إن كان محصنًا، وجلده إن كان غير محصن.

_ 1 شرح قانون العقوبات، لقسم الخاص أ. د. محمود نجيب حسني ص457، وما بعدها في أصول النظام الجنائي الإسلامي د/ محمد سليم الغواص 200، وما بعدها دار المعارف. 2 الآيات 5، 6، 7 من سورة المؤمنين 29، 30، 31 من سورة المعارج.

الرجم عقوبة الزاني المحصن: يطلق الرجم على الرمي بالحجارة، ويطلق على القتل، أي على النتيجة التي يؤدي إليها الرجم، ويطلق أيضًا على ما يرجم به، كما يطلق على العقوبة التي تجب على الزاني المحصن، ويلزم بها1. وهذا ما جاءت به السنة الشريفة، فقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". رواه الجماعة إلا البخاري والكسائي2. كما ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حكم في قضية العسيف بقوله: "الوليد والغنم رد، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" 3. هذا وغيره كثير مما رواه الصحابة الأجلاء من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن فعله، يدل على أن عقوبة الزاني المحصن هي الرجم. وقد ذكر فقهاء الحنابلة، فيما استدلوا به على وجوب رجم الزاني المحصن، ما روي عن ابن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: كان فيما

_ 1 معجم ألفاظ القرآن الكريم ط، ص471-479ط الهيئة المصرية للتأليف والنشر. 2 مشكاة المصابيح ج2، ص228، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ج2، ص186، النووي على مسلم ج11، ص207. 3 نيل الأوطار ج7، ص 97-106ط الحلبي تفسير القرطبي ج2، ص1652-1658ط، دار الشعب.

أنزل آية الرجم فقرأتها ووعيتها، وقرأ الآية: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم1. وعد الأصوليون ذلك مما نسخ لفظه، وبقي حكمه2.

_ 1 المغني ج3، ص200، ج8، ص157-158 مكتبة الجمهورية العربية نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص102 ط مصطفى الحلبي. فتح الباري شرح صحيح البخاري ج2 ص119. أصول الفقه الإسلامي أ. د/ سلام مدكور ص10ط دار النهضة العربية. 2 وجود مثل هذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه فرض مرفوض، القول به غير مقبول وغير معقول، وما ورد من ذلك منسوب إلي السيدة عائشة -رضي الله عنها، وإلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- يحتاج إلى تحقيق، فقد استبعده البعض، كما أن صحة السند لا تعني في كل الأحوال سلامة المتن. فقد نسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: ولولا أن يقال: زاد عمر في المصحف لكتبتها. وذلك يوهم أن لفظها لم ينسخ، مع أن من رواها يقول: أنها منسوخة اللفظ. ومما يطعن في أن يكون مثل ذلك فيما أنزل من القرآن، أن الآية كما يطلق عليها جاءت بعبارات مختلفة في كل رواية من الراويات المتعددة، التي تحدثت بها. فمن الروايات ما ذكرت قيد الزنا بعد ذكر الشيخ والشيخة، ومنها ما لم نذكره، ومنها ما ذكرت عبارة "نكالًا من الله"، وأخرى لم تذكرها، رواية تعلل الحكم، فتورد "بما قضيا من اللذة" إلى آخر ذلك من الائتلافات، وما هكذا تكون الآيات القرآنية، ولو نسخ لفظيًا، كم أنه يقال: كنت أقول كذا، لغير القرآن وعمر -رضي الله تعالى عنه- قال: ولولا أني أكره أن يقال: زاد عمر في القرآن لزدته، إذا فهذا ليس من القرآن. النسخ في القرآن الكريم أ. د/ مصطفى زيد ص283-285ط دار الفكر العربي.

وهو قول لا مبرر لوجوده ولا حكمه من ورائه، وقد ذكر ابن كثير أن هذا مما نسخ لفظه وحكمه1. وعلى هذا فعقوبة الرجم المحصن جاءت بها السنة الشريفة، لذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في المرأة التي جلدها ورجمها: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله، وهذا ما استقر عليه رأي الفقهاء عدا الأزارقة من الخوارج، الذين قالوا: إن ما جاء به القرآن الكريم من عقوبة الزاني هو الجلد بكرًا أم ثيبًا، لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 2. وهذا فقط هو الثابت عندهم بطريق القطع واليقين، أما الرجم واليقين للأخذ بما جاء عن طريق أخبار الآحاد. ولأن ذلك في رأيهم يفضي إلى نسخ الكتاب بالسنة، وهو غير جائز3.

_ 1 تفسير ابن كثير ج3، ص465، الحلبي سنة 1376هـ. 2 من الآية 2 من سورة النور. 3 خبر الآحاد قسم من أقسام السنة النبوية المُطهرة، روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رواية لم تبلغ حد التوتر أو الشهرة، وهذا القسم ينقسم من حيث قبوله إلى صحيح وحسن لذاته، وحسن لغيره، وضعيف. والثلاثة الأولي مقبولة ويعمل بها، أما الضعيف فغير مقبول إذا اعتضد شاهد، أو متابع. ويروي الجبائي، ومن وافقه أن العمل بخبر الواحد مستحيل، بما يستلزمه من احتمال إحلال الحرام، وتحريم الحلال، وهو باطل. وقد رد ذلك على الأستاذ الدكتور/ سلام مدكور بقوله: هذا احتمال يقابله احتمال آخر رجع ما دام الراوي عدلا، فإن احتمال الصدق في خبره أقوى، وأرجح والعمل به هو ما أجازه جمهور العلماء، مناهج الاجتهاد أ. د/ سلام مدكور ص45-49 ج1، ص1969 أصول الفقه الإسلامي أ. د/ سلام مدكور ص116-17ط سنة 1976. الأحكام للآمدي ج1، ص161ط دار المعارف سنة 1914م.

وما ذهبت إليه هذه الفرقة من الخوارج، دعوى واهية، فرجم الزاني المحصن قد ثبت وروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من طرق روايات كثيرة، كما أن القضايا التي تحكم فيها بالرجم من القضايا المشهورة، والتي ألزم فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- من زنى وهو محصن عقوبة الرجم، مسلمًا كان أم كتابيا1. كما أن القول برجم الزاني المحصن، لا يترتب عليه نسخ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} ، وإنما هو من باب التفصيل والبيان تخصيص الجلد بغير المحصن، وتخصيص القرآن بالسنة أمر جائز2، بل إن هناك من أجاز نسخ القرآن

_ 1 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص103-106ط، مصطفى الحلبي النسخ في القرآن أ. د/ مصطفى زيد، ص828: 836. 2 يقول أ. د/ سلام مدكور: يخصص القرآن بالسنة، ومن ذلك تخصيص حل البيع في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} ، بما ورد في السنة من النهي عن البيوع الفاسدة، وتخصيص عموم تحريم الربا =

بالسنة، وإن كان الإمام الشافعي، والإمام أحمد، ومن تابعهما لا يرون ذلك1. وقد قال ابن المنذر عارض بعضهم الشافعي، فقال: الجلد ثابت على البكر بكتاب الله، والرجم ثابت بسنة رسول الله، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه2. وتصبح عقوبة الزاني المحصن هي الجلد والرجم، وعلى الأخذ بهذا لا يبقى وجه للقول بالنسخ الذي اعترضه الأزارقة. كما أن عمر بن عبد العزيز -رضي الله وتعالى عنه- الذين يعدهم

_ = بما ورد في السنة من ترخيص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيع العرايا بخرصها، فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق، أصول الفقه الإسلامي ص121. ويذكر أ. د/ زكريا البري أن من السنة ما يخصص ما جاء به القرآن عامًا، وذلك كحديث: "نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"، فقد خصص هذا الحديث عموم قول الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْإِنْثَيَيْنِ ... } ، وجعله غير شامل للأنبياء. أصول الفقه الإسلامي ص742 دار النهضة العربية سنة 1979. 1 أصول الفقه الإسلامي أ. د/ محمد سلام مدكور ص109ط دار النهضة العربية سنة 1976م. النسخ في القرآن الكريم أ. د/ مصطفى زيد ص203-204، ص828-836 دار الفكر العربي. 2 نيل الأوطار للشوكاني ج7، ص103ط مصطفى الحلبي.

للجمهور من الخوارج كذلك -فبينوا أن عقوبة الرجم ثابتة بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم وصفوا الأزارقة الذين رأوا غير ذلك بالكفر، والخروج من الدين1، 2. وجمهور الفقهاء، وإن اتفقت كلمتهم على التفرقة بين عقوبة المحصن، وعقوبة غيره إذا زنا، إلا أنهم لم يتفقوا فيما قبل من جلد الزاني المحصن قبل رجمه. فقد ذهب الظاهرية، والشيعة الزيدية كما ورد في رواية عن فقهاء الحنابلة أيضًا، إلا أن المحصن إذا زنى يجب أن يجلد مائة جلدة قبل أن يقام عليه حد الرجم.

_ 1 جاء رسل الخوارج إلا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-، وكان في جملة ما عابوا عليه الرجم، وقالوا: ليس في كتاب الله إلا الجلد ... فقال لهم عمر: وأنتم لا تأخذون إلا بما في كتاب الله؟ قالوا: نعم. فأخبروني عن عدد الصلوات المفروضات، وعدد أركانها، وركعاتها، ومواقيتها أين تجدونه في كتاب الله تعالي؟ وأخبروني عما تجب الزكاة فيه، ومقاديرها ونصبها؟ فقالوا: لم نجده في القرآن. قال: فكيف ذهبتم إليه؟ قالوا: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله، وفعله المسلمون بعده، فقال لهم: فكذلك الرجم. المغني ج8، ص158ط مكتبة الجمهورية العربية. المحلى لابن حزم ج10، ص196ط مكتبة الجمهورية العربية. 2 المدونة في فقه الإباضية لأبي غانم، ورقة 261، والإنصاف في أصول الفقه الإباضي للوارجلاني مخطوط ورقة 73 من المجلد الثالث. عن أ. د/ محمد سليم العوا، في أصول النظام الجنائي الإسلامي ص202ط دار المعارف.

واستدلوا لذلك بما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنه قال: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 1. واستدلوا أيضًا بما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- من أنه حين رجم المرأة التي زنت وهي محصنة، ضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم2. وقد روي عن عمر وعثمان -رضي الله تعالى عنهما- رجمًا ولم يجلدا، وروي عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: إذا اجتمع حدان لله تعالي منهما القتل، أحاط القتل بذلك3.

_ 1 رواه الإمام أحمد في مسنده، وأخرجه مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت نيل الأوطار ج7، ص98، مشكاة المصابيح ج2، ص228، اللؤلؤ والمرجان، فيما اتفق عليه الشيخان ج2، ص186، أ. د/ محمد سليم العوا، في أصول التشريع الجنائي الإسلامي ص203. 2 وقد روي هذا الرأي أيضًا عن ابن عباس، وأبي بن كعب، وأبي ذر -رضي الله تعالى عنهم أجمعين، المغني ج8، ص160، نيل الأوطار ج7، ص97-103. 3 وهذا ما ذهب إليه النخعي، والزهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأبو ثور أصحاب الرأي، واستدل هؤلاء بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أنه رجم ماعز، ولم يجلده ورجم الغامدية، ولم يجلدها المغني ج8، ص160.

وقد حاول البعض التوفيق بين ما ذكر من أقوال، فذهب إلى القول بأن الجلد من استحق الرجم غير واجب لا غير جائز1. والذي أميل إليه، وأرجحه هو ما ذهب إليه الجمهور من عدم الجمع بين الرجم والجلد، وذلك؛ لأن الرجم هو العقوبة الأشد، وأنه محتم أن ينتهي بالموت فما فائدة الجلد حينئذ، إن كان للردع أو الزجر، فإن الرجم أشد ردعًا وزجرًا، وما دامت العقوبة قد فقدت ما وضعت له، وتحقق الهدف الذي يرجى من ورائها بعقوبة أشد منها، وضعها المشرع الحكيم، فلا داعي لها لاشتمال العقوبة الأشد عليها وزيادة. وما روي عن الإمام علي -رضي الله تعالى عنه- من الجمع بين الرجم، والجلد يمكن حمله على أن جلدها يوم الخميس؛ لأنه لم يكن يعلم إحصانها، أو لعدم ثبوت إحصانها، فلما علم ذلك، أو ثبت ندبه أقام عليها عقوبة المحصنة إذا زنت. الجلد والتغريب عقوبة غير المحصن: إذا ارتكب غير المحصن جناية الزنا، فإن عقوبة المتفق عليها عند الفقهاء هي ما جاءت بها الآية القرآنية: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} 2.

_ 1 نيل الأوطار ج7، ص102-203، شرح فتح القدير ج5، ص224. المحلى ج13، ص320، المهذب ج2، ص226. الخرشي ج8، ص81-82، حاشية الدسوقي ج4، ص320. مباني تكملة المنهاج لأبي قاسم الموسوي ج1، ص195-199، القرطبي ج2، ص1657. 2 من الآية 2 من سورة النور.

فهذه الآية القرآنية الكريمة قد حددت عقوبة الزاني غير المحصن، التي لم يختلف أحد من الفقهاء فيها. وقد ورد في الحديث الشريف: "البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام" 1، كما ورد أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حكم في قضية العسيف بالجلد مائة، وتغريب عام2. من هذا يبين أن الزاني غير المحصن يعاقب بعقوبة التغريب بالإضافة إلى عقوبة الجلد. والفقهاء لم تتفق كلمتهم، فيما قالوه بالنسبة لعقوبة التغريب إذ إن فقهاء المالكية والشافعية، والحنابلة قد قالوا بوجوب عقوبة التغريب بالإضافة إلى عقوبة الجلد بالنسبة للزاني غير المحصن، أخذا بما جاء في الأحاديث النبوية المشرفة، ووافقهم فقهاء الشيعة3، والمالكية وإن وافق قولهم ما قال به الشافعية والحنابلة، إلا أنهم يفرقون بين الذكر، والأنثى بالنسبة لوجوب عقوبة التغريب، فهم يوجبونها فقط على الزاني غير المحصن إذا كان ذكرًا، أما الأنثى إذا زنت وكانت غير محصنة، فإنهم لا يوجبون عليها التغريب بالإضافة

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي ج4، ص266. 2 العسيف هو الأجير -صحيح البخاري مع شرح فتح الباري ج13، ص114. 3 المهذب ج2، ص267، مغني المحتاج ج4، ص148-149. نيل الأوطار ج7، ص100، المغني ج8، ص168، مباني تكملة المنهاج ج1، ص199.

إلى العقوبة الأصلية، لما يخشى عليها في غربتها من التردي في مثل ما ارتكبت1. أما فقهاء الأحناف، فإنهم قد ذهبوا إلى أن التغريب غير واجب، وأن عقوبة الزاني غير المحصن هي الجلد فقط، ويمكن للإمام أن يحكم بتغريب الزاني غير المحصن إذا رأى في تغريبه مصلحة، بالقدر الذي يراه مناسبًا، على سبيل العقوبة التعزيرية2. هذا ما ذهب إليه الفقهاء بالنسبة لعقوبة التغريب. وما أميل إليه، وأرجحه هو ما قال به فقهاء الأحناف. غير أنني أرى أن يحبس الجاني بدلًا من التغريب، وعلى الأخص في مثل ما نحن فيه الآن؛ لأن التغريب لن يؤدي إلى الهدف المرجو منه، بل قد يكون باعثًا على الفساد للانحراف؛ لأن المغرب سيجد نفسه في مكان لا يعرفه أحد فيه، وقد يدعوه ذلك للتمادي في مسلكه الذي غرب بسببه، وحينئذ يصبح تغريبه مفسدة له، ووبالًا على المجتمع. كما أرى أن الحبس بدلًا من التغريب لا يقتصر على الذكور فقط، وإنما يطبق أيضًا على النساء غير المحصنات إذا ارتكبن جريمة الزنا. مع ملاحظة أن يكون حبسهن في أماكن خاصة بهن.

_ 1 الخرشي ج8، ص82-83ط، دار المعرفة ببيروت. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص321، 322. 2 شرح فتح القدير ج5، ص241-244ط، مصطفى الحلبي، المبسوط للسرخسي ج9، ص44-45. تفسير القرطبي ص1657، 1659ط، دار الشعب.

ويحبسهن يصبحن غير محتاجات لمحرم، الأمر الذي ذهب المالكية إلى إسقاط عقوبة التغريب عنهم بسببه. عقوبة السرقة: العقوبة الحدية التي تجب على السارق بعد ثبوت جريمة السرقة عليه مع توافر ما وضعه الفقهاء من شروط هي القطع. والأصل في ذلك ما حكم الله -سبحانه وتعالى- حيث قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. هذه عقوبة السرقة التي نص عليها القرآن الكريم. والحديث عن هذه العقوبة يقتضي ذكر بعض ما يتصل بها، خصوصًا من حيث وجوبها على من وقعت منه جريمة السرقة للمرة الأولى، ثم بيان ما يقطع إذا تكررت هذه الجريمة. 1- القطع في السرقة: أورد أبو بكر الرازي، وابن حزم ما رواه البعض مما يقضي بعدم قطع السارق على سرقته الأولي، وإنما القطع على السارق العائد، والقائلون بهذا قد استشفوا مقالتهم مما جاء به القرآن الكريم، حين عبر عمن تجب عليه عقوبة السرقة الحدية، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} ، يقول الشيخ أبو زهرة ناقلًا ما أورده أبو بكر الرازي: فجاء بعض الذين يبحثون، وقال: إن كلمة السارق وكلمة السارقة وصفان لا فعلان، والوصف لا يتحقق في الشخص إلا بالتكرار.

_ 1 الآية 38 من سورة المائدة.

فلا يقول لمن ظهر منه الجود مرة أنه جواد، ولا من وقع منه الكذب مرة أنه كذاب، ولا للفاسق الذي لا يقول الحق، أو المنافق الذي يخفي لمن يتكرر منه فعلها حتى تكون اسمًا له، وعنوانًا يعرف به. وقد عضد هؤلاء رأيهم بأن الله سبحانه وتعالى، قد ذكر عقب آية السرقة قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1، وذكر التوبة الظلم ممن سرق لا يكون له محل في الظاهر، إلا إذا كان العقاب أن وقع، لذا فإن بعض الباحثين يرى أن التوبة تمنع القطع إذا وقعت قبله. ويعقب الشيخ أبو زهرة على هذا بقوله: وظاهر الآية يقرب من تفكيرهم. والتوبة النصوح لا تكون في الغالب ممن يتكرر منه الفعل، بل إنها تكون لمن يرتكب الفعل بجهالة2. كما أورد ابن حزم ما استدل بمن يقول بعد القطع في السرقة الأولى من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أتى بعبد قد سرق، فقيل: يا رسول الله هذا عبد سرق، وأخذت معه سرقته، وقامت البينة عليه. فقال رجل: يا رسول الله هذا عبد بني فلان، أيتام، وليس لهم مال غيره فتركه، قال: ثم أتي به الثانية سارقًا، ثم الثالثة، ثم الرابعة

_ 1 الآية 39 من سورة المائدة. 2 أحكام القرآن لأبي بكر الرازي ج2 ص416ط استامبول العقوبة للشيخ أبو زهرة ص147.

كل ذلك يقول فيه كما قيل في الأول، ثم أتي به الخامسة، فقطع يده ثم أتي به السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم أتى به السادسة فقطع رجله، ثم السابعة فقطع يده، ثم الثامنة فقطع رجله. ويعلق راوي الحديث عليه بقوله: أربع بأربع، فأعفاه الله أربعا وعاقبه أربعًا1. كما يذكر الشيخ أبو زهرة مستدلًا لهذا الرأي ما روي من أن عمر -رضي الله تعالى عنه- لما أراد قطع يد شاب سرق، قالت له أم هذا الشاب: اعف عنه يا أمير المؤمنين، فإن هذه أول مرة فقال عمر لها: إن الله أرحم من أن يكشف ستر عبده لأول مرة. ثم يعقل الشيخ أبو زهرة على ذلك بقوله: ويظهر أن الإمام عمر رضي الله عنه يرى أن القبض على السارق متلبسا، أو وجود شهود يشهدون، يدل على التكرار. والشيخ أبو زهرة وإن ذكر الآثار الواردة لم يكن فيها ما يشير إلى وجوب التكرار لإقامة الحد. إلا أنه يظهر اتجاهه إلى وجاهة هذا الرأي القائل القطع في السرقة الأولى بقوله: ونذكر هنا كلمة نهمس بها، وهي أن الحدود

_ 1 أورد ابن حزم هذا الحديث برواية حمام عن ابن مفرج عن ابن الأعرابي عن الديري عمر عبد الرازق، عن ابن جريح عن عبد ربه بن أبي أمية، عن الحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وابن سابط الأحوال، وعلق عليه بقوله: هذا حديث مرسل ولا حجة في مرسل، المحلي ج13 ص391.

غير مطبقة، فلا يصح أن نخالف الإجماع، ونوهن أقوالل الفقهاء في أمر غير مطبق1. والقضية هنا ليست هي فيما حاول به الشيخ أبو زهرة ستر رأيه، ورآه من أن الحدود غير مطبقة. وإنما القضية هل حل تقطع يد السارق في السرقة الأولى أم لا؟ والذي عليه الجمهور هو القطع في السرقة الأولى، استنادًا لما ورد من نصوص فهم منها جمهور فقهاء المسلمين وجوب القطع بالسرقة الأولى، والذي أميل إليه هو أن الخلاف هنا خلاف اعتمد فيه القول على أدلة معقولة ومقبولة، ومثل هذا يعد ضمن ما أطلق عليه الفقهاء شبهة الجهة، التي يترتب عليها إسقاط الحد. وسأذكر بيان ذلك عند الحديث عن الشبهات في الباب الأول من هذا البحث. 2- آراء الفقهاء فيما يقطع إذا تكررت السرقة: ثم تتفق كلمة الفقهاء على ما يقطع في السرقة الثانية، وما بعدها، فمنهم من قال: لا يقطع شيء بعد قطع اليد اليمنى. ومنهم من قال: تقطع في السرقة الثانية الرجل اليسرى، ولا قطع بعد ذلك إذا سرق مرة ثالثة، فما فوق، وإنما يحبس حتى يتوب، ومن الفقهاء من قال: إن محل القطع هو اليدان فقط، ولا يقطع بعد ذلك. ومنهم من قال: تقطع يمناه ثم إن سرق تقطع رجله اليسرى، وفي الثالثة تقطع يده اليسرى، وفي الرابعة تقطع رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك عذر.

_ 1 العقوبة للشيخ أبو زهرة ص149.

ومن الفقهاء من يرى أن من يسرق بعد قطع يديه، ورجليه يجب قتله، وهذه هي مقالة كل ودليله. المقالة الأولى: ذهب عطاء فيما روى عنه إلى أن من يسرق بعد ذلك لم يقطع منه شيء؛ لأن الله تعالى قال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، ولو شاء أمر بالرجل، ولم يكن الله تعالى نسيًا1. المقالة الثانية: يرى ابن حزم ومن وافقه أن من قطعت يده في سرقة، ثم سرق ثانيًا قطعت يده الثانية، فالقطع لا يقع إلا على اليدين فقط، ولا تقطع الرجل، وهذا ما جاء به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . كما روي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- قولها: "لم تكن الأيدي على عهد رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- تقطع في الشيء التافه". كما روي في الأحاديث الشريفة: "لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها، لا تقطع اليد إلى في ربع دينار فصاعدًا، لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده".

_ 1 جاء في المحلى لابن حزم ج13 ص399. فأما من قال: لا تقطع إلا يده فقط -كما نا حمام بن مفرج نا ابن الأعرابي، نا الديري نا عبد الرازق، عن ابن جريح قلت لعطاء: سرق الأولى، قال: تقطع كفه ... قلت لعطاء: سرق الثانية قال: ما أرى أن يقطع إلا في السرقة الأولى اليد فقط.

فالسنة الصحيحة، والآثار الثابتة بالإضافة إلى الآية الكريمة، فقد جاءت كلها بقطع الأيدي، ولم يأت فيها للرجل ذكر، وقد قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 1. يقول ابن حزم: قد بينا أنه لم يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في قطع رجل السارق شيء أصلًا، ولو صح لقنا به وما تعديناه. ورد ابن حزم على ما روي عن أقوال تفيد غير ما ذهب إليه بأن هذه الأقوال ليست بإجماع؛ لأن الإجماع عنده هو ما تيقن أن الصحابة، والفقهاء أولهم وآخرهم قد قال به، وعلموه جميعًا دون سكوت أحد منهم، ولا خلاف من أحد منهم. أما غير ذلك فليس بإجماع عنده، وعلى هذا فهو يرى أن ما جاء به القرآن الكريم، والسنة النبوية هو قطع اليد، ولا تقطع رجل، وهذا ما لا إشكال فيه عنده2. المقالة الثالثة: ذهب فقهاء الأحناف إلى القول بأن من سرق تقطع يده اليمنى، فإن سرق بعد ذلك تقطع رجله اليسرى، فإن ثالثًا يقطع بل يعزر، ويخلد في السجن حتى يتوب أو يموت. واستدل أصحاب هذا الرأي بأدلة كثيرة منها ما روي عن على بن أبي طاب كرم الله وجهه أنه قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنته السجن حتى يحدث خبرا،

_ 1 من الآية 3 من سورة الأعراف، نيل الأوطار ج7 ص140-143. 2 المحلى لابن حزم ج13 ص398-404.

إني لأستحي من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها، ويستنجي بها، ورجل يمشي عليها. كما استدلوا أيضًا بما روي من أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- استشار أصحابه في سارق، فأجمعوا على مثل قول علي. وأصحاب هذا الرأي يرون أن في قطع أكثر من يده، ورجله إهلاكًا للمقطوع، والحدود زواجر لا مهلكات؛ ولأن من يسرق بعد قطع يده، ورجله نادر الوجود، والحد لا يشرع إلا فيما يغلب. خبر لحقه. ولا يتعرض على ذلك بالقصاص؛ لأنه حق العبد فيستوفيه ما أمكن، ويقول الكاساني: إن في قطع يده اليسرى تفويتا لجنس منفعة من منافع النفس أصلًا وهي منفعة البطش؛ لأنها تفوت بقطع اليد اليسرى بعد اليمنى، فتصبر النفس في حق هذه المنفعة هالكه، فكان قطع اليد اليسرى إهلاك النفس من وجه؛ لأن الثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه، وإهلاك النفس من كل وجه، لا يصلح حدًا في السرقة، وهكذا إهلاك النفس من وجه1. المقالة الرابعة: ذهب الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد ومن وافقهم أن السارق الذي قطعت يده اليمنى، ورجله اليسرى لو سرق بعد ذلك تقطع يده اليسرى. فإن سرق للمرة الرابعة تقطع رجله اليمنى.

_ 1 بهذا قال علي والحسن، والشعبي والنخعي والزهري، وحماد والثوري وأصحاب الرأي. فتح الباري ج15 ص106، شرح فتح القدير ج5 ص394. بدائع الصنائع ج7 ص86، المبسوط ج9 ص140، المغني ج8 ص260-265، المحلى ج13 ص399-400.

فقد روى الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه- بإسناده، عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله" 1. كما استبدل أصحاب هذا الرأي بما روي من أن رجلًا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل نزل على أبي بكر، فشكا إليه أن عامل اليمن قد ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر: ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم فقدوا عقدًا لأسماء بنت عيسى امرأة أبي بكر، فجعل الرجل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به، فاعترف الأقطع وشهد عليه، فأمر به أبو بكر، فقطعت يده اليسرى، وقال أبو بكر: لدعاؤه على نفسه أشد عليه من سرقته2. وقد قال أصحاب هذا الرأي أن الحكمة في قطع اليد والرجل، أن السارق يعتمد في سرقته على البطش والمشي، والقطع من خلاف يفوت جنس المنفعة على السارق، كما في قطع الطريق، فتضعف حركته. ولأن السرقة مرتين تعدل الحرابة، ولما كان المحارب تقطع أولًا يده اليمنى، ورجله اليسرى، فإن عاد إلى الحرابة تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى، فكذا في السرقة إن تعددت. كما أن أصحاب هذا الرأي يرون أن من قطعت أطرافه الأربعة، وسرق بعد قطعها، فإنه يعزر ولا يقتل.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص178، المغني ج8 ص265. 2 شرح الزرقاني ج5 ص113، شرح فتح القدير ج5 ص395.

وذلك؛ لأن القطع ثبت بالكتاب والسنة، ولم يثبت بعد ذلك شيء بالنسبة للسرق من قتل، أو غيره من العقوبات المحددة، لذا فإنه يعاقب بعقوبة تعزيرية منسبة لكونه أتى معصية من المعاصي1. المقالة الخامسة: وهي مقالة أبي مصعب الزهري المدني من أصحاب الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه-، وروى ابن القدامة أنها مقالة عن عثمان، وعمرو بن العاص، وعمر بن عبد العزيز، وهي تتفق مع ما ذهب إليه الإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل، والقول المشهور عند الإمام مالك من أن السرق إذا سرق بعد قطع يده اليمنى، تقطع رجله اليسرى، فإن سرق بعد ذلك تقطع يده اليسرى، ثم إن سرق للمرة الرابعة تقطع رجله اليمنى، فهي تتفق والمقالة الرابعة، غير أنها تزيد على المقالة الرابعة أن السارق إذا سرق بعد قطع يده ورجليه، وجب قتله وقد استدلوا لذلك بما رواه جابر -رضي الله تعالى عنه- من أنه جيء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بسارق، فقال: "اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: اقطعوه، قال: فقطع، ثم جيء الثانية، فقال: اقتلوه، قالو: يا رسول الله إنما سرق. قال: اقطعوه فقطع، ثم جيء به الثالثة، فقال: اقتلواه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، قال: اقطعوه. ثم أتي به الرابعة، فقال: اقتلواه فقالوا: يا رسول الله إنما سرق قال: اقطعوه ثم أتي به الخامسة، فقال: اقتلواه قال جابر: فانطلقنا، فقتلناه ثم اجتررناه، فألقيناه في بئر، ورمينا عليه الحجارة" 2.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص178، المهذب ج2 ص183، الخرشي ج8 ص93، حاشية الدسوقي ج4 ص332. 2 سنن أبي داود ج2 ص454 الخرشي ج8 ص93، فتح القدير ج5 ص395 المغني ج8 ص264.

هذا ما ذهب إليه الفقهاء في مقالاتهم عن عقوبة السرقة. وما أميل إليه، وأرجحه هو ما ذهب إليه الإمام علي -رضي الله تعالى عنه- من أنه لا يقطع إلا اليد اليمنى، فإن سرق ثانية قطعنا رجله اليسرى، فإن سرق بعد ذلك لا يقطع، وإنما يعزر ويسجن حتى يتوب، أو يموت وما ذكره الإمام علي من حجة أرى أنها حجة قوية، تتفق وما تهدف إليه الشريعة سواء من حيث العناية بالإنسان، أو من حيث معاقبته إذا سرق. ولا شك أن هذا الرأي يوائم بين الهدفين؛ لأنه يعاقب السارق بالعقوبة الرادعة الزاجرة، كما أنه يحميه من أن يصبح عالة عاجزًا عن العمل والتكسب. كما أن من لم يقلع عن هذه الفعلة القبيحة بعد قطع يده، ورجله لا علاج له إلا العزل عن المجتمع حماية له، وللمجتمع حتى يغير الله من أمره، ويقوم إعوجاجه، وما ذهب إليه من القول بقطع اليد، وعدم قطع شيء بعدها إذا سرق المقطوع مردود بما روى عن علي، وعمر وأصحابه -رضي الله عنهم أجمعين. أما ما استدل به من رأى قطع الأعضاء الأربعة، فإن سنده مطعون فيه، وعلى هذا لا يصح أن يطون دليل عقوبة حدية، كما أن ما رد به ابن حزم من اشتراط كون الإجماع هو ما صوبه الجميع، وعملوا به دون سكوت من أحد منهم، ولا خلاف، فهو رد غير مقبول؛ لأنه لا يخفى أن كثيرًا من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت لهم أعمال تشغلهم عن حضور مثل هذه الأمور، وما ذلك من ابن حزم إلا سعى للأخذ بما جاء به القرآن، ووافقته السنة، دون إضافة أو تفسير، كما هو اتجاه ابن حزم.

عقوبة الحرابة: بين الله سبحانه وتعالى عقوبة الحرابة1 في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2. وقد ذهب الفقهاء مذهبين، فيما للحاكم من حرية اختيار العقوبة هنا المذهب الأول، وبه قال الإمام أبو حنيفة، والشافعي، وأصحاب الإمام أحمد وغيرهم أن جرائم الحرابة لما كانت متعددة، فإن الله سبحانه وتعالى قد وضع لكل جريمة منها عقوبة من العقوبات، وعلى هذا فتكون الآية قد بينت نوعيات العقوبة. فكلمة "أو" التي وردت في الآيات الكريمة مقصود بها البيان، والتنويه المذهب الثاني، وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب، ومجاهد والحسن والضحاك وغيرهم: أن كلمة "أو" للتخيير، فالإمام مخير في إنزال ما يراه مناسبًا من العقوبات التي تحدثت عنها الآية بمن ارتكب جناية من جنايات الحرابة، على ما هو ظاهر النص مطلقًا. وإن كان الإمام مالك قد فصل الرأي في ذلك بأن المحارب الذي لم يصدر منه قتل يندب للإمام أن ينظر في حاله، فمن كان له تدبير في الحروب، وفي الخلاص منها تعين له القتل لا القطع من خلاف؛ لأنه لا يدفع ضرورة، وإن كان المحارب من أهل البطش، والشجاعة، فيتعين قطعه من خلاف فإن لم يكن عنده تدبير، ولا بطش بل اتصف بغيرهما، أو وقعت منه الخرابة فلتة مخالفة حاله، وموافقة لغيره تعين له الضرب منه الحرابة، فله مخالفة لظاهر حالة، وموافقة لغيره تعين له الضرب

_ 1 يأتي الحديث عن الحرابة في الباب الثاني. 2 الآية 33 من سورة المائدة.

والنفي أي يضربه وينفيه، ثم إن الإمام هو الذي يعين ما يفعل بالمحارب من العقوبات الأربع المذكورة1. هذه نظرات إجمالية تقتضي البيان بذكر آراء الفقهاء، والعقوبة التي جعلوها قرينة كل من أفعال الحرابة. هذه الأفعال التي لا تخرج في جملتها عما يأتي: 1- إخافة السبيل دون أخذ مال أو قتل. 2- إخافة السبيل وأخذ المال لا غير. 3- إخافة السبيل والقتل دون أخذ المال. 4- إخافة السبيل وأخذ المال والقتل. ولكل مذهب من المذاهب الفقهية رأيه حيال عقوبة كل فعل من هذه الأفعال، وسأحاول فيما يأتي ذكر ما يلقي الضوء على هذه الآراء. أولًا: عقوبة إخافة السبيل دون أخذ مال أو قتل يرى الإمام أبو حنيفة، والإمام أحمد أنه إذا خرج فرد، أو جماعة محاربين فقطعوا الطريق، ثم استطاع الإمام أخذهم قبل أن يحدثوا جناية أخرى من الجنايات التي يحدثها أمثالهم، فإن عقوبتهم حينئذ هي النفي. وقد قرر الإمام الشافعي، وبعض فقهاء الشيعة أن الإمام إذا علم

_ 1 فتح القدير ج5 ص423 بدائع الصنائع ج7 ص93، المغني ج8 ص298، ص299، مغني المحتاج ج4 ص182 شرح الأزهار ج4 ص377 الخرشي ج8 ص106، تفسير القرطبي ج3 ص2149 ط دار الشعب.

أن قومًا يخيفون الطريق، ولم يأخذوا مالًا، ولم يقتلوا نفسًا عزرهم بحبس وغيره، ويظل الحسب واقعًا بهم حتى تظهر توبتهم1. ويرى الإمام مالك وابن حزم، ومن وافقهما أن الإمام مخير في هؤلاء بين النفي، أو القطع أو القتل أو الصلب، وذلك طبقًا لما قالوا به من أن العقوبة هنا تخيير به يختار الإمام منها ما يناسب الحالة، ويؤدي إلى العلاج2. وقد أطلق النفي إطلاقات عدة منها أن المراد بالنفي الطرد من دار الإسلام، وهذا ما ذهب إليه ابن القيم. وروي عن ابن عباس أن المراد بنفي هؤلاء طلب الإمام لهم ليقيم فيهم حدود الله. وقال ابن سريج: نفيهم حبسهم في بلد غير بلدهم، وهذا ما قال به الإمام مالك؛ لأن إخراجهم إلى مكان يقطعون فيه الطريق، ويؤذون به الناس لا يفي بالغرض الذي تهدف إليه عقوبتهم. وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفية من بلد إلى بلد فيؤذيهم، وهذا هو الرأي] ؛ لأن تركهم بعد نفيهم فيح حث لهم على

_ 1 فتح القدير ج5 ص423، بدائع الصنائع ج7 ص97، المغني ج8 ص294، مغني المحتاج ج4 ص181، أسنى المطالب ج4 ص154-155، شرح الأزهار ج4 ص376، مباني تكملة المنهاج ج1 ص318. 2 المدونة ج16 ص98-99، الخرشي ج8 ص106، شرح الزرقاني ج8 ص110-111 المحلى ج13 ص314.

مواصلة جرائهم، كما أن نقلهم من بلد إلى أخرى لحبسهم هناك، لا طائل من ورائه، ما دام حبسهم في البلد الذي أخذوا فيه سيحقق الهدف من العقوبة. وقد ذكر ابن القيم أن نفيهم يحتمل أن يكون مدة عام كالنفي في الزنا، أو يكون حتى تظهر توبتهم1. والذي أرجحه هو أن لا يقتصر في النقل على عام، وإنما يظل النفي حتى تظهر توبتهم، ولا مجال لقياس النفي هنا في جريمة الزنا، لاختلاف ما يقصد من وراء النفي في كل. ثانيًا: عقوبة إخافة السبيل، وأخذ المال إذا قطع المحاربون السبيل على المارة، وأخذوا مالًا -على التفصيل الذي أورده الفقهاء، فيما يطقع به من المال- فإن الإمام أبا حنيفة والشافعي، وابن حنبل وبعض الشيعة يرون قطع المحاربين من خلاف، فتقطع يد كل منهم اليمنى، ورجله اليسرى. وقد فصل الفقهاء القول في ذلك، وفي حالة ما إذا كانت إحدى يديه، أو رجله أو كلاهما مقطوعة أو شلاء2.

_ 1 القرطبي ج3 ص2149-2150 ط دار الشعب، المغني ج8 ص94. 2 يقول الشيرازي: وإن سرق وله يد ناقصة الأصابع قطعت؛ لأن اسم اليد يقع عليها، وإن لم يبق غير الراحة، ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يقطع وينتقل الحد إلى الرجل؛ لأنه قد ذهبت المنفعة المقصودة بها، ولهذا لا يضمن بأرش مقدر، فصار كما لو لم يبق منها شيء، والثاني: أنه يقطع ما بقي =

أما قطع يد المحارب فللسرقة، وأما قطع رجله للحرابة وإخافة السبيل، وهي الحالة التي صاحبت السرقة، وتمت السرقة في ظلها وتحت وطأتها، تغليظ للعقوبة لتناسب الجناية1. وقد ذهب الإمام مالك وابن حزم، ومن وافقهما إلى القول بأن الإمام مخير ينزل بالمحاربين العقوبة التي يراها مناسبة من بين العقوبات التي تحدث عنها الآية الكريمة2.

_ = لأنه جزء من العضو الذي تعلق به القطع فوجب قطعه، كما لو بقيت أنملة فإن سرق وله يد شلاء، فإن قال أهل الخبرة: إنها إذا قطعت انسددت عروقها قطعت، وإن قالوا: لا تسد عروقها لم تقطع؛ لأن قطعها يؤدي إلى أن يهلك. المهذب ج2 ص283، ويقول ابن قدامة: وإن سرق من يده اليسرى مقطوعة أو شلاء، أو مقطوعة الأصابع، أو كانت يداه صحيحتين قطعت اليسرى، أو شلت قبل قطع يمناه لم تقطع يمناه على الرواية الأولى، ويقطع على الثانية.. وفي قطع رجل السارق وجهان: أصحهما لا يجب؛ لأنه لم يجب بالسرقة، وسقوط القطع عن يمينه لا يقتضي قطع رجله كما لو كان المقطوع يمينه، والثني: تقطع رجله.. وإن كانت يمناه صحيحة ويسراه ناقصة نقصًا يذهب بمعظم نفعها مثل أن مذهب منها الإبهام أو الوسطى، أو السبابة احتمل أن يكون كقطعها وينتقل إلى رجله، وهذا قول أصحاب الرأي، واحتمل أن تقطع يمناه؛ لأن له يد ينتفع بها. المغني ج8 ص266. 1 فتح القدير ج5 ص423، أسنى المطالب ج4 ص115، المهذب ج2 ص284 مغني المحتاج ج4 ص181، المغني ج8 ص288، شرح الأزهار ج4 ص377. 2 شرح الزرقاني ج8 ص110-111، الخرشي ج8 ص105، للمحلى ج13 ص314 تفسير القرطبي ج3 ص2148-2148 ط دار الشعب مباني تكملة المنهاج ج1 ص318.

ثالثًا: عقوبة إخاقة السبيل والقتل دون أخذ مال إذا قتل قطاع الطريق ولم يأخذوا مالًا، فإن الإمام أبا حنيفة والشافعي وغيرهما، ورواية عن الإمام أحمد، أن الإمام في هذه الحالة يجب عليه قتلهم حتعى وإن عفا أولياء الدم، فإن عفوهم لا يقبل؛ لأن الحد هنا خالص لله تعالى، ولا يسمع فيه عفو غيره. وقد جاءت رواية عن الإمام أحمد أن المحاربين هنا يصلبون بعد قتلهم، كالذين أخذوا المال. وقد روى ابن قدامة هذه الرواية مستدلًا بالخبر المروي في مثل هؤلاء، والذي جاء فيه: "ومن قتل ولما يأخذ المال قتل ولم يذكر صلبًا". ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده، فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ، ولو شرع الصلب هنا لاستويا، والحكم في تحتم القتل وكونه حدا ههنا، كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال1. والإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- قد ذهب إلى أن الإمام مخير في هذه الحالة بين شيئين فقط. أحدهما قتلهم فقط، وثانيهما صلبهم ثم قتلهم، ولا خيار للإمام في هذه الحالة غير هاتين الحالتين2.

_ 1 فتح القدير ج5 ص423، مغني المحتاج ج4 ص182، المهذب ج2 ص284 المغني ج8 ص292. 2 المدونة ج16 ص99، شرح الزرقاني ج8 ص110-111 الخرفس ج8 ص105 حاشية الدسوقي ج349.

رابعًا: عقوبة إخافة السبيل، وأخذ المال والقتل معًا أما الظاهرية فهم على رأيهم بأن الإمام مخير في كل الحالات يختار ما يناسب من العقوبة، بشرط ألا يجمع على المحارب عقوبتين من العقوبات التي ذكرتها الآية الكريمة1. إذا أخذ المحاربون المال، وقتلوا فالإمام أبو حنيفة يرى أن ولي الأمر بالخيار في أن يقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف ثم يقتلهم ويسلبهم، أو يقتلهم فقط دون صلب أو قطع، وله أيضًا صلبهم أحياء ثم قتلهم. واشترط أبو يوسف الصلب للنص عليه. ورأي محمد بن الحسن أن للإمام قتلهم وصلبهم، وليس له قطعهم، وقد وافق رأي محمد بن الحسن كل من الإمام الشافعي والإمام أحمد، والشيعة الزيدية2.

_ 1 يقول ابن حزم بعد مناقشة لآراء من جمع بين عقوبتين: فصح يقينا أن الله تعالى لم يوجب قط عليهم حكمين من هذه الأحكام، ولا أباح أن يجمع عليهم خزيين من هذه الأخزاء في الدنيا، وإنما أوجب على المحارب أحدها لا كلها. ولا اثنين منها ولا ثلاثة، فصح بهذا يقينا لا شك فيه أنه إن قتل فقد حرم صلبه وقطعه ونفيه، وإنه إن قطع فقد حرم قتله وصلبه وقطعه، وإنه إن صلب فقد حرم قتله وقطعه ونفيه، لا يجوز ألبتة غير هذا، فحرم بنص القرآن صلبه أن قتل، المحلى ج13 ص335، والإمام مالك -لا يرى أن صلبهم وقتلهم عقوبتان، وإنما هما عقوبة واحدة؛، لأن الصلب عنده من صفات القتل، الخرشي ج8 ص105. 2 فتح القدرير ج5 ص425، مغني المحتاج ج4 ص182، المغني ج8 ص290 شرح الأزهار ج4 ص377.

أما فقهاء الشيعة الجعفرية فإنهم يرون، أن على الإمام أن يقطع اليد اليمنى للمحاربين الذين أخذوا المال وقتلوا، ثم يدفعهم إلى أولياء المقتول، فيتبعونهم بالمال، ثم يقتلونهم وإن عفا عنهم أولياء المقتول كان على الإمام قتل المحاربين. ولا يجوز لأولياء المقتول أن يأخذوا من المحاربين الدية، ويتركوهم1. وقد أثار ابن قدامة مسألة التكافؤ بين القاتل والمتقول، وبين أنه قد ورد فيها روايتان: إحداهما: لا يعتبر التكافؤ وعلى هذا يقتل المسلم بالذمي، والأب بالابن وذلك؛ لأن القتل حد لله تعالى، فلا تعتبر فيه المكافأة. الثانية: تعتبر المكافأة لما ورد من أنه لا يقتل مسلم: بكافر والحد فيه انحتامه2، بدليل أنه لو تاب قبل القدرة عليه سقط انحتامه، ولم يسقط القصاص. فعلى هذه الرواية إذا قتل المسلم ذميًا، أو الحر عبد وأخذ ماله، قطعت يده ورجله من خلاف لأخذه المال، وغرم دية الذمي، وقيمة العبد، وإن قتله ولم يأخذ مالًا غرم دينه ونفي، وذكر القاضي: إنه يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال، وإن قتله لغير ذلك من عداوة مثلًا كانت بينهما، فالواجب القصاص3.

_ 1 مباني تكملة المنهاج لأبي القاسم الموسوي ج1 ص318 ج النجف الأشراف. 2 الحتم: القضاء، قال ابن سيده: الحتم إيجاب القضاء وحتمت عليه الشيء: أوجبت: وانحتم الأمر: وجب وجوبًا لا يمكن إسقاطه. لسان العرب والمنجد مادة حتم. 3 المغني ج8 ص290.

والذي أميل إليه أن المحارب الذي قطع الطريق، وقتل المارة تجب معاقبته بالقتل حدا لا قصاصًا بصرف النظر عما قيل من تكافؤ، سواء صاحب القتل أخذ مال أم لم يصاحبه. لأن اشتراط أخذ المال لإيجاب القتل حدا على المحارب الذي وقع منه القتل اشتراط في غير محله. لجواز أن المحارب قتل بهدف أخذ المال، ثم بعد أن نفذ القتل لم يجد مع المقتول مالًا. فكيف ترتب على عدم وجود المال مع المقتول حينئذ تغاير العقوبة من القتل حدا إلى القتل قصاصًا. وكذا من قتل حال حرابته شخصًا، ثم ادعى أنه قتله لعداوة بينهما، فإن ما ادعاه حتى ولو كان صحيحًا لا يجوز أن يعد مبررًا؛ لأن تغاير بين عقوبته وجعلها القتل قصاصًا بعد أن كانت القتل حدًا. لأنه لا يخفى ما في ذلك من فتح باب الهروب من العقوبة بدفع الدية، الأمر الذي يغري المحاربين بارتكاب عديد من جنايتهم، وقتلهم للأبرياء. والأولى بهم إن كانوا يبحثون عن باب للنجاة الحقة، هو أن يتوبوا ويبادروا بالعودة إلى الله؛ لأن في ذلالك نجاة حقيقية لهم في الدنيا والآخرة. هذا ما ذهب إليه أصحاب الاتجاه القائل بالترتيب. أما الإمام مالك، وابن حزم، ومن ذهب معهم إلى القول بالتخيير فهم هنا، وفي حالة القتل، ولإخافة السبيل دون أخذ مال، قد حكموا على

المحاربين بعقوبة متوافقة، من صلب وقتل عند الإمام مالك، ومن تطبيق عقوبة واحدة عند ابن حزم. والذي أرجحه في كل ما سبق هو أن الإمام ملزمًا بالترتيب، وليس به اختيار العقوبة حسب ما يرى ويرغب؛ لأن عقوبات الحدود من سماتها، أن الشارع الحكيم قد حددها تحديدًا دقيقًا، ولم يبق لولي الأمر إلا إثبات الجناية فقط، والقول بالتخيير يتعارض مع هذا، كما أنه يفتح باب المجاملة ومراعاة الأشخاص، الأمر الذي كم عانت منه النظم الوضعية، والذي نهى عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم. عقوبة شرب الخمر: اتفق الفقهاء على تحريم شرب الخمر1، ووجوب عقاب شاربها، وأن عقوبته هي الجلد، ولكنهم لم يتفقوا على مقدار هذه العقوبة، فقد حددها فقهاء الأحناف، والمالكية، والغالب عن الحنابلة ثمانين جلدة. أما فقهاء الشافعية، والظاهرية، ومن وافقهم من الشيعة، وما جاء في رواية عن الإمام أحمد، فإنهم ذهبوا إلى أن حد شرب الخمر أربعون جلدة. واستدل كل لرأيه بأدلة. أولًا: ما استدل به القائلون بأنها ثمانون جلدة: 1- لما أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشارب خمر، وكان عنده -صلى الله عليه وسلم- أربعون رجلًا أمرهم أن يضربوه، فضربه كل رجل منهم بنعليه، فكان ذلك في معنى ثمانين جلدة2.

_ 1 يأتي تعريف الخمر في الباب الثاني من هذا البحث. 2 صحيح الترمذي بشرح ابن العربي ج6 ص221.

2- سأل خالد بن الوليد أمير المؤمنين عمر -رضي الله تعالى عنه- حين انهمك من عنده في شرب الخمر وتحاقروا العقوبة، فاستشار عمر -رضي الله تعالى عنه- أصحابه، ومنهم المهاجرون والأنصار، فأجمعوا على أن يضرب الشارب ثمانين، وقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد، وأبي عبيدة بالشام1. 3- روي أن عليًا -رضي الله تعالى عنه- قال: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة2. أما ما استدل به القائلون بأن عقوبة شارب الخمر أربعون، فهو ما يأتي: 1- روى أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى برجل قد شرب الخمر، فضربه بالنعال نحوا من أربعين3. 2- ما روي من أن عليًا -رضي الله تعالى عنه- جلد الشارب أربعين ثم قال: جلد النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر أربعين، وكل سنة وهذا أحب إلي4.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي ج4 ص289، سنن أبي داود ج2 ص472. 2 نيل الأوطار ج7 ص163، تفيسر ابن كثير ج3 ص265. فتح القدير ج5 ص310. 3 صحيح مسلم بشرح النووي ج4 ص289. 4 المرجع السابق ص290-291، مختصر المازني على الأم ج5 ص174، المغني ج8 ص307، مغني المحتاج ج4 ص189.

هذا جانب من أقوال الفقهاء في عقوبة شارب الخمر. كما روي أيضًا عن أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين". وروي عن السائب بن يزيد قوله: كنا نؤتي بالشارب على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمرة أبي بكر، وصدرًا من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا، وأرديتنا حتى كان آخر أمره عمر، فجلد أربعين حتى إذا عفوا أو فسقوا جلد ثمانين1. من هذا كله، وما ماثله يبين أن القرآن لم يات بنص يبين مقدار العقوبة، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يحدد مقدار عقوبة شارب الخمر، وأنه كان يأمر بضرب شارب الخمر دون أن يحدد للضاربين عددًا مبينًا. ولهذا فإن الصحابة الأطهار لم يتفقوا على مقدار معين، وإنما؛ لأنهم فهموا أن المقصود ردع الشاربين وزجرهم، اجتهدوا في تقدير ما يحقق ذلك، فقدر أبو بكر العقوبة بأربعين جلدة، وتبعه في ذلك أمير المؤمنين عمر في أول خلافته، فلما تحاقر المجرمون هذه العقوبة ردها أمير المؤمنين بمشورة أصحابه إلى ثمانين. بل إن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- لم يقرر أربعين جلدة، إلا بعد أن يسأل أصحابه، وإذا كان أبو بكر، وهو صاحب الرسول

_ 1 صحيح البخاري ج8 ص196، 197 ط دار الشعب بالقاهرة.

ورفيقه لا يعلم لهذه العقوبة مقدار معينًا قد ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، وإذا كان عمر -رضي الله تعالى عنه لا يعلم أيضًا مقدارًا معينا قد ورد عن الرسول في ذلك، وإذا كان علي -رضي الله تعالى عنه- قد لجأ إلى القياس لاستخراج مقدار معين للعقوبة، فجعلها تساوي عقوبة الافتراء، إذا كان ذلك كله قد وقع، فلا أدل منه على أن عقوبة شرب الخمر عقوبة تعزيرية يترك تقدير عدد الجلدات فيها لولي الأمر، حسب ظروف الأمة، وأحوال الرعية أما ما استدل به القائلون بأن عقوبة شرب الخمر عقوبة حدية مقدرة من لدن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه ضرب في شرب الخمر أربعين، وأن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه قد تابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وكذلك عمر في أول ولايته، وقال هؤلاء: لو كانت عقوبة شرب الخمر تعزيرية من أول أمرها لما كتب خالد إلى عمر -رضي الله تعالى عنهما يستشيره، ويأخذ رأيه في زيادة العقوبة لما شاعت هذه الجريمة، وتحافر الناس عقوبتها1. وما استدل به هؤلاء هو نفسه يرد عليهم، ويدرأ مقالتهم وذلك؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد ضرب بعض شاربي الخمر أربعين، فإنه أيضًا قد ورد عنه لما أتى بشارب وهو بحنين، حثا في وجهه التراب، ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم وما كان في أيديهم، حتى قال لهم: "ارفعوا" فرفعوا. فهو عليه الصلاة والسلام، هنا تركهم يضربون الشرب حتى وجد أن فيما ضرب كفاية لزجره، وردعه هو أو أمثاله. ومن هنا، فإن الصحابة الأجلاء لم يعرفوا لهذه العقوبة حدا معينًا.

_ 1 البخاري بشرح الكرماني ج23 ص182-184، نيل الأوطار ج7 ص157.

ولو عرفوا لما استطاع أحد منهم أن يخالف ذلك الحد، ولما سأل أبو بكر، ولكان هذا الحد قد عرف، واشتهر كباقي الحدود، ولما كان باستطاعة عمر أن يزيد، ولا لعلي أن يقبس؛ لأن عقوبات الحدود لا تثبت بالقياس. أما سؤال خالد لأمير المؤمنين عمر -رضي الله تعالى عنهما-، فإنه لا يصلح دليلًا على كونها عقوبة محددة. فخالد قد سأل؛ لأن عمر حدد له مقدارًا معينا، فكيف لخالد أن يخالفه، فلا بد له من مشورة عمر ورأيه. كما أن العقوبة التعزيرية إن كانت تقدر بأمر من ولي الأمر، فإن خالد لا بد وأن يسأل عمر ليقدر عمر له، وإن كان أمرها متروكًا للقاضي، فإن سؤال خالد يكون من باب الاستئناس برأي أمير المؤمنين، ولا يؤخذ ذلك على أنها عقوبة حدية لسؤال خالد أمير المؤمنين. ولأنه قد روي عن علي بن أبي طالب "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يسن في ذلك سنة"1، وليس أصرح من هذا في أن عقوبة شارب الخمر عقوبة تعزيرية، وليست عقوبة حدية. هل يقتل شارب الخمر في المرة الرابعة: ذهب ابن حزم إلى أن شارب الخمر يقتل في المرة الرابعة، واستدل على ذلك بأحاديث كثيرة مروية، عن طريق معاوية بن أبي

_ 1 نيل الأوطار د7 ص159، سنن أبي داود ج2 ص475، المدخل للفقه الإسلامي أ. د/ سلام مدكور ص738، المسئولية الجنائية أ. د/ سلام مدكور ص17.

سفيان، وأبي هريرة -رضي الله تعالى عنهما، جاء فيها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم". وقال أيضًا: "إذا سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه" 1. يقول ابن حزم معلقًا على ذلك: فكانت الرواية في ذلك عن معاوية، وأبي هريرة ثابتة تقوم بها الحجة ... وقد صح أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتل الشارب في المرة الرابعة ولم يصح نسخه، ولو صح لقلنا به -ولا حجة في أحد دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-2. أما جمهور الفقهاء، فقد ذهبوا إلى أن هذا منسوخ، واستدلوا لذلك بما رواه الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن شرب الخمر فاجلوده، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به الثانية فجلده، ثم أتي به الثالثة فجلده، ثم أتي به الرابعة فجلده، ووضع القتل فكانت رخصة"، ثم يقول الإمام الشافعي: والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره وهذا مما لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته3.

_ 1 سنن أبي داود ج2 ص473-474. 2 المحلى ج13 ص418-426. 3 الأم للإمام الشافعي ج6 ص130 ط دار الشعب، سنن أبي داود ج2 ص474.

والواقع يشهد لما قال به الإمام الشافعي من أن ذلك نسخ ما جاء، فيما رواه معاوية؛ لأن الحديث اللاحق ينسخ ما سبق، وقد كان ذلك الذي رواه الإمام الشافعي بعد الفتح متأخرًا عما رواه معاوية الذي أسلم قبل الفتح1. كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل شاربًا للمرة الرابعة، ولو كان فعل ذلك لاشتهر عنه، لكنه له يعرف، كما لم يقل به أحد من الصحابة الأجلاء، حتى زمن تفشي هذه الجريمة في عهد عمر -رضي الله تعالى عنه-، الأمر الذي دعاه لاستشارة الصحابة، فأشاروا عليه برفع العقوبة إلى ثمانين جلدة، ولم يشر عليه أحد بقتل الشارب للمرة الرابعة. هذا ما أميل إليه وأرجحه، ويمكن لولي الأمر حبس مدمن الخمر إذا رأى في ذلك علاجًا له خصوصًا، وقد أنهيت إلى أن العقوبة هنا كلها عقوبة تعزيرية. عقوبة القذف: حدد الله سبحانه وتعالى عقوبة القذف2 بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص165-168 ط مصطفى الحلبي ط الأخيرة. 2 يأتي تعريف القذف بالباب الثاني. 3 الآيتان: 4-5 من سورة النور.

فهذا النص القرآني الكريم قد اشتمل على عقوبتين للقذف. إحداهما عقوبة أصلية وهي الجلد، والثانية عقوبة تبعية وهي عدم قبول الشهادة. العقوبة الأولى: حدد الله سبحانه وتعالى عقوبة القذف بثمانين جلدة1. وللفقهاء آراء في إمكان إسقاط هذه العقوبة بعفو المجني عليه، وهم يربطون بين ذلك، وبين اشتراط مطالبة المقذوف، وقيامه برفع الدعوى أمام القاضي. فقهاء الشافعية، والحنابلة يرون أن عقوبة القذف حق للآدمي، ومن ثم فلا بد من مطالبته بها، وإقامة الدعوى منه على الجاني، كما أنهم جعلوا له حق إسقاط العقوبة بعفوه عن الجاني؛ لأنه لما كانت هذه العقوبة لا تستوفى إلا بعد مطالبته بها، فإنها تسقط بعفوه كالقصاص. كما أنها لا تقام بقذف الوالد ولده، وإن نزل، وقد وافقهم في ذلك أبو يوسف، فأسقطها بعفو المجني عليه2. أما جمهور فقهاء الأحناف والظاهرية، فإنهم يرون أن عقوبة القذف حق لله تعالى؛ لأن الفائدة تعود من إقامتها إلى المجتمع كله.

_ 1 إذا كان مرتكب الجريمة من الأحرار، إما إذا كان عبدًا، فإنه يلزم نصفها وهو أربعين جلده نظرًا؛ لأنها عقوبة تبعض فيكون العبد فيها على النصف من الحر، المغني ج8 ص217، الخرشي ج8 ص88، المهذب ج2 ص72، فتح القدير ج5 ص319. 2 المهذب ج2 ص74، المغني ج8 ص217-219، تحفة المحتاج لابن حجر ج7 ص120 فتح القدير ج5 ص327.

ويتحقق بها صيانة سمعة الأفراد، وحفظ أنسابهم، وما كان نفعه عامًا اعتبر الحق فيه لله سبحانه وتعالى1. أما فقهاء المالكية، فإنهم يفرقون بين العقوبة قبل رفع الدعوى للقاضي، وبينهما بعد رفع الدعوى. فالعقوبة عندهم حق للآدمي طالما يرفع الدعوى للقاضي، فإذا قام برفع الدعوى، فإن العقوبة حينئذ تصبح حقًا لله سبحانه وتعالى. فلا تسقط بعفوا المجني عليه. كما ذهب فقهاء المالكية إلى أن الحد لا يجب للولد على ابنه، وهذا هو الراجح، وذكر بعضهم أنه إذا طالب الابن حد الأب، وعد الابن فاسقا، هذا رأي عند المالكية، وإن كانت المعتمد عندهم أنه لا حد على الأب لو صرح لولده. كما يرون أن من قذف كافرًا أو عبدًا، فلا حد له عليه ما لم يكن أبوا الرقيق حرين مسلمين2. من هذا يبين أن من الفقهاء من جعل عقوبة القذف حقا للآدمي، وأسقطها بعفوه عن الجاني. ومنهم من جعلها حقا لله، فلم يسقطها بعفو المجني عليه. ومنهم من فصل القول، وفرق بينهما قبل رفع الدعوى وبعدها. وهذا الخلاف أساسه ما ذهب إليه بعضهم من اشتراط مطالبة المقذوف، وإقامته للدعوى.

_ 1 بدائع الصنائع ج7 ص56، وما بعدها شرح فتح القدير ج5 ص319، وما بعدها المحلى لابن حزم ج13 ص287-290. 2 الخرشي ج8 ص88-90، حاشية الدسوقي ج4 ص327 وما بعدها.

والذي أميل إليه وأرجحه، أن الأعتداء هنا قد وقع على حقين حق لله سبحانه وتعالى، وهو ما يمس المجتمع وسمعة الأفراد، وحق للعبد وهو ما تعرض له شرفه ونسبه عن ضرر، وأذى غير أن حق العبد هنا هو الحق الغالب، وعليه فلا بد من مطالبته بحقه، وإقامته للدعوى، مادام قادرًا على ذلك، فإذا لم يطالب بحقه ولم يقم الدعوى، ويثبت الجناية عند القاضي، وأمكن القاضي أن يلزم الجاني بعقوبة تعزيرية مناسبة، ولا يلزمه بالعقوبة الحدية لعدم مطالبة المجني عليه التي تحتمل معها الشبهة. أما إذا أقام المجني عليه الدعوى، وثبتت الجناية، فإن الحق هنا أصبح حقا لله سبحانه وتعالى، ولا يسقط بعفو المجني عليه. كما أن قذف الوالد لولده لم تلزم به العقوبة الحدية، إلا أن للقاضي أن يقيم على الوالد عقوبة تعزيرية مناسبة لتعريضه للضرر. عقوبة الردة: يرى جمهور الفقهاء أن من ارتد من المسلمين يجب قتله أن لم يعد إلى الإسلام بعد عرضه عليه، عملًا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من بدل دينه فاقتلوه" 1. والمراد من بدل دين الإسلام الذي اعتنقه، وخرج منه إلى دين الكفر وجب قتله.

_ 1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص21، البخاري بشرح ابن حجر ج2 ص267.

ولا يجوز الاعتراض بأن الحديث على عمومه، فيشمل كل دين. لأن الدين الذي ورد في الحديث هو الإسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلام} 1. كما أن الكفر ملة واحدة، فقد بين ذلك الإمام مالك بقوله: لم يعن بذلك فيما نرى والله أعلم، من خرج من اليهودية إلى النصرانية، ولا من النصراية إلى اليهودية، ولا من يغير دينه من أهل الأديان كلها، إلا الإسلام. فمن خرج من الإسلام إلى غيره، وأظهر ذلك، فذلك الذي عني به، والله أعلم2، هذا ما ذهب إليه الجمهور من أن من خرج من الإسلام إلى غيره، وجب قتله رجلًا كان أو امرأة. وإن كان الإمام أبو حنيفة، وبعض فقهاء الشيعة لا يرون قتل المرأة إذا ارتدت: وقالوا بأنها تجبر على الإسلام بأن تحبس، ثم يعرض عليها الإسلام، فإن أسلمت كان بها، وإلا ظلت في حبسها حتى تموت. واعتمدوا في ذلك على ما روي من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن قتل المرأة الكافرة، فإذا كانت المرأة لا تقبل بالكفر الأصلي، فالأولى لا تقتل بالكفر الطارئ. وقد ورد الفقهاء على ذلك بأن امرأة يقال لها: أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمر أن تستتاب

_ 1 من الآية 19 من سورة آل عمران. 2 فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج12 ص272، الموطأ ص459 ط دار الشعب.

فإن تابت وإلا قتلت؛ ولأنها شخص مكلف بدل دينه، فتقتل كالرجل1. أما نبي الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل المرأة الكافرة، فالمراد بها الكافرة الأصلية؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة، وكانت كافرة أصلية، ولذا فإنه -صلى الله عليه وسلم- قد نهى الذين بعثهم للدفاع عن الإسلام -عن قتل النساء، ولم يكن فيهم مرتدة، كما نهى عن قتل الأطفال والشيوخ. ويخالف الكفر الأصلي الكفر الطارئ، بدليل أن الرجل يقر على كفره الأصلي، والإسلام قد نهى عن قتل أهل الصوامع، والشيوخ، والمكافيف عند فتحه لبلاد الكفر2. وذهب النخعي إلى أن المرتد يستتاب أبدًا رجلًا كان أو امرأة، ووافقه في ذلك غير من تحدث عنهم ابن حزم، وأورد مقالتهم دليلهم رواه الشعبي، عن أنس بن مالك: أنا أبا موسى الأشعري قتل جحينه الكذاب وأصحابه، قال أنس: فقدم على عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، وهل كان سبيل إلا القتل؟. فقال عمر: لو أتيت بهم لعرضت عليهم الإسلام، فإن تابوا وإلا استودعتهم السجن، وقد رد ابن حزم هذا القول؛ لأنه لو صح في رأيه لبطل الجهاد جملة؛ لأن الدعاء يلزم أبدًا مكررًا بلا نهاية، وهو يرى أن مثل هذا القول لا يقول به مسلم3.

_ 1 بدائع الصنائع ج7 ص135، نيل الأوطار ج7 218 مباني تكملة المنهاج؟؟؟ ص330-331 مغني المحتاج ج4 ص39. المحلى لابن حزم ج13 ص119 وما بعدها. 2 المغني ج8 ص123-124، نيل الأوطار ج7 ص218. 3 المرجع السابق ص217-221، الموطأ للإمام مالك ص310 المحلى ج13 ص124-125.

هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء في عقوبة الردة، وقد أورد الشيخ شلتوت والدكتور العوا أقوالًا حولا ما استدل به الجمهور من حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، وأنه حديث أحاد، وحديث الأحاد لا يثبت به حد، وعليه فإن عقوبة الردة ليست عقوبة حدية، وإنما هي عقوبة تعزيرية يستطيع الإمام أن يصل بها إلى حد القتل، كما أن له قتل شارب الخمر في المرة الرابعة1. كما أن الدكتور العوا يرى صرف الأمر في حديث: "من بدل دينه، فاقتلوه" من الوجوب إلى الإباحة، واستدل لذلك بأدلة كثيرة أهمها ما رواه البخاري، ومسلم من أن أعرابيًا بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأصاب الأعرابي وعك بالمدينة، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم ثم جاءه، فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى، ثم جاءه فقال: يا محمد أقلني بيعتي، فأبى فخرج الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما المدينة تنفي خبثها، وينصع طيبها"، وقد ذكر الحافظ ابن حجر، والإمام النووي نقلًا من القاضي أن الأعرابي كان يطلب من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-2. وقد حاول من ساق هذا الحديث الاستدلال به على أن هذه حالة ردة ظاهرة، ومع ذلك لم يعاقب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرجل، ولا أمر بعقابه بل ترك يخرج من المدينة دون أن يتعرض له أحد.

_ 1 الإسلام عقيدة وشريعة للإمام محمود شلتوت ص301 ط دار الشروق، في أصول النظام الجنائي الإسلامي أ. د/ محمد سليم العواص 150-155 ط دار المعارف. 2 البخاري بشرح ابن حجر ج4 ص96 وما بعدها، مسلم بشرح النووي ج9 ص455-، وما بعدها في أصول التشريع الجنائي الإسلامي أد/ محمد سليم العوا ص152 ط دار المعارف -يراجع في ذلك المحلى ج13 ص119 وما بعدها، المصنف لعبد الرازق الصنعاني ج10 ص164، وما بعدها.

وليس لمن أورد هذا الحديث أن يستدل به على ذلك. لأن من روى الحديث لم يورد أن إشارة تدل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لم يأمر بعقاب هذا الرجل، أو لم يتعرض له. فكيف استخلص ذلك، وهو أمر لا يجوز استنتاجه من غير دليل صريح؟. كما أن من قال: إن الرجل كان يطلب إقالته من الإسلام لم يذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقش الرجل، أو استتابه أو نظر فيما دعاه إلى الرجوع عن الإسلام، وهو أمر لا يجوز من أحد خصوصًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإلا كنا غير مطالبين باستتابة المرتد، ومناقشته- وهو ما لم يقل به أحد، ثم إن الحديث جاء فيه أن الرجل أصابه وعك بالمدينة، فهو إذا طلب الخروج من المدينة لعدم احتماله جوها، مثلًا بدليل ما أصابه من وعك، وليس طلب الخروج، والإقالة نتجا عن ارتداده عن الدين؛ لأن من يرتد لا يأتي يستأذن الرسول عله يقيله من دينه خصوصًا، وأنه لن يعاقب على حد قول هؤلاء، هذا أمر بعيد الاحتمال، ولا يدل عليه الحديث، وليس في ذلك العقاب على الرده بالقتل إكراه على الدخول في الإسلام؛ لأنه لا يعاقب بها إلا من كان مسلمًا، وأراد أن يهزا بالإسلام، وفرق كبير بين الحالين، هذا ما أرجحه واختاره.

سمات تمتاز بها العقوبة الحدية: تمتاز العقوبات الحدية عن غيرها من باقي العقوبات التي تقررها الشريعة الإسلامية، سواء أكانت عقوبات قصاص أو تعزير، نص عليها المشرع الحكيم، أو حددها ولي الأمر. فعقوبات القصاص، وإن كان الشارع هو الذي وضعها، وبين حدودها إلا أنها حق للعباد يمكنهم التنازل عنها في أي مرحلة من مراحل إقامة الدعوى، أو بعد الحكم بها. كما أن العقوبات التعزيرية التي يقررها الحاكم، وإن وضع لها حدا ما إلا أنه حد مرن إذ يمكن للقاضي أن يختار العقوبة المناسبة للواقعة التي ينظرها، ومن بين ما وضعها ولي الأمر، سواء أكان ذلك هو حد العقوبة التعزيرية الأعلى، أو الأدنى أو ما بينهما. وقد لا يخلو الأمر عند القانونين أحيانًا من النزول عن الحد الأدنى للعقوبة المحددة قانونًا بتطبيق مواد قانونية تبيح للقاضي ذلك، وتلزمه في حالات معينة النزول عن الحد الأدنى المحدد قانونًا للعقوبة1. ومن أهم ما تتميز به العقوبات الحدية ما يأتي:

_ 1 تنقسم أسباب التخفيف إلى نوعين: أسباب تخفيف وجوبي يطلق عليها تعبير " الأعذار"، وأسباب تخفيف جوازي يطلق عليها تعبير "الظروف المخففة"، والفرق الجوهري بينهما أن التخفيف عند توافر القدر الزمني للقاضي في حين أنه جوازي عند توافر الظروزف المخففة، شرح قانون العقوبات القسم العام لكل من أد/ محمود نجيب حسني ص681ط 1977. أد/ محمود مصطفى ص635، 638 ط 1974م.

أولًا: المشرع الحكيم هو الذي حددها، وبين نوعها ومقدارها، ولم يدع لغيره -حاكما كان أو محكومًا، قاضيا كان أم مقضيا عليه- أن يمس مقدارها بالزيادة أو النقصان، التغيير أو التبديل، أو الإسقاط عمن وجبت عليه، من غير مبيح شرعي، وليس له أيضًا أن يلزم بها أحدًا من غير أن يكون قد ارتكب ما يقضي بإلزامها له. وكل ما لهؤلاء هو أن يتحروا وجوبها على الجاني الذي وقع منه عما يوجبها عليه، وليست هناك شبهة في فعله، أو قصده. كما أن على من يلزمه بها أن يدقق، ويمحص إدلة إثبات جناية الجاني بالصورة التي رسمها الشرع الشريف. ثانيًا: ليس لشخصية الجطاني أي اعتبار من حيث التأثير في كم العقوبة الحدية أوكيفيتها، إذ إن ذلك لا يختلف باختلاف الأشخاص. ولا يعارض ذلك ما تجب مراعاته في الحكم بعقوبة الزنا من كون الزاني محصنًا، أو غير محصن إذ إن ذلك ليس راجعًا لاعتبار شخص، وإنما؛ لأن الشارع وضع لكل منهما عقوبة خاصة به. ثالثًا: عقوبات الحدود إذا ثبتت جنايتها، فإن القاضي لا يملك إلا الحكم بعقوبة ما ثبت عنده، ولا يجوز له أن يحجم عن الحكم بالعقوبة الحدية التي ثبتت، ولا أن يقبل شفاعة أحد أيا كان الشافع، أو المشفوع له. كما أنه ليس من حقه أيضًا أن يعفو عن الجاني إشفاقًا عليه أو رحمة به، وإن كان له أن يؤجل استيفاء الرجم مثلًا بالنسبة للحامل، حتى تضع حملها، وحتى ترضع1.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص25 وما بعدها.

رابعًا: لا تجب العقوبات الحدية بشبهة، ولا تقام مع وجود الشبهة المعتبرة شرعًا، وهذا ما عليه جمهور الفقهاء، ووافقهم ابن حزم في أنها لا تجب لشبهة. ومبنى ذلك عند الفقهاء أن هذه العقوبات عقوبات شديدة، وجسيمة فلا بد إذن من تيقن وقوع جريمتها من الجاني، وإثبات ذلك عليه عند القاضي الذي يحكم الواقعة، إثباتًا بالصورة التي حددها الشرع. والعقوبات الحدية تغاير في ذلك كله العقوبات التعزيرية؛ لأن الأخيرة عقوبات لم يرد نص من الشارع ببيان مقدارها فيه عقوبات تأديبية، يصلح بها الحاكم اعوجاج الأفراد، والمجتمع ولذا، فإن أمر تقديرها متروك لولي الأمر الذي يستطيع أن يقدرها بالصورة المناسبة، والتي قد تختلف من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، ومن زمان لآخر كما أنه يمكن لولي الأمر أن يسقط العقوبة التعزيرية عن الجاني مع ضمان حقوق الأفراد، إذا كانت الجناية متعلقة بها1. وبالإضافة إلى ما سبق فإن الإمام الشافعي، ومن وافقه يرون أن من حده الإمام، فترتب على حده تلف، فإنه لا ضمان فيه بخلاف ما يحدث من تلف نتيجة العقوبة التعزيرية، وإن كان الإمام أبو حنفية، ومن معه لا يرون فرقًا بينهما2.

_ 1 الأحكام السلطاانية لأبي يعلى ص264. مغني المحتاج 400 ص193، شرح فتح القدير ج5 ص346. 2 فتح القدير ج5 ص352.

المبحث الثاني: بعض سمات التشريع العقابي في كل من الشريعة والقانون

المبحث الثاني: بعض سمات التشريع العقابي في كل من الشريعة والقانون المطلب الأول: أهداف التشريع العقابي ورعايته ظروف الجاني ... المبحث الثاني: بعض سمات التشريع العقابي في كل من الشريعة والقانون ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: أهداف التشريع العقابي. المطلب الثاني: موقف التشريعيين من العقاب على الجريمة منذ نشأة كونها. المطلب الثالث: بين التشريعين في مجال التنظيم العقابي. المطلب الأول: أهداف التشريع العقابي، ورعايته ظروف الجاني أولًا: علاج الجاني لإصلاح سلوكه. ثانيًا: تحقيق العدل والإصلاح. ثالثًا: الحفاظ على الضروريات الإنسانية. رابعًا: الردع هدف الإنسانية. أولًا: من حيث علاج الجاني مما هو متفق عليه أن العقاب بكل ألوانه، وأشكاله ما هو إلا أذى ونوع من المكروه بنزل بالجاني.

وليس إنزال هذا الأذى بالجاني هو الهدف في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لغاية، وهدف عظيم نبيل. ذلك أن العقاب يهدف إلى دفع المفسدة، وعلاج المتلفة التي لحقت بنفس الجاني وأصابت فكره، وظهر أثرها في سلوكه، وعليه فإن ما ينزل بالجاني من عقاب بألوانه المتعددة، والمتغايرة ما هو في حقيقته إلا علاج لما أصاب فكر الجاني، وانقاد لنفسه مما لحق بها من فساد، وحماية لمجتمعه، وأمان لمن يعايشهم، وعلاج الجاني بمثل ما وضع من عقاب، وإن كان يلحق به إيلاما وضررًا إلا أنهما ضروريان لتحقيق النفع له، وإنقاذ مجتمعه، فالعقاب لا يؤمر به لكونه عقابًا في حد ذاته فقط، وإنما؛ لأنه يحقق المنافع ويؤدي إلى المصالح، مثله في ذلك مثل قطع الأيدي المتآكلة حفظًا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد صيانة للمبادئ، والأوطان وإعلاء للحق والفضيلة. كل ذلك من قبيل ما يقوم به الطبيب حين يدفع أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، فالطبيب في فعله هذا كالشرع الذي وضع العقاب ليحقق السلامة، ويدرأ الأضرار والأسقام1. ففي ذلك كله الصحوة والشفاء للجاني، والراحة والأمان للأمة، وصون حماية للدين والعرض والنفس، والمال والفضلية والأخلاق. وقد يتساءل البعض كيف تتحقق الرحمة، والنفع مع العقوبات الحدية من جلد من ملأ من الناس، أو قطع للأيدي والأرجل، أو رجم حتى الموت أو قصاص مع ما فيه من إزهاق للروح، وقضاء على الحياة؟.

_ 1 يراجع "عز الدين عبد السلام" القواعد الكبرى ج1 ص12.

والإجابة سهلة ميسورة، فالشريعة الإسلامية لم تفرض عقوباتها، وتنزلها بالأبرياء الآمنين، وإنما فرضتها، وأنزلتها بالأشقياء الخائنين الذين ينتهكون حرمات الناس والمجتمع، ويقوضون أمن الناس وسلامتهم، ويدنسون الأعراض، ويبطشون ويقتلون الآمنين، وهؤلاء الأشرار لهم تباغتهم الشريعة بعقوباتها، وإنما أعلنت الشريعة عقوباتها الصارمة الحازمة لهؤلاء ولغيرهم، فإذا استهان الأشقياء بهذه العقوبات، وانتهكوا الحرمات، وأصبحوا معاول هدم في بناء المجتمع وكيانه، بعد أن ضمن لهم المجتمع حياة آمنة مطمئنة، وأعطاهم من الحقوق ما لغيرهم وساوى بينهم وبين حاكمهم، فهل يكون عقاب هؤلاء الأشرار على ما أجرموا -في حق المجتمع الذي كفل لهم كل هذا- منافيًا للرحمة؟. إن القضية معكوسة ولا شك؛ لأن الرفق بمثل هؤلاء هو القسوة على المجتمع والإجرام في حقه، فكيف يرحم من لا يرحم، إن ذلك من البديهات التي لا يحتاج عناء في إثباتها، والقطع بها. كما أن العقاب بالرجم ونحوه مما يزهق الروح يكون العلاج لمجموع الأفراد؛ لأن في هذا من الزجز ما يرجى منه إصلاحهم، ولا يخفى أن الشريعة قد كفلت لهؤلاء الجناة كافة صور الدفاع عن أنفسهم، وإحاطتهم بسياج من الحماية حتى تتأكد إدانتهم بالدليل القاطع الذي لا يعتريه شك. إن الرحمة الحقة هي التي تقيم العدل، وتهدم الظلم وتفوض أركان الباطل، هذه هي الرحمة التي يرضاها الله ورسوله، وتكفلت بتحقيقها الشريعة الإسلامية السمحة بصورة لا يستطيع مجاراتها في تحقيق هذه الرحمة أي قانون وضعي، مهما كان واضعه، ومشرعه فهي شريعة الله سبحانه وتعالى الذي أنزل من القرآن ما هو شفاء، ورحمة للمؤمنين، وأمرنا بالاستجابه إليه؛ لأن في الاستجابة إليه الحياة.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 1. ثانيًا: في مجال تحقيق العدل والإصلاح 1 الشريعة الإسلامية قد ساوت بين الناس في الثواب والعقاب، ولا يملك أحد أن يغير من ذلك شيئًا بالزيادة أو النقصان، نظرًا لأي سبب من الأسباب التي لا تخضع للموازين الشرعية؟ والقوانين الوضعية، وإن نصت على العقوبة بصورة موضوعية، إلا أنها جعلت تحديدها للعقوبة تحديدًا مرنا يخضع لكثير من الاعتبارات التي يراها القاضي، سواء أكانت اعتبارات موضوعية، أو أخذت شكل الموضوعية. بل وأكثر من ذلك تخضع هذه القوانين لسلطان التغيير، والتبديل والإلغاء والإعفاء، ولكم اكتوى الناس بذلك كثيرًا. ب- الشريعة الإسلامية قد ساوت بين الجريمة، وعقوبتها في جرائم الاعتداء على النفس، ففرضت القصاص وقررته. وليس بخاف ما يحققه ذلك النظام العقابي من شقاء صدر المجني عليه، وذويه الأمر الذي يحقق القضاء على مصدر من مصادر إشاعة الجريمة، في المجتمع، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2 بيد أن القانون الوضعي في أغفل المساواة بين الجريمة وعقوبتها، وعلى الأخص في مسائل القصاص هذه.

_ 1 من الآية 24 من سورة الأنفال. 2 الآية 179 من سورة البقرة.

الأمر الذي ينتج عنه ليل نهار ما تعانيه المجتمعات في حياتها من عبث، وفوضى وثأر ودماء. ج- الشريعة الإسلامية لم تترك جريمة ما من الجرائم دون عقاب، خصوصًا الجرائم التي يقع الاعتداء فيها على الضروريات التي تمس الإنسان في ذاته وعرضه. ثم هي مع حرصها على الإنسان ذاته وعرضه، لم تترك الباب ليلجه كل من يريد الأضرار، وإنما الضوابط المحكمة دون إسراف أو تضييع، تحقيقًا للعدل وصونا لكرامة الفرد والمجتمع. بيد أن القوانين الوضعية قد أغفلت كثيرًا الحفاظ على هذه الضروريات ولم تعاقب عل كثير مما يرتكب من جرائم، بدعوى الحضارة والحرية، فالعقاب فيها يكون على فعل أو قول اعتبر جريمة، وعلى هذا فما لم يجرمه القانون فلا عقاب عليه. د- حقوق الأفراد من وجهة نظر التشريع الإسلامي منح إلاهية، أعطاها الله سبحانه وتعالى للأفراد، وفق ما تقضي به مصلحتهم جميعًا، وهذا قيد شرعي لاستعمال الحق، يقضي مراعاة مصلحة الغير، وعدم الإضرار بالجماعة. والتشريعات الوضعية لم تعرف هذا القيد إلا مؤخرًا، فقد كانت نظرياتها إلى عهد تأخذ بمبدأ أن للفرد مطلق الحرية في استعمال حقه، بمعنى أنه السيد المطلق الذي لا يحد من سلطانه في استعماله في ذلك أي إنسان، حتى ولو تعسف في استعمال هذا الحق، وأضر بالآخرين

ولا يخفى أن الشريعة الإسلامية، وهي تراعي حق الجماعة، ولم تهمل انفرد، وإنما عنيت به، وعملت على إنصافه1. ج- الشريعة الإسلامية لا تعاقب بالحبس، أو السجن إلا على القليل من الجرائم، وبذا أراحت المجتمع من السهر على هؤلاء المحبوسين والمسجونين، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أراحت هؤلاء من كل ما يلاقونه في حبسهم أو سجنهم، فلم تقطعهم عن الحياة، والناس وعنه مباشرة أعمالهم ومزاولة انتاجيتهم، إلا في القليل النادر. بينما أغلب عقوبات القوانين الوضعية في الحبس أو السجن، وفي هذا ما فيه من إفساد للفرد، وتعطيل لإنتاجه، بل وقضاء على أسرته، وإلزام المجتمع بحراسته، والسهر عليه وما إلى ذلك، مما فيه من إذكاء لروح الصراع، والكراهية بين الفرد ومجتمعه، الأمر الذي لا يثمر إلا الخسران للفرد، والمجتمع كليهما. و قد يزعم البعض أن الشريعة فيما وضعته من نظام عقابي لم تراع حالة الجاني، ولم تهتم بنفسيته وإصلاحه، بل قست عليه وأهملته، وعاقبته بعقوبة لا تتناسب وجريمته، إذ هي تقطع يده إذا سرق قدرًا يسيرًا، كما تعاقب الشهود على جريمة الزنا بالجلد إذا لم يبلغ عددهم أربعة، مع أنهم لم يزنوا وإنما أبلغو عما شاهدوه. ومثل هذا الزعم لا يجوز إيراده.

_ 1 المدخل للفقه الإسلامي أد/ سلام مدكور 420-422 ط الرابعة".

إذ إن الشريعة الإسلامية في نظامها العقابي قد اهتمت بالجاني، وعنيت به وتلمست له كل طريق التخفيف ودرء العقوبة. كما أنها لم تبث عيونها وجواسيسها وراء كل فرد تتلمس له الزلل، فكم جاء من يعترف بجرائمه، فإذا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- يعرض عنه تاره. ويقول له أخرى: هل صليت معنا..؟ ليس عليك من وزر دون أن يسأله، ويتقصى جريمته وذنبه1. كما أن ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-، وقد جاءه رجل يقول له: إن لي بنتًا أسلمت، وأصابت حدًا من حدود الله، فعمدت إلى الشفرة لتذبح نفسها، فأدركتها، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة، فهي تخطب إلي يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها الذي كان؟ فقال عمر: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لأن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلك نكالًا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاح المسلمة العفيفة2. فعمر رضي الله تعالى عنه يهدد الرجل بالعقاب إذا كشف ستر ابنته ... صونا للحياء وسترًا على المسلمين، وحفاظًا على الفضيلة فيهم، كما أنه يعاقب الغلمان الذين سرقوا حين ألجأهم الجوع لذلك، بل قال لسيدهم: إنكم تجيعون غلمانكم، لو سرقوا مرة أخرى، فإني لن أقيم الحد إلا عليك أنت. كما أنه أبطل حد السرقة عام الرمادة، مراعاة لحال الناس....

_ 1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص113 وما بعدها ط مصطفى الحلبي. 2 الدفاع الاجتماعي ضد الجريمة أد/ سلام مدكور. بحث في مجلة إدارة قضايا الحكومة العدد الرابع من السنة الثالثة عشرة ص14-15.

وقد أفتى أبو عباس -رضي الله تعالى عنهما- بعدم قطع يد من سرق دابة غيره، وذبحها لدفع الجوع1. من هذا كله يبين مدى للتشريع العقابي في الإسلام من فضل السبق في الدعوة إلى اعتبار ظروف المجرم، وجعل ذلك مبدأ واجب الالتزام، والخروج بهذا المبدأ إلى حيز التطبيق الفعلي على يد الرسول الكريم، والصحابة الأطهار. هل بقي مع هذا زعم لقائل. كما أن هناك أمرًا تجب الإشارة إليه، إلا وهو أن الشريعة الإسلامية، وإن كانت فيما وضعته من نظام عقابي قد لاحظت فيه حال المجرم، واهتمت به فهي أيضًا قد اهتمت بالمجني عليه، وأولته من الرعاية والعناية، والاهتمام ما هو أحق به وأولى. أما من حيث كون العقوبة لا تتناسب والفعل، فإنه ينبغي أن لا ننظر إلى الشيء القليل الذي سرقه الجاني فقط، وإنما لا بد وأن ننظر إلى المسروق منه، ونرعاه -فقد كان آمنا في بيته وأهله على نفسه وماله، فإذ به يفزع بدخول السارق عليه، وما قد يسببه ذلك من هلع وخوف

_ 1 يقول الأستاذ الدكتور: محمد سلام مدكور في بحثه الدفاع الاجتماعي ضد الجريحة ص6 وما بعدها: "وهنا نشير إلى أن الإسلام قد سبق إلى اعتبار ظروف المجرم، واختلاف النظرة إليه باختلافها، وأن من العلماء المسلمين من تبين ذلك من أمثال ابن حجر الهيثمي الذي أشار في مقدمة كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر إلأى أن كثيرًا من الجرائم، والآثام تختلف النظرة إليه باختلاف حال الآثم من جهة كونه مصرًا على جريمة، وكونها هفوة أو عمدًا، وكونه مضطرًا أو غير مضطر، فليس كل المذنبين في نسبة واحدة ولا مستوى واحد.

لكل من في البيت، وقد يكون الأطفال أو النساء، وقد يكون السارق مسلحًا، وقد يلجأ إلى استعمال ما معه من سلاح إلى آخر ذلك. فالشارع الحكيم حين يعاقب السارق بقطع يده، لم ينظر فقط إلى عشرة الدراهم التي سرقها، وإنما نظر إلى الجريمة بكل أبعادها كما أن السارق الذي سرق عشرة الدراهم، لم يتقصر على هذه العشرة لعفته أو حاجته إليها، ولكنه مغلوب على أمره في اقتصاره عليها؛ لأنه لم يجد غيرها، وإلا لو وحد لما ترك. كما أن السارق قد عرض نفس المجني عليه وأهله، وعرضه للضياع والخطر، فقد يسمرئ السارق إشباع رغبته، ويمعن في إجرامه بما يسول له الشيطان والهوى. من أجل ذلك كله، وما علمه الشارع الحكيم كان العقاب الذي وضعه هو العلاج الشافي، والحاسم الذي تبرأ به الأمة، ويحفظ عليها أمنها وسلامتها1. أما بالنسبة لمعاقبة من شهدوا بواقعة زنا، أو أبلغوا عنها ولم يكتمل حساب الشهادة، فإن ذلك مبني على أساس أن الأصل براءة من ينسب إليه فعل ما دام لم يكتمل دليل إثبات هذا الفعل في حقه. كما أن دعوة الشريعة الإسلامية إلى الستر على النفس، وعلى الآخرين ظاهرة وبينة. ولا يخفى أن في التبليغ عن حادثة زنا، أو الشهادة بها دون أن يكتمل نصاب الشهادة -وإن كان ذلك لن يترتب عليه عقاب الجاني، أو

_ 1 المسئولية الجنائية، ومراعاة ظروف الجاني في الفقه الإسلامي أد/ سلام مدكور بحث بمجلة إدارة قضايا الحكومة العدد الأول السنة الثانية والعشرون ص13-14.

المدعي عليه -إلا أن ذلك-، وإن لم يكن فيه تجن ومكر ومكيدة -قد أصاب المبلغ عنه بأضرار في عرضه، وحيائه لا تقف عند حد المساس به هو فقط، بل تتعداه إلى أهله وذويه الذين يعتزون به، والذين قد يصل بهم الأمر إلى قتله والتخلص منه، وقد يعترضون أيضًا لهذا المبلغ، أو الشهود الذين لم يكتمل نصاب شهادتهم، كل ذلك بهدف الانتقام، والثأر لعرضهم وكرامتهم. إذا كان الأمر سيترتب عليه ذلك كله، وأكثر أفلا يكون الأولى أن يستر المسلم أخاه1، وأن يتحرى الدقة، وأن يتأكد أن الداني الذي رآه في حالة جنايته عدد كبير سيفتح أمره حتى وإن لم تقم العقوبة عليه. ثم قبل هذا كله وبعده، هذه العقوبة قد نصت عليها الآيات الكريمة، في قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2. إن الطبيب الماهر والحاذق هو الذي يضع لرواده النظاز العلاجي الدقيق والدواء الناجح، والذي وأن كان مرًا وقاسيًا في ظاهره إلا أن السلامة والأمن، والراحة في المحصلة النهائية لكل ما وضعه هذا الطبيب، وعالج به وإن كان قد بتر بعض الأعضاء ليسلم الجسد كله.

_ 1 لا يتعارض ذلك مع ما جاء في قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} ، فقد ذكر القرطبي أن النهي هو حيث يخاف الشاهد ضياع الحق، وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حينما استشهد، ويخبر حيثما استخبر، الجامع الأحكام القرآن ج2 ص1223. 2 الآية 9 من سورة النور.

ثالثًا: الحفاظ على الضروريات الإنسانية أنزل الله سبحانه وتعالى الشرائع السماوية بوجه عام، والشيعة الإسلامية الخاتمة بوجه خاص، للمحافظة على مصالح الناس وسلامتهم، واهتمت بصفة خاصة بالضروريات التي تتضمن بقاء نظام الحياة أمنا مستقرًا، وكفلت الحفاظ على هذه الضروريات، وعاقبت على أدنى مساس بها، "ذلك؛ لأن جلب المنفعة، ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم". ويقصد المصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخلق رحمة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقابهم. ونسلهم ومالهم، فكل ما يضمن حفظ هذه الأصول الخمسة، فهو مصلحة. وكل ما يفوت هذه الأصول، فهو مفسدة ودفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضروريات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشارع بقتل الكافر، المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعة، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفس. وإيجاب عقوبة الشرب، إذ به حفز العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنى، إذ به حفظ النسف والأنساب، وزجر النصاب والسراق، إذ به حفظ الأموال التي هي معايش الخلق. وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة، والزجر عليها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل، أو شريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح

الخلق، ولذا لم تخلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل والزنى، والسرقة وشرب المسكر1. وعلى هذا اعتبر المساس بهذه المصالح الضرورية جريمة من الجرائم التي وضعت لها عقوبات صارمة، بهدف حفظ إنسانية الإنسان، وأكدت الأديان كلها أهمية المحافظة على هذه الأمور الضرورية، بكل الوسائل الفعالة، وما ذلك إلا عناية من الشارع بالخلق وشئونهم. رابعًا: الردع هدف للعقوبة خلق الله الإنسان، وجعل له الخلافة في الأرض، وسخر له الكون، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة. ولكن الإنسان مع هذا كله يستولي عليه شيطانه، ويشيع في الكون فسادا، وهذا ما رأته الملائكة بنور من الله، وطرحته عند أخبار الله لهم بأنه جاعل في الأرض خليفة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2. وبهذا العلم الرباني أنزل الله للإنسان من الشرائع ما تقوم اعوجاجه، وتصلح من شأن نفسه، وما ذلك إلا رحمة بهذا الإنسان

_ 1 المستصفى للغزالي ج1 ص217، 288. المسئولية الجنائية، ومراعاة ظروف الجاني في الفقه الإسلامي أد/ سلام مدكور ص6 وما بعدها، بحث منشور بمجلة قضايا الحكومة العدد 1 السنة 22. 2 الآية 30 من سورة البقرة.

وبرا به وتظهير له، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1. والتطهير في الدنيا يتأتى باجتناب ما يلوث، والابتعاد عنه، لذا وضعت الشرائع معالم السلوك محذرة من الغواية، ومنبهة على الرشاد. فإذا غلب الهوى، ولم يغن تحذير ولا إرشاد، وعلق اللوث بالثيباب. كان لا بد لهذه الثياب من أن تطهر، وأن تعرض على ما يزل علق بها، ويخلصها من دنسها. وما ذلك بالنسبة للإنسان إلا بالتزام ما شرعه الله سبحانه وتعالى، وبينه رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحدد حدوده التي هي ردع، ومنع من ارتكاب المعصية، وزجر وإيلام لمن وقع فيها، وفكرة الردع والزجر هذه، قد ثار حولها جدل ومناقشة. بل إن مجرد محاولة استجلاء بعض أهداف التشريع العقابي، قد لاقت نفسها كثيرًا من الاعتراضات. فيقول ابن حزم منكرًا مقالة من ذهب إلى القول بأن الردع، والزجر هدفان من أهداف تشريع العقوبة. قالوا: إن الحدود إنما جعلت للردع، قلنا لهم: كلا، ما ذلك كما تقولون إنما ردع الله تعالى بالتحريم، وبالوعيد في الآخرة فقط، وأما بالحدود فإنما جعلها الله تعالى كما شاء، ولم يخبرنا الله تعالى أنها للردع ... ولو كانت للردع كما تدعون لكان ألف سوط أردع من مائة، ومن ثمانين ومن أربعين ومن خمسين، ولكان قطع اليدين والرجلين أردع من

_ 1 من الآية 6 من سورة المائدة.

قطع يد واحدة، ولكنا نقول: هي نكال وعقوبة وعذاب وجزاء، وخزي كما قال الله تعالى في المحاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، إلى أن يقول: وإنما التسمية في الدين إلى الله تعالى، لا إلى الناس فصح أنه جعلها كما شاء حيث يشاء، فلم يجعلها حيث لم يشأ1. وما قاله ابن حزم ليس بجديد على أحد، إذ هو من هؤلاء الذين يقفون عند ظاهر النص، ويرى أن ما فوق ذلك مرجعه إلى الله سبحانه وتعالى. لكن ماذا يمنع المؤمن من أن يحاول استجلاء النصوص، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حث على الاجتهاد، ولتحقيق مصحلة البشر جميعًا خصوصًا، وإن عقوبات الحدود ليست هي الغاية، والهدف من تشريعها، وإنما هي وسيلة حاول المشروع بها أن يحول بين الإنسان واقتراف الجريمة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} 2. كما أن ذهب إليه ابن حزم، واعتمد عليه في إلغاء القول بالردع من أن الحد لو كان ألفًا لكان أردع، هو قول بعيد في القياس بل لا يصلح؛ لأن الحد لو كان ألفًا كان أردع، ولما كان إلا إهلاكا وقتلًا. والله سبحانه وتعالى لم يرد ذلك بعباده، وإنما أراد أن يباعد بينهم، وبين معاصيه، وأن ينتهوا عما نهى عنه رحمة منه ورأفة3.

_ 1 المحلى ج13 ص89. 2 من الآية 147 من سورة النساء. 3 أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية ص120 ط1968.

وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 1. فالله سبحانه وتعالى قد حذر، فمن الناس من يتبع طريق الله، ومنهم من ينساق وراء الشيطان، وهؤلاء لا بد لهم من رادع قوي، وزاجر شديد عنيف يردهم عما انساقوا فيه، وما ذلك إلا ما وضعه المشرع من حدود وعقوباته. والردع في حدد منه ما هو موجه للناس جميعًا، ومنه ما هو خاص واقع على من اقترف الجناية، وبتعبير آخر، منه ما هو ردع وقائي، ومنه ما هو ردع علاجي. الردع الوقائي: الإنسان مزاج من مادة وروح، والصراع بينهما دائم متصل ... وتحيط الدوافع المادية بالإنسان من كل جانب، بل وفي أعماقه ذاتها، تتخذ هذه الدوافع في النفس الأمارة بالسوء. والعصمة لقليل من الخلق الذين اصطفاهم الله رب العالمين. أما غير هؤلاء فإن الله سبحانه وتعالى من رحمته بهم، قد هيأ لهم ما يتسلحون في مواجهة الشهوات والنزوات. ومن هذا الذي يتسلحون به، وما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقوبات تردع وتهدد، تشعل خشية العار وخوف الفضيحة، وتركى مخالفة الألم وبأس العقوبة.

_ 1 من الآية 30 من سورة آل عمران.

وكلما أزداد الدافع إلى الجريمة ناسبه ازدياد بأس العقوبة حتى يصل إلى حد القتل، تناسبًا طرديًا. وهكذا يقوى الردع كلما كان الدافع قويًا متسما بصفة العمومية، ليحول بين الإنسان، وبين ما تغويه به نفسه. هذا هو جانب الردع الوقائي، فيما شرعه الله سبحانه وتعالى من عقوبات. وهو ما عناه الماوردي بقوله: "والحدود زواجر وضعها الله تعالى للردع عن ارتكاب ما حظر، وترك ما أمر لما في الطبع من مغالبة الشهوات الملهية عن وعيد الآخرة بعاجل اللذة، فجعل الله من زواجر الحدود ما يروع به ذا جهالة حذرًا من ألم العقوبة، وخيفة من نكال الفضيحة، ليكون ما حظر من محارمه ممنوعًا، وما أمر به من فروضه متبوعًا، فتكون المصلحة أعم، والتكليف أتم1. وتمتاز فكرة الردع، وهدف الزجر في التشريع العقابي من وجهة نظر الشريعة عن القانون، فيما يأتي: أولًا: نوعية العقوبات في الشريعة تحقق الردع الكافي لحماية الحقوق. ثانيًا: لزوم العقوبة الشرعية للجناية التي حددها الشارع، بحيث لا يمكن تغييرها أو تبدليلها تحت أي ظرف من الظروف التي لا يقرها الشرع الشريف، فإذا أقر الشرع تبديلها أو إلغاءها، فإن ذلك يهدف منفعة عامة، وطبقًا لقواعد العدالة والإنصاف، والناس جميعًا أمام ذلك سواء.

_ 1 الأحكام السلطانية للماوردي ص213، المطبعة المحمودية.

الردع العلاجي: خاطب الله سبحانه وتعالى الناس جميعها بما يصلح حالهم إن أطاعوه، ووضع لهم روادع، وزواجر إذا حدثتهم أنفسهم بالعصيان والتمرد، وقد تؤتى هذه الروادجع، والزواجر ثمارها إذا صادفت معدنا طيبًا، وقد تصادف أرضًا جدباء فلا يثمر فيها نبت، وتضعف هذه الروادع والزواجر عن أن تتغلب على خبث هذه الأرض، وفسادها ومن هنا كان لزامًا على من يريد الإصلاح أن يعالج هذه التوبة، علاجًا ينفي عنها خبثهعا، ويزيل فسادها. وهذا هو الردع العلاجي، الذي يتتبع موضوع الداء فيأتي عليه، ويجز عفنه ويكسر ما فيه من حدة الفساد والعصيان. {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} 1. هكذا الطبيعة البشرية إذا ما أجدب فيها الردع الوقائي، كان لزامًا لشفائها ذلك الردع العلاجي، الذي ينزل بالشقي الذي انتهك حرمات صانها الشارع ورعاها. فمعاقبة ذلك الشقي تردعه، وتمنعه من أن يعادو جنايته؛ لأن ما حل به من عقاب كفيل بأني يشفي نفسه السقيمة بما طبع، وترك من بصمات الألم والنكال على جسد الشقي وماله. ذلك الجزاء نفسه كفيل بأن يشفي صدور من وقعت عليهم الجناية كل ذلك متى كانت العقوبة متناسبة مع العمل الجنائي، وظروفه، وحال من

_ 1 من الآية 74 من سورة البقرة.

ارتكبه، فلا تكون قاسية مهلكة في موضع العلاج، ولا تكون هينة ضئيلة في موضع تناسبه الشدة والصرامة1. وصدق الله العيظم إذ يقول: {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} 2 هذا وإن توافقت فكرة الردع الخاص في ظاهرها في كل من الشريعة والقانون، إلا أن هناك فروقًا جوهرية تجدر الإشارة إليها: أولًا: من جهة القضاء النهائي على القصد الإجرامي لدى المجرم، واقتلاع ما نبت من بذور الشر في نفسه وفكره، فإن النظام العقابي في الشريعة الإسلامية يحقق هدم ما يكون قد تكون لدى الجاني من ذلك كله، وما يعضده من سطوة الجاني، ومنعته واستعلائه على المجني عليه. إذ إن النظام العقابي للشريعة الإسلامية يقضي في جرائم الاعتداء على النفس والأعضاء بالقصاص، فإذا بالمجني عليه، أو من يقوم مقامه، وقد كان مستضعفًا بالأمس يقف أمام الجاني الذي كان متسلطًا بالأمس أيضًا، وتنعكس الحال، ويصبح الضعيف قويًا والقوي ضعيفًا، يلتمس العفو والصفح، والأمر حينئذ موكول لمن كان مجنيًا عليه بالأمس، فإن شاء اقتص من الجاني، وإن شاء عفا عنه. وفي كلا الحالين لم يصبح للجاني حول، ولا قوة أمام المجني عليه، وفي ذلك قضاء على الشر في نفسه الجاني، وشفاء لصدر المجني عليه.

_ 1 تبصرة الحكام لابن فرحون ج2 ص114 سنة 1302هـ. 2 من الآية 48 من سورة الزخرف.

ومثل هذا لا يمكن تحقيقه إذا وقعت على الجاني عقوبة من العقوبات الوضعية؛ لأنها لن تحقق زجر الجاني بالصورة السابقة، كما أنها لن تشفي صدر المجني عليه فيظل مشحونًا، ينتظر الفرصة المواتية ليثأر لنفسه، وتتكرر المأساة. أو يضعف ويفترسه الوهن، والخذلان كلما رأى المعتدي. ثانيًا: من حيث الردع المدني الذي لا يجدي غيره مع من تبلدت نفسه، وبهذا الردع البدني تحقق الشريعة هدفين: 1- إيلام المجرم إيلامًا جسديًا ليذوق مثل ما نزل بالمجني عليه، والشأن في هذا أن يقوم الاعوجاج، وكل من تحدثه نفسه بارتكاب جناية لكيلا يعرض نفسه مرة أخرة لما لاقاة من الآم أوجعت جسده. ولا يخفى أن ما ينزل بالجاني من عقاب يكون في ملأ من الناس، وفي ذلك الألم كله للجاني، وأشق عليه من وقع السياط. 2- إنزال العقوبة بالجاني بالصورة التي رسمها التشريع الإسلامي لا يستغرق وقتًا طويلًا، يترك بعده الجاني ليرعى شئون نفسه ومن يعول، حتى لا يضيع، ويضيعهم معه. وذلك على العكس من العقوبة في النظام الوضعي التي تقضي بسجنه، فيضيع هو من يعولهم، ويخرج من سجنه، وقد تمرس على الإجرام، ولقن دروسه على أيدي عتاة الأشرار، فلا يلبث أن يعود إليه مرة ومرات.

المطلب الثاني: موقف التشريعيين على الجريمة منذ نشأة فكرتها

المطلب الثاني: موقف التشريعيين على الجريمة منذ نشأة فكرتها ... المطلب الثاني: موقف التشريعيين من العقاب على الجريمة منذ نشأة فكرتها كل من يقدم على ارتكاب ما من الجرائم، لا بد له قبل القيام بها من عقد النية على ذلك، وإرادة هذا العمل الإجرامي إرادة تصرف الجوارح، وتوظف التفكير في حياكة خيوط ما أرد من الجرائم. غير أن التنفيذ قد يأتي وفق ما أراد الجاني، أو أقل مما أراد لأمر حال بين الجاني وبين أن يتم قصده. والتشريع الجنائي الإسلامي لا يعاقب على ما خالج النفس، وانشغل به القلب. ولقد أرسى هذا المبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيما روي عنه "من أن الله سبحانه وتعالى قد تجاوز لأمته عما وسوست، أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم"1. فلا عقاب إذا على النية التي يبيتها شخص من الأشخاص للقيام بأي عمل إجرامي، ما دام لم يقم بما نواه، ولم يحقق ما عزم عليه.

_ 1 يقول الإمام الشافعي -رضي الله عنه: أطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلامي ويسرون غيره، ولم يجعل له أن يحكم عليه بخلاف حكم الإسلام، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا ... إلى أن يقول: وبذلك قضت أحكام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيما بين العباد من الحدود، وجميع الحقوق وأعلمهم، أن جميع أحكامه على ما يظهرون، وأن الله يدين بالسرائر. الأم للإمام الشافعي ج7 ص268، 269، ط دار الشعب.

هذا هو موقف التشريع العقابي من وجهة النظر الإسلامية، أما الشرائع الوضعية، فإنها لم تأخذ بهذا المبدأ إلا منذ فترة وجيزة، وهي وإن أخذت به الآن إلا أنها لم تلزم به التزامًا كاملًا، إذ لا زال التجريم فيها يضع ضمن ما يعاقب عليه، سبق الإصرار والترصيد، فالجريمة تزاد عقوبتها إذا صاحبها سبق إصرار وترصد، وتقل عقوبتها إذا لم تقترن بذلك1. العقاب على الأعمال التحضيرية: الأعمال التحضيرية التي تسبق القيام بجريمة ما من الجرائم نوعان:

_ 1 يقول الإمام الشافعي مبينا جانبًا من مواقف الشريعة الإسلامية من العقاب على النية: "أطلع الله رسوله على قوم يظهرون الإسلام، ويسرون غيره ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا.. وقد أعلم الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} ، فجعل حكمه عليهم جل وعز على سرائرهم، وحكم نبيه عليهم في الدنيا على علانيتهم. الأم ج7 ص268. ويعلق الشيخ أبو زهرة على ذلك كله بقوله: "هذه حقيقة يذكرها التاريخ لمحمد رسول الله، ويذكرها التاريخ للإسلام الحر، ومن احتقار العقول أن يقارن هذا بما كان من زعماء النصارى في عهد قسطنطين عندما دخل الرومان في المسيحية، وما كان من محاكم التفتيش في القرون الأخيرة، وما يسلكه سياسة اليوم من نشر الجاسوسية، والتنقيب عن الخواطر والقلوب، ولكن هكذا الإسلام، وسيستمر حجة على الناس إلى يوم القيامة. "الجريمة ص388".

أ- أعمال تعتبر في حد ذاتهلاا جريمة، وذلك مثل حمل سلاح غير مرخص بقصد استعماله في جريمة ما من الجرائم، والتي بدأ الجاني في أعمال التحضير لها. وكمن يشتري خمرًا ليستخدمه في جريمة ينوي ارتكابها. فهذه الأعمال التحضيرية، وما يماثلها هي في حد ذاتها أعمال إجرامية يعاقب عليها في كل من الشريعة والقانون1. ب- أعمال هي في حد ذاتها مباحة، ولكنها قد تدخل ضمن الأعمال التحضيرية لجريمة ما من الجرائم، وذلك مثل من يعد مفاتيح ليستعملها في فتح أبواب بقصد السرقة. ومن يشتري سلاحًا بقصد إعداده لاستعماله في جريمة من الجرائم. ومن يعد أماكن ليجمع فيها الأقوات يقصد تخزينها، واحتكارها ورفع ثمنها والتحكم في الناس إن ذلك، وإن كان لا يعد ارتكابًا لما أعد له من جرائم؛ لأنه عمل مباح في أصله؛ ولأنه لم يتخط بعد مرحة الإعداد، إلا أنه وسيلة لهذه الجرائم وإعداد للقيام بها، ومثل هذه الأعمال يرى فقهاء الحنفية والشافعية، أنه لا عقاب عليها، وقد أخذ برأيهم رجال القانون2.

_ 1 الجريمة للشيخ أبو زهرة ص389-391 ط دار الفكر العربي شرح قانون العقوبات أد/ محمود نجيب حسني ص362ط 1977. 2 ولذ أجاز الشافعي بيع السلاح لمن يشتريه ليقتل به إنسانًا. فقد جاء في كتاب الأم: "ألا ترى أن رجلًا لو اشترى سيفا ونوى بشرائه أن يقل به كان الشراء حلالًا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع، وهكذا لو باع البائع سيفًا من رجل يرى أنه يقتل به رجلًا كان هكذا، الأم ج7 ص270، ويراجع أستاذي الدكتور سلام مدكور أصول الفقه الإسلامي ص182 للشيخ أبو زهرة الجريمة ص386-388 أد: محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات ص362.

ويرى ابن القيم، والقرافي أن مثل هذه الأعمال، وسائل لفعل إجرامي حرمته الشريعة، وعليه فإنها تأخذ حكم الفعل الإجرامي التي هي وسيلة له، من حيث الحرمة ويعاقب عليها بعقوبة أقل من عقوبة الجريمة الأصلية، التي هي الغاية لمن اتخذ هذه الوسائل وصولًا إليها. وذلك في حالة عدم الوصول إلى الغاية التي ابتغاها الجاني، ووقوفه عند مرحلة الإعداد والتحضير1.

_ 1 يقول ابن اقيم: وسائل المحرمات في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها، وارتباطها بها، فوسائل المقصود تابعة للمقصود. وكلاهما مقصود بقصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب شيئًا، وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها، ويمنع فيها تحقيقًا وتثبيتًا له، ومنعا ممن أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقصا للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه تأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي أعلى الدرجات الحكمة والمصلحة والكمال. إعلام الموقعين ج3 ص117 طبع الشيخ منير الدمشقي. ويقول القرافي: الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسط "فالوسيلة تأخذ حكم الغاية" الفروق للقرافي ج2 ص32، أستاذ الدكتور سلام مدكور أصول الفقه ص180 وما بعدها، الشيخ أبو زهرة الجريمة ص246.

مرحلة ارتكاب الفعل: وجهة نظر كل من الشريعة والقانون في العقاب عليها. تبدأ هذه المرحلة بإقدام الجاني على فعل من الأفعال هو الطريق إلى تحقيق الجريمة التي يريد ارتكابها. وهذا الفعل الذي يبدأ به، وينظر إليه في حد ذاته بصرف النظر عن قربه، أو بعده من الركن المادي للجريمة. فمن وجهة النظر التي جاءت بها الشريعة الإسلامية. يحرم هذا الفعل الذي يبدأ به الجاني الإقدام على ارتكاب جريمته. فمن يحاول فتح باب غير مأذون له في فتحه، قاصدًا من وراء فتح هذا الباب ارتكاب جريمة سرقة لزمتة العقوبة التعزيرية على محاولة فتح الباب هذه. بل إن من يراقب بيتا لينقض على ما فيه، ويسرقه يعزر أيضًا على مجرد هذه المراقبة. ومن يوجد في مكان، ومعه آلة من الآلات التي يستخدمها السراق في تسهيل عملياتهم الإجرامية، وكسر أقفال أبواب المتاجر مثلًا، في وقت غير معتاد السير فيه، أو في مكان ليس من حقه التواجد فيه في مثل الوقت الذي ألقي القيض عليه فيه، ومعه هذه الأدوات والوسائل حتى ولو لم يستخدم هذه الأدوات، أو الوسائل في شيء مما أعدت له، لزمته عقوبة تعزيرية مناسبة على هذا كله1، أما فقهاء القانون

_ 1 الأحكام السلطانية للماوردي ص206-207ط مطبعة السعادة.

الوضعي، فإن الماديين منهم يرون أن لا عقاب إلا على البدء في تنفيذ الركن المادي للجريمة، وما عدا ذلك، فلا عقاب عليه عندهم. وأما أصحاب المذهب الشخصي، فإنهم متفقون مع وجهة النظر الشرعية، ويرون أنه يكفي لتحقيق الشروع، أن يبدأ الفاعل في تنفيذ فعل ما سابق مباشرة على تنفيذ الركن المادي للجريمة، ومؤد إليه حتمًا، وهنا يأتي دور نية الشخص، ومعرفة أحواله لكي يمكن أن يبين قصده1. هذه هي وجهة نظر كل من الشريعة والقانون، يبين منها حرص الشريعة على أمان الفرد، وأمن المجتمع صورة لا تخضع لمقاييس غير منضبطة.

_ 1 يعتبر الجاني مرتكبًا لمعصية يعزر عليها، وبالتالي يعتبر شارعًا في الزنا إذا دخل منزل لمرأة التي يقصد الزنا بها، أو اجتمع بها في غرفة واحدة، أو قبلها أو ضمها، أو نعل ذلك من مقدمات الزنا، وهو يعاقب على =

المطلب الثالث: بين التشريعين في مجال التنظيم العقابي

المطلب الثالث: بين التشريعين في مجال التنظيم العقابي أولًا: من حيث حكم البناء التشريعي النظام العقابي في الشريعة الإسلامية شق من الشريعة ذاتها، التي وضعها الله سبحانه وتعالى وأحكم بناءها، إحكامًا لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه. فقد نهى سبحانه وتعالى كل من حاول أن يحل لنفسه، أو لغيره ما حرم الله، أو أن يحرم على نفسه أو الأخرين ما أحله الله؛ لأن محاولة ذلك افتراء وكذب: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} 1، فسلطة التحريم أو الإباحة للشارع وحده، كما جاء النهي صريحًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} 2، والاعتداء مراد به تغيير الأحكام. ويوضح هذه القضية الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور بقوله: هذا بالنسبة للأحكام القطعية، فليس لكائن من كان تغيير الحكم القطعي الذي جاءت به الشريعة، أو الاتيان بتشريع ليس من تشريع الله

_ = هذه الأفعال، ولو أن بينه وبين الفصل المادي ليكون لجريمة الزنا أكثر من خطوة. ويرى أبو عبد الله الزبيري تعزير الجاني باعتباره مرتكبًا لمعصية، أو شارعًا في السرقة إذا وجد بجوار المنزل المراد سرقته، ومعه مبرد ليستعمله في فتح الباب، أو منقب لينتقب به الحائط، ولو أنه لم يبدأ في فتح الباب، أو ينقب الحائط إذا ثبت أنه جاء بقصد السرقة، ويرى تعزير الجاني كذلك إذا وجد مرصدًا بجوار محل السرقة بترصد غفوة الحارس، ليسرق المتاع الذي يحرسه. الأحكام السلطانية ص206-207 التشريع الجنائي ج1 ص349 الأستاذ الدكتور نجيب حسني، شرح قانون العقوبات ص357 وما بعدها. الأستاذ الدكتور نجيب حسني، شرح قانون العقوبات ص279 وما بعدها. 1 الآية 116 من سورة النحل. 2 الآية 87 من سورة المائدة.

ورسوله، أما الأحكام التي لم يرد فيها نص قطعي ولا إجماع، وهي المعروفة بالأحكام الظنية، فإنه يمكن للحاكم التصرف فيها، وربطها بمصالح الناس على أساس ما وضعه الشارع من أدلة وأمارات. وليس هذا الحق قاصرًا على الحاكم فقط، بل إن للمكلف إنشاء الوجوب فيما ليس بواجب، كما في المنذور الذي تنتقل به الطاعة غير الواجبة إلى الوجوب1. ولقد أنتج هذا الأحكام التشريعي في الحدود، وأصالته وفي العقوبات التعزيرية التي تخضع للقواعد الثابتة استقرارًا قانونيًا، لكل من اتبعه وآمن به، لم يتوفر مثله لأحد من الناس الذين يحتكمون إلى التقنيات الوضعية، مع أن تحقيق الاستقرار القانوني مطلب من أهم مطالب، وأهداف المشرعين الوضعيين، بل هو عندهم أهم من هدف العدالة نفسها2. وتتمثل أولى دعائم الاستقرار القانوني التشريعي الإسلامي في كون القواعد الحاكمة للسلوك قواعد موضوعية، تؤثر في السلوك، ولا تتأر به؛ لأنها هي التي توجده بالصورة التي تراها مناسبة، وليس

_ 1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء، أد/ محمد سلام مدكور ص325-342 ط الثانية سنة 1965م دار النهضة العربية. 2يرى د/ محمود مصطفى أن الاستقرار القانوني كهدف للقانون. يجب أن يعلو على هذه العدالة؛ لأنه من الممكن أن يضحي للقانون بمبدأ تحقيق العدالة، إذا كانت في ذلك مصلحة عامة، ولكن المصلحة العامة لا تبرر الاعتداء على الاستقرار القانوني، شرح قانون العقوبات القسم العام فقرة 6 ص69.

للسلوك الحق في إيجادها بالصورة التي يجنح إليه، كما أن الشارع قد قضى بتحريم مخالفة السلوك السليم، ولا يمكن تغير هذا الوصف. وهذا ما تفتقده باقي النظم التشريعية؛ لأن القاعدة المقررة فيها لا تقوم على أساس من الموضوعية التي تخالط فيها العقيدة، كما هو الأمر في التشريع الإسلامي، إذ الموضوعية في النظم الوضعية إن وجدت موضوعية غير ملتزمة؛ لأنها نتاج تناقص المذاهب الفكرية لكل من مدرسة من المرادس التشريعية، الوضعية، التي بنيت على أسس متغايرة ومتناحرة، الأمر الذي أدى إلى عدم استقرار القاعدة القانونية في التشريع الوضعي1. ثانيًا: أحكام التشريع العقابي أحد أركان البناء العقائدي للمسلم الإسلام نظام متكامل، مترابط الأحكام، متماسك البنيان، إذا تطرق الوهن إلى أحد أركانه تداعت له سائر الأركان. لهذا كان حرص الصديق -رضي الله تعالى عنه- على أن تظل أركان الإسلام بعيدة عن أن يمسها أي عدوان أو تقصير، فحارب مانعي الزكاة، وهو في أول أيام ولايته، وقال قولته المشهورة: "والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه للرسول -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم عليه".

_ 1 علم العقاب أد/ محمود نجيب حسني ص60-72. مقال أد/ محمد البهي بعنوان: التخلف الحضاري بين المسلمين، مجطلة الوعي الإسلامي العدد 111 مارس 1974. مقال أد/ سمير الجزوري المجلة الجنائية العدد الأول مارس سنة 1965م ص115.

والقضية التي كانت تشغل فكر الصديق لم تكن قضية التمرد على أداء الزكاة، وإنما قضية تكامل العقيدة الإسلامية. وإذا كان جحد الزكاة أمرًا يتصدع به بنيان العقيدة، فما بالها إذا عطلت أحكامها العقابية؟. والشريعة الإسلامية قد أحاطت أبناءها بكل ما يكفل لهم الوقاية. فإذا تسرب الشر إلى أحدهم خصته الشريعة بالعلاج من كل ناحية آخذة بيده منقذة له مما تردى فيه، واضعة في اعتبارها تناسب الدواء والداء. ويوضح ذلك بالنظر إلى ما حرمته الشريعة، وكيف وضعت كل أساليب الحماية للإنسان، لتقيه الوقوع في المهلكات، وتدفع عنه غائلة الشيطان، وما يزين. فالشريعة مثلًا قد وضعت نظامًا يحكم علاقة الرجل بالمرأة التي تشاركه الحياة بالصورة التي تحفظ علها دينها وحياءها، وتصون عفتها وجمالها، فبينت الشريعة حدود الثياب والسلوك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} 1. {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} 2.

_ 1 الآية 59 من سورة الأحزاب. 2 الآيتان 30-31 من سورة النور.

هذه صورة رسمتها الشريعة، وبينتها بيانًا يحقق الحفظ والصيانة، فستر الجسد يحفظ على المرأة دينها، ولا يعرضها للإيذاء. وفي غض البصر صيانة ووقاية؛ لأن البصر رائدة الشهوة، ورسولها وحفظه أصل حفظ الفرج، فمن أطلق بصره أورده نفسه موارد الهلكات. فالنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، فالنظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثقم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جارفة، فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع منه مانع، وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده1 بمثل هذا حاول التشريع الإسلامي الحيلولة بين الإنسان، وبين الوقوع في جريمة الزنا، وصدق الله العظيم الذي قال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} 2، فالنهي عن الاقتراب نهي عما يؤدي إلى الجريمة3. ثم وضع من العقاب عليها ما يزجر ويردع، من وقع فيها أو من تسول له نفسه الاقتراب منها. وحماية للإنسان وصونا لعرضه، أحاد المشرع هذه العقوبة الرادعة الزاجرة بأسوار وحواجز، وأقام على جانبي الطريق الموصل اليها حصونا يمكن أن يحتمي بها الجاني صونا لنفسه، وسترا لعرضه

_ 1 الداء والدواء لابن قيم الجوزية ص122 ط 1958م. 2 الآية 32 من سورة الإسراء. 3 يقول القرطبي: وهذا أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه لا تدنوا من الزنى تفسير القرطبي ج5 ص3869.

هذه كلها وسائل، وحصون أحيط بها التشريع العقابي الإسلامي مستهدفًا بها تحقيق الغرض الذي شرع من أجله. كما أن هذا التشريع العقابي بكل ماله من وسائل، وحصون وزواجر وروادع، يمثل أحد أركان البناء العقائدي للمسلم، هذا البناء الذي يربطه بربه وخالقه. أما التشريع العقابي الوضعي، فإنه وإن استند على خلفية من النظام الاجتماعي الذي يحاول حمايته، إلا أن تصور وجود "التكامل بين القواعد العقابية، وقواعد النظام الاجتماعي الأخرى أمر صعب. قليل الوجود، نظرًا؛ لأن النظام الاجتماعي لأي مجتمع ما هو إلا نتاج تطور طويل، كما أن التطور لا يحدث في مختلف الميادين في المجتمع الواحد بمقاييس متاسوية، نظرًا؛ لأن أسسه الفكرية لم تنفرد شخص واحد بوضعها، وإنما هي نتاج ما وضعه آلاف الأشخاص على مدى عصور التاريخ المختلفة، ولكل منهم عقيدته، ومفاهيمه وميوله. وأصدق دليل على ذلك يتمثل في نظرة النظم العقابية الوضعية لجريمة الزنا مثلًا، وما قرر لها من عقاب إذ لا يكاد نظام عقابي وضعي يتفق مع الآخر في ذلك التكيف القانوني لهذه الجريمة، بل إن النظام العقابي في البلد الواحد مثلًا لا نجده يتفق مع باقي النظم الاجتماعية لهذا البلد في الاتجاه العام زيادة على انعدام الوسائل الوقائية، بل وأكثر من هذه وجود وسائل الترغيب في الجريمة، والعمل على انتشارها، فأي ترابط إذن بين ما يحكم المتجمع من نظام عقابي وضعي، وبين ما يدين به المجتمع من نظم اجتماعية أخرى، تقرر دستور سلوكه في غدوه ورواحه؟؟؟.

ثالثًا: أساس التشريع العقابي في كل من النظامين، وما يترتب عليه من فروق جوهرية بالنسبة للعقوبة. التشريعي العقابي لحمته وسداه الدين، يقوم به ويعتمد عليه، والدين طبيب يعالج المريض، رضي أم لم يرض، وذهب إليه أو أعرض عنه، يهمس في إشفاق محذرًا، فإذ لم يفد هذا ووقعت الجناية، تعهد الدين الجاني بالعناية، والرعاية فيما يلزمه به من عقوبات. وهذه العقوبات منها ما ينزل بالجاني في الدنيا، وسيأتي بعضها في هذا البحث، ومنها من ينتظر الجاني في الآخرة، إذا أفلت من الجزاء الدنيوي، وما ينتظر في الآخرة أشد وأنكى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} 1. فالجاني طبقًا للنظام العقابي الإسلامي لا يستطيع الإفلات من العقاب لمن استطاع الإفلات في الدنيا، فلن يمكنه ذلك في الآخرة. فالتشريع الإسلامي قد أعلم الناس جميعًا: أنه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 2، وأعلمهم أن الشهود في الآخرة حاضرون، ولا يمكن ردهم أو الطعن عليهم: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.

_ 1 الآيتان 68-69 من سورة الفرقان. 2 الآية 18 من سورة ق. 3 الآيتان: 20-21 من سورة فصلت.

وغير خاف أنه ما دام اللأمر بهذه الصورة من الحساب والعقاب، فإنه لا بد منتج أعظم الأثر في إبعاد من تسول له نفسه الاقتراب من الجريمة خصوصًا، وأن التشريع الإسلامي قد مد يده للإنسان من بداية الطريق وحذره، وباعد بينه وبين المعصية: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 1. {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 2، نهي حتى عن مجرد الاقتراب. وهذا النهي إن امتثله الإنسان، باعد بينه وبين الجريمة، وما يتبعها من عقوبة، وليس ذلك فقط فهذا قد يشاركه فيه النظام العقابي الوضعي من قريب أو بعيد، لكن التشريع الإسلامي ينفرد بأنه يطي الإنسان على مجرد الامتثال والابتعاد عن الشر، أعظم جائزة تفرح بها نفسه ويجني ثمارها، ألا وهي الجنة الواسعة. وعلى العكس منه من انساق وراء الشر، ووقع في الجريمة: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} 3. وتفسير ذلك أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا جعال الله جزاءه جهنم، وغضب عليه ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا، ومن لم يقتل نفسًا، فكأنه قد أحيا الناس جميعًا، نظرا؛ لأنه صان حرمتها واستحياها خوفا من الله سبحانه وتعالى4. هذه هي طبيعة الجزاء الديني عقابًا على الفعل، ومثوبة على الانقياد، والترك أما العقاب الوضعي، فإنه وإن عاقب على الفعل، إلا أنه لا يثيت

_ 1 من الآية 32 من سورة الإسراء. 2 من الآية 151 من سورة الأنعام. 3 من الأية 32 من سورة المائدة. 4 تفسير القرطبي ج3 ص2143-2144 ط دار الشعب.

على الترك كما أن العقاب الوضعي لا ينزل إلا بالجاني الذي فشل في إخفاء جنايته، أما المتمرس الماهر فإن النظام الوضعي لا يستيطع النيل منه، بل يحميه ولا يعاقبه، في الوقت الذي يتغامز الجناة على هذا النظام، ويهزءون به. فكم من المجرمين يقرر النظام الوضعي براءتهم، ليس ذلك راجعًا؛ لأنهم أبرياء حقيقة، ولكن؛ لأن أمر التفتيش والضبط مثلًا لم يصدر لمن قبض عليهم، وهم متلبسون -بالصورة التي لا يراها القانون تسمح بمطاردة المجرمين وضبطهم. وبذا يبرأ المجرمون، ويخرجون وهم يتغامزون على هذا النظام وليس معنى ذلك أن النظام العقابي الإسلامي يبطش بالأبرياء، ولكنه وإن كان يلتزم أيضًا بشكليات معينة حتى ينزل العقاب بالجناة، إلا أن عدم اكتمال هذه الشكليات، لا تغل يده على إنزال عقاب بالمجرمين، إذ إن درء العقوبة الحدية مثلًا لا يترتب عليه إعفاء الجاني من عقوبة تعزيرية يراها القاضي مناسبة لحال الجاني، وما ارتكب من أفعال، وهذا فرق جوهري بين النظامين، لا يسطعي مكابر إنكاره وآثاره. كما أن النظام الإسلامي يقوم على أساس ديني، ولذا فإنه حتى مع أشد الناس جريمة، يحافظ على إنسانيتهم ولا يمتهنها، حتى ساعة إنزال العقوبة بهم.

هذه ملامح التجريم، والعقاب في كل من التشريع الإسلامي والتشريع الوضعي، بدا فيها واضحًا مدى ما بين النظامين من بون شاسع، كما هو بين من وضع كل من التشريعين. لعل الناس يصححون ما هم عليه، ويسلكون سبل ربهم. وعلى الله قصد السبيل.

الباب الأول: الشبهات

الباب الأول: الشبهات مدخل ... الباب الأول: الشبهات تمهيد: حارب الإسلام الجريمة.. ووضع لها عقوبات رادعة، حرصًا منه على أمن الأفراد، وحمايتهم حتى من أنفسهم، فطالب الجميع بأن يستروا أنفسهم. وحض الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس على ذلك بقوله: "أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، فمن أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله" 1. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أستر على الناس من أنفسهم. فقد روي أنه جاء رجل، فقال: "يا رسول الله أن أصبت حدًا فأقمه علي، فلم يسأله عنه، وحضرت الصلاة، فصلى الرجل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما قضى النبي الصلاة قام الرجل إليه، فقال: يا رسول الله إني أصبت حدًا فأقم في كتاب الله، قال: "أليس قد صلت معنا؟ قال: نعم. قال: فإن الله قد غفر لك ذنبك"، أو قال: "حدك" 2. وقد روى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورضي الله عنهم أجمعين كل هذه المعاني، والتوجيهات الرحيمة الحكيمة، وعلموا أن من ستر مسلمًا في الدنيا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال مسلمًا من عثرته في الدنيا أقاله الله تعالى من عثرات يوم القيامة.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي ج17 ص21 "ط المصرية". الموطأ للإمام مالك ص244 "الطبعة الثانية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية". 2 صحيح البخاري ج8 ص207 "ط دار الشعب".

ولهذا، فإن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه، لما جاءه ماعز قبل أن يذهب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقص عليه ما كان من أمره، قال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ قال: لا. قال أبو بكر: تب إلى الله واستتر بستر الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده. ولم تقر نفس ماعز، فذهب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه، وقال له ما قاله لأبي بكر، فقال له عمر: اذهب فاستتر بستر الله تعالى، تب إلى الله، فإن الناس يعبرون ولا يغيرون، والله تعالى يغير، ولا يتغير فتب إلى الله، ولا تخبر أحدًا. ولم تقر نفس ماعز حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقال له ما قاله لأبي بكر وعمر، فأعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأخذ ماعز يكرر مقالته، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكرر إعراضه عنه، حتى أكثر ماعز على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والرسول يحاول تلقينه الستر على نفسه، وليحمله على الرجوزع عن إقراره تلميحًا وتصريحًا، فيقول له -صلى الله عليه وسلم: "لعلك قبلت، لعلك لامست، لعلك فاخذت، لعلك. لعلك، فلما لم يجد منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا الإصرار أرسل إلى أهله يسألهم عنه، أيشتكي؟ أبه جنة"؟ 1. كل ذلك في محاولة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- للستر على عبد من عباد الله، ثم يضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مبدأ يعلنه أكل من يتبع الإسلام، ادرؤوا عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان

_ 1 الموطأ للإمام مالك ص244-245 ط الثانية المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، المغني لابن قدامة ج8 ص193-199، شرح فتح القدير ج5 ص216.

له مخرج، فخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خهير من أن يخطئ في العقوبة1. ثم يقول -صلى الله عليه وسلم- لمن جيء به، واعترف بسرقته، ولم يوجد معه المتاع، "وما أخالك سرقت "مرتين أو ثلاثًا" 2، أي ستر أبلغ من هذا، أو أستر منه؟: تعلم فقهاء الإسلام هذا وعملوا بمقتضاه، فيقول ابن قدامة: ويستحب للإمام، أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالإقرار. التعريض للمقر بالرجوع، إذا تم، والوقوف عن إتمامه إذا لم يتم. ويستدل ابن قدامة لذلك بما كان من أمر ماعز، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمن أقر بالسرقة: "ما أخالك فعلت". ثم يقول: ويحكى عن أبي الدرداء أنه أتي بجارية سوداء سرقت، فقال لها: "أسرقت؟ قولي: لا، فقالت: لا، فخلى سبيلها. كما يروى عن الأحنف أنه كان جالسًا عند معاوية، فأتي بسارق، فقال معاوية: أسرقت؟ فقال له بعض الشرطة: أصدق الأمير. فقال الأحنف: الصدف في كل المواطن معجزة، فعرض له بترك الإقرار3. أيبقى بعد هذا مقالة أو ادعاء مدع يزعم قسوة النظام العقابي في التشريع الإسلامي؟ إنه النظام القويم الذي يحفظ على المجتمع أمنه، ويدرأ العقوبة بقيام شبهة ينثلم بها عقد أركان الجريمة، أو دليل إثباتها اللذان لا بد وأن يكونا متكاملين أوثق ما يكون التكامل، وأتمه وإلا تغايرت العقوبة، أو برئ المدعي عليه.

_ 1 نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص118 ط مصطفى الحلبي. 2 المراجع السابق ص150. 3 المغني ج8 ص212 "ط مكتبة الجمهورية العربية".

الفصل الأول: تعريف الشبهة وأثرها في الحدود

الفصل الأول: تعريف الشبهة وأُثرها في الحدود المبحث الأول: المراد بالشبهات أولا: عند علماء اللغة ... الفصل الأول: تعرف الشبهة وأثرها في الحدود المبحث الأول: المراد بالشبهات أولًا: عند علماء اللغة الشبهات جمع شبهة، والشبهة بضم الشين المعجمة، وسكون التحتية الموحدة، الالتباس. وأمور مشتبة، ومشبهة، مشكلة، يشبه بعضها بعضًا وشبه عليه، خلط عليه الأمر حتى اشتبه بغيره. وشابهه وأشبهه ماثله، وتشابها واشتبها: أشبه كل منهما الآخر، وشبه عليه الأمر: لبس عليه الأمر. ويسمى الأمر غير المتميز والمتلبس شبهة، لكونه يشبه الحق، وليس حقًا1.

_ 1 لسان العرب لابن منظور. المعجم الوسيط ج1 ص474 المصباح المنير ج1 ص324 القاموس المحيط للفيروزآبادي ج4 ص286 "ط المطبعة المصرية أساس البلاغة للزمخشري ج1 ص477 ط دار الكتب: الصحاح، للجوهري ج1 ص48.

ثانيا: عند فقهاء الشريعة

ثانيًا: عند فقهاء الشريعة اهتم فقهاء الشريعة الإسلامية، وعنوا عناية فائقة بالجرائم الحدية، وتحدثوا عنها حديثًا تناول هذه الجرائم، وعقوباتها من كل نواحيها وأركانها وشروط إثباتها. ولكنهم لم يعرضوا هذا كله مصنفًا، بجمع كل ما يتصل بالجريمة، وعقوبتها في صورة متتابعة متكاملة. وإنما جاء حديثهم عن الجرائم وعقوباتها، وما يتصل من شروط وأركان، وما يعتري الأفعال المجرمة من شبهات تخرجها عن دائرة التجريم الحديث، حديثًا متناثرًا. لهذا سأعرض ما جاء من تعريف للشبهة عند بعض الفقهاء الذين وضعوا تعريف لها مثل فقهاء الأحناف. أما من لم يضعوا تعريفًا مستقلًا لها، فسأحاول أن أجمع ما جاء من حديث لهم من الشبهات، وأستخرج مه ما يرسم، ويحدد معنى الشبهة عندهم. وهذا البيان الذي وضعه الجرجاني للشبهة بيان لها بحسب حال الجاني الذي اختلط عليه حل الفعل وتحريمه، ولا يوجد ما يقوي أحد الاحتمالين عند الجاني، أو يغلب أحدهما على الآخر1. وتردد الفعل بين الحال والحرمة في نظر الجاني، ينتج غالبًا من اختلاف الفقهاء في بيان الحكم مسألة لم يرد في حكمها نص صريح. ففي مثل هذه المسألة يعمل كل من الفقهاء رأيه في استنباط حكم لها، بقدر ما يتيسر له من علم ومعرفة واجتهاد، حتى يوصله ذلك كله إلى استنباط حكم معين، وقد يكون هذا الحكم مخالفًا لما رآه الآخرون من الفقهاء، كما قد يكون موافقًا لرأيهم، فإذا كان بعض الفقهاء قد رأى رأيا في حكم مسألة ما من المسائل، ورأى البعض الآخر رأيا مخالفًا

_ 1 التعريفات لعلي بن محمد الحسيني الجرجاني ت816هـ ص11.

لنفس المسألة، فإنه في مثل هذا ومع وجود التعارض، والاختلاف في الرأي ينتج عدم تيقن حكم لمثل هذه المسألة الخلافية. ويتضح هذا فيما يأتي من أمثلة للمسائل الخلافية بين الفقهاء. أ- يرى فقهاء الأحناف القول بصحة الزواج الذي لم يتول العقد فيه ولي الزوجة نيابة عنها. وعلى هذا فمن عقدت لنفسها عقد زواج، فإن هذا العقد صحيح عند الأحناف ما دام قد حضره الشاهدان. فإذا تم دخول في ظل مثل هذا العقد، فإن الفقهاء الأحناف يرون أنه دخول مباح؛ لأنه تم في ظل عقد صحيح1. أما باقي فقهاء المذاهب الأربعة، فإنهم يرون أن الزواج الذي يتم من غير حضور ولي الزوجة -التي تحتاج إلى وجوده لكونها بكرا ليس لها مخالطة سابقة، أو ممارسة لمثل هذا- زواج باطل. وعلى هذا، فإنه إذا حدث دخول في ظل مثل الزواج، فإنه يصبح دخولًا حرامًا تلزم به العقوبة، لكونه تم في ظل عقد غير صحيح2، وعلى هذا أصبح للفقهاء رأيان في حكم هذه المسألة.

_ 1 فتح القدير لابن الهمام ص256 "ط مصطفى الحلبي". 2 وقد استدل أصحاب هذا الاتجاه على ما ذهبوا إلى القول به بما روى ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". وبما روت السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة، فهو سفاح خاطب، وولي وشاهدان". المهذب للشيرازي ج2 ص40، الخرشي ج3 ص165 وما بعدها. الوجيز لأحكام الأسرة أد. سلام مدكور ص115. -117 "ط النهضة العربية سنة 1978م".

الأول يقول بصحة الزواج، وعليه فالدخول مباح. والثاني يقول ببطلان مثل هذا الزواج، وعليه فالدخول حرام. ووجود هذا الخلاف ينتج عنه عدم تيقن الحكم بالحل، أو الحرمة وينتج عن ذلك شبهة تدرأ الحد عمن وقع منه الدخول في ظل مثل هذا الزواج. ويماثل ما سبق مما اختلف الفقهاء فيه، اشتراط وجود شاهدي عقد الزواج وقت العقد. فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط وجوج الشاهدين عند قيام العقد وانعقاده، فإذا تأخر وجودهما لم ينعقد العقد وعلى هذا، فإن من يدخل في ظل عقد لم يحضر وقت إجرائه شاهدان، فإنه يكون قد أتى فعلا حرامًا معاقبًا عليه حتى، ولو حضر شاهدان بعد إجراء العقد، وقبل الدخول وأخبرا بما حدث، أما فقهاء المالكية فإن الشهادة، وإن كانت مطلوبة عندهم وقت العقد، إلا أن المشهور عندهم أن وقت وجوبها هو قبل الدخول. وعلى هذا فإنهم يرون صحة الزواج الذي لم يحضره شاهدان، لكنه لا يجوز الدخول إلا بعد حضور الشاهدين. فوجود الشاهدين عند المالكية شرط لإباحة الدخول، وليس حضورهما شرطا لصحة العقد.

وعلى هذا، فمن دخل في ظل عقد لم يحضر إجراءه شاهدان، لكنهما حضرا بعد إجراء العقد، فإن دخوله هذا مباح عند فقهاء المالكية. ويبين من هذا أن للفقهاء رأيين في حكم من دخل في ظل عقد لم يحضره شاهدان وقت إجرائه، وإن كانا قد حضرا قبل الدخول، وأخيرًا بما تم من عقد. الرأي الأول: وهو رأي الجمهور، إن مثل هذا الدخول يعد دخولًا في ظل عقد غير صحيح. الرأي الثاني: وهو المشهور عند فقهاء المالكية. أن مثل هذا الدخول دخول في ظل عقد صحيح1. ووجود مثل الخلاف ينتج عنه عدم تيقن الحكم، الأمر الذي يصبح معه الفاعل مترددًا في حكم فعله بين الحال أو الحرمة. ووجود الفاعل على هذه الحالة ينهض شبهة تدرأ الحد عنه. وهكذا كل خلاف ينتج تردد الفعل بين الحل، والحرمة بسبب تعارض أقوال الفقهاء، وتفسيراتهم المتباينة. وقد ذكر ابن قدامة جانبًا من ذلك قوله: "ولا يجب الحد

_ 1 حاشبة الباجوري ج2 ص102 المهذب ج2 ص40، فتح القدير ج3 ص256 وما بعدها، الخرشي ج3 ص167، الوجيز لأحكام الأسرة أ. د: سلام مدكور ص45.

بالوطء في نكاح مختلف، كنكاح المتعة1 أو الشغار2، والتحليل3 والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها من طلاق بائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيها شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات"4. وتعريف الجرجاني للشبهة تعريف قاصر، نظرًا؛ لأنه حصر الشبهة

_ 1 نكاح المتعة هو كما يقول ابن عطية: أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل مسمى على ألا ميراث بينهما، وقيل: هو ما ليس بولي ولا شاهدين، وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المتعة قال: وإنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح والطلاق، والعدة والميراث بين الزواج والمرأة نسخت. القرطبي ج2 ص1700 "ط دار الشعب. المهذب ط دار النهضة العربية". 2 نكاح الشغار هو: أن يزوج ابنته أو أخته من رجل، على أن يزوجه ذلك ابنته، أو أخته، "ويكون بضع كل واحدة منهما صداقًا للأخرى". وهذا الزواج غير جائز، فإذا عقد عقده كان باطلًا. المهذب ج2 ص46. 3 نكاح التحليل: أن يتزوج رجل امرأة ليحللها لزوجها الذي طلقها للمرة الثالثة، وهو الذي قال عنه -صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن مسعود لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المحلل والمحلل. "أو أن يتزوجها على أنه إذا وطئها فلا نكاح بينهما، وذلك ليحللها لزوجها الأول، وفيه رأيان الأول أنه باطل، والثاني أنه زواج صحيح ويبطل الشرط. القرطبي ج2 ص957، المهذب ج2 ص957، المهذب ج2 ص46 أحكام الأسرة أ. د: سلام مدكور ص100. 4 المغني لابن قدامة ج8 ص183-184 "ط مكتبة الجمهورية العربية".

في الركن الشرعي للجريمة، ولم يشمل ما قد يطرأ على دليل إثباتها من شبهات، وهذا قصور مخل بكون التعريف جامعًا مانعًا. كما عرف ابن الهمام الشبهة بأنها ما يشبه الثابت، وليس بثابت1 أورد ابن قدامة اثناء حديثه، عمن تزوج ذات محرم ما يفيد الإباحة، والحل إلى حد أن الذي قام بالفعل قد اعتقد حله، وإباحته نتيجة وجود هذه الشكلية التي رتب عليها اعتقاده. أما من حيث الواقع، فإن الفعل لا يزال كما هو محرم، وغير مباح وهو الجانب الواقعي كان بعيدا كل البعد عن فكرة من قام بالفعل معتقدًا إباحته وقت قيامه به. فلو لم يكن معتقدًا إباحة فعله نتيجة وجود هذا المبيح من الناحية الصورية، لم تعن عنه هذه الصورة شيء، ولم تنهض بها شبهة تترتب عليها درء العقوبة2. ج- أما فقهاء الشافعية، فقد تحدثوا عن الشبهات حديثًا بينوا فيها أنواعها وذكروا أمثلة لها، ولكنهم لم يوردوا في شروحهم الفقهية تعريفًا للشبهة، وإن كان قد جاء في بعض كتب القواعد، والفروع ما يمكن عده عريفًا للشبهة بأنها ما تسقط الحد3.

_ 1 فتح القدير ج5 ص249 "ط مصطفى الحلبي، وقد جاء مثل ذلك -أيضًا في بدائع الصنائع ج7 ص36 "ط المطبوعات العلمية" البحر الرائق ج5 ص12. 2 ورد هذا التعريف بمعناه في المغني لابن قدامة ج8 ص182 "ط مكتبة الجمهور العربية". 3 مغني المحتاج للشربيني ج4 ص144 "ط مصطفى الحلبي سنة 1958م.

كما جاء فيما أورده السيوطي بأنها ما جهل تحليله على الحقيقة، وتحريمه على الحقيقة1. وهذا التعريف للشبهة يوافق تمامًا ما عرفها به الجرجاني الحنفي من تعريف سبقت الإشارة إليه. غير أن جهل الحكم، وعدم الاهتداء إلى قوم فصل فيه لا يجوز عده من الشبهات المسقطة للعقوبة الحدية على إطلاقه؛ لأن منه ما يعتبر كذلك، ومنه ما لا يعتد به الفقهاء، ولا يعدونه مما يدرأ الحد، وسيأتي بيان ذلك بما يسمح به المقام من تفصيل. د- أما فقهاء الماليكة، فإنهم مع اهتمامهم بالحديث عن الشبهات، وبيانهم لأنواعها إلا أنهم لم يوردوا لها تعريفًا، وإن كان فيما قالوه عنها من بيانهم لأنواعها، وحديثهم عن كل نوع، وذكرهم أمثلتها وما يعتد به، وما لا يعتد. قد وافقوا ما قاله الفقهاء الذين سبق ذكر تعريفاتهم للشبهة، بصورة تكاد تكون مطابقة، إلا في القليل النادر، والذي سيأتي ذكره عن الحديث عن الشبهات التي تعتري أركان الجريمة، وعرض وجهات نظر الفقهاء في كل منها2. هـ- أما فقهاء الشيعة، فإنهم قد عرفوا الشبهة عند حديثهم عن جريمة الزنا، فقالو أبو القاسم الموسري: المراد بالشبهة الموجهة لسقوط

_ 1 الأشباه والنظائر للسيوطي ص109-110، المواهب السنية لسليمان الجوهري الشافعي، مطبوع بهامش الأشباه والنظائر للسيوطي ص245-249. 2 الخرشي ج8 ص75-70، حاشية الدسوقي ج4 ص313 وما بعدها.

الحد: هو الجهل عن تصور، أو تقصير في المقدمات مع اعتقاد الحلية حال الوطء1. ومع أنه واضح أن هذا التعريف قد ورد عند الحديث عن جريمة الزنا، إلا أنه قد ورد ما يفيد أنه هو تعريف الشهبة بصفة عامة، إذا ما قصرناه على قولهم: هو الجهل عن قصور، أو تقصير في المقدمات مع اعتقاد الحلية. وذلك نظرًا لما جاء في صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله حين قال: لو أن رجلًا دخل في الإسلام، وأقر به ثم شرب الخمر، وزنا وأكل الربا، ولم يتبين له شيء من الحلال والحرام، لم أقم عليه الحد إذا كان جاهلًا2 من هذا يتبين أن الشبهة عندهم تتمثل في الجهل بالحكم مع اعتقاد الحلية. ومنشأ هذه الاعتقاد الخاطئ يرجع إلى كون الجاهل بالأحكام قريب عهد بالإسلام، أو نشأ في منأى عن الناس، ولم تتح له معرفة الأحكام الصحيحة. مع ملاحظة أن يكون جهلة هذا لقصوره لا لتقصيره؛ لأن من كان جهله ناتجًا عن تقصيره، فإنه جهل لا يلتفت إليه، ويلزم من كان جهله لهذا السبب بعقوبة ما يأتيه من أفعال

_ 1 مباني تكملة المنهاج ط1 ص169 "ط النجف الأشرف بالعراق". 2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص167 "ط النجف الأشرف بالعراق".

وقد بينوا ذلك بقولهم: أما من كان جاهلًا بالحكم عن تقصير، وملتفتا إلى جهله حال العمل، حكم عليه بالزنا وثبوت الحد، وذلك؛ لأنه عالم بالحكم الظاهري، وجهله بالواقع لا يكون -في مفروض المسألة- عذرًا له، ومثلوا لذلك بامرأة تزوجت في عدتها حالة كونها تعلم أن عليها عدة، ولكنها لا تدري كم هي، حيث ألزمها بالحد، وعللوا ذلك بقولهم: إذا علمت أن عليها العدة لزمتها الحجة، فتسأل حتى تعلم1. وعرفها صاحب البحر الزخار بأنها: "توهم الفاعل، أو المفعول بأن ذلك الفعل سائغ له". أو بأنها "ما أوجبت ظن الإباحة"2. وهذان التعريفان قد توسعا في الشبهة كثيرًا عن التعريف الأول. حيث جعلا مجرد توهم الفاعل، أو المفعول أن ما يقوم به من أعمال سائغ له جائز أن يأتيه، شبهة من الشبهات الدارئة للحد. ومجرد التوهم هذا لا ضابط له، وهذا أمر يفتح باب ادعاء الشبهة على مصراعيه. وإن كان تقيد ذلك بقيد الجهالة المغتفرة أمر لا بد منه حتى يتسنى قبول هذين التعريفين.

_ 1 البحر الزخار للمرتضى ج5 ص145-147 "ط الخانجي سنة 1948م". 2 التاج المذهب لابن قاسم العجس ج4 ص209-220 "ط مصطفى الحلبي سنة 1947م".

وهذا ما جاء على لسان جمهور فقهاء الشيعة، وإن لم يكن قد جاء بلفظ يدل على تخصيص هذين التعريفين فقط، وإنما جاء في معرض الحديث عن الوطء بشبهة حين عرفه أبو القاسم الحلبي، ومن وافقه بأنه: الوطء الذي ليس بمستحق في نفس الأمر مع اعتقاد فاعله الاستحقاق، أو صدوره بجهالة مغتفرة في الشرع، أو مع ارتفاع التكليف بسبب غير محرم1. وبهذا يمكن ضبط ما قد يفهم من عموم التوهم، ورده إلى الحد الذي -يحكم القول بالشبهة، وهو الجهالة المغتفرة شرعًا. ولا يخفى ما في تعريف فقهاء الشيعة للشبهة من قصور أيضًا، إذ أنهم لم يشيروا إلى ما قد يعتري طرق الإثبات من شبهات. وقد عرف الشيخ أبو زهرة الشبهة بأنها: الحال التي يكون عليها المرتكب، أو تكون بموضوع الارتكاب، ويكون معها المرتكب معذورًا في ارتكابها، أو يعد معذورًا عذرًا يسقط الحد، ويستبدل به عقاب دونه، على حسب ما يرى الحاكم2. وهذا التعريف الشبهة حاول فيه واضعه أن يتتبع الحالات التي تنشأ الشبهة عند وجودها، سواء أكانت لصيقة بالجاني، أو وجدت في محل الجناية، وموضوعها.

_ 1 المختصر النافع لأبي القاسم الحلبي ص290-292 ط وزارة الأوقاف سنة 1377هـ الخلاف لأبي جعفر الطونسي ج30 ص180-182 "ط طهران سنة 1382هـ. 2 العقوبة للشيخ محمد أبو زهرة ص218 "ط دار الفكر العربي".

كما تضمن هذا التعريف أيضًا شرط قيامها بالنسبة للجاني، وهو أن يكون معذورًا في ارتكابها، أو يعد في ذلك. كما أن قول الشيخ أبو زهرة: ويستبدل به عقاب دونه، يفهم منه أنه لا بد من إلحاق عقاب بالجاني الذي قامت الشبهة في حقه، ولا يخفى أن من الشبهة ما يترتب على قيامها إسقاط العقوبة كلية، وتبرئة المدعى عليه مما نسب إليه تبرئة لا يمكن معها إلحاق أي عقوبة به على الواقعة المنظورة. وهذا التعريف للشبهة لم يتضمن أي إشارة إلى ما يمكن أن يشوب أدلة الإثبات من شبهات يترتب على قيامها، ووجودها درء العقوبة الحدية. وبعد هذا العرض لتعاريف الشبهة عند الفقهاء، يمكن أن أستخلص من كل هذه التعاريف أن الشبهة المسقطة للعقوبة الحدية هي:- ما يعتري أحد أركان الجريمة، أو دليل إثباتها من خلل يدرأ عقوبتها الحدية، ويؤدي هذا التعريف أن أحد أركان الجريمة -وعلى الأخص ركنها الشرعي، أو المعنوي- لم يخلص من شبهة، سواء أكانت في انطباق النص، أو كانت نتيجة تعارض أدلة التحريم والإباحة. أو كانت الشبهة لصيقة بالفاعل من حيث ما يعتري أهليته، وقصد مما يخص الركن المعنوي. كما يشمل التعريف أيضًا، ما يمكن أن يعرض دليل إثبات الجناية من شبهة يصبح بعدها غير كاف لإقامة العقوبة الحدية على

الجاني، سواء أكان دليل الإثبات إقرار الجاني، أم شهادة الشهود، ويتضح هذا كله، فيما يأتي من أمثلة: أ- شبهة أنتجها اختلاف الفقهاء حول انطباق اللص على المكان الذي وقعت فيه الجريمة. وذلك في حالة ما إذا ارتكب مسلم جناية حدية في دار الحرب، فالفقهاء قد اختلفوا في إلزامه عقوبة جنايته الحدية، فمنهم من يرى إلزامه العقوبة الحدية على جنايته. ومنهم من يرى عدم إلزامه ذلك نظرًا لعدم قدرة الإمام على الجاني في المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة. وأصحاب هذا الرأي يشترطون لإقامة العقوبة الحدية أن يكون الإمام قادرًا على مرتكب الجناية الحدية وقت ارتكابه لها، فإذا كان قد ارتكبها في دار حرب، فإنه حينئذ لا تلزمه العقوبة الحدية لعدم قدرة الإمام عليه، وقت ارتكابه الجناية، ووجود هذا الخلاف ينهض شبهة ينتج عنها درء الحد عن الجاني1. ب- شبهة نتجت من وجود تعارض بين أدلة الحل والحرمة في ظاهر الأمر، وإن كانت هذه الأدلة غير متعاونة في الحقيقة، ولكن بعضها قد خصص إطلاق البعض الآخر وعمومه. ويتحقق ذلك في حالة ما إذا سرق الوالد من مال ولده. إذ أن نصوص تجريم السرقة تشمل في عمومها هذه الواقعة، غير

_ 1 شرح فتح القدير ج5 ص266 "ط مصطفى الحلبي".

أنه قد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ما يفيد حل مال الابن لأبيه بوجه ما من الوجوه التي تثبت له فيه حقًا. وعلى هذا تكون الواقعة قد خصصت بنص آخر، يعارض في حكمه ومدلوله انطباق النص العام على الواقعة، وما يترتب عليه، ووجود مثل هذا ينتج شبهة يترتب على وجودها عدم إلزام الوالد عقوبة السرقة الحدية إذا سرق مال ولده1. ج- شبهة نتجت بسبب جهل الجاني جهلًا يعتد به، ومن أمثلتها التي ذكرها الفقهاء، الرجل الذي يدخل بيته، ويأوي إلى فراشه، فيجد فيه امرأة فيعتقد أنها زوجته نظرًا لتقاربهما، وتشابههما فيواقعها على أساس اعتقاده أنها زوجته، ثم يبين أنها امرأة أخرى غير زوجته. ففي مثل هذه الحالة من جهل الفاعل جهلًا ينتفي معه قصده الجنائي، يرى الفقهاء قيام شبهة الجهل هذه بدرء العقوبة الحدية عن الفاعل. وهكذا كل ما ينتج انتفاء القصد الجنائي، أو يزيل أهلية الفاعل بحيث يوجد خلل في قيام الركن المعنوي للجريمة2. د- أما ما يعتري دليل إثبات الجنايات الحدية من شبهات، فيتوقف على نوع دليل الإثبات.

_ 1 فيض القدير ج2 ص50 "ط المطبعة التجارية طبعة أولى سنة 1357هـ" المغني لابن قدامة ج10 ص152 "ط المنار ط أولى". 2 المغني لابن قدامة ج2 ص184 "ط مكتبة الجمهورية العربية".

فإذا كان الإقرار، فإن ما يعتريه من شبهات كثير منها على سبيل المثال: كون الإقرار غير مفصل، كمن يقول: إنه زنى، ولم يزد على ذلك ولا يخفى أن كلمة الزنا كلمة تشمل الجناية الحدية وغيرها، بدليل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان، والرجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" 1. فالإقرار بمثل هذه الصورة إقرار غير واضح، ولا تلزم المقر العقوبة الحدية بمثله، ومن ذلك أيضًا من يقر بأنه زنى بامرأة، فتكذبه المرأة، فإن من الفقهاء من يرى أن في تكذيبها له شبهة تدفع عنه العقوبة الحدية2. أما إذا كان دليل الإثبات هو شهادة الشهود، وحضر الشهود متفرقين، أو لم تتفق أوصافهم للواقعة، فإن الفقهاء من لا يلزم العقوبة الحدية بمثل ذلك، لقيام شبهة في دليل الإثبات3. هذا هو تعريف الشبهة، وبعض الأمثلة الموضحة له، من أنواع الشبهات الكثيرة التي أوردها الفقهاء، والتي سأعرض لها بالتصنيف والبيان، موضحًا رأيهم في الاعتداد بها من عدمه، مبينًا العلاقة بيم الشبهة، وما يجرى مجراها من الشك أو النسيان والسهو، وما لذلك من أثر في كل من العبادات والمعاملات، وغيرهما من أبواب الفقه -بادئًا به ثم بما يليه.

_ 1 مصنف عبد الرازق ج7 ص414 "ط بيروت سنة 1390هـ". 2 تبين الحقائق للزيلغي ج3 ص196، المغني ج8 ص309. 3 المغني ج8 ص193 "ط مكتبة الجمهورية العربية".

ما يجرى مجرى الشبهة من الشك والنسيان، أو السهو وآثاره في العبادات والمعاملات، وما يماثلها من أبواب الفقه. أما الشك فأصله الضيق، وهو يقبض الصدر ويضمه، ويطلق على عدم التأكد. وقد أورد الشك بهذا المعنى كثيرًا في القرآن الكريم، فيقول الله سبحانه وتعالى مبينًا حال من اختلفوا في أمر عيسى عليه السلام، وسعوا في إيذائه: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} 1. ويقول تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} 2. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} 3. {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 4، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 5. وعلى هذا، فالشك قريب من الالتباس الذي هو المعنى اللغوي للشبهة، أو موافق له، فمن شك في وقوع شيء، فقد التبس عليه الأمر ولم يصل فيه إلى يقين، ومن تيقن الطهارة ثم شك في وقوع الحدث منه، فإن الحدث والحالة هذه أشبه الشيء الثابت، وإن كان مشكوكًا فيه، ولذا فهو ليس بثابت من حيث سريان ما يترتب على ثبوته من أحكام، فهو إذا قد وافق الشبهة أيضًا، المعنى الاصطلاحي الذي ذكره فقهاء الأحناف "ما يشبه وليس بثابت". أما السهو أو النسيان فمعناهما واحد، ولذا قال صاحب لسان العرب "السهو نسيان الشيء والغفلة عنه، وذهاب القلب عنه إلى غيره

_ 1 من الآية 157 من سورة النساء. 2، 3 الآيتان 94، 104 من سورة يونس. 4، 5 من الآيتان 62، 110 من سورة هود، القرطبي ج4 ص3221.

والسهو في الصلاة الغفلة عن الشيء منها، والسهو في الشيء تركه عن غير علم، والسهو عن الشيء تركه من العلم1. ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} 2، ولما كان الناس حميعًا معرضين للنسيان اعتبره الشارع الحكيم عذرًا رفع بسببه المؤاخذة عمن أتى سلوكًا آثمًا، وجعل كلمة حكمه الخطأ، أو انعدام الإرادة بالإكراه على إتيان فعل من الأفعال المعاقب عليها. وعلى هذا فمن وقع في محظور نتيجة نسيانه، فلا إثم عليه بوقوعه في هذا المحظور، وإن كان يلزم بما ترتب على سلوكه هذا مما يتعلق بحقوق الآدميين، كما يلزم أيضًا بما فاته من واجبات يمكن أن تقضى، فمن لم يصل الفروض مثلًا لوقوعه في النسيان، لزمه قضاء هذه الفروض عند تذكره لها3. وقد بين ذلك القرطبي عند حديثه عن قول الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 4، فقال: المعني: أعف عن إثم ما يقع هنا على هذين الوجهين أو أحدهما، كقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" أي إثم ذلك، وهذا لم

_ 1 لسان العرب ج19 ص132ط الدار المصرية للتأليف والترجمة. 2 الآية 5 سورة الماعون، تفسير القرطبي ج8 ص7302ط دار الشعب. 3 الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج5 ص149ط السعادة الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج1 ص217ط دار الكتب. أصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص119ط الثانية. 4 من الآية 286 من سورة البقرة.

بختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام، هل ذلك مرفوع لا يلزم منه شيء، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه. والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والديات والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث يختلف فيه كمن أكل ناسيًا في رمضان أو حنث ساهيًا، وما كان مما يقع خطأ ونسيانًا1. وعلى هذا، فإنه قد وضح ما بين الشبهة، والشك، والنسيان أو السهو من تشابه وإن كانت الشبهة أعم، سواء من حيث الإثراء أو التكوين؛ لأن منها ما ينتج عن الشك، ومنها ما ينتج عن النسيان، أو السهو ومنها ما ينتج عن غير ذلك. كما أن الشك أعم من النسيان أو السهو؛ لأن منه ما ينتج عنهما، ومنه ما ينتج عن غيرهما. كما أن الشبهة في الجنايات قد لا تزيل الأثر كلية، وإنما يقتصر تأثيرها على تغيير نوع العقوبة، أما ما ينشأ عن الشك والنسيان، أو السهو من آثار فإنه يغاير ذلك، ولبيانه أورد فيما يأتي بعض القواعد الفقهية التي تتصل بهذا، ذاكرًا ما ينتج عن تطبيقها من آثار في مسائل الفقه المختلفة، حتى يتضح ما بين الشبهة، وكل من الشك والنسيان، أو السهو من تشابه.

_ 1 تفسير القرطبي ج2 ص239-1240 "ط دار الشعب".

القاعدة الأولى: اليقين لا يزال بالشك ويراد بهذه القاعدة أن ما تيقن الإنسان وقوعه، فإنه يظل ثابتًا لا يرفعه ما يقع شك حياله؛ لأنه وقع يقينًا وما كان كذلك لا يرفعه إلا يقين مماثل له، ولا أثر للشك فيه. وقد استدل على ذلك بما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنه قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه فأخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"، رواه مسلم من حديث أبي هريرة1. وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إذا سها أحدكم في صلاته، فلم يدر واحدة صلى أم اثنتين؟ فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن صلى اثنتين أم ثلاثًا؟ فليبن على اثنتين ... " وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن"، رواه مسلم2، فالشك في كل هذا لم يثبت به حكم، ولم يرتفع به يقين. وهو في ذلك مثل الشبهة من حيث إنها لا يثبت بها أو معها عقوبة حدية، لكون الأصل براءة الذمة مما تلزم به العقوبة الحدية. وهذا الأصل هو المتيقن، فلا يعدل عنه إلى غيره إلا بالأدلة اليقينية. فمن تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو محدث، ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، فهو متطهر. ومن شك في الطاهر المغير للماء، هل قليل أو كثير؟ فالأصل بقاء

_ 1 صحيح مسلم ج1 ص156 "ط عيسى الحلبي". 2 صحيح مسلم ج1 ص229.

الطهورية مع أن تغير الماء قرينة تقوي كثرة المغير له، ومع ذلك طرحت ولم يلتفت إليها أخذا بالأصل، وهو بقاء الطهارة. ومن ذلك ما لو أكل آخر الليل، وشك في طلوع الفجر صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل، وعلى العكس منه من أكل آخر النهار، وشك في الغروب فالأصل بقاء النهار. وكما إذا وقع بيقين ثم شك في حدوث ما يفسخه، فالعقد قائم1 من هذا كله تبين أن اليقين لا يزال بالشك. القاعدة الثانية: الأصل براءة الذمة لا تختلف هذه القاعدة عن سابقتها كثيرًا؛ لأنها تعني الإبقاء على ما هو الأصل حتى يرفع بدليل يقيني، ولذا فإنه لما كان الأصل براءة الذمة من كل تبعة، فإنه لا يجوز العدول عن هذا الأصل، إلا إذا قام دليل يقيني ينفيه، ويثبت الإدانة والتبعة. ويمثل ما بين هذه القاعدة، وسابقتها من تقرب قول الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه: "أصل ما انبنى عليه الإقرار أني أعمل اليقين وأطرح الشك، ولا أستعمل الغلبة"2. ويمثل هذه القاعدة ما هو مطبق في الفقه الإسلامي من إلزام المدعي البينة؛ لأن الأصل براءة ذمه المدعى عليه، وإبقاء الأصل هو القاعدة. وعلى هذا لو توجهت اليمين للمدعى عليه، فنكل فإنه لا يقضي بمجرد

_ 1 الأشباه والنظائر الفقهية للسيوطي ص58-63 ط عيسى الحلبي أصول الفقه الإسلامي أ. د/ سلام مدكور ص339 ط دار النهضة العربية. 2 الأشباه والنظائر الفقهية للسيوطي ص59 ط الحلبي.

نكوله؛ لأن الأصل براءة ذمته، ولذا تعرض اليمين على المدعي حتى ينظر في أمر الحكم لصالحه بما ادعى به1. ومن ذلك أيضًا ما إذا اختلف في قيمة التلف، حيث تجب قيمته على متلفه، كالمستعير، والغاصب، والمودع المتعدي، فالقول قول الغارم؛ لأن الأصل براءة ذمته مما زاد. وذكر السيوطي من الأمثلة المطبقة فيها هذه القاعدة أيضًا، أنه لو قال رجل: أن كان هذا الطائر غرابًا فامرأتي طالق، فقال رجل آخر كان موجودًا: إن لم يكن نفس الطائر -الذي أشار إليه الأول- غرابًا فامرأتي طالق، فطار الطائر، ولم يعرف، فإنه يباح لكل واحد من

_ 1 ذكر ابن قيم أن الإمام الشافعي قال لبعض مناظريه: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد الواحد، وذكر عمر بن حزم، والمغيرة بن شعبة قالا: بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل رجلان يختصمان، مع أحدهما شاهد له على حقه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمين صاحب الحق مع شاهده، فاقتطع بذلك حقه". وروى البيهقي أيضًا من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الشاهد الواحد، ويمين المدعي"، قال جعفر: والقضاة يقضون بذلك عندنا اليوم. وقد نسب إلى البخاري إنكار الحكم بشاهد ويمين، وقد ذكر ابن قيم أن عدم رواية البخاري حديثًا، أو أثرًا في الشاهد واليمين ظاهر في أنه لا يذهب إليه. وهذا ليس بصريح مذهبه، ولو صرح به فالحجة فيما يرويه لا فيما يراه. الطرق الحكمية ص194، 202. وقد أورد أستاذي الدكتور/ سلام مدكور أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حكم بالشاهد بالشاهد واليمين على ما رواه مسلم عن ابن عباس، وأبو داود عن أبي هريرة والبيهقي، وكذا الإمام علي وهذا مذهب الشافعي، وأحمد والليث، في المال وما يتعلق به، ورد الآخرون شهادة الواحد مع اليمين.

الرجلين في الظاهر الاستمتاع بزوجته؛ لأن الأصل حل الاستمتاع بالزوجة ولا يعدل إلا بدليل يقيني، ولا يكفى الشك حتى وإن كان شكًا يصل في حق أحدهما حد اليقين، فإنه يبقي الأصل المتيقن في حق كل منهما ابتداء1. ويوافق هذه القاعدة أيضًا ما جاء من الأصل العدم، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل. ولهذا فإن عامل القراض لو قال: لم أربح مطلقًا، أو لم أربح إلا كذا، صدق في مقالته هذه ما لم يقم دليل على غير ما قال؛ لأن الأصل عدم الربح أو عدم الزيادة التي يطالب بها، هذه وما ماثلها مسائل فقهية ظهر فيها بوضوح أثر الشبهة، وما قاربها من الشك والسهو. - وقضى فيها الفقهاء ببقاء ما هو متيقن، وطرح ما هو مشكوك فيه. إذ إن بقاء المتيقن هو الأصل، وبراءة الذمة هي القاعدة، وما عداها لا بد وأن يثبت بدليل قوي يصل في قوته إلى حد اليقين، حتى يمكن رفعهما، وإحلاله محلهما.

_ 1 السيوطي الأشباه والنظائر الدكتور/ سلام مدكور ص339 ط دار النهضة المصرية يراجع القضاء في الإسلام ص85.

وليس ذلك قاصرًا على باب من أبوبا الفقه دون بقية الأبواب، وإنما ما جاءت به هذه القاعدة يحكم أحكام أبواب الفقه المختلفة، وما تشتمل عليه من مسائل وقضايا، وعلى الأخص ما نحن بصدده من أحكام التشريع الجنائي. لذا جاء ذكره هنا تتميمًا لما تتناوله هذه الرسالة من موضوع الشبهات لما بين هذا، وبين الشبهات من تقارب في المفهوم، واتفاق في الآثار. أثر هاتين القاعدتين في التقنينات الحديثة: يظهر أثر هاتين القاعدتين في التقنينات الجنائية الحديثة، واضحًا فقد نصت دساتير الدول المختلفة على الأخذ بهاتين القاعدتين1، كما طاللب كل المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان بمراعاة العمل في المواد الجنائية، والأدلة القانونية طبقًا لهاتين القاعدتين2، كما ينص فقه الإجراءت الجنائية على تفسير الشك لمصلحة المتهم، والربط بين هذه

_ 1 نص الدستور السوداني على الأخذ بقاعدة الشك يفسر لمصلحة المتهم، وهي القاعدة المأخوذة من كون اليقين لا يزال بالشك. المادة 69 من الدستور السوداني. كما ينص الدستور المصري الصادر في 1971 في مادته 67 بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه، بل المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته دون شك معقول، وقد نص على ذلك أيضًا قانون الإجراءات الجنائية السوداني رقم 65/ 1974م في المادة الثالثة. 2 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10/ 12/ 1948م، والمادة الرابعة عشرة من الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية، والسياسية، التي وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16/ 12/ 1966م.

القاعدة وأختها التي تفيد أن الأصل افتراض البراءة، كما جرى القضاء في الدولة العربية على مراعاة هذا، والأخذ بالقاعدتين السابقتين، من تفسير الشك لمصلحة المتهم، التي هي وليدة القاعدة الفقهية "اليقين لا يزال بالشك". ومن أن الأصل في الإنسان البراءة، حتى تثبت إدانته بدليل قطعي، فقضت محكمة النقض المصرية بأن الأحكام في المواد الجنائية، يجب أن تبنى على الجزم، واليقين لا على الظن والاحتمال.؟ وأن الأحكام الصادرة بالإدانة يجب ألا تبنى إلا على حجج قطعية الثبوت تفيد الجزم واليقين. هذا جانب من تطبيقات هاتين القاعدتين في النظم القانونية الحديثة، والأخذ بهما وإعمالهما لما قبل به، فقهاء الشريعة الإسلامية في مجال التجريم والعقاب. وإن كانت القاعدتين قد توافق في العمل بهما في هذا المجال كل من الشريعة والقانون، إلا أن التنظيم الشريعي قد أعملهما منذ نزل من أربعة عشر قرنا، والتزمم بهما في كل أحكامه، أما النظم القانونية فلم تعرفهما إلا حديثا منذ عهد قريب، وإن كانت حتى بعد أن عرفتها، ونصت عليهما لم يلتزم بهما قضاتها في كثير من الأحكام التي يقضى بها في ظل الأحكام العرفية، أو العسكرية وما إلى ذلك. كما أن أعمال الفقه الإسلامي لهاتين القاعدتين أوسع من أعمال التنظيم الوضعي لهما، فقد قصرهما الأخير على المجال الجنائي. أما الفقه الإسلامي، فقد أعملهما في كافة فروعه الدينية والتكليفية، وفي كل أحكامه وقضاياه1.

_ 1 الأشباه والنظائر للسيوطي ص56-65، 158 الأشباه والنظائر لابن تجيم ص56 وص15-156 ط سنة 1968م قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين بن عبد السلام ج2 ص32 ط سنة 1968م أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص339-340، دار النهضة أصول السياسة الجنائية أ. د: أحمد فتحي سرور ص141-142 ط 1972م. رؤوف عبيد، مبادئ الإجراءات الجناية ص676. وفي أصو النظام الجنائي الإسلامي أ. د: محمد سليم العوا ص91- 96 دار المعارف.

المبحث الثاني: أثر الشبهة في الحد

المبحث الثاني: أثر الشبهة في الحد مدخل ... المبحث الثاني: أثر الشبهة في الحد هناك قاعدة فقهية أعملها جمهور الفقهاء في المجال العقابي هي: درء الحدود بالشبهات، وتتصل هذه القاعدة بما سبقها من قاعدة تقضي بأن اليقين لا يزال بالشك، وبأن الأصل براءة الذمة. هاتان القاعدتان اللتان قررتهما الشريعة الإسلامية، وألزمت قضاتها بهما وطبقتهما على كل الأحكام دينية أو تكليفية، وفي ما يتصل بحقوق الغير مدنية كانت هذه الحقوق، أو جنائية وتعني قاعدة درء الحدود بالشبهات أنه متى وجدت شبهة لدى القاضي، ترتب عليها عدم قيام ركن من أركان الجريمة بالصورة التي حددتها الشريعة الإسلامية، أو شابه إثبات الجريمة شي ترتب عليه عدم اكتمال اليقين لدى القاضي بأن الجريمة قد وضعت ممن مثل أمامه للمحاكمة.. فإن وجدت شبهة من ذلك، ومما يعتد به عند الفقهاء، لم يصبح في إمكان القاضي الحكم بالعقوبة الحدية بالنسبة لهذه الجريمة التي خالط أحد أركانها، أو دليل إثباتها شيء من ذلك، فوجود الشبهة إذا قدر درأ الحد

عن الجاني، سواء ترتب على درء الحد هذا تبرئه المدعى عليه، ونجاته من العقوبة مطلقًا، أو إلزامه بعقوبة تعزيرية أخرى، تتناسب مع ما وقع منه من أفعال لم تصل إلى حد الجريمة الحدية بالصورة التي حددها الفقه الإسلامي، فمن لم تقم البينة على ارتكابه الجريمة الحدية بالصورة التي يقتنع معها القاضي، ويصل اقتناعه حد اليقين بأن الشخص الماثل أمامه، قد ارتكب الجناية الحدية التي أقيمت بينتها عليه، لم تلزم هذا المدعى عليه عقوبة الجناية الحدية المدعى عليه بها، ووجبت تبرئته من هذه الجناية؛ لأن الأصل فيه البراءة. أما من وقعت منه كجريمة قذف مثلًا، وتخلف شرط الإحصان في المقذوف. أو من وقعت منه جريمة سرقة، وتخلف شرط الحرز بالصورة التي اشترطت لإقامة الحد، فإن الجاني في هاتين الجريمتين لا يلزم بالعقوبة الحدية لتخلف شرط قيسام الجريمة الحدية، أو ألزم بغيرها من العقوبات التعزيرية التي يراها القاضي مناسبة لما وقع من جريمة، لم تتوفر فيها شروط الجريمة الحدية. وقاعدة درء الحدود بالشبهات هذه من القواعد التشريعية التي أوردها المحدثون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، بروايات متعددة في مسائل كثيرة وقعت في أوقات مختلفة، كما سيأتي أقر الصحابة الأجلاء هذه القاعدة، وأعملوها في ما عرض عليهم من قضايا سيأتي الحديث عنها. وقد أجمع جمهور الفقهاء على أعمال هذه الفقهاء عدا بن حزم، ومن وافقه من الذين عارضوا الأخذ بهذا المبدأ، وإن كانوا قد عادوا إلى الأخذ بما يحقق ما يهدف إليه الفقهاء من أعمالهم، قاعدة درء الحدود بالشبهات.

فقد رأى ابن حزم أن الحدود لا يجوز أن تقام بشبهة، ولا أن تدرء بشبهة. وهو في الشق الأول من قوله هذا، قد وافق عليه ما عليه الفقهاء جميعًا موافقة صريحة لا يختلف عليها أحد. وفي الشق الثاني من مقالته هذه، وإن لم يوافق ما عليه جمهور الفقهاء موافقة صريحة، إلا أن الشق الأول من مقالته ما يفيد أن الحدود تدرء بالشبهات؛ لأنها ما دامت لا تقام بشبهة، فإنها لا بد من أن تقام على أساس من اليقين الذي لا يشوبه شك، فإذا تطرق الشك لم يبق هذا اليقين، وحلت الشبهة محله، وبذا تنتفي العقوبة الحدية، ويتحقق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من انتفاء الحد بوجود الشبهة. وفيما يأتي عرض لأدلة من يعمل هذه القاعدة، ولأدلة من ينفيها ولا يأخذ بها، يبين منه الرأي الذي انتهى إليه البحث وأقره.

أولا: أدلة من يدرأ الحد بالشبهة

أولًا: أدلة من يدرأ الحد بالشبهة يعمل جمهور الفقهاء قاعدة درء الحد بالشبهة أخذًا منهم بما ورد في ذلك من آثار، وجريا منهم من قاعدة عدم إزالة اليقين إلا بيقين مماثل له؛ لأن الأصل البراءة. وقد استدل الجمهور بأدلة نقلية، وردت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، وأعملها صحابته الأطهار رضوان الله عليهم أجمعين، قد رأوا العقوبة الحدية بمقتضاها لوجود الشبهة. كما استدل الجمهور أيضًا لأعمال الشبهة بأدلة عقلية مستقاة من مبادئ الشريعة الحكمية.

أ- الأدلة النقلية: اروي عن الصديقة بنت الصديق -رضي الله تعالى عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فأخلوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة"، رواه الترمذي وذكر أنه قد روي موقوفًا، وأن الوقف أصح1. 2 روي عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه: "ادراءوا الحدود ما استطتعتم، فإنكم إن تخطئوا في العفو، خير من أن تخطئوا في العقوبة، وإذا وجدتم لمسلم مخرجًا، فادرءوا عنه الحد" 2. 3 ما رواه ابن مسعود موقوفًا بإسناد حسن، قال: "ادرءوا الحدود بالشبهات، وأقيلا ذوي الكرام عثراتهم، إلا في حد من حدود الله تعالى" 3.

_ 1 سنن الدارقطني ج2 ص324، مسند أبي حنيفة ص32، التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول ج3 ص138 ط عيسى الحلبي، المستدرك ج4 ص384، نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص118، سبل السلام ج4 ص15 سنن الترمذي ج2 ص238، مطبعة المدني بمصر، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي ج2 ص318، مختصر صحيح الترمذي ج10 ص104 ط مصطفى الحلبي سنة 1932م. 2 السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص238 ابن مسعود، هو عبد الله بن مسعود بن غافل، أحد كبار الصحابة من جهر بقراءة القرآن الكريم، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفيقه في حله وترحاله. ت سنة 32 هـ، الأعلام للزركلي ج4 ص28 الإصابة ج2 ص368-369. 3 قال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير ج1 ص228 "ط المكتبة التجارية الكبرى سنة 1457هـ" في نهاية شرحه لهذا الحديث، "وقال ابن حجر في شرح المختصر": هو موقف حسن الإسناد، وبه يرد قول السخاوي: طرقه كلها ضعيفة.. وأشار السيوطي إلى هذا الحديث في الجامع الصغير بأنه حديث حسن

4 روي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "ادرءوا الحدود بالشبهات" 1. 5 روى البيهقي، عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود، ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود" 2. 6 روى أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "ادفعوا الحدود عن عباد الله، ما وجدتم لها مدفعًا" 3.

_ 1 أخرجه أبو حنيفة في مسنده ص32. ابن عباس، هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم، ولد وبنو هاشم بالشعب قبل الهجرة بثلاث، كان نعم ترجمان القرآن، قال عنه ابن عمر: لقد أوتى ابن عباس علمًا صدقًا، روى عنه كثير من الصحابة والتابعين، الإصابة في تمييز الصحابة ج2 ص330-334. 2 السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص238ط الهند سنة 1344هـ البيهقي، هو الإمام الحافظ أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ت سنة 458هـ، سنن الدارقطني ج2 ص324، نيل الأوطار للشوكاني ج7 ص35، قال المناوي في فيض القدير ج1 ص228، وضعفه البيهقي، وقال السخاوي: فيه المختار بن نافع، قال البخاري: منكر الحديث، نعم هو حديث حسن بشواهده، وعليه يحمل رمز المؤلف لحسنه. 3 أبو هريرة اختلف اسمه، فقال أهل النسب: اسمه عمير بن =

7 روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "لأن أعطل الحدود بالشبهات، أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات"1، كما روي عنه أنه قال: "إذا حضرتمونا، فاسألوا في العفو جهدكم، فإني إن أخطئ في العفو أحب إلي من أن أخطئ في العقوبة"2. 8 روي عن معاذ، 3 وعبد الله بن مسعود، وعقبة بن عامر

_ = عامر وروي أن اسمه كان في الجاهلية عبد شمس بن صخر، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، عبد الرحمن أبا هريرة لزم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان من أكثر رواة الحديث، توفي بالمدينة سنة 59هـ، الأعلام ج4 ص80/ 81، الإصابة لابن حجر ج4 ص202-211 "ط المثنى ببغداد"، وقد جاء هذا الحديث في سنن ابن ماجه ج2 ص850 "ط دار إحياء الكتاب سنة 1372هـ"، مبوب له يقول ابن ماجه: باب الستر على المؤمن، ودفع الحدود بالشبهات، وذكر نقلًا عن الزوائد أن في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي وقد ضعفه أحمد، وابن معين والبخاري وغيرهم، وقال المناوي في فيض القدير ج1 ص229: قال ابن حجر في تخريج أحاديث المختصر: فيه إبراهيم بن الفضل، وهو مدني ضعيف، وقد خرجه ابن عدي، وقال: هذا رجل اتهمه سفيان الثوري. وانتهى، وبه يعرف سقوط رمز الصنف -رحمه الله تعالى- لحنه، إلا أن يراد أن ما مر يعضده نيل الأوطار ج7 ص104-105. 1 نصب الراية ج3 ص333. 2 السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص238. 3 معاذ بن جبل بن عمرو بن أوسى بن عابدين بن عدي، إمام مقدم في علم الحلال والحرام، شهد المشاهد كلها، وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- روى عنه ابن عباس وغيره كثيرون، ت سنة 17 هـ بالشام الإصابة في تمييز الصحابة ج3 ص426-427ط مكتبة المثنى ببغداد

رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا1: "إذا اشتبه عليك الحد، فادرأ ما استطعت"2. 9 روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "ادرءوا الجلد والقتل عن المسلمين ما استطعتم"3. 10 كما روي عن سعيد بن المسيب4 أنه قال: "ذكرنا الزنا بالشام، فقال رجل: زنيت البارحة، فقالوا: ما تقول؟ قال: ما علمت أن الله عز وجل حرمه، فكتبوا بذلك لعمر بن الخطاب، فكتب إليهم: إن كان عالمًا فحدوه، وإن لم يكن قد علم فعلموه، فإن عاد فحدوه"5. 11 روي عن علي -رضي الله تعالى عنه أنه أتى بامرأة مع رجل

_ 1 عقبة بن عامر بن عباس بن عمر بن عدي الصحابي المشهور، روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، منهم ابن عباس كان قارئًا عالمًا بالفرائض والفقه، مات في خلافه معاوية، الإصابة في تمييز الصاحبة ج2 ص489. 2 السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص238، سبنن الدارقطني ج2 ص324، المغني مع الشرح الكبير ج3 ص194. 3 السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص238، مجمع الزوائد للطبراني ج6 ص248. 4 هو، سعيد بن المسيب بن حزم بن أبي وهب، جمع بين الحديث والفقه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر، وتوفي بالمدينة سنة 93هـ على الراجح. 5 مصنف عبد الرزاق ج7 ص703، المهذب للشيرازي ج2 ص267 "ط عيسى الحلبي".

فجر بها، فقالت: استكرهني والله يا أمير المؤمنين، فدرأ عنها الحد1. 12 كما روي أن عليًا -رضي الله تعالى عنه قال في امرأة أقرت على نفسها: أنه استكرهها رجل على نفسه، قال: هي السائبة، لا تملك نفسها فلو شاء لقتلها، فليس عليها جلد ولا نفي ولا رجم2. 13 روي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر -رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنها زنت، فخفقها بالدرة خفقات، وقال: أي لكاع زنيت، فقالت: من غواش بدرهمين، تخبر بصاحبها الذي زنى به، ومهرها الذي أعطاها، فقال عمر -رضي الله تعالى عنه: ما ترون؟ وعنده علي وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف3. فقال رضي الله عنه: أرى أن ترجمها، وقال عبد الرحمن: أرى مثل ما رأى أخوك. فقال: ما تقول؟ قال: أراها تستهل بالذي صنعت لا ترى بأسا، وإنما حد الله على من علم أمر الله عز وجل، فقال: صدقت4. من كل ما ذكر من الأحاديث النبوية الشريفة، وما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم يتضح ما استدل به جمهور فقهاء الشريعة، على أن الحدود تدرأ بالشبهات، والأحاديث السابقة، وإن كان في بعض

_ 1 مباني تكملة المنهاج لأبي القاسم الموسوي ج1 ص170 ط مطبعة الآداب بالنجف الأشرف. 2 المرجع السابق. 3 عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحرث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهوي، ولد بعد الفيل بعشرة سنين، أسلم قبل دخول دار الأرقم وشهد المشاهد كلها، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى كريم سخي، أنفق الكثير توفي عام 31هـ أو 32هـ. الإصابة في تمييز الصحابة ج2 ص416-417. 4 المهذب للشيرازي ج2 ص267-268 "ط عيسى الحلبي".

رواتها مقال، إلا أنها أحاديث كثيرة قد وردت من طريق عدة يعضد بعضها بعضا ويقويه1، كما أنها تتوافق وما تهدف إليه شريعة الله العادلة الرحيمة، إذ المتبصر فيها يجد أنها بقدر ما تشددت في العقوبة، التي وضعتها للجرائم الحدية، فهي بالقدر نفسه قد حرصت، وتوخت دفع هذه العقوبة عن المسلم، ويتضح هذا فيما وضعته من شروط لإقامة هذه العقوبة، وتلمس درئها عمن وجبت عليه. هذا ما عليه إجماع جمهور الفقهاء2؛ لأنهم يرون أن الحد إذا ثبت، فإن إقامته تصبح واجبة، فإذا ما روي النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، والتابعين إسقاط هذا الواجب بشبهة، فإن مثل هذه الرواية تصبح في قوة الرواية المرفوعة؛ لأنها أسقطت ما وجب حدًا3

_ 1 يقول الصنعاني: وأحاديث درء الحدود بالشبهات، وإن كان في إسنادها مقال، إلا أنها يعض بعضها بعضًا، كما أن الروايات الموقوفة في ذلك تعاضد المرفوع. سبل السلام شرح بلوغ المرام لمحمد بن إسماعيل الصنعاني ج4 ص15 ط، سنة 1182هـ. 2 يقول ابن الهمام: "في إجماع فقهاء الأمصار على أن الحدود تدرأ بالشبهات كفاية، شرح فتح القدير ج5 ص249 ط الحلبي. وقد ذكر ابن قدامة مثل ذلك، وحكي عن ابن المنذر قوله: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبهات. المغني ج10 ص154 ط الأميرية. 3 يقول ابن الهمام: والموقوف في هذا الباب له حكم المرفوع؛ لأن إسقاط الواجب بعد ثبوته بشبهة خلاف مقتضى العقل، بل مقتضاه أن بعد تحقق الثبوت لا يرتفع بشبهة، فحيف ذكره صاحبي حمل على الرفع، شرح فتح القدير ج5 ص 248-249ط مصطفى الحلبي.

ب- الأدلة العقلية: 1- لم يكتف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمجيء ماعز مقرًا بما ارتكبه، ولكنه استفهمه وراجعه، إلى الحد الذي وصل استفهامه إياه إلى نطق -صلى الله عليه وسلم- بكلمة ما كان لينطق بها، لولا ما في الموقف من ضرورة التأكد، وإزالة الشك باليقين، ولم تسمع منه -صلى الله عليه وسلم- تلك الكلمة، إلا في هذا الموطن الذي لم يكتف فيه، إلا بما يصور الواقعة تصويرًا حسيًا1. 2 جيء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلص، وقد اعترف بجريمته لكنه لم يوجد معه المتاع الذي سرق، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- للص المعترف: "ما أخالك سرقت، فقال: بلى يا رسول الله، فأعادها عليه الصلاة والسلام مرتنين أو ثلاثًا" 2. فما فائدة سؤال اللص والاستفسار منه، وإعادة ذلك عليه مرتين أو ثلاثًا؟ إن لم يكن في ذلك فائدة، فهو لغو "والرسول -صلى الله عليه وسلم- حاشاه أن يقول لغوا". 3 يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3 هذه هي علة الخلق وسببه، فالإبقاء على حياة الإنسان إذا مصلحة عظمى تتحقق بها علة الخلق، وإقامة الحدود قد تكون مهلكة يترتب عليها فناء بعض من تقام عليه، كما إذا كانت رجمًا لمحصن، لذا

_ 1 صحيح البخاري بهامش فتح الباري ج12 ص101 سنن أبي داود ج2 ص247، صحيح مسلم ج2 ص49. 2 سنن أبي داود ج2 ص247 ط مصطفى الحلبي. 3 الآية 56 من سورة الذاريات.

وجب التثبت والتيقن من وجوبها، ولا يتحقق مع وجود الشبهة لذا فهى تدرء الحد. يقول صاحب قواعد الأحكام: "وإنما غلب درء الحد مع تحقق الشبهه؛ لأن المصلحة العظمى في استيفاء الإنسان لعبادة الديان، والحدود محظرة فلا تثبت إلا عند كمال المفسدة وتمحضها1. ويقول أبو القاسم الموسوي: والأولى التمسك بعصمة الدم إلا في موضوع اليقين عملًا بالنص المتواتر بدفع الحد بالشبهات2. 4 الشريعة الإسلامية -وهي العدل والرحمة- تقرر أن العقوبة إن لم تكن مساوية بالجناية من حيث اكتمالها، فلا يجوز أن تزيد عنها بحال من الأحوال. فإذا ما شابت الجناية شبهة، فالعقاب عليها بالعقوبة المقررة للجناية الكاملة حيث وجور، يأباهما عدل الإسلام وإنصافه، يقول الكاساني: "إن الحد عقوبة متكاملة، فتستدعى جناية متكاملة.. والنكاح لا تتكامل جنايته إلا عند انقضاء الشبهة، فإذا كانت هناك شبهة كانت الجناية غير متكاملة3. 5 الشريعة الإسلامية تهدف إزالة الضرر، وتبغي اليسر ودفع المفاسد الذي هو مقدم على جلب المصالح، وإقامة الحدود وإن كان فيها مصلحة، إلا أن الضرر الذي يقع بسببها على من تقام عليه ضرر فادح

_ 1 قواعد الأحكام في مصالح الأنام لشيخ الإسلام العز بن عبد السلام ت سنة 660هـ ج2 ط الاستقامة بمصر. 2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص168 ط مطبعة الآداب -النجف الأشرف سنة 1975. 3 بدائع الصنائع للكسائي ج9 ص415 ط المطبوعات العلمية

فلا يجوز إلا بحقه؛ لأن الضرر بدون تأكد موجبه ظلم، والله لا يحب الظالمين. يقول الشوكاني: "إن أقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به، والإضرار قبح عقلًا وشرعًا، فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود بعد حصول اليقين، ولا يقين مع قيام الشبهة"1. وبعد عرض هذه الأدلة العقلية التي استدل بها جمهور الفقهاء لأعمال قاعدة ردء الحدود بالشبهات، يبين ما يهدفون إليه من حرصهم على إحقاق الحق وتوخي العدل، وإبقاء ما هو متيقن حتى يثبت يقينًا عكسه، عندئذ يقام الحد. فإن لم يتيقن وجوب الحد على من قدم للمحاكمة، أو جاء بنفسه مقرًا درئ الحد إعمالًا لقاعدة درء الحدود بالشبهات، استنادًا لما ذكره.

_ 1 نيل الأوطار ج2 ص110 للشوكاني محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني الصنعاني، ولد في إحدى القرى القريبة من صنعاء في آخر ذي القعدة سنة 1172هـ، حفظ القرآن وبرع في الفقه، وعلوم اللغة والحديث، وألف في ذلك كله، تتلمذ عليه كثيرون آخر جمادى الآخر سنة 1250هـ.

ثانيا: أدلة من لم يقل بدرء الحد بالشبهة

ثانيًا: أدلة من لم يقل بدرء الحد بالشبهة ذهب فقهاء الظاهرية إلى إنكار مشروعية درء الحدود بالشبهات، وردوا ما جاء في ذلك ما آثار، وطعنوا في كل ما ما روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تقرير ذلك، وعابوا على جمهور الفقهاء أعمالهم لهذه القاعدة. يقول ابن حزم: وأما درء الحدود بالشبهات، فما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قط من طريق فيها خير، ولا نعلمه أيضًا جاء عنه عليه السلام لا مسندًا، ولا مرسلًا، وإنما هو قول روي عن ابن مسعود وعمر1. ويقول: ذهب قوم إلى أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأشدهم قولا بها واستعمالًا لها، أبو حنيفة وأصحابه ثم المالكيون، ثم الشافعيون، وذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة، ولا أن تقام بشبهة، وإنما هو الحق لله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم": "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام"، وإذا ثبت الحد لم يحل أن تدرأ بشبهة لقول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} 2. ثم قال: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في اللفظ الذي يتعلق به من تعلق أيصح أم لا؟ فنظرنا فيه، فوجدناه قد جاء من طريق ليس فيها عن النبي -صلى الله عليه وسلم نص، ولا كلمة، وإنما هي عن بعض أصحابه من طرق كلها لا خير فيها3. هذا طرف من مقالة ابن حزم في رده لقاعدة درء الحدود بالشبهات

_ 1 المحلى لابن حزم ج9 ص126 ط مكتبة الجمهورية العربية الحديث المرسل هو، ما انقطع إسناده على أوجه، وهو نوعان: 1 مرسل الصحابي: وهو ما يرويه صحابي عن صحابي. 2 مرسال التابعي وهو: الحديث الذي أخبر به التابعي. 2 الآية 229 من سورة البقرة. 3 المحلى لابن حزم ج13 ص61.

وتتمثل الطعون التي وجهها لهذه القاعدة فيما يلي: 1- رد ابن حزم كل ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الخصوص، والذي يتمثل في: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، وعلل ابن حزم رده لذلك بأن الروايات التي أتى ذلك كله عن طريقها روايات مرسلة1. 2- لم يعمل ابن حزم قاعدة درء الحدود بالشبهات، وذلك؛ لأن أعمالها في رأيه يؤدي إلى إبطال الحدود جملة على كل حال. وحجته في ذلك أن كل واحد مستطيع أن يدرأ كل حد يأتيه، وعنده

_ 1 ذكر أستاذي الدكتور مدكور: أن الحديث المرسل عند الفقهاء والأصوليين، وجماعة من المحدثين، ما انقطع إسناده على أي وجه كان انقطاعه، وقال كثير من المحدثين: لا يسمى الحديث مرسلًا إلا إذا أخبر فيه التابعي عن رسول الله مباشرة، فلا يعتبر حديث الصحابي مرسلًا إذا رواه عن الرسول، وهو يطلق عليه عند الآخرين مرسل الصحابي، وما أكثر مراسيل ابن عباس. والأصوليون والفقهاء يعتبرون مراسيل الصحابي إنفاقًا؛ لأن ما يرويه الصحابي محمول على سماعه من النبي -صلى الله عليه وسلم، أو من صحابي آخر، وكلهم عدول. أما مرسل التابعي، فالإمام أبو حنيفة ومالك يعملان به أيضًا كمرسل الصحابي، وافقهم أحمد في إحدى روايتين منه، أما الشافعي فإنه لا يأخذ به إلا إذا انضم إليه ما يقويه، كان يكون قد عمل به بعض الصحابة أن روي مرسلا من طريق آخر، أو كان من مراسيل سعيد بن المسيب أصول الفقه الإسلامي ص119-120، ويراجع أيضًا نهاية السول ج3 ص811 الأحكام للآمدي ج1 ص333 وما بعدها، أ. د: زكريا البري أصول الفقه ص51.

أن ذلك خلاف إجماع أهل الإسلام، وخلاف الدين والقرآن والسنن، ولهذا فهو يسقط هذه القاعدة، وينفي أن يكون فيما جاء حجة لاستعمالها، أو للقول بها. 3- يرى ابن حزم أن لفظ الشبهات الذي جاء في: "ادرءوا الحدود بالشبهات" لا سبيل إلى استعماله؛ لأنه ليس فيه بيان لتلك الشبهات، فليس لأحد عنده -أن يقول في شيء يريد أن يسقط به حدًا: هذا شبهة- إلا كان لغير أن يقول: ليس بشبهة، ولا كان لأحد أن يقول في شيء لا يريد أن يسقط به حدًا، ليس هذا شبهة، إلا كان لغيره أن يقول: بل هو شبهة، ويعقب على هذا بقوله: ومثل هذا لا يحل استعماله في دين الله تعالى، أنه لم يأت به قرآن ولا سنة صحيحة، ولا سقيمة، ولا قول صاحب ولا قياس، ولا معقول مع الاختلاط الذي فيه كما ذكرنا1. هذا ما وجهه ابن حزم من طعون للقائلين بقاعدة درء الحدود بالشبهات، مستهدفًا بذلك عدم الاعتداد بها في شيء. لكن ابن حزم وهو المجادل البارع قد جانبه الصواب هنا فيما وجهه من طعون. أما عن طعنه الأول ورده لما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، من قوله: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، بحجة أنه حديث مرسل، فالإرسال لا ينفي صحة الحديث في مثل هذا؛ لأن الموقوف في هذ له حكم المرفوع2؛ لأن إسقاط الواجب بعد ثبوته بشبهة خلاف

_ 1 المحلى ج13 ص61-63. 2 الموقوف: هو ما انتهى إسناده إلى الصحابي من قول أو فعل، أو تقرير وخلا عن قرينة الرفع سواء اتصل سنده أولًا، والمرفوع: هو ما انتهى إسناده- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أ. د: موسى لاشين، أ. د: عبد العال أحمد. المنهل الحديث ج1 ص12 ط1957.

مقتضى العقل، بل مقتضاه أن بعد تحقق الثبوت لا يرتفع بشبهة، فحيث ذكره صحابي حمل على الرفع. كما أن الرواية المرسلة إذا وردت رواية أخرى تتضمن معنى ما في الرواية المرسلة: فإنها تعضدها وتقويها. كما أن تتبع المروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم، والصحابة الأطهار ما يقطع في المسألة، فقد راجع النبي -صلى الله عليه وسلم- ماعزا عند مجيئه مقرًا، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يلقنه الرجوع عن الإقرار، كما أن مراجعه للنبي -صلى الله عليه وسلم- لماعز يفهم منها حثه ماعزا على الرجوع؛ لأن المراجعة وإن كان من بين أهدافها التأكد والاستيثاق، إلا أن الوصول بها إلى هذا الحد مع إعراض النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ماعز يدل على ترجيح إرادة الرجوع على التأكد والاستيثاق؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لو كان مريدً التأكد، والاستيثاق بصفة خاصة لأقيل على ماعز إقبال من يريد التأكد، أما وقد أعرض وأشاح بوجهه الشريف، فإن ذلك يدل على إرادته الرجوع من ماعز، مرجحًا الرجوع على ما عداه، ومثل ما كان مع ماعز من مراجعة، بل وزيادة عليه قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمن جيء به سارقًا، إذ قال -صلى الله عليه وسلم- له: "أسرقت ما أخاله سرق". ومثل ذلك أيضًا قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- للغامدية1. وقد حاول ابن حزم التشكيك في أن مقالة النبي -صلى الله عليه وسلم- لماعز لم تكن محاولة إرجاعه عن إقراره أيضًا، ورأى أن مراجعته

_ 1 فتح القدير ج5 ص249.

-صلى الله عليه وسلم- لماعز كانت لتهمته إياه في عقله، وفي جهله ما هو الزنا فقط1. ومقالة ابن حزم هذه تستوجب وقفة لمناقشته في قوله: "إنما كان لتهمته في عقله، وفي جهله ما هو الزنا". فتهمة ماعز في عقله، أو جهله تورث الشك والشبهة في دليل الإثبات، أو في القصد الجنائي، أو فيهما معا لهذا أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمراجعة على حد قول ابن حزم -الاستيثاق، وما ذلك إلا إزالة الشبهة، ثم ما مراد "ابن حزم من الجهل بالزنا؟ أن كان جهلًا لتحريمه، فهو شبهة في الركن الشرعي لقيام الجريمة. وإن كان جهلًا ماديًا، فهو شبهة في قيام الركن المادي للجريمة الثابت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم، قد راجع ماعزا بقوله: "لعلك" حتى وصل إلى حد النطق بما يكره، وهذا ثابت عند ابن حزم، إذا فما هدف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من ذلك كله؟ إن كان التأكد من سلامة الإقرار الحد بحيث لا يقيمه بشبهة، فهذا نتفق فيه مع ابن حزم وأصحابه. وإن كان للتأكد من عدم وجود شبهة تتصل بالجاني، أو بدليل الجناية أو بمادياتها، وهذا ما لا يستطيع ابن حزم إنكاره، فهذا هو الدليل القاطع على إعمال مبدأ درء الحدود بالشبهات، يقدمه ابن حزم نفسه رادًا به على نفسه. ويقول ابن حزم: وإنما روي عن بعض الصحابة أنه قال: كنا

_ 1 المحلى ج13 ص102-103.

نتحدث أن ماعزا والغامدية لو رجعا بعد اعترافهما، أو لم يرجعا "بعد اعترافهما" لم يطلبهما. ويعلق ابن حزم على هذا بقوله: وهذا ظن والظن لا يجوز القطع به، وقول القائل لو فعل فلان كذا لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرًا كذا، ليس بشيء إذ لم يفعل ذلك لفلان1. والأمر ليس بظن كما قال ابن حزم، وإنما هو تقرير لما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه. وإطلاق ابن حزم على هذه الحالة بأنها من باب الظن، إطلاق خطأ إذ إن الظن يتحقق فيما لو أن ماعزًا، والغامدية رجعا عن إقرارهما، أو لم يرجعا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد الإقرار الأول، فتوهم الصحابة أن الحد قد سقط عنهما، وقالوا مقالتهم هذه، وإذ بالرسول يقيم الحد عليهما بإقرارهما مرة واحدة، أو يرسل يطلبهما، ويستنطقهما الإقرار. هذه هي الحالة التي يمكن أن يطلق ما على قبله الصحابة ما ذكره ابن حزم من أنه ظن، والظن لا يجوز القطع به. ولكن الحالة مختلفة، والأمر متغاير، فما قاله الصحابة ليس بظن، وإنما هو تقرير لما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأبرار. كما أن ابن حزم قد قال فيما ذكره عن جابر2، وأقر بصحته

_ 1 المحلى لابن حزم ج9 ص125. 2 جابر بن عبد الله بن عمر بن حرام بن كعب الأنصاري السلمى أحد المكثرين عن النبي -صلى الله عليه وسلم، شهد تسع عشرة غزوة، كانت له حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم، ت عام 78هـ، عن أربع وتسعين سنة الإصابة في تمييز الصحابة ج1 ص213 "ط المثنى ببغداد"

ووروده عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، وقد قال جابر: "أنا أعلم الناس بأمر ماعز، إنما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هلا تركتموه وجئتموني به"؟ ليستثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه، فأما لترك حد فلا. هذا نص كلام جابر فهو أعلم بذلك، ولم يرجع ماعز قط عن إقراره، وإنما قال: ردوني إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني، وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير قاتلي1. والوقفة هنا لمناقشة ابن حزم، فيما أورده في مسألتين: الأولى: قول جابر -رضي الله تعالى عنه: ليستثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ماذا يريد جابر "بيستثبت" هذه مع أن الرسول قد راجع ماعزا، وسأله واستفسر منه، وسأل قومه عنه ... ثم إن الاستثبات هنا لا يمكن أن يكون معناه إثبات الجناية على ماعز؛ لأن الجناية قد تثبت عليه، وبدأ تنفيذ العقاب. إن ما يبقى من معنى تستثبت ها هنا هو التأكد من عدم وجود

_ 1 المحلى لابن حزم ج9 ص126 "ط مكتبة الجمهورية العربية".

ما يدرء الحد عن ماعز كرجوعه عن إقراره مثلًا، أو غير ذلك من الشبهات الدارئة: التي قد يثيرها ماعز. الثانية: عند قول ماعز: إن قومي قتلوني وغرروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غير قاتلي. هذا القول يدل صراحة على أن ماعزا قد توهم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم، سيعفو عنه كما أخبره قومه، وهذا ما دفع ماعزا إلى الإصرار على إقراره بالرغم من مراجعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- له. والنتيجة أن ماعزا لو لم يكن متوهمًا ذلك لما استمر في إقراره، ولرجع عنه قبل أن يصل به إقراره إلى حالته التي كان فيها، ويتبين من ذلك في وضوح أن رجوع ماعز عن إقراره كان كافيًا لدفع العقاب عنه، وإسقاط ما لزمه من حد نتيجة إقراره. أما الظن الثاني الذي قدمه ابن حزم، وهو أنه لم يصح عنده ما ورد عن: "ادرءوا الحدود ما استطعتم"، وما في معناه، نظرًا؛ لأن أعمال ذلك يؤدي في رأيه إلى إبطال الحدود، إذ أن في استطاعة كل فرد أن يدرأ كل حد يأتيه، فلا يقيمه. فهذا التعليل الذي ذكره ابن حزم، وبنى عليه رده لقاعدة درء الحدود بالشبهات، تعليل مردود ودليل ذلك ما يأتي: 1 يناقض ما ذهب إليه ابن حزم من الحرص على الإبقاء على الإدانة بالحد، وعدم نفيها أو إسقاطها، ما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من نصوص تأمر المسلم أن يحاول ستر نفسه بستر الله سبحانه وتعالى، بقدر ما يستطيع، يقول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس: قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، فمن أصاب من هذه

القاذورات شيئًا، فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله" 1. فهذا الحديث الشريف قد حض المسلمين على التستر على أنفسهم بصورة، جعلت المستر على النفس من بين الواجبات على كل المسلمين. كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم، قد قال لمن جاء يشهد على آخر: "لو سترته بردائك كان خيرًا لك" 2. وقال -صلى الله عليه وسلم: "من ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة" 3. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" 4. فإذا كان جزاء الستر على الآخرين بهذه الصورة المبينة في الحديث الشريف، والتي تصل بالمسلم إلى منزلة استحقاق ستر الله له في الآخرة، وتصور الأحاديث لزوم الستر على المسلم بصورة تقارب الواجب الذي إذا خولف أثم من خاله، مما لا شك فيه أن ستر الإنسان على نفسه

_ 1 رواه الإمام مالك في الموطأ قال: أخبرنا مالك، حدثنا زيد بن سلم إلخ الموطأ ص244 "ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1387هـ". 2 رواه الإمام مالك عن مالك عن يحيى بن سعيد، كما أخرجه النسائي بسنده إلى الليث عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المتكدر عن ابن هزال، عن أبيه يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الموطأ ص245. 3 صحيح مسلم بشرح النووي ج17 ص21 ط المصرية. 4 المرجع السابق ج16 ص143 ط القاهرة عام 1349هـ.

ومحاولته دفع الحد عنها أمر حث عليه الأحاديث الشريفة، فماذ يغضب ابن حزم إذا من محاولة المسلم أن ينفي الحد عن نفسه، أو أن يدرء كل حد يأتيه، فلا يقام الحد عليه، كما أن درء الحدود بالشبهات لا يقصد به إبطال الحدود، وإلغاؤها وإضاعة حقوق الناس، وإشاعة الفوضى. وإنما المراد به التثبت من وجوب الحدود، وإكمال مقتضاها بصورة تصل إلى اليقين، فإذا لم يكتمل ما يوجب الحد، اكتمال يصل حد اليقين، فكيف يمكن إقامة هذا الحد الذي أحاطت به الشبهات، وخالطه الشك. إن عدم إقامة الحد لا يجوز أن يوصف بأنه تضييع للحدود أو تعطيل لها، وإنما هو التثبت من وجوبها بالصورة التي حددها الإسلام، وعرفها عنه أتباعه ومن يطبقون أحكامه، والتزم بها كل من يشهد على جناية من الجنايات إذ لا بد أن يكون الأمر الذي يشهد بها واضحًا له وضوح الشمس، وإلا فليدع الشهادة به، وليس عليه من إثم، بهذا يحتقق العدل ولا تضيع حدود الله، على أن الشبهة الدارئة للحد لم يقل أحد أنها دائمًا تسقط العقوبة كلية، فإن كثيرًا ما ينقل العقاب من الحد إلى التعزير، أما الطعن الثالث الذي يقول فيها ابن حزم: إن لفظ الشبهات الذي جاء في: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، لا سبيل إلى استعماله؛ لأنه ليس فيه بيان لتلك الشبهات. فما ذلك القول من ابن حزم إصرارا منه، وتأكيدًا لتمسكه بظاهر النصوص، كما هو مبدأ الظاهرية جميعهم. أما محاولة تفسير المسائل، وشرح المبهم وبيانه بما يتفق، ويتحقق غرض الشريعة. فذلك أمر يبتعدون عنه في ظاهر مذهبهم، وإن كانوا قد استخدموه، وعملوا به كما هو واضح مما جاء في كتبهم، وعلى الأخص كتاب المحلى لابن حزم نفسه.

كما أن السابقين قد يبنوا المراد بالشبهات، وإن كان قد جاء اختلاف في تفسيراتهم للشبهات، فليس ذلك عيبًا يسقط الأخذ بها، أو ينفي أعمالها، وإنما هو رحمة من الله سبحانه وتعالى، وإقرار لمبدأ الاجتهاد، وإعمال له. ويكفي في الرد على ابن حزم في كل ما أثاره من طعون ما ذكره هو نفسه، فيما رواه عن أبي موسى الأشعري1 -رضي الله تعالى عنه- من أنه قال: "أتيت وأنا باليمن بامرأة فسألتها؟ فقالت: ما تسأل عن امرأة حبلى، ثيب من غير بعل، أما والله ما خاللت خليلًا، ولا خادنت خدنا، منذ أسلمت، ولكني بينما أنا نائمة بفناء بيتي، فوالله ما أيقظني إلا الرجل حين ركبني، وألقى في بطني مثل الشبهات، فقال: فكتبت فيها إلى إلى عمر بن الخطاب، فكتب إلي: أن وافني بها وبناس من قومها، فوافيته بها في الموسم، فسأل عنها قومها؟ قالوا: خيرًا، وسألها، فأخبرته كما أخبرتني، فقال عمر: شابة تهامية تنومت قد كان ذلك يفعل، فمارها عمر وكساها، وأوصى بها قومها خيرًا". ثم يقول ابن حزم معقبًا على هذا كله: "هذا خبر في غاية الصحة"2، وهنا سؤال يوجه إلى ابن حزم فيما رواه بصحته، لماذا لم يقم أبو موسى الأشعري الحد على هذه المرأة؟. وما الذي حدا به لسؤال عمر في أمرها؟.

_ 1 أبو موسى الأشعري، اسمه عبد الله بن قيس بن سليم، ينتهي بسبه إلى الأشعر أسلم، وهاجر إلى الحبشة استعماله النبي على اليمن، واستعمله عمر على البصرة، ففتح بلاد الأهواز وأصبهان ت سنة 42هـ. 2 المحلى لابن حزم ج9 ص123-124.

إن الإجابة واضحة، فأبو موسى لم يكن يسأل عمر في كل ما يعرض عليه من قضايا، وإنما؛ لأن الأمر اشتبه عليه، وحفت قضية هذه المرأة بالشبهات التي حالت بين أبي موسى، وبين إقامة الحد على هذه المرأة، ولم يجد إلا سؤال عمر -رضي الله عنهما، وتجيء المرأة وثمرة جريمتها واضحة لا لبس فيها ولا خفاء. فهل حدها عمر، وترك مقالتها؟ ولم يلتفت إلى ما أثارته من شبهة؟ لقد دفع عمر الحد عنها؛ لأن مقالتها أورثت شبهة في حقها، فليس أمام عمر إلا أن يدرء عنها الحد أعمالًا للشبهة واعتدادًا بها، وليس ذلك فقط بل أطعمها وكساها، وأوصى بها خيرًا. من هذا يتبين أن ابن حزم قد صحح خبرًا ورد عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، أعمل فيه الشبهة، ودرء بها الحد. كما أن الخبر تضمن أيضًا توقف الصحابي الجليل، أبي موسى الأشعري، عن القضاء، فيما تلزم به هذه المرأة، لما اشتبه عليه أمرها. ونهضت في حقها شبهة جهلها الحكم، نظرًا؛ لأنها لم تعلم، أو؛ لأنها أكرهت على الفعل أو أتاها وهي نائمة، آلى غير ذلك مما عده الفقهاء شبهة تدرء الحد. وقد أوضح ابن الخطاب حالتها بأنها "تنومت وقت أن كان ذلك يفعل". ومما لا شك فيه أن ذلك يحتمل أنها لم تكن نائمة، وإنما تنومت، ومع ذلك درء عمر عنها الحد. فإذا انضم هذا إلى ما روي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، وعده

ابن حزم مرسلًا، تقوي به ما روي مرسلًا1 خصوصًا، وأن ابن حزم قد صححه. كما أن ورود ذلك عن صحابي جليل، وقد حكم أمام صحابة أجلاء يفصل في القضية، ويصحح ما حاول ابن حزم التشكيك فيه توطئه لعدم الأخذ به، وطريقًا لرده، وعدم إعماله. كما يبين مما سبق أن ابن حزم، وإن كان قد أنكر قاعدة درء الحدود بالشبهات، إلا أنه لا يخالف الفقهاء القائلين بها، فيما تؤدي إليه من أنه لا يجوز أن يقام حد بشبهة، بل هو قد صرح بذلك حين بين أن الحدود لا يجوز أن يقام حد بشبهة، بل هو قد صرح بذلك حين بين أن الحدود لا يجوز أن تقام بشبهة، ولا أن تدرء بشبهة، فمتى لم يتم إثبات الجريمة على الجاني بصورة يقينية، فإنه لا يجوز إقامة الحد عليه.

_ 1 يقول ابن القيم: إن الصحابي إذا قال قولًا أو حكم بحكم أو أفتى بفتيا، فله مدارك ينفرد بها عنا، ومدارك تشابهة فيها، فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- شفاها، أو من صحابي آخر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأن ما انفرد به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به لم يركل منهم ما سمع، وأين ما سمعه الصديق -رضي الله عنه، والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إلى ما رووه: فلم يرو عن صديق الأمة مائة حديث، وهو لم يغب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في شيء من مشاهده، بل صحبه من حين البعث، بل قبل البعث إلى أن توفي وكان أعلم الأمة به -صلى الله عليه وسلم، وبقوله وفعله وهديه، وكذلك جلة الصحابة روايتهم قليلة جدًا بالنسبة إلى ما سمعهو من نبيهم، وشاهدوه: أعلام الموقعين ج4 ص147-148. ويقول الشيخ أبو زهرة: إن آراء الصحابة لا يمكن أن نعتبرها آراء عقلية خالصة.،إنما اجتهادهم أقرب إلى التلقي منه إلى الاستنباط العقلي المجرد، تاريخ المذاهب الفقهية ص21 وما بعدها.

ومتى تم ذلك وجب إنفاذ الحد على الجاني، ولم يخالف أحد من الفقهاء في ذلك. وعليه فإن الفريق بين ابن حزم، وجمهور الفقهاء فيما قال به كل منهم، وإن بدا بعيدًا من الناحية النظرية، إلا أنه يكاد يتطابق من الناحية الجوهرية. لأن ما يسقطه جمهور الفقهاء من الحدود لقيام الشبهة، يعتبره ابن حزم لم يجب أصلًا؛ لأن شروطه لم تكتمل في رأيه بمقاييسه، فما يسقطه جمهور الفقهاء من الحدود لوجود شبهة في الفاعل، كأن كان جاهلًا الحكم جهلًا يعتد به، لا يوجبه ابن حزم أصلًا حتى يمكن أن يسقطه، ومثل هذا كثير. ويبقى بعد ذلك مسائل قليلة هي التي يتحقق فيها اختلاف وجهتي النظر، وذلك مثل ما اكتملت فيه شروط الحد مع وقائع، وتم إثباتها وألزم الجاني فيها بعقوبة السرقة الحدية، ثم تملك السارق الشيء المسروق قبل إقامة الحد لسبب أو لآخر. أو غاب أحد الشهود قبل تنفيذ الحكم سواء أكان غيابًا حقيقيًا، أم كان اعتباريًا كأن يفقد أهليته عند من يشترط بقاء الشهود على حالتهم التي أدوا الشهادة بها حتى ينفذ الحكم، وهذه وما ماثلها من المسائل هي التي ينحصر الخلاف فيها.

الفصل الثاني: الشبهات التي تعتري أركان الجريمة

الفصل الثاني: الشبهات التي تعتري أركان الجريمة مدخل ... الفصل الثاني: الشبهات التي تعتري أركان الجريمة تقديم: اهتم الفقهاء القدامى بالحديث عن الشبهات المسقطة للحدود، وبيان أنواعها واختلافها بحسب ما تتعلق به، وذكروا أن منها ما يتعلق بالفاعل، ومنها ما يتعلق بالفعل أو بالمحل، ومنها ما يتعلق بالإثبات إلى غير ذلك مما ذكروه عنها، مع تفاوت بيان ذلك من مذهب إلى آخر، كل حسب عنايته واهتمامه، ولكنهم مع هذا الجهد المشكور لم يعنوا بتصنيف ما ذكروه من الشبهات، بالقدر الذي عنوا به ببيان أفراد هذه الشبهات، وإن كان فقهاء الأحناف قد اهتموا بتصنيف الشبهات تصنيفًا محددًا، وتبعهم في ذلك أيضًا فقهاء الشافعية، أما فقهاء المالكية، والحنابلة، فقد اكتفوا ببيان أنواع الشبهات في مواضع متفرقة عند حديثهم عن الحدود تارة، وعند بيان كل جناية من الجنايات الحدية تارة أخرى، وثالثة عند بيانهم طرق الإثبات. الأمر الذي ترتب عليه محاولة جمع ما كتبوه في هذه المواضع المتناثرة، وتصنيفه وعرضه، والتأليف بينه بقدر المستطاع، واستخلاص تصورهم للشبهات بصفة عامة. وعلى أيه حال، فهذا هو المنهج الغالب على ما كتبه الفقهاء جميعًا في بداية نشأة المذاهب، وقيام المدراس الفقهية. إذ أنهم قد أولوا اهتمامهم كله ببيان الأحكام الشرعية لما عرض من مسائل فقهية، تتطلب بيان رأي المشرع فيها، وتحديد أحكامها. الأمر الذي شغل به الأقدمون أكثر من اشتغالهم بتأصيل المسائل، والتأليف بين المتناظر منها.

وقد ذكر البعض أن ذلك يرجع إلى أن فكرة الشبهة فكرة نسبية، وأن المرجع فيها في أغلب الأحيان إلى اجتهاد الحاكم، فهي تختلف باختلاف الحدود والزمان والأحوال، وبذلك انصرف الفقهاء عن تقسيمها، وبيان أنواعها واكتفوا بالتصدي لها واحدة بعد الأخرى، كلما اقتضى الأمر1. وقد رد على هذا العليل، بأن المتأمل في الشبهات التي عددها الفقهاء، لا يتردد في رفض دعوى نسبيتها، فهي ليست أمور قلقة متغيرة، ولا هي أحاد شاردة تفتقر إلى ما يربط بينها، بل إنها -أيا ما كان الرأي في بعضها قابلة للتصنيف والتقسيم2، كما أنه قد خفي على من ادعى نسبية الشبهات، أن أحكام الشريعة في مسائل الحدود أحكام ثابتة لا تقبل هذه الدعوى بالنسبية، ومثلها في ثباتها هذا كل ما اتصل بها، وإذا كان المدعي للنسبية بنى دعواه هذه في إرجاعه والشبهة إلى اجتهاد الحاكم، على ما وقع من مسائل، وقضايا في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، كما حدث في عام المجاعة، وما ماثل ذلك. فإن الفرق واضح بين كل ما كان من عمر -رضي الله عنه، وبين ما تحتمله هذه النسبية التي يتحدث عنها، وما قد تنطوي عليه، فعمر -رضي الله تعالى عنه، وضع مبدأ وطبقه على الجميع، وتوخى فيه إرضاء الله، والعمل بروح الشريعة، ولم تستهدف من ذلك إرضاء أحد، أو مجاملة فرد، أو إسقاط الحد عن قريب، أو شريف أو صاحب جاه، أو سلطان

_ 1 السرقة في الشريعة الإسلامية والقانون للدكتور أحمد الكبيس ص312. 2 نظرية الشبهة في الفقه الشرعي للأستاذ الدكتور عوض محمد عوض بحث منشور بالمجلة للدفاع الاجتماعي. ص27 العدد التاسع مارس سنة 1979م.

تمسكا بما أرساه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قضايا الحدود وعموميتها، ورفض النسبية فيها، ورده للشفاعة فيما حكم فيه، كما أن الفقهاء القدامى قد ضبطوا ما تحدثوا عنه من أنواع الشبهات بضوابط ثابتة، بما ذكروه من أمثلة لها بصفة عامة عند جميع الفقهاء، وبما حاول بعضهم تصنيفه، وجمع مسائله تحت مسميات محدودة. وقد قسم فقهاسء الأحناف الشبهة، وتبعهم في ذلك فقهاء الشافعية مع اختلاف في التسمية والتبويب، وسيتضح ذلك من خلال ما سأبينه في المبحثين الآتيين:

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي مدخل ... المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي ويشتمل على المطالب الآتية: المطلب الأول: شبهة الدليل. المطلب الثاني: شبهة الحق. المطلب الثالث: شبة الملك. تقديم: بينت الشريعة الإسلامية للإنسان الحلال والحرام، فهي قد نصت على ما يجب على الإنسان أن يتجنبه، وبينت مراتب النهي، ودرجات الحظر، ووضحت عقوبة مخالفة أوامرها ونواهيها. وهذا ما يسمى بالركن الشرعي، وهو يعني ورود نص يحرم فعلًا ما من الأفعال، ويعاقب على اتيانه. واختصت أفعالًا معينة في النظام العقابي الإسلامي -بعقوبات محددة، ما لم يكن هناك سب من الأسباب التي تقتضي إباحة فعل ما من هذه الأفعال المحددة العقوبة، فإذا أوجد سبب من هذه الأسباب، فقد يترتب عليه انتفاء العقوبة كلية، وقد يترتب عليه تغير العقوبة، واختلاف درجاتها. وتندرئ العقوبة الحدية أيضًا عمن وقع منه الفعل، إذا كان تحريم هذا الفعل، وإلزام عقوبة حدية عليه موضع شك أو شبهة.

سواء أنتج وجود ذلك الشك، أو الشبهة إسقاط جنس العقوبة كلية، أو إسقاط نوع العقوبة الحدية، وإلزام من وقع منه هذا الفعل عقوبة تعزيرية مناسبة. ويتضح ذلك فيما يأتي: أولًا: وجود سبب من أسباب الإباحة، وذلك في حالة إذا سرق والد من مال ولده، فإنه بالرغم من وجود نص يخرجد السرقة بصفة عامة، إلا أن وجود صفة الأبوة في السارق هنا يعد سببًا من أسباب الإباحة، وذلك نظرًا لما جاء من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، وسيأتي الحديث عن ذلك بشيء من التفصيل. ثانيًا: إذا وجد ما يجعل تحريم الفعل موضع شك أو شبهة، وذلك لمن يدخل بامرأة تزوجها بلا ولي، أو بلا شهود، فقد أسقط الإمام أبو حنيفة الحد في الأولى، وأسقط الإمام مالك الحد في الثانية. كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إباحة نكاح المتعة1. ففي هذه كله، وما أشبهه قد اعترى الركن الشرعي للجريمة ما أنتج درء حدها. وتنحصر الشبهات التي تعتري الركن الشرعي، فيما يأتي: 1 شبهة الدليل. 2 شبهة الحق. 3 شبهة الملك.

_ 1 فتح القدير ج5 ص250، مغني المحتاج ج4 ص145 حاشية الباجوري ج2 ص130، أستاذي الدكتور سلام مدكور الإباحة عند الفقهاء والأصوليين ص50-53.

المطلب الأول: شبهة الدليل

المطلب الأول: شبهة الدليل وتنتج من وجود دليلين يقرر كل منهما حكما يغاير الحكم الذي يقرره الآخر، ويتنازعان محلا واحدًا. والدليلان المتغايران اللذان تنتج عن وجودهما شبهة الدليل، قد يقومان لدى مجتهد واحد، ويثبتان عنده. وقد يثبت أحدهما عن مجتهد فيعمله، ويثبت الآخر عند مجتهد آخر، فيعمله. فشبهة الدليل إذا تقوم في موضعين: أ- الموضع الأول: إذا اجتمع لدى مجتهد واحد دليلان يتجاذبان حكم فعل واحد من الأفعال، وقد تفاوتا على الدرجة، بمعنى أن أحدهما راجح والآخر مرجوح، فإنه يترتب على وجود مثل هذين الدليلين أعمال المجتهد لهما -وهو ما يسميه الحنفية الشبهة الحكمية، ويرون أنها أحد قسمي شبهة المحل1. بمعنى أنه يعمل الدليل الراجح أولًا، فإذا كان أعمال هذا للدليل يترتب عليه تجريم الفعل، والعقاب عليه بالعقوبة الحدية، وجب إلزام مقترفة بالعقوبة المقررة. ثم كان على المجتهد، أن يعمل الدليل المرجوح أيضًا بمعنى أنه إذا كان هذا الدليل المرجوح، يفيد حل الفعل، أو إباحته أعمله المجتهد على سبيل أنه ينتج شبهة في الدليل الراجح بالنسبة لهذه

_ 1 لما كان متعلق الشبهة هنا هو الدليل آثرت تسميتها بشبهة الدليل؛ لأن الدليل مقدم في الوجود على الحكم، وما الحكم الانتاج الدليل، فتح القدير ج5 ص250.

الواقعة، وعليه يترتب على وجود هذا الدليل المرجوح، درء العقوبة الحدية التي قرره الدليل الراجح على كل من ارتكب الفعل. وذكر فقهاء الأحناف مثالًا للمحل الذي اجتمع فيها الدليلان، فأنتجا شبهة الدليل، بالرجل الذي سرق من مال ابنه المقدار الذي تلزم به العقوبة الحدية للسارق لو كان المسروق لأجنبي، وقال فقهاء الأحناف: إن فعل هذا الأب الذي سرق من مال ابنه، قد اجتمع فيه دليلان متغايران يتجاذبان حكمه. أما الأول وهو الدليل الراجح، فإنه يفيد التحريم، ويلزم العقوبة الحدية، ويتمثل هذه الدليل فيما جاء من قول الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1. فهذا الدليل تنطوي تحته أفعال السارقين، ومنهم هذا الأب الذي سرق. أما الدليل الثاني، وهو الدليل المرجوح، فإنه يفيد إباحة فعل الأب، ولا يعاقب عليه، ويتمثل هذا الدليل المرجوح فيما روي عن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك " 2. وعليه فإن وجود هذا الدليل المرجوح يورث في انطباق دليل التحريم الراجح، على ما ورد في حقه دليل الإباحة المرجوح.

_ 1 من الآية 38 من سورة المائدة. 2 روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله أن رجلًا قال: يا رسول الله إن لي مالًا وولدًا، وإن والدي يحتاج مالي، قال: "أنت ومالك لوالدك إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم"، سنن أبي داود ج2 ص259 "ط الحلبي".

ويترتب على وجود هذه الشبهة درء العقوبة الحدية على الأب الذي سرق من مال ابنه. سواء أظن الأب الحل أو علم الحرمة؛ لأن ثبوت شبهة الدليل في حقه قائم سواء أعلمها، أو لم يعلمها1. ب- الموضع الثاني: الذي تقوم فيه شبهة الدليل هو عند اجتماع دليلين متعارضين لدى مجتهدين مختلفين، وكان هذان الدليلان المتعارضان يتنازعان محلًا واحدًا. بمعنى أن الفعل يعد حلالًا على الحقيقة عند أحد المجتهدين بما ثبت عنده من دليل حل هذا الفعل. ويعد نفس الفعل حراما على الحقيقة عند المجتهد الآخر بما ثبت عنده من دليل تحريم نفس الفعل. وعلى هذا فإن من ثبت عنده دليل حل الفعل، وإباحته لا يلزم من أتى هذا الفعل بعقوبة ما لكونه أتى فعلًا مباحًا، أما من ثبت عنده دليل تحريم هذا الفعل، فإنه يلزم من أتاه بالعقوبة المقررة له؛ لأنه أتى فعلًا محرمًا معاقبا عليه. وهذا النوع من شبهة الدليل هو ما أطلق عليه جمهور فقهاء الشافعية، والحنابلة شبهة الجهة أو الطريق. أما فقهاء الأحناف، فقد أوردوا هذه الشبهات تحت اسم شبهة العقد2.

_ 1 فتح القدير ج5 ص250-252، البدائع ج7 ص35-36 "ط أولى ص1910" البحر الرائق لابن نجيم ج=5 ص12-13. 2 ذكر فقهاء الأحناف، هذا تحت شبهة العقد، وجعلوا من شبهة =

وقد ذكر جمهور فقهاء الشافعية أمثلة لما اختلف الفقهاء، في حكمه إذا أباحه بعض الفقهاء، ولم يبحه البعض الآخر، من ذلك ما يأتي: أ- الزواج الذي لم يحضره ولي، أو لم يحضر وقت عقده شهود، فقد أجاز الإمام أبو حنيفة الزواج الذي لم يحضر وقت إجراء عقده ولي، كما أجاز الإمام مالك الزواج الذي لم يحضر إجراء عقده شهود، وعلى هذا فقد ذهب جمهور فقهاء الشافعية، إلى القول بأنه ما دام أحد الفقهاء قد أجاز هذا الزواج، فإن إجازته له تنتج شبهة في حق من دخل بامرأة في ظل زواج مثل هذا. وعليه فلا يعد فعله جريمة من الجرائم المعاقب عليها، لقيام شبهة الدليل في حقه، وهي شبهة تدرء العقوبة الحدية. وقد أورد جمهور فقهاء الشافعية في معرض حديثهم عن شبهة الجهة حكم الوطء في ظل زواج المتعة1.

_ العقد أيضًا وطء الحرمة عليه، إذا كان ذلك الوطء في ظل عقد، وذكر الإمام أبو حنيفة تحت شبهة العقد أيضًا وطء المستأجرة للزنى، وأسقط الحد بسبب هذا العقد، وإلزمها التعزير، وخالف في ذلك الصاحبان والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد فتح القدير ج5 ص253-262. أما فقهاء المالكية، فقد تحدثوا عن حكم ذلك كله، ولكن لم يذكروا تسمية لهذه الشبهات "حاشية الدسوقي ج4 ص214 وما بعدها الخرشي ج8 ص78 وما بعدها". ولقد أطلقت على هذه الشبهات شبهة الدليل؛ لأن الخلاف في ذلك مرجعه أن كل صاحب رأي استدل بدليل، ورجحه واعتمد عليه في ما ذهب إليه، لهذا أثرت تسميتها بشبهة الدليل. 1 أورد أستاذي الدكتور سلام مدكور صورة نكاح المتعة، كما صورها الكاساني بقوله: "أعطيتك كذا على أن أتمتع بك يومًا أو شهرًا أو سنة، وكذا منه أن يقول: رجل غريب عن البلاد لامرأة واطنة خالية من الأزواج، وعدتهم ومن الموانع الشرعية: أتمتع بك منذا إقامتي في البلدة نظير أن أعطيك كذا، فتقول: قبلت"، وهذا عقد باطل باتفاق فقهاء المسلمين عدا الشيعة الإمامية -وإن حضره شهود، ولا يترتب عليه أي حكم من أحكام الزواج. الوجيز لأحكام الأسرة ص41، "نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص221.

فذكروا في أحد أقوالهم: أن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهم قال بإباحته، وعليه لا حد بالوطء فيه، وإن اعتقد الواطئ تحريمه: لوجود شبهة الخلاف. أما القول الثاني: فإنه يجب الحد بالوطء في ظل نكاح المتعة؛ لأنه قد ثبت نسخه وقد رجع عنه ابن عباس. وفي قول ثالث: يجب الحد على معتقد التحريم دون غيره1.

_ 1 يقول الشربيني الخطيب: "واحترز على شبهة الطريق التي تضمنها قوله: "وكذا كل جهة أباحها"، أي قال بالوطء بها عالم كنكاح بلا شهود فقط، كما قال به مالك، أو بلا ولي فقط كما قال به أبو حنيفة. أو بولي وشهود، ولكنه مؤقت وهو نكاح المتعة كما قال به ابن عباس -رضي الله تعالى عنهم- لأحد بالوطء فيه "على الصحيح"، وإن اعتقد تحريمه لشبهة الخلاف، وقيل: يجب على معتقد التحريم دون غيره، وقيل: يجب على معتقد الاباحة أيضًا، كما يحد الحنفي على شرب النبيذ، وفي قول يجب في نكاح المتعة؛ لأنه ثبت نسخه وابن عباس رجع عنه كما رواه البيهقي "مغني المحتاج ج1 ص145، حاشية الباجوري ج2 ص230، ويقول ابن قدامة: ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار والتحليل، والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة ونكاح المجوسية، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، المغني ج8 ص184.

وجمهور فقهاء الشافعية، وإن قالوا بشبهة الجهة هذه، فإنهم لم يتركوا باباها مفتوحًا ليدخل فيه كل خلاف بين الفقهاء، وإنما قصروا ذلك على وقائع محدده، هي التي قالوا بانضوائها تحت ما وضعوه من ضابط للقول بهذه الشبهة. من هذه الوقائع النكاح بلا ولي، أو بلا شهود ومثلهما نكاح المتعة، ثم ذكروا وقائع أخرى اختلف فيها فقهاء، لكنهم لم يروا اختلاف الفقهاء فيها اختلافًا منتجا لشبهة الجة، أو الطريق؛ لأنهم يرون أن الضابط في الشبهة قوة المدرك، لا عين الخلاف، كما ذكرها الشيخان. فلو وطئ أمة غيره بإذنه حد على المذهب عند جمهور الشافعية، وإن حكي عن عطاء حل ذلك، وهو ما ذهب إليه الشيعة الجعفرية. كما أن فقهاء الشيعة يشترطون في محل الخلاف المذكور أن لا يقارنه حكم، فإن قارنه حكم بأن حكم شافعي يبطلانه حد قطعًا، أو حنفي أو مالكي بصحته لم يحد قطعًا؛ لأن حكم القاضي يمنع النزاع، ويرفع الخلاف، وعلى هذا فإن جمهور فقهاء الشافعية لم يقل بشبهة الجهة بصفة عامة، وإنما وضع لها من الضوابط ما يخصصها، ويحدد مرادهم بها، وقد وضح الشربيني الخطيب ذلك بقوله: وقد مر أن شرط الشبهة أن تكون قوية المدرك مسقطة للحد ليخرج أيضًا شبهة من استؤجرت للزنا، فلذلك قال: ويحد في وطء مستأجر للزنا بها لانتفاء الملك والعقد، وعقد الإجارة باطل، ولا يورث شبهة، مؤثرة كما لو اشترى خمرًا فشربها، وهذا ما ذهب إليه المالكية والحنابلة أيضًا.

وعن أبي حنيفة أنه لا حد؛ لأن الإجارة شبهة، وعورض بأنها لو كانت شبهة لثبت النسب، ولا يثبت اتفاقًا. فإن قيل: لم لم يراع خلافه هنا كما مر في نكاح بلا ولي؟ أجيب بضعف مدركه هنا. ويحد أيضًا في وطء مبيحة فرجها للوطء؛ لأن البضع لا يباح بالإباحة، وتحد هي أيضًا في المسألتين، وفي وطء محرم بنسب أو رضاع، أو مصاهرة وأن كان تزوجها؛ لأنه وطء صادف محلًا ليس فيه شبهة، وإن كان أبو حنيفة قد قال لا حد عليه؛ لأن صورة العقد شبهة1. من هذا يبين تأكيد جمهور فقهاء الشافعية، والحنابلة على أن تكون الشبهة قوية المدرك حتى يمكن الاعتداد بها في إسقاط الحد، فإن تخلف هذا الشرط، فإنها تصبح شبهة ضعيفة لا يلتفت إليها، ولا يدرأ بها حد. وعلى هذا فإن شبهة الجهة، أو الطريق لا تقوم عندهم إلا إذا كان الخلاف في حل الفعل وتحريمه، بشرط أن يكون هذا الخلاف ناتجًا من اعتداد من يقول بالحل بدليله الذي ثبت عنده، واعتداد من يقول بالحرمة بدليله الذي ثبت عنده. وعلى هذا أيضًا لا يعد من شبهة الجهة، أو الطريق كل خلاف في أن هذه شبهة أم لا، ما دام الفقهاء قد اتفقوا على تحريم الفعل، ولم يوجد عند أحدهم دليل يقول بحله.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص145-146، فتح القدير ج5 ص550-262ط الحلبي الخرشي ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص314 المغني ج8 ص211، المختصر النافع ص210 الروضة البهية شرح اللمعغة الدمشقية ج2 ص113 نقلًا عن أستاذي الدكتور سلام مدكور نظرية الإباحة ص222-223.

أي أن ما اختلف عليه جمهور الفقهاء -مع أبي حنيفة، فيما يرى الإمام أبو حنيفة أنه شبهة عقد، أو اشتباه ويرى جمهور الفقهاء أنه ليس بشبهة، لا يجوز الاعتداد به، ولا يترتب عليه إسقاط العقوبة الحدية، ما دام الجمهور يرون أن الفعل الذي وقع حرام عندهمن ويتمثل ذلك فيما قال به الإمام أبو حنيفة من شبهة العقد، أي عقد، حتى ولو كانت العقوبة عليه محرمة على من عقد عليها لنفسه حرمة ثابتة بإجماع الفقهاء، حتى ولو كان التحريم على التأبيد. وقد بقين الكساني بقوله: "والأصل عند أبي حنيفة عليه الحرمة أن النكاح إذا وجد من أهله مضافًا إلى محل قابل لمقاصد النكاح بمنع وجود الحد، سواء أكان حلالًا أم حرمًا، وسواء أكان مختلفًا فيه أم مجمعًا عليه، وسواء أظن الحل فادعى الاشتباه أم علم الحرمة"1. وعلى هذا فلو عقد رجل على من تحرم عليه من نسب، أو رضاع أو مصاهرة أو لأي سبب غير ذلك، ثم دخل بها، فإن عقده عليها يعد عند أبي حنيفة شبهة تسقط الحد، نظرًا؛ لأن هذا الرجل وهذه المرأة يشملها عموم النص الذي ورد بإباحة نكاح من تطيب من النساء: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} 2. ويشملها أيضًا العموم الذي جاء في قول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} 3، وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 4.

_ 1 بدائع الصنائع ج7 ص36 ط الجمالية سنة 1910، فتح القدير ج5 ص259-262 الحلبي. 2 من الآية 3 من سورة النساء. 3 من الآية 21 من سورة الروم. 4 الآية 45 من سورة النجم.

فالإمام أبو حنيفة، يرى أن الآيات قد جعلت الأنثى من بنات آدم عليه السلام محلًا صالحًا لمقاصد النكاح من السكنى، والولد والتحصين وغيرها، فكانت محلًا لحكم النكاح؛ لأن حكم التصرف وسيلة إلى ما هو المقصود من التصرف، فلو لم يجعل محل المقصود محل الوسيلة، لم يثبت معنى التوسل، إلا أن الشرع أخرجها من أن تكون محلًا للنكاح شرعًا مع قيام الحلية حقيقة، فقيام صورة العقد والمحلية يورث شبهة إذ الشبهة اسم لما يشبه الثابت، وليس بثابت. كما أن الإمام أبا حنيفة يرى أن النكاح، والمحلية قد وجدا غير أن شرط الصحة قد فات، فكان نكاحًا فاسدًا، والوطء في النكاح الفاسد لا يكون زنا بالإجماع1. كما ذكر صاحب المبسوط أن الإمام أبا حنيفة لا يرى حدًا على من استأجر امرأ ة ليزني بها؛ لأن عقد الاستئجار مشروع لملك المنفعة، أو باعتبار ذلك ينتج شبهة تدرأ الحد. فقد جاء في المبسوط: رجل استأجر امرأة ليزني به، فزنى بها، فلا حد عليهما في قول أبي حنيفة ... واحتج رحمه الله بحادثتين ذكرهما عن عمر -رضي الله تعالى عنه، إحدهما ما روي أن امرأة استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ عمر الحد عنها. والثانية أن امرأة سألت رجلًا مالًا، فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ الحد، وقال: هذا مهر، ولا يجوز أن يقال: إنما درأ الحد؛ لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش؛ لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه، وهو غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالا كما ذكرنا

_ 1 بدائع الصنائع ج7 ص36 ط الجمالية سنة 1910م.

في الثانية أنه علل، فقال: هذا مهر ومعنى هذا أن المهر والأجر يتقاربان، قال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 1 سمى المهر أجرًا. ولو قال: أمهرتك كذا لأزني بك لم يجب الحد، وكذلك إذا قال: استأجرتك، توضيحية أن هذا الفعل ليس بزنا، وأهل اللغة لا يسمون الوطء الذي يترتب على العقد زنا، ولا يفصلون بين الزنا وغيره إلا بالعقد، فكذلك لا يفصلون بين الاستئجار والنكاح؛ لأن الفرق بينهما شرعي، وأهل اللغة لا يعرفون ذلك، فعرفنا أن هذا الفعل ليس بزنا لغة، وذلك شبهة في المنع من وجوب الحد حقًا لله تعالى، كما لا يجب الحث على المختلس؛ لأن فعله ليس بسرقة لغة، يوضحه أن المستوفي بالوطء، وإن كان في حكم العتق، فهو في الحقيقة منفعة، الاستئجار عقد مشروع لملك المنفعة، وباعتبار هذه الحقيقة يصير شبهة، بخلاف الاستئجار للطبخ والخبز؛ لأن العقد هناك غير مضاف إلى المستوى بالوطء، ولا إلى ما هو سبب له، فالعقد المضاف إلى محل يوجب الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر"2. وما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من إطلاق شبهة العقد قم يرضه جمهور الفقهاء، وقالوا بوجوب الحد على من عقد على امرأة مجمع على تحريمها عليه؛ لأنهم يرون أن صورة المبيح، إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة، والعقد في المسائل التي قال بها الإمام أبو حنيفة باطل محرم وفعله جناية تقتضي عقوبة تنضم إلى عقوبة الزنا، فلم تكن شبهة3.

_ 1 من الآية 24 من سورة النساء. 2 المبسوط للسرخسي ج9 ص58-59. 3 المغني ج8 ص182 المهذب ج2 ص268، مغني المحتاج ج4 ص146 الشرح الكبير لابن قدامة ج10 ص188-189 كشاف القناع ص98، حاشية الدسوقي ج4 ص314. الخرشي ج8 ص91.

واستند نقد الفقهاء لأبي حنيفة، فيما ذكر من إسقاط الحد بالنسبة لمن استأجر امرأة فزنى بها. وقالوا: إن عقد الإجارة باطل ولا يورث شبهة، وقاسوا ذلك بحال من اشترى خمرًا فشربها، وأن عقد الإجارة لو كان يورث شبهة لثبت به النسب، والنسب لا يثبت في مثل ذلك اتفاقًا1. ويزيد ابن القيم على ما سبق من قول الفقهاء منكرًا على أبي حنيفة قوله بشبهة عقد الاستئجار: كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة في المنع منه، ثم يسقط الحد بالتحايل عليه بأن يستأجره لذلك، أو لغيره ثم يقضي غرضه منها؟ وهل يعجز عن ذلك زان أبدًا؟! وهل يسقط الشارع الحكم الحد، عمن أراد أن ينكح أمه أو ابنته، أو أخته بأن يعقد عليها العقد، ثم يطأها بعد ذلك، وهي ما زادت صورة العقد المحرم، إلا فجوررا وإثماً، واستهزاء بدين الله وشرعه، ولعبًا بآياته؟ فهل يليق به مع ذلك دفع هذه العقوبة عنه، وإسقاطها بالحيلة التي فعلها مضمومة إلى فعل الفاحشة بأمه وابنته2، هذه مقالة أبي حنيفة، وبيان رأي الجمهور فيها. أما الصاحبان أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، فإنهما لم يقولا بشبهة

_ 1 الخرشي ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص214. مغني المحتاج ج4 ص146، المغني -8 ص211، فتح القدير ج5 ص262. 2 إعلام الموقعين لابن القيم ج3 ص198-199.

العقد على إطلاقه كما ذهب أبو حنيفة، وإنما عد العقد شبهة إذا كان النكاح محلًا للخلاف بين الفقهاء، أو كان التحريم مؤقتا فقط. إما إذا كانت المعقود عليها محرمة على من عقد عليها لنفسه تحريمًا تأبيديا بحيث لا يمكن أن تكون حلالًا له قط، كأمه أو أخته، أو ابنته مثلًا، أو كان النكاح مجمعًا على بطلانه، كما إذا عقد على امرأة في عصمة رجل آخر، فإن العقد في هاتين الحالتين لا يمكن أن ينتج علنه شبهة تدرأ الحد، ولذا أوجبوا الحد إذا حدث دخول في هاتين الحالتين، إلا إذا ادعى من دخل أنه ظن أن ذلك حلالًا، وأن الأمر اشتبه عليه، فهنا يدرأ الحد عنه1، والحد وإن سقط حينئذ فسقوطه بسبب قيام شبهة الجهل التي تنفي القصد الجنائي عند الفاعل، وليس لقيام شبهة العقد، وما ذهب إليه الجمهور، ووافقهم عليه الصاحبان هو ما أرى ترجيحه والعمل به، إذ أن الجاني بالدخول في ظل عقد على من حرمت عليه تحريمًا تأبيديا لا خلق له ولا دين، إذ كيف يقدم على الدخول بأمه، أو بأخته أو بابنته، ثم بعد ذلك يطمع في أن يسقط الحد عنه لتمسحه في عقد باطل؟. وكيف يتأتى لأحد أن يعقد هذا العقد، أو يشهد عليه؟ مما لا شك فيه أن ذلك لا يتأتى إلا من فاجر فاسق يجب أن ينزل به من العقاب الموجع ما يزجره، ويردعه هو من تسول له نفسه الإقدام على شيء من ذلك، والاعتداء على حرمات الله اعتداء لا يقع إلا مع شاذ

_ 1 بدائع الصنائع ج7 ص36، فتح القدير ج5 ص259-260.

موغل في الانحراف والغي، ومثل هذا قد يبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- عقابه في قوله: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه" 1.

_ 1 رواه ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهم. السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص237 ط الهند سنة 1354هـ. وقد ذكر ابن الهمام جابنًا مما ورد في ذلك، فقال: وفي مسألة المحارم رواية عن جابر -رضي الله تعالى عنه- أنه يضرب عنقه، ونقل عن أحمد وإسحاق، وأهل الظاهر، وقصر ابن حزم قتله على ما إذا كانت امرأة أبيه قصرًا للحديث الآتي على مورده، وفي رواية أخرى عن أحمد تضرب عنقه يؤخذ ماله لبيت المال. وذلك لحديث البراء قال: "لقيت خالي ومعه راية، فقلت له: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل نكح امرأة أبيه أن اضرب عنقه، وأخذ ماله. وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن. وروى ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من وقع على ذات محرم منه، فاقتلواه"، وأجيب بأن معناه أنه عقد مستحلًا فارتد بذلك، وهذا؛ لأن الحد ليس ضرب العنق، وأخذ المال بل ذلك لازم للكفر، وفي بعض طرقه عن معاوية بن قرة عن أبيه "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث جده معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه، ويخمس ماله"، وهذا يدل على أنه استحل ذلك فارتد به، ويدل على ذلك أنه ذكر في الحديث أنه عرس بها، وتعريسه بها لا يستلزم وطأه إياها، وغير الوطء لا يحد به فضلًا عن القتل، فحيث كان القتل كان للردة وهذا يخلو عن نظر، فإن الحكم لما كان عدم الحد، والقتل كان للردة وهذا يخول عن نظر، فإن الحكم لما كان عدم الحد والقتل بغير الوطء كان قتله جائزًا كونه لوطئه، وكونه لردته فلا يتعين كونه، للردة، ويجاب بأنه أيضًا لا يتعين كونه للوطء، فلا دليل فيه على أحدهما بعينه وذلك يكفينا، وقالوا: جاز فيه أحد الأمرين أنه للاستحلال، أو أمر بذلك سياسية وتعزيرًا. فتح القدير ج5 ص260-261.

والحديث الشريف عام، يشمل كل من يقع منه هذا الفعل المحرم سواء استحل ذلك، أم لم يستحل. والإمام أبو حنيفة، وإن قال بدرء صورة العقد للعقوبة الحدية، على اعتبار أنه يرى أن مجرد صورة العقد شبهة، إلا أنه لم يقل بإسقاط العقوبة بكل أنواعها، وإنما الذي لا يوافق عليه فقط في مثل هذا هو العقوبة الحدية لما ذكره. أما إقامة العقوبة التعزيرية على من فعل ذلك، فهذا أمر لا محالة منه عنده بل وصل به إلى أنه واجب، فلا محالة من إلزام الفاعل هنا عقوبة تعزيرية موجعة ورادعة، فهو إذا لم يقل بحل الفعل؛ لأن الفرق كبير بين القول بدرء العقوبة الحدية، والقول بحل الفعل. وعلى هذا يمكن حصر الخلاف بين وجهتي نظر الجمهور، والإمام أبي حنيفة في أن الإمام يعتبر صور المبيح شبهة تدرء الحد، ولا تنفي جنس العقوبة. أما الجمهور، فإنه لا يعتر صورة المبيح شبهة ما دام المحل غير صالح لقيامها به نظرًا لما ورد من نهى عن ذلك من لدن الشارع الحكيم، غير أن ما ذكره الإمام أبو حنيفة ما هو إلا محاولة منه لتلمس الشبهة، محاولة وصلت حد الإسراف في تلمسها، والقول مما جعله يفتح باب شبهة العقد على مصراعيه، ويقول بها وجود صورة العقد، كما سبق بيانه. أما فقهاء المالكية، فإنهم وإن كانوا فيما ذكروه من شبهة عندهم شبهة العقد، إلا أنهم قصروها على ما ينتج من انعقاد ليس له صفة العقد

الصحيح النافذ المترتبة عليه الآثار الشرعية، ومثلوا لها بأمثلة كثيرة منها ما يدخل ضمن مفهوم شبهة الجهة، أو الطريق وهي الشبعة الناتجة عن عقد يراه بعض الفقهاء صحيحًا، ويراه الآخرون غير ذلك، كالعقد بلا ولي، فإن الوطء فيه لا يسمى زنا شرعًا عندهم، للاختلاف المنتج شبهة تدرأ الحد1. ومن الأمثلة التي ذكروها أيضًا، وقالوا بشبهة العقد فيها، ما إذا عقدت امرأة عقدها على مملوكها، ثم مكنته من الدخول بها في ظل هذا العقد، وإن كان غير صحيح، إلا أنه يورث شبهة تدرأ الحد عنها. يقول الخرشي: "وكذا تجد المرأة إذا مكنت مملوكها من نفسها حتى وطئها من غير عقد، لا أن كان بعقد للشبهة، وإن كان غير صحيح"2. وكذا شبهة العقد الباطل، كمن يعقد لنفسه على معتدة غيره ثم يطؤها، وهو عالم بأنها معتدة غيره، فالعقد هنا وإن كان باطلًا غير أنه يورث شبهة عند فقهاء المالكية يترتب عليها درء الحد. يقول الخرشي: وإذا عقد على معتدة من غيره، ووطئها عالمًا، فإنه لا حد عليه هو المشهور، مع أن حد الزنا صادق عليه3. ومثل ذلك أيضًا من وطئ امرأة على عمتها، أو خالتها نسب أو رضاعة، فلا حد عليه إذا تم هذا الوطء في ظل عقد؛ لأن هذا العقد وإن كان باطلًا، إلا أنه يورث شبهة تدرأ العقوبة الحدية4.

_ 1 الخرشي ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص303. 2 الخرشي ج8 ص77. 3 المرجع السابق ص78 حاشية الدسوقي ج4 ص 316. 4 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص315-317.

هذه بعض أمثلة لما قال به فقهاء المالكية من شبهة العقد، وهم قد قصروها على ذلك، ولم يصلوا بها الحد الذي وصله الإمام أبو حنيفة كما تقدم. هذا هو الموضع الثاني الذي فيه شبهة الدليل. وقد ذكر بعض فقهاء المالكية نوعًا من الشبهة هي أقرب إلى شبهة الدليل، وذلك عند حديثهم عمن تزوج امرأة على أختها أي جمع بينهما، ودخل بهما فقال بعض المالكية بعدم وجوب الحد على من جمع بين الأختين من الرضاع ودخل بهما؛ لأن تحريم الجمع بينهما جاء من السنة، ولا حد على من تزوج امرأة على عمتها مثلًا، ودخل بهما؛ لأن التحريم أيضًا بالسنة لا بالكتاب1. والفقهاء والذين قالوا بذلك من المالكية، وإن رأوا إسقاط العقوبة الحدية إلا أنهم يرون أن من فعل ذلك، وجمع بين المحرمات الذين وردا دليل تحريم الجمع بينهم من السنة، يجب إلزامه بعقوبة تعزيرية مناسبة تكفل الردع، والزجر له ولأمثاله، والإمام مفوض في اختيار نوع هذه العقوبة. وشبهة الدليل هذه التي قال بها بعض فقهاء المالكية، تغير شبهة الفعل التي أوردها فقهاء الأحناف، مغيرة كاملة؛ لأن شبهة الفعل تقوم في حق من اشتبه عليه حكم الفعل، أهو حلال أم حرام؟ وليس لديه دليل يفيد الحل صراحة، وإنما ظن غير الديل دليلًا. وذلك مثل من يطأ جارية زوجته ظانًا أنها تحل له، نظرًا؛ لأنه رأى أن وطأها نوع من استخدامها، واستخدامها له مباح2.

_ 1 الخرشي ج8 ص79. 2 فتح القدير ج5 ص250.

أما شبهة الدليل هذه عند من قال من فقهاء المالكية، فهي تقوم عندما يكون الدليل التحريم من السنة أي دليل تحريم الفعل، لا دليل إيجاب نوع الحد، بدلًا من نوع آخر، أو تقرير عقوبة من العقوبات وعدها عقوبة حدية. أي أن شبهة الدليل التي نحن بصددها لا تقوم عند الحديث عن عقوبة الرجم، أو إيجابها بدلًا من عقوبة الجلد، إذا كان من وجبت عليه عقوبة الزنا محصنًا. وإنما تقوم أساسًا في عد الفعل جريمة حدية، يلزم من قام بهذا الفعل بالعقوبة الحدية أم لا، نظرًا؛ لأن دليل التحريم من السنة، وما ذكره بعض فقهاء المالكية هنا أرى لا يعد شبهة يترتب عليها دراء حد من الحدود؛ لأن التحريم ما دام قد ثبت دليله، وصححه المحدثون والفقهاء، فليس هناك داع للقول بمثل هذا؛ لأن الدليل إما أن يكون مقبولًا معمولًا به، أو يكون مردودًا، ولا يجوز العمل به، فما دام قد عمل به جميع الفقهاء، وقالوا بتحريم الفعل على أساس ورود هذا الدليل، فلا طائل إذا من التفريق بين كون هذا الدليل من الكتاب، أم من السنة ولا داعي لمثل هذه المحاولة من التفريق، لما ينتج عنها من فتح باب لذوي الأهواء والرغبات.

المطلب الثاني: شبهة الحق

المطلب الثاني: شبهة الحق ويراد بشبهة الحق أن يكون للشخص الذي وقع منه الفعل نوع ما من الحق، الذي يعده جمهور الفقهاء شبهة يترتب عليها درء العقوبة الحدية. وقد عد فقهاء الأحناف هذه الشبهة، ضمن ما أطلقوا عليه شبهة المحل لأنها تشمل عندهم كلا من شبهة الدليل، وشبهة الملك، وشبهة الحق، طبقًا لما وضح من الأمثلة التي ذكروها1. غير أن شبهة الحق تغاير كلا من شبهة الدليل، وشبهة الملك، نظرًا؛ لأن ما وقع عليه الفعل هنا لا ملك للفاعل فيه، كما أنه ليس هناك دليلان عارض كل منهما الآخر في تقرير حكم هذا الفعل، وإنما كل ما هنالك أن لتفاعل نوعا من من الحق في المحل الذي نيط به الفعل، أنتج هذا النوع من الحق شبهة أعملها الجمهور، ورتبوا على وجودها درء العقوبة الحدية عن هذا الفاعل. وتتضح شبهة الحق بذكر ما يأتي من وقائع تقوم في كل منها هذه الشبهة، وتنهض دارئة للعقوبة الحدية عمن وقع منه ذلك. 1 رجل دخل بمن طلقها طلاقًا بائنا على مال، وكان دخوله في زمن عدتها، فإن هذا الرجل تقوم في حقه شبهة الحق عند فقهاء الأحناف نظرًا؛ لأن فراش الزوجية يعتبر قائمًا طوال فترة العدة، وهذا وإن لم يفد الحلية، إلا أنه يورث شبهة يترتب عليها عندهم إسقاط الحد عنه. ومثل هذا عند فقهاء الأحناف من دخل بالمرأة التي طلقها الطلقة

_ 1 يقول ابن الهمام: والشبهة في المحل في ستة مواضع: جارية ابنه والمطلقة طلاقًا بائنًا بالكنايات، والجارية المبيعة إذا وطئها البائع قبل تسليمها إلى المشتري، والمجعولة مهرًا إذا وطئها الزوج قبل تسليمها إلى الزوجة؛ لأن الملك فيها لم يستقر للزوجة والمشتري، والمالك كان مسلطًا على وطئها بتلك اليد مع الملك، وملك اليد ثابت، والملك الزائل مزلزل والمشتركة بين الواطئي وغيره، والمرهونة إذا وطئها المرتهن في رواية كتاب الرهن، وعلمت أنها ليست بالمختارة، فتح القدير ج5 ص252 ط الحلبي.

المكملة لثلاث، ظانًّا أنها تحل له أو اشتبه عليه حلها له، وهي في عدتها منه. فإن هذا الرجل تنهض في حقه عند فقهاء الأحناف شبهة الحق؛ لأنه بنى ظنه على نوع دليل، وهو بقاء النكاح في حق الفراش، وحرمة الأزواج، فظن أنه بقى في حق الحل أيضًا، وهذا وإن لم يصلح دليلًا على الحقيقة يفيد حل الدخول، وإباحته إلا أنه يترتب عليه درء العقوبة الحدية عنه نظرًا لقيام شبهة الحق بالنسبة له1. هذ ما ذهب إليه فقهاء الأحناف، وإن كان مثل ذلك أليق بالذكر عند الحديث عن الشبهات التي يعتري القصد الجنائي؛ لأن قيام الشبهة في مثل هذا مرتبط باشتباه الأمر على الفاعل، وظنه الفعل الذي أقدم عليه، وإباحته بالنسبة له. الأمر الذي ينتج عنه انتفاء قصده الجنائي. 2 رجل عقد على أمة، ثم دخل بها مع أن عنده حرة، فإن العقد وإن كان فاسدًا إلا أنه أثبت لهذا الرجل نوعا من الحق ينتبج عه شبهة تدرأ الحد عنه. كما هو معمول به عند الإمام أبي حنيفة، ومثل ذلك أيضًا من يعقد على مرتدة ويدخل بها، فإن هذا العقد، وإن كان

_ 1 فتح القدير ج5 ص252، كما جاء في البحر الرائق عند الحديث عن المطلقة ثلاثًا: "أنه بقي فيها بعض الأحكام كالنفقة والسكن والمنع من الخروج، وثبوت النسب وحرمة أختها وأربع سواها، وعدم قبول شهادة كل منهما لصاحبه. فحصل الاشتباه لذلك، فأورث شبهة عند ظن الحل؛ لأنه في موضع الاشتباه. ج5 ص130.

عقد فاسدًا إلا أنه ينتج نوعًا من الحق تترتب عليه شبهة، وهذه الشبهة وإن لم تثبت حل الفعل، إلا أنها تنتج إسقاط الحدية1. 3 قامت البينة على رجل، وامرأة غريبين بأنهما وجدا، وهو يطأها فادعيا الزوجية، أو ادعى أحدهما الزوجية وأنكرها الآخر، وقد ذهب الفقهاء في إيجاب الحد عليهما، أو انتفائه إلى ما يأتي: أولًا: في حالة ادعائهما الزوجية أ- يرى الإمام مالك، وأصحابه مطالبتهما بالبينة على زواجهما، فإن أقاما بينة، فلا حد وإن لم يقيما بينة لزمهما الحد. وقد روي مثل هذا عن إبراهيم النخعي2، إذ أنه يرى أنهما لو صدقا من غير أن يقيما بينة لما أقيم حد على فاجر؛ لأن ادعاء الزوجية أمر سهل إذا ما أحدق الخطر بالزانيين3. ب- ذهب الإمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد إلى أنه لا حد عليهما ما داما قد قالا بأنهما تزوجا سواء أكانا معروفين، أم غير معروفين. واستدلو لذلك بما روي من أن رجلًا، وامرأة رفعا إلى علي بن أبي طالب

_ 1 البحر الرائق ج3 ص181، العقوبة، للشيخ أبي زهرة ص225. 2 إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران النخعي من أكابر التابعين من أهل الكوفة، من أكابر حفاظ الحديث، مات متخفيًا من الحجاج سنة 96هـ. 3 منح الجليل ج7 ص501 الطبعة السابعة. المحلى لابن حزم ج13 ص210 ط مكتبة الجمهورية العربية.

-رضي الله تعالى عنه- فسألهما، فقال الرجل: هي ابنة عمي تزوجتها، فقال لها علي: ما تقولين؟ فقال لها الناس: قولي: نعم، فقالت: نعم، فدرء عنها الحد. بل ذكر ابن نجيم أنه لو أقر أحد الزانيين، وأنكر الآخر، فإنه لا حد عليهما ما دام أن من أنكر قد قال بأنهما زوجان، وهذا ما ذهب إليه الشيخان، وإن كان الإمام أبو حنيفة يكتفي بمطلق الإنكار، ولم يقيده بالقول بالزوجية، وحاصل دليل أبي حنيفة أن الزنا فعل مشترك بينهما قائم بهما، فانتفاؤه عن أحدهما يورث شبهة في الآخر1. ج- ذهب ابن حزم إلى أن من وجد مع امرأة يطؤها وقامت البينة بالوطء، فقال هو: إنها امرأته وصدقته هي في قوله فإنه ينظر: فإن كانا غريبين أو لا يعرفهما أحد، فلا شيء عليهما؛ لأن الناس كانوا يهاجرون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفذاذا، ومجتمعين من كل بلاد العرب -بأهلهم ونسائهم وإمائهم وعبيدهم، فما حيل بين أحد وبين من زعم أنها امرأته أو أمته، ولا كلف أحد على ذلك بينة. ومثل هذا أيضًا إذا كان أحدهما معروفًا والآخر غير معروف، وقالا بالزوجية وأمكن ما قالا به، فإنه لا شيء عليهما حينئذ؛ لأن الأصل عصمة دمائهما وأبشارهما، ولا يجوز إباحة ما حرم الله تعالى إلا بيقين لا شك فيه. أما لو تيقن كذبهما؛ لأنه لا دليل معهما وهما معروفان، ولا

_ 1 البحر الرائق ج5 ص20، فتح القدير ج5 ص273، تحفة المحتاج ج4 ص133. المغني ج8 ص196، المحلى ج13 ص210-213.

احتمال لقيام الزوجية بينهما، فالحد واجب عليهما، وهما إذا ممن ينطبق عليهما ما قيل من أنه فاجر أن يدعي الزوجية1. وهذ القسم الذي قال به ابن حزم تقسيم منطقي، يحفظ على المسلمين دماءهم، ويصون أعراضهم، ويحمي حدود الله سبحانه وتعالى من عبث العابثين. ثانيًا: إذا اعترف أحدهما بالزوجية، وأنكر الآخر أ- ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا يجب الحد بإقرار أحد الزانيين إذا أنكره الآخر؛ لأن دعوى النكاح تحتمل الصدق، وهو يقوم بالطرفين فأورث شبهة، وأطلق الإمام هذا فشمل ما إذا قال لم أطأ أصلًا، أو قل: "تزوجت، وشمل ما إذا كان المنكر الرجل أو المرأة؛ لأن الزنا فعل مشترك، وانتفاؤه عن أحدهما يورث شبهة في الآخر، وقد وافق الصاحبان أبا حنيفة في حالة ما إذا قال المنكر: أنهما قد تزوجا. أما إذا قال المنكر: ما زنيت، ولم يدع ما يسقط الحد فلم يقل أنهما تزوجا، وجب على المقر الحد دون المنكر عند الصاحبين خلافًا لأبي حنيفة2.

_ 1 المحلى ج13 ص212-213. 2 البحر الرائق لابن نجيم ج5 ص20، فتح القدير ج5 ص273-274. يقول ابن نجيم: لا يجب الحد بإقرار الزانيين إذا انكره الآخر؛ لأن دعوى النكاح تحتمل الصدق، وهو يقوم بالطرفين، فأورث شبهة إلى أن يقول: فشمل ما إذا قال: لم أطأ اصلًا أو قال: تزوجت وشمل ما إذا كان المنكر الرجل، أو المرأة، وهو قول الإمام، وقالا: إن أدعى المنكر منهما الشبهة بأن قال: تزوجته فهو كما قال، وإن أنكر بأن قال: ما زنيت ولم يدع ما يسقط الحد، وجب على المقر الحد دون المنكر، وحاصل دليل الإمام أن الزنا فعل مشترك بينهما قائم بهما، فانتفاؤه عن إحدهما يورث شبهة في الآخر.

وهذا ما ذهب إليه أهل المدينة1. ب- وذهب ابن قدامة إلى أن من أقر بأنه وطئ امرأة، وادعى أنها امرأته، وأنكرت المرأة أن يكون زوجها نظر، فإن لم تقر بوطئه إياها فلا حد عليه؛ لأنه لم يقر بالزنا، وذكر أن الإمام أحمد -رضي الله عنه- قد سئل عن رجل وطئ امرأة، وزعم أنها زوجته، وأنكرت هي أن يكون زوجها، وأقرت بالوطء قال: فهذا قد أقرت على نفسها بالزنا، ولكن يدرأ عنه الحد بقوله: إنها امرأته ولا مهر عليه، ويدرأ عنها الحد حتى تعترف مرارًا2. وأرى أنه يطبق عليهما ما مضى من تفصيل من حيث كونهما معروفين، أم لا فإن كانا غير معروفين، فلا حد على من قال بالزوجية، أما إن كانا معروفين أو من ادعى الزوجية معروفًا، ولم يغب عن أهله وذويه وقتًا يمكن له أن يتزوج فيه، فإنه لا بد من إقامة بينة على ما يدعيه. فإن أقام البينة على زواجه فلا حد عليهما، وإلا الزاما بالحد حتى لا تضيع حدود الله بالدعاوى الباطلة. 4- من سرق من مال أبويه: ذهب الإمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد إلى أن من سرق من مال أبويه، وإن علوا فإنه لا قطع عليه نظرًا؛ لأن النفقة تجب للابن في مال أبيه حفظًا للابن، فلا يجوز إذا اتلافه حفظا لمال والده

_ 1 المغني ج8 ص197. 2 المغني ج8 ص196.

كما أن للابن حق الأكل من مال والديه، ووجود هذا الحق للابن ينتج شبهة يترتب عليها درء الحد عنه أن سرقه1، وهذا هو مذهب فقهاء الشيعة2. أما الإمام مالك، وأبو ثور من الشافعية وابن حزم، فإنهم يرون أن القطع واجب على الابن إذا سرق من مال والديه، لظاهر الكتاب؛ ولأنه يحد بالزنا بجاريته، ويقاد منه بقتله، فإنه يقطع بسرقة ماله

_ 1 يقول ابن الهمام: ومن سرق من أبويه، وإن عليا أو ولده وإن سفل، أو ذي رحم محرم منه كالأخ والأخت والعم والخال، والعمة لا يقطع. فتح القدير ج5 ص380 طبعة الحلبي. كما يقول الشيرازي: من سرق من مال ولده أو ولد ولده، وإن سفل أو من أبيه أو من جده، وإن علا لم يقطع، وقال أبو ثور: يقطع لقوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولم يخص، وهذا خطأ لقوله عليه السلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، وللأب شبهة في مال الابن، وللابن شبهة في مال الأب؛ لأنه جعل ماله كما له في استحقاق النفقة. المهذب ج2 ص281 ط الحلبي. كما يقول ابن قدامة: ولا يقطع الابن وإن سفل بسرقة مال والده، وإن علا ووجه ذلك أن بينهما قرابة تمنع قبول إحدهما لصاحبه، فلم يقطع بسرقة ماله كالأب؛ ولأن النفقة تجب في مال الأب لابنه حفاظًا له، فلا يجوز إتلافه حفظًا للمال، المغني ج8 ص276 ط مكتبة الجمهورية العربية. 2 يقول أبو القاسم الموسوي عند حديثه عن السرقات التي لا يجب القطع بها: ومثل ذلك السرقة من منزل الأب، ومنزل الأخ والأخت، ونحو ذلك مما يجوز الدخول فيه، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285 ط النجف الأشرف.

كالأجنبي؛ ولأن الشبهة هنا التي تنتج من كون أن للابن حقًا في مال والديه شبهة ضعيفة لا تقوى على درء الحد عنه1. وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أصحاب الرأي القائل بعدم القطع، أولى نظرًا لما للابن من حق على والديه؛ ولأن والديه لا يرضيان أن تقطع يد ابنهما حتى وإن أخذ كل منهما، وهذا ما لا يختلف عليه والد بالنسبة لولده. أما قياس -الإمام مالك وابن المنذر، ومن ذهب مذهبهم وجوب القطع بسرقة مال أبويه على وجوب الحد على الابن إذا زنا بجارية أحد أبويه، فقياس مردود؛ لأن للابن شبهة في مال والديه، كما قال بذلك الإمام مالك، ومن ذهب مذهبه -ولكنه لا شبهة له في وطنه جارية أحد أبويه، وفرق بين الواقعتين. 5- سرقة باقي الأقارب بعضهم من بعض: ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قطع في السرقة من ذي رحم محرم كالأخ والأخت والعم، والخال والعمة والخالة، نظرًا؛ لأن ما بينهما من قرابة تمنع النكاح، وتبيح النظر، وتوجب النفقة وعلى هذا، فإنها تشبه قرابة الولادة2. ووافق الإمام أبا حنيفة فقهاء الشيعة؛ لأنهم لا يرون القطع على من سرق من محل يجوز له الدخول فيه، ويباح له الأكل منه3 أما

_ 1 جاء في الخرشي ج8 ص96 ط بيروت: أما الابن إذا سرق من مال أبيه، أو من مال جده، فإنه يقطع لضعف الشبه، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص337 المحلى لابن حزم ج13 ص385 ط مكتبة الجمهورية العربية. المهذب ج2 ص281. 2 فتح القدير ج5 ص380. 3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص385.

باقي الفقهاء، فإنهم يرون وجوب القطع على من سرق من ذي رحم محرم قدرًا يجب القطع به. لأنهم يرون أن قرابة ذي الرحم المحرم التي لا تمنع شهادة كل منهما لصاحبه لا تمنع وجوب القطع على أحدهما إذا سرق مال صاحبه1، وهذا ما أميل إليه؛ لأن إباحة الدخول توجب زيادة المحافظة على مال من أبيح له الدخول عليه. كما أنه فرق كبير بين قرابة الولادة، وقرابة ذي الرحم المحرم. 6- سرقة أحد الزوجين من مال الآخر: أ- يرى الإمام أبو حنيفة أنه إذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر، فإنه لا يقطع بذلك، وكذا إذا سرق غلام أحدهما من مال الآخر. نظرًا لوجود الإذن في الدخول بالنسبة لكل منهما على صاحبه، والإذن بالدخول يترتب عليه الإخلال بالحرز. واستدل الإمام أبو حنيفة بما روي من أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قال لمن جاءه قائلًا: إن غلامي مرآة امرأتي فرد عليه عمر بقوله: لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم. وعليه فإنه إذا لم يقطع غلام الزوج بسرقته امرأة سيده، فإن سيده أولى بعدم القطع. كما أن كلًا من الزوجين لا تقبل شهادة للآخر لاتصال المنافع، وعليه فإن كلًا منهما لا يقطع بسرقته مال الآخر. وقد وافق الإمام أبا حنيفة في ذلك بعض فقهاء الشيعة، وزاد

_ 1 المغني ج8 ص276، الخرشي ج8 ص96، المهذب ج2 ص281، المحلي ج13 ص385.

الإمام أبو حنيفة على ذلك، وتوسع في مفهوم الزوجية، وجعله يشمل من سرق مال امرأة، ثم تزوجها سواء تزوجها بعد أن قضى بالقطع، أو قبله. وخالفه أبو يوسف في ذلك، وقال: إذا كان قد قضى بالقطع قبل زواجه منها قطع، أما لو تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع سقط القطع عنه. وقال الإمام أبو حنيفة بإسقاط القطع عن كل منهما إذا سرق أحدهما من مال الآخر في زمن عدة كل منهما من صاحبه، نظرًا؛ لأن وجود نوع من الخلطة بينهما في زمن العدة يورث شبهة حق لكل منهما في مال الآخر يترتب عليها إسقاط العقوبة الحدية1. ب- يرى الإمام مالك، والإمام أحمد، وفي رأي للإمام الشافعي، وبعض فقهاء الشيعة تقسيم مال كل من الزوجين إلى قسمين: القسم الأول: ما ليس بمحرز عن أحدهما سواء أكان مال الزوج، أو مال الزوجة، وهذا المال لو سرقه أحدهما من صاحبه، فلا قطع عليه نظرًا

_ 1 يقول ابن نجيم: أطلق في الزوجية فشمل الزوجية وقت السرقة فقط بأن سرق منها، ثم أبانها وانقضت عدتها ثم ترافعا فلا قطع، والزوجية بعدها كما إذا سرق من أجنبية ثم تزوجها، ثم ترافعا فلا قطع ولو بعد القضاء، وكذا عكسه لوجود الشبهة قبل الإمضاء، وشمل الزوجية من وجهه، كما إذا سرق من مبتوتة في العدة، أو سرقت هي منه لوجود الخلطة، بخلاف ما إذا سرق منها بعد الانقضاء، فإنه يقطع. والحاصل أن في باب السرقة يكتفى بوجود الزوجية في حالة من الأحوال قبل القطع لسقوطه، البحر الرائق ج5 ص63 ط بيروت، فتح القدير ج5 ص382 شرح الأزهار ج4 ص376 ط الحلبي سنة 1947م.

لقيام شبهة الحق لكل منهما في هذا المال، وحتى لو كان الحق غير مستقر لأحدهما، فيما سرق إلا أن وجود شبهته قائم، ويترتب عليه درء الحد. القسم الثاني: ما أحرزه كل منهما عن صاحبه، ومنعه منه سواء أكان المال المحرز في مكان السكن، أو في مكان آخر. وهذا المال لو قام أحدهما بسرقته من صاحبه، فإنه يقطع به نظرًا؛ لأنه سرق مالًا محرزًا عنه لا شبهة له فيه، فهو والأجنبي سواء1، وذهب الإمام الشافعي في قول ثان إلى أنه لا قطع على كل من الزوجة، والزوج؛ لأن الزوجة تستحق النفقة من مال زوجها يملك منعها من التصرف في مالها، والحجر عليها على قول بعض الفقهاء. وفي قول ثالث فرق الإمام الشافعي بين كون السارق من مال صاحبه الزوجة أم الزوج. فإذا كانت الزوجة هي التي سرقت من مال زوجها، فلا قطع عليها نظرًا؛ لأن لها في ماله حق النفقة وغيرها، كما أن الزوجة في قبضة زوجها، فما سرقته منه لن يخرج عن ملكيته.

_ 1 جاء في الخرشي ج8 ص98 ط دار الفكر بيروت: وكذا يقطع أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه بشرط أن يكون المال المسروق في مكان محجور عن السارق أن يدخله، أما لو سرق من مكان يدخله، فإنه لا قطع عليه؛ لأنه حينئذ خائن لا سارق، وحكم أمة الزوجة حكمها في السرقة من مال الزوج، وحكم عبد الزوج حكمه إذا سرق من مال الزوجة، مغني المحتاج ج4 ص162، المغني ج8 ص276-277. حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص340، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285.

أما إذا كان الزوج هو الذي سرق من مال زوجته، فإنه يقطع بهذه السرقة؛ لأنه لاحق له في مال زوجته، كما أن زوجته ليس لها عليها يد بحيث يبقى ما سرقه منها في ملكيتها1.

_ 1 يقول الشيرازي: وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه، ففيه ثلاثة أقوال: إحداهما: أنه يقطع؛ لأنه النكاح عقد على المنفعة، فلا يسقط القطع في السرقة كالإجارة. والثاني: أنه لا يقطع؛ لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك أن يحجر عليها يمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء، فصار ذلك شبهة. والثالث: أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة، ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن للزوجة حقًا في مال الزوج بالنفقة، وليس للزوج حق في مالها المهذب ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص162 ط مصطفى الحلبي سنة 1958م. وقد أجمل ابن قدامة هذه الأقوال في قوله: "وإن سرق أحد الزوجين من مال الآخر، فإن كان مما ليس محرزًا عنه، فلا قطع فيه، وإن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان. إحداهما: لا قطع عليه، وهي اختيار أبي بكر، ومذهب أبي حنيفة لقول عمر -رضي الله تعالى عنه- لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي، حين قال له: أن غلامي سرق مرآة امرأتي، أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم، وإذا لم يقطع عبده بسرقة مالها فهو أولى؛ ولأن كل واحد منهما يرث صاحبه بغير حجب، ولا يقبل شهادته له، ويتبسط في مال الآخر عادة، فأشبه الوالد الولد. والثانية: يقطع وهو مذهب مالك، وابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرشي، لعموم الآية؛ ولأنه سرق مالًا محرزًا عنه لا شبهة له فيه. أشبه الأجنبي، وللشافعي كالروايتين، وقول ثالث أن الزوج يقطع بسرقة مال الزوجة؛ لأنه لا حق له فيه، ولا تقطع بسرقة ماله؛ لأن لها النفقة فيه المغني ج8 ص276-277.

والقول الثالث للإمام الشافعي يحتاج إلى نظر، إذ أن الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه، قد ذكر أن من بين الأسباب التي أدت إلى القول بعدم قطع الزوجة إذا سرقت من مال زوجها، أن الزوجة في قبضة زوجها، فما سرقته منه لن يخرج عن ملكيته، وذلك أحرى أن يسقط القطع عن الزوج؛ لأنه إذا كانت الزوجدة في قبضة زوجها، وإذا كان ما في يدها لا يخرج عن ملكية زوجها. فإن ذلك يثبت له على ما في يدها سلطان، ومثل ذلك يورث شبهة تنتج درء الحد عنه. هذا ما أميل إليه، وأرجحه. ج- ذهب ابن حزم إلى وجوب القطع على كل من الزوجين، إذا سرق من صاحبه ما لم يبح له أخذه مثله في ذلك مثل الأجنبي سواء بسواء، سواء أكان المال المأخوذ محرزًا، أو غير محرز. ورد ابن حزم ما ذهب إليه باقي الفقهاء من عدم قطع الزوجة بما سرقته من مال زوجها نظرًا؛ لأن لها في ماله حقوقًا من صداق وكسوة، وغير ذلك، فقال: أما قولهم: إن لها في ماله حقوقًا من صداق ونفقة، وكسوة، وإسكان وخدمة، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أطلق يدها على ماله حيث كان من حرز أو غير حرز، لتأخذ منه ما يكفيها وولدها بالمعروف -إذا لم يوفيها وإياهم حقوقهم- فنعم، كل هذا حق واجب، وهكذا نقول. ولكن لا يشك ذو مسكة ممن حس سليم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، لم يطلق يدها على ما لا يحق لها فيه من مال زوجها، ولا على أكثر من حقها، لا شك في ذلك، فإباحة الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لأخذ المباح ليس فيه دليل أصلًا على إسقاط

حدود الله تعالى عن من أخذ الحرام غير المباح1 ... وفي في ذلك كالأجنبي. أي أن للزوجة حقها سواء من مال محرز أو غير محرز، فإن أخذت ما ليس لها بحق، عوقبت بالحد الموضوع لفعلتها. لأن الله سبحانه وتعالى لم يخص إذ أمر بقطع يد السارق والسارقة، إلا أن تكون زوجة من مال زوجها، ولا يكون زوجًا من مال زوجته2. وقياس ابن حزم كل من الزوج والزوجة بالأجنبي قياس بعيد؛ لأن الزوزج والزوجة بينهما من المخالطة، والألفة ما ليس بين الأجنبي وغيره، فعقد الزواج يقيم رابطة قوية بين الزوجين، بل هي من أسمى الروابط التي يعنى بها الإسلام لدرجة أنه جعل الزوجين بمنزلة النفس الواحدة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} 3. ومما لا شك فيه أن الفرق إذا بين الزوجين، والأجنبيين -في مخالطة كل منهما لصاحبه، وإباحة ماله بالنسبة له- أمر واضح لا يحتاج إلى تكثير إعمال فكر. وعليه فإن سرقة كل منهما من الآخر، وإن أوجبت عقوبة على

_ 1 يشير ابن حزم بذلك إلى ما رواه من أن هند بنت عتبة، أخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أبا سفيان لا يعطيها وولدها ما يكفهما، فقال -صلى الله عليه وسلم- لها: "خذي ما يكفيك وولده بالمعروف". المحلى ج10 ص103-149، 522، ج11 ص294، ج13 ص389. 2 المحلى ج3 ص390. 3 من الآية 21 من سورة الروم.

السارق ما لا يباح له، إلا أني أرى أنها عقوبة لا تصل حد العقوبة الحدية المقدرة. هذا ما أميل إليه، وأرجحه دون تفريق بين الزوجين، أو الزوجة في شيء من ذلك. 7- السرقة من المال العام: أ- يرى فقهاء الأحناف والحنابلة، وفقهاء الشيعة الزيدية، ورأي للإمام الشافعي أن من سرق من المال العام لا قطع عليه إذا كان له فيه حق؛ لأن وجود للسارق في المال المسروق ينهض شبهة تدرء الحد عنه. واستدل ابن الهمام، وابن قدامة لذلك بما روي عن عمر وعلي -رضي الله تعالى عنهما، من أنهما أجابا من سأل عن حكم من سرق من بيت المال؟ أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق ما دام مسلمًا. وذكر ابن قدامة أن من سرق ماله حق فيه، أو لمن لا يقطع بسرقة ماله لا يقطع لذلك، فقال: ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق، أو لولده أو لسيده، أو لمن لا يقطع بسرقة ماله لم يقطع لذلك، وإن لم يكن من الغانمين ولا أحد من هؤلاء الذين ذكرنا فسرق منها قبل إخراج الخمس لم يقطع؛ لأن له في الخمس حقًا. وإن أخرج الخمس فسرق من الأربعة الأخماس قطع، وإن سرق من الخمس لم يقطع، وإن قسم الخمس خمسة أقسام، فسرق من خمس الله تعالى ورسوله لم يقطع، وإن سرق من غيره قطع، إلا أن يكون من أهل ذلك الخمس. وزاد الشربيني هذا القول تفصيلًا، فقال: ومن سرق وهو مسلم

مال بيت المال أن فرز لطائفة كذوي القربى، والمساكين، وكان منهم أو أصله أو فروعه فلا قطع، أو فرز لطائفة ليس هو منهم قطع، إذ لا شبهة له في ذلك، وإلا بأن لم يفرز لطائفة فلا، والأصح أنه إذا كان له حق في المسروق كمال مصالح بالنسبة لمسلم فقير جزمًا، أو غنى على الأصح، وكصدقة وهو فقير أو غارم لذات البين، أو غاز فلا يقطع في المسألتين، أما في الأولى؛ فلأن له حقًا وإن كان غنيًا؛ لأن ذلك قد يصرف في عمار المساجد، والرباطات، والقناطر فينتفع بها الغني والفقير من المسلمين ... إلى أن يقول، وإلا بأن لم يكن فيه حق قطع لانتفاء الشبهة1. ب- ذهب الإمام مالك إلى أن من سرق من بيت المال المقدار الذي يجب به الحد، فإنه يقطع بسرقته، ولا يحوز درء الحد عنه لكونه له حق في بيت المال؛ لأن ذلك وإن أورث شبهة، إلا أنها شبهة ضعيفة لا يعتد بها في درء الحد عنه. وكذا من سرق من الغنيمة بعد حوزها، أما سرقته منها قبل حوزها، فإنه لا يقطع بها؛ لأنها مال غير محرز حينئذ2. وذهب الإمام الشافعي في أحد آرائه إلى وجوب القطع على من سرق من بيت المال ملطقًا، كوجوب القطع عليه بسرقة مال غيره المحرز عنه3.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص163، المهذب ج2 ص281، المغني ج8 ص277، فتح القدير ج5 ص376، 377، البحر الرائق ج5 ص60 شرح الأزهار ج4 ص376. 2 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص337. 3 مغني المحتاج ج4 ص163.

ج- ذهب ابن حزم إلى أن من سرق من شيء له فيه نصيب، كبيت المال أو الخمس أو الغنم، أو غير ذلك، فإنه ينظر فيما سرقه إن كان نصيبه محددًا معروف المقدار كالغنيمة، أو ما اشترك فيه ببيع أو ميراث أو غير ذلك. فإن أخذ ما يزيد عن نصيبه مما يجب في مثله القطع قطع، ولا بد أما أن أخذ أقل من حقه، فلا قطع عليه. ويستثنى من سرقته ما يزيد على حقه، فلا يجب القطع فيها ما إذا منعه حقه، أو احتاج إليه، ولم يستطع الوصول إلى حقه إلا بسرقته، وما يزيد عليه لعدم قدرته على تخليص حقه فقط مما زاد عليه؛ لأنه والحالة هذه مضطر إلى أخذ الزائد. وأن وجب عليه رد المقدار الزائد على حقه الذي أخذه تبعًا له1. والذي أميل إليه:؛ أن من سرق مالًا له فيه حق، وكان باستطاعته الوصولم إلى حقه بغير طريق السرقة، يجب تعزيره على مسلكه هذا إن أخذ حقه فقط. أما إن زاد على حقه، فإنه يعامل في الزائد معاملة السارق، فيلزم الحد بشروط أما إذا لم يمكنه الوصول إلى حقه إلا عن هذا الطريق، فهذه ضرورة تقدر بقدرها، وسيأتي هذا بشيء من التفصيل عند الحديث عن السرقة بالباب الثاني.

_ 1 المحلى ج13 ص355، وتراجع أيضًا نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص435.

المطلب الثالث: شبهة الملك

المطلب الثالث: شبهة الملك وتتأتى شبهة الملك عندما يكون للفاعل نوع ما من الملك في المحل الذي نيط الفعل به. ويترتب على وجود هذه الشبهة درء العقوبة الحدية عن هذا الفاعل الذي ثبت له نوع من الملك في المحل الذي نيط به الفعل الجنائي. وقد عد فقهاء الأحناف هذه الشبهة ضمن ما أطلقوا عليه شبهة المحل، ووافقهم في ذلك أيضًا فقهاء الشافعية، فشبهة المحل عندهم تشمل كلا من شبهة الدليل، وشبهة الحق وشبهة الملك، كما سبق بيانه عند الحديث عن شبهة الحق، والملك الذي تنشأ عنه هذه الشبهة، إما أن يكون ملكًا خالصًا للمحل الذي قام بالفعل به، ووقع الاعتداء عليه سواء أكان ملكًا حقيقًا، أم ملكًا حكميًا. وإما أن يكون مشتركًا، وإما أن يكون لشخص آخر غير الفاعل، إلا أن مالكه قد أباحه لهذا الذي قد وقع منه الفعل الجنائي، إلى غير ذلك من أنواع الملك التي ستضح فيما يأتي من أمثلة، قامت في كل منها شبهة الملك، وترتب على وجودها دراء العقوبة عن الفاعل. 1- شبهة سببها الملك الخالص: أ- وتقوم هذه الشبهة في حق من يطأط أمته التي بينها، وبينه حرمة نسب لكنها لا تعتق بملكه لها، كعمته أو ابنة أخيه مثلًا فمثل هذا لا تلزمه العقوبة الحدية نظرًا لقيام شبهة الملك في حقه، وهي التي ترتب عليها عدم إلزامه الحد.

والذين أسقطوا العقوبة الحدية هنا ألزموا الجاني عقوبة تعزيرية رادعة، يقول الخرشي عند حديثه عن شبهة الملك المسقطه للعقوبة الحدية: "وكذلك يؤدب من اشترى أمة لا تعتق عليه بنفس الملك كعمته، وابنة أخيه، وما أشبه ذلك ثم وطئها وهو عالم بتحريمها، وإنما لم يحد لعدم انطباق حد الزنا عليه، ويلحق به الولد، وتباع عليه خشية أن يعود لوطئها ثانية1. ويقول ابن قدامة: وإن اشترى أمه أو أخته من الرضاعة ونحوهما، ووطئها فذكر القاضي عن أصحابنا أن عليه الحد؛ لأنه فرج لا يستباح بحال، فوجب الحد بالوطء كفرج الغلام2، وقال بعض أصحابنا: لا حد فيه وهو قول أصحاب الرأي والشافعي؛ لأنه وطء في فرج مملوك به يملك المعاوضة عنه، وأخذ صداقه فلم يجب به الحد كوطء الجارية المشتركة. فأما إن اشترى ذات حرمة من النسب ممن يعتق عليه، ووطئها3 فعليه الحد لا نعلم فيه خلافًا؛ لأن الملك لا يثبت فيها فلم توجد الشبهة، وقد ذكر الشيرازي أن للشافعي رأين في هذا: إحدهما أنه يجب عليه الحد؛ لأنه ملكه لا يبيح وطأها بحال من الأحوال، فلم يسقط الحد. والثاني: أنه لا يجب عليه الحد، وهو الصحيح؛ لأنه وطء في ملك فلم يجب به الحد4.

_ 1 الخرشي ج8 ص78، حاشية الدسوقي ج4 ص316، ويراجع ما جاء في فتح القدير ج5 ص252-2537 البحر الرائق ج5 ص12-17. 2 أي يحرم وطؤها كما يحرم على مالك الغلام وطؤه. 3 المغني ج8 ص184. 4 المهذب ج2 ص268 مغني المحتاج ج4 ص144.

ب- شبهة تقوم بسبب الملك الحكمي، وذلك كما في حق الأب الذي يسرق مال ابنه كما مر، أو يطأ الجارية التي يمكلها ابنه، فإن هذا الأب تقوم في حقه شبهة الملك الحكمي؛ لأنه مالك حكمًا لكل ما يمتلكه ابنه، وعليه فإن هذا الملك الحكمي تنشأ عنه شبهة تسقط العقوبة الحدية. يقول ابن قدامة: الأب إذ وطئ جارية ولده، فإنه لا حد عليه في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك وأهل المدينة، والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور وابن المنذر: عليه الحد إلا أن يمنع منه إجماع؛ لأنه وطء في غير ملك، أشبه وطء جارية أبيه. ولنا أنه وطء تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد، كوطء الجارية المشتركة والدليل على تمكن الشبهة قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فأضاف مال ولده إليه وجعله له، فإذا لم يثبت حقيقة الملك، فلا أقل من جعله شبهة دارئه للحد الذي يندرئ بالشبهات؛ ولأن القائلين بانتفاء الحد في عصر مالك والأوزاعي، ومن وافقهما قد اشتهر قولهم، ولم يعرف لهم مخالف، فكان ذلك إجماعًا، ولا حد على الجارية؛ لأن الحد انتفى عن الواطئ لشبهة الملك، فينتفي عن الموطوءة كوطء الجارية المشتركة؛ ولأن الملك من قبيل المتضايفات إذا ثبت في أحد المتضايفين ثبت في الآخر فكذلك شبهته، ولا يصح القياس على وطء جارية الأب؛ لأنه لا ملك للولد فيها، ولا شبهة ملك بخلاف مسألتنا1. 2- شبهة الملك المشترك: وتقوم هذه الشبهة في حق المحارب المستحق جزءًا من الغنيمة إذا

_ 1 المغني لابن قدامة ج8 ص185، ويراجع فتح القدير ج5 ص252، الخرشي ج8 ص78، مغني المحتاج ج4 ص145.

قام بسرقة بعض هذه الغنيمة قبل أن تقسم على مستحقيها، فالسرقة هنا قد تحققت صورتها بأخذ المحارب المال خفية، لكنه لما كان مالكا لجزء من المال الذي أخذ منه خفية ملكية صحيحة، غير أنها لم تتأكد بالقسمة أنتجت هذه الملكية غير المستقرة شبهة تدرء الحد عنه1. وتقوم شبهة الملك المشترك أيضًا في حق كل من يقع منه فعل جنائي على محل له فيه شركة. كمن يطأ أمة مشتركة بينه وبين غيره، والعقوبة الحدية وإن سقطت على الجاني بسبب قيام شبهة الملك المشترك، إلا أنه يلزم بعقوبة تعزيرية موجعة ورادعة. يقول الخرشي: يؤدب من وطئ أمة مشتركة من أحد الشريكين، أو الشركاء؛ لأن الشريك له في الأمة المشتركة ملك قوي، والشبهة إذا قويت تدرء الحد أي تسقطه2. وقد ذكر ابن قدامة أن أب ثور قد خلف جمهور الفقهاء، وقال بوجوب الحد على من وطئ جارية مشتركة بينه، وبين غيره. غير أن ابن قدامة قد رجح رأي الجمهور على أساس أن وجود الملك المشترك يدفع الحد عن الجاني في هذه المسألة3.

_ 1 جاء في حاشية الدسوقي ج4 ص315- أن الجندي في الحربة السيرة إذا وطئ أمة من الغنيمة قبل قسمتها، فلا حد عليه؛ لأن له سهمًا في الغنيمة، وإن كان قد حدد بعده بخلاف من الأسهم له في الغنيمة فإنه يحد. 2 الخرشي ج8 ص78، شرح القدير ج5 ص252، مغني المحتاج ج4 ص145، المهذب ج2 ص45، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ج2 ص137. 3 المغني ج8 ص184.

3- شبهة إباحة الملك: يأتي القول بهذه الشبهة في حالة ما إذا مالك الأمة لغيره وطأها، وقد ذهب الفقهاء في حكم هذا، وما يجب به إلى ما يأتى:- أ- ذكر الشربيني الخطيب إنه حكي عن عطاء جواز إباحة مالك الأمة لغيره وطأها1. كما ذكر الخرشي عند حديثه عن هذا: أن القول بعدم الحد بوطء الأمة المحللة ما هو إلا مراعاة المذهب عطاء القائل بجواز التحليل ابتداء2، كما جاء في الروضة البهية: وتباح الأمة لغير مالكها بالتحليل، وحل الأمة بذلك هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعًا، ولا بد من صيغة دالة عليه مثل أحللت لك وطأها، أو جعلتك في حل من وطئها، وفي صحته بلفظ الإباحة قولان، والأشبه أنه ملك يمين لا عقد نكاح؛ لأن عقد لازم ولا شيء من التحليل بلازم3، وجاء في الاستبصار تحت عنوان "أبواب تحليل الرجل جاريته لأخيه"، يجوز أن يحل الرجل جاريته لأخيه المؤمن، وروي في ذلك عدة أخبار عن فقهاء الشيعة4.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص145، عطاء بن أبي رباح المكي القرشي، مولى أمي خيثم، من كبار التابعين ولد في خلافة عثمان، سمع العبادلة الأربعة، أحد شيوخ الشافعية. 2 الخرشي ج8 ص79. 3 الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية ج2 ص113، نقلًا عن أ. د/ سلام مدكور من كتاب نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء. 4 الاستبصار فيما اختلف من الأخبار لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى في سنة 460هـ جـ3، القسم الأول ص135-141 مطبعة النجف سنة 1956 نقلًا عن أ. د/ سلام مدكور.

ب- وجاء في المغني أنه حكي عن النخعي أنه يعزر، ولا حد عليه أي أن من وطئ جارية زوجته لا يلزمه بذلك الحد؛ لأنه يملك امرأته، فكانت له شبهة في مملوكتها، حتى وإن لم تحلها له1. جـ- ذكر الخرشي عند شرحه لعبارة المصنف "وكأمة محللة وقومت، وإن أبيا" المشهور أنه لا حد على من وطئ أمة قد حللها له مالكها للشبهة، وإنما عليه الأدب فقط، وسواء أكان عالمًا بالتحليل أم جاهلًا، والولد لاحق به؛ لأنه وطء الشبهة، وتقوم تلك الأمة على واطئها لتتم الشبهة، وسواء أرضيا بذلك أي صاحبها والواطئ لها أم لا، وعدم الحد مراعاة لمذهب عطاء القائل بجواز التحليل ابتداء2. د- جاء في المغني أن من وطئ جارية امرأته بإذنها، فإنه يجلد مائة، ولا يرجم أن كان ثيبًا، ولا يغرب إن كان بكرًا، وإن لم تكن أحلتها له، فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الأجنبي. وقد اختار هذا الرأي ابن قدامة، بقوله: ولنا: ما روى أبو داود بإسناده عن حبيب بن سالم أن رجلًا يقال له عبد الرحمن بن حنين، وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير، وهو أمير على الكوفة، فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن كانت أحلتها لك جلدناك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمناك بالحجارة، فوجدوها أحلتها له فجلد مائة3.

_ 1 المغني ج8 ص186- النخغي أبو عمران إبراهيم بن زيد بن الأسود بن النخع الفقيه الكوفي النخعي تابعي مات سنة 95، وقيل: سنة 96، ونسبته إلى النخع، وهي قبيلة، كبيرة مذجح باليمن. 2 الخرشي وبهامشه حاشية العدوي ج8 ص79 ط دار الفكر بيروت. 3 المغني ج8 ص186.

هذه هي جملة أقوال من رأوا الإباحة، وأسقطوا العقوبة بها، ومن رأى إلزام الواطئ العقوبة التعزيرية سواء أعلم تحليل مالكها له ذلك أم لم يعلم. ورأى من قصر ذلك على تحليل المرأة جاريتها لزوجها، وإلزامه الجلد مائة إن فعل ثيبًا أو بكرًا. هـ- روي عن عمر وعلي ومالك، والشافعي وقتادة1، وغيرهم أن وطء الأمة التي أحلتها له زوجه كوطء الأجنبية سواء بسواء؛ لأنه لا شبهة له فيها، فأشبه وطء جارية أخيه أو أخته؛ ولأنه إباحة لوطء محرمة عليه، فلم يكن شبهة كإباحة الملاك2. كما جاء في فقه الشيعة الإسماعيلية، "عن جعفر بن محمد أنه نهى عن عارية الفرج كالرجل يبيح للرجل وطء أمته، أو المرأة تبيح لزوجها، أو لغيره وطء أمتها من غير نكاح ولا ملك يمين، وقال جعفر بن محمد: عارية الفرج هي الزنا وأنا بريء إلى الله ممن يفعله، والقرآن ينطق بهذا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3. فلم يبح الله تعالى وطء الفروج إلا بوجهين: بنكاح، أو بملك

_ 1 قتادة، هو أبو دعامة العروسي الأعمى، كان أحفظ أهل زمانه توفي سنة 117هـ. المعارف لابن قتيبة ص203 نقلًا عن نظرية الإباحة للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص148. 2 المغني ج8 ص186. 3 الآيات 5، 6، 7 من سورة المؤمنين.

يمين1، ويعلق الدكتور سلام مدكور على ما ذهب إليه القائلون بجواز إباحة مالك الأمة لغيره أن يطأها بقوله: وهذا مسلك من مسالك الشيعة الجعفرية التي نرى شذوذها، وأنها لا تتفق مع مذهب من مذاهب غيرهم من المسلمين، ولا تتمشى مع ما عرف من أحكام الدين، وأصوله العامة مهما كان لهم تأويل، أو تبرير. فإن هذه الأبضاع "الفروج" محرمة في أصلها، ولم تستبح في الإسلام إلا بالعقد، أو ملك اليمين عند وجود الرق، لا بما يسمونه ملك المنفعة، والظاهر أن هذا تطرف إليهم من قياس فاسد لا يعتمد على مصدر من مصادر الشرع المعقول منها والمنقول. وهو أشبه شيء بمذهبهم في المتعة التي هي في حقيقتها احتيال على الزنا، وإباحة صوره باسم الدين، افتراء على الله، بل إباحتهم أبضاع الإماء لغير مالكها أكثر شذوذًا من إباحتهم للمتعة، فقد يكون في تلك بعض الشهبة من ظواهر بعض النصوص2. وما ورد من أقوال تجيز إباحة مالك الأمة لغيره أن يطأها، فهي أقوال مردودة حتى وإن أسندت لأي إمام من الأئمة3. لأنه لا يعقل أن يجيز إمام ما هو مخالف لما علم من الدين بالضرورة، كما أن ما رواه الخرشي من أنه بلغه ذلك عن بعض البربر وغيرهم، فهي رواية ضعيفة لا سند لها، ومثل هذه لا يجوز الاعتماد عليها

_ 1 دعائم الإسلام للقاضي النعمان بن محمد ج2 ص245، نقلًا، عن الإباحة للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص225. 2 نظرية الإباحة ط دار النهضة والفقهاء للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص226- ط دار النهضة العربية سنة 1965م. 3 يراجع الخرشي، وبهامشه حاشية العدوي ج8 ص79.

كما أنها رواية عن قوم لا قوم لهم في المسائل الفقهية بل هم قوم جاهلون، ولو كانوا غير ذلك لكانوا مرتدين، وفي كلا الحالين لا قول لمثلهم في المسائل الفقهية. وعليه فلا شبهة في مثل ذلك، وما ذهب إليه النخعي من القول بالشبهة على أساس أن الزوج يملك امرأته هو قول مردود. لأن عقد الزواج لا يفيد ملك الرجل لزوجته، وإنما يفيد إباحة معاشرتها، والاستمتاع بها ولا يحق له امتلاك ما لها من أموال وغير ذلك، وحتى وإن أمكن القول بوجود شبهة له في مالها بحكم المخالطة، وإباحة الانتفاع به بأمرها، وعليه فالقول بوجود مثل ذلك بالنسبة للجارية التي تملكها الزوجة مردود؛ لأن إباحة الوطء حق لله سبحانه وتعالى بين الطريق إليه، وليس لغيره ترخيص فيه أو إباحة. لأنه كما يقول أستاذي الدكتور سلام مدكور: إن كل ملك في الإسلام لا يأخذ صفة الإباحة الشرعية بمجرد إذن صاحبه، إلا إذا كان على وفق إذن الشارع1. ولم يبق بعد هذا القول حجة لمخالف، أو رأي يعتد به. 4- ذكر فقهاء الأحناف أن الإمام أبا حنيفة -رضي الله تعالى عنه- يرى أن من استأجر امرأة ليزني بها، فلا حد عليه، وإنما يعاقب تعزيريًا لقيام شبهة الملك باستجاره إياهال ليزني بها. لأن المستوفي منها هو المتعة، وهي المعقود علهي في الإجارة أما لو

_ 1 نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص227.

استأجرها لعمل آخر من الأعمال، ثم وطئها فإنه يعاقب بالعقوبة الحدية؛ لأن المعقود عليه غير الوطء. فقد جاء في البحر الرائق: لا يجب الحد بوطء من استأجرها ليزني بها عند أبي حنيفة، وقالا -الصاحبان- يجب الحد لعدم الشبهة، ولهذا لا يثبت النسب وتجب العدة، وله -أي لأبي حنيفة- أن الله تعالى سمى المهر أجرة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فصار شبهة؛ لأن الشبهة ما يشبه الحقيقة لا الحيقية، فصار كما لو قال: أمهرتك كذا لأزني بك، قيدنا بأن يكون استأجرها ليزني بها؛ لأنه لو استأجرها للخدمة، فزنى بها يجب الحد اتفاقًا؛ لأن العقد لم يضف إلى المستوفي بالوطء، والعقد المضاف إلى محل يورث الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر. واستدل الإمام أبو حنيفة لذلك بما روي من أن امرأة جاءت أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه، فقالت له: إنها استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرء أمير المؤمنين الحد عن هذه المرأة. وبما روي أيضًا من أنه جاءته امرأة أخرى، فقالت له: إنها سألت رجلًا مالًا، فأبى الرجل أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرء أمير المؤمنين الحد عنها أيضًا، وقال هذا مهر. هذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة -رضي الله تعالى عنه1.

_ 1 ذكر صاحب المبسوط أن الإمام أبا حنيفة يرى أن من استأجر امرأة ليزني بها، فزنى بها فلا حد عليهما، وذهب أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى إلى وجوب الحد في هذه الحالة لتحقق فعل الزنا منهما. =

أما الأئمة الثلاثة، فقد قالوا بوجوب الحد في مثل هذا لعموم الآيات القرآنية الموجبة للحد، ولعموم النصوص المأخوذة من السنة أيضًا، وعدم تخصيصها بغير المستأجرة للزنا، أو استثنائها من عموم الآيات. وكذا لوجود المقتضي لوجوب الحد، وادعاء وجود الشبهة هنا نتيجة عقد استئجاره إياها ادعاء لا طائل تحته1، وما ذهب إليه الأئمة الثلاثة هو ما يقبله العقل، ويتفق مع تعاليم الشريعة الغراء؛ ولأنه لو أخذ بما ذهب إليه أبو حنفية لكان ذلك سبيلًا للفساق، والفجار تحت سمع وبصر الفقه الإسلامي، وبحماية منه، وهذا مما لا يقبل، أما ما استدل به أبو حنيفة حتى وإن صحت روايته، فقد يكون هناك ما قد ظهر للخليفة العادل عمر الغيور على حرمات الإسلام، وحدوده من أمور قد أغفلها الرواة ولم يذكروها، وسهو الرواة أمر ليس ببعيد، وفوق ذلك كله لا يجوز تخصيص عموم النص بمثل هذه الروايات المتعارضة وأهداف التشريع، هذه هي الشبهات التي تتعلق بالركن الشرعي، للجريمة وهي في جملتها تنضوي تحت شبهة الدليل بمفهومها العام،

_ = واحتج الإمام أبو حنيفة بما روي أن امرأة استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ عمر -رضي الله عنه الحد عنهما، وبما روي أيضًا عن عمر من أن امرأة سألت رجلًا مالًا، فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ الحد، وقال: هذا مهر: ولا يجوز أن يقال: إنما دراء الحد عنهما؛ لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش؛ لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه، وهو غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالًا، كما ذكر في المبسوط ج9 ص58 البحر الرائق لابن نجيم ج5 ص19-20، فتح القدير ج5 ص262، تبيين الحقائق ج3 ص184. 1 المغني ج8 ص211-212، تحفة المحتاج ج3 ص134، منح الجليل ج7 ص488.

نظرًا؛ لأنها في جملتها شبهات ننتجت لدى القائلين بها من وجود دليل من الأدلة المتعمدة عندهم، أو نتيجة ترجيح رأي على آخر لدى فقيه من الفقهاء. ومن هنا فهي كلها لا تخرج عن شبهة الدليل، ولا يخفى أن شبهة الجهة التي يقول بها فقهاء الشافعة والحنابلة، ما هي إلا محصلة لاختلاف الفقهاء على إيجاب الحد نتيجة اتيان فعل ما من الأفعال، أو عدم إيجاب الحد بذلك. بمعنى أن بعض الفقهاء يرى الحد جزاء ما وقع من فعل، والبعض الآخر لا يرى على اتيان ذلك الفعل، وعليه فإن شبهة الجهة يتسع مفهومًا ليشمل كل خلاف في إيجاب الحد. والمسائل الخلافية مسائل ورد فيها أكثر من رأي نتيجة تعارض الأدلة، أو ثبوت دليل إيجاب الحد بفعل من الأفعال عند بعض الفقهاء، وعدم ثبوت ذلك الدليل عند الآخرين. وعليه فمرجع الاختلاف ناشيء عن الدليل ومتعلق به، ولا يخفى أن بعض هذه الشبهات، وإن دخلت تحت المفهوم العام لشبهة الدليل، إلا أن بعضها يتميز عن غيره بنوعية تعليل، أو جوانب أو إضافات لا تتوافر في باقي الشبهات التي تنضوي تحت المفهوم العام لشبهة الدليل. ومن هنا تسمياتها بمسميات متغايرة حسب ما توافر فيها من جوانب خاصة، أو تعليل متميز.

المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي

المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي مدخل ... المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي ويشتمل على مطلبين: المطلب الأول: الجهل. المطلب الثاني: الإرادة. تمهيد: بين القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت. كما بين الله تعالى مشروعية أن يدعوه عباده، وأن يطلبوا منه رفع المؤاخذة عنهم، وإعفاءهم من العقاب عندما ينسون أو يخطئون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} 1. ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى أن العصيان والمخالفة لأوامر الشرع، ونواهيه يترتب عليهما العقاب، والمؤاخذة ومن هنا بنى الفقهاء قيام مسئولية المكلف على أساس عصيانه أوامر الشرع ونواهيه، فمن خالف أمرًا ونهيًا، فإنه بمخالفته هذه يعتبر عاصيًا لذلك الأمر أو النهي. وقيام المسئولية على هذا الأساس يجعلها تختلف باختلاف درجة العصيان من المكلف، إذا كان العصيان مقصودًا شددت العقوبة على الجاني، أما إذا كان العصيان غير مقصود نظرًا لجهل الجاني، أو خطئه فإن العقوبة تختلف عن الحالة السابقة؛ لأن الجهل أو الخطأ أمران مخففان لما يترتب على الإثم من عقوبة إن لم ينتج عنهما إسقاط العقوبة

_ 1 من الآية 286 من سورة البقرة.

عن العاصي، إن كان مكلفًا، وذلك؛ لأن الجهل أو الخطأ يترتب عليهما انتفاء القصد الجنائي، وينتج عن هذا تخفيف العقوبة، أو الإعفاء منها؛ لأن الجهل أحيانًا يكون سببًا من أسباب عدم المؤاخذة، ومثله الخطأ والنسيان؛ لأن أساس المسئولية في الشريعة الإسلامية هو الإدراك، والاختيار لدى الشخص المكلف1، وبانتفائها تنتفي المسئولية الجنائية عن المكلف؛ لأنهما سبباها، وانتفاء السبب يترتب عليه انتفاء المسبب2. ويراد بالقصد الجنائي: تعمد اتيان الفعل المجرم، أو ترك فعل ما أمر الشارع به من العلم بأن الشارع قد نهى عن الفعل الأول، وأوجب الثاني. أو هو: اتجاه الإرادة إلى ارتكاب جريمة مع العلم بعناصرها القانونية، ومن هنا كانت الجريمة العمدية هي الجريمة التي يقترفها الفاعل، وهو عالم بحقيقتها الواقعية، وبعناصرها القانونية3.

_ 1 يقول الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور: الأصل في محل المسئولية في الشريعة الإسلامية، هو الإنسان المكلف المدرك المختار إذ لا قيام للمسئولية الجنائية، إلا بتحقيق أهلية التكليف، والإدراك والاختيار. المسئولية الجنائية في الفقه الإسلامي ص4-5 الإباحة عند الأصوليين ص439، أصول الفقه الإسلامي ص44 ط دار النهضة العربية. 2 السبب: ما يلزم من وجوده ومن عدمه العدم، أو هو وصف ظاهر منضبط جعله الشارع أماره للحكم، أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص52 ط 76 أصول الفقه للأستاذ عبد الوهاب خلاف ص91 ط الثانية. 3 التشريع الجنائي عبد القادر عوده ط ص409. الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د. سمير الجنزوري ص426. شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. محمود مصطفى ص424.

من هذه التعريفات يتضح أن للقصد الجنائي عنصرين هما: العلم والإرادة. والتحقيق من وجود هذين العنصرين عند قيام الجريمة شرط لإلزام الجاني عقوبتها الجنائية. أذ بدونهما أن بدون أحدهما لا تتحقق الجريمة العمدية، إذ هما شرطان لقيامها1. ويراد بالعلم معرفة ما جاءت به النصوص التشريعية من تجريم أفعال معينة، وتحديد عقوبات لكل من قام بفعل من هذه الأفعال؛ لأن مثل هذه العقوبات أوردتها النصوص التشريعية ونصت عليها، ولم تدعها لاجتهاد مجتهد. ومثل هذا من الأحكام بين الإمام الشافعي حكم الجهل به بقوله أن هناك من الأحكام، ما لا يتسع بالغا غير مغلوب على عقله في دار الإسلام جهله مثل الصلوات، وصوم رمضان والزكاة، والحج وتحريم القتل، والزنا والخمر والسرقة وغيره مما لا يجوز التنازع فيه، وهناك من الأحكام ما يحتمل التأويل، ويستدرك قياسًا، وهذا درجة من العلم ليس تبلغها العامة2.

_ 1 الشرط ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم وجوده وجود ولا عدم، أو هو الوصف الظاهر المنضبط الذي يتوقف عليه وجود الشيء من غير إفضاء إليه. أصول الفقه أ. د. سلام مدكور ص55، الأستاذ عبد الوهاب خلاف ص93. 2 إحياء علوم الدين للغزالي ج1 ص14-16 الرسالة للإمام الشافعي ص155 ط الحلبي سنة 1388هـ، تيسير التحرير ج4 ص211-227، التقرير والتحبير ج3 ص312-330، الفروق للقرافي ج2 ص149 فضلًا عن الإباحة للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص510-515.

ولهذا، فإنه لما كانت جرائم الحدود، وعقوباتها مما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه مكلف بمعرفتها، فإن فرط فلا عذر له بجهله بها بل هو بهذا الجهل قد عرض نفسه للوقوع في الحرمات. يقول الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه، فيمن جهل من المسلمين المقيمين بدار الإسلام حكمًا من الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، وعلى الأخص أحكام الحدود: قد ظهر الإسلام ونشأ، فلا يعذر جاهل بشيء من الحدود1. كما يقول الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور مفصلًا ذلك مبينا أن إمكام العلم يقوم مقام العلم، وعليه فلا عذر لمقصر: ويكفي أن نقول أخيرًا: إن أمكان العلم بحكم الشرع يقوم مقام العلم الحقيقي، فمتى بلغ الإنسان عاقلًا وكان ميسرًا له أن يعلم ما حرم عليه، إما بالرجوع إلى النصوص، وإما بالرجوع إلى أهل الذكر ما دام قادرًا على الرجوع إليهم، ما كان له أن يعتذر بالجهل بالحكم سواء عن طريق ادعائه بالجهل بذات النص، أو بمعناه الحقيقي2. أما إذا كان قد حال بين المسلم، وبين معرفة حكم الشرع سبب قوي لم يستطع مغالبته، والنفاذ منه كأنه يكون قد نشأ بعيدًا عن كل من يعرف الحكم الشرعي، ولم يستطع الوصول إلى معرفة ما يوجبه عليه دينه. أو يكون قد أسلم حديثًا، ولم يتمكن من معرفة أحكام الإسلام لقرب عهده به، فإنه في هاتين الحالتين يصبح ذا عذر مقبول، ويقوم في حقه ما يدرء العقوبة الحدية عنه. وهذا هو الجهل الذي يمكن القول به لدفع العقوبة الجنائية عن هذا الفاعل الذي جهل بالحكم، وتردى في فعلته. وفيما يأتي بيان للمراد بالجهل، وأقسامه وأنواعه، وما يقبل القول به منه، وما لا يقبل. ثم بيان للإرادة وما تنثلم به، فلا يبقى للقصد الجنائي وجود.

_ 1 منح الجليل ج4 ص550 ط الأميرية سنة 1294هـ. 2 نظرية الإباحة عند الأصوليين للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص517 سنة 1965.

المطلب الأول: الجهل

المطلب الأول: الجهل وردت كلمة الجهل كثيرًا فيما كتبه الفقهاء، وعلماء الأصول، وعلماء الكلام لارتباطها بكثير من الأحكام والقضايا. والذي يعنينا هنا من الجهل هو الجهل بالحكم الشرعي لمسألة ما من المسائل؛ لأن هذا الجهل هو محل نظر الفقهاء، وبحوثهم من حيث الاعتداد به، أو عدم النظر إليه، واعتباره غير قائم. قسم الفقهاء والأصوليين الجهل أقسامًا عدة يتصل بموضوع هذا البحث منها ما يأتي: أولًا: الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعتبر عذرًا ولا شبهة، ومن هذه جهل الباغي الخارج على الإمام الحق -كالخلفاء الراشدين مثلًا بتأويل فاسد، وجهل من عارض اجتهاده الكتاب الكريم، وجهل المسلم المقيم بدار الإسلام بتحريم الخمر وغيرها مما يوجب الحد. ثانيًا: الجهل الذي يعتد به، ويصلح عذرًا وتنتج عنه شبهة يترتب عليها درء الحدود، والكفارات ونحوها، ومن هذا الجهل في موضوع اجتهاد صحيح لا يخالف الكتاب ولا السنة المشهورة ولا الإجماع، وذلك كقتل أحد الوليين لقاتل موليهما بعد عفو الآخر، فإن القاتل هنا

لا يقضي منه لاختلاف الفقهاء في القول بسقوط دم المولى بعفو أحد الأولياء. وهذا الأختلاف قد أنتج شبهة تدرء الحد عن الولي القاتل1، ومثل هذا جهل الحربى الذي دخل دار الإسلام، فأسلم ثم شرب الخمر لجهله بحرمة شربها، نظرًا؛ لأن تحريم ذلك لم تنص عليه جميع المعتقدات المخالفة للإسلام، كما أنه حديث عهد بالدين، هذا بخلاف ما لو أسلم ثم شرب الخمر، وادعى جهله بتحريمها، فإنه يلزم بالعقوبة؛ لأن جهلة هذا لا يعد عذرًا دارئًا للعقوبة الحدية، نظرًا لشيوع تحريم الخمر في دار الإسلام، وهو ممن يقيمون بها. وبخلاف ما لو دخل الحربي -الكتابي- دار الإسلام، فأسلم ثم زنى جاهلًا التحريم، فإن جهله هذا لا يعد عذرًا، لحرمة الزنا في جميع الأديان2، من هذا يبين أن الجهل بالأحكام لا يعتبر دائمًا عذرًا رافعًا للإثم والحرج في ترك امتثال أوامر الشارع، وإنما يكون عذرًا يعتد به درء العقوبة الحدية في بعض الحالات، سواء أنتج رفع الإثم عن الفاعل، وإسقاط جنس العقوبة عنه أم درء الحد فقط مع بقاء الإثم، وإلزام الفاعل العقوبة التعزيرية. كما أن القول بأن لا عذر بالجهل في دار الإسلام قول لا يؤخذ على عمومه وإطلاقه، فهناك من الأمور ما يعد بالجهل بأحكامها من بعض المقيمين في دار الإسلام عذرًا، نظرًا لعدم تيسير ذلك لهم. وقد أشار إلى ذلك الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور بقوله: وقد لمست روح الشريعة في هذا المقامن فيما أورده الكمال وغيره من

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص145 ط مصطفى الحلبي. 2 تيسير التحرير للكمال باد شاه أمير ج4 ص211-227.

الأصوليين والفقهاء من أن الأمة كانت في دار الإسلام تعذر بجهل أحكام الشريعة لتشاغلها بخدمة سيدها، وقد يكون مسلمًا بل من علماء المسلمين، فماذا عسى أن يقولوا على مقتضى هذا الاتجاه الفقهي السليم في شأن أولئك الذين شغلهم فوق ما شغل تلك الأمة من العدو، وراء مطالب الحياة اندفاعًا في فلك الدهر، وسيرًا مع عجلة الحياة التي لا ينقطع بها السير في لحظة من اللحظات مع بعدهم عن موجهات الدين، واللوافت إليه من العلماء، وأمراء وعدم التفكير في شيء من ذلك، ولا محاولته مع تمام الجهل بلغته التي كان يجب أن نفكر في إيصالها إليهم، كما فكرنا في إيصال لغاتهم إلينا1، هذا وإن كان الجهل بسبب الانشغال بمطالب الحياة أمرًا يعذر به المسلم، ومن يقيم بدار الإسلام، فإن العذر بهذا يقبل القول به في غير ما يوجب العقوبة الحدية، أما ما يوجبها، فالجهل بحكمة لا يقبل الاعتذار به؛ لأن أحكام ما يوجب العقوبة الحدية من الأحكام التي تعلم من الدين بالضرورة، والاعتذار بالجهل بها لا يقبل؛ ولأن العلم بها لا يقصد به العلم بالفعل فقط، وإنما يشمل أيضًا مجرد إمكان العلم بالحكم الشرعي، فالعلم بالقوة ينزل منزلة العام بالفعل ويقوم مقامه، لذا لا يعذر بالغ عاقل بجهله بما فرض عليه، وطلب منه الالتزام به على وجه القطع طالما يسر له علم ما فرض، ومعرفة ما حرم عليه، بالرجوع إلى نصوص القرآن والسنة، وبسؤال أهل العلم ما دام قادرًا على ذلك، وفيما يأتي بيان لقصص الجهل المذكورين:

_ 1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص516 ط دار النهضة العربية سنة 1965م.

أولًا: الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعتبره الفقهاء شبهة اتضح مما سبق ومن الحديث عن الجريمة، وأركانها أن الصفة غير المشروعة للسلوك ركن أساسي من أركان الجريمة، فلكي يحكم على العمل بأنه عمل إجرامي لا بد من أن يكون هذا العمل قد نهى عنه الشرع، وحرمه نهيًا جازمًا غير قابل للإباحة إلا بمسوغ شرعي، وعلى هذا كان من اللازم معرفة الجاني تجريم الشرع للأفعال، حتى يمكن إلزامه العقوبة الحدية. وعلى هذا فما المراد إذن بعلم الجاني بتجريم الشرع للأفعال معينة؟ أهو علم الجاني في الحقيقة والواقع؟ أم إمكان علمه لو أراد لكنه قصر في التحصيل، والمعرفة مع قدرته على ذلك؟. لو أن المقصود بعلم الجاني علمه في الحقيقة، والواقع لنتج عن ذلك إلزام من سيحكم بالعقوبة على متهم إثبات أن هذا المتهم الذي ارتكب الفعل الجنائي كان يعلم تجريم الشرع لما أتاه من أفعال قبل أن يقوم بهما، وإثبات علم الجاني بذلك أمر صعب إمكانه والتحقق منه، الأمر الذي يترتب عليه إفلات الجناة من العقاب المستحقق على ما قاموا به من جرائم، أو تغاير هذا العقاب، وتخفيفه لدرجة لا تتفق وهدف المشرع من الردع بالعقوبة المقررة للفعل. ويصبح ادعاء الجهل بتجريم الأفعال ثغرة ينفذ منها الجناة، ويحول دون سريان النصوص، وعليه فليس المقصود بالعلم هنا قيام العلم في الحقيقة والواقع بالنسبة للجاني، وإنما يقصد به العلم المفترض وجوده افتراضًا حتى ولو كان الجاني جاهلًا في الحقيقة والواقع؛ لأن جهله إذن غير معتبر الوجود عند الفقهاء، فوجوده كعدمه

من حيث الاعتداد به في دفع العقوبة الحية، إذ المعتبر هنا إمكان العلم لا تحققه1. هذه هي القاعدة وورد الاستثناء عليها لا يخرجها عن كونها الأصل، وعليه فلا يعتد بجهل المسلم الذي يقيم في بلاد الإسلام2، ولا بجهل الذي يقيم في البلاد الإسلامية بالنسبة للأفعال التي لا تختلف أحكامها من ديانة إلى أخرى، كما أن إقامة الذمي بالبلاد الإسلامي توجب عليه معرفة الأحكام المطبقة في هذه البلاد، فإن قصر فلا يعذر بتقصيره، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بإقامة الحد على يهوديين زنيا، وأقيم الدليل على جريمتهما عنده3، ولو كان لهما ما يدرء الحد عنهما لادعياه.

_ 1 يؤيد هذا ما ذكره الأستاذ الدكتور سلام مدكور من أن ما دل الدليل الشرعي على حكمه، وجب أن يعرفه كل مكلف، فإذا جهل حكم الشرع مكلف من المكلفين، ولم يتمثل فعلًا أو كفا، فهو آثم بجهله ومطالب بما كسب. وذلك؛ لأنه يرى أن عدم الامتثال للأمر لا يستلزم العلم لكونه مطلبًا، فكل مكلف مطالب بأمور ينبغي أن يعلمها، فإن لم يعلمها، فإن الطلب قائم لا يسقط عنه، راجع الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص508، 509. 2 الرسالة للإمام الشافعي ص154 "ط مصطفى الحلبي سنة 1388هـ". 3 جامع الأصول لابن الأثير ج4 ص299 "د السنة المحمدية سنة 1269هـ، وقد ذكر ابن قدامة "أنه إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرمًا يوجب عقوبة مما هو محرم عليه في دينه كالزنا، والسرقة والقذف، والقتل فعليه إقامة حده عليه، فإن كان زنا جلد أن كان بكرًا. وغرب عام، وإن كان محصنًا رجم، لما روى ابن عمر "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتى بيهوديين، فجرا بعد إحصانهما، فأمر بهما فرجما". روى أنس: "أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين حجرين متفق عليه، وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يحد؛ "لأنه لا يعتقد تحريمًا، فلم يلزم عقوبته كالفر، وإن تظاهر به عذر؛ لأنه أظهر منكرًا في دار الإسلام -فعذر عليه كالمسلم المغني ج8 ص214-215.

ما ذكر خاص بالجهل بذات النص المحرم للفعل، ويلحق به الجهل بالمعنى الحقيقي للنص في عدم الاعتداد بكل منهما في درء العقوبة الحدية، فلا عبرة بمن يخرج عن المعنى الحقيقي للنص الذي فهمه العلماء منه، سواء أكان خروجه هذا ناشئًا عن جهله بالمعنى الحقيقي، أم مرادًا به التحريف والتزييف، وهذا ما قرره أمير المؤمنين عمر الفاروق حين جاءه رجل من المهاجرين، وقد شرب الخمر فأمر به أن يجلد، فقال للرجل: لم تجلدني وبيني وبينك كتاب الله؟ فقال عمر: وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك؟ فقال له الرجل: إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} 1، فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا، ثم اتقوا وأحسنوا.... فقال عمر: ألا تردون عليه ما يقول؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلت لمن عذر، وحجة على الناس. فقال عمر لابن عباس: صدقت ماذا ترون؟. فقال علي -رضي الله تعالى عنه: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى،

_ 1 من الآية 93 من سورة المائدة.

وعلى المفتري ثمانون جلده: فأمر عمر -رضي الله تعالى عنه، فجلد ثمانين جلده1. وفي رواية أخرى قال عمر -رضي الله تعالى عنه- لمن احتج بالآية، وفسرها على غير وجهها، وأخطأ التفسير -أخطأت التأويل، إذا اتقيت الله، اجتنبت ما حرم الله، وأمر به فجلد2. مما سبق يتضح حكم من جهل ذات النص المحرم، أو معناه الحقيقي، وهذا النوع من الجهل الذي لا يعتد به، ولا يعد شبهة دارئة للعقوبة الحدية هو أحد شطري الجهل بالقانون. وهناك نوع آخر من الجهل يسمى الجهل بالوقائع، وهو شطران: أحدهما: جهل بالوقائع غير الجوهرية، وقد يطلق عليه لفظ الغلط، وهو من الجهل الذي لا يعتد به أيضًا في دفع العقوبة، أو إسقاط الحد؛ لأنه لا يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي، فمن ذهب لسرقة مال شخص معين يقيم في مكان ما، فيسرق مالًا فيتضح أنه جهل مكان الشخص الذي يريد سرقته، ودخل مكانا آخر، وسرق مال شخص آخر لا حق للسارق في ماله، فإن هذا الجهل جهل غير جوهري لا ينفي القصد الجنائي لدى الجاني، وبالتالي لا أثر له في إسقاط العقوبة الحدية. ومثله من ذهب لقتل غريم له، ودخل مكان نومه، وأجهز على من وجده نائمًا في الفراش على أساس أنه هو الشخص الذي يريد قتله، فاتضح أن المقتول غير الشخص الذي أراد الجاني قتله، فإن جهل الجاني هنا بشخص المقتول لا يعد شبهة، ولا يترتب عليه إسقاط العقوبة المقررة لجنايته، إذ الجهل هنا لا يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي،

_ 1 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج3 ص2294. 2 المرجع السابق: ص2295.

كما أنه في الحالتين جهل وقع في أمر جوهري خارج عن عناصر الجريمة التي يعد الجهل نافيًا للقصد الجنائي، إذ الجهل هنا يتعلق بموضوع النتيجة، وليس منصبًا على ذات النتيجة، وموضوع النتيجة لا يلتفت إليه، ولا يعد أساسًا بالنسبة للقول بتجريم الفعل، والعقوبة عليه ما دام الشرع قد كفل له الحماية1. وثانيهما: الجهل بالوقائع الجوهرية، وسيأتي الحديث عنه في الجهل الذي لا يقبل القول به في إسقاط العقوبة الحدية. ثانيًا: الجهل الذي يقبل به، ويعتبره الفقهاء شبهة تدرء الحد من حكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمته بعباده، وعنايته بهم أنه رفع عنهم المؤاخذة، وحجب عنهم العقاب إذا جهلوا حكم ما وقع منهم جهلًا يعذرون فيه، ويقبل قولهم به، وهذا مستمد من قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} 2، ومن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" 3. فالمؤاخذة مقيدة بإرسال الرسول الذي يبلغ عن الله تعالى: فمن لم تبلغه الدعوة، أو لم يبلغه جزء خاص منها يحرم عملًا ما من الأعمال لا يعاقب إتيان هذا العمل.

_ 1 يراجع: الإباحة عند الأصوليين ص510-521، وأصول قانون العقوبات للدكتور أحمد فتحي سرور ص546، "ط دار النهضة سنة 1971م"، والأسس العامة لقانون العقوبات للدكتور سمير الجنزوري ص434، وشرح قانون العقوبات للدكتور أحمد الألفي ص451 "ط سنة 1978م". 2 الآية 15 من سورة الإسراء. 3 رواه الحاكم وابن ماجه، والطبراني، والدارقطني، فيض القدير للمناوي ج2 ص267 "ط المكتبة التجارية عام 1938م".

كما أن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بين أن من من أخطأ في إتيان عمل ما من الأعمال المحرمة مع علمه بالتحريم، فلا يعاقب عليه، وهذا أحسن حالًا ممن لم يعلم الحكم أساسًا، فالثاني أولى بالعفو لعدم تبليغ الحكم إليه؛ لأن التبليغ أساس التكليف، وهذا ما نُقل عن الصحابة رضوان الله عليهم، إذ يقول ابن قدامة: "ولا حد على من لم يعلم تحريم الزنا، قال عمر وعثمان وعلي: لا حد إلا على من علمه، وبهذا قال عامة أهل العلم، فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم، وكان يحتمل أن يجهله كحديث عهد بالإسلام، والناشيء ببادية، قبل منه؛ لأنه يجوز أن يكون صادقًا ... "إلى أن يقول"، وإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله؛ لأن عمر قبل قول المدعى الجهل بتحريم النكاح في العدة؛ ولأن مثل هذا يجهل كثيرًا، ويخفى على غير أهل العلم"1. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه، لما كتب إليه في شأن الرجل الذي قيل له: متى عهدك بالنساء؟ فقال: البارحة، قيل: بمن؟ قال: بفلانة، فقيل له: هلكت، قال: ما علمت أن الله حرم الزنا -أجاب عمر بأن يستحلف ما علم أن الله حرم الزنا، ثم يخلي سبيله2. وقد توسع ابن حزم في القول بإسقاط العقوبة بسبب جهل الجاني بحكم ما وقع منه من أفعال، سواء أكانت أفعالًا يعاقب عليها بالعقوبة الحدية، أو بالعقوبة التعزيرية، متى أمكن تصديق الجاني في ادعائه جهل الحكم. يقول ابن حزم: "من أصاب شيئًا محرمًا -فيه حد أو لا حد

_ 1 المغني ج8 ص185. 2 السنن الكبرى للبيهقي ج8 ص239 "ط دار المعارف حيدر آباد سنة 1353هـ"، والمهذب للشيرازي ج2 ص267.

فيه- وهو جاهل بتحريم الله تعالى له، فلا شيء عليه فيه- لا إثم ولا حد، ولا ملامة- لكن يعلم، فإن عاد أقيم عليه حد الله تعالى، فإن ادعى جهالة نظر، فإن كان ذلك ممكنًا، فلا حد عليه أصلا، وقد قال قومه بتحليفه، ولا نرى عليه حدًا، ولا تحليفًا- وإن كان متيقنًا أنه كاذب لم يلتفت إلى دعواه". واستدل ابن حزم على ما ذهب إليه بأدلة كثيرة، منها ما روي عن السلف من أن امرأة أتت علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه، فقالت: إن زوجي زنى بجاريتي، فقال: صدقت، هي ومالها لي حل، فقال له علي: اذهب ولا تعد، كأنه درء عنه الحد بالجهالة1. من هنا كان القول: بأن من يجهل الحكم جهلًا يعد معذورا فيه كان جهله هذا مسقطا العقوبة الحدية عنه، سواء أكان جهله نتيجة عدم وصول الحكم الشرعي إليه دون تقصير منه، أم كان الحكم من الدقة بحيث لا يصل إلى معرفته إلا المتخصصون، وكان من جهله في مكان لا يستطيع فيه لقاء المتخصصين، أو سؤالهم. ويعد الحل بالحكم دارئًا للعقوبة الحدية في الحالات الآتية: أولًا: إذا كانت سبل العلم بالحكم بعيدة المنال، ووسائله غير ميسرة، وذلك كجهل من يقين بعيدًا عن الديار الإسلامية بأحكام الإسلام، فالجهل هنا بكل أحكام الإسلام لعدم وصول التبليغ، فلا عقوبة إذا ولا إثم. ثانيًا: جهل من أسلم حديثًا بالأحكام الشرعية التي لم يتيسر له معرفتها لكونه قد نشأ بعيدًا عن الديار الإسلامية، ولم تكن هذه الأحكام معروفة له، ولم يكن النظام الذي كان يدين به قبل أن يسلم

_ 1 المحلى لابن حزم ج13 ص118، 119.

يحرم ما حرمه الإسلام، فالجهل هنا ينفي وصف الجريمة عما وقع من أفعال، وإن كانت مجرمة طبقًا للنظام الإسلامي. ثالثًا: جهل الذمي الذي يقيم ببلاد المسلمين بحكم من أحكام الإسلام التي تختلف باختلاف الديانات، بمعنى أن الفعل الذي حرمه الإسلام مباح، فيما يدين به هذا الذمي، فجهل الذمي إذا جهل يعذر به، ويقبل منه في دفع العقوبة الحدية عنه، فلو شرب هذا الذمي خمرًا لم تبلغ به حد الإسكار، فلا حد عليه، وإن كان الإسلام يحرم ذلك؛ لأن جهله بتحريم الإسلام ذلك، مع إباحته فيما يدين به الذمي يدرأ الحد عنه1. رابعًا: الجهل الناتج عن انتفاء العلم بالعلاقة المحرمة، مع معرفة الحكم واشتهاره، وذلك كمن يعقد على امرأة، ثم يدخل بها وبعد فترة يظهر له أنها محرمة عليه بسبب نسب، أو رضاع لم يكن يعلمه قط، ولم يخبره أحد ممن علمه بذلك، فهنا والحالة كذلك لا عقوبة عليهما لانتفاء علمهما بالتحريم لجهلهما ما بينهما من علاقة، أو رضاع وإن كانا يعلمان أحكام الشرع بالنسبة لزواج المحرمات، ومن هن. ومثل هذا ما إذا حكم بموت إنسان نظرًا لفقده في حرب من الحروب، ومضت مدة بعد تبادل الأسرى، ولا دليل على وجوده حيًا، فإن زوجة هذا الذي قد حكم بموته إذا تزوجت شخصًا آخر، ودخل بها ثم ظهر زوجها الأول، فإن دخول الزوج الثاني بها، وهو لا يعلم أن زوجها الأول موجود لا يعد زنا، ولا يوجب عقوبة. خامسًا: جهل المسلم بحكم من الأحكام التي هي موضع اجتهاد الفقهاء، أو حكم من الأحكام التي لم يجمع الفقهاء على رأي واحد

_ 1 المغني ج8 ص185.

فيها، ولم يكن في وسعه الوصول إلى الحكم، فالجهل هنا يقبل القول به، نظرًا؛ لأن الوصول إلى الحكم في مثل ذلك أمر يحتاج إلى إعمال الفكر والبحث، وذلك غير ميسر إلا للعلماء، كما أن اختلاف الفقهاء في حد ذاته شبهة تدرأ الحد كما قال بذلك فقهاء الشافعية، والحنابلة، ومن وافقهم1. والجهل في كل ما ذكر جهل بحكم الفعل الذي وقع من الفاعل، وجهل حكم الفعل فيما ذكر ينفي القصد الجنائي لدى الفاعل، ومن ثم يسقط العقوبة عنه. الجهل بالوقائع الجوهرية: بالإضافة إلى ما سبق ذكره من جهل الأحكام، فإن هناك نوعًا آخر من الجهل يسمى الجهل بالوقائع الجوهرية، وهو جهل يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي لدى الفاعل، نظرًا؛ لأن الوقائع التي جهلها وقائع جوهرية، وقد عد الفقهاء -الذين يرون أن هذا النوع من الجهل ينفى القصد الجنائي لدى الفاعل، هذا النوع من الجهل مسقطًا للعقوبة الحدية. ويطلق الفقهاء على هذا الجهل المتعلق بمحل الجريمة، جهل العين، أو جهل الفاعل، وما ينشأ عنه من شبهة يطلقون عليها شبهة جهل العين، أو شبهة جهل الفاعل، وهي تنشأ عندما يأتي الفاعل الفعل معتقدًا إباحته. ومثلوا لما توجد فيه هذه الشبهة من الوقائع بما يأتي: 1- رجل زفت إليه امرأة على أساس أنها زوجته بأن قيل له: إنها

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص145، حاشية الباجوري على بن قاسم ج2 ص230 المغني ج8 ص184.

زوجتك، ودخل بها ثم ظهر بعد ذلك أنها ليست زوجته، فلا حد عليه لانتفاء قصده الجنائي نظرًا لجهله المتعلق بمحل الجريمة، أو بالوقائع الجوهرية المتصلة بها، يقول ابن قدامة: "فإن زفت إليه غير زوجته، وقيل: هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته، فلا حد عليه، لا نعلم فيه خلافًا، وإن لم يقل له هذه زوجتك، أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته، أو جاريته فوطئها، أو دعا زوجته أو جاريته، فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها، أو اشتبه عليه ذلك لعماه فلا حد عليه، وبه قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أن عليه الحد؛ لأنه وطء في محل لا ملك له فيه، ولنا أنه وطء اعتقد إباحته بما يعذر مثله فيه، فأشبه ما لو قيل له: هذه زوجتك؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهذه أعظمها"1. وذكر ابن حزم: أن المرأة إذا هيأت جاريتها بهيأتها، وخلعتها في حجلتها، وجاء زوجها فوطئها، فإن المرأة تنكل ولا جلد على الرجل، وعلى الجارية حد الزنى إن كانت تدري أن ذلك لا يحل. ولو أن المرأة نفسها لأجنبي، فوطئها يظن أنها امرأته فهي زانية، ثم يقول: ولا يختلف اثنان من الأمة في أنه من دست إليه غير امرأته، فوطئها وهو لا يدري من هي يظن أنها زوجته، فلا حد عليه"2. هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.

_ 1 المغني ج8 ص184، مغني المحتاج ج4 ص145، الخرشي ج8 ص77 قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ج2 ص137 ط الاستقامة. 2 المحلى ج13 ص216، 217، 429، 430 الحجلة جمع حجال وحجل: وهو وتر يضرب للعروس في جوف البيت، أو بيت يزين للعروس "المنجد" مادة حجل، ويراجع فيما ذكر من أحكام الجهل مباني تكملة المنهاج ج1 ص168، 169.

أما فقهاء الأحناف، فإنهم يوجبون الحد فيما مضى من وقائع إلا في حالة واحدة، وهي ما إذا نادى الأعمي زوجته، فأجابته وقالت: أنا زوجتك فواقعها؛ لأن الأخبار دليل، وهو أعمى لا يستطيع رؤية من أجابته، ولجواز تشابه النغمة خصوصًا لو لم تطل الصحبة بينهما. وقيد فقهاء الأحناف ذلك بأن تجيبه بقولها: أنا زوجتك؛ لأنها لو لم تجبه بذلك واقتصرت على الإجابة بنعم ونحوه فوطئها، فإنه يحد نظرًا؛ لأنهم يرون أنه يمكنه أن يميزها بأكثر من ذلك بحيث يكون الحال متوسطًا في اطمئنان النفس إلى أنها هي زوجته. فقد ذكر ابن الهمام1: عند شرحه لقول المصنف، ومن وجد امرأة على فراشه فوطئها فعليه الحد "خلافًا للأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد فهؤلاء الأئمة قاسوها على المزفوف بجامع ظن الحل، أما فقهاء الأحناف، فإنهم يرون أن المسقط شبهة الحل: ولا شبهة هنا أصلًا سوى أن وجدها على فراشه، ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه، وهذا؛ لأنه قد ينام على الفراش غير الزوجة من حبائبها الزائرات لها وقراباتها، فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل ... وكذا إذا كان أعمى؛ لأن الوجود على الفراش ليس صالحًا لاستناد الظن إليه، وغيره -مثله- مما يحصل بالنعمة، والحركات المألوفة فيحد أيضًا2.

_ 1 ابن الهمام: هو محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد، كمال الدين الشهير بابن الهمام، كان أصوليًا فروعيًا، مفسرًا محدثًا، له تصانيف كثيرة منها فتح القدير توفي سنة 861هـ. 2 شرح فتح القدير ج5 ص258، 259، بدائع الصنائع ج7 ص37 المبسوط ج9 ص57.

وذهب زفر إلى أن الحد يدرأ عن الأعمى؛ لأنه عدم آلة التمييز، وقول الأحناف هذا قد جاء على غير ما هو متوقع منهم، إذ أن الإمام يدرأ بشهبة العقد على من لا يحل نكاحها حتى ولو كان الذي عقد عليها، ودخل بها يعلم أنه لا يحل له نكاحها، والشبهة في مثل هذا أضعف من شبهة جهل الأعمى الذي يدخل بيته، فيجد امرأة في فراشه، فتتصنع له مثل حركات زوجته، ونغمة صوتها، فيظنها الأعمى أنها زوجته ويطؤها. مما لا يخفى أن شبهة جهل الأعمى، فيما ذكرت أولى بأن يعتد بها في درء الحد عنه، عما ذكره الإمام من شبهة العقد على من لا تحل له، ودرئهم الحد بها. 2- رجل يصيد حيوانًا في غابة من الغابات، فرأى شيئًا اعتقد أنه حيوان فأطلق عليه النار، فإذا به إنسان، فإن هذا الذي أطلق النار لا يعد مرتكبًا جريمة قتل عمدية موجبة للعقوبة المقدرة، نظرًا لجهله المتعلق بالوقائع الجوهرية، إذ هو لم يقصد إنسانًا، وإنما قصد صيد الحيوان، فالقصد الجنائي إذا غير موجود، وانتفاء القصد الجنائي يحول بين الجاني، وبين عقوبة القتل العمد. 3- رجل أخذ مالًا معتقدًا أنه ماله، فظهر أن هذا المال مملوك للغير، وأن أمره اشتبه عليه، ففي مثل هذا يكون القصد الجنائي منتفيًا لدى الآخذ، ولذا تسقط عنه العقوبة الحدية. 4- ومن الخطأ في الوقائع الجوهرية أيضًا من يشرب من الإناء الذي اعتاد أن يشرب منه الماء، فإذا به يجد أن ما شربه ليس بماء، وإنما هو خمر، فلا حد عليه بذلك لانتفاء قصده الجنائي1، وفي

_ 1 المحلى لابن حزم ج13 ص430.

كل ما سبق لا بد من قيام ما يدل على انتقاء القصد الجنائي لدى الفاعل من قرائن وأدلة. ولقد أخذ فقهاء القانون بما ذهب إليه الفقهاء هنا، وبحثوه عندهم، وأطلقوا عليه الجهل بالوقائع الجوهرية1. وجهة نظر فقهاء القانون الوضعي في الجهل بالأحكام: القاعدة العامة عند فقهاء القانون هي: افتراض العلم بالقانون، وعليه فلا يعذر المرء بجهله القانون. ولا يجوز له أن يحتج بذلك، ولا يعفيه جهله في الحقيقة من المسئولية الجنائية. ويعتبر العلم بالقانون قرينة قانونية قاطعة لا تقبل إثبات العكس. كما أن المقصود بالعلم هو مكان العلم به على وجهه الصحيح، ويستهدف القانونيون من تقرير هذا المبدأ حماية مصالح المجتمع، واستقراره هو لو أجيز إسقاط العقوبة عن المتهم لجهله بالقانون لأصبح من العسير تطبيق الأحكام على الجناة؛ لأن في وسع كل منهم إدعاء الجهل بالقانون، أو بمعناه الصحيح، وإثبات عكس هذا الادعاء أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلًا. ونظرًا؛ لأن هذا المبدأ في رأي بعضهم يعد قاسيًا، وغير منطقي خاصة في العصر الذي تلجأ فيه الدولة إلى الجزاء الجنائي لتدعيم أحكام قوانينها المختلفة، وفي ظل هذا السبيل العرم من القوانين الجنائية التي يثقل على القانونيين ملاحقتها، فقد وجد اتجاه عند الوضعيين يميل إلى التخفيف من مبدأ افتراض العلم بالقانون.

_ 1 الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د. سمير الجنزوري ص432.

وأوردوا عليه استثناء من وقع تحت ظروف قوية حالت بينه، وبين العلم بالقانون، كما إذا حوصر بعض الناس في سجن من السجون التي لا يسمح فيها بوصول أداة للمعرفة، أو وقوف السجناء على أية أخبار، فالسجناء والحالة هذه إذا خرجوا من سجنهم، وارتكب بعضهم أفعالًا جنائية مخالفة لما تنص عليه القوانين الجنائية التي صدرت في المدة التي كانوا فيها سجناء، فإنهم يعفون من العقوبة الجنائية التي يعاقب بها من ارتكب فعلًا من هذه الأفعال عمدًا: نظرا لانتفاء القصد الجنائي لديهم، وقيد ها بمدة محدودة لا يجوز الاحتجاج بعد فواتها بالجهل بالقانون1. كما اتجه القانونيون أيضًا إلى قصر قاعدة افتراض العلم بالقانون على القوانين الجنائية فقط، وعليه فإن المتهم يستطيع أن يدفع بجهله أحد القوانين غير الجنائية كالقانون الإداري، أو التجاري، أو المدني، أو قانون الأحوال الشخصية، ورتب القانونيون على الاعتذار بالجهل بهذه القوانين إعفاء من ادعى ذلك من المسئولية. وطبقًا لهذا قضت محكمة النقض ببراءة متهم في قضية تزوير في محرر رسمي: هو وثيقة زواج، أقر فيها بعدم وجود مانع من الموانع الشرعية، رغم تزوجه بابنة أخت الزوجة قبل ذلك أيضًا، وبقائها في عصمته؛ لأن مثله لا يدرك مثل هذه الأحكام، كما أن هذه الأحكام هي

_ 1 نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور ص517-520، الأسس العامة لقانون العقوبات العام أ. د. سمير الجنزوري ص456-428، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. نجيب حسنى ص456-628، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. محمود مصطفى ص425-427، شرح قانون العقوبات القسم العام أ. د. أحمد الألفي ص456، أصول قانون العقوبات أ. د. أحمد فتحى سرور ص551 "ط سنة 1971م".

أحكام لقانون غير قانون العقوبات، وقالت المحكمة في تسيب الحكم "وحيث أنه متى كانت الواقعة الثابتة بالحكم، هي أن المتهمين أملوا بسلامة نية على المأذون عند مباشرة عقد نكاحهم بعدم وجود موانع شرعية: وكانوا في الواقع يجهلون وجود ذلك المانع، فإن جهلهم هذا لم يكن عدم علم بقانون العقوبات، بل جهلًا بواقعة حال هي ركن من أركان جريمة التزوير المرفوعة بها الدعوى عليهم، أساسه عدم علمهم بحكم من أحكام قانون آخر هو قانون الأحوال الشخصية ... فهو خليط مركب من جهل مركب بالواقع، ومن عدم علم بحكم ليس من أحكام قانون العقوبات، ما يجب قانونًا في حدود المسائل الجنائية اعتباره في جملته جهلًا بالواقع، ومعاملة المتهمين على هذا الاعتبار1. وفقهاء القانون، وإن قالوا بذلك إلا أنهم قيدوا اعتبار هذا الجهل عذرًا بقيام المتهم بتقديم الدليل القاطع على أنه تحري، وسأل واستفسر، وأنه اعتقد بأنه كان يباشر عملًا مشروعًا، وأنه كان لاعتقاده هذا أسباب معقولة، وإلا فإن جهله هذا يعد جهلًا مشوبًا بالتقصير من جانب المتهم2. ويلاحظ أيضًا أن تفرقة القانونيين بين القوانين الجنائية، وغيرها من القوانين الأخرى من حيث افتراض العلم بها تفرقة غير مقبولة، ولا تستند إلى منطق قانوني، وإنما هي وسيلة تخفيف، أو تهرب مما يفرضه مبدأ افتراض العلم بالقانون.

_ 1 تراجع نظرية الإباحة عند الأصوليين للأستاذ الدكتور سلام مدكور ص520، 521 الأسس العامة لقانون العقوبات للأستاذ الدكتور سمير الجنزوري ص529. 2 المرجع السابق ص430.

المطلب الثاني: الإرادة

المطلب الثاني: الإرادة ويقصد بها هنا النشاط النفسي الذي يهدف إلى تحقيق غرض معين، ويقتصر دورها عند البعض على الحركة الإجرامية المتمثلة في النشاط الإجرامي؛ لأن هؤلاء يرون أن حدوث النتيجة ما هو إلا ثمرة لقوانين طبيعية لا تستطيع الإرادة السيطرة عليها، والعمد عندهم يتحقق بمباشرة النشاط الإجرامي مع الرغبة في حدوث النتيجة1. فالجاني حينما يقبل على فعلته المجرمة، ويقدم عليها باختياره عن قصد مستهدفًا أحداث نتيجة معينة، يسمى في هذه الحالة فاعلًا مختارًا مريدًا بفعله أحداث نتيحة معينة. فالإرادة إذا عنصر لا بد من وجوده لقيام القصد الجنائي، الذي هو أساس قيام المسئولية الجنائية، إذ لا يسأل شخص عن نشاطه، وما نتج عنه إلا إذا كان هذا النشاط تعبيرًا عن إرادته، يستوي في ذلك أن تكون الجريمة عمدية، أو غير عمدية، إيجابية أو سلبية2. فالإرادة الواعية أمر لا بد من التحقق من وجوده للحكم بتحقق القصد الجنائي؛ لأن العلم بالتجريم أمر مفترض كما سبق. أما لو أكره الفاعل على ارتكاب العمل الإجرامي بأن وقع تحت ضغط زال بسببه رضاه، وانعدمت إرادته، فإنه والحالة هذه يفقد

_ 1 أصول قانون العقوبات أ. د. أحمد فتحى سرور ص533-535. 2 تتجه الإرادة في الجريمة العمدية إلى تحقيق الفعل، وإحداث النتيجة، إما في الجريمة غير العمدية، فالإرادة تتجه نحو الفعل دون النتيجة الأسس العامة لقانون العقوبات أ. د. سمير الجنزوري ص435. شرح قانون العقوبات أ. د. محمود مصطفى ص417.

اختياره وينعدم قصده الجنائي، وعليه فإن عقوبته تتناسب تناسبًا عكسيًا مع درجة إكرهه؛ لأن الإكراه منه ما هو إكراه تام ينعدم معه الرضا، ويفسد الاختيار. ومنه ما هو إكراه ناقص ينعدم معه الرضا، ولا يفسد الاختيار1، ولكل منهما أثره في دفع العقوبة، أو التخفيف منها، حسب درجته والجريمة التي ترتبت على قيام المكره -بفتح الراء- بالفعل الذي أكره عليه. ويقتضى بين ذلك حديثًا موجزًا عن الإكراه بقدر ما يتطلبه المقام. الإكراه: ويراد به: ما يفعل بالإنسان مما يضره، أو يؤلمه لحمله على القيام بفعل، أو قول لا يريده2. أو هو فعل يفعله الإنسان بغيره، فيزول رضاه أو يفسد اختياره، أو هو أن يهدد المكره قادر على الإكراه بعاجل من أنواع العقاب يؤثر العاقل لأجله الإقدام على ما أكره عليه، وغلب على ظنه أنه يفعل به ما هدد به إذا امتنع عما أكرهه عليه3.

_ 1 يرجع المدخل للفقه الإسلامي ص336، الإباحة عند الأصوليين ص390. 2 مواهب الجليل ج4 ص45 ط أولى السعادة3. 3 أسنى المطالب لأبي يحيى زكريا الأنصاري ج3 ص282، ط أولى المطبعة الميمنية، عرف ابن حزم الإكراه بما عرفه به اللغويون، وقال: هو كل ما سمي في اللغة إكراهًا، وعرف الحبس أنه إكراه كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه إنفاذ ما توعد به، والوعيد بالضرب كذلك، أو الوعيد بالسجن كذلك، والوعيد بإفساد المال لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه" المحلى ج9 ص259 يراجع المدخل لفقه الإسلامي ص336.

والإكراه نوعان: 1- إكراه تام: ويسمى الإكراه الملجئ، وهو ما خيف فيه تلف النفس، وهذا النوع من الإكراه يفسد الاختيار، ويعدم الرضا. 2- إكراه ناقص، أو إكراه غير ملجئ، وهو ما لا يخاف فيه التلف عادة كالحبس لمدة قصيرة، والضرب الذي لا يخشى منه التلف، وهذا النوع لا يفسد الاختيار لكنه يعدم الرضا1. والإكراه التام، أو الملجئ منه ما هو مادي، وهو ما كان التهديد والوعيد فيه قائمًا، ومنه ما هو معنوي، وهو ما كان التهديد والوعيد فيه منتظرا، والإكراه التام بنوعيه يتفاوت من جريمة إلى أخرى، ذلك؛ لأن من الجرائم ما لا يؤثر الإكراه في حكمها وتجريم الإقدام عليها، وإلزام عقوبتها لمن ارتكبها حتى ولو كان مكرها -بفتح الراء، ومنها ما يؤثر الإكراه في حكمها، وتجريم الإقدام عليها، وإلزام عقوبتها لمن ارتكبها مع إكراهه، ودرجة تأثيره تتفاوت من جريمة إلى أخرى بمعنى أنه يترتب عليه رفع المسئولية الجنائية عمن ارتكب في ظله جرائم معينة، ويرفع العقوبة بصفة عامة بالنسبة لجرائم أخرى لعده سببا من أسباب إباحة الفعل، كما أنه يتفاوت من شخص لآخر؛ لأن ما يعتبر إكراها لذوي المروءات قد لا يعد إكراها بالنسبة لغيرهم. والإكراه التام، أو الملجئ بنوعيه يؤثر على الإرادة، بمعنى أنها

_ 1 البحر الرائق ج3 ص80 "ط أولى".

تنعدم معه، ويذهب الرضا، ولا يوجد اختيار مع وجود هذا الإكراه، إذا فإن القصد الجنائي ينعدم بوجوده، وتندرئ به العقوبة الحدية فيما عدا ما يجب بارتكاب جريمة القتل، أو قطع الطرف أو الضرب المهلك، فالإكراه على ارتكاب مثل هذه الجرائم لا ينتج عنه إعفاء المكره -بفتح الراء- من العقوبة الجنائية1؛ لأن الفقهاء أجمعوا على أن من أكره على قتل غيره لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمة بجلد أو غيره، فلا بد للمكره أن يصبر على البلاء الذي ينزل به، ولا يحل له أن يفتدي نفسه بغيره2. أما ما عدا القتل، فأقوال الفقهاء متغايرة في درء الحد أو إقامته، ففي جريمة الزنا اتفق الفقهاء على أن المرأة التي تستكره على الزنا لأحد عليها، وهذا ما قضى به عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في الوليدة التي استكرهت على الزنا، فقد ذكر ابن قدامة أنه: "لا حد على مكرهة في قول عامة أهل العلم، وروي ذلك عن عمر والزهدي، وقتادة والثوري، والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، وذلك لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وعن جابر بن وائل عن أبيه: "أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدرأ عنها الحد" ... "إلى أن يقول ابن قدامة"، أتي عمر بامرأة قد زنت، فقالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها؛ ولأن هذا شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات

_ 1 الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390-391. 2 المغني: ج7 ص645، والمهذب: ج2 ص189، وبدائع الصنائع ج7 ص179، والبحر الرائق: ج8 ص74، ومواهب الجليل: ج6 ص242، والخرشي ج8 ص80، والجامع لأحكام القرآن: ج5 ص 3799، والإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390.

ولا فرق بين الإكراه بالإلجاء، وهو أن يغلبها على نفسها، وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه1. أما بالنسبة للرجل الذي أكره على الزنا، فإن الإمام أبا حنيفة يرى أنه إذا كان الذي أكرهه هو السلطان، فلا حد عليه، وإن أكرهه غير السلطان حد عند أبي حنيفة؛ لأنه يرى أن الإكراه من غيره لا يدوم إلا نادرًا، ولتمكن المكره -فتح الراء- من الاستعانة بالسلطان، أو بجماعة المسلمين، أو يدفع الإكراه عن نفسه بالسلاح، وقال الصاحبان: لا يحد؛ لأن الإكراه كما يتحقق من السلطان يتحقق من غيره، ووافقهما الشافعي، وابن المنذر. وقد علل أبو حنيفة رأيه بأن الزنا لا يتصور من الرجل إلا بعد انتشاره، وذلك دليل الطواعية، ورد على ذلك بأن الانتشار دليل متردد؛ لأنه قد يكون عن غير قصد؛ لأن الانتشار قد يكون طبعًا لا طوعًا كما في النائم، فأورث شبهة2. وهذا الرأي الأخير هو ما أميل إليه، وأرجحه إعمالًا لما ذكر من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- برفع جرم الفعل الذي استكره عليه مرتكبه، طالما ليس هذا الفعل قتلًا، أو قطع أحد الأعضاء، أو ضرب مهلك.

_ 1 المغني: ج8 ص186-187، وذكر أستاذي الدكتور مدكور أن الإكراه بالتهديد بالقتل، أو يتر أحد الأعضاء، أو بالضرب الذي يخاف فيه تلك النفس أو العضو، إكراه تام ويسمى بالإكراه الملجئ، وهو معدم للرضا أيضًا غير أن الاختيار لا يفسد به؛ لأن المكره يستطيع تحمل الأذى المهدد به، المدخل للفقه الإسلامي ص336. 2 فتح القدير: ج5 ص273، والخرشي/ ج8 ص80، والمغني: ج8 ص187، والجامع لأحكام القرآن الكريم: ج5 ص3799.

وبالنسبة لشرب الخمر، فالفقهاء قد اجتمعوا على أن من أكره على ذلك إكراهًا ملجئًا لا عقوبة عليه، وإن كانوا قد اختلفوا على كون الفعل مباحًا للمكره، أو غير مباح1. والقوانين الوضعية، وإن نصت على أنه لا عقاب على من ارتكبه جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة، وقاية نفسه، أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به، أو بغيره ولم يكن بإرادته دخل في حلوله، ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى. فهي وإن نصت على هذا إلا أنها لم تعتبر الإكراه سببًا من أسباب الإباحة، كما ترى الشريعة الإسلامية، وإنما عدته فقط سببًا من أسباب موانع المسئولية2.

_ 1 بدائع الصنائع ج7 ص176: والمغني ج8 ص307-308: والخرشي ج8 ص109، والمحلى: ج13 ص429، ومواهب الجليل: ج5 ص318، والإباحة عند الأصوليين ص390. 2 الأسس العامة لقانون العقوبات: ص573، قانون العقوبات الأستاذ الدكتور نجيب حسني ص578-582، والأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور: ص524-525، الإباحة عند الأصوليين والفقهاء لأستاذي الدكتور سلام مدكور ص391.

الفصل الثالث: الإثبات

الفصل الثالث: الإثبات مدخل ... الفصل الثالث: الإثبات تمهيد: مرت البشرية عبر تاريخها بمراحل متعددة، اختلفت نظم الإثبات فيها تبعًا لاختلاف البيئة الاجتماعية، التي تحكم سير حياة الفرد والمجتمع. ثم أنزل الله سبحانه وتعالى على محمد -صلى الله عليه وسلم- الشريعة الإسلامية، فحددت طرق الإثبات وبينت نظمه، وألزمت القاضي بذلك، أو حثته على العدل، وقعد الفقهاء ذلك كله في قواعد فقهية، أكدوا فيها على براءة المتهم حتى يثبت إدانته بالدليل القاطع اليقيني، وعلى الأخص في جرائم الحدود. وبين فقهاء الشريعة طرق الإثبات بصورة بدأ العالم المعاصر يعرف لها حقها، ويستحث خطى مقننية بغية الوصول إليها، والأخذ بها: ابتغاء إحقاق الحق، وطلبا لإقرار العدل، ويراد بالإثبات عند اللغويين: إقامة الحجة الواضحة والبينة القوية، والبرهان الساطع ووضوح الحق، واستجلاء الدليل1، ويراد بالإثبات إقامة الدليل الشرعي أمام القاضي في مجلس قضائه على حق، أو واقعة من الوقائع، ويطلق الإثبات على الوسائل التي تؤدي إلى الكشف عن الحقيقة، والتي يؤسس

_ 1 جاء في لسان العرب ج8 ص323-324 "ط الدار المصرية للتأليف والترجمة مادة "ثبت" أن أثبت مصدره إثبات، وأثبت حجته: أقامها وأوضحها. وقول ثابت أي صحيح، والثبت بالتحريك: الحجة والبينة وثابتة وأثبته: عرفه حق المعرفة. ويراجع المنجد مادة "ثبت".

القاضي حكمه عليها، ومن هذه الوسائل الإقرار، والشهادة وغيرهما من كتابه وقرائن ومعانيه، وخبره وما إلى ذلك. ويطلق الإثبات أيضًا على النتيجة التي تم التوصل إليها عن طريق الوسائل المذكورة، سواء أكانت مجتمعة، أو عن طريق بعضها فقط. والنتيجة التي يتم التوصل إليها عن طريق وسائل الإثبات، هي ركيزة القاضي فيما يحكم به من وقوع الجريمة، أو عدم وقوعها، ومن أن من أقيمت عليه الدعوى هو الجاني أم أنه بريء، وإن كان هو الجاني فما مدى قصده الجنائي؟. وهل اكتملت أركان الجريمة أم لا؟ وهل له عذرًا أو شبهة يعتد بها في دفع العقوبة عنه، وما مدى حظه من أسباب الإباحة، أو موانع المسئولية إلى آخر ذلك مما يقف عليه القاضي، ويعرفه معرفة دقيقة حتى يكون حكمه للواقعة عادلًا لا جور فيه، ولا تقصير1. ومما هو معروف أن الشريعة الإسلامية قد حددت طرق الإثبات في الجرائم الحدية، وألزمت القاضي هذه الطرق. كما أنها قد أباحت للقاضي حرية الاقتناع في حكمه للجرائم التعزيرية، ولا تكاد تخرج نظم الإثبات عند القانونيين عن ذلك2.

_ 1 الإثبات في المواد الجنائية للأستاذ الدكتور محمود مصطفى ج1 ص3 "ط أولى سنة 1978". 2 نظم الإثبات التي يعرفها القانون هي: نظام الإثبات القانوني، أو المقيد بمعنى أن القانون قد حدد الأدلة التي يمكن الإستناد إليها في الحكم ثانيًا: نظام الإثبات المعنوي أو المطلق، بمعنى أن القانون يبيح للقاضي في أن يقتنع بأي دليل يمكنه أن يبني عليه عقيدته، ولا سلطان عليه في ذلك إلا ضميره. ثالثًا: النظام المختلط: هو وسط بين النظامين، أو يجمع بينهما. المرجع السابق ص7-11، ويراجع الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص3 وما بعدها، ص282 وما بعدها، المدخل للفقه الإسلامي ص736 وما بعدها.

ونظرًا؛ لأن هذا البحث يتناول الجرائم الحدية، والشبهات التي تعتري أحد أركان جريمة من هذه الجرائم أو دليل إثباتها، كان لزامًا أن يقتصر الحديث هنا على طرق الإثبات التي يمكن على أساسها الحكم بالعقوبة الحدية، وبيان ما يعتري كل طريق منها من شبهات يترتب عليها درء العقوبة الحدية، سواء أنتج ذلك تبرئة المتهم، أو إلزامه بعقوبة تعزيرية تختلف، وعقوبة الجريمة التي لم يكتمل إثباتها عليه نظرًا لقصور في هذه الإثبات، أو لما لحقت به من شبهات. وطرق الإثبات التي سيعرض البحث لها البيان هي: أولًا: الإقرار وما يعتريه من شبهات تدفع الأخذ به في إثبات الجناية الحدية على المقر. ثانيًا: الشهادة، وما يعتريها من شبهات تدفع الأخذ بها، وتنتج إسقاط العقوبة الحدية عن المدعى عليه، بل ويترتب على ذلك أحيانًا إلزام الشهود العقوبة الحدية، أو غيرها من العقوبات التعزيرية. ثالثًا: القرائن، من حيث الاعتداد بها كدليل مستقل يمكن على أساسه إلزام المدعى عليه العقوبة الحدية، أم عدها من الأدلة المصاحبة، التي لا يتم عن طريقها وحدها الإلزام بالعقوبة الحدية. وسيكون الحديث عن كل طريق من طرق الإثبات حديثا عامًا يتناول ما يشترط فيه كدليل إثبات، ثم أذكر ما يجب أن يتوافر فيه من الشروط الخاصة، بإثبات بعض الجرائم الحدية عند الحديث عن كل جريمة من هذه الجرائم.

المبحث الأول: الإقرار

المبحث الأول: الإقرار مدخل ... المبحث الأول: الإقرار تعريف الإقرار: الإقرار في اللغة: الإذعان للحق والاعتراف به، ويطلق أيضًا على الإثبات، فيقال: قر الشيء يقر إقرارًا إذا ثبت1. وفي اصطلاح الفقهاء: أخبار عن ثبوت حق للغير على نفسه، أو الاعتراف به2. حجية الإقرار: الإقرار من أقوى البيانات، والحجج بشرط إلا تكذبه قرائن أخرى، إذ قد تدفع المقر بعض العوامل والضغوط، ثم مع ذلك قرينة إثبات لا تتعدى المقر، فلا يجوز إلزام شخص عقوبة نيتجة إقرار آخر بأنه شاركه جريمته، وهذا ما جرى عليه القضاء في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. فقد روي "أن رجلًا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال:

_ 1 لسان العرب، القاموس المحيط. 2 البحر الرائق ج7 ص272، فتح القدير ج6 ص276، شرح الجلال المحلى على منهاج الطالبين ج3 ص2 "ط عيسى الحلبي". الجامع لأحكام القرآن الكريم ج3 ص2750، ج4 ص3080.

أنه قد زنى بامرأة سماها، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المرأة، فدعاها فسألها عما قال، فأنكرت، فحده وتركها"1. وقد ذهب الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى أن الحد في مثل هذا لا يجب على المقر نظرًا؛ لأنه قد كذب من جانب من ادعى مشاركتها له جريمته، ومثل هذا التكذيب يعد شبهة تسقط بها العقوبة الحدية عن المقر. من هذا يبين أن أثر الإقرار لا يتعدى المقر، ولا يلزم غيره بالعقوبة، وإن كان هناك من يرى إمكان أثر الإقرار إلى الشركاء باعتبار أن الإقرار قرينة، وهؤلاء يرون إمكان الإثبات بالقرائن2، وسيأتي ذلك عند الحديث عن القرائن كوسيلة من وسائل الإثبات.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص79، 119، سبل السلام للصنعاني ج4 ص6 "ط الثانية سنة 1950م". ج4 ص158، المغني ج8 ص193، الشرح الكبير للمقدسي المتوفى سنة 682هـ ج10 ص192 "مطبوع مع المغني". 2 صحيح البخاري ج7 ص59 ط دار الشعب.

المطلب الأول: شروط في المقر

المطلب الأول: شروط في المقر يشترط في المقر لاعتبار ما أقر به دليل إثبات يعتد به في إلزام المقر ما يترتب على ذلك ما يأتي: 1 البلوغ: فلا عبرة بما أقر الصبي به على نفسه. 2 العقل: فلا يعتد بقول المجنون، أو من في حكمه. 3 اليقظة عند الإقرار: لأن النائم لا أثر لما يردده من حديث. هذه الشروط الثلاثة لا بد من توافرها في المقر حتى يعتد بإقراره؛ لأن من لم تتوافر فيه هذه الشروط، أو انتقص منه واحد منها لا يصلح ما يصدر عنه دليل إثبات جناية من الجنايات عليه، إذ أن من المعروف عند فقهاء التشريع الإسلامي ما ورد من "أن القلم رفع عن ثلاثة، عن المجنون، حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ"1. ومما هو معروف أيضًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما جاءه ماعز مقرًا بجنايته، سأله رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أبك جنون"؟ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد ثبت لديه بلوغ ماعز، وأنه ليس بنائم، لذا سأله عن عقله. كما روى أنو داود بإسناده قال: "أتى عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسًا، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة آل فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم، فقال: ارجعوا بها. ثم أتاه فقال: يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة؟ وذكر له الحديث السابق.

_ 1 القضاء في الإسلام أ. د: سلام مدكور ص80، فتح القدير ج4 ص158، المغني ج8 ص193، الشرح الكبير للمقدسي المتوفى سنة 682هـ ج10 ص192 "مطبوع مع المغني".

قال: بلى قال: فما بال هذه؟ قال: لا شيء قال: فأرسلها. فجعل عمر يكبر"1. من هذا يبين أن الصبي والمجنون، ومن في حكمهما لا يعتد بقولهم في إثبات الجنايات عليهم، ولا يلزمون بالعقوبة الجنائية نظيرًا ما وقع منهم، وهذا واضح في شأن المجنون مما ذكر من أن عمر أسقط العقوبة بسبب جنون الفاعل وقت ارتكابه فعلته، ومن هذا يبين أيضًا أن من أقر بشيء، وهو واقع تحت تأثير ما يعيبه كأن يكون تحت عملية جراحية، ومن أثر ما أعطي من "البنج" اعترف بارتكابه جريمة ما من الجرائم، فإنه لا يعد اعترافه هذا دليل إثبات جنائي. إقرار السكران: السكران هو من ذهب عقله بسبب تعاطيه شيئًا مسكرًا، سواء أكان خمرًا، أو غير ذلك. وقد جاء في تفسير القرطبي: أن السكران هو من لا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة. وجاء أيضًا أن حد السكر اختلال العقل، فإذا استقرئ خلط في قراءته، وتكلم بما لا يعرف، استدلالًا بقول الله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 2. فالسكران إذا: هو من استتر عقله، فغلب على كلامه الهذيان

_ 1 المغني ج8 ص194، المهذب ج2 ص343. 2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2 ص1772-1774.

والسكران يخالف المجنون في أن الأول استتر عقله، ولكنه لم يذهب كالمجنون. وللفقهاء آراء في الاعتداد بإقرار السكران، ولبيان ذلك يجب التفريق بين حالتي سكره؛ لأنه إما أن يكون معتديًا بسكره، أو يكون غير متعد به. أولًا: المتعدى بسكره: "وهو من شرب مسكرًا عالمًا لغير ضرورة" يرى فقهاء الأحناف أن إقرار السكران المتعدي بكسرها إقرار صحيح يؤخذ به، إلا في الحدود الخالصة حقا لله تعالى، فمن أقر بقتل، أو بجناية على ما دون النفس من الجنايات التي تستوجب عقوبة القصاص، أو الدية أخذ بإقراره هذا؛ لأن هذه حقوق الآدميين، أما من أقر وهو سكران بجناية من الجنايات المتعلقة بحق من الحقوبق الخاصة لله سبحانه وتعالى كالزنا مثلًا، فإنه لا يؤاخذ بإقراره هذا؛ لأنه سكران؛ ولأن حقوق الله مبنية على المسامحة1. من هذا يبين أن السكران المتعدي بسكره، إذا أقر بحد خالص لله سبحانه وتعالى، فإنه لا تلزمه العقوبة الحدية بإقراره هذا، أما إذا أقر بحق خالص للآدمي، فإنه يلزم بما أقر به. ويلزم أيضًا بإقراره إذا أقر بما فيه حق لله سبحانه وتعالى، وحق

_ 1 حاشية ابن عابدين ج4 ص621، كما جاء في الهداية مع فتح القدير ج4 ص771 ط، مصطفى محمد "ولا يحد السكران بإقراره على نفسه لزيادة احتمال الكذب في إقراره، فيحتال لدرئه؛ لأنه خالص حق الله تعالى، بخلاف حد القذف؛ لأن فيه حق العبد، والسكران فيه كالصاحي عقوبته عليه، كما في سائر تصرفاته، البحر الرائق ج5 ص7.

لآدمي، فإذ أقر بأنه قذف فلانا ممن يلزمه بقذفه الحد لزم بعقوبة ما أقر به هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف، ومن ذهب مذهبهم1. أما جمهور فقهاء الشافعية، فإنهم يرون أن المتعدي بسكره إقراره صحيح يؤاخذ به في كل ما أقر به من جنايات، سواء وقع الاعتداء فيها على حق الله سبحانه وتعالى أو حق العبد؛ لأن المتعدي بسكره يجب أن يتحمل نتيجة عمله تغليظًا عليه، وجزاء لما أقدم عليه، وهو يعلم أنه سيذهب عقله، فعقوبته بإقراره زجر له، وردع لأمثاله كي يقلعوا عما يذهب نور عقولهم، واختار المازني، وأبو ثور عدم مؤاخذة السكران بإقراره؛ لأنه زائل العقل فأشبه النائم، أو مفقود الإرادة -المكره، وهذا ما ذهب إليه ابن حزم2، وما ذهب إليه جمهور فقهاء الشافعية ومن وافقهم، وإن كان أميل إلى الردع والزجر إلا أن السكران ردعه، وزجره بعقوبته على جريمة الشرب، أما إلزامه بما يقر به، وهو سكران تغليظًا عليه كي يقلع، فهو إلزام له بعقوبة حدية دليل إثبات جريمتها عليه دليل غير مقطوع بصحته لاحتماله البطلان بالقدر الذي يحتمل به الصحة، ودليل إثبات كهذا لا يقام به حد، حتى ولو كان الإقرار من السكران بارتكابه جريمة قذف. ولا يجوز القول بحده نظرًا؛ لأنه وقع منه قذف وقت إقراره سواء أكان الإقرار صحيحًا أم لا، وذلك؛ لأن العقاب على جريمة الشرب قد روعي فيه جواز وقوع مثل ذلك منه، فقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في شارب الخمر: "أنه إذا شرب

_ 1 المراجع السابقة: المغني ج8 ص195. 2 أسنى المطالب مع حاشية الرملي ج3 ص283، 284 "ط أولى المطبعة الميمنية" المهذب ج2 ص77، 343، المغني ج8 ص195 المحلى ج13 ص296.

سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة"1. إذا، فإن جعل حد الشرب بهذا القدر من الجلد مبني على احتمال الافتراء من السكران، والقذف دخل فيما يصدق عليه لفظ الافتراء، سواء أكان القذف الذي وقع من السكران هو ما جاء في إقراره، أو أنه أقر بقذف وقع منه قبل سكره، وقد جاء يعترف به. ثانيًا: غير المتعدي بسكره -أو من تغيب عقله بسبب غير مجرم، وهو من تغيب عقله بسب شربه خمرًا دست عليه، فسكر بسب ذلك، أو تغيب عقله بسبب ما تعاطاه علاجًا حدده له طبيب عادل، كما يعطى هو البنج مثلًا أثناء العمليات الجراحية، وما إلى ذلك. فمن تغيب عقله بسبب يعذر فيه، ولا يعاقب عليه لا يلزمه الحد بإقراره في حالته هذه، سواء أقر بما يجب فيه الحد حقًا لله سبحانه وتعالى خالصًا، أو ما فيه حق العبد أيضًا، وذلك؛ لأن الإقرار المذكور لا يصلح دليل إثبات في الحدود لعدم إفادته الدلالة القطعية، وأدلة إثبات الحدود لا بد، وأن تكون أدلة قطعية لا تحتمل شبهة من الشبهات. 4 أن يكون المقر مختارا حرا في إقراره وغير مجبر عليه، أو واقع تحت تأثير، أو تحديد من يقدر على تحقيق ما وعد به من تحديد، فلا يعتد إلا بإقرار من كان مختارًا حرًا؛ لأنه إذا أقر باختياره، وحريته انتفت عنه التهمة، إذا الاختيار مدعاة الصدق، أما لو أكره على إقراره، فأقر دفعا للضرر وخوفًا من التهديد والوعيد، فإن إقراره في هذه الحالة لا يعتد به، ولا تلزمه به عقوبة حدية، ولا يلحقه به إثم.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص163-165.

وقد ذكر القرطبي إجماع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه أن كفر، وقلبه مطمئن بالإيمان. وذكر القرطبي ما روي عن ابن مسعود من أنه قال: "ما من كلام يدرء عني سوطين من ذي سلطان، إلا كنت متكلمًا به"1. كما ورد من عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته، أو ضربته، أو وثقته2. 5 انتفاء التهمة عن المقر فيما أقر به على نفسه؛ لأن الإقرار شهادة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} 3. فالقوامة بالقسط والشهادة على النفس تقتضي الأمانة، وعدم الطعن في الذمة -فما دامت الشهادة ترد بالتهمة، فالإقرار أيضًا يرد بها4، فقد يحدث الكذب في الإقرار، بأن يقر الشخص على نفسه

_ 1هذا بالنسبة للإكراه على القول، أما الإكراه على الفعل، فقد ذكر القرطبي أن كلمة الفقهاء لم تتفق على إباحة الفعل بإلاكراه، وأيد الرأي القائل بإباحة الفعل، ثم يبين أن العلماء قد أجمعوا على أن من أكره على قتل غير لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرمته بجلد، أو غيره الجامع لأحكام القرآن ج5 3798، 3799. 2 المغني ج8 ص343. 3 يقول القرطبي عند تفسيره للآية 135 من سورة النساء: "قوامين" بناء مبالغة، أي لتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحق عليها -الجامع لأحكام القرآن ج3 ص1980. 4 المحلى ج13ـ س101-103.

بجرائم لم يتركبها لينفي التهمة عن الفاعل الأصلي، وكثيرًا ما يحدث هذا إذا كان الجاني الحقيقي ذا جاه، أو سلطان ومعاقبته على جنايته سيترتب عليها إلحاق الضرر به، أو إضعاف جاهه أو سلطانه، وهو يستنكف هذا، لذا فإنه يسعى جاهدًا بكل الطرق والوسائل، فيغري غيره من ضعاف الناس والنفوس، أو الذين تخضعهم ظروفهم إلى قبول الإقرار على أنفسهم بجرائم ارتكبها الآخرون طمعًا في الجاه، أو المال أو ما إلى ذلك رغبًا أو رهبًا، فيقر هؤلاء بجرائم لم يقترفوها، وجنايات لم يرتكبوها1. وكم كشفت الأحداث كثيرًا من هذا، ولذا فإن على الذي يحكم الواقعة أن يتحرى الدقة، ويحقق الوقائع، ويعمل جاهدًا لاستظهار الحق. ومعرفة ما يمكن أن يخرج الحق عن نصابه الحقيقي، فيتجنبه، ويعيد الحق إلى نصابه حتى لا تزر وازرة وزر أخرى.

_ 1 ذكر ابن قيم الجوزية أمثلة لقضايا كثيرة أقر فيها غير الجناية الأصليين بارتكابها لها، ثم وضح الحق، وظهر ما يعارض إقرارهم، الطرق الحكمية ص82، 85.

المطلب الثاني: شروط في الإقرار

المطلب الثاني: شروط في الإقرار يشترط في الإقرار الذي يعتبره الفقهاء دليل إثبات جنائي ما يأتي: 1 أن يكون الإقرار مبينا مفصلًا ظاهرًا لا يحتمل اللبس، أو التأويل دالا دلالة يقينية تفيد القطع بأن من يقر قد ارتكب الجناية التي جاء مقرا بها. يدل على هذا مراجعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ماعزًا، فقد سأله الرسول -صلى الله عليه وسلم، واستوضح منه حقيقة الفعل الذي وقع منه إلى حد أنه -صلى الله عليه وسلم- نطق بلفظه ما كان يجب النطق بها، لولا تحريه لدقة، وبيان صحة ما أقر به ماعز1. مستهدفًا -صلى الله عليه وسلم- من ذلك أن يكون الإقرار صحيحًا واضحًا لا لبس فيه، ولا احتمال لأمر خفي يمكن أن يكون شبهة تدرء الحد عن المقر. فلو احتمل الإقرار اللبس، أو التأويل، أو شابه شيء من الغموض أو الخفاء، اعتبر ذلك شبهة قد تدرء الحد عن المقر لوقوفها حائلًا بينه، وبين إلزامه العقوبة الحدية. وقد بين الفقهاء اشتراط وضوح الإقرار، والاستفسار من المقر عما كان منه، وكيفيته، وزمانه، ومكانه. فيقول المرغيناني: "فإذا تم إقراره سأله عن الزنا ما هو؟ وكيف هو؟ وأين زنى؟ وبمن زنى؟ "2. ويقول الشربيني الخطيب عند حديثه عن شروط الإقرار المثبت جريمة السرقة: "إأن يفضل الإقرار كالشهادة، فيبين السرقة والمسروق منه، وقدر المسروق والحرز بتعيين أو وصف، بخلاف ما إذا لم يبين ذلك؛ لأنه قد يظن غير السرقة الموجبة للقطع سرقة موجبة له"3، واشتراط ذلك في الإقرار بالسرقة الموجبة للحد ليس خاصًا بها وحدها

_ 1 سبل السلام للصنعاني ج4 ص7، 8 نيل الأوطار ج7 ص111، 113. 2 الهداية مع فتح القدير ج5 ص215-222، ويراجع المغني ج8 ص193. 3 مغني المحتاج ج4 ص175.

وإنما ينسحب اشتراط ذلك على كل إقرار تثبت به جريمة حدية، ويلزم المقر على أثر إقراره بالعقوبة المحددة من لدن الشارع الحكيم. من هنا كان قول جمهور الفقهاء بعدم الاعتداد بإقرار الأخرس بإشارته، حتى ولو كانت الإشارة مفهمة؛ لأنها تحتمل الشبهة، ولا يفيد القطع واليقين، إذ هي تحتمل ما فهم منها وغيره، واحتمالها لذلك يجعلها إشارة غير مفيدة اليقين، وإقرار كهذا لا يعد دليل إثبات جناية حدية لاحتماله الشبهة التي يندرئ بها الحد. يقول ابن قدامة: "وأما الأخرس، فإن لم تفهم إشارته، فلا يتصور منه إقرار، وإن فهمت إشارته، فقال القاضي: عليه الحد وهو قول الشافعي، وابن القاسم صاحب مالك، وأبي ثور وابن المنذر؛ لأن من صح إقراره بغير الزنا صح إقراره به كالنطق، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يحد بإقرار ولا بينة؛ لأن الإشارة تحتمل ما فهم منها وغيره، فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات، ولا يجب بالبينة لاحتماله أن يكون له شبهة لا يمكنه التعبير عنها، ولا يعرف كونها شبهة، ويحتمل كلام الخرقي أن لا يجب الحد بإقراره؛ لأنه غير صحيح؛ ولأن الحد لا يجب مع الشبهة، والإشارة لا تنتفي معها الشبهات"1. هذا ما قال به جمهور الفقهاء الذين يرون عدم الاعتداد بإقرار الأخرس في إثبات الجرائم الحدية. أما من قالوا بالاعتداد به أن أفهم قياسًا منهم على أنه ثبت به غير الزنا، فكلمة غير هنا عامة، ويجوز أن يقصد بها أنه يثبت به بعض الجنايات غير الحدية، وحتى لو جاز أنهم يقصرون بغير لازنا بعض الجنايات الحدية الأخرى، فإنها لو ثبت بإشارة الأخرس لما لزم بهذا

_ 1 المغني ج8 ص196، المبسوط ج9 ص98.

الجنايات الحدية الأخرى، فإنها لو ثبت بإشارة الأخرس لما لزم بهذا الإثبات الحد لاحتمال الشهبة، وهؤلاء الفقهاء الذين ذكر ابن قدامة أنهم يعتدون بإشارة الأخرس المفهم، قد ورد عنهم القوم بدرء الحدود بالشبهات، وإشارة الأخرس لا تخلو عن شبهة. هذا وإن كنت أميل إلى أن الأخرس لو كان يحسن الكتابة، والقراءة فكتب إقراره، ثم راجعه القاضي عن طريق الكتابة، واستفسر منه عن كل ما يمكن الاستفسار عنه، فأجاب الأخرس كتابة عن كل ذلك، وكانت إجاباته واضحة مفيدة ارتكابه الجناية الحدية إفادة واضحة، وصلت بالقاضي إلى حد اليقين، فإنه والحالة هذه تلزمه العقوبة الحدية بإقراره بهذه الصورة. أما إذا لم يكن الأخرس يعرف الكتابة، فإنه لا يمكن أن تفيد إشارته الإقرار القاطع الذي يثبت به الحد؛ لأنها إشارة لا تفيد اليقين، وتبقى الشبهة عالقة بها، وعليه فإن الحد يندرئ عنه، ولا يلزمه. 2 ألا يوجد ما يعارض صحة الإقرار أو يثبت نفيه؛ لأن وجود ما يعارض صحة الإقرار ينفي عن الإقرار صفة القطعية، ويلحق به شبهة، ومثل هذا لا يصلح دليل إثبات جنايته من الجنايات الحدية، فمن يقر بأنه سرق ذهبًا مثلًا من خزينة فلان الموجودة بمكان كذا، فأرسل القاضي يطلب صاحب الخزينة الذي حدده السارق في إقراره، فجاء الرجل وذكر بأنه ليست له خزينة في المكان الذي ذكر المقر، وظهر أن المكان لا يوجد فيه ما يسرق منه، أو ثبت أن الخزينة التي حددها المقر لم تفتح، ولم يسرق منها شيء، فإن مثل هذا الإقرار لا يعتد به، ولا يلزم المقر بمقتضاه العقوبة الحدية. ومثل هذا أيضًا من يقر بأنه قتل فلانًا، فإذا بالذي زعم المقر أنه قتله حي يرزق، أو كان هذا الذي زعم المقر بأنه قتله موجودًا بمكان

لا يمكن أن يصل إليه فيه المقر، أو كان الشخص الذي زعم المقر بأنه قتله بالأمس قد مات منذ فترة بعيدة، أو أقر بأنه قد ذبحه بسكين، فإذ به قد مات موتًا طبيعيًا، وكان أهله بجواره، وهو يعالج سكرات الموت. وكما لو أقر بأنه زنى بفلانة، وظهرت رتقاء، أو ظهر أنه مجبوب، فالإقرار في كل هذا وقد وجد ما يعارضه، وينفي عنه صفة القطعية التي هي شرط للاعتداد به، والحكم بمقتضاه. وقد بين هذا ما ذكره ابن نجيم عند الحديث عن شروط الإقرار الذي يعتد به في إثبات الجنايات الحدية، فقال: "أن لا يظهر كذبه في إقراره، فلو أقر فظهر مجبوبًا، أو أقرت فظهرت رتقاء، وذلك بأنه تخبر النساء بأنها رتقاء قبل الحد اندرء الحد، وذلك؛ لأن إخبارهن بالرتق يوجد شبهة"1. فوجود الشبهة في الإقرار أو وجود ما يعارضه أولى بالاعتداد به من الإقرار نفسه؛ لأن الأصل براءة الذمة، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل ثابت يقيني لا يوجد ما يعارضه، أو يوهن منه2. 3 يجب أن ييستمر الإقرار قائمًا من المقر بالصورة التي تفيد اليقين، وتبقى ثبوت الإقرار حتى يتم تنفيذ العقوبة الحدية.

_ 1 البحر الرائق ج5 ص7، كما جاء في المبسوط ج9 ص98 "ط بيروت"، وإن أقر المجبوب بالزنا لا يحد؛ لأنا نتيقن بكذبه، فالمجبوب ليس معه آلة الزنا، والمتيقن بكذبه أكثر تأثيرًا من رجوعه عن الإقرار. 2 الأشباه والنظائر للسيوطي ص59، الطرق الحكمية لابن قيم ص82-83.

فإذا رجع المقر عن إقراره، أو نتفت عن الإقرار صفة القطعية قبل تنفيذ العقوبة الحدية، أو أثناء تنفيذها، فإن جمهور الفقهاء يرى إسقاط العقوبة الحدية، أو ما بقي منها، إذا لم يكن هناك دليل إثبات لهذه الواقعة غير إقرار المقر، وكان الاعتداء قد وقع على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى. سواء أكان رجوع المقر عن إقراره رجوعا صريحا، أم كان رجوعا ضمنيا، وإن كان الرجوع الضمني يحتاج إلى استيضاح واستفسار. هذا إجمال لوجهة نظر الفقهاء في رجوع المقر تحتاج إلى شيء من التفصيل والبيان أورده فيما يأتي: الرجوع عن الإقرار: الرجوع عن الإقرار إما أن يكون صريحا أو غير صريح، فالرجوع الصريح يتحقق بقول المقر: كذبت في إقراري، أو رجعت عنه، أو لم أفعل ما أقررت به. والمقر الذي رجع في إقراره إما أن يكون قد أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي تدرء بالشبهات، وأما أن يكون قد أقر بحق من حقوق العباد، أو بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي لا تسقط بالشبهات، كالزكاة والكفارات، فإن كان قد أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي تدرء بالشبهات، فإن جمهور الفقهاء يرون إسقاط الحد عنه برجوعه عن إقراره بما يوجبه. واستدلوا لذلك بما روي من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقن المقر بالسرقة الرجوع عن إقراره، وذلك حين أتى -صلى الله عليه

وسلم- بلص، فاعتراف اعترافًا ولم يوجد معه المتاع، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما أخالك سرقت"؟. فلو لم يكن لرجوع المقر عن إقراره أثر في إسقاط الحد عنه لما لقنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم ذلك1. كما استدل الجمهور: لما ذهبوا إليه أيضًا بما روي عن أن ماعزا لما وجد مس الحجارة صرخ، وقال: يا قوم ردوني إلى رسول الله -صل الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني، وغروني من نفسي، وفي رواية أخرى أنه فر، فتبعه المسلمون ولم يتركوه حتى قتل، فلما رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأخبروه قال: "فهلا تركتموه، وجئتموني به". يقول الشوكاني: "استدل به على أنه يقبل من المقر الرجوع عن الإقرار، ويسقط عنه الحد، وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعية، والحنفية والعترة، وهو مروي عن مالك في قول له2.

_ 1 يقول الشوكاني عن هذا الحديث: قال الحافظ في بلوغ المرام: رجاله ثقات ثم يقول: وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة، منها عن أبي الدرداء: أنه أتي بجارية سرقت، فقال لها: أسرقت؟ قولي: لا، فخلى سبيلها، وعن عطاء عن عبد الرازق أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا وسمى أبا بكر وعمر، وأخرج أيضًا عن عمر بن الخطاب أتي برجل، فسأله: قل: لا، فقال: لا، فتركه. وعن أبي هريرة عند أبي شيبة أن أبا هريرة أتي بسارق، فقال: أسرقت؟ قل: لا مرتين أو ثلاثًا، وعن أبي مسعود الأنصاري في جامع سفيان أن امرأة سرقت جملًا فقال: أسرقت؟ قولي: لا.. وفي ذلك دليل على أنه يستحب تلقين ما يسقط الحد، نيل الأوطار ج7 ص150-151. 2 المراجع السابق ص114-116.

هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، بالنسبة لمن أقر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، ثم رجع عن إقراره في حالة ما إذا كان الحق يسقط بالشبهة، أما من أقر بحق من حقوق العباد، أو بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى التي لا تسقط، بالشبهة ثم رجع في إقراره، فإنه لا أثر لرجوعه هذا، ويلزم بما أقر به، نظرًا؛ لأنه قد ألزم نفسه بحق للغير الذي يمكن أن يكذبه في رجوعه، ويطالب بحقه؛ ولأن حقوق العباد مبنية على المشاحة، وما دام قد ثبت له فلا يمكن إسقاطه بغير رضاه، هذا ما ذهب إليه الجمهور، وإن كان هناك من الفقهاء من لا يعتد بالرجوع مطلقًا، سواء أقر بحق الله تعالى أم بحق للعبد، وهؤلاء قد قاسوا عدم إسقاط حق الله بالرجوع عن الإقرار بحق العبد في ذلك، وقد أورد ابن نجيم رأي الجمهور في قوله: "فإن رجع عن إقراره قبل الحد، أو في وسطه خلى سبيله؛ لأن الرجوع خبر محتمل للصدق كالإقرار، وليس أحد يكذبه فيه فتحقق الشبهة بالإقرار، بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص، وحد القذف لوجود من يكذبه، ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع"1، كما ذكر الشيرازي: أن من أقر بحق لآدمي، أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة، ثم رجع في إقراره لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يملك إسقاطه بغير رضاه، وإن أقره بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت، فإن كان حد الزنا، أو حد الشرب قبل رجوعه2، والإمام مالك -رضي الله تعالى عنه، وإن قال بسقوط الحد الذي وجب حقا لله سبحانه وتعالى بإقرار المقر على نفسه إذا رجع عن اقراره، إلا أنه قد ورد عنه في إحدى الروايات اشتراط أن يرجع المقر عن إقراره لوجود شبهة، أما لو رجع عن إقراره لغيره شبهة، فلا يعتد برجوعه هذا، ويلزم الحد الواجب حقًا لله تعالى3.

_ 1 البحر الرائق ج5 ص8 فتح القدير ج5 ص223. 2 المهذب ج2 ص352 مغني المحتاج ج4 ص150. 3 يقول ابن رشد القرطبي مبينا ذلك: وفصل مالك، فقال: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه: وأما إن رجع إلى غير شبهة، فعنه في ذلك روايتان إحداهما يقبل، وهي الرواية المشهور والثانية لا يقبل رجوعه بداية المجتهد ج2 ص474، والموطأ ص245، وقد ذكر الدردير أن المقر بالسرقة أو الزاني، أو الشارب، أو المحارب إذا رجع عن إقراره قبل رجوعه سواء أكان رجوعه لشبهة أم لا، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ج4 ص355.

وقد ذكر الشوكاني أن ابن أبي ليلى، والبتي وأبو ثور، ورواية عن مالك، وقول الشافعي أنه لا يقبل الرجوع عن الإقرار بعد كماله، سواء أكان الحد الذي وجب بالإقرار حقا لله تعالى، أم كان حقًا للآدمي قياسًا لحق الله سبحانه وتعالى بحقوق الآدميين التي لا يسقط برجوع المقر عن إقراره بها، وثبوتها عليه1. وذهب فقهاء الشيعة الجعفرية إلى أن رجوع المقر عن إقراره، لا يترتب عليه إسقاط حد من الحدود التي وجبت عليه بإقراره، إلا في حالة ما إذا كان الحد الواجب بالإقرار هو الرجم، فإن المقر إذا رجع عن إقراره هذا سقط عنه الرجم، وألزم عقوبة الجلد الحدية بدل الرجم. فالرجوع عن الإقرار لا أثر له عندهم، إلا في هذا فقط بالنسبة للعقوبات الحدية. فقد ذكر أبو القاسم الموسوي أنه: لو أقر شخص بما يوجب

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص116، ويراجع المهذب ج2 ص352، مغني المحتاج ج4 ص150.

رجمه، ثم جحد سقط عنه الرجم دون الحد، ولو أقر بها يوجب الحد غير الرجم، ثم أنكر لم يسقط1. وقول أبي القاسم الموسوي محل نظر؛ لأنه قد ذكر عند حديثه، عن ثبوت الحد بشهادة الشهود: أن الحد إذا ثبت بشهادة الشهود، ثم رجعوا قبل الحكم، أو قبل استيفاء الحد لم يقم الحد؛ لأن رجوع الشاهد يحقق الشبهة، والحدود تدرء بالشبهات. فإذا كان رجوع الشاهد تنتج عنه شبهة تدرء الحد، فكيف برجوع المقر؟ لا شك أن رجوع المقر أولى بإنتاج الشبهة من رجوع الشاهد؛ لأن الشاهد يرجع نتيجة مساومته على ذلك، ورجوع المقر قد يكون ناتجًا عن اكتشافه حقيقة فعله الذي ارتكبه، ومعرفته أن هذا الفعل لا تقوم به الجريمة التي أقر بها، وليس هناك مبرر لاعبتار الشبهة برجوع الشهود، ونفي قيامها برجوع المقر. هذه مقالة الفقهاء في رجوع المقر عن إقراره رجوعًا صريحًا. أما لو كان الرجوع عن الإقرار غير صريح كهروب الذي يقام عليه الحد مثلًا، فإن جمهور الفقهاء يرى أن هذا الهروب يعتبر رجوعًا عن الإقرار، ويترتب عليه إسقاط العقوبة الحدية -هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف، والمالكية والحنابلة.

_ 1 واستدل لذلك بما روي عن صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله -رضي الله تعالى عنه- في رجل أقر على نفسه عند الإمام أنه سرق في جحد قطعت يده. وإن رغم أنفه، وإن أقر على نفسه أنه شرب خمرًا، أو بقرية فاجلدوه ثمانين جلدة، قلت: فإن أقر على نفسه بحد يجب فيه الرجم، أكنت راجمًا؟ فقال: لا ولكن كنت ضاربه الحد، مباني تكملة المنهاج ج1 ص176.

مستدلين بما روي من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن تتبع ماعزًا عند هروبه: "هلا تركتموه". فالأئمة الثلاثة يعتبرون أن مجرد الهروب عند التنفيذ دليل رجوع المقر عن إقراره، وبذا يسقط عنه الحد دون حاجة إلى التصريح بالرجوع1. أما جمهور فقهاء الشافعية، فإنهم يرون أن هروب المقر أثناء إقامة الحد عليه لا تعتبر رجوعًا إذا صرح بذلك. وعليه فإن الهروب يقتضي أن يوقف تنفيذ الحد، أو إتمامه حتى يسأل الهارب، ويستفسر منه عن سبب هروبه، فإن صرح بالرجوع عن الإقرار قبل رجوعه، وسقط عنه الحد، أو ما بقي منه، وإن لم يصرح بالرجوع ألزم الحد أو ما بقي منه، واستدل فقهاء الشافعية لما ذهبوا إليه بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يلزم من تتبع ماعزا حتى قتله الدية. إذ لو كان الهروب وحده كافيًا في إسقاط الحد من غير تصريح بالرجوع لكان هؤلاء قد قتلوا، وعليه يلزمون دية من قتلوه. وقيام شبهة وجوب الحد عليه، وهي التي درءت عنهم القصاص، ولكنها لا تدرء الدية2.

_ 1 تبين الحقائق ج3 ص167، بدائع الصنائع ج7 ص61، 232، شرح الزرقاني ج8 ص81، 107، بداية المجتهد ج2 ص474 المغني ج8 ص197. 2 أسنى المطالب ج4 ص132، وذكر الشيرازي، أن من وجد ألم الحد فهرب فالأولى أن يخلى؛ لأنه ومما رجع عن الإقرار، فيسقط عنه الحد المهذب ج2 ص345، نيل الأوطار ج7 ص116.

وما ذهب إليه جمهور فقهاء الشافعية، من أن هروب المقر عند تنفيذ الحد من غير تصريح بالرجوع عن الإقرار، لا يعد شبهة مسقطة للعقوبة الحدية هو الرأي الذي يناسب مقام إنزال العقوبة الحدية بالجاني، نظرًا؛ لأن هذه العقوبة من أشق العقوبات، وأشدها إيلامًا بالبدن، والنفس، وقد يحاول الجاني الذي يقام عليه الحد التخلص من آلامه الجسدية بصورة، أو بأخرى دون ما شعور، ومن غير قصد الرجوع عن الإقرار. ومن هنا كان لا بد من أن يستفسر ممن هرب عند تنفيذ العقوبة الحدية عليه، ويسأل عن قصده وسبب هروبه، فإن صرح بالرجوع عن إقراره قبل منه، واعتبر ذلك شبهة تنتج إسقاط العقوبة الحدية عنه، وإن لم يصرح بالرجوع ألزم الحد طالمال لم يوجد ما يعول عليه في إسقاطه. هذه هي مقالة الفقهاء في الاعتداد برجوع المقر عن إقراره، واعتباره شبهة تسقط العقوبة الحدية، وهو ما ذهب إليه جمهورهم، أو عدم اعتباره شبهة، وإعمال الإقرار الذي كان منه، وإلزامه العقوبة الحدية، وعدم الالتفات إلى ما كان من رجوعه عن إقراره، سواء أكان قد أقر بحق الله سبحانه وتعالى، أو بحق العبد. والرأي ما ذهب إليه الجمهور، أما ما ذهب إليه غير الجمهور من عدم الاعتداد برجوع المقر، فهو مجانب لما تقتضيه طبيعة التقنينات الحدية، وما سبق عرضه، والاستدلال عليه من درء الحد بالشبهة. ولقد ساق هؤلاء أدلة على ما ذهبوا إليه، وهي أدلة لا يقوم بها دليل على قضيتهم، لما يأتي: أولًا: استدل المانعون اعتبار الرجوع شبهة تدرء الحد، بما كان من شأن من تتبعوا ماعزا حتى قتلوه، ولم يلزمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ديته، أو عقوبة ما من العقوبات.

وليس في هذا دليل لهم على قضيتهم؛ لأنه ما كان من ماعز ما هو إلا رجوع ضمني، وليس رجوعًا صريحًا. فمن تتبع ماعزا لم يتتبعه لعدم قبول رجوعه عن إقراره، وإنما تتبعه؛ لأنه لم يصرح برجوعه، إذ لم يرجع ماعزا رجوعًا صريحًا، كل ما هنالك أنه لما وجد مس الحجارة هرب، وقد فهم من تتبعواه أنه فر من الحد، لا أنه رجع عن إقراره، ولو سلمنا بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يلزم أصحاب ماعز بديته، فذلكح مبني على أساس ما كان لهؤلاء من شبهة عدم الرجوع الصريح لجواز أنهم فهموا أن الهروب ناتج عن الآلام، ومس الحجارة، وبناء عليه تتبعوه، ومما لا يخفى أن مثل هذا يترتب عليه شبهة، وشك في القصد الجنائي، والشك فسر لصالح المتهم كما أنه يجوز أنه ورثة ماعز -أن كان له ورثة- قد استنكفوا أخذ ديته، سواء من الذين تتبعوه، أو من بيت مال المسلمين. أو أن ماعزا لم يكن له ورثة، وفي مثل هذه الحالة تجب ديته لبيت المال، فإذا كان من تتبعوه هم الذين سيتحملون الدية، فإنه من حق الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعفيهم منها، فيجوز أنه عليه الصلاة والسلام قد عفاهم منها. وإن كان بيت المال هو الذي سيتحملها، فما الفائدة أن يدفع بيت المال لبيت المال. وفوق هذا كله يمكن أن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قضى بشيء من شأن دية ماعز، ونظر؛ لأن المقام لم يتطلب الحديث عن الدية، فإن الرواة لم يتعرضوا لذكر شيء عنها لانشغالهم بما هو أهم من جوانب قضية ماعز. ثانيًا: قاس مانعوا اعتبار الرجوع عن الإقرار شبهة يسقط بها الحد الواجب حقا لله سبحانه وتعالى، ما يجب حقًا لله تعالى بما يجب حقا للأفراد مما لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به، وقالوا:

أن حق الله سبحانه وتعالى كسائر الحقوق التي نجب بالإقرار، فلا يقبل الرجوع عن الإقرار به، كما لا يقبل الرجوع عن الإقرار بها، وعليه فلا تعتبر الرجوع شبهة يندرئ بها الحد الواجب حقا لله سبحانه وتعالى، وقياسهم حقوق الله سبحانه وتعالى بحقوق العباد في ذلك قياس غير منضبط لعدم اتحاد العلة في كل: إذ أن حقوق الله سبحانه مبنية على المسامحة، أما حقوق العباد فالأصل فيها المشاحة والمنع، كما أن القياس ما هو إلا استنباط حكم بإعمال العقل بشروط معينة، وإعمال العقل حتى مع هذه الشروط المعينة يحتمل الخطأ، فالقياس يفيد غلبة الظن، ولا يفيد اليقين1، ومثل هذا لا يجوز إعماله في استنباط حكم من أحكام الحدود، من هذا يبين رجحان القول باعتبار الرجوع عن الإقرار شبهة تندرئ بها الحد الواجب حقًا لله سبحانه وتعالى. وهو يتفق ومبادئ الشريعة التي تحض على ستر المؤمن إذا وجدت له مندوحة، وتؤكد على براءة المدعى عليه طالما أم دليل إدانته، وخصوصًا في الإدانة بالجرائم الحدية دليل غير قطعي تعتريه الشبهات. 4 ذهب القاضي ابن أبي ليلى2 إلى اشتراط أن يكون الإقرار الذي تثبت به الجريمة الحية، عقب وقوع الجريمة، بحيث لا يفصل بينه وبينها مدة تعد تقادمًا، فإن وقع الإقرار من الجاني بعد

_ 1 أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص146، الأحكام في أصول الأحكام للآمدي ج4 ص54. 2 القاضي ابن أبي ليلى، هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى من الفقهاء الذين يميلون إلى إعمال الرأي، ولي القضاء بالكوفة للأمويين، ثم للعباسيين طوال فترة 23 سنة، ولد عام 74هـ، وتوفي عام 148هـ. وفيات الأعيان ج1 ص453 "ط المطبعة الميمنية بمصر سنة 1310 هـ".

ارتكابه الجريمة بمدة يعتبرها تقادمًا، فلا يعد هذا الإقرار مثبتًا لجريمة من الجرائم الحدية، التي وقع الاعتداء على حق من حقوق الله سبحانه وتعالى. ومبنى ذلك عنده أن الهدف الأساسي للعقوبة الحدية هو الردع، والزجر لكل من المجتمع والجاني، ولا يتحقق هذا الهدف في رأيه إلا إذا وقعت العقوبة بعد الجناية مباشرة، كما أنه يرى أن الجاني الذي جاء مقرا بجنايته بعد مضي فترة تعد تقادمًا على ارتكابه لها، لا شك أنه قد جاء بدافع من ضميره، ووازع من دينه بعد أن تاب وأناب. وذهب الإمام أبو حنيفة، ووافقه أبو يوسف إلى أن تأخير الإقرار بجريمة الشرب يدفع الأخذ به، لا يعد عندهما دليل إثبات جريمة شرب، فلا يقيمان به حدها. أما الإمام مالك، والإمام الشافعي والإمام أحمد، ومحمد بن الحسن، فإنهم يرون أن الإقرار بالجرائم الحدية المتقادمة يلزم به الحد، ولا يطعن في صحة كون الجاني قد تأخر في الإدلاء به. وقد حكى ابن الهمام آراء الفقهاء هذه في قوله: "والحاصل أن في الشهادة بالحدود القديمة، والإقرار بها أربعة مذاهب: الأول: رد الشهادة بها، وقبول الإقرار بما سوى الشرب، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. والثاني: ردها وقبول الإقرار بالشرب القديم كالزنا والسرقة، وهو قول ابن الحسن. الثالث: قبولهما، وهو قول الشافعي، ومالك، وأحمد. والرابع: ردهما، نقل عن ابن أبي ليلى1.

_ 1 فتح القدير ج5 ص279، البحر الرائق ج5 ص22.

وما استدل به ابن أبي ليلى لا تقوم به حجة على رد الإقرار المتأخر بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، التي يلزم الحد بالاعتداء عليه؛ لأن الردع والزجر لا ينقص منهما أن يكونا بعد حدوث الجريمة بمدة تعد تقادمًا؛ لأن زجر الجاني يتحقق بإقامة الحد عليه سواء أكان عقب وقوع الجريمة، أم بعدها بمدة طويلة، كما أن المجتمع يتحقق ردعه بأن يرى العقوبة الحدية تقام، ولا ينفي هذا الردع كون الجريمة المعاقب عليها جريمة قديمة؛ لأن المقول بانتفاء الردع هنا، وإسقاط العقوبة بمقتضاه يفتح الباب أمام المجرمين، فيرتكبون جرائمهم، ثم يهربون فإذا انتقضت مدة تعد تقادمًا عادوا، وهم آمنون من العقوبة الحدية طبقًا لقول ابن أبي ليلى؛ لأن الردع والزجر لا يتحققان كما يرى لكونهما عقوبة على جريمة قديمة. ولا يخفى ما ذكر من خلاف بين الفقهاء في مسألة الردع، والزجر هذه، إذ أن الظاهرية لا يولون حدوث هذا اعتبار ما في الحد، وإيجابه إذ هم لا يبحثون عن تعليل، أو أهداف للعقوبة الحدية1. كما أن ما ذكره ابن أبي ليلى من حديث عن توبة من جاء مقرًا بجريمة قديمة، وأثر هذه التوبة، وصحوة الضمير إذ أنهما لا يعدان من ضمن أسباب إسقاط العقوبة الحدية، أو شبهة من الشبهات التي يندرئ بها الحد إذ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألزم الغامدية الحد، وهي التي تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، كما أخبر بهذا

_ المغني ج8 ص207، ويراجع التقادم، وأثره في الدعوى، والعقوبة لأستاذي الدكتور سلام مدكور، منشور بمجلة العدل بالإمارت عدد يناير سنة 1980. 1 المحلى ج13 ص89.

الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى أن إقامة الحد على الغامدية قد جاء بعد فوات مدة طويلة هي مدة حملها، وإرضاعها1. وهي مدة تعد تقادمًا طبقا لما ذكره فقهاء الأحناف الذي ذهبوا مذهب ثلاثة في هنا. الأول: ويقول به الإمام أبو حنيفة، ونقله عنه أو يوسف في قوله: عهدنا بأبي حنيفة أن يقدر لنا فلم يفعل، وفوضه إلى رأي القاضي في كل عصر، فما يراه بعد مجانبة الهوى تفريطًا تقادما، وما لا يعد تفريط، وأحوال الناس والعرف تختلف في ذلك. الثاني: ويقول به محمد بن الحسن أن المدة التي تعد تأخيرًا هي شهر؛ لأن ما دون الشهر يعتبر عاجلًا، وما بعده لا يعتبر كذلك. وقد ذكر ابن الهمام حين قال: وعن محمد أنه قدره بشهر؛ لأن ما دونه عاجل ... قال أبو حنيفة: لو سأل القاضي الشهود متى زنى بها، فقالوا: منذ أقل من شهر أقيم الحد، وإن قالوا: شهر أو أكثر، درئ عنه. الثالث: يعتبر أن مدة التقادم ستة أشهر؛ لأنه لا تسمع شهادة الشهود بعد حين، وفسر الحين بأنه ستة أشهر2. وتقدير التقادم طبقًا لما يراه القاضي رأي منطقي إذ أن الأحوال تختلف من جناية لأخرى، ومن بلد لآخر ... فما يراه قوم تقادما قد لا يراه آخرون، بالإضافة إلى أن الجرائم قد تتفشى في وقت ما، أو مكان ما، الأمر الذي يتقضي أن يوضع من النظم، والتقديرات ما يكفل

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص123. 2 فتح القدير ج5 ص282، 303، البحر الرائق ج5 ص22.

القضاء على كل ما يؤذي المجتمع ويوقع الضرر به، ويشعر معه الجاني أنه معاقب على جريمته مهما بلغ من التحايل. ولا يعقل ما يرى تقادمًا في جناية الخمر عند البعض من زوال رائحتها من فم الشرب، حتى ولو ثبتت بالشهادة، لا شك أن القول بهذا يفتح باب الغواية إذ أن هذه الجريمة تفتح أبواب ارتكاب الجرائم الأخرى، وإسقاط عقوبتها بزوال رائحة الخمر من فم الشارب قبل إقراره، أو إقامة البينة عليه يوقع في خطر، ويلحق بالمجتمع أضرار لا تحد عواقبها، ولا يخفى ما ذكره أبو حنيفة عند تفويضه لرأي القاضي في ذلك، بأن جعل ذلك مشروطًا بمجانبة الهوى، وهو شرط جوهري للفصل في ما يعد تقادمًا، هذه شروط الإقرار إجمالًا وبصفة عامة عند فقهاء الشريعة الإسلامية، أتبعها بمقال رجال القانون في الإقرار وحجيته تتميما للفائدة. الإقرار عند فقهاء القانون: يراد بالإقرار عند فقهاء القانون: اعتراف المتهم على نفسه أمام القضاء بالتهمة المسندة إليه. فلو لم تكن هناك تهمة مسندة لمن أقر على نفسه بإتيان فعل من الأفعال المجرمة، فإنه لا يلتفت إلى إقراره هذا، كما أنه لو أقر بقيامة بفعل ما من الأفعال الجنائية، وكان ما أقر به غير موضوع الدعوى المقامة عليه، فإنه لا يلتفت إلى إقراره هذا بهذه الوقائع نظرًا؛ لأنها ليست هي موضوع الدعوى المقامة عليه1.

_ 1 نصت المادة 103 من قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية "القانون رقم 25 لسنة 1968م على أن "الإقرار هو اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه -الواقعة "ويقول الأستاذ الدكتور محمود مصطفى في تعليقه على هذا: فلا يعد اعترافا إقرار المتهم بواقعة، أو أكثر لها تعلقها بالدعوى. الإثبات في المواد الجنائية أ. د: محمود مصطفى ج1 ص51-52 "ط الأولى سنة 1977م".

كما أن الإقرار المعول عليه هو ما يكون أمام المحكمة التي تنظر الدعوى المقامة ضد المقر، كما ذهب الشراح وبينوا، فإن أقر أمام سلطة التحقيق، أو في مرحلة جمع الاستدلالات، فإن هذا الإقرار لا تأخذ به المحكمة، ولا تعتد به كدليل إثبات، إلا إذا أصر عليه المقر ولم يرجع عنه، وإن كان قضاء النقض على خلاف ذلك1. وعلى هذا، فإذا أقر المدعى عليه أمام المحكمة التي تنظر موضوع الدعوى، فأخذت المحكمة بإقراره، وحكمت بمقتضاه لم يعد لهذا المقر الحق في الرجوع عن إقراره هذا، وتلزمه العقوبة المحكوم بها عليه. ولقد ذهب الفقه القانوني حديثًا إلى أن الإقرار لا يعد دليلًا يسند إليه وحده في الإدانة، بل لا بد من أن يرافقه ما يؤكده، ويثبت صحته2. وإن كان قانون الإجراءات الجنائية المصري قد أجاز للمحكمة الاكتفاء باعتراف المتهم، والحكم عليه بمقتضاه دون الحاجة إلى سماع الشهود3.

_ 1 المرجع السابق ص52. 2 هذا ما جرى عليه القضاء الفرنسي، وقرره المؤتمر الدولي للعلوم الجنائية سنة 1902، سنة 1953م. 3 نصت المادة 271 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه "يسأل =

والإقرار عند فقهاء الشريعة الإسلامية دليل إثبات قوي، وأكيد بشرط أن يكون مطابقًا للواقع، بحيث لا توجد وقائع تنفيه أو تطعن في صحته، بل إن بعض الجنايات قد اشترط جمهور فقهاء الشريعة لإثباتها عن طريق الإقرار أن يتعدد الإقرار بعدد الشهود الذين تثبت الجريمة بشهادتهم، وزاد البعض أن يكون كل إقرار في مكان غير المكان الذي أقر فيه الجاني إقراره السابق.

_ = المتهم عما إذا كان معترفًا بارتكاب الفعل المستند إليه، فإذا اعترف جاز للمحكمة الاكتفاء باعترافه، والحكم عليه بغير سماع الشهود. وقد عقب الأستاذ الدكتور محمود مصطفى على هذه المادة بقوله: ولعل اقتراب الإثبات الجنائي من الإثبات المدني في التشريع الإنجليزي، وما نقل عنه هو الذي دعا إلى الأخذ بأن اعتراف المتهم دليل إدانته يجوز الحكم بناء عليه وحده. المرجع السابق ص51 مبادئ الإجراءات الجنائية د. رءوف عبيد ص638-643 ط 76، ولهذا الاتجاه الوضعي أصل فيما روي عن فقهاء -الشيعة الجعفرية، فقد ذكر أبو القاسم الموسوي: أن الجاني لو أقر بما يوجب الحد من رجم أو جلد، كان للإمام العفو وعدم إقامة الحد عليه، واستدل على هذا بما روي من أن شابا أتى أمير المؤمنين، فأقر عنده بالسرقة، فقال له على: إني أراك شابا لا بأس بهبتك، فهل شيئًا من القرآن؟ قال: نعم سورة البقرة، فقال له علي: قد ذهبت يدك لسورة البقرة. ويعلق على هذا من رواه بقوله: وإنما منعه أن يقطعه؛ لأنه لم يقم عليه بينة، وفي رواية أخرى فقال الأشعث: أتعطل حدا من حدود الله؟ فقال: وما يدريك ما هذا؟ إذا قامت البينة، فليس للإمام أن يعفو، وإذا أقر الرجل على نفسه، فذاك إلى الإمام إن شاء عفى، وإن شاء قطع. مباني تكملة المنهاج ج1 ص177.

من هذا يبين رجحان ما ذهب إليه فقهاء الشريعة، إذ هم لم يعلموا الإقرار بصفة عامة أيا كان هذا الإقرار، كما أنهم لم يتركوا أعماله، والأخذ به إذا لم يرافقه ما يؤكده، ويثبت صحته من أدلة ووقائع، وإنما وضعوا ضوابط، ومقاييس ونظم أصابوا بها قصب السبق، وحسموا بها القضية إذ كيف يمكن أن يقال أن الجاني الذي ارتكب جنايته ولم يره أحد، إذا راجعه ضميره وأراد تطهير نفسه، فذهب وأقر بما ارتكب، فإنه لا يعول على هذا الإقرار، ولا يعتد به في إثبات ما جاء من وقائع نظرًا؛ لأن هذه الوقائع لم تقم بها دعوى على المقر. وأكثر من ذلك إذا أقيمت الدعوى، وأقر الجاني بما ارتكب من الوقائع التي هي موضوع الدعوى، ولم يكن هناك دليل غير إقراره، فإنه لا يعتد أيضًا بهذا الإقرار وحده في إثبات ارتكاب الجاني هذه الوقائع، والتي أقر بها على نفسه1. إن هذا القول يفتح باب الإفلات من العقوبة على مصراعيه، وتصبح معه رقابة الضمير التي هي من أهم ضمانات استقرار الحياة

_ 1 ذكر الأستاذ الدكتور محمود مصطفى أن الراجح الآن أن الاعتراف لا يعد دليلًا يستند عليه وحده في الإدانة، وهو ما جرى عليه القضاء الفرنسي، وقرره المؤتمر الدولي للعلوم الجنائية في سان بتسيرج سنة 1902. وجاء في قرارات المؤتمر الدولي السادس لقانون العقوبات الذي انعقد في روما من 27 سبتمبر إلى 3 أكتوبر سنة 1953م، أن الاعتراف لا يعد من الأدلة القانونية، ولهذا ما يبرره في أن الاعتراف دليل غير محسوس، فلا يقطع بالإدانة. وهو يدعوا لأول وهلة إلى الشك والريبة في صحته إذ يتطوع به المتهم لتقديم دليل إدانته. الإثبات في المواد الجنائية ج1 ص52.

واحترام نظم الأمة، تصبح تلك الرقابة لا قيمة لها، وتضيع بهذا كثير من حقوق الآخرين وحرياتهم، ويفتح أيضًا باب الظلم والجور لجواز أن يتهم بريء بقتل إنسان ويؤتى بشهود الزور، ويلصقوا التهمة بهذا البري، ويحيكوا له من الأدلة ما يكفي للذهاب له إلى حبل المشنقة، فإذا استيقظ ضمير الجاني الحقيقي وذهب، وأقر على نفسه بما ارتكب، فكيف يتأتى القول إذا بعدم الاعتداد بهذا الإقرار كدليل قانوني. إن رأى الفقه الإسلامي في مثل هذا بين ومعروف يؤكده ما روي من أن أمير المؤمنين علي -رضي الله تعالى عنه- أتى برجل، وجد في خربة وبيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله فأقر الرجل بأنه القاتل، وأكد هذا الإقرار قول العسس، والقرائن المصاحبة، فحكم علي بقتله قصاصًا. وإذا برجل يقر بأنه هو القاتل الحقيقي. وتدل الوقائع على براءة الأول، وثبت أن القاتل هو الثاني. الذي جاء مقرا بوازع من ضميره، فيأخذ علي بهذا الإقرار، ويعتد به مع أنه لم تكن هناك دعوى مقامة على من جاء مقرا بعد أن ألزم الرجل الذي أمسك به العسس بعقوبة القتل. ولم يطالب على من جاء مقرًا، ببينة تشهد بصحة ما أقر به1، والفقه الوضعي لم يكتف بعدم الالتفات إلى الإقرار، وعده إقرارًا تشوبه الريبة يخالطه الشك. وإنما ذهب إلى أكثر من ذلك، فيما قررته المادة 174/ 2 من قانون التحقيق الجنائي في السوادن، والتي تنص على أنه إذا كانت الجريمة المسندة إلى المتهم معاقبًا عليها بالإعدام

_ 1 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص82، 83.

فيجب على رئيس المحكمة أن يدون في المحضر نيابة عن المتهم ردا بأنه غير مذنب1. وهذ النص قد ألزم القاضي بأن يدون في المحضر قولًا منسوبًا للمتهم، حتى ولم يقله المتهم، بل وحتى لو طالب بعكسه، وأصر على أنه هو المذنب الذي ارتكب وقائع هذه الدعوى، وأقر بها. من هذا كله يبين أن الفقه الوضعي يعتبر إقرارا المتهم، حتى وإن كانت الدعوى قد أقيمت عليه، وأقر بوقائعها -من قبيل الاستدلالات، الأمر الذي يترتب عليه إلزام المحكمة أن تبحث عن أدلة أخرى تثبت بها صحة ما أقر به المتهم من وقائع، حتى يمكنها أن تحكم بادانته. أما الشريعة الإسلامية، فهي تعتد بالإقرار بشروطه التي تملأ قلب القاضي طمأنينة، وتأخذ به وتحكم بمقتضاه حتى بالعقوبات الحدية؛ لأنها قد وضعت من الشروط ما يكفل صحة أقوال المقر. ولا يخفى أن هذا النفع للعدالة، وأجدى في تحقيق أمن المجتمع، كما أن جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية، قد أجازوا للمقر الرجوع عن إقراره، وأسقطوا عنه ما لزمه من عقوبات حدية نتيجة رجوعه عن إقراره، إذا كانت هذه العقوبات متعلقة بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم اشترطوا بقاء الإقرار قائمًا صحيحًا، حتى يتم تنفيذ العقوبة، الأمر الذي أغفله الفقه الوضعي.

_ 1 الإثبات في المواد الجنائية أ. د: محمود مصطفى ص52-53.

المبحث الثاني: الشهادة

المبحث الثاني: الشهادة مدخل ... المبحث الثاني: الشهادة ويشتمل لي تقديم ومطلبين. المطلب الأول: شروط في الشاهد. المطلب الثاني: شروط في الشهادة. تقديم: تعريف الشهادة: الشهادة في اللغة: البيان؛ لأن الشاهد يبين الحق من الباطل عند الحاكم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 1، أي بين. والشهادة مشتقة من المشاهدة؛ لأن الشاهد يخقبر عما شاهده أو؛ لأن الشاهد بإخباره الحاكم بما شاهد ورأى، يجعل الحاكم كالمشاهد الذي يرى المشهود عليه2. والشهادة عند الفقهاء: إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه، أو إخبار صادق في مجلس الحكم بلفظ الشهادة، وزاد البعض شروط كون الإخبار ناتجًا عن مشاهدة، وعيان لا عن تخمين وحسبان3.

_ 1 من الآية 18 من سورة آل عمران. 2 المصباح المنير والقاموس المحيط، ولسان العرب. 3 فتح القدير ج7 ص364، البحر الرائق ج7 ص55-56 حاشية الدسوقي ج4 ص164، الخرشي ج7 ص175، المغني ج9 ص49.

وهذه التعريفات، وإن تعددت إلا أنها متفقة في مؤداها ومدلولها، كما أن شروط المعاينة بالنسبة لمن يتحمل الشهادة يشمل المشاهدة بصورها من سماع في المسموعات، أو إبصار في المبصرات، وهو شرط جوهري، إذا لا يمكن أن تتحمل الشهادة التي يحكم بمقتضاها، إلا عن علم ناتج عن حضور ومعاينة؛ لأن الله تعالى قد نهى عن القول بدون علم: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1. {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2، فإن لم تكن الشهادة ناتجة عن علم، ويقين فهي باطلة، ومحاسب عليها. ولقد جسد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك، حين قال لرجل: "أترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها، فاشهد أودع" 3. حجية الشهادة: أولًا: بين القرآن الكريم ما تثبت به الحقوق من بينات، وجعل منها الشهادة، فيقول الله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} 4 {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} 5. ثانيًا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن جاءه يشكو رجلًا

_ 1 من الآية 36 من سورة الإسراء. 2 من الآية 86 من سورة الزخرف. 3 رواه ابن عباس، سبل السلام للصنعاني ج4 ص130. نصب الراية للزيلعي ج4 ص12، القرطبي ج7 ص5943. 4 من الآية 282 من سورة البقرة. 5 من الآية 2 من سورة الطلاق.

غلبه على أرض كانت له: "ألك بينة"؟ 1 كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن جاءوا من الأنصار يطالبون بدم من قتل منهم بخيبر: "ألكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم"؟ 2. ثالثًا: الإجماع معقود على حجية الشهادة في الإثبات.

_ 1 رواه مسلم، والترمذي، وصححه، نيل الأوطار ج8 ص341، المغني ج9 ص146. 2 رواه أبو داود، نيل الأوطار ج7 ص37.

المطلب الأول: شروط في الشاهد

المطلب الأول: شروط في الشاهد 1- البلوغ، فالصبي، لا تقبل شهادته؛ لأن الشهادة نوع من الولاية، ولا ولاية للصبي على نفسه، فأولى به ألا تكون له ولاية على غيره، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} ، ولقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" 1، فرفع التكليف يقتضي رد الشهادة. وإن كانت الضرورة قد أجازت الأخذ بشهادة الصبي على أقرانه في الجراح، إذا لم يوجد غير الصبي يشهد بذلك مع اشتراط أن يكون الصبي الذي يشهد عاقلًا مميزًا، وأن يدلي بشهادته قبل أن يفارق الحالة التي وقعت، وهذه ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها2.

_ 1 سنن أبي داود، ج2 ص452، نيل الأوطار ج6 ص160. 2 البحر الرائق ج7 ص77، مواهب الجليل ج6 ص177. المغني ج9 ص164، الأم ج7 ص81، بداية المجتهد ج2 ص499 مباني تكملة المنهاج ج2 ص77، شرح الأزهار ج4 ص193.

إما إذا حضر الصبي الواقعة، ثم بلغ قبل أن يدلي بشهادته، ثم أداها بعد البلوغ، فإن شهادته هذه يعتد بها، وتقوم بها بينة الإثبات1. 2- العقل: فغير العاقل لا تقبل شهادته، لاختلاط الأمور عليه، وعدم استطاعته تمييز حقوق الآخرين، إذ هو أعجز من أن يحافظ على حقوقه أو يعيها، وغير قادر على ضبط الوقائع، والأحداث ضبطًا يطمأن إليه، ولذا فإن الحديث السابق قد حكم برفع القلم عنه. أما إذا كان يجن أحيانًا، وحدثت الواقعة وهو عاقل، ثم أدى الشهادة عليها وهو عاقل ضابط لأمور نفسه، ووقائع الحادثة وملابساتها وظروفها، اعتد بشهادته حينئذ، واعتبرت دليل إثبات يحكم بمقتضاه2.

_ 1 البحر الرائق ج7 ص56، المغني ج9 ص164، حاشية الدسوقي ج4 ص165، أجاز رجال القانون سماع شهادة الصبي الذي لم يبلغ أربع عشرة سنة. بدون أن يحلف اليمين على سبيل الاستدلال، أما إذا بلغ الصبي أربع عشرة سنة، فإنه تسمع شهادته بعد حلفه اليمين، وتعد شهادة معتبرة قانونًا، وإن كان قد حكم بأنه يجب للأخذ بأقوال الشاهد أن يكون مميزًا. يراجع الأستاذ الدكتور محمود مصطفى، شرح قانون الإجراءات الجنائية ص446 ط سنة 1976م، الأستاذ الدكتور رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص595 ط 1979. 2 الأم ج7 ص80، البحر الرائق ج7 ص56، مباني تكملة المنهاج ج2 ص80، يرى فقهاء القانون أنه لا يؤثر في صحة الاستدلال بأقوال شاهدة ما أثبته المحقق في المحضر، من أنها كانت تذكر أقوالًا خارجة عن الموضوع، وأنه يرى أن بها ضعفًا في قواها العقلية، ما دامت المحكمة اطمأنت إلى صحة أقوالها، وذكرت من البيان والقرائن، ما يؤيد هذه الأقوال. أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.

3- الإسلام: فغير المسلم لا يحكم بمقتضى شهادته على المسلم في الحدود؛ لأن الشبهة شهادته لانتقاص عدالته، والحدود تدرأ بالشبهات1، أما شهادة غير المسلمين على بعضهم، فقد أورد ابن قيم الجوزية الخلاف في قبولها، فأورد عن الشعبي، ووكيع وسفيان عدم جوازها ألبتة. وذكر أن حنبلًا، وابن حزم وحماد بن أبي سليمان قد رأوا جواز شهادة النصراني على اليهودي، وعلى النصراني، فكلهم أهل شرك. ورى عن علي بن أبي طالب، وعطاء والنخعي جواز شهادة كل ملة على ملتها اليهودي على اليهودي، والنصراني على النصراني، ولا تجوز شهادة ملة على غير ملتها إلا المسلمين. والذي أرجحه من ذلك هو جواز قبول شهادة غير المسلمين، بعضهم على بعض دون تفريق، فالكفر ملة واحدة، والله سبحانه وتعالى قد بين ما بين الكافرين من ولاء، وولاية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا

_ 1 أما في غير الحدود، فقد أجاز الحنابلة وشريح والنخعي، والأوزاعي وابن مسعود وأبو موسى، والظاهرية، والإمامية قبول شهادة غير المسلم على المسلم في حالات الضرورة التي لا يوجد فيها غيره، كحال من يوصي بوصية، ولا يوجد من يشهد عليها من المسلمين، والأمور التي تؤخذ فيها بشهادة الطبيب، ولا يوجد طبيب مسلم يرجع إليه وقتئذ، وقد روي هذا عن الإمام مالك، كما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية. يراجع في ذلك، فتح القدير ج7 ص416، البحر الرائق ج7 ص79، الأم ج7 ص81، المغني ج9 ص182-184، المحلى ج10 ص587-598، نيل الأوطار ج8 ص330-334، شرح الأزهار ج4 ص193، الطرق الحكمية ص266-280 المدخل للفقه الإسلامي لأستاذي الدكتور سلام مدكور ص355.

بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} 1، فأثبت لهم الولاية على بعضهم، وهي أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن تشبهه بها، وقد حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمقتضى شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، يوم جاءه اليهود برجل منهم، وامرأة قد زنيا: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بأربعة منكم يشهدون"، فلما شهدوا حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالحد بمقتضى شهادتهم2. 4- العدالة: وقد بينها الفقهاء بأنها الاستقامة، واجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر، ولا تكون العدالة إلا بالاسلام، واعتدال العقل ومعارضة الهوى، وليس لها حد3. فالعلة في الشاهد شرط أساس لقبول شهادته، والاعتداد بها في إثبات الجنايات الحدية، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4، فإذا كانت العدالة شرط للشهادة على أمور الزواج والطلاق، وأمثالهما فهي من باب أولى شرط في الشاهد الذي يشهد على جناية من الجنايات الحدية. ولأن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نتثبت من نبأ الفاسق، فيجب أن

_ 1 الآية 73 من سورة الأنفال. 2 سنن أبي داود ج2 ص463-466، نيل الأوطار ج7 ص104-106 الطرق الحكمية ص258-266، المدخل للفقه الإسلامي ص356-357. 3 البحر الرائق ج7 ص85-96، فتح القدير ج7 ص378 بداية المجتهد ج2 ص499، الخرشي ج2 ص324 المهذب ج2 ص324، مغني المحتاج ج4 ص427، المغني ج9 ص167-172، المحلى-10 ص564، مباني تكملة المنهاج ج1 ص86. 4 من الآية 2 من سورة الطلاق.

نحتاط في إقامة العقوبة بشهادته؛ لأن شهادته اعترتها الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات1. وقد روى أبو داود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد رد شهادة القانع2 لأهل البيت، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة زان، ولا زانية"، فهؤلاء لما انتقضت عدالتهم رد الرسول شهادتهم. كما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: لا يؤثر رجل بغير العدول؛ ولأن دين الفاسق لم يزعه عن ارتكاب محظورات الدين، فلا يؤمن أن يزعه عن الكذب. فلا تحصل الثقة بخبره3، وهذا يقتضي عدم قبول شهادته مطلقًا، فيما نحن بصدده. واشتراط الفقهاء في الشاهد أن يكون ذا مروءة، فإن اختلت مروءته، فلا عدالة له، ولا تقبل شهادته4.

_ 1 تفسير القرطبي ج7 ص6231. 2 القانع: الأجير، سنن أبي داود ج2 ص275. 3 المغني ج9 ص165. 4 المروءة: يراد بها الإنسانية، وقيل: أن لا يأتي الإنسان بما يعتذر منه مما يبخسه من مرتبة أهل الفضل، وقيل: السمت الحسن وحفظ اللسان، وتجنب السخف والمجون، والارتفاع عن كل خلق دنيء. فتح القدير ج7 ص415، المهذب ج2 ص324- الخرشي ج7 ص175 المغني ج9 ص167-172، الطرق الحكمية ص253، المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص357. قيد رجال القانون عدم جواز سماع الشهادة من شخص حكم عليه في جناية ارتكباها، بقيد أن تكون العقوبة التي حكم عليه بها عقوبة جناية، وعليه يحرم من الشهادة أمام المحاكم مدة العقوبة إلا على الاستدلال، فإذا حكم على المتهم بجناية بعقوبة الحبس، جاز سماع شهادته أثناء تنفيذ العقوبة عليه بعد حلف اليمين. أ. د: محمود مصطفى شرح قانون الإجراءات الجنائية ص446، أ. د: رءوف مبادئ الإجراءات الجنائية ص595.

من هذا كله يبين أنه يجب على القاضي أن يتأكد من عدالة الشهود، وعلى الأخص في مسائل الحدود، حتى يصل القاضي حد اليقين بعدالة من جاءه يشهد بواقعة حدية، فإن لم يصل حد اليقين من عدالة الشهود، وأسقط الحد عن المدعى عليه لقيام الشبهة، فيمن نسب إليه الفعل الحدي، والحدود تدرأ بالشبهات. 5- الرؤية: والحديث عن رؤية الشاهد لما يشهد به يتفرع إلى فرعين: الفرع الأول: وهو كون الشاهد مبصرًا، إذ أن للفقهاء آراء في قبول شهادة الأعمى والحكم بمقتضاها، وعلى الأخص في مسائل الحدود. فقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى رد شهادة الأعمى في الحدود، والقصاص سواء أكان يشهد على أقوال أو أفعال، وسواء تحمل الشهادة بعد العمى أو قبله، وأكثر هذا ما لو عمي الشاهد بعد أداء الشهادة، وقبل القضاء بمقتضاها، امتنع القضاء. ومبنى هذا أن الحدود تدرأ بالشبهات، والصوت والنغمة اللذان

قد تنحصل معرفة الأعمى عن طريقها للواقعة، هما اللذان يقومان مقام المعاينة والحدود، ولا تثبت بما يقوم مقام الغير1. وذهب الإمام الشافعي إلى أن شهادة الأعمى على الأفعال، أو الأقوال التي رآها أو سمعها، وهو مبصر ضابط لما يرى، أو يسمع تجوز شهادته بها إذا عمي قبل أن يؤدي الشهادة. إما إذا كانت الأفعال، أو الأقوال التي يشهد عليها قد حدثت وهو أعمى، فإن شهادته عليها لا تجوز، أما عدم جوازها بالنسبة للأفعال، فهو مبني أن الأعمى لا يستطيع ضبط ما يقع من أفعال ضبطًا يترتب عليه شهادته بها في الحدود. أما بالنسبة للأقوال، فإن الأعمى لا يستطيع القطع بأن من صدر منه القول هو فلان، لإمكان تقليد الأصولات، وقد جاء هذا في قول الشافعي: لا تجوز شهادة الأعمى، إلا أن يكون أثبت شيئًا معاينة، أو معاينة وسمعًا ثم عمي. فتجوز شهادته؛ لأن شهادته إنما تكون يوم يكون الفعل الذي يراه الشاهد، أو القول الذي أثبته مسمعًا، وهو يعرف وجه صاحبه، فإذا كان ذلك قبل العمى، ثم شهد عليه حافظًا له بعد العمى جاز، وإذا كان القول والفعل، وهو أعمى لم يجز من قبل أن الصوت يشبه الصوت"2. وقد أورد الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنه- في باب الخلاف في شهادة الأعمى قوله: "خالفنا بعض الناس في شهادة الأعمى، فقال: لا تجوز حتى

_ 1 المبسوط ج9 ص50، وفتج القدير ج7 ص398. 2 الأم ج7 ص82-83، مغني المحتاج ج4 ص445-446.

يكون بصيرًا يوم شهد، ويوم رأى وسمع أو رأى، وإن لم يسمع إذا شهد على رؤية، فسألناهم: فهل من حجة كتاب أو سنة، أو أثر يلزم. فلم يذكروا من ذلك شيئًا لنا، وكانت حجتهم فيه أن قالوا: إنا احتجنا إلى أن يكون يرى يوم شهد، كما احتجنا إلى أن يكون يوم عاين الفعل، أو سمع القول من المشهود عليه، ولم تكن واحدة من الحالين أولى به من الأخرى. فقلت له: أرأيت الشهادة أليست بيوم يكون القول، أو الفعل وإن لم يقم بها بعد ذلك بدهر؟، قال: بلى: قلت: فإذا كان القول والفعل، وهو بصير سميع مثبت، ثم شهد به بعد عاقلًا أعمى لم تجز شهادته؟ قال: فأقول بغير الأول، لا يجوز إلا بأمرين قلت: أفيجوز أن يشهد على فعل رجل حي، ثم يموت الرجل فيقوم بالشهادة، وهو لا يرى الرجل، ويقوم بالشهاد على آخر وهو غائب لا يراه، قال: نعم: قلت: فما علتك تثبت لنفسك حجة إلا خالفتها، ولو كنت لا تجيزها، إذا أثبتها بصيرا وشهد بها أعمى؛ لأنه لا يعاين -المشهود عليه؛ لأن ذلك حق عندك، لزمك أن لا تجيزها، وهو لا يراه، قال: فإن رجعت في الغائب، فقلت: لا أجيزها عليه، فقلت: أفترجع في الميت، وهو أشد عليك من الغائب، قال: لا، قال: فإن من أصحابك من يجيز شهادة الأعمى بكل حال إذا أثبت كما يثبت أهله، فقلت: إن كان هذا صوابًا، فهو أبعد لك من الصواب، قال: فلم لم تقل به؟. قلت: ليس فيه أثر يلزم فأتبعه، ومعنا القرآن والمعقول بما وصفت من الشهادة فيما لا يكون إلا بعيان، أو عيان وإثبات سمع، ولا يجوز أن تجوز شهادة من لا يثبت بعيان؛ لأن الصوت يشبه الصوت1. والأرجح ما ذهب إليه الإمام الشافعي من قبول شهادة الأعمى إذا تحملها وهو بصير، وما دامت الشهادة تجوز على غائب لا يراه

_ 1 الأم ج7 ص83.

الشاهد، فالأولى أن تجوز من الأعمى على الحاضر، بل إن الحاضر يمكن أن يراجع الشاهد، أو يبدي شبهة إن كانت له شبهة تسقط الحد. والمعمول عليه هو التحمل بصورة منضبطة، لا يتحصل معها لبس من الشاهد الذي سمع الواقعة، وشاهدها مشاهد تنتفي معها الشبهات في شهادته، ولو أداها وهو أعمى مع قيام معرفته المشهود عليه معرفة تنتفي معها الجهالة به. وذهب جمهور الفقهاء من المالكية والحنابلة، وبعض فقهاء الأحناف إلى الاعتداد بشهادة الأعمى على ما سمع من أقوال، سواء تحملها قبل العمى، أو بعده ضابطًا لما سمعه من أقوال عارفًا من صدرت منه معرفة يقينية. أما شهادته على الأفعال، فتجوز أن تسمع منه، وهو أعمى إذا كان تحملها قبل العمى، وقد بين هذا فقهاء المالكية، فيما ذكروه من أن الأعمى، العدل تجوز شهادته في الأقوال خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، وأما في الأفعال، فلا تجوز شهادته فيها ما لم يكن علم الفعل قبل العمى. وقولهم: وتقبل شهادة الأعمى في الأقوال مطلقًا سواء تحملها قبل العمى، أم لا لضبطه الأقوال بسمعه"1. كما يقول ابن قدامة: وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت ... لأنه رجل عدل مقبول الرواية، فقلبت شهادته كالبصير ... إلى أن يقول: فإن تحمل الشهادة على فعل، ثم عمي جاز أن يشهد به إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه.. ولأن العمى فقد حاسة لا تختل بالتكليف، فلا يمنع قبول الشهادة"2.

_ 1 الخرشي ج7 ص179، حاشية الدسوقي ج4 ص167. 2 المغني ج9 ص189-190.

وذكر ابن الهمام أن شهادة الأعمى، فيما يجوز فيها التسامع تجوز عند زفر؛ لأن الحاجة في تحمل هذه الشهادة للسمع، ولا خلل في سمع الأعمى. كما ذكر أن أبا يوسف يرى أن شهادة الأعمى، تجوز فيها طريقة السماع. وما لا يكفي فيه السماع إذا كان بصيرًا وقت التحمل، ثم عمي عند الأداء إذا كان يعرفه باسمه ونسبه1. وذهب ابن حزم إلى قبول شهادة الأعمى مطلقًا على الأقوال، والأفعال في الحدود وغيرها، مثل شهادة المبصر سواء بسواء، سواء تحملها قبل العمى أم بعده، فيقول في معرض حديثه عن هذا: إن من أجازها في الشيء اليسير دون الكثير، فقول في غاية الفساد؛ لأنه لا برهان في صحته، وما حرم الله تعالى من الكثير إلا ما حرم من القليل، وقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ومن اقتطع بيمينه مال مسك، ولو قضيبا من أراك أوجب الله له النار"، أما من قبله في الأنساب، إلا من حيث يعرف المخبرين بغير ذلك، والمشهدين له.. أما من لم يقبله لا فيما عرف قبل العمى ولا بعده، فقول فاسد لا برهان على صحته، وبين ما عرفه الصحيح، وتمادت صحته وبصره.. إلى أن يقول: إن كانت الأصوات تشبه، فالصور أيضًا قد تشبه وما يجوز لمبصر، ولا أعمى أن يشهد إلا بما يوقن، ولا يشك فيه، ومن أشهد خلف حائط، أو في ظلمة، فأيقن بلا شك بمن أشهده فشهادته مقبولة في ذلك2، وما أثاره ابن حزم هنا، وإن وافقناه على بعضه مردود؛ لأن

_ 1 شرح فتح القدير ج7 ص397. 2 المحلى ج10 ص638-639.

إطلاق قبول شهادة الأعمى على القول أو الفعل الذي شهده، أو سمعه بعد فقد بصره إطلاق، قيده ابن حزم نفسه باشتراط حدوث اليقين للشاهد، ومن أين يأتي يقين الأعمى بأن فلانا قد قال كذا أو فعل كذا، وقياس ابن حزم اشتباه الصوت على الأعمى باشتباه الصورة على البصير، قياس مردود بما هو مشاهد في الواقع؛ لأنه لا يوجد من تتطابق صورتهما من حيث الشكل والطول، والقصر واللون والنطق، وما إلى ذلك إلا حالات نادرة يعرفها المخالطون لها، ويستطيع كل منهم تمييز من تطابقت صورتهما بشيء من اختلاف الصوت، أو الهيئة، وما إلى ذلك من الملابسات، والمصاحبات والقرائن، فإن تعذر الأمر في هذه الحالات المعدودة، ولم يستطع الشاهد المبصر تميز من اتفقا في كل شيء أصبحت شهادة المبصر هنا غير يقينية، واعترتها الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، وإن كان ابن حزم لا يرى هذا، كما أنه من أين لمن يشهد بأشياء وقعت في ظلمة بأنها وقعت من فلان، إن وقوع الأشياء في ظلمة لا يمكن القطع بأنها وقعت من فلان عن طريق الإبصار فقط، وإنما لا بد من أن ينضم إليه ما يؤكده، فإن لم ينضم إليه ما يؤكده، فالشهادة به تكون شهادة بأشياء لم يصل الشاهد بها حد اليقين، كأنها وقعت ممن يشهد بها عليه، وشهادة مثل هذه لا يقام بها حد؛ لأن الشبهة قد اعترتها. إن شهادة الأعمى حينئذ شهادة عن غير يقين، يصل حد يقين من يرى الشمس واضحة في كبد السماء حتى يشهد عليها. وابن حزم، وإن ذكر أن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي جاء فيه: "ألا ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع"، حديث قد جاء من طريق ضعيف، إلا أن ابن حزم قد صوب معناه وأكد عليه؛ لأنه قد اشترط تيقين الشاهد مما يشهد به حتى يعتد بشهادته1، وما أرجحه

_ 1 المرجع السابق.

من هذه الأقوال أن الأعمى إذا تحمل الشهادة، وهو مبصر ضابط لما يتحمل، ثم أداها أن كف بصره، وكان لا يزال ضابطًا لما يشهد به عارفًا له معرفة يقينية اعتد بشهادته، وثبت بها الحدج، أما لو تحملها وهو مبصر، وبعد أن عمي لم يعد ضابطًا لما تحمله من أقوال أو أفعال، فإن شهادته حينئذ قد اعترتها الشبهة لاختلال تعيين الشاهد بما يشهد به، ومثلها إذا شهد بشهادة حملها، وهو أعمى سواء أكانت على فعل أو قول؛ لأن شهادته التي تحملها، وهو أعمى شهادة لا تخلو عن شبهة، وشهادة مثل هذه لا يثبت بها حد من الحدود. أما ما ذكره الشربيني الخطيب من صورة أوردها البلقيني، وأجاز فيها شهادة الأعمى على الفعل، وذلك كما إذا وضع الأعمى يده على ذكر داخل في فرج امرأة مثلًا، فأمسكهما حتى يشهد عند الحاكم بما عرفه بمقتضى وضع اليد، فهذه وما ضبطها بعيدة الحدوث، بل هي في حيز المعدوم وقوعه وتصوره1. هذا ما أرجحه بالنسبة لشهادة الأعمى في الحدود، أما في غيرها فأمره متروك للقاضي يجتهد فيه قدر طاقته، فإن صح لديه حكم به وإلا فلا. الفرع الثاني: رؤية الشاهد ما يشهد به، بمعنى أنه هو الذي رأى الواقعة التي يشهد بها، والحديث عن هذا الفرع يتناول ما يأتي: أولًا: جواز الإدلاء بشهادة على واقعة لم يرها الشاهد بعينه أن كانت مما يرى، أو لم يسمعها من الجاني بنفسه إن كانت مما يسمع. ثانيًا: المواضع التي يجوز أن تسمع فيها شهادة على واقعة لم

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص445.

يرها الشاهد ولم يحضرها بنفسه، وإنما سمع من شهدها، وما مدى الاعتداد بهذه الشهادة والشروط، التي يجب أن تتوافر حينذاك؟ ثالثًا: المواضع التي لا يجوز أن تسمع فيها شهادة على واقعة لم يرها الشاهد، ولم يحضرها. بين الله سبحانه وتعالى لبني البشر أن لا يشهدوا بشيء لا علم لهم به، فقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1، وقال سبحانه: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2. فالعلم الذي يتحصل لدى من يجوز له أن يشهد بواقعة، والذي تعنيه الآيتان حتى يعتد بالشهادة كدليل إثبات شرعي يحكم بمقتضاه له طريقان: الطريق الأول: مشاهدة الواقعة التي يشهد عليها وحضورها. الطريق الثاني: سماع الواقعة ممن حضرها وشاهدها، والعلم بالواقعة من حيث جواز الشهادة به والحكم بمقتضاها، والشروط الواجب توافرها بقبول الشهادة من الشاهد الفرعي، والاعتداد بها كدليل إثبات، ولبيان ذلك يقتضي المقام تقسيم الوقائع التي ستكون محلًا للشهادة من حيث ما سيحكم به في هذه الوقائع إلى قسمين: القسم الأول: وقائع يترتب على اقترافها، وثبوتها على من اقترفها إلزامه بعقوبات تعزيرية، أو تعويضات مالية أوهما معًا، ولا خلاف في الاعتداد بشهادة الشهود الفرعيين فيها3.

_ 1 من الآية 36 من سورة الإسراء. 2 من الآية 86 من سورة الزخرف. 3 المغني ج9 ص206، مغني المحتاج ج4 ص453، المهذب ج2 ص337، فتح القدير ج7 ص462، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج2 ص506.

القسم الثاني: وقائع يترتب على اقترانها، وثبوتها على من اقترفها إلزامه بعقوبة من العقوبات الحدية المقدرة من لدن الشارع الحكيم، بما في ذلك القصاص. وآراء الفقهاء قد اختلفت في الاعتداد بشهادة الشهود الفرعيين، أو كتاب القاضي إلى القاضي في إثبات هذه الوقائع، وإلزام من ارتكبها عقوبة من العقوبات الحدية بمقتضى شهادة الشهود الفرعيين. فيرى فقهاء المالكية، وهو رأي لفقهاء الشافعية، ورأي ابن حزم، جواز قبول شهادة الشهود الفرعيين بها، والحكم بمقتضاها بالعقوبات الحدية سواء أكان الحق المعتدى عليه حقًا لله سبحانه وتعالى، أم لآدمي، فقد جاء في المدونة: "قلت لابن القاسم: أتجوز شهادة الشهود على شهادة الشهود في السرقة؟ قال: قال لي مالك: تجوز شهادة الرجلين على الرجل في الفدية والحدود كلها، والسرقة من الحدود، قلت: أرأيت أربعة شهودا على أربعة في الزنا أتقبل شهادتهم في قول مالك؟ قال: نعم". وجاء في المدونة أيضًا: "أرأيت القاضي إذا كتب إلى القاضي آخر بشهادة شهود شهدوا عنده وعدلوا، فشهدوا على فلان ابن فلان بحق أو بحد، أو قصاص أو غير ذلك؟ أيقبل هذا القاضي الذي جاءه الكتاب بالبينة الذين في الكتاب على هذا الرجل المشهود عليه، ويقيموا عليه ويقيموا عليه تلك الأشياء، ويقضي بها عليه في قول مالك؟ قال: قال مالك في القاضي يكتب بالكتاب إلى قاضي آخر فيه الشهود على ما يقضي به، وكتب بعدالة الشهود -أن القاضي الذي جاءه الكتاب يقضي به وينفذه.

ولم يفسر لنا مالك حدا ولا قصاصًا، ولا حقًا غير ذلك، وما شككنا أن ذلك كله سواء"1. وقد ذكر ابن حزم أيضًا: "وتقبل الشهادة على الشهادة في كل شيء"، ورد المخالفين لذلك في مسائل الحدود بقوله: "تخصيص حدا وغيره لا يجوز إلا بنص، ولا نص في ذلك"2. ويرى فقهاء الأحناف والحنابلة عدم جواز قبول شهادة الشهود الفرعيين، فلا يعتد بها ولا يحكم بمقتضاها بعقوبة من العقوبات الحدية نظرًا؛ لأنها دليل إثبات لا يقوم به يقين، فتلحقه الشبهة لاحتماله الخطأ أو النسيان، ودليل مثل هذا لا تثبت به الجرائم الحدية. كما أنه لا يخفى أن الستر عندهم على من ارتكب جناية من الجنايات الحدية أولى، وألزم من الإدلاء بالشهادة بالنسبة للشاهد الأصلي، فما بال الشاهد الفرعي، ولا شك أنه أشد إلزامًا بالستر على الجاني، فلا حاجة أصلًا لشهادته عندهم؛ لأنها لا تجب عليه، وليست بحق للمشهود له حتى يمكن مخاصمة الشاهد الفرعي فيها، وإلزامه بأدائها. فقد أورد ابن الهمام أن الشهادة على الشهادة جائزة في كل حق يثبت مع الشبهة، فخرج ما لا يثبت معًا، وهو الحدود والقصاص. كما استدل ابن الهمام على عدم جواز شهادة الفروع في هذا

_ 1 المدونة: ج16 ص45، 59، 60، 85، "ط السعادة"، ويراجع الخرشي: ج7 ص217-218، وحاشية الدسوقي: ج4 ص205، ويراجع في رأي الشافعية: المهذب: ج2 ص337. ومغني المحتاج ج4 ص453. 2 المحلى: ج10 ص649.

بقوله: والقياس أن لا تجوز؛ لأنها عبادة بدنية وجبت على الأصل، وليست بحق للمشهود له حتى تجوز الخصومة فيها، والإجبار عليها. كما أن الشارع قد طلب الزيادة في عدد الشهود الأصول، لاحتمال سهو أو كذب أحدهم، لعدم العصمة من الكذب أو السهو، واحتمال ذلك يزيد بالنسبة للشهود الفرعيين1. وإذا كان هذا هو رأي فقهاء الأحناف في شهادة الشهود الفرعيين، فإنهم أيضًا ذهبوا إلى رد الأخذ بكتاب القاضي إلى القاضي في إثبات الجنايات الحدية والقصاص نظرًا؛ لأن فيه شبهة البدلية، ولهذا فإنهم لا يعتدون به في إثبات حد أو قصاص2. وأرود ابن قدامة أقوال الفقهاء في الشهادة على الشهادة، ثم بين ما يرجحه ويرتضيه بقوله: ولنا أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات، والإسقاط بالرجوع عن الإقرار، والشهادة على الشهادة فيها شبهة، فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط، والسهو والكذب في شهود الفروع مع احتمال ذلك في شهود الأصل، وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأل، وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل، فوجب أن لا تقبل فيما يدرء بالشبهات؛ ولأنها تقبل للحاجة، ولا حاجة إليها في الحد؛ لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه؛ ولأنه لا نص فيها، ولا يصح قياسًا على الأموال لما بينهما من الفروق في الحاجة، والتساهل فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا من الفروق، فبطل الإثبات. ثم بين ابن قدامة أن شهادة الفروع لا يثبت بها قصاص أيضًا

_ 1 فتح القدير ج7 ص462-463. 2 المرجع السابق ج7 ص296.

نظرًا؛ لأن القصاص عقوبة بدنية، ومبني على الإسقاط بالشبهات، فأشبه الحدود في عدم الإلزام به بشهادة الفروع1. وذهب جمهور فقهاء الشيعة إلى أن الشهادة على الشهادة لا تقبل في الحدود، سواء أكانت العقوبة الحدية نتيجة اعتداء على حق الله سبحانه وتعالى، أم حق مشترك كحد القذف، والسرقة، ونحوهما. وذهب جماعة منهم إلى قبول الشهادة على الشهادة، فيما كان من الحدود مشتركًا بين الله سبحانه وتعالى وبين غيره، أما قبولها في القصاص، فلم يخالف أحد منهم2، وقد ورد عن الشافعية رد قبول الشهادة على الشهادة في ما كان حدًا خالصًا لله سبحانه وتعالى، أما ما كان لآدمي كالقصاص، وحد القذف فقد أجازوا قبول الشهادة على الشهادة في إثباته. وقد أورد الشربيني الخطيب أن الشهادة على الشهادة، إنما تقبل في غير عقوبة الله تعالى وغير إحصان، وفي إثبات عقوبة لآدمي على

_ 1 المغني ج9 ص206، 207. 2 ذكر أبو القاسم الموسوي أن الشهادة على الشهادة تقبل في حقوق الناس كالقصاص، والطلاق والنسب والعتق، والمعاملة والمال، وما شابه ذلك ولا تقبل في الحدود سواء أكانت لله وحده، أم كانت مشتركة كحد القذف والسرقة ونحوها، ثم أورد الخلاف فيما كان مشتركًا بين الله تعالى، وبين غيره وبين أن المشهود بين الأصحاب هو قبول الشهادة على الشهادة فيها خلافًا لجماعة منهم الشهيد الأول في النكت، والثاني في المسالك، ثم بين أن ما ذكر من المشهور هو الصحيح لإطلاق الروايتين، والمناقشة في سندهما، وفيهما بالضعف في غير محله. مباني تكملة المنهاج ج1 ص142-143، المختصر النافع ص289 "ط الأوقاف الثانية".

المذهب كالقصاص، وحد القذف أما العقوبة لله تعالى كالزنا، وشرب الخمر فلا تقبل فيها الشهادة على الأظهر، وخرج منها قول في عقوبة الآدمي، ودفع التخريج بأن حق الله تعالى مبني على التحفيف بخلاف حق الآدمي1. والذي أرجحه من أقوال الفقهاء هذه، هو قول من ذهب إلى عدم الاعتداد بالشهادة على الشهادة في إثبات جناية من الجنايات الحدية، أو جناية قصاص نظرًا؛ لأن شهادة الأصل لا تقبل إلا إذا تم اليقين بصحتها، وانضم آلية غيره فيها، وفي بعض الجنايات الحدية لا بد أن يكون هؤلاء الشهود أربعة رجال بمواصفات معينة إلى آخر ذلك، مما يستهدف منه المشرع اليقين في إثبات هذه الجرائم، ودفع عقوبتها بقيام شبهة من الشبهات. ولا يخفى أن الشهادة على الشهادة حجة لا تخلو من شبهة؛ لأن الشاهد الفرعي لا علم له بالواقعة، أو كيفيتها مما قد يستفسر عنه القاضي، إلا بما سمعه من الشاهد الأصلي، والشاهد الأصلي لمن يقص على الفرعي كل ما يمكن أن يسأل عنه القاضي ليتأكد من الواقعة، وما خالطها. كما أن اختلاف صيغة الشهادة الأصلية نفسها قد يؤثر؛ لأن الشاهد الفرعي أن يحفظ الشهادة الأصلية حفظًا يجعله ينقلها نقلًا حرفيًا. وفوق ذلك كله، فإن أداء الشهادة على الشهادة غير واجب، والستر على المسلمين أمر دعي إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم، ورغب فيه خيف إضاعة حق الآدمي، فلا يخفى أن القاضي يمكنه إلزام الجاني بعقوبة من العقوبات التعزيرية المناسبة.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص453.

ومن ذهب إلى الاعتداء بشهادة الشهود الفرعيين في الحدود، والقصاص وضع لهذا ضوابط، وشروطًا بالإضافة إلى ما يشترط في الشاهد، والشهادة بصفة عامة، هذه الضوابط والشروط هي ما يأتي: أولًا: أن يعتذر حضور الشاهد الأصلي لمجلس القضاء ليدلي بشهادته أمام القاضي الذي ينظر بالواقعة. وتعذر الحضور يتفاوت من شخص لآخر، ومن مكان لآخر ومن زمان إلى زمان، وتقدير هذا متروك لاجتهاد القاضي وتقديره1. ثانيًا: أن يكون الشهود الذين يشهدون بشهادة غيرهم ذكورًا، فلا تقبل شهادة النساء عند فقهاء الشافعية. وقد رجح فقهاء المالكية الرأي في هذا إلى جواز شهادة النساء ابتداء، فأجازوها مع الرجال في الأموال وما يؤل إليها، أما ما لا تجوز شهادتهن به ابتداء، فلا يجوز أن يكون شهودًا فرعيين فيه2. ثالثًا: أن يشهد فرعان بشهادة أصل واحد، أي أن يشهد اثنان من الشهود الفرعيين بما شهد به شاهد أصلي واحد، وهذا للتثبت والتأكد، ولجواز أن ينسى أحدهما، فيذكره الآخر. رابعًا: أن يظل الشاهد الأصلي متصفًا بالعدالة، ولا توجد بينه وبين المشهود عليه عداوة، فإذا فسق الشاهد الأصلي أو حدثت بينه، وبين المشهود عليه عداوة قبل أن يدلي الشاهد الفرعي بشهادته، ردت شهادة الشاهد الفرعي للطعن على الشاهد الأصلي الذي نقل عنه.

_ 1 الخرشي ج7 ص218 المهذب ج2 ص337، ويراجع أيضًا فتح القدير ج7 ص468، مباني المنهاج ج1 ص145، والمختصر النافع ص289. 2 الخرشي ج7 ص220، المهذب ج2 ص337.

خامسًا: أن لا يكذب الشاهد الأصلي الشاهد الفرعي فيما نقله عنه، وإن كان فقهاء المالكية قد اشترطوا أن لا يكون ذلك قبل الحكم. فإن كان بعد الحكم، فلا يلتفت إلى هذا التكذيب عندهم1. واحتراز المالكية هنا في غير محله؛ لأن الشاهد الأصلي إذا كان غائبًا، ثم حضر في غيبته بعد الحكم على الجاني بشهادة الشهود الفرعيين، فرأى الشاهد الأصلي أن الشهود الفرعيين، قد قصروا في ذكر بعض ما يتصل بالواقعة من أمور قد يترتب عليها درء العقوبة الحدية عن الجاني، فما الذي يمنع من الأخذ بما يقوله الشاهد الأصلي إذا، وهو الذي حضر الواقعة وعاينها، وعايش كل ملابساتها لا شك أن سماعه، والاعتداد بقوله في درء العقوبة عن الجاني أمر لازم خصوصًا عند من يقول بدرء الحد بالشبهة، ولا يخفى أن من هؤلاء فقهاء المالكية2. هذا بالنسبة لما قيل من قبول الشهادة على الشهادة، والاعتداد بها أما بالنسبة لكتاب القاضي للقاضي، فإن كان ما في الكتاب حكمًا بعقوبة من العقوبات، ولم يبد المحكوم عليه على ما جاء في هذا الكتاب اعتراضًا موضوعيًا ينبني عليه اختلاف الحكم، وتغاير العقوبة أو إسقاطها، نفذ القاضي الذي جاءه الكتاب ما اشتمل عليه من أحكام. أما إن أبدى عليه اعتراضًا موضوعيًا على ما جاء بكتاب

_ 1 الخرشي ج7 ص219. 2 ذكر رجال القانون أن للمحكمة أن تأخذ بشهادة منقولة عن شاهد أنكر صحتها وصدورها، إذ أن المرجع في تقدير الشهادة، ولو كانت منقولة هو إلى محكمة الموضوع وحدها. د. رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.

القاضي، فإن على القاضي المرسل إليه تحقيق الواقعة، ونظر اعتراض المحكوم عليه، والقضاء بما يراه. هذا إذا كان ما في كتاب القاضي للقاضي حكم من الأحكام، أما إن كان الذي في الكتاب شهادة الشهود للذين حضروا الواقعة، نظر القاضي المرسل إليه الكتاب، وحقق الواقعة بناء على ذلك، وحكم فيها بما يحقق العدل، ويضمن حقوق الآدميين بوجه خاص بعد أن يسمع من المدعى عليه كل ما يريد أن يقول أو قدم من دفع، ثم يبحثها ويحقق وقائعها وقرائنها، ويجتهد في ذلك الاجتهاد الواجب على القاضي قبل أن يحكم فيها عرض عليه. والذي أرجحه أنه لا يجوز أن يحكم بعقوبة من العقوبات الحدية اعتمادًا على دليل إثبات هو عبارة عن شهادة، أو كتاب قاض إلى آخر، حتى ولو كان الاعتداء الذي وقع من الجاني قد وقع على حق لآدمي، وذلك؛ لأن الحكم بالعقوبة الحدية لا بد، وأن يكون ناشئًا عن ثبوت جريمتها على الجاني ثبوتًا يقينيًا محتمل، فإذا احتمل دليل إثبات الجريمة الحدية الشك والشبهة، فإن هذا الشك يفسر لصالح المتهم، وتدرأ الشبهة العقوبة الحدية عنه. ويبقى القاضي مخيرًا في معالجة القضية حسبما يرى في حدود ما أباح له الشرع، فله أن يحكم فيها بعقوبة من العقوبات التعزيرية التي تحقق الردع والزجر، أو أن يسقط العقوبة عن المتهم إذا عن له ذلك، ونقص قيام ركن من أركان الجريمة. هذا ما آراه فيما ذكر الفقهاء من اشتراط الرؤية في الشاهد. 6 الذكورة: اشترط جمهور الفقهاء في الشهادة بالحدود أن يكون الشاهد ذكرًا، وعليه فلا تقبل شهادة النساء في الحدود نظرًا لما

يلحق شهادة من شبهة النسيان، أو التظليل طبقًا لما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1، واستدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه بما جاء في قول الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 2. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 3. فإلحاق التاء بالعدد يفيد أن المعدود مذكر طبقًا لما جرت به قواعد العربية، كما أورد ابن الهمام: "أن السنة مضت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخليفتين بعده، أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود والدماء؛ ولأن النص أوجب أربعة رجال بقوله تعالى: {أَرْبَعَةً مِنْكُم} ، فقبول امرأتين مع ثلاثة مخالف لما نص عليه من العدد والمعدود، وغاية الأمر المعارضة بين عموم -فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان- وبين هذه فتقدم هذه؛ لأنها مانعة وتلك مبيحة، وأيضًا هذه تفيد زيادة قيد وزيادة القيد من طرق الدرء، فإنه كلما كثرت قيود الشيء قل وجوده بالنسبة إلى ما ليس فيه زيادة تقييد؛ ولأن فيها شبهة البدلية ... والشبهة كالحقيقة فيما يندرئ بالشبهات، وسائر ما سوى حد الزنا من الحدود يقبل فيها شهادة رجلين، ولا تقبل

_ 1 من الآية 282 من سورة البقرة، ويراجع في ذلك القرطبي ج2 ص1205. 2 من الآية 15 من سورة النساء، ويراجع في ذلك القرطبي. 3 من الآية 4 من سورة النور.

النساء، لما ذكرنا، وكذا القصاص"1. كما بين السرخسي سبب عدم قبول شهادة النساء في الحدود، والقصاص بقوله: "لأن في شهادة النساء ضربًا من الشبهة، فإن الضلال والنسيان يغلب عليهن، معها معنى الضبط والفهم بالأنوثة، وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} ، ووصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النساء بنقصان العقل والدين، والحدود تدرأ بالشبهات، وما يندرئ بالشبهات لا يثبت بحجة فيها شبهة تيسيرًا للتحرز عنها"2. وبين الشربيني الخطيب رأي فقهاء الشافعية في هذا، وإن شهادة النساء لا يثبت بها، إلا المال فقط أما غير المال، وكذا العقوبات الواجبة حقًا لله تعالى، أو لآدمي، فإنها لا تجب ولا تثبت جناياتها بشهادة النساء، فقال عند حديثه عن إثبات جريمة السرقة الحدية: "وما يجب به الحد فيها"، وتثبت السرقة الموجبة للقطع بشهادة رجلين كسائر العقوبات غير الزنا، فإنه خص بمزيد العدد، فلو شهد رجل وامرأتان بسرقة.. ثبت المال ولا قطع على السارق"3. كما بين أن شهادة النساء لا تقبل فيما بمال ولا يقصد منه المال، من موجب عقوبة لله تعالى، كالردة وقطع الطريق والشرب، أو من عقوبة لآدمي، كقتل نفس وقطع طرف وقذف، ثم بين سبب ذلك قوله: "لأن الله تعالى نص على شهادة الرجلين في الطلاق، والرجعة والوصاية، وتقدم خبر": "لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل"

_ 1 فتح القدير ج7 ص369-370. 2 المبسوط ج16 ص114. 3 مغني المحتاج ج4 ص176.

وروى مالك عن الزهري: "مضت السنة بأن لا تجوز شهادة النساء في الحدود"1. وقد جاء مثل هذا أيضًا عن فقهاء المالكية2، والحنابلة3، والشيعة4، وما ورد من روايات عن بعض فقهاء الشيعة تجيز شهادة النساء في الحدود، فقد ردوا عليها وبينوا شذوذها، وما ورد من روايات أخرى عن بعضهم تجيز شهادتين في القتل مستدلين بقول علي بين أبي طالب، كرم الله وجهه: "لا يبطل دم امرئ مسلم"، فقد ردوا عليها وبينوا أن المراد بثبوت القتل بشهادتين ثبوته بالنسبة إلى الدية، وأما بالنسبة إلى الفرد، فلا يثبت بشهادة النساء"5. هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء. أما ابن حزم فقد أجاز شهادة النساء في الحدود، والقصاص سواء أشهد النساء منفردات أم مع الرجال، كل ما هنالك أنه جعل شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجال، بمعنى أن ما يثبت من جرائم الحدود، والقصاص بشهادة رجلين يثبت عنده بشهادة أربع نسوة وهكذا. وقد أورد ابن حزم هذا في قوله: "ولا تجوز أن تقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين، أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجال، وامرأتين أو رجلين، وأربع نسوة أو رجلًا واحدًا وست نسوة وثمان نسوة فقط، ولا يقبل في

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص442. 2 حاشية الدسوقي ج4 ص189. 3 المغني ج9 ص196. 4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118-126. 5 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118-126.

سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء، وما فيه القصاص والنكاح، والطلاق والرجعة، والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان، أو رجل وامرأتان كذلك، أو أربع نسوة كذلك"1. واستدل ابن حزم على قبول شهادة النساء، في إثبات الجرائم الحدية، والحكم بعقوباتها المقدرة، وكذا في القصاص بما روي من أن امرأة أوطأت صبيًا، فقتلته فشهد عليها أربع نسوة، فأجاز علي بن أبي طالب شهادتين، وقضى على المرأة بالدية2. وذكر ابن حزم أن من منع شهادة النساء في إثبات الحدود لا سند له من رواية قوية، وإنما سنده منقطع، وفي روايته من هو ضعيف وهالك، وأن العقل لا يفرق بين الرجل والمرأة من حيث الغفلة، أو تعمد الكذب والتواطؤ عليه3. وما هب إليه ابن حزم هو أرجحه نظرًا؛ لأن الحال داعية إليه، بل إنه قد أصبح من الضروري الأخذ به تحقيقًا لما يهدف إليه المشرع، من تقرير عقوبة محدودة لمرتكبي الجرائم الحدية والقصاص. وماذا يرى من منع إثبات الجرائم الحدية، وإلزام الجاني عقوبتها المقدرة بشهادة النساء، فيما إذا دأبت امرأة، أو رجل على إرتكاب جريمة من الجرائم الحدية في بعض الأماكن التي لا يوجد فيها إلا النساء، كالأقسام الخاصة بهن في المستشفيات مثلًا، أو مدارس الفتيات، أو الأقسام الداخلية التي تقيم فيها الطالبات، وغير ذلك من أماكن التجمعات النسائية.

_ 1 المحلى ج10 ص569، 579. 2 المحلى ج10 ص573، 581. 3 المرجع السابق ص583.

إن الجاني الذي ارتكب جناية من الجنايات الحدية إذا جيء به، وشهد عليه بعهض من يقمن في هذه الأماكن التي لا يتواجد فيها الرجال، وبلغ عدد الشاهدات بالجريمة الحدية التي ارتكباها ضعف ما يلزم لإثباتها من الرجال، لو درئت عنه العقوبة الحدية، وألزم بعقوبة تعزيرية أخرى لكان في ذلك استهانة بالحرمات؛ لأن من الجناة من لا يعالجون، إلا بما حدد الله من علاج، وحالات العودة بالنسبة لمن يعاقبون تعزيريًا تشهد بها الإحصائيات، وتقرير كثرتها الكثيرة. لذا كان الاعتداد بشهادة النساء بما ذكر من شروط أولى بالاعتبار في إثبات جرائم الحدود، والقصاص، والحكم بعقوباتها الحدية. 7- الحرية: ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط حرية من يشهد بحد من حدود الله سبحانه وتعالى، حتى يمكن الاعتداد بشهادته، وعدها دليل إثبات الجرائم الحدية، وإلزام الجاني بمقتضى ذلك عقوبة ما اقترفه من هذه الجنايات. هذا ما ذهب إليه الأئمة أبو حنيفة، ومالك والشافعي، ورأي للإمام أحمد ورأي عند فقهاء الشيعة1. أما ابن حزم، فإنه يرى الاعتداد بشهادة العبد في كل ما يعتد فيه بشهادة الحر، أخذا بعموم آيات الشهادة، إذ هو من رجالنا كما أنه عدل تقبل فتواه، وروايته وأخباره الدينية، كما أن أكثر العلماء من

_ 1 فتح القدير ج7 ص399، الخرشي ج7 ص176، مغني المحتاج ج4 ص427، المهذب ج2 ص331، المغني ج9 ص195، مبادئ تكملة المنهاج ج1 ص102-106.

الموالي كانوا عبيدًا أو أبناء عبيد، ولا يحدث الاعتاق في العبد إلا الحرية، وهي لا تغير طبعًا، ولا تحدث علمًا ولا مروءة1. كما أن العبد قد قبل منه الإقرار بالحدود والقصاص، واعتد به في إثبات الجناية الحدية، فكيف تقبل شهادته على نفسه، وترد على غيره، إن كان ردها راجعًا إلى كونه رقيقا، فأولى أن ترد شهادته على نفسه أيضًا، وإن كان ردها راجعًا؛ لأن الغير هو الذي سيلزم بآثارها، فيجب إذا أن ترد كل شهادة له على نفسه أو غلى غيره؛ لأنه بإقراره على نفسه قد يترتب على هذا غرم لسيده، وذلك في حالة ما إذا كانت الجناية التي أقر بها معاقبًا عليها بعقوبة من العقوبات، التي تؤدي إلى إتلاف أحد أعضائه، أو إتلافه كله، ومما لا شك في أن الإتلاف في الحالتين سيلحق بسيده ضررًا، وسيلزم بآثاره. لذا فما دام العبد عدلًا معروفًا بصدقة مشهورًا بقول الحق، والحفاظ على أوامر الدين، فليس هناك ما يمنع قبول شهادته، والاعتداد بها في إثبات الحدود والقصاص. كما أنه لا يخفى أن نظام الرق قد انقضى عهده، وإذا وجد ففي حالات قليلة ونادرة. 8- النطق: أي أن يكون الشاهد ناطقًا بالفعل، فيؤدي شهادته عن طريق ما يسمع منه من كلامه، فإن كان الشاهد غير متكلم بالفعل، كأن كان أخرس فإن للفقهاء في الاعتداد بشهادته آراء. فقهاء الأحناف يرون أن النطق شرط من شروط الأهلية بالنسبة للشهادة، وعليه فلا تقبل شهادة الأخرس، وكذا ترد الشهادة أن أصيب

_ 1 المحلى ج10 ص598-602، حاشية العدوي على الخرشي ج7 ص176، الطرق الحكمية ص244-249.

الشاهد بالخرس بعد أن أداها، ولم يحكم بعد بمقتضاها؛ لأن قيام الأهلية شرط وقت القضاء لصيرورة الشهادة حجة ضده، أي عند القضاء؛ لأنها إنما ترد للقضاء، فما يمنع الأداء يمنع القضاء، والعمى والخرس والجنون، والفسق يمنع الأداء، فيمنع القضاء1. كما ذكر ابن قدامة أن شهادة الأخرس لا تجوز بحال، نص عليه أحمد -رضي الله تعالى عنه، فقال: "لا تجوز شهادة الأخرس، قيل: وإن كتبها؟ قال: لا أدري"، وهذا قول أصحاب الرأي. وعلل ابن قدامة ذلك بأن الشهادة لا يعتبر فيها إلا اليقين، ولا يحصل اليقين بالإشارة2. أما فقهاء الشافعية، فإن عندهم رأيين أحدهما يرى قبول شهادة الأخرس مطلقًا. والثاني قيد قبول شهادة الأخرس بحالة الضرورة، وعليه فلا يعتد بها في الحدود، إذ لا ضرورة في الشهادة بها3، وذهب فقهاء المالكية إلى قبول شهادة الأخرس، والاعتداد بها سواء أداها كتابة، أو إشارة بشرط أن تكون مفهمة معبرة، واضحًا يوفي بالمقصود.

_

كما أجاز فقهاء المالكية شهادة الأصم على الأفعال، أما شهادته على الأقوال، فلا تقبل إلا فيما سمعه قبل الصم1. واستأنس المجيزون لقبول شهادة الأخرس بما روي من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أشار، وهو جالس في الصلاة إلى الناس، وهم قيام أن اجلسوا فجلسوا2. والاستئناس بهذا فيما نحن بصدده استئناس بعيد لعدم وجود شبهة بين الحالين، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أشار في صلاته، وهو قادر على الكلام، والذي منعه من الكلام الحفاظ على الصلاة؛ لأن الكلام يبطلها، كما أن أصحابه عليه الصلاة والسلام، وإن تبعوا إشارته إلا أنهم بعد أن فرغوا من صلاتهم سألوه، واستفسروا منه فعلمهم، فإشارته -صلى الله عليه وسلم- لم تكن شهادة والناطق لو شهد بالإيماء بالإشارة لا تصح شهادته، كما أن محاولة قياس الاعتداد بالإشارة المفهمة، بما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو في صلاته أمر بعيد؛ لأن إثبات الحدود يقتضي علم وجود الشبهة. وعليه فإن شهادة الأخرس بإشارته المفهمة لا يعتد بها في إثبات

_ 1 يقول الخرشي: وأما العدل الأصم غير الأعمى، فتجوز شهادته في الأفعال، ولم يتعرضوا لشهادة الأخرس، وهي مقبولة كما قاله ابن شعبان، ويؤديها بالإشارة المفهمة، والكتابة وأما الأصم في الأقوال فلا يقبل، ما لم يكن سمعة قبل الصم، كذا ينبغي على قياس ما في شرح الإرشاد. الخرشي ج7 ص179 حاشية الدسوقي ج4 ص168. 2 قال ابن قدامة: أن النبي كان قادرًا على الكلام، وعمل بإشارته في الصلاة، ولو شهد الناطق بالإبهاء، والإشارة لم يصح إجماعًا، المغني ج9 ص190-191.

الجرائم الحدية؛ لأنها وإن أفهمت إلا أنها لا تخلو عن الشبهة، والحدود تدرأ بالشبهات1. أما إذا أدى أخرس الشهادة عن طريق الكتابة الواضحة المفهمة، وأجاب عن طريق الكتابة عن كل ما يوجه إليه من استفسار، وما يطلب منه بيانه، إجابة أدت إلى اليقين، فلا مانع من الاعتداد بهذا في إثبات الجرائم الحدية، والحكم بعقوباتها؛ لأن شهادته بهذه الطريقة قد بعدت من احتمال الشبهة، وأفادت القطع واليقين. 9- اليقظة: أي أن يكون يقظًا، وقت حدوث الجناية التي يشهد على الجاني بأنه ارتكبها. وأن يكون فطنًا فاهمًا غير غافل، ولا مشغول عما يحدث وقت حدوثه -بشيء آخر لجواز أن ينتج عن إنشغاله هذا خلط بين ما وقع من جناية، وغيرها، أو بين الجاني وغيره، أو بينهما معًا. فمن يكثر نسيانه أو خلطه، أو اشتباه الأمور عليه، فإنه ترد شهادته في الحدود والقصاص؛ لأن من شأن هذا أن تعتري شهادته الشبهة، وشهادة مثل هذه لا يقام بها حد. فإن كان ينسى أحيانًا، أو يغلط أحيانًا ولكن الحادثة التي يشهد عليها منضبطة في ذهنه واعيًا لها، ذاكرًا دقائقها قبلت شهادته، وأقيمت الحدود بها.

_ 1 ذهب رجال القانون إلى أن لمحكمة الموضوع أن تعول على شهادة الشاهد، ولو كان أصم أبكم كان باستطاعتها أن تفهم إشارته، وبغير ما حاجة إلى تعيين خبير ينقل إليها هذه المعاني. أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.

هذا بالنسبة لشهادته ممن يقع منه الخطأ، أو النسيان أو الغفلة، أما الأبله والبليد فلا تصح شهادتهم، ولا يعتمد عليها في الإثبات، أما ذو الغفلة فإنه تقبل شهادته في الحالات التي وضحت الجناية بالنسبة له، ولم يلتبس عليه شيء من أمرها1، ومبنى هذا كله أن الشهادة التي يقام بها حد من الحدود لا بد، وأن تكون صادرة عمن له قدرة ضبط عقلية يستطيع بها التمييز، والتدقيق، والفهم الواعي الضابط للأمور، والمفرق بين الحق والباطل. فإن لم يكن الشاهد كذلك اعترت شهادته الشبهة، وشهادة مثل هذه مردودة، ولا يثبت بها حد.

_ 1 ذكر الخرشي أن المغفل هو الذي له قوة التنبيه ولم يستعمل قوته، والمعنى أن الشاهد يشترط فيه أن يكون غير مغفل، قال ابن عبد الحكم: قد يكون الرجل الخير الفاضل ضعيفًا لا يؤمن عليه لغفلته أن يلبس عليه، فلا تقبل شهادته، إلا أن يكون الأمر المشهود فيه جليا واضحًا بينا لا يلبس على أحد، كقوله: رأيت هذا يقطع يد هذا أو نحو ذلك، فإن شهادة المغفل تقبل في مثل ذلك، وأما البليد فلا تصح شهادته مطلقًا، والفرق بين المغفل والبليد، أن المغفل له ملكة أي قوة منبهة، لكن لا يستعملها والبليد ليس له ملكة أصلًا، الخرشي ج7 ص179، حاشية الدسوقي ج4 ص168، فتح القدير ج7 ص415، المهذب ج2 ص324، مغني المحتاج ج4 ص427 المغني ج9 ص167-188. وقد سبق أن ذكرت أن رجال القانون قد حكموا بأنه لا يؤثر في صحة الاستدلال بأقوال الشاهد أن يكون به ضعفًا عقليًا، ما دامت المحكمة اطمأنت إلى صحة أقواله. يراجع أ. د: رءوف عبيد مبادئ الإجراءات الجنائية ص599.

المطلب الثاني: شروط في الشهادة

المطلب الثاني: شروط في الشهادة يشترط في الشهادة التي تؤدى وتثبت بمقتضاها الجرائم الحدية، ويلزم الجاني بعقوبة ما اقترفه من الحدود ما يأتي: 1- أن تكون واضحة مفصلة، دالة قاطعة، لا لبس فيها ولا خفاء: مفيدة على سبيل القطع، واليقين أن الجاني قد ارتكب جنايته بفعل يستحق معه العقاب المقرر حدًا، من لدن الشارع الحكيم. وكون الشاهدة بهذه الصورة من الوضوح، أمر ضروري لما يترتب عليها من إثبات جنايات عقوباتها بالغة الشدة تصل حد القتل قصاصًا، أو الإهلاك رجمًا. ولهذا فإن الفقهاء اشترطوا تحري الدقة، والوضوح في الشهادة، وألزموا القاضي الاستفسار من الشهود عن مكان الجريمة وزمانها، وعن الجاني وكيفية جنايته. وعمن وقعت عليه إلى آخر ذلك، مما ينتفي معه أي لبس أو شبهة1. وقد ورد عن فقهاء الأحناف في ذلك كثير من النصوص، منها ما جاء عن البلبرقي2 شارحًا ما في الهداية: "وإذا شهدوا سألهم الإمام عن الزنا ما هو، احترازا عن الغلط في الماهية، وكيف هو، احترازًا عن الغلط في الكيفية، وأين زنى احترازًا عنه في المكان، ومتى

_ 1 كما أنه على القاضي أيضًا أن يسأل المدعى عليه، عما يمكن له من عذر، أو شبهة قد يترتب على وجودهما، أو وجود أحدهما درء العقوبة عنه، أو تغايرها. 2 أكمل الدين محمد بن محمود البابرقي من علماء الفقه الحنفي، توفي سنة 786هـ.

زنى، احترازًا عنه في الزمان، وعن الزنية احترازًا عنه في المفعول به"، ويدل عن وجوب السؤال عن هذه الأشياء النقل، والعقل أما الأول فما روي "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل ماعزا إلى أن ذكر النون والكاف ... لكونه صريحًا في الباب، والباقي كناية. أما العقل؛ فلأن الاحتياط في ذلك واجب؛ لأنه إن كان الفعل في غير الفرج عناه، فلا يكون ماهية الزنا، ولا كيفيته موجودة، أو زنى في دار الحرب، وهو لا يوجب الحد، أو في المتقادم من الزمان، وذلك يسقط الحد، أو كان له في المزنية شبهة لم يطلع عليها الشهود كوطء جارية الابن، فيستقص في ذلك احتيالا للدرء1، كما ذكر السرخسي في الشهادة بالقذف: أن المقذوف إذا جاء بشاهدين، فشهدوا أنه قذفه سئلا عن ماهيته، وكيفيته؛ لأنهما شهدا بلفظ مبهم، فالقذف قد يكون بغير الزنا، فإن لم يزيدا على ذلك لم تقبل شهادتهما؛ لأن المشهود به غير معلوم"2. كما يقول في الشهادة بالسرقة: "وإن شهد شاهدان على رجل بالسرقة سئلًا عنم ماهيتها وكيفيتها؛ لأن مبهم الاسم محتمل، فإن من يستمع كلام الغير سدا يسمى سارقًا.. ولأن المسروق قد يكون غير مال، وقد يكون محرزًا، أو غير محرزًا وقد يكون نصابًا وما دونه، فلا بد أن يسألهما عن الماهية والكيفية، وينبغي أن يسألهما متى سرق، وأين سرق كما بيناه في الزنا؛ لأن حد السرقة لا يقام بعد تقادم العهد، ولا يقام على من باشر السب في دار الحرب، فيسألهما عن ذلك"3.

_ 1 شرح العناية على الهداية مع فتح القدير ج5 ص215-216 المبسوط ج9 ص61. 2 المبسوط ص106. 3 المبسوط ج9 ص142 شرح العناية مع فتح القدير ج5 ص362.

وقد أورد فقهاء الشافعية اشتراط ما سبق في الشهادة، فيقول الشيرازي: "ومن شهد بالجناية ذكر صفتها، فإن قال: ضربه بالسيف فمات، أو قال: ضربه بالسيف فوجدته ميتًا لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات من غير ضربه.. ومن شهد بالزنا ذكر الزاني، ومن زنى به؛ لأنه قد يراه على بهيمة ... أو يراه على زوجته أو جارية ابنه، فيظن أنه زنى، ويذكر صفة الزنا، فإن لم يذكر أنه أولج، أو رأى ذكره في فرجها لم يحكم به ... وإن شهد أربعة بالزنا، وفسر ثلاثة منهم الزنا، ومات واحد منهم قبل أن يفسر لم يجب الحد في المشهود عليه ... ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسررق منه، والحرز والنصاب وصفة السرقة؛ لأن الحكم يختلف باختلافها، فوجب ذكرها، ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس، فيما يصير به مرتدًا، فلم يجز الحكم قبل البيان، كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح1. وجاء مثل هذا أيضًا عن فقهاء والمالكية، إذ يقول الخرشي في شروط صحة الشهادة بالزنا: أنهم لا بد أن يشهدوا بزنا واحد في وقت واحد في موضع واحد برؤية واحدة، وأنه أدخل فرجه في فرج المرأة كالمرود في المكحلة2. كما جاء في المدونة: قلت: أرأيت إن شهد أربعة على رجل بالزنا، فقال لهم القاضي: صفوا الزنا، فقالوا: لا نزيد على هذا القول. أيقبل شهادتهم؟ قال: أخبرتك بقول مالك أنه قال: يكشفهم الإمام

_ 1 المهذب ج2 ص336-339، مغني المحتاج ج4 ص138-177. 2 الخرشي ج7 ص199، حاشية الدسوقي ج4 ص186.

فإن وجد في شهادتهم من يدرأ به الحد درأه، قلت: فإن أبوا أن يكشفوا شهادتهم؟ قال: لا يقام الحد إلا بعد كشف الشهادة، وذلك رأيي1. وقد جاء اشتراط وضوح الشهادة، وتفصيلها، واستفسار القاضي الشهود عن كل ما يمكن أن يكون شبهة تدرأ الحد، أو تسقط العقوبة، عن كل من فقهاء الحنابلة2، والشيعة3 أيضًا. من هذا كله يتضح أن جمهور الفقهاء، يرون اشتراط تحري الدقة في الشهادة التي يثبت بها الحد، ووضوحها وبيانها للجناية المشهود عليها بيانا لا يبقى معه أدنى لبس، حتى يمكن أن يحكم القاضي بناء على هذه الشهادة بالعقوبة المقررة لما ارتكبه الجاني من الجرائم الحدية. أما ابن حزم، فإنه يرى أن ما يجب أن يستفسر القاضي الشهود عنه هو ما لا تتم الشهادة إلا به، والذي إذا نقص لم تكن الأقوال التي قبلت شهادة، وإذا اختلف الشهود فيه بطلت شهادتهم، ولم تتم. أما ما لا معنى لذكره في الشهادة ولا يحتاج إليه فيها، وتتم الشهادة مع السكوت عنه، فلا ينبغي أن يلتفت إليه، وسواء اختلفت الشهود فيه، أو لم يختلفوا، وسواء ذكروه، أو لم يذكروه -واختلافهم في قصة أخرى ليست من الشهادة في شيء، ولا فرق، فلما وجب هذا كان ذكر اللون في الشهادة لا معنى له، وكان أيضًا ذكر الوقت في الشهادة في الزنى وفي السرقة، وفي القذف وفي الخمر لا معنى

_ 1 المدونة ج16 ص140. 2 المغني ج8 ص199. 3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص180.

له -وكان إيضًا ذكر المكان في كل ذلك لا معنى له، فكان اختلافهم في كل ذلك كاتفاقهم، كسكوتهم، ولا فرق؛ لأن الشهادة في كل ذلك تامة دون ذكر شيء من ذلك. وحسب الشهود أن يقولوا: إنه زنى بامرأة أجنبية نعرفها أولج ذكره في قبلها رأينا ذلك فقط، ما أبالي قالوا: إنها سوداء أو بيضاء أو زرقاء، أو كحلاء مكرهة، أو طائعة، أمس، أو اليوم، أو منذ سنة، بمصر أو ببغداد. وكذا لو اختلفوا في لون ثوبه حينئذ، أو لون عمامته، ويستدل لذلك ابن حزم، فيقول: "لم يقل الله تعالى قط، ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم: لا تقبلوا الشهادة حتى يشهدوا على زنى واحد، في وقت واحد، في مكان واحد، وعلى سرقة واحدة بشيء واحد في وقت واحد، في مكان واحد، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} "19: 64"، وتالله لو أراد الله تعالى ذلك لما أهمله، ولا أغفله حتى بينه فلان وفلان، وحاش لله من هذا"1. وقبل مناقشة ابن حزم، فيما ذهب إليه أحب أن أذكر هنا بأن ابن حزم قال بأن الحدود لا تدرأ بالشبهات، هذا مذهبه وقد سبقت مناقشته. وأول ما يناقش فيه ابن حزم هو كونه لا يشترط في الشهادة أن تكون مبينة لحالة المزني بها، أهي طائعة أم مكرهة، وهذا ولا شك أمر ضروري الاستعلام عنه؛ لأنه وإن لم يؤثر بالنسبة للفاعل المختار، إلا أنه يترتب عليه بالغ الأثر بالنسبة له، وللمزني بها إن كان منهما

_ 1 المحلى ج13 ص377-379.

مكرهًا: وكذا إن كانت هي وحدها المكرهة؛ لأن المكره قد رفع عنه القلم فيما عدا القتل1. فما دامت أكرهت، فلا عقوبة عليها، فكيف تستوي الشهادة عليها إذا ذكر فيها كونها مكرهة، أو لم يذكر؟. إن إثبات إكراها أو طواعيتها إثبات لأمر جوهري يترتب عليه الإدانة، أو البراءة بالنسبة لها، ولا يخفى ما قد يكون في الإدانة من رجمها وإلحاق العار بأهلها، أما براءتها مما نسب إليها، فإنها مانعة من ذلك كله، فكيف يتسنى إذا أن يعد ابن حزم ذلك من الأمور التي لا يلتزم بيانها في الشهادة؟ أما تعلق ابن حزم بأن الله سبحانه وتعالى لم يقل ذلك قط، ولا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فهو تعلق واه، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- قد راجع ما جاء شاهدًا على نفسه، واستوضحه واستبان منه ما قد يكون خافيًا على الشاهد نفسه، وسأله عن أشياء، وأشياء حتى وصل به الأمر -صلى الله عليه وسلم- إلى النطق بكلمة لم يكن ليحب أن ينطق بها. ما فائدة هذا كله من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، إذ أن لم يترتب عليه درء العقوبة، أو تغايرها وهما من الأمور المقصودة من مراجعة الشهود، واستبانتهم، واستيضاحهم. وما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لينطق بذلك كله عبثًا، أو مضيعة للوقت حاش لله. وابن حزم لم يأبه بقول بعض الشهود -إنهم رأوا الجاني يزني بامرأة أجنبية- في بلد كذا، أو قول الباقي منهم -المكمل للعدد المطلوب في الشهادة- لا بل رأيناه يزني بها في بلد آخر.

_ 1 القرطبي ج5 ص3801.

مع أن قول بعض الشهود في بلد كذا، وقول الباقين لا بل في بلد آخر شهادة بواقعتين مختلفتين لا بواقعة واحدة، ولا بد للشهادة بكل واحد من الواقعتين من أربعة شهود حتى يقام الحد، كما هو متفق عليه، ولا يجوز أن يقام حد بشهادة أربعة شهود كل منهم قد رأى واقعة، غير التي رآها غيره من باقي الشهود، كما لا يخفى أن من جاء يشهد بواقعة زنا قد وقعت منذ سنة، ولم يمنعه مانع من الشهادة بها وقتها، يجب أن يستوضح، ويسأل عن سبب تأخره في الإدلاء بما رأى خصوصًا، وأن الشهادة بهذا تقام حسبة، وتأخيرها بلا سبب جوهري يورث شكًا في من جاء يشهد، وفي الوقائع التي يشهد بها، وعلى ذلك فما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع. 2- أن تكون الشهادة مفيدة لليقين بحيث لا يظهر ما يعارضها، ولو ظاهرًا: فإن ظهر ما يعارضها، ولو في الظاهر فإن الفقهاء قد رأوا في إثباتها للحد ما يأتي: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الشهادة إذا وجد ما يعارضها، ولو في الظاهر تصبح محلًا للشبهة، ولا تفيد اليقين والقطع، ولهذا فإنه لا يعول عليها في إثبات جناية من الجنايات الحدية، وقد أورد ابن الهمام في هذا قوله: "وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا، وهي بكر بأن نظر النساء إليها، فقلن: هي بكر درئ عنهما أن عن المشهود عليهما بالزنا، وعنهم أي، ويدرأ حد القذف عن المشهود"1. وقد وضح السرخسي هذ بقوله: "إن نظر إليها النساء قبل إقامة الحد، وقلن: هي عذراء أو رتقاء يدرأ عنها الحد؛ لأن الشبهة

_ 1 فتح القدير ج5 ص288.

تتمكن بقول النساء، ولا شبهة أبلغ من هذا، فمع الرتق لا يتصور الزنا الموجب للحد، وبعد الزنا الموجب للحد لا يتصور بقاء العذرة"1. كما يقول: "وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بهذه المرأة في موضع كذا في وقت كذا، وشهد أربعة أنه زنى بهذه المرأة الأخرى في ذلك الوقت بعينه في مكان آخر، والبينتان بينهما بعد لم يحد واحد منهم؛ لأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين، والشخصان في وقت واحد لا يتصور أن يكونا في مكانين مختلفين، ولا يعرف الصادق من الكاذب". "وإن شهد أربعة أنه زنى يوم النحر بمكة بفلانة، وشهد أربعة أنه قتل يوم النحر بالكوفة فلانا لم تقبل واحدة من الشهادتين، لتيقن القاضي بكذب أحد الفريقين، ولا حد على شهود الزنا لتكامل عددهم، وعلى هذا سائر الأحكام2. وما ذهب إليه فقهاء الأحناف هو ما قال به فقهاء الشافعية، والحنابلة والشيعة، وبعض فقهاء المالكية. فيقول الشربيني الخطيب: ولو شهد أربعة من الرجال بزناها، وأربع نسوة أو رجلان، كما قال البلقيني، أو رجل وامرأتان كما قاله غيره، أنها عذراء، لم تحد هي لشبهة بقاء العذرة، والحد يدرأ بالشبهات؛ لأن الظاهر من حالها أنها لم توطأ، ولا قاذفيها لقيام البينة بزناها، واحتمال عودة بكارتها لترك المبالغة في الافتضاض. قال البلقيني: هذا إذا لم تكن غوراء يمكن تغيب الحشفة مع بقاء البكارة، فإن كان كذلك حدث لثبوت الزنا، وعدم التنافي، "هذا

_ 1 المبسوط ج9 ص50. 2 المرجع السابق ص68، 69.

ما ذهب إليه فقهاء الشافعية، وأن كان منهم من قيد عدم حد قاذفيها بما إذا كان بين الشهادتين زمن بعيد يمكن العذرة فيه. فإن شهدوا أنها زنت الساعة، وشهدن بأنها عذراء، وجب حد الشهود؛ لأنهم قذفوها لقيام ما يخالف ما شهدوا به1، وإن كنت أرى عدم حدهم حد القذف؛ لأن الطب الشرعي قد ذهب إلى إمكان حدوث الإيلاج مع بقاء غشاء البكارة إذا كان من النوع الذي يطلقون عليه الغشاء الهلالي2، ولا حد عليها نظرًا لقيام ما يعارض ما شهد به الشهود، ولو في الظاهر، إذ الحدود تدرأ بالشبهات. ووافق فقهاء الحنابلة ما ذهب إليه الجمهور، إذ رأوا أنه لا حد على من شهد النساء ببكارتها، وكذا لا حد على من قامت البينة أنه مجبوب؛ لأن وجود مثل ذلك يعارض إمكان وقوع الجريمة الحدية. واكتفى فقهاء الحنابلة بوجود امرأة واحدة تشهد ببقاء العذرة، يقول ابن قدامة بعد عرضه آراء الفقهاء في ذلك: "ولنا أن البكارة تثبت بشهادة النساء، ووجودها يمنع من الزنا ظاهرًا.. وإذا انتفى الزنا لم يجب الحد، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنا مجبوب، وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال عددهم مع احتمال صدقهم.. ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة؛ لأن شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال3. وجاء عن فقهاء الشيعة: إذا شهد أربعة رجال على امرأة بكر بالزنا

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص151. 2 ذكر أستاذي الدكتور سلام مدكور، أنه قد درس ذلك في كتاب الطب الشرعي للدكتور محمد سليمان. 3 المغني ج8 ص208، 209، 62.

قبلا وأنكرت المرأة، وادعت أنها بكر، فشهدت أربع نسوة بأنها بكر، سقط عنها الحد. واستدلوا لذلك بما روي من أنه أتى أمير المؤمنين بامرأة بكر زعموا أنها زنت، فأمر النساء فنظرن إليها فقلن، هي عذراء، فقال: ما كنت لأخرب من عليها خاتم من الله، وفقهاء الشيعة لم يكتفوا بشهادة امرأة واحدة كما ذهب إليه فقهاء الحنابلة، وإنما اشترطوا لاعتبار ذلك شبهة، أن يشهد أربع نسوة ببكارتها. ولا حد أيضًا عندهم على من شهدوا على هذه المرأة بالزنا، لاكتمال عدد الشهود1. أما ابن حزم الذي لا يدرأ الحد بالشبهة، فإنه قد فصل القول فيمن شهد عليها أربعة بالزنا، ثم شهد أربع نسوة أنها عذراء، فقال: قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} 2. فواجب إذا كانت الشهادة عندنا -في ظاهرها حقًا، ولم يأت شيء يبطلها أن يحكم بها، وإذا صح عندنا أنها ليست حقا، ففرض علينا أن لا نحكم بها، إذ لا يحل الحكم بالباطل، هذا هو الحق الذي لا شك فيه. ثم نظرنا في الشهود لها أنها عذراء، فوجب أن يقرر النساء على صفة عذرتها، فإن قلن: إنها عذرة، يبطلها إيلاج الحشفة ولا بد، وأنه صفاق3 عند باب الفرج، فقد أيقنا بكذب الشهود، وأنهم وهموا فلا يحل إنفاذ الحكم بشهادتهم.

_ 1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص182-183. 2 من الآية 135 من سورة النساء. 3 الصفاق ج صفق: الجلد الأسفل دون الجلد الذي يسلخ، وثوب صفيق كثيف نسجه، والمراد أن غشاء البكارة لم يسلخ، المنجد مادة "صفيق".

وإن قلن: أنها عذرة واغلة في داخل الفرج، لا يبطلها إيلاج الحشفة، فقد أمكن صدق الشهود، إذ بإيلاج الحشفة يجب الحد، فيقام الحد عليها حينئذ؛ لأنه لم نتيقن كذب الشهود، ولا وهمهم. أما جمهور فقهاء المالكية، فإنهم قد ذهبوا إلى أن من شهد أربعة رجال بأنها زنت، فإنها تحد ولا تسقط عنها الحد إلا إذا شهد أربعة رجال أنها عذراء. أما لو قالت: هي أنها عذراء أو رتقاء، وشهد بهذا أربع نسوة، فإن الحد لا يسقط عنها. فقد جاء في المدونة، "قلت: أرأيت المرأة إذا شهد عليها بالزنا أربعة عدول، فقالت: أنها عذراء أو رتقاء، تريها للنساء في قول مالك أم لا؟ ". وكيف إذا نظر النساء، فقلن: هي عذراء أو رتقاء؟ قال: يقام عليها الحد ولا يلتفت إلى قولهن؛ لأن الحد قد وجب2، وقال الخرشي: "ولو ادعت المرأة بقاء بكارتها، أو أنها رتقاء، أو نظر إليها أربع نسوة وصدقناها على ذلك، فلا يسقط الحد المترتب عليها بشهادة البينة، ولم يقام على العذرة أربعة رجال لسقط الحد"3. وذهب اللخمي4 إلى القول بأن من شهد أربعة نسوة ببكارتها يسقط عنها الحد، كما لو شهد الرجال بذلك، وقال المانعون لإسقاط

_ 1 المحلى ج3 ص244-246. 2 المدونة ج16 ص50. 3 الخرشي ج8 ص81. 4 أو الحسن علي بن محمد الربعي، فقيه مالكي، قيرواني الأصل من أحسن مصنفاته، تعليق كبير على المدونة في فقه مالك سماه النصرة ت سنة 478هـ.

الحد، إن شهادة النساء أو الرجال على بقاء بكارتها صحيحة، ولكنها لا تسقط الحد؛ لأنها بكارة قد عادت، وهذا لا يتعارض مع إثبات زناها بشهادة الرجال ابتداء1. كما ذهب فقهاء المالكية إلى إلزام من ثبت عليه حد السرقة بعقوبة القطع، حتى ولو قال: إن صاحب المال هو الذي أرسله، وجاء صاحب المال، وصدقه في مقالته هذه ورد شهادة الشهود، وكذبهم. ما لم تكن مع السارق بينة على صدق مقالته، حتى ولو كانت هذه البينة هي القرينة المصاحبة لفعله بأن دخل من مداخل الناس، وخرج من مخاربهم، في وقت يشبه أن صاحب المال أرسل فيه، ذكر ذلك الخرشي في حديثه عن السرقة التي يلزم بها القطع، فقال: "وكذا يقطع السارق إذا أخذ في الليل المتاع المسروق، وقال: رب المتاع أرسلني لأخذه، فلا يصدق، ولو صدقه رب المتاع أنه أرسله". وهذا مشروط بعدم وجود دليل غير كلام صاحب المال، أما إذا وجد دليل يقوي مقالته سقط الحد عن السارق2، وما ذكره فقهاء المالكية هنا، وفي عدم إسقاط حد الزنا بشهادة النساء بالبكارة يحتاج إلى مناقشة. أما بالنسبة لعدم إسقاطهم الحد بوجود البكارة، واعتمادهم في ذلك على جواز أنها عادت بعد واقعة الزنا، فهو مردود؛ لأنه وإن أمكن عودة البكارة، فليس هناك دليل على ذهابها أصلًا سوى شهادة شهود الزنا، وهي شهادة احتملت الشبهة بوجود البكارة فعلًا. وليس عندنا ما يؤكد أن البكارة الموجودة هي بكارة، قد عادت بعد أن فضت.

_ 1 حاشية الدسوقي ج2 ص319. 2 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ص336.

واحتمال الشهادة للشبهة يجعلها غير صالحة لإثبات الحدود علمًا بأن فقهاء المالكية، قد أقروا وأثبتوا درء الحدود بالشبهات، كما أن محاولة قياس إيغال العذرة، أو عدم إيغالها أمر فيه عنت، وتكلف ثمرته افتضاح عرض وهتك ستر، وذها ولا شك يتنافى، ومقاصد الشريعة الإسلامية، التي تدعو إلى الستر، فمن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- كم أعرض بوجهه عمن جاء مقرًا على نفسه بجريمة حدية. وعلى هذا، فبقاء العذرة شبهة تدرأ الحد. أما لو أقر الرجل، والمرأة بواقعة الزنا، وكانا من أهل الإقرار الصحيح الذي يعتد به في إثبات الحدود، وأصروا على إقرارهما بالزنا لزمهما الحد حتى ولو قرر العدول أنة غشاء البكارة موجود؛ لأن اقرار العدول، وشهادتهم لا مبرر لوجودها أصلًا، فلا يلتفت إليها ما دام من أقرا بالواقعة مصرين على إقرارهما. أما عدم إسقاط المالكية عقوبة القطع بقول صاحب المال: أنه هو الذي أرسل من أخذ المال، وعدم اعتبارهم لهذا القول -نظرًا؛ لأن السارق في رأيهم- قد دخل البيت من طريق غير معهود، أو في وقت غير مناسب- فهو قول ليس له من سند يقويه، أو دليل يدل عليه. إن إقرار صاحب المال بذلك بينة يقينية يجب ألا تترك لمجرد افتراض واه. كما أن قول صاحب المال، وإن لم يكن بينة يقينية -على سبيل الفرض، فهو يورث شبهة في حق آخذ المال، وهي شبهة يسقط عنه الحد بسببها. أما آخذ المال، وإن أخطأ ودخل الدار من مدخل غير مناسب، أو في وقت غير مناسب، فهذ الخطأ -جدلًا- لا يترتب عليه إلزام حد

من الحدود، التي لا تقام إلا باليقين، وحتى من لم يثبتوا درء الحد بالشبهة من فقهاء الظاهرة، قد رأوا أن الحدود لا تثبت بالشبهة. فما بال من أثبت درء الحد بالشبهة يقيم الحد بالشبهة، ولا يدرأه مع وجودهما؟. 3 يشترط فقهاء الأحناف أن تكون الشهادة بالجناية الحدية عقب وقوع الجناية من الجاني، ولا يمر وقت فاصل بين وقوع الجناية، وآداء الشهادة بها يعد تقادمًا1. وقد تقدم بيان هذا عند الحديث عن الإقرار. أما جمهور الفقهاء، فإنهم لا يرون هذا الشرط، ويقبلون الشهادة بالحدود القديمة، ويحكمون بمقتضاها الحدية المقررة للجناية التي ارتكبها الجاني. فقد جاء في المدونة: "قلت: أرأيت إن تقادمت السرقة، فشهدوا عليها بعد حين من الزمان، أيقطع في قول مالك أم لا؟ قال: نعم يقطع عند مالك، وأن تقادمت، قلت: وكذلك الحدود كلها، شرب الخمر والزنا؟ قال: نعم لا يبطل الحد في شيء مما ذكرت لك، وإن تقادم ذلك تطاول الزمان2. كما جاء عن فقهاء الشافعية أنه لا يشترط جباة الشهود، ولا حضورهم حالة الحكم، ولا قرب عهد الزنا، فتقبل الشهادة به، وأن تطاول الزمان3.

_ 1 تبين الحقائق ج3 ص187، الإفصاح عن معاني الصحاح ج2 ص419 فتح القدير ج5 ص279، البحر الرائق ج5 ص22. 2 المدونة ج16 ص67، 68. 3 مغني المحتاج ج4 ص151.

وقال ابن قدامة مبينًا رأي جمهور فقهاء الحنابلة: "وأن شهدوا بزنا قديم، أو أقر به وجب الحد". واستدل لذلك بعموم الآيات، وأنه حق يقبت على الفور، فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق، وبأن التأخير يجوز أن يكون لعذر، أو غيبة والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال، فإنه لو سقط بكل احتمال لم يجب الحد أصلًا1. من هذا يبين أن جمهور الفقهاء لم يوافقوا على ما اشترطه فقهاء الأحناف. ورأي فقهاء الجمهور أن الحدود تثبت بالشهادة، وإن تقادمت هذه الحدود. واستدل فقهاء الجمهور لذلك بأدلة منها: أن الفقهاء عدا ابن أبي ليلى يرون قبل الإقرار بالجنايات الحدية القديمة، والحكم بمقتضاه بعقوبة هذه الجنايات، والإقرار والشهادة كلاهما وسيلة إثبات في الحدود، فلم يقبل الإقرار فيما تقادم من حدود وترد الشهادة، علمًا بأنه اشترط في الشهود العدالة، فما دام لم تحقق هذا الشرط قبلت الشهادة واعتد بها، وإن انتفت عدالة الشهود، فهذا أمر آخر غير التأخير. كما أنه لا يخفى أن فقهاء الأحناف يرون قبول الشهادة بما وقع على حقوق العباد من جنايات حدية قديمة، فلم إذا ردوها في ما وقع الاعتداء فيه على حق الله؟. إن كون حق الله سبحانه وتعالى مبني على المسامحة، لا تنهض به حجة لهم على رد الشهادة، فيما تقادم منه.

_ 1 المغني ج8 ص207.

"شروط لا بد من توافره، فيمن يشهد عليه بحد من الحدود": ما سبق من شروط كان موضوعها الشاهد والشهادة، أما هذا الشرط، فإنه خاص بالمشهود عليه. وقد ذهب فقهاء الأحناف إلى أنه لا بد لإثبات الحد بشهادة الشهود أن يكون المشهود عليه قادرًا على الدفاع عنه نفسه، مستطيعًا ذكر ما قد يكون له من الأدلة التي تنفي عنه، أو تسقط عقوبتها، أو تغايرها من عقوبة حدية إلى غيرها. فإن كان عاجزًا عن الدفاع عن نفسه بسبب علة من العلل، كأن أصيب بجنون مثلًا، أو كان أخرس فإنه حينئذ يصبح عاجزًا عن ذكر ما يدرأ عنه العقوبة، وعليه فإنه إن كان مجنونا، وجب الانتظار حتى يفيق، ويسأل عما شهد به الشهود عليه. فإن استمر جنونه حتى مات، سقط عنه الحد بموته، أما الأخرس فإنه لا يلزمه حد بشهادة الشهود عليه لجواز أن له ما لو ذكره لدرئ عنه الحد، ولكنه -بسبب علته هذه لا يستطيع ذكر ذلك. أما الإمام الشافعي، فإنه لا يرى ذلك بالنسبة للأخرس، وقاسه بالأعمى، أو بقاطع اليدين، أو الرجلين، فجعل علته كعلتهما، وألزمه الحد بشهادة الشهود مع علته مثلهم، واحتمل كلام الخرقي1، ما ذكره الشافعي من إلزام الأخرس بشهادة الشهود عليه به، لكنه علل هذا بأن قول المشهود عليه معتبر مع قيام البينة عليه بجناية من الجنايات.

_ 1 الخرقي: هو أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله، أحمد الخرقي فقيه حنبلي، من أهل بغداد له تصانيف منها المختصر في الفقه، توفيى بدمشق سنة 334هـ.

ذكر هذا ابن قدامة عند حديثه عن وجوب الحد على الأخرس بإقراره، أو بالبينة فقال: ولا يجب بالبينة لاحتمال أن يكون له شبهة، ويحتمل كلام الخرقي أن لا يجب الحد بإقراره؛ لأنه غير صحيح؛ ولأن الحد لا يجب مع الشبهة، والإشارة لا تنتفي معها الشبهات، فأما البينة فيجب عليه بها الحد؛ لأن قوله معها غير معتبر1، وجملة القول أن الإمام الشافعي يرى إلزام الأخرس بما قامت البينة به من الجنايات الحدية قياسًا للأخرس بالأعمى، والأقطع. أما الخرقي فإنه يرى أن البينة التي تقوم بحد من الحدود لا عبرة بما يقال من المشهود في دفع الحد عن نفسه، فقيام البينة يدفع قول المتهم، ويلزمه الحد. وما ذهب إليه الإمام الشافعي من قياس الأخرس بالأعمى، والأقطع قياس غير منضبط إذ أن الأعمى، والأقطع بإمكان كل منهما أن يرد الحد عن نفسه، إذا كانت له حجة، أو شبهة لوجود آلة الكلام صحيحة لديهما، وإمكان سؤالهما ومراجعتهما، وذلك هو طريق الدفع عن النفس، وذكر الشبهة أن وجدت. والأخرس فاقد لذلك، وعاجز عن بيان حقيقة فعله وملابسته. ثم إن قول الخرقي: أن قول المشهود عليه لا عبرة له مع البينة قول بحاجة إلى بيان؛ لأن المشهود عليه يجوز أن يكون له ما يدفع عنه العقوبة، وقد خفي هذا عن المشهود، فهلا إذا ذكره وبينه لا يلتفت إليه؟ إن فيما سبق من كلام فقهاء الحنابلة في الشبهة ما يرد قول الخرقي، وينفيه ويؤكد أن للمشهود عليه أن يقول ما شاء مما يدفع عنه العقوبة، وأن على القاضي أن يسمع له، وينظر في مقالته، أما فقهاء

_ 1 المغني ج8 ص196.

الأحناف، فقد استدلوا لما ذهبوا إليه من إسقاط الحد عن الأخرس، والمجنون بأن كلا منهما ربما تكون له شبهة تدرء عنه الحد، وليس في إمكانهما ذكرها لعلة كل منهما، فيقول السرخسي: ولا يؤخذ الأخرس بحد الزنا، ولا بشيء من الحدود. وإن أقر بإشارة أو كتابة، أو شهدت به عليه الشهود، وعند الشافعي رحمة الله عليه تعالى يؤخذ بذلك؛ لأنه نفس مخاطبة فهو كالأعمى، أو أقطع اليدين أو الرجلين.. إلى أن يقول: وكذلك أن شهدت الشهود عليه بذلك؛ لأنه لو كان ناطقًا ربما يدعى شبهة تدرء الحد، وليس كل ما يكون في نفسه على إظهاره بالإشارة، فلو أقمنا عليه كان إقامة الحد مع تمكن الشبهة، ولا يوجد مثله في الأعمى، والأقطع لتمكنه من إظهاره دعوى الشبهة. والذي يجن ويفيق في حال إقامته كغيره من الأصحاء، يلزمه الحد بالزنا في هذه الحالة سواء أقر به، أو شهد عليه الشهود1. كما يقول ابن الهمام في حديثه عن إقرار الأخرس: لو أقر الأخرس بالزنا بكتابة، أو بإشارة لا يحد للشبهة بعد الصراحة، وكذا الشهادة عليه لا تقبل لاحتمال أن يدعي شبهة، كما لو شهدوا على مجنون أنه زنى في حال إفاقته، بخلاف الأعمى صح إقراره، والشهادة عليه2. هذا ما ذكره فقهاء الأحناف في إيجاب الحد على الأخرس بشهادة الشهود، وقد تقدم في الحديث عن إقرار الأخرس إن اختررت قبول إقراره في الحدود، والحكم بعقوباتها إن كان قادرًا على الكتابة، وسأله الإمام عن كل ما يمكن أن يكون من شبهة مسقطة للحد عنه بأن كتب

_ 1 المبسوط ج9 ص98. 2 فتح القدير ج5 ص218.

له الإمام ذلك، فقرأه الأخرس، وأجاب عليه كتابة بما يفيد اليقين بأنه ارتكب الجناية الحدية. ومثل ذلك هنا أيضًا في إيجاب على الأخرس بشهادة الشهود في حالة ما إذا كان قارئًا، وكاتبًا واستفسر منه الإمام عن كل ما يدفع الحد عنه، فلم يجب بشيء يدفع هذا الحد. أما لو كتب للقاضي بشبهة من الشبه، فإن على القاضي تحقيق الأمر، واعتبار ما ذكره الأخرس كتابة، فإن كان يسقط الحد عنه أسقطه القاضي، وإن كان يدرء الحد فقط، ويرى القاضي عقابه تعزيريًا عاقبه بعقوبة تعزيرية؛ لأن الأخرس والحالة هذه قد أصبح لديه ما يمكنه من توضيح موقفه، والدفاع عن نفسه.

المبحث الثالث: القرائن: معناهاـ واعمالها في إثبات الحدود

المبحث الثالث: القرائن: معناها، وأعمالها في إثبات الحدود معنى القرائن: القرائن مفردها قرينة، مأخوذة من المقارنة بمعنى المصاحبة، ويراد بها ما يدل على الشيء ويوصل إليه، من قرن الشيء بالشيء يقرنه قرنًا شده به، ووصله إليه1. والقرينة في اصطلاح الفقهاء هي: الأمر الذي يشير إلى المطلوب2. وعند القانونيين هي: الصلة الضرورية التي ينشئها القانون بين وقائع معينة. أو هي نتيجة يتحتم على القاضي أن يستخلصها من وقائع معينة ليأخذ بها3.

_ 1 لسان العرب، القاموس المحيط. 2 التعريفات للجرجاني، علي ين محمد الحسيني الجرجاني سة 816هـ. 3 طرق الإثبات في الشريعة أ. د: أحمد إبراهيم ص424 "ط المطبعة السلفية سنة 1347هـ".

أعمالها في الإثبات

أعمالها في الإثبات: أمعمل فقهاء الشريعة القرائن في الإثبات، وألزموا من قامت القرائن تدلل على جنايته، بالعقوبات التعزيرية، والتعويضات المالية. ووافقهم في هذا فقهاء القانون الذين يرون أن دلالة القرائن دلالة غير مباشرة كدلالة الشهادة والإقرار، إلا أنهم لم يرفعوها من حيث الدلالة إلى مرتبة الشهادة والإقرار، ولا من حيث الأخذ بها، والحكم بمقتضاها، إذ لا يحكم بمقضتاها بعقوبة مساوية لعقوبة الجرائم، ذاتها إذا ثبتت بالشهادة والإقرار. فالأحداث كثيرًا ما تظهر كذب ظواهر الأمور، وتدل على خطأ الإنسان في كثير من استنتاجاته التي اعتمد فيها على الأمور الظاهرية1، أما أعمال القرائن في إثبات الجرائم الحدية، فإن لفقهاء الشريعة في ذلك رأيين: الأول: وبه يقول جمهور الفقهاء عدن إعمالها في إثبات الحدود؛ لأن الإثبات بها لا يصل حد اليقين الدال على أن من قامت القرائن تدينه هو فعلًا ارتكب جناية حدية، تلزمه بها عقوبتها المقدرة. واستدل جمهور الفقهاء لما ذهبوا بأدلة كثيرة منها ما يأتي: 1 عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها" 2. يقول الشوكاني: "أنه لا يجب الحد بالتهم، ولا شك أن إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به، وهو قبيح عقلًا وشرعًا، فلا يجوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص، وما أشبه ذلك بعد

_ 1 المرجع السابق ص424. 2 رواه ابن ماجه، رجاله ثقات رجال الصحيح، نيل الأوطار ج7 ص117.

حصول اليقين؛ لأن مجرد الحدس والتهمة، والشك مظنة للخطأ، والغلط وما كان كذلك، فلا يستباح به تأليم المسلم، وإضراره بلا خلاف"1. 2 روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه حين رمى هلال بن أمية زوجته بالزنا ولاعنها: "أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سمحاء"، فجاءت به كذلك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مضى من كتاب الله لي ولها شأن" 2. 3 لم يقض رسول الله -صلى الله عليه وسلم بحد الزنا على الغامدية، إلا بعد أن أقرت أمامه، مع أنها كانت حاملًا، والحمل قرينة تدل على ما سبقها، فلو كانت تكفي القرينة وحدها، أو حتى مع إقرار الشريك في الجريمة لاكتفى بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقضى على الغامدية بالحد، ولكنه لم يقض حتى جاءت، وطلبت أن يطهرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإقامة الحد عليها، فقال لها: "ويحك: ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فأصرت على إقرارها3، ولو لم تصر على إقرارها لما ألزامها الحد مع وضوح حالتها، وظهور حملها، وهو قرينة دالة على فعلتها، لهذا قال فقهاء الأحناف والشافعية والحنابلة، والشيعة بأنه يجوز إثبات الجرائم بالقرائن.

_ 1 المرجع السابق. 2 الأكحل من كانت منابت أجفانه سوداء كان فيها كحلًا، سابغ الإليتين، عظيمهما، خدلج الساقين: ممتلئ الساقين، نيل الأوطار ج6 ص306 ج7 ص117، فتح الباري على صحيح البخاري ج8 ص363. 3 نيل الأوطار ج7 ص125-128، سنن أبي داود ج2 ص456-462.

فقد جاء في قول ابن الهمام: "ولا حد على من وجد به ريح الخمر، أو تقيأها؛ لأن الرائحة محتملة، فلا يثبت بالاحتمال ما يندرئ بالشبهات، وكذا الشرب قد يكون عن إكراه، فوجود عينها في القيء لا يدل على الطواعية، فلو وجب الحد وجب بلا موجب، إلى أن يقول: أما عدم وجوب الحد بوجود الرائحة والتقيؤ فظاهر، وطريقه أنه لو ثبت الحد لكان مع شبهة عدمه؛ لأن الرائحة محتملة، وإن استدل عليها، فإن فيها مع الدليل شبهة، فلا يثبت الحد معها"1. كما أورد الشربيني الخطيب أن عمر -رضي الله تعالى عنه، وعلي معه قد أسقطا الحد عن امرأة أتى بها إليهما، وأقيمت عليها البينة بالزنا، وأقرت لكنها ذكرت جهدها العطش، ولم يسقها الراعي إلا بتمكينه من نفسها، واعتبر هذا إكراها لها. فإذا كان الإكراه قد أسقط الحد مع قيام البينة، والإقرار وهما أقوى طرق الإثبات، فالأولى أن يسقط احتمال الإكراه الحد الذي تدل عليه القرائن، ومن المعروف أن الاحتمال يسقط به الاستدلال، كما أورد أيضًا أن الحد لا يجب بريح الخمر، أو السكر أو القيء الدال على شرب الخمر: لاحتمال أن يكون قد شربها غلطًا، أو مكرها والحد يدرء بالشبهة. كما أورد أن القاضي لا يجوز له أن يستوفي في الحد بعلمه على الرأي الصحيح، وقد يكون سبب علم القاضي، وجود قرينة من القرائن الدالة2، وهذا ما ذهب إليه فقهاء الحنابلة، فيما ذكره ابن قدامة

_ 1 فتح القدير ج5 ص308-309. 2 مغني المحتاج ج4 ص145، 190، المهذب ج267، 319-320.

واستدل لذلك بأدلة ما جاء في قوله، ولنا قول الله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} ، وقال تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، وقال عمر: وكان الحبل أو الاعتراف؛ ولأنه لا يجوز له أن يتكلم به، ولو رماه بما علمه منه لكان قاذفًا يلزمه حد القذف، فلم تجز إقامة الحد به كقول غيره؛ ولأنه إذا حرم النطق به، فالعمل به أولى1. ويقول ابن قدامة: وإذا حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد، لم يلزمها الحد بذلك وتسأل، فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة، أو لم تعترف بالزنا لم تحد ... إلى أن يقول: ولنا: أنه يحتمل أنه من وطء إكراه، أو شبهة والحد يسقط بالشبهات. وقد قيل: إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها، إما بفعلها أو بفعل غيرها، ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك2. وجاء عن فقهاء الشيعة في قولهم: إذا حملت المرأة، وليس لها بعل لم تحد لاحتمال أن يكون الحمل بسبب آخر دون الوطء، أوبالوطء شبهة، أو إكراه أو نحو ذلك، وعللوا إسقاط الحد أيضًا بقولهم: ومع احتمال أن يكون الحمل بسبب آخر غير الزنا، لا يثبت الحد3. أما ابن حزم، فمع أنه لا يرى درء الحد بالشبهة، كما سبق إلا أنه لا يرى أيضًا أن تقام الحدود بشبهة، وقد جاء هذا صراحة في قوله: وذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرء بشبهة، ولا أن تقام

_ 1 المغني ج8 ص210. 2 المغني ج8 ص210-211. 3 مباني تكلمة المنهاج ج1 ص187.

بشبهة، وإنما هو الحق لله تعالى ولا مزيد، فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة1. كما قرر ابن حزم أن الحد لا يقام على شارب الخمر إن أكره على شربها، أو اضطر إليها لعطش، أو علاج أو لدفع ضيق، أو جهلها2، ومن هذا يبين أن من تقيأها، أو شمت رائحتها من فيه لا تكفي هذه القرينة في إقامة الحد عليه لجواز أن يكون لسبب من الأسباب المذكورة. هذا هو رأي جمهور الفقهاء، الذي يقرر عدم إثبات حد من الحدود بقرينة من القرائن؛ لأن القرينة لا تفيد إثبات الفعل المؤثم بالطريق الذي يجرمه الشرع، كما أنها دليل لا يخلو عن شبهة، والحدود كما تدرء بالشبهات، فإنها لا تثبت مع وجودها، ولا بدليل يحتملها، ولا يفيد القطع واليقين. الرأي الثاني: إعمال القرائن في إثبات الحدود؛ لأن القرائن عند أصحاب هذا الرأي أقوى من البينة، والإقرار إذ أنهما خبران يتطرق إليهما الصدق، والكذب، أما القرينة عندهم فهي دلالة صادقة، ولا يتطرق إليها احتمال الكذب، أو الشبهة في الغالب. هذا ما ذهب إليه الإمام مالك، وابن قيم الجوزية، واستدل للاعتداد بالقرائن والحكم بمقتضاها بأدلة منها: 1 قول الشاهد الذي ذكر الله شهادته، ولم ينكر عليه، ولم يعبه بل حكاها مقررًا لها، فقال تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي

_ 1 المحلى ج23 ص61. 2 يراجع المحلى ج13 ص429.

وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} 1. فتوصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب، وهذا لوث في أحد المتنازعين، يبين به أولاهما بالحق2. 2 حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بموجب اللوث في القسامة، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينًا، ويستحقن دم القتيل3. 3 ما روه ابن عباس عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- من أنه قال: إن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف4. يقول ابن القيم: هذا حكم عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه، والصحابة معه برجم المرأة التي ظهر بها الحبل، ولا زوج لها ولا سيد، وذهب إليه مالك وأحمد في أصح روايته -اعتمادًا على القرينة

_ 1 الآيات من 25-28 من سورة يوسف عليه السلام. 2 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية ص7 "ط المدني بالقاهرة". 3 ذكر ابن حزم أن سليمان بن يسار -مولى ميمونة أم المؤمنين، -رضي الله عنها- روي عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما كانت عليه، وقضى بها بين أناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر -المحلى ج12 ص461، يرجع في هذا الطرق الحكمية ص8، وفي اعتبار شرع من قبلنا دليلًا يراجع أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص122. 4 هذا القول رواه الجماعة، إلا النسائي نيل الأوطار ج7 ص118.

الحد برائحة الخمر من فم الرجل، أو فيئه خمرًا، اعتمادًا على القرينة الظاهرة. وحكم عمرو ابن مسعود -ولا يعرف لهما مخالف- بوجوب الظاهرة1. بهذا استدل القائلون بالاعتداء بالقرائن في إثبات الجنايات الحدية، وأوجبوا بناء على ذلك الحكم بالعقوبة الحدية، على ما دلت القرائن على ارتكابه جناية من جناياتها. فالإمام مالك قد رأى أن من قامت القرائن على إدانته بجناية حدية لا يقبل إنكاره، ولا يسقط به لحد عنه ما لم يقم دليل يشهد له بما يدفع الحد عنه، فإن لم يقم الدليل على براءته، أو أنه أكره على الفعل الذي قامت القرينة تدل عليه لزمته العقوبة، يقول الخرشي مؤكدًا ذلك: أن المرأة إذا ظهر حملها، ولا يعرف لها زوج، أو كانت أمة ولا سيد لها، أو لها سيد وهو منكر لوطئها فإنها تحد، ولا يقبل دعواها الغصب على ذلك بلا قرينة تشهد لها بذاك، وأما إن قامت لها قرينة فلا حد عليها، كما إذا جاءت تدمي وهي مستغيثة عند النازلة، أو أتت متعلقة به على ما مر بيانه عند قوله: وإن دعت استكراها على لائق بلا تعلق2. كما يقرر ابن قيم أن عدم الاعتداد بالقرائن يترتب عليه إضاعة كثير من الحقوق، فيقول: "فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال ومعرفة شواهده الحالية، والمقلية، كفقهه في كليات الأحكام، أضاع حقوقًا كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعمل الناس بطلانه لا يشكون فيه، اعتمادًا منه على نوع ظاهر، ولم يلتفت إلى باطنه، وقرائن أحواله"3.

_ 1 الطرق الحكمية ص8. 2 الخرشي ج8 ص81. 3 الطرق الحكمية ص4-5.

ثم يضرب مثالًا لما ذهب إليه، بقوله: "وهل يشك أحد رأى قتيلًا يتشحط في دمه، وآخر قائم على رأسه بالسكين: أنه قتله؟ ولا سيما إذا عرف بعداوته، ولهذا جوز جمهور العلماء لولي القتيل أن يحلف خمسين يمينًا: أن ذلك الرجل قتله، ثم قال مالك وأحمد: يقتل به. وقال الشافعي: يقضي عليه بديته"1. هذه مقالة من يرى الاعتداد بالقرائن في إثبات الجرائم الحدية، وجرائم القصاص، وإلزام عقوبتها. لكنها مقالة لا تصل في قوتها ما ذكره جمهور الفقهاء من أدلة نقلية، وعقلية وافقت ما سبق أن اتفق جمهور الفقهاء عليه، ومنهم المالكية من درء الحد بالشبة، ومن أن الأصل براءة الذمة. أما ما استدل به ابن قيم ومن وافقه ممن يعملون القرائن في إثبات الحدود، فهو يحتاج إلى إعادة نظر. فما ذكر من الاستدلال بما جاء من قصة يوسف عليه السلام، أمر لا جدال فيه، والقرائن بينة، ومع هذا لا دليل فيه على إثبات حد؛ لأن الاستدلال في هذا بالقرائن أنتج دفع التهمة عن يوسف عليه السلام، وأثبت براءته التي هي الأصل، إذ الأصل براءة الذمة لا يعدل عنه إلا بدليل يقيني. فالقرينة هنا اعتد بها أنها دليل نفي، وليس على أنها دليل إثبات أما ما استدل به على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حكم بموجب اللوث، وطالب المدعين أن يحلفوا خمسين يمنيًا، ويستحفوا رجم القتيل

_ 1 الطرق الحكمية ص8-9.

فإنه قد جاء عن الجمهور ما يدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حكم لهم بالدية، ولم يقتص لقتيلهم. وما رواه ابن عباس عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنهم- يمكن حمله على أن كلمة "أو"، التي جاءت بعد كلمة الحبل، وقبل كلمة الاعتراف في قوله: أو كان الحبل أو الاعتراف، يمكن أن تحمل على أنها عاطفة، ويكون قول عمر على هذا: أو كان الحبل والاعتراف. هذا لا يعارض قواعد العربية، ويؤيده ما جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- من أنه لم يقم الحد على من جاء معترفًا؛ لأنه أتى جريمته الحدية، وهو مكره. والقرينة إذا دلت على الجريمة، فإنها لا تدل على الطريقة التي وقعت بها، ولا الظروف التي أحاطتها، وهذه كلها أمور جوهرية لا بد من التثبت منها لإلزام الحد. وحتى لو حمل قول عمر على الوجه الذي استدل به مثبتوا الحد بالقرائن، فإنه لا يعدو أن يكون اجتهادًا لعمر في هذه الحادثة بعينها لم عن له من ظروف، وملابسات، وأدلة أخرى لم يروها عنه من روى هذه الحادثة، ويؤكد ذلك أن عمر يلتزم بما قضى به هنا، إن صح -في كل ما عرض عليه من قضايا- الحدود. وقد ذكر جانبًا من هذا الشوكاني في مقالته: إن هذا من قول عمر، ومثل ذلك لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس، وكونه قاله في مجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه لا يستلزم أن يكون إجماعًا.. لأن الإنكار في مسائل الاجتهاد غير لازم

للمخالف لا سيما القائل بذلك عمر، وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة وغيرهم1. وما استدل به ابن القيم من أن لفظ البينة يصدق على كل ما يبين الحق، ويظهره دون تخصيص شيء دون شيء لا حجة له فيه، ولا يلزم منه إثبات الحدود بالقرائن؛ لأن الله سبحاه وتعالى لم يذكر كلمة البينة التي تثبت بها الحدود مطلقة، كما أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد اتبع كلمة البينة التي يعتد بها في إثبات الحدود، بما يفيد ما تصدق عليه بأنها الشهادة، والإقرار المفيدان القطع واليقين، فقد جاء ذكر البينة في الحديث مقابلًا بما ظهر من تلك المرأة من ريبة، وقرائن مختلفة دالة على سلوكها، وسمعتها هي ومن يدخل عليها. ومع قيام كل هذه القرائن لهم يقم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على المرأة المذكورة حدًا. ولم يلزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغامدية الحد مع قيام القرائن على جريمتها -من كونها حبلى، واعترف ماعز- إلا بعد مجيئها واعترافها، ومع ذلك يقول لها الصادق الأمين الرءوف الرحيم: "ويحك: ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه". ويطعن فيما ذكر ابن القيم من أنه لا شك أحد رأى قتيلًا يتشحط في دمه، وآخر قائم على رأسه بالسكين أنه قتله، ما ذكره هو نفسه من قصة الأعرابي الذي أتى به لعلي -رضي الله عنه، وبيده سكين ملطخة بالدم، وقد وجد في خربه، وأمامه قتيل يتشحط في دمه، فسأله علي فقال: أنا قتلته، ومع هذا كله تثبت براءته2.

_ 1 نيل الأوطار: ج7 ص119. 2 الطرق الحكمية ص82-83.

من هذا كله يبين أن القرائن مهما وصلت قوتها الاستدلالية في أداة إثبات احتمالية تلحقها الشبهات وتحفها الظنون، فلا يعتد بها في الجنايات الحدية، والقصاص إلا إذ صاحبتها شهادة الشهود، أو إقرار. أما ما عدا ذلك من الجنايات الأخرى ذات العقوبات التعزيرية، أو التعويضات المالية، فإنه يمكن الاعتماد على القرائن في إثباتها. لأن أمرها مفوض فيه للقاضي، وهذا ما أميل إليه وأرجحه.

الباب الثاني: الجرائم الحدية الشبهات التي تعتريها ومالها من أثر في عقوبتها

الباب الثاني: الجرائم الحدية الشبهات التي تعتريها ومالها من أثر في عقوبتها الفصل الأول: جريمة الزنا مدخل ... الباب الثاني: الجرائم الحدية الشبهات التي تعتريها ومالها من أثر في عقوبتها الفصل الأول: جريمة الزنا تقديم: عرف فقهاء الأحناف الزنا بأنه: "اسم الوطء الحرام في المرأة الحية عن حقيقة الملك وعن شبهته، وعن حق الملك، وعن حقيقة النكاح وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك، والنكاح جميعًا"1. وعرفه فقهاء المالكية بأنه: "الوطء المحرم شرعًا في غير ملك أو شبهة الملك، سواء كان في قبل، أو دبر في ذكر، أو أنثى"2.

_ 1 تعريف فقهاء الأحناف للزنى، يخرج عن دائرة هذه الجريمة الحدية ما يأتي: أ- الوطء في الدبر بصفة عامة سواء أكان دبر رجل، أو امرأة. ب- وطء الميتة. ج- المكرهة بالنسبة لها -أما بالنسبة لمن وقع عليها، فإن كان مكرهًا هو الآخر، فليس بزنا كما سيأتي الخلاف فيه. د- الوطء في دار الحرب. هـ- الوطء في دار الإسلام من غير المسلم، وسيأتي بيان القول في ذلك كله، البدئاع ج9 ص4150 "ط الإمام" المبسوط ج9 ص38، فتح القدير ج5 ص248. 2 أحكام القرآن لابن العربي ج2 ص83 "ط دار إحياء الكتب العربية" سنة1378هـ سنة 1958م بداية المجتهد لابن رشد ج2 ص467، الزخيرة للقرافي ج8 ص114 الخرشي ج8 ص75.

وعرفه فقهاء الشافعية: بأنه "تغييب البالغ العاقل حشفة ذكره في أحد الفرجين من قبل، أو دبر ممن لا عصمة بينهما ولا شبهة"1. وعرفه فقهاء الحنابلة: بأنه "فعل الفاحشة في قبل أو دبر"، وعرف ابن قدامة الزاني بأنه: "من وطئ امرأة في قبلها حرامًا لا شبهة له في وطئها"، ثم يقول: "والوطء في الدبر مثله في كونه زنا؛ لأنه وطء في فرج امرأة لا ملك له فيها، ولا شبه ملك فكان زنا"2. وعرفه فقهاء الشيعة: بأنه "إيلاج الإنسان فرجه في فرج امرأة من غير عقد، ولا ملك، ويتحقق بغيبوبة الحشفة قبلًا أو دبرًا"3. وعرفه ابن حزم بأنه: "وطء من لا يحل النظر إلى مجردها مع العلم بالتحريم"، أو بأنه "وطء محرمة العين"4. من هذا يبين أن فقهاء الأحناف قد قصروا إطلاق الزنا على الوطء المحرم في القبل فقط بين الرجل، والمرأة في دار العدل ممن التزم أحكام الإسلام، وهي امرأة لا توجد بينه وبينها علاقة تبيح ذلك الفعل. وهم بذلك قد أخرجوا ما عدا الوطء في القبل من دائرة التجريم الخاصة بالزنا، وجعلوا له عقوبة أخرى سواء أكان بين رجل وامرأة، أم كان بين رجلين.

_ 1 المهذب ج2 ص266، مغني المحتاج ج4 ص143-144. 2 المغني ج8 ص181، الإقناع ج4 ص250. 3 المختصر النافع للحلى ص291، مباني تكملة المنهاج ج1 ص166 شرح الأزهار ج4 ص366. 4 المحلى ج13 ص188-189.

أما جمهور الفقهاء، فإنهم قد أطلقوا الزنا على كل وطء في قبل المرأة، أو دبرها إذا لم توجد علاقة تبيح ذلك الفعل. كما أدخلوا اللوط أيضًا تحت ما يسمى من الوطء زنا. وقد اعتمد جمهور الفقهاء في ذلك على ما جاء به القرآن الكريم، الذي سوى بين الزنا واللواط في التسمية، إذا سماها الله سبحانه وتعالى بالفاحشة في قوله سبحانه: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 1، وقوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} 2. كما سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيضًا اللواط زنا في قوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" 3. وفقهاء الشريعة، وإن تفاوت آراؤهم، واختلفت نوعية العقوبات عندهم نتيجة اعتبار اللواط زنا أم لا، إلا أنهم متفقون على إطلاق كلمة الزنا على الوطء -المحرم بين الرجل والمرأة اللذين لا يجمعهما زواج صحيح، ويوبجبون عليهما عقوبة فعلهما. أما فقهاء القانون، فلم يعتبرا وطء الرجل المرأة الأجنبية زنا يوجب العقوبة المقدرة عندهم لهذا الفعل، وإنما قصروا العقوبة على ما يقع من ذلك الفعل بين رجل وامرأة متزوجين، فالعقاب عندهم على انتهاك حرمة الزوجية، لا على الفعل في حد ذاته.

_ 1 من الآية 15 من سورة النساء. 2 الآيتان 54، 55 من سورة النمل. 3 نيل الأوطار ج7 ص131-132.

كما أن العقاب عندهم مشروط بأن يقوم المجني عليه بتحريك الدعوى، ويفرق فقهاء القانون بين جريمة زنا الزوج، وبين جريمة زنا الزوجة، من وجوه عدة إذ -لا نقوم هذه الجريمة في حق الزوج إلا إذا وقعت في منزل الزوجية، بخلاف المرأة المتزوجة؛ لأن هذه الجريمة تقوم في حقها إذا وقع منها ذلك الفعل في أي مكان. كما يفرق القانون بين عقوبتيهما، إذ يعاقب الزوجة بالحبس مدة لا تزيد عن سنتين، بينما يعاقب الزوج بالحبس مدة لا تزيد على ستة شهور. ويجعل القانون للزوج الحق في العفو عن زوجته حتى بعد صدور الحكم النهائي عليها، أما الزوجة فليس لها حق التنازل بعد صدور الحكم النهائي عليه. هذا ما يأخذ به القانونيون في مصر، وهو أحسن حالًا مما عليه كثير من القانونيين في بلاد أخرى، والتي لا تعاقب على الزنا، ولو وقع من زوج، أو زوجة1.

_ 1 شرح قانون العقوبات القسم الخاص أ. د: محمود مصطفى ص334-342 "ط سنة 1975م".

المبحث الأول: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة في الركن الشرعي

المبحث الأول: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة في الركن الشرعي مدخل ... المبحث الأول: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة في الركن الشرعي سبق أن ذكرت عند تعريف الزنا أن جمهور الفقهاء يرى أن الزنا هو الوطء المحرم في قبل، أو دبر -لانعدام العلاقة التي تبيح الفعل- كما يولج الميل في المكحلة أو الرشاء في البئر، سواء أصحاب ذلك إنزال أم لم يصاحبه، وجد حائل بين الفرجين أم لم يوجد، هذا هو الفعل المادي الذي تقوم به جريمة الزنا، وهو ما استفسر عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ممن جاءه مقرًا بالزنا؛ لجواز أن يكون قد أتى فعلًا آخر لا يقوم به الركن المادي لهذه الجريمة، أو أن الأمر قد التبس عليه1. لأن من أتى فعلًا آخر عم ما ذكر لا يعد مرتكبًا للجريمة الحدية، وإلا يعد مرتكبا لجريمة الزنا أيضًا من قام بالفعل المادي لها مع وجود شبهة من الشبهات التي تحلق الركن الشرعي لجريمة الزنا، نظرًا؛ لأنه يترتب على قيام الشبهة درء العقوبة الحدية عن طرفي الواقعة، أو عن أحدهما، حسبما يرى الفقهاء. وفيما يلي أورد بعض الوقائع التي اكتمل فيها الركن المادي لجريمة الزنا غير أنه قد يحول بين الجناة، والحد قيام شبهة بالركن الشرعي للجريمة يعتد بها بعض الفقهاء في درء العقوبة، وقد لا يعتد بها البعض الآخر حسبما يأتي:

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص111-112.

الوطء بعد النكاح الباطل

الوطء بعد النكاح الباطل ... 1- الوطء بعد النكاح البالطل: يراد بعقد النكاح الباطل: كل عقد أصابه خلل في أركانه، أو في شرط من شروط الانعقاد أو بعبارة أخرى، هو ما لم يصح إلا بأصله ولا بوصفه1. وقد اختلف الفقهاء في اعتبار الدخول في ظل العقد، والباطل زنا أم لا فيرى الإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري2، وزفر: أن من عقد على امرأة لا يحل له نكاحها لتحريمها عليه تحريمًا مؤبدًا أو مؤقتًا، ثم دخل بها، فإنه لا يجب عليه الحد بوطئها، حتى وإن علم أنها عليه حرام، وإنما يجب أن يعزر تعزيرًا شديدًا من باب الإصلاح والسياسة. وعلل الإمام أبو حنيفة هذا الرأي القائل بعدم وجوب العقوبة الحدية بأن العقد، وإن كان باطلًا إلا أنه مضاف إلى محله، والمحلية عنده لا تعني قبول الحل، وإنما تعني قبول المقاصد من العقد، وقبول المقاصد من العقد أمر ثابت بالنسبة للمعقود عليها، لصحة ذلك بالنسبة لغيره عليها. كما أن المعقود عليها -بالنسبة لمن وجد سبب التحريم بينها وبينه- محل نكاح في الجملة، وامتناع ثبوت حكم العقد بالنسبة له ناتج من وجود المنافاة -بين الحل، الذي هو أثر في الآثار المترتبة على العقد. والحرمة التي نتجب من وجود العلاقة المقتضية للتحريم بينهما. والعقد وإن كان وجوده غير نابت ولا مستقر، إلا أنه وجود تقوم به الشبهة التي تدرأ الحد، وتسقطه عند الإمام أبي حنيفة، ومن وافقه3.

_ 1 أحكام الأسرة في الإسلام للأستاذ الدكتور سلام مدكور ج1 ص213، 221 ط الثانية سنة 1969م. 2 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، مات بالبصرة متواريًا من السلطان سنة 161هـ. 3 فتح القدير ج5 ص260-262 المبسوط ج9 85-86.

وقال أبو يوسف، ومحمد بوجوب الحد بالدخول في ظل عقد باطل ما دام من دخل في ظل هذا العقد قد علم أن التي عقد عليها، ودخل بها محرمة عليه تحريمًا غير مختلف فيه، فالوطء هنا قد وقع في فرج مجمع على تحريمه من غير ملك، ولا شبهة ملك، والواطئ أهل للحد عالم بالتحريم، فيجب الحد كما لو لم يوجد العقد وليس العقد شبهه؛ لأنه نفسه جناية هنا توجب العقوبة التي انضمت إلى الزنا، كما لو أكرهها ثم زنى بها. فالعقد هنا لا أثر له؛ لأن محل العقد هو ما يقبل حكمه، وحكمه الحل والمعقود عليها هنا من المحرمات في سائر الحالات، فكان الثابت صورة العقد إلا انعقاده؛ لأنه لا انعقاد في غير المحل، كما لو عقد على ذكر. ولأن العقد الصحيح لو انفسخ بالطلاق قبل أن يدخل على التي عقد عليها، ثم دخل بها بعد الطلاق، عوقب بالعقوبة الحدية، ولم يبق للعقد السابق أي أثر نفسخه، فما لم ينعقد أصلًا أولى1.

_ 1 بين السرخسي ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة ومن وافقه، وما ذهب إليه أبو يوسف، ومحمد بقوله: "رجل تزوج امرأة ممن لا يحل له نكاحها، فدخل بها لا حد عليه، سواء أكان عالمًا بذلك، أم غير عالم في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ولكنه يوجع عقوبة إذا كان عالما بذلك، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إذا كان عالمًا بذلك، فعليه الحد في ذوات المحارم، وكل امرأة إذا كانت ذات زوج، أو محرمة عليه على التأبيد.. والدليل عليه أن العقد لا يتصور انعقاده بدون المحل، ومحل النكاح هو الحل؛ لأنه مشروع لملك الحل، فالمحرمية على التأبيد لا تكون محلًا للحل، وإذا لم ينعقد العقد لا تحل له لا أنه لم يصادف محله فكان لغوا، كما يلغو إضافة النكاح إلى الذكور، والبيع إلى الميتة والدم، والدليل عليه أن العقد المنعقد لو رفع بالطلاق قبل الدخول لم يبق شبهة مسقطة للحد، فالذي لم ينعقد أصلًا أولى، المبسوط ج9 ص85-86، فتح القدير ج5 ص26.

وقال فقهاء الشافعية بوجوب الحد في وطء المحرمة بنسب، أو رضاع أو مصاهرة، سواء أكان ذلك في ظل عقد أم لا؛ لأنه وطء صادف محلًا مقطوعًا بتحريمة ولا شبهة فيه، أما إذا كان الواطئ بجهل الذي بينه، وبين الموطوءة، ولم يظهر كذبه، فقد ذهب الأدرعي إلى أن الظاهر تصديقه، وكذا لو جهل تحريمها عليه بالرضاع، أو بكونها مزوجة، أو معتدة، وأمكن جهله بذلك. وتحد هي أن علمت التحريم: يبين الشربيني الخطيب ذلك في قوله: "ويجب الحد في وطء محرم بنسب، أو رضاع أو مصاهرة، وإن كان تزوجها؛ لأنه وطء صادف محلًا ليس فيه شبهة، وهو مقطوع بتحريمه، فيتعلق به الحد". ثم يقول: لو ادعى الجهل بتحريم الموطوءة بنسب لهم يصدق لبعد الجهل بذلك. قال الأذرعي: إلا أن جهل مع ذلك النسب، ولم يظهر لنا كذبه، فالظاهر تصديقه، أو بتحريمها برضاع، فيقولان: أظهرها كما قال الأذرعي: تصديقه أن كان ممن يخفى عليه ذلك، أو بتحريمها بكونها مزوجة، أو معتدة وأمكن جهله بذلك صدق بيمينه، وحدت هي دونه إن علمت تحريم ذلك، ويحد في وطء نكاح أخت نكحها على أختها، وفي وطاء من ارتهنها، وفي وطء مسلمة نكحها وهو كافر، ووطئ عالمًا بالحال.

وفي وطء وثنية، أو مجوسية نكحها مسلم، ويحد في وطء مطلقته ثلاثًا، وذات زوج وملاعنة، ومعندة لغيره، ومرتدة"1. وقال فقهاء الحنابلة بوجوب الحد على كل من تزوج ذات محرم ودخل بها؛ لأنه دخول في ظل نكاح باطل للإجماع على تحريم المدخول بها عليه، والعقد في مثل هذا لا تدوم به شبهة؛ لأنه كأن لم يوجد، والشبهة لا تقوم إلا إذا كان المبيح صحيحًا، والعقد هنا باطل، وفعله جناية تقتضي عقوبة أخرى تضم إلى عقوبة الزنا، ما دام الفاعل عالمًا بالتحريم. أما لو كان جاهلًا بالحكم كمن يتزوج امرأة في عدتها ثم يدخل بها، وأمكن تصور جهله، فلا حد عليه؛ لأن مثل هذا الحكم يخفى على غيره أهل العلم2. والمشهور عند المالكية أنه لا حد عليه حتى، وإن كان عالمًا3، وذهب فقهاء الشيعة إلى القول بعدم وجوب الحد، فيما جهل تحريمه مما ذكر من الوطء بشبهة الجهل بشرط أن يكون الجهل عن قصور، أو تقصير في المقدمات مع اعتقاد الحلية حال الوطء، وأما الجهل بالحكم عن تقصير، فلا يعتد به ويجب معه الحد. وذلك؛ لأن الجهل الأخير وجد معه العلم بالحكم الظاهري، ولذا قالوا بوجب الحد على من تزوجت في عدة طلاق لزوجها عليها الرجعة فيه، ما دامت تعلم أن عليها عدة، وأن كانت لا تدري كم هي؛ لأنها ما دامت علمت أن عليها العدة لزمتها، الحجة، فتسأل حتى تعلم4.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص146. 2 المغني ج8 ص182-183. 3 الخرش ج8 ص78. 4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص169.

وذهب فقهاء المالكية إلى القول بأن من يعقد على امرأة محرمة عليه تحريمًا مؤيدا، ثم بدخل بها، فإنه يلزمه الحد، ولا يعتد بذلك العقد الذي دخل عليها في ظله، ولا تقوم به شبهة1. أما من كان تحريمها عليه تحريمًات مؤقتًا كأخت زوجته مثلًا، فإنه إذا عقد عليها ودخل بها، فإن فقهاء المالكية يفرقون -في القول بالحد حينئذ- بين حالتين: الأولى: إذا كانت أخت زوجته من النسب، فإنه يجب الحد. الثانية: إذا كانت أخت زوجته من الرضاع، فإنه لاحد عند بعضهم؛ لأن دليل التحريم بالنسبة للجمع بين الأختين من الرضاع جاء من السنة بخلاف دليل تحريم الجمع بين الأختين من النسب، فقد جاء به القرآن الكريم. يقول الخرش مبينًا ذلك كله: وكذلك لا حد على من تزوج أختًا على أختها ودخل بهما، وهل لا حد سواء كانت الأخت من نسب أو رضاع؛ لأن الآية اقتضت تعميم الأختين من نسب أو رضاع، أو محل عدم الحد إذا كانت الأخت من رضاع؛ لأن تحريم الجمع حينئذ -بالنسبة، وأما لو كانت من نسب، فإنه يحد إذا وطئها لتحريم ذلك بالكتاب، وإليه ذهب بعض شيوخ

_ 1 يقول الخرش: "وكذلك يحد من وطئ الحرمة بصهر مؤبد بنكاح، أو بملك.. أن تزوج زوجة أبيه، أو زوجة ولده حدان كان عالمًا بتحريم ذلك، وإذا حد بالوطء المحرمة بالصهر، فأولى من وطئ محرمة بالنسب، أو بالرضاع بنكاح؛ لأنهما لا يكونان إلا مؤبدين بخلاف الصهر قد يكون مؤبدًا ... الخرش ج8 ص76، حاشية الدسوقي ج4 ص315.

عبد الحق، وإلى هذا أشار بقوله: "وهل الأخت النسب لتحريمها بالكتاب تأويلان"، ولا حد على من تزوج المرأة على عمتها مثلًا؛ لأن التحريم لذلك بالسنة لا بالكتاب"1، ومن قال بإسقاط الحد في ذلك أوجب عقوبة تأديبية موجعة. وقال ابن حزم بمثل ما قال به جمهور الفقهاء: "من أن من وقع على ذات محرم كأمه، وأخته أم امرأة أبيه أو عمته، أو خالته، أو واحدة من ذوات محارمة بصهر، أو رضاع -فسواء أكان ذلك بعقد، أو بغير عقد- هوزان عليه الحد، ولا عبرة بعقده على واحد، من هؤلاء؛ لأن وجود عقده على واحدة منهن كلا وجوده إلا إذا كان جاهلًا، فلا شيء عليه. أما من وقع على امرأة أبيه -بعقد أو بغير عقد، أو عقد عليها باسم نكاح، وإن لم يدخل بها -فإنها بفعل ولا بد- محصنًا كان أو غير محصن ويخمس ماله، وسواء أمه كانت أو غير أمه، دخل بها أبوه أو لم يدخل بها2، وذهب فقهاء الشيعة إلى من أن زنى بذات محرم يقتل محصنًا كان أو غيره3، أما من تزوج خامسة، فإن فعله

_ 1 الخرش ج8 ص76-79، حاشية الدسوقي ج4 ص315-317. 2 استدل ابن حزم لذلك بما روي عن البراء بن عازب، قال: لقيت خالي ومعه الراية، فقلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن اضرب عنقه، وأخذ ماله "يقول ابن حزم معلقًا على هذا الحديث: هذه آثار صحاح تجب بها الحجة"، ويقول الشوكاني: هذا الحديث، رواه الخمسة، ولم يذكر ابن ماجه، والترمذي أخذ المال، مراجع المحلى ج12 ص107-233، نيل الأوطار ج7 ص130. 3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص188-192.

لا يسمى زواجًا، وإنما هو عهر وعليهما الحد، إن كانا عالمين بأن ذلك لا يحل، ولا حد على من جهل تحريم ذلك، ومثلهما من تزوج امرأة في عدتها، ومن طلق ثلاثًا قبل الدخول، أو بعده ثم وطئ1. وما ذهب إليه جمهور الفقهاء من إيجاب الحد على كل من دخل على امرأة، وعاشرها معاشرة الأزواج في ظل عقد نكاح هو ما أميل إليه، وأرجحه حفظًا على روح الإسلام، وأخلاقياته وكيان الأمة، وروابطها الشرعية المقدسة؛ لأن من يقدم على ذلك، وهو عالم بتجريم فعله -الذي هو من المحرمات البينة الواضحة- لا شك أنه إنسان عابث منحرف الطبع. وما قيمة إتيانه فعلًا باطلًا محرمًا في صورة قيامه بعقد نكاحه على من لا تحل له. إن فعله هذا هو في حد ذاته جريمة تضاف إلى جريمة زناه المتمثل في دخوله بمن عقد عليها عقدًا باطلًا، ومثل هذا لا يتصور القول بإسقاط الحد عنه تذرعًا بوجود شبهه ترتبت على عقده الباطل. إن العقد الباطل لا يجوز أن يترتب عليه سوى عقوبة من قام به، أن جاز أن يترتب عليه شيء -هذا بالنسبة لإيجاب الحد. أما ما ذهب إليه ابن حزم، ومن وافقه من القول بقتل من وقع على امرأة أبيه، أو ذات محرم، فهو قول يتفق على إطلاقه2، والذي أميل إليه، أن من وقع منه ذلك، فهو قد ارتكب جريمة الزنا، ويلمزه بها حدها، فإن تكرر منه ذلك بالنسبة لزوجة أبيه، أو ذات محرم فإنه إن جاز قتله، فإنما يكون على سبيل العقوبة السياسية لا الحدية، ولا يخفى ما ذكره فقهاء الشيعة عند قبولهم القول بشبهة الجهل من اشتراط أن يكون هذا الجهل ناشئًا عن قصور، لا عن تقصير إنه قول له وجاهته؛ لأن ادعاء الجهل أمر سهل يستطيع التذرع به من انحرف طبعه، وساء خلقه

_ 1 يقول ابن حزم: وأما من طلق ثلاثًا، ثم وطئ فإن كان عالمًا أن ذلك لا يحل، فعليه حد الزنى كاملًا وعليها كذلك؛ لأنها أجنبية، فإن كان جاهلًا فلا شيء عليه، ولا يلحق الولد هنا أصلًا؛ لأنه وطء فيما لا عقد له معها -لا صحيحًا ولا فاسدًا، المحلى ج13 ص219-221. 2 يراجع فتح القدير ج5 ص261.

الوطء بعد النكاح الفاسد

2- الوطء بعد النكاح الفاسد: والنكاح الفاسد هو: ما كان عقده صحيحًا بأصله دون وصفه بمعنى أن عقده استوفى أركانه، وشروط انعقاده، لكنه فقد شرطا من شروط الصحة. ومثل ذلك النكاح بلا ولي، أو بلا شهود، وزواج الأخت في عدة أختها، وزواج خامسة في عدة، الرابعة، وكل نكاح فيه كنكاح المتعة، والشغار والتحليل. فإذا حدث دخول في ظل عقد من هذه العقود الفاسدة، فإن جمهور الفقهاء يرى درء الحد لقيام شبهة ترتبت على وجود العقد الفاسد، وهم وإن قالوا بذلك إلا أن كلا منهم قد أطلق على هذه الشبهة مسميات غير الآخر، فقد أطلق عليها فقهاء الحنفية، شبهة العقد، إذا قد جاء عن ابن الهمام: "وذكر في شبهة العقد أن يطأ التي تزوجها بغير شهود، أو بغير إذن مولاها وهي أمة، أو طئ العبد من تزوجها بغير إذن مولاه. وذكر ابن الهمام أن أبا حنيفة يرى القول بإسقاط الحد بالنسبة لمن تزوج أمه على حرة، أو مجوسية، أو خمسًا في عقد، نظرًا لوجود شبهة العقد، وإن كان أبو يوسف، ومحمد قد أوجبا الحد

إذا حدث دخول بالأمة التي تزوجها على الحرة، أو بالمجوسية، أو بالخمس اللاتي تزوجهن في عقد واحد، إذا علم أن ذلك حرام1. وأطلق عليها المالكية شبهة العقد في قول الخرش: "تحد المرأة لذا مكنت مملوكها من نفسها إذا وطئها عن غير عقد، لا أن كان بعقد للشبهة، وإن كان غير صحيح. كما يقول: إذا عقد على معتدة من غيره ووطئها عالمًا، فإنه لا حد عليه وهو المشهور، مع أن حد الزنا صدق عليه. كما أطلقوا عليها أيضًا: شبهة الخلاف في قول الخوشئ "وإن تزوج أم امرأته، فإن دخل بالابنة حد، وإن لم يدخل بها لم يحد للخلاف"2. كما يقول الخرشي: "وخرج بقوله: باتقاق، النكاح المختلف فيه كالنكاح بلا ولي، فإن الوطء فيه لا يسمى زنا شرعًا إذ لا حد فيه، فالمراد بالاتفاق اتفاق العلماء لا الاتفاق المذهبي"3. ويطلق فقهاء الشافعية على هذه الشبهة شبهة الجهة، أو الطرق فيقول الشربيني الخطيب في معرض حديثه، عما لا يجب به الحد من الزنا: "واحترز عن شبهة الطريق التي تضمنها قوله: "وكذا كل جهه أباحها"، أي قال بالوطء بها عالم "كنكاح بلا شهود" فقط، كما قال به مالك، أو بلا ولي فقط كما قال به أبو حنيفة، أو بولي وشهود،

_ 1 فتح القدير ج5 253، أحكام الأسرة في الإسلام ج1 215-221. 2 الخرشي ج8 ص76-78. 3 الخرش ج8 ص76، وجاء مثل ذلك أيضًا في حاشية الدسوقي ج4 ص313.

ولكنه مؤقت، وهو نكاح المتعة كما قال به ابن عباس -رضي الله تعالى عنهم: لا حد بالوطء فيه على الصحيح، وإن اعتقد تجريمه لشبهة الخلاف1. ويقول ابن قدامة: "ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار، والتحليل، والنكاح بلا ولي، ولا شهود ونكاح الأخت في عدة أختها البائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن، ونكاح المجوسية، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات2. وجاء عن فقهاء الشيعة إجازة العقد بلا شهود؛ لأن الشهود عندهم من باب تزويج السنة، ولإثبات الولدة فقط، فقد أورد الحلي: "لا بأس بالتزويج ألبته بغير شهود فيما بينه وبين الله تعالى، وإنما جعل الشهود من تزويج السنة3. أما ابن حزم، فإنه يرى في الدخول في ظل العقد الفاسد وجوب الحد، إلا إذا وقع ذلك ممن يجهل الحكم، فقد ورد عنه: "وأما العالم بفساد عقد النكاح، أو عقد الملك، فهو عاهر عليه الحد، فلا يلحق به الولد، كما ورد عنه في نكاح الشغار: ومن يدخل في ظله، أن كان عالمًا فعليه الحد كاملًا، ويلحق به الولد، وإن كان جاهلًا، فلا حد عليه4، وجاء عن فقهاء الشافعية قول بوجوب

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص145، والمهذب ج2 ص35، 40. 2 المغني ج8 ص183-184. 3 كما جاء في تذكرة الفقهاء يستحب الإعلان، والإظهار في النكاح الدائم، والإشهاد، وليس الإشهاد شرطًا في صحة العقد عند علمائنا أجمع المختصر النافع للحلي ص194، يراجع المهذب ج2 ص40. 4 المحلى ج11 ص131-741.

الحد على من وطئ في ظل عقد فاسد، وإن اعتقد الإباحة، ويجب الحد أيضًا في نكاح المتعة؛ لأنه ثبت نسخه، وابن عباس رجع عنه كما رواه البيهقي. واشترطوا في الشبهة التي تدرأ هنا أن تكون شبهة قوية المدرك، لا لمجرد عين الخلاف1. واشتراط الشافعية ذلك له وجاهته، حتى لا يصبح الحكم عرضة لبعث الأهوء، والرغبات. وما أرجحه هو أن من دخل في ظل عقد فاسد، وهو يعلم ذلك، ولا عدل له لزمته عقوبة تعزيرية موجعة ورادعة له ولأمثاله؛ لأن حدود الله يجب أن تصان عن العبث.

_ 1 أي يجب أن يكون الخلاف الذي تقوم به الشبهة الدارئة للحد -خلافا ناشئا عن دليل، لا مجرد قول بالرأي العاري عن الدليل، مغني المحتاج جـ4 ص145.

وطء الميتة

3- وطء الميتة: ويراد به مواقة رجل امرأة أجنبية ميتة، وللفقهاء في إيجاب الحد بذلك. رأيان: الأول: يجب الحد على ما فعل ذلك؛ لأنه أولج في فرج محرم لا شبهة له فيه، ولا فرق بين أن يكون الإيلاج في فرج امرأة حية، أو ميتة. الثاني: لا يجب الحد بهذا الفعل؛ لأن وطء الميتة لا يترتب عليه ما يترتب على وطء الأحياء -ولأن عضوها لا حياة فيه، فإنها لا تشتهي، وتعافه النفس، ويؤيد القائلون بهذا الرأي أن الانزجار يتحقق بما عليه الميتة من حال لا بالعقوبة الحدية. جاء هذان الرأيان فيما ذكره ابن قدامة: من أن وطئ ميتة، ففيه وجهان أحدهما: عليه الحد وهو قول الأوزاعي؛ لأنه وطئ في فرج آدمية، فأشبهه وطء الحية؛ ولأنه أعظم ذنبًا وأكثر إثمًا؛ لأنه انضم إلى فاحشة هتك حرمة الميتة. الثاني لا حد عليه، وهو قول الحسن. قال أبو بكر: وبهذا أقول؛ لأن الوطء في الميتة كلا وطء؛ لأنه عضو مستهلك؛ ولأنها لا يشتهي مثلها وتعافها النفس، فلا حاجة إلى شرع الزجر عنها، والحد إنما وجب زجرًا"1. وجاء الرأيان أيضًا عند فقهاء الشافيعة، فقد ذكر الشيرازي: "أن من وطئ امرأة ميتة، وهو من أهل الحد، ففيه وجهان: أحدهما أنه يجب عليه الحد؛ لأنه إيلاج في فرج محرم، ولا شبهة فيه فأشبه إذا كانت حية. والثاني: أنه لا يجب؛ لأنه لا يقصد فلا يجب فيه الحد"2. وذهب فقهاء الأحناف إلى أنه لا حد في وطء الميتة؛ لأنه لا يعتبر عندهم زنا3، أما فقهاء المالكية قد أوجبوا الحد في ذلك، نظرًا؛ لأنه زنا، فيقول الخرشي عند حديثه عن الزنا الموجب للحد:

_ 1 المغني ج8 ص181. 2 المهذب ج2 ص269. 3 فتح القدير ج5 ص247.

"وكذلك من أتى ميتة غير زوجته بعد موتها في قبلها، أو دبرها فإنه يحد، لانطباق حد الزنا عليه"1. كما جاء مثل ذلك عند فقهاء الشيعة، فيقول أبو القاسم الموسوي: "لا فرق فيما ذكرناه من الأحكام المترتبة على الزنا بين الحي والميت"، فلو زنى بامرأة ميتة، فإن كان محصنا رجم، وإن كان غير محصن جلد، واستدل لذلك بما روي عن أبي جعفر في رجل نبش قبر امرأة، فسلبها ثيابها ثم نكحها، قال: إن حرمة الميت كحرمة الحي نقطع يده لنبشه وسلبه الثياب، ويقام عليه الحد في الزنا، إن أحصن رجم، وإن لم يكن أحصن جلد مائة"2. والذي أميل إليه، وأرجحه هو الرأي القائل بوجوب الحد على من سولت له نفسه انتهاك حرمة الأموات، والقيام بفعل مثل هذا الذي لا يقدم عليه، إلا صاحب الطبع الفاسد، والسلوك الشاذ المعوج، بل ويجب أن يزاد فوق الحد علاجًا لطبعه وشذوذه، فإن عاود فعلته هذه وجب رجمه إن لم يكن محصنًا، على سبيل العقوبة السياسية.

_ 1 الخرشي ج8 ص76. 2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص228.

وطء المرأة المستأجرة

4- وطء المرأة المستأجرة: ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن من استأجر امرأة ليزني بها، ثم فعل بها ما استأجرها من أجله، فإنه لا حد عليه. لأنه قد استوفى منها ما استأجرها من أجله، والإجارة عقد تقوم به الشبهة عنده، ويترتب على قيام هذه الشبهة درء العقوبة الحدية. واستدل الإمام أبو حنيفة لذلك، بما روي عن عمر -رضي الله تعالى عنه- من أن امرأة استسقت راعيًا، فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ عمر -رضي الله تعالى عنه- الحد عنهما. وبأن امرأة سألت رجلًا مالًا، فأبى أن يعطيها حتى تمكنه من نفسها، فدرأ الحد، وقال: هذا مهرها. ويعلق الإمام أبو حنيفة على هذا بقوله: ولا يجوز أن يقال: إنما درأ الحد عنها؛ لأنها كانت مضطرة تخاف الهلاك من العطش؛ لأن هذا المعنى لا يوجب سقوط الحد عنه. وهذا المعنى غير موجود فيما إذا كانت سائلة مالًا ذكرنا في الحديث الثاني، مع أنه علل نقل: أن هذا مهر، ومعنى هذا أن المهر، والأجر يتقاربان1. أما جمهور الفقهاء، فإنهم لم يرتضوا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، وألزموا من استأجر امرأة ليزني بها، وفعل بها ما استأجرها له العقوبة الحدية. وذلك؛ لأن عقد الإجارة لا يستباح به البضع، فصار كما لو استأجرها للطبخ ونحوه من الأعمال، قال أبو حنيفة: لو استأجرها لمثل هذه الأعمال، وزنى بها لزمه الحد. فعقد الإجارة لا أثر له في استباحه ذلك، ولا يورث شبهة، فصار كما لو اشترى خمرًا فشربها. ولأن محل الاستئجار منفعة لها حكم المالية، والمستوفي بالوطء

_ 1 المبسوط ج9 ص58، فتح القدير ج5 ص262.

ليس بمال أصلًا، والعقد بدون محله لا ينعقد أصلًا، فإذا لم ينعقد به كان هو والإذن سواء، ولو زنى بها بإذنها يلزمه الحد. وذهب ابن حزم إلى أن جرم المستأجرة للزنى، ومن استأجرها، وزنى بها أعظم من جرم من زنى بامرأة لم يستأجرها لذلك، فقال: "وحد الزنى وجب على المستأجر والمستأجرة، بل جرمهما أعظم من جرم الزاني، والزانية بغير استئجار؛ لأن المستأجر والمستأجرة زنيا كما زنى غير المستأجر ولا فرق، وزاد المستأجر والمستأجرة على سائر الزنى حراما آخر -وهو أكل المال بالباطل"2، وما ذهب إليه الجمهور أولى، ولا يجوز القول بأن ما أخذته المستأجرة من مال يماثل ما تأخذه من مهر في النكاح الصحيح بجامع أن المهر، والأجرة يتقاربان؛ لأن الله سبحانه وتعالى أطلق على المهر أجرًا، في قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 3؛ لأن الفرق بينهما واضح أحل الله الزواج، وأوجب المهر فيه وحرم الزنا، ولو كان على مال. والمهر أجر مشروع في ظل نكاح حلال أباحه الله، ورغب فيه وحض عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بينما الزنا حرمه الله، ونهى عنه وبغض فيه، وحدد له عقوبة من العقبات -الشديدة الرادعة. وأما الاستدلال بما روي عن عمر -رضي الله تعالى عنه، فهو استدلال بما لا دليل فيه؛ لأنه لم يذكر ما فعل عمر بالرجل،

_ 1 المرجعان السابقان، المهذب ج2 ص268، مغني المحتاج ج4 ص146، الخرشي ج8 ص87 المغني ج8 ص187. 2 المحلى ج13 ص225. 3 من الآية 24 من سورة النساء.

هل أقام عليه الحد أم لا، فإن قبل لم يقم عليه الحد، فلجواز عدم توافر البينة عليه؛ لأن ما قالته المرأة غير ملزم الرجل بالحد. ما لم تتم عليه بينة؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد جاءه رجل مقرًا بأنه زنى بفلانة، فلما سألها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنكرت ما قاله الرجل، فلم يقم الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحد عليه1. أما عدم إقامة عمر الحد على المرأة، فلجواز أنه رأى أنها كانت مضطرة، وبذا تصبح في حكم المكرهة التي لا حد عليها. وهذا ما جاء عن ابن قدامة بما رواه من أن عمر سأل عليًا -رضي الله تعالى عنهما- في شأن هذه المرأة، فقال علي: إنها مضطرة2.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص119. 2 المغني ج8 ص187.

إذا كان أحد طرفي جريمة الزنا غير مكلف

5- إذا كان أحد طرفي جريمة الزنا غير مكلف: ذهب فقهاء الأحناف إلى أن الصبي، أو المجنون إذا زنى بامرأة طاوعته، فلا حد عليه ولا عليها، أما سقوط الحد عنه، فلعدم تكليفه، وأما سقوطه عنها؛ فلأن الأصل في باب الزنا فعل الرجل والمرأة تابعة له، فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع، وقد جاءت رواية عن أبي يوسف بإيجاب الحد عليها نظرًا؛ لأنها مكنته من نفسها مختارة راضية، فحكمها حكم المكلف الذي يزني بغير مكلف، وكون الفاعل غير مكلف لا يترتب عليه شبهة تسقط الحد عنها1، وذهب فقهاء الشيعة إلى أن البالغة العاقلة إذا مكنت من نفسها صبيًا، أو مجنونًا تجلد فقط، حتى وإن كانت محصنة؛ لأن من واقعها ليس بمدرك.

_ 1 فتح القدير ج5 ص269-271.

كما ذهب بعضهم إلى أن البالغ العاقل المحصن إذا زنى بصبية، أو مجنونة فلا رجم عليه ويجلد الحد، لنقص حرمة الصبية والمجنونة، بالإضافة إلى البالغة العاقلة، ولنقص اللذة في الزنا بالصغيرة1. أما جمهور الفقهاء، فإنهم يرون وجوب الحد على المكلف، وإن كان هناك رأي عند بعض فقهاء الحنابلة، مؤداه أنه لا حد على من وطئ صغيرة لم تبلغ؛ لأنها لا يشتهي منها، وكذلك لو استدخلت امرأة ذكر صبي لم يبلغ عشرًا لا حد عليها. وقد علق ابن قدامة على هذا بقوله: "والصحيح أنه أمكن وطؤها، وأمكنت المرأة من أمكنه الوطء، فوطئها أن الحد يجب على المكلف منهما، فلا يجوز تحديد ذلك بتسع ولا عشر؛ لأن التحديد إنما يكون بالتوقيف، ولا توقيف في هذا وكونت التسع وقتًا لإمكان الاستمتاع غالبًا لا يمنع وجوده قبله، كما أن البلوغ يوجد في خمسة عشر عامًا، ولا يمنع من وجوده قبله"2. وما أرجحه هو وجوب الحد على المكلف مطلقًا، ولا يعتد بكون من شاركه جنايته غير مكلف؛ لأن هذا لا شبهة فيه بالنسبة للمكلف، ولا مبرر للقول بأنغير المكلف لا يشتهي، أو ينقص اللذة. كما يلزم تعزير الصغير إن أتى ذلك مطلوعًا، زجرًا له عن المعصية.

_ 1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص198-199. 2 المغني ج8 ص181، مغني المحتاج ج4 ص146، المهذب ج2 ص268، الخرشي ج8 ص75.

وطء الرجل معتدته البائن

6- وطء الرجل معتدته البائن: إذا طلق الرجل زوجته ثلاثًا، أو خالعها ثم وقع عليها في عدتها، فإن جمهور الفقهاء يرى إلزامه الحد أن كان عالمًا بتحريمها عليه. فإن قال بأنه لا يعلم تحريمها، فإن الحد لا يلزمه هذا ما هب إليه فقهاء الأحناف1 الحنابلة2، وابن حزم3. وحكم المرأة في ذلك حكم الرجل: وذهب فقهاء المالكية، والشافعية إلى القول بوجوب الحد عليهما مطلقًا. أما إذا عقد الرجل على مطللقته ثلاثًا، ووطئها في العدة، فإن جمهور الفقهاء يلزمهما الحد ما داما عالمين بالتحريم، أما أن كان جاهلين أو أحدهما، فلا حد على من جهل التحريم4، وذهب الإمام أبو حنيفة

_ 1 يراجع المبسوط ج9 ص88، فتح القدير ج5 ص251، الوجيز في أحكام الأسرة أ. د: سلام مدكور ص236-239. 2 المغني ج8 ص183. 3 المحلى ج13 ص219. 4 يقول ابن حزم: ولا تخلو الناكحة في عدتها بأن تكون عالمة بأن ذلك لا يحل، أو تكون جاهلة بأن ذلك محرم، أو غلطت في العدة: فإن كانت جاهلة، أو غلطت في العدة، فلا شيء عليها؛ لأنها لم تعمد الحرام، والقول قولها في الغلط على كل حال -فإن كانت عالمة بأن ذلك لم يحل "ولم تغلط في العدة: فهي زانية وعليها الرجم" المحلى ج13 ص219.. ويراجع المبسوط ج9 ص88، فتح القدير ج5 ص251-254 الخرش ج8 ص77، حاشية الدسوقي ج4 ص315- مغني المحتاج ج4 ص146، المغني ج8 ص183.

إلى القول بعدم لزوم الحد نظرًا لقيام شبهة العقد، فالإمام أبو حنيفة يرى أن العقد، وإن كان متفقًا على تحريمه، إلا أنه تقوم به شبهة تنتج درء الحد1. وما ذهب إليه جمهور الفقهاء، هو ما أرجحه إذا كانا جاهلين التحريم، فإن كان أحدهما جاهلًا، والآخر عالمًا لزم عالم التحريم الحد، ويدرأ الحد عن جاهل التحريم بشرط أن يكون هذا الجهل من الجهل الذي يعتد به. أما إن كان جهلًا لا يعتد به، فلا يلتفت إليه، ولا تقوم به شبهة.

_ 1 فتح القدير ح5 ص252.

وطء البهائم

7- وطء البهائم: إذا وطئ الرجل حيوانًا، أو مكنت المرأة من نفسها حيوانًا، فإن للفقهاء آراء في اعتبار ذلك زنًا موجبًا للحد، أو التعزير. فقد ذهب فقهاء الأحناف، والملكية والشيعة إلى أن ذلك ليس في معنى الزنا؛ لأن الطبع السليم ينفر عنه، والحامل عليه نهاية السفه، ولا يجب به حد، وإنما يلزم من أتاه بعقوبة تعزيرية تأديبا له، وقد جاء هذا في قول عند فقهاء الشافعية والحنابلة1. وذهب فقهاء الشافعية والحنابلة في رأي آخر إلى اعتبار ذلك في حكم اللواط موجبًا للحد. كما جاء عنهم أيضًا في رأي آخر أنه يجب قتل من فعل ذلك

_ 1 فتح القدير ج5 265، الخرش ج8 ص78، حاشيءة الدسوقي ج4 ص316 المهذب ج2 ص269، مغني المحتاج ج4 ص145 المغني ج8 ص190، شرح الأزهار ج4 ص336.

مستدلين بما روي من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من وقع على بهيمة، فاقتلوه، واقتلوا البهيمة" 1. والذي أرجحه هو ما ذهب إليه الجمهور من أن ذلك يوجب التعزير. فإن تكرر ذلك من الجاني حبس حتى يعالج، ويتوب أما من ذهب إلى أن ذلك يوجب الحد كالزنا، فقوله بعيد؛ لأن الحد للردع عما يشتهي، وتميل إليه النفس، ومثل هذا لا يشتهى، ولا يقدم عليه إلا مرضى النفوس. أما القول بقتله، فما استدل به على ذلك ضعيف الرواية، أو على أساس من أتى ذلك مستحلًا له، ودليل يتطرق إليه الضعف لا يعون عليه في القول بقتل إنسان.

_ 1 رواه عكرمة، وأخرجه النسائي، وابن ماجه، قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه، إلا من طريق ورد ما يعارضه من نفس الطريق، قال الشوكاني: اختلف أهل العلم فيمن وقع على بهيمة، فأخرج البيهقي: من أتى بهيمة أقيم عليه الحد، وعن الحسن بن علي إن كان محصنًا رجم، وعن الحسن البصري هو بمنزلة الزنى، وقال الحاكم: يجلد، "ولا يبلغ الحد والمرتضي، والمؤيد بالله والناصر والإمام يحيى إلى أنه يوجب التعزير فقط"، وقد ضعف هذا الحديث البخاري وكثير من الحفاظ، نيل الأوطار ج7 ص133-134.

المبحث الثاني: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة ترتب عليها انتقاء القصد الجنائي

المبحث الثاني: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة ترتب عليها انتقاء القصد الجنائي مدخل ... المبحث الثاني: الوطء المحرم الذي لا يوجب العقوبة الحدية لقيام شبهة ترتب عليه انتفاء القصد الجنائي اقتضت عناية الشارع الحكيم، ورحمته بخلقه عدم مؤاخذة أحد، أو معاقبته بعقوبة من العقوبات المقدرة، إلا قصد الفاعل إتيان الفعل المجرم، واتجهت نيته إلى ذلك، وقام به مختارا عالمًا بتجريم الشارع له. لذا فإن الحديث عن هذا المبحث يتناول ما يأتي: أولًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة جهل الفاعل بالحكم الشرعي لما وقع منه من أفعال جهلًا يعتد به، وإن أتى هذه الأفعال عن حرية واختيار. ثانيًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة جهل الفاعل بمن وقع عليه الفعل وشاركه فيه، جهلًا يعتد به وتندرئ بوجودة العقوبة الحدية. ثالثًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرًا لانتفاء القصد الجنائي نتيجة إكراه الفاعل، مع علمه بتجريم الشارع لفعله الذي أكره عليه، إكراها يعتد به في درء العقوبة. هذه هي الحالات التي ينتفي معها وجود القصد الجنائي، ولبيانها أذكر هذا الحديث الموجز بالإضافة إلى ما سبق بيانه عند الحديث عن الشبهات، التي تعتري القصد الجنائي في الفصل الثاني من الباب الأول.

أولا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرا لجهل الفاعل بالحكم الشرعي لما وقع منه من أفعال، جهلا يعتد به

أولًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرًا لجهل الفاعل بالحكم الشرعي لما وقع منه من أفعال، جهلًا يعتد به ويعتبر الفقهاء جهل الفاعل بالحكم الشرعي مسقطًا للعقوبة الحدية، إذا كان من أتى الوطء مقيمًا بعيدا عن البلاد الإسلامية، ولم يتيسر له معرفة الأحكام الشرعية بسبب خارج عن إرادته، بحيث تصبح معرفة الأحكام بالنسبة له أمرًا معتذرًا، كمن يقيم بجزيرة نائية، وليس لديه من سبل المعرفة ما يمكنه من الوقوف على الأحكام الشرعية، وكان قد صادق من حدثه عن الإسلام حديثًا موجزًا، فاقتنع به وأمن، ولم يفسر على أحكام تجريم الزنا مثلًا، لضيق وقت من علمه مبادئ الإسلام عن أن يحدثه عن ذلك، ولم يتيسر له معرفة بقية الأحكام، فلو أن هذا الشخص وقع منه الوطء المحرم المعاقب عليه بالعقوبة الحدية، فإنه لا تلزمه هذه العقوبة؛ لأنها تندرئ عنه لجهله بالحكم الشرعي. ومثله من أسلم حديثًا، ولم يتعلم أحكام الإسلام، وكانت النظم العقابية التي يحتكم إليها قبل إسلامه لا تجرم الزنا، وغيره من العلاقات غير المشروعه في الإسلام بين الرجل، والمرأة فواقع امرأة أجنبية عنه، فإنه لا تجب عليه العقوبة الحدية بفعله هذا لوجود شبهة جهلة بالحكم الشرعي، وهي الشبهة التي يترتب عليها درء العقوبة الحدية، لانتفاء القصد الجنائي، ومثل هذا أيضًا من كان مجنونًا، منذ أن كان طفلًا لا يدرك، ثم ظل على جنونه حتى بلغ ثم أفاق من جنونه، وقبل أن يعلم شيئًا من أحكام الإسلام، واقع امرأة أجنبية، فإن لفعله هذا وإن كان زنا، إلا أنه لا يوجب العقوبة الحدية عليه، لجهله بالحكم الشرعي. يقول الشيرازي مبينا ذلك: "ولا يجب -الحد- على من لا يعلم تحريم الزنا، لما روى سعيد بن المسيب قال: ذكرنا الزنا بالشام، فقال رجل: زنيت البارحة. فقالوا: ما تقول، قال: ما علمت أن الله

عز وجل حرمه، فكتب، يعني عمر، إن كان يعلم أن الله حرمه فخذوه، وإن لم يكن قد علم فعلموه، فإن عاد فارجعوه، وروي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر -رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنها زنت فخفقها بالدرة خفقات، وقال: أي لكاع، زنيت. فقالت: من غواش بدرهمين، تخبر بصاحبها الذي زنى بها، ومهرها الذي أعطاها، فقال عمر -رضي الله عنه: ماذا ترون، وعنده علي وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، فقال علي -رضي الله تعالى عنه: أرى أن ترجمها، وقال عبد الرحمن: أرى مثل ما رأى أخوك، فقال لعثمان: ما تقول؟ قال: أراها تستهل بالذي صنعت، لا ترى به بأسا، وإنما حد الله على من علم أمر الله عز وجل، فقال: صدقت، ويعلق الشيرازي على ذلك بقوله: فإن زنى رجل بامرأة وادعى أنه لم يعلم بتحريمه، فإن كان قد نشأ بين المسلمين لم يقبل قوله: لأنا نعلم كذبه. وإن كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة من المسلمين، أو كان مجنونًا، فأفاق وزنى قبل أن يعلم الأحكام قبل قوله: لأنه يحتمل ما يدعيه، فلم يجب الحد1. ويقبل أيضًا القول بجهل حكم من الأحكام التي تحتاج إلى أعمال الفكر، وإمعان النظر، إذا كان المدعي الجهل من العامة الذين يمكن أن يخفى عليه معرفة ذلك، وينهض ذلك شبهة تدرأ الحد. وقد ذكر جانبًا من ذلك الخرش في قوله: "ومن طلق زوجته قبل

_ 1 يراجع في ذلك، المهذب ج2 ص267-268، مغني المحتاج ج4 ص145 فتح القدير ج5 ص257، مباني تكملة المنتاج ج1 ص167، 168 المحلى ج13 ص118-119، المغني ج8 ص185، ج الجرش ج8 ص77.

أن يبني بها طلقه أو طلقتين، ثم وطئها من غير عقد فإنه يحد، إلا أن يعذر بجهل"1. كما يقول ابن قدامة: "وإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله؛ لأن عمر قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة؛ ولأن مثل هذا يجهل كثيرًا، ويخفى على غير أهل العلم"2. من هذا كله يبين أن الجهل بالحكم الشرعي، فيما عده الفقهاء جهلًا يعتد به. يترتب عليه درء العقوبة الحدية، لانتفاء القصد الجنائي لدى الفاعل.

_ 1 الخرش ج8 ص77. 2 المغني ج8 ص185، وباقي المراجع السابقة.

ثانيا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة جهل الفاعل بمن وقع عليه الفعل وشاركه فيه

ثانيًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة جهل الفاعل، بمن وقع عليه الفعل وشاركه فيه أي أن الفاعل هنا يعلم الحكم الشرعي للوطء المحرم، غير أنه أتى فعله هذا، وهو يعتقد أن المحل الذي واقعه محل مباح له مواقعته، معتمدًا في ذلك الاعتقاد على الوقائع الجوهرية المصاحبة للفعل، والسابقة عليه. ويتضح ذلك فيما يأتي: 1-رجل واقع امرأة زفت إليه على أساس أنها زوجته، ثم اتضح له بعد مواقعتها أنها ليست هي التي عقد عليها، فلا حد عليه ما دام قد واقعها معتقدًا حلها له مع وجود ما يبرر هذا الاعتقاد، ويقويه، ولا حد عليها إن كانت تعتقد أنه زوجها. فإن كان أحدهما يعمل حقيقة صاحبه، وأنه ليس هناك ما يبيح الحل، وجب الحد على من علم ذلك.

أما من لم يعلم فلا حد عليه، يقول ابن الهمام مبينا ذلك: "ومن زفت أي بعثت إليه غير امرأته، وقال النساء: هي زوجتك، فوطئها لا حد عليه وعليه المهر: قضى بذلك علي -رضي الله عنه- وبالعدة؛ ولأنه اعتمد دليلًا، وهو الإخبار في موضع الاشتباه، لذ الإنسان لا يميز بين امرأته، وبين غيرها في أول الوهلة، وهذه إجماعية لا يعلم فيها خلاف"1. 2- رجل وجد امرأة في فراشه، فظنها زوجته، لتماثل أوصافهما من حيث الصغر أو الكبر وما إلى ذلك، فلا حد عليه عند الجمهور اعتمادًا على وجودها في فراشه الذي هو قرينة الزوجية، مع وجود هذا التماثل في الأوصاف بينهما، وعدم علمه أن أحدًا في منزله غير زوجته، ولم يبد له منها ما يعرف به حقيقتها، فوجود هذا الظن المبني على الملابسات القوية، والقرائن المصاحبة قد نتج عنه انتفاء القصد الجنائي لدى الفاعل. يقول ابن قدامة عند حديثه، عما ينتفي به القصد الجنائي، ولا يجب به حد: "أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته، أو جاريته فوطئها، أو دعا زوجته أو جاريته، فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها، أو اشتبه عليه ذلك لعماه، فلا حد عليه، "ويعلق ابن قدامة على ذلك بقوله": ولنا أنه وطء اعتقد إباحته بما يعذر مثله فيه، فأشبه ولو قيل له: هذه زوجتك؛ ولأن الحدود تدرأ بالشبهات وهذه من أعظمها"2.

_ 1 فتح القدير ج5 ص258، المبسوط ج9 ص57-58، مغني المحتاج ج4 ص145، الخرش ج5 ص75، المغني ج85 ص184، مباني تكملة المنهاج ج1 ص167-169، أحكام الأسرة في الاستلام ص136. 2 المغني ج8 ص184، مغني المحتاج ج4 ص145، المهذب ج2 ص268، الخرش ج8 ص75. المحلى ج13 ص216-218، مباني تكملة المنهاج ج1 ص167.

وذهب جمهور فقهاء الأحناف إلى أن من وجد امرأة في فراشه، فوطئها فعليه الحد، وبين ابن الهمام رأي جمهور فقهاء الأحناف بقوله: "ولنا أن المسقط شبهة الحل، ولا شبهة هنا أصلًا سوى أن وجدها على فراشه، ومجرد وجود امرأة على فراشه لا يكون دليل الحل ليستند الظن إليه، وهذا؛ لأنه قد ينام على الفراش غير الزوجة من حبائبها الزائرات له، وقرباتها، فلم يستند الظن إلى ما يصلح دليل حل". ولم يستثن فقهاء الأحناف من وجوب الحد في ذلك إلا حالة واحدة، وهي ما إذا دعي الأعمى زوجته، فإجابته امرأة أجنبية، وقالت: أنا زوجتك فواقعها، فلا حد عليه؛ لأن الإخبار دليل، وجاز تشابه النغمة خصوصًا لو لم تطل الصحبة، وذهب الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى القول بدرء الحد، وإن أتته ساكته1، وما أرجحه في ذلك هو أن القاضي إذا اقتنع بأن الفاعل أشكل عليه الأمر، واعتقد أن من واقعها هي زوجته، لتوافقهما في الصوت والأوصاف. وقيام القرائن الدالة، فإنه لا حد لقيام الشبهة التي ينتفي معها القصد الجنائي. أما إن كان ذلك من باب التذرع بالحيل، وادعاء الشبهة فالحد واجب إذا العبرة بقوة الشبهة المدركة، لا مجرد وجودها، وفقهاء الجمهور، وإن أسقطوا الحد، فمنهم لم يسقطوه لمجرد أنه وجدها في فراشه، وإنما لما صاحب ذلك من توافق، وقرائن قوية، وصلت به إلى اعتقاد أنها زوجته. فلا خلاف إذا بينهم، وبين ما ذهب إليه جمهور فقهاء الأحناف الذين لم يسقطوا الحد لمجرد أنه وجدها في فراشه، وأسقطوه إذا اعتقد ذلك بناء على القرائن، وقصر الصحبة.

_ 1 فتح القدير ج5 ص258-259، المبسوط ج9 ص57-58.

ثالثا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرا لانتقاء القصد الجنائي نتيجة اكراه الفاعل

ثالثا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية نظرا لانتقاء القصد الجنائي نتيجة اكراه الفاعل ... ثالثًا: الوطء الذي لا تجب به العقوبة الحدية، نظرًا لانتفاء القصد الجنائي نتيجة إكراه الفاعل سبق الحديث عن الإكراه، ووضح منه أن الذي يعتد به في إسقاط العقوبة الحدية هو الإكراه النام، أو الملجئ1، فالوطء الذي يقع تحت وطأة هذا النوع من الإكراه للفقهاء آراء في إيجاب الحدية، بالنسبة للرجل المكره -بفتح الراء- أما بالنسبة للمرأة، فقد اتفق الفقهاء على إسقاط الحد عنها إذا أكرهت على ذلك. وتنحصر آراء الفقهاء بالنسبة لمن أكره على فعل الزنا، فيما يأتي: 1- يرى جمهور الفقهاء أنه لا حد على من أكره على فعل الزنا؛ لأن المكره لا إرادة له، ولذا فقد رفع عنه القلم، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتى عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه"، وراه البيهقي2. واشترط الإمام أبو حنيفة أن يكون الإكراه على إتيان فعل الزنا من الحاكم لآاك لا يمكنه الاستعانة بمن يخلصه، ولا قدرة له على محاربة الحاكم، ولذا فإنه ينتفى قصده الجنائي، ويعدم رضاه واختياره، أما أن أكرهه شخص آخر غير الحاكم، فإن أبا حنيفة يرى أن مثل هذا الإكراه لا ينهض شبهة، وعليه فإن وقع منه فعل الزنا لزمه الحد. إذا إن المكره -بفتح الراء يمكنه الاستعانة بالحاكم، أو بغيره ليحميه

_ 1 المبحث الثاني من الفصل الثاني من الباب الأول. 2 الخرش ج8 ص80، حاشية الدسوقي ج4 ص318، المهذب ج2 ص268. مغني المحتاج ج4 ص145، المغني ج8 ص187. المحلى ج9 ص260، مباني تكملة المنهاج ج1 ص170، السنن الكبرى للبيهقي ج7 ص356.

ويخلصه ممن تسلط عليه، بين ذلك ابن الهمام بقوله: "ومن أكرهه السلطان حتى زنى، فلا حد عليه ... فإن أكرهه غير السلطان حد عنه أبي حنيفة، لعدم تحقق الإكراه من غيره"1، وذهب الصاحبان إلى القول بعدم إيجاب الحد على المكره مطلقًا، سواء أكرهه السلطان، أو غيره ممن له سطوة، وقوة وخاف المكره التلف على نفسه. وذكر السرخسي أن الاختلاف بين رأي الإمام، والصاحبين اختلاف عصر، فالسلطان كان مطاعًا في زمن أبي حنيفة، ولم ير لغيره السلطان من القوة ما يقوي به على الإكراه: فقال -الإمام: لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان، ثم في عصرهما قد ظهرت القوة لكل متغلب، فقالا: يتحقق الإكراه من غير السلطان، وجه قولهما أن المعتبر خوف التلف على نفسه، وذلك يتحقق إذا كان المكره قدرًا على إيقاع ما هدد به، سلطانا كان أو غيره، بل خوف التلف هنا أظهر؛ لأن المتغلب يكون مستعجلًا لما قصده لخوفه من العزل بقوة السلطان، والسلطان ذو أناة بما يفعله، فإذا تحقق الإكراه من السلطان بالتهديد، فمن المتغلب أولى"2، وعلى هذا فالخلاف بين الإمام، وصاحبه مرجعه اختلاف العصر، والزمان، وليس الحجة والبرهان. 2- ذهب فقهاء الحنابلة إلى أن الرجل إذا أكره، فزنى لزمه الحد، ووافقهم في هذا بن الحسن وأبو ثور وزفر، ومبنى ذلك عندهم أن الوطء لا يكون إلا بالانتشار، والإكراه ينافيه، فإذا وجد الانتشار انتفى الإكراه، فيلزمه الحد، كما أكره على غير الزنا، فزنى3.

_ 1 فتح القدير ج5 ص273، المبسوط ج9 ص59. 2 المبسوط ج9 ص59، فتح القدير ج5 ص373. 3 المغني ج8 ص187، المبسوط ج9 ص59، فتح القدير ج5 ص273.

ولا وجهة لهؤلاء فيما استدلوا به، إذ إن الانتشار قد يكون طبعًا لا طواعية بدليل ما قد يحدث للنائم من غير قصد ولا رغبة، وقد بين ذلك ابن حزم عند حديثه عن الإكراه على الزنى، بقوله: "لو أمسكن امرأة حتى زنى بها، أو أمسك رجل، فأدخل إحليله في فرج امرأة، فلا شيء عليه، ولا عليها، سواء انتشر أو لم ينتشر أمنى أو لم يمن، أنزلت هي أو لم تنزل؛ لأنهما لم يفعلا شيئًا أصلًا. والانتشار والإمناء فعل الطبيعة، الذي خلقه الله تعالى في المرء، أحب أم أكره، لا اختيار له في ذلك1. والذي أرجحه أن من أكره على الزنا إكراها يخشى منه التلف، ولم يجد بدا من الزنا، فلا حد عليه لانتفاء قصده، الجنائي سواء أكرهه السلطان، أو غيره ممن يستطيع تنفيذ ما أكرهه به، وما استدل به من أن الانتشار دليل الطواعية التي ينتفي معها الإكراه، قد وضح خلافه، وثبت أن الانشار قد يكون طبعًا من غير قصد. هذه هي الحالات التي ينتفي القصد الجنائي لدى الفاعل فيها، وآراء فقهاء الشريعة في درء الحد عن الفاعل. وما ذكر من آراء تفضي بعدم إيجاب العقوبة الجنائية على الفاعل هنا، قد شملت ما ذهب إليه فقهاء القانون، الذين سبق عرض آرائهم عند الحديث عن الشبهت التي تعتري القصد الجنائي. وقد ذكر جانبًا من ذلك الأستاذ الدكتور، محمود مصطفى عند حديثه عن القصد الجنائي في جريمة الزنا، فقال:

_ 1 المحلى ج9 ص270، ويراجع في هذا المدخل للفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور ص827، نظرية الإباحة عند الأصوليين والفقهاء ص390-391.

"يتوافر القصد الجنائي لدى الزوجة، التي ارتكبت الفعل عن إرادة، وعن علم بأنها متزوجة، وأنها تواصل شخصًا غير زوجها، فلا تقوم الجريمة لانعدام القصد إذا ثبت أن الوطء قد حصل على غير رضاء الزوجة، نتيجة لقوة أو تهديد، أو أي سبب من الأسباب المعدمة للرضاء، فإذا تسلل رجل إلى مخدع امرأة، فسلمت له ظنا منها أنه زوجها، فإن المواقعة تكون قد حصلت مباغتة على غير رضاها، فلا ترتكب الزنا، ويرتكب الفاعل جناية الاغتصاب، كذلك ينتفي القصد إذا كانت الزوجة وقت الفعل تجهل أنها مقيدة بعقد زواج، كما لو اعتقدت أنها مطلقة، أو أن زوجها الغائب قد مات"1. هذا ما ذهب إليه فقهاء القانون، وهم وإن ذكروه بالنسبة للمرأة، فذلك؛ لأنهم يرون أن جريمة الزنا لا تقوم بالنسبة للرجل، إلا إذا كان مترزجًا، ووقعت الجريمة في منزل الزوجية، أما هي فلم يشترطوا بالنسبة لها أن تكون الجريمة قد وقعت في منزل الزوجية، وإنما تقوم الجريمة بالنسبة لها لذا وقعت منها في أي مكان ما دامت متزوجة. وما ينطبق عليها بالنسبة لانتفاء القصد الجنائي ينطبق على الرجل أيضًا.

_ 1 شرح قانون العقوبات القسم الخاص ص337.

المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في إثباته

المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في إثباته أولا: إذا كان إثباتها عن طريق الإقرار ... المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا تجب به العقوبة الحدية لقيام شبهة في إثباته سبق عند الحديث عن الإثبات أن الشريعة الإسلامية، قد حددت طرقًا معينة لإثبات الجنايات الحدية. وتقدم ذكر ما يشترط في أدلة الإثبات بصفة تشمل إثبات جميع الجرائم الحدية. وبالإضافة إلى ما سبق، فإنه يشترط لإثبات جريمة الزنا، وإلزام الحد ما يأتي: أولًا: إذا كان إثباتها عن طريق الإقرار أذهب بعض الفقهاء إلى اشتراط أن يتعدد الإقرار بعدد ما يثبت به جريمة الزنا من شهود، وأن يكون كل إقرار في مجلس غير ما سبقه من إقرارات، أي أن يتعدد المجلس بتعدد الإقرار. وذهب البعض إلى اشتراط تعدد الإقرارات، ولو في مجلس واحد، وقال فريق من الفقهاء: تثبت جريمة الزنا بإقرار واحد، ولكل حجة ودليل. فقد ذهب فقهاء الحنابلة، والأحناف، وجمهور فقهاء الشيعة إلى اشتراط أن يكون الإقرار الذي تثبت به جريمة الزنا، أربع مرات، فلا يكفي الإقرار مرة واحدة لإثباتها، ووجوب الحد، واستدلوا لذلك بأدلة، منها ما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه: "من أن رجلًا من المسلمين أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو في المسجد، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله إني زنيت،

فأعرض عنه حتى في ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ارجموه" 1. وقال أصحاب هذا الاتجاه: فلو كان الحد يلزم بالإقرار مرة واحدة لم يعرض عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى2. كما ثبت من روايات أخرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال: "إنك قد قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة"، وهذا تعليل منه يدل على أن الإقرارات الأربع هي الموجبة. كما أن أبا بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه، قال لمن جاء مقرًا بالزنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم: إن أقررت أربعًا رجمك رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل من وجهين: أحدهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقره عن هذا ولم ينكره، فكان بمنزلة قوله: "لأنه لا يقر على الخطأ". الثاني: أنه قد علم هذا من حكم النبي -صلى الله عليه وسلم، لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه3.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص106. 2 المغني ج8 ص192. 3 يراجع في ذلك المغني ج8 ص192، مباني تكملة المنهاج ج1 ص173-175، فتح القدير ج5 ص218-219، نيل الأوطار ج7 ص106-111.

وزاد الإمام أبو حنيفة على ذلك اشتراط أن تكون أربعة إقرارات في أربعة مجالس متفرقة، بالنسبة للمقر نفسه، ويجوز أن كون القاضي الذي يحكم الواقعة في مكان واحد، ويحتسب مجيء المقر، وذهابه مرة. ورأى أن ما يدل على ذلك هو ما سبق أن ذكره ابن قدامة، وأظهر منه في إفادة أن الإقرارات في مجالس ما في الصحيح، مما رواه الإمام مسلم، أن ماعزًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فرده، ثم أتاه الثانية من الغد، فرده ثم أرسل إلى قومه، فسألهم: "هل تعلمون بعقله بأسًا"؟ فقالوا: ما نعلمه، إلا وفي العقل من صالحينا، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضًا فسألهم: "فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له حفرة، فرجمه" 1. وذهب الشافعية والمالكية، وبعض فقهاء الشيعة إلى أن الزنا يثبت بالإقرار الواحد، واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، فالرسول -صلى الله عليه وسلم لم يطلب من أنيس إلا الذهاب إلى المرأة وسؤالها، فإن أقرت رجمها، ولم يقيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإقرار بأن يكون أربع مرات. وما ذكر من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد راجع ماعزًا، حتى كرر إقراره أربع مرات، فإن ذلك راجع إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد شك في عقله، وإذا فقد سأله: "أبك جنون"؟، وسأل أهله، وذويه من عقله أيضًا.

_ 1 فتح القدير ج5 ص219-220، نيل الأوطار ج7 ص106-111.

واستدلوا أيضًا بما أخرجه مسلم، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت: "أنه -صلى الله عليه وسلم- رجم امرأة من جهينة، ولم تقر إلا مرة واحدة". ومثل هذا كثير: "مما ذكره الشوكاني من المأثور عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، وأصحابه الأجلاء". وأما استدلال القائلين بأن يكون الإقرار أربع مرات قياسًا على شهادة الزنا؛ لأنها لا يعتبر فيها إلا أربعة شهود، استدلال لا تقوم به حجة؛ لأنه يلزم منه أن يعتر في الإقرار بالأموال، والحقوق أن يكون مرتين؛ لأن الشهادة في ذلك لا بد وأن تكون من رجلين، ولا يكفي فيها الرجل الواحد، واللازم باطل بإجماع المسلمين، فالملزوم مثله"1. كما أن الشهادة إذا ثبتت بها الجريمة لم يعد في مقدور المشهود عليه دفع العقوبة عن نفسه بفعل، أو قول لا يرجع فيه إلى الشهود، أما في الإقرار، فإنه باستطاعة المقر أن يدفع الحد عن نفسه بالرجوع عن إقراره، ولو كان في أثناء تنفيذ الحد عليه. وما ذهب إليه الأحناف والحنابلة، ومن وافقهم ما هو إلا من باب الاحتياط في الإثبات، أو قياسًا منهم للإقرار على الشهادة، وإعمالًا منهم لمبدأ الحد بالشبهة، أن من جاء طالبًا تطهير نفسه لن يثنيه عن ذلك مراجعة، وتعدد إقرار، ومن حاول تبرئة نفسه لن يعجزه ادعاء.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص150، أسنى المطالب ج4 ص131، نيل الأوطار ج7 ص106-111، الخرشي ج8 ص80، حاشية الدسوقي ج4 ص318، مباني تكملة المنهاج ج1 ص175، ويراجع المغني ج8 ص191-193، فتح القدير ج5 ص218-222.

ب- أن يبدأ القاضي برجم الزاني المحصن: إذا أقر من يعتد بإقراره عند القاضي بارتكابه جريمة الزنا الحدية، وكان محصنًا لزمه بإقراره هذا حد الرجم بما سبق من شروط، وقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى اشتراط أن يبدأ القاضي برجم المقر، واعتبر الإمام أبو حنيفة بدء القاضي بالرجم أمرًا واجبًا ولازمًا، فإن امتنع القاضي من أن يبدأ برجم المقر ترتب على امتناعه شبهة يندرئ الحد عن المقر بسببها؛ لأن امتناع القاضي قد يستشف منه رجوعه، عما قضى به على الجاني، لجواز أنه قصر في أمر القضاء، أو تساهل في بعض شروط القضاء بحد الرجم هذا. وأورد ابن الهمام ما روي في ذلك، عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- من أنه قال: "فإذا كان وجوب الحد -بإقرار- بدأ هو -أي الحاكم، أو القاضي، فرجم ثم رجم الناس بعده". كما روي قول الإمام علي -رضي الله تعالى عنه: "أيها اناس إن الزنا زناءان، زنا السر، وزنا العلانية، فزنا السر أن شهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي، ثم الإمام، ثم الناس، وزنا العلانية، أن يظهر الحبل، أو الاعتراف، فيكون الإمام أول من يرمي". ثم يذكر ابن الهمام ما روي من أن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، كان أول من رمى سراحة بحجر، ورماها الناس. ثم يقول ابن الهمام: "وإن يبتدئ هو -أي القاضي بالرجم- في الإقرار لينكشف للناس أنه لم يقصر في أمر القضاء، وبأنه لم يتساهل في بعض شروط القضاء بالحد، فإذا امتنع حينئذ ظهرت أمارة الرجوع، فامتنع الحد، لظهور شبهة تقصيره في القضاء، وهي

دارئه"1، وأجاب فقهاء الأحناف على ما وجه إليهم، من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يبدأ برجم ماعز -أجابوا" بأن التقصير من الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أمر القضاء ومسائله، أمر غير وارد ومنتف تمامًا، وعليه فإن عدم بدئه -صلى الله عليه وسلم- برجم ماعز، لم يقم به شبهة، ولم يترتب عليه درء الحد2. وذهب فقهاء الشافعية، والحنابلة إلى أن بدء القاضي بالرجم في الحد الذي ثبت بإقرار الجاني سنة، وليس بشرط. وعليه، فإذا لم يبدأ القاضي بالرجم فيه، فلا يورث ذلك شبهة، ويجب استيفاء الحد، ويقوم به غير القاضي من الناس، فيقول الشربيني الخطيب عند حديثه عن الحد الواجب بالإقرار: "والسنة أن يبدأ الإمام بالرجم، ثم الناس، إذا ثبت بالإقرار"3، ويقول ابن قدامة: "والسنة أن يدور الناس حول المرجوم، فإن كان الزنا ثبت ببينة، فالسنة أن يبدأ بالرجم، وإن كان ثبت بإقرار، بدأ به الإمام أو الحاكم، إن كان ثبت عنده، ثم يرجم أناس بعده"4. أما فقهاء المالكية، فإنهم لم يشترطوا قيام الإمام، أو القاضي بالبدء برجم المقر المقر بالزنا، لا على سبيل الوجوب، ولا من قبيل السنة، فقد أورد فقهاء المالكية أنه لم يعرف الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- بدء البينة

_ 1 فتح القدير ج5 ص226-228، البحر الرائق ج5 ص9، المبسوط ج9 ص50-51. 2 فتح القدير ج5 ص228، البحر الرائق ج5 ص9-10. 3 مغني المحتاج ج2 ص152. 4 المغني ج8 ص159.

بالرجم، ثم من بعدهم الإمام أي الحاكم -ثم الناس عقبيه، والحديث الدال على ذلك، وقد تمسك أبو حنيفة لم يصح عند الإمام"1. وما ذهب إليه فقهاء المالكية هو ما أرجحه؛ لأن احتمال تقصير الإمام في القضاء الذي تعلق به فقهاء الأحناف، أمر مشكوك فيه، ولا يترتب عليه إلزام المقر بشيء إذا رجع المقر عن إقراره، أما إذا لم يرجع المقر، فلن يغير من إلزامه الحد شيء قصر القاضي، أو لم يقصر. كما أن ذلك لو كان واجبًا لما تخلف عنه الرسول -صلى الله عليه وسلم، إذ لم يرد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرص على ذلك في كل ما قضى به. وأما رجمه لبعض من أقر فمن باب التعليم، ولبيان أن الرحمة الحقيقية في التزام ما شرع الله، وتنفيذه حتى ولو كان الرجم، وما روي عن الإمام علي -رضي الله عنه، فقد يكون من باب الاجتهاد، ولتحري الحق وزجر الجناة، وإعلاء حدود الله.

_ 1 الشرح الكبير، للدرديري بهامش حاشية الدسوقي، ج4 ص320 الخرشي ج8 ص82، المدونة ج16 ص41، وذكر محمد بن يوسف الشهير بالملوق عن مالك قوله: منذ أقامت الأئمة الحدود، فلم نعلم أحدًا منهم تولى ذلك بنفسه ولا ألزم ذلك البينة، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل ج6 ص295 "ط أولى مطبعة السعادة".

ثانيا: إذا كان إثبات جريمة الزنا عن طريق شهادة الشهود

ثانيًا: إذا كان إثبات جريمة الزنا عن طريق شهادة الشهود إذا كان إثبات جريمة الزنا عن طريق شهادة الشهود، فإن الفقهاء يرون أنه لا بد من توافر الشروط الآتية: أ- أن يكون الشهود الذي يعتد بشهادتهم أربعة، وهذا مستفاد مما جاء به قوله الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 1. فإن نقص الشهود عن أربعة لم يجب الحد بشهادتهم، ووجب عليهم هم حد القذف طبقًا لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2، وإن كان ابن حزم لا يرى أن شهادة الثلاثة تعد قذفًا؛ لأن حد القذف على الرامي لا على الشاهد3، وعند الجمهور تعد قذفًا؛ لأنه أولًا ذلك لانفتح باب اتهام الناس بهذه الجناية بالباطل من باب الكيد لهم، والتنكيل بهم4.

_ 1 من الآية 15 من سورة النساء. 2 الآية 4 من سورة النور. 3 المحلى ج13 ص239-241. 4 يقول الإمام القشيري: "إن الله بالغ في عدد الشهود، وألا تقبل تلك الشهادة، إلا بالتفرغ التام لئلا يستبيحوا أعراض المسلمين. لطائف الإرشادات ج4 ص226-267 "ط دار الكتاب العربي للطباعة والنشر بالقاهرة سنة 1965م". ويقول السرخسي: "والزنا مختص من بين سائر الحقوق في أنه لا يثبت إلا بشهادة أربعة، لقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، وقد تكلف بعضهم فيه معنى، وهو: أن الزنا لا يتم إلا باثنين، وفعل كل واحد لا يثبت إلا بشهادة شاهدين، ولكن هذا ضعيف، فإن شهادة شاهدين كما يثبت فعل الواحد يثبت فعل الاثنين، ولكن نقول أن الله تعالى يحب الستر على عباده، وإلى ذلك ندب، وزم من أحب أن تشيع الفاحشة، فلتحقيق معنى الستر شرط زيادة العدد في الشهود على الفاحشة، وإليه أشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قولهه لهلال بن أمية: "أئت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك، وإلا فحد في ظهرك"، وإليه أشار عمر -رضي الله عنه حين شهد عنده =

ولهذا، فلو لم يشهد بواقعة الزنا أربعة شهود، أو جاءت شهادتهم غير متفقة في شيء، مما لزم بيانه لندرأ الحد عن المدعى عليه، لقيام شبهة في إثبات الجريمة.

_ = أبو بكرة وشبل بن معبد، ونافع بن الأزرق على المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- بالزنا، فقال لزياد وهو الرابع: بم تشهد فقال: أنا رأيت أقدامًا بادية، وأنفاسًا عالية وأمرًا منكرًا، وفي رواية قال: رأيتهما تحت لحاف واحد. ينخفضان، ويرتفعان، ويضطربان اضطراب الخيزران، وفي رواية رأيت رجلًا أقعى وامرأة صرعى، ورجلين مخضوبتين، وإنسانا يذهب ويجيء ولم أر ما سوى ذلك، فقال: الله أكبر الحمد لله الذي لم يفضح واحدًا، من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ففي هذا بيان اشتراط الأربعة لإبقاء ستر العفة. المبسوط ج9 ص37-38، فتح القدير ج5 ص289. ويقول الخرشي: "فإن قلت: لم اختصت شهادة الزنا بالأربعة؟ قبل لقصد الستر، ودفع العار للزاني والمزني بها وأهلها، ولهذا لم يلحقه في ذلك القتل، اكتفي باثنين، وإن كان أعظم من الزنا، الخرشي ج7 ص198، حاشية الدسوقي ج4 ص185. ويقول الشيرازي: "وإن شهد ثلاثة بالزنا ففيه قولان: أحدهما: أنهم قذفه ويحدون، وهو أشهر القولين؛ لأن عمر -رضي الله تعالى عنه- جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة، وروى ابن الوصي أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا، "وقال الرابع: رأيتهما في ثوب واحد، فإن كان هذا زنا، فهو ذلك، فجلد علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- الثلاثة، وعزر الرجل والمرأة المهذب ج2 ص332، مغني المحتاج ج4 ص149، 441 ويراجع في كل ما سبق أيضًا. المحلى ج10 ص566 وما بعدها، ج13 ص238 وما بعدها، نيل الأوطار ج7 ص109، المغني ج8 ص202، ج9 ص147 مباني تكملة المنهاج ج1 ص118، المختصر النافع للحلي ص292.

وسقوط الحد لا يعني إسقاط جنس العقوبة، بل قد يسقط الحد، ويلزم الجاني بعقوبة من العقوبات التعزيرية. والأمر في ذلك متروك للقاضي الذي يحكم الواقعة، ويقتضي فيها بما يحقق العدل والإصلاح. ب- تأدية الشهادة في مجلس واحد: ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط أن يجيء الشهود الأربعة، الذين يشهدون بجريمة الزنا، في مجلس واحد يؤدون فيه شهادتهم، فإن لم يأت الأربعة في مجلس قضائي واحد، لم يعتد بشهادتهم في إثبات جريمة الزنا. واعتبر عدم اكتمال: صاب الشهادة في مجلس واحدة شبهة يندرئ بها الحد عن المدعى عليه. وقد بين ذلك ابن قدامة بعد أن ذكر آراء الفقهاء1، واستدل بما كان من ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- مع من شهدوا على المغيرة بن شيعة2، فلو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحد الثلاثة لجواز

_ 1 قال ابن قدامة: والشرط السابع: مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد، ذكره الخرقي، فقال: وإن جاء أربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجالس حكمه لم يقم قبل شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة، وعليهم الحد. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشافعي والبتني، وابن المنذر لا يشترط ذلك لقول الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، ولم يذكر المجلس؛ ولأن كل شهادة مقبولة إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجلس كسائر الشهادات، المغني ج8 ص200. 2 المغيرة بن شعبة الثقفي، كان من قادة العرب البارزين، ومن دهاتهم المشهود لهم، صحابي جليل ولد سنة 20 قبل الهجرة بمدينة الطائف، وفد على المقوقس بالأسكندرية، أسلم وحضر الحديبية واليمامة، وولاه عمر البصرة ت سنة 50هـ.

أن يكتملوا برابع في مجلس آخر؛ ولأنه لو شهد ثلاثة، فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم، وبهذا فارق سائر الشهادات1. واشتراط الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك زيادة على ما ذهب إليه الجمهور أن يجيء الشهود الأربعة مجتمعين، فلو جاء كل واحد منهم بمفرده أو أكثر ولم يكتمل الأربعة مجتمعين، لا تقبل شهادتهم في إثبات الحد في المشهود عليه2. ورجح ابن قدامة قبول شهادتهم، لو جاءوا متفرقين ما داموا قد أدوا الشهادة في مجلس واحد، مستدلًا بما كان من قصة المغيرة، فقال: "ولنا قصة المغيرة، فإن الشهود جاءوا واحد بعد واحد، وسمعت شهادتهم، وإنما حدوا لعدم كمالها؛ ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه"3. وذهب الإمام الشافعي، والبتي4 وابن المنذر5 وابن حزم،

_ 1 المغني ج8 ص201، المبسوط ج9 ص38، 65، حاشية الدسوقي ج4 ص185، مباني تكملة المنهاج ج1 ص184، 187. 2 المبسوط ج9 ص38، 65، حاشية الدسوقي ج4 ص185، المغني ج8 ص200. 3 المغني ج8 ص201. 4 البتي نسبة إلى البت موضع بضواحي البصرة، منه عثمان البتي الذي روى عن أنس، وعن الحسن البصري، ومنه أبو الحسن أحمد بن الكاتب البتي، راوي الحديث سنة 405هـ. 5 أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيها، عالمًا صنف في اختلاف العلماء كتبًا لم يصنف مثلها سنة 309، أو سنة 310، وافيات الأعيان ج3 ص340.

إلى أنه لا يشترط اتحاد المجلس الذي تؤدي فيه الشهادة للأربعة شهود؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكر ما يدل على ذلك، وعلى هذا فلا حاجة لاشتراطه1. وما استدل به هؤلاء من أن الله سبحانه وتعالى، لم يذكر ما يدل على اشتراط ذلك، فيما جاءت به الآيتان الكريمتان مردود بأن الآيتين الكريمتين لم يتعرضا للشروط، ولذا لم يذكرا العدالة ولا صفة الزنا؛ ولأن مجيء الشهود لا يخلو من أن يكون مطلقًا في الزمان كله، أو مقيدًا، لا يجوز أن يكون مطلقًا؛ لأنه يمنع من جواز جلدهم؛ لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء، أو بكمالهم، إن كان قد شهد بعضهم، فيمتنع حدهم المأمور به، فيكون تناقضًا، وإذا ثبت أنه مقيد، فأولى ما يفيد بالمجلس؛ لأن لمجلس كله بمنزلة الحال الواحد2. ولذا قال ابن حزم بعدم جواز جلدهم إذا لم يرد ذلك، وعليه فلا مانع من الانتظار عنده، فإنه لا يجوز أن يحتاج بأن الآيتين الكريمتين لم تشترطا ذلك الذي ذهب إليه الجمهور من حضور الشهود مجتمعين؛ لأن الآيتين لم تشترطا غيره، وإنما جاء ذلك وغيره مما اشترط في الشهادة من شروط، أوردها الصحابة الأجلاء، واستدل الفقهاء على اشتراطهم، ومنهم ابن حزم3.

_ 1 المحلى ج13 ص240-241، المغني ج8 ص200، يراجع مغني المحتاج ج4 ص149. 2 المغني ج8 ص201. 3 المحلى ج10 ص564-617.

ج- أن يعين الشهود شريك المشهود عليه بالزنا: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من شهدوا على إنسان بارتكابه جريمة الزنا، يلزم أن يذكروا من شاركه جريمته هذه، فإن كان المشهود عليه رجلًا، فلا بد من أن يحددوا المرأة التي شاركته جنايته تحديدًا لا يحتمل أدنى لبس، ولا يبقى أي احتمال لقيام علاقة بينهما تبيح له أن يأتي منها ما يأتيه الرجل من زوجته، وأن كانت المشهود عليها امرأة، لزم أن يحدد الشهود من شاركها جريمتها، تحديدًا دقيقًا لا تبقى معه أدنى شبهة، لجواز أن يكون الشهود قد رأوا رجلًا يأتي زوجته، وهم لا يعرفون ما بينهما من علاقة الزوجية مثلًا. وعلى هذا، فلو لم يعين الشهود شريك المشهود عليه في جريمة الزنا، نتج عن ذلك شبهة تدرأ العقوبة الحدية عن المشهود عليه. يقول الشيرازي مبينًا ذلك، ومن شهد بالزنا ذكر الزاني، ومن زنى به؛ لأنه قد يراه على بهيمة، فيعتقد أن ذلك زنا، والحاكم لا يعتقد أن ذلك زنا، أو يراه على زوجته، أو جاريته ابنه فيظن أنه زنى1، ويقول ابن قدامة: وأما تعيينهم المزني بها، أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة، ومكان الزنا، فذكر القاضي أنه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في إباحتها.. ولهذا سأل -صلى الله عليه وسلم- ماعزا فقال: "إنك أقررت أربعًا فبمن"؟. وذهب ابن الهمام إلى أكثر من هذا حين قال: "وإن شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها، لم يحد؛ لأن الظاهر أنها امرأته أو أمته".

_ 1 المهذب ج2 ص336، يراجع أيضًا المحتاج ج4 ص149. 2 المغني ج8 ص200.

فلو قال المشهود عليه: المرأة التي رأيتموها معي ليست زوجتي، ولا أمتي لم يحد أيضًا؛ لأن الشهادة وقعت غير موجبة للحد، وهذا اللفظ منه ليس إقرارًا موجبًا للحد، فلا يحد"1. هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الأحناف، والماليكة، والشافعية والحنابلة والظاهرية2، وذكر أبو القاسم الموسوي من فقهاء الشيعة أنه لا يشترط ذلك، فلو أختلف الشهود في تعيين الشريك في جريمة الزنا، فإنه لا أثر لذلك في إيجاب الحد على المشهود عليه؛ لأن الشريك غير داخل في شهادتهم أصلًا. وقد بين ذلك، فقال: "أما لو كان اختلافهم -أي الشهود- غير موجب لتعدد الفعل واختلافه، كما إذا شهد بعضهم على أن المرأة المعينة المزني بها من بني تميم مثلًا، وشهد البعض الآخر على أنها من بني أسد مثلًا، أو نحو ذلك من الاختلاف في الخصوصيات، لم يضر بثبوت الزنا بلا إشكال، ثم أورد توضيحًا لذلك بقوله: "لأن أختلافهم في هذه الخصوصيات لا يضر بثبوت أصل المشهود به، لعدم دخلها فيه أصلًا"3، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء أولى بالاتباع، وأقوى حجة، لجواز أن يكون الشهود قد توهموا أن من يواقعها الرجل المعروف لهم امرأة أجنبية عنه، بينما هي امرأة تزوجها، وهم لا يعلمون ذلك. وما استدل به من قالوا بعدم اشتراط تعين الشريك في إثبات الزنا بالشهادة، قياسًا على عدم اشترطا ذلك في الإثبات بالإقرار، مردود

_ 1 فتح القدير ج5 ص284، ويراجع تبيين الحقائق ج3 ص189. 2 المراجع السابقة، الخرشي ج7 ص198-199، المحلى ج13 ص378. 3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص180-181.

بما جاء من الروايات أن الرسول -صلى الله عليه وسلم، سأل ماعزًا عمن شاركته فعله حتى وقف عليها1. كما أن الإنسان لا يقر على نفسه كاذبًا، وحال المقر على نفسه تخالف تماما حال المشهود عليه، الذي يحاول جاهدًا دفع التهمة عن نفسه. وعلى هذا، فإن ذكر الشهود، وتعينهم شريك المشهود عليه أمر ضروري تنهض بتركه شبهة، تدرأ الحد عن المشهود عليه. وهذا الشبهة إن درأت الحد، فإنها لا تمنع من التعزير إذا رأى القاضي ذلك. د- أن يبدأ الشهود برجم الزاني المحصن: إذا تم إثبات جريمة الزنا بشهادة الشهود، وكان الزاني محصنًا لزمه الرجم، وقد اشترط فقهاء الأحناف لتنفيذ عقوبة الرجم على الجاني أن يبدأ الشهود برجم الجاني، ثم بعد ذلك يرجمه الحاضرون. فإن امتنع الشهود عن البدء برجم الجاني، فإن امتناعهم هذا، وإن لم يكن رجوعًا صريحًا، عن شهادتهم، إلا أنه يورث شبهة تلحق شهادتهم، وينتج عن ذلك درء العقوبة الحدية عن الجاني. كما أنه لا يلزم عن ذلك اعتبار الشهود قذفه؛ لأن امتناعهم عن البدء بالرجم ليس رجوعًا صريحًا، عما شهدوا به، وإن كان دليلًا عليه، والحدود لا تلزم بمثل ذلك. هذا إذا كان بدء الشهود برجم الجاني أمرً مقدورًا عليه من جهتم، فإن تعذر بدؤهم برجم الجاني، فإما أن يكون سبب ذلك طارئًا.

_ 1 رواه أحمد ومسلم، وأبو داود الترمذي، نيل الأوطار ج7 ص107.

بعد أن أدوا شهادتهم، كسفرهم مثلًا، أو أن أحدهم قطعت يده، أو مات بعضهم. وإما أن يكون سبب ذلك كان موجودًا عند آدائهم شهادتهم على الجاني، كان أحدهم مقطوع اليدين مثلًا، أو مريضًا مرضًا لا يستطيع معه البدء بالرجم. فإن كان تعذر بدئهم برجم الجاني لسبب طارئ بعد آدائهم الشهادة، أوقف تنفيذ الحد على الجاني في رأي أبي حنيفة، حتى وإن أدى ذلك إلى إسقاط الحد، كما لو مات أحد الشهود قبل تنفيذ العقوبة. وذهب أبو يوسف إلى أنه إذا تعذر بدء الشهود برجم الجاني لسب، لا تلحقهم به تهمه، كأن غابوا مثلًا، أو مات بعضهم، لزم الجاني الحد، ونفذ فيه، أما إن كان لسبب تلزمه به تهمة درئ الحد عن الجاني، أمال إذا كان سبب تعذر بدئهم برجم الجاني موجودًا عند آدائهم الشهادة، فلا خلاف على إلزام الجاني العقوبة، ويقوم بتنفيذها عليها من يستطيع ذلك، هذا ما ذهب إليه فقهاء الأحناف1. وذهب فقهاء الشافعية، والحنابلة إلى أن بدء الشهود برجم الجاني من باب السنة، فإن امتنعوا عن ذلك مع قدرتهم عليه، لم يترتب على امتناعهم شيء بالنسبة لإلزام الجاني، ويقوم القادرون على التنفيذ برجم الجاني2.

_ 1 يراجع في ذلك فتح القدير ج5 ص226-228، البحر الرائق ج5 ص9 المبسوط ج9 ص50-51. 2 مغني المحتاج ج4 ص152، المغني ج8 ص159، 170.

وذهب فقهاء المالكية إلى أن بدء الشهود برجم الجاني أمر غير لازم، فليس بواجب أو سنة، ولا يترتب على امتناع الشهود عن ذلك شيء، ما داموا لم يرجعوا عن شهادتهم، ويلزم الجاني الحد، وينفذ عليه1. والذي أرجحه من ذلك هو ما ذهب إليه أبو يوسف، من القول باشتراط بدء الشهود برجم الجاني -ما داموا قادرين على ذلك- مع بعض الزيادة على ما ذهب إليه أبو يوسف، وتنحصر في أنهم أن امتنعوا عن رجم الجاني مع قدرتهم عليه، فإن التنفيذ يوقف، ويسألون عن سبب امتناعهم، فإن أبدوا سببًا مقبولًا لا يتطرق معه الشك في شهادتهم، ثم تنفيذ العقوبة على الجاني لجواز أن امتناعهم لرقة في قلوبهم، فإن لم يبدوا سببًا، أو أبدوا سببًا غير مقبول، فإن امتناعهم حينئذ تنهض به شبهة في شهادتهم، يترتب عليه درء الحد عن المشهود عليه. أما ما ذهب إليه الإمام مالك عن عدم اشتراط ذلك، فقد يرجع سببه إلى أنه كان من فقهاء المدينة، وعاشر أهلها، وهم -وقت ذلك- ممن لا يشك في ذمتهم، ولا تلحقهم تهم، واختلاف الأزمنة، والأمكنة أمر تختلف معه الطباع.

_ 1 المدونة ج16 ص41، التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل للخطاب ج6 ص295، الخرشي ج8 ص82، الشرح الكبير بلدردير بهامش حاشية الدسوقي ج4 ص320.

الفصل الثاني: جريمة السرقة

الفصل الثاني: جريمة السرقة المبحث الأول: جريمة السرقة الصغرى المطلب الأول: تعريف السرقة ... الفصل الثاني: جريمة السرقة المبحث الأول: جريمة السرقة الصغرى ويتناول الحديث عنها مطلبين. المطلب الأول: تعريف السرقة. المطلب الثاني: سرقات أختلف في وجوب الحد بها؛ لقيام شبهة في الركن الشرعي للجريمة. المطلب الأول: تعريف السرقة السرقة في اللغة: أخذ الشيء خفية، ومن ذلك استراق السمع في قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} 1، وسرق منه الشيء أخذه خفية من حرزه، والسارق اسم فاعل، وهو من جاء مستترًا إلى الحرز، فأخذ منه ما ليس له2. وعرفها فقهاء الأحناف: بأنها أخذ مال الغير على سبيل الخفية نصابًا محرزًا للتمول غير متسارع إليه الفساد، ومن غير تأول ولا شبهة3، وعرفها فقهاء المالكية: بأنها أخذ مال الغير مستترًا من غير أن يؤتمن عليه، أو بأنها: أخذ مكلف، حرًا لا يعقل لصغره، أو مالًا محترمًا لغيره نصابًا أخرجه من حرزه بقصد واحد، خفية لا شبهة له فيه4.

_ 1 الآية 18 من سورة الحجر. 2 لسان العرب: المصباح المنير، مختار الصحاح. 3 فتح القدير ج5 ص354. 4 الخرشي ج8 ص91 بداية المجتهد ج2 ص372.

وعرفها فقهاء الشافعية: بأنها -أخذ مال خفية من حرز مثله بشرائط1، وعرفها فقهاء الحنابلة: بأنها أخذ مال محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله لا شبهة له فيه على وجه الاختفاء2. ويلاحظ أن تعاريف الفقهاء للسرقة متفقة في تحديد معناها، وشروطها التي أن تخلفت، أو تخلف واحد منها لم تعد الواقعة سرقة معاقبًا عليها بالعقوبة الحدية. كما يتضح من تعريف فقهاء الأحناف، أنهم أشدط الناس تضييقًا لدائرة السرقة الحدية. وإن فقهاء لمالكية قد اعتبروا أخذ الحر الصغير الذي لا يعرف أين يذهب به، سرقة موجبة للحد. ومما هو واضح في تعاريف الفقهاء للسرقة الحدية، أنهم نصوا على انعدام للشبهة في المال المأخوذ، حتى يمكن اعتبار الفعل جريمة من الجرائم الحدية. كما أن اشتراط أن يكون الأخذ خفية، يفرق بين السرقة الصغرى التي هي محل البحث الآن، وبين السرقة الكبرى التي يؤخذ فيها المال على سبيل آخر غير الاستخفاء، وسيأتي الحديث عنها في المبحث التالي. كما أن اشتراط أن يكون الأخذ خفية، يفرق أيضًا بين جريمة السرقة عند فقهاء الشريعة، وما يراد بها عند القانونيين.

_ 1 نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي ج7 ص18 ط الحلبي. 2 الروض المربع بشرح زاد المستقنع للبهوتي ج2 ص369 متن الإقناع مع كشاف القناع للمقدسي ت سنة 960هـ ج6 ص129.

إذ إن القانونيين يطلقون السرقة على اختلاس المنقول المملوك للغير، ويدخل ضمن ذلك كله استيلاء على مال الغير من غير رضاه؛ لأن فعل الاختلاس يتوافر إذا قام الجاني بحركة مادية، ينقل بها الشيء إلى حيازته، أيا كانت طريقته في ذلك: بالنزع أو السلب، أو الخطف، أو النقل، وما إليها. وكل ما يشترطه القانونيين هو أن يكون الاستيلاء على الشيء، قد تم بفعل الجاني، وليس من الضروري عندهم أن يكون الاستيلاء بيد الفاعل، فيعد سارقًا كل من قرب حيوانًا، واستخدمه في الاستيلاء على شيء، ونقله إلى مدربه ويكفي لكي يعد الشخص سارقًا أن يهيئ أسباب انتقال الحيازة إليه، كمن يحول مجرى مياه الغير إلى أرضه، حتى تنحدر إليها عند وردها1، وكل ما عده القانونيون لا يخرج عن مفهوم السرقة المعاقب عليها، عند فقهاء الشريعة بالمعنى العام للعقوبة، وإن كان بعضه فقط، هو الذي ينطوي تحت مفهوم السرقة الحدية المعاقب عليها بالعقوبة المقدرة من لدن الشارع الحكيم. ولا غرو في هذا إذ أن العقوبات كلها التي وضعها فقهاء القانون، ما هي إلا من باب العقوبات التعزيرية عند فقهاء الشريعة، وإن اختلفتا من بعض الوجوه. والحديث عن جريمة السرقة الصغرى، والشبهات التي تعتريها يتناول أنواعًا من السرقة التي لا يجب الحد بها؛ لقيام شبهة في الركن الشرعي للجريمة. وهذا ما سيتضمنه المطلب الثاني من هذا المبحث.

_ 1 شرح قانون العقوبات القسم الخاص أ. د: محمود مصطفى ص441-442. شرح قانون العقوبات القاسم الخاص. أ. د: أحمد الألفي ص268-269.

المطلب الثاني: سرقات أختلف في وجوب الحد بها لقيام شبهة في الركن الشرعي

المطلب الثاني: سرقات اختلف في وجوب الحد بها؛ لقيام شبهة في الركن الشرعي مما سبق من تعاريف الفقهاء لسرقة يبين ما وضعه الفقهاء من شروط لاعتبار الفعل سرقة، وتتمثل هذه الشروط بصفة عامة في الأخذ خفية، وأن يكون الشيء المأخوذ محرزًا، متمولًا، مملوكا للغير، تصل قيمته حد النصاب أو تزيد، وأن يكون المسروق، مما لا يتسارع إليه التلف، وأن لا يكون للسارق تأويل ولا شبهة. فمن قام بالفعل المادي للسرقة، واستوفى فعله هذه الشروط، واكتملت أركانه عوقب على فعله هذا بالعقوبة الحدية. أما من وقع منه هذا الفعل المادي مع وجود شبهة من الشبهات، التي تلحق الركن الشرعي بجريمة السرقة، فإن عقوبتها الحدية تندرئ عنه، ولا يلزم بها، سواء تترتب على ذلك إعفاؤه من جنس العقوبة، أو إعفاؤه من العقوبة الحدية فقط، وإلزامه بعقوبة تعزيرية تناسب ما وقع منه من سلوك. وسأذكر فيما يلي بعض الوقائع، التي اكتمل فيها الركن المادي لجريمة السرقة غير أن العقوبة الحدية المترتبة على ذلك، قد لا تلحق الجاني نظرًا قيام شبهة من الشبهات التي تحلق الركن الشرعي للجريمة. سواء أكانت هذه الشبهة من الشبهات التي يعتد بها من يعمل قاعدة درء الحدود بالشبهات، أم كانت هذه الشبهة من الشبهات التي يعتد بها البعض، ويعملها دون بقية الفقهاء.

مع بيان وجهة نظر كل منهم، ودليله على ما ذهب إليه: 1- ذهب جمهور الفقهاء إلى أن السرقة الحدية لا يكتمل وصفها، إلا إذا انتهك السارق الحرز، وأخرج منه المسروق، واستولى عليه وأدخله في حيازته. وعلى هذا لو دخل شخص منزلًا، وجمع من هذا المنزل متاعًا بلغ حد النصاب أو يزيد، ووضع هذا المتاع في حقيبة مثلًا، ثم حملها وهم بالخروج من المكان الذي سرق منه المتاع، وقبل أن يخرج أمسك به صاحب المتاع أو غيره، فإن جمهور الفقهاء يرون أن مثل هذا الفعل لا يعد سرقة موجبة للعقوبة الحدية؛ لأن وصف الجريمة الحدية لم يكتمل بعد في حق السارق؛ لأنه لم يخرج بما أخذه من متاع خارج حرزه الذي وضع فيه، ولم يصبح المال المأخوذ في حيازة آخذه، وعليه فإن قيام شبهة عدم دخول المال المأخوذ في حيازة آخذه من حرزه، تدرأ العقوبة الحدية عن هذا الآخذ، وإن ألزم عقوبة تعزيرية مناسبة1. وروي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- والحسن البصري، وإبراهيم النخعي أن من دخل الحرر، وجمع المتاع ثم تهيأ للخروج، ولم يخرج، فإنه يجب قطعه2. وهذا أيضًا هو ما ذهب إليه ابن حزم، وذلك كله مبني على أساس عدم اشتراط الحرز، أو جوب القطع بالسرقة، واستدل ابن حزم على

_ 1 فتح القدير ج5 ص385، المدونة ج16 ص72 الحرشي ج8 ص97، المهذب ج2 ص279، المغني ج8 ص255، نيل الأوطار ج7 ص146، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص107، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285. 2 فتح القدير ج5 380، المغني ج9 ص110.

ما ذهب إليه بأدلة منها ما أورده في قوله: قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فوجب بنص القرآن أن كل من سرق فالقطع عليه، وبالضرورة الحسية، وباللغة يدري كل آخذ أن من سرق من حرز، أو من غير حرز، فإنه سارق -فقطع يده واجب بنص القرآن، ولا يحل أن يخص القرآن بالظن الكاذب، فإن من قال: إن الله تعالى أراد في هذه الآية من سرق من حرز، فإنه مخبر عن الله تعالى، بما لم يخبر به عن نفسه، ولا أخبر به عن نبيه -صلى الله عليه وسلم". كما استدل ابن حزم أيضًا بما جاءت به السنة النبوية، مما يفيد العموم من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد". ومن قوله -صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده"، ثم علق بن حزم على هذين الحديثين بقوله: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقطع يد السارق جملة، ولم يخص عليه السلام حرزًا من غير حرزه إلى أن يقول: واو "أن الله عز وجل أراد أن لا يقطع يد السارق حتى يسرق من حرزه، ويخرجه من الدار، لما أغفل ذلك". ولا أهمله، ولا أعنتنا بأن يكلفنا علم شريعة لم يطلعنا عليه، وليبينه على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم"1. واستدل أصحاب هذا الاتجاه أيضًا بما روي من أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قطع يد السارق الذي سرق ثوبًا من المسجد2، إذ المسجد لا يعتبر

_ 1 المحلى ج13 ص340-353. 2 روي أن صفوان بن أمية، قال: "كنت نائمًا في المسجد في خميصة لي فسرقت، فأخذنا السارق، فرفعناه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بقطعه، فقلت: يا رسول الله أفي خميصة ثمن ثلاثين درهمًا؟ أنا أهبها له. قال: فهلا كان قبل أن تأتيني؟ روي عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء، ثمنه ثلاثة دراهم"، نيل الأوطار ج7 ص145-146، وما بعدهما.

حرزًا، وعليه فإن من سرق سواء أكان من حرز، ولم يخرج بالمسروق، أم كان من غير حرز وجب قطعه، إذا اكتملت فيه باقي شروط السرقة. وما ذهب إليه فقهاء الجمهور هو ما أرجحه، وأميل إليه لوجود شبهة عدم دخول المال المأخوذ في حرزه من أخذه من حرز، وعدم الاستيلاء الكامل عليه. أما ما ذهب إليه ابن حزم، ومن وافقه من عدم اعتبار الحرز في إيجاب العقوبة الحدية، فقول مردود بما ذهب إليه أئمة اللغة، الذين عرفوا السرقة، والاستراق بالمجيء مستترًا لأخذ مال غيره من حرز1. فالحرز شرط لا يجانب العقوبة الحدية، وعدم مفارقة الحرز تنهض شبهة في حق الآخذ؛ لجواز أن يستيقظ ضميره قبل مفارقته المكان، فيترك الشيء المأخوذ. أما ما استدل به ابن حزم من أن الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية جاءت عامة شاملة كل من سرق من حرز، أو غيره -ولا يجوز أن يخص القرآن بالظن، فقول يحتاج إلى مناقشة.

_ 1 القاموس المحيط مادة سرق، ويراجع ما أوده الشوكاني في نيل الأوطار ج7 ص147، وابن حجر في فتح الباري ج5 ص116 "ط مصطفى الحلبي سنة 1959م".

لأن ما جاء من أدلة تفيد العموم قد خصصت بدليل أنه لا قطع على الصبي، أو المجنون، ولا على من سرق شيئًا غير متمول1. وعلى هذا فإن الدليل العام قد دخله التخصيص، وما جاز تحصيصه خصص بالدليل الظني2، ومع هذا فإن تخصيص العموم

_ 1 يقول ابن الهمام: "وقد ثبت أن لا قطع في أقل من ثمن المجن، ولا في حريسة الجبل، فتخصصت الآية به، فجاز تخصيصها بعدها بما هو من الأمور الإجماعية، وبأخبار الآحاد، فتح القدير ج5 ص38. 2 اللفظ العام يشمل جميع أفراده على سبيل الاستغراق، لكن قد يرد ما يدل على إخراج بعض ما يشمله اللفظ العام، وقصره على بعض أفراده، ودليل التخصيص قد يكون الفعل أو العرف، أو نصًا مخصصًا، ويتفق الأصوليون على التخصيص بالعقل والعرف، فخطاب الله تعالى بالتكليف في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ، وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، "جاء الخطاب بلفظ عام لكن العقل يخرج الصبيان والمجانين. كما اتفق الأصوليون على أن العام إذا خصص بدليل قطعي، فإنه يجوز تخصيصه بعد ذلك بأي دليل ولو ظني؛ لأن العام بعد تخصيصه أصبحت دلالته على العموم ظنية حتى عند الحنفية. من ذلك قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، فلفظ البيع عام وقد خصص بنص قطعي، وهو "حرم الربا"، فأصبحت دلالته بعد ذلك على باقي أفراده ظنية: ولذا جاز تخصيصه بأخبار الآحاد، كما جاز تخصيصه بالقياس" يراجع أصول الفقه الإسلامي -أستاذي الدكتور سلام مدكور ص226-235 الأستاذ الدكتور زكريا البزي ص213-218.

هنا تخصيص بما هو مجمع عليه، وبما ورد من الأخبار من رواته موثوق بهم1. وثمرة لهذا الخلاف تنتج الشبهة تحلق الركن الشرعي للجريمة، يترتب عليها درء العقوبة الحدية عن الفاعل.

_ 1 وذلك مثل ما رواه رافع بن خديج قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، نيل الأوطار ج7 ص143، وما روي عن الإمام مالك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريسة جبل"، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص107 "ط أولى". وقد ذكر ابن قدامة هذا الخلاف عند حديثه عن شروط وجوب القطع، فقال: "أن يسرق من حرز يخرجه منه"، وهذا قول أكثر أهل العلم، وهذا مذهب عطاء والشعبي، وأبي الأسود الدؤلي، وعمر بن عبد العزيز والزهيي، وعمر بن دينار، والثوري، ومالك، والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم أحد من أهل العلم خلافهم، إلا قولا حكي عن عائشة والحسن، والنخعي فيمن جمع المتاع، ولم يخرج به من الحرز عليه القطع، وعن الحسن مثل قول الجماعة، وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز؛ لأن الآية لا تفصيل فيه، وهذه أقوال شاذة غير ثابتة عمن نقلت عنه، قال ابن المنذر، وليس فيه ثابت، ولا مقال لأهل العلم، إلا ما ذكرناه، فهو كالإجماع والإجماع حجة على من خالفه، وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رجلًا من مزينة، سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الثمار، فقال: "ما أخذ في غير كمامة، فاحتمل ففيه قيمته، ومثله معه، وما كان في الخزائز ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن"، رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما، وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب، المغني ج8 ص248.

2- النشال: أو الطرار، وهو من يأخذ ما مع الشخص المتيقظ في غفلة منه1. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى وجوب القطع على النشال، إذا أخذ نصاب السرقة، وأثبت عليه ذلك. سواء شق الجيب، وأخذ منه المال، أو أدخل يده في الكم، أو في الجيب مأخذ من غير شق، وكذا ما أخذ من حقيبة، شقها أو لم يشقها؛ لأن كل هذه الأشياء التي أخذ منها هي عند جمهور الفقهاء حرز لما وضع فيها عرفًا، فإذا أخذه في غفله من صاحبه، فهو إذا سارق، ولا ينظر إلى شق أو غيره؛ ولأن مال الشخص محرز بوجوده معه. وذهب الإمام أبو حنيفة، ومن وافقه إلى أن النشال لا قطع عليه، إلا إذا شق الجيب أو الكم؛ لأن هتك الحرز قد تحقق، وقد بين ذلك كله ابن الهمام بقول: هـ.. "وعن أبي يوسف أنه أي الطرار يقطع على كل حال، وهو قول الأئمة الثلاثة؛ لأن صورة أخذه من خارج الكم إن لم يكن محرزًا بالكم، فهو محرز بصاحبه، وإذا كان محرزًا بصاحبه، وهو نائم إلى جنبه2، أفلأن يكون محرزًا، وهو يقظان والمال يلاصق بدنه أولى، قلنا: بل الحرز هنا ليس إلا الكم؛ لأن صاحب المال يعتمد الكم، أو الجيب لا قيام نفسه، فصار الكم كالصندوق، وهذا؛ لأن المطرور كمه أما في حالة المشي أو في غيره، فمقصوده في الأولى ليس إلا قطع المسافة لا حفظ المال، وإن كان الثاني فمقصوده الاستراحة عن حفظ

_ 1 طر أي شق، ومنه الطراز وهو الذي يقطع النفقات، ويأخذها على غفلة من أهلها، المصباح المنير. 2 يشير بذلك إلى ما روي من حديث صفوان بن أمية، السابق نيل الأوطار ج7 ص145-146.

المال وهو شغل قلبه بمراقبته، فإنه متعب للنفس فيربطه ليريح نفسه من ذلك، فإنما اعتمد الربط، والمقصود هو المعتبر في هذا الباب1، والذي أرجحه هو وجوب القطع على النشال، سواء أشق جيبًا أو قميصًا، أم لم يشق، وسواء أخذ المال من الجيب، أم أخذه من حقيبة يحملها المسروق منه في يده، ما دام قد غافله النشال، وأخذ منه ما أخذه من مال، أو غيره مما يتقوم بالمال على سبيل الخفية والمغافلة؛ لأنه إن أخذه بغير ذلك فله حكم آخر، يأتي في الحديث عن جريمة السرقة الكبرى، كما أن ما وقع لصفوان بن أمية2، وحكم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بوجوب القطع، يدل صراحة على وجوب قطع النشال، سواء كان المسروق منه نائمًا، أم متيقظًا فسارق خميصة صفوان قد سرقها، وصفوان نائم، ومع ذلك اعتبرها الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد سرقت من حرر لنومه عليه، فمن باب أولى من ينشل من المتيقظ المشغول بما حوله اعتمادًا على أن حاله في جيبه، أو حقيبته، وما إلى ذلك ما دام السارق قد أخذ ماله في الخفاء بعد أن غافله، والشبهة هنا قد نتجت من عدم وضوح دلالة كلمة السرقة على ما وقع من النشال من فعل، ولاختصاص النشال باسم غير اسم السارق، عند اللغوين3، هذا بالإضافة إلى ما أورده الفقهاء، من مسألة اعتبار ما أخذ منه النشال حرزًا أم لا.

_ 1 فتح القدير ج5 390-391 المدونة الكبرى ج15 ص280 المهذب ج2 ص279 المغني لابن قدامة ج8 ص256، أحكام القرآن للقرطبي ج6 ص170. 2 أبو وهب، صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجميحي، صاحبي من أشراف قريش أسلم بعد الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، مات بمكة تهذيب التهذيب ج4 ص424. 3 أصول الفقه الإسلامي الدكتور سلام مدكور ص283 أصول. الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور، زكريا البري ص236، ويراجع أيضًا المرآة على المرقاة ص106 شرح المنار لابن مالك، وحاشية الرهاوي المصري ص361-363، نقلًا عن أصول الفقه الإسلامي أ. د: سلام مدكور.

وعليه، فالشبهة هنا من الشبهات التي تلحق الركن الشرعي للجريمة. 3- النباش: هو الذي ينبش القبور لأخذ أكفان الموتى1، ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب القطع على النباش؛ لأن عمله يصدق عليه أنه سرقة، وأن النباش يصدق عليه أنه سارق، يقول ابن حزم مبينًا ذلك: "ووجدنا" السارق "في اللغة التي نزل بها القرآن، وبها خاطبنا الله تعالى: هو الأخذ شيئًا لم يبح الله له، فيأخذه متملكًا له مستخفيا به، فوجدنا النباش هذه صفته، فصح أنه سارق ... فقطع يده واجب -وبه نقول2، واستدل ابن قدامة لذلك أيضًا بما روي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: "سارق أمواتنا سارق أحياءنا"،3 واستدل فقهاء الشيعة لذلك أيضًا، بما روي من أن عليا -رضي الله تعالى عنه- نباش القبر، فقيل له: أتقطع في الموتى؟ فقال: "إنا نقطع لأمواتنا، كما نقطع لأحيائنا"4.

_ 1 النبش: الاستخراج: يقال: نبشت الأرض نبشًا: كشفتها موته سمي الإنسان الذي يحفر القبور، ويستخرج منها أكفان الموتى، نباشًا، مبالغة المصباح المنير، ولسان العرب. 2 المحلى ج3 ص358. 3 المغني ج8 ص272. 4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص296.

وذكر الخرش وجوب القطع على النباش، إذا أخذ الكفن، سواء كان القبر قريبًا من العمران أم لا "حتى ولو ألقى الميت في البحر؛ لأن البحر حينئذ صار حرزًا له"1. أما فقهاء الشافعية، فقد فصلوا القول في ذلك بأن من نبش قبرًا، وسرق منه الكفن، فإن كان في برية لم يقطع؛ لأنه ليس بحرز للكفن، وإنما يدفن في البرية الضرورة، وإن كان في مقبره تلي العمران قطع لما روى البراء بن عازب2 -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه، ومن نبش قطعناه" 3. وذهب فقهاء المالكية، والشافعية والحنابلة، ومن وافقهم إلى أن النباش إن سرق ما زاد على الكفن المشروع، فلا قطع عليه؛ لأنه قد أخذ من غير حرز، وكذا لو سرق ما وضع مع الميت من طيب، أو ذهب أو فضة، أو جوهر وما شابه ذلك، فلا قطع عليه؛ لأن ذلك ليس بكفن، وليس القبر بحرر له فتركه في القبر سفه وتضييع4.

_ 1 الخرشي ج8 ص99. 2 البراء، أبو عمارة البراء بن عازب، وهو وأبوه صحابيان، وأول مشاهدة أحد شهد بيعة الرضوان، وروي له 305 من الأحاديث، ونزل الكوفة توفي بها في عهد عبد الملك بن مروان بعد منتصف القرن الهجري الأول. 3 المهذب ج2 ص278. 4 وهذا ما ذهب إليه عمر، وابن مسعود، والسيدة عائشة، ومن العلماء أبو ثور والحسن، والنخعي، وقتادة، وحماد، وعمر بن عبد العزيز يراجع في ذلك الخرشي ج8 ص99، المهذب ج2 ص278 فتح القدير ج5 ص375 المبسوط ج9 ص159.

وذهب الإمام أبو حنيفة، ومن وافقهما إلى أنه لا قطع على النباش، واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا قطع على المختفي" 1، والمختفي هو النباش في عرف أهل المدينة. وروي عن الزهري2 قال: أخذ نباش في زمن معاوية، وكان مروان على المدينة، "فسأل من بحضرته من الصحابة والفقهاء، فأجمع رأيهم على أن يضرب ويطاف به"3. ومبني ذلك عند أبي حنيفة ومن وافقه، أن القبر ليس بحرز؛ لأنه حفره في الصحراء مأذون للعموم من المرور به ليلًا ونهارًا، ولا غلق عليه ولا حارس منصد لحفظه، فلم يبق إلا مجرد دعوى أنه حرز تسمية ادعائية بلا معنى، ولا يترك ذلك عن أن يكون في حرزيته شبهة، وبه ينتفي القطع، وهذه هي الشبهة الأولى عند أبي حنيفة ومن وافقه، وهي من الشبهات التي تتصل بالركن الشرعي للجريمة. أما الشبهة الثانية عند أبي حنيفة، فهي في كون الكفن مملوكًا لأحد، فالإمام أبو حنيفة يرى أن الكفن مملوك لأحد، لا للميت؛ لأنه ليس أهلًا للملك، ولا للوارث؛ لأنه لا يملك من التركة لا ما يفضل عن حاجة الميت، فإن صح أنه لا ملك فيه لأحد فلا قطع بسرقته، وإلا فتحققت شبهة في مملوكيته بما ذهب إليه الإمام، ويتحققها لا قطع به أيضًا.

_ 1 نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي ج3 ص366 "ط أولى"، ووافق أبو حنيفة، ومحمد كلا من ابن عباس والثوري، والأوزاعي، ومكحول والزهري، فتح القدير ج5 ص375 المبسوط ج9 ص159. 2 وروى ابن أبي شيبة عن الزهري، قال: أتى مروان بقوم يختفون أي ينبشون القبور فضربهم، ونفاهم والصحابة متوافرون. أخرجه عبد الرازق في مصنفه، وزاد فيه وطوف بهم فتح القدير ج5 ص375. 3 المرجع السابق.

وأضاف ابن الهمام ما تلزم به شبهة أخرى، وهو أن في مالية الكفن قصورًا؛ لأن المال ما يجرى فيه الرغبة، والضنة1، والكفن ينفر عنه كل من علم أنه كفن ميت، إلا نادرًا من الناس، وهاتان الشبهتان أيضًا مما يعتري الركن الشرعي للجريمة من شبهات. كما أورد ابن الهمام شبهة أخرى بقوله: "شرع الحد للانزجار"، والحاجة إليه لما يكثر وجوده، فأما ما يندر فلا يشرع فيه لوقوعه في غير محل الحاجة؛ لأن الانزجار حاصل طبعًا"2. كما أورد فقهاء الأصول شبهة في وجوب القطع على النباش؛ لأنه وضع له اسم غير السارق، وعليه فلا ينطبق اسم السارق عليه، وقد أورث ذلك شبهة في حقه. كما ذكروا أن السارق تقطع يده، إذا خاصمه مالك المسروق، والكفن لا مالك له كما قال بذلك الإمام أبو حنيفة3. وقد أورد أبو القاسم الموسوي بعض أقوال عن بعض فقهاء الشيعة، يرون فيها أنه لا قطع على النباش، إلا إذا عرف بذلك واعتاده، وقد حاول الطعن في صحة ذلك بأن من أوردهما لم يرد فيه توثيق، ولا مدح4.

_ 1 الضنه: البخل، المنجد ولسان العرب مادة "صن". 2 فتح القدير ج5 ص375-376 المبسوط ج9 ص160. 3 أصول الفقه الإسلامي أ. د سلام مدكور ص283. أ. د: زكريا البري ص237. 4 من ذلك صحيحه الفضيل، عن أبي عبد الله "عليه السلام"، قال: "النباش إذا كان معروفًا بذلك قطع..؟ وفي أخرى سألته عن رجل أخذ هو ينبش؟ قال: لا أرى عليه قطعًا إلا أن يؤخذ، وقد نبش مرارًا فاقطعه. يقول أبو القاسم: وهاتان الروايتان، لا يمكن الأخذ بهما؛ لأن الأولى لم يرد في راوياها توثيق ولا مدح، وأما الثانية فإن المعروفية غير التكرار.

روي من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا قطع على المختفي"، فقد قال عنه الزيلعي1 أنه غريب: "كما أن المختفي يمكن حمله على المظهر للأخذ نظرًا؛ لأن فعله أخفى: من أسماء الأضداد"2، وصرف اللفظ على ظاهر، أو ما استعمل فيه فيما اشتهر من لغة العرب أولى من صرف إلى اسعمال فئة من الناس من غير أن تقوم على ذلك قرينة، "أما ما يراه الإمام من شبهة عدم الحرز، فمردود بما ذكره الجمهور من أن القبر حرز للميت، وثيابه تبعه له، فيكون حرزًا لهما أيضًا". وذكر ابن قدامة في ذلك: أن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر دون غير، ويكتفي به في حرزه، ألا ترى أنه لا يترك الميت في غير ذلك القبر من غير أن يحفظ كفنه، ويترك في القبر وينصرف عنه3.

_ 1 الزيلعي: أبو محمد عثمان بن علي الملقب بفخر الزيلعي نسبة إلى زيلعي، وهي بلد تقع على ساحل بحر الحبشة، قدم القاهرة سنة 705، ودرس بها وأفتى واشتهر بالفقه والنحو ت سنة 743هـ. 2 يراجع في ذلك لسان العرب، المصباح المنير مادة خفي. 3 المغني ج8 ص272.

ولأن حرز كل شيء ما يليق به، فحرز الدواب بالاصطبل، والثياب بما أعد لها من حقائب أو ما ماثلها، ولو وضع الشيء في غير حرزه، وسرق لم يجب به قطع لكن الكفن في حرزه، ويتساءل المثبتون للحرز فيقولون: ألا ترى أن الوصي إذا كفن صبيًا من ماله لا يضمن لورثته شيئًا، فلو لم يكن محرزًا، كان تضييعًا موجبًا للضمان، فكان أخذا الكفن من القبر عين السرقة1. أما ما ذكر من شبهة أنه لا مالك للكفن، فهو قول مردود؛ لأن الكفن مملوك للميت؛ لأنه كان مالكًا له في حياته، ولا يزول مالكه إلا عما لا حاجة به إليه ووليه يقوم مقامه في المطالبة، كقيام ولي الصبي في الطلب بماله2. كما أن ما ذكره الإمام أبو حنيفة من شبهة عدم مالية الكفن، بدليل أنه لا تجري فيه الرغبة والضنة، وأنه ينفر عنه كل من علم أنه كفن ميت، إلا نادرًا من الناس، فهذه الشبهة ترد بأن من يسرق الكفن، يمكن أن يبيعه لمن لا يعلم حقيقته، وبذا يكون قد استعاض عنه بمال، ومن الأكفان ما يتعالى فيه، فيختار من نوع غال من القماش وهكذا، كما أنه إذا رغب فيه بعض الناس مع علمهم بحقيقة، أصبح للكفن قيمة مالية عندهم. وما ذهب إليه من أن الحد شرع للانزجار، وأما ما يندر فلا يشرع فيه، أو وقوعه في غير محل الحاجة؛ لأن الانزجار حاصل طبعًا.

_ 1 فتح القدير ج5 ص376، المبسوط ج9 ص160-161. 2 المغني ج8 ص272، المهذب ج2 ص278، ويراجع أصول الفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور زكريا البري ص237.

فهذا مردود بما أصبح متفشيا بين الكثير، الذين وصل بهم الحد إلى سرقة جثة الميت ذاتها، والاتجار فيها لطلاب كليات الطب، كما أن الطباع قد ألفت أشياء كثيرة، كانت النفرة عنها غالبة في الماضي. وعلى هذا، فإن وجوب القطع على النباش بشروط القطع الأخرى، أوجب وألزام بل والزيادة على القطع؛ لأنه بجانب كونه سارقًا، فهو قد انتهك حرمات الموتى، وهذا ما أراه مناسبًا لتعليل ما جاء من أقوال بقتل النباش، أو بقطع يده ورجله1. وقد ذهب بعض فقهاء القانون الوضعي إلى القول بشبهة عدم امتلاك أكفان الموتى، وما يوضع في القبور من مصوغات، وغير ذلك، واعتبروا ذلك كله من قبيل الأموال المتروكة، التي لا يلزم من سرقها بعقوبة على فعله. وإن كان الرأي الراجح قد اعتبر ذلك كله من الأموال المتروكة. ونصت محكمة النقض على أن أكفان الموتى، والملابس والحلي، وغيرها من الأشياء التي اعتاد الناس إيداعها القبور مع الموتى، وإنما هي مملوكة لورثة هؤلاء، وقد خصصوها لتبقى مع جثث أهليهم لما وقر في نفوسهم، واستقر في ضمائرهم من وجوب كرمهم في أجداثهم على هذا النحو2، وما ذهب إليه الفقه الإسلامي من التفريق بين الكفن، وغيره، مما يوضع في القبر أولى، أما ما استقر من عقائد باطلة في نفوس البعض، فالأولى بمحكمة النقض أن تحاول إصلاحه؛ لأن فيه إضاعة أموال بغير داع.

_ 1 المحلى ج13 ص356. 2 قانون العقوبات القسم الخاص. أ. د: أحمد الألفي ص284.

4- سرقة أحد الزوجين من مال الآخر: علاقة الزوجية كرمها الإسلام، ورفعها منزلة عالية، وألزم كلا من الزوجين حقوقًا، وفرض عليه واجبات. فهي علاقة تزيل الحجب التي لا تزال، ولا ترفع في ظل هذه العلاقة، فقد جعل القرآن الكريم كلا من الزوجين لباسًا للآخر: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 1. ولما كانت علاقة كل من الزوجين بهذه المنزلة، فإن للفقهاء آراء في إيجاب العقوبة الحدية على كل من الزوجين، إذا سرق من مال الآخر. فقد ذهب فقهاء الأحناف، وفي رأي للإمام الشافعي، أنه لا قطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه، سواء أكان هذا المال غير محرز عن السارق، أم كان محرزًا عنه، وجد هذا المال في المكان الذي يسكنان فيه، أو في مكان آخر، ومبنى ذلك أن بين الزوجين بسوطة في الأموال عادة ودلالة، فإنها لما بدلت نفسها، وهي أنفس من المال كانت بالمال أسمح؛ ولأن بينهما سببا يوجب التوارث من غير حجب حرمان كالوالدين. ويكفي لإسقاط الحد عن أحدهما قيام الزوجية بينهما، وقت للسرقة فقط، كما لو سرق منها، ثم أبانها ولو رفعت دعواها عليه بعد انقضاء عدتها. وأيضًا يكفي لإسقاط الحد عن أحدهما قيام الزوجية بينهما، ولو بعد السرقة، سواء أكان التزاوج بعد أن قضى بالقطع، أو لم يقض، وإن

_ 1 من الآية 187 من سورة البقرة.

كان أبو يوسف يرى أن التزواج لو حدث بعد أن قضى بالقطع يقطع. ولا يجب القطع أيضًا إذا سرق من امرأته المبتوتة، أو المختلفة في العدة، وكذا إذا سرقت هي من الزوج في العدة1. كما ذهب فقهاء الأحناف إلى أن من سرق من بيت زوجته ابنه، أو أبيه أو زوج ابنته أو زوج أمه، أو بنت زوج أمه، فإنه لا قطع عليه أن كان يجمعهما منزل واحد، أما إذا كان كل منهما في منزل على حده، فإن الإمام أبا حنيفة يرى عدم القطع؛ لأنه لا يرى قطعًا بالسرقة من منزل الأصهار، أو الأختان، وإن كان الصاحبان يريان القطع ما دام لا يجمعهما منزل واحد؛ لأانه لا شبهة في ملكيتهما، واستدل فقهاء الأحناف لما ذهبوا إليه، بالإضافة إلى ما ذكر بأن شهادة كل من الزوجين لا تقبل لصاحبه؛ لاتصال المنافع بينهما، وعليه فلا قطع لأحدهما على الآخر؛ لأنه لو سرق من ماله، فإنه قد سرق من مال له فيه منفعة؛ لأنها لها عليه النفقة، وله عليها الحبس. واستدلوا لذلك أيضًا بما روي من أن عمر -رضي الله تعالى عنه- أتى بغلام سرق مرآة لامرأة سيده، فقال: ليس عليه شيء، خادمكم سرق متاعكم: "فإذا لم يقطع خادم الزوج، فالزوج أولى". وبهذا استدل أيضًا بعض فقهاء الحنابلة للقول بإسقاط القطع عن كل من الزوجين، إذا سرق من مال أحدهما، حتى ولو كان محرزًا عن الآخر2، وذهب فقهاء المالكية والشيعة، وجمهور فقهاء الحنابلة، ورأي

_ 1 المبسوط ج9 ص190. 2 فتح القدير ج5 ص382-383، البحر الرائق ج5 ص62-63، مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281 المغني ج8 ص276-277، المبسوط ج9 ص188.

عند الشافعية إلى أنه لا قطع على كل من الزوجين، إذا سرق من مال الآخر إذا كان غير محرز عنه، أما لو سرق أحدهما من مال الآخر المحرز عنه، فإنه يقطع به. يقول الخرشي: "ويقطع أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه، بشرط أن يكون المال المسروق في مكان محجور عن السارق أن يدخله، أما لو سرق من مكان يدخله، فإنه لا قطع عليه؛ لأنه حينئذ خائن لا سارق"1. كما استدلوا لذلك بعموم الآيات والأخبار؛ ولأن النكاح عقد على منفعة فلا يؤثر في درء الحد، كالإجارة لا يسقط بها الحد عن الأجير، أو المستأجر إذا سرق أحدهما من الآخر؛ لأنه سرق مالًا محرزًا عنه لا شبهة له فيه. واشترط فقهاء المالكية أن الحجر إنما يعتبر بغلق لا بمجرد الكلام بالمنع، وذهب الإمام الشافعي في رأي ثالث إلى وجوب القطع على الزوج، فيما سرق من مال الزوجة المحرز عنه بخلافها، فيما لو سرقت من مال زوجها المحرز عنها؛ لأن لها حقًا في ماله بالنفقة، وليس له في مالها مثل ذلك. وقد عرض الشيرازي الآراء الثلاثة في قوله: "وإن سرق أحد الزوجين من الآخر ما هو محرز عنه، ففيه ثلاثة أقوال أحدها:

_ 1 المغني ج8 ص276-277، الخرشي ج8 ص98، حاشية الدسوقي ص340، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285، مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281، ويراجع شرح الزرقاني ج5 ص120، الموطأ ص236.

أنه يقطع؛ لأن النكاح عقد على المنفعة، فلا يسقط القطع في السرقة كالإجارة، والثاني: أنه لا قطع؛ لأن الزوجة تستحق النفقة على الزوج، والزوج يملك أن يحجر عليها، ويمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء، فصار ذلك شبهة، والثالث: أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة، ولا تقطع الزوجة بسرقة مال الزوج؛ لأن الزوجة حقًا في مال الزوج بالنفقة، وليس الزوج حق في مالها1. وذهب ابن حزم إلى أن القطع واجب على من يسرق، وتوافرت فيه شروط القطع بصرف النظر عن كونه زوجًا، أو زوجة للمسروق منه، فمن سرق ما لم يبح له أخذه وجب حده، ولا يلتفت إلى ما بين السارق والمسروق منه من علاقة زوجية. ورد ابن حزم على من لا يرى القطع في مثل ذلك، فقال: "إن من لا يرى القطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال الأخرى، يحتج بما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قوله: " كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولدها، وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، "فمن لا يرى القطع يقول: إن كل واحد من الزوجين راع في مال الآخر وأمين عليه، فلا قطع عليه كالمودع، كما جاء به الحديث الشريف، ويقول ابن حزم: إن كل هذا لا حجة لهم فيه أصلًا؛ لأن الحديث الشريف لا دليل فيه على ترك القطع في السرقة، كما أن الحديث الشريق قد بين أن كل من ذكر راع فيما ذكر، وأنهم مسئولون عما استرعوا، والمعلوم يقينًا أن من كان مسئولًا لم تبح له السرقة، أو الخيانة

_ 1 المهذب ج2 ص281-282، مغني المحتاج ج4 ص162.

فيما استودع، وأسلم إليه، وهؤلاء إن لم يكونوا كالأجنبيين، وأقل أمورهم أن يكون عليهم ما على الأجنبيين. كما يضيف ابن حزم: "إن من ذكرهم الحديث لا يختلف أحد في أن عليهم ما على الأجنبيين من إلزام رد ما خانوا وضمانه، فهلا قاسوا -من لم يقولوا بالقطع ما اختلفت فيه من السرقة، والقطع فيها على ما اتفق عليه من حكم الخيانة". أما قياسهم الزوج والزوجة بالمودع، أو المأذون له في الدخول لا حجة لهم في هذا القياس؛ لأنهم لا يختلفون في أن المودع إذا سرق ما لم يودع عنده، أكان من مال آخر للمودع في حرزه، وأن المأذون له في الدخول "لو سرق من مال محرز عنه للمدخول عليه الإذن له في الدخول، لوجب القطع عليهما بلا خلاف، فيلزم من هذا التشبيه أن لا يسقط القطع عن الزوجين، فيما سرق أحدهما من الآخر، إلا فيما ائتمن عليه، ولم يحرز منه"1. ورد ابن حزم قول من رأى القطع على الزوج دون الزوجة، إذا سرق أحدهما ما أحرزه عنه الآخر لما لها في ماله من صداق، ونفقة كسوة وإسكان وخدمة، فهي بذلك كالشريك، وذلك كله يترتب عليه شبهة حق في ماله بالنسبة لها، "وذكر ابن حزم أن دليل من قال بذلك، هو ما جاء من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمن شكت إليه بخل زوجها، وعدم إعطائه لها ما يكفيها وولدها"، إذ قال -صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف".

_ 1 المحلى ج13 ص286-288.

إذ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أطلق يدها على مال زوجها، تأخذ منه ما يكفيها وولدها، فهي مؤتمنه عليه كالمستودع ولا فرق. ويرد ابن حزم على هذا بقوله: "أما قولهم أن لها في ماله الحقوق المذكورة، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أطلق يدها بالصورة الموضحة، فهذا ما لا ينكره أحد. ولكن الذي لا يشك فيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يطلق يدها على ما لا حق لها فيه من مال زوجها، ولا على أكثر من حقها، كما أن إباحة أخذها حقها، وما يكفيها ليس فيه دليل على إسقاط حدود الله تعالى على من أخذ الحرام غير المباح، وقاس ابن حزم ذلك بمن شرب عصيرًا حلالًا، ثم تعداه إلى شراب المسكر الحرام منه. وقال، بوجوب الحد في الحالين، ولا فرق بين المسألتين عنده من حيث إلزام الفاعل فيما حد ما قام به من أفعال. وسوى ابن حزم بين الزوجة، إذا أخذت من مال زوجها ما يزيد عن حقها، وبين الأجنبي، إذا كان له حق عند غيره، وتعمد أخذ ما ليس له بحق، حيث لزام الحد. وبنى ذلك كله على ما ذكره من أن الله تعالى لم يخص إذ أمر بقطع السارق والسارقة، إلا أن تكون زوجة من مال زوجها، وإلا أن يكون زوجًا من مال زوجته، وما كان ربك نسيا1. وما ذكره ابن حزم يحتاج إلى نظر، ومناقشة: أولًا: لم يقل أحد أن في الحديث الشريف دليلًا على إباحة السرقة للزوجين من مال أيهما، وكل ما هنالك أنه نتيجة لوجود شبهة

_ 1 المحلى ج13 ص289- 291.

لكل منهما في مال الآخر نظرًا لقيام حق لكل منهما في مال صاحبه، ولوجود البسطة بينهما في المتاع، وقيام علاقة الزوجية، وما يترتب عليها من مخالطة ومودة، كل ذلك يترتب عليه نفي قيام حرز لمال أحدهما بالنسبة للآخر، ونفي قيام حرز لما لهما بالنسبة لكل منهما، أمر يترتب عليه درء العقوبة الحدية، إذا سرق أحدهما من مال صاحبه. ولم يقل أحد أنه يترتب على ذلك كله، أو أن في الحديث الشريف ما يفيد إباحة السرقة لكل منهما من مال الآخر، هذا ما لم يقل به أحد. وكل ما قيل: أن ما ذكر ينتج شبهة لكل منهما في مال صاحبه تدرأ العقوبة الحدية، ولا تسقط العقوبة كلية إذ تبقى العقوبة التعزيرية، التي يختار منها القاضي ما يراه مناسبًا، كما يبقى أيضًا رد المال لصاحبه. ثانيًا: لا يلزم من التسوية بين الزوجين، والأجنبيين في وجوب الرد، والضمان أن يسوي بينهما في إلزام العقوبة الحدية؛ لأن علة كل من الحكمين غير منضبطة. نظرًا؛ لأن التسوية بين الزوجين والأجنبيين، فيما لكل منهما من حق في مال من سرق منه منعدمة. إذ أنه لا حق لأجنبي في مال غيره ممن هو أجنبي بالنسبة له، أما الزوج والزوجة، فإن ما بينهما من الحقوق، وما على كل منهما للآخر من الواجبات، وما تحتمه العلاقة الشرعية بينهما من المخالطة ورفع الحجب، ما يوجب لكل منهما حقا في مال صاحبه، أو على الأقل ما يورث شبهة حق، أو أن ما أخذه من مال الآخر قد أخذه لغرض آخر غير السرقة، وحتى لو ادعى ذلك، فإن له من العلاقات بزوجه ما يقوي ما يدعيه ويرجحه، ويغلب احتمال صدق مقالته.

وعليه، فإنه لا وجهة التسوية بين الزوجين، والأجنبيين في إلزام كل منهما الحد إذا سرق أحد الزوجين من مال صاحبه، وسرق شخص من آخر غريب عنه. ثالثًا: يرى ابن حزم أنه ليس في إباحة أخذ الزوجة حقها، وما يكفيها ما يسقط حدود الله بالنسبة لمن أخذ الحرام غير المباح، وهذا مما لا يختلف عليه أحد. لكنه يفهم من الحديث صراحة، إباحة أخذ الزوجة من مال الزوج ما يكفيها، دون تحديد نوع المال الذي تأخذ منه؛ لأن الحديث أطلق. وابن حزم ممن لا يحمل النصوص أكثر مما يدل عليه ظاهرها. وما دام ظاهر الحدجيث قد أباح الأخذ، وأطلق دون تحديد جهة أو نوع معين من مال الزوج، فلا شك أن ذلك يترتب عليه إسقاط حرز مال الزوج بالنسبة للزوجة. وإسقاط الحرز يترتب عليه عدم إلزام العقوبة الحدية، لوجود شبهة تتصل بالركن الشرعي للجريمة، نظرًا؛ لأن جمهور الفقهاء يرى أن من أخذ مالًا حرامًا غير محرز لا يقطع بأخذه، وإنما يعاقب بعقوبة تعزيرية مناسبة، إذا رأى القاضي ذلك. رابعًا: استدل ابن حزم على وجوب القطع على الزوجة، إذا سرقت من مال زوجها، مع أن لها فيه حقًا، بقياسه ذلك على ما يجب على من شرب عصيرًا حلالًا، ثم تعده إلى شرب المسكر منه. ولا شك أن تسوية ابن حزم بين الحالتين تسوية غير منضبطة، وقياسه هذه بتلك قياس فاسد؛ لأن الزوجة التي أخذت من مال زوجها، قد أخذت مما لها في حق ثابت، أو على الأقل شبهة حق.

أما من تعدى شرب العصير الحلال إلى شرب المسكر الحرام مع علمه ذلك، فلا حق له، ولا شبهة حق قيما أقدم عليه. فالقياس غير قائم، مع أن ابن حزم لا يعتبر القياس حجة مطلقًا1، "وحتى من يعتبر القياس حجة لا يعمله في إيجاب العقوبة الحدية". خامسًا: التسوية بين "الزوجة وبين الأجنبي إذا أخذ كل منهما ما يزيد على حقه، في وجوب الحد على كل منهم بذلك، تسوية غير منضبطة؛ لأن حق الأجنبي معروف له، ومحدد تمامًا أما حق الزوجة، فليس بمحدد ولا معين المقدار؛ لأن تحديد ذلك يرجع فيه إلى مقدار حاجتها، وما يكفي شراء ما يلزمها، وتحديد ذلك يرجع فيه إلى الظروف والأحوال، والعمدة، فيه هو العرف، وذلك كله يختلف باختلاف الظروف من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، ومن زمان لآخر. والتسوية بين الزوجة والأجنبي، إذا أخذ كل منهم ما يزيد عن حقه، تسوية غير مقبولة أيضًا؛ لأن ما تأخذه الزوجة، وتنفقه على نفسها وولدها، وإن كان زائدًا على ما يكفيها، وولدها إلا أنه غالبًا ما يسعد زوجها، وخصوصًا حين يرى آثار ذلك على ولده، وزوجته التي هي من نفسه ولباس له. أما الأجنبي إذا أخذ ما يزيد على حقه، وأنفقه على نفسه، أو على ولده، فمما لا شك فيه أن ذلك يوفر صدر المأخوذ منه، ويثير حنقه، فالتسوية إذا غير منضبطة من كل جوانبها، ونواحيها.

_ 1 يراجع في ذلك أ. د: سلام مدكور أصول الفقه الإسلامي ص650.

سادسًا: ما ذكره ابن حزم من أن الله سبحانه وتعالى لم يخص إذا أمر بقطع السارق والسارقة، إلا أن تكون زوجة من مال زوجها، وإلا أن يكون زوجًا من مال زوجته: "قد سبق الرد عليه بأن الآيات الكريمة لم تذكر شروط السرقة، ولا تصابها وما إلى ذلك". وما دامت الآيات قد قبلت التخصيص في ذلك، فماذا يمنع من أن يكون من بين ما تخصص به أيضًا سرقة الزوجين من مال أحدهما، نظرًا لما لكل منهما في مال الآخر ما يورث شبهة، سواء أكانت شبهة حق طبقًا لما بينه الرسول -صلى الله عليه وسلم، وذكره ابن حزم: "خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف". أو كانت شبهة انتفاء الحرز نظرًا لطبيعة علاقة الزوجية، ولا يخفى بعد هذا كله أن ابن حزوم لا يرى درء الحد بالشبهة، هذا مذهبه، وقد سبقت مناقشته في الباب الأول، مع أن الشبهة هنا قد وصلت حدا انتقاص شرط من شروط إيجاب الحد على السارق، ألا وهو شرط إحراز المال المسروق بالنسبة للسارق، إذ الإذن بالدخول ينتفي معه الحرز يندرئ الحد، ولا يمنع درء الحد من إلزام السارق عقوبة تعزيرية مناسبة. وقد ذهب فقهاء القانون الوضعي إلى أن الأمر بين الزوجين، لا يخلو من أحد فروض ثلاث، فإما أن يكون المال خاصًا بأحد الزوجين كالملابس، والأوراق وعندئذ يكون اغتياله من الآخر سرقة. وإما أن يكون المال في عهدة أحد الزوجين لحفظه، أو التصرف فيه على وجه معين، وهنا يكون اغتياله تبديدًا. وأخيرًا قد يكون المال في حيازة الزوجين معًا، ولو كان مملوكًا

لأحدهما، وعندئذ يكون اغتيال أحدهما مال الآخر خيانة للأمانة لا سرقة1. ومن هذا يتضح أن القانون قد جعل لأخذ أحد الزوجين مال الآخر غير المحرز عنه، حكمًا غير حكم السرقة، وعاقب عليه بعقوبة مغايرة. أما مال أحدهما المحزر عن الآخر، فقد عد أخذ الآخر له سرقة يلزمه بها عقوبتها، وهذا يتفق وما قال به فقهاء المالكية، والشيعة وجمهور الحنابلة، ورأي للإمام الشافعي، كما سبق بيانه. 5- سرقة الشخص مما يشاركه فيه غيره: المشاركة في المال أما أن تكون مشاركة فعلية، أو تكون مشاركة اعتبارية. أ- المشاركة الفعلية: ويراد بها أن يكون السارق شريكًا حقيقيًا في المال الذي سرق منه، ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا قطع على الشريك، إذا سرق من المال الذي له فيه شركة، وإن قل نصيبه؛ لأن له في المال المسروق حقًا شائعًا، ويترتب على ذلك تدرأ الحد عنه2. وذهب فقهاء الشيعة إلى أن من سرق من المال المشترك بينه، وبين غيره بقدر حصته، أو أقل لم يقطع، ولكنه يعزر، أما لو سرق ما يزيد على حصته بقدر ربع دينار من الذهب، قطعت يده3.

_ 1 أ. د: محمود مصطفى: القسم الخاص ص453-454، ص481-482. 2 المبسوط ج9 ص152، فتح القدير ج5 ص376-377 مغني المحتاج ج4 ص162، المهذب ج2 ص281، المغني ج8 ص278. 3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص284.

أما فقهاء المالكية، فقد ذهبوا إلى أن من سرق من مال شركة بينه، وبين آخرين يقطع بشرطين: الأول: أن يحجب السارق عن مال الشركة، أي ليس له فيه تصرف. الثاني: أن يسرق فوق حقه نصابًا من جميع مال الشركة ما سرق، وما لم يسرق إن كان مثليًا، كما إذا كان جملة المال اثني عشر درهما، وسرق منه تسعة دراهم، وأما إن كان مقومًا فالمعتبر أن يكون فيما سرق فوق حقه، مما سرق لا من جميع المال نصابًا. وعليه فإن من سرق من مال له فيه شركة، ولم يكن المال محجوبًا عنه، فلا قطع عليه. وكذا لو كان محجوبًا عنه، وسرق ما دون النصاب1، وعلل فقهاء المالكية تفريقهم بين المثلى، والمقوم حيث اعتبروا في المثلى كون النصاب المسروق فوق حقه في جميع المال المشترك، ما سرق وما لم يسرق، واعتبروا في المقوم كون النصاب المسروق فوق حقه، فيما سرق فقط، أن المقوم لما كان ليس له أخذ حظه منه، إلا برضاء صاحبه لاختلاف الأغراض في القوم كان ما سرقه بعضه حظه، وبعضه حظ صاحبه، وما بقي كذلك، وأما المثلى، فلما كان له أخذ حظه منه أبى صاحبه، لعدم اختلاف الأغراض فيه غالبًا، فلم يتعين أن يكون ما أخذه منه مشتركًا بينهما، وما بقي كذلك2.

_ 1 الخرشي ج8 ص97، حاشية الدسوقي ج4 ص337. 2 المرجع السابق.

أما ابن حزم، فقد ذهب إلى أن من سرق من شيء له فيه نصيب، فإن كان نصيبه هو ما أخذه فقط، فلا قطع عليه. أما إن أخذ نصيبه وزيادة، فإن كانت الزيادة مما يجب القطع في مثلها قطع، ولا بد، إلا أن يكون منع حقه في ذلك، أو احتاج إليه، فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل، ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا قطع إذا عرف ذلك، وإنما عليه أن يرد الزائد على حقه فقط؛ لأنه مضطر إلى ما أخذ، إذا لم يقدر على تخليصه1. والذي أرجحه من ذلك ما ذهب إليه الجمهور من القول بعدم قطع من سرق مالًا له فيه شركة، أو حق حتى وإن زاد ما أخذه على ماله في هذه الشركة من حق بمقدار النصاب وزيادة، وسواء أكان مثليًا أم منقولًا؛ لأن وجود حق السارق في المال يبيح له اتصال بهذا المال، فيصبح المال غير محرز بالنسبة له. كما أنه تقوم في حقه شبهة ملكه لبعض المسروق، وهي وحدها تكفي لدرء العقوبة الحدية عنه. والتفريق بين المثلى والمنقول تفرقة لا يقوم عليها دليل، حتى عند من أخذ بها. ويكفي لرد رأي من قال بالقطع، ما روي من أن عاملًا لعمر -رضي الله تعالى عنه، كتب يسأله عمن سرق من مال بيت المال. فقال عمر: لا تقطعا فما من أحد إلا وله فيه حق.

_ 1 المحلى ج13 ص355.

وروى الشعبي1 أن رجلًا سرق من بيت المال، فبلغ عليًا كرم الله وجهه، فقال: إن له فيه سهمًا ولم يقطعه2. فإذا كان السارق من بيت المال لم يقطع؛ لأن له فيه سهمًا، وهذا السهم غير معلوم المقدار، ولا مخصص بكونه مثليًا بالنسبة لما سرق أو قيميا، ومع ذلك درء الحد عنه لوجود هذا السهم له، فمن باب أولى يدرأ الحد عمن سرق مالًا له فيه شركة، وحق ونصيب. هذا بالإضافة إلى أن مال بيت المال حرزه قائم بالنسبة لمن سرق منه، أما مال شركة السارق، فالحرز حتى وإن كان موجودًا، إلا أنه لا يقوم بالنسبة له، لجواز دخوله على هذا المال في أي وقت، سواء للاطمئنان عليه، أو لرعايته أو لمراجعته، وما إلى ذلك. فإذا كانت سرقته المحرز لا يقطع بها أن كان للسارق فيما سرقه حق، فما بالنا بسرقته غير المحرز عنه، مما له فيه شركة ونصيب. ويرى فقهاء القانون أن السرقة جريمة من جرائم الاعتداء على المال بقصد تملكه، فلا يتصور إذن حصولها من مالك، ونبغي على هذا أن من يختلس ماله لا يكون سارقًا، ولو كان سيئ القصد معتقدًا وقت الاختلاس أن المال يملكه غيره، وتسري هذه القاعدة، حتى ولو كان للغير حقوق على الشيء المختلس نجلعه أولى بالحيازة من مالكه. غير أن القانون الإنجليزي قد توسع، فأخذ بعموم قاعدة أنه يعد سارقًا كل من يختلس من آخر شيئًا، لا يكون المختلس أحق بحيازته ممن اختلسه منه، ولو كان المختلس مالكًا للشيء، ولو بطريق الاشتراك مع

_ 1 عامر بن شراحبيل ولد بالكوفة، كان يكره الرأي، سمع عليه أبو حنيفة الحديث ت 105. 2 المهذب ج2 ص281.

الغير، فيعتبر سارقًا الشريك الذي يفتح مخزن الشركة بمفاتيح مصطنعة، ويستولي خلسة على شيء من البضائع1. فالقاعدة الأساسية تقضي بعدم عده سارقًا، وهذا ما ذهب إليه الجمهور من الشرعيين، وإن كان الاتجاه الإنجليزي قد ضيق الرأي، فاعتبروه سارقًا حتى، ولو كان ما أخذه مقدار نصيبه في الشركة2. ب- المشاركة الاعتبارية: ويراد بذلك أن يكون للسارق حق ما في المال، الذي سرق منه تقرر -هذا الحق له بدليل شرعي. ولم يقرر هذا الحق عن طريق المشاركة الفعلية الناتجة عن مساهمة كل من المشاركين في رأس المال، محل الشركة، فالمشاركة الاعتبارية بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرت بالنسبة لكل من الزوجين، الواجب على شخص آخر، أوجد هذا النوع من الحق رعاية المصالح، والروابط التي يقررها الشرع، ويحميها ويحترمها، ويلزم على أساسها شخصًا الإنفاق على آخر وإعاشته. وهذا النوع من المشاركة ينتج شبهة، تدرأ الحد عمن سرق من المال الذي حدد له الشرع الإعاشة منه، وتتضح صور المشاركة الاعتبارية، بالإضافة إلى ما سبق أن ذكرت بالنسبة لكل من الزوجين مع الآخر، فيما يأتي من صور أيضًا:

_ 1 أ. د: محمود مصطفى القسم الخاص ص464-466. أ. د: أحمد الألفي القسم الخاص ص181. 2 المرجعان السابقان.

أولًا: المشاركة التي بين الأقرباء ذوي الرحم المحرم كل في مال الآخر، وتشمل مشاركة الوالد ولده، والابن لأبيه، وكل من نفي عنه الحرج في أن يأكل من بيت من تربطه بن صلة، مما حددته الآية الكريمة. التي تقول: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} 1. ثانيًا: المشاركة القائمة بين جماعة من الجماعات في مال من الأموال التي تملكوها، أو ثبت لكل منهم حق فيه، ولم تتم قسمة هذه الأموال بينهم، ولم يعين ما يخص كل فرد منهم، أو لم يفصل عن باقي الأموال بوضوح، ولم يوضع في حرز خاص به. هذه هي صورة المشاركة الاعتبارية، وسأذكر قيما يأتي آراء الفقهاء، فيما إذا سرق أحد هؤلاء من المال الذي له فيه شركة اعتبارية. ونظرًا؛ لأنه قد سبق الحديث عن سرقة كل من الزوجين من مال الآخر. فسأخص بالحديث هنا ما بقي من صور. أولًا: سرقة ذوي الرحم المحرم بعضهم من بعض اهتم الإسلام اهتمامًا عظيمًا بصوة علاقة الأبوة، والحفاظ عليها، فأمر الله سبحانه وتعالى في كثير من آيات القرآن الكريم، بالإحسان إلى الوالدين، ورعايتهما والقيام بشئونهما.

_ 1 من الآية 61 من سورة النور.

وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الابن، وكل ماله لأبيه، ومن هنا ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوالد، إذا أخذ شيئًا من مال ابنه، ولو على سبيل السرقة، فإنه لا يقطع بذلك؛ لأنه أخذ مالًا له فيه ملك، وثبوت هذا الملك للوالد في مال ولده ينتج شبهة في الركن الشرعي لجريمة السرقة، يترتب عليها درء العقوبة الحدية عنه. والأب هنا مراد به الأم أيضًا، فإنه لا قطع عليها إذا سرقت من مال ابنها لما سبق. وذهب فقهاء الأحناف، والشافعية والحنابلة، والشيعة إلى إطلاق الأب، وإن علا وكذا الأم وإن علت، أما فقهاء المالكية فقد اختلفوا في إطلاق الأب على الجد، وإعطاء الجد حكم الأب هنا، فقال ابن الحاجب1: وفي الجد قولان قال في التوضيح: اختلف الأجداد من قبل الأب والأم، فقال ابن القاسم:2 أحب إلي أن لا يقطع؛ لأنه أب؛ ولأنه ممن تغلظ عليه الدية، ورد ادرءوا الحدود بالشبهات، وقال أشهب3: يقطعون؛ لأنهم لا شبهة لهم في مال أولاد أولادهم، ولا نفقة لهم عليهم، وتأمل بعضهم قول ابن القاسم: أحب إلي على الوجوب، ولا خلاف في قطع

_ 1 ابن الحاجب: أبو عمر عثمان بن عمرو المالكي، المتوفى سنة 646هـ، وهو صاحب كتاب منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل. 2 ابن القاسم المصري، أبو عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة، صاحب مالكًا عشرين سنة، وهو صاحب المدونة، وعنه أخذ سحنون، وقد روى الموطأ أيضًا توفي سنة 191هـ. 3 أشهب بن عبد العزيز القيسي، فقيه مصر ولد سنة 145هـ، ومات سنة 204هـ، انتهت رياسة المذهب المالكي بمصر بعد ابن القاسم.

باقي القرابات، وقد تبين له الخلاف في الجد مطلقًا لا في خصوص الجد لأم1. وذهب جمهور الفقهاء من الأحناف، والشافعية والحنابلة، والشيعة إلى أن الابن، وإن سفل لا يقطع بسرقة مال والده، وإن علا. وظاهر قول الخرقي2 من فقهاء الحنابلة، وأبي ثور من فقهاء الشافعية، وابن المنذر3 والإمام مالك أن الابن يقطع بسرقته من مال والده، لظاهر الكتاب؛ ولأنه يحد بالزنا بجاريته، ويقاد بقتله، فيقطع بسرقة ماله كالأجنبي. ورد ذلك جمهور الفقهاء نظرًا لما بين الابن، وأبيه من قرابة تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه، فلا يقطع الابن إذا بسرقته من مال والده، كما لا يقطع الوالد بسرقته من مال ابنه. ولأن النفقه تجب للابن من مال أبيه حفظًا له من التلف، وعليه فلا يجوز إتلافه حفظًا للمال. ولا يجوز قياس قطعه بسرقته من مال أبيه على وجوب الحد

_ 1 حاشية الدسوقي ج4 ص337، الخرشي ج8 ص96، المبسوط ج9 ص151، فتح القدير ج5 ص381، المذهب ج2 ص281، المغني ج8 ص275، مباني المنهاج ج1 ص285، شرح الأزهار ج2 ص375. 2 هو، أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي، فقيه حنبلي من أهل بغداد، له تصانيف منها المختصر في الفقه، توفي بدمشق سنة 334هـ. 3 أبو بكر، محمد بن أبراهيم بن المنذر النيسابوري، كان فقيهًا عالمًا صنف في اختلاف العلماء كتبًا لم يصنف مثلها ت ص309، أو سنة 310.

عليه إذا زنى بجارته لما بين الحالتين من فروق أهمها أن للابن شبهة في مال أبيه، وليست هذه الشبهة موجودة في جارية الأب. وقد بين هذا الشيرازي في قوله: ومن سرق من ولده، أو ولد ولده، وإن سفل أو من أبيه من جده وإن علا، لم يقطع. وقال: أبو ثور يقطع، لقوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، فعم ولم يخصص، وهذا الخطأ لقوله عليه السلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات"، وللأب شبهة في مال الابن وللابن شبهة في مال الأب؛ لأنه جعل ماله كماله في استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه، والآية نخصها بما ذكرناه"1. وزاد فقهاء الأحناف، والشيعة على ما ذكر القول بعدم القطع على من سرق من ذي رحم محرم. أما جمهور الفقهاء، فقد ذهبوا إلى قطع من سرق من ذي رحم محرم، أو من سائر أقاربه، عدا ما ذكر في الآباء والأبناء. واعتمد الجمهور في ذلك على أنه ليس بين باقي ذي الرحم المحرم أبوة، ولا بنوة، وعليه فلا تتمكن الشبهة لأحدها في مال الآخر، بدليل قبول شهادة كل واحد منهم لصاحبه، وجواز إعطائه الزكاة؛ ولأن ما بينهما من قرابة لا يترتب عليها حرمة النكاح أيضًا، ولا استحقاق

_ 1 يراجع في ذلك، المهذب للشيرازي ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص162المغني ج8 ص276، المبسوط ج9 ص151، فتح القدير ج5 ص380-382، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285-289 شرح الأزهار ج4 ص375، الخرشي ج8 ص96 حاشية الدسوقي ج4 ص337.

النفقة، ولهذا يقطع أحدهما إذا سرق من الآخر، ورد فقهاء الأحناف ومن وافقهم، ما ذهب إليه جمهور الفقهاء بأن له سبحانه وتعالى قد رفع الجناح، على الدخول في بيت الأخرى، والأعمام، والأكل منه، وظاهر هذا يقتضي الإباحة، والظاهر وإن ترك لقايم الدليل يبقى شبهة. كما أن الآية الكريمة عطفت بيوت الأخوة، والأعمام على بيوت الآباء والأولاد، والمعطوف حكمه حكم المعطوف عليه. ولا يتعرض على ذلك بما جاء من قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} ؛ لأن الصداقة هذه تنتفي مع السرقة، فتنتفي معها الشبهة، والأخوة لا تنتفي مع السرقة كالأبوة والبنوة. كما ذهب الأحناف أيضًا إلى أن هذه القرابة، يتعلق بها استحقاق النفقة، والعتق عند الدخول في الملك، فإذا ثبت استحقاق النفقة، وما إلى ذلك استتبع وجود حق لبعضهم في مال بعض من وجه. وعلى ذلك تنهض في حقهم شبهتان، أولاهما انتفاء الحرز بالإذن بالدخول، والثانية وجود حق في مقال بعضهم لبعض، ووجود هاتين الشبهتين، أو إحداهما يكفي لدرء العقوبة الحدية، كما أن العقوبة الحدية لا تلزم أيضًا إذا سرق من مال الغير، أو متاعه الموجود في بيت ذي الرحم لوجود الإذن بالدخول، بخلاف ما إذا سرق مال ذي الرحم المحرم من بيت غيره، فإنه يلزمه به القطع، لعدم الإذن بالدخول، ووجود الحرز. وقد بين ذلك كله ابن الهمام بقوله: "وأما وجه عدم القطع في قرابة الولادة؛ فلأنها عادة تكون معها البسوطة في المال، والإذن في

الدخول في الحرز حتى يعد كل منهما بمنزلة الآخر، ولذا منعت شهادته له شرعًا. ويخص سرقة الأب من مال الابن قوله عليه الصلاة والسلام: "أنت ومالك لأبيك". وأما غير الولادة، فألحقهم الشافعي رحمه الله بالقرابة البعيدة، ونحن ألحقناهم بقرابة الولاد، وقد رأينا الشرع ألحقهم بهم في إثبات الحرمة، وافتراض الوصل، فلذا ألحقناهم بهم في عدم القطع بالسرقة، ووجوب النفقة. ولأن الإذن بين هؤلاء ثابت عادة للزيارة، وصلة الرحم، ولذا حل النظر منها إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة، وما ذاك إلا للزوم الحرج لو وجب سترها عنه مع كثرة الدخول عليها، وهي مزاولة الأعمال، وعدم احتشام أحدهما من الآخر. وأيضًا فهذه الرحم المحرمة يفترض وصلها، ويحرم قطعها، وبالقطع يحصل القطع، فوجب صونها بدرئه. ومما يدل على نقصان الحرز فيها قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} . ورجع الجناح عن الأكل من بيوت الأعمام، أو العمات مطلقًا يؤنس طلاق الدخول، ولو سلم فإطلاق الأكل مطلقًا يمنع قطع القريب، ثم هو أن ترك لقيام دليل المنع بقيت شبهة الإباحة على أوزان ما قلنا في: "أنت ومالك لأبيك". فإن قلت: فقد قال: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} ، كما قال: {أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ} ، والحال انه يقطع بالسرقة من صديقه، أجيب بأنه لما قصد سرقة ماله فقد عاداه، فلم يقع الأخذ إلا في حال العداوة.

ولو سرق من بيت ذي الرحم المحرم متاع غيره لا يقطع، ولو سرق مال ذي الرحم المحرم من بيت غيره، يقطع اعتبار للحرز وعدمه1. وذهب ابن حزم إلى وجوب القطع على السارق مطلقًا، سواء أسرق من غريب عنه، أم من ذي رحم محرم، أو من والده أو من ولده، أخذا بظاهر آية السرقة التي أوجبت القطع على كل من سرق، إذا اكتملت فيه شروط القطع، سواء أكان بينه وبين المسروق منه صلة قرابة محرمية أم لا. ورد على ما استدل به الجمهور فيما سبق، فقال: فأما الآية فحق، ولا دليل فيها على ما ذكروا، بل هي حجة عليهم، وقد كذبوا فيها أيضًا، أما كونها لا دليل فيها على ما ادعوه، فإنه ليس فيها إسقاط القطع على من سرق من هؤلاء لا بنص ولا بدليل، وإنما فيها إباحة الأكل لا إباحة الأخذ بلا خلاف من أحد من الأمه. فإن قالو: قسنا الأخذ على الأكل قلنا لهم: القياس كله باطل، وأما قولهم: "إن إباحه الله تعالى الأكل من بيوت هؤلاء، يقتضي إباحة دخول منازلهم بغير إذنهم"، فليت شعري أين وجدوا هذا في هذه الآية أو في غيرها، فيدخل الصديق منزل صديقه بغير إذنه، هذا عجب من العجب، أما سمعوا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} 2.

_ 1 فتح القدير ج5 ص381، المبسوط ج9 ص151-152، البحر الرائق ج5 ص62-63، مباني تكملة المنهاج ج1 ص285-290، شرح الأزهار ج4 ص375، حاشية الدسوقي ج4 ص337 المذهب ج2 ص281، المغني ج8 ص276. 2 من الآيتين 58-59 من سورة النور.

منكم.. إلى قوله تعالى: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، فنص الله تعالى على أنه لا يدخل بالغ أصلًا على أحد إلا بإذن، ودخل في ذلك الأب والابن وغيرهما، حاشا ما ملكت أيماننا، والأطفال، فإنهم لا يستأذنون إلا في هذه الأوقات الثلاثة فقط. وأما قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فقد أوضحنا أن ذلك حبر منسوخ قد صح نسخه بآيات المواريث، فإن قالوا: إن الوالدين حقًا في مال الولد؛ لأنهما إذا احتاجا أجبر على أن ينفق عليهما، فلا يقطع الأب أو الأم فيما سرقا من ابنهما، فهذا تمويه ظاهر، ولم يخالفهم أحد في أن الوالدين إذا احتاجا، فأخذا من مال ولدهما حاجتهما، باختفاء أو بقهر، أو كيف أخذا، فلا شيء عليهما، فإنما أخذ حقهما، وإنما الكلام فيهما إذا أخذا مالًا حاجة بهما إليه، أما سرا وإما جهرًا، فاحتجاجهم بما ليس من مسألتهم تمويه، كما أنهم لا يختلفون فيمن كان له حق عند أحد، فأخذ من ماله مقدار حقه، فإنه لا يقطع ولايقضي عليه برده، فلو كان وجوب الحق للأبوين في مال الولد إذا احتاجا إليه مسقطًا للقطع عنهما، إذا سرقا من ماله مالًا يحتاجان إليه، ولا حق لهما فيه، لوجب ضرورة أن يسقط القطع عن الغريم، الذي له الحق في مال غريمه، إذا سرق منه مالًا حق له فيه، وهذلًا مالًا يقولونه، فبطل ما موهوا به من ذلك1. وما ذكره ابن حزم لا يخلو مما يرد عليه، إذ لم يقل أحد أن الآية أباحت السرقة، لكنها أباحت الأكل، وإباحة الأكل بترتب عليها وجود شبهة حق لمن أبيح له، في المال المباح الأكل منه، وشبهة الحق هذه تدرأ العقوبة الحدية، كما سبق الإشارة إلى ذلك،

_ 1 المحلى ج13 ص380-386.

ولا يخفى أن ابن حزم لا يعمل الشبهات في درء الحدود، وقد سبق الرد عليه أيضًا, وإباحة الأكل أيضًا لم يقل أحد بأنها تبيح الأخذ، وإنما تدرأ الحد فقط مع بقاء العقوبة التعزيرية، ووجوب رد المال، ولم يقال أحد أيضًا أن إباحة الأكل يترتب عليها إباحة دخول المنازل بغير إذن، وإنما يترتب عليها انتفاء حرز المال بالنسبة لمن أبيح له الأكل منه. كما أن الآية التي تحدثت عن تحديد أوقات الدخول بالنسبة لما ملكت أيماننا وأطفالنا، فالدخول هنا مقصود به دخول مكان النوم، الذي قد يتخفف الإنسان فيه من ملابسه، أو تنكشف فيه عورته، بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1. وأما قول ابن حزم أن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، قد نسخ بآيات المواريث، فقول مردود؛ لأنه لا تعارض بين ما يدل عليه الحديث وآيات المواريث؛ لأن هذا الحديث لم يسبق في معرض بيان نصيب الأب في مال ولده، أما محاولة استدلال ابن حزم على وجوب القطع على الوالدين، إذا أخذوا من مال ابنهما خفية ما يجب القطع به، قياسًا لهما بمن كان له حق عند آخر، فأخذ من غريمه أكثر من حقه، فقول مردود؛ لأنه قد جاء في أقوال الفقهاء، فيما مضى التفريق بين حالتين من الحالات التي يأخذ الغريم فيما ما زاد عن حقه، إذ أنهم قد أسقطوا الحد عن الغريم

_ 1 من الآية 58 من سورة النور.

الذي لم يستطع الوصول إلى حقه، إلا بأخذ ما زاد عنه معه1. ولا يخفى أن التسوية بين الوالدين، ولا بين الغريم تسوية غير مقبولة؛ لأن ما أخذه الوالدان قليل من كثير، إذا ما قيس بما أعطياه لابنهما، كما أن الابن إذا رأى آثار هذا المال على والديه، فلن يوغر صدره مثلمًا يراه على غريم. أما فقهاء القانون الوضعي، فإنهم قد اعتبروا سرقة الفروع من أصولهم، أو الأصول من فروعهم، وكذا الأزواج، سرقة تختلف عن غيرها من السرقات، كل ذلك من باب المحافظة على الأسرة، وعلاقاتها. فتنص المادة 312 من قانون العقوبات على أنه: لا تجوز محاكمة من يرتكب سرقة إضرارا بزوجه، أو زوجته، أو أصوله أو فروعه الأبناء على طلب المجني عليه، والمجني عليه أن يتناول عن دعواه بذاك في أية حالة كانت عليها الدعوى، كما له أن يوقف تنفيذ الحكم النهائي عن الجاني في أي وقت شاء. وهذه المادة جاءت بدلًا من مادة أخرى، كانت تقضي بأنه لا يحكم بعقوبة ما على من يرتكب سرقة إضرارًا بزوجه، أو زوجته أو أصوله، أو فروعه.

_ 1 من هؤلاء الفقهاء الأحناف، ويراجع في ذلك المبسوط ج9 ص178، فتح القدير ج5 ص377، بل وقد قرر ذلك ابن حزم نفسه، حين تحدث عمن سرق ما يزيد على حقه، فقال: إلا أن يكون منع حقه، أو احتاج إليه فلم يصل إلى أخذ حقه إلا بما فعل، ولا قدر على أخذ حقه خالصًا، فلا يقطع إذا عرف ذلك، وإنما عليه أن يرد الزائد على حقه فقط؛ لأنه مضطر إلى أخذ ما أخذ إذا لم يقدر على تلخيص مقدار حقه، والله تعالى يقول: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} 6: 119. يراجع في ذلك المحلى ج13 ص355.

ويعلق الأستاذ الدكتور: محمود مصطفى على المادة السابقة بقوله: وقد رؤي بهذا النص المحافظة على مصلحة الأسرة، فلم يشأ المشرع أن يخول للنيابة السير في الدعوى العمومية، رغم إرادة المجني عليه، الذي قد يرى أن مصلحة العائلة عدم إثارة الجريمة ... وسواء أكان الفاعل يعلم بهذه العلاقة التي تربطه بالمجني عليه، أو أكان يجهلها1. ثانيًا: السرقة من المال الذي تملكه الجماعة والمال الذي تملكه الجماعة ينقسم بحسب ما يصدق عليه لفظ الجماعة إلى قسمين: الأول: المال الذي تملكه جماعة محددة بسبب اغتنامها له، أو وقفه عليها، أو الإيصاء به لها، أو تخصيصه للإنفاق منه عليها. الثاني: المال العام، أو الذي تملكه الدولة، وهو ما يسمى عند الفقهاء مال بيت المال. ذهب جمهور الفقهاء إلى أن من سرق من مال له فيه حق، فلا قطع عليه سواء أخذ حقه، أو ما زاد عنه اعتمادًا على أن وجود له في المال ينهض شبهة تدرأ الحد عنه. وقد سبق بيان ذلك2: وقيد أبن حزم، وفقهاء الشيعة الجعفرية عدم القطع بما إذا سرق

_ 1 أ. د: محمود مصطفى القسم القاص ص481-483. أ. د: رءوف عبيد جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال ص413-418 "ط سنة 1978 دار الفكر العربي 2 المبسوط ج9 ص188. فتح القدير ج5 ص376-377. المهذب ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص163، المغني ج8 ص277 شرح الأزهار ج4 ص376، ويراجع في ذلك ما جاء في الباب الأول، عند الحديث عن الشبهات التي تلحق الدليل الشرعي، وشبهة الحق.

مقدار حقه أو نصيبه، فإن زاد عن ذلك مقدار ما يجب القطع به قطع به قطع: "إلا أن يكون قد منع حقه، ولم يستطع الوصول إليه، إلا بما فعل ولم يقدر على أخذ حقه خالصًا، ولزمه في هذه الحالة رد الزائد على حقه". وإسقاط الحد عنه في هذه الحالة ناتج من اضطراره لذلك1، وذهب الفقهاء الملكية، وحماد، وابن المنذر إلى أن من سرق من بيت المال -ومنه الشون التي توضع فيها الأقوات، أو من مال الغنيمة بعد أن تم جمعها، وقبل قسمتها، وإعطاء كل فرد نصيبه وجب قطعه، ولا يجوز النظر إلى أن له في ذلك شبهة، إذا سرق مال الجيش؛ لأنها شبهة ضعيفة لا تقدر على درء الحد، أما بيت المال فإن فقهاء المالكية يرون أنه لا شبهة أصلًا فيه لأحد، فيلزم القطع كل من سرق منه بشروطه، وجاء مثل ذلك في رأي الفقهاء الشافهية2، وأضاف المالكية إلى ذلك أن من سرق من مال الغنيمة قبل أن يتم جمعها، فلا قطع عليه، ويبدو أنهم بنوا ذلك على أساس أن الغنيمة قبل أن يتم جمعها مال غير محرز. ويقول الخرش مبينًا ذلك: "وكذلك يقطع من سرق من بيت المال لضعف شبهته في بيت مال المسلمين، وسواء كان منظما أم لا، وكذلك يقطع من سرق من الغنيمة، بعد حوزها لضعف شبهته في الغنيمة، ويدخل

_ 1 المحلى ج13 ص355، مباني المنهاج ج1 ص284. 2 مغني المحتاج ج4 ص163.

في بيت المال الشؤون بخلاف من سرق من الغنيمة، قبل حوزها، فإنه لا يقطع1. وما ذهب إليه فقهاء الملكية، ومن وافقهم هو ما أرجحه؛ لأن بيت المال أو المال العام بصورته الحالية، لا توجد فيه شبهة لأحد من رعايا الدرعة، تبيح له السرقة من هذا المال العام؛ لأن الدولة قد حددت لكل فرد وطائفة راتبًا معينًا، ونصيبًا تستحقه، قل أم كثر، وحددت الجهة التي يصرف منها ذلك الراتب، وبينت الطريق الذي يتبع عند الطب أو التقاضي، وبدا لم تبق شبهة لأحد في المال العام. اللهم إلا من احتاج ما يسد به رمقه ولم يجد، وهذا له حكم خاص به. وقد ذهب فقهاء القانون الوضعي إلى مذهب إليه الإمام مالك، فقرروا أن أموال الدولة سواء وقعت في ملكيتها العامة، أو الخاصة، ليست من الأموال المباحة، ولذا فهي تصلح محلا للسرقة، فمن يستولي على شيء من ذلك يعد سارقًا. وذهبوا إلى أن من الأموال ما تكون ملكية الدولة لها من قبيل الملكية السياسية العليا، فتأخذ حكم الأموال المباحة، وقد جرى قضاء محكمة النقض على أن أخذ الأحجار من الجبال من غير المناطق المخصصة للمحاجر لا يعتبر سرقة، إلا في صورة ما إذا ثبت أن الحكومة قد وضعت يدها عليها، وضعًا صحيحًا يخرجها من أن تكون

_ 1 الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص337، المغني ج8 ص277.

مباحة إلى أن تكون داخلة في ملكها الحر، أو المخصص للمنفعة العامة1. 6- الاشتراك في السرقة: يتحقق الاشتراك في السرقة بقيام أكثر من شخص بالركن المادي للجريمة. ولا يخلو حال المشتركين في السرقة، عما يأتي: أ- أن يقوموا جميعًا بإخراج المسروق من حرزه. ب- أن يقوم البعض بإخراج المسروق من حرزه، والبعض بمراقبة الطريق، وما يتبع ذلك. ج- أن يشارك في الإخراج من لا يجب عليه الحد. وللفقهاء آراء في إلزام العقوبة الحدية للسراق في كل حالة من هذه الحالات: أ- إذا قام السراق بإخراج المسروق من حرزه، ذهب فقهاء الأحناف والشافعية -عدا أبي ثور- ووافقهما إسحاق2، وهذا ما اختاره ابن قدامه: أنه إذا اشترك جماعة في سرقة، فلم تبلغ حصة كل منهم نصابًا، فلا قطع عليهم.

_ 1 أ. د. محمود مصطفى القسم الخاص ص468. أ. د. أحمد الألفي القسم الخاص ص283. أ. د. رءوف عبيد جرائم الاعتداء على الأشخاص، والأموال ص342-347. 2 هو، إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، المعروف بابن راهوية أحد أعلام نيسابور، نقل عنه أنه أملى أحد عشر ألف حديث من حفظه، وكان فقيهًا عالمًا، ومحدثًا ت سنة 238، عن سبع وسبعين سنة.

وبنوا رأيهم هذا على أساس اشتراط النصاب لوجوب القطع، فما دام لم يبلغ نصيب كل سارق نصابًا، فلم يعد هناك ما يقضي قطعه؛ لأنه لا نص في ذلك ولا هو في معنى المنصوص عليه لاختلاف قيمة ما يجب به الحد. وذلك كله يترتب عليه شبهة في إلزام العقوبة، والحد مما يدرأ بالشبهات، بين هذا ابن قدامة عند حديثه عن السراق، الذين اشتركوا في إحراج المسروق، فقال: "قال الثوري1، وأبو حنيفة، والشافعي، وإسحاق": لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصه كل واحد منهم نصابًا؛ لأن كل واحد لم يسرق نصابًا، فلم يجب عليه القطع، كما لو انفرد بدون النصاب، "ويعلق ابن قدامة على هذا بقوله": وهذا القول أحب إلي؛ لأن القطع هنا لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه، فلا يجب، والاحتياط بإسقاطه أولى من الاحتياط بإيجابه؛ لأنه مما يدرأ بالشبهات2. وزاد الشيرازي المسألة تفصيلًا، فقال: "وإنة نقب اثنان حرزًا وسرقا نصابين قطعا؛ لأن كل واحد منهما سرق نصابًا، وإن أخرج أحدهما نصابين، ولم يخرج الآخر شيئًا قطع الذي أخرج دون الآخر؛ لأنه هو الذي انفرد بالسرقة، فإن اشتركا في نصاب لم يقطع واحد منهما3. ولا يخفى أن أبا حنيفة قد قيد قطعهم، إذا كان نصيب كل

_ 1 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، مات بالبصرة متواريًا من السلطان سنة 161هـ. 2 المغني ج8 ص282. 3 المهذب ج2 ص277.

منهم نصابًا بحالة ما إذا لم يكن واحد منهم ذا رحم محرم من المسروق منه، ولا صبي1، وسيأتي بيان ذلك. وذهب فقهاء المالكية، والحنابلة عدا ابن قدامة إلى وجوب القطع عليهم إذا بلغ ما أخرجوه نصابًا لكل واحد منهم، سواء أخرجوه أو استقل به واحد منهم، أما إذا لم يبلغ نصيب كل واحد منهم نصابًا، وبلغ المسروق في مجموعه نصابًا، فإن جمهور الحنابلة يرون القطع عليهم أيضًا، وقد فصل المالكية القول. فقد أورد ابن قدامة، أن جمهور الحنابلة قد احتجوا بأن النصاب أحد شرطي القطع، فإذا اشترك الجماعة فيه كالواحد قياسًا على هتك الحرز؛ ولأن سرقة النصاب فعل بوجوب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص، ولم يفرق أصحابنا بين كون المسروق ثقيلًا يشترك الجماعة في حمله، وبين أن يخرج كل واحد منه جزءًا، ونص أحمد على هذا، وقال مالك: إن انفرد كل واحد بجزء منه لم يقطع واحد منهم، كما لو انفراد كل واحد من قاطعي اليد بقطع جزء منه، لم يجب القصاص2. وزاد المالكية المسألة تفصيلًا، فرأوا أنه إن ناب كل واحد نصابًا قطعوا، استقل كل واحد بإخراجه أم لا، وإن لم ينب كل واحد نصابًا، بل ناب كل واحد أقل من نصاب، فإن استقل كل واحد بإخراجه من الحرز فلا قطع، وإلا فالقطع عليهم، وكذا القطع على جماعة رفعوه على ظهر أحدهم في الحرز، ثم خرج به إذا لم يقدر

_ 1 فتح القدير ج5 ص363، المبسوط ج9 ص147. 2 حاشية الدسوقي ج4 ص335، الخرشي ج8 ص95، الموطأ بشرح الزرقاني ج5 ص115، المغني ج8 ص282.

على إخراجه إلا برفعه معه، ويصيرون كأنهم حملوه على دابة، فإنهم يقطعون إذا تعاونوا على رفعه عليها، وأما لو حملوه على ظهر أحدهم، وهو قادر على حمله على ظهره دونهم كالثوب قطع وحده، ولو خرج كل واحد منهم من الحرز حاملًا لشيء من الآخر، وهم شركاء فيما أخرجوهم، لم يقطع منهم إلا من أخرج ما قيمته ثلاثة دراهم1. وقال بذالك أيضًا فقهاء الشيعة بدون تفصيل، فقالوا: "لا فرق في ثبوت الحد على السارق أخرج متاعًا واحدًا للمتاع من حرز بين أن يكون مستقلًا، أو مشاركًا لغيره، فلو أخرج شخصان متاعًا واحدًا، ثبت الحد عليهما جميعًا، ولا فرق في ذلك أيضًا بين أن يكون الإخراج بالمباشرة، وأن يكون بالتسبب فيما إذا أسند الإخراج إليه لإطلاق الأدلة"2. واستدل فقهاء المالكية، وجمهور فقهاء الحنابلة، وأبو ثور لذلك بوجوب القصاص على من اشترك في القتل، فكذلك يجب القطع على من اشتركا في سرقة النصاب. وما ذهب إليه فقهاء الأحناف، والشافعية وابن قدامة ومن وافقهم أولى بالاتباع؛ لأن الاحتياط بالقول بإسقاط الحد أولى من القول بإيجابه. وفرق بين إسقاط الحد في السرقة، وإسقاط عقوبة القصاص بالاشتراك. ففي القصاص لو لم يجب على من اشتركوا في القتل، لغدا الاشتراك في القتال طريقًا لإسقاط القصاص، وإهدار الدماء، بخلافه

_ 1 المراجع السابقة. 2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص289.

ما في الاشتراك في السرقة؛ لأنه لو كان نصيب كل فرد منهم نصابًا وجب القطع عليهم جميعًا، أما إذا لم يبلغ نصابًا غدت الشبهة مسقطة الحد على من لم يخرج بالنصاب، أو لم يحمل مع الآخرين مشتركين ما قيمة نصابًا، ودرء الحد لن يعفي من رد السرقة، وإلزام الفاعلين الذين لم يحدوا عقوبة تعزيرية مناسبة. ب- إذا قام البعض بإخراج المسروق من الحرز، والبعض بمراقبة الطريق، وما يتبع ذلك من معاونة: ذهب فقهاء الأحناف -ما عدا زفر- إلى أن المتعاونين في إخراج المسروق عليهم القطع جميعًا استحسانًا. وجه الاستحسان أنهم اشتركوا في هتك الحرز، وصار المال مخرجًا بمعاونتهم فيلزم القطع، كما لو أخرجوه على ظهر الدابة. وهذا؛ لأن هذه زيادة حيلة معروفة بين السراق، أن يباشر حمل المتاع واحد منهم، وأصحابه يكونون مستعديين لدفع صاحب البيت عنه، وعن أنفسهم، فلا يجوز أن يكون ذلك مسقطًا للحد عنهم. وقد قاس فقهاء الأحناف ذلك بمسألة من يكون ردءا قبل قطع الطريق، إذ يجب عليه ما يجب على المباشر للقطع؛ لاعتباره مشاركًا له في أخذه، واحتماء به والاعتماد عليه1. أما باقي الفقهاء، فلم يروا القطع إلا على من أخرج المسروق فقط من الحرز؛ لأنه هو السارق. ولم يقس هؤلاء المسألة هنا بمسألة الردء في قطع الطريق؛ لأنهم يرون أن حد قطع الطريق بسب المحاربة، والردء مباشر للمحاربة؛ لأن

_ 1 المبسوط ج9 ص149، فتح القدير ج5 ص290.

المحاربة في العادة هكذا تكون، فإنهم لو اشتغلوا جميعًا بالقتال، فإذا وقعت الهزيمة عليهم لا تستقر قدمهم، وإذا كان بعضهم ردءا، فإذا وقعت الهزيمة على المباشرين للحرب التجئوا إلى الردء، فلهذا كانت العقوبة عليهم، بخلاف السرقة، فالحد هنا إنما يجب بمباشرة فعل السرقة، وذلك في إخراج المال من الحرز، فإذا كان المخرج بحكم فعله، لم يجب القطع على غيره. وهذا التعليل من القائلين بالقطع على من أخرج المال من الحرز فقط، وإن كانت له وجاهته، إلا أنه يترتب عليه ضياع الحقوق؛ لأن السراق لن يعدموا حيلة يحاولون بها الهروب من القطع، ولا يخفى أن بعض الفقهاء مثل الشيعة والحنابلة، وغيرهم يرون أنه لو هتك شخص الحرز، وأخذ المال شخص آخر فلا قطع عليهما1، وفي هذا حض على اللجوء إلى الحيلة تحاشيًا للحد. ج- إذا شارك في إخراج المسروق من لا يجب عليه الحد: الذي لا يجب عليه الحد بالسرقة، أما أن يكون غير مكلف كالصبي والمجنون، وأما أن يكون مكلفًا كالأب، والأم والجد. وفقهاء الأحناف قد رأوا أنه إذا شارك في السرقة من لا يلزمه الحد بها، فلا قطع على باقي المشاركين له فيها؛ لأن عدم وجوب القطع على أحد الشركاء، تنتج عنه شبهة في حق الباقين، ويترتب على هذه الشبهة درء الحد عنهم.

_ 1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص286، المغني ج8 ص284، ويراجع في الموضوع المهذب ج2 ص277، الخرشي ج8 ص95، فتح القدير ج5 ص390.

يقول السرخسي: "وإذا سرق رجلان ثوبًا من رجل، وأحدهم أب للمسروق منه لم يقطع واحد منهما"، أما الأب فلتأول له في مال والده بظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم. "أنت ومالك لأبيك"؛ ولأنه قد يدخل بيته من غير استئذان عادة، فلا يكون بيته حرزًا في حقه، والسرقة فعل من السارق، فإذا امتنع القطع على أحدهما للشبهة، يمتنع وجوبه على الآخر للشركة، وهو نظير ما قلنا في الأب، والأجنبي إذا اشتركا في قتل الولد، لم يجب القصاص على واحد منهما1. هذا إذا كان الشريك أبا للمسروق منه ومن في حكمه، أما إذا كان الشريك صبيًا، فقد ذهب أبو يوسف إلى أنه إذا حمل البالغ المتاع، وخرج به فعليه القطع، ولا معتبر بفعل الصبي، وعلل رأيه بأن درء القطع لهذا يتطرق السراق به إلى إسقاط القطع؛ لأن كل سارق لا يعجز عن أن يستصحب صبيًا، أو معتوهًا مع نفسه. كما ذهب فقهاء الأحناف أيضًا إلى أنه إذا كان واحد من السراق أخرسًا، فلا قطع، لتمكن الشبهة في حق الأخرس؛ لأنه لو كان ناطقًا ربما يدعي شبهة يدرأ عبها الحد عن نفسه، وأما الناطق فلأجل المشاركة2. وذكر ابن قدامة أنه إذا كان أحد الشريكين في السرقة، من لا قطع عليه كأبي المسروق منه قطع شريكه في أحد الوجهين، لو شاركه في قطع يد ابنه. والثاني: لا يقطع وهو أصح؛ لأن سرقتهما جميعًا صارت علة

_ 1 المبسوط ج9 ص151، 152، فتح القدير ج5 ص363. 2 المبسوط ج9 ص189.

لقطعهما، وسرقة الأب لا تصلح موجبة للقطع؛ لأنه أخذ ماله أخذه، بخلاف قطع يد ابنه، فإن الفعل تمخض عدوانًا، وإنما سقط القاص لفضيله الأب لا لغنى في فعله، وههنا فعله قد تمكنت الشبهة منه، فوجب أن لا يجب القطع به كاشتراك العامد والخاطئ، وإن أخرج كل واحد من السارقين نصابًا، وجب القطع على شريك الأب؛ لأنه انفرد بما يوجب القطع1. وذهب فقهاء المالكية إلى أن من سرق نصابًا مع شركة صبي له في السرقة أو مجنون، يقطع المكلف فقط حتى، ولو كان النصاب المسروق ملكًا للمجنون المصاحب للسارق، أو كان المجنون أبا للمسروق منه؛ لأن المجنون كالعدم، فيجب القطع على المكلف، أما إذا كان شريك السارق أبا للمسروق منه، أو أما أوجدًا، وكان عاقلًا فلا قطع على الشريك لدخوله مع ذي شبهة قوية2. وذهب فقهاء الشافعية، والشيعة إلى وجوب القطع على من لا يقوم المانع في حقه، سواء ثشاركه فعله صبيًا، أو مجنونًا أو أبا للمسروق، أو غير ذلك ممن لا يقطع بسرقته، هذه؛ لأن عدم القطع نشأ عن سبب خاص بأحد الشريكين، فلا يتعداه للآخر3. وما ذهب إليه فقهاء المالكية هو ما أرجحه؛ لأن من كان شريكه في السرقة أبا للمسروق منه، أو أما أو جدا تقوم في حقه شبهة، لجواز أنه ذهب لمساعدة هذا الأب مثلًا؛ ولأن دخول الحرز بمصاحبة من له

_ 1 المغني ج8 ص283. 2 حاشية الدسوقي ج4 ص335، الخرشي ج8 ص95- شرح الزرقاني ج5 ص95. 3 سني المطالب ج4 ص138، 139، ماني المنهاج ج1 ص689 شرح الأزهار ج4 ص364.

دخوله شبهة قوية تدرأ الحد عنه، ويلزم برد المال وبعقوبة تعزيرية مناسبة؛ لأن مثل هذا نادرا بحرص الأب، والأم والجد على مال ابنهما غالبًا أكثر من حرص صاحب المال نفسه. وذهب فقهاء القانون الوضعي إلى عدم اشتراط أن يكون الاستيلاء على الشيء بيد الجاني، بل يكفي أن يكون بفعله، فمن يدرب قردًا على النشل، أو يحرض كلبًا على السرقة، أو يهيئ أسباب انتقال الحيازة إليه، كمن يحول مجرى مياه الغير إلى أرضه يعد سارقًا. وكذا لا ينفي الاختلاس إذا حدث التسليم من صغير، أو مجنون أو سكران ففي ذلك كله تقوم في حق المدبر لذلك، والمخطط والمنفذ جناية السرقة، مع أنه لم يقم بالاستيلاء على الشيء بيده1. 7- سرقة ما اختلف في ماليته: اشترط الفقهاء لوجوب القطع في السرقة أن يكون المسروق مالًا، أو ما يمكن أن يعتاض عنه بمال. هذا ما اتفق عليه الفقهاء، وإن كانت وجهة نظرهم قد اختلفت في مالية بعض الأشياء، مما نتج عنه اختلاف آرائهم في القول بوجوب القطع على من سرقها، ومن ذلك الاختلاف على ماليته، ما يأتي: أ- الصبي. ب- المصحف وكتب العلم. ج- بعض الحيوانات. د- آلات اللهو. هـ- مال الحربي المستأمن.

_ 1 أ. د: محمود مصطفى القسم الخاص ص442-443 أ. د: أحمد الألفي القسم الخاص ص269.

"أ" سرقة الصبي: الصبي الذي يتعرض السرقة، إما أن يكون حرًا أو عبدًا، فإن كان حرًا فقد ذهب جمهور فقهاء الأحناف، وفقهاء الشافعية، والحنابلة إلى القول بعدم وجوب القطع على من سرقه؛ لأنه لم يسرق مالًا، فإن كان على الصبي حلي بمقدار -النصاب، فلا قطع عندهم أيضًا بسرقته؛ لأن هذا الحلي تابع لما لا قطع في سرقته؛ ولأن يد الصبي عليه ثابتة، بدليل أن ما يوجد في اللقيط يكون له. وذهب فقهاء الشافعية في أحد رأييهم أنه لو سرق صبيًا عليه حلي بقدر النصاب قطع؛ لأنه قصد سرقة ما عليه من مال، وذهب أبو يوسف، وفقهاء المالكية والشيعة، وابن حزم إلى القول بوجوب القطع على من سرق صبيًا حرًا كان أم عبدًا، معه حلي أم لا، وإن كان أبو يوسف قد اشترط وجود الحلي معه، وإلا فلا قطع بسرقة الصبي عنده إن كان حرًا. أما من سرق عبدًا، فإن كان يعقل، وينطق فلا قطع بسرقته، إلا إذا سرق وهو نائم أو سكران، أو مغمى عليه، بحيث لا يقدر على الامتناع من السرقة1. وما أرجحه ممن ذلك وهو وجوب القطع على من سرق صبيًا حرًا كان، أو عبدًا معًا لمال، أم لا يعقل وينطق أم لا؛ لأن سرقة الصبي أشد ضررًا من سرقة المال، وهذا مما لا ينكره أحد، فقد تسرق أموال بعض الناس، ولا يشغلهم ذلك كثيرًا، بينما لا يوجد من لا يفزع لسرقة ابنه، خصوصًا إن كان صغيرًا.

_ 1 فتح القدير ج5 ص371.

ب- سرقة المصحف، وكتب العلم: ذهب فقهاء الأحناف إلى أنه لا يجب القطع بسرقة الكتب المشتملة على علم الشريعة، وتشمل هذه الكتب المصحف، وكتب الحديث والفقه، والتفسير والأدب والشعر؛ لأن الحاجة داعية إلى معرفة ما فيها، وذلك ينتج شبهة يترتب عليها إسقاط الحد عن سارقها، حتى ولو كان عليها حلية؛ لأنها تابعة لما لا قطع فيه. يقول ابن الهمام: ولا يقطع في الدفاتر كلها: للكتب المشتملة على علم الشريعة كالفقه، والحديث والتفسيير، وغيرها من العربية والشعر، وقد اختلف في غيرها فقيل محلقة بدفاتير الحساب، فيقطع فيها، وقيل: بكتب الشعر؛ لأن معرفتها قد تتوقف على اللغة والشعر، والحاجة وإن قلت كفت في إيراد الشبهة. وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بقطع من سرق المصحف، أو كتب العلم إذا توافرت فيه باقي شروط القطع؛ لأنه بسرقته ذلك قد دخل في عموم من تشمله أدلة القطع من القرآن والسنة؛ ولأنها متقومة سواء أكانت هذه الأشياء المسروقة، من المصاحف أو الكتب محلاة أم غير محلاه، ما دام المسروق قد بلغت قيمته نصابًا1. وما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع؛ لأن المصاحف وكتب العلم ينفق على طبعها، ونشرها مال كثير، وهذه أيضًا تباع، وتشترى، وتقدر

_ 1 المبسوط ج15 ص277، المغني ج8 ص247-248، المحلى ج13 ص369-370، أسنى المطالب ج4 ص141، الإقناع في حل ألفاظ أبي الشجاع ج4 ص171.

قيمتها من حيث أوراقها، وطباعتها بمال بل ومال كثير، والقول بعدم ماليتها يرده الواقع والمشاهد. وقد يضر المرء إذا سرق منه مصحف، أو كتاب من كتب العلم أكثر مما يضر بسرقة ما تبلغ نصاب السرقة، أو يزيد من المال، بل إن القوانين الوضعية ذهبت إلى أكثر من هذا، فعاقبت من سرق حق مؤلف فيما ألف، ومن اشترى نسخة من كتاب، ثم قام بنقل ما فيها، وطبعه دون موافقة مؤلفه الأصلي. بل إن سرقة الاختراع العلمي حتى الذي لم يدخل مرحلة التنفيذ، أمر له اعتباره القانوني. ج- سرقة بعض الحيوانات -المختلف في ماليتها: اختلف الفقهاء في مالية بعض الحيوانات كالكلاب، والسباع، والفهود وما ماثلها، وقد أدى اختلافهم هذا إلى الاختلاف في إيجاب القطع بسرقة هذه الحيوانات. فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بعدم قطع من سرق مثل هذه الحيوانات، نظرًا؛ لأن هذه الحيوانات مباحة الأصل، وغير مرغوب فيها؛ ولأن اختلاف الفقهاء في ماليتها يورث شبهة، يترتب عليها درء الحد عمن سرقها. ولم يفرق القائلون بعدم القطع بين كون هذه الحيوانات معلمة، أو مدربة أم لا؟ ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد نهى عن بيع الكلب، ولم يقيد بكونه معلمًا، أو مدربًا على عمل من الأعمال أم لا، ومثل الكلب أيضًا الخنزير، ولو كان ملكًا لذمي1.

_ 1 فتح القدير ج5 ص371، المبسوط ج9 ص154، الخرشي ج8 ص96، حاشية الدسوقي ج4 ص336، المهذب ج3 ص280، مغني المحتاج ج4 ص160، المغني ج8 ص160، المحلى ج3 ص366.

وذهب عطاء إلى القول بالقطع على من سرق خمرًا، أو خنزيرًا من أهل الكتاب؛ لأنه حل لهم في ينهم1. وذهب أشهب من فقهاء المالكية، إلى وجوب القطع على من سرق حيوانًا مأذونًا في اتخاذه، أما ما لم يؤذن في اتخاذه، ولم يكن مملوكًا لأحد، فلا قطع على من سرقه2. والذي أرجحه من ذلك هو قول الجمهور بعدم قطع من سرق حيوانًا من هذه الحيوانات؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيعها، فيترتب عليه عدم ماليتها، وإن جاءت بعض الناس وقاموا ببيع هذه الحيوانات وشرائها، وهذه المخالفة لا يترتب عليها مالية هذه الحيوانات، كما أن الأصل فيها أن تكون مباحة3، وذلك كله يترتب عليه شبهة، ينتج عنها درء الحد عمن سرقها.

_ 1 المحلى ج13 ص364، 365. 2 حاشية الدسوقي ج4 ص336. 3 ذكر أستاذي الدكتور سلام مدكور عند حديثه، عما أباح الشارع استهلاكه وتملكه، وبصفة خاصة عن المادة والإباحة: أن الماء في المجاري العامة كالأنهار، والترع التي تنشئا الدولة فيها إباحة عامة، والأصل في هذه الإباحة العامة الأصلية، ما رماه ابن ماجه، عن أبي هريرة بسند صحيح، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار". أما الماء المحرز في الأواني والأنابيب، والصهاريج ونحوها فهو مالك خاص لصاحبه، لا حق لأحد فيه، وخرج عن الإباحة الأصلية، وذكر أن هناك قول بعدم وجوب حد السرقة على من سرق هذا الماء المحرز، نظرًا =

د: "سرقة آلات اللهو": ذهب الفقهاء إلى أن اتلاف آلات اللهو، التي لا تستعمل إلا فيه جائزًا، أما ما استعمل منها في أغراض مباحة كتدريب الجيوش، وما إلى ذلك، فهي آلات تؤدي عرضًا مشروعًا، فيجوز اقتناء ما يحتاج إليه منها. كما ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بعدم القطع في سرقة آلات اللهو من دف وما أشبهه؛ لأنها ليست بمال متقوم، وإنما هي آلات معصية. يقول السرخسي: "ولا قطع في الدف، وما أشبهه من الملاهي، أما عندهما؛ فلأنه

_ = لأن هذا الماء، وإن صار ملكًا بالإحراز، إلا أنه فيه شبهة الشركة الطبيعية التي أثبتها الحديث الصحيح: الناس شركاء في ثلاث الماء، والكلأ والنار"؛ ولأن الشركة وأن أزالتها اليد المتوالية، فقد بقيت شبهتها، ثم بين أستاذي الدكتور سلام أن الذي يراه في هذا، هو أن شبهته الشركة هنا غير واضحة. وأن اقتضاءها لعدم القطع غير مستقيم، ولا سيما أن ابن ماجه قد أورد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه، وهذا يدل على أن الماء المحرز ملك لمن أحرزه، وأنه لا شركة فيه، فمن أين تجيء شبهة الشركة، ثم أورد أقوال كثير من الفقهاء، والأئمة توجب قطع يد السارق للماء المحرز، إذا بلغت قيمته نصابًا، وما ذهب إليه القائلون بعدم وجوب القطع هو ما أرجحه؛ لأن شبهة الشركة، وإن زالت عن الماء المحرز، إلا أن شبهة اختلاف الفقهاء المسماة بشبهة الجهة قائمة، وقوية المدرك، وعليه فإن الحد يندرئ، وإن ألزم السارق بعقوبة تعزيرية ورد قيمة ما أخذه، تراجع الإباحة عند الأصوليين. والفقهاء ص113-157

ليس بمال متقوم حتى لا يضمن متلفه، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإن كان يجب الضمان على المتلف باعتبار معنى آخر فيه سوى اللهو؛ ولأن للآخذ تأويلًا في أخذه؛ لأنه يقصد به النهي عن المنكر، وهو استعماله للتلهي، فيصير ذلك شبهة"، واختلف في طبل الغزاه، فقيل: لا يقطع به أيضًا، وقيل: يقطع؛ لأنه مال متقوم ليس موضوعًا للهو، فليس آلة للهو1. ويقول ابن قدامة: "ولنا أنه آلة للمعصية بالإجماع، فلم يقطع بسرقته كالخمر؛ ولأن له حقًا في أخذها لكسرها، فكان ذلك شبهة، مانعة من القطع كاستحقاقه مال ولده، فإن كانت عليه حلية تبلغ نصابًا، فلا قطع فيه أيضًا؛ لأنه متصل بما لا قطع عليه2. وهذا ما ذهب إليه أيضًا فقهاء الشافعية، إذا كان لا يصلح إلا للمعصية، أما إن كان يصلح لمنفعة مباحة، فإنهم يقطعون بسرقته؛ لأنه مال متقوم على متلفه3. وذهب فقهاء المالكية إلى أنه إذا بلغت قيمة متلفة نصابًا قطع بسرقته، وجاء مثل هذا أيضًا في رأي فقهاء الحنابلة4. ولا يدخل في ذلك ما صنع من أجهزة استقبال كالمزياع المسموع. أو المسموع والمرئي؛ لأنه لا يقصد منه اللهو، وإنما هو وسيلة إعلامية وثقافية، والذي أرجحه أن من سرق شيئًا من آلات اللهو لا قطع عليه

_ 1 المبسوط ج9 ص154، فتح القدير ج5 ص371. 2 المغني ج8 ص273. 3 المهذب ج2 ص281، مغني المحتاج ج4 ص160. 4 الخرشي ص96 حاشية الدسوقي ج4 ص336.

وإن ألزم بضمان قيمتها، وبعقوبة تعزيرية يقدرها القاضي؛ لأنه إن كان يبغي الإصلاح، فليس بهذا الطريق يتم الإصلاح، ولا قطع عليه لما فيها من شبهة. هـ: "سرقة مال الحربي المستأمن" لا خلاف بين الفقهاء على أن من سرق مالًا لذمي، يقطع به كالسرقة من مال المسلم، حتى ولو كان هذا المسروق صلبيا، إذا كانت قيمة الصلب تبلغ نصاب السرقة، وبشروط القطع والإمام أبو حنيفة وإن لم ينص بالقطع فيه إلا أنه أوجب ضمان ما فيه من المالية، أما أبو يوسف، فقد فصل القول في ذلك بأنه إذا كان الصليب في مصلاهم، فإنه لا قطع على من سرقه؛ لأنه أخذه من مكان مأذون في دخوله، أما إن كان في حرز لا شبهة فيه قطع من سرقة؛ لأنه مال محرز على الكمال. أما مال الحربي المستأمن، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب القطع على من سرقه: "أيا كان نوع هذا المال؟ "، فيقول الدسوقي في معرض حديثه، عما يجب القطع بسرقته، "دخل فيه -أي فيما يجب القطع بسرقته- مال حربي دخل عندنا بأمان، فيقطع سارقه المسلم"1. ويقول ابن قدامة: "ويقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي، ويقطع الذمي بسرقة مالهما، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم فيه مخالفًا، فأما الحربي إذا دخل إلينا مستأمنا، فسرق فإنه يقطع أيضًا.. ثم يقول:

_ 1 حاشية الدسوقي ج4 ص336، الخرشي ج8 ص96، ويراجع أيضًا: المهذب ج2 ص281، المحلى ج13 ص364-366، ص371-272.

"وإذا ثبت هذا، فإن المسلم يقطع بسرقة ماله، وعند أبي حنيفة لا يجب، ولنا: أنه سرق مالا معصومًا من حرز مثله، فوجب قطعه كسارق مال الذمي"1. أما فقهاء الأحناف، فقد جاء عنهم: أنه لا يقطع السارق من مال الحربي المستأمن عندنا استحسانًا، وفي القياس، وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن ماله محرز بدارنًا، فإنه معصوم كالذمي، وجه الاستحسان أن العصمة بالإحراز بالدار، وإحراز المستمن لا يتم، ألا ترى أن إحراز المال تبع لإحراز النفس، ولا يتم إحراز نفسه بدار الإسلام حتى يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب، فكذلك لا يتم إحراز ماله؛ ولأنه بقي حربيًا حكمًا، حتى يبقى النكاح بينه، وبين زوجته في دار الحرب، ومال الحربي مباح الأخذ، إلا أنه يتأخر إباحة الأخذ بسبب الأمان إلى أن يرجع إلى دار الحرب، فيصير ذلك شبهة في إسقاط لقطع عن السارق"2. وما دمنا نقطع الحربي المستأمن إذا سرق من مسلم، فكيف لا نقطع المستأمن هو ما أرجحه، وأميل إليه، نظرًا؛ لأن ما اعتمد عليه الجمهور أقوى مما اعتمد عليه الأمام أبو حنيفة. وما دمنا نقطع الحربي المستأمن، إذا سرق من مسلم، فكيف لا نقطع المسلم إذا سرق من الحربي المستأمن. إن ذلك هو الأولى، بل إن نفس ما ذكره الأحناف يقرر ذلك، فهم قد اعترفوا أن القياس يحتم القطع بسرقة ماله، ولم يقطعوه استحسانًا.

_ 1 المغني ج8 ص268. 2 المبسوط ج9 ص181، فتح القدير ج5 ص369.

والذي يرجع إليه في تقرير الحدود للفصل في هذه القضية، هو ما جاء من عموم في النصوص التي قررت الحدود، وهي قد شملت بعمومها كل سارق وسارقة، والرجوع إلى ذلك أولى من الرجوع إلى غيره، سواء في تقرير حد، أو الإخراج منه بالنسبة لما تحدث عنه الفقهاء في هذا الموضوع. كما أن الحربي بدخول ديارنا، وإعطائه الأمان قد أحرز نفسه، وماله ما دام ملتزما بهذا الأمان، وما يقتضيه من شروط، وواجبات أما أن نقضه، أو رفع هذا الأمان عنه لسبب ما من الأسباب، فإنه يصبح حربيًا له ما للحربي من معاملات، وأحكام. 8- الخصومة: آراء الفقهاء في اشتراط قيامها لإيجاب القطع فرق جمهور الفقهاء بين ثبوت المال على السارق للمسروق منه، وبين وجوب القطع على السارق، فذهب الجمهور إلى أن المال يثبت على السارق بإقراره، أو بإقامة البينة على سرقته حسبة. أما وجوب القطع على السارق، فاشترط له حضور المسروق منه، ومطالبته بالسرقة؛ لأن الخصومة شرط لطهورها، وعلى هذا، فإذا أقر السارق عند الحاكم، وذكر أنه سرق مالًا لفلان، نصابًا من حرز لا شبهة له فيه، فإن الحكم لا يقطعه حتى يحضر صاحب المال، ويدعيه ويخاصم السارق ومبنى الشبهة هنا، أن الإباحة من المالك أباح ذلك المال. أو أن المالك أذن في دخول بيته، فاعتبرت المطالبة دفعًا لهذه الشبهة، فالمعول عليه أن ملك المقر قائم ما لم يصدقه لمقر له1.

_ 1 المبسوط ج9 ص186، 187، فتح القدير ج5 ص400، 401، المهذب ج2 ص282- أسنى المطالب ج4 ص152 مغني المحتاج ج4 ص175، المغني ج8 ص269، مباني المنهاج ج1 ص313.

وزاد الإمام أبو حنيفة، ووافقه محمد القول باشتراط بقاء الخصومة، حتى يتم التنفيذ، ولا يكفي قيامها حتى القضاء فقط، وقد بين السرخسي ذلك بقوله: "وإذا حكم على السارق بالقطع ببينة، أو بإقرار ثم قال المسروق منه: هذا متاعه، أو قال: لم يسرقه مني إنما كنت أودعته. أو قال: شهد شهودي بزور، أو قال: هو باطل بطل القطع عنه، لانقطاع خصومته، وقد بينا أن بقاء الخصومة إلى وقت استيفاء القطع شرط، وأن المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء في الحد، كالمنقرن بأصل السبب، وهذا بخلاف رد المال بعد القضاء"1. وذهب الإمام مالك، وفي رأي سرجوح عند الإمام أحمد، والشيعة الجعفرية إلى أن قيام الخصومة، ليس شرطًا لقبول الشهادة في السرقة، والحكم بمقتضاها بالعقوبة المقدرة، وعلى هذا إذا حضر الشهود، وشهدوا بالواقعة سمعت شهادتهم، وألزم السارق بمقتضاها بعقوبة السرقة، حتى ولو لم يحضر المجني عليه، وسواء أكان المجني عليه حاضرًا بالبلدة، التي أقيمت الدعوة فيها على السارق حسبة، أم كان غائبًا عنها، أو كان المجني عليها مجهولًا2. بل وأكثر من ذلك لو كذب المسروق منه السارق، أن كان الإثبات بالإقرار، أو الشهود إن كان بالبينة، فإن فقهاء المالكية يرون إلزام السارق الحد، ويرتبون على تكذيب المجني عليه للبينة، أو الإقرار أن يصير المتاع السارق مع إلزامه الحد، فيقول الخرشي مبينًا ذلك في معرض حديثه عن السرقة الموجبة للقطع: "أو نصاب ملك غير، فإنه

_ 1 المبسوط ج9 ص186، ويراجع أيضًا بدائع الصنائع ج7 ص81. 2 المدونة ج15 ص289، المغني ج8 ص270، مباني المنهاج ج1 ص313، 314.

يقطع، ولو كذبه ربه، صورة المسألة إن السارق مقر بالسرقة، ورب المتاع يكذبه فعليه القطع، وحينئذ يصير المتاع للسارق، إلا أن يدعيه ربه بعد ذلك"1. وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير عند شرح قوله: ولو كذب ربه "معنى أن السارق إذا أقر بالسرقة من مال شخص، أو قامت عليه بينة بذلك، وكذبه ذلك الشخص، فإنه يقطع ولا يفيده تكذيبه ذلك الشخص للمقر أن للبينة، "ويبقى المسروق بيد السارق"، أي على وجه الحيازة، واستظهر بعضهم أنه يجعل في بيت المال؛ لأن كلا من السارق وربه ينفيه من ملكه، ما لم يدعه ربه أي بعد ذلك"2. وما ذهب إليه الجمهور أولى بالاتباع، لجواز أن صاحب المال قد أباح ماله لطائفة منهم السارق، أو وهبه السارق، ولم يعلم السارق بذلك، أو أذن للسارق دخول الحرر، وذلك كله يترتب عليه شبهة تنتج درء الحد، ولذا فإن القول باشتراط المخاصمة لإيجاب الحد أولى بالاتباع. وما ذكره فقهاء المالكية، ومن وافقهم من إيجاب القطع، حتى ولو كذب رب المال الإقرار، أو البينة قول لم يقم عليه دليل، ولا يتفق مع ما ذهبوا إليه من القول بدرء الحد بالشبهة، والشبهة بالتكذيب ببينة.

_ 1 الخرشي ج8 ص95. 2 حاشية الدسوقي ج4 ص336، شرح الزرقاني ج8 ص97.

المبحث الثاني: جريمة السرقة الكبرى "الحرابة"

المبحث الثاني: جريمة السرقة الكبرى "الحرابة" المطلب الأول: الحرابة ... "المبحث الثاني": جريمة السرقة الكبرى "الحرابة" ويتناول الحديث عنها مطلبين. المطلب الأول: تعريفها: المطلب الثاني: سرقات اختلف في وجوب حد الحرابة بها. المطلب الأول: الحرابة الحرابة بكسر الحاء مصدر حرب، حرب الرجل حربًا مثل طلبه يطلبه طلبًا، أي سلبه ماله وتركه بلا شيء. وحرب ماله بالبناء للمجهول أي سلبه، فهو محروب وحريب1. وعبر عنها فقهاء الأحناف بقطع الطريق، وعرفوه بأنه: "الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالب على وجه يمنع المارة من المرور، وينقطع الطريق"2.

_ 1 لسان العرب، مختار الصحاح، المنجد ص124 بيروت الطبعة 19. 2 بدائع الصنائع ج7 ص90، وجاء في حاشية سعد حلبي، مع فتح القدير ج5 ص422، أعلم أن قطع الطريق يسمى سرقة كبرى، أما تسميتها سرقة؛ فلأن قاطع الطريق يأخذ سرا ممن إليه حفظ الطريق، وهو الإمام الأعظم كما أن السارق يأخذ المال سرًا ممن؟؟ حفظ المكان المأخوذ منه، وهو المالك أو من يقوم مقامه، وأما تسميتها كبرى؛ فلأن ضرر قطع الطريق على أصحاب الأموال، وعلى عامة المسلمين بانقطاع الطريق، وضرر السرقة الصغرى يخص الملاك بأخذ مالهم، وهتك حرزهم، ولهذا غلظ الحد في حق قطاع الطريق يراجع البحر الرائق ج5 ص72.

وعرف فقهاء المالكية الحرابة بأنها:"الخروج لإخافة السبيل لأخذ مال محترم بمكابرة قتال أو خوفه، أو ذهاب عقل أو قتل خفية، أو لمجرد قطع الطريق، لا لامرة ولا نائرة، ولا عداوة"1. وذكروا أن المحارب هو من أخاف الطريق لأجل أن يمنع الناس من سلوكها، أي من أخاف الناس في الطريق؛ لأجل أن يمنعهم من السلوك فيها، والانتفاع بالمرور فيها، وإن لم يقصد أخذ مال من السالكين، بل قصد مجرد منع الانتفاع بالمرور فيها، سواء أكان الممنوع من الانتفاع بالمرور فيها خاصًا كفلان، أم كان كل مصري، أو عامًا كما إذا منع كل أحد يمر فيها إلى الشام مثلًا"2. وقال فقهاء الشافعية: "قطع الطريق هو البروز لأخذ مال، أو لقتل، أو إرعاب مكابرة اعتمادًا على الشوكة، مع البعد عن الغوث"3. قال فقهاء الحنابلة: "المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة".

_ 1 الخرشي ج8 ص103، 104، شرح الزرقاني ج8 ص108. 2 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص348. 3 مغني المحتاج ج4 ص180، حاشية الشرقاوي على التحرير ج2 ص437.

وضع فقهاء الحنابلة شروطًا ثلاثة في المحاربين، رآها جمهور فقهائهم: الأول: أن يكون ذلك منهم في الصحراء. الثاني: أن يكون معهم سلاح. الثالث: أن يأتوا مجاهرة، ويأخذوا المال قهرًا1. وعرف ابن حرم المحارب: بأنه "المكابر المخيف لأهل الطريق المفسد في سبيل الأرض سواء بسلاح، أو بلا سلاح أصلًا، سواء ليلًا أو نهارًا، في مصر أو في فلاة أو في قصر الخليفة، أو الجامع سواء أقدموا على أنفسهم إمامًا، أو لم يقدموا سوى الخليفة نفسه فعل ذلك بجنده أو غيره، منقطعين في الصحراء، أو أهل قرية سكانًا في دورهم، أو أهل حصن كذلك، أو أهل مدينة عظيمة، أو غير عظيمة كذلك، واحدًا كان أو أكثر، كل من حارب المار، وأخاف السبيل بقتل نفس، أو أخذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك فرج، فهو محارب2. وذهب فقهاء الشيعة إلى أن كل من شهر السلاح في مصر من الأمصار، سواء ضرب، أو عقل، أو قتل لأخذ مال، أو لإخافه فهو محارب3. وتعريفات فقهاء الشريعة لقطع الطريق تعريفات متقاربة، بل وتكاد تكون متفقة، ومجمعة على أن كل من أزعج الآمنين وأخافهم، مجاهرًا بذلك معتمدًا على البطش، والقوة، فهو محارب سواء أأخذ مالًا أم لا. غير أن بعض الفقهاء يرى أن قطع الطريق، لا يكون إلا في صحراء

_ 1 المغني ج8 ص287، 288. 2 المحلى ج13 ص320. 3 مباني تكملة المنهاج ج1 ص318، 319.

والبعض الآخر لا يشترط ذلك، بل يرى أن قطع الطريق كما يكون في الصحراء، يكون أيضًا في البلاد الآهلة بالسكان. وقد ترتب على هذا، وغيره قيام شبهات لدى بعض الفقهاء، رتبوا عليها درء عقوبة القطع الحدية، ولم يوافقهم الباقون على ذلك، وفي المطلب الثاني بيان لأقوال الفقهاء، ما يترتب عليها فيما سأعرضه من وقائع. هذا هو تحديد الفقه الإسلامي لجريمة الحرابة، ومن يقوم بها، أما الفقه الوضعي، وإن كان قد ذكر بعض الوقائع التي تتم فيها السرقة تحت ظروف معينة، وحدد عقوبات لها تزيد عن عقوبة السرقة العادية، إلا أن نظرة الفقه الإسلامي، عالجت الأمر علاجًا شاملًا، وشافيًا لم تصل إليه بعد التشريعات الوضعية. فالتشريعات الوضعية قد نصت على أنه يعاقب بالإعدام، كل من ألف عصابة هاجمت طائفة من السكان، وهي بذلك لا ترى نفس العقوبة على من ألف عصابة، وهاجم بها فردًا، كما أنها تطبق العقوبة، ولو لم تسفر مهاجم هذه العصابة عن قتل أحد من المهاجمين، أو أخذ ماله. كما فرقت التشريعات الوضعية بين عقوبة من تزعم هذه العصابة، أو تولي فيها قيادة ما، وبين من انضم إلى هذه العصابة، واشترك في تأليفها، ولكنه لم يتقلد فيها قيادة ما، فعاقبت الأول بالإعدام أما الثاني، فبالأشغال الشاقة المؤبدة، أو المؤقتة1. والفقه الإسلامي لا يرى هذه التفرقة في العقوبة بين فرد، وآخر ممن اشتركوا في واقعة حرابة معينة، كما لا يخفى أن الفقه الوضعي

_ 1 المادة 89 من قانون العقوبات، ويراجع في ذلك أ. د: محمود مصطفى القسم العام ص497-510، جرائم أمن الدولة، دكتور يوسف الشال ص83-90.

لا يعاقب بهذه العقوبة إذا وقع الإكراه بقصد هتك العرض، ثم ارتكبت السرقة عرضًا؛ لأنه يشترط أن يقع الإأكراه وسيلة لاتمام غرض السرقة. ولا يخفى أن الفقه الإسلامي لا يرى ذلك، بل إن ابن حزم قد نص على أنه كل من حار المار، وأخاف السبيل بقتل نفس، أو أخذ مال ولجراحة، أو لانتهاك فرج، فهو محارب1. هذه الاختلافات الجوهرية، وغيرها بين كل من التشريعيين، وإن برزت واضحة، إلا أنه لا يخفى أن الفقه الوضعي قد فرق بين نوعين من السرقات، وبين عقوبة كل منهما، محاولًا اقتفاء أثر الفقه الإسلامي في تفرقته بين جريمتي السرقة الكبرى، والصغري، وعقوبتيهما، وإن اختلف المنهج من حيث الشكل والموضوع.

_ 1 المحلى ج13 ص320.

المطلب الثاني: "سرقات اختلف في وجوب حد الحرابة بها"

المطلب الثاني: "سرقات اختلف في وجوب حد الحرابة بها" 1- إذا قام بالحرابة جماعة، ولم يبلغ نصيب الفرد منهم نصابًا اختلفت الفقهاء في وجوب القطع، فذهب الأحناف، والشافعي وابن المنذر إلى أنه لا يجب القطع على المحاربين، إذا لم يبلغ نصيب كل فرد ممن اشترط في الحرابة نصابًا، إذ أنهم يرون أن إقامة الحد على كل واحد من المحاربين، ناتج عما أصاب من المال، فلا بد أن يكون خطيرًا في نفسه، وما دون النصاب حقير تافه، وإذا كان نصيب كل واحد منهم تافهًا، لا يقام عليهم الحد، كما لو كان المأخوذ في نفسه تافهًا، وأصحاب هذا الرأي، وإن رأوا درء الحد عن المحاربين هنا، إلا أنهم أوجبوا عليهم ضمان المال ورده1.

_ 1 يراجع: المبسوط ج9 ص200، فتح القدير ج5 ص423، مغني المحتاج ج4 ص181، نهاية المحتاج ج8 ص5، المغني ج8 ص293.

وذهب فقهاء الحنابلة إلى أنهم إن أخذوا ما يبلغ في جملته نصابًا قطعوا، سواء أبلغ نصيب كل منهم نصابًا أم لا، قياسًا على قولهم في وجوب الحد في السرقة الصغرى1. وذهب فقهاء المالكية، والشيعة إلى عدم اشتراط النصاب مطلقًا لوجوب القطع، لإطلاق الأدلة، فيقول ابن العربي2 -في رده على الإمام الشافعي، ومن وافقه ومقررًا ما ذهب إليه الإمام: "أنصف من نفسك أبا عبد الله، ووف شيخك حقه لله ... أن ربنا تبارك وتعالى قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فاقتضى هذا قطعه في حقه، وقال في المحاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، فاقتضى بذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حقه، فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في السارق أن قطعه في نصاب، وهو ربع دينار، وبقيت المحاربة على عمومها، فإن أردت أن ترد المحاربة إليها كنت محلقًا الأعلى بالأدنى، وخافضا الأرفع إلى الأسفل، وذلك عكس القياس، وكيف يصح أن يقاس المحارب، وهو يطلب النفس أن رقي المال بهما على السارق، إذا دخل بالسلاح يطلب المال، فإن منع منه أو صيح عليه، فهو محارب يحكم عليه بحكم المحارب"3.

_ 1 المغني ج8 ص293-294. 2 ابن العربي، هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد، المعروف بابن العربي الأندلسي الشيباني، رحل إلى الشرق، ودخل الشتام وبغداد، والحجاز ثم مصر، ثم عاد إلى الأندلس، ولد بأشبيلية سنة 468هـ، وتوفي سنة 543هـ، بالعدرة ودفن بمدينة فاس، وفيات الأعيان ج1 ص489. 3 أحكام القرآن ج1 ص249، ويراجع المدونة ج16 ص100، شرح الزرقاني ج8 ص108، مباني تكملة المنهاج ج1 ص320.

والذي أميل، وأرجحه هو عدم القطع عليهم، إذا لم يبلغ نصيب كل منهم نصابًا؛ لأن الآية الكريمة قد عددت عقوبات المحاربين، فجعلتها القتل أو التصليب، أو أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض، فناسب أن يجعل القتل عقوبة من قتل، والقطع على من أخذ المال المعنبر في السرقة، على من لم يأخذ هذا المال، المذكور. ولا يقدح في اشتراط النصاب كون الجناية هنا مغلظة؛ لأن التغليظ ناسبه تغليظ العقوبة بقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، فبقي اشتراط بلوغ النصاب على ما هو عليه خصوصًا، وإن عدم بلوغ النصاب لكل فرد لن يعفيهم من جنس العقاب، وإنما عليهم عقوبة النفي، وإلا فمتى يعاقبون بالنفي فقط إن أوجبنا عليهم القطع، ولو لم يبلغ نصيب كل فرد منهم، مما أخذوه نصابًا؛ لأنهم والحالة هذه في حكم من لم يأخذ شيئًا، ولا يخفى أن عدم بلوغ نصيب كل منهم نصابًا، إن لم يترتب عليه إسقاط القطع صراحة، فلا أقل من أن يورث شبهة في وجوبه، والحدود تدرأ بالشبهات، ولم يخالف في ذلك فقهاء المالكية أو الشيعة. 2- أخذ المال على سبيل المغالبة من مكان آهل بالسكان: ذهب فقهاء الأحناف عدا أبي يوسف إلى أن قطع الطريق لا يكون إلا في الصحراء؛ لأن سبب وجوب الحد ما يضاف إليه، فإذا وقع ذلك في مصر من الأمصار، أو بين بلدين من البلاد، فلا يلزم به حد قطع الطريق. وعليه فإنه أخذوا مالًا طولبوا برده، وعزرهم الإمام، فإن قتلوا أو جرحوا، فأمر ذلك مفوض إلى أولياء الدم.

_ 1 المبسوط ج9 ص201، 202، فتح القدير ج5 ص431، 432، البحر الرائق ج5 ص72.

وحجة الأحناف في ذلك: أن سبب وجوب الحد ما يضاف إليه، وهو قطع الطريق، وإنما ينقطع بفعلهم ذلك في المفازة لا في جوف المصر، ولا فيما بين القرى، فالناس لا يمتنعون من التطرق في ذلك الموضع بد فعلهم، وبدون السبب لا يثبت الحكم؛ ولأن السبب محاربة الله ورسوله، وذلك إنما يتحقق في المفازة؛ لأن المسافر في المفازة لا يلحقه الغوث عادة، وإنما يسير في حفظ الله تعالى معتمدًا على ذلك، فمن يتعرض له يكون محاربًا لله تعالى، فأما في المصر وفيما بين للقرى يلحقه الغوث من السلطان والناس عادة، وهو يعتمد ذلك بالتطرق في هذه المواضع، فيتمكن باعتباره معنى النقصان في فعل من يتعرض له من حيث محاربة الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يقام عليه الحد، وقاسوا ذلك بالنقصان في السرقة، إذا جاهر بأخذ المال فيها. وقال أبو يوسف: إذا اعتمد فطاع الطريق في محاربتهم في الأمصار، أو بين القرى على السلاح، لزمهم حد قطع الطريق، وإن اعتمدوا في ذلك على الأحجار، والأخشاب فإن كان ذلك بالنهار، فلا يقام عليهم الحد، وإن كان بالليل يقام عليهم ذلك، وعلل ذلك بأن الفتك في استعمال السلاح أسرع منه في استعمال غيره، وإن الغوث يلحقهم بالنهار في المصر، قبل أن يأتوا على المجني عليه، أما في الليل فإن الغوث يبطئ، فلهذا يثبت حكم قطع الطريق. ووافق الخرقي والثوري، وإسحاق أبا حنيفة، فيما ذهب إليه1، أما جمهور الفقهاء فقد رأوا زيادة على ما ذهب إليه أبو يوسف أن الحرابة تقع في المصر، كما تقع في الصحراء ليلًا، أو نهارًا سواء أكان ما معهم سلاحًا، أم كان خشبًا وحجارة، والمعول عليه عدم وصول الغوث لهم. هذا ما ذهب إليه الأوزاعي، والليث، والشافعي، وأبو ثور وجمهور

_ 1 المغني ج8 ص287.

الحنابلة، وقد جاء عن الشربيني الخطيب: "حيث يلحق غوث فلبسوا"، بقطاع بن منتبهون لإمكان الاستغاثه، وفقد الغوث يكون للعبد عن العمران، وعساكر السلطان، أو للقريب لكن لضعف في السلطان، واستحسن إطلاق الضعف لشمله ما لو دخل جماعة دارًا ليلًا، وشهروا السلاح، ومنعوا أهل الدار من الاستغاثة، فهم قطاع على الصحيح مع قوة السلطان، وحضوره وذو الشوكة قد يغلبون، والحالة هذه أي ضعف السلطان، أو بعده أو بعد أعوانه، وإن كانوا في بلد لم يخرجوا منها إلى طرفها، ولا إلى الصحراء فهم قطاع لوجود الشرط فيهم؛ ولأنهم إذا وجب عليهم هذا الحد في الصحراء، وهي موضع الخوف، فلأن يجب في البلد، وهي موضع الأمن أولى لعظم جراءتهم1. وزاد المالكية على ذلك عدهم المتسلطين ممن يعينهم الحاكم للجباية، وجمع الضرائب من المحاربين، إذا لم يمكن الاستعانة عليهم أورد ظلمهم، فيقول فقهاء المالكية عند حديثهم عمن يتسملهم لفظ المحاربين، "فيشمل جبابرة أمراء مصر ونحوهم يسلبون أموال المسلمين، ويمنعونهم أرزاقهم، ويعيرون على بلادهم، ولا تتيسر استغاثة منهم بعلماء، ولا بغيرهم، فهم محاربون لا غصاب"، ويقول القرافي: إن من أحد وظيفة أحد لا جنحة فيه بتقرير سلطان، فهو محارب؛ لأنه يتعذر العوث منه ما دام معه تقرير السلطان"2. أما ابن حزم، فإنه قد وضع ضابطًا للمحارب بأنه كل من كابر لا حافة الطريقة، أو للإفساد في الأرض، سواء أكانت مكابرته هذه بسلاح، أو بلا سلاح ليلًا، أو نهارًا في صحراء، أم في مصر بل أكثر من ذلك قال بأن الحرابة تقع في المسجد، وفي قصر الخليفة نفسه3، ولا يخفى أن

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص181، المغني ج8 ص287، 288. 2 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص348. 3 المحلى ج3 ص320.

قصر الخليفة، لا يخلو كل مكان من فيه من الحراس، والجنود بأسلحتهم ودروعهم، ومن استغاث بهم يلحقه الغوث بل من حاول الدخول إلى قصر الخليفة لن يعدم عينا تراقبه، وترصد حركته، ولا يحتاج فيه مع ذلك إلى الاستغاثة، وما ذهب إليه جمهور الفقهاء أولى بالاعتماد والتطبيق. لأن الحرابة في المكان الآهل بالسكان أشد، وأنكى وأعظم جرمًا بما تحدثه من عظم فساد وهلع، إذ أن كل من كان في المكان الآهل بالسكان غالب حاله، عدم أخذ الحذر من مثل هذه الأخطار، أما من كان بصحراء، فإنه لا شك قد أخذ حذره، وأعد سلاحه لاحتمال مواجهة من يتعرض له. وما ذهب إليه جمهور فقهاء الأحناف من إسقاط حد الحرابة، عمن وقع ذلك منه في المكان الآهل بالسكان لشبهة إمكان الغوث، يرده ما يشاهد من أحداث سطو، وحرابة في قلب المدينة الكبيرة الممتلئة بالجنود، والحراس ومع ذلك يقف كل هؤلاء عاجزين عن تخليص من وقعت عليهم الحرابة من أيدي المحاربين. وقد اتجهت التشريعات الوضعية حديثًا إلى وضع نصوص تشدد العقوبة في مثل هذه الحالات، علاجًا لما انتشر في الآونة الأخيرة، ووقفت تشريعاتهم السابقة عاجزة عن وضع حد له، وما ذلك إلا رجوعًا منهم عما قننوه مسبقًا، واتجاهًا إلى الإقرار بفساد ما وضعوه من علاج طلبًا للقضاء على الداء، وتحقيق الأمن. 3- من تقع منهم، أو عليهم جريمة الحرابة: اتفق الفقهاء على أن جريمة الحرابة، إذا قام بها مسلم أو زمي، ورفعت من أي منهما على مسلم، أو زمي لزم من قام بالحرابة ما حدده الشارع من عقوبة، طبقًا لما يحكم من قواعد.

أما إذا وقعت الحرابة من مستأمن، أو معاهد أو عليهما، فإن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية، والحنابلة والظاهرية، وأبو يوسف من فقهاء الأحناف، يرون عدم التفريق بين أحد من هؤلاء، وبين المسلمين أو الذميين، وعليه فإن عقوبة الحرابة يلزم بها كل من قام بهذه الجريمة، ممن يقيمون بالبلاد الإسلامية، إقامة دائمة، أو مؤقتة ما دامت الجريمة قد وقعت في حدود سلطان الدولة الإسلامية، سواء وقعت هذه الجريمة من مسلم، أو زمي أو معاهد، أو مستأمن أو على أي منهما، أيا كان القائم بها مسلمًا كان، أو ذميًا أو معاهد، أو مستأمنا1، وذهب الشافعي إلى أن المعاهد إذا فعل ما فيه إضرار بالمسلمين، كأن يفتن مسلمًا عن دينه، أو يقطع عليه الطريق، فإن لم يشترط الكف عن ذلك في العقد لم ينتقض عهده لبقاء ما يتقضى العقد من التزام أحكام المسلمين، ولزمته عقوبة أفعاله؛ لأن عقوبة هذه الأفعال تستوفي عليه من غير شرط. وجاء عن فقهاء الشافعية رأي آخر، يقتضي أن عقد المعاهد ينتهي بإتيان المعاهد فعلًا من هذه الأفعال، واستدل لذلك بما روي من أن نصرانيا استكره امرأة مسلمة على الزنا، فرفع إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقال: ما على هذا صالحناكم، وضرب عنقه2، هذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، إذا وقعت الحرابة من مسلم، أو ذمي أو معاهد، أو مستأمن أو على أي منهم أخذ بعموم الأدلة؛ ولأن المسلم إذا كان ملتزمًا بأحكام الإسلام بمقتضى إسلامه، فإن الذمي ملتزم أيضًا بأحكام الإسلام بمقتضي عقد الذمة، الذي يضمن له الأمان الدائم، والمعاهد والمستأمن

_ 1 جرجع في ذلك الخرشي ج8 ص104، حاشية الدسوقي ج4 ص348، مواهب الجليل ج3 ص165، 355 مغني المحتاج ج4 ص180، المهذب ج2 ص256، المغني مع الشرح الكبير ج9 ص383 المحلى ج13 ص332، نيل الأوطار ج7 ص171. 2 المهذب ج2 ص257.

كلاهما ملتزم بمقتضى عقد الأمان، والعهد الذي خوله الإقامة في دار الإسلام، فصار حكمه حكم الذمي. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المعاهد، أو المستأمن لا تلزم العقوبة من قطع عليه الطريق، كما لا تلزم العقوبة المعاهد، أو المستأمن إذا قام أحدهما بقطع الطريق على مسلم، أو ذمي. أما عدم إلزامه عقوبة قطع الطريق، فوجهه عند أبي حنيفة ومحمد، أن المستأمن لما لم يدخل للقرار بل لحاجه يقضيها، ويرجع وعلينا أن نمكنه من الرجوع بشرطه، لم يكن بالاستئمان ملزمًا جميع أحكامنا في المعاملات، بل ما يرجع منها إلى تحصيل مقصده، وهو حقوق العباد، غير أنه لا بد من اعتباره ملتزمًا الأنصاف وكف الأذى قد التزمنا له بأمانة مثل ذلك، والقصاص وحد القذف من حقوقهم فلزماه، أما حد الزنا فخاص له، وكذلك المغلب في السرقة حقه تعالى، فلم يلتزم، وصاحبه تعالى منعنا من استيفائه عند إعطاء أمانة1، وأما عدم إلزام المسلم، أو الذمي عقوبة قطع الطريق، إذا قام أحدهما بقطعها على المستأمن أو المعاهد، فقد بينه السرخسي بقوله: "وإذا قطعوا الطريق على قوم من أهل الحرب مستأمنين في دار الإسلام لم يلزمهم الحد لما بينا أن السبب المبيح في مال المستأمن قائم، وهو كون مالكه حربيًا، وإن تأخر ذلك إلى رجوعه إلى دار الحرب، ولكنهم يضمنون المال ودية القتلى، إبقاء الشبهة في دم المستأمن بكونه متمكنًا من الرجوع إلى دار الحرب، وهذا مسقطا للعقوبة، ولكنه غير مانع من وجوب الضمان، الذي يثبت مع الشبهة لقيام العصمة في الحال، ولكن يوجبون عقوبة لتخويفهم الناس بقطع الطريق، كما إذا لم يصيبوا مالًا ولا نفساء "ومثل ذلك إذا وقعت الحرابة من مسلم، أو ذمي على قافلة فيها

_ 1 فتح القدير ج5 ص269، 270 بدائع الصنائع ج7 ص134.

مسلمون ومستأمنون، ووقع القتل، وأخذ المال على المستأمنين فقط، أما إذا وقع القتل، وأخذ المال أو أحدهما على ما بالقافلة من المسلمين والمستأمنين، أقيم الحد على قطع الطريق كما لو لم يكن أهل الحرب من المستأمنين في القافلة1. وما ذهب إليه جمهور الفقهاء أولى بالاتباع؛ لأن التفرقة بين المقيمين في البلاد الإسلامية إقامة دائمة، وبين غيرهم من المعاهدين، أو المستأمنين من حيث إيجاب الحد لهم، أو عليهم تفرقة لا تقوم على أساس قوي، بل قد تجر كثيرًا من الفوضى، وإهدار حقوق المسلمين أنفسهم، وكم عادت البلاد الإسلامية مما كان للأجانب من امتيازات ترتب عليها إطلاق أيديهم لتعبث وتطبش2. كما أن القول بأن المعاهد، والمستأمن حربيان، وإن تأخر رجوعهما إلى دار الحرب، وهذا ينتج شبهة في مالهما يترتب عليها إسقاط الحد عمن أخذه، قول لا يقوى على مواجهة عموم الآيات الكريمة، وحتى لو سلمنا بأن ذلك ينتج شبهة لا أنها شبهة ضعيفة لا تقوى على درء الحد؛ لأن هؤلاء قد أمنهم الحاكم على نفوسهم، وأموالهم وأعطاهم عهدًا بذلك ألزمهم بمقتضاه بالمحافظة على نفوس المقيمن إقامة دائمة بالبلاد الإسلامية، وعلى أموالهم، وما كانت الدولة الإسلامية بعد أن عاهدت بغادرة، أو متهاونة في حق من الحقوق بها أو عليها. وما ذكر من أن ما وجب حقا للعبد ألزموا به أما ما وجب حقا لله، فإنه لا يجب إلزامهم به قول مردود؛ لأنه غير مبني على دليل، بل إن الدليل على إلزامهم الحد لواجب حقا لله تعالى، قد أورده الجمهور حين استدلوا بما كان من أبي عبيدة بن الجراح، مع النصراني الذي استكره

_ 1 المبسوط ج9 ص205، بدائع الصنائع ج7 ص134. 2 التشريع الجنائي الإسلامي ج1 ص285.

مسلمة على الزنا، حين ضرب عنقه، ورد على كل ما يمكن أن يثار بقوله: "ما على هذا صالحناكم". 4- الحرابة التي تقع بمشاركة الصبي أو المجنون: ذهب فقهاء الأحناف عدا أبي يوسف إلى أن الصبي، أو المجنون إذا شارك أحدهما غيره في جريمة قطع الطريق، فإن الحد يتدرئ عن الجميع، حتى ولو قام المكلفون بمباشرة القتل، أو أخذ المال ووفت الصي، أو المجنون ردءا لهم، ووجهة أبي حنيفة، ومن وافقه في القول بذلك، أن قطع الطريق جناية واحدة؛ لأن الموجود من الكل يسمى جناية قطع الطريق غير أنها لا تتحقق في الغالب إلا بجماعة، فكان الصادر من الكثير جناية واحدة، قامت بالكل، فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبًا للحد لشبهة أو عدم تكليف، لا يوجب في حق الباقين؛ لأن فعل الباقين حينئذ بعض العلة، وبعض العلة لا يثبت الحكم، وصار كالخاطئ مع العامة إذا اجتمعا في قتل معصوم الدم سقط القصاص عن العامة. وذهب أبو يوسف، وابن قدامة إلى أن الصبي، أو المجنون إذا وقعت درءا، ولم يباشر الفعل، وقام المكلفون بمباشرة جريمة الحرابة، وأخذ المال والقتل، أو هما معا ألزم هؤلاء المكلفون المباشرون للحرابة العقوبة المقررة لجريمتهم، ولم يلزم الشركاء الصبية، أو المجانين حد الجريمة، ولا يؤثر وجود الصبية، أو المجانين مع هؤلاء العقلاء الذين باشروا الجريمة: "أما إن قام الصبي أو المجنون بمباشرة الجريمة ووقف، الشركاء من العقلاء، رداءا لم يلزم هؤلاء الشركاء عقوبة الحرابة التي قام بها شركاؤهم من الصبية، أو المجانين؛ لأن المباشر الأصلي للجريمة غير مكلف، ولا يلزم بعقوبة جريمته، وعدم إلزام المباشر الأصلي عقوبة جريمته التي ارتكبها، ينهض شبهة في حق التبع له من

المكلفين، فيندرئ حد الجريمة عنهم، فالإمام أبو حنيفة، ومن وافقه يدرأ الحد عن العقلاء من الشركاء بصرف النظر عمن باشر فعل جريمة الحرابة الصبي، أو المجنون أو يأتي الشركاء، لشبهه عدم إيجاب الحد على بعض من شارك في الجريمة، أما أبو يوسف، فإنه فصل الأمر وفرق بين قيام الصبي، والمجنون بالجريمة والعقلاء ردءا، وبين العكس. فأسقط الحد عن العقلاء إذا كانوا ردءا؛ لأن عدم إيجابه على الفاعل الأصلي ينتج عنه عدم الإيجاب على التابع. أما إن قام العقلاء بالجريمة، وكان الصبي أو المجنون ردءا، فإن الحد إذا اندرأ عن الصبي، أو المجنون لأمر خاص بهما، فإن ذلك لا يؤثر بالنسبة لمن قام بالجريمة، ولم يتوفر فيه هذا الأمر1، وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بوجوب الحد على المكلف؛ لأن الحد وإن لم يلزم الصبي أو المجنون، فإن ذلك ناتج عن كونهما غير مكلفين، وتلزمهما عقوبة تعزيرية مع ضمان ما تلقوه من نفوس أو مال، ولا يشاركهما في عدم إلزام الحد غيرها؛ لأن الأمر بالنسبة لعدم التكليف خاص بهما، فلا يشاركهما فيها غيرهما، ولا يلزم عن ذلك شبهة في حق الباقين2. وذهب فقهاء الشافعية إلى القول بوجوب الحد على من باشر القتل، أو أخذ المال، فأما من حضر ردءا لما أوعينا، فلا يلزمه الحد. واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق"، وقالوا بوجوب التعزير على من لم تجب عليه العقوبة الحدية؛ لأنه أعان على معصية.

_ 1 فتح القدير ج5 ص429، 430، المبسوط ج9 ص197، 198، البحر الرائق ج5 ص74، المغني ج8 ص297، 298. 2 مواهب الجليل ج2 ص316، المدونة ج16 ص102 المغني ج8 ص297.

وقالوا أيضًا: لا يجب الحد بالمستوى على الشركاء، وإنما يجب القتل على من قتل، والقطع على من أخذ المال؛ لأن واحد منهم انفرد بسبب حد، فاختص به1. وما ذهب إليه الجمهور من القول بوجوب حد الحرابة على العقلاء، ولو شاركهم صبي، أو مجنون فعلهم هو ما أميل إليه وأرجحه؛ لأن القول بدرء الحد عن العقلاء بمشاركة الصبي، أو المجنون أو بدرء الحد عن الردء إذا باشر الصبي، أو المجنون الحرابة أمر بفتح باب الجريمة على مصراعيه، ولن يعدم المحترفون صبيًا يشاركهم جريمتهم، أو يدربونه ويقفون له ردًا عينا، كما أن عموم الأدلة أولى بالاتباع من غيره، ما دام يحقق الإصلاح. 5- حرابة القرابة المحرمية: ذهب فقهاء الأحناف إلى أن حد الحرابة لا يلزم ذا القرابة المحرمية، إذا قطع الطريق على من تربط به هذه القرابة، فإذا كان له شركاء في جريمة قطع الطريق، نتجت في حقهم شبهة بسبب سقوط حد الحرابة عنه، وترتب على هذه الشبهة إسقاط الحد عنهم أيضًا، يقول السرخسي: "وإن كان في المقطوع عليهم الطريق ذو رحم محرم من القطاع، أو شريك له مفاوض لم يلزمهم حكم القطع؛ لأنه امتنع وجوب القطع على ذي الرحم المحرم للشبهة، فيمتنع وجوبه عن الباقين للشركة.... ولأن مال جميع القافلة في حق قطاع الطريق، كشيء واحد، فإنهم قصدوا أخذ ذلك كله بفعل واحد، فإذا تمكنت الشبهة في بعض ذلك المال في حقهم، فقد تمكنت الشبهة في جميعه"2.

_ 1 المهذب ج2 ص285، أسنى المطالب ج4 ص152، مغني المحتاج ج4 ص182. 2 المبسوط ج9 ص203، فتح القدير ج5 ص430، 431، البحر الرائق ج5 ص74، 75.

وذهب فقهاء الشافعية، والحنابلة إلى القول بإسقاط حد الحرابة عن الأصول والفروع فقط، أما من شاركهم حرابتهم، فإنه عليه حدها الواجب بما قام به من أفعال. لأن إسقاط الحد من الأصول والفروع ناتج لما لهم في مال بعضهم من حقوق، ترتبت عليها شبهات أنتجت إسقاط الحد، أما غيرهم ممن شاركهم حرابتهم، فليست لهم هذه الحقوق، ولا شبهة لهم فيما أخذوه1. أما فقهاء المالكية، فقد قصروا إسقاط الحد عن الأب، أو الابن فقط إذا قام أحدهم بقطع الطريق على الآخر، وتوسع بعض فقهاء المالكية، فأسقط الحد عن الجد أيضًا نظرًا؛ لأنه يطلق عليه أب؛ ولأنه ممن تغلظ عليه الدية2. أما ابن حزم، فإنه لم يسقط الحد بسبب القرابة المحرمية، وألزم كل من قام بالحرابة على قريبه المحرمي بالحد المقرر لذلك، حتى ولو كان أبا قطع الطريق على ابنه3. وما ذهب إليه فقهاء الشافعية، والحنابلة هو ما أرجحه؛ لأن ما بين الأصول والفرع من قرابة، وعلاقة قد أوجدت لكل منهما حقا في مال صاحبه، كما أن في إلزام كل منهم الحد تسبب حرابته قريبة أصله، أو فرعه ما يورث العداوة والبغضاء بين الأب، وابنه أو الابن، وأبيه الذي أن حنق عليه ساعة بكاه باقي يومه، والعلاقة بينهما حض الشارع على رعايتها وحمايتها، ولا يتحقق ذلك بإلزام من قطع الطريق منهم على

_ 1 شرح التحرير بهامش حاشية الشرقاوي ج2 ص437، المغني ج8 ص297. 2 حاشية الدسوقي ج4 ص337، الخرشي ج8 ص96. 3 المحلى ج13 ص380-386.

أصله، أو فرعه حد قطع الطريق، ويكفي أن يلزم الأصل، أو الفرع برد المال والعقوبة التعزيرية المناسبة، فإن في ذلك ما يردعه ويزجره، ولا يأتي على ما بينه وبين أصله، وفرعه من علاقات. أما أن يسقط الحد عمن شارك الأصل، أو الفرع أو ذي الرحم المحرم حرابة، فهذا قول بعيد وشبهة لا نقوى على رد عموم الأدلة، كما أن قيام سبب في بعض الشركاء خاص به، لا يترتب عليه أن يتعداه إلى غيره. أما بالنسبة للمرأة إذا شاركت في قطع الطريق، فقد ذهب الكرخي إلى أنه لا حد على النساء بقطع الطريق، ووافقه أبو حنيفة، لكون المرأة ليست محاربة بأصل خلقتها، وزاد أبو حنيفة القول بإسقاط الحد عمن شاركها حرابتها من الرجال، مثلها في ذلك مثل الصبي والمجنون، وأبو يوسف يرى إيجاب الحد على شركائها من الرجال1، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن المرأة مثلها مثل الرجل في جريمة الحرابة، فيلزمها الحد كما يلزمه2. أما إذا كانت زوجة المقطوع عليه، ففي ذلك التفضيل الذي مر في سرقتها من مال زوجها. وما ذهب إليه الجمهور أولى بالقبول، خصوصًا وأن جريمة الحرابة قد تقع في الأماكن الآهلة بالسكان، وقد تسهم المرأة وتقوم بدور رئيسي، ولدعوى بأن طبيعتها، أو أنها في أصل خلقها ليست بمحاربة يكذبه الواقع، فقد شاركت المرأة الجيوش المحاربة.

_ 1 المبسوط ج9 ص197، 198. 2 مواهب الجليل ج6 ص314، مغني المحتاج ج4 ص181، المغني ج8 ص298، المحلى ج13، ص380-386.

الفصل الثالث: جريمة شرب الخمر

الفصل الثالث: جريمة شرب الخمر مدخل ... الفصل الثالث: جريمة شرب الخمر تقديم: المراد بالخمر: الخمر هي كل ما خمر العقل، والتخمير: التغطية والستر. يقال: خمر وجهة، وخمر إناءه أي غطاهما وسترهما، والمخامرة: المخالطة1، وعرفها الإمام أبو حنيفة بأنها اسم للنيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد، وقذف بالزبد ثم سكن عن الغليان، وصار صافيًا مسكرًا2، وعرفها الصاحبان بأنها عصير العنب النيئ إذا غلا واشتد -فقط- قذف بالزبد أو لم يقذف به، سكن عن الغليان أم لا؟ 3. وعرفها جمهور الفقهاء بأنها كل شراب مسكر، دون النظر إلى

_ 1 لسان العرب ج5 ص339، القاموس المحيط. 2 النيئ: الذي لم تمسه النار، الغليان فوران ما وضع على النار من تأثيرها الاشتداد: قوة التأثير، الزبد: الرغوة الناتجة عن الغليان. يراجع بدائع الصنائع ج5 ص112، فتح القدير ج5 ص306، وما بعدها. 3 وهذا هو الرأي الراجح عند الظاهرية والزيدية، والإمامية، وإن ذكر صاحب البحر الزخار أن الخلاف بين أبي حنيفة، والصاحبين خلاف لفظي؛ لأن العصير لا يغلي إلا ويقذف بالزبد، وإن كان ذلك غير منضبط، فالخلاف حقيقي لا لفظي، يراجع في ذلك، الطبعة التمهديدية لموضوعات الموسوعة، الفقهية بالكويت ص9، 10 فتح القدير ج5 ص306 وما بعدها، المحلى ج13 ص427، ج8 ص230.

ما أخذ منه هذا الشراب، معتمدين في ذلك على ما روي من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" 1. ونتيجة لهذا فرق الإمام أبو حنيفة بين عقوبة الشرب، وعقوبة السكر، فمن شرب خمرًا لزمه الحد سكر أم لا، كثر ما شرب منها أم قل، أما من شرب شيئًا آخر غيرها مما يسكر، فلا حد عليه إلا إذا سكر، أما جمهور الفقهاء فقد قالوا بوجوب الحد على من شرب مسكرًا خمرًا كان، أو غيره كثر ما شربه أم قل، وقد نتج عن هذا كله شبهات تتصل بالركن الشرعي للجريمة، أوردها هي وغيرها مما يتصل بهذه الجريمة من شبهات.

_ 1 صحيح مسلم بشرح النووي ج4 ص683-686، تفسير القرطبي ج1 ص860، المنتقى شرح موطأ مالك ج3 ص151، المهذب ج2 ص286، الأم ج6 ص180، المغني ج8 ص305، مباني تكملة المنهاج ج1 ص269، 271، ويراجع في هذا كله الخمر في الفقه الإسلامي للدكتور، فكري أحمد عكاز ط المختار الإسلامي.

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي مدخل ... المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي كان اختلاف الفقهاء في تعريف الخمر، وتحديد ما يقصد بها سببًا للقول بتحريم شرب بعض الأنبذة عند جمهور الفقهاء، والقول بعدم تحريم قدر لا يصل بشاربه حد الإسكار عند فقهاء الأحناف. والفقهاء وإن اختلفوا في ذلك، إلا أنهم اتفقوا على أن السكر نتيجة شرب أي نوع، مما يسكر جريمة توجب العقوبة الحدية، إذا توافرت فيمن سكر شروط إلزامه الحد، كما اتفق الفقهاء، سواء أكان هذا القدر المشروب كثيرًا، أم قليلًا أسكر شاربه، أم لم يسكره. ولقد ترتب على ما قال به فقهاء الأحناف، وما ذهب إليه الجمهور قيام شبهة بالنسبة لمن شرب بعض الأنبذة، ولم تصل حد السكر. كما نشأت شبهة أخرى نتيجة اختلاف فقهاء الأحناف، على الحد الذي إذا وصل إليه الشارب يعد قد سكر، ويلزمه بذلك عقوبة شارب الخمر، وذلك نظرًا لعدم اتفاقهم على معيار محدد لسكر من شرب الأنبذة، التي لا يطلقون عليها خمرًا، وشبهة ثالثة لاختلاف الفقهاء في حكم وصول الخمر إلى الجوف من غير طريق الفم.

شرب قليل الأنبذة

1- شرب قليل الأنبذة: ذهب فقهاء الأحناف إلى أن الشرب الموجب للحد هو شرب الخمر، وهي المتخذة من ماء العنب، أو نقيع البلح والزبيب بالصورة، التي سبق بيانها عند الامام، وعند صحابه. أما شرب غيرها من عصير العنب إذا طبخ، فذهب ثلثاه، ونقيع البلح والزبيب إذا طبخ ولم يذهب ثلثاه، ونبيذ الحنطة، والذرة، والشعير وما إلى ذلك من غير ما يسمى خمرًا عندهم، فلا يوجب -شربه- الحد، إلا إذا بلغ من شربه حد السكر، فإن لم يبلغ به حد السكر، فلا حد بشربه. واستدلوا لذلك بأدلة منها: ما جاء من قول الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} 1، قال الإمام أبو حنيفة وأصحابه السكر هو المسكر، ولو كان محرم العين لما سماه الله تعالى رزقًا حسنًا، والسكر ما لا يسكر من الأنبذة، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك، ولا يقع الامتنان إلا بمحلل لا بمحرم ... وعضدوا هذا بما رواه أبو هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة"، رواه الجماعة إلا البخاري2. كما قالوا: "إن القرآن قد نص على أن علة التحريم في الخمر، إنما هي الصد عن ذكر الله، ووقوع العداوة والبغضاء، أخذ مما جاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 3، وهذه العملية توجد في القدر المسكر لا فيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام. إلا ما انعقد الإجماع على تحريمه من كثير الخمر وقليلها4.

_ 1 الآية 67 من سورة النحل. 2 يراجع في هذا التفسير القرطبي ج5 ص3744-3746، نيل الأوطار ج8 ص194 وما بعدها. 3 الآية 91 من سورة المائدة. 4 يراجع في هذا كله بدائع الصنائع ج5 ص112، وما بعدها، فتح القدير ج5، نيل الأوطار ج7 ص157، التشريع الجنائي ج1 ص498، وما بعدها ص306-310.

وخلاصة القول أن الإمام أبا حنيفة، وأصحابه يفرقون بين ما يعد خمرًا، وبين ما يسكر مما لا يعد خمرًا عندهم، فما يسكر مما لا يعد خمرًا عندهم لا يعاقب على شربه، وإنما يعاقب على السكر منه؛ لأن المسكر هنا حرامًا في حد ذاته، وإنما الحرام هو الكمية التي أوصلت إلى السكر فيها، فلو شرب شخص مما يسكر غير الخمر قد حين مثلًا، ولم نسكر منهما، أم شرب قدحا ثالثًا، فالمحرم هو هذا القدح الثالث، ويلزمه عندئذ حد السكر. وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بتحريم جميع ما يسكر كثيره من الأنبذة وغيرها، ومساواة ذلك بالخمر المتخذة من عصير العنب، فلا عبرة بما أخذ منه المسكر، إذ يستوي في ذلك التحريم، وإيجاب الحد بشربه ما كان من ماء العنب، أو التمر أو غير ذلك من عسل، أو شعير أو حنطة وما إلى ذلك؛ لأن العبرة في التحريم هو الإسكار، فما دام شرب الكثير منه يؤدي إلى الإسكار، فشرب القليل منه حرام موجب للحد، حتى ولو لم يسكر شارب هذا القليل، فالحد عند جمهور الفقهاء هو حد الشرب لا حد الإسكار. واستدل جمهور الفقهاء لما ذهبوا إليه بأدلة منها: أ- ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من الحنطة خمر، ومن الشعير خمر، ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر، ومن العسل خمر" 1. ب- روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- خطب على المنبر، وقال: "ألا إن الخمر قد حرمت، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير".

_ 1 نيل الأوطار ج8 ص194-204، فتح الباري ج10 ص30.

وقد قالت السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها: "لا أحل مسكرًا، وإن خبزا أو ماء"1. ج- روي عن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: "سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العنب -وهو شراب العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: "كل شراب أسكر، فهو حرام"، وما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام"2. د- روى ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" 3. هـ- ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما أسكر كثيره، فقليله حرام" 4. كما أن ما جاء به علماء اللغة يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، إذ إن الخمر إنما سميت بذلك عندهم؛ لأنها تخامر العقل، وعليه فإن ما يخامر العقل، ويستره يسمى خمرًا: سواء كثر أو قل. ورد القرطبي على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، وأصحابه من أن الله سبحانه وتعالى قد امتن على عباده، ولا يكون امتنانه إلا بما حل، يقوله: "إنه يحتمل أن يكون ذلك قبل تحريم الخمر"، أما ما ذكره

_ 1 صحيح مسلم ج4 ص686، تفسير القرطبي ج3 ص1154 ج5 ص3746، ويراجع أيضًا المحلى ج8 ص232، المغني ج8 ص305. 2 الفرق بسكون الراء ثلاثة أصبع، وبفتحها ستة عشر، صحيح الترمذي بشرح ابن العربي ج8 ص57. 3 صحيح البخاري ج4 ص663، المغني ج8 ص305، نيل الأوطار ج8 ص196، تفسير القرطبي ج5 ص3746. 4 نيل الأوطار ج8 ص196.

الإمام أبو حنيفة وأصحابه من أحاديث، فإنها أحاديث ضعيفة؛ لأنه قد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالنقل الثابت، ما يردها، ويفيد أن ما أسكر كثيره، فقليله حرام1. كما أن المقصود من الرزق الحسن في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ} ، ليس هو القليل الذي لا يسكر، بل المقصود هو التمر، والزبيب وما أشبههما مما ليس بحرام2. مما سبق يتضح ما بين أبي حنيفة وأصحابه، وبين جمهور الفقهاء من خلاف في إيجاب الحد على من شرب من النبيذ، قدرا لم يصل به حد السكر، وهو خلاف لا تقوم به شبهة الجهة، وذلك؛ لأن أدلة من أجاز أدلة ضعيفة، والدليل لا يقوى على درء ما أوجبه الدليل القوي الثابت بيقين. كما ان المختلف فيها، يغاير سائر ما اختلف فيها مما يوجب الحد من جرائم من وجهين: أولهما: أن فعل المختلف فيه ههنا يفتح الباب إلى فعل ما أجمع الفقهاء على تحريمه، ويرغب فيه ويحض عليه. ثانيهما: أن الأحاديث الشريفة التي بينت تحريم قليل ما يسكر كثيره، أحاديث كثيرة مستفيضة لم تبق عذرًا لأحد في اعتقاده إباحة ذلك. وعليه، فلا يقوى الخلاف هنا على درء الحد لضعف الشبهة، ضعفًا يكاد لا يبقى لها وجود.

_ 1 تفسير القرطبي ج5 ص3746. 2 تفسير الجلالين ص219 ط المشهد الحسيني، ويراجع في ذلك شرح الزرقاني ج8 ص112، حاشية الدسوقي ج4 ص352، أسنى المطالب ج4 ص158 مغني المحتاج ج4 ص187، المغني ج8 ص303-306، مباني المنهاج ج1 ص267-270.

وصول الخمر إلى الجوف عن غير طريق الفم

2- وصول الخمر إلى الجوف عن غير طريق الفم: السلوك المادي الذي تقوم به جريمة شرب الخمر، هو عبارة عن قيام الجاني بشرب المسكر، ويقصد بذلك وصول المسكر إلى الحلق، ومن باب أولى وصوله إلى الجوف عن الطريق الطبيعي: أي عن طريق الحلق؛ لأن الشرب لا يكون إلا عن هذا الطريق. فمن لم يصل المسكر إلى حلقه لا يلزمه الحد، كمن تمضمض به ثم مجه، أوكمن تروقه بلسانه، ولم يصل إلى حلقه. ومن وصل الخمر إلى جوفه عن غير طريق الفم، كأن يكون قد استعط به، أو احتقن، فإن كلمه الفقهاء لم تنفق على إلزامه الحد. فقد ذهب فقهاء الأحناف، والمالكية إلى أن الحد لا يجب إلا إذا وصلت الخمر إلى الجوف عن طريق الفم، فإن وصلت عن طريق الأنف، أو الشرج أو الحقن، فإن ذلك يورث شبهة لعدم وصولها من الطريق الطبيعي، ويترتب على هذه الشبعة درء الحد، وإن كان درء الحد لا يمنع الإمام من تعزير من فعل ذلك1. وذهب فقهاء الشعية إلى إيجاب الحد على كل من أدخل خمرًا في جوفه، حتى ولو لم يصدق على فعله عنوان الشرب2.

_ 1 بدائع الصنائع ج7 ص40، شرح الزرقاني ج8 ص11، حاشية الدسوقي ج4 ص352. 2 مباني المنهاج ج1 ص270.

وقد جاء عن فقهاء الشافعية ثلاثة آراء: أولها: لا حد بذلك لقيام الشبهة التي تدرأ الحد. وثانيها: يجب الحد مطلقًا بوصول الخمر إلى الجوف. وثالثها: يجب الحد على من استعط المسكر، أما من احتقن به، فلا حد عليه1. ووافق جمهور فقهاء الحنابلة ما ذهب إليه الشافعية، وإن كان الإمام أحمد قد رأى الحد على من احتقن بالخمر لوصولها لجوفه2. وما ذهب إليه الأحناف، والمالكية هو ما أرجحه إلا إذا تعمد متعاطي المسكر التحايل، وسكر مما أدخله إلى جوفه، لتحقق علة إيجاب الحد من كونه قد يصل الافتراء، وسدا لباب التحايل.

_ 1 نهاية المحتاج ج8 ص11، مغني المحتاج ج4 ص188. 2 المغني ج8 ص306، 307، الإقناع ج4 ص267.

المبجث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد، لقيام شبهة في القصد الجنائي

المبجث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد، لقيام شبهة في القصد الجنائي ... المبحث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد، لقيام شبهة في القصد الجنائي جريمة شرب الخمر من الجرائم التي لا بد قيامها من توافر القصد الجنائي لدى الفاعل، وعلى هذا فمن أقدم على شرب الخمر، وهو مكره فلا تقوم الجريمة بالنسبة له بمعنى أنه لا يلزم عقوبتها، وهذا ما أجمع عليه الفقهاء، ومثله من اضطر لدفع عطش أو لعلاج، ومثل ذلك من شربها، وهو يجهل كونها خمرًا، وإن سكر، أما من شرب الخمر وهو يجهل حكمها، ولا يعلم أنها حرام، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بدرء الحد عنه لشبهة جهله هذه. وهؤلاء الذين لم يلزموه الحد، وإن اتفقوا على ذلك، إلا أن منهم من قد بنوا رأيهم في ذلك على أساس عدم قيام الجريمة أصلًا في حقه، فيقول ابن حزم: "من أكره على شرب الخمر، أو اضطر إليها لعطش، أو علاج أو لدفع خنق، فشربها أو جهلها، فلم يدر أنها خمر، فلا حد على أحد من هؤلاء، ثم فصل المراد بجهلها، فقال: "ما الجاهل -فإنه لم يتعد ما حرم الله عليه، ولا حد إلا على من علم التحريم- ولا يختلف اثنان من الأمة في أنه من دست إليه غير امرأته، فوطئها وهو لا يدري من هي يظن أنها زوجته، فلا حد عليه"1. وجاء عن فقهاء الشيعة: "لو أن رجلًا دخل الإسلام، وأقربه ثم شرب الخمر وزنى، وأكل الربا ولم يتبين له شيء من الحلال والحرام، لم أقم عليه الحد إن كان جاهلًا"2.

_ 1 المحلى ج13 ص429. 2 مباني تكملة المنهاج ج1 ص267.

ومن هؤلاء من قال بدرء الحد عنه لشبهة جهله: وقد فصل هؤلاء القول في ذلك، فيقول الشربيني: "لو قرب إسلامه، فقال: جهلت تحريمها لم يحد؛ لأنه قد يخفى عليه ذلك، والحدود تدرأ بالشبهات1، وقد فصل فقهاء الحنابلة القول، فيمن يدعي الجهل بتحريم الخمر، ووافقهم الأذرعي، فرأوا أن مدعي الجهل إن كان ناشئًا ببلاد الإسلام بين المسلمين، لم تقبل دعواه؛ لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله، فلا تقبل دعواه ففيه، وإن كان حديث عهد بالإسلام، أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلدان قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله"2. وإن كان الرأي الظاهر عند فقهاء الشافعية، إسقاط الحد عمن قال بجهله حكم تحريمها؛ لقرب عهده بالإسلام دون تفصيل، سواء أكان ممن نشأ بين المسلمين، أو من غير هؤلاء، فقد جاء عن الشربيني قوله بعد أن ذكر رأي الأذرعي "ظاهر كلام الأصحاب الإطلاق، وهو الظاهر"3. وذهب فقهاء المالكية إلى القول: بأنه لا حد على من شرب خمرًا يظنها غيرها، كما إذا ظنها ماء، أو عسلًا فشرب، ثم ظهر أنها خمر، أو أن هذا الشراب مسكر، وقاسوا ذلك بمن وطئ أجنبية لظنها زوجته إن كان يتأتى الاشتباه. أما من جهل وجوب الحد، وعلم الحرمة، فإنه يلزمه الحد، ولا يلتفت إلى جهله هذا؛ لأنه جهل لا يعتد به في إسقاط الحد، وكذا يلزم الحد

_ 1 مغني المجتاج ج4 ص188، ويراجع في ذلك بدائع الصنائع ج7 ص40. 2 المغني ج8 ص308، 309، مغني المحتاج ج4 ص188. 3 مغني المحتاج ج4 ص188.

من جهل الحرمة نفسها، حتى وإن كان قريب عهد بالإسلام، ومثلوا له بالاعجمي الذي دخل دار الإسلام، فمثل هذا لا يعذر بجهله تحريم الخمر. ورد فقهاء المالكية على ما يمكن أن يوجه لرأيهم من نقد، أنهم لم يعذروا الجاهل عنا، وعذروه في الزنا، فقالوا: إن مفاسد الشرب لما كانت أشد من مفاسد الزنا لكثرتها؛ لأنه ربما زنى وسرق، وقتل كان أشد من الزنا؛ ولأن الشرب أكثر وقوعًا من غيره"1. وما ذهب إليه فقهاء المالكية من القول بوجوب الحد على من جهل الحكم هنا على عمومه قول مردود؛ لأن الجهل المعتد به، وإن لم يقو على عدم إيجاب الحد ابتداء، فلا أقل من أن يورد شبهة يترتب عليها درء الحد، أما أن الشر مفاسدة أكثر، فهذا إعمال الحدود على أساس من الحدس والتخمين، وهو مردود في هذا الباب، لقيام الدليل على درء الحد بالشبهة، ولم يفصل بين حد وآخر، من حيث كونه أكثر وقوعًا من عدمه في مسائل هذا الباب، وهذا ما أرجحه.

_ 1 الخرشي ج8 ص108، حاشية الدسوقي ج4 ص352، شرح الزرقاني ج8 ص113.

المبحث الثالث: الشبهات التي تعتري إثبات شرب الخمر

المبحث الثالث: الشبهات التي تعتري إثبات شرب الخمر أولا: إثباتها بالإقرار وما يعتريه من شبهات ... المبحث الثالث: للشبهات التي تعتري إثبات شرب الخمر أولًا: إثباتها بالإقرار وما يعتريه من شبهات يرى جمهور الفقهاء أن جريمة شرب الخمر، تثبت بإقرار الجاني، ولو مرة واحدة، وذلك نظرًا؛ لأن الحد الواجب على المقر لا يترتب عليه إتلاف، ولهذا قاس جمهور الفقهاء إثباتها بالإقرار الواحد بإثبات جريمة القذف، فيقول بن قدامة: "ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين الإقرار، أو البينة، ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم؛ لأنه حد لا يتضمن إتلافًا، فأشبه حد القذف"1. ولم يقيد جمهور الفقهاء الإثبات بالإقرار بوجود رائحة الخمر، وإن كان الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف قد اشترطا للاعتداد بالإقرار هنا، أن يكون رائحة الخمر موجودة بفم المقر، فإن أقر بشربه الخمر، ولم تشم منه رائحتها، فلا يحد عند أبي حنيفة، وأبي يوسف2. كما ذهب أبو يوسف إلى القول: باشتراط أن يعتدد الإقرار من الجاني بعدد الشهود الذين تثبت الجريمة بشهادتهم، وذلك؛ لأنه يرى أن كل إقرار يسقط بالرجوع، فعدد الإقرر فيه كعدد الشهود3. كما قد جاء عن فقهاء الشيعة اشتراط ذلك التعدد، وإن كان هذا الرأي خلافًا للمشهور عندهم4. وما أرجحه من ذلك، هو أنه يكفي لإثبات جريمة الشرب، وإلزام الحد إقرار الجاني، ولو مرة واحدة، وجدت رائحة الخمر، أو لم توجد نظرًا لانتقاء التهمة؛ لأن الإنسان لا يتهم نفسه، فلا يشترط التعدد، ولا وجود الرائحة، فلا يسقط الحد بشيء من ذلك، ولا يرد الإقرار، وما يترتب عليها إلا الرجوع عنه، فإذا رجع المقر عن إقراره درئ الحد عنه؛ لأن الحق هنا خالص لله سبحانه وتعالى

_ 1 المغني ج8 ص309. 2 فتح القدير ج5 ص301-305. 3 بدائع الصنائع ج7 ص50. 4 مباني تكملة المنهاج ج1 ص272- ويراجع الخرشي ج8 ص109، حاشية الدسوقي ج4 ص353، مغني المحتاج ج4 ص190.

وذهب فقهاء المالكية إلى وجوب حد الشرب على المشهود عليه، إذا شهد عليه عدل واحد بشربها، وشهد أخر بأنه رآه يتقاياها، وكذا يلزمه حد الشرب إذا شهدا بأنهما شما من فمه رائحة الخمر، وأكثر من ذلك ذهب فقهاء المالكية إلى القول: بوجوب الحد إذا شهد عليه عدلان بأن رائحة فمه مسكر، وشهد عدلان آخران أنه ليس برائحة مسكر، وذلك مبني عندهم على أساس أن الشهادة المثبتة تقدم على النافية1. وما ذهب إليه المالكية مردود؛ لأن شهادة العدلين بأن فمه رائحته خمرًا، لا تصلح دليلًا أساسا لجواز أنه تمضمض بها، ثم مجها أو أنه شربها مكرها، أو غير عالم بأنها خمر، وهذه كلها شبهات، كما أن شهادة الأولى، فلا أقل من أن تورث شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.

_ 1 الخرشي ج8 ص109، حاشية الدسوقي ج4 ص353.

ثانيا: إثبات جريمة الشرب بالبينة وما يعتريه من شبهات

ثانيًا: إثبات جريمة الشرب بالبينة، وما يعتريه من شبهات تثبت جريمة شرب الخمر بشهادة شاهدين، فأكثر بالشروط التي سبق بيانها، عند الحديث عن الإثبات بالبينة. وذهب الإمام أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى اشتراط وجود رائحة المسكر بفم الشارب، عند تأدية الشهود شهادتهم عليه، فإذا جاء الشهود من مكان بعيد، فاستغرق حضورهم وقتًا، زالت فيه رائحة الخمر من فم لزمهم الشارب أن يقولوا: أخذناه، وريح الخر موجودة بفمه1. ويرى جمهور العلماء عدم اشتراط وجود الرائحة بفم الشارب، فيكفي شهادة رجلين أنهما رأياه يشرب الخمر، فإذا لم يشهدا بأنهما رأياه يشربها فلا حد. كأن يقولا: شممنا منه يرحها أو رأينها سكرانا، أو وجدناه يقيء خمرًا ودرء الحد عنه هنا مبني على أساس احتمال أن يكون شرب الخمر غلطًا، أو مكرها، والحد يدرأ بالشبهة، بين ذلك ابن قدامة بقوله: "وإن وجد سكرانًا أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرهًا، أو لم يعلم أنها تسكر، وهذا مذهب الإمام الشافعي"2.

_ 1 فتح القدير ج5 ص301، 303. 2 المغني ج8 ص309، مغني المحتاج ج4 ص190.

ثالثا: إثبات جريمة الشرب بالقرائن

ثالثًا: إثبات جريمة الشرب بالقرائن ذهب الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- إلى أن وجود رائحة الخمر من فم شخص، تعتبر دليلًا على شربه لها، وعلى هذا لو شهد بوجود الرائحة شاهدان لزم المشهود عليه حد الشرب الخمر، يقول الخرشي: "وكذا يحد لو يشهد عليه عدلان بأن رائحة فمه رائحة مسكر"1. ويظهر لي أن إلزام المشهود عليه الحد، مشروط بعدم ذكره سببًا من الأسباب المبيحة له شرب الخمر، أو أنه مجها من فمه قبل أن تصل إلى حلقه؛ لأن الخرشي قد ذكر بعد قوله السابق: "ويجوز شرب الخمر عند الإكراه على شربه، وكذا يجوز شربها لمن غص بالطعام، وخاف على نفسه الهلاك، وتقدم أن ابن عرفه يقول بعدم الجواز، لكن المعول عليه الإباحة، وعلى كل لا حد"1.

_ 1 الخرشي ج8 ص109، حاشية الدسوقي ج4 ص353.

وقد وافق الإمام أحمد في أحد رأييه، ما ذهب إليه الإمام مالك -رضي الله تعالى عنهما1. وذهب الإمام الشافعي، والإمام أحمد في رأيه الراجح إلى القول بعدم الاعتداد بالشهادة، التي أخبر فيها الشهود بأنهم قد شموا رائحة الخمر من فم المشهود عليه، لجواز أنه شربها لسبب من الأسباب التي ذكرتها، أو؛ لأنه مجها قبل أن تصل إلى حقه، واحتمال الدليل مثل هذا لا يصلح لأن يقام به حد، وقد وافقهما في ذلك الثوري، أما الإمام أبو حنيفة، فإنه قد زاد على ذلك، فقال إذا شهدا عليه بانهما رأياه يشرب الخمر، فلا بد من أن تشم منه رائحتها، إلا إذا كانت المسافة التي حضروا منها بعيدة، ويتحتم على الشهود أن يذكروا في أقوالهم ما يفيد أنهما أخذاه، وريح الخمر بفمه2. وما ذهب إليه الإمام الشافعي، ومن وافقه هو ما أميل إليه، وأرجحه؛ لأن الحدود لا تقام إلا بدليل لا يتطرق إليه شك.

_ 1 المغني ج8 ص309. 2 المرجع السابق، مغني المحتاج ج4 ص190.

الفصل الرابع: جريمة القذف وما يتعلق بها من شبهات

الفصل الرابع: جريمة القذف وما يتعلق بها من شبهات مدخل ... الفصل الرابع: جريمة القذف وما يتعلق بها من شبهات تقديم: القذف في اللغة: الرمي، وقذف المحصنة أي سبها، ورماها بالزنا أو ما كان في معناه، ويطلق أيضًا على السب والشتم، ومن ذلك ما جاء من حديث السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها: ".... وعندها قينتان تغنيان بما تقاذفت به الأنصار يوم بعاث"، أي تشاتمت في أشعارها وأراجيزها"1. وعرفه الجمهور الفقهاء بأنه الرمي بالزنا2، وهذا التعريف للقذف قد جاء تعريفًا عامًا، ولذا فإن بعض الفقهاء قد أورد للقذف الموجب للحد تعريفًا، ذكر فيه بعض القيود والشروط، فيقول البابرتي: القذف في اصطلاح الفقهاء نسبة من أحصن إلى الزنا صريحًا أو دلالة، عند انعدام الشبهة3. وذكر الشربيني أن المراد بالقذف الموجب للحد، هو الرمي بالزنا في معرض التعبير، ليخرج الشهادة بالزنا، فلا حد فيها إلا أن يشهد به دون أربعة4. وجاء عن فقهاء المالكية أن القذف الأعم: نسبة آدمي غيره لزنا، أو قطع نسب مسلم، والأخص لإيجاب الحد: نسبة آدمي مكلف غيره حرا عفيفًا مسلمًا بالغًا، أو صغيرة تطيق الوطء لزنا، أو قطع نسب مسلم5.

_ 1 لسان العرب ج11 ص184 مادة "قذف". 2 فتح القدير ج5 ص316، البحر الرائق ج5 ص31، المغني ج8 ص215، المحلى ج13 ص249، مباني تكملة المنهاج ج1 ص252. 3 شرح العناية مع فتح القدير ج5 ص316. 4 مغني المحتاج ج4 ص155. 5 الخرشي ج8 ص86، حاشية الدسوقي ج4 ص324، 325.

وما ذكرته هذه التعريفات من قيود، وشروط هو ما سأعرض له بالحديث؛ لأنه قد ينشأ عنها شبهات، نظرًا لاختلاف الفقهاء، بعضهم البعض في القول بذلك. أما فقهاء القانون، فإنهم لم يشترطوا أن يكون القذف بالزنا، وإنما أطلقوه على كل ما يمس سمعة المقذوف، حتى ولو كان اختلاسه لمال في عهدته، وفرقوا بين القذف، والسبب، فجعلوا القذف قاصرًا على إسناد واقعة وقائع معينة للمقذوف في حقه، كان ينسب لموظف أنه اختلس مالًا في عهدته، أو أنه ارتشى في عملية، أو أن شخصا حملته أمه سفاحًا، أو أن طالبًا غش في الامتحان، أما السب فهو يخلو من إسناد واقعة معينة، ولكنه يتضمن خدشًا للشرف والاعتبار، كأن يقال لشخص: إنه لص. ولا تستخلص التفرقة بين القذف، والسب من صيغة العبارة وحدها، وإنما من مجموع ما يحيط بها من ظروف، فقد تجري على الألسن بعض العبارات على أساس أنها من قبيل السب، ولكن هذه العبارات قد يريد بها الجاني أمر محددًا، وعندئذ تعد قذفًا، فمن يقل لآخر: إنه ابن حرام، فقد تؤخذ على أنها سب، وقد تعتبر قذفًا إذا ثبت أن الجاني كان يقصد أن أم المجني عليه حملتها سفاحًا1. كما أن فقهاء القانون يرون أن جريمة القذف، لا تنتفي إذا كانت الوقائع المسندة للمقذوف صحيحة، وهذا يغاير ما عليه فقهاء الشريعة، الذين لا يرون حدا على من قذف شخصًا بوقائع صحيحة وثابتة. والمقذوف في حقه عند فقهاء القانون، قد يكون شخصًا طبيعيًا،

_ 1 يراجع شرح قانون العقوبات القسم الخاص أ. د: محمود مصطفى ص344-364، أ. د. أحمد الألفي ص250 وما بعدها.

وهذا هو المتعارف عليه عند فقهاء الشريعة، وقد يكون شخصًا معنويًا، ويلزمون القاذف بالعقوبة، وهذا ما لا نعده الشريعة من جرائم القذف الحدية، وإن ألزمت به عقوبة تعزيرية، وعمومًا فالتفرقة لا طائل تحتها؛ لأن العقوبة عند القانونيين عقوبة تعزيرية في كل وقائع القذف. ويبقى شرط جوهري عند فقهاء القانون، ويتمثل في أنه لا تقوم هذه الجريمة إذا لم يعلم بها أحد، فمن قذف آخر، ولم يسمعه أحد غير المقذوف لا يلزم بالعقوبة، التي حددها القانون أما الشريعة، فإنها تعد ذلك قذفًا، وتلزم به العقوبة الحدية، حتى ولو لم يسمعه أحد غير المقذوف إذا أقر القاذف به. ويقتضي ما ذكرته هنا بيان الوسائل التي تؤدي بها الركن المادي لهذه الجريمة، وما يشوبها من شبهات أيضًا، بالإضافة إلى ما ترتب على ما ذكره بعض الفقهاء من شبهات أنتجت درء العقوبة الحدية.

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي أولا: القذف بطريق الكتابة أو التعريض ... المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي نتج من اختلاف فقهاء الشريعة في تعريف القذف، وإيراد البعض شروطًا لم يرها الآخرون، وعدم اتفاقهم في إيجاب الحد ببعض صيغ القذف من الكنايات أو التعريض، شبهات تعتري الركن الشرعي للجريمة، يترتب عليها درء العقوبة الحدية، ويأتي في مقدمة هذه الشبهات، ما ترتب على اختلاف الفقهاء في إيجاب الحد على من قذف بلفظ يحتمل القذف وغيره، ثم ما اشترطه بعض الفقهاء من شروط في المقذوف. أولًا: القذف بطريق الكتابة، أو التعريض يرى فقهاء المالكية وجوب حد القذف على من عرض بآخر، إذا فهم المراد من التعريض، كان عليه قرينة ما من القرائن، ما لم يكن المعرض أبا للمقذوف، فيقول الخرشي: "اعلم أن التعريض المفهم لأحد الأمور الثلاثة المتقدمة، وهي: الزنا واللواط، ونفي النسب عن الأب، أو الجد كالتصريح بذلك، فإذا قال له: ما أنا بزان فكأنه قال له: يا زاني، أو قال: أما أنا فلست بلائط، فكأنه قال له: يا لائط، وقال له: أما أنا فأبي معروف، فكأنه قال له: أبوك ليس بمعروف، فيترتب على قول ذلك وجوب الحد، ولا فرق في التعريض بين النثر، والنظم، وأما الأب إذا عرض لولده، فإنه لا يجد لذلك لبعده عن التهمة في ولده، ولا أدب"1.

_ 1 الخرشي ج8 ص87، حاشية الدسوقي ج4 ص327.

وجاء عن الإمام أحمد في أحد رأييه، أن حد القذف يجب في التعريض، وقد روي ذلك عن عمر -رضي الله تعالى عنه، فقد حكم على من عرض بآخر بالجلد ثمانين1. وقد أورد جانبا من ذلك ابن حزم، حين عرض أدلة من رأى ذلك، وذكر أن رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه: فقال أحدهما: ما أبي بزان، ولا أمي بزانية، فاستفتى في ذلك عمر بن الخطاب، فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه، وأمه مدح سوى هذا، نرى أن يجلد الحد، فجلده عمر ثمانين"2. وروي أن عمر -رضي الله تعالى عنه، قد قال في شأن هذا الرجل: "قد عرض بصاحبه"، وكان عمر يجلد في التعريض3. كما ذكر ابن خزم أن رجلًا في إمارة عمر بن عبد العزيز -رضي الله تعالى عنه- قال لآخر: أنت تسري على جاراتك، فلما سئل القائل: عن قصده بذلك قال: والله ما أردت الانخلات كان يسرقهن، فحده عمر بن عبد العزيز4. ورأى القائلون بوجوب الحد بالتعريض، أن الحد إنما يجب في القذف لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف، وعليه فإذا حصلت المعرة بالتعريض، صار التعريض قذفًا كالصريح، ووجب به الحد. فوجود المعرة سبب يوجب الحد المسبب عنه5؛ ولأن الكناية مع

_ 1 المغني ج8 ص222. 2 المحلى ج13 ص268. 3 المغني ج8 ص222، المحلى ج13 ص267. 4 المحلى ج13 ص268. 5 القرطبي -الجامع لأحكام القرآن ج5 ص4565.

القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى، ولذلك وقع الطلاق بالكناية1. وذهب جمهور الفقهاء إلى القول بقصر وجوب الحد على القذف الصريح، فإذا لم يكن اللفظ صريحًا في القذف، فلا حد على قائله كتابة، كان هذا اللفظ المستعمل أو تعريضًا، فقد جاء عن فقهاء الأحناف: "لو قال رجل لآخر: يا فاسق يا خبيث، أو يا فاجر أو يا ابن الفاجر، أو يا ابن القحبة، فلا حد عليه؛ لأنه ما نسبه، ولا أمه إلى صريح الزنا، فالفجور قد يكون بالزنا وغير الزنا، والقحبة من يكون منها ذلك الفعل، فلا يكون هذا قذفًا بصريح الزنا: فلو أوجبنا به الحد إنما يوجب بالقياس، ولا مدخل لقياس في الحد"، وقالوا أيضًا: "وإذا قال له: فجرت بفلانه وجامعتها، أو فعلت بها فسمي الفحش لم يكن عليه في ذلك حد؛ لأنه ما صرح بالقذف بالزنا، وفي الأسباب الموجبة للحد يعتبر عين النص، فما لم يقذفه بصريح الزنا لا يتقرر السبب2، وإذا عرض بالزنا، فقال: أما أنا فلست بزان، فلا حد عليه.. وإن قال له: أخبرت أنك زان فلا حد عليه؛ لأنه ما نسبه إلى الزنا، وإنما حكى خبر مخبر، والخبر قد يكون صدقًا وقد يكون كذبًا، فالمخبر يكون حكاية للقذف عن الغير لا قاذفًا3. وقال ابن حزم بعد أن عرض آراء القائلين بوجوب حد القذف بالتعريض، ورد عليها: "وصح أن لا حد في التعريض أصلًا"4.

_ 1 المغني ج8 ص222. 2 فمن لفق صورة لشخص توخى بوضع الزنا، يدخل أيضا ضمن من لم يقذفه بلفظ صريح، واعتبر ذلك من باب التعريض والكناية. 3 المبسوط، ج9 ص119، 120، فتح القدير ج5 ص317، البحر الرائق ج5 ص33. 4 المحلى ج13 ص275-279.

وذكر ابن قدامة أن الإمام أحمد، قد روي عنه أنه لا حد في التعريض بالقذف، ولا حد إلا على من صرح، فقال: "وكلام الخرقي يقتضي أن لا يجب الحد على القاذف، إلا بلفظ صريح لا يحتمل غير القذف، وهو أن يقول: يا زاني أو ينطق باللفظ الحقيقي في الجماع، فأما ما عداه من الألفاط، فيرجع فيه إلى تفسيره لما ذكرنا في هاتين المسألتين، فلو قال: يا مخنث أو لامرأة يا قحبة وفسره بما ليس بقذف مثل أن يريد بالمخنث أن فيه طباع التأنيث، والتشبه بالنساء، وبالقحبة أنها تستعد لذلك، فلا حد عليه، وكذلك إذا قال: يا فاجرة يا خبيثة. وحكى أبو الخطاب في هذا رواية أخرى، أنه قذف صريح، ويجب به الحد، والصحيح الأول قال أحمد في رواية حنبل: لا أرى الحد إلا على من جرح بالقذف والشتيمة، قال ابن المنذر: الحد على من نصب الحد نصبًا؛ ولأنه قول غير الزنا، فلم يكن صريحًا في القذف كقوله: يا فاسق، وإن فسر شيئًا من ذلك بالزنا، فلا شك في كونه مقذفًا"1. وذكر فقهاء الشافعية أنه لا حد في القذف بالكتابة، إلا إذا نوى القائل القذف، وإثبات ذلك يحتاج إلى مراجعة القائل لبيان قصده ونيته. أما التعريض، فقد جاء فيه رأيان عندهم، أحدهما أنه ليس بقذف؛ لأن الله علق الحد على الزنا، والثاني أنه يجب به الحد2، وذكر

_ 1 المغني ج8 ص221، 222. 2 لما روى الأشعث بن قيس أن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "لا أوتي برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته"، المهذب ج2 ص273، 275.

فقهاء الشيعة أن القذف هو الرمي بالزنا، أو اللواط، وما يؤدي معنى ذلك1. واستدل القائلون بعد إلزام حد القذف بالكناية، أو التعريض بأدلة كثيرة منها: 1- ما روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود -وهو حينئذ يعرض بأن ينفيه- وفي رواية وأنا أنكره، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: أحمر، قال: فهل فيها من أوراق؟ قال: نعم، فيها ذو ورق: قال: مما ذاك ترى؟ قال: لا أدري لعله أن يكون نزعة عرق، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: وهذا لعله أن يكون نزعه عرق"، ولم يرخص له في الانتفاء منه، ولم يلزمه بذلك حدا ولا غيره، رواه البخاري عن أبي هريرة2. 2- روي أن معاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم- قالا جميعًا: ليس الحد إلا في الكلمة ليس لها مصرف، وليس لها إلا وجه واحد. وعن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "إذا بلغ الحد -لعل عسى- فالحد معطل3. 3- روي أن رجلًا شاتم رجلًا، فقال: يا بن شامة الوذر -يعني ذكور الرجال، فقال له عثمان: أشهد عليه؟ فرفعه إلى عمر، فجعل الرجل يقع في عثمان، فينال منه، فقال عمر: أعرض عن ذكر

_ 1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص252. 2 المحلى ج13 ص273، المغني ج8 ص222 صحيح البخاري، ج7 ص68، 69 باب اللعان. 3 المحلى ج13 ص250، 251.

عثمان، فجعل الرجل لا ينزع، فعلاه عمر بالدرة وقال: أعرض عن ذكر عثمان، وسأل عن أم الرجل، فإذا هي قد تزوجت أزواجًا، فدرأ عنه الحد1. 4- فرق الله سبحانه وتعالى بين التعريض بالخطبه والتصريح بها، فأباح التعريض بها في العدة، وحرم التصريح -فكذلك في القذف. فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} 2، فإذا ثبت من الشرع نفي اتحاد حكمهما في غير الحد، لم يجز أن يعتبر التعريض كالتصريح، على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه3. وما ذهب إليه جمهور الفقهاء، هو ما أرجحه وأميل إليه لقوة ما استدلوا به، وموافقته لما أقره القرآن الكريم من التفريق بين حكم كل من التصريح، والتعريض، وما ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم، ومقالته لمن جاء ينفي ابنه، وعدم إلزامه عقوبة بذلك يدرأ كل ما استدل به فقهاء المالكية، ولجواز حمله على أن ذلك اجتهاد، من عمر -رضي الله تعالى عنه- بدليل استشارته أصحابه، وهو مع ذلك: لا يقوى على معارضه ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث صحيح، معغ أن القرائن الصارفة التعريض إلى حد التصريح قائمة، وواضحة في حديث ومقالته. كما أن الخلاف ها هنا قد اعتمد على أدلة قوية فإن لم ينف وجوب الحد فلا أقل من أن يورث شبهة تدرأ العقوبة المقدرة، وقد سبق الحديث عن شبهة الجهة، عند بيان ما يلحق الركن الشرعي من شبهات، وهي هنا بارزة واضحة وقوية.

_ 1 المرجع السابق ص269. 2 من الآية 235 من سورة البقرة. 3 فتح القدير ج5 ص317، المغني ج8 ص222- المحلى ج13 ص372.

ثانيا: الشهادة بالزنا إذا جرح الشهود أو أحدهم

ثانيًا: الشهادة بالزنا إذا جرح الشهود، أو أحدهم ذهب فقهاء الأحناف، والشافعية إلى أن الشهود باعتبار تحملهم الشهادة، وآدائها أنواع، فمنهم من هو أهل لتحمل الشهادة، وأدائها فيعتد بقوله وتقبل شهادته، وتثبت بها الجرائم، وقد سبق بيان هؤلاء عند الحديث عن شروط في الشاهد. ومن الشهود من له تحملها -ولكنه تحمل- لا يعتد به في إلزام المشهود عليه العقوبة الحدية؟ وذلك راجع لقصور في الشهود لتهمتهم، وما يتصل بهذا الموضوع هو شهادة الفساق على شخص بالزنا. والشهادة هذه إذ أداها أربعة منهم، لا يلزم المشهود عليه بالعقوبة الحدية لفسق الشهود، كما أن هؤلاء الشهود لا يلزمهم حد القذف بشهادتهم هذه التي لم يثبت بها الزنا الموجب الحد، وعدم إلزام حد الزنا بشهادتهم، لا يترتب عليه إلزامهم حد القذف؛ لأن الحد يحتاط فيه، فيسقط عن المشهود عليه لعدم الثبوت، وعن الشهود لثبوت شبهة الثبوت، وقد جاء عن فقهاء الأحناف عند حديثهم عن ذلك، أنه لو شهد أربعة على شخص بالزنا، وهم فساق أو ظهر أنهم فساق لم يحد المشهود عليه، ولم يحد الشهود؛ لأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل، وإن كان في أدائه نوع من القصور لتهمة الفسق، ولهذا لو قضى القاضي بشهادة -في غير الحدود- نفذ، ويثبت بشهادتهم شبهة الزنا، وباعتبار قصور في الأداء لتهمة الفسق، يثبت شبهة عدم الزنا، فلهذا امتنع الحدان1.

_ 1 الهداية مع فتح القدير ج5 ص289.

ويقول الشربيني الشافعي: "لو شهد أربعة بالزنا، وردت شهادتهم بفسق ولو مقطوعًا به كالزنا، وشر ب الخمر لم يحدوا، وفارق ما مر في نقص العدد بأن نقص العدد متيقن، وفسقهم إنما يعرف بالن والاجتهاد، والحد يدرأ بالشبهة"1. وذهب الإمام مالك -رضي الله تعالى عنه- إلى أن جريمة القذف تقوم في حق الشهود، الذين ترد شهادتهم لقيام حرج بهم؛ لأن شهادتهم لم تثبت بها جريمة الزنا الحدية، وعليه فهم قذفة يلزمهم حد القذف، فقد جاء في المدونة: "وقت أرأيت أن جرح واحد من الشهود، وقد شهدوا عليه بالزنا، وهم أربعة أيحد جميعهم حد الفرية في قول مالك"، قال: نعم في رأيي؛ لأن مالكًا قال: إذا كان أحدهم مسخوطًا جلد، وحد الثلاثة معه"2، وذكر ابن قدامة أن الشهود على الزنا إذا كملوا أربعة غير مرضيين، أو واحد منهم كالعبيد والفساق، والعميان ففيهم ثلاث روايات، إحداهن عليهم الحد، وهو قول مالك: قال القاضي هذا الصحيح؛ لأنها شهادة لم تكمل فوجب الحد على الشهود، كما لو كانوا ثلاثة. والثانية: لا حد عليهم، وهو قول الحسن والشعبي وأبي حنيفة ومحمد.... والثالثة أن كانوا عميانًا، أو بعضهم جلدوا، وإن كانوا عبيدًا أو فساقا، فلا حد عليهم، وهو قول النووي وإسحاق ... لجواز صدقهم3. وما ذهب إليه القائلون بعدم الحد عليهم، هو الراجح لتردد الأمر بين الصدق والكذب، ومثل ذلك يورث شبهة والحدود تدرأ بالشبهات.

_ 1 مغني المحتاج ج4 ص157. 2 المدونة ج16 ص59. 3 المغني ج8 ص203.

المبحث الثاني: شروط في المقذوف

المبحث الثاني: شروط في المقذوف أولا: البلوغ والعقل ... المبحث الثاني: شروط في المقذوف ذكر بعض الفقهاء شروطًا، لا بد من توافرها في المقذوف لإيجاب الحد على قاذفه، والذين ذكروا هذه الشروط منهم من توسع فيها، ومنهم من اقتصر على بعضها إلى حد أن من الفقهاء من حكم بحد القذف في وقائع، لم ير فيها الآخرون، وفيما يلي بيان لذلك، وما ينشأ عنه من شبهات. أولًا: البلوغ والعقل ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن غير البالغ العاقل، لا يلحقه عار بقذفه ونسبته إلى الزنا، وعلى هذا فلا يلزم قاذف الحد، فقد جاء عند فقهاء الأحناف: "والعامة يمنعون كون الصبي، والمجنون يلحقهما عار بنسبتهما إلى الزنا، بل ربما يضحك من القائل لصبي، أو مجنون يا زاني إما لعدم صحة قصده، وإما لعدم خطابهما بالحرمات، ولو فرض لحقوق عار لمراهق، فليس إلحقًا على الكمال فيندرئ، وهذا أولى من التعليل بعدم تحقق فعل الزنا منهما؛ لأنه مؤول بأن المراد بالزنا المؤثم، وإلا فهو يتحقق منهما، إذ يتحقق منهما الوطء في غير الملك "كن القذف إنما يوجب الحد إذا كان بزنا يؤثم صاحبه"1. كما ذكر فقهاء الشافعية: أن من قذف صغيرًا، أو مجنونًا لم يجب عليه الحد؛ لأن ما يرمى به الصغير والمجنون لو تحقق لم يجب به الحد، فلم يجد الحد على قاذفه، كما لو قذف بالغًا عاقلًا بما دون الوطء2، كما ذكر فقهاء الشيعة أن قاذف الصبية لا حد

_ 1 فتح القدير ج5 ص319، 320. 2 المهذب ج2 ص272.

عليه حتى تبلغ، وذكر بعضهم أن الرجل يقذف الجارية الصغيرة، فأجيب بأنه لا يجلد إلا أن تكون أدركت أو قاربت، والظاهر أن المراد بالإدراك هنا هو رؤية الحيض، وبالقرب من ذلك أكملها تسع سنين، فالنتيجة أن تكون بالغة"1. وذكر فقهاء الحنابلة أن في اشتراط بلوغ المقذوف، وكونه عاقلًا رأيين، أولهما أن ذلك شرط؛ لأن ذلك من شروط التكليف: ولأن زناها لا يوجب حدًا، فلا يجب الحد بالقذف به. والثاني: لا يشترط البلوغ والعقل، نظرًا لكونهما يعيران بهذا القول الممكن، فأشبها الكبير العاقل2. وذهب فقهاء المالكية إلى أن اشتراط البلوغ إنما هو في الذكر الفاعل، وأما المفعول فلا يشترط بلوغه ذكرًا كان أو أنثى، فمتى كان مطيقًا للزنا حد قاذفه3. وذهب ابن حزم إلى القول بوجوب الحد على قاذف الصغير، والمجنون؛ لأن الصغار محصونون بمنع الله تعالى لهم من الزنى، ويمنع أهليهم، وكذلك المجانين -وكذا المجبوب والرتقاء والقرناء، والعينين وإسقاط الحد عن قاذف هؤلاء خطأ محض لا إشكال فيه. وذكر ابن حزم أن القذف لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة، لا رابع لها إما أن يكون صادقًا، وقد صح صدقه، فلا خلاف في أنه لا حد عليه.

_ 1 مباني تكملة المنهاج ج1 ص255. 2 المغني ج8 ص216. 3 المدونة ج16 ص54-55، حاشية العدوي مع الخرشي ج7 ص86، حاشية الدسوقي ج4 ص325.

أو يكون ممكنًا صدقه وممكنًا كذبه، فهذا عليه الحد بلا خلاف، لإمكان كذبه فقط، ولو صح صدقه لما حد. أو يكون كاذبًا قد صح كذبه، فالآن حقًا طابت النفس على وجوب الحد عليه بيقين، إذ المشكوك في صدقه أو كذبه لا بد له من أحدهما ضرورة، "فلو كان صادقًا لما صح عليه حد أصلًا، فصح يقينا إذ قد سقط الحد عن الصاقد أنه باق على الكاذب"1، وما ذهب إليه ابن حزم هو ما أرجحه، سواء أكان المقذوف يجامع مثله أم لا؛ لأن حد القذف لا ينتهي بكذب القاذف، وإنما يلزم بكذبه كما أن أهل الصغير، أو المجنون يعيرون بذلك، ولا ينجو الصغير، أو المجنون من ملاحقة العار له طوال حياته إذا لم يحد القاذف، ويظهر كذبه، هذا ولا يعد الخلاف هنا من باب الخلاف الذي يورث شبهة يندرئ بها الحد؛ لأن دليل المانعين للحد دليل لا تقوم به حجة، والمعول عليه هو قوة المدرك لا مطلق الشبهة.

_ 1 المحلى ج13 ص262، 263.

ثانيا: اسلام المقذوف

ثانيًا: إسلام المقذوف ذهب جمهور الفقهاء إلى اشتراط إسلام المقذوف لإيجاب الحد على قاذفه، فإذا لم يكن المقذوف مسلمًا، فلا يلزم قاذفه الحد. فقد ذكر فقهاء الأحناف، أنه لا حد على قاذف الكافر؛ لأن الإسلام من شرائط الإحصان، واستدلوا لذلك بما روي من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من أشرك بالله، فليس بمحصن"، وقد فسر ابن مسعود قول الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ، بقوله: "أسلمن"، وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان1.

_ 1 يراجع المبسوط ج9 ص118، فتح القدير ج5 ص316-319.

وذكر فقهاء المالكية عند حديثهم عن القذف، وإخراجهم لمحترزات التعريف "قولهم: أو قطع نسب مسلم أخرج به ما إذا لم يقطع نسبًا، أو قطع نسب غير مسلم، فإنه لا يسمى قذفًا"1. وجاء على لسان الشيرازي من فقهاء الشافعية: أن قذف غير المحصن لا يجب به الحد، والمحصن الذي يجب الحد بقذفه من الرجال والنساء، من اجتمع فيه البلوغ، والعقل والإسلام، والحرية، والعفة، إلى أن يقول: وإن قذف كافرًا لم يجب عليه الحد2. ويقول ابن قدامة: ومن قذف من كان مشركًا، وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله، وحد القاذف إذا طلب المقذوف. وعلل ذلك بقوله: "إنما كان كذلك؛ لأنه قذفه في حال كونه مسلمًا محصنًا، وذلك بمقتضى وجوب الحد عليه لعموم الرواية، ووجود المعنى، ثم يقول: إن قال له: زنيت في شركك فلا حد عليه، وبه قال الزهري، وأبو ثور وأصحاب الرأي، وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى"، ثم يقول: ولنا أنه أضاف القذف إلى حال ناقصه، أشبه ما لو قذفه في حال الشرك"3، كما أورد فقهاء الشيعة من بين الشروط الواجب توافرها في المقذوف الإسلام، فمن قذف من ليس على الإسلام، فلا حد عليه بذلك؛ لأنه لو لم يكن كذلك، فإن القاذف يكون قد ذكب، ويلزمه غير الحد، لاعتبار الإسلام شرطًا في المقذوف4. هذا ما ذهب إليه الجمهور:

_ 1 يراجع الخرشي ج8 ص86، حاشية الدسوقي ج4 ص325. 2 واستدل لذلك بما روى ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أشرك بالله، فليس بمحصن" المهذب ج2 ص272. 3 المغني ج8 ص228، 229. 4 مباني تكملة ج1 256.

أما ابن حزم، فإنه يرى وجوب الحد على من قذف شخصًا آخر، حتى ولو كان المقذوف كافرًا؛ لأن الحد حكم الله تعالى على كل قاذف1، والذي أرجحه هو وجوب الحد على من قذف البالغ العاقل العفيف من أهل الكتاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصفهم بالإحصان في قوله: والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"2: ولأن الشارع قد كمل للذمي، والمستأمن في دار الإسلام حماية أنفسهم وإعراضهم وأموالهم، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا. فإن كان المقذوف مسلمًا، ثم ارتد فلا حد على من قذفه قبل ردته؛ لأن وقوع الرده منه تورث شبهة في إسلامه، وقت قذفه، وقيام هذه الشبهة يدرأ الحد عن الجاني. وذهب فقهاء المالكية إلى القول: بإسقاط الحد عن الجاني، حتى ولو تاب المقذوف، ورجع عن ردته إلى الإسلام ثانية3. وأورد فقهاء الشافعية في ذلك رأيين أحدهما: أن الردة من المقذوف تسقط الحد عن القاذف، نظرًا؛ لأنها تورث شبهة في إسلام المقذوف، وقت قذفه قبل إظهار ردته والثاني: أن ردة المقذوف لا تسقط الحد عن القاذف؛ لأن الردة تدين والعادة فيها الإظهار، وعليه فإن وقوعها لا ينتج شبهة قيامها إظهارها4. وما أرجحه من ذلك، هو ما ذهب إليه فقهاء المالكية من القول بأن الردة تسقط الحد عن القاذف حتى ولو تاب، وذلك؛ لأن جمهور الفقهاء يرى أن حد القذف سببه قيام المعرة بالمقذوف، ولا يخفى أن ردة المقذوف تلحق به من المعرة ما لا تبقي أثرا لغيرها، وعليه فلا معرة بما كان من قذفه.

_ 1 المحلى ج13 ص263-265. 2 يراجع تفسير القرطبي للآية 5 من سورة المائدة ج3 ص2076، ج5 ص4564. 3 حاشية الدسوقي ج4 ص325. 4 المهذب ج2 ص273.

ثالثا: عفة المقذوف

ثالثًا: عفة المقذوف العفة هي الكف عما لا يحل ولا يجمل، والعفيفة من النساء: السيدة الخيرة، وامرأة عفيفة، عفة الفرج، والرجل كذلك أيضًا1. وذكر فقهاء الأحناف أن الرجل العفيف هو من لم يطأ امرأة بالزنا، ولا بشبهة، ولا بنكاح فاسد في عمره؟ فإن كان فعل ذلك مرة سقطت عدالته، ولا حد على قاذفه2. وعفة المقذوف، يعتبرها جمهور الفقهاء شرطًا لإلزام القاذف الحد، فإن انثلمت عفة المقذوف درئ الحد عن القاذف؛ لأن انثلامها ينتج شبهة صدق القاذف، ولا يتحقق معها كذبه، والحد لا يلزم في مثل هذا. وقال فقهاء الأحناف: "وأما لاشترط العفة؛ فلأن غير العفيف لا يلحقه العار بنسبته إلى الزنا؛ لأن تحصيل الحاصل محال، ولو لحقه عار آخر فهو صدق، وحد القذف للفرية لا للصدق"3. فإذا كان المقذوف عفيفًا، ثم حكم على القاذف بالحد، وقبل أن يتم

_ 1 لسان العرب ج11 ص158، 159 مادة عف. 2 فتح القدير ج5 ص320. 3 المرجع السابق.

تنفيذ الحد وقع المقذوف في الزنا، فإن الحد والحالة هذه لا يلزم القاذف؛ لأن إحصان المقذوف قد انتقض، وبانتقاصه انثلمت عفته، وسلامتها شرط حتى يقام الحد ذكر ذلك السرخسي بقوله: "وإذا زنى المقذوف قبل أن يقام الحد إلى القاذف، أو وطئ حرامًا غير مملوك، فقد سقط الحد عن القاذف: لأن لحصان المقذوف شرط، فلا بد من وجوده عند إقامة الحد، وقد زال إحصانه بهذا الوطء، وكذلك إذا ارتد المقذوف، وإن أسلم بعد ذلك، فلا حد على القاذف؛ لأنه قد سقط الحد لزوال إحصانه بالردة، ولا حد على القاذف إذا صار المقذوف معتوهًا ناقص العقل، أو أصيب بالخرس وبقي كذلك؛ لأن إصابة المقذوف بذلك، وإن كانت لا تذهب إحصانه إلا أنها تقوم بها شبهة إمكان تصديق القاذف، لو كان المقذوف صحيحًا. وبهذا لو زالت العلة، وطاب المقذوف بالحد، فله ذلك1، وذكر فقهاء المالكية أن عفة المقذوف قبل القذف، وبعده شرط لإقامة الحد على قاذفه، فقد جاء عنهم: أن عفاف المقذوف الموجب لحد قاذفه واضح في أنه السلامة من فعل الزنا قبل القذف وبعده، ومن ثبوت حده لاستلزمه إياه"2. وجاء عن فقهاء الشافعية: "وإن قذف محصنًا، ثم زنى المقذوف أو وطئ وطأ زال به الإحصان سقط الحد عن القاذف، وقال المزني، وأبو ثور: لا يسقط؛ لأنه معنى طرأ بعد وجوب الحد، فلا يسقط ما وجب من الحدة كردة المقذوف، وثبوته الزاني وحريته، وهذا خطأ؛ لأن ما ظهر من الزنا يوقع شبهة في حال المقذوف، ولهذا روي أن رجلًا زنى بامرأة في زمان أمير المؤمنين عمر -رضي الله تعالى عنه، فقال: والله ما زنيت

_ 1 المبسوط ج9 ص127. 2 حاشية الدسوقي ج4 ص326، الخرشي ج8 ص87.

إلا هذه المرة، فقال عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة، والحد يسقط بالشبهة"1، أما ابن حزم، فإنه يرى وجوب حد القذف على القاذف، إذا كانت الواقعة التي قذف غيره بها، لم تثبت على المقذوف بصرف النظر عما كان قبلها، أو بعدها من وقائع، وإن ثبتت هذه الوقائع السابقة، أو اللاحقة على المقذوف وحد فيها، وقد بين هذا بقوله: "فإن قذف إنسان إنسانًا قد زنى بزنى غير الذي ثبت عليه، وبين ذلك وصرح، فعلى القاذف الحد -سواء حد المقذوف في الزني، الذي صح عليه أو لم يجد؛ لأنه محصن عن كل زنى لم يثبت عليه، وقد قلنا: إن الإحصان هو المنع، "فمن منع بشيء، أو امتنع منه، فهو محصن عنه، فإذا هو محصن، فعليه الحد بنص القرآن"2. ويرى الإمام أحمد، والثوري وأبو ثور، والمزني وداود، أن الحد إذا وجب بشروطه، فإنه لا يسقط بزوال شرط من هذه الشروط، أو بزوال كل هذه الشروط طالما أن الحد قد وجب؛ لأن هذه الشروط قد وضعها المشرع للوجوب، فمتي وجب الحد بوجوب شروطه، فلا ينقضه انتفاء بعض هذه الشروط، أو انتفائها كلها، وقد بين ذلك ابن قدامة بقوله: "ولنا أن الحد قد وجب، وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب، كما لو زنى بأمه ثم اشتراها، أو سرق عينا فنقصت قيمتها، أو مكها، وكما لو جن المقذوف بعد المطالبة، ورد ابن قدامة على من اشترطوا استدامة الشروط حتى يتم تنفيذ الحد بقوله: "وقولهم: أن الشروط تعتبر استدامتها لا يصح، فإن الشروط للوجوب، فيعتبر وجوبها إلى حين الوجوب، وقد وجب الحد بدليل أنه ملك المطالبة، ويبطل بالأصول التي قسنا عليها، وأما إذا جن من وجب له الحد، فلا يسقط الحد، وإنما يتأخر

_ 1 المهذب ج2 ص273. 2 المحلى ج13 ص177.

استيفاؤه لتعذر المطالبة، فأشبه ما لو غاب من له الحد، وفارق الشهادة، فإن العدالة شرط للحكم بها، فيعتبر وجودها إلى حين الحكم بها، بخلاف مسألتنا، فإن العفة شرط للوجوب، فلا تعتبر إلا إلى حين الوجوب"1. وما رآه الإمام أحمد، ومن وافقه هو ما أرجحه؛ لأن من وجب الحد بقذفه قد تتغير ظروفه وأحواله، وليس معنى هذا إهدار ما ثبت له من حق بقذف الجاني له؛ لأن القول بإسقاط الحد بعد وجوبه قد ينتج فتح باب التحايل، ومحاولة الإيقاع بمن وجب الحد بقذفه، بغية الخلاص من الحد، ولا يخفى أن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ومصلحة القاذف، ونجاته من الحد في الفساد المقذوف، ونفي إحصانه، وقد يكون الجاني ذا جاه، أو سلطان، فإن رأى نجاته في إفساد مقذوفه، فلن يتورع عن الإيقاع به، وعليه فإن هذا الرأي يدرأ فتح التحايل والإفساد، ويبطل ما قد ينصب من شراك لصيد الآمنين، وما ذهب إليه ابن حزم بحاجة إلى إعادة نظر؛ لأن من لزمه حد الزنا، فإن عفته قد انثلمت بذلك وبطل إحصانه، وليس لكل واقعة إحصان مستقل؛ لأن الإحصان والعفة أمر معنوي إذا انكسرا، فإن إعادة إصلاحهما أمر مشكوك فيه، وبخاصة بالنسبة لما نحن بصدده، وليس معنى هذا إباحة قذفه، وإنما يلزم القاذف التعزير، ويدرأ عنه الحد لشبهة ترجيح احتمال وقوع الفعل منه؛ لأن ما وقع سابقًا أو لاحقًا قبل وجوب الحد يقوي احتمال صدق مقولة القاذف، وينتج شبهة تدرأ حد القذف عمن لم يستطع إثبات مقولته.

_ 1 المغني ج8 ص227.

الفصل الخامس: جريمة الردة وما يتعلق بها من شبهات

الفصل الخامس: جريمة الردة وما يتعلق بها من شبهات مدخل ... الفصل الخامس: جريمة الردة وما يتعلق بها من شبهات تقديم: الردة في اللغة: الرجوع عن الشيء إلى غيره، وهو اسم مشتق من الارتداد، وهو مطلق الرجوع، يقال: ارتد على أثره ارتدادًا رجع وكذا عن طريقه ودينه1. وعند الفقهاء: الرجوع عن الإسلام، أو قطع استمراره ودوامه، سواء كانت بقول كفر أو فعله2. وعرف ابن حزم المرتد بأنه كل من صح عنه أنه كان مسلمًا متبرئا من كل دين -حاشا دين الإسلام، ثم ثبت عنه أنه ارتد عن الإسلام، وخرج إلى دين كتابي، أو غير كتابي أو إلى غير دين3. وتقع الردة بواحد من الأمور الآتية: 1- نية الكفر أو اعتقاده، والعقاب على هذا يختص الله به، طالما لم تترجم هذه النية، أو هذا الاعتقاد في فعل ما من الأفعال، أو قول ما من الأقوال4.

_ 1 مختار الصحاح، لسان العرب. 2 يراجع الصنائع ج7 ص134، الخرشي ج8 ص62، مغني المحتاج ج4 ص133، 134، المغني ج8 ص123، مباني تكملة المنهاج ج1 ص324. 3 المحلى ج8 ص123، وتراجع العقوبة للشيخ أبي زهرة ص188. 4 يقول ابن قدامة: ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة، فيه للنصوص الواردة كلحم الخنزير والزنا، وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر المغني ج8 ص131.

2- إتيان فعل ما من الأفعال التي يقع بها الكفر كالسجود لغير الله، أو إلقاء كتاب الله، أو أحد كتب الحديث في القاذورات استهانة بها. 3- ترك إتيان ما أوجبه الشرع، تركًا ناتجا من حجد وجوبه، كترك أداء الصلاة، والزكاة وما مثل مما أوجبه الشرع"1. 4- إنكار ما علم من الدين بالضرورة عن طريق قول ما من الأقوال، أو ادعاء ما ينقص أما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كادعاء النبوة مثلًا، أو سب الله سبحانه وتعالى، أو رسوله -صلى الله عليه وسلم2. وسأقتصر في حديثي هنا على الشبهات، التي تعتري الركن الشرعي لهذه الجريمة، وما اختلف الفقهاء في وقوع الردة بإتيانه، وهو السحر.

_ 1 يقول ابن قدامة: ومن ترك الصلاة دعي إليها ثلاثة أيام، فإن صلى وإلا قتل ... جاحدًا تركها أو غير جاحد.. ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحدًا لوجوبها، إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك.... وكذلك الحكم في مباني الإسلام كلها، وهي الزكاة والصيام والحج، المغني ج8 ص131. 2 يقول ابن قدامة: ومن ادعى النبوة، أو صدق من ادعاها، فقد ارتد ومن سب الله تعالى كفر، سواء كان مازحا أو جادا، وكذلك من استهزأ بالله تعالى أآو بآياته، أو برسله أو كتبه، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، سورة التوبة الآيتين 65، 66 يراجع المغني ج8 ص150، بدائع الصنائع ج7 ص134، وما بعدها حاشية ابن عابدين ج3 ص391، 392، شرح الزرقاني ج8 ص62-65، أسنى المطالب ج4 ص116-118، شرح الأزهار ج4 ص575-577.

وقد ورد في حكم الردة قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "من بدل دينه، فاقتلوه" 2، وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد3.

_ 1 من الآية 217 من سورة البقرة، ويراجع تفسير القرطبي ج1 ص855. 2 روي عن ابن عباس، أنه لما بلغه ما كان من شأن علي، مع من خرج عن الإسلام أنه قال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي الرسول عن ذلك، وذكر الحديث يراجع نيل الأوطار ج7 ص216. 3 روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان، وعلي ومعاذ بن جبل، وأبي موسى وابن عباس، وخالد وغيرهم، ولم ينكر ذلك، فكان إجماعًا المغني ج7 ص123.

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي

المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن الكافر إذا قال ... المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي وصح مما ذكر في تعريف الردة، والمرتد عند فقهاء الشريعة أنه لا يتحقق قيام هذه الجريمة، إلا ممن كان مسلمًا، نظرًا؛ لأن الردة قد عرفت بأنها قطع الإسلام والرجوع عنه، وذلك يقتضي بالضرورة أنها لا تقع إلا من مسلم، لهذا فإن الحديث عن الشبهات التي تلحق الركن الشرعي لهذه الجريمة، يتناول ما ذكره الفقهاء من آراء بالنسبة للقول بصحة إسلام بعض الأشخاص، توطئه لبيان حكم ما وقع منهم من أفعال، أو أقوال نقطع استمرار الإسلام، ودوامه من عدمه. كما يتناول ما ورد من اختلاف الفقهاء حول بعض الأفعال، من حيث اعتبار هذه الأفعال، تخرج من قام بها عن الإسلام، ويعد بها مرتدًا أم لا. 1- ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن الكافر إذا قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله صار بذلك مسلمًا، فإن رجع عن الإسلام اعتبر مرتدًا، ولزمته العقوبة الحدية، واستدل الجمهور لصحة الإسلام الكافر بالنطق بالشهادتين بأدلة كثيرة منها. أ- ما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" 1. ب- روى أنس "أن يهوديًا قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك رسول الله، ثم مات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صلوا على صاحبكم" 2.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص223. 2 المرجع السابق ص222.

وأكثر من ذلك اعتبر الكتابة مع النية كصريح لفظ إسلام، فقد روى ابن عمر قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا فجعلوه يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا أصبح أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيرى، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين"، رواه أحمد والبخاري، وهو دليل على أن الكناية مع النية، كصريح لفظ الإسلام"1. قال الشوكاني عند شرحه لهذا الحديث: "قوله: صبأنا صبأنا"، أي دخلنا في دين الصابئة، وكان أهل الجاهلية يسمون من أسلم صابئا، وكأنهم قالوا: أسلمنا أسلمنا، والصابئ في الأصل الخارج من دين إلى دين ... وقد استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير الكافر مسلمًا بالتكلم بالشهادتين، ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح2. وذهب فقهاء المالكية إلى القول بأنها لا يكفي للحكم بإسلام الكافر أن ينطق بالشهادتين، وإنما لا بد للحكم بذلك من أن يقف من نقط بالشهادتين على دعائم الإسلام، ويلتزم الأحكام التي جاء الإسلام بها، وعلى هذا من نطق بالشهادتين، ولم يلتزم بالأحكام الإسلامية، لا يعد مسلمصا فإذا رجع إلى ما كان عليه من كفر، لا يكون مرتدًا حيئنذ، ولا يلزم بعقوبة الردة، وإنما عليه الأدب فقط نظير تلاعبه.

_ 1 نيل الأوطار ج7 ص222. 2 المرجع السابق ص223، ويراجع البحر الرائق ج5 ص139 المغني ج8 ص142، مباني تكملة المنهاج ج1 ص233.

يقول الخرشي مبينًا ذلك: "ولا ينقر الإسلام إلا بالنطق بالشهادتين، والتزام أحكامهما، واحترز به عما لو نطق بالشهادتين، ثم رجع قبل أن يقف على الدعائم -فلا يكون مرتدًا ويؤب فقط"1. وإلى هذا مال الشيخ أبو زهرة، وذكر مثالًا لذلك ما يجري الآن في مصر، وغيرها من الأقطار من أن يشهد الرجل، أو المرأة على إسلامه لغرض من أغراض الدنيا لا يستطيع قضاءه، وهو على ما كان عليه أولًا كأن يطلق امرأته، أو تطلق هي من زوجها لتتزوج من آخر، فإذا ما نال كل غرضه عاد إلى ما كان عليه قبل أن يعلن إسلامه، وفي حقيقة أمره لم يفارق ما كنا عليه أولًا. ثم يقول الشيخ أبو زهرة: ولا نقول في هذه الحالة أنه يعفى من عقاب الردة إذا تقرر لها عقاب، أو أي عقاب آخر، بل نقول: إنه إذا أعفي من عقوبة الردة لا يسلم من عقوبة أخرى، ربما تكون أشد وأنكى، وهي عقوبة التزوير في ورقة رسمية، ينص على ذلك في قانون العقوبات. ثم يعقب على ذلك بقوله: إننا بهذا ننسق الأحكام تنسيقًا سليمًا، فلا يدخل في الإسلام إلا من ذاق بشاشته، وعلم أحكامه ولا تتخذ الأديان هزوًا ولعبًا ... 2. وما ذكره فضيلة الشيخ أبو زهيرة يحتاج إلى وقفة، إذ هو قد رأى أن من فعل ذلك لا يسلم من عقوبة، فإن لم تكن عقوبة الردة عوقب بأشد، وأنكى منها وهي عقوبة التزوير، والأمر هنا معكوس؛ لأن عقوبة التزوير عقوبة تعزيرية هينة، إذا قيست بعقوبة الردة التي حددها الشارع للمرتدين. وما ذهب إليه فقهاء المالكية من القول بأن عدم التزام من أسلم

_ 1 الخرشي ج8 ص62، حاشية الدسوقي ج4 ص301. 2 العقوبة للشيخ أبي زهرة ص201-203.

أحكام الإسلام شبهة تشوب إسلامه، فلا يلزم بالعقوبة الحدية إذا رجع إلى ما كان عليه، وإنما عليه الأدب فقط، فهو كلام قد حمل في طيه قضيتين، أولاهما عدم الحكم بصحة إسلامه، والثانية درء العقوبة الحدية عنه. أما بالنسبة للقضية الأولى، وهي أن إسلامه هذا غير صحيح، فهي مردودة بما استدل به جمهور الفقهاء من الأحاديث الصحيحة، وإن كانت الشبهة قد شابت إسلامه لعدم صدقه في نيته، إلا أنها شبهة لا يترتب عليها إسقاط العقوبة الحدية عن هذا المتلاعب، وإنما هي شبهة يلزم عنها إلزامه بالعقوبة الحدية وزيادة. العقوبة الحدية نظير ردته، والزيادة عليها نظير تلاعبه، وتزويره بغية كسب ونفع. وهذه هي الشبهة الوحيدة، التي أرى أن تخرج عن قاعدة درء الحد بها، إلى قاعدة أخرى هي إلزام الحد بها وزيادة، إلزاما لا يقبل الإسقاط أو التبديل؛ لأن هذا المتلاعب لم يجبر على الإسلام، وإنما جاء طائعًا، وما دام ينوي التلاعب والتحايل، فإنه يكون قد زاد على جناية الردة جناية أخرى، وهي الاستهزاء بالدين، واتخاذه ستارًا يحقق من وراء تلاعبه به أطماعه، وما يبغي ويشتهي ويتخلص من حقوق لزمته، ووجبت عليه، فهو بذلك قد ارتكب جناية تزوير، ثم بعد ذلك يمرق من الدين، وهو يتغامز عليه، وعلى من حققوا له مأربه آملين فيه النفع والهداية، أن من اتخذ من دين الله هزوا، ولعبًا لا يجوز أن يعتبر ذلك الهزو، واللعب مبررًا لإسقاط العقوبة الحدية عنهم، وإنما هؤلاء نشدد عليهم العقوبة بقدر استهزائهم، هؤلاء الذين تاجروا مع الشيطان، فيجب ألا تربح تجارتم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا

الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} 1. ولقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بإنزال عقوبة الحرابة بهؤلاء، الذين جاءوا معلنين إسلامهم، ثم ارتدوا بعد قليل، وقتلوا راعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن هؤلاء قد أعلنوا إسلامهم لما كان ما نزل بهم من عقاب بالصورة، التي سبق الحديث عنها عند بيان عقوبة الردة؛ لأنه لم يعرف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه نكل بأحد مثل ما فعل بهؤلاء2.

_ 1 الآيات 14-16 من سورة البقرة. 2 يراجع نيل الأوطار ج7 ص171-177.

إسلام السكران

2- إسلام السكران: ذهب جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية والحنابلة، والشيعة إلى القول بأن الراجح صحة إسلام السكران، سواء أكان كافرًا أصليًا، أو مرتدًا، ويعني ذلك عندهم أنه إذا ضحت ردة السكران، وهي محض مضرة، وقول باطل، فلأن يصح إسلامه الذي هو قول حق محض، ومصلحة خالصة أولى: وعلى هذا لو رجع عن إسلامه، وقال: لم أرد ما قلت لم يلتفت إلى مقالته، وجبر على الإسلام، ولا يقبل منه غيره، فإن أسلم وسلك طريقة الإسلام وتعاليمه، والتزم بأوامره كان له ما للمسلمين، وإلا قتل لاعتباره مرتدًا، وراجعًا عن الإسلام بعد أن دخل فيه1. وذكر الشربيني الخطيب أن من نطق بكلمة الإسلام، وهو سكران إذا أفاق عرضنا عليه الإسلام، فإن وصفه كان مسلمًا من حين وصف الإسلام، وإن وصف الكفر كان كافرًا من الآن؛ لأن إسلامه صح، فإن لم يتب قتل2.

_ 1 المغني ج8 ص148. 2 مغني المحتاج ج4 ص137، 138، ويراجع نهاية المحتاج ج7 ص397، المغني ج8 ص148، مواهب الجليل ج4 ص34، شرح الأزهار ج4 ص575.

والقول المرجوح عند الجمهور أن إسلامه، وردته لا تصح كالطفل والمعتوه؛ لأنه لا يعي ما يقول نظرًا؛ لأن الخمر قد أذهبت عقله. هذا ما ذهب إليه ابن حزم1، وحسنه الإمام أبو حنيفة، وإن كان القياس عنده أن السكران كالصاحي في اعتبار أقواله وأفعاله، فقد ذكر السرخسي: أن السكران إذا ارتد تبين منه امرأته في القياس؛ لأن السكران كالصاحي في اعتبار أقواله وأفعاله، حتى لو طلق امرأته بانت منه، ولو بلغ أو أقر بشيء كان صحيحًا منه، ولكنه استحسن، وقال: لا تبين منه امرأته؛ لأن الردة تنبني على الاعتقاد، ونحن نعلم أن السكران غير معتقذ لما يقول؛ ولأنه لا ينجو السكران من التكلم بكلمة الكفر في حاله سكره عادة، والأصل فيها ما روي أن واحدًا من كبار الصحابة -رضي الله عنهم، سكر حين كان الشرب حلالًا، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هل أنتم إلا عبيدي، وعبيد آبائي ولم يجعل ذلك منه كفرًا. وقرأ سكران سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في صلاة المغرب، فترك اللا آت فيه، فنزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ، فهو دليل على أنه لا يحكم بدونه في حال سكره، كما لا يحكم به في حال جنونه"2. وقد ذهب فقهاء الشافعية إلى التفريق بين حكم المتعدي بسكره، وغير المتعدي، فحكموا بردة المتعدي دون غيره لقيام الشبهة في حق غير المتعدي3. وما أرجحه من ذلك، هو ما ذهب إليه فقهاء الأحناف من القول باستحسان عدم الاعتداد، بما يصدر من السكران حين سكره، سواء أكان إسلامًا، أم ردة؛ لأن السكران لا يعي ما يقول، وعقله وإن لم يذهب تمامًا كالمجنون، إلا أنه غير مكتمل تمامًا حتى يلزم بقوله أو فعله،

_ 1 المحلى ج7 ص322 وما بعدها، ج10 ص108، 110. 2 المبسوط ج10 ص123. 3 مغني المحتاج ج4 ص137.

فالسكران لا تخلو حاله عن شبهة، لا يلزم معها حد عليه، ولا يعفيه ذلك من إلزامه عقوبة تعزيرية رادعة، حتى وإن كان الشرب غير حرام في اعتقاده، فوق ما يلزم به من عقوبة سكره الحدية نظرًا؛ لأنه قد أتى ما يعد تلاعبا يمس العقيدة التي يجب أن تبقى بعيدة عن العبث. ولقد نظر فقهاء الشريعة عند الحديث عن عقوبة شرب الخمر، إلى أن الشارب إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فإلزامه حد الشرب لذلك أما أن يلزم بعقوبة ردة فوق ذلك في حالته هذه، أن نطق بكلمة الإسلام، وقد كان كافرا وبعد إفاقته بقي على كفره، أو إن نطق بكلمة الردة، وقد كان مسلمًا. فهذا بعيد؛ ولأن المسلم يستتاب بعد إفاقته لا خلال سكره، فإن تاب كان بها، وإلا فهذه جريمة أخرى.

إسلام المكره

3- إسلام المكره: من يكره على الإسلام لا يخلو الحال بالنسبة له من أن يكون ذميًا، أو مستأمنًا أو أن يكون حربيًا أو مرتدًا، فإن كان ذميًا أو مستأمنا، فإن جمهور الفقهاء يرى القول بعدم جواز إكراههما على الإسلام، فإن أكرها عليه، فإنه لا يثبت لهما حكم الإسلام، إلا إذا زال الإكراه عنهما، وبقيا على الإسلام طوعًا، فإن زال الإكراه عنهما ورجعا إلى ما كان عليه، فلا يعد هذا الرجوع منهما ردة. وذهب محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة إلى القول أن الذمي، أو المستأمن إذا أكرها على الإسلام، فأسلما ولو في الظاهر عدا مسلمين، فإن رجعا عن الإسلام اعتبرا مرتدين، ولزم استتابتهما، فإن عادا إلى الإسلام كان بها، وإلا قتلا، وعلل ذلك بما ذكر من أن الحكم ينبني على ما نسع، ولا أثر لعذر الإكراه، ولنا ما علمناه من علانية ما سمعنا؛ لأنا لا نعلم من سره ما نعلم من علانيته1.

_ 1 المبسوط ج10 ص123، 124.

ذكر -ما ذهب إليه الجمهور- ابن قدامة بقوله: وإذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن، فأسلم لم يثبت له حكم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل عليه طوعًا، مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الإكراه، فإن مات قبل ذلك، فحكمه حكم الكفار، وإن رجع إلى دين الكفر لم يجز قتله، ولا إكراهه على الإسلام1، أما إن كان المكره على الإسلام حربيًا، أو مرتدًا وأعلن الحربي إسلامه، وعاد المرتد إلى الإسلام، ولو تحت وطأة الإكراه ثبت لهما حكم الإسلام، فإن ارتد أحدهما بعد زوال الإكراه استتيب، فإن عاد عن ردته وإلا قتل، ومبنى ذلك أن إكراه الحربي، والمرتد على الإسلام إكراه بحق ولذا يحكم، وصحته وصحة ما يأتي به ظاهرًا، وأما الباطن ففيهما بينهم، وبين الله سبحانه وتعالى2. وما ذهب إليه محمد بن الحسن مردود؛ لأن إكراه الذمي، والمستأمن إكراه غير جائز؛ ولأن ما بيننا وبينهم من عقود يمنع أن نكرههم على الإسلام؛ لأنه: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .

_ 1 المرجع السابق، شرح الزرقاني، ج8 ص68، نهاية المحتاج ج7 ص397، مغني المحتاج ج4 ص137، المغني ج8 ص144، 145، المحلى ج8 ص329، شرح الأزهار ج4 ص577. 2 المراجع السابقة.

تبعًا لوالديه، فإن الإمام الشافعي يحكم بإسلامه، ولا يشترط البلوغ للحكم بذلك، فقد ذكر الشيرازي، أن الرجل إذا أسلم وله ولد صغير تبعه الولد في الإسلام لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، وكذا إذا استلمت المرأة تبعها ولدها. ولا يشترط سن معين بالنسبة للولد حينئذ، بل يحكم بإسلامه حتى ولو كان لا يزال حملًا. وذكر الشيرازي أيضًا قول الشافعي بالنسبة لمن أسلم من أولاد الكافرين، فقال: وإن وصف الإسلام صبي عاقل من أولاد الكفار، لم يصح إسلامه على ظاهر المذهب، لما روي عن علي كرم الله وجهه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون، والمغلوب على عقله حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم"؛ ولأنه غير مكلف، فلا يصح إسلامه بنفسه كالمجنون، فعلى هذا يحال بينه، وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ؛ لأنه إذا ترك معهم خدعوه، وزهدوه في الإسلام، فإن بلغ ووصف الإسلام حكم بإسلامه، وإن وصف الكفر هدد وضرب وطولب بالإسلام، وإن أقام على الكفر رد إلى أهله من الكفار، ثم ذكر الشيرازي أن من أصحابه من قال يصح إسلام الصبي؛ لأنه يصح صومه وصلاته، فصح إسلامه كبالغ1. وذكر السرخسي أن الغلام العاقل الذي لم يحتلم إذا أسلم، فإسلامه صحيح عندنا استحسانًا، وفي القياس لا يصح إسلامه في أحكام الدنيا، وهو قول زفر والشافعي رحمهما الله..؛ لأن الصبي غير مخاطب بالإسلام ما لم يبلغ، فلا يحكم بصحة إسلامه كالذي لا يعقل إذا لقن فتكلم به.. والدليل على ذلك، أنه لو لم يصف الإسلام بعد ما عقل لا تقع الفرقه بينه وبين امرأته، ولو صار عقله معتبرًا في

_ 1 المهذب ج2 ص239، أسنى المطالب ج4 ص120، 123، 194، نهاية المحتاج ج7 ص397، مغني المحتاج ج4 ص137.

الدين لوقعت الفرقة إذا لم يحسن أن يصف، كما بعد البلوغ"، ثم بين السرخسي حكم من أسلم صغيرًا، ثم عند البلوغ بقوله: "الذي أسلم تبعًا لأبوديه إذا بلغ مرتدًا في القياس يقتل لارتداده بعد إسلامه، وفي الاستحسان لا يقتل، ولكن يجبر على الإسلام؛ لأنه ما كان مسلمًا مقصودًا بنفسه، وإنما يثبت له حكم الإسلام تبعًا لغيره، فيصير ذلك شبهة في إسقاط القتل عنه، وإن بلغ مرتدًا. وإذا أسلم في صغره، ثم بلغ مرتدًا، فهو على هذا القياس، والاستحسان لقيام الشبهة، بسبب اختلاف العلماء في صحة إسلامه في الصغر1، وذهب فقهاء الحنابلة إلى القول بصحة إسلام الصبي العاقل؛ لعموم قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة"، وغير ذلك من الأخبار التي يدخل في عمومها الصبي؛ ولأن الإسلام عبادة محضه، فصحت من الصبي العاقل كالصلاة والحج، وعلى هذا فإن رجع، وقال: لم أرد ما قلت لم يلتفت إلى قوله، واعتبر مرتدًا إذا لم يعد إلى الإسلام. وقد جاءت رواية عن الإمام أحمد، نفيد أن الصبي إذا رجع عن الإسلام لا يجبر على العودة إليه؛ لأن الصبي في مظنه النقص، وفي رواية ثالثة أنه يصح إسلامه، ولا تصح ردته فيقبل منه ما يكتب له، ولا يقبل منه ما يكتب عليه2، والذي أرجحه من ذلك أن الصبي الذي حكم بإسلامه لأبويه أولًا، حدهما إذا ارتد أجبر على الإسلام، فإن لم يعد انتظر إلى البلوغ، فإن تاب ورجع الحق قبل منه، وإلا ألزم حد الردة، أما من أسلم من أولاد الكفار قبل البلوغ، وارتد فإنه لا يلزم حد الردة؛ لأن الصبي مظنة النقص، وذلك يورث شبهة في إسلامه، والحدود تدرأ بالشبهات.

_ 1 المبسوط ج10 ص120-123، بدائع الصنائع ج7 ص131-135. 2 المغني ج8 ص133-136، نيل الأوطار ج7 ص221-233، المحلى ج10 ص218، 344، شرح الأزهار ج4 ص575، مباني المنهاج ج1 ص329، الخرشي ج8 ص69.

السحر تعليمه وتعلمه

5- السحر تعليمه وتعلمه: من الأمور التي اختلف الفقهاء في وقوع الردة بها تعلم السحر وتعليمه1، هذا التعلم والتعليم، اللذان اتفق جمهور الفقهاء على تحريمها، وإن اعتقاد إباحتهما كفر. وجاءت رواية عن الإمام أحمد في الساحر، الذي يعلم السحر تفيد عدم الحكم بكفره، وإنما هو في حكم المرتد تجب استثابته، بقول ابن قدامة بعد أن عرض للسحر: إذا ثبت هذا فإن تعلم السحر، وتعليمه حرام لا نعلم فيها خلافًا بين أهل العلم، قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلمه، وفعله سواء اعتقد تحريمه، أو إباحته، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر، فإن حنبلا روى عنه قال: قال عمر في العراف والكاهن والساحر: أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل كلها، فإنه عندي في معنى المرتد، فإن تاب ورجع يخلى سبيله، قلت له: يقتل؟ قال: لا، يحبس لعله يرجع، قلت: لم لا يقتل؟ قال: إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع، وهذا يدل على أنه لم يكفره؛ لأنه لو كفره لقتله، وقوله في معنى المرتد يعني في الاستتابة"2، وذهب فقهاء الشافعية إلى أن تعلم

_ 1 السحر قبل أصله التمويه بالحيل والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء، ومعاني فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به، كالذي يرى السراب من بعيد، وكراكب السفنية السائرة سيرًا حقيقيا، يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار، والجبال سائرة معه، تفسير القرطبي ج1 ص434، والمغني ج8 ص150. 2 المرجع السابق ص151، 152، نيل الأوطار ج7 ص200.

السحر حرام، ولا يكفر بتعليمه إلا من اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه، ومن اعتقد ذلك يقتل، كما هو شأن المرتد. أما من علمه، أو تعلمه مع اعتقاده تحريمه، فإنه لا يكفر بذلك؛ لأن من يتعلم الكفر لا يكفر بتعلمه، فمن باب أولى لا يكفر بتعليم السحر. يقول الشيرازي بعد أن ذكر أدلة تحريمه: ذم الله الشياطين على تعليمه؛ ولأن تعلمه يدعو إلى فعله، وفعله حرام، فحرم ما يدعو إليه، فإن علم أو تعلم واعتقد تحريمه لم يكفر؛ لأنه إذا لم يكفر بتعلم الكفر، فلأن لا يكفر بتعلم السحر أولى، وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه فقد كفر؛ لأنه كذب الله تعالى في خبره، ويقتل كما يقتل المرتد"1. ولا يعد الإمام الشافعي الساحر كافرًا، إلا إذا وقع منه ما يكفر به من قول، أو فعل كان يشرك بالله تعالى، ويسجد لصنم مثلًا، أو شمس أو قمر، أو يستحل ما حرم الله سبحانه وتعالى، فإن لم يقع من الساحر شيء مما اتفق على الكفر به، فلا يعد كافرًا، وإنما هو مسلم عاص2. وهذا ما ذهب إليه ابن حزم أيضًا، إذ يقول: إن كان الكلام الذي يسحر به كفرًا فالساحر مرتد، وإن كان ليس بكفر فلا يقتل؛ لأنه ليس كافرًا. ويقول: وصح أن السحر ليس كفرًا، وإذا لم يكن كفرًا، فلا يحل قتل فاعله؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، ونفس بنفس" 3. ويرى فقهاء الأحناف أن الساحر إذا اعتقد أن الشياطين تفعل له

_ 1 المهذب ج2 ص224. 2 أسنى المطالب ج4 ص117. 3 المحلى ج13 ص468، 480.

ما يشاء فهو كافر قتل حدا لا ردة ولا تجب استتابته؛ لأن للحدود لا استتابة فيها، إلا حيث يوجد نص، بذلك كما أنهم يرون قتل المرأة الساحرة، مع أنهم لا يرون قتل المرأة المرتدة1. وذهب الإمام مالك إلى أن الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب، ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله2. أما فقهاء الشيعة، فإنهم يرون أن الساحر مرتد، وإن حده القتل بعد الاستتابة إن لم يتب3، واستدل القائلون بقتل الساحر، بما روي من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربة السيف"، رواه الترمذي والدارقطني، وضعف الترمذي إسناده. وبما روي أن جارية للسيدة حفصة، أم المؤمنين سحرتها، واعترفت -الجارية بذلك فقتلتها حفصة- أمرت بها فقتلت، فأنكر ذلك عليها عثمان -رضي الله تعالى عنه، فقال له ابن عمر: ما تنكر على أم المؤمنين امرأة سحرت، واعترفت؟ فسكت عثمان. واستدلوا أيضًا بما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 5، "فيعلمون" بدل من "كفرا"، فتعليم السحر كفر.

_ 1 فتح القدير ج4 ص408، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين، وبهامشه تنوير الأبصار، ج3 ص399، مطبعة عثمان سنة 1324هـ. 2 حاشية الدسوقي ج4 ص306، الخرشي ج8 ص68، نيل الأوطار ج7 ص200. 3 شرح الأزهار ج4 ص379. 4 نيل الأوطار ج7 ص199. 5 من الآية 102 من سورة البقرة.

وما ذهب إليه القائلون بأن الساحر يستتاب قبل قتله، هو ما أميل إليه، وتؤيده الروايات الصحيحة. أما ما ورد من حديث: "حد الساحر ضربة السيف"، "فحديث ضعيف، قال عنه ابن حزم حديث في غاية السقوط؛ لأنه لا يدري رواية ممن سمعه". وأما ما روي من حديث السيدة حفصة، فهو يعارض ما جاء عن السيدة عائشة -رضي الله عنها، من أنها أعتقت جارية لها عن دبر، وأنها سحرتها واعترفت بذلك، وقالت: أحببت العتق، فأمرت بها عائشة -رضي الله تعالى عنها- ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب من يسيء ملكيتها، وقالت: ابتع بثمنها رقبة فاعتقها1. كما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل لبيد بن الأعصم، وكان قد سحر النبي -صلى الله عليه وسلم2. كما أن الشرك أعظم من السحر، ولا يقتل من أشرك بعد إيمانه، إلا بعد أن يستتاب. أما الآية الكريمة، فيرد بها بيان ما كان في شريعة سليمان، وهي لا تلزمنا أو أن كلمة "كفروا" بها القصة، ثم ابتدئ بكلمة "يعلمون"، قصة أخرى، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، ولحقته الشبهة والحدود لا تلزم بدليل تلحقه شبهة، كما أن الخلاف يورث شبهة أيضًا تسقط الحد عن الساحر، الذي لم يقع منه ما يكفر به.

_ 1 المحلى ج13 ص471-475. 2 المغني ج8 ص155.

المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي

المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي ذكرت فيما سبق عند الحديث عن الشبهات، التي تعتري الركن الشرعي لجريمة الردة، ما ذهب إليه الفقهاء من قول في إسلام السكران، وردته وكذا إسلام المكره، وردته وإٍسلام الصبي وردته، وما ذهب إليه الفقهاء أيضًا من قول في كفر الساحر، سواء وقع منه ما يفكر به، كقول كفر أو فعل كفر، أم لا ولذلك حكم تعلم السحر، وتعليمه وهذا كله وإن كان قد ذكر عند الحديث عن الشبهات، التي تعتري الركن الشرعي، إلا أنه لا يخلو عن صلة بما يلحق القصد الجنائي من شبهات. لذا، فإني أشير إشارات موجزة إلى ما ورد من آراء في ردة كل ممن سبق، فإذا أضيفت هذه الإشارة إلى ما سبق، اكتملت الصورة. 1- ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بأن من صدر منه قول كفر، أو فعل كفر حكم بكفره، ما دام قد وقع منه ذلك باختياره، حتى ولو لم ينو الكفر به، كان صدر منه عن جهل بما يؤدي إليه، أو أن يكون سكرانا في وقت صدور ذلك منه -إذا كان متعد بسكره، أو كان نتيجة تهور في كلام أو زلل لسان. يقول الدردير: "لا يعذر أحد في الكفر بالجهل، أو السكر أو -التهور ولا بدعوى زلل اللسان". وبين الدسوقي ذلك بالنسبة للسكران، ورد ما قد يعرض من اعتراض بقوله: "أو سكر"، أي أدخله على نفسه، ولا يرد قول

حمزة للنبي -صلى الله عليه وسلم- هل أنتم إلا عبيد أبي، كما في البخاري؛ لأنه كان قبل تحريم الخمره، كما في الشفاء والسكران، إذ ذلك يحكم عليه بحكم المجنون1. ويرى الإمام الشافعي، وابن حزم أنه لا بد من توافر فيه الكفر مع إيان الفعل أو القول، لجواز ان يكون القائل، أو الفاعل لا يعلم مدلول ما وقع منه. ولا يكفي في ذلك أن يتعمد الفاعل إتيان ما وقع منه؛ ليدل على بنته؛ لأنه قد يتعمد إتيان ذلك، وهو يجهل أنه يؤدي إلى الكفر، ولو علم ذلك لما أقدم عليه. واستدل الإمام الشافعي، وابن حزم لذلك، بما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، من قول: وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى2. وما ذهب إليه الإمام الشافعي، وابن حزم هو ما أرجحه، وأميل إليه لاستناده على دليل قوي؛ ولأنه قد سبق أن من جهل حكمًا من الأحكام، وترتب عليه جهله هذا وقوعه في جناية حدية لا حكم عليه

_ 1 يراجع في ذلك حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4 ص310، الخرشي ج8 ص71، شرح الزرقاني ج8 ص62، 63، حاشية ابن عابدين ج3 ص392، شرح الأزهار ج4 ص575-577، فتح القدير ج4 ص407، المبسوط ج10 ص123، بدائع الصنائع ج7 ص139-178ط الجالية المغني ج8 ص145. 2 صحيح البخاري ج1 ص2ط جال الشعب، نهاية المحتاج ج7 ص394، المحلى 269، ج13 ص137-184.

يحدها، مطلقًا من غير نظر في جهله، وإنما لا بد وأن ينظر في ذلك، أهو جهل يعذر به، ويعتد به في إسقاط العقوبة الحدية عنه أم لا. كما أنه لا يمكن أن يؤاخذ الناس بزلات ألسنتهم، إذا رجعوا عنها فور عملهم بما وقعوا فيه، خصوصًا فيما يتعلق بالعقيدة. ولأن زلل اللسان، خطأ غير مقصود، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد بين أن الله رفع عن أمته الخطأ، والنسان وما استكرهوا عليه. ولجواز أن يقع ذلك ممن سكر، وذهب عقله بسكره، ولا يتصور أن السكران يقصد الكفر، فيحكم عليه بالدره خصوصًا إذا رجع بعد إفاقته؛ ولأن السكران يلزم بحد السكر، فلا يجمع عليه معه حد الردة، التي لم يقصدها ورجع عنها. وذلك إن لم يكف للحكم بعدم قيام الجريمة منه أصلًا، فلا أقل من أن تنهض به شبهة، تدرأ عنه الحد أخذا بما قرره جمهور الفقهاء، من أن الحدود تدرأ بالشبهات. "أثر الشبهات في العقوبة التعزيرية": وضح مما سبق أثر الشبهات في العقوبات الحدية، فهي تدرأ هذه العقوبة، وينتج عن ذلك أما إسقاط جنس العقوبة عن المدعى عليه، وأما إسقاط نوع العقوبة عنه، بمعنى إعفائه من العقوبة الحدية لوجود الشبهة الدارئة لها، وإلزامه عقوبة تعزيرية مناسبة، بما في ذلك ما يلزم به من تعويضات مالية في بعض الحالات، والهدف من ذلك كله ضمان تحقيق العدالة، واحترام حقوق المدعى عليه، وعدم مؤاخذة بريء بفعل لم يصدر منه، أو لم يثبت عليه بالصورة التي يلزمه بها الحد، إذا الأصل براءة الذمة.

وقد ظهر أثر الشبهات في العقوبات الحدية واضحًا ملموسًا، وما دام الهدف من أعمال مبدأ درء الحد بالشبهة، هو تحقيق العدالة، واحترام حقوق المدعى عليه، فليس هناك ما يمنع من أعمال هذا المبدأ بالنسبة للعقوبات التعزيرية. ولا يعارض ذلك ما ورده ابن نجيم "من أن التعزير يثبت مع الشبهة"1. لأن إثبات الجريمة التعزيرية، وإلزام المدعى عليه عقوبة من العقوبات التعزيرية. لا يتطلب شكلية معينة، أو شروطًا محددة يتحتم استكمال عناصرها، بل يكفي لإقامة العقوبة التعزيرية، وإلزام المدعى عليه بها اقتناع القاضي، واستنتاجه، أو أنه المقارف للفعل من خلال الظروف، والملابسات والقرائن المصاحبة. كما أن أعمال الشبهات بالنسبة للعقوبات التعزيرية، لا يعترض أيضًا عليه بما أورده السيوطي من أن الشبهة لا تسقط التعزير، وإن كانت تسقط الكفارة؛ لأن هذا القول يرده الواقع، إذ أن السيوطي نفسه قد أورد أن الشبهة تنتج التخفيف، وعلى هذا فإن التخفيف في العقوبة، يمتد أثره إلى كل أنواع العقوبات، ولا دليل على قصر أثره على عقوبة دون أخرى. وقد وضح السيوطي القضية بما يأتي: "لو جامع ناسيًا في الصوم، أو الحج فلا كفارة للشبهة، وكذا لو وطئ على ظن أن الشمس، أو أن الليل باق، وبان خلافه، فإنه يفطر ولا كفارة".

_ 1 زين العابدين إبراهيم بن نجيم المصري، الحنفي المتوفى سنة 970هـ، الأشباه والنظائر ص130.

وذكر السيوطي أن من الفقهاء من قال: بأن الفدية لا تسقط بالنسبة؛ لأنها تضمنت غرامة مالية، بخلاف الكفارة، فإنها تضمنت عقوبة، فالتخفيف في الإسقاط بالحد، وتسقط الإثم والتحريم أن كانت في الفاعل دون المحل1. وقد وضح ما ذكره السيوطي في آخر عبارته، أن هناك من الشبهات ما يترتب على قيامه إسقاط الإثم والتحريم، وهذا القول وحده يكفي لإثبات ما نحن بصدده، من أن للشبهات أثر في ما يأتيه الفاعل من أفعال، جرمها المشرع، ورتب عليه عقوبة، إذا تم إثباتها على من ارتكبها، سواء أكانت هذه العقوبة حدية أم تعزيرية. وأثر هذه الشبهات، وأن ظهر بوضوح في العقوبات الحدية، وخفي أثره بالنسبة للعقوبات التعزيرية، فليس ذلك راجعًا إلى عدم إعمال الشبهة بالنسبة للعقوبات التعزيرية، وإنما مرد ذلك هو أن العقوبة التعزيرية، غير محددة في أصل وضعها، وإنما ترك أمر تقديرها إلى ولي الأمر ابتداء، وعليه فإن ما يقرر عند نظر الواقعة، وما يحيط بها من ظروف وملابسات ودوافع، وما خالطها من شبهات، وما إلى ذلك ما هو إلا عقوبة روعي فيها كل ذلك، فلا يجوز بعد هذا أن يقال: إن الشبهة التي خالطت الواقعة التعزيرية، لم يترتب عليها أثر في عقوبتها.

_ 1 جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي، المتوفى سنة 911هـ، الأشباه والنظائر الفقهية ص137ط، عيسى الحلبي، ويراجع ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين ج2 ص140، ابن حزم الأحكام ج5 ص149ط مطبعة السعادة ط أولى. الشيخ محمد الخضري أصول الفقه ص119ط الثانية.

ويظهر واضحًا ما للشبهة ما أثر في العقوبة التعزيرية في حالة ما، إذا لم يذكر الجاني للقاضي عند محاكمته، ما خالط فعلته التعزيرية من شبهات، ولم يستطع القاضي الوقوف على شيء من هذه الشبهات، التي خالطت فعلة الجاني، وبعد أن صدر تقدم الجاني، وعرض على القاضي ما خالط الجناية التي ارتكبها هذا الجاني من شبهات، وأُثبت صحة مقولته للقاضي، فإن القاضي والحالة هذا لا يسعه -إذا رأى أن ما ذكر من شبهات يترتب عليها إعفاء الجاني من العقوبة التعزيرية، أو تخفيفها لا يسعه إلا أن يعفي الجاني من العقوبة، أو يخففها عنه. وعليه فإن الشبهات في هذه الحالة، وما يماثلها قد أثرت تأثيرًا ملموسًا في العقوبة التعزيرية، التي كان القاضي قد حكم بها. وهذا أمر لا يحتاج في إثباته كثير عناء.

الخاتمة

الخاتمة: بدأت هذا المبحث مستعيًا بالله سبحانه وتعالى مستلهما منه الهدى، والرشاد طلبًا منه التوفيق والسداد: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، وفي خاتمة هذا البحث أحب أن أبرز بعض الحقائق الموضوعية، المتمثلة فيما وفقني الله سبحانه وتعالى إلى الوصول إليه من نتائج. 1- امتازت الشريعة الإسلامية من غيرها في كل مناحي التشريع، ومثالًا لذلك ما امتازت به تشريعاتها في مجال التجريم، والعقاب من سمو يتمثل في رعاية الإنسان، وما تستقيم به حياته من أمور ضرورية، وحاجية وتحسينية. ففي مبادئ التشريع الإسلامي -العامة والخاصة- في المجال الجنائي كل الحلول القادرة، والحاسمة في مواجهة أي سلوك انحرافي أيا كان سبه ومبعثه، يتتبعه في كل مراحله، ونواحيه حتى يستأصله من النفس، ويصل بها إلى أن تكون نفسا، تراقب خالقها في كل شيء، حتى فيما يخالجها ويدور بخلدها. إلى هذا الحد الذي لم ولن يصل إليه أي تشريع جنائي آخر من هذه التشريعات، التي وضعها البشر، وصاغها بكل ألوانها المختلفة المصطبغ منها بالقسوة، والعنف أو المتسم منها باللين والرقة، المنحازة إلى جانب الدولة والمجتمع، أو المراعية حق الفرد ورغباته المطلقة عنان الحرية الفردية. فالتشريع الإسلامي قد بذ ذلك كله، وسما عليه سمو من وضعه، وشرعه على من وضع هذه التقنيات الوضعية وشرعها. 2- وعلى سبيل المثال أشير إلى ما تميز به التشريعات الجنائية الإسلامية.

أ- ساوت التشريعات الإسلامية بين الناس في الثواب والعقاب، ولا سلطة لأحد في أن يغير من ذلك شيئًا. أما التشريعات الوضعية، فمع أنها نصت على العقوبات بصورة موضوعية، إلا أنها جعلت تحديدها للعقوبة مرنًا، يخضع لكثير من الاعتبارات التي يراها القاضي، موضوعية كانت أم لا، والتي نص عليها القانون ذاته، بالإضافة إلى أن التشريعات الوضعية تخضع لسلطان التغيير، والتبديل والإلغاء، وهذا أمن له دلالاته. ب- ساوت التشريعات الإسلامية أيضًا في مجال التجريم، والعقاب بين الجريمة وعقوبتها في جرائم الاعتداء على النفس كما سبق، وليس بخاف ما يحققه ذلك من شفاء صدر المجني عليه، هو وذويه الأمر، والذي يقضي نهائيًا على مصدر خطير من مصادر إشاعة الجريمة، ويحقق الناس أمنهم وأمانهم، ويحفظ عليهم حياتهم، وصدق الله العظيم الذي بين ذلك بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. ج لم تهمل الشريعة الإسلامية المحاسبة، والمعاقبة على أي تصرف مؤثم، إيجابًا كان هذا التصرف أو سلبًا، خصوصًا ما يمس الضروريات الإنسانية، فوضعت الضوابط والمعايير المحكمة دون إسراف أو تضييع، تحقيقًا للعدل وصونًا للفرد والمجتمع، بيد أن القوانين الوضعية كثيرًا ما تغفل الحفاظ على هذه الضروريات الإنسانية، وتترك الاعتداء عليا دون عقاب، بدعوى الحضارة والحرية، إذ العقاب في التشريعات الوضعية، رهن باعتبار السلوك جريمة قد نص عليها المشرع، فما لم يجرمه المشرع لا عقاب عليه، وإن أصاب الأمة في كيانها، وأتلف حرثها ونسلها، وضيع فيها موازين العفاف والشرف.

_ 1 الآية 179 من سورة البقرة.

بل إن هناك أفعالًا حرمها المشرع أجهد القضاءة أنفسهم لإيجاد مخرج للجاني ففلت من العقاب، وضيعت القيم والأخلاقيات على مرأى من القانون1. د- زعم البعض أن الشريعة الإسلامية لم تراع فيما وضعتها من نظام عقابي نفسية الجاني وظروفه، ولم تهدف إصلاحه، وهؤلاء لم يلمسوا ما وضعتها الشريعة الإسلامية في نظامها العقابي من اهتمام بالجاني، وصل إلى حد تلمسها التخفيف عنه، ودرئها العقوبة الحدية عنه، هذا الأمر الذي وضح من خلال هذا البحث، ولا يخفى أن الشريعة لم تجند عيونها تتلمس الذلل للخلائق، وتتصيد لهم الأخطاء، وتنصب لهم الشراك، ثم تعاقبهم متشفية كما هو حال كثير من النظم الوضعية. إن رسول هذه الشريعة الرحيمة قد أعرض مرات عمن جاءه يعترف بما ارتكبه، فلما أصر الرجل، وكرر اعترافه قال له الرسول الرءوف الرحيم -صلى الله عليه وسلم: "ليس عليك من وزر"، ولم يسأله مستفسرًا عن فعلته التي فعلها مع أن المقر قد ذكر أنه ارتكب حدًا من الحدود"2. كما قال -صلى الله عليه وسلم- معلمًا أصحابه، ومن أرسل إليهم: "من ستر مسلمًا في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة".

_ 1 حكم أحد القضاة ببراءة شخصين غريبين عن بعضهما أخذا، وهما يأتيان فعلًا فاضحًا من الأفعال، التي يعاقب عليها القانون، وكانا في سيارة خاصة تقف في عرض الطريق، مسببًا هذا القاضي حكمه بالبراءة على أساس أن ما أتياه من فعل أصبح من الأفعال المألوفة، التي يراها الناس من خلال أجهزة الإعلام، وعليه فلم تعد في رأيه هو فعلًا فاضحًا على قارعة الطريق. 2 نيل الأوطار ج7 ص113 وما بعدها.

ورد ابن الخطاب -رضي الله تعالى عنه على رجل جاءه يسأله: يا أمير المؤمنين إن لي بنتا أسلمت، وأصابت حدًا من حدود الله، فعمدت إلى الشفرة لتذبح نفسها فأدركتها، ثم أقبلت بتوبة حسنة فهي تخطب إلي، أفأخبر من شأنها الذي كان؟ فقال له عمر: أتعهد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لأن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلنك نكالًا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاح المسلمة العفيفة. هذه هي الشريعة الإسلامية، ونظمها العقابية أرحم في منطوقها، وحقيقتها من الوالدة بولدها، ولا يخفى أنها مع اهتمامها بالجاني والظروف المحيطة به، وإصلاحه لم تمهل المجني عليه، بل تعهدته بالرعاية والعناية، وشفت صدروه من كل ما ينؤ به من إتقان فالتقى الناس على محجتها وتحت لوائها إخوة متحابين. أين عناية التقنيات الوضعية، وعلاجها من ذكل كله من يوم أن خط مشرع وضعي قلم حتى اليوم الذي نحياه. 3- التشريع الجنائي الإسلامي شق من الشريعة ذاتها، فسلطة التجريم أو الإباحة أم يعطيها الشارع أحدًا من الخلق: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . هذا بالنسبة للأحكام القطعية، أما الأحكام الظنية، وهي التي لم يرد فيها نص قطعي ولا إجماع، فإن لولي الأمر سلطة التصرف في تقنينها بما يحقق مصالح الناس على أساس ما وضع المشرع، ولقد أنتج هذا الإحكام التشريعي استقرارًا تشريعيًا، نظرًا؛ لأن القواعد الحاكمة للسلوك قواعد موضوعية، تؤثر في السلوك ولا تتأثر به.

وهذا ما تفتقده، وتفتقر إليه التشريعات الوضعية؛ لأن هذه التشريعات إن وجدت فيها قواعد موضوعية تحكم السلوك، إلا أنها قواعد غير ملزمة أو ثابته، إذا أنها نتاج تناقض مذهبي، وفكري للمدارس التشريعية الوضعية، مع أن الاستقرار القانوني مطلب ملح من مطالب وأهداف القانون، بل ويعلو على مبدأ تحقيق العدالة ذاتها عند الوضعيين أنفسهم1. 4- عقوبات التشريع الجنائي الإسلامي، ذات الصفة الحدية عقوبات زاجرة قوية في غير ظلم، رادعة دون جور، وقد أحاطها الشارع الحكيم بمعايير وضوابط، وحد بجرائمها شكليه خاصة، ورسم لإثباتها صورة واضحة وجعل له من الشروط المفصلة ما يقض بوصوله حد اليقين، فإذا لم تكتمل صورة الجريمة، كما حددها المشروع، وبين دقائقها لم يترتب عليها ما وضعه الشارع من عقوبة محددة، وكذا إذا انثلم إثباتها، فإذا تم ذلك كله ثم ظهرت شبهة من الشبهات، خالطت أي مرحلة من مراحل الجريمة، أو جزئية من جزئياتها، أو دليل الإثبات، فإن المشرع يدرأ العقوبة بسبب وجود تلك الشبهة، سواء تترتب على ذلك درء جنس العقوبة، أو نوعها فقط، حتى المخالفين لإعمال هذا المبدأ في ظاهره. 5- لا خلاف إذا على أن اليقين لا يزال بالشك، ومن أن الأصل براءة الذمة، وعليه فلا بد للحكم بالعقوبة الحدية من تيقن لزومها، تيقنًا لا يعتريه أدنى شك. والقوانين الوضعية قد نصت في دساتيرها على ذلك أيضًا، وقررت قوانين الإجراءات الجنائية فيها أن الشك يسر لصالح المتهم، وأن الأصل افتراض البراءة، وقضت محكمة النقض المصرية بأن الأحكام أعملوه في جوهره ومؤداه، وهذا ما وضح من مناقشة ابن حزم.

_ 1 أ. د: محمود مصطفى شرح قانون العقوبات القسم العام فقرة 6.

الجنائية يجب أن تبنى على الحزم واليقين، لا على الظن والاحتمال، وإن الاحكام الصادرة بالإدانة، يجب ألا تبنى إلا على حجج قطعية الثبوت، تفيد الجزم واليقين. ولا يخفى أن إعمال الفقه الإسلامي لذلك أشمل من أعمال الفقه الوضعي له، إذ أن الفقه الإسلامي يعمل ذلك في كل أحكامه، وقضاياه بينما أعمال الفقه الوضعي له لا يزال قاصرًا على المجال الجنائي، بالإضافة إلى سبق إعمال الفقه الإسلامي -لهذه القواعد- بما يزيد على أربعة عشرة قرنًا. 6- لم نقدم كله أوجه دعوة لكل مسلم، ومسلمة حاكم ومحكوم أن يعودوا إلى ما ارتضاه ربهم دستورًا لهم، وأن يحكموه فيما بينهم، وأن يسيروا على هديه منهجه، فلا تخيفهم الدعاوي الباطلة؛ لأن الصورة واضحة ومشرفة، سجلها التاريخ للمجتمع الإسلامي، يوم طبق هذه الأحكام، والتزم بتلك التعاليم. فإن لم يقبلوا واستمروا على؟؟ للعرب وتقنياته، فلن يجنوا ثمار ذلك إلا خسرانا وهوانًا، فحكم من الحكام، وتسلطًا من السلطة وهتكًا للحرمات، ونهبا وتضييعا للأنس والدماء، والأعراض. لا تعرنهم فاسقات الغرب التائة، الذي يبحث في وضح النهار، وصفار الشمس وإشراقها، يبحث عن شعاع ضوء غير ما أنعم الله به عليه، فمن أين له ذلك. إن من طلب الهدى في غير ما أنزل الله وشرع ضل وتاه، ومن رام الشفاء في غير ما أعطاه الله الطبيب العليم الخبير نهشه المريض، وأتى على أخضره ويابسه. أما من تمسك بحبل الله، وعراه الوثيقة القوية، وطبق شرعه الحكيم

فهو أمن في حمى الله من كل شيء، فمن يهديه الله يشرح صدره للإسلام، فهو على نور من ربه. 7- كما أرجو من القائمين على شأن الجهات المختصة بالبحوث في مجال الفقه الإسلام، والتعريف بالشريعة الإسلامية كوزارة الأوقاف بأجهزتها المختلفة، والأزهر الشريف بقنواته العلمية، وكل من له صلة بالفقه الإسلامي وعلومه، أن يولوا التعريف بالتقنين الإسلامي بصفة عامة، وما يختص منه بالتشريع الجنائي بصفة خاصة، عناية مركزة، ومكثفة حتى ييسروا لمن أراد المعرفة الحقة بهذا التشريع سبل الوصول، وأن ينشروا كنوز هذا النظام الجنائي، وقواعده وأصوله، ففي ذلك حث للأمة الإسلامية وغيرها على العمل، والتمسك بهذا النظام المتكامل، الذي للإنسان إنسانيته كاملة، وحقوقه غير منقوصة، ويحفظ عليه نفسه ودينه، وعرضه وماله وما يلزم حماية حياته كإنسان، وأن تعيد هذه الجهات نشر هذا التراث الإسلامي العظيم في مجالاته المختلفة، وتشريعاته الجنائية بصفة خاصة، بأسلوب يتفق والصياغة التقنينية، فتخرج ذلك في ثوب يليق به، وتيسر الحصول عليه لكل من يريد. إن أصحاب الرسالات، أو الدعوات يبحثون دائمًا عمن يدعونه، ويذهبون إليه حيث هو، ويعرفونه بمطبوعاتهم، ويحيطونه بمناهجهم، ويجزلون له العطاء ليقرأها، ويقف على ما فيها. فما بالنا نحن وكثيرًا من يجد الباحثون عن تراثنا الإسلامي، وعلومه عثرات وعثرات، يجهدون أنفسهم في محاولة تخطيها، وتضيع جهودهم في تذليلها، حتى يصلوا إلى بعض ما يبحثون عنه من كتب هذا التراث الإسلامي الزاخر. 8- ولا يخفى ما يقابله الباحثون بخاصة، هؤلاء الذين عشقوا العلم، فوجهوا وجوههم وجهته، فأعنتهم نظام دور الكتب، وما تعانيه

من نقص ونظم بالية عقيمة، وموظفون يضنون على عشاق المعرفة باللقاء، الأمر لا يحتاج إلا إقامة مكتبات على النظام المفتوح الذي يطبق في بلادنا في كثير من دور الكتب الأجنبية، إذ يدخل الباحث، ويحضر لنفسه ما شاء من مراجع، دون إضاعة وقت، أو تثاقل موظف. 9- كما أهيب بالجامعات، التي أنشئت حديثًا أن تسرع في إنشاء مكتباتها المزودة بالمراجع العلمية المتخصصة، فهذه المكتبات هي عماد الدراسات الجامعية والمتخصصة، ففيها يتضح عداء العقل، وبدونها تضعف بنية أبناء هذه الجامعات العلمية، وتعدو هذه المنشآت كالطبل الأجوف، أو كشجر السرو، له رواء وما له ثمر. 10- كما أرجو من القائمين على شأن الجامعات المصرية بصفة عامة، وكليات الحقوق، بصفة خاصة أن يولوا دراسة الشريعة الإسلامية في مختلف مجلات التقنين عناية خاصة، فلقد خلت الدراسة حتى في كليات الحقوق من دراسة الفقه الإسلامي، إلا في مجالات محددة، أرجو أن تستكمل، حتى يعطي الطلاب قدرًا كافيًا من معرفة الفقه الإسلامي، والتقنيات الشرعية في مختلف مجالات المعرفة القانونية. على ذلك يكون فاتحة خير، وحث على تطبيق الشريعة الإسلامية في شتى المجالات: تطبيقا حقيقيًا، فلقد بحث الأصوات مطالبة.. وما توفيقي إلى بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب: 5 تقديم التمهيد الفصل الأول 21 كلمة عامة عن الجريمة في الفقه الإسلامي 23 المبحث الأول: الجريمة والجناية 23 المبحث الثاني: أقسام الجريمة 30 المبحث الثالث: أركان الجريمة الفصل الثاني 137 العقوبة وبعض الجوانب المتعلقة بها 138 المبحث الأول: العقوبة وأقسامها 196 المبحث الثاني: بعض سمات التشريع العقابي الباب الأول 231 الشبهات 233 تمهيد الفصل الأول 237 تعريف الشبهات وأثرها في الحدود 239 المبحث الأول: المراد بالشبهات 263 المبحث الثاني: أثر الشبهة في الحد

الفصل الثاني 289 الشبهات التي تعتري أركان الجريمة 291 تقديم 294 المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي 342 المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي الفصل الثالث 371 الإثبات 373 تمهيد 376 المبحث الأول: الإقرار 407 المبحث الثاني: الشهادة 459 المبحث الثالث: القرائن الباب الثاني 471 الجرائم الحدية والشبهات التي تعتريها الفصل الأول 473 جريمة الزنا وما يتعلق بها من شبهات 474 تقديم 478 المبحث الأول: للوطء والمحرم الذي لا يجب فيه الحد لقيام شبهة في الركن الشرعي للجريمة 499 المبحث الثاني: الوطء المحرم الذي لا يجب فيه الحد لإنتفاء القصد الجنائي 509 المبحث الثالث: الوطء المحرم الذي لا يجب فيه الحد لقيام شبهة في إثباته

الفصل الثاني 527 جريمة السرقة، وما يتعلق بها من شبهات 529 المبحث الأول: جريمة السرقة الصغرى 595 المبحث الثاني: جريمة السرقة الكبرى الفصل الثالث 613 جريمة شرب الخمر 615 تقديم 617 المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي 624 المبحث الثاني: شرب الخمر الذي لا يوجب الحد 627 المبحث الثالث: الشبهات التي تعتري إثبات جريمة شرب الخمر الفصل الرابع 631 جريمة القذف وما يتعلق بها من شبهات 633 تقديم 636 المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي 644 المبحث الثاني: شروط في المقذوف الفصل الخامس 653 جريمة الردة وما يتعلق بها من شبهات 655 تقديم 658 المبحث الأول: الشبهات التي تعتري الركن الشرعي 672 المبحث الثاني: الشبهات التي تعتري القصد الجنائي 678 الخاتمة

§1/1