الشامل في الصناعة الطبية
ابن النفيس
دراسة ممهدة
الشَّامِلُ فى الصِّنَاعَةِ الطِّبِّيَّةِ دِرَاسَةٌ مُمَهِّدِة
تأتى هذه الدراسة الممهِّدة لتحقيق موسوعة الشامل فى الصناعة الطبية بعد شهرين من صدور كتابنا: علاء الدين (ابن النفيس) القرشى، إعادة اكتشاف. وهو الكتاب الذى اعتبرناه فاتحةً واختتاماً، فهو ختامٌ لسنوات طوال قضيتها فى دَرْس العلاء، ساعياً لاستكشاف صورة هذا الرجل / العلاَّمة، والتجوال فى مفاوز إبداعاته العلمية، دون النزوع الإختزالى الذى يلخِّصه - ويبتسره - فى عبارة: مكتشف الدورة الدموية الصغرى.. واعتبرتُ الكتاب فاتحةً لتحقيق موسوعة الشامل التى تعد، بعد اكتمال صدورها خلال عامين: أضخم كتاب فى التراث العلمى العربى، تخرجه مطابعنا منذ بدء عصر الطباعة. ومع ذلك، فلابد لنا هنا، قبل الخوض فى بحار الشامل.. من إلقاء بعض الضوء على هذه الموسوعة، ومؤلِّفها، ومخطوطاتها، وما يتعلَّق بها من التباسٍ فى أذهان الدراسين، وما اتَّبعناه من منهجٍ للتحقيق؛ وغير ذلك من التمهيدات الضرورية.. فنقول، وعلى الله قصد السبيل: الكِتَابُ ومُؤَلِّفُهُ الشامل بلا منازع، هو أكبر موسوعة علمية فى التاريخ الإنسانى، يكتبها شخصٌ واحد. فالكتابةُ العلمية اتَّجهت منذ بداياتها الأولى، إلى شكل الرسائل القصار، والفوائد الموجزة؛ وهو ما ظهر مع فجر التاريخ العلمى فى نصوصٍ أوَّلية كما هو الحال فى البرديات المصرية القديمة، التى بقيت منها إلى يومنا هذا بضعة برديات، تُعرف بأسماء مكتشفيها أو أماكن حفظها، مثل: بردية هيرست
بردية كاهون بردية برلين.. إلخ، وكلها عبارة عن معلومات طبية مجتزأة ووصْفاتٍ علاجية متتالية، ومعارف من علم التشريح. وفى الأزمنة الغابرة، كتبت الفرسُ والهندُ والصينُ كتابةً علمية، موجزة عرفناها لما قام بنقلها من أصولها إلى اللغة العربية جماعةٌ من المترجمين، فنقل من الهندية إلى العربية: منكه الهندى، ابن دهن الهندى. ونَقَلَ من الفارسية: ابنُ المقفع، آل نوبخت، البلاذرى. ونَقَلَ من النبطية إلى العربية: ابنُ وحشية النبطى (1) .. فعرف العالم العربىُّ الإسلامى، ومن بعده بقيةُ الدنيا، من كتب الحضارات القديمة، أعمالاً مثل كتاب السموم لشاناق الهندى، وكتاب الفلاحة النبطية لابن وحشية، والأزياج الفلكية الهندية والفارسية.. وغير ذلك كثيرٌ من النصوص العلمية. ولما تسلَّمت اليونان مشعل الحضارة الإنسانية من مصر القديمة وبلاد الشرق كتب علماءُ اليونان وأطباؤهم نصوصاً على شكل الرسائل، تم جمعها فى عصورٍ لاحقة، فى كتبٍ مثل أصول الهندسة لأُقليدس، الذى كان فى الأصل مجموعة مقالات كتبها أُبولونيوس ثم حرَّرها أُقليدس وأضاف إليها مقالات أخرى، فجُمعت كلها بالإسكندرية القديمة، وتُرجمت فى بغداد، وصارت كتاباً واحداً.. ومثل كتاب المجسطى لبطليموس، الذى كان فى أصله ثلاث عشر مقالة جُمعت معاً ونُقلت إلى العربية بعناية يحيى بن خالد البرمكى. وكذلك الأمر فى كتب أرسطو قبل أُقليدس وبطليموس، فقد وضع هذا المعلم
الأول علومه على شكل رسائل وكُتبٍ صغار، جُمعت بعد ذلك على صعيدٍ واحد، فصار لدينا - مثلاً - كتاب المنطق الذى هو مجموعةٌ من الرسائل والكتب القصار: قاطيغورياس بارى أرمنياس، أنالوطيقا.. إلخ، ثم وضع لها فرفوريوس الصورى مدخلاً اشتهر بعنوان: إيساغوجى أو المدخل إلى المنطق. وفى التراث الطبى، اشتهر من أهل اليونان اثنان من الأطباء المؤلِّفين: أبقراط، جالينوس. وكلاهما كتب بإيجازٍ فى مجالات الطب على اختلافها، ثم جُمع المختلف، فأتلف فى المجموعة الأبقراطية (الاثنى عشر كتاباً) .. وفى (الستة عشر كتاباً) لجالينوس، التى جمعها الإسكندرانيون من رسائله، فصارت تُعرف بعنوان: منتخبات الإسكندرانيين لجالينوس. وكلاهما، أعنى أبقراط وجالينوس سوف يُعرف فى حضارتنا من خلال تلك المؤلَّفات، ويُشهد له بالفضل، فلا يُذكر اسمه إلا مسبوقاً بلقب: الفاضل. وفى حضارتنا، نحن، سوف تكون أول كتابات علمية موسَّعة، وأول موسوعات علمية فى التاريخ الإنسانى.. ربما لأنها حضارة حفظٍ وتدوين، وربما لأن المعارف كانت قد اتسعت، وربما لأن المسلمين تَشكَّل وعْيُهم من خلال الكتاب أعنى القرآن الكريم.. ومن خلال الحديث الشريف الذى دعا إلى التدوين كما فى قوله r: دوِّنوا العلم بالكتاب. ودوَّن العربُ المسلمون - أول الأمر - الرسائل الطبية والكنانيش (1) ، ثم عكفوا على كتابة المطوَّلات، فزها تراثنا، وازدان، بموسوعاتٍ طبية مثل: الحاوى.. القانون.. الشامل. ولنتكلم عليها تفصيلاً، لنتعرَّف إلى مكانة الشامل وموضعه من تاريخ الطب العربى / الإسلامى، بل الطبِّ الإنسانى بعامة.
أما الحاوى فهو كتابٌ، كما جاء فى ديباجته: ألَّفه أبو بكر محمد بن زكريا الرازى المتطبِّب، فى طِبِّ جميع الأمراض الكائنة فى بدن الإنسان ومعالجتها، وسمَّاه الحاوى لأنه يحتوى على جميع الكتب وأقاويل القدماء الفضلاء من أهل هذه الصناعة، وقد بدأ بذكر ذلك من رأس الإنسان، وما ينزله من الأمراض (1) . ولم يكن الحاوى هو الكتاب الوحيد الذى ألَّفه أبو بكر الرازى (المتوفى 313 هجرية) فقد وضع الرجل من الكتب كثيراً، مثل: المنصورى، منافع الأغذية، كتاب الجدرى والحصبة.. وغيرها من المؤلَّفات التى بلغت 141 كتاباً ورسالة بحسب إحصاء الفهرست (2) وزادت فى عيون الأنباء (3) لتصل إلى 232 مؤلَّفاً. غير أن الحاوى ظلَّ دائماً: أهم أعمال الرازى الطبية.. وقد نُشر الكتابُ فى أربعة وعشرين مجلداً، بتحقيق لابأس به، قام به جماعةٌ من فضلاء الهند المعاصرين، بإشراف الدكتور عبد المعيد خان. ولاشك فى أن تحقيق الحاوى ونشره،لم يكن بالعمل الهيِّن، فالكتابُ عبارة عن قصاصات من الورق، توفى الرازى ولم يفسح له الأجل أن يحرِّرها (4) . فجمعها تلاميذه بعد موته جمعاً غير
محكم، وغير منطقى (1) . وأما القانون فى الطب للشيخ الرئيس أبى على ابن سينا المتوفى 428 هجرية، فهو أول موسوعة طبية كاملة، بالمعنى العلمى الدقيق للكلمة. بدأها مؤلِّفها بقوله، بعد الحمدلة: التمس منى بعضُ خُلَّص إخوانى، ومَنْ يلزمنى إسعافه بما يسمح به وَسَعى، أن أصنِّف فى الطب كتاباً مشتملاً على قوانينه الكلية والجزئية، اشتمالاً يجمع إلى الشرح الاختصارَ، وإلى إيفاء الأكثر حقه من البيان الإيجازَ، فأسعفته بذلك، ورأيتُ أن أتكلَّم أولاً فى الأمور العامة الكلية فى كلا قسمى الطب، أعنى القسم النظرى والقسم العملى، ثم أتكلَّمُ فى كليات أحكام قوى الأدوية.. فإنى أجمع هذا الكتاب، وأقسِّمه إلى كتبٍ خمسة؛ الكتاب الأول: فى الأمور الكلية فى علم الطِّبِّ. الكتاب الثانى: فى الأدوية المفردة. الكتاب الثالث: فى الأمراض الجزئية الواقعة بأعضاء الإنسان عضوٍ عضو، من الفَرْقِ إلى القَدَم، ظاهرها وباطنها. الكتاب الرابع: فى الأمراض التى إذا وقعت، لم تختص بعضو، وفى الزينة. الكتاب الخامس: فى تركيب الأدوية، وهو الأقراباذين (2) . وطُبع القانون فى مصر بدون تحقيق، وتوالى تصوير، وتزوير، هذه الطبعة غير المحقَّقة - وإن كانت جيدة - ولم يفكر محقِّقٌ واحد فى إخراجه ونشره محقَّقاً حتى الآن! والمحقِّقون معذورون فى إحجامهم عن تحقيق كتاب مثل القانون فهو علاوة على ضخامته، جامعٌ لشتات المعارف الطبية فى عصره، مما يجعل ملاحقة نصوصه بالضبط والتحرير، عملاً شاقاً فى الجهد، قليلاً فى المجد.. خاصةً فى
wm Hovزمننا هذا الذى يشهد تراجعاً عن إنجاز المشروعات الكبرى؛ وتلك قصةٌ أخرى،لها تفصيلٌ يطول، وليس هذا موضعه.ضعه. وأما الشامل فى الصناعة الطبية فهو ثالث الموسوعات الكبرى فى تاريخ الطب العربى / الإسلامى، بل الطِّبِّ الإنسانى بعامة. تحدَّى بها العلاء القرشى (ابن النفيس) قِصَر الزمان الإنسانى، ومحدودية القدرة الإنسانية! وقد كان العلاءُ امتداداً للتقاليد الطبية التى أرساها مِن قبله أعلامٌ من نوع الرازى وابن سينا وكانت صلته بالأخير أقوى، وشروحه على مؤلَّفاته أكثر (1) . غير أنَّ إقدامه على تأليف موسوعةٍ بحجم الشامل لا يفسِّره - فقط - كونه امتداداً لهؤلاء الأطباء العظام، وإنما لابد من النظر فى السياق التاريخى الذى انتمى إليه العلاء ولابد من تفحُّص اللحظة التاريخية التى عاشها. وفى هذا الإطار نقول: لما اهتزَّ كرسى الخلافة العباسية تحت وطأة الشيخوخة العباسية، ومؤامرات القصور، وتهديدات المغول.. بدأت المجالسُ العلمية تنسرب من بغداد إلى الشام ومصر. كان ذلك منذ مطلع القرن السابع الهجرى، الذى وُلد العلاءُ فى السنة السابعة منه - بقرية القَرَشِ القريبة من دمشق - ولما كان العام المشئوم فى منتصف هذا القرن، أعنى سنة 656 هجرية.. دخل هولاكو بغداد، فطمس وجهها على نحوٍ،لم يسمح لها باستعادة دورها من بعد ذلك: أبداً. وازدهر العلمُ فى الشام ومصر، غير أن الشام ابتُليت آنذاك بالوقوع بين شِقَّى الرحى: المغول.. والصليبيين. ولم يكن الحالُ فى مغرب العالم الإسلامى
بأفضل منه فى الشام، فقد آذنت شمسُ الأندلس بالمغيب، وتهدَّدت بلاد المغرب ووَهَنَ منها عَظْمُ المجد والسلطان، فصارت نهباً لأطماع - وحملات - الإسبان وأحقادهم التاريخية، مما دفع ببلاد المغرب إلى ناحية الانزواء الحضارى. وفى العقود الأخيرة من القرن السابع الهجرى، وجدت القاهرة نفسها وحيدةً، وسط عالمٍ يرتجُّ؛ فالمشرقُ الإسلامى - بلاد فارس وما بعدها - لايزال يترنَّح من عنف الضربات المغولية، التى توالت طيلة خمسين سنة، ابتدأت بخروج جنكيز خان للثأر من محمد خوارزمشاه، وانتهت بتأسيس الدولة الإسلامية المغولية على يد بركة خان حفيد جنكيز خان، زعيم القبيلة الذهبية، بعد انكسار ابن عمه هولاكو على يديه.. والمغربُ الإسلامى كان قد انزوى، وصار منطقة طردٍ حضارىٍّ واجتماعى، وفزع منه الناسُ إلى مصر والشام، مثلما التجأ العلماءُ والصوفية؛ أمثال: ابن عربى، التلمسانى، الششترى، الشاذلى، المرسى. ومِن قبلهم: موسى بن ميمون الطبيب الفيلسوف، ابن البيطار العَشَّاب المعروف وغيرهما. جاء هؤلاء من المغرب إلى مصر، من الشام جاءها - فى حدود سنة ثلاثين وستمائة - علاءُ الدين القرشى. وكان على مصر وهى الحاضرة الإسلامية الوحيدة التى ظلت مزدهرة، أن تقوم بدور كبير لإنقاذ الكيان الحضارى العربى / الإسلامى، فتعيَّن عليها عسكرياً صَدَّ فلول المغول وجحافل الصليبيين. كما تعيَّن عليها سياسياً إحياء الخلافة الإسلامية، ولو كان إحياءً رمزياً. كما تعيَّن عليها اجتماعياً واقتصادياً أن تستوعب الهجرات الوافدة عليها من المغرب، ومن العراق والشام. وأدَّت مصرُ ما عليها فى ذلك كله، حتى دخل القرن الثامن الهجرى، وقد استتبَّ الحال فى مصر، وصارت القاهرة - آنذاك - أهم مركز حضارى فى العالم الإسلامى، وأكثر العواصم العربية أمناً وازدهاراً.. حتى أن ابن خلدون، كتب
- فى أواخر القرن الثامن الهجرى - قائلاً إن مَنْ أراد أن يرى عِزَّ الإسلام فلْيذهب إلى القاهرة. وكانت ذاكرةُ الأمة قد هدَّدها الاندثار، فقد ضاعت ألوف المخطوطات التى هى كتاب الحضارة ودُمِّرت المكتباتُ فى المشرق والمغرب. وكان المغولُ والصليبيون يحرصون على طمس التراث العربى / الإسلامى، بالتخريب وإفناء المخطوطات.. وقد اشتهرت فى التاريخ، واقعةُ إفراغ هولاكو لمخطوطات بغداد فى نهر دجلة، لغسل مادوَّنته الأمة، ومحو ما خلَّفته القرون. من هنا، كان على مصر أن تقوم بدورٍ هائل لحفظ ذاكرة الأمة، وإنقاذ هويتها من الانطماس. فبدأ علماءُ مصر، من بعد سقوط بغداد، فى تدوين المطوَّلات والكتب الضخمة والموسوعات - فى شتى مجالات العلم - مع أنَّ الملاحظ فى كتابات المصريين طيلة القرون السابقة على القرن السابع الهجرى أنها كانت تأتى دوماً، على هيئة كتب صغار، ورسائل، ومساجلات علمية. لكن الحال تغيَّر مع جهود علماء من أمثال علاء الدين القرشى (ابن النفيس) الذى وضع ما يقرب من عشرة شروح على موسوعة ابن سينا (القانون فى الطب) بغية إعادة بعثها مرةً أخرى إلى أذهان المشتغلين بالطب، ومن هنا قال ابن فضل الله العمرى، إن العلاء: هو الذى جَسَّر الناس على قانون ابن سينا. ومن بعد بعثه للقانون، يعكف العلاء (ابن النفيس) على تدوين موسوعة الشامل فى الصناعة الطبية فيضع المسودات بحيث تأتى فى ثلاثمائة مجلد، بيَّض منها ثمانين ثم وافته المنية - عن ثمانين سنة - سنة 687 هجرية بالقاهرة، وأهدى المجلدات الثمانين، بل كل مكتبته وداره وأمواله، إلى البيمارستان المنصورى بالقاهرة - مستشفى قلاوون حالياً - الذى كان مشرفاً عليه، باعتباره أكبر
مستشفيات القاهرة آنذاك، ومحل عمل رئيس أطباء مصر وهو المنصب الذى شغله العلاء (ابن النفيس) حتى وفاته فى السنة المذكورة. وقريبٌ من هذا (النمط) من الكتابة الموسوعية الحافظة للذاكرة، وفى مجالٍ آخر غير الطب؛ سوف يضع ابن فضل الله العمرى - المتوفى 749 هجرية - موسوعته التاريخية (مسالك الأبصار) فيؤرِّخ لكل شئ: الملوك، العلماء، الوقائع ويتحدَّث عن كل شئ: الأقاليم، النبات، الحيوان.. إلخ. وقد كان ابن فضل الله - مثل العلاء القرشى - من أصلٍ شامىٍّ، ثم توطَّن فى مصر وارتبط بها بقية عمره، حتى أن الناصر محمد بن قلاوون لما أراد أن يعاقبه، نفاه إلى الشام.. ولما رضى عنه، بعد حين؛ أعاده إلى القاهرة! وفى القرن الثامن الهجرى، فى القاهرة؛ سوف يكتب شهاب الدين النويرى المتوفى 732 هجرية، موسوعته الأدبية الهائلة: نهاية الأَرَب فى فنون الأدب. فيقع كتابه فى ثلاثين مجلداً تشتمل على خمسة فنون، الأول: فى السماء والآثار العلوية والأرض والمعالم السفلية. الثانى: فى الإنسان وما يتعلَّق به. الثالث: فى الحيوان الصامت. الرابع: فى النبات. الخامس: فى التاريخ.. وقد لخص النويرى فى كتابه، كتباً متوناً من التراث السابق عليه، منها: إحياء علوم الدين، اللمعة النورانية، الملل والنِّحَل، فقه اللغة، نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق، القصيدة العبدونية (قصيدة ابن عبدون فى التاريخ) وشَرْحها لابن بدرون، مباهج العبر.. بالإضافة إلى ديوان الحماسة لأبى تمام ودواوين الشعراء: المتنبى، البحترى، البستى؛ وغيرهم.. وكأنه بذلك، يبعث هذه المتون للحياة مرةً أخرى، مثلما بعث العلاءُ قانون ابن سينا، وجسَّر الناس عليه. وفى القرن الثامن نفسه، عَاشَ فى القاهرة، وكَتَبَ، واحدٌ من أغزر
المؤلِّفين فى تاريخ الإسلام: ابن حجر العسقلانى. وكلنا نعرف ضخامة وأهمية، مؤلَّفاته فى التاريخ وعلوم الدين، وقد كانت لأعماله أصداءً واسعة فى أرجاء الأرض. وقد حكى لنا المقريزى أنه حين انتهى ابن حجر من (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) عُمل حفلٌ خارج سور القاهرة، أُنفقت فيه على الذبائح وحدها: خمسمائة دينار! ويوم الحفل وصلت وفودٌ من ملوك الأرض تطلب نسخاً من الكتاب.. وهكذا صارت القاهرة هى المركز الثقافى الأول فى المنطقة الإسلامية الممتدَّة الأرجاء، تلبيةً لحاجة حضارية مُلحَّة، شارك بالاستجابة لها علماءٌ من كل فن.. كان منهم العلاء القرشى، الذى اشتهر بين معاصرينا بلقب: ابن النفيس (1) . وأخيراً.. فلابد من إشارةٍ إلى عدم توقف هذا الدور المصرى، التدوينى الحافظ للذاكرة؛ عند حدود القرن الثامن الهجرى، فقد تعدَّاه إلى القرن التاسع الهجرى، الذى عاش فيه بمصر مؤلِّفٌ من أغزر المؤلفين مادةً - فى التاريخ الإنسانىكله - أعنى به: جلال الدين السيوطى المتوفى 911 هجرية. ذلك الرجل كتب فى علوم اللغة المزهر وفى علوم الدين جمع الجوامع وفى التاريخ حُسن المحاضرة.. وكلها مجلدات كبار، وله بجانب ذلك مؤلَّفاتٌ صغار الحجم جاءت على شكل رسائل حافظة للملامح الثقافية فى تفصيلاتها، وفى طرافتها فكتب: منهل اللطائف فى الكنافة والقطائف، در الغمامة فى الطيلسان والعمامة، الدوران الفلكى على ابن الكركى.. ولم يتحرَّج، وهو العالم الجليل عن كتابة أعمالٍ عنوانها: الوشاح فى فوائد النكاح، الجواهر الثمينة فى فضائل السمينة، نواضر الأيك فى نوادر ال (..) !
مخطوطات الشامل
وهكذا كان السيوطى حلقةً من حلقات المشروع المصرى لحفظ ذاكرة الأمة وتدوين ثقافتها - فى أَجَلِّ الصفات وأدق التفصيلات - وهو ما نجح علماءُ مصر فى تحقيقه، بجهودٍ تأليفية جبارة.. لولاها، لكان تراثنا قد انطمس. جاء الشاملُ إذن، كحلقة كبرى من حلقات مشروع حضارىٍّ كبير تبنَّته مصر منذ أواسط القرن السابع الهجرى، سعياً لحفظ ذاكرة الأمة وتدوين علومها.. ومن هنا، كان على العلاء - رئيس الأطباء - أن يصوغ المعرفة الطبية فى عصره، صياغتها الأخيرة، المكتملة، بعد خمسة قرون من تطور الطب العربى / الإسلامى، وعلى نحوٍ لم يتم تجاوزه، ولو بعد قرونٍ من حياة العلاء. مَخْطُوَطاتُ الشَّامِلِ بدأتُ قبل عشر سنوات، فى جمع مخطوطات الشامل من مكتبات العالم وكان ظَنِّى المتفاءل، يرجِّح أن تكون أغلب النسخ الخطية من الكتاب محفوظةً بمصر، خاصةً مع ما ذكره ابن فضل الله العمرى من أنه: شاهد المجلدات الثمانين فى البيمارستان المنصورى بالقاهرة. غير أنها لم تكن سوى أُمنية والأمانى كما يقولون: خوادع! إذ لم يكن بمصر غير جزئين فقط من الكتاب كلاهما محفوظ بدار الكتب المصرية، التى ذكر فهرسها البدائى المعمول به حالياً خمس مخطوطات من الشامل ثم اتضح لى أن ثلاثة منها، مصورات. فكان رصيد دار الكتب المصرية من مخطوطات موسوعتنا، هو الآتى: 1 - مخطوطة رقم 6057/ل، ناقصة من أولها وآخرها، ومنسوبة فى الفهرس لغياث الغيث - وسوف نعود للكلام عنه بعد قليل - وتضم مقدمة الشامل، والكتب الثلاثة الأولى من الفن الأول.
2 - مخطوطة رقم 681/طب، بدون تاريخ. وهى تحتوى على الكتاب الثالث والعشرين من الجزء الثانى من الفن الثالث من الشامل وهو كتاب اللام من كتاب الأغذية والأدوية. والمخطوطة أوراقها 138 ورقة، الورقة صفحتان. 3 - مخطوطة رقم 3/4، طب 4 - مخطوطة رقم 423/طب تيمور. 5 - مخطوطة رقم 620/طب طلعت. والنسخ الثلاث الأخيرة، ليست سوى مصورات من كتاب اللام الذى احتوت عليه المخطوطة المحفوظة بالدار تحت رقم 681/ طب. ومع أننى قمت بفهرسة عدد كبير من المكتبات الخطية فى مصر، حتى بلغ عدد ما فهرسته حوالى 18.000 مخطوطة، موزَّعة على تسع مكتبات؛ غير أننى لم أجد مخطوطةً واحدة من الشامل، بين هذه الألوف من المخطوطات! وفى غير مصر، وجدتُ من مخطوطات الشامل ما يلى: 1 - نسخة مخطوطة بمتحف الآثار العامة (بغداد) برقم 1271، تقع فى 1045 ورقة (الورقة صفحتان) وتضم هذه المجموعة ما يلى: * الكتاب السابع من الجزء الثانى من الفن الثالث فى الأدوية والأغذية المفردتين التى تبدأ بحرف الخاء وهو يقع فى 10 مقالات وخاتمة. * الكتاب الثامن فى الأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف الدال يقع فى 6 مقالات وخاتمة. * الكتاب التاسع فى الأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف الذال يقع فى 3 مقالات.
* الكتاب العاشر فى الأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف الراء يقع فى 10 مقالات وخاتمة. * الكتاب الحادى عشر فى الأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف الزاى يقع فى 19 مقالة وخاتمة. * الكتاب الثانى عشر فى الأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف السين يقع فى 13 مقالة وخاتمة (ناقص من أوله) . * الكتاب الحادى والعشرون فى الأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف القاف يقع فى 25 مقالة. * الكتاب الثانى والعشرون فى الأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف الكاف يقع فى 30 مقالة. وفى نهاية الكتاب الأخير، كتب ناسخ المخطوطة عمر بن أبى بكر البدراوى الشافعى ما نصُّه: وكان الفراغ منه يوم الإثنين السابع من شهر رجب سنة ثمان وستين وتسعمائة.. ثم تتوالى بعد ذلك بقية الكتبُ التالية: * الكتاب الثالث والعشرون: حرف اللام يقع فى 11 مقالة. * الكتاب الرابع والعشرون: حرف الميم يقع فى 22 مقالة. * الكتاب الخامس والعشرون: حرف النون يقع فى 11 مقالة. * الكتاب السادس والعشرون: حرف الهاء يقع فى 3 مقالات. * الكتاب السابع والعشرون: حرف الواو يقع فى 5 مقالات. * الكتاب الثامن والعشرون: حرف الياء يقع فى مقالتين وخاتمة
وبانتهاء كتاب الياء ينتهى: الجزءُ الثانى من الفن الثالث من كتاب الشامل فى الصناعة الطبية 2 - نسخة مخطوطة بمكتبة ليدن (هولندا) برقم Mcccxv III God 81 Col وتضم كتب الأدوية المفردة من الضاد إلى العين على المنوال الذى ذكرناه فى مخطوطة بغداد السابقة. 3 - نسخة مخطوطة بمكتبة الظاهرية بدمشق، حالياً: مكتبة الأسد محفوظة تحت رقم 8547. تقع فى 319 من القطع الكبير، وهى مشكولة بالكامل، وتضم الكتب: من الهمزة إلى الزاى على المنوال السابق ذكره. أى أنها جزءٌ من الجزء الثانى من الفن الثالث من كتاب الشامل. ومع أن هذه المخطوطة ناقصة من أولها بمقدار عدة أوراق، إلا أنها عالية الأهمية نظراً لدقتها.. وسوف نَصِفُها بعد قليل، عند الكلام عن النسخ التى استخرجنا منها هذا الجزء (الأول) من الشامل. 4 - مجموعة مخطوطة بمكتبة بودليان بأكسفورد تحت أرقام Pococke 290 - 291 - 292 مجموع أوراقها 1659 ورقة، مؤرَّخة بسنة 983 هجرية. وتضم المجموعة: من الكتاب الأول إلى الكتاب الثامن والعشرين من الجزء الثانى من الفن الثالث من الشامل.. وقد اعتمدنا عليها فى التحقيق، وسوف نصفها بعد قليل. 5 - مجموعة أخرى بالمكتبة نفسها، محفوظة تحت أرقام Pococke 248 - 356 - 539 وتشتمل على ثلاثة كتب من الجزء الرابع من الفن الأول وهى على الترتيب: كتاب أسباب الوجع كتاب النبض كتاب البول. والمجموعة مؤرَّخة بسنة 687 هجرية، وهى سنة وفاة علاء الدين (ابن النفيس) .
6 - مجموعة مخطوطة بمكتبة لاين Lean الطبية، بجامعة ستانفورد، تحت رقم Z،276 مؤرَّخة بسنة 641 هجرية، جاء فيها أنها كُتبت على المؤلِّف.. بعد فحص المجموعة، تبين أنها تحتوى على ثلاثة مجلدات، كالتالى: * المجلد الأول يحمل العنوان مقالة فى النبات، المجلد الثانى بعد الأربعين من كتاب الشامل وهذه المخطوطة تبدأ بالمقالة الثانية والعشرين فى أحكام البقلة الحمقاء تليها مقالة فى البلسان مما يعنى أنه الجزء الخاص بالأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف الباء وبذلك يكون هذا الجزء هو: الكتاب الثانى من الجزء الثانى من الفن الثالث من كتاب الشامل.. وهو كما بدا من العنوان الذى يحمله، يمثل المجلد 42 من الشامل بحسب هذه النسخة التى كُتبت فى حياة مؤلفها. * المجلد الثانى يحتوى على الكتاب الثالث من الجزء الثانى من الفن الثالث فى الأدوية والأغذية التى تبدأ بحرف التاء؛ يليه كتاب الثاء ثم كتاب الحاء. * المجلد الثالث يبدأ بالنمط الأول من الجزء الثانى من الفن الثانى من كتاب الشامل.. ويتناول هذا النمط: الأصول الكلية فى صناعة الطب. ونظراً لسوء حالة المجموعة، فهناك العديد من آثار الترميم والإصلاح بها ويُلاحظ أن أحدهم أعاد كتابة الكلمات الباهتة، والتى كادت تختفى بفعل الزمن. 7 - نسخة مخطوطة بجامعة كامبردج (إنجلترا) برقم 1546 Or؟ 10؟ ، تبدأ بالباب التاسع فى علامات البول وهى بدون تاريخ، ويرجِّح فهرس المكتبة أن تكون قد كُتبت فى القرن الثامن الهجرى.. ونرجِّح، نحن، أنها بخط المؤلِّف.
وكانت رحلة جمع هذه المخطوطات رحلةً شاقة، وشائقة! وقد حكيتُ طرفاً منها فى مقالةٍ نشرتها بمناسبة مرور 727 سنة على وفاة العلاء (ابن النفيس) منها قولى: لم أجد فى كافة مكتبات مصر العريقة إلا قطعة من الكتاب تقع فى 194 ورقة مخطوطة بدار الكتب المصرية. أما مكتبة بودليان بأُكسفورد (إنجلترا) فهى تحتوى على مجموعتين من الكتاب المجموعة الأولى مخطوطة تضم 1659 ورقة من الشامل والمجموعة الأخرى تضم عدداً أقل من الأوراق. ولقد أرسلت للمكتبة خطاباً فى منتهى التلطُّف والتزلُّف، أطلب فيه تصوير المجموعتين وإبلاغى بالمصروفات المطلوبة. فطلبوا مبلغاً عظيماً بالجنيهات الإسترلينية، فعاودت الكتابة لمديرة المكتبة (آن نيكلسون) وقلت لها فى خطابى أن الجنيهات الإسترلينية التى طلبتها تساوى رقما كبيراً بالجنيهات المصرية، وأن احتياجى لهذه المخطوطات هو لعملٍ علمى وليس لعمل تجارى، وأن هذا التراث فى الحقيقة ملك لنا فى الأصل! ولقد كانت السيدة غاية فى الظرف، فردَّت على خطابى، قائلةً ما ترجمته: بخصوص الفاتورة الأولى، فيمكنك أن تدمرها! ولقد وجدت لك حلاً فنحن نصنع كل بضعة أعوام نسخة ميكروفيلمية احتياطية لجميع المخطوطات التى نحتفظ بها ولسوف أرسل لك هذه النسخة القديمة، ونقوم بعمل غيرها وفى هذه الحالة سيكون المطلوب دفعه، مبلغاً قليلاً.. وبالفعل دفعتُ هذا المبلغ القليل (حوالى ثلاثة آلاف جنيه) وحصلت على هذه الأجزاء المهمة من الشامل.
وفى مكتبة لاين الطبية بجامعة ستانفورد الأمريكية، ثلاثة مجلدات من الكتاب مؤرَّخة بسنة 641 هجرية، فأرسلت فى طلبها وإعلامى بالمصروفات، فجاء خطابٌ لطيف يشكرنى على اهتمامى بهذا التراث! ويدلنى على بعض البحوث فى هذا الموضوع، ومع الخطاب صورة من مقال نشرته الصحافة الأمريكية فى الثلاثينيات عن هذه المخطوطات الثلاث بالذات عنوانه: كنوز المخطوطات الطبية هنا. وطلبت المكتبة مبلغاً معقولاً بالدولارات، ولم تكن السوق المصرفية المصرية قد افتتحت بعد، ورفضت البنوك تحويل المبلغ (حفاظاً على اقتصاد الوطن) فرحت أتسكع فى ميدان المنشية بالإسكندرية، حتى صادفنى تاجرُ عملة، حصلت منه على المبلغ المطلوب، وأرسلته نقداً فى خطابٍ مسجل، وأنا أرتجف، فوصل المبلغ ووصلنى طردٌ صغير به صورة ميكروفيلمية من المخطوطات، فى نفس الوقت الذى وصلتنى فيه ميكروفيلمات البودليان.. فكانت الواقعة. أرسلت لى هيئة البريد خطاباً مستعجلا فذهبت أدور على المكاتب وأُواجه تحقيقا إدارياً غبياً من الموظفين: ما هذه الأشرطة؟ وما هى صلتك بانجلترا وأمريكا؟ وهل حصلت على تصريح خاص من المخابرات؟ وإلى ماذا تهدف من الحصول على هذه الميكروفيلمات؟ .. وظللت أشرح وأشرح، حتى بدأ لى أنهم اقتنعوا. لكنهم طلبوا تصريحاً من جهاز المراقبة على المصنفات الفنية، كى يسلِّموها لى! ثم كان الزمان كريماً، فوقعت على
موظَّفٍ متفهِّم، اقتنع بأن الأشرطة (الميكروفيلمات) تحتوى على صور كتاب، ولا علاقة لها بالفن ولا الرقابة! لكنه عاد وأفهمنى أن هناك مشكلة فى تحديد الرسوم المطلوبة جمركياً على تلك البضائع المستوردة. وبعدما أظلمت الدنيا فى وجهى، استطاع الموظَّفُ العبقرىُّ أن يجد حلا للمشكلة، إذ أفرج عن الميكروفيلمات، وسلَّمها لى، باعتبارها (عينات) وبالتالى فلا رسوم جمركية عليها! وفى مكتبة المتحف العراقى ببغداد توجد مجموعة خطية من الشامل تقع فى 1034 ورقة فسعيتُ للحصول على صورة منها كان الأوان أوان حرب الخليج (الأولى) بين العراق وإيران فأردت السفر إلى بغداد - ولم أكن قد خرجت قبل ذلك من مصر - فحذَّرنى بعض الإخوان من رداءة أحوال بغداد، ومن صواريخ إيران بعيدة المدى، ومن احتمال أن يكون المتحف العراقى قد أغلق أبوابه وانتقلت مخطوطاته خشية القصف.. وأسقط فى يدى ثم هدأت الأحوال، وأوصيت صديقاً يعمل فى العراق، بأن يحصل لى على صورة من المخطوطة، ولقد حصل عليها بالفعل وأرسل لى ليبلغنى بذلك، ففرحت ثم حزنت حين صودرت منه فى مطار بغداد! وفى أحد المؤتمرات تعرَّفت إلى أستاذٍ جامعى من العراق كانت زوجته تعمل فى المتحف العراقى، فوعد بتصوير المخطوطة وإرسالها فى أقرب فرصة، ورجع من مصر إلى العراق. وبعد
رجوعه إلى هناك بأيام سبعة اجتاح صدَّامُ الكويت.. وقامت حربُ الخليج الثانية. وكان معهد المخطوطات العربية بالقاهرة يمتلك صورة مخطوطة بغداد، لكنه كان مغلقاً. فلما انفتحت أبوابه، فتح الله علينا بتصوير المخطوطة، ثم سمح الزمان أيضاً بالحصول على مخطوطة كامبردج (انجلترا) التى تضم أجزاءاً أُخرى من الكتاب وعلى المخطوطة إشارات تدل على أنها بخط مؤلِّفها.. وهكذا اكتملت العدة، واجتمعت صور المخطوطات الباقية من هذه الموسوعة الهائلة. وفى اللحظة التى وضعت فيها هذا الكم من المخطوطات معا (حوالى عشرة آلاف صفحة من كتابٍ واحدٍ مخطوط) شعرت بعظمة (ابن النفيس) وشعرت أيضاً بأن: العمر قصير والعلم طويل! وها أنا أشرع اليوم فى تحقيق هذا الكتاب، أو بالأحرى تحقيق الأربعين مجلداً التى بقيت منه، ولأننى لا أضمن امتداد العمر حتى الانتهاء من التحقيق، فقد جمعت الميكروفيلمات كلها - بعد تصويرها على الورق - فاحتفظت بالصورة الورقية وأهديت النسخ الميكروفيلمية إلى معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، وأوصيتهم أن يصوروها لمن يأتى من بعدى، فى حالة موتى أو عدم إنجازى لتحقيق الكتاب، حتى يتمكَّن باحثٌ آخر
الشامل للشيرازي
من إتمام المهمة، دون المرور بهذه الرحلة الشاقة التى قطعتها بحثاً عن: كتاب واحد مخطوط (1) . الشامل للشيرازي أثناء الرحلة الطويلة التى قطعتها باحثاً عن مخطوطات الشامل هنا وهناك ظل يخايلنى كتابٌ آخر بالعنوان نفسه، لمؤلفٍ آخر غير العلاء. وبلغت المخايلة غايتها فى دار الكتب المصرية، حيث تحتفظ الدار بمخطوطةٍ من الشامل الذى أبحثُ عنه، منسوبةً فى فهرس الدار - وهو فهرسٌ بدائىٌّ أقرب إلى القائمة الحصرية منه إلى الفهرس بمعناه العلمى - إلى مؤلِّفٍ اسمه: أبو سعيد بن أبى مسلم بن أبى الخير، الملقَّب بغيات الغيث. وقبل الدخول فى تفاصيل هذا الإشكال الذى ألمحتُ إليه فى كتابى السابق دون الوصول إلى رأىٍّ حاسمٍ حوله (2) . أقول، قبل الدخول إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى أن المفهرس التراثى العظيم: حاجى خليفة (مصطفى بن عبد الله القسطنطينى، المعروف بملا كاتب جلبى، المتوفى 1067 هجرية) كان قد ذكر فى كتابه الرائد: كشف الظنون (3) .. أربعةَ عشر كتاباً بعنوان الشامل منها كتابان فى الطب! والكتب الأربعة عشر، هى: * شَامِلُ التفاسير (4) .
* الشَّامِلُ فى الأصول (1) . * الشَّامِلُ فى أصول الدين، للجوينى. * الشَّامِلُ من البحر الكامل (2) ، للطبسى. * الشَّامِلُ فى تهذيب الذوات الإنسانية (فى التصوف) لعبد الخالق ابن أبى قاسم المصرى. * الشَّامِلُ فى الجبر والمقابلة، لابن أسلم * الشَّامِلُ فى علم الحرف، للسكَّاكى. * الشَّامِلُ فى فروع الحنفية، للبيهقى. * الشَّامِلُ فى فروع الشافعية، لابن الصباغ. * الشَّامِلُ فى فروع المالكية، لبهرام الدميرى. * الشَّامِلُ فى القراءات، للنيسابورى. * الشَّامِلُ، لأبى الفضل محمد بن أبى جعفر المنذرى (3) . * الشَّامِلُ فى الطِّبِّ، لأبى سعيد بن أبى مسلم بن أبى الخير الملقب بغيات الطبيب.
* الشَّامِلُ فى الطِّبِّ، للشيخ علاء الدين (على بن أبى الحزم القرشى ابن النفيس، الطبيب، المصرى، صاحب الموجز) وفى تذييله على كشف الظنون أورد إسماعيل باشا البغدادى مزيداً من الكتب التى حملت عنوان الشامل.. بحيث صار لدينا عشرون كتاباً بهذا العنوان. وما أورده البغدادى، هو العناوين التالية: * الشَّامِلُ فى علم القرآن، لأبى بكر الصولى. * الشَّامِلُ فى فضائل الكامل، لابن خلف المصرى. * الشَّامِلُ فى فقه الزيدية، ليحيى بن حمزة. * الشَّامِلُ فى اللغة، لأبى منصور الأصبهانى. * شَامِلُ اللغة، لعماد الدين القرَّه حصارى. * الشَّامِلُ للعوامل، لمحمد البرزنجى (1) . ومع وجود هذا العدد الكبير من الكتب التى تحمل عنوان الشامل ومع هذا (التداخل) الذى أحدثه مفهرس دار الكتب المصرية، حينما نسب المخطوطة إلى أبى سعيد مسلم بن أبى الخير.. وهو لم يكن يتوهَّم - فى واقع الأمر - وَهْماً كبيراً، فقد أورد المفهرسُ الكبير حاجى خليفة ما يدعم مفهرس الدار.. المهم أن الأمر اقتضى مزيداً من البحث، والحسم، لهذا الموضوع المتعلِّق تعلُّقا مباشراً بالموسوعة التى نحن بصدد نشرها محققةً. وقد انتهى بحثنا، إلى الآتى:
أولاً: بصدد مخطوطة دار الكتب المنسوبة إلى أبى سعيد مسلم بن أبى الخير وهى المحفوظة بالدار تحت رقم 6057/ ل؛ ظهر أنها تضم الثلاثة أجزاء الأولى من موسوعة العلاء (ابن النفيس) وأنها تطابق طريقة الشامل فى الصناعة الطبية من حيث الأسلوب ونظام التقسيم الداخلى.. إلخ. كما وجدنا مخطوطة أخرى منها، محفوظة بالظاهرية تحت رقم 7170/طب، ومنسوبةً هناك صراحةً للعلاء (ابن النفيس) .. وقد قدَّمتُ نماذج متطابقة من المخطوطتين، فى ملحق كتابى الأخير، حيث أوردتُ مجموعةً من المخطوطات النادرة التى ألَّفها العلاءُ، أو ارتبطت به (1) . ثانياً: بالتنقيب وراء الكتاب (الآخر) الذى بعنوان الشامل تبيَّن أن هناك مخطوطتين منه. الأولى محفوظة بدار الكتب المصرية، ذاتها، تحت رقم 602/طب طلعت. والأخرى محفوظة بمكتبة أحمد الثالث باسطنبول، تحت رقم 2108 وقد جاء بأولها أنها: كتاب الشامل لابن الصورى! وجاء على بطاقة فهرستها: الشامل فى الطب، لأبى سعيد بن أبى الإمام أبى مسلم الشيرازى. ثالثاً: بخصوص اسم المؤلِّف، ليس هناك طبيبٌ يكنَّى غياث الغيث وإنما وجدنا: غياث الدين أبا المعالى، العز بن أبى الفضل بن أبى العباس الأبرقوهى الشيرازى. ووجدنا: ابن الصورى رشيد الدين أبا المنصور بن أبى الفضل بن على الصورى. والأخير منهما، طبيبٌ عَشَّابٌ من أهل الشام، ولد سنة 573 بمدينة صور، ونشأ بها، ثم انتقل عنها، واشتغل بصناعة الطب ووضع من الكتب: الأدوية المفردة، الرد على كتاب التاج فى الأدوية المفردة. وكانت وفاته، وفق ما ذكره مواطنه ومعاصره ابن أبى أصيبعة: يوم الأحد، أول شهر
رجب، سنة 639 هجرية، بدمشق (1) . رابعاً: بعد الحصول على مخطوطتىْ الكتاب المشار إليهما سابقاً، وجدنا هذا الشامل فى النسختين، يبدأ بما يلى: الحمد لله الفاطر، البديع، العلام المؤمن، المهيمن، السلام، المنزه ذاته عن مطارح الأبصار ومعارج الأوهام المقدَّس صفاته عن هواجس الأفكار ووساوس الأوهام. ثم يرد اسم المؤلِّف على النحو التالى: قال (الشيخ) الإمام الأعظم الأفضل (الأعلم) مالك مملكة الفضائل والحكم، جامع الفروع والأصول، حاوى أصناف المنقول والمعقول: غياث الملة والدين، جلال الإسلام والمسلمين، أبو سعيد بن الإمام أبى مسلم بن أبى الخير الطبيب (الشيرازى) أدام الله تعالى مبانى الفضل عليه، وكثَّر فى الإسلام أمثاله.. إلخ. وبعد هذه الديباجة، التى من الواضح أنها من وضع الناسخ الأصلى للكتاب، وهو الناسخ الذى كان معاصراً للمؤلِّف (2) ؛ تبدأ ديباجةُ المؤلِّف التى يقول فيها: لما ظهر نورُ الحقِّ من أفق العدم، فاستضاءت (3) بشعاعه بوادى الظُلَمِ، واقتضت (4) عنايته إيجاد آدم من القِدَمِ، ثم (5) اصطفاه واجتباه وشرَّفه بخطاب {وفضلناهم على العالمين} (6) وجعلناه خليفةً فى الأرضين.. فإذن
كان أولى ما تتولَّى (1) عليه الهممُ العوالى.. تعلُّم حفظ صحة صاحب هذه المناقب والمعالى (2) .. وهو علم الأبدان الذى هدانا إليه الخالق الدَّيَّان. ثم يصرِّح المؤلِّف بعنوان كتابه، وبالسبب الذى دعاه لاختيار هذا العنوان؛ فيقول: ورتَّبته ترتيب الإيجاز والإقلال، محترزاً من السآمة والإملال، وسميته: الشامل لاشتماله على المطلوب واحتوائه على المقصود، معتصماً بالله الودود. ويذكر المؤلِّف أنه جعل كتابه على قسمين: الأول: فى حفظ الصحة وبنيانه على أربع مقالات. الأولى: فى الوصايا.. الثانية: فى إصلاح الأمور الطبيعية.. الثالثة: فى حفظ الصحة فى الفصول الأربعة.. الرابعة: فى حفظ صحة الأعضاء الرئيسية والمرؤسة.. القسم الثانى، فيه مقدمة وست مقالات (3) . وفى كل مقالة عددٌ من الفصول، ذكر المؤلِّف عناونيها فى المقدمة ثم شرع فى الكتاب الذى جاء فى 273 ورقة مقاس (20× 13سم) فى مخطوطة أحمد الثالث، التى تنتهى بقوله: يُعالج بعلاج القروح الأُخرى، والله أعلم، تمت المقالة الأولى بتوفيق الله جل وعلا. أما مخطوطة القاهرة، التى تقع فى 265 ورقة من القطع الكبير (مقاس 22×15سم) فهى تنتهى بقول المؤلِّف: الباب الرابع عشر، فى طرد الهوام.. وما يطرد الهوام والحيَّات خاصةً، التبخير بأظلاف الماعز وقرون الأبل (4) . ويظهر مما سبق، أن الكتاب ليس لابن الصورى، وليس لغياث الغيث! فكلاهما انتحالٌ من عمل المتأخِّرين، أما المؤلِّف الحقيقى - على الأرجح - فهو
المذكور فى ديباجة الكتاب، أعنى: غياث الدين الشيرازى.. وبالبحث عنه وجدنا له ترجمةً عند السخاوى فى ضوئه اللامع، نصُّها: محمد بن إسحق بن أحمد بن إسحق بن أبى بكر، غياث الدين أبو المعالى، العز بن أبى الفضل بن أبى العباس الأبرقوهى الشيرازى، وكان أبوه قاضيها المكى، ويعرف بالكتبى. ولد سنة خمس وعشرين وسبعمائة بأبرقوه، ودخل دمشق فسمع بها على ست العرب حفيدة الفخر (1) الشمائل النبوية (2) للترمذى. وقدم مكة فقطنها نحو ثلاثين سنة، على طريقةٍ حسنة من كَفِّ الأذى والإقبال على الخير والعبادة. وجرت على يديه، من قبل (شاه شجاع، صاحب فارس) لكونه كان من جماعته، صدقاتٌ لأهلها ومآثرٌ بها. وكان بارعاً فى الطبِّ، انتفع به أهل مكة فيه كثيراً سيما وهو يحسن إليهم بما يحتاجونه من أدوية وغيرها. وصنَّف فيه كتاباً حسناً. مات بعد انقطاعه فى بيته لضعفه وعجزه عن الحركة فى جمادى الأولى سنة خمس (3) ، ودفن بالمعلاة ذكره الفاسى فى (أخبار) مكة، ثم التقى بن فهد فى معجمه، وشيخنا فى إنبائه (4) والمقريزى فى عقوده، وآخرون (5) .
والفقرة السابقة نقلها د. أحمد عيسى بتمامها، فى معجمه الذى استكمل به عيون الأنباء فى طبقات الأطباء وختمها بإشارة إلى ترجمة الشيرازى فى الطبقات لابن قاضى شهبة، حوادث سنة 805 هجرية (1) (وهى سنة وفاة الشيرازى) وتبقى، مع ذلك؛ جملةُ إشكالات. الأول: أن مولد غياث الدين الشيرازى وفقاً لما ذكره السخاوى، كان سنة 725 هجرية. وقد ذكر حاجى خليفة، أن (غياث الطبيب) انتهى من الكتاب سنة 736 هجرية (2) .. فكيف يتفق أنه كتب كتابه فى الحادية عشر من عمره؟! والإشكال الآخر: أن أول الكتاب فى المخطوطتين، يطابق أوله عند حاجى خليفة، وكذلك وَصْف الكتاب وأقسامه بيد أن المؤلِّف فى المخطوطة: غياث الملة والدين.. أبو سعيد بن أبى مسلم بن أبى الخير الشيرازى. وهو فى كشف الظنون: أبو سعيد بن أبى مسلم بن أبى الخير الملقب بغيَّاث. وهو فى كليهما، عبارة عن كُنى لا أسماء، بل لايوجد فيه اسمٌ واحد! بينما الاسم عند السخاوى: محمد بن إسحاق بن أحمد غياث الدين الشيرازى فذكر اسم أبيه وجده، من غير كنى.. وقد أشار السخاوى إلى كتابه، من غير ذِكْر العنوان بقوله: وكان بارعاً فى الطب.. وصنَّف فيه كتاباً حسناً. فهل كان السخاوى يقصد كتابه: الشامل؟! والإشكال الأخير هنا: أن الشيرازى إذ يختار عنواناً لكتابه؛ هل ضاقت عليه العناوين، فاختار عنواناً مطابقاً لعنوان موسوعة العلاء - الذى سبقه بأكثر من مائة عام - أم تراه لم يسمع أصلاً بموسوعة الشامل فى الصناعة الطبية؟!
منهج التحقيق
وعلى أية حال، وعلى الرغم من هذه الإشكالات؛ فقد عرفنا أن هناك كتابين فى تراثنا الطبى، بعنوانٍ واحد.. وإن اختلفا فى المؤلِّف، وفى طريقة التأليف، وفى حجم الكتاب! فالشامل للشيرازى، لايزيد فى حجمه عن بعض أجزاء الشامل للعلاء القَرَشى (ابن النفيس) . منهجُ التَّحْقِيقِ كان أول ما صنعناه عند البدء فى تحقيق الشامل فى الصناعة الطبية هو رسم شجرة لأقسام الكتاب، بحسب المخطوطات التى بين أيدينا، وبحسب ما أشار إليه العلاءُ فى ثنايا الأجزاء الموجودة.. فظهر أمامنا ما يلى: الفن الأول من الشامل. وهو يشتمل على: قواعد الجزء النظرى من الطب. ويقع فى أربعة أجزاء على النحو التالى: 1 - الجزء الأول: فى علم الأمور الطبيعية. ويشتمل على مقدمةٍ وسبعة كتب وهى: كتاب الأركان، كتاب الأمزجة، كتاب الرطوبات، كتاب الأعضاء، كتاب الأرواح، كتاب القوى، كتاب الأفعال. 2 - الجزء الثانى: فى علم الأمراض. 3 - الجزء الثالث: فى علم الأسباب. 4 - الجزء الرابع: فى علم الدلائل. ويشتمل على ثلاثة كتب: الكتاب الأول فى الوجع. الكتاب الثانى فى النبض؛ ويضم ثلاثة تعاليم: التعليم الأول فى ماهية النبض، التعليم الثانى فى أجناس النبض، التعليم الثالث فى أسباب النبض. الكتاب الثالث فى البول.
الفن الثاني من الشامل
الفن الثاني من الشامل وهو يشتمل على أربعة أجزاء، الجزء الثانى منها يشتمل على نمطين، النمط الأول منها يضم ثلاثة كتب، الكتاب الثالث منها موضوعه (الجراحة) أو: عمل اليد، ويقع فى ثلاثة تعاليم: 1 - التعليم الأول، فى الأصول الكلية. 2 - التعليم الثانى، فى الآلات. 3 - التعليم الثالث، فى أجناس العمل باليد. وأغلب أجزاء هذا الفن (الثانى) مفقودة، وإن كانت هناك إشارات فى ثنايا كلام العلاء، تفيد أنه كتبها بالفعل. الفن الثالث من الشامل وهو يشتمل على جزئين، الأول منها مفقودٌ بالكامل، والجزء الثانى موجودٌ كاملاً! وهو الجزء الذى يقع فى ثمانية وعشرين كتاباً، فى الأدوية المفردة. * * * وهكذا تعَّين علينا البدء بالكتب الثمانية والعشرين، الكاملة، التى تمثل الجزء الثانى من الفن الثالث.. وتأجيل الأجزاء الأخرى من الشامل على أمل ظهور المزيد من مخطوطاتها أثناء الفترة التى سيستغرقها نشرُ الكتب الثمانية والعشرين، ومن بعدها الكتب المتفرِّقة من الفن الأول والثانى؛ وهى الفترة التى قد تمتد لعامين كاملين.
(أ) وصف النسخ الخطية
وعلى هذا، فإن الكتاب الذى بين أيدينا، هو الجزء الأول من أول كتب الأغذية والأدوية المفردة؛ كتاب الهمزة. وقد استخرجنا نصَّه بعد المقابلة بين مخطوطتين لابأس بهما، هما: مخطوطة الظاهرية ومخطوطة بودليان. (أ) وَصْفُ النُّسَخِ الخِّطَّيةِ مخطوطة المكتبة الظاهرية كما سبق أن أشرنا، هى نسخةٌ جيدة، كُتبت بقلم نسخى دقيق، فى القرن التاسع الهجرى تقديراً، وهى تشتمل على الأحد عشر كتاباً الأولى من كتب الأدوية والأغذية.. وهى محفوظة تحت رقم 8547 بالظاهرية، التى توجد حالياً بمكتبة الأسد بدمشق. أوراقها 319 ورقة من القطع الكبير، ومسطرتها 33 سطراً، يحتوى السطر الواحد على قرابة 15 كلمة.. وهى على هذا النحو، تعدُّ من المخطوطات المزدحمة بالكلمات! والمخطوطة كتبها ناسخٌ محترف، وإن كان غير متخصِّص فى الطِّبِّ. وهو يضبط الكلمات فى أغلب الأحيان، وإن كان ضبطه لايُعتمد عليه - فى أغلب الأحيان - لأنه ينقل من مخطوطة غير مضبوطة، لعلها نسخة المؤلف؛ ولأنه يضبط وفق ما يبدو له، من غير معرفة بالمفردات والمصطلحات الطبية. ومع أهمية هذه المخطوطة، التى رمزنا لها فى هوامش التحقيق بحرف هـ.. فإن بها ثلاثة عيوب خطيرة: الأول أنها ناقصة من أولها بمقدار ورقتين. والثانى أن عديداً من أوراقها، سقطت أثناء التجليد. والثالث أن الناسخ حين يعجز عن فهم كلمة من الأصل الذى نقل عنه، فإنه يسقطها من الكلام، ويمر عليها مرور الكرام! دون تنبيه إلى ما تركه من كلمات.. ولولا مخطوطة بودليان لما كان من الممكن استخراج النص المحقَّق بالاعتماد على مخطوطة الظاهرية وحدها، نظراً لهذه العيوب الخطيرة.
ومخطوطة بودليان أو المكتبة البودلية بأكسفورد، المحفوظة تحت رقم 290/ بوكوك. نسخةٌ خطية جيدة، كُتبت سنة 983 هجرية، نقلاً من مخطوطة الظاهرية، أو نقلاً من المخطوطة التى نقل عنها ناسخ مخطوطة الظاهرية. وهى نسخة كاملة، ضخمة من حيث عدد الأوراق (1659 ورقة) ومن حيث مقاس الورقة الواحدة (30×18سم) ومسطرتها 23 سطراً فى الصفحة، يشتمل على كل سطر على قرابة 14 كلمة. وخطُّها معتادٌ، وقلمُ النسخ سميكٌ وناسخُها لم يذكر اسمه فى آخرها، أو بين ثناياها. وعيبُ هذه النسخة، أن ناسخها يرسم الكلمات دون تدبُّر لمعناها. ويبدو أنه كان مكلَّفا بنسخها فى وقت محدَّد، فكان يُسرع بالنسخ دونما تدقيق فى معانى النص. وقد ظهرت فى هذه النسخة، كل الهنات والأخطاء الموجودة فى مخطوطة الظاهرية، حتى أن هناك سطرٌ (مكرر) فى المخطوطتين! بيد أن الأوراق الساقطة من مخطوطة الظاهرية هـ موجودة فى مخطوطة بودليان..، فكان لا غنى لنا عن هذه المخطوطة، التى رمزنا إليها فى هوامش التحقيق بحرف ن. ويعلم الله كم لاقيتُ الأمرين، عند مقابلة المخطوطتين، لاستخراج النصِّ المحقق من هاتين المخطوطتين، اللتين سأستخرج منهما عديداً من الأجزاء التالية من الشامل. ومع ذلك، فهما المخطوطتان الوحيدتان فى العالم - فيما نعرف - اللتان يضمان الأجزاء الأولى من كتب الأغذية والأدوية. ولولا الصبر أمام الكلمات ولولا مراجعة مالا حصر له من مصادر ضابطة تعرضت للموضوعات نفسها، ولولا الاستعانة بمعرفتى السابقة بأسلوب العلاء (ابن النفيس) ومفرداته.. لولا ذلك كله، لعسر استخراج هذا النص المحقق.
(ب) الهوامش
(ب) الَهَوَامِشُ اشتملت هوامش التحقيق على نتاج المقابلة بين المخطوطتين، حيث تم استبعاد الكلمات غير الصائبة إلى هامش الصفحات. كما وضعنا بالهوامش بعض التعليقات التى وجدناها ضرورية، وشروحاً للمفردات والاصطلاحات الواردة فى النص المحقَّق. وقد رجعنا فى شرح المفردات والمصطلحات، إلى كثير من المصادر والمراجع بعضها فى اللغة، وبعضها الآخر فى الطب والصيدلة. وقد ذكرنا هذه المصادر والمراجع فى مواضعها، ونكتفى هنا بالإشارة إلى أهمها، مما كثر رجوعنا إليه: * لسان العرب، لابن منظور. * الحاوى فى الطب، للرازى. * القانون فى الطب، لابن سينا. * الجامع لمفردات الأغذية والأدوية، لابن البيطار. * تفسير كتاب دياسقوريدس، لابن البيطار. * المعتمد فى الأدوية المفردة، للملك المظفر. * تذكرة أولى الألباب، لداود الأنطاكى. * معجم الألفاظ الفارسية المعربة، للسيد أدى شير.
ملاحظات التحقيق
ملاَحَظَاتُ التَّحْقِيقِ ظهرت لنا أثناء تحقيق النص، بعض الملاحظات التى تجدر الإشارة إليها قبل الخوض فى بحار الشامل.. وهو ما يمكن إجماله فى الآتى: أولاً: تمثل الكتب الثمانية والعشرين المخصَّصة للأغذية والأدوية المفردة أضخم عمل صيدلانى فى تاريخ الإسلام والحضارات القديمة. فهى تفوق من حيث استيفائها الكلام على كل غذاءٍ ودواء، كافة الكتابات السابقة على العلاء فى هذا الموضوع؛ بما فى ذلك الأعمال المشهورة، مثل: كتاب الحشائش لديسقوريدس، كتاب الجامع لابن البيطار، وهما أهم مرجعين فى الصيدلة قبل العلاء.. كما تفوق: المعتمد للملك المظفر التذكرة لداود الأنطاكى، وهما أهم مرجعين كُتبا بعد العلاء. ناهيك عن التفوق الكمى والنوعى للكتب الثمانية والعشرين، على الفصول التى خصَّصها الرازى وابن سينا للأغذية والأدوية، فى كتابيهما: الحاوى، القانون. ثانياً: انطلق العلاءُ (ابن النفيس) فى تناوله التفصيلى للأغذية والأدوية، من النظريات التى انطلقت منها بحوثه وكتاباته الطبية الأخرى، كنظرية الطبائع والأُستقصات، والعلاج بالضد، والقوة الشافية الكامنة فى الجسم، وحركة الدم بالطاقة - أو: الأرواح - داخل الشرايين والأوردة. كما انطلق العلاءُ من قاعدةٍ منهجية مفادها أن الطبيب يهتم من النباتات بأفعالها فى بدن الإنسان، لا بخواصها من حيث هى نباتات - فهذا عملُ الطبيعيين - وهو ما كان أبو بكر الرازى قد حدَّده بوضوح فى الحاوى حين قال تحت عنوان (كتاب صيدلة الطب) ما نصُّه:
المعرفةُ بالأدوية، وتمييزُ جيدها ورديئها (1) ، وخالصها ومغشوشها؛ وإن كان ليس بلازمٍ للطبيب ضرورة - كما يحسبه جُهَّالُ الناس - فهو أحرى وأزين به (2) .. ولايجوز أن يسمَّى أعرف الناس بأنواع الأدوية وأشكالها وألوانها وخالصها: طبيباً، بل إنما يسمى الطبيب، مَنْ عرف أفاعيل هذه فى أبدان الناس.. لأن للأدوية أفاعيل باطنة، وهى التى تسمَّى الخواص، لا يبلغ الطبيب استخراجها (3) . وعلى هذا النهج سار العلاءُ، وأشار إليه غير مرة بعباراتٍ مثل قوله فى الفصل الثانى من المقالة الثانية والعشرين من كتاب الهمزة عند تناوله لطبيعة الأسل: ولما فى هذا النبات من الهوائية، فإنها وإن كانت فى نفسها بالغة الرطوبة، إلا أن هذه الرطوبة لا مدخل لها فى التأثير فى بدن الإنسان. وكلامنا ها هنا فى أمزجة الأدوية، إنما هو باعتبار فعلها فى بدن الإنسان. وهو ما أكّده في الفصل الثاني من المقالة التالية - الثالثة والعشرين - بقوله أثناء في طبيعة الآس: إن كلامنا ها هنا في أمزجة الأدوية، إنما هو في أمزجتها المعتبرة، بحسب فعلها في بدن الإنسان، لا التي هي في
أنفسها والهوائية التى فى الآس، وإن كانت تفيد الآس نفسه رطوبةً فإنها ليست بعللٍ تثبته لبدن الإنسان. ويستفاد مما سبق، أن العلاءَ (ابن النفيس) مع أنه وضع أوسع موسوعة صيدلانية بكتبه الثمانية والعشرين، إلا أنه لم يقصد الصيدلة بذاتها، وإنما كان يستكمل كافة التخصُّصات الداخلة فى الصناعة الطبية.. ليكون كتابه شاملاً. ثالثاً: مع ضخامة الموسوعة التى نحن بصدد الدخول إلى نصها المحقَّق وبلوغ صفحاتها المئات،بل الألوف؛ إلا أن مؤلِّفها ظل دوماً حيوىَّ الأسلوب.. دافقه.. ولم يغب عن باله القارئ! ولذا، فهو لايفتأ يتوجَّه لقارئه بالخطاب بعبارات مثل: إنك قد علمت.. وستعرف كيفية ذلك كله، فيما بعد.. على ما تعرفه فى موضعه.. إلخ. ومع تدفُّق قلم العلاء، إلا أنه كان حريصاً كل الحرص على الوضوح والإبانة، واستعمال الألفاظ السهلة، والعبارات المنسابة، والخروج من المزالق التى لاطائل تحتها، متخلِّصاً منها بعبارات مثل: ولستُ بالذى يخوض فى ذلك.. ولا مشاحة فى الألفاظ.. ومن أراد تحقيق هذا الأمر فعليه بالمراجعة.. ولانريد التطويل.. إلخ. غير أن اندفاق عبارات العلاء، وكون كتابته غير منقوطة فى أغلب المواضع - وقد كان يكتب بيده - جعل النُّسَّاخ من بعده يخطئون فى رسم الكلمات وفى كتابه الضمائر والمفردات. وقد اجتهدنا فى تصويب تلك الأخطاء، عند التحقيق. رابعاً: كان الشامل مرجعاً لكثير من الأطباء الذين جاءوا بعد العلاء، وقد أشار إليه واقتبس منه كثيرون، مثل الملك المظفر فى كتابه: المعتمد والقوصونى
فى قاموس الأطباء. وداود فى التذكرة. والعبدلى فى رسالته: فيما ورد فى الثلج والجمد والبرد. ومع ذلك، فالشامل لم يلق ما يستحقه من عنايةٍ فى العصور اللاحقة على عصر مؤلِّفه. فلم يتوسَّع فى مباحثه الأطباءُ والصيادلة، ولم يعكف عليه واحدٌ منهم بالشرح والتحشية، ولم يحظ بجهود النُّسَّاخ. ومن هنا، خفت صوت الشامل فى القرون السبعة الماضية، وقلَّت نسخُهُ الخطية وندرت. ولاشك فى أن ضخامة الشامل كانت السببُ وراء ذلك الإحجام عن التوسع والشرح والنَّسْخ. خامساً: لاتزال بعض الطرق العلاجية التى وصفها العلاءُ فى موسوعته مستعملةً فى نواحٍ من بلادنا.. فمن ذلك - على سبيل المثال - الطريقة (الصعبة) لعلاج البهق، بآطريلال! كما سنرى فى المقالة الأولى من هذا الجزء الذى بين أيدينا. وقد رأيتهم يستعملون هذه الطريقة، بأطراف صعيد مصر. أخيراً: التزم العلاءُ التزاماً صارماً، بالمنهج الذى حدَّده فى مقدمة الجزء الثانى من الفن الثالث، وسار فى الكتب الثمانية والعشرين - التى نحن بصدد الدخول إليها - على النهج الذى رسمه، بدقةٍ متناهية. .. تلك هى بعضُ النقاط التى لاحظناها أو لفتت أنظارنا، فى بعضِ المواضع من الجزء (الأول) الذى بين أيدينا، وهو بعضُ كتاب الشامل فى الصناعة الطبية. وما من شكٍ فى أن أجزاء الكتاب، كاملةً، بحاجةٍ إلى عكوفٍ طويل يتجاوز تلك الملاحظات السريعة، إلى التفحُّص الهادئ.. والدرس المنهجى.. والمقارنة.. والمقاربة.. والمصاحبة.. والعكوف، من قبل الدارسين والمشتغلين بالطب وتاريخه.
النماذج والرموز
الَّنمَاذِجُ والرُّمُوُز على الصفحات التالية، نماذج من مخطوطات الشامل التى اعتمدنا عليها فى التحقيق، والتى بحثنا من خلالها إشكال (الشامل للشيرازى) تليها قائمة بالرموز والاختصارات المستعملة فى هوامش التحقيق. وبعد.. فإن كان من أهل الزمان، مَنْ يتوجَّب علىَّ إهداء جهدى المتواضع فى تحقيق ونشر هذه الموسوعة؛ فإننى أهديه إلى هؤلاء الأحبة: * صاحبة الرفقة الطويلة، عبر السنوات الماضية / الحافلة؛ زوجتى: هناء عامر. * صاحب ذِكْراى الآتية، بعد سنوات أرجو أن تتم لى خير فى هذه الدنيا؛ ابنى: علاء. * صاحبى على درب الانشغال بالثقافة والمعرفة الذى أتاح للشامل أن يرى النور، صديقى الشاعر: محمد السويدى. يوسف زيدان الإسكندرية فى صفر 1420هـ. الموافق شهر مايو 1999
الشامل في الصناعة الطبية نسخة الظاهرية هـ (أول المخطوطة)
الشامل في الصناعة الطلبية نسخة الظاهرية هـ (آخر المقالة الخامسة والعشرين)
الشامل في الصناعة الطبية نسخة بودليان ن (أول المخطوطة)
الشامل في الصناعة الطبية نسخة بودليان ن (أول المقالة الأولى)
الشامل في الصناعة الطبية نسخة بودليان ن (آخر المقالة الخامسمة والعشرين)
الشامل للشيرازي مخطوطة دار الكتب المصرية (الغلاف)
الشامل للشيرازي مخطوطة دار الكتب المصرية (الورقة الأولى)
الشامل للشيرازي مخطوطة دار الكتب المصرية (الورقة الأخيرة)
الشامل للشيرازي مخطوطة أحمد الثالث (الورقة الأولى)
الشامل للشيرازي مخطوطة أحمد الثالث (الورقة الأخيرة)
رموز التحقيق
رموز التحقيق هـ مخطوطة الظاهرية رقم 8547. ن مخطوطة بودليان رقم 290 / بوكوك. :. اتفاق النسختين على خطأ. هامش المخطوطة.
الشَّامِلُ في الصِّنَاعةِ الطِّبِّيَّةِ النَّنصُّ المحقَّقُ
الشَّامِلُ فى الصِّنَاعَةِ الطِّبِّيَّةِ النَّصُّ المحقَّقُ
المقدمة
المُقَدِّمَةُ (1) الجزءُ الثانى من الفَنِّ الثالث من الكتاب الشَّامل فى الصناعة الطبية. وقصدُنا فيه أن نتكلم فى أحكام الأدوية المفردة كلاماً مفصَّلاً بحسب دواءٍ دواء سواءٌ كان ذلك الدواء دواءً مطلقاً أو دواءً غذائياً أو دواء سُمِّياً أو سُمّاً على الإطلاق. حتى يكون كلامنا ها هنا، شاملاً لجميع الأجسام التى يصدق عليها أنها أدوية. وقد جرت عادةُ مَنْ سبقنا بالكلام فى هذا الفن، ببسط (2) الكتب بأمرين. أحدهما: كثرة أعداد الأدوية، حتى يستقصوا جميع ما وصل إلى معرفتهم من هذه الأدوية، ولو باسمه فقط. وربما ترادفت أسماءٌ، وكان الدواء (3) فى ذاته واحداً فكثَّروه لأجل تكُّثر أسمائه (4) ، ظانِّين أن مسمَّيات تلك الأسماء متغايرة! وربما حكم بعضهم على ذلك بأحكامٍ مختلفة، وكان المحكوم عليه فى نفس الأمر واحداً. وثانيهما: تكثُّر أسماء القائلين فى كل دواء، إن كانت تلك الأقوال متوافقة وكثيراً ممن يُظنُّ فيه - منهم - زيادةُ العلم، يزيد على ذلك، الكتبَ المشتملة على تلك الأقوال، وكذلك أسماء المقالات فى تلك الكتب، ظانِّين أن العلم الكامل ليس إلا هذا! ومع ذلك، فإنهم يحتجُّون على جميع مطالبهم، بأن هذا: قاله فلان. فإن أكَّدوا هذه قالوا: فى كتاب كذا فى المقالة الفلانية. ونحن نرجو
من الله تعالى، أن تكون طريقتنا مخالفة لهذه الطريقةً، وأن يكون كلامنا فى هذا الفن، شبيهاً بكلامنا السالف (1) ، وعلى الوجه العملى المحقَّق. وقد رأينا أن نقتصر على الأدوية المشهورة فقط، فلا نطوِّل كتابنا هذا بذكر ما لا يوجد، وما لا (2) يعرفه الجمهورُ والأطباءُ من الأدوية، فإن العمر يقصر عن ذلك. وما كان من الأدوية المشهورة، وقد تحقَّقنا معرفته، تكلَّمنا فيه على الوجه الذى نرى أنه لائقٌ بالكلام العملىِّ فنحقِّق الكلام فى ماهيَّته وأفعاله على الإطلاق، وفى كُلِّ عضوٍ عضو. كل ذلك ببِّيناتٍ مهذَّبة وحُجَجٍ محقَّقة. وما كان من آراء الذين يُعتدُّ بأرائهم فى هذا الفن، نرى أنه مخالفٌ للحق، بيَّنا وجه غلطه، وبرهنَّا على بطلانه. متوكِّلين فى ذلك كله، على التوفيق من الله تعالى. وما كان من الأدوية المشهورة لم تتحقَّق عندنا معرفته، رأينا أن لانوليه الإهمال؛ فيكون كتابنا هذا ناقصاً عن الكمال، وقاصراً على المشهور. فلذلك رأينا أن نتكلَّم فى ذلك، على نمط كلام الأولين، فنذكر ما قيل فى أحكامه شرحاً، فمن شاء تحقيق شئ من ذلك، فعليه بالفحص عنه. ونسأل الله العصمة والتوفيق. وقد رأينا أن نجعل لكل دواءٍ تحقَّقناه، مقالةً على حدة. وأن نرتِّب كل مقالةٍ على فصول، مشتملة على فنون أحكام ذلك الدواء. فيكون كلامنا فى: ماهيته وجوهره والمختار منه كل ذلك فى فصلٍ واحد. والكلام فى أفعاله فى أعضاء الصدر فى فصلٍ واحد. والكلام فى أفعاله فى أعضاء الغذاء فى فصلٍ
واحد. والكلام فى أفعاله فى أعضاء التعفُّن (1) فى فصلٍ واحد. والكلام فى الأحوال التى لا اختصاص لها بعضوٍ عضو (2) فى فصلٍ واحد. والكلام فى أحوال ذلك الدواء فى الترياقية والسُّمِّيَّة ونحو ذلك، وفى بدله وشئٍ من خواصه (3) فى فصلٍ واحد. فلذلك، قد تشتمل بعض المقالات على ثمانية فصول، وربما اشتمل بعضها على سبعة أو أقل من ذلك؛ وذلك بحسب ما تحقَّقناه من أحكام كل دواء. وربما جمعنا كثيراً من فنون هذه الأحكام، فى فصلٍ واحد، لقِصَرِ الكلام فى تلك الفنون، فلذلك قد يُجعل بعض (4) المقالات فى فصلين فقط، وربما جمعنا أحكام بعض الأدوية، كلها فى فصلٍ واحد. وقد جمعنا جميع المقالات التى مُبتدأ أسماءُ أدويتها بحرفٍ معيَّن، كالهمزة (5) مثلاً والباء، فى كتابٍ على حدة. فلذلك تعدَّدت هذه الكتب، بعدد الحروف التى تبتدئ بها أسماء الأدوية. وكانت هذه الكتب ثمانية وعشرين كتاباً بعدد الحروف. بذلك يكون الكتاب الأول فى الأدوية التى أول أسمائها حرف الهمزة. والكتاب الثانى فى الأدوية التى أول أسمائها حرف التاء (6) . والكتاب الثالث فى
الأدوية التى أول أسمائها حرف الثاء.. وعلى هذا الترتيب، إلى آخر الحروف. ثم جعلنا لكل كتابٍ خاتمةً، نذكر فيها أحكام الأدوية المشهورة، التى لم نتحقَّق معرفتها على الوجه العلمى، من الأدوية التى أول أسمائها، الحرفُ الذى لذلك الكتاب.
***** الكتاب الأول: فى الأدوية المفردة التى أول اسمائها الهمزة *****
الكتاب الأول: فى الأدوية المفردة التى أول اسمائها الهَمْزَة وهذا الكتاب يشتمل على خمسين مقالةٍ وخاتمة
المقالة الأولى فى أحكام الدواء المسمى آطريلال
المقالة الأولى فىِ أَحْكَامِ الدَّوَاءِ المُسَمَّى آطِريلال وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على خمسة فصول.
الفصل الأول في ماهية آطريلال
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ آطِرِيلالِ قد قيل إن آطِرِيلال اسمٌ بربرى، وتأويله: رِجْلُ الطير ويُعرف بمصر برجل الغراب. وليس هو ذلك الدواء المسمَّى برجل الغراب، المضمون عنه أنه يفعل فعل السُّورنْجَان (1) فى الإسهال والنفع من أوجاع المفاصل، مع السلامة عن مضرَّة السورنجان بالمعدة (2) . وأظن - والله أعلم - أن هذا النبات إنما سُمِّىَ بذلك لأن ورقه يُشبه أرجل الطير. وقد يُسَمَّى بجَزَرِ الشيطان، وكان ذلك لمشابهة ورقه لورق الجزر. وهو نباتٌ شديدُ الشَّبَهِ بالشَّبَتِ (3) ، فى أصوله وساقه وجُمَّته (4) . ويفترقان ظاهراً، بأن زَهْرَ جُمَّة الشبت أصفرٌ، وزَهْرَ جُمَّة هذا أبيضٌ. وبِزره كبِزر
الأَخِلَّة (1) لكن أطول منه قليلاً، وأصغر من بزر المقدونس وهو المستعمل من هذا النبات، وفى طعمه حرارةٌ وحِدَّةٌ ولذع (2) وحرافة (3) . وقد علمت أن جميع البزور، فإنها لا تخلو (4) من رطوبةٍ فضلية (5) ؛ فلذلك لابد وأن يكون فى هذه البزور (6) رطوبةٌ فضلية. لكن هذه الرطوبة قليلةٌ جداً فى هذا البزر، وإلا كان سميناً منفِّخاً، ولكان يفسد سريعاً. وأجوده، ما كان إلى زرانةٍ وامتلاءٍ وسمن، وقد أُخذ بعد كمال، وبعد تحلُّل المائية منه، لأن رزانته وامتلاءه (7) ، إنما يكونان لكثرة مادته. وما تمَّ نضجُهُ قلَّت فضولُهُ، وكانت أفعاله تامةٌ.
الفصل الثاني في طبع أطريلال وأفعاله مطلقا
الفصل الثاني في طَبْعِ أطِرِيلالِ وأَفْعَالِهِ مُطْلَقاً إن هذا البزر، لما كان جوهره مركَّباً من أرضيةٍ حارَّة ونارية، وكلاهما حارٌّ يابسٌ؛ فطبع هذا البزر - لاشك - أنه حارٌّ يابس. ولابد وأن يكون لطيفاً لأن أرضيته لطيفةٌ (1) بسبب الحرارة، ولأنه لو لم يكن لطيفاً، لما كان يحذُّ (2) اللسان، ولما كان حادّاً. فلذلك، لابد وأن يكون هذا البزر لطيفاً. فلذلك، يسهل انقسامه فى أبداننا إلى أجزاءٍ صغار؛ وما كان من الأشياء الحارة كذلك (3) ، فهو لامحالة سريع النفوذ. فلذلك، لابد وأن يكون هذا الدواء نَفَّاذاً؛ ولو لم يكن كذلك، لما كان طعمه حادّاً (4) ، يحذُّ اللسان إذا لاقاه. وقد علمت (5) أن الحرافة يلزمها التحليلُ والتقطيعُ والتعفين، وأن المرارة يلزمها الجلاء والتجفيف. فلذلك، لابد وأن يكون هذا الدواء محلِّلا، مقطِّعاً جلاَّءً، مجفِّفاً. وما كان كذلك، فهو لامحالة مفتِّحٌ، ولابدَّ أن يكون تفتيحه شديداً، لأجل اجتماع الحرافة فيه مع المرارة والحرارة.
الفصل الثالث في فعل آطلايلال في أعضاء الغذاء
الفصل الثالث في فِعْلِ آطِلاِيلالِ في أَعْضَاءِ الغِذَاءِ إن هذا الدواء، لما كان حارّاً، يابساً، حادّاً، حريفاً، مُرّاً. وجب أن لايكون فيه غذائيةٌ يعتدُّ بها (1) . وكيف لا، والمرارةُ مع الحدة، منافيةٌ لطبيعة الحيوان، فكيف الاستحالة إلى جواهر أعضائه (2) . فلذلك، لابد وأن يكون هذا الدواء قريباً من (3) أن يكون دواءً صِرْفاً. ولايبعد أن يكون هذا الدواء نافعاً للطحال لأجل قوة تفتيحه وجلائه (4) وتحليله. ولذلك ينبغى أن يكون ضارّاً بالمعدة، لأجل حدته؛ وإذا خُلط بما فيه قَبْضٌ وتقوية، فلا يبعد أن يصير حينئذٍ نافعاً للأحشاء، كالمعدة والكبد. ويجب أن يكون مفشِّياً للرياح، وذلك لما فيه من الحرارة والتحليل والتلطيف؛ فلذلك هو مسكِّنٌ للمغص، لأجل تحليله الرياح الممغِّصة.
الفصل الرابع في فعل آطريلال في أعضاء النفض
الفصل الرابع فيِ فِعْلِ آطِرِيلالِ في أَعْضَاءِ النَّفْضِ (1) إن هذا الدواء، لما كان مُرّاً لطيفاً حريفاً حادّاً، وما كان كذلك فهو لامحالة: جلاَّءٌ، ملطِّفٌ، مقطِّعٌ. ومع ذلك، فهو لطيفُ الجوهر - لما قلناه أولاً - وهو إذن (2) : ملطِّفٌ. فلذلك، يجب أن يكون هذا الدواء قوىُّ التفتيح وكذلك (3) - لامحالة - يكون مدرِّاً للبول. ولأنه يحدُّ مزاج الدم، ويُطلقه ويحرِّكه فهو لامحالة، مدرٌّ للحيض أيضاً. وإذ (4) هو مُرٌّ جداً (5) ، فهو منافٍ لطبيعة الحيوان، خاصةً المتكوِّن من مادةٍ ومِدَّةٍ بلغمية - كالدود - فلذلك، هذا الدواء من شأنه أن يقتل الدود. ولذلك هو إذن: يقتل الجنين، فإذا كان - كذلك - مدرٌّ (6) للحيض، فهو لا محالة من
الأدوية المسقطة للأجِنَّة. أما الإسهالُ، فالظاهرُ أن هذا الدواء ليس بمسهلٍ، لأنه مع إدراره، يحرِّك المواد إلى ظاهر البدن - على ما تعلمه بعدُ - وذلك مما ينافى الإسهال. فلذلك ينبغى أن يكون هذا الدواء: غير مسهل. وينبغى أن يكون مفتِّتاً للحصاة، لأنه مع مرارته، وحرافته (1) ، وحِدَّته: لطيفٌ، مقطِّعٌ، نَفَّاذٌ. فلذلك، ينبغى أن يكون من الأدوية الحصويَّة.
الفصل الخامس في أفعال آطريلال في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل الخامس في أَفْعَالِ آطِرِيلالِ في الأَمْرَاضِ الَّتي لا اختِصَاصَ لها بعُضْوٍ عُضْو إنَّ هذا الدواء، لأجل تفتيحه وجلائه (1) ، ينبغى أن يكون من أدوية اليرقان (2) . ولم نجد للأوَّلين كلاماً (3) فى هذا الدواء، وإنما تكلَّم فيه المتأخِّرون ولم يُعرف بالبلاد المشرقية إلا فى زماننا، وهو إلى الآن لم يُعرف - بعدُ (4) - فى البلاد البعيدة عن بلاد مصر بُعداً كثيراً. وأوَّل تعرُّفه، إنما كان لأجل نفعه من البَرَصِ (5) وذلك لأن طائفة من البربر كانوا يشفون به البَرَصَ ويخفونه عن الناس ولا يعرفه غيرهم. ثم عُرف بعد ذلك، واشتهر؛ وذلك لأن فعله فى البَرَصِ عجيبٌ، لأنه إذا تناوله المبروص، وكشف مواضع البَرَصِ للشمس، نفطت (6)
تلك وتقرَّحت، من دون سائر جسده. ثم بعد ذلك، ينبت بدل تلك المواضع لحمٌ صحيحٌ، وجلدُ حَسَنٌ (1) . فإن كان ذلك البَرَصُ حديثاً غير مستحكم، فربما كفى صاحبه أن يفعل ذلك مرةً واحدة. وربما لم يكفه (2) ، بل بعد نبات ذلك اللحم، يعاوده البَرَصُ ثانياً، ويكون أضعف من الأول؛ ثم إذا عاود تناول هذا الدواء، وتقرَّح مرةً أخرى؛ استمر لحمُهُ على الصحة، وذلك هو النابت بعد التقرُّح الثانى. وربما لم يكف ذلك، وأُحوج إلى مرةٍ ثالثةٍ، ورابعة، وذلك إذا كان البرص قوياً. وربما لم ينجح هذا الدواء البتة، بل كلما سقط موضع البَرَصَ ثم عاد لحمٌ صحيح، عاد (3) البَرَصُ بعد مُدة؛ وذلك إذا كان البَرَصُ قد استحكم وقوى. وربما كان هذا التدبير (4) - حينئذٍ - مُزيداً فى البَرَصِ وذلك لأجل زيادة ضعف مواضعه وما يقرب منها، بتكرير التقرُّح. فهذا ما جُرِّبَ فى أمر هذا الدواء فى البرص. ونقول: إن فعل آطِرِيلال هذا، سببه أن هذا الدواء مع حِدَّته وحرارته وتعفُّنه، هو شديدُ اللطافة، قوىُّ النفوذ - وقد بيَّنا ذلك فيما (5) سلف - وإذا تناوله الإنسانُ، نفذ بسرعةٍ وقوةٍ إلى ظاهر بدنه، فما كان من ظاهر بدنه سليماً، تحلَّل منه وخرج سريعاً، فلم يكن له هنا أثرٌ من تقرُّحٍ ونحوه؛ ولو بقى فى موضعٍ ما من المواضع السليمة مدةً
لأجل غلظ الجلد هناك - ونحو ذلك - لم يلزم، أيضاً، أن يحدث فيه تقرُّحاً ونحوه، لأنه لا يجد هناك رطوبةً يفسدها (1) حتى تصير مقرَّحةً. وما كان من ظاهر البدن مبروصاً، فإن مسام ذلك الموضع تكون مفسدةٌ، بما فيها من البلغم فلذلك لا يتمكَّن هذا الدواء من النفوذ فى تلك المسام إلى خارج، سريعاً؛ بل يبقى هناك مُدة، ويصادف (2) الرطوبات البلغمية هناك، كثيرةً، ويعفِّنها ويحدِّها فتصير مقرَّحةً، فيحدث لذلك تقرُّح تلك المواضع فقط، لا (3) أن نفوذه (4) إنما كان إلى تلك المواضع فقط، بل لأنه إنما احتبس ووجد رطوبةً تستعدُّ (5) للحرارة والفساد هناك فقط. فلذلك، صار تأثيره هذا التأثير، إنما هو فى المواضع المبروصة (6) فقط. وإذا تقرَّحت تلك المواضع، وزال ما فيها من الجلد الفاسد، ومن البلغم، ونبت بعد ذلك جلدٌ جديدٌ، كان ذلك الجلد خالياً من (7) البلغم، ولذلك يكون صحيحاً. وإنما يعرض له بعد ذلك البَرَصُ - إن عرض - لأجل حصول بلغمٍ آخر فيه يفعل البَرَصُ. وذلك إذا كان البلغم فى ذلك البدن، قد صار من شأنه الاندفاع إلى ذلك الموضع؛ وذلك إذا كان البَرَصُ قد استحكم، لأنه إنما يستحكم إذا كان البلغم يندفع إليه كثيراً، وذلك بأن يصير للطبيعة عادة، تدفع فضول البلغم إلى هناك.
فهذا، بيانُ كيفية فعل هذا الدواء فى البَرَصِ. ونقول (1) : وإذا كان الأمر كما قلناه، فينبغى إذا أُريد العلاج بهذا الدواء، قصد أمرين. أحدهما: أن يكون البدنُ شديدَ النقاء جداً من البلغم، وذلك بأن يُبالغ فى استفراغ البدن منه لأنه إذا لم يكن كذلك، فقد يكون تناول هذا الدواء سبباً للزيادة فى البرص. وذلك إما لتكرار معاودته - كما قلناه - لأجل وجود البلغم الفضلى فى البدن واندفاعه (2) إلى الجلد الحادث، قبل استحكام قوته - كما ذكرناه - أو لأجل انجذاب قسط من البلغم إلى موضع البَرَصِ لأجل تسخُّنه بحرارة هذا الدواء. وثانيهما (3) : أن يُعان (4) هذا الدواء على إحراق البلغم الذى يكون فى موضع البرص، وإفساده، حتى يكون مُقرِّحاً مُسقطاً للجلد المبروص. وهذه الإعانة إنما تكون بتقوية حرارته على ذلك، وذلك يكون بأمرين. أحدهما: أن يخلط معه ما يزيد فى حرارته، وذلك كما يخلط معه العاقِرُقَرْحا (5) ونحوه. وثانيهما: أن يسخِّن موضع البرص، فتصير فيه سخونةٌ تُعين حرارة هذا الدواء على إفسادها فى ذلك الموضع من البلغم. وهذا التسخين، يتم بكشف الموضع للشمس الحارَّة، ونحو ذلك.
وإذا فُعل الأمران (1) ، كلاهما (2) ، فلا شك أن فعل هذا الدواء يكون (3) أتم. فلذلك، يؤمر متناول هذا الدواء بكشف (4) مواضع البَرَصِ للشمس الحارة لتصيبه فتسخَّنه، ولا أقل من أن يكون ذلك بقدر ساعة أو أكثر قليلاً، وذلك بحسب قوة الشمس وضعفها؛ وأن يخلط مع هذا الدواء ما يقوى حرارته. ثم إن المعالجين بهذا الدواء، وقع بينهم الاختلاف فى الدواء الذى يخلطونه به (5) ؛ فبعضهم كان يخلط مع هذا الدواء مثل ربعه عاقِرقَرْحا وبعضهم كان يخلط مثل ثلثه سَلْخ الحية (6) ومثل ثلثه ورق السِّذَاب (7) فيكوِّن من هذين جزءٌ، ومن آطِرِيلالِ جزءٌ ونصف، يسحق كلٌّ على حدة، ويخلط الجميع. يستفُّ منه كل يوم، وزن ثلاثة دراهم، ويُردف قليلَ شرابٍ عتيق. يُفعل ذلك خمسة أيام. وبعضهم يسحق هذا الدواء، ويعجنه بالعسل، ويشرب منه كل يوم وزن مثالين بماءٍ حارٍّ. يُفعل ذلك خمسة عشر يوماً. والأجودُ عندى أن يكون ما يُسقى من هذا الدواء فى أول الأمر، بقدرٍ يسير؛ وذلك بقدر نصف درهم، ثم يزاد قليلاً قليلاً. لأن استعمال الكثير، بغتةً
مما يملأُ البدن، أو يستفرِغُ، أو يسخِّنُ، أو يبرِّدُ، أو يحرِّك بنوعٍ آخر (1) من الحركة، أىَّ نوعٍ كان خطر. وكل ما (2) كان كثيراً، فهو مقاومٌ (3) للطبيعة مفسدٌ لها. وأما ما يكون قليلاً قليلاً، فمأمونٌ متى أردت انتقالاً من شئ إلى غيره، ومتى أردت غير ذلك. وينبغى أن يكون استعماله، بالعسل أو بالشراب؛ لأن كل واحدٍ من هذين، فإنه يسرع نفوذه إلى ظاهر البدن. أما العسل فلأجل (4) محبة الأعضاء له - لحلاوته - فتجذبه بسرعة، وينجذب معه ما يكون مخالطاً (5) له من الدواء. وأما الشراب فلأجل شدة نفوذه؛ ولذلك، كان شارب الخمر يحمرُّ بسرعة، لأجل سرعة نفوذ الخمر إلى ظاهر البدن. ونقول: إن من الناس مَنْ يحدث له تقرُّح موضع البَرَصِ عند تناول هذا الدواء مرةً واحدة. وبعضهم إنما يحدث له ذلك، إذا تكرَّر تناوله له مرات كثيرة وبعضهم يحدث له ذلك بتناوله مرتين؛ وذلك بحسب لين الجلد وكثافته، ونحو ذلك. وإذا كان البَرَصُ فى مواضع لحميَّة، كان حدوث التقرُّح عن هذا الدواء أسرع مما إذا كان الموضع قليل اللحم. وذلك لأن الموضع اللحمىِّ، يحتبس فيه هذا الدواء مُدَّة أكثر، فيكون فعله فيه أشدُّ وأوفر، ولا كذلك الموضع المعرَّى (6) من اللحم.
المقالة الثانية فى أحكام الإبريسم
المقالة الثانية فىِ أَحْكَامِ الإِبْريسَم وهو الحريرُ. وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على خمسة فصول.
الفصل الأول في ماهيية الإبريسم، وهو الحرير
الفصل الأول في مِاهيِيَّةِ الإِبْرِيسَمِ، وَهُوَ الحرِيرُ (1) إنَّ جوهر الحرير شديدُ اللين، شديدُ القبول للانثناء والانعطاف؛ وهو مع كل حالٍ، عسرُ الانقطاع. فلذلك، جوهره جوهرٌ لدنٌ شديد اللدونة. كان كذلك، فهو لا محالة مركَّبٌ من جوهرٍ مائىٍّ، ومن جوهرٍ أرضىٍّ؛ والامتزاج بينهما شديد الاستحكام، كما بيَّنَّاه فيما سَلَفَ. ولابد فى الإبرسيم من جوهرٍ هوائى، وإلا لم يكن خفيفاً؛ ولابد من جوهرٍ نارىٍّ، وإلا لم يكن فيه إشراقٌ وبريقٌ. فلذلك، لابد أن يكون جوهر الإبريسم مركباً من مائيةٍ، وأرضيةٍ، وهوائيةٍ، ونارية (2) . وأرضيته (3) قليلة جداً ولذلك هو شديد اللين، فإن زيادة الأرضية يلزمها الصلابة أو الهشاشة، ونحوها؛ وذلك مما لا تجده (4) فى جوهر الإبريسم. وأفضله، ما كان أنقى جوهراً؛ لأن طبيعة هذا الصنف - لامحالة - أخلص فيكون الفضل (5) لها. فأفضل ذلك: ما كان مع ذلك شديد النعومة، لأن ما يكون كذلك فإن مادته تكون متشابهةً، فلا يكون فيها أجزاءٌ أرطب فتكون
شديدة (1) اللين، وأجزاءٌ أصلب، فتكون عسرة الامتداد، فتبقى (2) جتمعة فى مواضع، فيصير الحريرُ (3) لذلك، حسناً.
الفصل الثاني في طبيعته وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبِيعَتِهِ وأَفْعَاِله علَى الإِطْلاَقِ لما كان الحريرُ مركَّباً من أجزاءٍ مائية، وأجزاءٍ أرضية، وأجزاءٍ هوائية وأجزاءٍ نارية؛ وجب أن يكون مزاجه قريباً جداً من الاعتدال، لأن أجزاءه هذه تتقاوم، فلا تستولى طبيعةٌ منها استيلاءً تاماً (1) قوياً. ولولا ذلك، لكان يظهر فيه الطعمُ اللازم لغلبة واحدٍ من هذه الأجزاء كالعفوصة والمرارة اللازمتين للأرضية، والحرافة والحدة اللازمتين لغلبة النارية. ومع ذلك، فيجب أن يكون الإبريسم مع قربه من الاعتدال، مائلاً إلى الحرارة واليبوسة. أما الميل إلى الحرارة، فلأمرين. أحدهما: أن (2) ما يلزم الحرارة من الكيفيات، فإنه فيه أظهر، وذلك كالإشراق والبريق (3) ؛ فإن البرودة تنافى ذلك ويلزمها الكمودة ونحوها. وثانيهما: أن خِلْقة الحرير، إنما هى لتكون تدفيئاً لدود القزِّ، وما يُخلق للإدفاء (4) ، فلابد وأن يكون مائلاً إلى الحرارة. وأما الميلُ إلى اليبوسة. ونعنى (5) بذلك، أنه كذلك باعتبار تأثيره فى بدن
الإنسان؛ فيدل على يبوسته، أن ما فيه (1) من الهوائية، ليست تفيد فى ترطيب البدن. فأما الرطوبة الهوائية - وهى بمعنى سهولة الانفعال - وذلك مما يلزمه أن يكون مرطِّباً للبدن، فلذلك إنما يكون ترطيبه بالمائية فقط، وذلك مما يزيد على يُبْس الأرضية والنارية. فلذلك، لابد وأن يكون الإبريسم، يؤثِّر فى بدن الإنسان بيبوسته فيكون لامحالة يابساً. وجوهره - لامحالة - لطيفٌ، وذلك لأجل قلَّة أرضيته، لما قلناه. وما كان كذلك، فإن نفوذه يكون أسرع وأسهل. وما كان كذلك، فإن تأثيره فى المواضع البعيدة يكون (2) أكثر. فلذلك، تسخينُ الحرير ويُبْسه - وإن كانا (3) ى نفسهما قليلين - فإنهما لأجل لطافة جوهر الحرير، قد يكون تأثيرهما شديداً. وقد علمت أن من شأن الحرارة التحليل، ومن شأنه اليبوسة التجفيف. وإذا كان المجفِّف محلِّلا، كان تجفيفه شديداً؛ فكذلك يكون تجفيف الإبريسم له قوةٌ ظاهرة (4) ، فلذلك هو مُنَقٍّ، وفيه تقطيع لأجل لطافته ونفوذه؛ فلذلك يسهل نفوذه بين أجزاء المادة فيفرِّقها إلى أجزاء، فلذلك هو مقطِّع. وقد يُستعمل الحريرُ كما هو، وقد يستعمل مُحْرَقاً. فإذا كان محرقاً، فإنه لا محالة أشد تجفيفاً، ويكون له حِدَّةٌ ولذع، وذلك مما تحدثه (5) فيه النارية المحرقة. فلذلك، يكون لذَّاعاً إذا لم يُغسل، وإذا غُسل فارقته الحرارة المستفادة
بالإحراق، ويلزم ذلك أن تفارقه الحِدَّةُ واللذع (1) . وأما تجفيفه، فلا يلزم أن يقل كثيراً؛ فكذلك الحريرُ إذا أُحرق وغُسل بعد ذلك، كان تجفيفه - مع أنه زائد - فهو خالٍ من اللذع والحدة. وأجودُ إحراقه: أن يجعل فى كوز، ويُسَدُّ رأسه ثم يودع الفرن أو يجعل فى رمادٍ حارٍّ. وإذا كان الحريرُ غير محترق، فقد يستعمل جِرْمه، وقد تُستعمل سلاقته أو نقوعه. وإذا استُعمل جرمه، فلابد من تصغير أجزائه، وذلك قد يكون بالقرض البالغ - وهو الأفضل والأكثر - وقد يكون بالسَّحْق. وإنما يتأتَّى ذلك، إذا كان معه ما يعده لذلك، وذلك هو الأجسام الشديدة القبول للإسحاق، وهى الأجسام اليابسة، كالبُسَّذِ (2) واللؤلؤ والكهرباء (3) ونحو ذلك، بما يليق خلطه بالحرير. وإذا استُعمل نقوعه أو سلاقته، فيجب أن يكون ذلك بعد إطالة مدة النقع وأن يكون النقع فى ماءٍ حارٍّ، أو فى رطوبة أخرى مسخِّنة. وكذلك، يجب أن تكثر (4) مدة طبخه، ويكثر غليانه. والسبب فى ذلك، أن أجزاء الحرير متلازمةٌ فإنما يسهل أن تنفصل منه أجزاءٌ تُمازج المائية، إذا فُعل به ما قلناه.
الفصل الثالث في أفعاله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث في أَفْعَاِله في أَعْضَاءِ الرَّأْسِ إن الإبريسمَ على ما يقوله بعضٌ، من شأنه تقوية الروح الحيوانى (1) ، وهذا الروح قد بيَّنَّا أنه يصعد قسطٌ منه إلى الدماغ (2) ، فيعدَّل فيه ويصير روحاً نفسانياًّ. وأول صعوده إلى الدماغ، يكون به (3) الحفظ والفكر والذكر، فلذلك
كان الإبريسم مقوِّياً للحفظ (1) ، لأن الروح التى بها الحفظ، شئٌ من الروح الحيوانى الذى لم يكمل بعد استحالته، حتى يصلح أن يكون حاسّاً (2) . فلذلك (3) ، كان تناول الإبريسمِ مقوياً للحفظ. والاكتحال به يقوِّى البصر، وذلك لأمرين. أحدهما: تقوية الروح وثانيهما: إصلاحه لمزاج العين وتقويتها وتنقيتها من الفضول وحفظ صحتها. وذلك لأن الإبريسم مع أنه خالٍ (4) عن جميع الكيفيات الضارَّةِ بالعين - كالحدة واللَّذْع والقبض ونحو ذلك - فهو مجفِّفٌ باعتدالٍ، وليس بشديد التسخين. وما كان كذلك، فهو شديد النفع للعين (5) ، محلِّل لفضولها، مجفِّف لما تكوَّن فيها من الرطوبات الفضلية، لأن هذه الفضول تكثر فى العين لأجل رطوبة مزاجها. وإذا أُحرق الحرير ثم غُسل، كان شديدُ الموافقة لقروح العين، يملأ ما يحدث (6) فيها من الحفر ونحوه؛ وذلك لأجل تجفيفه الخالى عن اللَّذْع، لما قلناه قبل.
الفصل الرابع في أفعاله في أعضاء الصدر
الفصل الرابع في أَفْعَالِه في أَعضَاءِ الصَّدْرِ جميع ما له لونٌ بَهِجٌ، وإذا ورد إلى داخل بدن الإنسان، لا يتغيّر لونُهُ تغيُّراً كثيراً قبل نفوذه إلى القلب؛ فإنه من المفرِّحات. وذلك لأن هذا إذا حصل فى القلب وهو بذلك اللون، كان ما يخالط (1) منه الروح. بذلك اللون، فيفيدها نورانيةً وإشراقاً. وذلك - لامحالة - مما يسرُّ النفس، فإن النفس يسرُّها النظر إلى الأشياء المشرقة النيِّرة، وإن كانت فى الخارج؛ فكيف إذا كانت فى الخفاء التى هى الروح؟ ولذلك، فإن الروح إذا تكدَّرت وأظلمت، بمخالطة أجزاءٍ أرضية مظلمة كما يحدث عن البخارِ السوداوىِّ أو (2) الهواءِ الكَدِرِ، ونحو ذلك. فإن النفس تنقبض لذلك، وتحصل حالةٌ تُسمَّى ضيق الصدر ونحو ذلك من (3) جملة هذه. فلذلك، كانت الأشياء التى لها ألوانٌ مشرقة بهجة مفرِّحةً للنفس؛ وهذه الأشياء كالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزعفران ونحو ذلك. ومن جملة هذه الأشياء: الإبريسم. ولذلك، كان الإبريسم من المفرِّحات. وهو يفرِّح - أيضاً - بالنظر إليه، كما قلناه فى الأشياء البهجة. ومع أن الإبريسم يفرِّح، فهو أيضاً يقوِّى القلب؛ وذلك لأجل مناسبته لمزاجه المائل إلى الحرارة واليبوسة. وأعنى بذلك، أنه يقوِّى القلب الذى مزاجه
إلى بردٍ، لأنه يعدِّل مزاجه. وأما إذا كان مزاج القلب حارّاً يابساً - أى أزيد حرارةً ويبوسةً مما ينبغى أن يكون له - فإن الإبريسم حينئذٍ لا يقوِّيه، بل ربما أضعفه، بما يزيده فى سوء المزاج الحار اليابس. وإذ الإبريسم يفرِّح (1) ويقوِّى القلب، فهو لا محالة مقوٍّ (2) للطبيعة. فلذلك يقوى الأفعال الصادرة عن الطبيعة، كدفع الفضول ونحو ذلك. ولذلك، اُختير لبسه فى الحروب، لأنه يشجِّع القلب، بتقويته (3) وتفريحه.
الفصل الخامس في أفعاله في الأحوال التي لا خصوصية لها بعضو عضو
الفصل الخامس في أَفْعَالِه في الأَحْوَالِ الَّتِي لا خُصُوصِيَّةَ لهَا بعُضْوٍ عُضْو إن الإبريسم له فى هذه الأحوال أفعالٌ (1) ، بلبسه، وله فيها أفعالٌ إذا تُنُوِّل (2) . وذلك لأن الحرير لما كان شديد النعومة، فإن لبسه لا محالة مُسمِّن فإن من المهزولات، لما تعرفه بعد: لبسُ الخشن! وذلك لأن الملبوس الخشن بزيادة حَكَّه للجلد، محلِّلٌ - كثيراً - ما يكون عنده من الرطوبات، وذلك من أسباب اليبوسة والهزال. وإذا كان كذلك، فلبس الناعم من أسباب رطوبة الجلد، وسمنه، ولينه. وأيضاً، فإن الحرير محلِّل، ومع تحليله، فإنه غير جاذبٍ، لأن حرارته ليست بكثيرة جداً، كما فى القطن. فلذلك، كان لبس الحرير يمنع تولُّد القمل وذلك لأجل تحليله مادة الرطوبات (3) الفضلية، ولا كذلك لبس الكِتَّان والقطن. أما الكِتَّان فإنه يحبس مادة القمل عن التحلُّل، وذلك لأجل برده ويبوسته المضيِّقين لمسام البدن. وأما القطن فلأنه لقوة حرارته، يجذب الرطوبات كثيراً إلى ناحية الجلد؛ فلذلك، كان لبس القطن يولِّد القمل كثيراً. أما فعل الحرير بالتناول، فإنه يحسِّن اللون. وذلك لأجل تفريحه الذى
(هو) (1) يلزمه زيادة حركة الدم إلى ظاهر البدن؛ ولذلك، هو يسمِّن أيضاً. وذلك لأجل تحريك الفرح الحادث عنه للدم، إلى ظاهر البدن. ولذلك، كان الفرح والسرور من المسمِّنات؛ وذلك لأن المفرِّحات تُلَيِّنُ الجلد وترطِّب (2) وذلك لأجل كثرة تحرُّك الرطوبات إليه. وأيضاً، فإن تَنَاول الحريرِ بتقويته للطبيعة، يجود معه فعلُ الطبيعة فى مادة الغذاء، ويُلزم ذلك، أن يكون مسمِّناً. والسمنَّيةُ هنا (3) ، بما هو دواءٌ؛ لا لأنه يزيد فى الغذاء باستحالته إليه، ونحو ذلك، فإن جوهر الحرير تغلب (4) فيه الهوائية وما كان كذلك، فإنه لا يصلح للتغذية. ولذلك (5) ، فإن الحرير من الأدوية الصِّرْفة (6) ، لا من الأدوية الغذائية.
المقالة الثالثة فى أحكام الأبنوس
المقالة الثالثة فىِ أَحْكَامِ الأَبنُوسِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على خمسة فصول.
الفصل الأول في ماهية الأبنوس
الفصل الأول في مِاهِيَّةِ الأَبَنُوسِ الأبنوسُ خشبٌ كثيفٌ صلبٌ رزينٌ، ذو رائحةٍ تفوح منه إذا تبخَّر بالنار داخله أسود، وظاهره بيِّنُ البياض والحمرة. وربما كان فى داخله عروقٌ هى كذلك أيضاً، وسواده ذو إشراق. ويوجد فى طعمه قبضٌ، وربما كان منه ما يلذع اللسان ويقبضه بقوة. ومائيته قليلةٌ، ولذلك لايسوِّس سريعاً. ومادام حديثاً، يكون فيه رسومه؛ فإذا عتق كثيراً، فارقته، لأجل انحلال شئ (1) من مائيته وهوائيته (2) . ومنه هندىٌ، ومنه حبشىٌّ؛ وهو أفضل أنواعه. وأفضل هذا النوع، ما كان أملسٌ خالصُ السواد. وإذا حُكَّ الأبنوس على جسمٍ صلبٍ، كالمسمن، مع بعض الرطوبات. انحلَّت منه حكاكةٌ يستعملها الحكَّاكون. وإنما كان الأملس أفضل، لأن الملامسة إنما تكون لتشابه أجزاء المادة. وإنما كان الخالص السواد أفضل، لأنه إنما يكون كذلك، إذا كانت أجزاؤه متشابهةً، وكانت القوة الفاعلة لسواده، قويةً (3) تامة.
الفصل الثاني في طبيعته وأفعاله مطلقا
الفصل الثاني في طَبِيعِتِهِ وأَفْعَاِلهِ مُطْلَقاً الصلابةُ قد تكون لقوة الانعقاد، وقد تكون لكثرة الأرضية، وقد تكون للأمرين جميعاً. وصلابةُ الأبنوس لكثرة أرضيته، ولذلك هو رزينٌ. وسوادُه (1) لفعل الحرارة المدخنة، إذ سواده مع إشراق؛ والسواد الكائن عن البرد، يكون إلى كمودةٍ. فلذلك، لابد وأن يكون جوهر الأبنوسِ من أرضية وحرارة، وليس فيه هوائية يعتدُّ بها، (وإلا) (2) كان يجف، فلم يكن رزيناً. فلذلك، لابد وأن يكون طبع الأبنوسِ حاراً يابساً، فلابد وأن يكون مجفِّفاً. ومحروقه - لامحالة - أشدُّ حرارةً ويبوسة، ودون ذلك نشارته ونحاتته، لأن هذين لابد وأن يُحدث لهما (3) بالنشر والنحت، حرارةٌ تقارب الحرارة المحرقة. فلما كان طبع الأبنوسِ كذلك، فهو لامحالة ملطفٌ، محلِّلٌ، جالٍ بما فيه من الحرارة، ومجففٌ بما فيه من اليبوسة، مُنقٍّ لما فيه من التحليل والجلاء والتجفيف؛ فلذلك، من شأنه إفناء الرطوبات الفضلية. وحرارته ليست بقويةٍ جداً، وإلا كان يكون لذَّاعاً؛ وهو ليس كذلك.
الفصل الثالث في فعله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث في فِعْلِهِ في أَعْضاءِ الرَّأْسِ قد علمتَ أن الأبنوسَ حارٌّ، يابسٌ، ملطفٌ، مجفِّفٌ بلا لذع، جالٍ منقٍّ. فلذلك (1) ، هو نافعٌ للقروح، خاصةً قروح العين، حتى الغميض منها ينقِّيها، ويجفِّفها، ويجلو (2) الآثار التى تكون فى القرنية، لما فيه من الجلاء خاصةً إذا أُحرق. ويجلو (3) البصر لتلطيفه (4) الروح، وتحليله فضولها، ولجلائه ما يكون أمام الحدقة من الأشياء المكدِّرة للبصر. ويحلِّل فضول العين، ويجفِّفها. فلذلك، ينشِّفها من الرطوبات الفضلية وينشِّفها من الدموع، ويمنع تجلُّب الفضول إلى العين، وسيلان الرطوبات إليها وذلك لأجل سَدِّه طرق (5) هذه الرطوبات، بما فيه من التجفيف. وينفع أيضاً (..) (6) وذلك لما فيه من التحليل والجلاء، ولذلك هو ضِدّ (7)
للنفاطات (1) فى العين. وهو يُنبت أهداب العين، بما فيه من الحرارة الجاذبة للمادة، والقبض المضيق للمسام، والتجفيف المزيل (2) للفضول. ويُستعمل فى العين، تارةً، حكاكتُه على حجر المسن. وتارةً بأن تحك (3) عليه أدوية العين، فما يحكُّ على المسن؛ وذلك إذا كان المراد بتلك الأدوية التحليل والتجفيف والجلاء ونحو ذلك. وتارةً بأن يُحرق ثم يُغسل، فيكون حينئذٍ نافعاً للرمد اليابس، وللحكَّة فى العين، وللجرب فى الأجفان. وفائدة إحراقه حينئذٍ، أن يزداد جفافه ويبوسته؛ وفائدة غسله بعد الإحراق، إزالة ما يكسبه بالإحراق من الحدة واللذع. وتارةً، يُستعمل الأبنوسُ للعين، بأن تُنقع نشارته ونحاتته فى شرابٍ يوماً وليلة، ثم ينعَّم جداً - سحقاً - ثم تتخذ (4) منه شيافات (5) . أو يُسحق أولاً، ثم ينقع فى الشراب، ثم يعمل شيافات. والغرض بالشراب، تارةً زيادة التحليل وتارةً تقوية العين.
الفصل الرابع في فعله في أعضاء الغذاء
الفصل الرابع في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الغِذَاءِ إن الأبنوسَ لأجل أرضيته ويبوسته، ليس يصلح للتغذية؛ فلذلك (1) ، هو دواءٌ صِرْفٌ. وقد قيل إنه مع حراراته، يطفئ حرارة الدم ويُبْسه. يكون (2) ذلك لأجل أنجرة الدم الحارة. وللأبنوس نفعٌ فى النفخة العارضة فى المعدة، وللبلَّة المتقادمة فيها، وذلك لما فيه من التحليل والتجفيف.
الفصل الخامس في فعله في أعضاء النفض
الفصل الخامس في فِعْلِهِ في أَعْضَاءِ النفْضِ لما كانت قوةُ الأبنوس قوةً حادة لطيفة، فله نفعٌ فى تفتيت الحصاة، خاصة إذا كان مُحْرَقاً وغير مغسول، وذلك لأجل زيادة حِدَّة هذا المُحْرَق. ولبنُ الأبنوس حارٌّ، لطيفٌ جداً، فهو لامحالة مفتِّح للسُّدَد. وإذا أُحرق فلا يبعد أن يكون مدرّاً للبول (1) .
المقالة الرابعة فى أحكام الأبهل
المقالة الرابعة فىِ أَحْكَامِ الأَبْهَلِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على خمسة فصول.
الفصل الأول في ماهية الأبهل
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ الأَبْهَلِ قد اتفق الأطباءُ فى زماننا، وما قبله، على إطلاق لفظ الأبهل على ثمرٍ مستديرٍ، لونه إلى الحمرة، قدره دون الجوز المأكول وأكبر من العَفْص (1) ومن البندق ونحوهما. ظاهره حلو الطعم إلى مرارة وقَبْض، وفى باطنه شئ كالصوف. وهو ثمرٌ معروفٌ، مفهوم من لفظ الأبهل عند الأطباء. ثم إنهم اختلفوا فى شجر هذا الثمر، هل هو العرعر (2) أو هو غير العرعر؟ (3) وهذا الخلاف لايجوز أن يكون فى أن هذا الشجر: هل يصحُّ أن يسمى بالعرعر أو ليس؟ فإن ذلك ما لا يُنازع فيه فى العلوم، ولكل أحدٍ أن يسمِّى ما شاء بما شاء. بل إن هذا الخلاف إنما هو فى أن هذا الشجر: هل هو الشجر الذى نسميه بالعرعر، أو ليس؟ وهذا الخلاف لسنا نتشدَّد فى تصحيح أحد الرأيين فيه فإنه (4) لاسبيل إلى ذلك بالبرهان.
ونعنى بقولنا الآن: أبهل. هذا الثمر المعروف، ولا علينا من اسم شجره ولا ما الذى سماه به د (1) . وإذا بيَّنَّا أحكام الأبهل، فإنما نعنى بذلك هذا الثمر المعروف هنا، خلافاً للأطباء (2) فى: هذا هو ما وقع فى كلام د من الأمر الملْبس وذلك لأنه (3) ذكر أولاً العرعر وقسَّمه على قسمين، ووصف ثمره بأوصافٍ هى هى فى هذا الثمر. ثم أعقب ذلك بذكر الأبهل وقسَّمه أيضاً على قسمين ولم يذكر له ثمراً! فتحيَّر الأطباءُ فى كلامه؛ فبعضهم استبعد أن يكون شجر الأبهل هو العرعر. وقد ذكر الأبهل عقيب ذكر العرعر فإن هذا يدل على اختلافهما عنده. فلذلك، قال هؤلاء: إن شجر الأبهل غير العرعر وبعضهم لما رأى الثمر الذى وصفه د للعرعر، ليس إلا هذا الثمر الذى يُعرف الآن بالأبهل، فلذلك (ظنَّ أن هذا الثمر هو ثمر العرعر وأن العرعر هو شجر الأبهل وما ذكره حين ذكر الأبهل إنما أراد بذلك) (4) تبيين صفات ذلك الشجر. ونحن لا نتعصَّب لأحد هذين الرأيين، ولا يظهر لنا - أيضاً - من كلام د أىُّ هذين الرأيين هو الحق. ونحن نكتب ها هنا كلام د بحاله، ليكون لمن يأتى بعدنا أن ينظر فى ترجيح أحد هذين الرأيين على الآخر. وهذا كلامه، قال: * أرقوليس وهو العرعر منه ما يكون كبيراً ومنه ما يكون صغيراً. وكلاهما (5) يسخِّنان ويلطِّفان ويدرَّان (6) البول، وإذا دُخَّنَ
بهما، طردا الهوام. ولهما ثمرٌ منه ما يؤخذ عظمه مثل عظم البندق ومنه ما يوجد (1) على عظم الباقلاء. غير أنه كله مستديرٌ، طيبُ الرائحة، حلو، فيه شئ من مرارة. ويقال له أرتوشيس. وهو يسخِّن إسخاناً يسيراً فائقاً. وهو جيدٌ للمعدة، فإذا شُرب كان صالحاً لأوجاع الصدر والسعال والنفخ والمغص، ويدرُّ البول ويوافق شدخ العضل وأوجاع الأرحام. (2) براننى ومن الناس مَنْ يسميه برانى وهو الأبهل. والأبهل صنفان، وذلك أن ما ورقه شبيهُ بورق السرو (3) وهو أكثر شوكاً من غيره من الأبهل كريه الرائحة؛ وهذه الشجرة مستديرةٌ، تذهب فى العرض أكثر منها فى الطول، ومن الناس من يستعمل ورقها بدلاً من البخور.. ومنه ما ورقه شبيه بورق الطرفاء (4) . وورق كُلاَّ من الصنفين، يمنع سعى القروح الخبيثة. هذا كلامه، ولم يذكر بعد هذا، في الأبهل إلا ما عدَّده من المنافع. وإلى الآن، لم يظهر لي من كلامه، ما يدل دلالةً واضحةً على أن شجر هذا الثمر
المعروف المشهور باسم الأبهل هل هو العرعر أو غيره؟ ولستُ ممن يبذل جهده فى تعرُّف ذلك! فقد انتصب لذلك قومٌ آخرون. فمن أحبَّ الحظوة برؤيته هذه المعرفة، فلْيراجع كلامه مُراجعة المتقِن، لتأمُّله. ولعل غيرى يقف على ذلك بسهولة. ولعل الله يفتح (1) علىَّ بذلك، فى غير هذا الوقت، فأكتبه فى غير هذا الموضع (2) . ولما كان طعم هذا الثمر مركباً من حلاوةٍ ومرارةٍ وقبض، فبالضرورة - ولابد - أن (3) يكون جوهره مركباً، أعنى بذلك أنه (4) لابدَّ أن يكون مركَّباً تركيباً ثانياً، بمزاجٍ ثانٍ، كما بيَّنَّاه فى الجزء الأول من هذا الفن الثالث. ولأن جوهر هذا الثمر، لابدَّ وأن يكون من جواهر مختلفة، وذلك لأن هذا الثمر لابدَّ وأن يكون فيه مائيةٌ وأرضيةٌ، أعنى أنه لابد وأن يكون فيه جوهران ممتزجان، أحدهما يغلب عليه الأُسطقس (5) المائى، والآخر يغلب عليه الأُسطقس الأرضى. وإنما كان كذلك، لأن هذا الثمر إذا كان رطباً، فإنه - لامحالة - يقبل
الاعتصار، حتى يكون له عصارةٌ يغلب فيها الماء، وهى المائية، وثفل تغلب (1) فيه الأرضية - وهى الأرضية (2) - وإذا جفَّ هذا الثمر، فإنه حينئذٍ وإن كان لايقبل الاعتصار (3) ، لأنه لابد وأن يكون بعد، فيه شئٌ من تلك المائية. إذ لو كانت طبيعة هذا الثمر، أن (4) يقوم بدون تلك المائية، فوجدتها أولاً - وليس كذلك - فلذلك،كان لابد وأن يكون هذا الثمر بعد جفافه، فيه شئ من تلك المائية، لكن ذلك الباقى يكون يسيراً جداً. فإذن، لابدّ (5) وأن يكون فى جوهر هذا الثمر أرضيةٌ ومائيةٌ معاً. والمائيةُ لاطعم لها، لأنها لا تكون إلا تَفِهَةٌ (6) . فلذلك، حدوث الطعم فى هذا الثمر إنما يكون للجزء الأرضى الذى فيه. فلابدَّ وأن يكون هذا الجزءُ الأرضىُّ مختلفاً لأجل اختلاف طعوم هذا الثمر. فلذلك، لابد وأن تكون أرضية هذا الثمر، بعضها باردة، وهذه هى الأرضية التى لابد منها فى حدوث الطعم القابض، ولابد وأن يكون بعضها - أيضاً - شديد الحرارة، محترقة؛ وهذه هى الأرضية التى لابد منها فى حدوث الطعم المُرِّ. ولابد وأن يكون بعضها حارّاً حرارةً متوسطة، وهذه هى الأرضيةُ التى لابد منها فى حدوث الطعم الحلو. فلذلك، لابد وأن تكون (7) أرضية هذا الثمر، ثلاثةَ أقسامٍ: باردة، وحارة
محرقة، وحارة باعتدال. وأرضية هذا الثمر، لابد وأن تكون أزيد من مائيته ويظهر ذلك إذا اعتصر، وذلك إذا كان رطباً، وأما إذا يبس، فإن مائيته تقلُّ جداً، وتبقى أرضيته بحالها، فلذلك تكون (1) بالنسبة إلى المائية، كثيرةٌ جداً. وكثرةُ الأرضية، يلزمها رزانةُ الجرم، وذلك لأجل زيادة ثقل الأرض، فلو لم يكن فى جوهر هذا الثمر، ما يوجب خِفَّته، لكان يكون ثقيلاً جداً. فلذلك لابد وأن يكون فى جوهره هوائيةٌ، تُحدث له الخِفَّةُ. وهذه الهوائية، تكون أولاً يسيرةٌ، وبالقدر الذى لابد منه فى تحقُّق هذا الثمر؛ ثم بعد ذلك يزداد، إذا أُنقصت (2) المائية. وذلك، لأن نقصان هذه المائية لابد وأن يلزمه خلو مواضع من تلك المائية. وليست هذه المواضع جميعها تمتلئ بجرم هذا الثمر، وذلك بأن تتجمَّع أجزاؤه، حتى لايبقى فيه فروج (3) - وذلك لأن جرم هذا الثمر صلبٌ لايسهل فيه هذا التجمُّع - فلابد وأن يبقى فيه فُرَجٌ وتلك (4) الفُرَجُ لو لم يملأها جوهرٌ هوائى، لزم أن تبقى خالية. والخلاءُ محال (5) . فلذلك، لابد وأن تتحرَّك (6) إلى هذه الفروج هوائيةٌ تملأها، ويلزم ذلك، زيادة
الهوائية فى هذا الثمر إذا جفَّ. فلذلك، لابد وأن يكون فى جوهره: مائيةٌ وهوائيةٌ وأرضيةٌ. وهذا الثمر رائحته حادةٌ، وحدَّةُ الرائحة إنما تكون لجوهرٍ نارىٍّ. فلذلك هذا الثمر لابدَّ وأن يكون فيه جوهرٌ مائىٌّ وجوهرٌ أرضىٌّ على ثلاثة أصناف وجوهرٌ هوائىٌّ نارىٌّ. وهذا الجوهرُ النارىُّ فى هذا الثمر، قليلٌ جداً، وإلا كان يظهر له طعمٌ، وهو الحرافة. فلذلك، الجوهر (1) الغالب فى هذا الثمر هو الأرضية، واليابس منه يغلب فيه - بعد هذه الأرضية - الجوهرُ الهوائىُّ، ثم المائىُّ، ثم النارىُّ. وأما الرطب من هذا الثمر، فإنه يغلب فيه بعدُ الأرضية، المائيةُ، ثم الهوائية، ثم النارية. ولما كان جوهرُ هذا الثمر كذلك، فهو - لامحالة - بعيدٌ عن التغذية خاصةً اليابس منه. فلذلك، هذا الدواء يكاد يكون صِرْفاً، لاغذائية فيه البتة ولابد وأن يكون جوهره لطيفاً، لأن أرضيته الباردة قليلة جداً، وباقى أرضيته لابدَّ وأن يكون مائلاً (2) إلى لطيف، لأجل الحرارة الملطِّفة لها.
الفصل الثاني في طبيعته وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبِيعَتِهِ وأَفْعَالِه علَى الإِطْلاَقِ لما كان هذا الثمر فيه ناريةٌ، وهوائيةٌ كثيرة، وأرضيةٌ كثيرةٌ حارَّةٌ. وكان ما فيه من الأجزاء الباردة، وهى الأرضية والمائية، القابضة، كل منهما قليلاً - وذلك إذا كان هذا الثمر جافاً - وجب (1) بالضرورة، أن يكون هذا الثمر حارّاً ولما كانت الأرضيةُ فيه غالبةٌ، والهوائيةُ؛ لايدخل (2) فى ترطيب البدن. والمائيةُ فى هذا الثمر - إذا جفَّ - قليلةٌ، فوجب (3) أن يكون هذا الدواء ميبِّساً للبدن. فلذلك، يكون دواءً يابساً خاصةً، وما فيه من النارية يابسٌ أيضاً. وإذ (4) هذا الدواء يابسٌ، والأرضيةُ فيه غالبةٌ؛ فهو لامحالةَ مجفِّفٌ (5) خاصةً وهو لأجل حرارته محلِّلٌ. فلأجل ذلك، لابد وأن يكون تجفيفه شديداً. ولما كان مُرّاً، فهو لامحالة جلاَّءٌ مفتِّحٌ. وإذ (6) هو جلاَّءٌ ومجفِّف، فهو لامحالة مُنَقِّ (7) . وفعله ذلك، بغير لذعٍ (8) ظاهرٍ، لأن النارية في الثمر يسيرةٌ جداً
فلذلك هو يفعل هذه الأفعال بغير لذع. فلذلك، هو دواءٌ نافع جداً للقروح. ولأن جوهره إلى لطفٍ، وهو مع ذلك جلاَّءٌ محلَّلٌ. فلذلك، لابد وأن يكون مدرّاً (1) للبول. ولما كان مع ذلك، حارّاً محرِّكاً للدم ملطِّفاً (2) لقوامه بما فيه من الحرارة، فهو لا محالةَ مدرٌّ للحَيْض (3) . وإذ فى طعم هذا الثمر قبض، هو - لذلك - قابضٌ مقوٍّ للأعضاء.
الفصل الثالث في فعله أعضاء الرأس
الفصل الثالث في فِعْلِه أَعْضَاءِ الَّرأْسِ لما كان هذا الأبهلُ مجفِّفاً محلِّلاً منقِّياً، فهو لامحالة يُفنى الرطوبات الفضلية خاصةً من عضوٍ شديد القبول للانفعال، لأجل إفراط لينه. فلذلك، صار الأبهلُ ينشِّف رطوبات اللَّثة ويجفِّفها، فهو - لذلك - يُزيل الرطوبة المرخية لها. فلذلك، هو يشدُّ اللثة ويقوِّيها، لأنه يجمع أجزائها، ويُذهب بَلَّها. وإذ (1) كان كذلك، فهو لامحالة يطيِّب النكهة (2) ، لأنه يُذهب الرطوبات الفضلية المعِدَّة للعفونة الموجبة لفساد الرائحة ونَتْنها. وإذا أُحرق الأبهلُ فلا محالة أن تجفيفه لرطوبات اللَّثة يكون أكثر، فيكون تشديده لها أكثر. وكذلك إذ خُلط بالعسل، بعد المبالغة فى سحقه؛ كان شديد النفع لِلَّثةِ العفنة (3) المرتخية، وذلك لأجل إعانة العسل له بالجلاء والتحليل. وإذا طُبخ ثمر الأبهل فى آنيةٍ من الحديد (4) وكان طبخه فى الخلِّ فإن ذلك الخلَّ إذا قُطِّر فى الأذن الصَّمَّاء، نَفَعَ جداً. وذلك، لما فى هذا الخلِّ من تلطيفِ المادة الصَّامَّةِ للأذن وتقطيعها، وذلك بما هو خَلٌّ ولما فيه من التحليل القوى والتسخينُ، لأجل ما فيه من سحيق الأبهل ولما فيه من زيادة القَبْض والتقويةُ،
بما فيه من قوة الحديد (1) . هذا، مع التجفيف الشديد جدّاً، المزيل للرطوبة المرخية لعصب السمع (وهذا التجفيف يحدث من الخلِّ نفسه، ومن القوة المستفادة من الحديد ولما فى هذا الخل) (2) من سحيق الأبهل (3) .
الفصل الرابع في فعله في أعضاء النفض
الفصل الرابع في فِعْلِهِ في أَعْضَاءِ النَّفْضِ (1) إنَّ هذا الدواء، لما كان حارّاً مُرّاً؛ فهو لامحالة بعيدٌ عن طبيعة الحياة (2) . فلذلك، هو قاتلٌ للدود، وللجنين أيضاً! وقد بَيَّنَّا أنه، لقوة حرارته، مع قوة جَلْيه (3) ولطافته؛ لابد وأن يكون تفتيحه شديداً. فلذلك، لابد وأن يكون دواءً مدرّاً (4) للحَيْض. ولأنه يقتل الجنين، ويدرُّ الحيض؛ فهو لذلك يُخرج الجنين، سواءً كان ذلك الجنين - قبل استعماله - حيّاً أو ميتاً. وقد يبلغ من قوة إدراره، أن يَبُوِّل الدم؛ لأن المدِرَّ لابد وأن يكون من شأنه تحريك الرطوبات من محدَّب الكبد، إلى جهة الكلى والمثانة. وإذا كان فعله هذا قوياً، فقد يحرِّك الرطوبات المخالطة للدم إلى هناك، ويُلزم ذلك أن يَبُوِّل الدم. ويبلغ من قوة قتله للجنين وإخراجه له، أنه يفعل ذلك إذا تحمَّلته المرأة، بل وإذا تدخَّنت به. وكذلك، يبلغ من قتله الديدان، أن يقتل حَبَّ القَرْعِ (5) .
ويجب أن يجتنبه المحزونون، حتى من النساء (1) . وكذلك مَن كانت مِن النساء ضعيفة الأسافل، وذلك لأجل شدة تحريكه الفضول إلى جهة الأسافل. وإذا أُخذ من ثمرة هذا الدواء، زنة عشرة دراهم، فطُبخ مع قدر ما يغمره من السَّمن، إلى أن يذهب السمن، واستُعمل منه كل يومٍ وَزْنُ درهمين؛ نفع ما يحدث فى أسفل البطن، من الوجع العارض عن البواسير. وذلك لأجل تحليله المادة الموجعة. وينبغى أن يكون تناول ذلك، على الريق (2) .
الفصل الخامس في فعله في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو
الفصل الخامس في فِعْلِهِ في الأمْرَاضِ الَّتِي لا اختِصَاصَ لهَا بعُضْوٍ لما كان هذا الدواء يابساً مجفِّفاً منفِّساً، وجب أن يكون نافعاً فى القروح والجراحات - الطرية منها وغير الطرية - لكنه لأجل حِدَّته وقوة حرارته وإلهابه صار يضرُّ الجراحات لأنه يَلْحَفُهَا (1) . وأما القروح، فما (2) كان منها كثيرَ الرطوبة جداً، فإنه ينفع منها، لأجل قوة تجفيفه - لأجل شدة يبوسته مع إفراط حرارته - مع أن هذه القروح، لأجل كثرة وَضَرِها (3) ورطوبتها، لا تتأثرَّ بلذعه (4) وحِدَّتِه كثيراً. فلذلك، كان هذا الدواء، مع إضراره بالجراحات وبالقروح النقية، وهو شديد النفع من (5) القروح العفنة والرديئة والعتيقة والوسخة، وكذلك القروح المسودَّة، وكذلك القروح
التى مضى عليها زمانٌ طويلٌ جداً. لأن جميع هذه القروح، لابد وأن تكون كثيرة الوسخ والرطوبة، فيكون فيها ما يكسر حِدَّة هذا الدواء (1) ، فلا تنفعل عن لذعه، ويكون هو شديد التنقية لها، خاصةً إذا كان مخلوطاً بالعسل، لأن العسل يعينه على ذلك، بجلائه (2) ، وبأن يسيل فيستصحب معه هذا الدواء ويوصله إلى جميع أجزاء هذه القروح. وكذلك، هو نافعٌ جداً فى تنقية سواد الجلد وأوساخه التى تكثر لأجل كثرة فضول البدن، وذلك لأجل حِدَّة - شدة - جلاء هذا الدواء. وكذلك، يبلغ من جلائه، أن يقشِّر خشكريشة الحمرة (3) ونحوها (4) . والمسحوق من هذا الدواء، مع الخلِّ إذا طُلى به دَاءُ الثعلب (5) أبرأه وذلك، لم فيه من الجلاء والتجفيف. والخلُّ يعينه على ذلك بتقطيعه وتلطيفه. ونقول: إن هذا الدواء حارٌّ لطيفٌ، ولذلك صار يوضع فى الأدهان الحارَّة
كدهن عقيد العنب وكذلك يوضع فى المعاجين الحارة ونحوها. وإذا سُحقت أُوقيةٌ من ثمرة هذا الدواء، مع أُوقيةٍ من السَّمْن، ولُعق ذلك، نفع جداً من الربو لأجل تلطيفه المادة السَّادَّة لمجارى النَّفَس، مع تفتيحه المهيئ لهذه المادة للخروج بالنَّفَثِ.
المقالة الخامسة فى أحكام الأبار
المقالة الخامسة فىِ أَحْكَامِ الأبَارِ وكلامُنا فيه، يشتمل على خمسة فصول.
الفصل الأول في ماهية الأبار
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ الأَبَارِ الأَبَارُ هو الرصاص الروى الأسود، وبعضهم إنما يسمِّى هذا الرصاص أباراً إذا أُحرق. وشياف (1) الأَبَار هو المنسوب إلى هذا الرصاص المحرَّق، وهذا الرصاص يذوب بالنار، فإذا برد انعقد. وإنما يكون كذلك (2) إذا كان انعقاده على سبيل الجمود بالبرد، وإنما يكون كذلك، إذا كانت مادته مائية. وإذا ذاب الرصاص، فإن ذوبه (3) يكون - لامحالة - ذا قوامٍ ليس كقوام الماء وإنما يكون ذلك إذا كانت مائيته مخالطة للأرضية، حتى تكون تلك الأرضيةُ تحدث له إذا ذاب غلظاً فى القوام. فلذلك، جوهرُ الرصاص لابد وأن تكون (4) فيه مائية وأرضية، ولأنه قابلٌ للانطراق (5) كثيراً، ففيه - لامحالة - جوهرٌ دهنىٌّ. ولولا هذه الدهنية، لكان الرصاص ينكسر عند الطرق، كما فى الأحجار. ولذلك، لابد وأن يكون فى جوهر الرصاص، مع المائية والأرضية: دهنية. وجوهرُ الدهن، كما بينَّاه فيما سلف (6) ، إنما يتحقَّق من جوهرٍ أرضىٍّ
لطيف، وجوهرٍ مائىٍّ قليل، وجوهرٍ هوائى. فإذن (1) ، لابد وأن يكون فى جوهر الرصاص: هوائيةٌ. ولأن جرم الرصاص كثيفٌ، فأجزاؤه - لامحالة - ملزَّزة (2) . وهو أيضاً رزينٌ، فهذه الهوائيةُ فيه يسيرةٌ جداً، إذ لو كانت هذه الهوائية فى الرصاص كثيرةٌ لكان يكون خفيفاً، وليس كذلك. ومائيته لابد وأن تكون ملازمة الأرضية، وإلا سخن (3) ، خاصةً عند ملاقاة (4) النار له. فكذلك، لابد وأن تكون (5) أجزاؤه المائية والأرضية متلازمةً. ولابد أن يكون تلازُمها أقل جداً من تلازم أجزاء الحديد (6) والنحاس فضلاً عن الذهب والفضة. وذلك لأن الرصاص ينقص (7) إذا كُرِّر ذوبه بالنار نقصاناً كثيراً، ولا كذلك النحاس. وأما الذهب، فلا ينقص البتة (8) . ونقول أيضاً: إن جوهر الرصاص، إنما تركَّب من هذه الأجزاء، بأن تصير هذه الأجزاء أولاً زئبقاً وكبريتاً. ثم منها يتركَّب جوهرُ الرصاص. وهذا قد بيَّنَّاه فيما سلف، فى كلامنا الكلى فى الأدوية (9) .
والدليل على أن الرصاص من الزئبق والكبريت، أنه إذا ذاب، كان كأنه زئبق، ولأن الزئبق يتعلَّق به إذا لاقاه. وهو لامحالة منعقدٌ، وانعقاد الزئبق إنما يكون بالكبريت - على ما بيَّنَّاه أولاً - فلذلك، لابد وأن يكون تركيب الرصاص من الأرضية والمائية والدهنية، إنما هو بأن تصير هذه الأجزاء أولاً زئبقاً وكبريتاً ويكون الزئبق - على ما بيَّنَّاه فى موضعه - هو من مائيةٍ، هى المحدثة لبياضه ومن أرضيةٍ لطيفة جداً، متصغِّرة فى الغاية، مُغشية لظاهر تلك المائية، حتى كل جزءٍ ينفصل من تلك المائية، يكون مُتغشياً بشئ من تلك الأرضية. ولذلك (1) فإنه (2) لايبلّ (3) ما فيه، ولا يتصل به. ومع ذلك، فلابد فى الزئبق من هوائية يسيرة جداً، لأنه لايخلو من دهنية ودسومة. وأما الكبريت، فإن تحقُّقه (4) من دهنيةٍ جامدةٍ، ووجُودُه هو بالبرد. فلذلك، جوهر الرصاص لابد فيه من هذه الأجزاء جميعها، ومن هذا يُعلم أنَّ جوهر الرصاص لايصلح للتغذية؛ فلذلك: هو دواءٌ صِرْفٌ.
الفصل الثاني في طبيعته وأفعاله مطلقا
الفصل الثاني في طَبِيعَتِه وأَفْعَالِهِ مُطْلَقاً قد علمْت أن جوهر الرصاص مركَّبٌ من مائيةٍ، وأرضيةٍ، وهوائيةٍ قليلة جداً؛ وإلا كان يكون خفيفاً. وكذلك، أرضيته (1) قليلةٌ بالنسبة إلى مائيته، وإلا كان يعسر ذوبه، كما فى غيره من المنطرقات (2) . فلذلك، المائيةُ هى الغالبة على جوهره. وهذه المائية جامدة، فلذلك هو شديدُ البرد. وهو مع ذلك رطبٌ، ويجب أن يكون برده أكثر من رطوبته، لأن جوهر الماء كذلك، ولأن الرصاص فيه أرضية أكثر من الهوائية بكثير. والأرض لامحالة: شديدة اليبوسة. وأما هوائيته، فإنها (3) لا (4) تفيد فى رطوبته، لأن رطوبة الهواء هى بمعنى أنه سهل القبول للانفعال، وذلك مالا تأثير له فى بدن الإنسان. فلذلك، يبوسة الأرضية، تُنقِّص رطوبة المائية تنقيصاً كثيراً. وأما حرارة الهوائية، فلا تُنقص برودة المائية والأرضية، كثيراً. أما أولاً فلأن هذه الهوائية قليلةٌ جداً. وأما ثانياً فلأن حرارة الهواء ليست بقويةٍ. وأما ثالثاً (5) فإن الهوائية، وإن أفادت (6) سخونةً ما
فإنَّ الجمود العارض بمائية الرصاص يُتدارك (1) جداً. فلذلك، يجب أن يكون برد الأبار، أشدُّ من رطوبة هذا - إذا لم يحرق - وأما إذا أُحرق، فإنه يصير مجفِّفاً. وسنبيِّنُ ذلك، عند كلامنا فى الإسفيداج (2) . ولما كان الرصاص بارداً جداً، رطباً؛ فهو لامحالة: رادعٌ، مكثِّفٌ.
الفصل الثالث في فعله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث (1) في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الرَّأْسِ إنَّ الأبار لما كان (2) غالبُ أجزائه (3) هو الزئبق ومن (4) شأنه التصعُّد بالحرارة، فلذلك كانت رائحة الأبار عند إحراقه، ضارةٌ جداً بالدماغ (5) ، تُحدث الرعشة والخدر، ونحو ذلك؛ على ما تعرفه عند كلامنا فى الزئبق (6) . ولأن جوهر الأبار أكثر من الزئبق، والزئبق - لامحالة - يتعلَّق به إذا لاقاه لأنه من جوهره - كما يتعلَّق الزئبق بعضه ببعض - فلذلك، إذا أُخذ من الأبار مَيْلٌ رقيق، وأُدخل فى الأذن التى بها الزئبق، تعلَّق به. فيمكن بذلك، إخراج ذلك الزئبق. وقد منع ذلك بعضُهم، وقال: إن الزئبق إذا كان فى الأذن، بحيث يصل إليه، سَهُلَ حينئذٍ إخراجه بمثل الحفر والتحريك، من غير حاجةٍ إلى هذا. وهذا لايصحُّ، وذلك لأن هذا الميل، لأجل لينه، يسهل انعطافه فى تعاريج باطن الأُذن، حتى يمكن وصوله إلى قريبٍ من آخر تجويفها؛ وذلك لأجل قبول الرصاص للانحناء والانثناء بسهولة.
وكذلك، قد يُعمل من الرصاص مسلَّةً، ويُدخل فى ثقبها الحبل الذى يُتَّخذ من الشَّعْر (1) ، لأجل جرد اللحم الزائد من الخيشوم، ثم يُدخل تلك المسلة فى الأنف، ويدفعه حتى ينتهى إلى أعلى الحلق - وذلك وراء اللهاة (2) - فيؤخذ (3) طرفها من هناك، فيجذبه حتى ينجذب ذلك الحبل ويخرج طرفُهُ من الفم، ويكون باقيه خارج الأنف، وينبغى أن يكون طرف هذا الحبل الذى يدخل فى المسلَّة دقيقاً (4) - ليسهل نفوذه - منقطفاً، وأما باقيه فيكون غليظاً بالقدر الذى يُحتاج إليه فى جرد اللحم الزائد. والمحرق من الرصاص شديدُ النفع فى قروح العين، لما نذكره فى الإسفيداج.
الفصل الرابع في فعله في أعضاء النفض
الفصل الرابع في فِعْلِه في أَعْضاءِ النَّفْضِ إنّ الرصاص مع أن برده غير مفرط، فإنَّ تبريده إذا وُضع على عضوٍ، كان مفرطاً. وذلك لأنه - مع أنه يبرد بقوة - فيه كتبريد باقى الأدوية، فهو أيضاً يبرِّد بما هو باردٌ بالفعل، فإن لُمِسَ؛ وُجِدَ (1) بارداً بالفعل، وذلك لأجل ما فيه من المائية الجامدة. فلذلك، إذا اتُّخذت منه صفيحةٌ، ورُبطت على عضوٍ، برَّدته جداً. فلذلك إذا وُضع على القَطَنِ (2) ورُبط عليه مُدَّة، برَّده جداً، خاصةً والقَطَن مستعدٌ جداً للتبريد. لأنه مع كثرة عظامه، موضعٌ على بُعْدٍ من القلب - ومنه (3) أكثر التسخين - وإذا برد هذا الموضع، لزم ذلك تبريد أوعية المنِىِّ. لأنَّا بيَّنَّا أن هذه الأوعية، هى العروق النازلة له من الكُلى إلى الأُنثيين (4) إلى الرِّجلين (5) ؛ وهذه يستحيل فيها المنِىُّ بإحالة ما يصل إليه من الخميرة التى تنزل من الرضاع، لقِلَّة النخاع فى عظم الصُّلْب، وتنتهى إلى هذه العروق، فتُحيل ما فيها من الدم إلى طبيعتها - كما بيَّنَّاه فى كلامنا فى المنى - وإذا بردت تلك الأوعية؛ قلَّت حِدَّةُ
المنى، وخَمُدَ، وقلَّل من استعداد إنزاله (1) ؛ وقِلَّة ذلك نقصٌ لشهوة (2) الباه. فلذلك، مَنْ أراد تقليل احتلامه وضعف شبقه، فلا أنفع له، من وضع صفيحة من الرصاص على قَطَنه، وربطها هناك مدة. وإذا أُخذت برادة الرصاص، وغُسلت بالماء مراراً؛ نفعت جداً من حروق المقعدة، ومن البواسير، ومن قروح الذكر والمذاكير (3) .
الفصل الخامس في فعله في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل الخامس في فِعْلِه في الأَمْرَاضِ الَّتِي لا اخْتِصَاصَ لها بَعُضوٍ عُضو (1) سُحَاقةُ الأبار إذا غُسلت مراراً، كما قلنا، كانت شديدة النفع للجراحات الخبيثة والقروح الرديئة - حتى السرطانية - وكذلك قروح المفاصل. وإنما كان كذلك، لأن السُّحَاقة بقوة تبريدها، تمنع العفونة وتكسر حِدَّة المواد الفاسدة. وقد دلَّت التجارب (2) على أنه إذا رُبط على الغدد والخنازير (3) فى داخل هذه الأورام، تذوب (4) ؛ بما يحدث عن ذلك، من الحرارة القوية، وذلك لأجل مَنْع هذه الصفيحة من خروج تلك الأبخرة من المسام. وكذلك، إذا اتُّخذ من الأبار فهرٌ وصلاية (5) ، ووُضع على هذه الصلاية بعض الرطوبات أو الأدهان الباردتين، وحُرِّكت بالفهر المذكور كثيراً، حتى
ثخنت (1) تلك الرطوبة بما ينحل من أجزاء الأبار صارت تلك الرطوبة شديدة التبريد، وإذا وضُعت على الأورام الحارة - فى الابتداء - نفعت جداً، وذلك لأجل قوة النفع. وقد قيل: إن من تختَّم بالأبار؛ نقص بدنه. وقيل: إذا وُضع فى القدر قطعة من الرصاص لم ينضج اللحم بسرعة. وقيل: إذا طُرقت الشجرة بمطرق من الرصاص لم يسقط ثمرها قبل وقته. وقيل: إذا دُهن الرصاص وتُرك حتى يصدأ (2) ، وأُخذ ذلك ولطخ به حديد، لم يصبه الصدأ (3) . وجميع هذه الأشياء، وشَبهها، لاجَزْم بصحته (4) .
المقالة السادسة فى أحكام ابن عرس
المقالة السادسة فىِ أَحْكَامِ ابن عِرْسِ وكلامُنا هذا، يشتمل على أربعة فصول.
الفصل الأول في ماهية ابن عرس
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ ابن عِرْسِ (1) ابن عرس حيوانٌ أصغرُ من النِّمْس بكثير، وكأنه جَرو نمس (2) وهو سريع الحركة، يكثر فى بلاد مصر، ويسكن فى البيوت. شَبَه الفأر وهو نحيفٌ أحمر (3) اللون. ويسعى (4) فى الليل - كالهِرَّة (5) - ويقاتل الهوام، فلذلك هو من الحيوانات التى ينبغى أن تكون (6) فى المساكن، لتهرب منها الهوام (7) !
الفصل الثاني في طبيعته
الفصل الثاني في طَبِيعَتِهِ إنَّ هذا الحيوان، لما كان سريع الحركة جداً، يأكل اللحم، فهو لامحالة حارُّ المزاج. إذ جميع ما يأكل اللحم من الحيوان، فإنه محتاجٌ أن يكون جريئاً (1) مِقْداماً، لتكون (2) له قوة على الصيد. وإنما يكون كذلك، إذا كان حار المزاج. ولأنه شديد النحافة، فهو لا محالة قليل الرطوبة. فلذلك، لابد وأن يكون هذا الحيوان حارّاً يابساً. ولذلك، ليس يتضرَّر بالبرد - كما يتضرَّر به الدُّبُّ والقُنفِذ. وإنما يكون كذلك، إذا كان حارُّ المزاج.
الفصل الثالث في فعله في الأمراض التي لا اختصاص
الفصل الثالث في فِعْلِه (1) في الأَمْرَاضِ الَّتيِ لا اخًتِصَاصَ إنَّ هذا الحيوان، لما كان حارُّ المزاج جداً، فلحمه لامحالة حارٌّ. وكذلك دمه. فلذلك، يكون كُلُّ واحدٍ من هذين - وغيرهما من أجزائه (2) - محِّللاً. وتحليلُ لحمه، تحليلٌ (3) شديدٌ جداً؛ فلذلك هو نافعٌ من الأوجاع، إذا وُضع عليها. وذلك لأجل تحليله للمواد (4) ، خاصةً أوجاع الظهر، لأن الظهر - لبرده - إنما يحلِّل مواده، ما يكون قوىُّ التحليل. وكذلك، هو محلِّلٌ للرياح حيث كانت. والأورام (5) التى تسمى الخنازير إذا لطخت بدم ابن عرس نفعتها؛ وذلك لأجل قوة تحليله لموادها. وكذلك، قد ينفع دمُه للمصروعين، وذلك لأجل تحليله المادة المصرعة. وإذا أُحرق وأُخذ رماده فعُجن بخَلٍّ، ووُضع على النقرس وأوجاع المفاصل سَكَّن، لأجل قوّة تحليله.
الفصل الرابع في خواصه المشهورة
فصل الرابع في خَوَاصِّهِ المشْهُورَةِ ابن عرس قد اشتهرت له خواصٌّ، ونحن نعدُّها عدّاً؛ ومن أراد تحقيقها فعليه أن يمتحنها بالتجارب. قالوا: إن ابن عرس إذا شاهد طعاماً مسموماً اقشعرَّ لذلك، وانتصب دبره (1) . وإذا سُلخ وأُخرج ما فى بطنه، ومُلِّح، وجُفِّف فى الظِّلّ (2) ، وشُرب منه بالشراب مثقالان؛ نفع من ضرر الهوام كلها، وكان من أقوى علاجاتها (3) . وإذا حُشى جوفه بالكزبرة، وجُفِّف فى الظِلِّ، واستُعمل كان علاجاً لنهش الهوام والصرع (4) . قالوا: وإذا أُخرج كعب ابن عرس، وهو (5) حىٌّ، وعُلِّق على امرأة؛ فإنها لاتحبل! وقالوا: إن معدته دواءٌ نافعٌ جداً من سُمِّ الهوام.
المقالة السابعة فى أحكام الأترج
المقالة السابعة فىِ أَحْكَامِ الأُتْرُجّ وكلامُنا فيه، يشتمل على ثمانية فصول.
الفصل الأول في ماهية الأترج
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ الأُتْرُجِّ الأُترجُّ نباته معروف (1) ، وهو يكثر فى البلاد الحارة، فلذلك يقلُّ فى البلاد الشمالية ويكثر فى الجنوبية. وذلك، لا لبرد مزاجه، بل لأن البرد الشديد ينفذ إلى جرمه، فيفسده. ولشجره شوكٌ طوال، وورقه أصغر من ورق الجوز قريب جداً من ورق النارنج. ويشارك النارنج فى أنه لايُلقى ورقه، وأن ثمره قد يبقى عليه مدةٌ طويلة، فلا يفسد. وهو من الأشجار الذهبية، كما فى النارنج والرَّنْد وثمره كبارٌ مختلفُ الأجزاء. وذلك لأن لثمره قشراً ولحماً وحَبّاً، وجميع هذه مختلفة الطعوم والألوان والطبائع. وأَيْيَسُ أجزاء ثمره هو القشر، لأن قشر كل ثمرةٍ ونبات يجب أن يكون أكثر أرضيةً ويبوسة، بما هو قشر (2) ، وذلك لأن الغرض بالقشر أن يكون وقاية، والوقاية تستحقُّ أن تكون أصلب مما له وقاية، وذلك يتمُّ بكثرة الأرضية. وفى هذا القشر - مع الأرضية - ناريةٌ، ولذلك هو أصفر اللون إلى حمرةٍ ما، شبيه بحمرة (3) الذهب الجيِّد.
ولأنه حريفٌ، وقد علمت أن جوهر الحريف نارىٌّ، ولحم ثمره مركَّبٌ من مائيةٍ وأرضية، ولذلك هو إلى تَفَاهة (1) ، لأجل المائية؛ وإلى (2) غِلَظٍ وكثافةٍ لأجل الأرضية. ولذلك، يعسر هضمه، ويولِّد الرياح والنفخ، وذلك لأجل غلظ جِرْمه، وذلك لأن هذا اللحم - مع فجاجته - هو كغذاء اللُّبِّ الذى فى الحبِّ، والغذاءُ يجب أن يكون شبيهاً بالمغتذى. وهذا الحبُّ، يجب أن يكون كثير الأرضية، ليكون صالحاً لأن تتكوَّن (3) منه الشجرة. فلذلك، يجب أن يكون هذا اللحم كذلك. ومائيةُ هذا اللحم إلى جمودٍ، لأنها - بَعْدُ - لم تنضج وتتعدَّلُ، ولذلك يحدث عن هذا اللحم رياحٌ كثيرةٌ. ولذلك كان هذا اللحم لايُلاقى الحبَّ، لأنه لم يصلح بعد لتغذيته، وذلك لأجل فجاجته. وأما الحمض الذى فى ثمرة الأترجِّ (4) فحموضته تحدث (5) من غليان المائية بعد انفصالها من اللحم. وذلك، لأن هذا الحمض يلاقى الحبَّ، فيجب أن يكون أنضج من اللحم. وذلك إنما يتمُّ بالحرارة، لأجل برد مائية اللحم - كما قلناه - والحرارةُ إذا حدثت، فهى لامحالة تسخِّنها، وإذا اشتدَّت سخونة الماء حدث لها - لامحالة - الغليان؛ وهو يُحدث للحموضة، كما بيَّنَّاه. ولكن هذه الأرضية، لابد وأن تكون لطيفة؛ لأنها تَلْطُف بالحرارة المحدثة للغليان. ومع ذلك، فلابد وأن تكون يسيرةٌ بالنسبة إلى أرضية اللحم. وذلك لأن
اللحم إذا أخذ فى النضج، ليصلح (1) لغذاء الحبِّ، يسخن لامحالة قليلاً؛ وهذه السخونة تذيب مائيته وتسخنِّها، وتسخِّن أرضيته أيضاً، وتُسِيلها (2) إلى حيث يتكوَّن الحمض فى أكثر السائل. ج (3) . هو المائية، وذلك لأجل غِلظ الأرضية وعصيانها على (4) الانفعال، فلذلك تكون المائية فى هذا الحمض أزيد من الأرضية. وأما الحبُّ الذى فى ثمرة الأُترجِّ فإن طعمه إلى مرارةٍ، وفيه دهنيةٌ. فلا محالة، لابد وأن تكون كثيرة الأرضية، ليمكن تكوُّن الشجر منه. ولابد وأن تكون فيه رطوبةٌ كثيرةٌ فضلية، لِتكوِّن مادةً يتكوَّن (5) عنها شخصٌ آخر. ولابد وأن تكون المائية الزائدة التى فى الحمض قد قلَّت، حين صارت غذاءً له، وذلك لما يتحلَّل منها بالنضج. وأما ورق هذا النبات، فيجب أن تكون مائيته كثيرة (6) النارية، ولذلك هو حريفُ الطعم، حادٌّ مع التفاهة والمائية. وأما زهر هذا النبات، فيجب أن يكون - مع مائيته - كثيرُ النارية، ولذلك هو حريف الطعم، إلى هوائيةٍ، لأنه من الأجزاء التى تتبخَّر (7) من مادة الثمرة، وتبخرُّها إنما يكون بحرارةٍ تحدث لها فلذلك هو ألطف كثيراً من باقى أجزاء هذه الشجرة.
الفصل الثاني في طبيعته وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبِيعَتِه وأَفْعَاِلهِ علَى الإطْلاَقِ أنَّا نتكلم أولاً فى ثمرة هذا النبات، ثم نتكلم فى أجزائها. وثمرة هذا النبات أجزاؤها (1) مختلفةُ الطبائع، وذلك لأجل اختلاف تلك الأجزاء فى جواهرها كما بيَّنَّاه أولاً. وأما قشر هذه الثمرة، فإنه حارُّ يابسٌ، وذلك لأجل ما فيه من النارية التى ذكرناها. ومع ذلك، فإنه بسيط الجرم، لأجل ما فيه من الأرضية ولهذه الأرضية، هو زائدُ اليبوسة. وأما لحم هذه الثمرة، فإنه فى نفسه شديدُ البرد، لأجل ما فيه من المائية الجامدة، ولما فيه من الفجاجة. ومع ذلك، فهو - أيضاً - فى نفسه، رطبٌ لكن رطوبته قليلة لأجل ما فيه من يبوسة الأرضية. وأما تبريده لبدن الإنسان، فقليلٌ؛ لأنه - لغلظه - لايسرع نفوذه إلى حيث يبرِّد (2) ، بل يتأخَّر ذلك إلى أن ينهضم وتضعف قوته. وأما الحمض الذى فى داخل هذه الثمرة، فإنه باردٌ يابسٌ. وذلك لأن الحامض من شأنه أن يكون كذلك، لما بيَّنَّاه فى كلامنا الكُلِّى (3) . وبردُه فى نفسه ليس بشديد، وذلك لأن حدوثه إنما هو بالغليان اللازم للحرارة؛ وذلك مما لايكون معه البردُ قوياً. فلذلك، هو فى نفسه أقل برداً من اللحم بكثير. وأما
تبريده لبدن الإنسان، فهو أكثر وأشد من تبريد اللحم، وذلك لأجل لطافة الحمض، وقوة غَوْصه، فيسهل نفوذه إلى حيث يبرِّد. وهذا كالثمار التى تكون أولاً عفصة، ثم تصير حامضة؛ فإنها فى حال عفوصتها، يكون بردها فى نفسها أشد برداً - لامحالة - من بردها فى حال الحموضة، وأما تبريدها لبدن الإنسان فهو - لامحالة - أقل من تبريدها فى (1) الحموضة. وكذلك نقولُ فى يبوسة هذا الحمض، فإنها وإن لم تكن فى نفسها شديدة جداً (2) ، فإنَّ فِعْلها فى بدن الإنسان قوىٌّ، وذلك لأجل لطافة الحمض وقوَّةِ نفوذه. وأما ورقُ هذا النبات، فإنه حارٌّ يابسٌ، وذلك لأجل ما فيه من النارية. ولابد وأن يكون إلى غِلَظٍ، لأجل ما فيه من الأرضية. وأما زهرُ هذا النبات، فلابد أيضاً أن يكون حارّاً، وإلا لم يكن حادَّ الرائحة. ولابد وأن يكون لطيفُ الجوهر، لأن مادته - كما بيَّنَّاه أولاً - هى الأجزاء المتصعِّدة عن مادة الثمرة. ولابد وأن يكون إلى يبوسة، لأن هذا المتصعِّد أكثره دُخَّانىٌّ؛ لأن تصعُّده من المادة التى يتكوَّن منها هذا النبات، وتلك أرضيةٌ لامحالة، وإن كان لابد فيها من مائيةٍ كثيرة. فلذلك، هذا الزهر لابد وأن يكون محلِّلاً، لأجل حرارته، ولكنه لغلظه ليس بمفتِّح. وأما حَبُّ ثمرة هذا النبات، فإنه محلِّلٌ بدهنيته، مقوٍّ للأعضاء لأجل عِطريَّته. أما حِمْضُ ثمرة هذا النبات، فإنه مبرِّدٌ، قامعٌ، ملطِّفٌ، شديدُ الجلاء والغوص ولأجل ذلك هو ملطفٌ. وأما تلطيفه مع (3) تقطيعه فلأنه (4) - على ما
ستعرفه بعد - قابضٌ شديد التقطيع. وأما قمعه، فلأجل برده. وأما شِدَّة جلائه (1) ، فإنه مع حموضته، لطيفٌ نفَّاذٌ، فيسهل نفوذه بين العضو وما التصق به بسرعة (2) ، ولذلك (3) هو يقلع الآثار والدبوغ التى تكون فى الثياب. وأما قبضه لأجل يبوسته. وأما تقطيعه، فلأجل شدة نفوذه بين أجزاء المادة، فيردُّ (4) بعضها من بعض، فتصغر لذلك أجزاؤها (5) . وأما قشر ثمرة هذا النبات، فإنه هاضمٌ؛ لأنه مع حرارته عَطِرٌ، مقوٍّ للمعدة، وفيه تحليل وترياقية (6) . وكذلك فى جميع أجزاء هذه الشجرة، وذلك لأجل ما فيها من العطرية الدالة، المناسبة لطبيعة بدن الإنسان.
الفصل الثالث في أفعاله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث في أَفْعَاِلهِ في أَعْضَاءِ الرَّأْسِ أما ورق هذا النبات وزهره، فقد يُتَّخذ منها نطولٌ (1) يُسكَّن به الصداعُ البارد، ونحو ذلك، وسبب ذلك، ما فيها من الحرارة. وأما حُماضه، فينفع (2) الصداع الحارَّ والكائنَ عن الأبخرة الصاعدة إلى الرأس من المعدة، أو من غيرها. وينفع من التوحُّش والخفقان الحار ومن السوداء خاصةً المحرقة عن الصفراء، وكذلك هو نافعٌ من الماليخوليا ومن الوسواس (3) الحادث عن احتراق الصفراء وتبخيرها، وذلك لأنه مع منعه الأبخرة يقوِّى القلب ويبدِّل الروح فيعدِّلها.
وقشرُ ثمرة هذا النبات إذا مُضِغَ أو تُرِكَ فى الفم مُدَّةً، شَدَّ اللثة وطيَّب النكهة. وذلك لأجل ما فيه من العطرية، مع تحليله الرطوبة الفضلية التى تكون فى اللثة فتعدُّها (1) للعفونة، وتجفيفه لها؛ فلا يبعد أن يكون ورق هذا النبات يفعل ذلك أيضاً. وكذلك حَبُّه وزهرُه، وكذلك طبيخُ حمض ثمرة هذا النبات يفعل ذلك، لأن هذا الحمض يجفِّف لرطوبة الفضلية المعفِّنة، ويلطِّفها، ويقطِّعها فيهيِّئها بذلك للخروج والانفعال. ومع ذلك، فإن هذا الحمض - بقوة بَرْده - يُبطل فعل الحرارة العفونية المبخِّرة للأجزاء الغَضَّة الكريهة الرائحة، فيُعين بذلك على تطييب (2) النكهة. إلا أن هذا الحمض، يضرُّ الأسنان بغوصه فيها وقوَّةِ جلائه المزيل لما عليها من الرطوبات التى تدفع عنها أضرار الملاسات (3) . وذلك، فإن (4) هذا الحمض شديد الإحداث للضَرَس (5) . ومع ذلك، فلأن هذا الحمض - لأجل إضراره بالعصب - يضرُّ الأسنان بإضراره بالأعصاب الآتية (6) إلى اللثة. ولذا (7) كان هذا الحمض ضاراً بالأعصاب، لأنه مع قوة برده وتقطيعه، فإنه شديدُ النفوذ، غوَّاصٌ.
وإذا اكتُحل بهذا الحمض، بَرَّدَ العين، وجلاَّها بقوة، وسكَّن حرارتها ونفع من حكَّتها جداً، ولطَّف ما يكون فيها من الفضول؛ فيسهل بذلك اندفاعها (1) . فلذلك، كان الاكتحالُ بماء (2) هذا الحمض، يحدُّ البصر، ويقوِّى العين الحارَّة (3) تقويةً ظاهرة. وإذا اكتحل به صاحب اليرقان أَذْهَبَ صُفرة عينيه وذلك لأجل قوَّة جلائه (4) ، وترقيقه لما هو محتبسٌ من العين من الصفراء، فيسهل بذلك تحلُّلها وخروجها من المسام (5) . واشتمامُ زهر الأُتْرُجِّ ينفع من النزلات ومن اللقوة (6) ويسخِّن الدماغ ويقوِّيه، لأجل ما فيه من العِطرية، وقد يفتِّح برد المصفاة، لأجل تفتيحه، ويحلِّل فضول الدماغ. وكذلك ورق هذا النبات وقشرة ثمره. إلا أن اشتمام الزهر أقوى فى ذلك، لأجل لطافته. ورائحة الأُتْرُجِّ تنفع من الوباء. توضع ثمرته فى مناقل النار، فيكون دُخَّانُها نافعاً (7) للوباء.
الفصل الرابع في فعله في أعضاء الصدر
الفصل الرابع في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الصَّدْرِ لما كان هذا النبات - بجميع أجزائه - عَطِراً، والعطريةُ ملائمةٌ للروح والقلب؛ فلذلك كان تأثير أجزاء هذا النبات فى أعضاء الصدر عظيماً، لأنها تصل إلى القلب ونواحيه سريعاً، فلذلك يكون نَفْع كل واحدٍ منها - فيما ينفع - عظيماً. وكذلك، ضرر كل واحدٍ منها فيما يضرُّ به الحمض، لأجل تسكينه الحرارة، بسبب قوة برده. وهو (1) شديدُ النفع من الخفقان الحارِّ، وكذلك التوحُّش والتلهُّب فى القلب. وسببُ ذلك، شدةُ تعديله للحرارة المحدثة لذلك. ومع ذلك، فهو شديدُ الإضرار بأعضاء الصدر، لأن أكثر هذه الأعضاء عصبيةٌ، لأنه مع برده ويبوسته، شديدُ الغوص والنفوذ فيها. وكذلك (2) هذا الحمض شديدُ الإضرار بالصوت، لأنه لقوَّة جلائه (3) وتقطيعه، يزيل الرطوبات المملسة للحنجرة (4) وقصبة الرئة، فيخشُن (5) لذلك سطحها؛ ويلزم ذلك خشونة الصوت. وإذا استعمل هذا الحمض فى ذات
الجنب (1) ونحوها، فإن ضرره شديدٌ (2) جداً. وأما قشر ثمرة هذا النبات، فإن المربَّى منه نافعٌ للحلق والرئة، لأنه بعطريته يكون نفعه - ونفع ما يغالطه من العسل - فى هذه الأعضاء، شديداً جداً. ولا يبعد (3) أن يكون المربَّى من هذا القشر، نافعاً فى الخفقان الحادث عن برد القلب، وكذلك سائر الأمراض الباردة الحادثة للقلب. وكذلك دهن زهر هذا النبات، إذا دُهِنَ به الصدر. وإنما كان كذلك، لما فى ذلك من العطرية الملائمة للروح الحيوانى وآلاته. وورقُ هذا النبات يوسِّع النَّفَس الذى ضِيْقه عن البلغم، وذلك لأن شأن هذا الورق مفتِّحٌ للسِّدَّة البلغمية. ولا يبعد أن يكون قشر ثمرة هذا النبات يفعل ذلك، وكذلك زهرُه وحَبُّه.
الفصل الخامس في فعله في أعضاء الغذاء
الفصل الخامس في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الغِذَاء لما كان هذا النبات عَطِراً، والعطريةُ ملائمةٌ للروح والأحشاء، وذلك لأجل كثرة الأرواح فى الأحشاء. فلذلك، إذا طُبِخَ بِزْر هذا النبات، أو زهره أو قِشْر ثمرته (1) ؛ فى خَلٍّ أو فى شَرابٍ أو فى ماء العنب أو ماء الورد ونحو ذلك وشُرِبَ؛ كان ذلك موافقاً للأحشاء كلها، مقوِّياً لها (2) ، خاصةً للمعدة. وكذلك، إذا نُقِعَ ذلك فى هذه الرطوبات ونحوها. وذلك إذا عُملت بالعسل أو بالسُّكَّر، مثل المعاجين؛ نفعت المعدة وقوَّتها. ولذلك، كان جوارش الأُتْرُجِّ (3) ، وهو المتخذ من قشر ثمرته الموضوع فى العسل، إذا أُكِلَ قوَّى المعدة، وأعان على الهضم وعلى الاستمراء (4) ، لما فيه من الحِدَّة المسرعة لخروج الغذاء.
وقِشر الأُتْرُجِّ يشهِّى (1) الطعام، ويعطِّش؛ ولكنه يسكِّن العطش البلغمى. وكذلك زهر هذا النبات، إذا عُمل منه دهنٌ بزيت الإنفاق (2) ونحوه، كان ذلك الدهن مقوِّياً للمعدة. وكذلك إذا وُضع قشر ثمر هذا النبات فى الأطعمة - كالأباريز (3) - كان موافقاً للمعدة. ولما كان جوهر هذا القشر مركَّباً من أرضية ونارية، لا جَرَمَ كان مع تسخينه للمعدة، وإعانته لها على الهضم، ليس ينهضم سريعاً، بل هو عسر الهضم جداً، وإذا انهضم لم يكن غذاؤه (4) كثيراً، لأن جوهره يابسٌ أرضىٌّ نارىٌّ فهو لذلك: يهضم ولا ينهضم. والمربَّى منه أسرعُ انهضاماً، لأجل لينه وامتزاجه بالعسل، وإذا أُخذ (فى) (5) مضغه جيدا (6) ، سهل بذلك انهضامه فى المعدة، لأجل زيادة تصغُّر أجزائه (7) ، فإن المنفعل كلما كانت أجزاؤه (8) أصغر، كان قبوله للانفعال أكثر. وأما لحم هذه الثمرة، فهو شديد الغلظ، لأجل تركيبه من أرضية مائية
جامدة، فلذلك كان هضمه عسراً أيضاً، ولكنه أقبل للانهضام من القشر، لأن جوهر القشر شديد اليبوسة، وهذا اللحم كثير المائية. وكذلك تغذيةُ هذا اللحم بعد انهضامه، أكثر من تغذية القشر، لأن جوهر هذا اللحم أنسب إلى الغذائية من جوهر القشر، لأجل نارية القشر ومائية هذا. وإذا انهضم لحمُ الأُتْرُجِّ ولَّد خِلْطاً غليظاً، ولذلك هو من المسمِّنات. وهو ردئ الغذاء، عَسِرُ الخروج، مولِّدٌ للقولنج (1) . وإذا طُبخ هذا اللحم، أو أُجيد مضغه، أو رُبِّىَ بالعسل ونحوه؛ كان أسرع هضماً مما ليس كذلك، كما قلنا (2) فى القشر المربَّى (3) بالعسل (أنه) (4) أسلمٌ وأقلُّ ضرراً، لأجل تلطيفه بالعسل. ويفارق هذا اللحمُ القشْرَ، بأن هذا إذا لم ينهضم سريعاً، وَلَّدَ الرياحَ والنَّفْخَ كثيراً، ولا كذلك القشر. وذلك لأن تولُّد الرياح النفخ، إنما يكون من الدخانية، وهى إنما تحدث كثيراً، إذا خالط الأرضية مائيةٌ تصعِّدها - كما قلناه مراراً - وأرضية القشر، ليس يخالطها مائيةٌ كثيرة، بل نارية. ولا كذلك، أرضية اللحم. وإذا أُكل هذا اللحم بالأبزار (5) الحارة الكثيرة، كان أقبل للهضم، وقلَّت
نُفَخُهُ ورياحُهُ. وينبغى ألا يؤكل مع هذا اللحم طعامٌ آخر - وكذلك القشر - وذلك لأجل غلظ هذين، وعُسْر انهضامهما.فإذا كان معهما طعامٌ آخر، لم تُقبل الطبيعة على هضم هذين، لأجل عُسرهما (1) ، وأقبلت بكُلِّيتها على هضم الطعام الآخر، فكان ذلك سبباً لفساد هذين. وأما حمض الأُتْرُجِّ فهو دابغٌ للمعدة، لأجل يبوسته، مع تقطيعه لما يكون فى المعدة من الرطوبات، فتتهيَّأ (2) للانزلاق والخروج. ومع ذلك، فإنه يقوِّى المعدى بما فيه من العطرية - وإن قلَّت جداً - ويشهِّى الطعام جداً، لأجل قوَّة حموضته. ولكنه يلذع (3) المعدة القليلة الرطوبات. ويضرُّ جداً أصحاب (4) الفواق اليبوسى، ويمنع القئ، خاصةً رُبُّه وشرابُه، خاصةً إذا كان معه شئ من الطباشير (5) أو أوراق النعنع. ومنعه للقئ الصفراوى أكثر (6) . وهو يسكِّن العطش، ويزيل الغَمَّ الحادث عن حرارة المعدة وكثرة الصفراء فيها. وهو يقاوم حرارة المعدة. وإذا طُبخ رُبُّ الأُترُجِّ بالخلِّ، وسُقى نصف مقدار سكرجة، قتل العَلَق (7) المبلوعة وأخرجها، لأجل شدة تقطيع هذا المشروب، وإفراط جلائه (7) ولذعه (9) .
الفصل السادس في فعله في أعضاء النفض
الفصل السادس في فِعْلِه في أَعْضَاءِ النَّفْضِ أما حماض الأُتْرُجِّ فإنه - لأجل يبوسته - يقطع الإسهال، خاصةً الإسهال الكبدى والصفراوى. وفعله ذلك ليس بقوىِّ القوة، إذ (1) يخلو (2) هذا الحمض عن القبض القوى. ومع ذلك، فإنه لايجوز تناوله لذلك، إذا خيف من حدوث السَّحْج، لأنه لقوَّةِ لَذْعِه، يُعين على حدوث السَّحْج. ورُبُّهُ، أكثرُ قطعاً للإسهال. وهو يسكِّن شهوة الجماع، لأجل منافاة (3) مزاجه لمزاج المنِىِّ - وهو البرد واليبوسة - ولذلك يسكِّن غُلْمة (4) النساء. وبزر الأُتْرُجِّ قد يطلق البطن بما فيه من الدهنية، ولا يبعد أن يكون (5) مقوِّياً للباه، لأنه مع حرارته ذو (6) رطوبة فضلية. كما قلناه أولاً. وأما لحم الأُتْرُجِّ فلا فعل له فى عَقْدٍ أو إطلاق، ولكنه قد يُعين على الانتشار، فيعين على الجماع، وذلك بتوليده الرياح والنفخ. وإنما لايفعل ذلك
كثيراً، لأن أكثر ما يتولَّد منه من الرياح والنفخ، إنما يكون فى المعدة أو فى الأمعاء. ولأجل كثرة تولُّده لهذه فى الأمعاء، يحدث عنه كثيرا (1) : القولنج. أما قِشْرُ ثمرة الأُتْرُجِّ فقد يحبس البطن، وعصارته تُستعمل فى الأدوية المسهلة لإصلاحها. وأما زهر الأتْرُجِّ وورقه، فإن طبيخهما قد تنطَّل (2) به المقعدة، فينفع من الزحير (3) الكائن من البرد. وإذا نُطِّل به البطن، حلَّل الرياح والنفخ. وكذلك الدِّهْن المتَّخذ من زهر الأترج أو قشره، وذلك لأجل ما فى ذلك من السخونة المحلِّلة، مع العطرية المقوِّية.
الفصل السابع في فعله في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل السابع في فِعْلِه في الأَمْرَاضِ التي لا اخْتِصَاصَ لها بِعُضوٍ عُضو أما حماضُ الأُتْرُجِّ فإنه لأجل قوة بَرْده مع حموضته، هو شديدُ القمع للصفراء، وينفع كثيراً من أمراضها مثل الغِبِّ والمحرقة (1) . ويسكِّن اللهيب والحرارة، ويجلو (2) الآثار التى تكون فى الجلد، كالنَّمَش والبَرَص والكَلَف ويُصلح اللون؛ وذلك لأجل قوة جلائه (3) . وينفع جداً من القوباء (4) وذلك لأنه مع يبوسته المجفِّفة لما يكون فى القوباء من الرطوبة الحادة، هو - أيضاً - لشدة تقطيعه، يصغِّر أجزاء المادة الغليظة التى
لابد منها فى القوباء ويلطِّفها، فتتهيَّأ للتحلُّل. ومع ذلك، فإنه بقوة برده يسكِّن حرارة مادة القوباء فلذلك هو شديد النفع فيها. وإذا شُرب شرابه أو رُبَّه، نفع جداً من الحميات الوبائية، وذلك لأجل تقويته للقلب وتعديله لمزاجه. وإذا جُعل قشر ثمرة الأُتْرُجِّ فى الثياب، منع من تسَوُّسِها لأجل ما فيه من الحدة والنارية المانعة من تولُّد الحيوانات (1) . وإذا أُحرق هذا القشر، اكتسب - لامحالة - بالإحراق حِدَّةً ولُطفاً وتجفيفاً فلذلك ينفع - حينئذٍ - إذا طُلى به البهق والبرص وهو نافع جداً للبهق الأسود وكذلك حماض الأُتْرُجِّ ينفع من البهق، بقوة جلائه (2) . ودِهْنُ الأُتْرُجِّ يسخِّن العصب، وينفع من استرخائه (3) ، ويحلِّل الإعياء. كل ذلك لأجل تسخينه وتحليله. وتُعينه العطريةُ، على تقوية العصب. ويقال: إن طبيخ لحم الأُتْرُجِّ يسمِّن. ويشبه (4) أن يكون ذلك، لأجل تغليظه الدم. وإذا دُخِّن الأُتْرَجُّ أو ثمرته، وذلك بأن توضع (5) ثمرته فى النار كان ما يتبخَّر منها، مصلحاً لفساد الهواء والوباء، وذلك لما فيه من العطرية. وحَبُّ الأُتْرُجِّ يحلِّل الأورام، وكذلك جميع أجزائه (6) الحارة، كالورق والزهر وقشر ثمره.
الفصل الثامن في حاله في الترياقية
الفصل الثامن في حَالِهِ في التِّرْيَاقِيَّةِ كل مقوٍّ للروح، فهو ترياقٌ (1) . لأن الروح إذا قويت، تمكَّنت من دفع السموم ونحوها. فلذلك، كُلُّ مقوٍّ للروح، فهو ممكِّنٌ لها من دفع السموم وذلك هو الترياق وكُلُّ عطرٍ، فإنه مقوٍّ للروح. فلذلك (2) ، كُلُّ عطرٍ فهو ترياق! ويختلف ذلك بقوة العطرية وضعفها، فكلما كانت العطرية أكثر وأقوى كانت الترياقية أكثر. وإذا كان للعطر (3) مزاجٌ يعدِّل الروح، أو يصلح مزاجها - ونحو ذلك - كانت تقويته للروح أكثر، فكانت ترياقيته أكثرُ وأشدُّ. فلذلك، قشر الأُتْرُجِّ وورقه وزهره، وجميع ذلك، كثيرُ (4) الترياقية. لأن هذه الأشياء، مع قوة عطريتها، فإنها تقوِّى الروح، بمزاجها الذى هو حارٌّ باعتدالٍ. فإنَّ هذا المزاج ملائمٌ لجوهر الروح، لأنه ملائمٌ مناسبٌ، لكيفية الهواء المعدِّل للروح. وأما حَبُّ الأُتْرُجِّ فعِطريَّته أقلُّ، فلذلك ترياقيته أضعفُ من ترياقية القشر والزهر والورق. وأما حمض الأُتْرُجِّ فهو أقل ترياقيةٍ - أيضاً - لأنه أقل عطرية
وإنما يكون مزاجه (1) مُعيناً لعطريته على الترياقية، إذا كان قد جُعل للروح أو القلب مزاجٌ شديدُ الحرارة، حتى يُحتاج فى تعديلهما إلى ما هو قوىُّ البرد كما هو هذا الحمض. وأما لحم الأُتْرُجِّ فهو قليل الترياقية جداً، لأنه مع قِلَّة (2) عطريته، فهو باردٌ غليظٌ، لايناسب جوهر الروح. ومع هذا، فهو مولِّدٌ للأخلاط الغليظة؛ وذلك مما يقلُّ معه تولُّد الروح، ويُلزم ذلك ضعفها، لا قوتها. فلذلك كانت الترياقية فى لحم الأُتْرُجِّ قليلةً جداً. وربما كان لبعض هذه الأشياء، خاصيةً فى النفع من سُمٍّ دون سُمٍّ. فبِزْر الأُتْرُجِّ وورقة - وزن درهمين من كل واحدٍ منهما - إذا شُرب بالشراب، قاوم السموم كلها، خاصةً سُمُّ العقرب (3) . وكذلك، إذا طُلى بذلك موضعُ (4) اللسعة (5) . قِشْرُ ثمرة الأتْرُجِّ قريبٌ من ذلك. وعصارة قِشْرِ هذه الثمرة، ينفع من نَهْشِ الأفاعى شُرباً؛ وأما القِشْرُ، فينفع من ذلك ضماداً.
المقالة الثامنة فى أحكام الأثل
المقالة الثامنة فىِ أَحْكَامِ الأَثْلِ وكلامُنا فى هذا الدواء، يشتمل على ستة فصول.
الفصل الأول في ماهيته
الفصل الأول في مَاهِيَّتِه إنَّ الأَثْلَ شجرٌ ذو خشبٍ وأغصانٍ، لونها أخضرٌ إلى حُمرةٍ ما، ولا زهر له. وله ورقٌ شبيه بورق الطَّرْفاء حتى أنّ قوماً جعلوه ضرباً من الطرفاء (1) . وثمرُهُ يخرج على أغصانه، قليلُ القدر مثل (2) الحمص، وأصغر منه قليلاً؛ لونه بين الغبرة والسواد - إلى صفرةٍ ما - فى داخله حَبَّاتٌ صغار، ملتصقٌ بعضها ببعض يسمى: حَبُّ الأَثْلِ. وهذا الثمر يسمَّى العَذْبَة (3) ويسمى الكزمازج والكَزْمَازك (4) والجوزمازك (5) . ومعنى كوزمازك: عَفْصُ الطرفاء. وسُمِّى بذلك على سبيل التشبيه فى المضاف والمضاف إليه، لأن هذا الثمر فى نفسه، شبيهُ الطبع بالعَفْص وهو شجرٌ ثمرُهُ يشبه الطرفاء. فيكون معنى هذا الاسم: كعَفْصِ ما هو كالطرفاء. وفى الأَثْلِ عفوصة مع مرارة، فلذلك هو مركَّبٌ من أرضيةٍ باردةٍ بها
العفوصةُ، ومن أرضيةٍ حارَّةٍ بها المرارةُ. وفيه أيضاً، جزءٌ مائىٌّ (1) كثيرٌ؛ ولذلك هو شجرٌ سَبْطٌ، ليس بكثير التراكم - كما فى التين - ومع ذلك، فإن فيه هوائية. ولذلك، فإن هذا الشجر ليس برزينٍ جداً، ولا هو شديدُ التكاثف. فلذلك لابدَّ وأن يكون هذا النبات من أرضيةٍ باردةٍ عَفِصَةٍ، وأرضيةٍ حارّةٍ مُرَّةٍ، ومائيةٍ تَفِهَةٍ، وهوائيةٍ قليلة. وهو يكثر بأرض مصر، وفى بعض بلاد الشام.
الفصل الثاني في طبعه وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبْعِهِ وأَفْعَالِه على الإِطْلاَقِ لما كان الأَثْلُ من أرضيةٍ عَفِصَةٍ، وبعضها مُرَّةٍ، ومن مائيةٍ وقليلِ هوائية فهو - لامحالة - تغلب عليه البرودة، لأن العفوصة فيه أغلب من المرارة. ولابدَّ وأن تكون فيه يبوسةٌ (1) كثيرةٌ، إذ المائية فيه ليست زائدة كثيراً فلذلك هو قابضٌ، مقوٍّ، مجفِّف. وفيه تفتيحٌ وجلاءٌ، بما فيه من المرارة. وفيه تحليلٌ يسيرٌ، فلذلك هو منقٍّ. لأن الجلاء والتحليل، يتقاومان على إزالة الفضول الرطبة، وخاصةً مع التجفيف واليبوسة. وهو قريب الطبع من العَفْصِ (2) ولكن العَفْصَ أبردُ، وأشدُّ قبضاً.
الفصل الثالث في فعله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الرَّأْسِ لما كانت ثمرةُ هذا النبات باردةً قليلاً، يابسةً، مجفِّفةً، منقِّيةً مع تحليلٍ وتقوية، لما فيها من القبض؛ فهى - لامحالة - نافعةٌ للعين، إذ العين (1) لأجل رطوبتها مع ميلها إلى الحرارة، يوافقها ما يكون بالصفة المذكورة. ولأجل ما فى هذه الثمرة من الجلاء، والتحليل الذى يلزمه التلطيف صارت هذه الثمرة تحدُّ البصر، وتُعجن الشيافات بماء نقيعها، فتكون (2) أكثر نفعاً، وأشد تحديداً للبصر. ولأجل ما فى هذه الثمرة من العفوصة القبَّاضة، والمرارة المجفِّفة المنقِّية الجلاَّءة؛ صارت هذه الثمرة شديدة التشديد للَّثةِ، والتقوية للأسنان، والتثبيت لها إذا كانت متقلقلة. وبقوة تجفيفها، تأكل (3) اللحم الزائد فى اللثة - أو غيرها - وتنفع من تآكل الأسنان، وذلك لأجل تنقيتها لها بالتجفيف والتحليل. ولأجل تحليلها، هى تسكِّن وجع الأسنان. وإذ هذه الثمرة تفعل فى اللثة هذه الأفعال، فهى - لامحالة - تطيِّب النكهة إذ كان حدوثُ البخر، عن ترهُّل (4) اللثة، أو فسادها وعفنها، وعفن الأسنان.
الفصل الرابع في فعله في أعضاء الغذاء
الفصل الرابع في فِعْلِهِ في أَعضَاءِ الغِذَاءِ قد علمْتَ أنّ فى هذه الشجرة، قبضٌ لطيف، وتحليلٌ، وتفتيحٌ، وجلاء. وما كان كذلك، فهو شديدُ النفع من أوجاع الكبد وأورامها - على ما تعرفه فى موضعه - فلذلك، إذا طُبخت أصول هذه الشجرة، أو قلوب أطرافها، بالشراب أو بالخلِّ؛ كان ذلك شديدَ النفع من أوجاع الكبد. والطَّبْخُ فى الشراب أفضل، إذا كانت الحاجةُ إلى تقوية الكبد، وذلك لما فى الشراب من العِطرية. وكذلك، إذا كانت الحاجةُ إلى التليين كثيراً، كما إذا كانت الكبد صلبة. وأما إذا كانت الحاجة إلى زيادة تقطيعٍ وتلطيف، وذلك إذا كانت الموادُ غليظةٌ، فإن الطبخ فى الخلِّ يكون أفضل. وإذا نُقع الكزْمَازج (1) فى الماء الحارِّ يوماً وليلة، وشُرب بعد ذلك بالعسل أو بالسُّكَّر؛ نقَّى المعدة، وجفَّف رطوبتها الفضلية، وأزال ما فى المعدة من الفضول الغليظة المتعفِّنة، وحَبَسَ البطن. وقد يُنقع فى الشراب، فيكون ذلك أكثر تقويةً وتنقيةً للمعدة. وقد يكون هذا النقع (2) ، فى مثل ماء الحصرم أو ماء السفرجل فيكون شديد الحبس للبطن. وقد يكون هذا النقع فى الخلِّ، فيكون أشد تقطيعاً وجلاءً للمعدة، وأكثر نفعاً لورم (3) الطحال. وقد يُعمل من العذبة (4) شرابٌ
لأجل نفعها من أورام الطحال، وذلك لأجل ما فيها من التلطيف والتفتيح. والعذبةُ نافعةٌ من أوجاع الأمعاء، لأجل تحليلها وتقويتها وجلائها (1) .
الفصل الخامس في فعله في أعضاء النفض
الفصل الخامس في فِعْلِه في أَعْضَاءِ النَّفْضِ إذا شُرب نقيع العذبة، قطع نَزْفَ الدم (1) ، بما فيها من القَبْضِ. ولذلك هى تحبس نفث الدم، ودرور (2) الطمث، وتحبس الإسهَال - خاصةً العتيق المزمن العارض من الرطوبة المزلقة - وذلك لأجل تجفيفها، وتقويتها. وقد يُستعمل (3) من العذبة (4) وزنُ ثلاثة دراهم، إما سفوفاً أو لعقاً بشراب السفرجل إذا أُريد حَبْسُ البطن بقوة. أو بالعسل، إذا أُريد زيادة تنقية المعدة. وإذا ضُمِّدَ بالعذبة، الأعضاء التى تنصبُّ إليها الفضول، منعت ذلك الانصباب. وشُربها بالعسل ونحوه يمنع البلَّة المتجلِّبة إلى الرحم، ويحبس دم الطمث، ويقطع سيلانه. وإذا ضُمِّدت المقعدة برماد الأَثْل بَرَّد قوتها. وذلك إذا سُحق، وكُبست به مع بعض الأدهان، كدهن الورد أو دهن الناردين (5) أو دهن الآس.
الفصل السادس في فعله في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل السادس في فِعْلِه في الأَمْرَاضِ التي لا اخْتِصَاصَ لها بعُضوٍ عُضو إذا شُرِبَ نقيعُ العذبة أو طبيخها بالسُّكَّر أو بالعسل؛ نفع ذلك من اليرقان وذلك بما فيها من التفتيح. وكذلك، ينفع ذلك من صُفرة اللون. ورمادُ الأَثْلِ شديدُ الجلاء، فلذلك ينفع من الآثار التى تكون فى الجلد وينقِّى (1) الجلد من الوسخ ونحوه. وإذا طُبِخَ الأَثْلُ أو نُقِعَ فى ماءٍ حارٍّ، ثم شربه الصبيان؛ منع من حدوث الجرب الرطب المتعفن بهم، وذلك بسبب تنقية ذلك لمعدهم وأحشائهم (2) . وذلك يحسِّن ألوان الصبيان، وينقِّى (3) معدهم؛ وقد يصير سبباً لخصب أبدانهم، وذلك لأجل تنقية المعدة وتقويتها وتنقية الأحشاء، فيكون الهضم جيداً؛ وذلك من أسباب السِّمَنِ وجودة اللون. وكذلك، فإن شراب طبيخ الأَثْلِ يُحدث نضارة (4) اللون، ويزيده رونقاً. وشراب طبيخ العذبة ينفع من لسع الرُّتَيْلاء (5) وقد تُبدَّل العذبة بالعفص وبشحم الرُّمان لأن هذه الأدوية متقاربة القوى.
المقالة التاسعة فى أحكام الإثمد
المقالة التاسعة فىِ أَحْكَامِ الإثْمِدِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على أربعة فصول.
الفصل الأول في ماهيته
الفصل الأول في مَاهِيَّتِه إنَّ جوهر هذا الدواء، مركَّبٌ من جوهرٍ رصاصىٍّ وجوهرٍ حجرىٍّ، لأنه لو كان من رصاصٍ صِرْف، لما كان يبقى منه بعد السَّبْك أجزاءٌ أرضيةٌ حجرية ولو كان من حجرٍ صِرْف، لما كان يستخرج منه الرصاص، ولما كان وَضْعُه (1) مع الفضة حين سكبها، يوجب انكسارها، كما إذا خالطها رصاصٌ. فلذلك جوهر هذا الدواء مركَّبٌ من هذين الجوهرين، أعنى الرصاص والحجر. وقد علمتَ أنَّ جوهر الرصاص مركَّبٌ من الزئبق والكبريت. أما جوهر الأحجار، فقد يكون من ماءٍ جامد - كما يكون فى الجمد - وقد يكون من طينٍ منعقد، وقد يكون من (2) ماءٍ منعقدٍ بالحرارة المجفِّفة، وإلا كان يذوب بالنداوة. فبقى أن يكون مركَّباً من طينٍ لزجٍ عملت فيه الحرارة، كما يتحجَّر الفخَّار وكيزان الفُقَّاع (3) . فلذلك، يكون هذا الدواء أكثر تجفيفاً من الرصاص وذلك لما فيه من
النحاس المنعقد بالحرارة. ولذلك (1) ، كان هذا الدواء لايخلو (2) من عروقه وذلك لأجل انعقاد الطين اللزج المنعقد بالحرارة. والكبريت الذى مع زئبق هذا الدواء، لابد وأن يكون كثيراً بالنسبة إلى غيره من أنواع الرصاص لأنه لولا ذلك، لما كان هذا الدواء أَحَدَّ من الرصاص وأقلَّ برودة، وأكثر جفافاً. ولذلك، فإن حكم هذا الدواء كحكم الرصاص المحرق. واستعمال هذا الدواء، قد يكون وهو بحاله، وقد يكون بعد أن يحرق، وقد يكون بعد أن يُغسل، وقد يكون بعد أن يحرق ويغسل جميعاً. ولإحراقه صور أحدها: أن يُسخَّن ويُعجن بشحم، ويُترك على النار حتى يلتهب، ثم يُطفئ فى لبن امرأةٍ ولدت ذكراً، أو فى بول صبى، أو فى خمرٍ عتيق. فاللبن المطفئ فيه يزيده ليناً ورطوبة، وبول الصبى يفيده زيادة جلاءٍ وحِدَّة، والخمر يفيده زيادة تقوية لأجل العطرية. وثانيها: أن يوضع على الجمر إلى أن يلتهب، ثم يُخرج وينبغى أن لايؤخَّر إخراجه كثيراً، فإن ذلك يجعله فى قوة الرصاص المحرق سواء. وثالثها: أن يُلفّ بعجين ويخبز فى الفرن، وهذا النوع من الإحراق ليس يزيده قوة. وأما غسله، فقد يكون كما يُغسل القليميا (3) وقد يكون كما يُغسل النحاس المحرَّق، وقد يكون كما يُغسل خَبَث الرصاص. وستعرف كيفية ذلك كله، فيما بعد.
وأفضل الإثمد ما كان صفائحياً، سريع التفتُّت جداً، ولُفتاته (1) بريقٌ ظاهر (2) ، وكان خالصاً من الشوائب والأوساخ، أملس الباطن.
الفصل الثاني في طبيعته وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبِيعَته وأَفْعَالِهِ على الإِطْلاَقِ وإذ جوهرُ الإثْمِدِ جوهرٌ حجرىٌّ رصاصىٌّ، والجزء الرصاصىُّ منه كالمحترق لأجل كثرة كبريَّته - كما بيَّنَّاه - فلابد وأن يكون طبعه قريباً من طبع الرصاص المحرق. فلذلك، لابد وأن يكون أقل برداً من الرصاص وأن يكون مجفِّفاً يابساً خاصةً وما فيه من الأجزاء الحجرية تزيده يبوساً وتجفيفاً، لأن انعقاد هذه الأجزاء، إنما هو بالحرارة المجفِّفة. فلذلك، لابد وأن يكون الإثْمِدُ قليلَ البرد قوىَّ التجفيف. ويلزم ذلك، أن يكون قابضاً. وفيه مع ذلك، تغرية (1) . وقِلَّةُ بردهِ، إنما هو لأجل الحرارة المحرقة، والعاقدة الحجرية. ولهذه (2) الحرارة، لابد وأن يكون فيه تحليلٌ وجلاء؛ ومع ذلك (3) التجفيف، يلزمه أن يكون فيه تنقية. وظاهرٌ أنه لاغذائية فيه، فلذلك هو من الأدوية الصِّرفة. وإنما يستعمل من خارج، كما فى الرصاص المحرق وغير المحرق.
الفصل الثالث في أفعاله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث في أَفْعَالِه في أَعْضَاءِ الرَّأْسِ وإذ (1) الإثمد فيه جلاءٌ، وتحليلٌ، وتنقيةٌ، وتجفيفٌ قوى، وتغرية (2) . مع أنه غير شديد البرد، ولا له كيفيةً حادة أو لذَّاعة. فلذلك، هو شديدُ الموافقة للعين وأجزائها (3) . فلذلك، هو حافظٌ لصحتها، منقٍّ لفضولها. ويلزم ذلك أن يجلو (4) العين من الفضول المكدِّرة للروح الباصر. فلذلك الإثمد يصفِّى أرواحَ العين. فلذلك يُحِدُّ البصر - لأجل تنقيته لفضول الأجفان - ويزيل (5) المانع عن نبات الأهداب (6) ، فلذلك هو يُنبت شعر الأجفان ولذلك يدخل فى الشيافات التى تُستعمل لعلاج العين. وإذ هو مجففٌ منقٍّ، فلذلك هو - لامحالة - يزيل أوساخ قروح العين وينفعها. فلذلك، تتهيَّأ لنبات اللحم فيها، وتقوى (7) العين بتجفيف فضولها وتحليلها.
وكذلك (1) ، يقوِّى أعضاء العين، لأنه يزيل الرطوبات الفضلية المرخية لهذه الأعضاء، ولهذه (2) الأعصاب. وإذ هو مزيلٌ لفضول العين، فهو - لامحالة - مزيلٌ لما يحدث من الأوجاع والأوصاب فيها. فلذلك، هو يدفع الأوجاع والآفات عن العين. ونفعُه لأعين المشايخ والعجائز أكثر، وذلك لأن أعين هؤلاء كثيرة الفضول جداً، لأجل كثرة الأبخرة والرطوبات الفضلية فيهم. ولذلك، هو يقوِّى الأعين التى ضعفت من الكبر، وينقِّيها، خاصةً إذا كان معه المسك يستدرك (3) برده بحرارة المسك. ومع ذلك، فإن المسك مقوٍّ لأرواح العين، ومَنْ اعتاد الاكتحال به، لم يجز له ترك ذلك (4) . ونفعه لأعين النساء أكثر، لأجل كثرة فضول النساء. ومِن خاصَّته إذا كان معه دكساب (5) المسك، يستر برده (6) حرارة المسك؛ ومع ذلك، فإن المسك مقوٍّ لأرواح العين، مكثر الفضول فى عينيه (7) لفوات (8) ما كان يجفِّفها ويحلِّلها. ومَنْ لم (9) يعتد (10) الاكتحال به، فإنه إذا اكتحل به، فإنه يحدث له أولاً، أن
يكثر القِذَى (1) فى عينيه، وذلك لأجل انجذاب الفضول. ج (2) . لأجل مفاجأة (3) المجفِّف لما يكون فى العين من تلك الفضول، فيكون ما يخرج من العين، من الفضول، جذَّاباً لفضولٍ أخرى كثيرةٍ، لأجل استحالة الجلاء. ولذلك، كان (4) كثيراً ما يحدث (5) عند الاكتحال بالإثمد رَمَدٌ. وذلك لأجل انجذاب الفضول إليها. ولأجل زيادة تجفيف الإثمدِ هو يُنبت اللحم فى قروح العين، ويملأ الحفْر الذى يكون فيها، ويُدمل قروحها، ويأكل اللحم الزائد فيها. وذلك لأنه إذا جفَّف الرطوبات الفضلية، صار الدم الواصل إلى موضع القرحة أو الحفر، سهل الانعقاد، فلذلك ينعقد (6) - بفعل الطبيعة - لحماً. وأيضاً، فإن الإثمدَ لقوة تجفيفه، يزيل الدمعة، ويصفِّى العين من الألوان المكدِّرة للون الطبقة الملتحمة. وذلك لأجل تجفيفه الفضول المكدِّرة لها. ولأجل ما فى الإثمدِ من التجفيف البالغ، والقَبْض؛ صار نافعاً جداً من الرُّعَاف الدماغى، يقطعه بقوة. وكذلك يقطع نزف الحيض، إذا تحمَّل به. وإذا استُعمل على ظاهر الرأس، قتل القمل ومنع تولُّده؛ وذلك لأجل تجفيفه المادة التى يتولَّد منها القمل.
الفصل الرابع في أفعاله في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل الرابع في أَفْعَالِهِ في الأَمْرَاضِ التي لا اخْتِصَاصَ لها بعُضْوٍ عُضْو إنَّك قد علمْتَ أنَّ الإثمد يجفِّف العين، ويجلوها من الأوساخ، وينقِّيها ويُنبت فيها اللحم؛ فهو كذلك يفعل فى جميع قروح الأعضاء. لكن قروح الأعضاء الأُخر، إذا كانت عتيقة، لم يكن للإثمد فيها فعلٌ ظاهر (1) . وذلك لأنَّا إذا قلنا إن الإثمد قليل التجفيف، فأنَّا نعنى بذلك: أنه كذلك بالنسبة إلى العين لأن العين عضوٌ رطبٌ، والقروح التى تحدث فيها، يكفى فى تدبيرها (2) ما يكون ضعيف التجفيف؛ ولا كذلك الأعضاء اليابسة، فإنها تحتاج فى علاج قروحها إلى ما يكون تجفيفه شديداً جداً، لتمكَّن بذلك من أن تقوى على رَدِّ (3) مزاج القُرحة إلى مزاج ذلك العضو، وهو المزاج اليابس. فلذلك، كان الإثمد قوىَّ التجفيف بالنسبة إلى قروح العين، وهو ضعيف بالنسبة إلى قروح (4) باقى الأعضاء. فلذلك، إنما ينفع فى علاج قروح (5) باقى
الأعضاء، إذا كانت تلك القروح مبينة (1) ، أو كانت نقية. وكذلك (2) ، هو يلحم الجراحات (3) الطرية إذا حُشيت به، لكنه يُحدث بها لوناً كلونه. ولقوة تجفيف الإثمد بالنسبة إلى قروح العين، هو يُذهب اللحم الزائد فيها ولايفعل ذلك فى غير هذه القروح، لأن ذلك إنما يكون بما تجفيفه قوى بالنسبة إلى تلك القروح. وإذا (4) خُلط الإثمد ببعض الشحوم الطرية، ولُطخ به مواضع حرق النار، لم يعرض لها الخشكريشة وذلك لأجل ما فيه من التبريد والتجفيف الكافى فى ذلك، لأن هذا يكفى فيه ما تجفيفه ضعيف، لأن المواضع التى تلاقيها النارُ، لابد وأن يذهب كثيرٌ من رطوباتها؛ فلذلك يكفى فى تجفيفها، ما تجفيفه ضعيف. وإذا خُلط الإثمد بالمُو (5) والإسفيداج (6) أدمل القروح العارضة عن حَرْق
النار، إذا كانت قد حدثت لها الخشكريشة. وقد ينفع الإثمد من قروح الذكر ونحوه من الأعضاء اليابسة، وذلك إذا كانت هذه القروح غير عتيقة، ولا كثيرة الوَضَرِ (1) .
المقالة العاشرة فى أحكام الإجاص
المقالة العاشرة فىِ أَحْكَامِ الإجَّاص وكلامُنا فيه، يشتمل على سبعة فصول.
الفصل الأول في ماهيته
الفصل الأول في مَاهِيَّتِه المشهور بدمشق (1) من لفظ الإجَّاص هو الكمثرى، أما المسمى بالإجَّاص فهو يسمونه بالخوخ، ويسمون الخوخ دراقن. ولا نزاع فى الأسماء. وثمر الإجَّاص يختلف، فمنه أسودُ، ومنه أصفر، ومنه فِرْفيرى (2) ؛ والأبيض يُخصُّ باسم الشاهلوج والشاهلوك. وأيضاً، منه كِبارٌ، ومنه صِغارٌ جداً، ومنه متوسِّط. والكِبارُ جداً يسمى الإجَّاص الشتوى والصغار جداً يسمى القراسيا ومن القراسيا صنفٌ مفرطح الشكل فِرفيرى اللون، يُسمَّى بدمشق القراسيا البعلبكى وإنما يتكوَّن بدمشق بالتطعيم (3) . وأما النوع الآخر، فهو مستديرٌ، أشدُّ حُمرةً من الأول، وأميل إلى السواد وأقوى حموضة، ويسمى بدمشق القراسيا المجهول لأنه يوجد بغير تطعيم (4) . وأما الإجَّاص المتوسط القدر، فمنه مستدير (5) يُعرف فى دمشق وفى الأندلس بعيون البقر. ونوعٌ أصغر منه، يُعرف بدمشق بخوخ الدُّبِّ وبمصر
بالقراصيا. ومنه ما هو إلى طولٍ، ويسمَّى بدمشق الإجَّاص الصيفى وهذا منه أبيضٌ إلى صُفرةٍ، ومنه أسودٌ. وثمر الإجَّاص كثير المائية جداً، فلذلك يحتاج أن تكون المائيةُ المنصرفة إليه كثيرةً جداً. وشجره لايمكن أن يكون مائياً، لأنه منتصبٌ؛ فلذلك، لابد وأن يكون متخلخلاً، ليسهل نفوذ المائية فى جرمه إلى الثمر. فلذلك، هذا الشجر ليس بشديد الصلابة، فلذلك يعرض له الانكسار سريعاً. ولذلك، ورقُه وقُضبانه وخشبه وعروقه، كل ذلك أرضىٌّ، لأجل انصراف أكثر المائية النافذة إليه، إلى ثمره. ولأجل حاجته إلى كثرة المائية، إنما ينبت ويعظم فى الأراضى الندية، وعند مجارى المياه. وفى (1) ثمره - مع المائية الكثيرة - يسيرٌ من الأرضية، وهى شديدةُ الممازجة إلى المائية. فلذلك، كان فى الثمر لزوجةٌ، ويعلو (2) الأسود منه شئٌ كالغبار وذلك مما يندفع من فضول الشجرة إلى ظاهرها عند النضج، من الأجزاء الأرضية. لأن هذه الثمرة، كان تكوُّنها واغتذاؤها (3) من الأجزاء التى الغالب عليها، لا جَرَم صارت (4) الأجزاءُ الأرضية اليابسة جداً، تندفع (5) عنها؛ وذلك بأن تتصعَّد بالحرارة المنضجة، فما يبقى منها فى ظاهر هذه الثمرة، يُحدث فيها كالغُبرة (6) .
والكبار جداً من الإجَّاص وهو المعروف بالشتوى، أكثر أرضيةً من الصيفى ولذلك فإن جِرْم الشتوى أصلب، وإذا جُفِّف، لم ينقص نقصاً مفرطاً. ولا كذلك الصيفى، فإنه كثير الجِرْم، وإن جُفِّف ذهب أكثر جرمه، حتى لايبقى على حَبِّه سوى جِرْم دقيق. وأما الأصفر، فهو كثيرُ المائية جداً، حلوٌ. والكبار جداً - الشتوى - أفضل لأنه أكثرُ تغذيةً وأقلُّ إحداثاً للعفونة، وذلك لأجل اعتدال مائيته. وأفضلُه، ما كان رقيقَ القشر، ليِّناً.
الفصل الثاني في طبعه وفعله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبْعِه وفِعْلِه على الإِطْلاَقِ أما ثمرةُ الإجَّاص فلأنها كثيرة المائية، فهى لامحالة باردةٌ رطبةٌ، ولذلك يخلو (1) طعمها عن الكيفيات التابعة للحرارة (2) . ويختلف هذا الثمر فى الرطوبة لأجل اختلافه فى كثرةِ المائية وقِلَّتها، ولأجل طعمه؛ فما كان منه حامضاً، فهو أقل رطوبة، لأن الحموضة تحدث بالغليان، وهو يحلِّل كثيراً من المائية، ولذلك كان الحامض من الإجَّاص أقل إطلاقاً للبطن من الحلو (لأن الحلو) (3) أكثر مائية. وما يوجد (4) فى طعمه قبضٌ، كالقراسيا المعروفة فى دمشق بالقراسيا (5) المجهولة فهو أقل رطوبةً وأقبض. وكذلك، جميع أجزاء هذه الشجرة باردٌ، وإلى يبوسة. وذلك لأجل غلبة الأرضية عليه، مع قِلَّة النارية. فلذلك (6) ، ليس يوجد فى شئٍ من أجزاء هذه الشجرة، شئٌ حريفٌ. وأما صمغُ هذا الشجر، فهو حادٌّ قطَّاعٌ. وذلك لأجل كثرة النارية فيه لأجل اندفاعها من الغذاء المجذوب إلى هذا النبات. وإنما كان كذلك، لأن
مائية (1) الغذاء المنجَذِب إلى هذا النبات، لابد وأن تكون كثيرة - لأجل الثمرة - ولابد وأن يكون نفوذها إلى الثمرة سريعاً. وإنما يمكن ذلك، بأن يخالطها جزءٌ نارىٌّ منفذٌ. وإذا أخذ الثمرُ ذلك الجزء المائى، بقيت (2) النارية تحتاج إلى الانفصال، لأنها لاتصلح أيضاً لغذاء هذا الشجر؛ فلذلك، تخرج مع فضولها. وذلك لأجل كثرة النارية فيها، فلذلك، كان صمغُ هذا الشجر: حادّاً قطَّاعاً.
الفصل الثالث في فعله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الرَّأْسِ إن ثمر الإجَّاص وإن كان كثير المائية، فإنه يقلُّ بَخْره؛ وذلك لأن ما فيه من اللزوجة، يمنع تصعُّد الأبخرة. فلذلك، ليس يحدث من أكله صداعٌ، بل كثيراً ما يسكِّن الصداع الحارَّ والخمارى (1) ونحو ذلك (2) . وشَرَابُهُ شديدُ التسكين للصداع الكائن فى الحميات الصفراوية، لأن هذا الصداع إنما يحدث من (3) الأبخرة الحارَّة. وهذا الشراب فيه من اللزوجة (4) ، ما يمنع تصعُّد الأبخرة إلى الرأس؛ وبما فيه من التبريد والترطيب، يعدِّل المزاج. فلذلك، يسكِّن هذا الصداعَ كثيراً. وما كان من الإجَّاص فى طعمه قبضٌ ما، فإن تسكينه لهذا (5) الصداع أكثر؛ وذلك لأنه بقَبْضِه (6) ، يشتد منعه لتصعُّد الأبخرة. ولذا، ثمرُ الإجَّاص يفعل ما قلناه، فهو موافق جداً إذا استُعمل فى أمراض العين الحارَّة - كالرمص (7)
الصفراوى ونحوه - فإن الذى ليس كذلك، قد يضرُّ الرمد بما يتبخَّر منه. فلذلك التنفُّل بالقراسيا شديدُ النفع فى الرمد الصفراوى. وعصارةُ هذا النبات، وطبيخُ قُضبانه وأصوله، كل ذلك نافعٌ لأورام الحلْق يمنع النوازل إلى اللهاة واللوزتين، ويشدُّ اللَّثَة. وذلك إذا تُمِضْمِضَ به، وذلك لما فى هذه الأجزاء من القبض، لأجل كثرة الأرضية فيها. وكذلك، جميع أوراق الأشجار التى فيها قبضٌ. والاكتحال بصمغ الإجَّاص يحدُّ البصر، وذلك لما فيه من التلطيف الملطِّف للروح الذى فى العين. وكذلك، هذا الصمغ يُدمل قروح العين، وذلك لما فيه من (1) الغروية (2) والتجفيف، لكنه - لحِدَّته (3) - إنما يُستعمل إذا كان معه (4) ما يسكِّن حِدَّته كالإسفيذاج والكُثيراء (5) ، ونحو ذلك.
الفصل الرابع في فعله في أعضاء الصدر
الفصل الرابع في فِعْلِه في أَعْضاءِ الصَّدْرِ إنَّ ثمر الإجَّاص شديد التطئفة للهيب القلب (1) ، ولذلك هو شديدُ النفع لمن قلبه حارٌّ، ولذلك فإنَّ شرابه من أوفق الأشربة للمحمومين بالحمِّيات الحادة خاصةٌ الصفراوية. وشرابه لايكاد يضرُّ أصحاب السعال من المحمومين، إذا لم يكن سعالهم عن ذات الجنْبِ (2) وذلك لأجل قِلَّة حموضته، مع أن حموضته لا لذع (3) معها ولا قبض. ولذلك، يُختار لأصحاب السعال من المحمومين، شراب الإجَّاص الكبار دون شراب القراسيا وذلك، لأجل القبض الذى فى شراب القراسيا. وأما
أصحاب ذات الجنب، فإن شُرْبهم (1) الإجَّاص يضرُّهم (2) بما فيه من اللزوجة فإن هذه اللزوجة تغلِّظ النفث، فلا يسهل خروجه. وإذا احتيج فى أمراض الصدر وأوجاعه، إلى تناول حامض؛ فلا شئ كالإجَّاص وشرابه، لخلوهما عن الحِدَّة والقَبْض.
الفصل الخامس في فعله في أعضاء الغذاء
الفصل الخامس في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الغِذَاءِ إن الإجَّاص قليل الغذاء، وذلك لأن رطوبته مائيةٌ لايسهُل انعقادُها إلى جوهر الأعضاء. وما كان منه أكثر (1) أرضية، كالإجَّاص الكبار؛ فهو أكثر تغذيةٌ من الإجَّاص المائى المعروف بالصيفى، والأبيض المسمَّى بالشاهلوج. لأن هذا النوع كثيرُ المائية جداً. ولايخلو (2) الإجَّاص من إرخاءِ المعدة، وما كان منه أكثر مائيةً - كالحلو والشاهلوج والصيفى - فهو أكثر إرخاءً للمعدة. وما كان منه أقبض طعماً كالقراسيا المعروفة بالمجهولة؛ ففيها تقويةٌ للمعدة، وتمنع (3) القئ الصفراوى (4) وذلك بما فيها من القبض، وكذلك شرابها. ولذلك يؤمر المحمومون بالتنفُّل (5) بها، مع السُّكَّر. والإكثار من القراسيا المعروفة بالبعلبكية، تُحدث الغثيان لأجل حلاوتها. وأصحاب المعدة الحارَّة، لايتضرَّرون بالإجَّاص، بل ينتفعون به جداً لتعديله مزاج المعدة، وتسكينه المرة الصفراء المتولِّدة بسبب حرارة المعدة. اللهمَّ
إلا أن تكون (1) معدهم - مع حرارتها - ضعيفةً كثيرةَ الرطوبة (2) . ولا يحتاجون كثيراً إلى تناول السِّكَنْجَين (3) بعد تناول الإجَّاص. وأما الذين معدهم باردةٌ (4) ، فهم يتضرَّرون بكثرة تناول الإجَّاص وينبغى أن يردفوه بأكل العسل وشُرْب مائه (5) ، وشُرْب الشراب الصِّرْف، وأكل الجلَنْجَبين (6) السُّكَّرى أو العسلى، بحسب قوة برد المعدة وضعفه. وقد يحتاجون مع ذلك إلى مثل الكُنْدُر (7) أو المصطكى (8) ونحو ذلك، مما ينفع بلَّة المعدة. والحامضُ من الإجَّاص أقل إرخاء (9) للمعدة، لأنه أقل مائيةً، لأجل تحلُّل
كثير من مائيته بالغليان المحدث للحموضة. والإجَّاصُ الفَجُّ وهو الذى أخذ فى النضج، شديدُ القمع (1) للصفراء، موافقٌ للمعدة الحارة؛ وذلك لأجل برده، مع القَبْض الذى يكون فيه لأجل فَجَاجَة مائيته وجمودها (2) . وأما الذى لم يأخذ بعدُ فى النضج، فهو كثير التقوية للمعدة الحارة، ويمنع القئ الصفراوى جداً؛ وذلك لأن هذا يكون بعدُ إلى عفونةٍ، فيكون جَمَّاعاً لأجزاء المعدة، فيكون مقوِّياً لجرمها. والطعام المتَّخذُ من اللحم والإجَّاص النضيج فهو مع نَفْعه للمحرورين لايخلو (3) من إرخاءٍ للمعدة. لكنه لا ينفخ، بخلاف المتَّخذ من الإجَّاص الفَجِّ. وينبغى أن يكون أكل الإجَّاص قبل الطعام، فإن المأكول بعد الطعام يَفْسد ويُفْسد الطعام، وذلك لأجل مائيته. وإذا أكل الشيخُ الإجَّاصَ فلْيردفه بالعسل وذلك نافعٌ للمشايخ لأجل يُبْسه لبطونهم. وانهضامُ الإجَّاص عَسِرٌ، لأجل لزوجته. وغذاؤه (4) قليلٌ، لأجل مائيته.
الفصل السادس في فعله في أعضاء النفض
الفصل السادس في فِعْلِه في أَعْضَاءِ النَّفْضِ ِ لماَّ كان الإجَّاصُ النضيجُ الرطبُ كثيرَ المائية، وإلى لزوجةٍ؛ فهو لامحالة يليِّن البطن بمائيته (1) ، ويُزْلِقُ بلزوجته. خاصةً الحلو منه، فإنه أكثر مائية - كما قلناه - وبذلك يُسهل الصفراء، لأن البلغم للزوجته، لا ينزلق (2) بالإجَّاص بخلاف الصفراء. وأما السوداء، فقد تقبل الانزلاق بالإجَّاص ولكن أقل من الصفراء، لأجل عُسِرْ انفعالها، بسبب غِلَظِها. والذى فى طعمه (3) قبضٌ، فإن إسهاله أقل. وأما إذا كان الإجَّاص فَجّاً فهو لامحالة قابضٌ، فلذلك لا يُسهْل (4) . بل ربما عَقَلَ البطن. وأما الإجَّاصُ البرىُّ فعاقلٌ للبطن، لأجل قلة مائيته، وهو شديدُ الحموضة. وأما الإجَّاصُ اليابسُ فلا يُسهل (5) أيضاً، وذلك إذا أُكل بحاله؛ وأما إذا نُقع أو طُبخ، فإنه يُسهل. وكذلك مرقته. وشراب الإجَّاص إنما يتَّخذُ من النضيج، فلذلك هو ملينُ البطن، مُزْلقٌ مُسَهِّلٌ للصفراء. وإذا أُكثر (6) من أكل الإجَّاص أرخى المعدة، وبلَّها، وكثَّر
الرطوبات فيها، وكَثُرَ الإسهال عنه، وكثيراً ما يُحدث قيام الأغراس (1) - وذلك إذا كان حامضاً - ويولِّد الرياح والنفخ. وليس يظهر فى الإجَّاص ولا فى شرابه تفتيحٌ كثيرٌ، ولا إدرارُه البول. وقد قال بعضهم إنه يُدِرُّ الطمث، وذلك إذا شُربت (2) سُلاقته - وإن استُبعد ذلك! - وصمغُه يفتِّت حصاة الكلى والمثانة، وذلك لما فيه من التقطيع والحدة. ومع ذلك، بدسومته، يغرِّى؛ فلا يحدث من الحصاة المفتتة، سَحْجٌ فى المجارى، ونحو ذلك. فلذلك، هو شديدُ الموافقة للحصاة التى تكون فى الكلى والمثانة.
الفصل السابع في فعله في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل السابع في فِعْلِه في الأَمْرَاضِ التي لا اخْتِصَاص لها بعُضْوٍ عُضْوٍ إن الإجَّاصَ لأجل برده، ورطوبته، وقمعه للصفراء، وإطلاقه للبطن وتسكينه للصداع الحارِّ والبخارىِّ (1) ؛ هو شديد النفع للحميات الحادة فى الحال لكنه بما فيه من المائية، قد يُعِدُّ الأخلاط للعفونة، فيولِّد الحميات. وأما شرابُ الإجَّاص وطبيخهُ وماءُ نقيعه، فإنَّ نَفْعَ ذلك للحميات الحادة عظيمٌ. ومع ذلك، فإنه لا يُخشى منه ما يُخشى من الإجَّاصِ الرطب من التهيئة للحميات. ومع ذلك، فإنه يسكِّن اللهيب والكرب، وينفع كثيراً من الحكَّة والجرَبِ، وذلك لإخراجه المِرَّة، وكسره (2) لتأديتها، مع تبريده (3) وترطيبه. وصمغُ الإجَّاص شديدُ النفع للقوباء، وذلك لأجل تحليله وتقطيعه الدسومة واللين اللذين (4) فيه، خاصةً إذا كان معه (5) سُكَّرٌ أو عَسَلٌ. والعسلُ أولى لزيادة جلائه وقوة تحليله.
المقالة الحادية عشر فى أحكام الإذخر
المقالة الحادية عشر فىِ أَحْكَامِ الإذْخِرِ وكلامُنا فيه، يشتمل على ثمانية فصول.
الفصل الأول في ماهية الإذخر
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ الإِذْخِرِ إنّ الدواء المسمَّى بالإذخر، من أسماء اليونانية: سحرليس (1) . والأَسَلُ اسمه باليونانية: سحرليس الآجامى (2) . فقد اشترك الإذْخِر والأَسَلُ فى لفظة سحرليس ثم إن المفسرين فسَّروا سحرليس بالإذْخر، فلذلك صار الأَسَلُ يُقال له الإذْخر الآجامى (3) ! فذلك، لفظ الإذْخر يقال على هذين النوعين، باشتراك الاسم بالاشتراك المعنوى، حتى يكون لفظ الإذْخر يُقال عليهما بالتوالى. وجوهرُ الإذخر مركَّبٌ من جوهر أرضىٍّ باردٍ قابض (4) ، ومن جوهرٍ نارىٍّ
قليلِ الهوائية لذَّاعٍ للَّسان (1) . وفيه هوائيةٌ كثيرة، ولذلك هو خفيفٌ. والمائية فيه قليلةٌ جداً، ولذلك ليس له عصارةٌ يُعتد بها؛ ولذلك فإن نباته أكثره إنما هو فى المواضع الحارة، كأرض الحجاز ونحوها (2) . تمتد كثيراً، وهى ذات فروع (3) لونها أبيض. وقضبانه رقاق وردى. وإذا أُيْبِسَ، ابيضَّ، لذهاب المائية منه فلذلك يزداد (4) يبوسة. وهو قابضٌ، مبرِّدٌ بما فيه من الأرضية الباردة، محلِّلٌ مفتِّحٌ مليِّنٌ بما فيه من النارية اليسيرة. وهو شديدُ الشبه بالحلْفاء. وإذا حصل فى موضعٍ من الأرض كَثُرَ فيها جداً. وهو أقصر من الحلفاء وذلك لأجل زيادة يبوسته على يبوسة الحلفاء. وأفضله العربىُّ، خاصةً الحجازىُّ ويسمَّى الحرَمى خاصةً الضاربُ منه إلى الحمرة، والزكُّى الرائحة، لأن ما يكون (..) (5) وأَنْسبُ لجوهر (6) الروح لأجل
زيادة العطرية. وإذا كان أكثر لذعاً للِّسان، فهو أفضل؛ لأن هذا تكون (1) ناريته - بعدُ - لم تتحلَّل.
الفصل الثاني في طبعه وفعله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبْعِه وفِعْلِه على الإِطْلاَقِ لماَّ كان جوهر هذا النبات، أكثره من أرضيةٍ وناريةٍ وهوائيةٍ، وكانت المائية فيه قليلة، فلابد وأن يكون حارّاً يابساً. أما حرارته، فلأن برد الأرضية ضعيفٌ لا يقاوم حرارة النارية والهوائية. وأما يبوسته، فلأن رطوبة الهوائية لا تأثير لها فى البدن، ومائيته قليلةٌ لا تتدارك تيبُّس الأرضية والنارية. فلذلك، يجب أن يكون هذا الدواء، حارّاً يابساً. والأرضيةُ الناريةُ، من شأنها جمع أجزاء الأعضاء، وذلك لأن البرد واليبوسة - كليهما - جَمَّاعان (1) للأجزاء. فلذلك، هذا الجزءُ الأرضىُّ الذى (2) فى الإِذْخر قابضٌ، وما فيه من النارية، فإن من شأنه التحليل والجلاء والتفتيح والإنضاج والتيبُّس والتلطيف. فلذلك الإذْخر من شأنه ذلك كله. وجوهره لطيفٌ، فلذلك يكون تأثيره سريعاً نافذاً، وامتزاجُ أجزائه (3) عويص (4) ، فلذلك يُتمكَّن بحرارةٍ ما (5) ، من التفريق بينها، حتى يفعل جزءٌ منها ما تفعل (6) الأجزاء ضده؛ فلذلك يصدر عنه: القبضُ والتفتيح (7) ، ولذلك يحبس النزف ويفتح أفواه العروق! وذلك لأنه يحبس
النزف الدموى، بما فيه من الأرضية القابضة. ويفتح أفواه العروق، بما فيه من الجزء النارى. وإذا كان نزفُ الدم، من استرخاء العروق وضعفها، فإن حَبْسه لها شديد لأنه - مع (1) قبضه - مقوِّ للأعضاء بما فيه من القبض والعطرية. والقبضُ فى أصوله أكثر، لأن حدوث الزهر - كما بيَّنَّاه - إنما هو من الأجزاء المتبخِّرة، وهذه الأجزاء لابد وأن تكون الأرضية فيها قليلة، فلذلك تكون النارية والهوائية فيها أكثر فلذلك، يكون هذا الفُقَّاح (2) ألطف كثيراً من الأصول، وتكون الأصول أكثر تجفيفاً. وفى جميع أجزائه (3) إنضاجٌ، لكن إنضاجَ الأصول أقلُّ، لأجل كثرة أرضيتها.
الفصل الثالث في فعله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الرَّأْسِ اشتمام فُقَّاح الإذخر ينقِّى الرأس للطافته (تنفذ رائحته إلى داخل الرأس كثيراً، فيجلو ما (1) يكون فيه من الفضول. وأما باقى أجزائه (2)) (3)) فإن اشتمامه يُثقل (4) الرأس، لا من رائحته، إنما لأنه (5) ينفذ منها إلى الدماغ قَدْرٌ يسير وحرارته قاصرةٌ فلا تقوى على تحليل الفضول، بل على تنكيلها، فتدمى (6) الأعصاب المقلَّة للرأس، فيُحَسُّ ثقيلاً. ولذلك، كان اشتمام هذه الأجزاء - جميعاً - يُنوِّم، وذلك لأجل تسييلها لرطوبات الدماغ. ويجوز أن يكون اشتمام الفُقَّاح لايفعل ذلك، بل يُسهِّر! لأجل تحليله الرطوبات. وقد قيل: إن اشتمام الإذخر يخدِّر، وسبب ذلك ما قلناه. وهو يسيِّل رطوبات الدماغ، ويلزم ذلك ارتخاء الأعصاب التى بها الحِسُّ، وكذلك (7) - إذا
كان ضعيفاً - أحدث الخدَرَ. وجميع أجزاء الإذخر تشدُّ الضمور (1) ، وذلك لما فيه من التجفيف، وتحليل الرطوبات الفضلية، والقَبْضِ القوى؛ ولذلك، يُطيِّب النكهة. وقد يُغسل الوجه بطبيخه، لأوجاع العين وضعفها وتحليل فضولها. وكذلك، يُتَمَضْمَضُ بطبيخه، لأوجاع الأسنان (2) .
الفصل الرابع في فعله في أعضاء الصدر
الفصل الرابع في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الصَّدْرِ جميع أجزاء الإذْخر نافعةٌ للرئة، مسكنِّةُ لأوجاعها، مقوِّيةٌ (1) لها، مفتِّحةٌ لسُدَدها. وذلك لأن هذا الدواء، مع أنه عَطِرٌ مفتحٌ قابضٌ مقوٍّ؛ فإن جوهره لطيفٌ، فيسهل نفوذه إلى الرئة. إما من جهة الحجاب الحاجب بين المرئ وقصبة الرئة، لأجل (2) لطافة هذا الدواء. وإما من جهة القلب؛ فإن هذا الدواء - لعطريته - يكثر ما ينفذ منه إلى القلب، ومن هناك ينفذ إلى الرئة. والفُقَّاحُ أولى بذلك، لأجل (3) زيادة لطافته وكثرة عطريته. وكذلك، جميع أجزاء الإذْخر حابسةٌ لنفث الدم، بما فيها من القَبْض. وكان ينبغى أن يكون فعل الأصول لذلك أكثر، لأنها أكثر قبْضاً لأجل زيادة أرضيتها؛ وأن يكون فعل الفُقَّاح لذلك أقل، لأن هذا الفُقَّاح أكثر ناريةً (4) وتفتيحاً. لكن الواقع بخلاف ذلك، وذلك لأن هذا الفُقَّاح - لأجل شدة لطافته - يصل إلى داخل الرئة، فيكون فعله فى حَبْس نفث الدم أكثر وإن كان أضعف قبضاً. وأما الأصول، فإنها وإن كانت أقوى قبضاً، فإن وصولها إلى داخل الرئة
يقلُّ ويتأخَّر، إلى أن تضعف قوتها، فلذلك يكون تأثيرها فى هذا الحبس أضعف. ويظهر لى، والله أعلم؛ أن الإذْخر من الأدوية المقوِّية للقلب، وإن كنتُ لم أمتحن ذلك بالتجربة.
الفصل الخامس في فعله في أعضاء الغذاء
الفصل الخامس في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الغِذَاءِ لما كان جوهرُ الإذْخر من أرضيةٍ، وناريةٍ، وهوائية؛ وجميع هذه منافيةٌ للغذاء. فلذلك (1) الإذخرُ من الأدوية الصِّرْفة. ولما جمع بين القبض والتحليل والتقوية والتنقية، فهو لامحالة شديدُ النفع للأحشاء، وبخاصةٍ للمعدة والكبد كيف لا (2) وإنه - مع هذه الأفعال (3) - مفتِّحٌ. ومع ذلك، فإنه عَطِرٌ. وتقويته لفمِّ المعدة كثيرةٌ، وذلك لأجل عِطريته. وفُقَّاحه أكثر تقويةً بالعطرية، وأصوله أكثر تقويةً بزيادة القبض، فلذلك تقويةُ فُقَّاحه لفم المعدة أكثر لأن فم المعدة لكثرة أرواحه، تشتد حاجته إلى العطرية. وأما قلب (4) المعدة فتقويةُ الأصول له أكثر، لأجل زيادة قَبْضها. وهو ينفع جميع الأورام، لما فيه من القبض المانع من نفوذ الفضول إلى العضو مع التحليل المخرج لما حصل فيه من تلك الفضول. ونفعه لأورام الأحشاء لأجل عطريته المقوِّية للأحشاء؛ ونفعه لأورام الكبد أكثر، لأجل لطافة جِرْمه فيفعل فى هذه الأعضاء من حاجةٍ إلى عملٍ كثيرٍ، لأجل تصغير أجزائه (5) . ونفعه
من أورام الكبد أكثر، لأنه مع الأفعال التى ذكرنا، فيه تفتيحٌ وإنضاجٌ وتليينٌ وهذه كلها مما يُحتاج إليها كثيراً فى أورامه (1) . وهو يسكِّن أوجاع الأحشاء والمغص والقولنج (2) ، ويحلِّل الرياح المحتبسة فى البطن وغيرها. وذلك لأجل حرارته، مع لطافة جوهره؛ فيتمكَّن لأجل لطافته من النفوذ إلى حيث يفعل، بسرعة. وإذا كان بوزنه فلفل كان تسكينه لأوجاع المعدة شديداً. وذلك لأجل تقوية الفلفل - لحرارته - لتحليل الإذْخر. وأصوله تسكِّن الغثيان، بما فيها من القبض القوى، وكذلك ما فى أجزائه (3) ؛ لكن الأصول فى ذلك أكثر، لأجل زيادة أرضيتها القابضة. وجميع أجزائه تشهِّى الطعام، وذلك لأجل تقويته لفم المعدة، مع القبض المكثِّف له والعطرية المقوِّية لأرواحه؛ ومن جملة تلك (4) الأرواح، الروحُ الحسَّاس. ودهنه يُستعمل على فم المعدة، لتقويته له. وأفضل ذلك، أن يكون مع المصطكى والسُّنُبل وقد يستعمل على الأمعاء، لتسكين المغص، وتسكين وجع القولنج ونحوه.
الفصل السادس في فعله في أعضاء النفض
الفصل السادس في فِعْلِه في أَعْضَاءِ النَّفْضِ لما كان الإذخر قابضاً، مقوِّياً، محلِّلا، منضجاً؛ فهو لا محالة نافعٌ لأورام المقعدة وتسكين أوجاعها (1) ، نطولاً بماء طبيخه، وتضميداً بجرمه، وادِّهاناً بدهنه وفُقَّاحه؛ وذلك (2) أولى، لأجل لطافته التى بها يتمكَّن من النفوذ فى مسام المقعدة بسرعة، فيصل إلى حيث يؤثِّر. والإذخرُ يعقل البطن، بما فيه من القبض، مع تقوية الهضم وتجويده وتقوية الأعضاء الهاضمة. وفُقَّاحه يسكِّن أوجاع الكلَى، وكذلك جميع أجزائه لكن الفُقَّاح أكثر، لأنه لأجل لطافته يتمكَّن من النفوذ فى جوهر الكلى مع كثافته. وهو يقطع نزف الدم الكائن من الكلَى، والكائن من الحيض؛ وذلك لأجل ما فيه من القبض والتقوية، وفيه تفتيتٌ للحصاة وذلك لما فيه من النارية النفَّاذة القَطَّاعة، خاصةً وما فيه من القبض والتقوية، يقوِّى العضو الذى فيه الحصاة، فلا يعرض له - بسبب الوجع - ضعفٌ يعدُّه (3) للتورُّم. ولذلك، قد يُستعمل مع الأدوية المفتِّتة (4) للحصاة، لا لأجل تفتيته. بل للتقوية المذكورة. وهو يسكِّن أوجاع الأرحام، لإنزال (..) (5) من الأعضاء العصبية الباردة
وهو يفعل ذلك إذا نُطلت به الأرحام من خارج، وإذا ضُمِّدت به، وإذا بُخِّرت به، وإذا حُقنت بطبيخه، واحتملت منه فَرْزَجَة (1) . وكذلك، ينفع من أورام الرحم، لما قلناه فى أورام الأحشاء. وإذا شرب طبيخه، أَدَرَّ البول والطمث، وذلك لقوة تفتيحه. وإذا طُبخ فى الخمر وشُرب، كان إدراره شديداً. وهو يسخِّن المثانة الباردة، إذا كُمِّدت به، وكذلك التكميدُ به يُدِرُّ الطمث. وإذا أفرط الطمث (2) ، قطعه. ويحلِّل الأوجاع الحادثة للنساء عند قرب مجئ الحيض، لما فيه من التفتيح. وإذا أُخذ من أصله مثقالٌ، وخُلط بالفلفل؛ كان نافعاً للاستسقاء (3) ، وذلك لأجل إدراره وتفتيحه وتحليله، ولتقويته الكبد ونحوها من الأعضاء الهاضمة.
الفصل السابع في فعله في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل السابع في فِعْلِه في الأَمْرَاضِ (1) التي لا اخِتْصَاصَ لها بعُضوٍ عُضو إنك قد علمْتَ أنَّ هذا الدواء فيه قبضٌ وتحليلٌ، فلذلك هو يقوِّى الأعضاء ويحلِّل الفضول. فلذلك، هو مسكِّنٌ للأوجاع، وذلك لأجل تحليله موادها. ولأجل قبضه، يقطع نزف الدم، حيث كان. ومع ذلك، فإنه يفتح أفواه العروق، وذلك لأنه يفعل أفعالاً متنافية - لما قلناه - وفُقَّاحُه أقوى قطعاً للنزف. وإن كان تسخينه وتحليله وتفتيحه، كل ذلك أقوى من قبضه؛ وسبب ذلك أنه - لأجل لطافته - يتمكَّن من النفوذ إلى حيث يقطع النزف، نفوذاً بسهولة. وهو ينفع الأورام جميعها، لما فيه من القبض والتحليل، كما قلناه أولاً فلذلك ينفع الأورام الحارة، مع أنه حارٌّ! . وكذلك، ينفع الأورام الصلبة، مع أنه يابسٌ. وذلك لما فيه من التليين. ولا يختص نفعه بالأورام (2) الظاهرة (3) ، بل (4) يعمُّ نفعه الأورام الظاهرة
والباطنة معاً. ويحلِّل الرياح حيث كانت، ويسكِّن النفخوالباطنة معاً. ويحلِّل الرياح حيث كانت، ويسكِّن النفخ (1) . وكذلك، ينفع التنطيل بطبيخه، من الاختلاج، ويقوِّى الأعصاب، ويحلِّل فضولها؛ فلذلك هو شديد النفع للأعصاب، لأنه يفعل فيها ما ذكرناه، من غير تسخينٍ شديدٍ يُحدث فى العصب حِدَّةٌ ولذعاً، ومن (2) غير بردٍ يؤذى العصب - ونحو ذلك من الكيفيات الضارة بالأعصاب - فلذلك هو نافعٌ من التشنُّج والرعشة والفالج واللقوة، نطولاً بطبيخه وتضميداً بجرمه. وإذا أُديم شرب (3) طبيخ أصوله، نفع جداً من أوجاع المفاصل الباردة، ومن الحمِّيات البلغمية فى آخرها، وذلك مع السكنجبين. ودهنُه نافعٌ لتحليل الإعياء لأنه مع قوة تحليله وتليينه، فإنه يقوىِّ الأعضاء (4) . وينفع شَدْخَ العضل، لأجل تقويته لما فى العضل من الأجزاء العصبية، ولما فيه من القوة المقوِّية. ودهنُه نافعٌ من الحكَّة، لما فيه من التحليل لموادها.
الفصل الثامن في فعله في الترياقية ومقابلها
الفصل الثامن في فِعْلِه في التِّرْيَاقِيَّةِ ومُقَابِلها (1) لماَّ كان الإذخر من الأدوية العَطِرةِ، فلا محالة هو من الأدوية الترياقية، وهو - لامحالة - يقوِّى الروح، فيجعلها لامحالة (2) أقوى على دفع السموم. وله تعلُّق بسموم الهوام، فلذلك إذا تُضِمِّدَ بورقه الغَضِّ الذى فى (3) أصله؛ نفع من نهش الهوام. ويعينه على ذلك، ما فيه من التحليل للسُّمِّ، والتقوية للعضو المنهوش.
المقالة الثانية عشر فى أحكام آذان الفأر
المقالة الثانية عشر فىِ أَحْكَامِ آذَانِ الفَأْرِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على فصلين.
الفصل الأول في ماهيته
الفصل الأول في مَاهِيَّتِه إنَّ هذا الاسم يقع على أربعة أنواعٍ من النبات، وذلك بحسب ما وقع إلينا - ويجوز أن يُقال على أكثر من ذلك - وهذه الأربعة واحد (1) منها يسمَّى آذان الفأر (2) البستانى واثنان (3) يسمى واحدٌ منهما (4) آذان الفأر البرى وواحدٌ يسمى آذان الفأر ولا يقال فيه إنه بستانى أو برى. أما النوع الأول، وهو البستانى فهو الذى يسمى باليونانية أَلْسينى (5) ومعناه: البستانى. ويسمى مُوُوس أَوْطا (6) ومعناه: آذان الفأر. وإنما سُمِّى هذا
بالبستاني، لأنه ينبت في المواضع الظِّلِّية (1) ، وفي البستاني. وقال ج (2) إنه نباتٌ يشبه القستينى إلا أنه أقصر من القستينى، وأصغر ورقاً، وليس عليه زغبٌ (3) ؛ وإذا دُلِّكَ، فاحت منه رائحة القِثَّاء. وأقول: إن هذا النبات لابد وأن يكون كثير المائية، وإلا لم يكن يكثر بعض نباته بالمواضع الكثيرة الرطوبة، ولابد وأن تكون (4) فيه أرضيةٌ كثيرة، وإلا لم يكن نباته منتصباً. وهذه الأرضيةُ، قليلةٌ جداً بالنسبة إلى ما فى هذا النبات من المائية، ويدل على ذلك أمورٌ: أحدها: أن هذا النبات شديدُ اللِّين، وإنما يكون كذلك، إذا كانت الأرضية فيه قليلة بالنسبة إلى مائيته (5) ، فإن كثرة الأرضية يلزمها صلابة الجِرْم. وثانيها: أن هذا النبات يتضرَّر جداً بقوة حَرِّ الشمس، ولذلك إنما ينبت فى المواضع الكثيرة الظِّلِّ. وإنما يكون كذلك، إذا كان كثيرُ المائية جداً، حتى تكون (6) صحته إنما تبقى بكثرة تلك المائية. فلذلك، يعرض له العطبُ، إذا جفَّفته الشمسُ بقوة حَرِّها (7) .
وثالثها: أن هذا النبات رائحته تشبه القِثَّاء وإنما يكون كذلك، إذا كانت رائحته - مع عطريتها - نديَّةً، وإنما يكون كذلك، إذا كان جِرْمه كثيرَ المائية. ورابعها: أن هذا النبات إنما تفوح رائحتُه، إذا حُكَّ باليد، ونحوها؛ وإنما يكون كذلك، إذا كان كثير المائية، حتى تكون (1) رائحتُه خامدةً (2) بقوة البرد. فلذلك، إنما يفوح إذا سُحِقَ بالخلِّ ونحوه. وأما النوع الثانى من آذان الفأر وهو أحد النوعين البرِّيين، فهو الذى يُعرف بأفريقية - وما يقرب منها - بعين الهدهد (3) . وهذا النوع له قضبان كثيرة من أصلٍ واحدٍ، ولون ما يلى أسفلها، إلى حُمرةٍ - وهى (4) مجوَّفة - وله ورقٌ دِقاقٌ طوال، أوساط ظهورها ناتئةٌ، ولونها إلى سوادٍ، وأطرافها حادة، وتنُبتُ أزواجاً بينها فُرَجٌ. ويتشعَّبُ فى أغصانه قضبانٌ دِقاقٌ صَغَارٌ، عليها زهرٌ لازوردى، مثل زهر أحد صِنفىْ أَنَاغَلس - على ما نقوله بعدُ - وله أصلٌ غليظٌ صَلْبٌ، وله شُعَبٌ كثيرة. وجملة هذا النبات، شِبْه النبات المسمَّى أسقولوقندريون وسنذكره بعدُ، إلا أنه أصغر منه، وأقل خشونة. وأما النوع الثالث من آذان الفأر - وهو النوع الآخر من البرِّى - فهو (5) نباتٌ ينبتُ فى الرمل، ووَرَقُهُ كورق آذان الفأر البستانى ولا يقوى على الانتصاب، بل ينبسط إلى الأرض لضعف جِرْمه، لأجل قوة لدونته لا لكثرة مائيته، وذلك لأن الغذاء المجتذب من الرمل، لا يكون مثبِّتاً، لأن الأجزاء الرطبة
لا يستحكم امتزاجها بالمائية، فلذلك (1) يكون هذا النبات ضعيفُ الجِرْم. ولذلك فإن جميع الأشجار التى تنبتُ فى الرمل، فإنها تكون قليلة اللُّدونة (2) ، سهلة الانكسار. وأما النوع الرابع من آذان الفأر وهو الذى لا يوصف بأنه بستانىٌّ أو بَرِّىٌّ فهو أحد المتنوِّعات له، لَيِّنٌ، يُسهل ويقيئ (3) ، وورقه شبيهٌ بورق آذان الفأر البستانى.
الفصل الثاني في بقية أحكام أنواع آذان الفأر
الفصل الثاني في بَقِيَّةِ أَحْكَامِ أَنْوَاعِ آذَانِ الفَأْرِ أما النوع الأول من أنواع آذان الفأر - وهو البستانى (1) - فقد علمْتَ أنَّ جوهره تغلب عليه المائية، وأن فيه أرضيةٌ يسيرةٌ بالنسبة إلى مائيته (2) ، ولكنها فى نفسها كثيرةٌ. فلذلك، يجب أن يكون هذا النبات بارداً رطباً، لأجل غلبة المائية وأن يكون فيه قبضٌ يسيرٌ لأجل ما فيه من الأرضية. وقد اعترف بقبضه دياس قيرُيدُوس (3) وأما جالينوس فقد قال: إنه مبرِّدٌ
من غير قبض. وينبغى أن يكون مراده بذلك: من غير قبضٍ كثيرٍ يُعتدُّ به (1) . ولأجل تبريد هذا النوع، كان نافعاً للأورام الحارَّة (2) ، كالحمرة ونحوها. وإذا ضُمِّدَ به، مع السويق، نَفَعَ من الأورام الحادة، كالحمرة العارضة للعين (3) . وإذا قُطِّرت عصارته فى الأُذن المتألمة من الحرارة؛ نفعها وسكَّن وجعها. ولايبعد أن يكون هذا الدواء منعشاً للقوة برائحته، وذلك لأن رائحته تشبه رائحة القِثَّاء. وأما النوع الثانى من آذان الفأر فالذى عُرف من أحواله، أنه يجفِّف تجفيفاً قوياً.
وأما النوع الثانى من آذان الفأر فالذى عُرف من أحواله، أنه يجفِّف تجفيفاً قوياً. وأما النوع الثالث، فخاصِّيته، أن عصارته ومَضْغَهُ (1) ، كل واحدٍ منها شديدُ التقوية للإنعاظ (2) . وذلك إذا مُرِّخَ (3) بأحد هذين، الذكرَ والفَرْجَ والعَانَةَ وما يلى ذلك. حتى أن مَنْ لاينعظ (4) ، لا يكلِّفه كثرةً إذا فعل ذلك، وأنعظ (5) كثيراً، وقوى على الباه. وإذا فعل ذلك الشيوخُ الهرِمين (6) ، قووا على الباه. وإذا بطل نزو الفرس، مُرِّخَ (7) بذلك ما يقرب من قضيبه إلى عَجِزِه، فيعود إلى النزو. وأما النوع الرابع، فإنه يسهل ويقيئ ويقتل الدود، وذلك لأجل حِدَّته وحِدَّة لبنه. وما كان نباته فى المواضع القليلة الماء، وفى البرارى؛ فإن ذلك يكون قوياً جداً - ولا كذلك، ما يكون بقرب المياه والبساتين - ويكاد ما ينبت فى البرِّية (8) ، أن يكون فى قوته، كأنما هو ذاته. وجوهره لطيفٌ نَفَّاذٌ، ولذلك يُحمر الجلد الناعم إذا وُضع عليه، لأنه بلطافته، يسهل نفوذه؛ وبقوة حرارته، يجذب إلى العضو من الدَّم، ما يحمِّره.
المقالة الثالثة عشر فى أحكام الأرز
المقالة الثالثة عشر فىِ أَحْكَامِ الأُرْزِ وذلك يشتمل على ستة فصول.
الفصل الأول في ماهية الأرز
الفصل (1) الأول في مَاهِيَّةِ الأُرْزِ إنَّ الأُرْزَ من جملة النبات الذى يُتَّخذ من حَبِّه خُبْزٌ، ويُطْبَخُ مع اللحم كثيراً. وكذلك مع اللبن. وإنما ينبت فى المواضع الكثيرة الشمس، الكثيرة الماء جداً وذلك لأن جرمه كثير التحلُّل،فإذا لم تكن المائية فيه كثيراً، جَفَّ بسرعة، لأجل سرعة تحلُّلها منه بسبب تخَلْخُل جِرْمه. وإنما يمكن ذلك، بأن يكون سقيه متواتراً. وإنما يصل الماءُ إلى أعلاه، سريعاً؛ حتى يسدُّ بذلك بدل ما يتحلَّل منه من جوهر المائية، إذا كان انجذاب ذلك الماء إلى أعلاه بقوة. وإنما يكون ذلك، إذا كان فعل الشمس فيه قوياً. وإنما يمكن ذلك، إذا كان فى موضعٍ مكشوفٍ للشمس. فلذلك، يقلُّ نباته بين الأشجار، وذلك لحاجته إلى قوة (2) تأثير الشمس. ولذلك، هذا النبات، يكون (3) فى البلاد الحارة الرطبة - كالهند - والأغوار الكثيرة المياه. فلذلك، هذا النبات وإن كان يحتاج إلى كثرة السَّقْى، فهو يابسٌ، قليلُ المائية، كثيرُ الأرضية؛ وذلك لأجل انجذاب (4) مائيته، لأجل تخَلْخُل جِرْمه.
ولأجل هذا التخَلْخُل، فإن (1) جوهره ليس برزين. ولما كانت يبوسة هذا النبات لأجل تخَلْخُل مائيته، بحيث كان ما يتحلَّل من مائيته أكثر، كانت يبوسته أشد. ولذلك الأرز الهندى أَيْبَسُ من غيره، وأكثر أرضيةً. وذلك لأجل كثرة تحلُّل مائيته، بسب قوة الحرِّ هناك. وفى جوهر الأُرْز هوائيته، ولذلك هو خفيفُ الوزن، وإذا طُبخ فى الرطوبة أو نُقع فيها، ربا جرمه كثيراً. وذلك لأجل كثرة نفوذ الرطوبة فى جِرْمه، لأجل تخَلْخُله؛ ولأجل هذا التخَلْخُل، فإنه لا يتولَّد منه دَمٌ كثيرٌ. وذلك لأجل فقدانه اللدونة واللزوجة اللتين يكثر منهما الدم (2) ، لأن الدَّم يحتاج أن يكون من جوهرٍ لدِنٍ، ليتمكَّن أن يكون تكوُّن (3) الأعضاء منه سهلاً، لأنه إنما يمكن كذلك، إذا كان شبيهاً بجواهر الأعضاء، والأعضاءُ (4) أكثرها لَدِنةٌ. ولما كان الأُرْزُ فاقداً للِّدونة (5) ، لا جَرَم كان غذاؤه (6) أقلَّ من غذاء الحنطة بل من غذاء الحندروس بل من غذاء الشعير. بل أظنه - وإن كان كثيرٌ من الأطباء يأبى ذلك - قابضاً، فإذا المائية تقلُّ فى الأُرْز، والأرضية تكثر فيه؛ فلذلك، هو قابضٌ.
الفصل الثاني في طبيعته وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبِيعتِه وأَفْعَالِه على الإِطْلاَقِ إنَّا قد بيَّنَّا أن الأرضية فى الأُرْزِ كثيرةٌ، وكذلك الهوائية، وأما المائية فهى قليلةٌ. وقدَّمنا أن الهوائية لا مدخل لها فى ترطيب البدن، وأن الترطيب إنما يكون بالجوهر المائى، فلذلك (1) يجب أن يكون الأرز يابساً، مجفِّفاً. واختلف الأطباءُ فى أنه حارٌّ أو بارد. والحقُّ أنه قريبٌ من الاعتدال، ولكنه إلى حرارةٍ (2) ، وذلك لأن هوائيته كثيرة ومائيته يسيرة، وذلك ينافى أن يكون له بردٌ ظاهرٌ. وتخَلْخُل جِرْمه يدل على حرارته، لأن البرد من شأنه جمع الأجزاء وتلزيزها. ولماَّ كان الأَرْزُ متخَلْخِلَ الجِرْم، فهو لامحالة حارٌّ. ولما كان يابساً كثيرَ الأرضية، فهو لا محالة قابضٌ عاقلٌ للبطن. وليس من كيفياته مفرطٌ؛ أما حرارته فظاهرٌ أنها قريبة (3) من الاعتدال. ولولا ذلك لما ظُنَّ أنه باردٌ. وأما يبوسته وعَقْله للبطن. فلأن ذلك كله يزول إذا طُبخ مع اللبن أو الدهن ونحوه من الدسومات - كاللحم السمين - وإنما يكون كذلك، إذا لم تكن هذه الكيفيات فيه، قويةً جداً. وفى الأُرْز جَلاَءٌ، لأجل تخَلْخُل جِرْمه الأرضى؛ وإذ (4) الأُرْزُ جلاَّءٌ، فهو لامحالة مجفف. فلذلك، هو مُنَقٍّ.
الفصل الثالث في فعله في أعضاء الرأس
الفصل الثالث في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الرَّأْسِ لما كانت أرضيةُ الأُرْزِ خفيفةً متخَلْخِلَةً، فهى - لامحالة - قابلة للتصعُّد بالحرارة. فلذلك، إذا سخن باطن البدن باجتماع الحارِّ الغريزى (1) فيه - وذلك عند النوم - وكان فى المعدة وما يقرب منها شئٌ من الأُرْزِ، فإنه تتصعَّد (2) منه أجزاءٌ كثيرةٌ، وهذه الأجزاء المتصعِّدة لابد وأن يكون لونها أبيض، لأن بياض الأُرْز إنما يفارقه إذا تم انهضامه (3) فى الكبد وما بعدها (4) ؛ فلذلك إذا أُكل الأُرْزُ
فلابد أن تتدخَّن (1) منه عند النوم أجزاءٌ كثيرةٌ، ويكون ذلك الدخان أبيض اللون فكذلك يكون ما (2) يتخيَّل لذيداً مفرحاً؛ خلاف الخيالات الحادثة عن الأدخنة السوداوية، فإن تلك مفزعةٌ مُوحشةٌ محدثةٌ للغَمِّ والانقباض والخوف. فلذلك كان الأُرْزُ يُرى أحلاماً لذيذة (3) .
الفصل الرابع في فعله في أعضاء الغذاء
الفصل الرابع في فِعْلِه في أَعْضَاءِ الغِذاءِ إنَّ جوهر الأُرْزِ لما كان مركباً من أرضيةٍ ومائيةٍ، وفيه هوائيةً؛ وهذه الهوائيةُ وإن كانت كثيرةٌ، فإنها ليست كثيرة بالنسبة إلى أرضيته. فلذلك، كان جوهر الأُرْزِ مناسباً لجواهر (1) الأعضاء، وليس له كيفية قوية تقهرها الأعضاء وتفعل فيها، ولا كيفية مخالفة للمزاج الحيوانى، فلذلك كان الأُرْزُ من الأغذية. وليس غذاؤه (2) بقليل جداً، لأنه أرضىٌّ مناسبٌ لجواهر الأعضاء. ولأجل كثرة هذه الأرضية فيه، كان غذاؤه يابساً.فلذلك هو موافقٌ جداً لأصحاب الأمزجة الرطبة، فلذلك هو شديد الموافقة لسكان الهند، لأن هواء الهند كثيرُ الرطوبة جداً، فلأجل كثرة البخار عندهم - وذلك (3) لما أوضحناه (4) حين تكلمنا فى الأسباب (5) - ولذلك فإن أهل الهند يزعمون أنه أوفق الأغذية (6) ويقولون: إنه يطوِّل العمر! وذلك بالنسبة إليهم صحيحٌ، فإنه معدِّلٌ لسوء
مزاجهم الرطب (1) ، المعد لأبدانهم للعفونة. فلذلك، أهل الهند، ومَنْ يقرب منهم، يقتصرون فى غذائهم (2) على الأرز. وإذا طُبخ الأُرْزُ مع شئٍ رطبٍ يعدِّله، كاللبن والحليب ودهن اللوز (3) - أو دهن الإلية أو اللحم السمين - يعدُل بذلك يُبْسه، فيصير كثير التغذية، جيد الغذاء جداً، موافقاً للمعتدلين. وذلك، لأن الأُرْزَ فى نفسه صالحُ الغذاء، لأجل خُلُوِّه عن الكيفيات الضارَّة المفرطة؛ وإنما يخرج عن الاعتدال خروجاً يحطُّه عن الفضيلة (4) وعن كثرة التغذية، لأجل يبوسته. وإذا زالت يبوسته، صار صالح الغذاء جداً، كثير التغذية. ولأن الأُرْزَ فيه جَلاءٌ وتجفيفٌ، فهو دابغٌ للمعدة. فلذلك قد يقوِّى على الهضم. خاصةً وهو بقبضه، يجمع أجزاء المعدة، وذلك مما يُعين على الهضم. والأُرْزُ عَسِرُ الهضم، لأجزاء أرضيته. وهو أيضاً بطئُ الخروج، لفقدانه ما به يُزْلق. وإذا أُكل بالسُّكَّر أو بالعسل، أسرع انحدارُهُ عن المعدة، بما يحدثه هذان من زيادة الجلاء، ولما ينفذ إلى الكبد بسرعة، فيستصحباه (5) معهما. وفى الأُرزِ تسديدٌ لمجارى الكبد، ضعيفٌ، يشتدُّ إذا خُلط بالسكر أو العسل، لأجل سرعة نفوذها (6) إلى الكبد. وأكله (7) مع الخلِّ ردئٌ، لزيادة الخلِّ
فى يبوسته. وهو يولِّد الرياح والنفخ، وقد يتولَّد عنه القولنج مع ذلك، فإنه يسكِّن المغص الحادث عن السَّحْجِ، وعن لذع المواد الحادة. وذلك لأنه يعسرُ انهضامه، وتفتيحه وغلظه وعقله للبطن وتقليله (1) لخروج الريح، يولِّد القولنج. ولتغذيته، يسكِّن وجع المغص اللذعى، ووَجَع السحوج. ويُحدث على موضع السَّحْج بغَرَوِيَّتِه، مائيةً؛ فيقلُّ (2) ألم ما يمر به (3) من المواد. وهو يفعل ذلك، سواءَ احتُقن به، أو تنُووِل (4) من الفم؛ ولذلك يدخل فى حُقَنِ السحوج والإسهال. وإذا طُبخ بالزيت أو باللبن الحامض، أطفئ الحرارة وشَهَّى الطعام وسكَّن (5) العطش، ولكن هضمه حينئذٍ يكون أعسر (6) . وأكله كثيراً يُحدث السُّدَد، وذلك لما يحدثُ منه من الغَرَوِيَّةِ، مع الغلظ. ولقائلٍ أن يقول: إن حدوث الغَرَويَّةِ إنما يكون (7) مع اللزوجة، والأُرز قد صَحَّ (8) أنَّ جِرْمه لا لزوجة فيه، لأجل قلة مائيته؛ فكيف تحدث الغَرَويَّةُ عن الأُرز؟ وإنما (9) يكون ذلك (10) ، لأجل ما يختلط (11) به من الرطوبات فى داخل
البدن، ومن الرطوبات التى يُطبخ بها. وهذه الرطوبات إذا انطبخت مع فى المعدة، حدث منها - ومن جرمه الأرضى - مايئةٌ تُحدث الغَرَويَّة. وذلك لأن الأُرْزَ وإن كان أرضياً، فإن أرضيته يسهل انقسامها إلى أجزاءٍ صغار، لأنها غير متلازمة جداً - وذلك لفقدانه اللدونة - وإذا تصغَّرت أجزاء هذه الأرضية، واشتدَّ امتزاجها بالرطوبات لأجل إنضاجها معها فى المعدة، حدث عن ذلك الغَرَوِيَّةُ. وكذلك، إذا طُبخ الأُرْزُ فى الماء حتى يتهرَّأ، ثم شُرِبَ؛ نفع من لذع المواد، وغَرَّى (1) على الأمعاء؛ وخاصةً إذا طُبخ معه دِهْنٌ يفعل ذلك، مثل شحم كِلى الماعز. وإذا طُبخ فى عصارة لسان الحمَلِ، وشُرِبَ أو أُكِلَ؛ كان شديدُ النفع للسَّحج، والمغَصِ الكائن من خِلْط حادٍ، وَحَبسَ البطن بقوة. والأُرْزُ من الأغذية الصالحة للخِلْط المسمنة، لما نقوله بعد.
الفصل الخامس في فعله في أعضاء النفض
الفصل الخامس في فِعْلِه في أَعْضَاءِ النَّفْضِ إن الأُرْزَ لأجل قبضه، إذا أُكل؛ قلَّل البول والبراز وخروج الرياح ولذلك قد يُحدث القولنج. والهندىُّ من الأُرْزِ أكثر عقلاً للبطن، وذلك لأجل زيادة تجفيف رطوباته بقوة الحرِّ هناك. وإذا طُبِخَ بماءٍ كثير (1) ، كان (2) عقله للبطن أقل، لأجل ترطيبه. وإذا طُبخ باللبن أو باللحم السمين أو بالشَّيْرج (3) ونحو ذلك، قَلَّ عقله للبطن جداً، خاصةً إذا أُكل بالعسل أو بالسكر. وإذا طُبخ باللبن الحامض - ونحو ذلك - قوى عَقْلُه للبطن قليلاً؛ وإذا طُبخ بالسُّمَّاق، اشتد عَقْلُه للبطن جداً. فلا يَبْعُدُ أن يكون الإكثار من أكله، يولِّد الحصاة؛ خاصةً إذا أُكل باللبن. والأُرْزُ يكثر المنِىَّ، خاصةً إذا طُبخ باللبن. وإذا اتُّخذ من دقيقه حَسوٌ (4) رقيقٌ، وشُرب؛ نفع جداً من إفراط الدواء المسهل.
الفصل السادس في فعله في الأمراض التي لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل السادس في فِعْلِه (1) في الأَمْرَاضِ التي لا اخْتِصَاصَ لها بِعُضْوٍ عُضْو إن الأُرْزَ من شأنه، إذا أُكل؛ أن يحسِّن اللون. وكذلك، إذا دُلِّكَ (2) البدنُ بدقيقه، فإنه يزيل ما عليه من الأوساخ، ويحسِّن اللون بقوة جلائه. وإذا ذُرَّ (3) دقيقُه على الجراحات الطرية، نفع منها؛ وذلك لأجل تجفيفه. وإذا ذُرَّ (4) فى القروح، نَقَّى وسخها؛ لما فيه من الجلاء والتجفيف. وهو جيدٌ لقروح الأمعاء إذا احْتُقِنَ به، واستُعمل من فوق. وإذا نُقع الأُرْزُ فى ماء النخالة أو فى اللبن، يوماً بليلة، ثم طُبخ؛ لم يكن له عقلٌ للبطن البتة، وذلك لأجل ذهاب يبوسته وقبضه. وأكل الأُرْزُ يُزيد فى المنِىِّ، وذلك لأجل غلظه مع يبوسته. فإن ما يكون (5) كذلك، يكثر تولُّد المنِىِّ عنه، كما يتولَّد المنِىُّ كثيراً فى السوداوِيَّين، وذلك لأجل أن جوهر المنى يجب أن يكون متشابهاً بجواهر (6) الأعضاء، والأعضاء
يغلب عليها الأرضية، فكذلك يجب أن يكون المنىُّ. وإذا طُبخ الأُرْزُ باللبن، كان توليده للمنِىِّ كثيراً مع تعدُّل يبوسته. ولما كان تعديل توليد الأُرْز للمنى كثيراً، وهو مع ذلك مُنفخٌ مُنْعِظٌ، فيجب أن يكون من الأغذية الباهية المقوِّية على الباه، وذلك لأن ما يتولَّد منه من الرياح، إذا حصل شئٌ منها فى العروق التى فى القضيب، أعان بذلك على الانتشار (1) . والأُرْزُ المطبوخ فى المرق (2) ، يزيد فى المنِىِّ، ويغذو كثيراً، ويُسَمِّن ويُحَسِّن اللون، ويُزيل صُفْرة الناقهين ونحوها.
المقالة الرابعة عشر فى أحكام الأراك
المقالة الرابعة عشر فىِ أَحْكَامِ الأَراكِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على فصلين.
الفصل الأول في ماهية الأراك
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ الأَرَاكِ إن هذا الشجر يكثر نباته فى بطون الأودية، وقد يَنبتُ فى الجبال - وذلك حين تكثر المياه - وهو قليلٌ (1) . ولهذا الشجر أصولٌ وقُضبان، وثمره كالعناقيد وعنقوده يملأ الكَفَّ، وحَبُّه بقدرالحمُّص. يكون أولاً أخضر، ثم يحمرُّ ويَحْلُو (2) مع حَرَافةٍ، ثم يَسْوَدُّ ويزداد حلاوةً مع الحرافة (3) . وحشيشتُه فيها (4) مرارةٌ يسيرة وقَبْضٌ، وقِشْرُ أصله ليِّنٌ، وإذا قُشِّرَ كان داخله لبناً. وأصوله وقُضبانه يستعملان للسَّوْك (5) ، وهى أفضل ما استيك به، لما فيهما من المرارة والقَبْض، مع عطريةٍ يسيرة. فيكونان بالمرارة جاليين محلِّلين، وبالقَبْضِ مقوِّيين؛ فلذلك هما أفضل الخشب للسواك. وجوهر هذا النبات مركبٌ من أرضيةٍ، بعضُها حارَّةٌ وبعضها باردةٌ قابضةٌ ومن هوائيةٍ، ومائيةٍ كثيرة، وناريةٍ بها تحدث الحرارة. وبالهوائية يكون هذا
النبات خفيفاً، وبالمائية يكون تَفِها (1) ؛ وبذلك تنكسر قوة الحرارة والحرافة فلذلك يكونان خفيفتين (2) . ويدل على كثرة هذه المائية، أن نبات هذا الشجر، إنما (3) يكون حيث تكثر المياه. ولأن هذا الشجر سَبطٌ، والسبوطة تتبع كثرة الرطوبة؛ فلابد (4) وأن يكون جوهر هذا النبات لطيفاً، لأن الناريةَ شديدُ اللطافة، والأرضية المرَّةَ ليست بكثيرة الغِلَظِ؛ فلذلك، لابد وأن يكون جوهر هذا النبات لطيفاً (5) .
الفصل الثاني في طبيعته وأفعاله
الفصل الثاني في طَبِيعَتِه وأَفْعَالِه أما طبع الأَرَاكِ فإنه يجب أن يكون قريباً من الاعتدال، وذلك لأن ما فيه من النارية والأرضية الحارَّةِ المرَّةِ، تُعدِّلهما المائيةُ الكثيرة. ولكنه يميل إلى اليبوسة قليلاً، خاصةً إذا جَفَّ. وحَبُّه يقوِّى المعدة، خاصةً إذا كان إلى فجاجةٍ، ويُمسك الطبيعة بما فيه من القبض. وهذا النبات، مع القبض، يفتِّح! وذلك لأجل حرارته، ولأنه حارٌّ لطيفٌ. وما كان كذلك، فلابدَّ وأن يكون مفتِّحاً. وتفتيحه قوىٌّ. فلذلك طبيخه يدرُّ البول، وينقِّى (1) المثانة. والسَّوكُ به - خاصةً بأُصوله - يزيل القِيح (2) ويقوِّى المعدة (3) ، ويطيِّب النكهة.
المقالة الخامسة عشر فى أحكام الأرماك
المقالة الخامسة عشر فىِ أَحْكَامِ الأَرْمَاكِ وكلامُنا فى ذلك، يجتمع فى فصلٍ واحد.
هذا نباتٌ هندى (1) ، يُجلب إلينا من اليمن، عَطِرُ الرائحة، شبيهٌ بالقرفة خشبُهُ خفيفٌ، فيه قَبْضٌ وحرارة يسيرة، فلذلك هو مجفِّفٌ، يابسٌ، يميل إلى الحرارة، ويدل على ذلك حرافتُهُ ورائحتُهُ، وتجفيفهُ، وغير ذلك. ولذلك، هو نافعٌ للقروح. ولابدَّ وأن يكون منقِّياً، لأنه مجفَّفٌ بما فيه من اليبوسة والتحليل؛ وهو مع ذلك جالٍ (2) ، فلذلك هو ينقِّى القروح الوسخة، ويدمِّل القروح النقية، ويمنع من انتشار القروح؛ كل ذلك لأجل تجفيفه الخالى من اللذع. ولأجل هذا التجفيف والتنقية والقبض، هو يشدُّ اللثة ويقوِّيها، ويُفنى الرطوبات المرخية (3) لها ولأجل ذلك - ولأنه عَطِرٌ - هو يطيِّب النكهة. وأما نفعه من قروح الفم وقُلاَّعه (4) ، ونحو ذلك؛ فالأمر (5) فيه ظاهرٌ. فلذلك، هو من الأدوية الشديدة النفع من أورام الفم وأوجاعه؛ وهو ينفع الأورام، حتى الحارَّة منها. وذلك لما فيه من القَبْض المانع من نفوذ الفضول فى
العضو المتورِّم، ومن التحليل المخرج لما فضل فى ذلك العضو. ويقوِّى الأعضاء بقبْضِه وعطريته، ويمنع سريان العفونة والفساد فيها. ولايبعُد أن يكون من الأدوية المقوِّية للقلب، المفرِّحة؛ وذلك لأجل عِطريته. وكذلك، يقوِّى الأحشاء كلها، ويعقل البطن بقَبْضِه. وبتقويته للقوة الممسكة، فإنه يقوِّى القوى كلها - وبما (1) فيه من العطرية، وهو لذلك يقوِّى الدماغ خاصةً. وهو مع عطريته وقبضه، يميل إلى الحرارة واليبوسة، وبذلك يتعدَّل الدماغ ويقوَى. وينفع من الرمد، لأن الرمد من جملة الأورام.
المقالة السادسة عشر فى أحكام الأرنب
المقالة السادسة عشر فىِ أَحْكَامِ الأَرْنَبِ وكلامُنا فى ذلك، قد جمعناه فى فصلٍ واحد، فنقول:
إذا أُطلق لفظ الأرنب فإنما يُراد به الأرنب البرِّى وهو الحيوان المعروف. وهذا الحيوان يختصُّ بأن يكون قلبه كبيراً جداً، بالنسبة إلى ما يستحقه بدنه! فلذلك تكون حرارته مُنبثة (1) فى جِرْمٍ بأكثر (2) مما يستحقه مثلها، على قياس باقى الحيوانات. فلذلك، يكون قلبه بارداً - وإن تكن الحرارةُ فيه قليلة - فلذلك، هذا الحيوان جبانٌ، مع أنه (3) حارُّ المزاج. وإنما خُلق كذلك، لأنه لولا جُبنه، لما كان يكون كثير الجزع والخوف؛ ولو لم يكن (4) كذلك، لما كان يبادر إلى الهرب فكانت الحيوانات الكاسرة تتمكَّن منه (5) كثيراً، وبسهولة، لأنه عادمٌ للسِّلاح وللآلات التى يدافع بها المؤذيات. فلذلك، احتيج أن يكون هذا الحيوان جباناً والجبن إنما يكون بالبرد. ولو كان هذا الحيوان بارد المزاج، لكان بطئ الحركة ضعيف العدْو؛ فكانت الحيوانات الكاسرة تدركه سريعاً. فلذلك، احتيج أن يكون هذا الحيوان حارَّ المزاج، جباناً. وإنما يمكن ذلك، بأن تكون (6) حرارته - حينئذٍ - ليست كثيرة، لا لنقصانها فى نفسها (7) . وإنما يمكن ذلك، بأن يكون
قلب هذا الحيوان عظيماً جداً بالنسبة إلى ما يستحقُّه بدنه، ولابدَّ أن يكون دماغ هذا الحيوان حارّاً، لتكون حركته سريعة؛ فيكون سريع العدو. فلذلك، كان دماغ هذا الحيوان (1) شديد الموافقة للأعصاب، وذلك لأن الدماغ شديد الملائمة للأعصاب، لأنه يغذوها ويناسب مادتها (2) ، لكن أدمغة غير الأرنب باردةٌ والبرد ضارٌّ بالأعصاب، وذلك يُلزم أن يكون أقل موافقةٌ للأعصاب، فلذلك خُصَّ دماغ الأرنب، بأنه موافق للأعصاب جداً. وقد قال (ابن سينا (3)) إن دماغ الأرنب إذا شُوِىَ وأُكِلَ، نفع من الارتعاش العارض من الأمراض. وإذا دُلِّكت به لَثَةُ الأطفال؛ نفع من الورم
العارض لهم من نبات الأسنان. وإذا أُحرق رأسه وخُلِطَ بشَحْمٍ أو خَلٍّ، أَبَرَّ داء الثعلب. ويقال إنه إذا شُربت أنفحته ثلاثة أيام، بعد طُهْرِ المرأة، منع الحبل وأمسك سيلان الرطوبة من الرحم والبطن، وإذا شُرِبتْ بخلٍّ، نفعت من الصرع وكانت بَادِزَهْر (1) للأشياء القتَّالة، وخاصةً اللبن المتجبِّن ونهش الأفاعى. وإذا تُلِطِّخَ بدمه، وهو حارٌّ، نقَّى الكَلَف (2) والبهق والبثور اللبنية. هذا ما قاله (ابن سينا) (3) ونقول: إنَّ السبب فى (4) نفع دماغ الأرنب للرعشة، أن (5) الرعشة تضرُّها (6) الرطوبات الزائدة، وهذه الرطوبة يقلِّلها الشَّىُّ لأنه يجفِّف. والسببُ فى نفع دماغ الأرنب، فى إبطال وجع الأسنان إذا دُلِّكت به اللثة، هو أن هذا الدماغ، مع أنه ليِّنٌ دَسِمٌ، مسهِّلٌ لخروج الأسنان بتليينه اللثة فإنه بحرارته يسهِّل خروج السِّنِّ، لأن الحرارة جذابة للمادة إلى موضعها. وإذا أُكل لحم الأرنب المشوى (7) ، نفع من الخدَر، وذلك لأجل تقويته للأعصاب بحرارته اليابسة، باعتدال. وإذا أُكل لحم المطجَّن أو المغمور (8) ؛ نفع من قروح الأمعاء، وذلك لأجل تنقيته لها بتجفيفه. وإذا أُحرق الأرنب كما هو كان (9) نافعاً لحصاة الكلية؛ وذلك لأجل ما يكتسبه بالإحراق من الحِدَّة وقوة الجلاء.
وإذا أُحرق جوف الأرنب بأحشائه، كما هو، كان دواءً منبتاً للشَّعْر وذلك إذا لُطِّخ به الرأس، مخلوطاً بدهن الورد (1) . وإذا طُبخ الأرنب حيّاً، وجَلَس فى طبيخه صاحبُ النَّقْرَس - أو صاحب (2) وجع (3) المفاصل - انتفع بذلك كثيراً (4) . وهذا الطبخ قد يكون فى الماء، وقد يكون فى الزيت؛ وكذلك، ينتفع بذلك صاحبُ الإعياء. ولحم الأرنب ينفع لمن يبول فى الفراش (5) ، نفعاً بيِّناً، وخاصةً إذا داوم عليه وذلك لأجل حرارة هذا اللحم ويبوسته. والدليل على أنّ لحم الأرنب يابسٌ، أنه يولِّد دماً سوداوياًّ غليظاً، إلا أنه أجود من الدم المتولِّد من الشراب والتيوس (6) بل أجود من لحوم الكباش والنِّعاج الهَرِمَيْنِ. وإذ (7) كان لحم الأرنب يولِّد دماً غليظاً يابساً سوداوياًّ عَكِراً، فمن اضطر إلى أكله، فينبغى له أن يُكثر معه من الدسومات والأدهان المرطبة، وأن يجعل طبيخ هذا اللحم بالماء والزيت العذب المغسول، وأن يُبالغ فى إنضاجه حتى يتهرّأ؛ فيلطف بذلك ويرطب، لكثرة ممازجته للماء. ومع ذلك، فلابد من تعديل مزاجه بالتبريد والترطيب، وذلك بمثل الراحة
والحمَّام والأغذية الباردة الرطبة. وأن يتعاهد (1) بدنه باستفراغ السواد، وبالعصر كل حين؛ وذلك إذا كان يداوم هذا اللحم. وكذلك أكل لحوم الوحوش والصيد، والقديد، ونحو ذلك. وفرو الأرنب طيِّبُ الرائحة، شديدُ النعومة، معتدل الإسخان، مشابهٌ فى إسخانه للسَّمُّور (2) ؛ ومنه أبيض، ومنه أسود. وإذا شُرِبَ بَعَرُ الأرنب فى شراب، نفع من البول فى الفراش. وإذا قُلِىَ (3) دم الأرنب كان نافعاً من السهوم (4) الأرمنية، وهى المسمومة (5) .
المقالة السابعة عشر فى أفعال الأرنب البحرى
المقالة السابعة عشر فىِ أَفْعَالِ الأَرْنَبِ البَحْرِىِّ وكلامُنا فيه، هو فى فصلٍ واحد.
الأرنب (البحرى (1)) لم يتفق لنا مشاهدته، فلذلك رأينا أن نكتب فيه ما قاله الأوَّلون، ولا علينا صَحَّتْ (2) أقوالهم أو فسدت. وقد قالوا: إن هذا حيوانٌ صغيرٌ، صَدَفىٌّ إلى حُمرة ما (3) . وهو (4) يوجد فى البحر، وبين أجزائه أشياءٌ كأنها ورق الأشنان (5) . قالوا: والتضميد به يجلو (6) الشعر، وكذلك الماء الذى يُطبخ هو فيه، يستعمل فى حَلْق الشَّعْر. وهو من السموم القتَّالة. إذ يقتل (7) بتقريحه الرئة. ويعرض لشاربه أولاً، تغيُّرُ (8) طعمِ فمه إلى سهوكةٍ كسهوكة (9)
السمك، ثم وجعٌ فى البطن، ثم حَصْرٌ فى البول؛ فإن بال، بال شبيهاً بالأُرجوان. ويتغيَّر ريحُ عَرَقِه إلى كراهةٍ، ويقيَّأ المِرَّةَ مِراراً، فى بعضها خلط دم. وتدبير من سُقِىَ، مما نذكره فى كلامنا الجزئى (1) . قال: ورماد هذا الحيوان، من شأنه أن يَحِدَّ البصر (2) .
المقالة الثامنة عشر فى أحكام الأزادرخت
المقالة الثامنة عشر فىِ أَحْكَامِ الأَزَادَرِخْتِ وكلامُنا فى هذا، يشتمل على فصلين.
الفصل الأول في أحكام الأزادرخت
الفصل الأول في أحْكَامٍ الأَزادَرِخْتِ الأزادرخت لفظٌ فارسىٌ، ومعناه: شجرٌ مجرَّد (1) .وهو من الأشجار التى
تعظم جداً، وثمره كالنبق (1) ، إلا أنه مجتمعٌ كالعناقيد الصغار المشبَّثة (2) . وجوهرُ هذا النبات أرضىٌّ، وفيه ناريةٌ وهوائيةٌ. ولذلك فإن جِرْمه غير ثقيل جداً. وهو من جملة الأشجار المائية، ويُعدُّ من جملة السموم، لأن فى ثمره سُمِّيَّةٌ؛ وإن كانت أطرافه (3) الغَضَّة - إذا اعتُصرت - نفعت من السموم، إذا شُربت.
الفصل الثاني في بقية أحكام الأزادرخت
الفصل الثاني في بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الأَزادَرِخت إن هذا الشجر شديدُ الحرارة، يابسٌ، قوىُّ التحليل والجلاء، وفيه قبضٌ لما فيه من الأرضية. وثمرته تقتل سريعاً، ويحدث لأكلها كربٌ شديدٌ معوى (1) وغشىٌّ (2) ، وقئٌ، وصِغَرٌ (3) فى النفس، وغشاوةُ البصر، ودوارٌ شديد. وذلك (4) لأجل قوة حِدَّةِ هذه الثمرة، وشِدَّةِ حرارتها (5) ، ومنافاتها لمزاج الحياة (6) . ولذلك، يُعالج أكلها (7) بعلاج من تناول الفربيون (8) أو البلاذر (9) . وهذه الثمرةُ شديدةُ الضرر بأعضاء الصدر، وبالمعدة؛ وإذا اعتُصرت (10)
أطرافه الغَضَّة، وشُربت عصارتها بالعسل أو بالشراب، نفع ذلك من السموم القَّتَّالة ومن عِرْق النَّسَا (1) واسترخاء الإنثيين. ويُدِرُّ البول والطمث، ويحلِّل الدم الجامد فى المثانة؛ وذلك، لأجل قوة حرارة هذه العصارة. وأوراق هذا الشجر إذا دُقَّت وحُشِىَ بها (2) شَعْرُ الرأسُ، طوَّله وقَوَّاه. وكذلك إذا طُبخ فى الزيت، ودُهِنَ به الرأسُ. وكذلك إذا اعتُصر هذا الورق وغُسل الرأسُ بعصارته. وكذلك - أيضاً - الأطراف الغَضَّة لهذا الشجر، تفعل (3) هذا الفعل. وهذا الورق وهذه الأطراف، إذا اعتُصرت وأُضيف (4) إلى عصارتها مَرْداسَنْج (5) وشئ من دهن الورد كان ذلك مطوِّلاً للشَّعْرِ، منقيّاً لرطوبات قروح الرأس، قاتلاً للقمل. وكذلك (6) ، إذا فُعل ذلك بعصارة أصول هذا النبات وأوراق (7) هذا الشجر، إذا (8) فُقدت، قام مقامها فى تطويل الشَّعْر، ورقُ الشَّهْدَانج. وأما فُقَّاحُ هذا النبات، فإنه يفتِّح السُّدَد بقوة، وإذا شُمَّ فتَّح سُدَد الدماغ ونقَّاه. وهو حارٌّ جداً يابسٌ (9) بقوة.
وأما لحاءُ هذا الشجر، فإنه إذا طُبِخَ مع الشَّاهْتَرج (1) والإهليلج ورُوِّق (2) ، نفع من الحميات البلغمية.
المقالة التاسعة عشر في أحكام الأسارون
المقالة التاسعة عشر فيِ أحكَامِ الأَسَارُون وكلامُنا في هذا الدواء، يشتمل على سبعة فصول
الفصل الأول في ماهية الأسارون
الفصل الأول في مَاهِيَّةِ الأَسَارون إن هذا نباتٌ يسمِّيه بعض الناس ناردين البرى (1) له أصولٌ، وقضبانٌ وورقٌ، وزهرٌ، وبزرٌ. وأما أصوله، فهى مُعَوَّجَةٌ ذات عُقَدٍ كثيرة تشبه أصول البقل (2) ، لكنها أَدَقُّ وأميلُ إلى التربيع، طيبة الرائحة، تحذو (3) االلسان وتلذعه جداً. وأما (4) قُضبانه، فهى صِغَارٌ إلى الإستدارة. وأما ورق (5) ، فهو شبيهٌ بورق اللبلاب وهو المسمى قيسوس (6) . وأما زهره فهو فيما بين ورقه، فِرْفيرىُّ (7) اللون، يشبه زهر البَنْج (8) . وأما بزره، فهو شبيهٌ ببزر القرطم.
وجميع هذه الأجزاء، فإنها يقلُّ استعمالُها فى الطِّبِّ جداً؛ سوى الأصول فإنها هى التى تُستعمل كثيراً من هذا النبات. وهذه الأصول - لامحالة - مركَّبةٌ من أجزاءٍ أرضيةٍ مُرَّةٍ قابضة، وأجزاءٍ ناريةٍ مُرَّة، بها تكون هذه الأصول لذَّاعةً للِّسان حادةَ الطعم. فلذلك، تكون هذه الأصول لطيفة الجوهر، لأن ما فيها من الأرضية، لابد وأن يتلطَّف بالحرارة المفترة لها ((1) 1) . وأفضل هذه الأصول، ما هى أزكى رائحةً، وأملأُ جِرْماً، وأَرْزَنُ وزناً لأن ما يكون كذلك، فمادته أغزر، وقوته أقوى، وملائمته للأرواح أكثر.
الفصل الثاني في طبيعته وفعله على الإطلاق
الفصل الثاني في طَبِيعَتِه وفِعلِهِ على الإطلاَقِ إن هذه الأصول، لما كانت عطرةً، حادَّةَ الطعم إلى مرارة؛ فهى لا محالة حارَّةٌ يابسة، ويبوستها كالمكافئة لحرارتها، لأجل تعادل قوة يبوسة الأرضية المحترقة - مع قلة حرارتها - لقوة حرارة النارية، مع قلة يبوستها. وقال بعضهم إن اليبوسة أَشَدُّ، لأن حرارة النارية تُزيد فى يبوسة الأرضية. والأول أَصَحُّ. ولأن (1) هذا الدواء من أرضيةٍ محترقة، وناريةٍ؛ فهو لامحالة محلِّلٌ، جال (2) مجفِّفٌ، قابضٌ، مفتِّحٌ، يسخِّن الأعضاء كلها، ويسكِّن أوجاعها بتحليله للمادة الموجعة. ولابد (3) وأن يكون ملطِّفاً، وذلك لأجل ما فيه من الحدَّة النارية، ولأنه لو لم يكن ملطِّفاً، لما كان محِّللاً، فإن التحليل إنما يكون بتلطيف المواد، حتى يسهل تبخُّرها (4) . ولابد وأن يكون مقوِّياً للروح، لما فيه من العطرية. فلذلك، لابد وأن تكون (5) فيه ترياقيةٌ ما. ولابد وأن يكون منقيّاً، ضرورةً. وأنه لابد وأن يكون مجفِّفاً، لأجل أرضيته الحارَّة. وذلك، مع التحليل، يلزمه قوة التجفيف. وهذا التجفيف، مع الجلاء، يلزمه التنقية. فلذلك، لابد وأن يكون هذا الدواء مجفِّفاً بقوة، منقيّاً.
الفصل الثالث في فعله فى أعضاء الرأس
الفصل الثالث في فِعلِهِ فى أعضَاءِ الرَّأسِ لما كان هذا الدواء منقيِّاً، مجفِّفاً، جلاَّءً، محلِّلاً، قابضاً، مقوِّياً؛ فهو لا محالة يشدُّ اللَّثَةَ، ويجفِّفُ رطوباتها المرخية، ويطيِّب النكهة بذلك، وبما فيه من العطرية. ولما كان ملطِّفاً، مع عطريةٍ تقوِّية (1) ، وقَبْضٍ يسير، وجلاءٍ؛ فهو لامحالة ملطِّفٌ لغِلَظِ القَرَنية، وللروح التى فى العين؛ فلذلك هو يُحدُّ البصر، ولامحالة أنه نافعٌ من الصداع البارد، لتعديله للدماغ (2) . وهو يسخِّن الدماغ، وينفع من الجبن؛ وسببُ ذلك حرارتُه ويبوستُه وتجفيفهُ للرطوبات الفضلية المضعفة للدماغ.
الفصل الرابع في فعله فى أعضاء الغذاء
الفصل الرابع في فِعلِهِ فى أَعضَاءِ الغِذَاءِ إنَّ هذا الدواء يسخِّن المعدة والكبد، ويُخرج رطوباتهما الفضلية فى البول. وهو يفتح سُدَد الكبد والطُّحال، وذلك لما فيه من التلطيف والجلاء والنفوذ. وينفع من صلابتهما، بما فيه من التليين والتحليل، مع التقوية (1) . وينفع جداً من أورامهما، لما فيه من التحليل، مع القَبْض والتقوية والتليين. ولما كان هذا الدواء شديدُ النفع لأمراض الكبد والطُّحَال، فهو لامحالة نافعٌ من الاستسقاء ومن اليرقان خاصةً الشراب المتخذ منه، وصفته (2) : أن يؤخذ من الأسارون اثنى عشر مثقالاً، تُجعل (3) فى ستة وثلاثين قوطولى من العصير وبعد شهرين يروَّق، ويستعمل (4) . وهذا الشراب شديدُ النفع لجميع علل الكبد ويقوِّى هضم المعدة، ويقوِّى الكلى والمثانة ويسخِّنهما، ويُخرج الرطوبات الفضلية من الكبد.
الفصل الخامس فى فعله فى أعضاء النفض
الفصل الخامس فى فِعلِهِ فى أَعضَاءِ النَّفضِ إن الأسارون لأجل قوة تفتيحه، مع لطافة جوهره وتلطيفه؛ هو لامحالة مُدِرٌّ للبول، وللحيض خاصةً، فهو (1) لأجل زيادة تسخينه، يحدُّ مزاج الدم ويهيِّجه للخروج بالحيض ونحوه. وإذا شُرب منه سبعة مثاقيل، أسهل مثل إسهال الخرْبق الأبيض وهو ينفع المستسقين بإدراره للرطوبات، وخاصةً الاستسقاء (2) اللحمى (3) ، وذلك بما فيه من التقوية للهضم. ويقوِّى الكلى والمثانة ويسخِّنهما، وينقِّى مجارى البول من الأخلاط اللزجة، فلذلك يمنع من تولُّد الحصاة. ومع ذلك، فإنه يفتِّت الحصاة بما
فيه من الحِدَّة والتلطيف وقوة النفوذ - لأجل لطافته - وإذا شُرب بالعسل، زاد فى المنىِّ. وإذا دُقَّ وعُجِنَ بلبنٍ حليب (1) ، وضُمِّدَ به بين الوركين، هيَّج الباه وأنعظ إنعاظاً شديداً.
الفصل السادس فى فعله فى الأمراض التى لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل السادس فى فِعلِهِ فى الأَمرَاضِ التى لا اختِصَاصَ لها بعُضوٍ عُضو إنَّ هذا الدواء، لأجل إدراره وإخراجه الرطوبات الردئية بالبول، هو نافعٌ فى الحميات؛ وذلك إذا كانت عتيقة، ولم تكن مادتها شديدة الحرارة. وهو يجلو الجلد إذا استُعمل من خارج، ويسكِّن وجع الوِرْك، ووجع النَّسَا - وإن تقادم - خاصةً شرابه المذكور (1) . ويسكِّن الأوجاع الباطنة، ويدخل فى التطييب (2) .
الفصل السابع فى بقية أحكامه
الفصل السابع فى بَقِيَّةِ أَحكَامِه إذا بُخِّرَ البيت بالأسارون، هربت منه العقارب الخضر. وإذا فُقد الأسارون قام مقامه مثل وزنه قَرْدَمانا (1) مع ثلث وزنه د ح (2) وثلث وزنه حماماً، أو يُبدل بمثله ونصف د ح ومثل سدسه حماماً.
المقالة العشرون فى أحكام الأسطوخودس
المقالة العشرون فىِ أَحْكَامِ الأُسْطُوخودُس وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على ستة فصول.
الفصل الأول فى ماهية الأسطوخودس
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الأُسطُوخودُس قد فسَّر بعضهم (1) لفظ أُسْطُوخودُس بموقف (2) الروح، ويُشبه أن يكون كذلك (3) ، لأنه يوقف (4) الروح عن التغيَّر الردئ، أى أنه حافظٌ لصحتها. وقد يسمَّى هذا الدواء ستخادس (5) لأن هذا الدواء يكثر نباته فى جزائر ستخادس (6) فلذلك سُمِّى هذا الدواء باسم ما يكثر نباتُه فيه (7)
وهو رقيق السَّفَا، أحمره؛ له جُمَّةٌ كجمة الصَّعْتر وهو أطول ورقاً من الصعتر، وقضبانه غُبْرٌ كما فى الأفتيمون (1) . وطعمُه حريفٌ، مع مرارةٍ ويسير قبض. وجميع أجزائه تستعمل (2) فى الطبِّ، وقد يُستعمل على حاله، وقد يُتَّخذ منه شراب، وربما اتُّخذ منه معجون بالعسل. وذلك بأن يُربَّى (3) فى العسل كما يُربَّى الورد ونحوه، ويُفعل ذلك فى الربيع. وغير المربَّى يندر (4) جداً أن يستعمل بانفراده، وذلك لأجل قوة حرارته ويبوسته؛ بل يُستعمل غالباً مع أدويةٍ أُخر تصلحه وتعدِّله. وجوهره مركَّبٌ من أرضيةٍ ونارية، وأرضيته بعضها باردةٌ، بها يكون قابضاً؛ وبعضها حارَّةٌ محرقة، بها يكون مُرّاً. وأما الناريةُ، فإنه بها يكون حريفاً. وجوهره إلى لُطْفٍ، لأن ناريته أزيد من أرضيته الباردة، ومائيته يسيرة. ولذلك لايظهر فيه تفاهة، ولا يتأخَّر ظهور حرافته ومرارته، بل يظهر ذلك عند أول ملاقاته اللسان. وفيه هوائيةٌ كثيرة، ولذلك هو خفيف (5) جداً.
الفصل الثانى فى طبيعة الأسطوخودس
الفصل الثانى فى طَبِيعَةِ الأُسطُوخُودُس إن هذا الدواء،لما كان من أرضيةٍ باردة وأرضيةٍ حارَّةٍ محترقةٍ مُرَّة، ومن ناريةٍ، ومائيةٍ يسيرة، وهوائية متوسِّطة؛ وما سوى المائية والهوائية من هذه الأجزاء، فإنه يابسٌ. فلذلك، يجب أن يكون هذا الدواء شديد اليبوسة، ويجب أن يكون حارّاً لأجل غلبة ناريته مع قِلَّة مائيته، وأرضيته الباردة وهوائيته لا مدخل لها فى ترطيب البدن، ومائيته المرطَّبة يسيرة، وباقى أجزائه يابسةٌ؛ فلذلك يجب أن تكون يبوسة هذا الدواء شديدةٌ جداً. وأما حرارته، فإنها مع قوتها، يجب أن تكون أقل من يبوسته. وذلك لأن حرارته النارية تتعدَّل ببرد المائية والأرضية الباردة، وتسخين الهوائية والأرضية الحارّة ليس بكثير جداً. ولما كان هذا الدواء كذلك، فهو - لامحالة - موافقٌ للمشايخ والمبرودين والمرطوبين، ضارٌّ بالشُّبان والمحرورين. وقد بَّيَّنا أن هذا الدواء لطيف الجوهر ولابد - أيضاً - أن (1) يكون ملطِّفاً، وذلك لأجل ناريته. ويجب أن يكون (2) جَلاَّءً محلَّلاً، مفتِّحاً، نفَّاذاً، مقطِّعاً، مجفِّفاً، منقِّياً. وذلك لأنه لمرارته، يجب أن يكون جَلاَّءً مفتِّحاً. ولناريته، يجب أن يكون مقطِّعاً. ولشدة يبوسته مع التحليل، يجب أن يكون مجفَّفاً؛ ولتجفيفه مع الجلاء، يجب أن يكون منقياً؛ فلابد وأن يكون مُنضجاً للمواد الغليظة والباردة، وذلك لأجل تلطيفه مع تسخينه. وهو، لقوة حرارته، يسخِّن
الأعضاء جميعها. ولقوة تجفيفه، يزيل الرطوبات المعِدَّة للعفونة فلذلك، هو من الأدوية المانعة للعفونة، المضعفة لها. ولما فيه من القبض، يقوِّى الأعضاء؛ وخاصةً الأحشاء (1) ، لأنه - مع القَبْضِ القوى لها - يزيل بَلَّتها المرخية، بتجفيفه. ولأجل لطافة جوهره، مع الجلاء والتلطيف، هو (2) مفتِّحٌ بقوة. فلابد وأن يكون شديد التلطيف، وإلا لم يكن قوىَّ التحليل؛ ولابد وأن يكون مفشِّيّاً (3) للنَّفْخ والرياح، وذلك لأنه - مع حرارته - ملطِّفٌ محلِّلٌ بقوة.
الفصل الثالث فى فعله فى أعضاء الرأس
الفصل الثالث فى فِعلِه فى أعضَاءِ الرَّأسِ إنّ هذا الدواء، شديدُ النفع فى الماليخوليا (1) والصَّرَع والرعشة وجميع أمراض العصب الباردة. وأما قوة نفعه من الماليخوليا فلأنه مع تلطيفه الروح بحرراته، فإنه يلطِّفها ويصفِّيها، باستفراغه الأخلاط الغليظة منها، وهى السوداوية والبلغمية. فلذلك، هذا الدواء يُصلح الفِكْر جداً، ويقوِّى الذهن؛ لأنه يلطِّفُ (2) الروح (3) النفسانى والحيوانى معاً، تلطيفاً كثيراً. ولذلك، هو يفرِّح، ويسرُّ النفس. ولكنه، لزيادة تسخينه للروح الحيوانى، يحدُّ مزاجه فى المحرورين فلذلك يكون فيهم، مُحدثاً لسرعة الغضب، لأنه يجعل أرواح هؤلاء، بحدَّتها ومرضها شديدة الاستعداد للحركة إلى خارجٍ دفعةٌ، وذلك ما يُعِدُّ لكثرة الغضب. كما بيَّنَّاه فى كتابنا السالف (4) .
وأما قوة نَفْع هذا الدواء من الصَّرَع فلأنه يزيل المادة التى منها تتولَّد (1) الرياح المصرعة، ويحلِّل (2) تلك الرياح. وإمالته (3) لمادة هذه الدُّخَّانية، بما فيه من الاستفراغ، وبم (4) هو مجفِّفٌ، فيجفِّفُ الرطوبات الفضلية التى فى الدماغ، فلا يبقى منها ما تتولَّ (5) منه الرياح. وخاصَّة (6) هذا الدواء، تنقيةٌ الدماغ. وقد يُسعط (7) بوزن درهم منه معجوناً بسعلٍ، فينقِّى الدماغ تنقيةً بالغة. وشرابه نافعٌ من تَزَعْزُعِ الدماغ لأجل سقطةٍ أو ضربةٍ أو نحوهما، وذلك إذا استعمل هذا الدواء بالعسل. وأما قوة نفعه من أمراض العصب، فلأنه يسخِّن الأعصاب بحرارته، ويزيل بَلَّتها المرخية لها بتجفيفه، ويقوِّى جِرْمها بما فيه من القبض. وشرابُه يفعل هذه الأفعال كلها، وهو أنفع فى أمراض العصب من جِرْم هذا الدواء، لأن جِرْمه يقلُّ نفوذه إلى الأعصاب، بخلاف شرابه، فإنه - لسيلانه - يسهل نفوذه إلى جميع العصب. وأما أمراض الدماغ نفسه، فجِرْمُ هذا الدواء أوفق فيها، لأنه يبقى فى المعدة كثيراً، فيكثر ما يتَبخَّر منه إلى (الرأس بجلاء، وشرابه - بسيلانه (8) - ينحدر من
المعدة سريعاً، فيِقلُّ ما ينفذ منه إلى (1) الدماغ. وهو مع ذلك، فإنه يسخِّن الأعضاء الأُخر كثيراً، لأنه ينفذ إليها؛ ولا كذلك جِرْم هذا الدواء، فإنه يكثر فعله فى الدماغ، ويقل فى غيره من الأعضاء؛ خلا المعدة، فإنه - أيضاً - يفعل فيها بقوة، وذلك لأجل كثرة بقائه (2) فيها. فلذلك، إذا احتيج إلى الأُسْطُوخودُس لأجل أمراض الدماغ نفسه، فينبغى أن يستعمل شرابه. ولستُ أستبعدُ أن يكون الأُسْطُوخودُس مقوياً للبصر، ولغيره من الحواس وذلك لأجل تصفيته للروح، وتلطيفه لها.
الفصل الرابع فى فعله فى أعضاء الصدر
الفصل الرابع فى فِعلِهِ فى أعضَاءِ الصَّدرِ إن طبيخ هذا الدواء، نافعٌ لأعضاء الصدر جداً، وذلك لأجل تلطيفه وتفتيحه. وهو فى ذلك، يفعل فعل الزوفا (1) وطبيخه فى هذا، أوفق من جِرْمه لأن نفوذ جرمه إلى هذه الأعضاء عسرٌ.. (2) من مسام الحجاب الفاصل بين المرئ وقصبة الرئة. وهو يقوى القلب جداً بقبضه، وبإصلاحه لأرواحه (3) بما ينقِّيها من السوداء؛ ويفرِّح كثيراً بذلك، لأن الروح إذا صفت ولطفت، سهل تحرُّكها إلى خارج.
الفصل الخامس فى فعله فى أعضاء الغذاء
الفصل الخامس فى فِعلِهِ فى أعضَاءِ الغِذِاءِ لما كان هذا الدواء محلِّلاً، مفتِّحاً، منضجاً - بما فيه من الحرارة - كل ذلك فيه، مع قَبْضٍ وتقويةٍ؛ فهو لامحالة موافقٌ للأحشاء، مقوٍّ لها، مجفِّفٌ لفضولها ويُكثر (1) تكرُّب المحرورين والصفراويين، وذلك لأجل زيادته فى سوء مزاجهم ولذلك يشتد تعطيشه لهم، ويقيَّئهم. ولا أمنعُ أن يكون هذا الدواء نافعاً للكبد، وذلك بما فيه من التفتيح والجلاء والإنضاج، مع القبض المقوِّى. وأما نفعه للطحال، فهو مما أميلُ إليه (2) ، وذلك لأنه - مع هذه الأفعال - حادٌّ، مقطِّعٌ، مستفرغٌ للمادة الغليظة والسوداوية. لكنه يضرُّ المعدة كثيراً، لتوليده المرار فيها، وذلك للمحرورين خاصة.
الفصل السادس فى فعله فى أعضاء النفض
الفصل السادس فى فِعلِهِ فى أَعضَاءِ النَّفضِ إن الأُسْطُوخودُس لأجل تسخينه وتجفيفه وتقويته للأعصاب، هو شديدُ النفع للأعضاء العصبية (1) كلها؛ فلذلك، هو نافع للرَّحم والمثانة، وكذلك (2) هو نافعٌ لآلات البول. ولأن فيه قَبْضٌ وتقوية، فهو - لامحالة - يقوِّى آلات البول ويجفِّف الرطوبات المرخية لها؛ فلذلك هو نافعٌ من ضعف المثانة واسترخائها ويحبس البول ويمنع سلس (3) . ومع ذلك، فإنه يُسهل البلغم والسوداء، والإكثار من الإسهال به، يبرئ الصَّرَع والماليخوليا (4) ويفرِّح جداً، وينقِّى الدماغ. والشربة منه، من وزن درهمين إلى ثلاثة دراهم - وقيل إلى خمسة دراهم - وتصلحه الكثيراء ولا يحتاج إلى كثير إصلاحٍ. وشربه بالسكنجبين موافقٌ، وقد يُشرب شرابه مع السكنجبين وملحٍ، فيكون أقوى فعلاً. وإذا أُخذ معجونه فى أيام الربيع، فرَّح النفس جداً، وأخرج مواداً سوداوية وإذا نُطِّلت بطبيخه المفاصلُ، سكَّن وجعها. وينفع جداً من ارتعاش الرأس. وإذا أُخذ منه جزءٌ، ومن قشر أصل الكبر نصف جزءٍ، وعُجنا بالعسل كان نافعاً للمعدة الباردة، ومن كل خِلْطٍ باردٍ فيها، ومن الأخلاط اللذَّاعة لها. وإذا طُبخ
مع الصعتر وبزر الكرفس وشُرب مع الدواء المسهل (1) ، منع إحداثه المغص. وقد يُسقى المصروع من هذا الدواء، مع السكنجبين والعاقرقرحا فينتفع به جداً.
المقالة الحادية والعشرون فى أحكام الأسفاناخ
المقالة الحادية والعشرون فىِ أَحْكَامِ الأَسْفَانَاخِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على خمسة فصول.
الفصل الأول فى ماهيته
الفصل الأول فى مَاهِيَّتِه إن الأَسْفَانَاخَ (1) من جملة البقول التى تؤكل كثيراً، وإنما تؤكل بعد الطبخ. وورقه محيرٌ لايزيد فى طوله على نصف ذراع، وطعمه تفهٌ إلى يسير ملوحةٍ ومنه برىٌّ، ومنه بستانىٌّ. والبرىُّ أقصر، وتحاريرُ ورقه أغوص. وجوهر الأَسْفَانَاخِ مركبٌ من مائيةٍ كثيرة، ومن أرضيةٍ محرقةٍ مُرَّةٍ قليلةٍ ضعيفةِ الإحراق والمرارة، ومن هوائية. والمائيةُ بها هو تفهٌ، والأرضية بها هو إلى ملوحةٍ؛ ولو لم تكن هذه الأرضية (2) - كما قلناه - لكانت تحدث ملوحة قوية ظاهرة، بل مرارة. ولو لم تكن فيه هوائية، لما كان خفيفاً. وليست قِلَّة هذه الأرضية مفرطة، وإلا لم يكن هذا النبات منتصباً؛ فلذلك، لابد وأن تكون هذه الأرضية قليلة الاحتراق قليلة المرارة، حتى يكون القدر المعتد به منها، لا يُحدث ملوحة ظاهرة. وإنما يُحتاج إلى طبخه، إذا أُريد أكله؛ لتليين أرضيته، فيطيب أكله، ولا كذلك الهندباء والخسِّ ونحوهما من البقول التى تؤكل نَيَّةٌ. لكن هذه الأرضية ضعيفةُ المرارة، فلذلك لا تُحدث ملوحةٌ ظاهرة، فضلاً عن مرارةٍ. ولا كذلك أرضية الهندباء فإنها، مع قِلَّتها، قليلة المرارة؛ فلذلك (3) تظهر مرارتها فى الهندباء
ولا كذلك هاهنا. (1) وما يدلُّ على أن (2) أرضية الأَسْفَانَاخِ أكثر مقداراً من (3) أرضية الهندباء أنه إذا دُقَّ واعتُصر، كان الخارج (منه من المائية، أقل مما (4) فى الهندباء؛ وكان الثفل أزيد. فلذلك لابد وأن تكون (5) أرضية الأَسْفَانَاخِ) (6) أزيد من أرضية الهندباء وأقل احتراقاً منها، ولابد وأن يكون أغلظ، وإلا لم يُحتج إلى طبخه. وأفضل طبخ الأَسْفَاناخِ أن يكون مع دسم، فإنه يُطيِّب أكله ويُسرع انحداره، ويكون تليينه ونفعه لأعضاء الصدر أكثر.
الفصل الثانى فى طبع الأسفاناخ وأفعاله مطلقا
الفصل الثانى فى طَبعِ الأَسفَانَاخِ وأَفعَالِهِ مُطلَقاً قد علمتَ أن الأَسْفَاناخَ مركَّبٌ من مائيةٍ وأرضية، ومائيته كثيرة - ولولا ذلك لما كان الغالبُ عليه التفاهة (1) - لكنها أقلُّ من مائية الهندباء والخسِّ كما قلناه. وأرضيته قليلةُ الاحتراق والمرارة، فلذلك هى ضعيفةُ اليبوسة والهوائية، تفيد تسخيناً لطيفاً، ولا تفيد ترطيباً، كما قلناه. فلذلك، يجب أن يكون الأسْفاناخُ قريباً من الاعتدال؛ لأن حرارة أرضيته، تعاضدها (2) حرارةُ الهوائية، فتقوى قليلاً حتى تصير قريبةٌ من برد المائية. ومع ذلك، فإنه يميل إلى بردٍ ورطوبة، ميلاً يسيراً. وذلك لأن مائيته - لكثرتها - تكون (3) برده أزيد من الحرارة، خاصةً وأرضيته لم تخرج عن طبيعتها بالاحتراق كثيراً. وكذلك، كثرةُ هذه المائية، مع ضعف يبوسة الأرضية، يلزمها أن يكون هذا النبات مائلاً إلى الرطوبة؛ فلذلك: الأَسْفاناخ باردٌ، رطبٌ باعتدال. ولأجل غِلَظِ أرضيته، يميل إلى الغِلَظِ قليلاً. ولأجل قِلَّةِ احتراق أرضيته، هو يتأخَّر نفوذه عن المعدة، ويتأخَّر هضمُه أيضاً. فلأجل ذلك، وبما (4) فيه من الملوحة، هو يعطِّش.
وفى هذا النبات غسْلٌ، وذلك بما فيه من الرطوبة. وجلاءٌ يسيرٌ، وذلك بما فيه من الملوحة. وتفتيحٌ يسيرٌ، وذلك بما فيه من الغسل؛ وهذا التفتيح ضعيفٌ لا يبلغ إلى حدٍّ يُحدث الإدرار، وذلك لأجل ضعف حرارة أرضيته ومرارتها. ولما كان الأَسْفَانَاخُ مع قربه من الاعتدال، هو مركَّبٌ من مائيةٍ وأرضيةٍ تركيباً مستحكماً؛ لاجَرَمَ صار من الأجسام (1) الغاذية، فلذلك كان الأَسْفَانَاخُ دواءً غذائياً. وجميع الأغذية، فإنها تستحيل إلى الأخلاط (2) ؛ ولما كانت المائية فى هذه النبات كثيرة، لاجَرَمَ أن يكون خِلْطُه مائياً.
الفصل الثالث فى فعله فى أعضاء الصدر
الفصل الثالث فى فِعلِهِ فى أعضَاءِ الصَّدرِِ (1) إن هذا النبات شديدُ النفع لأعضاء الصدر وأمراضه، كالسُّعال، والنزلة والخشونة، والبحوحة، والأورام العارضة فى أعراض الحلْقِ والصدر (2) ، ولآفات النفس؛ ونحو ذلك. وسبب ذلك، ما فيه من الغَسْل بمائيته، ومن الجلاء اليسير بما فيه من الأرضية (3) ، وما (4) فيه من التليين لأجل الحرارة اللطيفة التى فى هوائيته وفى أرضيته القليلة الاحتراق، فإن هذه الحرارة - لضعفها - تقوى على التسييل المليِّن، وتقوى (5) على التحليل. فلذلك، كان الأَسْفَانَاخُ يستعمل كثيراً فى أمراض الصدر. ونفعُه للنزلات، لأجل كَسره لحِدَّة موادِّها، ودَفْعه حِدَّتها (6) ، وذلك بما فيه من المائية والتليين؛ فهو عظيم النفع فى الربو الدموى، وذلك لأنه يدبِّره ويسكِّن فوران الدم (7) . وإذا كان معه دَسَمٌ، كان أنفع لأمراض هذه الأعضاء وغيرها خاصةً والدَّسَمُ يُطَيِّبه، فيكون انهضامه أجود وأسرع.
وأفضل ما يدسم به فى علِلِ أعضاء (1) الصدر، دِهْنُ اللوز، إذ هذا الدهن شديدُ الموافقة لهذه الأعضاء. وقد يُطبخ معه الباقلاء فيكون أنفع لهذه الأعضاء، لأن الباقلاء موافق جداً لهذه الأعضاء وأمراضها. وإن عُمل معه مُحُّ البيض النيمرشت (2) ، كان أكثر نفعاً لهذه الأعضاء ولأمراضها (3) ؛ إلا ما كان منها تابعاً لزيادة الدم، كالربو الدموى فإنه حينئذٍ، يكون الخالى من البيض أفضل.
الفصل الرابع فى فعله فى أعضاء الغذاء
الفصل الرابع فى فِعلِهِ فى أعضَاءِ الغِذَاءِ أنَّا قد بيَّنَّا أن الأَسْفَاناخَ من الأجسام الغاذية، وأن (1) غذاءه أزيد من غذاء الهندباء لأن امتزاج أجزائه أحكم من امتزاج أجزاء الهندباء، وخِلْطه إلى مائيةٍ؟ وليس له غِلَظٌ كثيرٌ كما فى الكرنب والقنبيط ولا بردٌ شديدٌ كما فى الخس فلذلك، يقل تولُّد البلغم عنه، فضلاً عن السواد، لأن جوهره أبعد عن جوهر السوداء، لأجل مائيته. والبرىُّ منه ألطف من البستانى، لأن أرضيَّة البرىِّ ألطف. وامتزاج أرضية الأَسْفَانَاخِ بمائيته متسحكمٌ، ولذلك (2) فإن غذاءه يكثر لأجل هذا الاستحكام فإن مائيته لاتتبخَّر كثيراً، فلذلك يكثر (3) تولُّد الأبخرة عن الأَسْفَانَاخِ فلذلك هو موافقٌ فى النزلات والصداع والرمد، ونحو ذلك من الأمراض التى يُتضرَّر فيها بكثرة الأبخرة (4) . وأرضية الأَسْفَاناخِ مع ملازمتها لمائيته، فإنها غير شديدة الاستعداد للتصعُّد وذلك لأجل قلة احتراقها، وتلطُّفها المحترقة، فلذلك تكون هذه الأرضية مانعة للمائية من كثرة التصعُّد، ولذلك (5) - أيضاً - يقلُّ تبخُّر الأَسْفَانَاخِ ويقلُّ أيضاً تدخُّنه، لأجل
عُسْرِ قبول (1) أرضيته للتصعُّد. فلذلك، يقل حدوث الدُّخَّانية عنه فلذلك، هو غير ضارٍّ لأصحاب الوسواس والماليخوليا. فلأجل قِلَّة تدخُّنه، يقلُّ تولُّد الرياح منه، لأن حدوث الرياح إنما هو من الدُّخَّانية، فلذلك يقلُّ تولُّد الرياح والنفخ عن الأسْفَانَاخِ ولا كذلك أكثر البقول. وهو غذاءٌ جيد للناقهين، وللمحرورين، والمبرودين أيضاً! وذلك لأجل قربه من الاعتدال، ولأجل ميله إلى البرد، والرطوبةُ هى للمحرورين أوفق وينفع من الصفراء وأعراضها، وذلك لأجل مضادَّة طبيعته لطبيعتها.
الفصل الخامس فى بقية أحكام الأسفاناخ
الفصل الخامس فى بَقِيَّةِ أحكَامِ الأَسفَانَاخِ إنَّ الأسْفَاناخَ لأجل مائيته، مع الجلاء الذى فيه؛ هو مليِّنٌ للبطن، مطلق له. ولأجل قِلَّة ملوحته - جداً - مع كثرة مائيته، وتفاهة طعمه، وبرده ورطوبته هو نافعٌ جداً من حُرقة البول. وهو غذاءٌ جيِّدٌ للمحمومين، خاصةً الذين بهم (1) مع الحمّى، سعالٌ خاصةً إذا طُبخ بدهن اللوز الحلو (2) . والله أعلم!
المقالة الثانية والعشرون فى أحكام الأسل
المقالة الثانية والعشرون فىِ أَحْكَامِ الأَسَلِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على ثلاثة فصول.
الفصل الأول فى ماهية الأسل
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الأَسَلِ هذا النبات يُسمَّى أيضاً السَّمَار ويسمى أيضاً سخُومُس (1) وهو النبات الذى تُتَّخذ (2) منه الحصْرُ، وقد يعالج بالنحت ونحوه، حتى تُتَّخذ منه حبالٌ وقد تُتَّخذ منه غرابيل (3) . ويسمَّى أيضاً الإذْخِر الأجامى وقد تكلَّمنا فى ذلك وفى سبب هذه التسمية؛ وذلك عند كلامنا فى الإذْخر. وهو نوعان، نوعٌ دقيقٌ جداً لا ثمر له، تُتَّخذ منه الحصُرْ الرفاع؛ وهذا فى الأكثر يكون صلباً، قليل اللحم، حادَّ الطرف الأعلى. وقد يوجد منه ما هو ليِّنٌ جداً، تُتَّخذ منه الحصْرُ بالعراق، وهى حُصْرٌ لينةٌ لا تنكسر بالعطف والثَّنْى بخلاف الحصر المعمول فى البلاد الأخرى. ونوعٌ آخر، غليظٌ، له ثمرٌ أسود غليظ. وهذا النوع ينقسم إلى نوعين أحدهما حادُّ الطرف، والآخر ليس كذلك. وكلا (4) هذين النوعين كثيرُ اللحم ليِّنٌ؛ وتُتَّخذ منهما الحصْرُ الغلاظ. وجوهر الأَسَلِ مركَّبٌ من مائيةٍ كثيرةٍ وأرضيةٍ، فإنه لولا كثرة مائيته، لم
يكن شديد السبوطة خالياً من العقد الكثيرة. ولو (1) لم يكن فيه أرضيةٌ يعتدُّ بها لم يكن منتصباً، خاصةً مع دِقَّةِ جِرْمه.فلذلك، لابد وأن يكون فى هذا النبات مائيةٌ كثيرة وأرضيةٌ وهوائيةٌ. وأرضيته (2) ليست بحارَّةٍ محرقة، وإلا كانت تكون مُرَّةً، ولم يكن طعمه تفهاً. وأما مائيته (3) ، فليست - أيضاً - باردةً برداً شديداً، وإلا كانت تكون جامدةً، فلم يكن فى هذا النبات لينٌ. ولابد وأنَّ فى جوهر هذا النبات هوائيةً وإلا لم يكن خفيفاً. فلذلك، هذا النبات جوهرُه من مائيةٍ كثيرةٍ سائلة، وأرضيةٍ غير حارَّة محترقة، وهوائية.
الفصل الثانى فى طبيعة الأسل وفعله على الإطلاق
الفصل الثانى فى طَبيعَةِ الأَسَلِ وفِعلِهِ على الإطلاَقِ إن هذا النبات، لما كان حدوثه وتركيبه من مائيةٍ سائلة، وأرضيةٍ غير حارَّة، وهوائية؛ فطبعه - لامحالة - قريبٌ من الاعتدال، مع بردٍ يسير؛ فإن حرارة الهوائية، لا تقاوم برد المائية والأرضية. وإنما كان هذا البرد ليس بكثير، لأن مائية (1) هذا النبات متسخِّنة، وكذلك هى سائلة. وأما رطوبة هذا النبات ويبوسته، فإنهما كالمتكافئين، لأن مائيته - وإن كانت أكثر من أرضيته - فإن الأرضية بيبوستها أشد من رطوبة المائية، لأن يبوسة الأرض بالغة، ولا كذلك رطوبة الماء. ولما فى هذا النبات من الهوائية، فإنها وإن كانت فى نفسها بالغة الرطوبة إلا أن هذه الرطوبة لا مدخل لها (2) فى التأثير فى بدن الإنسان. وكلامنا هاهنا (3) فى أمزجة الأدوية، إنما هو باعتبار فعلها فى بدن الإنسان. فلذلك، هذا النبات لابد وأن يكون معتدلاً فى الرطوبة واليبوسة، مائلاً إلى البرودة. ولابد وأن يكون هذا النبات قابضاً، لما فيه من الأرضية التى ليست بمحرقة. ولابد وأن يكون مبخِّراً، وذلك لما فيه من المائية.
الفصل الثالث فى بقية أحكامه وأحكام ثمرته
الفصل الثالث فى بَقِيَّةِ أَحكَامِه وأَحكَامِ ثَمَرَتِهِ إن هذا النبات، لما كان كثير المائية، مبخِّراً؛ فهو - لامحالة - مُصَدِّعٌ مُثقلٌ للرأس. وتصديعه هو لأجل كثرة بخاره وتمديده، لا لأجل كيفيته؛ وذلك لأن برد هذا النبات ليس بشديد. فلذلك، بخارُه إنما يصدِّع بكميته، لا بكيفيته. ولما كان هذا النبات ذا أرضيةٍ قابضة، وليس فيه كيفية تجلو وتلذع (1) ونحو ذلك، أو تفتِّح بقوة، حتى يكون ذلك مطلقاً للبطن أو مدرّاً للبول. فهو لذلك، عاقلٌ للبطن. وأما (2) ثمر (3) هذا النبات، فيجب أن يكون إلى حرارةٍ ما - ولذلك هو أسود اللون - فلذلك هو مفتِّح، مُدِرٌّ للبول. إلا أن هذا التفتيح والإدرار، غير قويين؛ والحرارة ليست بقويةٍ حتى تكون (4) محدَّةً للدم. فلذلك، هذا الثمر لايدرُّ الحيض؛ ومع ذلك، فإنه يحبسه، وذلك بما فيه من الأرضية القابضة. وبهذه الأرضية، هو أيضاً يحبس البطن (5) . وإذا شُرب مع (6) هذا الثمر شرابٌ، قوى إدراره للبول، لأن الشراب من
شأنه إدرار البول، على ما بيَّنَّاه من كلامنا السالف فى الأسباب. وإذا قُليت (1) هذه الثمرة، كان حبسها للبطن وللدم أكثر (2) - لامحالة (3) - وذلك لأجل ذهاب كثير من مائيتها، فتبقى الأرضيةُ كثيرةً، فيكون استيلاء فعلها أشدُّ. وجميع هذه الثمرة إذا أُكل، صدَّع الرأس وأثقله. وذلك بما ينفصل من هذه الثمرة من الأبخرة،كما قلناه فى فعل (4) هذا النبات. وثمرةُ الصنف الذى طرفه غير حادٍّ، أميلُ إلى البرد؛ فلذلك يكون بخارُها بارداً، فلذلك ينوِّم ويُسبت إذا أُكثر من هذه الثمرة. وإنما لا يفعل ذلك، بخارُ هذا النبات نفسه، لأن رطوبته لا تبلغ إلى ذلك، فإن رطوبات الثمرة لابد وأن تكون أزيد من رطوبات الأصل لأن الثمرة لابد وأن يكون فيها رطوبة فضلية، لتكون معدَّة لأن يتكوَّن منها شخصٌ آخر، فلذلك تبلغ هذه الثمرة فى كثرة بخارها، إلى حَدِّ تُحدث (معه) السُّبَات. وأما ورق هذا النبات، وهو يكون عند أصله؛ فإنه إذا تُضمِّد به، وافَقَ نَهْشَ الهوام والرتيلاء (5) .
المقالة الثالثة والعشرون فى أحكام الآس
المقالة الثالثة والعشرون فى أَحْكَامِ الآسِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على ثمانية فصول.
الفصل الاول فى ماهية الآس
الفصل الاول فى مَاهِيَّةِ الآسِ الآسُ يقال له: المرْسين. منه بستانىٌّ، ومنه برِّىٌّ. أما البستانى، فهو المعروف المشهور باسم الآس والمرسين وهو نباتٌ له أصولٌ، وساقٌ، وأغصانٌ وأوراقٌ وزهرٌ، وثمر، وله شئٌ يظهر على ساقه، على لون ساقه وعلى هيئة (1) كَفِّ الإنسان، يسمَّى البُنْكُ (2) . وهذا الآس ينبت فى البساتين، وفى السهل والجبل، ويعظم جداً حتى يصير من الأشجار الكبار، ويشبه أشجار الرُّمَّان، وله زهرٌ أبيضٌ طيب الرائحة وثمرته (3) مستديرة، تكون أولاً خضراء، فإذا كمل نضجها اسودت. وتكون حينئذٍ حلوة الطعم إلى مرارةٍ وعفوصة. وأما طعم الآس نفسه، فهو مركَّبٌ من العفوصة والمرارة، ويسيرٍ جداً من حلاوة. وهذا الطعم، يوجد فى جميع أجزائه (4) ؛ فلذلك، جميع أجزائه متشابهة - أيضاً - فى القوة.
وأما الآسُ البرىُّ فينقسم إلى نوعين، أحدهما يسمَّى بدمشق ونواحيها قِفْ وانْظرْ وورقه أعرض كثيراً من ورق الآسِ البستانى وليس له ساق، بل تتَّصل (1) أغصانه كلها بأصوله، وزهرُه فى وسط ورقه، وله ثمرٌ مستديرٌ، إذا نضج (2) صار لونه أحمر، وفى داخله حَبٌّ صَلْبٌ وقضبانٌ عسرة الأرضاض، مملؤةٌ بالورق وطعمه مركَّبٌ من عفوصةٍ ومرارةٍ. أما النوع الآخر من الآس البرىِّ فهو أصغر ورقاً من الآس البستانى ولا ساق له - أيضاً - وأطراف ورقه حادَّةٌ، ناخسةٌ لما يلقاها، لونه أخضر إلى سوادٍ وغبرة. وكلا (3) هذين النوعين، فإنه لا يزيد طوله على ذراع (4) ، وزهره فى وسط ورقه. وجميع أنواع الآس فإن خضرتها لا تفارق، وإن جَفَّتْ. ولا يسقط ورقها فى الشتاء، وهذا يدل على أن رطوبة الآس مُبينة، ليست مائية رقيقة، وإلا كانت تتحلَّل بدوام حَرِّ الهواء فى الصيف، وكانت الأوراق تتهيَّأ للسقوط فى الخريف والشتاء. وجوهرُ الآس مركَّبٌ من أرضيةٍ حارَّةٍ (5) محترقة، بها يكون عَفِصاً. ولابد وأن تكون (6) فيه مائيةٌ، وإلا لم يكن سَبْطاً. ولابد وأن تكون فيه هوائيةٌ، وإلا
لم يكن خفيفاً. وامتزاج الآسِ من هذه الأجزاء، ليس بمستحكم، وإلا لم تكن (1) له أفعالٌ شافية، فلم يكن مقبضٌ ومفتِّحٌ معاً، ويكثِّف ويلطِّف معاً. وهذه الأجزاء فيه مختلفة المقادير، فمائيته ليست بكثيرةٍ (2) جداً، ولذلك إذا اعتُصر كان أكثره ثفلاً. فلذلك الآسُ فيه أجزاءٌ حارَّةٌ وأجزاءٌ باردةٌ، وبردُه أغلب. ولذلك، فإن رائحته ليست بحارَّةٍ، بل إلى نداوةٍ ويبوسة كثيرة، لأجل كثرة الأرضية فيه، خاصةً وبعضها محرَّق، وهو الأرضية المرة. فلذلك الآسُ قريبٌ من الاعتدال فى الحرارة والبرودة، وأميل إلى البرد. وأما فى الرطوبة واليبوسة، فهو مفرطٌ اليبوسة. وأفضلُ الآسِ ما كان أذكى رائحةً، وكانت خضرته إلى سواد. خاصة الخسروانى المستدير الورق، أى الذى ورقه أقل طولاً، لا سيما الجبلىُّ من أنواعه. وإنما كان ذلك، لأن ذكاء الرائحة يدل على القوة (3) ، ومَيْلُ الورق إلى الاستدارة، فى كل نوع، يدلُّ على قلة المائية؛ ويلزم ذلك أن تكون قوة الآس الجبلىِّ (4) أقوى، والجبلىُّ من كل نوعٍ، أقل مائيةً. وأفضل الآسِ (5) ما كان أنقى بياضاً، لأن هذا يكون أخلص من الفضول المدرَّة للَّوْن، وما كان من الآس أميل إلى السواد، فثمرته (6) أضعف من ثمرة الذى ليس كذلك.
الفصل الثاني فى طبيعته وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثاني فى طَبِيعَتِه وأَفعَالِهِ على الإِطلاَقِ أما (1) يبوسة الآسِ فأمرٌ لايُشكُّ فيه، وذلك لأن أرضيته أكثر كثيراً من مائيته، ولذلك إذا اعتُصر، كان ثفله أكثر من مائيته بكثير. وأيضاً، فإن الآسَ فيه جزآن يابسان؛ وكذلك - أيضاً - فيه جزآن رطبان، وهما: المائية والهوائية وإذا كان كذلك، لم يلزم أن تكون (2) يبوسته أَزْيد. قلنا: إن الأمر - وإن كان كذلك - فإنه يلزم أن تكون يبوسة الآسِ كثيرةً وزائدة، وذلك لوجهين. أحدهما: أن يبوسة الأرضية شديدة جداً، إذا كانت على طبيعتها؛ ويبوسة الأرضية المحترقة أزيد من ذلك، فيكون مجموع يبوسة الآسِ الأرضية (3) كثيراً جداً، ولا كذلك رطوبة الجزئين الرطبين. وذلك لأن رطوبة المائية ليست بشديدة، وإذا كانت كذلك، لم تكن (4) رطوبة جزئىْ الآس الرطبين، معادلةً ليبوسة جزئيه اليابسين. وثانيهما: أن كلامنا ها هنا فى أمزجة الأدوية، إنما هو فى أمزجتها المعتبرة بحسب فعلها فى بدن الإنسان، لا التى هى لها فى أنفسها (5) . والهوائية التى فى
الآسِ وإن كانت تفيد الآسَ نفسه رطوبةً، فإنها ليست بعللٍ تثبته لبدن الإنسان بأجزائه اليابسة، وذلك لأن رطوبة الهوائى، كونه غير ممتنع عن قبول التشكُّلات والاتصال والانفصال ونحو ذلك، وهذه الرطوبة التى بهذا المعنى، لا تأثير لها فى ترطيب بدن الإنسان. وإذا كان كذلك، كان المفيد للآسِ ترطيباً، إنما هو الماء فقط؛ فيكون ما يجعل الآسَ مرطَّباً، هو المائية فقط. وما يجعله ميبَّساً، هو الأرضية العفصة والأرضية المرة جميعاً. ويلزم ذلك أن يكون يُبْسُ الآسِ أكثر وأقوى، خاصةً والترطيب بالمائية ليس كاليُبْسِ بالأرضية، إذ يبوسة الأرضية مفرطة، ورطوبة المائية ليست (1) كذلك. فيجب أن يكون الآسُ ظاهر اليبوسة، وتكون هذه اليبوسة فيه، خارجةً عن الاعتدال كثيراً. وأما الحرارة والبرودة، فإنه يجب أن يكون الآسُ قريباً من الاعتدال فيهما وذلك لأن فيه جزآن حارَّان باردان، وهما المائية والأرضية العفصة؛ وجزآن (2) حارَّان، وهما الهوائية والأرضية المرة. وكُلُّ واحدٍ من هذه الأجزاء، فإنه يؤثِّر فى بدن الإنسان تقويةً، فبذلك تكون حرارة الآسِ كالكافية لبرودته. ولكن برودة الآسِ يجب أن تكون أزيد من حرارته، وذلك لأن أحد المبرِّدين اللذين (3) فيه - وهو (4) المائية - برده شديدٌ جداً، مفرطٌ؛ وليس فى الجزئين الحارَّين
الذين (1) فى الآسِ ما هو شديدُ الحرارة، فإن الهوائية حرارتُها ضعيفةٌ جداً والأرضية المرة - وإن كانت حارَّةً - فإن حرارتها ليست مفرطة. كيف وأنَّ حدوثها الأرضية، إنما هو على خلاف طبيعتها؟ وإذا كانت كذلك، لم يمكن أن تكون مفرطة. وتكون (2) طبيعة الآسِ باقيةً (3) على حالها. بل كان يلزم أن تعدُ الأرضية، وتستحيل ناريةً! فلذلك، كل واحدٍ من الجزئين الحارين اللذين فى الآسِ فإن حرارته ليست مفرطة. وأحد الجزئين الباردين اللذين فيه، برودته (4) مفرطة؛ وذلك هو الجزء المائى. ويلزم ذلك، أن تكون (5) برودة الآسِ زائدةً على حرارته. فلذلك، يجب أن يكون الآسُ مع خروجه عن الاعتدال فى اليبوسة، هو غير (6) خارجٍ عن الاعتدال فى البرودة. ولكن خروجه فى اليبوسة أزيد، لما قلناه. وإذ (7) الآسُ قوىُّ اليُبْسِ، ويُبْسُه (8) هو بالأجزاء الأرضية، فهو - لذلك - مجفِّفٌ، ويعين هذه اليبوسة على التجفيف، ما فيه من الحرارة؛ وذلك بأن يحلِّل فيعين (9) اليبوسة على إفناء الرطوبة؛ فلذلك الآسُ يجفِّفُ.
واليابسُ منه، أشدُّ تجفيفاً، وذلك لأجل ذهاب المائية منه، وملئ (1) مواضعها بالهوائية؛ فإذا لاقته رطوبةٌ، غاصت فى تلك المواضع، لتخرج الهوائية (2) ، كما يعرض للأجزاء إذا لاقت (3) الماء. فلذلك، يكون تجفيف الآسِ اليابس شديداً. وهو لامحالة قابضٌ، وذلك بما فيه من الأجزاء الأرضية، خاصةً العفصة فلذلك كان قَبْضُ الآسِ كثيراً، وأكثر من تجفيفه؛ لأن تجفيفه يقلِّله (4) الجزءُ (5) الثانى المقابل رطوبته بيبوسة (6) الأرضية، وأما قَبْضُه فلا يوجد له ما يقابله، فإن الماء - وإن ترطَّب وبرد - فإن ذلك لاينافى القبض. فلذلك، كان قَبْضُ الآسِ أقَوى من تيْبيسه (7) وتجفيفه. وكذلك - أيضاً - تحليله ضعيفٌ، لأن تحليله إنما هو بالأجزاء الحارَّة، وهى فى الآسِ كما قلناه، ضعيفةُ القوة. فلذلك، كان (8) تحليل الآس ضعيفاً وقبضه قوياً جداً. ومائيته - لقِلَّتها - لاتُحدث للبطن لينا يعتدُّ به، ولا عقلاً شديداً، لأن ذلك
إنما يكون لمائيةٍ كثيرةٍ جداً؛ ومثل ذلك، لايوجد فى الآسِ (1) . وكذلك (2) ليس فى الآسِ إزلاقٌ، ولاقوةٌ مسهلة غير ذلك (3) ، ولذلك كان الآسُ قوىَّ العَقْل للبطن، إذ ما فى الآسِ من التجفيف، يعين على مافيه من القَبْضِ على حَبْسِ البطن. والجزءُ المرُّ فى الآسِ أفعالُه - كما علمت - الجلاءُ والتحليلُ والتفتيح فلذلك لابد وأن تكون (4) هذه الأفعال جميعها ثابتةً للآس، فلابد وأن تكون (5) فى الآسِ قوةُ جلاءٍ، وقوَّةٌ محلِّلة، وقوَّةٌ مفتِّحة. والأرضية المرة فى الآسِ أقلُّ من العفصة، فلذلك (6) يكون جلاءُ الآسِ وتفتيحه وتحليله، كل ذلك، أضعفُ من قَبْضِه. خاصةً والأرضيةُ المرة، لابد وأن تعين العفصة على القبض، وذلك بما فيها من التجفيف. وكذلك، بردُ المائية التى فى الآسِ تُعين ما فيه من الأرضية العفصة على القَبْضِ، بما تحدثه من بردٍ فى (7) جميع الأجزاء. وليس فى الآسِ ما يُعين على جلاء الأرضية المرة، ولا على (8) تفتيحها فلذلك يكون قَبْضُ الآسِ أقوى من جلائه ومن تفتيحه بكثير. وإذ (9) الآسُ شديدُ
القَبْضِ، والقبْضُ من شأنه جمع أجزاء العضو، ويلزم ذلك أن يكون جِرْمُ العضوِ أقوى؛ فلذلك كان الآسُ مقوِّياً، وتقويته كثيرة جداً، لأجل زيادة قوة قَبْضِه. والآسُ البستانىُّ تقويته أشدُّ من تقويةَ الآسِ البرىِّ وذلك لأن الآسَ البستانى يقوى بقَبْضِه وبما فيه من العطرية المقوية للروح. والآسُ البرىُّ ليس فيه عطرية، فهو إنما يقوِّى بما فيه من القبض فقط، فلذلك (1) تكون تقويته دون تقوية البستانى. وكلا (2) النوعين من الآس مكثِّفٌ، وذلك لما فيه من القَبْضِ الشديد، مع البرد الجامع للأجزاء. ودهنُ الآسِ يفعل هذه الأفعال جميعها، مع زيادة التليين الذى يستفيده من الدهنية. وجوهرُ الآسِ ليس بشديد اللطافة، وذلك لما فيه من الأرضية العفصة. وزهرُه ألْطف منه - لما قلناه فى غيره - وذلك لأن (3) حدوث الزهر، هو من الأجزاء المتصعِّدة من مادة الثمرة، على سبيل البخارية والدخانية. وثمرة الآسِ فيها حلاوةٌ ظاهرة، فلذلك هى فى القَبْضِ والتجفيف والتقوية أقلُّ من جِرْم الآسِ ولكن تحليلها أكثر، وفيها تليينٌ ظاهرٌ - وذلك بما فيها من الحلاوة - ولذلك هى شديدة (4) الموافقة لأعضاء الصدر. ولذلك، كانت عصارة ثمرة الآسِ أفضل من عصارة الآسِ نفسه، وذلك لما فى (5) عصارة الثمرة من التليين وزيادة التحليل والجلاء، ولأنها أنسب إلى الأعضاء - لأجل الحلاوة
فلذلك، هذه الثمرة وعصارتها تغذو غذاءً يعتدُّ به، ولا كذلك جِرْم الآس فإنه قليل الغذاء جداً، وذلك لأجل زيادة يبوسته. ويشبه (1) أن تكون (2) يبوسة حَبِّ الآسِ لا تخرج (3) عن الاعتدال كثيراً. وأما الحرارة والبرودة، فيجب أن تكون فى هذا (4) الحبِّ كالمتكافئين، لأن الحلاوة إنما تكون من جوهرٍ حارٍّ. وهذا الآسُ من قِلَّته (5) هو ردئ، وذلك لأجل يبوسته. وكذلك غذاءُ ثمرته، لكن غذاء ماء الثمرة (6) أقلُّ رداءةً، لِقلَّة يبوسة الحبِّ، ولما فيه من الحلاوة المناسبة للأعضاء. وقد علمت فى كلامنا السالف، أن جميع العصارات من شأنها أن يحدث لها الغَلَيَان (7) والتكرُّج (8) ونحوهما (9) ، إذا لم يفعل فيها ما يبطل استعدادها. ولذلك، فإن (10) عصارة الآسِ وعصارة حَبِّه، هما بذاتهما (11) أقلُّ استعداداً لذلك (12) من أكثر العصارات، وذلك لأجل قِلَّة المائية فى الآسِ وحَبِّه، فلذلك
يمكن بقاء هذه العصارة مدةً ما. ولكن (ليس) (1) مدة كثيرة، فإن طول بقاء ملاقاة الفاعل للمنفعل، يقوم مقام هذا (2) الاستعداد أولاً. فكذلك عصارة الآسِ إذا طال زمان بقائها على حالها، من غير أن يُمنع استعدادها للفساد مما يفسدها وكذلك عصارة ثمره. ولذلك، يجب - إذا أُريد بقاء هذه العصارة مدةً طويلة - أن تجفَّف بقوة لتقلَّ (3) رطوبتها جداً، لاستعداد مائها للغليان والتكرُّج؛ فإن المعدَّ لذلك (4) فى جميع العصارات، إنما هو كثرة مائها ورطوبتها، كما (5) بيَّنَّاه فى كلامنا السالف. وهذا التجفيف القوى، يتمُّ بأن تعرَّض هذه العصارة (للهواء) (6) فإنها إذ عُرضت (7) ، دق جلدها وجِرْمها، فكان أميل لتجفيف الهواء لها (8) ، وأسرع وأكثر؛ وذلك لأن (9) المنفعل إذا قلَّ أو صغر، كان فعلُ الفاعل فيه أشد. وأما (بزر) (10) الآس، فقد رأينا أن يكون كلامنا فيه، فى مقالةٍ على حدة؛ وذلك حيث نتكلم فى كتاب الباء.
الفصل الثالث فى فعله فى أعضاء الراس
الفصل الثالث فى فعلِهِ فى أعضَاء الرَّاس أنَّا قد بيَّنَّا أن الآسَ يقوِّى الأعضاء كلها، فلذلك هو يقوِّى الرأس. وله خصوصيةٌ بالرأس، لاتوجد لغير الرأس؛ وذلك لأن الرأس - لأجل كثرة الرطوبات فيه - تكثر (1) فيه الفضول الرطبة، ويكون أكثر ضعفه من ذلك والآسُ لقوة تجفيفه، يُفنى (2) تلك الرطوبات. فلذلك، تكون (3) تقويته للرأس أكثر من باقى الأعضاء. وإذا طُبخ بالشراب، كانت تقويته للرأس أكثر؛ وذلك لأمرين. أحدهما: ما يحدث فيه حينئذٍ من زيادة العطرية بالشراب. وثانيهما: (4) أن الشراب يُعين على نفوذه، ويقود (5) قواه إلى داخلٍ؛ فيكون فعله أقوى، فلذلك تكون (6) تقويته أشد. وهذا الآسُ المطبوخ فى الشراب، إذا ضُمِّدَ به الرأس؛ نفع جداً من الصداع الحادث عن الأبخرة المتراقية إليه، وذلك لأجل زيادة تقوية هذا الرأس، وإذا قوى
امتنع عن (1) قبول تلك الأبخرة (2) . وإذا سُحِقَ الآسُ اليابس، وذُرَّ على قروح الرأس، نفعها جداً؛ وذلك لأجل قوة تجفيفه. وكذلك إذا طُبخ بالشراب، واستعمل فى هذه القروح. وعصارته إذا غُسِلَ بها الرأسُ، أزالت النُّخَالة؛ وذلك بما فيها من الجلاء لأجل حرارة الآسِ وكذلك إذا دُقَّ الآسُ وعُصِرَ بماء عصارة السَّلْق وغُسِلَ به الرأسُ. وكذلك، عصارةُ الآسِ بالخلِّ. وكذلك، إذا عُجِنَ السِّدْر ونحوه بعصارة الآسِ (3) وغُسِلَ به الرأس. ودِهْنُ الآس يفعل ذلك أيضاً، وينفع بثور الرأس؛ وكذلك (4) عصارة الآس (5) وعصارة ثمرته. وكذلك الآسُ اليابسُ المسحوقُ إذا جُعل على سواد (6) الرأس بدهن الورد، أو دهن زيت الأنفاق. وكذلك، إذا عُمِلَ مع الحِنَّاء فى الرأس، وضُمِّدت الجبهةُ بدقيق الآسِ اليابس، معجوناً بماء الورد - أو بعصارة الآسِ معجونةً بالسويق - منع ذلك من نزول المواد إلى العين. وإذا ضُمِّدت العين بالسويق المعجون بماء عصارة الآسِ نفع ذلك من الرمد الحارِّ، ومن سائر أورامها الحارَّة (7) ، وكذلك الجحوظ ونحوه. وكذلك، قد
ينفع تضميد العين بذلك، من الغَرْبِ (1) . وإذا تنفَّل شاربُ الخمرة (2) ، فى حال شربه أو قبله، بحبِّ الآسِ أبطأ السُّكْر، ولم يحدث له خُمار (3) . وكذلك إذا شَرَبَ من شراب الآسِ قبل شربه الخمر، وذلك إذا تحسَّى عصارة الآسِ بالسُّكَّر. وكذلك (4) إذا تناول الأنبج (5) المتخذ من حَبِّ الآس. وكيفية اتخاذ هذا الأنبج: أن يُعصر حَبُّ الآسِ وتطبخ (6) عصارته حتى ينعقد (7) قليلاً، إما بنفسها أو بالتسكُّر، وذلك بأن يصير لها (8) قوامٌ كقوام الأشربة ونحوها. وهذا الأنبج إذا لُعِقَ منه قبل شُرْب الخمر، أبطأ بالسُّكر، ومنع الخمار (9) . والسبب فى هذا كله، هو ما فى الآسِ وحَبِّه وعصارته (10) وشرابه ونحو ذلك، من القَبْضِ المانع من كثرة تصعُّد بخار الخمر. وإذا سعط المرعوف (11) من عصارة الآسِ قطع ذلك رعافه، وذلك لأجل
قوة قبض الآسِ. وقد يُغمس بيت العنكبوت فى عصارة الآسِ وتُحشى بها (1) الأنف، فيكون ذلك قوىُّ القطع للرُّعاف؛ وكذلك إذا دُقَّ وذُرَّ الآسُ الطرى وعُجِنَ بالحنَّاء، وضُمِّدَ به رأس (الأنف) (2) . وشراب الآسِ يشدُّ اللثة ويقوِّيها، لما فيه من التجفيف والتقوية، وكذلك رُبُّه؛ وهذا الرُّبُّ أقوى فى ذلك. وكذلك إذا تُمِضْمِضَ بعصارة الآسِ فَعَلَ ذلك. وإذا طُبخ الآسُ فى الشراب، وتُمضمض به؛ قوَّى الأسنان ومتَّنها (3) وقوى الغمور وشَدَّ اللَّثَة ونفع من استرخائها، وينفع كذلك من البَخَر (4) . وكذلك حَبُّ الآسِ إذا مُضِغَ، كان دابغاً للفم واللثة، وينفع أورام اللهاة والنغانغ (5) . وكذلك هذا الآسُ المطبوخ فى الخمر، إذا ضُمِّدت به العين؛ نفع جميع أورامها، خاصةً الباردة. وإذا أُحرق الآسُ وكُبست بحراقته (6) اللَّثَةَ؛ شَدَّها وقوَّاها وأذهب الرطوبة المرخية لها (7) وقلع اللحم الفاسد منها، وذلك لما يفيده الاحتراق من الحِدَّة وزيادة التجفيف. وهذا الآسُ المحرق، يدخل فى أدوية الظَّفْرَة (8) لما فيه من قوة (9)
الجلاء؛ وهو شديد النفع من النُّخَالة (1) فى الرأس. وماءُ الآسِ ودهنه، وجِرْمه اليابس، والمطبوخ منه فى الشراب، والأنبج (2) (المذكور، ونحو ذلك إذا عُمل فى الآسِ منع تساقط الشعر. وذلك لما فى الآسِ من القوة القابضة) (3) ومع ذلك، فإنه يُسوِّد الشعر، ويُطوِّله؛ وذلك إذا كان سَبْطاً، لأن مثل هذا يكون كثير المائية. وإذا قُطِّرَ فى الأذن عصارةُ الآس أو الشراب الذى طُبخ فيه الآسُ؛ نفع ذلك من قروحها وقيِحها، ومن أورامها، وقوَّاها. وإشمامُ الآسِ يقوِّى الدماغ. وكذلك إذا أُكثر (4) من إشمام عصارته، مع يسيرٍ من الخَلِّ ودِهْنِ الورد؛ وهذا شديدُ التسكين للصداع الكائن فى الحميات لأن أكثر حدوث الصداع، إنما هو من أبخرةٍ تتراقى (5) إلى الرأس بحرارة الحمى وإشمام ذلك إنما يقوِّى الرأس، فيقِلُّ (6) معه قبول الرأس لهذه الأبخرة. وكثرة إشمام الآسِ يمنع كثرة النوم، ويُسْهد (7) ؛ وذلك بما فى الآسِ من التجفيف. وهو من أوفق الأشياء للسُّبَات (8) الحادث عن الأبخرة الرطبة، كالحادثة فى الحميات، إذا كانت المادة لطيفة بلغمية.
والآسُ البرى يفعل أفعال البستانى فى تقوية الرأس ونحو ذلك، ويسكِّن الصداع. واستعماله بالشراب يفعل ذلك. وطبخ ثمرة الآس يصبغ الشَّعْر وكذلك عصارة الورق.
الفصل الرابع فى فعله فى أعضاء الصدر
الفصل الرابع فى فِعلِهِ فى أَعضَاءِ الصَّدرِ إن الآسَ لِعطريَّته، هو ملائمٌ للروح، وللقلب، ونحوه من الأعضاء. ومع ذلك، فإنه يشدُّ الأعضاء كلها، ويقوِّيها؛ وذلك بما فيه من القَبْضِ. والأرضية الحارَّةِ التى فيه، وهى (1) المرَّة؛ لاتخلو (2) من تلطيفٍ خفيف. ولذلك (3) الآسُ يقوِّى القلب، وينفع من الخفقان، ويلطِّف الروح تلطيفاً معتدلاً، ويقوِّيها بعطرِيَّته، ويزيل ما فيها من الحِدَّة وقوَّةِ الحركة إلى خارج - التى يكون بها الغضب (4) - وذلك لعفوصته وبرده. فلذلك، هو من المفرِّحات الجيدة القوية. ومما يزيد فى تفريحه، أنه يمنع الأبخرة الدُّخَّانية عن التصعُّد إلى ناحية القلب، وذلك من المعدة ونواحيها؛ فلذلك، يكون تفريحه (5) شديداً. وثمرة الآسِ تفعل التفريح أكثر، لأنها لحلاوتها، تناسب الروح والدم أكثر. ولأن ما ينفذ منها (6) ، من الحجاب الحاجز بين المرئ وقصبة الرئة، إلى نواحى القلب؛ أكثر، لأجل حلاوتها. وعصارتها أكثر نفوذاً منها، وكذلك شراب الآسِ أكثر نفوذاً منها، لما فيه من السُّكَّر والعَسَل، خاصةً المعمول من
حَبِّ الآس. والآسُ وحَبُّه وجميع أجزاء ذلك، شديدُ النفع للصدر والرئة، وذلك لما فيه من (1) التقوية والعطرية، مع الحلاوة. وحَبُّ الآسِ فى ذلك أنفع، لأن حلاوته (2) أكثر؛ ولذلك هو شديدُ النفع من السُّعَال. والآسُ شديدُ المنع للنزلات المنحدرة إلى الصدر والرئة، وذلك لأجل تضييقه منافذ المادة النازلة إلى هذه الأعضاء. وإذا طُبخ الآسُ وحَبُّه، مع الخشخاش بقشره، وعُمِلَ من ذلك لعوقٌ أو شراب، كان شديد النفع من النزلات. لأن هذا الشراب يغلِّظ المادة المستعدة للنزول (3) ، وذلك لأجل تغليظه بما فيه من الشراب ومن (4) قوة الخشخاش؛ ويسدّ (5) منافذ تلك المواد، بما فيه من قَبْضِ الآس. وكذلك، هذا الشراب لاغبار (6) عليه فى منع النزلات، خاصةً وما فيه من قوة الآسِ ينفع أعضاء الصدر والرئة، ويقوِّيهما. والآسُ شديدُ الحبْس لنفث الدم، وذلك إذا شرب شرابه أو رُبَّه، خاصةً المتَّخذ من حَبِّه. وكذلك، إذا أكثر صاحب نفث الدم من أكل حَبِّ الآسِ قَطَعَ نفثه بسرعة، مع تقويته للصدر والرئة.
والآسُ وشرابُه ورُبُّه وحَبُّه، كل ذلك شديدُ النفع من السُّلِّ، لأنه بتجفيفه ينفع القرحة، ويجفِّف رطوباتها (1) ، وينقِّيها. وبما فيه من الحلاوة، يوافق أعضاء الصدر والرِّئة وينفع السُّعَال. وبما فيه من القَبْض، يقوِّى الرئة وسائر أعضاء الصدر. فلذلك هو شديدُ الموافقة للسُّلِّ. وإذا اجتمع مع شئٍ من أمراض (2) الصدر والسُّعَال ونحو ذلك، إسهالٌ (3) ؛ فلا إيثار (4) على شراب الآسِ ورُبُّه، لأنه مع نفعه لهذه الأعضاء، هو شديدُ الحبس للإسهال.
الفصل الخامس فى فعله فى أعضاء الغذاء
الفصل الخامس فى فِعلِهِ فى أَعضَاءِ الغِذَاءِ الآسُ وحَبُّه ورُبُّه وشرابُه، جميع ذلك يقطع القئ، ويسكِّن العطش، ويمنع الغثيان؛ لأن الآسَ من الأدوية الجيدة جداً للمعدة، لأنه يقويها (1) ويجمع أجزائها، فيجوِّد اشتمالها (2) على الطعام ويحد ما يتبخَّر منها (3) ، ويُعين على إحدار الطعام - وذلك إذا أُكل بعده - وهو حينئذٍ، شديدُ النفع من طفو الطعام. وهو يقوِّى المعدة (بقَبْضه، وبما فيه من العطرية؛ فلذلك هو شديدُ الموافقة لفَمِّ المعدة. وشرابُه يسكِّن حُرقة المعدة) (4) وكذلك حَبُّه، لما فيه من الحلاوة (وكذلك هو يقوِّى جميع الأحشاء - مع حلاوة حَبِّه - فإنه يسكِّن الغثيان وذلك لما فيه من قوة القَبْضِ) (5) وكذلك شرابُه ورُبُّه. وإذا أُكل ورق الآسِ مع الزبيب كان شديدُ الموافقة للمعدة، شديدُ النفع للبخر (6) المعدى عن عفونة بلغمية (7) . وإذا ضُمِّدَ البطنُ بالآسِ المطبوخ فى
الشراب، وافق الأحشاء جميعها، وقوَّاها، وقوَّى هضومها. وكذلك إذا وُضع على البطن خَرَقَةٌ (1) مغموسة فى ماء عصارة الآسِ مبخرةً بالعود. وهو شديدُ النفع لقروح المعدة والأعضاء معاً، ويسكّن المغص (2) الحادث من الدماغ! وينفع الفواقَ اللَّذَّاعىَّ جداً. وهو شديدُ النفع من الإسهال القوى والسَّجْحِ، وينفع القُلاَّع أيضاً، ويمنع سيلانَ المواد إلى المعدة والأمعاء. ويُقال: إنه إذا تختَّم صاحبُ ورمٍ (3) ، بحَلَقٍ من قضيب الآسِ سَكَنَ وَجَعُهُ!
الفصل السادس فى فعله فى أعضاء النفض
الفصل السادس فى فِعْلِهِ فى أَعْضَاءِ النَّفْضِ إنَّا قد بيَّنَّا أن الآسَ مع قوة قَبْضِه، ليس فيه قوةً شديدةَ الجلاء (1) ، ولا قوةً غَسَّالة، ولا قوةً مليِّنة للبطن؛ لأن هذه الأفعال، إنما تكون لكثرة المائية، وذلك ما لايكون فى الآسِ. وظاهرٌ أنه ليس فيه قوةً مسهلة بوجهٍ آخر، فلذلك هو عاقلٌ للبطن، وذلك بما فيه من قوة القبض. فلذلك (2) الآسُ شديدُ العَقْلِ للبطن، مع أنه يسكِّن حِدَّة المادة التى تخرج بالإسهال. ويقوِّى (3) الأمعاء، ويمنع (4) من انصباب الفضول إليها - وإلى المعدة - ويمنع (5) النوازل إليهما؛ وذلك من أوفق الأشياء لحبس (6) الإسهال. وهو خالٍ عن الحموضة الحاردة (7) والمقطِّعة، ونحو ذلك مما قد يُعين على الإسهال. وهو شديدُ النفع من الإسهال الكائن مع مرض الصدر، كالسُّعَال ونحوه
لأنه يفيد (1) أعضاء الصدر، فهو شديدُ النفع لها. ومع أنه شديدُ الحبس للبطن فهو شديدُ التسكين لحرْقة البول، مُدِرٌّ له إدراراً صالحاً مقوِّياً للمثانة؛ والسببُ فى إدراره، ما هو فيه من الحلاوة. وكذلك (2) ثمرةُ الآسِ - رطبه ويابسه (3) - تسكِّن (4) حُرْقة البول. وعصارة هذه الثمرة، تفعل (5) ذلك أيضاً، وتدرُّ (6) البول بقوَّةٍ أشدُّ من إدرار (7) الآسِ نفسه، وذلك لأجل ما فى هذه الثمرة وعصارتها من زيادة الحلاوة؛ والأنبج (8) الذى ذكرناه قبل، يفعل ذلك أيضاً، فيحبس البطن بقوة ويدرُّ البول جداً ويُسكِّن حِدَّته. وإذا طُبخ الآسُ رطباً أو يابساً، وجُلس فيه؛ حَبَسَ البطن، ورَدَّ نتوء (9) المقعدة والرَّحم الباردة، وسدَّد كُلِّ واحدٍ من هذين، ونفع من الرطوبات التى تسيل من الرحم، وحَبَسَ نزف الرَّحم، ومنع الإسقاط؛ وذلك لأجل تقويته (10) للرحم وللجنين أيضاً. وله نفعٌ ظاهرٌ من البواسير، بما فيه من التقوية. وإذا دُخِّنَ (11) به الرحم
قطع نزف الدم منها؛ وكذلك إذا قوبلت الرحم بالبخار المنعقد من طبيخه. وورق الآسِ البرىِّ إذا شُرِبَ بالشراب، فتَّت الحصاة، وأَدَرَّ الطمث (فى المثانة) (1) ويشفى من تقطير البول، ومن اليرقان؛ كُلُّ ذلك لقوَّة تفتيحه وجلائه (2) . وإذا وضع على الطمث خَرَقَةٌ (3) مغموسة فى ماء عصارة الآس حَبَسَ ذلك الإسهالَ، وقوَّى (4) الأمعاء، ونفع من المغص وأوجاع السَّحْج. وكذلك إذا ضُمِّدَ به البطن، إما مطبوخاً فى شرابٍ قابض، أو فى عصارة لسان الحمل (5) . وكذلك إذا ضُمِّدَ البطن (6) بدقيق يابسه (7) ، معجوناً بماء الورد ونحوه - وكذلك السويق المعجون بماء عصارة الآس - حَبَسَ ذلك الإسهالَ. وكذلك (8) إذا دُقَّ ورقه اليابس، وعُجن بماء الإنفاق (9) أو دِهْن الورد، وضُمِّدَ به البطن؛ فإنه ينفع من الإسهال المزمن (10) . ونفعُ الآسِ للإسهال (11) الصفراوى، إذا خُلطت عصارة الآسِ بما فيه تليين
كثير؛ فقد يُسهل بذلك، خاصةً إذا كان المليِّن أكثر حجة (!) بفعله، متقدِّماً (1) ثم يتلوه فعل الآسِ بالعصر. وكذلك، إذا خُلطتكثير؛ فقد يُسهل بذلك، خاصةً إذا كان المليِّن أكثر حجة (!) بفعله، متقدِّماً (1) ثم يتلوه فعل الآسِ بالعصر. وكذلك، إذا خُلطت (2) عصارة الآسِ بدقيق الخلِّ أَسْهلت بالعصر - حتى للبلغم - وإذا (3) كان هذا للدِّهْن، أُزيد (4) مقدار (5) من العصارة. (2) عصارة الآسِ بدقيق الخلِّ أَسْهلت بالعصر - حتى للبلغم - وإذا (3) كان هذا للدِّهْن، أُزيد (4) مقدارٌ (5) من العصارة.
الفصل السابع فى فعله فى الأمراض التى لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل السابع فى فِعلِهِ فى الأمرِاض التى لا اختِصَاصَ لها بعُضوٍ عُضو قد علمتَ أن الآسَ فى نفسه قوىُّ (1) القَبْضِ جداً، ولذلك يحبس الإسهالَ ونَزْف دم الحيض، والرُّعَاف؛ وبالجملة: كُلَّ نَزْفٍ. ويحبس - أيضاً - العَرَقَ وذلك لأنه لشدة قَبْضه، يجمع أجزاء الجلد، فيسدُّ مَسَامَّه، حتى لا (2) يتَّسع لخروج العَرَقِ. وإذا (3) تُدلِّك به فى الحمَّام، نشَّف الرطوبات القريبة من الجلد. وقد يُدلَّك به عند إرادة الخروج من الحمَّام، ليحبس العَرَقَ. وإنما يُختار هذا الوقت لذلك لأن (تفتيح) (4) الجلد بعد الحمَّام يكثر جداً، فيكون تجمُّعه (5) بقَبْضِ الآسِ سهلاً. وقد علمتَ أن الآسَ فيه مع القَبْضِ حرارةٌ، وتفتيحٌ، وجلاءٌ، وتجفيف ونحو ذلك فى الأفعال التى تقدَّمنا بذكرها أولاً. وتفتيحه يتقدَّمُ على قَبْضِه، لأن تفتيحه هو بالجزء الحارِّ الذى فيه، والحارُّ أسرع فعلاً من الجزء البارد - وإن كان الجزءُ البارد أقوى وأشد - ولذلك كان الآسُ إذا وُضع على الرأس ونحوه من
المواضع التى يُراد (1) نبات الشَّعْر فيها، فإنه أولاً يفتِّح المسام بما فيه من الجزء الحارِّ، ويجذب (2) مادة الشَّعْر إليه - إذ الحرارة من شأنها الجذب - وكذلك، لأن هذه المسام إذا تفتَّحت (3) ، سهل جداً نفوذ مادة الشَّعْر فيها، فتنفذ هى فى تلك المسام بذاتها، لأنها بذاتها متحرِّكةٌ إلى الخروج من مسام البدن، وإنما يمنعها من ذلك ضيق تلك المسام (فإذا تفتَّحت) (4) تمكنَّت هذه المادة من النفوذ فيها، وإذا نفذت هذه المادة فى تلك المسام، صادفت (5) نهوض القوَّةِ القابضة التى فى الآس والكيفية (6) ، ففعلت حينئذٍ فى هذه المسام، تضييقاً وسَدّاً، يمنع تلك المادة من التحلُّل، ويُلزم ذلك أن تبقى (7) هناك، إلى أن تنعقد (8) شعراً. فلذلك، كان الآسُ ينبت الشعر، وكذلك دهنه، وعصارة ثمرته. وهذه (10) الأشياء - كلها تنبت الشَّعْر، وكذلك تمنع تساقطه (10) ؛ وذلك بما فيها من القوة القابضة الجامعة لأجزاء الجلد. وكذلك، من أفعال (11) الآسِ تسويد الشَّعْر وكذلك دهنه، وجميعُ أجزائه.
ولأجل ما فى الآسِ من القَبْضِ والتقوية، فإنه إذا طُبخ وصُبَّتْ مرقته على العظام المكسورة (نفعها) (1) وذلك ما ينفعل من ضم الأجزاء بعضها إلى بعض. ولأجل ما فى الآسِ من الجلاء، فإنه ينفع البهق إذا طُلى به، وذلك بحراقته وحراقته أقوى من ذلك. وإذا طُلى به مع الباقلاء نفع من (2) الكَلَف والنَّمَش وذلك يجلو (3) النُّخَالة من الرأس، وينقِّى القروح، ويدبغ الأعضاء، خاصةً اللثة والفم، لأن هذه الأعضاء، لأجل لينها، سهلة الإجابة لفعل الآسِ. والآسُ اليابسُ، شديدُ النفع فى الوثى (4) والخلْع والكسر، لأنه يجمع أجزاء العضو بقوة قَبْضِه، ويمنع - مع ذلك - ما ينصبُّ إلى ذلك العضو (من الفضل (5) ، وكذلك قد يمنع تورُّمه. والحبُّ النضيج فى الوثى (6) ، أشدُّ
تسكيناً (1) له (2) ، وذلك بما فيه من التحليل الزائد، لأجل حلاوته) وأفضل أجزائه لإمساك الشَّعْر، هو الحبُّ الفَجُّ، لأن هذا (3) يكون أشدُّ قبضاً من غيره. ولأجل ما فى الآسِ من التجفيف الشديد، هو نافعٌ من القروح الرطبة خاصةً قروح الرأس وقروح (4) الكفَّين والقدمين. وذلك ينفع الجمرة والنملة (5) والأورام العارضة للإنثيين (6) ، والكسر، وينفع حَرْقَ النار (7) - محرقاً وغير محرق - خاصة (8) إذا استُعمل بمومٍ (9) وزيت. وقد يتَّخذ من دهن الآسِ ومن عصارته وعصارة ثمره، مَرْهَمٌ ينتفع به فى علاج الكسر ونحوه؛ وينفع استرخاء الأعضاء. والآسُ شديدُ النفع من سَحْج (10) الخفِّ وانسحاج (11) الجلد فى كل موضع - كالأرنبة والإبط (12) وسائر المعاطف - وخاصةً الأطفال، لأن الأطفال شديدو اللين (13) .
وإذا أُحرق الآسُ كانت حراقته تقوم مقام التوتيا فى قطع الصُّنَان وتطييب رائحة البدن - وإن كان لم يحرق - خاصةً ورقه اليابس، وهذا الورق يمنع صنان الإبط والمغابن (1) . وإذا سُحِقَ الآسُ وضُمِّدَ (2) به الداحس، انتفع به، وإذا نطلت بطبيخه المفاصل المسترخية، شدَّها وقوَّاها؛ وذلك لما فيه من القَبْض والتقوية (3) . وبُنْك (4) الآسِ أشدُّ قبضاً من الآس، وإذا أُريد تحضيره (5) فليُبالغ فى سحقه ثم يُعجن بالشراب، ويقرَّص، ويجفَّف فى الظِّلِّ؛ وينبغى أن يكون هذا الشراب عَفِصاً، ليكون بذلك أشدُّ قبضاً وتقوية. فإذا جفَّت هذه الأقراص، كانت أقوى فعلاً من ثمر الآسِ وورقه وقُضبانه. وتوضع (6) هذه الأقراص على القروحات (7) التى يُراد فيها (8) قوة القَبْض، وكذلك تستعمل فى القروحات التى يراد فيها (9) حَبْس دم الطَّمْث أو تجفيف رطوبات الرحم، ونحو ذلك. وكذلك، تستعمل هذه الأقراص فى الضمادات والنطولات، اللتين يراد منهما (10) القَبْضُ والتقويةُ ومعالجةُ القروح والأورام، ونحو ذلك.
الفصل الثامن فى حاله فى الترياقية ومقابلها
الفصل الثامن فى حَالِه فى التِّريَاقِيَّةِ ومُقَابِلهَا الآسُ لاشكَّ أنه عَطِرٌ، وقد علمتَ أن جميع الأشياء العطرة، فإنها لاتخلو (1) من تفريحٍ وتقويةٍ للروح. ويلزم ذلك، أن يكون تكوُّن الروح قويةً على دفع السموم؛ فلذلك (2) ، لابد وأن تكون (3) فى الآسِ ترياقيةٌ ما (4) . وإذا اعتُصرت ثمرة الآسِ وخُلطت بشرابٍ، كانت موافقة لمن عَضَّته الرتيلاء، ولمن لسعه العقرب. وشمُّ الآسِ يقوِّى القلب والدماغ، ويمنع السُّبَات (5) .
المقالة الرابعة والعشرون فى أحكام آسيوس
المقالة الرابعة والعشرون فى أَحْكَامِ آسْيُوس وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على فصلين.
الفصل الأول فى ماهية آسيوس
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ آسيُوس إن هذا حَجَرٌ يعلوه شئٌ ملحىٌّ يسمُّوه (1) الأقدمون من الأطباء بالثلج الصينى وأما فى العرف (2) العامىِّ فإنه يسمَّى البارود (3) . ويستعمله (4) الطرقيون كثيراً ويستعمله الزرَّاقون مكان (5) النفط (6) والرايتنج. وهو عندهم ضربٌ من الملح يحدث على الصخور النديَّة، وفى جدران المغاير (7) وسقوفها (وجدرانها) وفى البيوت التى تلحقها النداوة. وهو شئٌ أبيضُ، شبيه دقيق الحنطة؛ يظهر على هذه الأشياء المذكورة فإذا وُضع على الخمر أو على النار الخامدة، اشتعل بسرعة. فلذلك، إذا وُضع على السُّرُج (8) التى يُطفى (9) لهيبها وشُعلها (10) ، وتبقى النارية فى طرف الزبال فإن ذلك الطرف يشعل، ويعود لهيب السَّرج (11) بسرعة. وكذلك، إذا وُضع
على الشمع الذى طفئ لهبه، ونحو ذلك. وذلك (1) يدلُّ على أن جوهره ليس بملحٍ صرف، فإن الملح (ليس) (2) من شأنه الاشتعال. فلذلك، لابد وأن يكون فى جوهره كثرة أرضية (3) بها يقبل الإشعال بسرعة. وكذلك، فإن طعمه يلذع اللسان، ليس (4) كما فى الملح فقط؛ ولو كان من جوهر الملح، لكان يذوب بالماء وبالنداوة، وليس كذلك. والمعروف من كلام فضلاء الأطباء الأقدمون، أن هذا الحجر يسمَّى البارود وهو زهرة حجر يسمَّى آسيوس (5) وكان هذا الحجر ينفصل منه هذا الشئ، على الوجه الذى ذكرناه. والمشاهد، أن هذا غير مختصٍّ بنوعٍ مخصوصٍ من الحجارة بل الحجارة الرخوة ونحوها (6) ، كالطين الذى يكون فى الجدران إذا جَفَّ، وما أشبه ذلك - كالطوب ونحوه - فإن هذه الأشياء إذا لحقتها النداوة، نفذت إلى باطنها لتنفيسها (7) لها، وإذا طال زمان تلك النداوة فى داخل هذه الأجسام وشبهها، فتعفَّنت، فحدث لها بهذه العفونة سخونةٌ شديدة، وهذه السخونة تبخِّرها (8) ، وإذا تبخَّرت (9) تلك النداوة، تصعَّد معها أجزاءٌ لطيفة من تلك الأجسام الأرضية، فيحدث بذلك بخارٌ دُخَّانىٌّ.
ثم إن هذا البخار الدُّخَّانى إذا بلغ فى تصعُّده ظاهرَ تلك الأجسام، صادفه بردُ الهواء، وهو لطيفٌ جداً مستعدٌ للانفعال، فانفعل - لامحالة - عن ذلك البرد انفعالاً شديداً، فيجمد ما يجمد من البخار الدخانى فى الجو (1) ، إذا لاقته ريحٌ باردةٌ فجمَّدته، فيحدث (2) من ذلك الثلجُ. وأظنُّ - والله أعلم - أنه (3) إنما سُمِّىَ بالثلج، لأن حدوثه يشبه حدوث الثلج. إلا أن حدوث الثلج هو عن بخارٍ تغلب (4) فيه المائية جداً، فلذلك يكون جوهرُ الثلج أكثره مائىٌّ. وكذلك، هو سريعُ القبول جداً للذوبان، ولا كذلك هذا البارود. فإن حدوثه من بخارٍ تغلب عليه الأرضيةُ غلبةً كثيرةً، فلذلك (5) هو لايقبل الذوبان (6) سريعاً؛ ولكنه يقبل الإشعال كثيراً، وذلك لأن ما فيه من الأرضية، هى لطيفةٌ جداً، لأنها متدخِّنةٌ. ومع ذلك، فإنها لولا حدث (7) البرد لها، لكانت تكون (8) متصعِّدة؛ فإذا لاقتها (9) الحرارة النارية، أزالت عنها تأثير البرد، فبقيت شديدةَ (10) القبول للتصعُّد - كما كانت أولاً - فلذلك تكون (11) هذه الأرضية شديدة القبول للاشتعال، كما بيَّنَّاه فيما سلف.
وإذا حدثت (1) العفونةُ للنداوة المحتبسة فى هذه الأجسام، فلابد وأن تحدث (2) هوائيةٌ ما، وذلك لأجل شدة تسخُّن المائية. وهذه الهوائية تكون حارّةً وإذا اختلطت أجسامٌ أرضيةٌ لطيفةٌ حارّةٌ (3) ، وهوائيةٌ حارّةٌ، ومائيةٌ قليلة؛ حدث من ذلك جوهرٌ دُهنىٌّ (4) ، فكذلك هذا البارود لايخلو (5) من جوهرٍ دهنى. وبسبب ذلك، هو شديدُ القبول للإشعال - جداً - وبسبب هذه الهوائية، هو شديدُ الخِفَّة. وقد يحدث مثل هذا، على الجدران القريبة العهد بالتطيين (6) ، إذا لم تلحقها شمسٌ قوية التجفيف؛ فيحدث على ظاهرها، هذا النوع المسمَّى بالبارود. وذلك لأن (7) هذه الجدران، ما لم يلحقها ما يحفِّفها، بقيت فيها أجزاءٌ مائيةٌ (مُرَّةٌ) فتعرض لها العفونةُ؛ ويعرض من ذلك ما قلناه. فلذلك، جوهر البارود من أرضيةٍ لطيفةٍ جداً، متدِّخنةٍ؛ ومن مائيةٍ متبخِّرةٍ، قد (8) عرض لها جمودٌ باردٌ وهذا ببردٍ (9) مجمِّدٍ مكثِّف (10) .
الفصل الثانى فى طبيعته وبقية أحكامه
الفصل الثانى فى طَبِيعَتِه وَبَقِيَّةِ أَحكَامِه لما كان جوهر البارود من أرضيةٍ لطيفةٍ حارَّةٍ متدخِّنة، و (1) مائيةٍ حارَّةٍ متبخِّرة وقد عرض لها جمودٌ بالبرد، وهذا الجمود يزول (إذا) (2) ورد هذا الجسم إلى البدن، لأن ما فى بدن الإنسان من الحرارة دَفَعَ ذلك الجمود، فلذلك تبقى أجزاء هذا الجسم كما كانت أولاً، فلذلك (3) يكون هذا الجسمُ شديدَ الحرارة مفرطَ اليبوسة، شديدَ التجفيف، شديد الجلاء والتحليل. ويلزم ذلك، أن يكون شديدَ التنقية. فلذلك، كان هذا الدواء نافعاً من القروح العسرة الإندمال والعتيقة، والعميقة، والوسخة، والرهلة (4) ؛ لأنه مع شدة تجفيفه وتنقيته وتحليله ليس فيه لَذْعٌ، لأجل ما فيه من الجوهر المائى الغائر. وهو ينبتُ دماً لِلَّحم فى القروح العتيقة والوسخة، لأن تجفيفه القوى يكون فى مثل هذه القروح بقدرٍ معتدل، وذلك لأجل إفراط الرطوبة فى هذه (5) القروح. ولما كان هذا الدواء شديدَ الحرارة، فهو - لامحالة - يُذيب الرطوبات واللحم
الفاسد. وهو مع ذلك، قوىُّ (1) التجفيف جداً؛ فلذلك (2) ، هذا الدواء من شأنه أن يأكل اللحم الفاسد الذى فى القروح، وينقِّيها (3) . ولكنه - مع ذلك - يُنبت اللحم فى القروح الكثيرة الرطوبة، لما قلناه أولاً. ولما كان هذا الدواء - بقوة حرارته - يسخِّن رطوبات العضو تسخيناً مفرطاً. وذلك التسخين، لامحالة، غير غريزى (4) ؛ فلذلك، هذا الدواء من شأنه تعفين الرطوبات واللحم الزائد ونحوهما. ولأن هذا الدواء قوىُّ الحرارة، وهو قوىُّ الجلاء، وجوهره شديدُ اللطافة (5) ؛ فهو لا محالة شديدُ التفتيح جداً. وإذا خُلط هذا الدواء بالعسل، كان شديدُ التنقية للقروح، ويملأها لحماً. وذلك لأجل تعدُّل تجفيفه (6) ، فيكون تجفيفه حينئذٍ بقدرٍ يمنع الرمد والانتشار، ولا يُبقى ما فيهما (7) من اللحم بقوة التجفيف. وإذا خُلط بالباقلاء، وضُمِّدَ به النَّقْرسَ، نفع؛ وذلك لأجل اجتماع التحليل - حينئذٍ - مع التقوية، بقبض الباقلاء. وإذا خُلط بالخلِّ والكلس وضُمِّدَ به الطُّحَال الصلب، نفعه (8) ؛ وذلك بما فيه من الإذابة وقوة التحليل.
والكلس يعينه على ذلك، بقوة تجفيفه وإذابته؛ والخل يعينه على ذلك بتقطيعه (1) وتقيُّد ما يخالطه من هذا الدواء. وإذا لُعِقَ من هذا الدواء قدرٌ يسيرٌ جداً، مع عسلٍ كثيرٍ؛ نَقَّى قروح الرئة بما فيه من الجلاء والتجفيف والتنقية، ولذلك يكون (2) نافعاً من السُّلِّ. وإذا ورد البارودُ على الأبدان فى الحمَّام، أَضمرها وهرَّئها (3) ، وذلك بقوة تجفيفه. وإذا وُضع منه اليسير على السِّنِّ الدامية، أصلحها وقطع ذلك الدم منها وجفَّف اللثة وشدَّها، وأكل اللحم الفاسد منها، كما فعل فى القروح الرهلة (4) والوسخة. وإذا اكتُحل به، جلى (5) العين بقوة، فأزال البياض (6) ، وقوَّى النظر بتلطيفه الروح التى فى داخل العين.
المقالة الخامسة والعشرون فى أحكام الإسفنج
المقالة الخامسة والعشرون فى أَحْكَامِ الإسْفَنْجِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على فصلين
الفصل الأول فى ماهية الإسفنج
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الإِسفَنجِ إن هذا يسمَّى: رغوةُ البحر، وغيمٌ، وغمامةٌ، وسحابةٌ والنشافُ وصوفُ البحر (1) . والحق إنه حيوانٌ يتكوَّن على حجارةٍ فى البحر، ملتصق بها يكون هناك أسود اللون، لأجل ما يعلوه من الأوساخ، وإذا أُخرج وأُصلح (2) صار منه ما هو أحمرُ اللون إلى سوادٍ كمدى، ومنه ما يميل إلى الصفرة. واغتذاؤه (3) على سبيل استحالة ما يلاقيه من أوساخ الماء إلى جوهره، لا بأن (4) يرد جسمٌ إلى باطنه، ويستحيل إلى حاله، ثم يتوزَّع على سائر أجزائه بل إنما يغتذى بأن يحيل ما يلقاه إلى جوهره، فيكون اغتذاؤه (5) من خارجٍ وبالقدر الذى يلاقيه، وفى الجهة التى يلقاه منها الجسم الذى يستحيل إلى جوهره. وكذلك ثمره، يكون على حسب ما يلقاه. ولا (6) تهديه (7) قوة فيه لأجزائه (8) طولاً وعرضاً وعمقاً على نسبة مخصوصة كما فى سائر الحيوان (9) . وليس له شئٌ من الحواس، سوى حِسِّ اللمس. ولا
حركة له انتقالية، بل انبساطية وانقباضية؛ وذلك لأنه ينقبض (1) عند ملاقاة ما يؤذيه ويؤلمه، وينبسط (2) فى غير تلك الحال. ومنه نوعٌ ضيقُ الثقوب جداً، يقال له الذكر وأما الواسع الثقوب فإنه يقال له الأنثى. ومنه نوعٌ مُتَجَحِّرٌ، ويخرج من البحر متحجِّرٌ كما يتحجَّر السرطانُ البحرى والمرجان ونحوهما، وإذا انقلع من الحجارة التى هو ملتصقٌ بها، حُفر له حفرةً فى الرمل الذى فى ساحل البحر، ووُضع فيها، وغُطِّىَ بالرمل، وبعد يومٍ (3) أو يومين يخرج وقد صار على الهيئة المعروفة.وأما إذا لم يُفعل به ذلك، فإنه يحدث له رَهَل (4) شديدٌ من (5) الرطوبات التى تكون فيه، ويفسد، ويتمزَّق. ويكثر تولُّد هذا فى (الحشرسينة) (6) ومن هناك يُجلب إلى أكثر البلاد وبعض المتأخرين ينكر (7) أن يكون الإسفنج حيواناً، وليس لإنكاره وجه (8) .
وجوهرُ الإسْفَنْجِ لابد أنه قليل (1) المائية جداً؛ ولذلك (2) ، إذا قُطِّرَ فى القرع والإنبيق (3) ، لم يَقْطُرْ منه شئٌ. وهو - لامحالة - كثيرُ الهوائية جداً، ولذلك هو شديد الخِفَّة. ومحالٌ أن يكون من أرضيةٍ صرفة، وإلا كان يتفتَّت. فلذلك لابد وأن يكون جوهره من أرضيةٍ بغاية الصِّغَرِ واللطافة، ومن مائيةٍ يسيرة جداً مع هوائيةٍ كثيرة جداً. وأجزاؤه (4) المائية والأرضية، شديدةُ التلازم والتماسك ولذلك فإن مائيته لا تتبَّخر (5) ولا تتصعَّد بدون أرضيته (6) . وأما أجزاؤه (7) الهوائية، فكأنها كالمتفضِّلة من أجزائه (8) الأخرى وكأنها ساكنة فى فُرَجٍ (9) فيه، صغارٍ جداً، لاتظهر للحاسة. وكأن جوهرَ الإسْفَنْجِ جميعه، ذا فُرَجٍ؛ لكن فُرْجَه (10) بعضها كثيرةٌ محسوسة - وهى الثقوب التى فيه وبعضها لا تظهر للحس، لأجل إفراط صغرها. وكلا الفَرْجتين (11) مملوءةٌ هواءً لكن الكبار منها يكثر ما فيها من الهواء (الذى ليس من) (12) جوهر الإسْفَنْجِ ولا كذلك الهواء الذى فى الفُرَجِ الصِّغَار التى لا تُحس، فإن ذلك الهواء يعدُّ من جملة
جملة جوهر الإسْفَنْجِ، لأنه لا يُحَسُّ له مكان فيه (1) فلذلك لايعد منفصلاً من الإسْفَنْج. وكأن الإسْفَنْجِ ماءٌ يجرى - غليظٌ أرضىٌّ - أزبد، ثم حدثت (2) له حرارةٌ حلَّلت منه كثيراً من المائية، وأبقت (3) الجوهر الأرضى، و (4) إنما يخالطه فى المائية، ما يحفظ اتصاله فقط. ثم ذلك الزبد - بقوة الحرارة - بقيت (5) الهوائيةُ التى فيه محفوظةً. وهذه الأرضية هى لامحالة من أرضية ماء البحر، فلذلك (6) هى أرضيةٌ متدخِّنةٌ، لطيفةٌ جداً، حارَّةٌ؛ وذلك لأن سبب اختلاط ماء البحر بالأرضية، هو تصعيد حرارة الشمس والكواكب، لما تحته من الأرضية إلى مخالطته. وتصعُّد الأرضية إنما يكون بالحرارة، وذلك إذا تلطَّفت (7) بتلك الحرارة وصارت أجزاءً (8) دخانية. ولذلك، أرضية (9) الإسْفَنْجِ لابد وأن تكون (10) شديدةُ اللطافة، دخانيةٌ حارة. والمائية - كما قلناه - هى فيه قليلة جداً؛ فلذلك، جوهرُ الإسْفَنجِ لابد وأن يكون حارّاً، شديدَ اليبوسة.
الفصل الثانى فى طبيعته وسائرا أحكامه
الفصل الثانى فى طَبِيعَتِه وسَائِراً أَحكَامِه قد علمتَ أن جوهر الإسْفَنْجِ مركَّبٌ من أرضيةٍ شديدة اللطافة، حارَّةٍ متدخِّنة؛ ومن مائيةٍ يسيرة جداً، وهواءٍ كثير (1) . والهوائية لا تأثير (2) لها فى ترطيب بدن الإنسان. وأما الأرضيةُ فهى شديدةُ اليبوسة والتجفيف، لأجل زيادة تجفُّفها بالحرارة المدخِّنة (3) لها. وما فى جوهر الإسْفَنْجِ من المائية، لابد وأن يكسر يبوسة تلك الأرضية كسراً ما - لامحالة - فلذلك، يكون تجفيفُ الإسْفَنْجِ بقدرٍ ما، غير مفرط. ويجب أن يكون إلى حرارةٍ، وذلك لأجل مافيه من الهوائية، مع الأرضية الحارة؛ وهذه الحرارة (4) يسيرة جداً، لأجل المائية الباردة. فلذلك، يجب أن يكون الإسْفَنْجُ حارّا (5) يابساً، وتكون يبوسته أكثر من حرارته، وماؤه (6) جديداً قريبَ العهد بماء البحر؛ فإن تجفيفه ويبوسته يكونان أزيد، وكذلك حرارته (وأما إذا عُتِّق (7) واستعمل بالماء كثيراً فإنه يبطل تجفيفه ويقل يبوسته جداً وكذلك حرارته) (8) .
وإذا أُحرق الإسْفَنْجُ ازداد لا محالة جفافاً، وتقلُّ حرارته، لأنه يتحلَّل بالاحتراق لأن جوهره لطيفٌ. فلذلك، يصير رماده شديدُ التجفيف، قليلُ الحرارة. فإن غُسل بعد ذلك رمادُه، صار أقلَّ جفافاً ونقصت حرارته جداً حتى يصير بارداً. وإذا كان المحرق من الإسْفَنْجِ الذى لم يُغسل، شديدَ التجفيف فهو لامحالة قابضٌ بقوة تجفيفه؛ فلذلك هو يقطع نزف الدم من المواضع التى (يسهل) (1) منها، عند القطع والبَطِّ ونحو ذلك. ويُستعمل حينئذ بأن يُغمس الإسْفَنْجُ بالقُفْر (2) المذاب، أو الزفت، ثم يوضع عنه وتُستعمل (3) فيه النار فينقطع الدم بمُكْنة (4) تجفيفه، ويبقى على الموضع ما (يحفظه) (5) عن ملاقاة الأهوية وغيرها. والغرض بوضع الإسْفَنْجِ حينئذ فى القُفْر أو فى الزفت، هو أن يصير سهل الاشتعال؛ ولذلك (6) ينبغى أن يكون وضعه حينئذ فى أحد هذين وهو شديدُ الجفاف مما (7) يكون فيه من المائية وإن قَلَّت جداً، ليعاون (8) لامحالة
فى سهولة الاشتعال. والغرض (1) أن يكون إحراق هذا الإسْفَنْجِ بعد وضعه على العضو، أن يكون حينئذ فيفعل فعل الكَىِّ، فيكون حبسه للدم قوياً. ومع ذلك فإنه يُحدث على العضو خشكريشةً مائية (2) ، وذلك لأجل يبوسة جوهر الإسْفَنْجِ. وأما الإسْفَنْجُ الذى لم يحرق، فإنه لضعف تجفيفه، ليس يقوى فى أكثر الأمر على لحام (3) القروح، خاصةً الوسخة والعتيقة؛ بل إنما يقوى فى الأكثر على لحام (4) الجراحات الطرية، وذلك بأن يوضع عليها بعد أن يُبَلَّ بالخلِّ أو بالشراب، فإنه حينئذ يُدمل تلك الجراحات. والغرض ببَلِّ الإسْفَنْجِ فى الخلِّ أو فى الشراب، للإستعانة (5) بكل منهما على الإندمال (6) . أما الخلُّ فلما فيه من القَبْضِ والتجفيف، وأما الشراب فلما فيه من القَبْض والتقوية. وقد يُمزج الخلُّ (7) الممزوج به الإسْفَنْجُ بالماء، لئلا يكون لذَّاعاً بقوة حمضَّيَّة (8) . وقد يقوى الإسْفَنْجُ على لحام القروح، وإن كانت عتيقة؛ وذلك إذا قُوِّىَ بالعسل المطبوخ. لأن هذا العسل، بقوة جلائه (9) وتحليله، يُفنى الرطوبات
الفضلية، فيعين الإسْفَنْجَ على التجفيف الذى لابد منه فى الإدمال. وقد يُدمل الإسْفَنْجُ وحده القروح، بدون العسل؛ وذلك إذا كانت تلك القروح فى أعضاءٍ رطبة ونحو ذلك، لأن هذه القروح ليست تفتقر فى إدمالها إلى تجفيفٍ شديد جداً، كما بيَّنَّا فى علاجنا الكلى (1) . وإذا فُتلت من الجديد منه فتيلةٌ، وأُدخلت فى المقعدة؛ قطعت سيلان الدم من أفواه عروقها، وذلك إذا كان ذلك السيلان قد أفرط، وفُتحت هذه العروق وسَيَّلت الدم منها؛ إن كانت تلك العروق قد حدث لها السداد، الزائد على ما ينبغى فى العادة. وذلك لأن بعض الناس يكون له تماد (2) بسيلان الدم من أفواه عروق مقعدته، فهذا إذا أفرط به السيلانُ، حبسته (3) هذه الفتيلة بفرط تجفيفها القابض (4) لأفواه تلك العروق. وإن أُحبس به هذا السيلانُ، بأزيد مما ينبغى حتى يتضرَّر (5) بذلك؛ فتحت هذه الفتيلةُ أفواه هذه العروق، فيسيل منها ذلك الدم، ويندفع ضررُه. وذلك لأن هذه الفتيلة بفرط (6) جلائها (7) ، وقوة حدتها لهذا الدم بسبب قوة تجفيفها، تفتحا هذه العروق. وإذا أُحرق الإسْفَنْجُ ولَعَقَ منه صاحبُ نفث الدم، ببعض الأشربة الحابسة
للدم؛ انقطع عنه ذلك النفث؛ وذلك كشراب الإنجبار (1) وشراب لسان الحمل (2) ونحوهما. وكذلك، إذا لُعقت حراقة الإسْفَنْجِ بالعسل، فإن (3) العسل وإن كان فيه جلاءٌ وتفتيحٌ ينافى بهما حبس الدم، فإنه يفيد جرم (4) الإسْفَنْجِ (5) ويعين على هذا الاحتباس. وأظن - والله أعلم - أن هذا الإسْفَنْجَ المحرق، إذا لعقه صاحب السُّلِّ انتفع به جداً؛ وذلك لأجل تنقيته لصاحب قرحة الرئة، بقوة جلائه وتجفيفه. فإن هذا المحرق كما يشتدُّ (6) تجفيفه فإنه يشتد جلاؤه جداً، وذلك لما يكسبه بالاحتراق من الحدة، وإن كان إحراقه بعد غمسه بالزيت أو القفر (7) كان نفعه لصاحب السُّلِّ، أزيد من (8) أن يكون هذا المحرق ضاراً. وهذا الإسْفَنْجُ المحرق، شديدُ الجلاء لبياض العين، نافع للرمد اليابس
وذلك بقوة جلائه وتحليله (1) . وإذا غُسل بعد إحراقه، كان أنفع لقروح العين وسائر أمراضها، وذلك لأجل إزالة الغسل (2) ما يكون فيه من الحدة. وإذا وضع الإسْفَنْجُ على الأورام الباردة المادة، نفع منها؛ وذلك لأجل تحليله، وقوة تجفيفه وجلائه. وإذا كانت هذه الأورام من بلغمٍ رقيق، نفع منها - وحده - وإذا كانت من مادة غليظة، فينبغى أن يكون هذا الإسْفَنْجُ مغموساً بالخل؛ لأن هذا الخل بتقطيعه وتلطيفه، يُعين (3) على تحليل (4) هذه المادة بالجلاء (5) والتجفيف والتحليل. وكذلك إذا كانت هذه المادة مع (6) غلظها غائصةً - كمادة أورام الطحال - فإن هذا الإسْفَنْجَ ينفع منها جداً، خاصةً إذا كان ذلك الخلُّ عُنْصُلياً (7) . وإذا أُدخل فى القروح العتيقة فتيلةٌ من إسْفَنْجٍ حديث (8) ، جَفَّفت تلك القروح.
وقد يوجد فى ذلك الإسْفَنْجِ حجارةٌ صِغَارٌ، وهذه الحجارة - لامحالة - من المادة التى تكوَّن منها الإسْفَنْجُ والتى يتكوَّن منها الإسْفَنْجُ والتى يغتذى (1) منها وذلك إذا كانت هذه المادة قليلةُ الهوائية جداً، حتى تكون مستعدة للتحجُّر. فكذلك هذه الحجارة، لابد وأن تكون فى تجفيفها وجلائها (2) كالإسْفَنْج (3) ولَدِنةٌ (4) قليلاً، لأجل زيادة يبوسة مادتها. ولابد وأن تكون (5) أقل حرارة - لأجل فقدانها - و (6) لابد وأن تكون متدخِّنة بحرارة الشمس والكواكب، لأنها من جملة الأرضية المخالطة لماء البحر. وإذا كان كذلك، فإن هذه الحجارة لابد وأن تكون مفتِّتة للحصاة، لأجل ما فيها من الجلاء والتلطيف والتجفيف القوىِّ المعين على التفتُّت. ولكن هذه الحجارة، لأجل قلة حرارتها الظاهرة من أمرها، فإن قوة تفتيتها (7) (لايتعدى حصاة الكلية، إلى حصاة (8) المثانة، اللهم إلا إذا أُحرقت هذه الحجارة، فإنها قد يبلغ) (9) تفتيتها إلى حصاة المثانة. وذلك لما يفيده (10) الإحراق من زيادة الحِدَّة وقوة الجلاء والتجفيف.
وأما الإسْفَنْجُ المتحجِّرُ فالظاهر - والله أعلم - أن قوته، قوة هذه الحجارة التى توجد فى الإسْفَنْجِ وذلك لأن هذا إنما يتحجَّر، لزيادة يبوسة مادته وقِلَّة هوائيته، كما قلنا فى حجارة الإسْفَنْجِ.
المقالة السادسة والعشرون فى أحكام الإسفيداج
المقالة السادسة والعشرون فىِ أَحْكَامِ الإِسْفِيدَاجِ وكلامُنا فى هذا، يشتمل على خمسة فصول.
الفصل الأول فى ماهية الإسفيداج
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الإِسفِيدَاجِ الإِسْفِيدَاجُ جوهرٌ يشبه الرصاص (1) ، وإلا قد يشبه الزِّنجارَ (2) مِنَ النحاسِ وذَلِكَ لأن الزنجارَ هو نحاس متصغر (3) الأجزاء وتصغيره بالخل ونحوه، وكَذَلِكَ (4) الإِسْفِيدَاجُ هو رصاص إذا صار (5) مُتَصَغِّرَ الأجزاءِ - وتصغيره هو بالخل ونحوه - وإن حالف (6) الزنجارَ بأنه غيرُ حارٍّ (7) ، ولا لذَّاعٍ، ولا محلَّلٍ تحليلاً قوياً. فلا هو حارّ (8) ، بل (9) هو مبرَّدٌ (10) بِخلاف الزنجارِ، على ما تعلمه (11) فى موضعه (12) .
وسبب خلافهما (1) فى ذلك، هو اختلافهما (2) بالمادة. وهذا (3) لأن مادة الزنجار هى (4) النحاس، ومادة الإِسْفِيدَاجَ هى (5) الرصاص أولاً. وهو بارد (6) - وكان رطباً - وذلك يمنع من أن يكون الإسفيداج (7) حارَّاً، أو حاراً لذَّاعا (8) ونحو ذلك. ولما كان الإِسْفِيدَاجُ رصاصاً متصغِّرَ الأجزاء، فجوهرهُ - لامحالة - من جوهر الرصاص. وقد علمت أنَّ جوهر الرصاص، مركَّبٌ من كبريتٍ وزئبق على الوجه الذى قلناه عند كلامنا فى الآبار (9) . فالإسفيداج يجب أن يكون جوهره (10) كذلك، وإن كان لابد وأن يستفيد (11) مما يحدثه كالخل ونحوه من (12) قوةٍ زائدةٍ. ولذلك (13) ، فإن الإِسْفِيدَاجَ مجفِّفٌ يابسٌ، والرصاص رطبً، على
ما نقوله (1) بعد. واتُّخذ الإِسْفِيدَاجُ ليس لأجل الطِّبِّ فقط، بل يُتَّخذ لأغراضٍ (2) كثيرةٍ فلذلك تختلف وجوهُ اتِّخاذه باختلاف الأغراض. وليس (3) مما (4) يليق بهذا الكتاب، تبيين الوجوه التى (5) يُتَّخذ عليها (6) لغير الطبِّ. وتعديدُ الوجوه (7) التى يُتَّخذ عليها لأجل الطب، وتبيينُ كيفية كُلِّ واحدٍ منهما، مما (8) يطول؛ فلذلك رأينا أن نقتصر على بيان (9) أفضل الوجوه التى يُتَّخَذُ عليها للأغراض الطبية (10) فنقول: إنَّ وجود وجوه اتخاذه لأعمال الطِّبِّ، أن يوضع فى إناءٍ من فُخَّارٍ واسع الرأس - كالإجانه (11) ونحوها - خَلٌّ نظيفٌ (12) ، دون القدر الذى يملأها ويُغطى رأس هذه الآنية (13) ، بقطعةٍ من بارية (14) ، ليكون لهذا الغطاء مسام
يسهل (1) نفوذ (2) بخار الخلِّ فيها إلى فوق الغطاء، ويُجعل تحت هذه البارية قُضبانٌ قوية، لئلاَّ تنحنى البارية، فيقلُّ ما يوضع عليها من الرصاص (ثم يجعل الرصاص) (3) فوق هذه البارية. والأفضل أن يكون هذا الرصاص مُرَضّاً (4) ، ليكون انفعاله (5) عن بخار الخلَّ (6) ، أسرع وأكثر؛ فإنَّ المنْفعل (7) إذا قلَّ، اشتَّد (8) فعل الفاعل فيه ثم يُغطَّى فوق هذا الرصاص - بغطاءٍ مستحصف، يمنع (9) نفوذ (10) بخار الخلَّ إلى خارج. وينبغى أن يكون هذا الغطاء من الخشب أو الخزف ونحو ذلك، فلا يكون مما يَفْضُل (11) منه - ببخار (12) الخل - أجزاءٌ تخالط ما يفضله (13) هذا الخلّ (14) من
جِرمْ الرصاص، فيكون ذلك الإِسْفِيدَاجُ مخلوطاً بجوهرٍ غريبٍ. وكذلك اُخْتِير (1) أن تكون (2) هذه الآنية من الفخار ونحوه، فلا تكون (3) من النحاس أو الحديد فيفضل (4) الخلُّ منها أجزاءً تخالط الإِسْفِيدَاجُ وتُفسده. وكذلك ينبغى أن تُطيَّن حافة (5) هذا الغطاء مع السَّطح (6) الذى يلقاه من هذه الآنية حتى لا يبقى موضعٌ، يخرج منه ما يتبخَّر (7) من هذا الخلِّ. ثم بعد ذلك، توضع هذه الآنية فى شمسٍ حارة، وذلك إذا عُمل ذلك (8) فى الصيف، والغرض (9) بذلك: أن يُسَخَّنَ الخلِّ بحرارة الشمس، فيصعد إلى ذلك ويفعل به، وكذلك (10) ينبغى أن تكون (11) هذه الشمس حارّةً، ليكون ما يتصعَّد من بخار الخل كثيراً. فإن لم يكن ذلك، وذلك كما لو عُمل ذلك فى الشتاء، فإنه حينئذٍ (12) يحتاج أن تجعل هذه الآنية فى موضعٍ له حرارةً، تشابه حرارة شمس الصيف
فلذلك قد توضع هذه الآنية حينئذٍ على سطح حَمَّام أو اَتُونُ. ومع ذلك فإن المعمول فى الصيف أفضل، لأن حرارة الشمس فى الصيف، تُسَخِّن هذا الخلَّ من جميع جهاته، وتُسخِّن جِرْمَ الرصاص، فيسهل انفعاله عن بخار هذا الخل وتُحفظ على هذا البخار حرارته عند ملاقاته (1) الرصاص. ويلزم ذلك أن يكون فعل هذا البخار أشد وأقوى، ولا كذلك حرارة سطح الحمام ونحوه؛ فإنها إنما (2) تُسَخِّن هذا الخلَّ من تحته فقط، ولا تُسخِّنه (3) من جوانبه إلا بقدر تَسخُّن (4) الهواء الذى يكون فى تلك الجوانب عن حرارة هذا السطح، ومع ذلك فإنها لا تسخِّن الرصاص فلذلك (5) يكون انفعال الرصاص حينئذٍ أعسر، وفعل بخار الخل أضعف. ثم إذا تركت هذه الآنية على الوجه الذى قلناه أياماً، وكشفت (6) بعد ذلك هذه الآنية، فإن وُجد الرصاص قد ذاب (7) وانتشر فى الخل، وإلا أُعيد الغطاء وصبرُ بعد ذلك مدة، إلى أن يتم ذوبان (8) ذلك الرصاص وانتشاره فى الخل فلترفع البارية (9) ويزُال من الخل (10) ، ما يكون خافياً (11) واقِعاً (12) على قوامه
فيُجعْل فى آنيةٍ أخرى، لأَن يُعمل فيه ما قلناه، مرةً أخرى، ونحو ذلك. وما يكون من الخلِّ قد صار نَدِياًّ (1) بمخالطة الرصاص له، جُفِّفَ فى الشمس - إما فى ذلك الإناء أو فى غيره - ثم إذا كَمُل جفافه، بولغ (2) فى تصغير أجزائه إما بالطحن أو بالسَّحْق ونحو ذلك. وينبغى أن يكون بآلةٍ لا ينتشع (3) فيها ما يخالط الإسفيداج، كالهواوين (4) النحاس ونحو ذلك. ثم إذا تم سَحْقهُ، يُنْخَلُ؛ إما بمنخل فى غاية الصفاقة، أو بخرقةٍ، ونحو ذلك. وما يتخلَّف فوق المنخل، يُعاد سحقه كرة أخرى، وكذلك يفعل ذلك مراراً. وإن أراد أحدٌ أن يتَّخذ من هذا المنخول أقراصاً، فليعجنه بخلٍّ ثقيف (5) ويقرِّصه (6) ، ويجففه فى الشمس، فهذه صفة أفضل وجوه عمل الإِسْفِيدَاجِ الذى يُعمل للمقاصد الطِّبية. وأفضله، ما عُمل فى الصيف. فإن هذا يكون أقوى قوةً، وأجودُ فعلاً وأشدُّ بياضاً، وأسهلُ فعلاً. وأفضله، ما قلناه أولاً. وأفضل النخول (7) ما نزل من النخل (8) فى أول مرة، وبعده (9) ما نزل فى المرة الثانية، وكذلك ما نزل فى
كل مرة، فهو أفضل مما (1) نزل فى التى بعدها. وينبغى أن يكون مقدار الخلِّ دون القدر الذى تمامته البارية، وإلا كان الرصاص مُبَلاَّ (2) فى الخل بنفسه، فلا يكون فعله فيه برفق، بخلاف فعل بخار الخلِّ فإنه ألطف فعلاً. ومن الناس من يجعل هذا الخلَّ بقدرٍ لا يقارب رأس الآنية، ويجعل البارية لا فى رأس الإناء، بل دونه بقليل؛ وذاك أن يتخذ لها دون رأس الإناء دعائم (3) ، وقضبان قويه تحفظ وضعها، ثم إذا جُعل الرصاص عليها يمكن بعد ذلك من أن تغَّطى الآنية بغطاءٍ، يمنع تخلُّل (4) بخار الخلِّ ويعينه غلياً (5) بسهولة. وقد يتخذ الإِسْفِيدَاجُ أو ما يقوم مقام الإِسْفِيدَاجِ فى منفعته، وذلك أن يؤخذ صلايةٌ وفهر (6) كل منهما من الرصاص، ويجعل على الصلاية قطرة من الخلِّ العتيق، ولا يزال (7) يجوِّل الفهر على الصلاية بقوة، حتى يسخن ذلك الخلُّ ويصير له قوامٌ غليظٌ يعسر معه تجويل (8) الفهر، ثم يقطَّر قطرةً أخرى من ذلك
الخلِّ ويُفعل الفعل المذكور، ولا يزال كذلك حتى يعمل من ذلك ما يشاء. ثم يؤخذ ذلك المنفعل (1) مع الخلِّ فيُجَفَّفُ فى الشمس، بعد أن يقرَّص، ويُستعمل فى الحال.
الفصل الثانى فى طبيعته وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثانى فى طَبِيعَتِهِ وأَفعَالِهِ على الإِطلاَقِ لما كان الإِسْفِيدَاجُ رصاصاً متصغِّر الأجزاءِ، بما وصل إليه من الخلِّ أو من بخاره، فلا محالة أن ينبغى أن يكون فى برده - فى (1) نفسه - كالرصاص. وأما تبريده، فكان ينبغى أن يكون أقوى من تبريد الرصاص؛ وذلك لأجل تلطُّفه وسهولة نفوذه إلى حيث يبرد بقوة؛ وذلك لأجل تصغر أجزائه (2) مع استعادة قوة نفوذه (3) من الخلِّ. فكذلك كان يجب أن يكون الإِسْفِيدَاجُ أبردَ من الرصاص يعنى أنه أشد تبريداً منه، وكان ينبغى أيضاً أن يكون مثل الرصاص فى الترطيب (4) (بل أزيد ترطيباً) (5) لأجل نفوذه بسبب (6) تصغُّر أجزائه كما قلناه. لكن حدث للإسفيداجِ ما أوجب خلاف ذلك، وذلك أن جوهر الرصاص - كما علمت - أن أكثر مائيته جامدة، وهذه المائية - لا محالة - قويَّة البرد والرطوبة (7) ؛ فلذلك كان للرصاص (8) تبرُّدٌ (9) وترطُّبٌ وقوةٌ، وإن كان ذلك
دون برده ورطوبته فى نفسه بكثير. وإذا أُخذ هذا الإِسْفِيدَاجُ من الرصاص فإن تلك المائية يتحلَّل (1) أكثرها وذلك بسبب التسخن (2) والتشميس. وإذا (3) تحلَّل أكثر هذه المائية، بقيت (4) الأرضيةُ التى فى الإِسْفِيدَاجِ غالبةً جداً، ومع ذلك إنما تكون (5) متصغِّرة الأجزاء فلذلك يكون بردها (6) وتبريدها ضعيفين (7) ؛ ولذلك يجب أن تكون (8) فى نفسها جافة وأن تكون مجفِّفة. ومع ذلك، فإن (9) تبريد الإِسْفِيدَاجِ يجب أن يتبعَّض (10) عن تبريد الرصاص بأكثر بل يكون كالمساوى له فى التبريد؛ وذلك لأن المائية وإن نقصت منه، إلا أن الأرضية لتصغُّر أجزائها، يتمكَّن (11) فيها (12) الفعل وهى مبرَّدَة (13) ، خاصة وما يبقى فيها من المائية يزيدها (14) برداً، فلذلك يكون تصغُّر أجزاء الإِسْفِيدَاجُ
متداركاً لما يُحدثه (1) نقصان المائية مِن قلة البرد. وإنما اليبوسة والجفاف، يجب أن يكونا فى الإِسْفِيدَاجِ قويَّين (2) أيضاً ولكن لا إلى حَدِّ الإفراط؛ وذلك لأن هذه الأرضية - وإن تصغَّرت وتمكنت (3) من قوة الفعل - فإنها لابد وأن تبقى (4) فيها مائية ولو يسيرة. وتلك المائية لأجل رطوبتها تتدارك (5) ما توجبه (6) الأرضية المتصغرة من أجل إفراط اليبوسة والجفاف فكذلك يكون تجفيف الإِسْفِيدَاج إلى حدوثه أن يكون بقدرٍ يساوى تبريده. ولما كان تجفيف الإسفيداج إنما هو لأجل تحلُّل المائية من جوهره، فكلما كان هذا التحلُّل أقل، كان تجفيف ذلك الإِسْفِيدَاجُ أضعف. وأكثر تحلُّل هذه المائية، إنما هو بفعل حرارة الشمس، وذلك عند تشميس الإِسْفِيدَاجِ حتى يجف فيجب أن يكون الإِسْفِيدَاجُ المعمول على الوجه الذى قلناه - من السَّحق بالفهر والصلاية - قليل التجفيف جداً، وقبل أن يُشمَّس، فينبغى أن يكون كالنافذ لهذا التجفيف، بل يجب أن يكون حينئذ (7) غير مخالف لطبيعة الرصاص مخالفةً كثيرة فى الرطوبة واليبوسة، ولكنه يكون أكثر تبريداً من الرصاص بكثير؛ وذلك لأجل تصغُّرِ أجزائهِ وتلطُّفها وتمكُّنها (8) من سرعة النفوذ وقوته، وأن يكون الإِسْفِيدَاجُ المعمول على الوجه الذى ذكرناه أولاً، قبل أن يشمَّس، أقل تجفيفاً مما يكون بعد
تشميسه. ولما كان الإِسْفِيدَاجُ بارداً، يابساً مجفِّفاً؛ كان (1) - لامحالة - رادعٌ مكثفٌ (2) نافعٌ للأورام فى ابتدائها، مسدِّدٌ (3) مسام الأعضاء. ونفوذ الإِسْفِيدَاجُ وإن كان أكثر كثيراً من نفوذ الرصاص، ولكنه قليل جداً بالنسبة إلى غيره من الأدوية؛ وسبب ذلك أمور: أحدها: أن جوهره أرضىٌّ خالٍ (4) من الحرارة القوية المنعقدة (5) ، وما كان كذلك؛ فهو قليل النفوذ لامحالة. وثانيها: أن جوهره مفردٌ، وما كان (6) كذلك، فإنه يعسر نفوذه؛ لأجل اتصال أجزائه كما فى الأشياء اللزجة. وثالثها: أن الإِسْفِيدَاجَ لأجل برده ويبوسته، يبلِّد (7) أولاً، فيقبض المسام ويسدَّها، وذلك مانعٌ من نفوذه بعد ذلك منها. ورابعها: أن جوهر الإِسْفِيدَاجُ هو من جوهر الرصاص، وهو جوهرٌ منافٍ للروح (8) ولطبيعة (9) البدن، فلذلك (10) (يجب) (11) أن يكون سُمِّياًّ. وإذا كان
كذلك، فالطبيعة من شأنها مدافعته (1) ومُمانعته من النفوذ. فلذلك (2) ، يكون نفوذه (3) قليلاً جداً، وإن كان أزيد من نفوذ الرصاص بكثير. ولأجل قلة نفوذه، صار ما ينفذ منه من خارج، لا يقوى على شَلّ (4) البدن. ولا كذلك إذا ورد الإِسْفِيدَاج إلى داخل البدن، كما إذا شرب فإنه حينئذِ يقتل، لأنه ينفذ (5) إلى الأعضاء الكريه وقد حقَّقنا هذا فيما سلف. وقد يُقلى (6) الإسفيداج فيصير تجفيفه (7) زائداً، ويقل برده (8) جداً؛ وذلك لأجل استعادته الحرارة والحدة، بالحرارة التى يقلى (9) بها (وكيفية قليه (10) ، أن يوضع وهو مسحوق ناعم (11) فى قِدْر من فخَّار جديد، ويوضع ذلك القِدر) (12) على الجمر، ولا يزال الإسفيداج يحوَّل، حتى يصير لونه لون الرماد، ويرفع ويبرَّد، ثم يستعمل. والله أعلم!
الفصل الثالث فى فعله فى أعضاء الرأس
الفصل الثالث فى فِعلهِ فىِ أعَضَاءِ الرَّأسِ إذا طُليت الجبهة بالإسفيداج - وخَلٍّ - نفع ذلك جداً من الصداع، خاصةً وإذا كان مع ذلك شئ من دهن الورد. وأجود ذلك الإِسْفِيدَاجُ المعمول على الوجه الثانى الذى ذكرناه، وهو المتَّخذُ بالفهر والصلاية. خاصةً إذا استُعمل الإِسْفِيدَاجُ قبل تجفيفه بالشمس، لأنه يكون حينئذٍ (1) أقل يبوسةٍ مِن شُرب الإِسْفِيدَاجِ فإنه يحدث له بردٌ شديد فى رأسه، ودوارٌ، وسباتٌ، وضَعْفٌ فى عَضُده، واسترخاء. حتى أنه إذا أكثر منه، حدث (2) له حالة كالفالج، وهى بطلان الحركة. وأما حِسُّ اللمس، فلا يلزمه أن يبطل ج. والإِسْفِيدَاجُ من الأدوية الفاصلة (3) لأمراض العين، تنفع جداً للقروح التى تكون فيها، وتلحم ما يكون من الجراحات، ويأكل اللحم المغيَّر (4) ويَنبته لحماً (5) صحيحاً، ويملأ الحفر الذى تكون (6) فى العين. وقد قال العالم الفاضل
أرسطوطاليس (1) أنه يصلح لبياض عيون (2) الحيوانات الحادث عن الأوجاع. وأفضل الإِسْفِيدَاجِ لأمراض العين ما كان متَّخذاً على الوجه الأول الذى ذكرناه. وأفضل ذلك ما يكون من المنْخَل الأول؛ لأن هذا يكون شديد النعومة فيكون أوفق للعين، إذ العين تتضرَّر بكل شئ له خشونة، لأنّ (3) ذلك سبُبُ لتحجِّرها (4) . وإذا (5) غُسل الإِسْفِيدَاجُ بماءٍ عذبٍ، مراراً، ثم سُقى بماء الورد، مراراً وفُعل ذلك أياماً متوالية (6) فى شمسٍ حارة؛ كان ذلك الإِسْفِيدَاجُ شديدَ النفع من الرمد الحار، سواءً استُعمل وحده، أو قُطِّر فيها مع لبن النساء، أو رقيق بياض البيض، وكذلك إذا حُلَّ فى ماء عنب الثعلب. وإذا طُليت العين بالإسفيداج من خارج؛ نفع ذلك من الرمد الحار أيضاً. وإذا حُلَّ الإِسْفِيدَاج (7) فى دهن الورد ولُطِخَتْ به قروح الأنف، نفعها.
الفصل الرابع فى فعله فى بقية الأعضاء
الفصل الرابع فى فِعلِه فى بَقِيَّة الأَعضَاءِ إنَّ الإِسْفِيدَاجَ لأجل ما فيه من السُّمِّيَّة، ليس يستعمل من داخل البدن وإنما يُستعمل فى أكثر الأمر من خارجه، وأكثر استعماله فى القروح والبثور ونحو ذلك. وإذا شُرب، عَرَضَ لشاربه جفافٌ شديد فى اللسان، ويباضُ الحنك واللسان واللثة، وفى الوجه وجميع الجلد - إلا أن هذا البياض يكون فى أعضاء الحلْق أكثر؛ لأجل اتصال هذه الأعضاء بسطح المعدة (1) - ورخاوةٌ فى الأعضاء كلها، وعجزٌ عن الحركة، وعرقٌ يسيل (2) . والإِسْفِيدَاجُ نافعٌ لأورام (3) المقعدة الحارة، ولاسترخاء المقعدة وبروزها ويسكِّن الضربان الحادث فيها من إفراط الحرارة، وشِدَّة حِدَّة المادة الخارجة. وإذا قُطِّر فى القضيب، أو زُرِّق فيه، نفع من حرق البول وقروح المثانة ونحو ذلك. وينبغى أن يكون ذلك بلبن النساء أو دهن البنفسج أو الكثيراء (4) ونحو ذلك. وكذلك قد يحقن به، مع الأدوية النافعة لقروح الأمعاء، فينتفع بذلك كثير المائية من التجفيف والتعرُّق (5) .
الفصل الخامس فى فعل الإسفيداج فى الأمراض التى لا اختصاص لها بعضو
الفصل الخامس (1) فى فِعلِ الإِسفِيدَاجِ فى الأَمرَاضِ التى لا اختِصَاصَ (2) لها بعُضوٍ (3) إنَّ الإِسْفِيدَاجَ لأجل قوَّة تجفيفه الخالى عن اللذع، هو شديدُ النفع للقروح ويُلحم الجراحات، ويَأكل اللحم الفاسد، وينبت اللحم الصحيح، وينفع من البثور الحارة، ومن النَّملةِ والجرب. وينفع جداً من حرق النار، إذا طُلى به موضع الحرق، ببعض الأدهان كدهن الورد ونحوه، وإذا فُعل ذلك؛ قلَّ النفط (4) الذى يحدث عن الحرق. وإذا فُقِدَ الإِسْفِيدَاجُ قام مقامه حَبُّ الرصاص.
المقالة السابعة والعشرون فى أحكام الإسرنج
المقالة السابعة والعشرون فىِ أَحْكَامِ الإِسْرِنْجِ وكلامُنا فيه، نجمعه فى فصلٍ واحد.
الإِسْرِنْج (1) هو السيلقون (2) بلغة (3) المشارقة، والزرقون (4) بلغة (5) المغاربة (6) ، ويُتَّخذ من الأُسْرُبِّ وهو الرصاص الردئ، وذلك بأن يُحرق ويُستعان على سرعة ذلك (7) ، بأن يخلط معه بعض الأملاح. ويُبالغ فى إحراقه حتى يصير لونه لون الزرنيخ (8) الأحمر وأشدُّ حمرةً، ويُزاد على ذلك حتى يَبِضَّ (9) .
وإنما كان كذلك؛ لأن الأَسْرُبَّ جوهرُه يشمل رطوبة مائية كثيرة جامدة. وكل جسم ذى رطوبة، فإنه إذا فعلت فيه الحرارة النارية؛ فإنها أولاً تُحدث فيه سواداً، وذلك بما يحدث فيه من الدُّخَّانية، ثم إذا أفرط فيه تبضُّه (1) وذلك بأن تحيله (2) ماءً (3) . تأمَّل (4) هذا فى الحطب، كيف ينفحم أولاً، وذلك إذا كان عَمَل الحرارة فيه قاصداً (5) ، وحيئنذٍ يسوَّدُ، ثم يترمَّد أخيراً، وإذا (6) أُفرطت الحرارة فيها فحينئذٍ (7) ينبضُّ. والحرارة المسوِّدة، إذا قصُرت عن إحداث السواد، أحدثت الحمرة؛ لأن الحمرة طريقٌ من البياض إلى السواد. فكذلك إذا أُحرق الأسربُ إحراقاً بقدرٍ صار منه السيلقون (8) ويتسمى باليونانية: سندوقيس. فلو أُزيد فى إحراقه قليلاً صار لونه إلى السواد، ولو بولغ فى إحراقه، ترمَّد وصار لوُنهُ أبيضَ. وقد جرت العادة باتخاذ هذا السيلقون من الأَسْرُبِّ وإن كان يجوز أن يتخذ من الأتك. وإنما فعل ذلك، لأن بلوغَ الأسْرُبِّ إلى السيلقون أسهل من بلوغ الأتك وأسرع، وذلك لأن الأتك أزيد مائيةً، فإنما يبلغ به الاحتراق إلى هذا الحد إذا كان فعل الحرارة فيه، أزيد من فعلها فى الأسربِّ؛ لأن الأسربَّ أَزْيد أرضيةً
من الأتك لأنه لو لم يكن كذلك لكان يكون بياضه (1) قوياً كما فى الأتك لأن الموجب لزرقة الأسربِّ إنما هو الجزء (2) الأرضى الذى فيه، إذ لولا هذه الأرضية لكان يكون شديد البياض؛ لأجل ما فيه من المائية الجامدة؛ وذلك لأن الرصاص إنما يتم لونه، بالبرد المجمِّد للمائية، والبرد يفعل فى الرطوبة بياضاً، وفى اليبوسة سواداً. فكذلك البرد العارض ببعض مائيته، ولسواد أرضيته؛ فيكون فيه من السواد، بقدر الأرضية؛ ومن البياض، بقدر المائية. ولما كان البياض فى الأتك أشدَّ منه فى الأسربِّ فلابد وأن تكون (3) المائية فى الأتك أزيد منها فى الأسربِّ. والأرضية فى الأسربِّ (4) أكثر منها فى الأتك. وكل جسم كثير المائية، فإن إحراقه إلى حدٍّ ما، يكون بحرارة أشد من الحرارة المحرقة للجسم الناقص المائية احتراقاً إلى ذلك الحد، فلذلك كان جعل الأتك سيلقونا (5) ، يُحتاج فيه إلى إحراقٍ أزيد، وإنما يكون ذلك بحرارة أشد وذلك - لامحالة - عَسِرٌ؛ فلذلك اقتُصِرَ على عمل السيلقون (6) من الأسربِّ وقد يُعمل من الأتك بل قد (7) يُعمل من الإِسْفِيدَاجِ. وذلك بأن يُحرق الإِسْفِيدَاجَ إلى حدٍّ تحدث (8) فيه الحمرة، وذلك بأن يُسحق الإِسْفِيدَاجَ ويُجعل فى قِدْرِ خزفٍ، ويوضع على الجمر، ولا يزال يُحرَّك إلى أن يصير لونه كلون الزرنيخ
الأحمر كما ذكرنا (1) ، وذلك إنما يتم بحرارة أزيد من الحرارة التى يصير بها الإِسْفِيدَاج إسفيداجاً؛ وذلك لأن ذلك المقلو (2) لم تقرّ فيه الحرارة إلى حد التَّحمير بل (3) إلى حدٍّ غيرَّت بياضه الشديد (4) تغييراً (5) ما، حتى صار يكون كالرماد (6) وذلك - لامحالة - ميلٌ إلى السواد. فكذلك الإِسْفِيدَاج المقلو، أقل إحراقا (7) من السيلقون فلذلك يكون أقل تجفيفاً منه. لكنه قد يكون ألطف منه؛ وذلك لما استفاده الإِسْفِيدَاج من قوة الخلِّ. فلذلك: السيلقون المتُّخذ من الإِسْفِيدَاجِ لابد وأن يكون ألطف من المتَّخذ من الرصاص نفسه؛ لأن المتَّخذ من الإِسْفِيدَاجِ يكون قد تلطَّف أولاً بقوة الخلِّ بخلاف المتخذِ من الرصاصِ. وإذا كان السلقون مُحْرَقَاً من الرصاصِ فهو - لامحالة - شديدُ التجفيف قليل البرد جداً، بل قد يمكن (8) أن يقال إنه كالمعتدل (9) ، أو المائل إلى حرارة يسيرة. وأما لو غُسِلَ، لعاد برده و (فقد) (10) ما أفاده الاحتراق من الحِدَّة (11) .
فإذا كان كذلك، فأفعاله مشابهة لأفعال الإِسْفِيدَاج المقلو، فكذلك هو يجفِّف القروح وينقِّيها، ويأكل اللحم الفاسد وينبت لحماً صحيحاً، ونحو ذلك ما ذكرناه فى الإِسْفِيدَاجِ المقلو. وكذلك، هو نافعٌ من قروح الأمعاء، إذا حُقِنَ به فى ماء لسان الحمل (1) مع يسيرٍ من شحم الماعز. وذلك إذا طبخ بالزيت حتى يصير مرهماً، نفع جداً للقروح الوسخة، ونقَّاها من الوضر، وأنبت (2) اللحم فيها وفى الجراحات. وهو أيضاً من السموم إذا استعمل من داخل، ويفعل قريباً من فعل الإِسْفِيدَاجِ من برد البدن وثقله (3) ، وجفاف اللسان ونحو ذلك (4) .
المقالة الثامنة والعشرون فى أحكام الأسد
المقالة الثامنة والعشرون فىِ أَحْكَامِ الأَسَدِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على فصلين.
الفصل الأول فى ماهية الأسد
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الأَسَدِ إنَّ هذا حيوان يُسمَّى السَّبُعَ والغَضَنْفَرَ (1) وأبا (2) الحرث ونحو ذلك وله أسماءٌ كثيرة جداً، غريبة، لانطوِّل بذكرها (3) . وهذا الحيوان يغتذى (4) بما يفرسه (5) من الحيوانات، وقد بيَّنَّا فيما سلف، أن جميع الحيوانات (6) والنبات وغيرها؛ فإن خِلْقه من ذلك، يجب أن يكون على الوجه الأوفق له (7) فى مزاجه ورطوباته وهيئة أعضائه ونحو ذلك، فكذلك يجب أن تكون خِلقة (8) الأسد على الوجه الأوفق له (9) ، إذ كان بحيث يسهل عليه
افتراس (1) الحيوانات الأخرى، ليكون متمكِّناً من سهولة تحصيل غذائه، وإنما يمكن فيه ذلك؛ إذا كان موصوفاً بأمور (2) . أحدها: أن تكون أعضاؤه (3) قوية، تامة القوة، لتكون قويةً على البطش الشديد، لتمكِّن قوة أعضائه (4) من التَشّبُّث (5) بغيره من الحيوانات وغلبتها وقهرها وميلها، ليتمكن (6) بذلك من أصلها؛ وإنما يمكن ذلك إذا كانت أعضاؤه قوية جداً، خاصةً الأعضاء التى يعتمد عليها كثيراً فى افتراسه، كالعنق والفكَّين (7) . فلذلك (8) يجب أن يكون عنق هذا الحيوان شديد القوة، وإنما يكون كذلك إذا كانت مفاصله شديدة الاتفاق، فلذلك خُلق عُنق الأسد كأنه من عظم واحد حتى تكاد أن لا تبين (9) مفاصل عظام عنقه. وثانيها: أن يكون حَرِسَاً، مِقْداماً، بَهِماً، شُجاعاً؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لم يسهل إقدامه على مثال الحيوانات، ولم يسهل عليه قهرها (10)
ولابدَّ وأن تكون ((1) شهوته للغذاء قوية (2) جداً، وإلا لم يحمله (3) ذلك على قتل غيره من الحيوانات ليأكله. فلذلك (4) يكون جوعه شديداً جداً، مؤلماً له. وكذلك (5) تسوء (6) عند الجوع أخلاقه؛ فلذلك يكون - حينئذٍ (7) - معتدياً ردياً (8) ، وكذلك عند الأكل؛ لأنه لقوة جوعه يشتدَّ تضرُّرُهُ بجميع ما يعاوقه (9) عن الأكل. وكذلك (10) تسوء أخلاقه عند مشاهدة (11) غيره، ويجب أيضاً أن يكون أكله بغاية (12) النهم؛ وذلك لأجل شدة الجوع وقوة إيلامه. فلذلك يكون أكله قذراً قبيحاً، حتى ربما قَاءَ القطعة من اللحم، ثم ابتلعها، لشرهه. وأما بعد الأكل، وعلى الشبع 13، فيجب أن يكون حليماً كريماً، هيناً ليناً؛ وذلك لأجل شدة النداوة (14) - حينئذٍ - لأجل اندفاع ألم الجوع عنه، الذى
هو له غاية الألم. وثالثها: أن يكون حارَّ المزاج، يابسه. لأن الحرارة والإقدام والشجاعة إنما تشتدَّ وتقوى (1) إذا كان معها هذا المزاج، فلابد وأن يكون كثير النفس متعاظماً، مستهيناً بالأهوال. فلذلك لا ينهزم عند المقاتلة عن أيسر الأسباب (2) . وإذا اشتد الأمر واحتاج الفزعة (3) ، لم يكن مشيه (4) عدواً، ولا متصلاً (5) على السرعة، بل مع دفعات يُشعر بها استحطاطه بمن يقصده. وإذا قصده قومٌ (6) ليظفروا (7) به، نظر (8) فى الأصغر (9) منهم، فيقصده خاصةً، فإن كان لم يجرحه ويظفر (10) به، لم يزد فى أذاه على حدثه وتقريعه. وإنما يأكل الناسَ من السباعِ، ما كان ضعيفاً ومُسِناًّ؛ وأما الأقوياء بين السباع فلا يدنون من الناس، ولا يقاربون مساكنهم. وتختلف الأسود (11) بالقوة والضعف، فمنها ما هو شديد القوة لا يقصد
أكل الناس ولا أذاهم، ومنها ما هو ضعيف (1) بلغ من ضعفه، أن يحمل عليه الخنزير، ومنها ما هو متوسط فى ذلك. والأسد (2) تؤذيه النار، وتؤلم عينيه ودماغه، وكذلك ينفر عن موضع فيه نارٌ كثيرة فلا يقربه؛ وذلك لأجل حرارة مزاجه، ولا يقرب الأسد امرأةً حائضاً وإن (3) اشتد به الجوع. ومن طبعه الملاعبة، ويلاعب من أَلِفَهُ، ولعبه مؤذٍ (4) .
الفصل الثانى فى أفعال أجزائه فى بدن الإنسان
الفصل الثانى فى أفعَالِ أَجزَائِهِ (1) فى بَدَنِ الإِنسَانِ شَحْمُ الأسد إذا أُذيب (2) ، ويُعمل (3) على الخاصرة، والقَطَن، والعجاز والشَّرَج، والقضيب، والألْيتين (4) - مروخاً (5) ومسوحاً - كان شديد التقوية للباه جداً (6) . وإذا طُلى دهنه (7) بدهن الأُنجرة ودُلِّك به القضيب؛ أعان على الباه إعانةً كثيرة جداً. وإذا طُلى بشحمه موضع الكلف، أذهبه. ومرارته (8) تحد البصر جداً إذا اكتُحل بها (9) . وإذا سمعَتْ التماسيحُ صوتَ الأسد تضررَّت بذلك، وقد تموت منه وكذلك إذا سمعه المصروع حرك صرعه. وكذلك إذا سمع الأسدُ صوتَ الديك الأبيض؛ فزع وارتعد (10) !
ومن لطَّخ بدنه بشحم الأسد، لم تقربه السباع. وكذلك إذا طُلى الإنسان بمرارة السبع، لم يقربه سبع. والجلوس على جلد السبع، ينفع من البواسير، ومن النقرس؛ نفعاً كثيراً.
المقالة التاسعة والعشرون فى أحكام الأشترغاز
المقالة التاسعة والعشرون فىِ أَحْكَامِ الأُشْتُرغَازِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على فصلين.
الفصل الأول فى ماهية الأشترغاز
الفصل (1) الأول فى مَاهِيَّة الأُشتُرغَازِ (2) الأُشْتُرْغَازُ (3) لفظٌ فارسى (4) ، وتأويله شوك (5) الجمال، سُمِّى هذا الدواء بذلك؛ لأنه نباتٌ شائكٌ (6) ، والجمال تأكله كثيراً، وتحبُّه. وأكثر المستعمل منه هو أصله - من الأصول الغليظة - وهو حريفُ الطعم، متخلخل الجرم، لا يؤكل على حاله، بل نُشَارُهُ يُطبخُ مع الطعام، فيفعل فعل الإبراد. وتارة يحلِّل، بأن يوضع فى الخلِّ فيطيِّب بذلك ويؤكل. وأكله (7) أوفق منه وأولى بأن يستعمل لأنه أقل حرارةً، وأقل حدةً، ويقارب فى أحواله خل العُنْصُلُ (8) . وأصله مثل (9)
الأنجُدان (1) فى هيئته وفعله، غير أن هذا أدق قليلاً من أصل الأنجدان (2) ، وأقل حدة، ولا صمغ له؛ بخلاف الأنجدان.
الفصل الثانى في طبيعته أو سائر أحكامه
الفصل الثانى (1) في طبيعته أو سائر أحكامه (2) لما كان الأُشْتُرْغَازُ (3) حريفَ الطعم، فهو - لامحالة - مشتملٌ على جوهر نارى، ولابد فيه من هوائية (4) . وكذلك هو جوهرٌ سخيفٌ خفيفٌ، وفيه مائية تُعتَصَر منه، وأرضية تبقى بعد الاعتصار ثفلاً (5) . وأرضيته غليظة، ولذلك يعسر (6) انفعاله فى المعدة، فلا يُهضم سريعاً. ومائيته ليست بكثيرة، وإلا كان يكون سهل الانفعال فى المعدة. وامتزاج مائيته بأرضيته ليس بكثير، وإلا لم يكن جوهرُهُ رخواً، فلذلك هذا النبات حارٌ (7) ؛ وذلك لأجل ما فيه من الجوهر النارى. وبهذه الحرارة هو يجلو، ويحلِّل (8) ، وينقِّى المعدة، ويقوِّى الهضم. ولكنه لايقبل الانهضام، وذلك لأجل ما فيه من الأرضية. ولأجل هذه الحرارة هو يُجشِّئ، لأنه يسخِّن ما يكون فى المعدة من الرطوبات فيتصعَّد، وما كان منها مائياً، صعد بخاراً. فلذلك لا
يَبْعد (1) أن يكون هذا النبات مصدِّعاً (2) للرأس. وما كان من تلك الرطوبات أرضياً فإنه يتصعَّد دخاناً؛ ولأجل قوة هذه الحرارة، يسرع تصعُّد هذه الدخانية جداً، فلا تبقى (3) إلى حدٍّ يتكون منها الرياح والنفخ، بل تصعد بسرعة، ويكون صعودها من جهة فم المعدة؛ لأنها لغلظها وسرعة خروجها، لايسهل نفوذها فى مسام المعدة فلذلك يكون خروجها من فم المعدة، ويحدث منها الجشاء. ومع ذلك، فإنَّ هذا النبات يُغثِّى ويقيِّئ (4) ؛ وذلك لأجل تصعيده الرطوبات إلى جهة فم المعدة، فما يكون من هذه الرطوبات مائياً، بالاً لفم المعدة فإنه يحدث الغثيان. وما يكون منها دُخَّانياً، فإنه يحدث الجشاء. وما لايتلطف منها، بل يبقى على جرمِهِ، يخرج قيئاً. ومع ذلك، فإنَّ هذا النبات يلذع (5) المعدة بما فيه من الحرافة والحدة فلذلك الأفضل أن يستعمل خلطه لاجِرْمُهُ. ولأجل تلذيعه للمعدة، يعين على القئ، لأجل تشوُّق المعدة - بسبب اللذع - إلى دفع ما فيها. وأسهل ذلك أن يكون إلى فوق؛ لأجل تحرُّك ما فى المعدة إلى فوق؛ لأجل حرارة هذا الدواء. وإذ هذا الدواء حارٌّ، يابسٌ، لذَّاعٌ، حريفٌ. فهو - لامحالة - مجفِّفٌ ولذلك هو قليل الغذاء، رديئه. وحرارته ويبوسته كلٌّ منهما أزيد مما فى الأنجُدان وكذلك هو أبطأ فى المعدة، وأقل هضماً، وأكثر إعانةً للمعدة على
الهضم؛ لأجل زيادة تنقيته (1) المعدة، وتجفيفه لفضولها؛ ولذلك هو يفتِّق الشهوة ويشهِّى الطعام جداً. وله خاصيةٌ فى دفع ضرر السموم، ويشبه أن يكون ذلك لأجل إحراقه للسم، وإفساده لجوهره (2) ؛ بسبب قوة حرارته ويبوسته. وينفع من الحمى المعروفة بحمى الربع (3) ، وذلك إذا كانت السوداء التى (4) هى مادتها، سوداءَ بلغمية؛ أى حادثةً عن البلغم وسبب ذلك: ما فى هذا الدواء من التلطيف والتقطيع، المعينين على نضج هذه السوداء، وسهولة اندافعها. وهو شديد الإعانة على استمراء الطعام، لأجل شدة تنقيته للمعدة.
المقالة الثلاثون فى أحكام الأشق
المقالة الثلاثون فىِ أَحْكَامِ الأَشَّقِّ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على ستة فصول.
الفصل الأول فى ماهية الأشق وطبيعته وأفعاله على الإطلاق
الفصل (1)) الأول فى مَاهِيَّةِ الأَشَّقِّ وطَبِيعَتِهِ وأفعَالِه على الإطلاَقِ إنَّ (2) هذا الدواء يُسمَّى الأَشَّقَّ والأَشَّجَ والوُشَّقَ، ولِزَاقَ الذهب (3) لأنه يُلزق به الذهب على الكاغد ونحوه، وهو صمغُ شجرة تشبه القنا فى استقامتها تسمى ناغاسوليس (4) . طعمُهُ مُرٌّ حادٌّ، يشبه الكندر فى جوهره ولونه، وأما رائحته تشبه رائحة الجنْدَبيدَسْتر (5) . وأفضله ما كان نقياً من الأوساخ والحصى (6) وشظايا الخشب ونحو ذلك، وكان حسن اللون. وإذ هذا الدواء من الصموغ، فإن جوهره (7) يشتمل على هوائية وأرضية وقليل مائية كما بيَّنَّاه أولاً. وأرضيةُ هذا الدواء حارَّةٌ جداً، لأنها محترقه ولذلك هو مُرُّ الطعم، فلذلك يجب أن يكون هذا الدواء شديدَ الحرارة يابساً
ولذلك هو مُرُّ الطعم، فلذلك يجب أن يكون هذا الدواء شديدَ الحرارة يابساً ولذلك فإن رائحته حادة. ولأجل حرارته ودسومته - ولأنه (1) صمغ - هو شديد التليين (2) . ولأجل قوة حرارته، هو شديدُ التحليل. ولأجل قوة تحليله مع اليبوسة، هو قوىُّ التجفيف. ولأجل تجفيفه مع التحليل، هو شديد التنقية خاصة وهو لا يخلو من جلاء قوى، وذلك لأجل حرارته. وما كان كذلك فتنقيته شديدة جداً لامحالة. وهو - لامحالة - لطيفُ الجوهر؛ لأن أرضيته تلطفت بالاحتراق الجاعل لها مُرَّةً، وكل لطيفٌ جال (3) محلِّلٌ؛ فهو مفتحٌ، وتفتيحه قوى. ولذلك قد يبلغ فيه إلى حدٍّ يُخرج الدم من أفواه العروق؛ وذلك لأجل قوة نفوذه بسبب قوة حرارته؛ فلذلك هو من المدرِّات القوية، حتى أنه يخرج الجنين حياً. ولأنه يلصق الذهب ونحوه، فهو - لامحالة - مُغَرٍّ، فهو مُصطلحٌ للأدوية المسهلة؛ لأنه بغروَّيته يمنع وصول نكايتها إلى الأعضاء، كما فى (4) الكثيراء أو نحوها ولأن حرارته قوية فهو لامحالة: جذَّابٌ (5) .
الفصل الثانى فى أفعال الأشق فى أعضاء الرأس
الفصل الثانى فى أفعَالِ الأَشَّقِّ فى أَعضاءِ الرَّأسِ إنَّ هذا الدواء من الأدوية الموافقة جداً للعين، فلذلك يستعمل فى أمراض العين - كثير (1) من أمراضها - وذلك لأنه يحلِّل، ويجفِّف، ويليِّن، ويجلو ويغرِّى، وكل ذلك بغير قوة (2) . وسبب قلة لذعه، هو ما فيه من الغروية؛ فلذلك هو ملينٌ لخشونةِ الأجفان وجَرَبها، وذلك لأجل تحليله مادة ذلك، مع أنه مغيرٌ ملمس الأجفان. ويُذهب بياض العين، بما فيه من قوة الجلاء؛ لأجل مرارته - كما قلناه - وينفع من رطوبات العين؛ لأجل قوة تجفيف، ويحلِّل الشعرة والبردة والتحجُّر من الأجفان وذلك لأجل تحليله، مع التليين القوى الذى فيه. فبالتليين (3) يسيِّل مواد هذه الأمراض لتتهيأ (4) للتحلُّل، ويحلِّلها بما فيه من قوة التحليل. وقد يدخل فى علاج قروح الرأس، وفى أدوية الصداع البارد خاصةً حيث يُراد لصق تلك الأدوية بالجبهة ونحوها. وإذا شُرب بالعسل؛ نفع من الصَّرَع، بتجفيفه المادة المصرعة.
الفصل الثالث فى فعل الأشق فى أعضاء الصدر
الفصل الثالث فى فِعلِ الأَشَّقِّ فى أَعضَاءِ الصَّدرِ إنَّ هذا الدواء لأجل تلطيفه وتفتيحه، وجلائه (1) ، وتليينه؛ هو شديد النفع من الأمراض الكائنة عن مواد غليظة فى هذه الأعضاء، لأنه - حينئذٍ - يلطِّفها بما فيه من التلطيف؛ ويبرئها عن المكان الذى هى ملتصقةٌ به، بما فيه من الجلاء ويهيِّئها للخروج بالنفث، بأن يفتِّح مجارى الرئة، فيهيئَها لنفوذ هذه المادة التى فيها إلى خارج. فلذلك (2) ، هذا الدواء نافعٌ جداً فى الربو ونَفَسِ الانتصاب، وعُسْر النَّفَس وذلك إذا كان حدوث هذه الأمراض عن مادةٍ غليظةٍ سادَّةٍ لمجارى النَّفَس، وذلك إذا استُعمل مع شئ مما يسهل نفوذه إلى هذه الأعضاء بسرعة، وإنما يكون ذلك إذا كان نفوذه إليها، هو من مسام الحجاب الحاجز بين المرئ وقصبة الرئة. والذى يفعل ذلك، هو ما فيه جلاءٌ وتفتيح؛ لأن هذا يلزمه توسيع مسام ذلك الحجاب، فيكون نفوذ ما ينفذ من هذا الدواء أزيد. وهذا الذى يفعل ذلك كالعسل وماء الشعير، ومع العسل أو السكر الكثير، حتى تكون (3) حلاوته شديدة، فيكون جلاؤه أزيد، فيكون تفتيحه المسام - لهذا (4) - أوفر.
وينبغى - حينئذٍ - أن يكون استعماله مع الدواء الآخر لعقاً، أو بأن يُحبَّب ويوضع الحبُّ تحت اللسان؛ وذلك لأن ما يكون كذلك، فإن نفوذ ما ينفذ منه فى مسام هذا الحجاب، يكون - لامحالة - أكثر؛ وذلك لأجل دوام سيلانه على سطح ذلك الحجاب وبقائه بلا محالة (1) مدة طويلة، فيكون ما ينفذ إلى قصبة الرئة فى تلك المدة، أكثر لامحالة. ولا كذلك إذا استعمل ذلك مشروباً، فإن المشروب ينزل بسرعة إلى المعدة، وحينئذٍ يقل ما ينفذ منه فى مسام هذا الحجاب فلذلك يكون تأثيره فى أمراض الصدر ضعيفاً. فلذلك، ينبغى أن يكون استعمال الأشَّقِّ فى أمراض الصدر مع العسل وحسو الشعير ونحو ذلك، لعقاً. أو بأن يحبَّب ويوضع تحت اللسان، وذلك إذا كان مُتَنَاوَلاً مع العسل. ومن شأن الأَشَّقِّ إذا استعمل كما قلناه - مع العسل ونحوه - أن ينقِّى قروح الصدر والرئة؛ وذلك لما فيه من الجلاء، والتجفيف، والتحليل، والتنقية. فلذلك الأَشَّقُ ينفع المسلولين (2) بتنقيته لقروح الرئة، ولذلك هو أيضاً مما ينقِّى قروح الحجاب والأغشية، ونحو ذلك من أعضاء الصدر، لما قلناه. وهو نافعٌ من الخناق (3) الحادث عن مادة بلغمية أو سوداوية؛ وذلك لأجل ما فيه من التليين والجلاء والتلطيف والتحليل.
الفصل الرابع فى فعل الأشق فى أعضاء الغذاء
الفصل الرابع فى فِعلِ الأشَّقِّ (1) فى أَعضَاءِ الغِذَاءِ لما كان هذا الدواء شديد التليين (2) جداً، مُحَلِّلاً بقوةٍ، فهو - لامحالة - شديد النفع لغلظ الأحشاء وجساوتها وصلابتها. وإذا شُرب منه درخمان (3) نفع من صلابة الطحال وصلابة الكبد. وكذلك، إذا طُلى على صلابتهما بالخل (4) لأن الخلَّ بتقطيعه وتحليله يُعينه على ذلك. وهو نافعٌ من الاستسقاء لتجفيفه وبما يزيل صلابة الكبد، وبما يُخرج من الرطوبات بالبول. وإذا شُرب منه درخمان (5) بالخل، حَلَّلَ صلابة الطحال، وينشِّف فضول الأحشاء بتجفيفه. وكذلك ينفع من الماء الأصفر (6) شرباً وضماداً. وتضمَّد به أورام الأحشاء فيليِّنها ويحلِّلها، ويقتل الديدان ويخرجها، وكذلك يفعل بحبِّ القرع (7) . وخاصتُهُ، النفع من أوجاع الخاصرتين والوركين، الحادث من البلغم اللزج. والشربة من ذلك من نصف مثقال إلى مثقالٍ، بعد نقعه فى المطبوخ
ويشرب مفرداً أو مع الأدوية الأخرى. ولأجل إضراره بالمعدة، ينبغى أن يقلَّل منه، وأن يكون استعماله. مع مقويات المعدة. وإضراره للمعدة، هو بحدِّته. وشُرب الأشَّقِّ يطرد الرياح، وينفع من وجع الظهر، كل ذلك لأجل تليينه وتحليله، وكذلك ينفع من أمراض العصب، ويحلِّل فضوله ويُليِّنه؛ ولذلك ينفع من الخدَر، والفالج، والرعشة، ونحو ذلك. وإذا تغرغر به محلولاً بالماء الحارِّ حلَّل بلغماً كثيراً، ونقَّى الدماغ، وحلَّل ورم النغانغ (1) .
الفصل الخامس فى فعل الأشق فى أعضاء النفض
الفصل الخامس فى فِعْلِ الأشَّقِّ فى أَعْضَاءِ النَّفْضِ قد علمت أن الأشَّقَّ لقوة تفتيحه، هو مُدِرٌّ. وإدراره هو قوىٌّ جداً فلذلك هو يدرُّ البول والحيض، ولقوة إِدراره للبول قد يُبَوِّلُ الدم؛ وذلك لإفراط تحريكه الرطوبات من جهة محدَّب (1) الكبد، إلى جهة مجارى البول. وهو مع إدراره، يسهِّل البلغم الغليظ واللزج، والماء الأصفر، ويخرج الجنين حياً وميتاً. ويلطخ بالخل على صلابة الأُنثيين (2) فيحلِّلها. ويُسيل الدمَ من أفواه العروق، وذلك بقوة (3) تفتيحه. وينفع الشقاق، والجشاء العارض فى السُّفْل، وذلك إذا استُعمل مع السَّيَّالة الدافعة فى ذلك مشروباً، ومع المراهم لطخاً واحتمالاً بالقَطَنِ ونحوه (4) .
الفصل السادس فى فعل الأشق فى الأمراض التى لا اختصاص لها بعضو عضو
الفصل السادس فى فِعلِ الأشَّقِّ فى الأَمرَاضِ التى لا اختِصَاصَ لها بعُضوٍ عُضوٍ (1) قد علمت أنَّ هذا الدواء قوِىُّ التليين (2) والتحليل؛ فلذلك هو شديد التحليل للأورام - خاصة الصلبة - والثآليل (3) ، والخنازير، والسلع، والغدد. وينضج الخرَّاجات (4) جداً، ويُليِّنها (5) . وهو شديدُ التنقية للقروح، ويأكل اللحم الخبيث بفرط تجفيفه، وينبت اللحم الصحيح؛ بما فيه من الجذب للدم، مع التجفيف الخالى عن اللذع القوى؛ فإن لذع الأشَّقِّ ليس بكثير. وإذا ضُمِّد به الصلابات والغلظ الذان (6) يكونان فى المفاصل، لَيَّنهَا وحلَّلها خاصةً إذا خُلط بالعسل والزفت. وإذا دُلِّك به أو ضُمِّدَ، نفع جداً من عرق النَّسَا، وذلك لما فيه من الجذب مع التحليل والتليين، وينفع الاستفراغ به من ذلك، ومن أوجاع الورك والخاصرتين والمفاصل. وإذا خُلط بخلِّ وبَوْرق ودهن الحنَّاء ولطخ به البدن، نفع من الإعياء جداً ولعرق النَّسَا. وكذلك إذا لطخ به مع الخل والنطرون ودهن الحنَّاء وإذا
أُذيب (1) فى الخلِّ وطليت به السلع والخنازير والصلابات ونحو ذلك، ليَّنها وحلَّلها، وحلل صلابات المفاصل. وإذا أُعوز فلم يوجد، قام مقامه وسخ خلية النحل (2) !
المقالة الحادية والثلاثون فى أحكام الأشنة
المقالة الحادية والثلاثون فىِ أَحْكَامِ الأُشْنَةِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على سبعة فصول.
الفصل الأول فى ماهية الأشنة وأحكامها على الإطلاق
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الأُشنَةِ وأَحكَامِها على الإطلاَقِ الأُشْنةُ هى شيبة (1) العجوز، وهى تلتف على شجر الشربين والبلُّوط والجوز والصنوبر، ولا أصل لها، ولا زهر، ولا بذر. ولها رائحةٌ طيِّبة، ومع ذلك فإنها تكتسب الرائحة من كل ذى رائحة يخالطها، ولذلك تخلط فى الطيوب والذرائر والغوالى، لتكون كالمادة للرائحة. وكذلك أيضاً تكتسب القوة من كل شجر تلتف عليه؛ فتختلف قواها وأفعالها، باختلاف ما تلتف عليه من الشجر. وطعمها إلى تفاهةٍ، ومرارةٍ وقبضٍ خفيَّين، والمائلة إلى السواد منها رديئة (2) . وأفضلها البيضاء الطيبة الرائحة، خاصة الجبلية منها، والتى تلتف على شجرة الشربين أفضل، وبعدها ما يلتف على شجر الجوز. وجوهرها مركَّبٌ من أرضية حارَّةٍ محترقة يسيرة أيضاً، بها تكون مُرَّةً. وفيها مائيةٌ يسيرة جداً؛ فلذلك لا يُعْتَصَرُ منها ما يعتد (3) به. وفيها هوائية كثيرة ولذلك هى خفيفة. ولذلك تكون تفهةً تفاهةً ليست عن مائية، بل مع نشوفه لأجل أنها هوائية. وتركيبها مع هذه الأجزاء ليس مستحكم، فلذلك يصدر عنها أفعال متناقضة، ولكنْ كلُّ واحدٍ من تلك الأفعال ضعيفٌ، إذ ليس فى أجزائها
ما هو قوِىُّ القوة. أما الأرضية الباردة والحارة، فلأنهما قليلتان جداً، فيكون فعلهما ضعيفاً. وكذلك المائية فإنها فى هذا الدواء يسيرة جداً. وأما الهوائية فإن فعلها إنما يكون بالتسخين، وتسخين الهواء ضعيف؛ فلذلك كانت أفعال الأُشْنَةِ كلهُّا ضعيفةً.
الفصل الثانى فى طبيعة الأشنة وأفعالها على الإطلاق
الفصل الثانى فى طَبِيعَةِ الأُشْنَةِ وأَفْعَالِهَا على الإِطْلاَقِ لما كان جوهرُ الأُشْنَةِ من أرضيةٍ باردة، وأرضيةٍ حارَّة، ومائيةٍ يسيرة وهوائيةٍ كثيرة؛ فهى - لامحالة - قريبة من الاعتدال؛ فلذلك تسخِّن الأعضاء الباردة بما فيها من الأجزاء الحارة، وتبرِّد الأعضاء الحارة بما فيها من الأجزاء الباردة، ويجب أن تكون (1) مع اعتدالها، مائلةً إلى حرارةٍ لطيفة ويبوسة. أما الحرارة، فلأن المائية التى فيها، وإن كانت شديدة البرد فإنها نَزِرَةٌ (2) جداً؛ فيكون ما تفعله من البرودة، قليلة جداً. والهوائية وإن كان حرّها قليلاً جداً فإنها لكثرة مقدارها تسخِّن تسخيناً ظاهراً. وأما الأرضية الباردة والحارة فيتعدَّلان (3) . فلذلك، يكون هذا الدواء مائلاً إلى الحرارة قليلاً. وأما اليبوسة فلأن الهوائية لا مدخل لها فى ترطيب الأعضاء، كما قلناه مراراً. والمائيةُ فى هذا الدواء يسيرةٌ، لا تفى (4) بتعديل الأرضيتين (5) - أعنى الحارة والباردة - فلذلك يكون هذا الدواء مائلاً إلى اليبوسة، ويجب أن تكون هذه اليبوسة أزيد من الحرارة؛ وذلك لأن يبوسة الأرضيتين (6) شديدة، ورطوبة الماء
مع قلَّته ضعيفة، ورطوبة الهواء لا تأثير لها تأثيراً دوائياً؛ فلذلك تكون يبوسة هذا الدواء كثيرة، ولا كذلك الحرارة التى فيه. وهذا (1) الدواء فيه قَبْضٌ، وتحليلٌ، وجلاءٌ، وتفتيحٌ، وإنضاجٌ، وتليينٌ وترياقيةٌ. أما قبضُه، فلأجل الأرضية الباردة. وأما تفتيحه، فلأجل ما فيه من الحرارة، وكذلك من (2) الهوائية ومن الأرضية ومن الأرضية المحترقة. وأما جلاؤه (3) ، فلأجل ما فيه من حرارة الأرضية المحترقة التى فيه. وأما إنضاجه فلأن حرارته مع اعتدالها مقارنةً لقوةٍ قابضة تُعين على الإنضاج بتضييق مسام العضو الذى يوضع عليه، فيلزم ذلك زيادةُ تسخُّنِ العضوِ بقلَّةِ تحلُّل (4) الحارِّ الغريزى، وبما يلزم الأبخرة الحارة عند احتباسها اللازم لضيق المسام من السخونة. وأما تليين هذا الدواء.. بحرارته الضعيفة.. ولا يقوى.. (5) فهو أكثر تلييناً لأن هذا الشجر فيه قوةٌ مليِّنة (6) . ومن شأن الأُشْنَةِ أن تستفيد (7) من الشجر الذى تلتفّ (8) عليه قوةً. وأما تقوية هذا الدواء، فلما فيه من القَبْضِ والعطرية. وأما ترياقيته، فلأجل ما فيه من العطرية؛ فإنَّ العطرية - كما قلناه - تقوِّى الروح على دفع السموم، وذلك هو الترياقية.
وإذ هذا الدواء محلِّلٌ، فهو - لامحالة - مرقِّق المواد، إذ (1) التحليل - كما بيَّنَّاه - إنما يتم بترقيق أجزاء المادة، حتى تصير (2) بحيث يسهل خروجها من المسام بخاراً، ويلزم ذلك أن يكون هذا الدواء ملطِّفاً. ولابد وأن يكون جوهره لطيفاً ضرورة كثرة الهوائية فيه، ومع قلة الأرضية الباردة. وكل دواء لطيف فيه جلاء وتحليل، فهو لامحالة مفتِّحٌ؛ فلذلك هذا الدواء لابد وأن يكون مفتِّحاً. ولأن هذا الدواء يابسٌ، وهو مع ذلك محلِّلٌ، وذلك مما يلزمه نقصان الرطوبات. فلذلك هذا الدواء لابد وأن يكون مجفِّفاً، وإذ هو مجفِّفٌ، فهو (3) لامحالة جالٍ، فهو لامحالة مُنقٍّ.
الفصل الثالث فى فعل هذا الدواء فى أعضاء الرأس
الفصل الثالث فى فِعلِ هَذا الدَّواءِ فى أَعضَاءِ الرَّأسِ لما كان (هذا الدواء (1) قابضاً باعتدال، مجفِّفاً تجفيفاً معتدلاً، وهو مع ذلك (2) ملطِّف، وليس فيه كيفية رديئة، ولا لذَّاعة، ولا مُباينة للاعتدال. فهو - لامحالة - من الأدوية الشديدة النفع للعين؛ وذلك لأن هذا الدواء بتجفيفه المعتدل، يحفظ (3) صحة العين ويزيل ما يكون بها من الرطوبات الفضلية وينشِّف الدمعة. وبما فيه من القبض اللطيف، يقوِّى جِرْمَ العينِ، من غير أن يبلغ إلى حد يكثِّف جِرْمَهَا تكثيفاً ضارّاً. ويعين على ذلك، ما فى هذا الدواء من العِطريَّة. وبما فى هذا الدواء من التلطيف، يلطِّف الروح التى فى العين، ويلزم ذلك أن يكون مُحِداًّ للإبصار. وبخلوِّ هذا الدواء عن الطعوم، ونحوها من الكيفيات المفرطة والضارة؛ ليس يحدث منه (4) فى العين أمرٌ يؤذيها، فلذلك: هو من أوفق أدوية العين. وهو ينفع أورام العين الباردة، وكذلك الحارَّة - فى انتهائها وبعد ذلك - بما فيه من التحليل. ويسكِّن أوجاع العين إذا ضُمِّدت به، وذلك بما فيه من التحليل والتقوية.
وقد قالوا: إنَّ الأُشْنَةَ تنفع من حرارة العين وحُمرتها. ويشبه أن يكون ذلك بما فيها من التقوية المانعة من توجه المواد المسخِّنة والمحمِّرة إليها، ومع ذلك فإن هذا الدواء ينفع العين مشروباً؛ وذلك بسبب تقويته للمعدة، فيقلُّ ما يتبخَّر إلى العينين من الأبخرة التابعة لضعف الهضم. والشراب المنقوع فيه الأُشْنَةُ إذا شُرب، نَوَّمَ شاربه تنويماً معتدلاً، وكان تنويمه للصبيان أكثر. وإذا ضُمِّد بالأُشْنَةِ ما خلف الأذنين، قوىَ ذلك الموضع، بما فى الأُشْنَةِ من القَبْضِ
الفصل الرابع فى فعل الأشنة فى أعضاء الصدر
الفصل الرابع فى فِعل الأُشنَةِ فى أَعضَاءِ الصَّدرِ إنَّ هذا الدواء لما كان فيه قبضٍ معتدل وعطريَّة، مع الخلو عن الكيفيات الردئية والمضرة؛ فهو - لامحالة - يقوِّى القلب، خاصةً إذا شُرب طبيخه. خاصةً، إذا كان ذلك بالشراب. ولأجل هذه التقوية، هو ينفع الخفقان؛ ومع ذلك، فإنه يلطِّف الروح بتلطيفه، ويَسْهُل نفوذه إليها بلطافته، ويقوِّيها ((1) بعطريته. فلذلك، هو من الأدوية الترياقية، والأدوية المفرِّحَة.
الفصل الخامس فى فعل الأشنة فى أعضاء الغذاء
الفصل الخامس فى فِعلِ الأُشنَةِ فى أَعضَاءِ الغِذَاءِ إنَّ هذا الدواء بما فيه من القبض والعطريَّة والتجفيف، هو يقوِّى المعدة ويجفِّف بلَّتها، وينقِّيها بما فيه من التجفيف والجلاء. ويلزم ذلك، أن يقوِّى هضمها، ويقطع القئ والفواق، ويطيِّب المعدة، ويقوِّى الأحشاء الأخرى - خاصةً الكبد - ويفتِّح سُدَدَهَا. وشراب طبيخه، يسكِّن أوجاع الكبد. وإذا طُبخت الأُشْنَةُ بالشراب، وشُرب ذلك الشراب، قوَّى المعدة جداً وحلَّل الرياح والنفح. وإذا سُحقت بالخلِّ وضُمِّد بها الطحال المتورِّم، انتفع بذلك، بما فيها من التلطيف والتحليل (1) . وقد تُعمل الأُشْنَةُ فى الخبز، وذلك بأن تُسحق وتُعجن مع الدقيق ويتَّخذ (2) من ذلك الخبزَ، فيكون ذلك الخبزُ نافعاً لضعف المعدة.
الفصل السادس فى فعل الأشنة فى أعضاء النفض
الفصل السادس فى فِعلِ الأُشنَةِ فى أعضَاءِ النَّفضِ إنَّ هذا الدواء من شأنه إدرار البول؛ وذلك لأجل قوة تفتيحه. وإذا جُلِسَ فى طبيخه؛ أدرَّ الطمث، وسكَّن أوجاع الرحم. وإذا شُرب، فتَّت الحصاة خاصةً مع شراب السكنجبين (1) وذلك لما فى هذا الدواء من التلطيف والجلاء والحدَّة، والظاهر أن هذا الفعل، لا يتجاوز حصاة الكلية. والأُشْنَة تفتِّح سُدَدَ الرَّحمِ.
الفصل السابع فى فعل الاشنة فى الأمراض التى لا اختصاص لها بعضو
الفصل السابع فى فِعلِ الاُشنَةِ فى الأَمراضِ التى لا اختِصَاصَ لها بعُضوٍ إنَّ هذا الدواء، من شأنه تقوية الأعضاء والمفاصل، إذا نُطل بطبيخه أو جُلِسَ فيه. وهو يحلُّ الإعياء (إذا) (1) جُلِسَ فى طبيخه، أو نُطل به، أو طُبخ هذا الدواء فى الدهن ومُرِّخَ به. ويقع هذا الدواء كثيراً فى الأدهان المراد بها (2) تقويةُ الأعضاء، أو تحليلُ الإعياء، أو شَدُّ المفاصل. وهذا الدواء يقوِّى (3) الأعضاءَ الضعيفةَ ويشدُّها، سواءً (4) كان ضعفها لمرضٍ، أو خِلْقةٍ - كما فى الأرنبتين، والإبطين، وخلف الأذنين. ومن شأنه (أن) (5) يسكن الأوجاع، لما فيه من التحليل مع التقوية. وكذلك أيضاً من شأنه النفع من الأورام لما فيه من القبض والتحليل سواء ضُمِّدت به الأورام، أو نُطلت بطبيخه. وينفع من الصنان، ويطيِّب رائحة البدن، لأجل ما فى هذا الدواء من التجفيف للرطوبات الفضلية، المفسدة لرائحة البدن بعفوصتها، وبما فى هذا
الدواء من العطرية. وهو يدخل فى الطيوب، ليكون محدّاً (1) للرائحة. وإذا طُبخ هذا الدواء فى شراب، وشُرب، كان نافعاً من نهش الهوام وذلك لما فيه من الترياقية، كما بينَّاه أولاً. وإذا أعوزت الشيبة، كان بدلها القردمانا كما قالوه.
المقالة الثانية والثلاثون (فى أحكام) أظفار الطيب
المقالة الثانية والثلاثون (فىِ أَحْكَامِ) أَظْفَارِ الطيبِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على ستة فصول.
الفصل الأول فى ماهية أظفار الطيب
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ أَظفَارِ الطِّيبِ (1) هذه قِطعٌ عظيمةٌ، شبيهةٌ فى رِقَّتها - مع استطالتها - بُقلاَّمةِ أظفارِ الناسِ عطريةُ الرائحة، تستعمل فى الدخن (2) ، وهى غطاءُ (3) حيوانٍ صَدَفىِّ، والصدفية منه (4) تُجمع من المواضع التى تكون فيها مياهٌ قائمة مدَّة، ثم تجفُّ تلك المياه فتوجد هذه الأظفار فى مواضعها. ولها رائحة الناردين لأن هذا الحيوان من شأنه أن يرعى (5) الناردين فلذلك إنما تكون (6) هذه الأظفار هناك، فى البلاد التى (7) ينبت فيها الناردين. ومن هذه ما يوجد على ساحل القلز، ومنه دسومة، ولونه إلى البياض. ومنها بابلى فى
ناحية بابل، لونه أسود، وهو أصغر من الأول. وكلاهما (1) طيبُ الرائحة، إذا دُخِّنَ بهما، كان فى رائحتهما شئٌ يشبه رائحة الجندبيدستر (2) . وقد قيل: إنَّ أجود أظفار الطيب هى القرشية (3) . وأظن - والله أعلم - أن هذه منسوبة إلى القِرْش وهو حيوانٌ عظيمٌ فى البحر فتكون هذه فلوسه، وصفة هذه أنها حمراء مقعَّره كفلوس السمك، إلا أنها قليلة العرض، مستطيلة غير ذاهبة (4) على الاستقامة، بل مع انحناءٍ ما. ومن أَظْفَارِ الطِّيب ما يوجد على ساحل جَدَّة، وهى المكِّيَّة. ومنها ما يوجد فى بحر اليمن، وقد قيل إنها هى القرشية. وجوهر أظفار الطيب هو جوهرُ العظام والأصداف، وجميع هذه فإن جواهرها (5) أرضية. فلذلك، أظفار الطيب جوهرها أرضىٌّ، وفيها - لامحالة - هوائية؛ ولذلك هى خفيفة الوزن، خاصة الدسمة منها، فإنَّ الدسومة، كما بيناه أولاً، إنما تتحقَّق بجسمٍ فيه هوائية كثيرة. وفى هذه الأرضية نارية قليلة، فلذلك هى حادة الرائحة، وأرضيتها لطيفة جداً، يابسة؛ ولذلك، هى قابلة للتصعُّد بالحرارة النارية بسهولة، فلذلك تتدخَّن سريعاً.
الفصل الثانى فى طبيعة أظفار الطيب وأفعالها على الإطلاق
الفصل الثانى (1) فى طَبِيعَةِ أَظفَارِ الطِّيبِ وأَفعَالِها على الإِطلاَقِ لما كان جوهر هذا الدواء مركَّبٌ من أرضيةٍ لطيفة، وناريةٍ يسيرة وهوائية. وكانت المائيةُ فيه قليلةً جداً؛ فمزاجه يجب أن يكون - لامحالة - حارّاً يابساً. أما الحرارة فلأجل النارية؛ فإنها تقوِّى الحرارة، وبرودة الأرضية والمائية لاتفى بتعديل تلك الحرارة، لأن برودة الأرضية ضعيفةٌ جداً. وأما المائية - وإن كانت شديدة البرد - فإنها لقلَّتها (2) ، ليست تبرِّد تبريداً شديداً يقاوم حرارة النارية، خاصةً والهوائية التى فى هذا الدواء، لابد وأن تسخِّن إسخاناً ما - لامحالة - فلذلك تكون حرارة هذا الدواء شديدة. واما اليبوسة فإنها أيضاً يجب أن تكون شديدة جداً لأن يبوسة الأرضية لابد وأن تكون شديدة، والمائية لقلتها وضعف رطوبتها، لاتفى بتعديل (3) تلك اليبوسة، والناريةُ يابسةٌ لا محالة. وأما الهوائية فإنها وإن كانت فى نفسها (4) مفرطة الرطوبة، فإنها لا مدخل لها فى ترطيب الأعضاء. فلذلك، هذا الدواءُ يجب أن تكون يبوسته أزيد من حرارته. وكلتاهما (5) قويتان، لكن اليبوسة أقوى، لما ذكرناه.
ولذلك، هذا الدواء حارٌّ، شديدُ اليبوسة، أرضىٌّ. فهو - لامحالة - مجفِّفٌ. ويجب أيضاً أن يكون تجفيفه شديداً؛ لأجل قوة تحليله بسبب قوة حرارته. فلذلك، يجب أن يكون هذا الدواء قوىَّ الحرارة، قوىَّ اليبوسة، قوىَّ التحليل مفرطَ التجفيف. وذلك محلِّلٌ، فهو - لامحالة - ملطِّفٌ. فلذلك، يجب أن يكون هذا الدواء ملطِّفاً، وأن يكون تلطيفه شديداً لأجل قوة تحليله؛ لأن أرضية هذا الدواء لطيفة، ومائيته قليلة، وفيه ناريةٌ وهوائية. فهو - لامحالة - لطيفٌ جداً. وجميع الأدوية اللطيفة فإنها - لامحالة - أسرع فعلاً وأبعد فعلاً؛ فيجب أن يكون هذا الدواء كذلك. وإذ فى هذا الدواء أرضيةٌ كثيرة، فهو - لامحالة - قابضٌ، وكل قابضٍ فهو - لامحالة - مقوٍّ. والعطرية تقتضى التقوية، ولذلك هذا الدواء شديدُ التقوية. وأما قبضه فليس بقوىّ (1) ؛ لأن أرضيته ليست باردة. وكل دواء لطيف، فيه تحليل فهو - لامحالة - مفتِّح؛ ولذلك هذا الدواء لابد وأن يكون مفتِّحاً. وكل دواءٍ فيه قَبْضٌ، وتقويةٌ عطرية، وتفتيحٌ؛ فهو - لامحالة - نافعٌ جداً للأحشاء فلذلك هذا الدواء لابد وأن يكون شديد النفع للأحشاء. ولأنه محلِّلٌ، مقوٍّ؛ ففيه - لامحالة - عطرية، وتفتيحٌ؛ فهو - لامحالة - نافعٌ جداً للأحشاء؛ فلذلك هذا الدواء لابد وأن يكون شديد النفع للأحشاء. ولأنه محلِّلٌ، مقوٍّ؛ فهو - لامحالة - مسكِّنٌ للأوجاع.
الفصل الثالث فى فعل أظفار الطيب فى أعضاء الرأس
الفصل الثالث فى فِعلِ أَظفَارِ الطِّيبِ فى أَعضَاءِ الرَّأسِ إنَّ هذا الدواء، لما كانت أرضيته لطيفةً، فهى (1) - لامحالة - قابلة للتدخين. فلذلك، إذا حصل هذا الدواء فى داخل البدن، تدخَّنت منه أجزاءٌ كثيرة. ولما كان هذا الدواء حارّاً، يابساً بقوة، كان ما يتدخَّن منه - لامحالة - كذلك. فلذلك، إذا بلغت دخانية هذ االدواء إلى الدماغ، فلابد وأن تُحْدِث فيه أمرين: أحدهما: ثقل الرأس. وذلك لأن هذه الدخانية هى - لامحالة - أجزاءٌ أرضية، والأجزاء الأرضية ثقيلةٌ لامحالة، وإذا حصل الثقيل فى جسمٍ، صار أثقل (2) لامحالة؛ فلذلك هذا الدواء إذا ورد إلى داخل البدن، أحدث ثقلاً فى الرأس لامحالة. وثانيهما: صداعٌ. وذلك لأجل حرارة دخانية هذا الدواء ويبوستها، ويلزم ذلك أن يوجع هذا الدخان بكيفيته. ولأن الدخان إذا حصل فى مكان، فلابد وأن يتحرَّك، وتلزم حركته حركة ما يلقاه أمامه إلى جهة حركته؛ فلذلك هذا الدخان لابد وأن يحرِّك الأعضاء التى فى داخل الرأس إلى جهات حركته؛ ويلزم ذلك أن تُمَدَّد تلك الأعضاء، وهذا التمديد يلزمه تفريق اتصال تلك الأعضاء وذلك - لامحالة - مؤلمٌ مصدِّعٌ. فلذلك، ما يرتفع إلى الرأس من دخانية هذا الدواء، لابد وأن يوجع ويصدع بكيفيته وبتمديده جميعاً؛ فلذلك كان هذا
الدواء، المسمَّى بأظفار الطيب، إذا ورد إلى داخل البدن، فلابد وأن يحدث ثِقلاً فى الرأس، وصداعاً، ومع ذلك فإنه لايحدث صَرَعاً ولا سكتةً ونحو ذلك وذلك لأن هذا الدخان هو لطيفُ المادة؛ لأنه من أرضيةٍ لطيفة - كما قلناه أولاً - ومع ذلك فإنه شديدُ الحرارة واليبوسة، وما كان كذلك فهو لامحالة يتحلَّلُ بسرعة، فلا يحدث عنه ذلك. وأما اشتمام هذا الدواء بالتدخين؛ لأن (1)) من مادة لطيفة، وقد ازدادت لطافةً بالحرارة النارية والمدخِّنة لها؛ فلذلك هذه الدخانيةُ تُحدث فى الدماغ أموراً: أحدها: أنها فى أول الأمر تسكِّن الصداع البارد؛ وذلك لأجل تعديلها مزاج الدماغ حينئذٍ. فإن أُفرط فى استعمال هذا الدخان، فإنه - لامحالة - يملأ الدماغ؛ فلذلك قد يصدِّع بفرط التسخين والتليين (2) ، وبالتحديد. وثانيها: أن هذه الدخانية تنفع (3) النزلات الباردة جداً؛ وذلك لأجل تعديلها (4) لمزاج الدماغ، وتجفيفها لرطوباته الفضلية المحدِثة للنزلات. وثالثها: أن هذه الدخانية بقوة حرارتها ويبوستها وتجفيفها، لابد وأن تحلِّل ما تلقاه فى داخل الرأس من الرطوبات الفضلية، وأن تلطِّف تلك الرطوبات بما فيها من التلطيف، وتجفِّفها (5) بقوة تجفيفها؛ فلذلك تُبرئ من الصرع، والسكتة والسُّبات والنسيان، ونحو ذلك من الأمراض الرطبة الدماغية.
وأظفار الطيب لأجل عطريتها، تدخل فى أقسام الطُّيوب كلها، وشَمُّها يقوِّى الدماغ البارد تقويةً كثيرة (1) ؛ وذلك لما فيها من التقوية مع التعديل للمزاج.
الفصل الرابع في فعل أظفار الطيب في أعضاء الصدر
الفصل الرابع في فعل أظفار الطيب في أعضاء الصدر (1) إنَّ هذا الدواء قد ثبت أنه قابضٌ قبضاً متوسِّطاً، وأنه مقوٍّ، وهو (2) - لامحالة - عَطِرٌ. وجميع ما هو كذلك فهو - لامحالة - مقوٍّ (3) للقلب، خاصةً وهو لعطريته يقوِّى الروح. ويلزم ذلك، أن يكون شديد التقوية للقلب؛ فلذلك هذا الدواء ينفع جداً من الخفقان، خاصةً ما كان منه حادثاً عن مادة باردة جداً كالبلغم الفجِّ. ولما كان هذا الدواء عطرياً، وكل دواء عَطِرٌ فقد بيَّنَّا أنه ينبغى أن يكون ترياقيّاً ومقرِّحاً. وقد بيَّنَّا أن هذا الدواء لابد وأن يكون شديد الحرارة واليبوسة وما كان كذلك من الأدوية التى تنفذ إلى (4) الروح، فهو - لامحالة - يحدُّ مزاج الروح، ويشعلها، ويلهبها. وما كان كذلك فإنه يجعل الروح شديدة الاستعداد للحركة إلى الخارج دفعةً، وسريعاً جداً. وما كان كذلك، فإنه يجعل الروح شديدة الاستعداد لما به يحدث الغضب؛ فلذلك كان هذا الدواء من الأدوية المغضبة، لا من الأدوية المفرحة. وهذه السخونة واليبوسة يحيلان (5) الروح
وذلك لاينافى (1) الترياقية؛ فلذلك (2) يكون هذا الدواء - مع أنه مُقّوٍّ للقلب مغضبٌ - هو ترياقٌ.
الفصل الخامس فى فعل أظفار الطيب فى أعضاء الغذاء
الفصل الخامس فى فِعلِ أَظفَارِ الطِّيِب فى أَعضَاءِ الغِذَاءِ إنَّ هذا الدواء، قد بيَّنَّا أن جوهره من أرضيةٍ لطيفة، وناريةٍ، وهوائيةٍ وأن مائيته قليلة. وما كان كذلك، فإنه بعيدٌ جداً عن التغذية، خاصةً وهو شديد اليبوسة، مفرطُ التجفيف؛ وذلك مما ينافى التغذية. فلذلك، هذا الدواء من الأدوية الصرفة. وقد بيَّنَّا أن هذا الدواء مفتِّح، محلِّلٌ، مقوٍّ، قابضٌ. فهو لذلك، شديدُ النفع للأحشاء كلها، وبيَّنَّا أن هذا الدواء مسكِّنٌ لأوجاع المعدة والكبد وغيرهما من الأحشاء، وأنه (1) يقوِّى فم المعدة جداً؛ وذلك لما فيه من القَبْضِ والعطرية.
الفصل السادس فى فعل أظفار الطيب فى أعضاء النفض
الفصل السادس فى فِعلِ أَظفَارِ الطِّيبِ فى أَعضَاءِ النَّفض (1) إنَّ هذا الدواء لأجل عطريته، وقَبْضه، وتقويته؛ هو شديد الملائمة لجميع الأعضاء. وما كان من الأعضاء بارداً عصبياًّ، فهو له أكثر ملائمة لامحالة، لأن هذا الدواء شديد الحرارة واليبوسة. فلذلك، كان هذا الدواء شديدُ الملائمة جداً للرَّحم، خاصةً وهو لشدة تجفيفه يناسب الرحم، إذا الرحم لابد وأن تكون الفضول فيه كثيرة؛ لأنها تتحرك إليه بالطبع؛ فلذلك كان الرحم شديد الانتفاع بهذا الدواء، شديد الميل إليه، وهو يطيِّب رائحته إذا بُخِّرَ به. فلذلك، إذا بُخِّرَ رحم صاحبه اختناق (2) الرحم بهذا (3) الدواء، نفعها ذلك جداً، ورَدَّ ميلان الرحم؛ وذلك لأجل شدة ميله إلى جهته، لأجل شدة ملائمته لجوهره. وينبغى أن يكون هذا التبخُّر بقُمعٍ يُدخل فى الفرج، ويُترك الموضع المتسع من القُمْع، قبالة بخار هذا الدواء، لكى يصل ذلك البخار إلى الرحم، من غير أن يصل (4) إلى الأنف من خارج. وكذلك، إذا جلست المرأة على إجانةٍ مثقوبة بحذاء فم الرحم، وكان تدخينُ هذا الدواء تحت تلك الإجانة.
وأما اشتمامُ المختنقة (1) الرحم (2) لرائحة هذا الدواء، ووصول دُخَّانُه إلى أنفها، فإنه شديد الضرر بها جداً؛ وذلك لأن الرحم يعرض له - حينئذ - زيادة التقلُّص إلى فوق، طلباً إلى رائحة هذا الدواء. لأجل عطريته (مع تقويته، وشدة ملائمته للرحم، ونقائه من الفضول، وطيب رائحته فى ذلك، لأنه مع عطريته) (3) يجفِّف الرطوبات المحدثة للعفونة، المفسدة للرائحة. ولذلك، فإن هذا الدواء يطيِّب (4) رائحة البدن إذا تُدلِّك به، وكذلك إذا ذُرَّ على مواضع الصنان، ونحو ذلك. وبعض أصناف هذا الدواء قوىُّ الجلاء؛ فلذلك إذا شُرب فى بعض الرطوبات كثَّر (5) البطن بإفراط جلائه (6) . وأما أكثره (7) ، فإنه يعقل البطن بما فيه من القبض مع التجفيف. وإذا شُرب من هذا الدواء قدر درخميين بماءٍ حارٍّ أخرج الدم الجامد المنعقد من الكلى والمثانة؛ وذلك لأجل إذابته لذلك الدم بقوة حرارته. وكذلك، هذا الدواء (8) يخرج الحيض المحتبس، لأجل انسداد مجاريه بالبلغم الغليظ اللزج؛ وإدامة تدخين الرحم به، يفعل ذلك أيضاً.
المقالة الثالثة والثلاثون فى أحكام الأفتيمون
المقالة الثالثة والثلاثون فىِ أَحْكَامِ الأَفْتِيمُونِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على أربعة فصول.
الفصل الأول فى ماهية الأفتيمون
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الأَفتِيموُنِ (1) إنَّ هذا النبات شبيهٌ فى قوته بالحاشا (2) ، حتى ظُنَّ أنه نوع من الحاشا لكن الحاشا أضعف قوَّةً منه. وسنتكلم فى قوى الحاشا فى كتاب الحاء (3) . والمستعمل كثيراً من هذا النبات، الذى هو الأَفْتِيموُن إنما هو أطرافه، وهى بذورٌ وزهرٌ، وقضبانٌ دقاقٌ خفيفه متهشِّمة، حُمْرُ الألوان، حادة الرائحة، حريفة الطعم. وأجود ذلك ما كان أشدُّ حْمَرةً، وأحَدُّ رائحةً، وأطيبُ طعماً. وكان نباته فى اقريطس أو فى البيت المقدس. وجوهرُ هذا النبات جوهرٌ نارىٌّ هوائى، وهوائيته أزيدُ من ناريته؛ ولذلك فإن حرافته ضعيفة، وليست تظهر عند أول ملاقاته للسان، بل بعد مضغه فلذلك لابد وأن يكون فيه مائيةٌ تخفى تأثير ناريته، إلى أن ينفذ إلى باطن اللسان وهذه المائية ليست بكثيرةٍ فيه، وليس فيه أرضية يعتدُّ بها. ويدل على كثرة هوائيته، زيادة خِفَّته.
الفصل الثانى فى طبيعة الأفتيمون وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثانى فى طَبِيعَةِ الأَفتِيموُنِ وأَفعَالِهِ على الإِطلاَقِ لما كان جوهرُ هذا الدواء من هوائيةٍ كثيرة، وناريةٍ يسيرة، تقارنها مائية يسيرة أيضاً. وفيه أرضيةٌ قليلةٌ جداً، وأرضيته (1) حارّةٌ؛ إلا أنها (2) لم تبلغ إلى حَدِّ الاحتراق المحدث للمرارة. فلذلك، لابد وأن يكون هذا الدواء حاراّ (3) يابساً ويجب أن تكون حرارته أزيد من يبوسته؛ وذلك لأن حرارته تحدث من ناريته وهوائيته، وحرارة (4) النارية شديدة جداً؛ فلذلك يكون التكاثر بحرارة ما فى هذا الدواء من النارية والهوائية، إنما هو المائية فقط، وهى فى هذا الدواء يسيرة؛ فلذلك تكون حرارة هذا يبوسة النارية ضعيفة، ويبوسة الأرضية وإن كانت قوية جداً، إلا أن هذه الأرضية قليلة الدواء قوية. وأما يبوسته، فليست بشديدةٍ جداً؛ لأن المقدار فى هذا الدواء فلذلك يجب أن تكون يبوسته ضعيفة. وجوهرُ هذا الدواء شديدُ اللطافة جداً؛ وذلك لأجل قلَّة أرضيته وكثرة هوائيته؛ فلذلك قُواه تتحلَّل بسرعة جداً. وذلك (5) ينبغى أن لا يُبالغ (6) فى طبخه
لأجل سرعة انحلال قوته. وإذا كان كذلك، فإن حرارته وإن كانت فى نفسها شديدة؛ فإنه ليس يسخن إسخاناً قوياً كثيراً جداً؛ وذلك لأجل انحلال قوته بسرعة، فلا يبقى فى البدن بقدر ما تشتد (1) قوته. وقد يستعمل هذا الدواء مطبوخاً، وقد يستعمل جِرْمُهُ نَفْسُهٌ مسحوقاً، وقد يستعمل نقيعه. ويجب أن يكون دواءً محلِّلاً؛ وذلك لما فيه من الحرارة النارية وأن يكون مُدفئاً (2) وذلك لأجل تلك الحرارة؛ وأن يكون ملطِّفاً، وإلا لم يكن محلِّلاً؛ فإن التحليل إنما يتم بترقيق الأجزاء، وذلك هو التلطيف. فلذلك، كان هذا الدواء يُخرج البلغم والسوداء، وإخراجه للسوداء أكثر وذلك لأجل إذابته لهذين الخلطين وترقيقه لقوامهما، فيهيِّأ للطبيعة - بذلك - دفعهما. ومع ذلك فإنه لا يخلو (3) عن قوة تحدث الخلطين (4) وتسهلهما. ولابد وأن يكون هذا الدواء قوىَّ التفتيح؛ وذلك لأجل لطافته مع قوة تحليله، وبهذا التفتيح يعين - لامحالة - على إخراج السوداء والبلغم الغليظ؛ وذلك لأجل اتساع الطرق لهما. ولما كان هذا الدواء خالياً (5) عن العِطريَّة، لا جَرَمَ لم يكن هذا الدواء من الأدوية التِّرياقية ولا المفرحة، إلا بما يخرجه من السوداء. ولما (6) لم يكن فيه قَبْضٌ ظاهر، لم يكن فيه تقويةٌ يُعتد بها. فلذلك، ليس يقوِّى القلب، إلا بما يدفع عنه السوداء.
الفصل الثالث فى فعل الافتيمون فى أعضاء الرأس والصدر
الفصل الثالث فى فِعلِ الاَفتِيموُنِ فى أَعضَاءِ الرَّأسِ والصَّدرِ إنَّ هذا الدواء لما لم (1) يكن فيه قَبْضٌ ظاهر، لا جَرَمَ لم يكن فيه تفريحٌ ولا تقويةٌ للقلب ولا ترياقيةٌ، وإنما يفرِّح ويقوِّى القلب بما يدفع من السوداء ويلطِّف الأرواح والأخلاط الغليظة التى عند القلب، وبالقرب منه. ولكن (2) بحرارته قد يحدث همَّاً وكَرْباً، وإحداثه الكرب أزيد، وخاصة بالمحرورين والشُّبَّان. ولكنه لإخراجه السوداء وتنقيته الروح منها، يجعل أرواح الدماغ جيدةً، صافيةً؛ لأجل ما يصل إليه من الروح الحيوانى. ومع ذلك فإنه يقلِّل ما ينفذ إلى الدماغ من الدخانية؛ وذلك لأجل إخراجه السوداء؛ فذلك كان هذا الدواء نافعاً جداً من الماليخوليا والصَّرَع. أما (نفعه) (3) من الماليخوليا فظاهرٌ؛ لأنه يزيل ما فى الدماغ من الأبخرة السوداوية، ومن الفضول السوداوية المكدِّرة لأرواحه، وذلك (4) يصلح الفكرة ويدفع الوسواس السوداوى، والوحشة التى تحدث لقوى الدماغ بظلمة السوداء وكدورتها. وأما نفع هذا النبات من الصرع؛ فلأنه إذا منع الدخانية عن الدماغ، منع - لامحالة - حدوث الرياح فيه؛ فإن حدوث الرياح إنما يكون من الدخانية. وإذا
قلَّت الرياح فى الدماغ، قَلَّ حدوث الصرع أو فُقِدَ، وذلك لأنَّا سنبيِّن أن أكثر حدوث الصرع إنما هو عن الرياح التى تحصل فى الدماغ، ولا تجد منفذاً تخرج منه من الدماغ سوى مسام الأعصاب. وينفع هذا الدواء للصرع السوداوى أكثر؛ وذلك لأجل كثرة إخراجه للسوداء. ولما كان الدماغ باردَ المزاجِ رَطِبَهُ، لاجَرَم لم يكن فى الأَفْتِيموُنِ إضرارٌ به إلا أن يكون شديد الحرارة، وحينئذٍ قد يحدث عن الأَفْتِيموُنِ صداعٌ حارٌّ أو سَهَرٌ ونحو ذلك. وأما الأعصابُ، فإنها تنتفع بالأفتيمون؛ وذلك لأجل تعديله لمزاجها؛ فلذلك كان الأَفْتِيموُنُ نافعاً من التشنُّج (1) الامتلائى (2) ، وذلك إذا لم يكن الامتلاء فى الأعصاب كثيراً جداً؛ فإنه - حينئذٍ - لأجل تسخينه قد يحرِّك تلك المادة الكثيرة الآتية (3) للعصب، فيكون بذلك مُزيداً فى التشنُّج. وكثير (4) من الناس قد يعرض له (5) عند شرب الأَفْتِيموُنِ ما يُسمُّونه بالعقال وهو تشنُّج ريحى يذهب سريعاً (6) ؛ وذلك لأجل تحريكه ما يكون فى أعصاب هؤلاء من الرطوبات، وإحالته لها رياحاً، لأجل حرارته.
الفصل الرابع فى فعل الأفتيمون فى أعضاء الغذاء وأعضاء النفض
الفصل الرابع فى فِعلِ الأَفتِيموُنِ فى أَعضَاءِ الغِذَاءِ وأَعضَاءِ النَّفضِ إنَّ هذا الدواء لأجل كثرة هوائيته، مع النارية التى فيه، مع قلة الأرضية والمائية هو - لامحالة - منافٍ بجوهره لجوهر الغذاء، إذْ جوهرُ الغذاء يحتاج أن يكون كثير الأرضية والمائية، وأن يكون امتزاجهما مستحكماً ليكون بكثرة (1) الأرضية مناسباً لجوهر الأعضاء، وبكثرة مائيته (2) سهل (3) الانفعال، وبقوة امتزاج هذين الجوهرين فيه، يكون جوهره لَدِناً شبيهاً بجواهر الأعضاء. والأَفْتِيموُنُ مع قِلَّة أرضيته ومائيته، فإن امتزاجهما (4) واهٍ؛ فلذلك يسهل انحلال قوته. فلذلك كان الأَفْتِيموُنُ بعيداً جداً عن التغذية، فلذلك هو من الأدوية الصِّرْفة. ولأجل قوة حرارته، هو يحلِّلُ الرياح والنفخ. فلذلك، هو نافع من المغص الريحى، وربما نفع من القولنج (5) الذى هو كذلك. ولكنه لأجل (6) هذا التسخين
القوى هو يُكرب ويغثِّى ويقيِّئ، خاصة للمحرورين، والصفراويين، والشبان. ولذلك، فإن الأَفْتِيموُنَ أوفق للمبرودين، والكهول (1) ، والمشايخ؛ منه لغيرهم (2) . وهو يُخرج السوداء بالإسهال، ويسكِّن عاديتها. وأكثر استعماله فى زماننا لذلك، هو فى المطبوخات. وله مطبوخٌ يخصُّه يُعرف بمطبوخ الأَفْتِيموُن يستعمل فى السوداويين. وقد يستعمل جِرْمه فى الحبوب، وقد يستعمل بانفراده مع ماء الجبن، أو باللبن الحليب. وقد يُنقع فى الشراب، ويُستعمل. وإذا استُعمل فى المطبوخات، لم يُبالغ فى طبخه، بل يُوضع فى آخر الطبخ؛ وذلك لأجل ضعف قوة الأجزاء التى تفضل (3) منه فى طبيخه. ومن الناس مَنْ يضعه فى المطبوخات، مصروراً فى خرقةٍ من كِتَّان ونحوه؛ والغرض بذلك: مَنْعُ قوته من مبادرة التحلُّل إليها. وأكثر ما يستعمل فى المطبوخات، أربعة دراهم، وأقل ذلك درهمان. وأما فى الحبوب فقد يُستعمل منه درهمان، وقد يقتصر على وزن درهمٍ واحد والوسط مثقال. وأما فى ماء الجبن ففى الأكثر يستعمل منه أربعة دراهم، وقد يقتصر على ثلاثة دراهم أو درهمين، وذلك إذا كان معه غيره، وقد يستعمل منه - حينئذٍ - خمسة دراهم، وذلك إذا كان بانفراده، ويكون شُربه حينئذٍ بالسكر أو بالسكنجبين (4) .
وأما إذا استُعمل باللبن الحليب، ففى الأكثر يكون كذلك بقدر خمسة دراهم أو ستة دراهم، وقد يستعمل منه - حينئذٍ - وزن (1) عشرة دراهم، ويُشرب حينئذ بالسكر. وأما إذا استعمل بالخمر، ففى الأكثر يستعمل منه وزن خمسة دراهم؛ وذلك لأجل اجتماع حرارته مع حرارة الخمر، فلا يكثر، كما إذا استُعمل باللبن. وأجود استعماله - حينئذ - أن يُصَرَّ فى خرقة كِتَّان، ويوضع فى الخمر يوماً وليلة، ثم بعد ذلك قد يُستحلب فى ذلك الخمر، بأن (2) يكرَّر عصير تلك الخرقة فى الخمر، لتخرج منه الأجزاء اللطيفة، ثم يُستعمل ذلك الخمر، إما وحده أو بالسكر. والأجود حينئذ، أن يكون سحقه شديداً، ليكون ما يفعل منه فى الخمر أزيد. وهذه المقادير كلها، إنما هى غاذيةٌ (3) ، ويجوز أن (4) تعين على ذلك ويكون تغيُّرها بحسب مزاج المستعمل له. ولابد وأن يكون معه مثل دهن اللوز ليكسر حدَّته ويبوسته. وكثيرٌ من الأولين كانوا يسقونه مع العسل والملح ومرادهم بذلك: زيادة إذابته للسوداء؛ فإنه أيضاً يخرج بلغماً كثيراً، ومع ذلك فإنه يُعَطِّش، خاصةً المحرورين. وإذا أعوز فقد يبدَّل بالحاشا، ولكن يكون هذا الحاشا أزيد منه وزناً، وذلك لأجل ضعف قوة الحاشا عن قوة الأَفْتِيموُن.
المقالة الرابعة والثلاثون فى أحكام الأفسنتين
المقالة الرابعة والثلاثون فى أَحْكَامِ الأَفْسَنْتِينِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على ثمانية فصول.
الفصل الأول فى ماهية الأفسنتين
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الأَفسَنتِينِ إنَّ هذا الدواء نوعٌ من الشيح ولذلك يسمى: الشيح الرومى. وله أصولٌ وساقٌ، وأغصانٌ، وأوراقٌ، وزهرٌ، وبزرٌ (1) ، وعصارة. وهو نباتٌ شجرىٌّ يقوم على ساقٍ واحدةٍ، ذاتِ (2) أغصانٍ كثيرة، وفى كل غصنٍ أوراقٌ كثيرة صغارٌ، متراكمةٌ، غبْرٌ، تشبه الأُشْنَةِ فى غبرتها. وزهرُهُ أُقحوانىٌّ صغيرٌ، أبيضٌ فى وسطه شئٌ أصفر، وله بزرٌ دقيق، وفى طعمه قَبْضٌ يسيرٌ ومرارةٌ مع الحرافة ويتَّصف باعتبار مَنْبته. واختلف الأطباءُ فى أصنافه (3) ، فقيل: إنَّ أصنافه هى هذه: خراسانى (4) ، ورومى، ومشرقى، ومجلوب من جبل اللكام (5) ، وسوسى وطرسوسى، ونبطى. وفى النبطى عطريةٌ ظاهرة، وغيره ليس كذلك، بل هو كريه (6) الرائحة. وهذا النبطى أصفر ورقاً وزهراً من غيره. وأجود الأَفْسَنْتِينِ ما
هو زَغَبىُّ (1) اللون، صَبْرِىُ (2) الرائحة عند الفَرْك، وأفضل ذلك (3) : السوسى والطرسوسى. وجوهرُ هذا الدواء مركَّبٌ من أرضيةٍ باردة، بها يصير قابضاً. ومن أرضية محترقة، بها يصير مُرّاً. ومن جوهرٍ نارىٍّ، به (4) يصير حريفاً. ومن هوائيةٍ، بها يصير خفيفاً. والجزء المائى فيه كثيرٌ؛ ولذلك تُعتصر (5) منه عصارةٌ كثيرة. وجوهره لطيف؛ لأن الأرضية الباردة فيه قليلة. وأكثر أجزائه لطيفة (6) جداً ومزاجه من هذه الأجزاء غير مستحكم؛ ولذلك تصدر عنه أفعال متباينة. وتارةً يستعمل جِرْمُهُ، وتارةً عصارتُهُ، وتارةً شرابُهُ، وتارة بزرُهُ وزهرُهُ. وعُصارتُهُ أقل أرضية - لامحالة - فلذلك هى أقل قَبْضاً. وإنما تكثر (7) فيها النارية والمائية، فلذلك هى أكثر تحليلاً، وأقل قبضاً. وتختلف أصنافه فى أفعاله؛ لأجل اختلافها فى الأجزاء التى هى عناصرها فما كان من أصنافه كثيرَ الأرضيةِ الباردةِ، كان أكثرَ قبضاً، وذلك كالنوع المجلوب من نيطس (8) ولذلك فإن هذا الصنف يُختار لأجل تقوية المعدة والكبد ونحوهما من الأحشاء، خاصةً وهو مع قوة قبضه، عَطِرٌ، قليلُ الحرارة والحِدَّة.
وما كانت هذه الأرضية فيه قليلة، فهو أقل قبضاً، وأقل برداً؛ ولذلك كانت (1) عصارة هذا الدواء أشد حرارة، وجِرْمُهُ؛ لأجل قلة الأرضية فيها؛ ولذلك هى كالفاقدة (2) للقبض. وكذلك ما يكون فيه عطرية كالصنف النبطى منه؛ فإنه يكون أكثر تقويةً للأحشاء وللروح، مما ليس كذلك
الفصل الثانى فى طبيعة الأفسنتين وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثانى فى طَبِيعَة الأَفسَنتِينِ وأَفعَالِهِ على الإِطلاَقِ إنَّ هذا الدواء، لما كان مركَّباً من أرضية بعضها باردٌ قابضٌ (1) ، وبعضها حارٌّ مُرّ (2) ، ومن ناريةٍ حريفة، ومن هوائيةٍ بها هو خفيف، ومن مائيةٍ ليست بيسيرة؛ فلابد وأن يكون هذا الدواء حاراًّ يابساً، ولابد وأن تكون حرارته يسيرة؛ لأجل كثرة المائية، ولابد وأن تكون يبوسته زائدة؛ لأن الأرضية كثيرة ويبوسة الأرضية شديدة. وأما المائية فمع ضعف رطوبتها، هى أقل من الأرضية ولذلك فإن هذا الدواء ليس فيه تفاهةٌ ظاهرة. وأما الهوائية التى فيه، فلا تأثير لها فى الرطوبة؛ فلذلك يجب أن تكون يبوسة هذا الدواء شديدةً، خاصةً والجزء النارى فيه جوهره يابسٌ. وتحليل هذا الدواء يُعين على يبوسته؛ ولذلك هو مجفِّف، وعصارته أشدُّ حرارةً من جِرْمِهِ، وأقلُّ يبوسةً؛ وذلك لأن الأرضية فى العصارة، لابد وأن تكون أقل. وأما النارية فتكون فيها أزيد؛ لأنها لأجل لطافتها تصحب المائية المعتصرة، وتفارق.. (3) فلذلك تكون هذه العصارة لذاعة، قليلة.. (4) فلذلك تضر المعدة، مع أن الأَفْسَنْتِيَ نافعٌ لها جداً. ومنه ((5) أكثر برداً وتقويةً، وأقل
تحليلاً، لأن المائية الباردة القابضة فيه أكثر. وقد علمت أن جوهر هذا الدواء لطيفٌ (1) . فأقول أيضاً: إنه ملطِّفٌ وذلك بما فيه من النارية. وهذا الدواء بما فيه من القَبْضِ يقوِّى، ويشدُّ، ويجمع أجزاء العضو. وبما فيه من المرارة يجلو ويحلِّل قليلاً. وبما فيه من الحرافة، يحلِّل كثيراً ويفتِّح، وكذلك يفعل ذلك بما فيه من المرارة. وبما فيه من المائية، يغسل. وبما فيه من اليبوسة مع التحليل، يجفف. ولأجل تجفيفه مع التحليل والجلاء، هو منقّ (2) . وبما فى النبطى من العطرية يُفَرِّح، ويقوِّى القلبَ والروح، فَتَقْوَى على دفع السموم، فيكون بذلك تِرياقاً بوجهٍ ما. وفى الأَفْسَنْتِينِ مع التجفيف تليينٌ؛ لأن حرارته ليست شديدة جداً. فلذلك هو نافعٌ من الصلابات الباطنة؛ ولأنه قوىَّ التفتيح، فهو لذلك مُدِرٌّ. ولما كان هذا الدواء مُرًّ، حريفاً، لطيفاً؛ فهو - لامحالة - مباينٌ لطبيعة الغذاء؛ فلذلك يكون دواءً صرفاً. ولأجل مرارته ينافى طبيعة الحيوان؛ فلذلك هو يقتل الديدان، ويمنع تسوُّس النبات، ويحفظ الكاغد من القرض بالأَرَضَة (3) ونحوها. وإذا جُعل هو وماؤه (4) مع المداد، وكُتب به، لم تقرض الفأرُ الكتابَ ويحفظ الكتاب من التغيُّر، بتجفيف الرطوبات المائية الفضلية، التى تعدُّه للفساد.
الفصل الثالث في طبيعة الأفسنتين فى أعضاء الرأس
الفصل الثالث في طَبِيعَةِ الأَفسَنتِينِ فى أَعضَاءِ الرَّأسِ إنَّ هذا الدواء - لأجل قبضه - إذا شُرب قبل الشراب، منع الخمار وسرعة السُّكْر، وذلك لتقويته فم المعدة، ومنعه من (1) تصعُّد أبخرة الشراب. وكذلك إذا تنقَّل ((2) بشرابه على الشراب، وَلعِقَ جِرْمُهُ بشرابٍ قابضٍ، كشراب الآس ونحوه. والنبطى بهذا أولى، لأنه أكثر قبضاً من غيره. وبهذا الوجه، فإن الأَفْسَنْتِينَ إذا استُعمل، نفع من الصداع الكائن من بخار المعدة. وأما عصارة الأَفْسَنْتِينِ فإنها إذ استُعملت على هذه الصورة (3) أعنى مشروبةً أو ملعوقةً ونحو ذلك؛ فإنها تُصدِّع؛ وذلك لأنها - لقلة الأرضية القابضة فيها - ليست تقبض قوياً؛ فلذلك ليست تُقوِّى فم المعدة بقوة، فلا تمنع البخار عن التصعُّد؛ ولذلك فإنها لاتنفع فى الخمار. ومع أنها لا تمنع الخمار فإنها تبخِّر بقوة حرارتها، وتلذع المعدة بحدَّتها، وذلك من أسباب الصداع فلذلك كانت (4) عصارة الأَفْسَنْتِينِ مصدِّعةً (5) وإذا ضُمِّد الرأس بالأفسنتين قوَّاه، وجفّف رطوباته الفضلية، وذلك بما فيه
من القَبْضِ والتجفيف والتحليل؛ فلذلك قد ينفع جداً من النزلات. وفعل العصارة فى ذلك أقل، لقلَّة تجفيفها، وخلوِّها من التقوية القوية. وبخار الأَفْسَنْتِينِ المطبوخ إذا حوذى (1) به الأذن، قوَّاها لامحالة، وحلَّل فضولها. فلذلك، ينفع من أوجاع الأذن. والعصارة تنفع أيضاً فى ذلك، ولكنها لاتقوى كثيراً، بل تحلِّل مادة الوجع بقوة (2) . وكذلك الأَفْسَنْتِينُ نفسه، إذا ضمِّدت به الأذن الوَجِعَة، سكَّن وجعها، خاصةً معجوناً بالعسل، وإذا ضُمِّدت به أورام ما خلف الأذن، نفع منها، بتحليله مع قلَّة قبضه. ونَفْعُ العصارة فى هذه الأورام، أكثر. ولذلك (3) النبطى من الأَفْسَنْتِينِ أكثر من نفع غير النبطى لأن النبطى أقوى قبضاً، وأضعف تحليلاً. وإذا أُدخل فى الأذن فتيلةُ من الأَفْسَنْتِينِ المعجون بالعسل ونحوه، نفع من رطوبات الأذن؛ وذلك لأجل تجفيفه. ونَفْعُ النبطى فى هذا أكثر؛ لأنه أكثر أرضية. وإذا طُبخ فى دهن اللوز، ثم أُضيف إليه مرارة الماعز، وقُطِّر فى الأذن حلَّل رياحها، ونقَّى قروحها، ونفع من الصمم (4) سريعاً جداً. وإذا شُرب الأَفْسَنْتِين بالعسل (5) ، نفع من السكتة؛ وذلك لأجل منعه (6) الأبخرة من الدماغ مع تجفيفه له، وتقويته إياه. وكذلك أيضاً ينفع من الصرع
والفالج. وإذا اكتُحل بالأفسنتين؛ نفع من الرمد العتيق؛ وذلك لأجل زيادة تجفيفه مع التقوية. والنبطىُّ فى هذا أَنفع، لأنه مع زيادة تجفيفه وتقويته - لأجل زيادة قبضه وأرضيته - فإنه عَطِرٌ، وأقلُّ لَذْعاً للعين؛ وذلك لأجل قِلَّةِ حرارته. وعصارة الأَفْسَنْتِينِ أقل فعلاً فى ذلك؛ لأجل قوَّة حرارتها، وحِدَّتها، مع قلة تقويتها، وتجفيفها. وإذا ضُمدت العين بالأفسنتين يفعل ذلك. وإذا ضُمد به مع المِيبَخْتَجِ (1) سكَّن ضربات العين، أو فى موضع آخر (2) ؛ وذلك لأجل تحليله الدم الجامد، والعصارة فى هذا أولى. وإذا اكتُحل بالأفسنتين؛ نفع من الغشاوة - خاصةً معجوناً بالعسل - وذلك لأجل تحليله مع تقوية جرْمِ العين. وهو يحدُّ البصر بما فيه من التلطيف الملطِّف للروح، مع تقويته للعين، وتحليل فضولها، لأجل جلائه (3) . وكذلك إذا اكتُحل به؛ نفع من الوَدَقة (4) بتحليله مادتها (5) . وكذلك إذا ضُمدت به العين؛ نفع من
أورامها، خاصةً القليلة الحرارة والباردة، وهو شديد النفع لغلظ الأجفان. وإذا ضُمدِّت به العين المطروفة، مسحوقاً، مصروراً فى خرقةٍ كتانٍ مغموسة فى ماءٍ حارٍّ؛ نفع الطرفة جداً، وحلَّل ما يكون قد احتبس فيها من الدم؛ حتى قيل إن ذلك الدم يخرج إلى الأَفْسَنْتِينِ حتى إذا اعتُصِرَت تلك الصُّرَّة، خرج منها ذلك الدم.
الفصل الرابع فى فعل الأفسنتين فى أعضاء الصدر
الفصل الرابع فى فِعلِ الأَفسَنتِينِ فى أعضَاءِ الصَّدرِ لما كان هذا الدواء مقوِّياً، فهو - لامحالة - يقوِّى القلب، خاصةً النبطى منه؛ فإنه وإن كان أقل قَبْضاً، فإنه عَطِرٌ؛ والعطريَّةُ أقوى تقويةً (1) للقلب (2) . وكذلك فإن هذا النبطى ينفع من الخفقان؛ ولأن ما (3) فيه مع العطرية يلطِّف فلذلك هو يلطِّف الروح مع تقويته لها بالعطرية، وليس فيه من الحرارة والحِدَّة ما يجعل الروح شديدة الاستعداد للحركة إلى خارج دفعةً، بل إنما يعدُّها لتلك الحركة برفق؛ فلذلك هو مفرِّح، وليس يغضب إلا فى الأبدان الحارَّةِ جداً. والأَفْسَنْتِينُ ينفع من التمدُّد تحت الشراسيف، لتحليل المواد الفاعلة لذلك مع تقويته لهذه الأعضاء. وإذا ضمِّد به داخل الحنك مع النطرون نفع من الخنَّاق الباطن.
الفصل الخامس فى فعل الأفسنتين فى أعضاء الغذاء
الفصل الخامس فى فِعلِ الأَفسَنتِينِ فى أعضَاءِ الغِذَاءِ إنك قد علمتَ أن الأَفْسَنْتِينَ ((1) بعيدٌ جداً عن جوهر الغذاء؛ فلذلك (2) ليس يغذو (3) شيئاً من الأعضاء. وعلمتَ أنه يقوِّى المعدة، وأن عصارته تضرُّ المعدة وفمها، لما فيها من اللذع - بزيادة الحرارة والنارية - مع قلَّة القَبْضِ المقوِّى، لأجل قلة الأرضية. وكذلك الحشيش (4) من غير النبطى يضرُّ فم المعدة، بخلاف النبطى فإن النبطى لزيادة أرضيته الباردة القابضة تشتد تقويته لفم المعدة من غير لذع يحدثه؛ لأجل قلة مرارته، ومع ذلك فإنه عَطِرٌ؛ فلذلك هو موافقٌ لفم المعدة وينفع من أورامها؛ لأنه ليس بلاذعٍ كما فى الحشيش. وجميع أجزاءُ الأَفْسَنْتِينِ وشرابه وعصارته، كل ذلك يردُّ الشهوة جداً ويقوِّيها (5) ، وذلك إذا استُعمل من مائهِ أو طبيخه، كل يوم، ثلاثُ أوثولاسات (6) ولزم ذلك عشرة أيام. وهو دواءٌ عجيبٌ لذلك، لما فيه من التقوية مع الجلاء والتجفيف والتنقية من الفضول. وكذلك شرابه يفعل ذلك، إذا أُديم
عليه. وكذلك إذا شُرب من شرابه كل يوم ثلاث أواقٍ (1) ؛ نفع جداً من اليرقان لأجل قوة تفتيحه مع تقويته للكبد (2) ، وكذلك إذا شرب طبيخ الأَفْسَنْتِينِ أو شُربت عصارته. والتضميد به ينفع (3) من الإستسقاء (4) ؛ وذلك لأجل تجفيفه وتحليله، مع تفشيته للرياح، خاصةً إذا ضُمِّد به مع التين والنطرون ودقيق الشَيْلَمِ. فإن (5) الأَفْسَنْتِينَ كما علمت فيه جلاءٌ، فلذلك من شأنه إحدار ما يجده فى المعدة ونواحيها، وذلك إذا كان ما هناك سَهْل (6) الانحدار، سهل القبول للانفعال عن الجالى. فلذلك، كان الأَفْسَنْتِينُ يحدِّرُ الصفراء عن المعدة ونواحيها، بما فيه من الجلاء؛ لأن الصفراء شديدة القبول لذلك. وأما البلغم، خاصةً الغليظ اللزج فإن الأَفْسَنْتِينَ ليس يقوى على إحداره عن المعدة، فضلاً عن المحتبس فى الصدر أو فى الرئة؛ وذلك لأجل عسر قبول هذا البلغم للانفعال عن فعل الجالى. وأكثر إخراجه للصفراء من المعدة، إنما هو بالإدرار، وذلك لما فيه من القوة المدرَّة على ما تعلمه بعد. وهو شديدُ النفع لأورام الأحشاء، خاصةً المعدة والكبد والطحال؛ وذلك لأجل تحليله مع القَبْضِ، وهو شديدُ التسكين لأوجاع (7) هذه الأعضاء إذا ضُمِّدت به؛ فلذلك تضمَّد به المعدة الوَجِعَة، مخلوطاً بدهن الورد والشمع.
وكذلك، يضمَّد به الطحال مخلوطاً بالتين، والنطرون، ودقيق الشيلم. وكذلك تضن به الخاصرة معجوباً بالموم (1) المذاب فى دهن الحنَّاء، فيسكن (بذلك (2) أوجاع هذه الأعضاء. وشراب الأَفْسَنْتِينِ ينفع الأحشاء جداً ويقوِّيها، ويبرئ من الأمراض) (3) التى يبرئ منها جِرْمُهُ، وكذلك إذا لم تكن (4) حمى تمنع من شربه. وقد كان جماعةٌ من الأولين يشربونه لحفظ الصحة (5) . ولأجل نفع الأَفْسَنْتِينِ وشرابه للأحشاء، هو نافعٌ جداً للاستسقاء، ولسوء القنية، وينفع الصلابات الباطنة شرباً وضماداً. وهو مع حرارته يقوِّى المعدة الحارة والصفراوية؛ وذلك لأجل إخراجه المادة الحارة الحادة منها؛ فلذلك هو شديدُ النفع لضعف العصب وبرده (6) ، إذا كانت معدته حارة صفراوية؛ لأنه بحرارته وقبضه يقوِّى العصب ويسخِّنه، وبتنقيته للمعدة من المرار يقوِّيها ويصلحها ويرد شهوتها الباطلة (7) . وإذا طُبخ بالخل وضمِّد به الطحالُ؛ نفع من وجعه. وقد يُطبخ مع الزبيب والزيت، ويضمَّد به الكبد الوارمة فى آخر ورمها فينفعها بتحليل بقايا ذلك الورم.
الفصل السادس فى فعل الأفسنتين فى أعضاء النفض
الفصل السادس فى فِعلِ الأَفسَنتِينِ فى أَعضَاءِ النَّفضِ قد بيَّنَّا أولاً أن هذا الدواء مُسهلٌ، وأنه يُسهل بما فيه من الجلاء. وبيَّنَّا أنَّ جلاءه ليس بشديدٍ جداً؛ فلذلك إنما يُسهِّل ما يَسْهُل إخراجه بالجلاء، وإنما يكون ذلك إذا كان المخرج رقيق القوام، سهل الانفعال، وذلك كالصفراء والفضول المائية؛ فلذلك كان هذا الدواء يسهل المائية والصفراء، وإسهاله للصفراء ليس بقوىٍّ (1) جداً؛ فلذلك إنما يسهلها إذا كانت فى المعدة ونواحيها ولا يسهلها إذا كانت بعيدة، خاصةً إذا كانت عند الجلد أو فى المفاصل. وأما البلغم فإنه لغلظه ولزوجته، ليس يسهل إخراجه بالجلاء، ما لم يكن ذلك الجلاء قوياً جداً.وهذا الدواء ليس كذلك؛ لأن هذا الدواء فيه أرضيةٌ باردة وقَبْضٌ، وذلك ينافى الجلاء؛ فلذلك هذا الدواء ليس يَقْوَى على إسهال البلغم اللزج، وإن كان فى المعدة أو فى الأمعاء، فضلاً عن الكائن فى الرئة ونحوها من أعضاء الصدر. وإذ (2) هذا الدواء ليس يقوى على إسهال البلغم، فأن (3) تعجز قوته عن إسهال السوداء، أولى؛ وذلك لأن إسهالها (4) أعْسَرٌ - لامحالة - من إخراج البلغم
فلذلك، كان إسهال هذا الدواء خاصّاً بالصفراء، وذلك إذا كانت الصفراء فى المعدة وما يقرب منها. وإذ إسهال هذا الدواء ضعيفٌ، فإنما يقوى على الإسهال إذا كانت المادة سهلة الإجابة، وإنما يكون كذلك إذا كانت نضيجة؛ فلذلك هذا الدواء إذا استُعمل بعد النضج، أسهل برفق؛ وإن استعمل قبل النضج لم يقو (1) على الإسهال، وكان قابضاً بقبضه؛ فلذلك يكون - حينئذ - محرِّكاً للمادة تحريكاً ضاراً. وقد بيَّنَّا أن هذا الدواء يجب أن يكون قوىَّ التفتيح؛ وذلك لأنه مع حرارته ومرارته، وحرافته؛ لطيفُ الجوهر. وجميع ما هو كذلك، فهو قوىُّ التفتيح. وإذا كان كذلك، فهو - لامحالة - مُدِرٌّ. وإذن، يجب أن يكون هذا الدواء مدرًّ والإدرار قد يكون للبول، وقد يكون للحيض. وهذا الدواء يُدِرُّهُمَا جميعاً وذلك لأجل حدَّته وتحريكه للدم. وإخراج الصفراء بالإدرار، لاشك أنه أسهل كثيراً من إخراج البلغم بذلك فلذلك، أكثر إدرار هذا الدواء، إنما هو للصفراء، وذلك إنما يكون بتحريك الصفراء إلى محدَّب الكبد، إما من جهة الأمعاء، أو من جهة العروق. لكن ما كان من الصفراء فى الأمعاء أو فى المعدة، كان إخراجه بالإسهال أولى؛ لأن ذلك أقرب، وكذلك ما يكون منها فى مُقَعَّر الكبد. فلذلك إدرار هذا الدواء للصفراء، أكثره إنما يكون من الصفراء التى فى العروق. فلذلك هذا الدواء يشفى من الحميات العتيقة والبثور الصفراوية ونحو ذلك. وكذلك هو دواءٌ يحفظ الصحة؛ لأنه بإخراجه ما فى العروق من المواد يخلِّص البدن من فضول الصفراء، وذلك مما يؤمن معه حدوث الأمراض الصفراوية
كالحميات ونحوها. وهذه الأمراض قد بيَّنَّا أنها أكثر الأمراض الواقعة؛ فلذلك كان هذا الدواء مخلِّصَ البدن من الأمراض الواقعة فى أكثر الأمر، وما كان كذلك فهو - لامحالة - حافظٌ للصحة. فلذلك، هذا الدواء حافظٌ للصحة، ومع ذلك فإنه يحفظ الصحة بإسهال الصفراء، وبإدرار الحيض، وبتقويته الأعضاء الهاضمة كلها؛ فلذلك كان الأوَّلون يستعملون شراب هذا الدواء كثيراً، لأجل حفظ الصحة. ومع أنه يخلِّص البدن من الأمراض الصفراوية، فإنه أيضاً ينفع أصحاب المرَّة السوداء نفعاً كثيراً وذلك إذا كانت سوداؤهم صفراويةً؛ وسبب ذلك: إخراجه لمادة هذه السوداء التى هى الصفراء. والشربة من هذا الدواء إما (1) منِ جرْمِهِ فمن مثقالٍ إلى درهمين، وإما من طبيخه ونقيعه فمن خمسة دراهم إلى سبعة دراهم، هذا إذا أخذ هذا الدواء مع غيره. وإن أخذ جِرْمُهُ مفرداً فقدر شربته من مثقالٍ إلى مثقال ونصف، وأزيد من ذلك قليلاً. وهو وشرابه، كُلٌّ منهما ينفع البواسير، وشقاق المقعدة شرباً وكذلك إذا ضمِّد بجِرْمِ هذا الدواء مع أدويةٍ تناسب هذا المرض، ومع المراهم المتَّخذة له، وكذلك إذا نُطلت المقعدة بطبيخه؛ وسبب ذلك. ما فى هذا الدواء من القبض والتقوية (2) . وطبيخه بانفراده أو مع الأرز أو العدس، إذا شرب بالعسل، قتل الدود وأخرجه، وليَّن البطن قليلاً. وكذلك شرابه يفعل ذلك، مع أنه ينقِّى العروق من الخلط المرارى، وهو الفضل المائى؛ وذلك لأجل قوة إدراره وتحريكه الفضول إلى
جهة البول. وكذلك إذا تُحُمِّلَ به مع العسل. أَدَرَّ الحيض بقوة، وعصارته - فيما أظن - أقوى إدراراً للبول وللطمث؛ وذلك لأجل زيادة حِدَّتها، مع قِلَّة قَبْضِها.
الفصل السابع فى فعل الأفسنتين فى الأمراض التى لا اختصاص لها بعضو
الفصل السابع فى فِعلِ الأفسَنتِينِ فى الأَمرَاضِ التى لا اختِصَاصَ لها بعُضوٍ قد بيَّنَّا أنَّ هذا الدواء قوىُّ الإدرار للمرار الأصفر، وللفضول المائية، وأنه (1) يسهل الصفراء، ويحرِّك دم الطمث، ويدرُّه بقوة؛ فلذلك هذا الدواء شديد النفع من الأمراض الصفراوية، بل من الأمراض الحادة كلها؛ لأن أكثر الأمراض الحادة صفراوية، والتى منها (2) ليست كذلك، فإن الصفراء لابد وأن تكون معها ما ينبغى أن ينقَّى البدن منه؛ فلذلك هذا الدواء نافعٌ من الأمراض الحادة كلها. ومن جملة هذه الأمراض الحميات، فلذلك ينبغى أن يكون هذا الدواء نافعاً فيها. ولكن الحرارة الموجبة، لابد وأن تكون فى الحميات شديدة، وهذا الدواء كما علمت حارٌّ؛ لا بما هو منقٍّ؛ فلذلك إذا بطل إضراره بالحرارة لم يكن - حينئذ - ضارَّاً، وذلك إذا كانت تلك الحميات فى آخرها؛ فإنَّ أواخر الحميات تستعمل (3) فيها الأدوية القليلة الحرارة؛ وذلك لأجل شدة الحاجة - حينئذ - إلى التحليل. وإذ هذا الدواء ينقِّى الدم من الفضول الصفراوية والمائية، بالإدرار والإسهال ويخرج الطمث؛ فهو - لامحالة - محسِّنٌ اللَّون؛ لأن الدم إنَّ نُقِّى من هذه الفضول
كان المتحرِّك منه إلى ناحية الجلد جيداً مشرقاً، ويلزم ذلك أن يكون اللون أحسن خاصةً وخروج الحيض ينقِّى الدم من الفضول جميعها، وذلك بما يوجب حُسن اللون؛ فيكون محسِّناً للون البدن، خاصةً وهذا الدواء بتلطيفه يرقّق قوام الدم وبحرارته يحرِّك الدم الصحيح إلى ناحية الجلد، ويلزم ذلك أن يحسِّن اللون. وأما الدم الردئ فإن هذا الدواء، وإن حرَّكه فإنما يحرِّكه إلى جهة الرحم، ليخرج طمثاً، وذلك مما يعين على تحسين اللون. وكذلك هذا الدواء نافعٌ من الأورام والبثور، أما إذا شرب فظاهرٌ (1) وذلك لأجل تنقيته البدن من المادة المولِّدة لها. وأما إذا استعمله من خارج فلأجل ما فى هذا الدواء من التحليل، مع القبض والتقوية. ونَفْعُ هذا الدواء - إذا شرب للشَّرَى (2) أَزْيد؛ وذلك لأجل إخراجه المادة المحدثة لغليان الدم المحدث للشَّرَى (3) وذلك لأن هذا الدواء يخرج الصفراء والفضول المائية، وذلك مما يبطل غليانه المحدث للشرى؛ لأن حدوث الشرى إنما يكون إذا حدث للدم غليانٌ، تروم الطبيعة به دفع الفضل الذى يعدُّه (4) لقبول العفونة، وهذا الفضل هو الفضل (5) المائى. وإذا كان فى الدم فضلٌ صفراوى
كان حدوث العفونة عند زيادة المائية أكثر؛ لأن الصفراء بحرارتها تفعل العفونة فى الدم المستعد لها. فلذلك إذا خلا الدم من الفضل المائى، والفضل الصفراوى كان بعيد جداً عن حدوث الغليان، وذلك مما لا يكون معه شرى. ولما كان هذا الدواء ينقِّى البدن من الفضل المائى، فهو - لامحالة - شديدُ النفع من سوء القنية، ومن الاستسقاء، خاصة وهو مع فعله ذلك يقوِّى الأعضاء الهاضمة كلها، وذلك من أعظم أسباب بطلان الاستسقاء. وكذلك، هذا الدواء ينفع من داء الثعلب، وداء الحية. أما إذا استُعمل من خارج؛ فلأجل ما فيه من الجلاء والتحليل، وأما إذا استعمل من داخل، فلأجل تنقية البدن. وهذا إنما يكون - حينئذ - إذا كان داء الثعلب وداء الحية حادثْينِ عن مادة حادة. وكذلك، هذا الدواء ينفع جداً من أوجاع المفاصل، وذلك إذا كان حدوث ذلك الوجع من خلطٍ حاد، وإنما كان كذلك لأن هذا الدواء من شأنه استفراغ الفضل الصفراوى الحادِّ، وتنقية العروق منه (1) .
الفصل الثامن فى حال هذا الدواء فى الترياقية ومقابلها
الفصل الثامن فى حَالِ هذا الدَّوَاءِ فى التِّرْيَاقِيَّةِ ومُقَابِلها إِنَّا قد بيَّنَّا أن هذا الدواء ليس يخلو من ترياقية؛ فلذلك لابد وأن يكون نافعاً فى دفع السموم. وله سموم يختصُّ بدفعها ودفع أذاها، وهذه السموم هى الحادثة عن نهش التنين البحرى، والحادثة عن لذع العقرب، وعن نهشة موغالى، وعن تناول الشوكران، وذلك إذا شُرب هذا الدواء بالشراب. وكذلك هو نافعٌ من حنق الفطر، وذلك إذا شرب بالخل. وإذا رُش طبيخه فى البيت، أمات البقَّ والبراغيث. وإذا بَلَّ طبيخه أو نقيعه المداد (1) ؛ لم تقرض الفأرُ الكتاب الذى يكتب به. وإذا أعوز أُبدل بالجعدة أو بالشيح الأرمنى ويقوم مقامه فى تقوية المعدة الأسارون مع نصفه إهليلج.
المقالة الخامسة والثلاثون فى أحكام الأفيون
المقالة الخامسة والثلاثون فىِ أَحْكَامِ الأَفْيُونِ وكلامُنا فى ذلك، يشتمل على أربعة فصول.
الفصل الأول فى ماهية الأفيون
الفصل الأول فى مَاهِيَّةِ الأَفيُونِ إنَّ الأفيون (1) دواءٌ مصرى يتَّخذ بأرض مصر، خاصةً بالصعيد (2) منها خاصةً فى مدينة تعرف (3) بسيوط (4) . واتخاذه هو من الخشخاش الأسود وذلك على وجهين. أحدهما: أن تجمع رؤوس ذلك الخشخاش وأوراقه، ويعتصران باللبوب المعمول (5) لعصر ما يحتاج إلى عصره بقوة، ثم تؤخذ تلك العصارات وتُسحق على صلاية، سحقاً محكماً ثم تقرَّص وتجفَّف (6) فى الشمس، وما يتَّخذ على هذا الوجه، فإنه يُخَصَّ باسم منفونيون (7) .
وثانيهما: أن يُشرط (1) رأس ذلك الخشخاش بسكين ونحوها، شرطاً لا يبلغ إلى حدِّ يخرق جِرْمَهَا. ثم يشرط من جانب هذا الرأس شرطاً آخر طولانياً مستقيماً، مبتدئاً من الشَّقِّ (2) الأول، وذاهباً على الاستقامة فى طول رأس الخشخاشة. ثم يؤخذ ما يخرج - حينئذ - من الصمغ، ويُجعل فى صدفه ويُعاود ذلك مراراً، كلما حصل فى ذلك الشَّقِّ شئٌ من ذلك الصمغ أُخذ، وقد يُستمر ذلك إلى اليوم الثانى. وإذا جمع هذا الصمغ جميعه، بولغ فى سحقه على صلاية، ثم يقرَّص ويرفع. والمعمول على هذا الوجه أقوى قوَّةً، وأجود، من المعمول على الوجه الأول. والمشهور عند المتأخرِّين، أنَّ المعمول على الوجه الثانى هو لبن ذلك الخشخاش (3) ، أعنى الأسود، وليس ذلك بحق؛ فإن هذا الأفيون دهنىٌّ، ولذلك يشتعل إذا قُرِّب من النار (أو) (4) لهب السراج ونحوه، واللبن ليس كذلك. ومن تأمَّله عَلِمَ أن جوهره جوهر الصموغ لا جوهر الألبان، ولذلك كان هذا الدواء يُغَش بصموغ أُخر، ولولا مشابهته لما أمكن ذلك. ولما كان هذا الدواء صمغاً، ففيه - لامحالة - دهنيةٌ، ودسومةٌ، وهوائيةٌ وحرارةٌ، وأرضيةٌ، ومائيةٌ. وذلك لأنَّا بيَّنَّا أن جواهر الأدهان جميعها، تُحقَّق بأرضيةٍ لطيفة، تخالطها هوائيةٌ، وحرارةٌ، ومائيةٌ يسيرة. وبيَّنَّا أن جواهر الصموغ كلها مركَّبة مما قلناه، ومن جملة ذلك: هذا الدواء، وهو الأفيون.
ولكن أرضية هذا الأفيون بعضها لطيفةٌ جداً، حارَّةٌ، شديدةُ المرارة وهى التى بها تحدث الدُّهنية وبها يكون هذا الدواء مُراًّ. وبعضها - وهو أكثرها - شديدة (1) البرد جداً، جامدة بقوة البرد. وقد علمْتَ أن جميع الأجسام اليابسة فإن البرد الشديد يُحدث فيها سواداً (2) ؛ فلذلك هذه الأرضية لونها أسود بسبب قوة البرد. وأما الأرضية الأخرى المرة المحترقة؛ فإنها أرضية تخالطها مائية يسيرة لأنها هى الأرضية التى بها هذا الدواء يكون دهنياً؛ فلذلك يكون حال هذه الأرضية عند فعل الحرارة فيها، كحال الحطب الرطب؛ فلذلك تكون الحرارة المحرقة لها مُسَوِّدة لها، كما يحدث الفحمُ عن الحطب الرطب، إذا فعلت فيه النار فعلاً ليس بالشديد جداً، وكذلك الحرارة المحرقة لهذه الأرضية. ومن سواد هاتين الأرضيتين، يكون هذا الدواء أسود اللون؛ ولأجل ما فيه من الهوائية يكون هذا السواد ليس بمفرط؛ وذلك لأن الهوائية إذا دخلت الأجسام بيَّضتها؛ فلذلك فإن الصبر مع سواده إذا سحق ابيَضَّ، وذلك لأجل مخالطة الهوائية له. وبهذه الهوائية يكون جوهر الأفيونِ خفيفاً، مع أن الأرضية فيه كثيرة. وإذا جُعل هذا الأفيونُ على النار، وذلك بأن يُقلى على صحيفة ونحوها قلَّ سواده، وصار لونه أحمر. وما ذاك إلا لأن سواد الأرضية الجامدة، يبطل (3) حينئذ ويبقى السواد، إذ إنما هو للأرضية الأخرى، وهى المرة. وقد علمت أن البرد من شأنه إخماد الروائح، وضعف الآثار، وأن الحرارة من شأنها خلاف ذلك؛ فلذلك الأرضيةُ الحارّةُ التى فى هذا الدواء، تظهر
للحاسة (1) فيظهر (2) طعمها، بخلاف الباردة الجامدة؛ فإنها وإن كانت أكثر مقداراً؛ فإنها تِفهة الطعم، ولا رائحة لها؛ وذلك لأجل البرد. فلذلك، يكون هذا الأفيون - مع برده الشديد - مُرُّ الطعم، حادُّ الرائحة. وأما سواده، فلأجل سواد الأرضيتين اللتين سواد إحداهما لإفراط البرد وسواد الأخرى لقلة الحرِّ. وقلة سواده لأجل الهوائية، ولأجلها هو خفيفٌ. ولأجل ما فيه من المائية اليسيرة، هو متماسكٌ. ولأجل قلَّة (3) هذه المائية جداً هو يشتعل بدهنيته. ولأجل أن جمود أرضيته الباردة هو بإفراط البرد، صار الأفيونُ يذوب إذا جُعل فى الشمس الحارة. ولأجل أن أرضيته كثيرةٌ، هو ينداف (4) فى الماء؛ لأن أرضيته تتصغر أجزاؤها، وتخالط الماء. وإنما يذوب الأفيونُ بالشمس، ولا يذوب عند القلى؛ لأن الحرارة النارية الغالبة، شديدةُ اليبوسة، فهى تعقد ما تغلب فيه الأرضية، لا تُذيبه. وأفضل الأفيونِ ما كان رزيناً، حادَّ الرائحة، هشَّاً، سهلَ الانحلال فى الماء، وفى الشمس يشتعل بسهولة، وشعلته غير مظلمة.
الفصل الثانى فى طبيعة الأفيون وأفعاله على الإطلاق
الفصل الثانى فى طَبِيعَةِ الأَفيُونِ وأَفعَالِهِ على الإِطلاَقِ إنَّ هذا الدواء لما كان كثيرُ الأرضية، قليلُ المائية جداً، وَجَبَ - لامحالة - أن يكون شديدَ اليبوسة، خاصةً وما فيه من الهوائية؛ فإنها كما علمت لامدخل لها فى ترطيب (1) البدن. فلذلك، هو شديدُ اليبوسة، إذ (2) جوهر الأرض كذلك. ويجب أيضاً أن يكون شديد البرد؛ لأن الأرضية الباردة فيه كثيرةٌ (3) جداً فإنه لولا هذه الأرضية الباردة جداً، لما كان الأفيونُ يذوب فى الشمس، مع أن المائية فيه قليلة، وإلا لما كان يشتعل بسهولة. ولولا كثرة هذه الأرضية (4) الباردة لما كان يخثر الماء تخثراً (5) كثيراً إذا أُديف (6) فيه، مع أن الأرضية الحارة قليلة جداً ولولا قلَّتها جداً، لما كان الأفيونُ يحْمَرُّ عند القلى؛ لأن تلك الأرضية الحارّة لو كانت كثيرة، لكانت تفى - حينئذٍ (7) - بسواده القوى؛ فلذلك لابد وأن تكون