الشافي في شرح مسند الشافعي

ابن الأثير، أبو السعادات

الشَّاَفِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ مَجْد الدِّين أبي السَّعادَاتْ: المبارَكْ بْن محمَّد بْن عَبْد الكريم الجزْريْ تحقِيقْ أحمَدْ بْن سُليمان أبْي تميْم يَاسر بْن إبْرَاهيْم الجزْء الأوّلْ مَكتَبةَ الرُّشْدِ نَاشِروُنْ

_______ قال معد الكتاب للشاملة: تنبيه: وقع في ترقيم حواشي هذه الطبعة تغيير وتبديل، ولعله من الطباعة، وقد قمنا بتعديله قدر الإمكان، وذلك بمراجعة المصادر المعزو إليها.

جميْع الحقوقْ محفوظة الطَّبْعَةُ الأولي 1426هـ - 2005مـ مَكتَبةَ الرُّشْدِ نَاشِرُونْ المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 هاتف 4593451 فاكس 4572381 EMAIL:[email protected] WEBSITE:WWW.RUSHD.COM * فرع طريق الملك فهد: الرياض - هاتف 2051500 فاكس 2052301. * فرع مكة المكرمة: هاتف 5585401 فاكس 5583506. * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - هاتف 8340600 فاكس 8383427. * فرع جدة: ميدان الطائرة - هاتف 6776331 فاكس 6776354. * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - هاتف 3242214 فاكس 3241358. * فرع أبها: شارع الملك فيصل - تلفاكس 2317307. * فرع الدمام: شارع الخزان - هاتف 8150566 فاكس 8418473. وكلاؤنا في الخارج القاهرة: مكتبة الرشد - ت 2744605. بيروت: دار ابن حزم هانف 701974. المغرب: الدار البيضاء - وراقة التوفيق - هاتف 303162 فاكس 303167. اليمن: صنعاء - دار الآثار - هاتف 603756. الأردن: عمان - الدار الأثرية 6584092. البحرين: مكتبة الغرباء - هاتف 957833 - 945733. الإمارات: مكتبة دبي للتوزيع هاتف 43339998 فاكس 43337800. سوريا: دار البشائر 2316668. قطر: مكتبة ابن القيم - هاتف 4863533.

مقدمة

مقدمة إن الحمد للَّه، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فهذا كنز مدفون، وسفر مكنون، وشرح مصون، للشيخ الهمام البارع: مجد الدين أبي السعادات ابن الأثير ذي الفنون، أذن اللَّه أن يرى الضياء، وينال الثناء ويتوج بن شروح العلماء. بذل فيه مصنفه الجهد الجهيد، وجمع فيه ما يرضي كل طالب مُجيد، وأوعى فيه زبدة شروح المسانيد، فأضحى نبراسًا لمن أراد أن يستفيد. شرفنا اللَّه فاستخرجناه بعد حبس مديد. وهاهو في ثوب يثلج صدور المؤمنين، ويروي غليل المتعلمين بضبط أصله، وتقريب رسمه، وتنقيح قوله،

ووضع رقمه وإيضاح لبسه، ورفع مشكله، وييان مهمله ... عسى أن ينال قبولاً عند أهله، وإلا فلا أقل من دعوة صالحة أو نصيحة غير فاضحة. فما كان قصدنا إلا رضى ربنا فهو الذي يعلم ما في نفوسنا، وما يدور في قلوبنا، وما يخطه أقلامنا به قلمي. وهو وحده أسأل أن يسدد مقالتنا، ويقيل عثرتنا، ويغفر زلتنا، فما كان من توفيق فمنه سبحانه، وما كان من خطأ فمنا ومن عدونا. وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. كتبه أحمد بن سليمان وأبو تميم ياسر بن إبراهيم مساء الخامس عشر من صفر لعام ألف وأربعمائة وعشرين من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف هو العلامة البارع البليغ مجد الدين أبو السعادات: المبارك بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري المشهور بابن الأثير. والأثير هو أبوه محمد بن محمد بن عبد الكريم قال الحافظ ابن حجر (¬1) عن أبيه أثير الدين: والد الفضلاء: صاحب النهاية -وهو صاحبنا هذا- وصاحب أسد الغابة، ويقصد عز الدين أبا الحسن علي بن محمد -وصاحب المثل السائر -وهو ضياء الدين أبو الفتح نصر اللَّه بن محمد- مولده ونشأته: ولد بجزيرة ابن عمر (¬2) في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمس مائة، ونشأ به، ثم تحول إلى الموصل في سنة خمس وستين وخمسمائة، ثم عاد إلى الجزيرة. ثم عاد إلى الموصل، وتنقل في الولايات بها، واتصل بخدمة الأمير مجاهد الدين قايماز بن عبد اللَّه الخادم الزيني، إلى أن توفي مخدومه، فكتب الإنشاء لصاحب الموصل عز الدين مسعود الأتابكي، وولى ديوان الإنشاء، وعظم قدره. قال ابن الشعار: كان كاتب الإنشاء لدولة صاحب الموصل نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود، وكان حاسبًا كاتبًا ذكيًّا. ومن جميل ما يحكى عنه ما قاله ياقوت الحموي (¬3): وحدثني أخوه أبو الحسن قال: تولى أخي أبو السعادات الخزانة لسيف الدين ¬

_ (¬1) نزهة الألباب (1/ 57). (¬2) مدينة فوق الموصل على دجلتها، سميت جزيرة لأن دجلة محيطة بها، أنظر وفيات الأعيان (4/ 8). (¬3) معجم الأدباء (5/ 50 - 51).

ذكر مشايخه وطلبه للعلم.

المغازي بن مودود بن زنكي، ثم ولاه ديوان الجزيرة وأعمالها، ثم عاد إلى الموصل فناب في الديوان عن الوزير جلال الدين أبي الحسن علي بن جمال الدين محمد بن منصور الأصبهاني، ثم أتصل بمجاهد الدين قايماز بالموصل أيضًا فنال عنده درجة رفيعة، فلما قبض على مجاهد الدين اتصل بخدمة أتابك عز الدين مسعود بن مودود إلى أن توفي عز الدين فأتصل بخدمة نور الدين أرسلان شاه، فصار واحد دولته حقيقة، بحيث إن السلطان كان يقصد منزله في مهام نفسه؛ لأنه أقُعد في آخر زمانه، فكانت الحركة تصعب عليه، فكان يجيئه بنفسه، أو يرسل إليه بدر الدين لؤلؤ الذي هو اليوم أمير الموصل. وحدثني أخوه المذكور قال: حدثني أخي أبو السعادات قال: لقد ألزمني نور الدين بالوزارة غير مرةٍ وأنا أستعفيه حتى غضب مني وأمر بالتوكيل بي قال: فجعلت أبكي، فبلغه ذلك فجاءني وأنا على تلك الحال فقال لي: أَبَلَغَ الأمر إلى هذا؟ ما علمت أن رجلاً ممن خلق اللَّه يكره ما كرهت، فقلت: أنا يا مولانا رجل كبير، وقد خدمت العلم عمري، واشتهر ذلك عني في البلاد بأسرها، وأعلم أنني لو اجتهدت في إقامة العدل بغاية جهدي ما قدرت أؤدي حقه، ولو ظلم أكار في ضيعة من أقصى أعمال السلطان لنسب ظلمه إلى، ورجعت أنت وغيرك باللائمة علي، والملك لا يستقيم إلا بالتسمح في العسف، وأخذ هذا الخلق بالشدة وأنا لا أقدر على ذلك، فأعفاه، وجاءنا إلى دارنا فَخَبَّرَنَا بالحال، فأما والده وأخوه فلاماه على الامتناع فلم يؤثر الكلوم عنده أسفا. ذكر مشايخه وطلبه للعلم. تحدث ابن الأثير عن نفسه في ذلك فقال (¬2): مازلت في ريعان الشباب وحداثة السنن, مشغوفًا بطلب العلم، ومجالسة أهله، والتشبُّه بهم حسَبَ الإمكان، وذلك من فضل اللَّه علي، ولطفه بي أن ¬

_ (1) هو الحراث. [قال معد الكتاب للشاملة: هذه الحاشية لا أدري مكانها في كلام المحقق.] (¬2) كما في مقدمة كتابه "جامع الأصول" (1/ 35).

عقيدته

حببه إلي، فبدلت الوسع في تحصيل ما وفقت له من أنواعه، حتى صارت في قوة الاطلاع على خفاياه، وإدراك خباياه، ولم آل جهدًا -واللَّه الموفق- في إجمال الطلب، وابتغاء الأرب، إلى أن تَشبثت من كل بطرف تشبهت فيه بأضرابي، ولا أقول: تميزت به على أترابي، واللَّه الحمد على ما أنعم به من فضله، وأجزل من طوله، وإليه المفزع في الإسعاد بالزلفى يوم المعاد، والأمن من الفزع الأكبر يوم التناد، وأن يوزعني شكر ما منحنيه من الهداية، وجنبنيه من الغواية، وآتانيه من نعمة الفهم والدراية، منذ المنشأ والبداية. قال الإِمام الذهبي في السير (¬1): روى الكتب نازلاً فأسند صحيح البخاري عن ابن سرايا عن أبي الوقت، وصحيح مسلم عن أبي ياسر بن أبي حبة عن إسماعيل ابن السمرقندي، عن التنكتي، عن أبي الحسن عبد الغفار، ثم عن ابن سكينة إجازة عن الفروي والموطأ عن ابن سعدون، وسنن أبي داود والترمذي بسماعة من ابن سكينة، وسنن النسائي أخبرنا يعش بن صدقة عن ابن محمويه. وقد تتلمذ على طائفة من المشايخ في كافة علوم الشريعة، فأخذ عن أبي محمد سعيد بن المبارك بن علي بن الدهان البغدادي النحو، وأبي الحرم مكي بن ريان بن شبة بن صالح الماكسيني الأدب والنحو، وكذلك من أبي بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي القرطبي، وأبي الفضل عبد اللَّه بن أحمد الخطيب وغيرها. وسمع ببغداد من أبي القاسم يعش بن صدقة الفراتي، وأبي الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن كليب الحراني، وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي بن علي وغيرهم. عقيدته: مع أن الإمام الشافعي -رحمه اللَّه- كان سلفَّي الاعتقاد على منهج أهل ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء (21/ 489).

السنه والجماعة، إلا أن متأخري الشافعية أكثرهم على منهج الأشاعرة، وقد تبني المصنف هذا المعتقد ودافع عنه في كتابه. ومن أخطر مسائل الاعتقاد التي خالف فيها الأشاعرةُ أهل السنة والجماعة: قضية الأسماء والصفات. وأمهات المسائل التي خالف فيها متأخروا المتكلمين ممن ينتحل مذهب الأشعري لأهل الحديث ثلاث مسائل: 1 - وصف اللَّه بالعلو على العرش. 2 - ومسألة القرآن. 3 - ومسألة تأويل الصفات. ومن القضايا التي أثارها المصنف في كتابه مسألتي العرش وتأويل الصفات، ففي مسألة العرش قال: وأما الاستواء على العرش فالمسلون فيه مختلفون، والذي ذهب إليه أهل السنة والجماعة فيه مذهبان. أحدهما: أنهم أجروا هذه اللفظة على ظاهرها مجرى غيرها من آيات الصفات وأحاديثها، فلا يأولونها، وقالوا: الاستواء صفة من جملة صفات اللَّه -عز وجل- لا يُعلم ما هو وينفي عنه التشبيه والاستقرار الذي هو من صفات الإسلام، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، هذا مذهب كثير من صالحي السلف وأكثر المحدثين رحمة اللَّه عليهم، أَمُّروا الآيات والأحاديث على ظاهرها؛ هربًا من الوقوع فيما لا يعلمون عاقبته ولا يتحققون معيته وسلوكًا في طريق السلامة من الزيغ والزلل، وهذا وإن كان طريقًا صالحة ومحجة سالمة فإن راكبها يدَّرع من التضرر جلبابًا، ويستمطر من التقليد سحابًا، قانعًا بالوقوف عند أصحاب اليمين، راضيًا بالتأخر عن مقامات السابقين، ولعمري قد قال فضلاً وحاز من التوفيق حظًّا. وأما المذهب الثاني وهو الذي صار إليه المحققون من أهل الإيمان الفائزون

بالرضوان فإنهم اعتبروا الآيات والأخبار الواردة، فما جاز إطلاق ظاهره على اللَّه عز وجل وما دلت عليه أوضاع اللغة العربية أجروه بظاهره ولا يحتاجون فيه إلى تأويل لاستمراره في منهج الصحة والصدق. وما لم يجز إطلاق ظاهره على اللَّه عز وجل لقيام الدليل على استحالة إطلاق ظاهره عليه أولوه تأويلًا تقتضيه اللغة العربية وقد أطردت العادة بمثله؛ فرارًا من إطلاق ظاهره عليه مالا يجوز إطلاقه على اللَّه عز وجل، فقالوا في الاستواء: أنه بمعنى الاستيلاء والقدرة عليه وقد أطلق أهل اللغة الاستواء بهذا المعنى في غير الآية، وإنما خص الاستيلاء بالعرش لأن العرش أعظم الموجودات وهو محيط بالكرسي الذي وسع السموات والأرض، وإذا أضاف الاستيلاء إلى أعظم موجوداته كان مادونه أولى بالاستيلاء. هذا قاله الراسخون في العلم الذين أخبر اللَّه عز وجل عنهم أنهم هم الذين يعلمون تأويل كتابه فقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]. وأما ما ذهب إليه طوائف المشبهة والمجسمة في أمثال هذه الآيات والأخبار من التشبيه والتجسيم حتى قالوا: إن الاستواء على العرش هو القعود عليه والاستقرار كما تستقر الأجسام بعضها على بعض فاللَّه سبحانه وتعالى منزه عن هذه الأقوال المفتراه والآراء الفاسدة التي تفضي بقائلها إلى سواء الجحيم، نسأل اللَّه العصمة والتوفيق في القول والعمل، وأن يهدينا سواء السبيل. وهذا الذي قاله ابن الأثير -رحمه اللَّه- وأثنى به على قائله خلاف ما ذهب إليه المحققون من أهل السنة والجماعة. قال ابن خزيمة في التوحيد (1/ 233). {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. وقال ربنا -عز وجل-: {إِنَّ

رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] وقال في تنزيل السجدة: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 2]. وقال اللَّه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]. فنحن نؤمن بخبر اللَّه -جل وعلا-: أن خالقنا مستوٍ على عرشه، لا نبدل كلام اللَّه، ولا نقول قولاً غير الذي قيل لنا، كما قالت المعطلة الجهمية: إنه استولى على عرشه، لا استوى، فبدلوا قولاً غير الذي قيل لهم، كفعل اليهود لمَّا أمروا أن يقولوا: حطة فقالوا: حنطة، مخالفين لأمر اللَّه -جل وعلا- كذلك الجهمية. أهـ. ورحم اللَّه الإمام مالك عندما قال مقولته الشهيرة عندما سئل عن قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} كيف أستوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. والكلام يطول في ذلك، ومن رام المزيد فعليه بكتب الاعتقاد، وعلى الخصوص "مختصر العلو" للذهبي، "ومجموع الفتاوى لشيخ الإِسلام"، "والعقيدة الطحاوية" (1/ 280) وما بعده. وفي مسألة تأويل الصفات: قال المصنف على صفة اليد في المجلد الأول (ق64 - ب): اليد يراد بها القدرة والاستيلاء والحكم، وهذا تمثيل، والتقدير: أن الخير في حكمك وتحت أمرك. أ. هـ. وفي موضع آخر من كتاب الزكاة في المجلد الثالث (ق56 - ب): ويد الرحمن لا يجوز حملها على ظاهرها، فإن لفظ اليد موضوع بإزاء الجارحة المخصوصة، ويتعال ويتقدس عن التشبيه والتجسيم علوًّا كبيرًا، فإنما يريد بيد الرحمن هاهنا: لطفه ورأفته. أ. هـ.

ثناء العلماء عليه

وقد نأى المصنف بقولته تلك عن منهج أهل السنة والجماعة، وسلك مسلك المتكلمين والمعطلين وجنح عن الصراط البيِّن القويم، والأصل في هذا الباب أن يوصف اللَّه تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيًا وإثباتًا، فيثبت للَّه ما أثبته لنفسه، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه، وقد عُلم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها؛ إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه -مع ما أثبته من الصفات- من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته (¬1). وقد تعقب شيخ الإسلام هذه الأصول الثلاثة التي شغب بها الأشاعرة وأبطلها، فقال في جملة ذلك: مذهب أهل الحديث - وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف-: أن هذه الأحاديث تُمَرُّ كما جاءت، ويؤمن بها، تصدق، وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف -منهم الخطابي-: مذهب السلف: أنها تجرى على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى حذوه ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية فنقول: إن له يدًا وسمعًا, ولا نقول: إن معنى اليد القدرة، ومعنى السمع العلم. ثناء العلماء عليه: قال أخوه عز الدين أبو الحسن صاحب الكامل (¬2). كان عالماً في عدة علوم مبَّرزًا فيها، منها الفقه والأصولان والنحو والحديث واللغة، وله تصانيف مشهورة في التفسير والحديث والنحو والحساب وغريب الحديث، وله رسائل مدونة، وكان كاتبًا مفلقًا يضرب به المثل، ذا دين متين، ¬

_ (¬1) انظر التدميرية ص 7. (¬2) الكامل في التاريخ (12/ 288).

مصنفاته

ولزوم طريق مستقيم -رحمه اللَّه ورضي عنه- فلقد كان من محاسن الزمان ولعل من يقف على ما ذكرته يتهمني في قولي، ومن عرفه من أهل عصرنا يعلم أني مقصر. وقال ابن خلكان (¬1): قال أبو البركات ابن المستوفي في تاريخ "إربل" في حقه: أشهر العلماء ذكرًا، وأكبر النبلاء قدرًا، وأحد الأفاضل المشار إليهم، وفرد الأماثل المعتمد في الأمور عليهم، وله المصنفات البديعة والرسائل الوسيعة. وقال ياقوت الحموي (¬2): كان عالماً فاضلًا وسيِّدًا كاملاً، قد جمع بين علم العربية والقرآن، والنحو واللغة والحديث وشيوخه وصحته وسُقمه والفقه، وكان شافعيًّا، وصنف في كل ذلك تصانيف. وقال الذهبي (¬3): القاضي الرئيس العلامة البارع الأوحد البليغ مجد الدين. مصنفاته: 1 - الإنصاف في الجمع بين الكشف والكشاف. في تفسير القرآن الكريم أخذه من تفسير الثعلبي والزمخشري، ذكره ابن خلكان، والذهبي، وياقوت -وقال: في أربع مجلدات- والمنذري، والسبكي، وابن كثير. 2 - الباهر في الفروق. وهو في النحو، وذكره ياقوت. 3 - البديع في النحو، أو البديع في شرح فصول ابن الدهان، أو: البديع في شرح مقدمة ابن الدهان. قال ياقوت: نحو الأربعين كراسة، وقفني عليه فوجدته بديعًا كاسمه، سلك فيه مسلكًا غريبًا، وبوَّبه تبويبًا عجيبًا. ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان (4/ 7). (¬2) معجم الأدباء (5/ 49). (¬3) سير أعلام النبلاء (21/ 488).

وباسمه الثاني ذكره السبكي. وباسمه الثالث ذكره الذهبي. وتوجد منه نسخة بدار الكتب المصرية تحت فن بلاغة رقم (615). 4 - البنين والبنات والآباء والأمهات من رجال الحديث، ذكره حاجي خليفة في كشف الظون (6/ 2). 5 - تجريد أسماء الصحابة. ذكره الزركلي في الإعلام. 6 - تهذيب فصول ابن الدهان. ذكره ياقوت: 7 - جامع الأصول في أحاديث الرسول. وهو من أعظم ما صنفه ولو لم يصنف غيره لكان كافيًا لبيان فضله، قال عنه ياقوت: جمع فيه بين البخاري ومسلم والموطأ وسنن أبي داود وسنن النسائي والترمذي، عَمِلَه على حروف المعجم، وشرح غريب الأحاديث ومعانيها وأحكامها ووصف رجالها ونبه على جميع ما يحتاج إليه منها.، أقطع قطعًا أنه لم يصنَّف مِثْلُه قط ولايُصَنَّف أهـ. والكتاب مطبوع بحمد اللَّه ومتداول. 8 - الجواهر واللآلي من إملاء المولى الوزير الجلالي. ذكره حاجي خليفة. 9 - جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد. توجد منه نسخة في دار الكتب تقع في مجلدين تحت (حديث م عربي 51) وعدد أوراقه 788. 10 - ديوان رسائل. ذكره ياقوت، والذهبي، وابن خلكان، وفي دار الكتب نسخة بعنوان

رسائل ابن الأثير تحت فمن (أدب 2040) وعدد أوراقه 176، ومعه نسخة أخرى. 11 - رسائل في الحساب مجدولات. ذكره ياقوت. 12 - الشافي شرح مسند الشافعي. وهو كتابنا هذا، وقد ذكره كل من ترجم له: الذهبي، وياقوت وقال: أبدع في تصنيفه، فذكر أحكامه ولغته ونحوه ومعانيه، نحو مائة كراسة. وابن خلكان، والسبكي، وحاجي خليفة، وابن العماد وابن كثير، وغيرهم. 13 - الأذواء والذوات. ذكره الذهبي في "السير" والسبكي في "الطبقات"، وياقوت، وقال: مجلد. 14 - شرح غريب الطوال. ذكره السبكي في "الطبقات"، والذهبي في "السير" وذكره الزركلي باسم "منال الطالب في شرح طوال الغرائب" وقال: في مجلد جمع فيه من الأحاديث الطوال والأوساط ما أكثر ألفاظه غريب، وصنفه بعد إنتهائه من كتابه "النهاية" رأيت نسخة منه متقنة جدًّا بخط ابن أخيه حمد بن نصر اللَّه سنة 606 في خزانة الرباط (182 أوقاف). 15 - شرح كلمات لغوية مرتبة على حروف المعجم. توجد منه نسخة بدار الكتب تحت فن (لغة تيمور برقم 21). 16 - الفروق والأبنية. ذكره الذهبي، والسبكي.

وفاته

17 - كتاب صنعه الكتابة. ذكره ابن العماد، وابن خلكان، وحاجي خليفة. 18 - المختار في مناقب الأخيار. ذكره ياقوت وقال: أربع مجلدات، ومنه نسخة بليدن وأخرى باستانبول كما ذُكر في مقدمة كتاب النهاية. 19 - المرصع في اللغة: ذكره حاجي خليفة، وفي "الإعلام" للزركلي وضع صورة من مخطوط المرصع وعلى ترة اللوحة قال: كتاب المرصع في الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأذواء والذوات. ونقل الزركلي أنه في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد رقم 5660 أ. هـ. فهل المرصع في اللغة والبنين والبنات ..... ، والأذواء والذوات مما تقدم ذكره كتاب واحد؟ يحتاج إلى تحقيق، ففي دار الكتب المصرية نسخة وتسميتها "المرصع في الآباء والأمهات والأبناء والبنات والأذواء والذوات في اللغة تحت فن (مخطوطات الزكية)، (188) وأيضًا في (لغة / تيمور)، (187). 20 - المصطفى المختار في الأدعية والأذكار، ذكره الذهبي، وابن خلكان، والسبكي. 21 - النهاية في غريب الحديث. وهو من أشهر ما صنف، وذكره المنذري، وياقوت، وابن خلكان وغيرهم. 22 - نهاية الأثيرية في اللغات الحديثية، ذكره حاجي خليفة. وفاته: عاش ابن الأثير ثلاثًا وستين سنة، ولازمه المرض حياته، وكان به نقرس، فكان يحمل في محفَّة، ولما عرض له المرض كف يديه ورجليه، فمنعه من الكتابة مطلقًا، وأقام في داره يغشاه الأكابر والعلماء، وأنشأ رباطًا بقرية من قرى الموصل، ووقف أملاكه عليه وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل.

مصادر الترجمة

قال ابن خلكان: وبلغني أنه صنف هذه الكتب كلها في مدة العطلة فإنه تفرغ لها، وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الاختيار والكتابة أ. هـ. ومما يدل على نبل الإمام الهمام وزهده في الدنيا وإقباله على الآخرة ما حكاه أخوه عز الدين أبو الحسن: أنه لما أُقعِدَ جاءهم رجل مغربي، والتزم أنه يداويه ويبرئه مما هو فيه، وأنه لا يأخذ أجرًا إلا بعد برئه، فملنا إلى قوله، وأخذ في معالجته بدهن صنعه، فظهرت ثمرة صنعته ولانت رجلاه وصار يتمكن من مدهما، وأشرف على كمال البرء فقال لي: أعط هذا المغربي شيئًا يرضيه واصرفه، فقلت له: لماذا وقد ظهر نُجْح مُعاناته؟ فقال: الأمر كما تقول، ولكني في راحة مما كنت فيه من صحبة هؤلاء القوم والالتزام بأخطارهم: وقد سكنت روحي إلى الانقطاع والدعة، وقد كنت بالأمس وأنا معافى أذل نفسي بالسعي إليهم، وها أنا اليوم قاعد في منزلي، فإذا طرأت لهم أمور ضرورية جاؤوني بأنفسهم لأخذ رأيي، وبين هذا وذاك كثير، ولم يكن سبب هذا إلا هذا المرض، فما أرى زواله ولا معالجته، ولم يبق من العمر إلا القليل، فدعني أعيش باقيه حرًّا سليمًا من الذل وقد أخذت منه بأوفر حظ، قال عز الدين: فقبلت قوله وصرفت الرجل بإحسان. وتوفى أبو السعادات يوم الخميس في سلخ ذي الحجة سنة ست وستمائة بالموصل. مصادر الترجمة: سير أعلام النبلاء (21/ 488)، وفيات الأعيان (3/ 304) معجم الأدباء لياقوت (5/ 49)، التكملة لوفيات النقلة (2/ 191 رقم 1129) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 366 - 367)، البداية والنهاية حوادث سنة ست وستمائة، شذرات الذهب (5/ 22 - 23) نزهة الألباب في الألقاب (1/

توثيق نسبة الكتاب وبيان سميتة.

57)، العبر في خبر من غير (5/ 19) كشف الظنون (6/ 203)، والإعلام للزركلي (5/ 272). توثيق نسبة الكتاب وبيان سميتة. إن هذا السفر العظيم قد ثبت بيقين صحة نسبته إلى أبي السعادات الجزري والذي يبرهن ذلك عدة أمور. أولاً: جاء على لوحة الكتاب من المجلد الأول: "الجزء الأول من الشافي في شرح مسند الشافعي تأليف الشيخ الإمام الحافظ مجد الدين المبارك بن محمد بن عبد الكريم الموصلي الجزري المعروف بابن الأثير رحمه اللَّه تعالى" وفي آخر الجزء قال: "تم الجزء الأول من كتاب الشافي في شرح مسند الشافعي". ثانيًا: قال المصنف في مقدمة كتابه: وقد سميته كتاب "الشافي في شرح مسند الشافعي". ثالثًا: تواتر نقل المترجمين للمصنف بذكر الكتاب في صدر مصنفاته وبعضهم سماه بالاسم المتقدم، وبعضهم قال: شرح المسند، وقد تقدم ذكر ذلك. رابعًا: نَقْلُ أهل العلم عنه واعتمادهم عليه، وهذا يدل على ثبوته عنه وثقتهم به، فقد نقل الحافظ ابن حجر عنه في "فتح الباري" (1/ 554) تحت رقم (343) فقال: ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة. وعن الحافظ نقل الزرقاني في شرح الموطأ (1/ 421).

توصيف المخطوط.

ونقل الشوكاني عنه أيضًا "نيل الأوطار" أثناء شرحه للحديث الأول قال: وقال ابن الأثير في شرح المسند: هذا حدثنا صحيح مشهور أخرجه الأئمة في كتبهم. توصيف المخطوط. لم أحظ إلا بنسخة فريدة من الكتاب بدار الكتب المصرية تحت رقم (حديث 306) وتقع في مجلدات خمس وعدد صفحات كل جزء على الترتيب (196 - 148 - 238 - 200 - 238). وقد كتبت سنة سبعمائة وثلاثة وثلاثون. وكتبت بخط رائق جميل، ولكن يبدو أن الناسخ لم يكن من أهل العلم فكثيرًا ما كان يصحف الأسانيد، فمثلًا يكتب "عن": "ابن" والعكس وقد بينت ذلك في مواضعه. وفي المجلد الأول سَقْط في ثمانية مواضع، ويبتديء السقط من نهاية اللوحة "أ" وغالب ظني أن السقط ربما وقع بسبب سقوط ورق، أو خطأ في التصوير. والمجلد الثاني: به سقط من أوله ولا أدري قدره، لكن يغلب على ظنى أنه قليل، وذلك بالنظر جملة في أحاديث الباب وتسلسلها. وهناك نسختان بدار الكتب المصرية لكنهما منسوختان من النسخة الأولى التي اعتمدناها. النسخة الأولى في دار الكتب تحت "حديث طلعت 697" وهي في خمس مجلدات. وهي نسخة متأخرة جدًّا نسخت في عام ألف وثلاثمائة وسبعة وعشرين والنسخة الثانية تحت "حديث طلعت 698".

طريقة المصنف في كتابه

وهي في جزأين وغير مكتملة، وتحتوي على الجزء الأول والثاني فقط ولم أعرج على هاتين النسختين فهما صورة من الأولى (¬1). طريقة المصنف في كتابه: خَطَّ المصنف بيده في ترة كتابه هذا منهجه الذي سار عليه في الشرح بما يجعل الكلام على المنهج المتبع نافلة من القول. ولذا فإني أحب أن أذكر بعض النقاط الهامة في هذه الخطبة. - اعتمد المصنف في تخريج الحديث على الأصول الستة ولم يعد إلى غيرها، ومن المعلوم أن المصنف لم يعتمد سنن ابن ماجه في الأصول الستة وإنما وضع مكانه الموطأ كما هي خطه في جامع الأصول. وتميز هذا التخريج بذكر المصنف الأسانيد والمتون واختلاف ألفاظ المخرجين. يعقد مقارنات بين الألفاظ المخرجة ويبين وجوه البلاغة والبيان في كل وجه. - يتكلم المصنف على كل لفظة في الحديث بالتفصيل الدقيق من جميع الوجوه؛ بلاغية ونحوية وفقهية وحديثية بما يجعل هذا الكتاب في الصدارة لكتب الشروح، وكيف لا والمصنف -رحمه اللَّه- له القدح المعلى في هذا الباب. - يكثر المصنف من نقل اختلاف العلماء في المسائل الفقهية نقلاً مسهبًا بما يجعل كتابه في جملة المصنفات التي تعني بنقل الخلاف. - تأثر المصنف كثيرًا بالإمام البيهقي، وأكثر النقولات الحديثية أخذها عنه، ¬

_ (¬1) هذا وقد كتب إليَّ فضيلة الشيخ علي بن عبد العزيز الشبل في خطاب منه أنه رأى في فهرس فيض اللَّه أفندي في استانبول نسخة في مجلد برقم (452)، وكذلك ذكر نسختين في المكتبة الوطنية بباريس للمجلد الثاني فقط، ونسخة في مكتبة شربتي ورقمها (731، 3906)، ولكن تعذر عليَّ تحصيل هذه النسخ والاطلاع عليها واللَّه المستعان.

عملنا في الكتاب

وكذلك ما أضافه من أحاديث مسنده ليست في مسند الأصم، وكذلك أقوال الشافعي في القديم، ويعد كتاب "المعرفة" للبيهقي هو أكثر كتب البيهقي التي اعتمد عليها المصنف في النقل، ولكنه لم يعز للبيهقي إلا في مواضع قليلة جدًّا. عملنا في الكتاب: غلب على أهل زماننا في تحقيق المخطوط التطويل والتمطيط والحشو والتلفيق بما يضعِّف حجم الكتاب مرات، وقد قال لي أحد العلماء الأجلاء: إن هذا ينبغي أن يسمي "نفخ الكتاب". لذا كان عملنا في المقام الأول: ضبط أصل الكتاب، والتعليق والتخريج بقدر ما تقتضيه الحاجة وهاك عدة نقاط أبين فيها منهجنا وطريقتنا. - قابلنا الكتاب بعد نسخه على النسخة المعتمدة ومقارنتها بالأصول المطبوعة للتحقيق من لفظ أو تخريج. - خرجنا أحاديثه بحسب عزو المصنف وقابلنا الأسانيد وأثبتنا الفروق بينها. - تخريج الآيات القرآنية. - قابلت نقولات المصنف عن الشافعي بأصوله المطبوعة كالأم والمعرفة وغيرهما. - اكتفينا في عزو الأحاديث إلى أرقامها وإلا فبالجزء والصفحة كما عند النسائي والموطأ. - لم أتكلم على الأحاديث صحة وضعفًا، فهذا عمل آخر ينوء عنه كاهلنا وليس من مقاصدنا، وقد قام الأخ الشيخ مجدي عرفات -حفظه اللَّه-. بالتعليق على أحاديث المسند في كتابه "شفاء العي". هذه هي الخطوط العريضة في عملنا وكما قلنا سابقًا: إن الغرض هو إخراج

تقسيم العمل

الكتاب كما أراده مصنفه من إصلاح غلط، ودفع وهم، ورفع مشكل، وتوضيح مبهم، وتصحيح خطأ، وتكميل نقص، وإزالة عثرة، فإن الجواد يعثر. تقسيم العمل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" (¬1) وما أكثر المتشبعين في زماننا ممن يدعون أنهم خرجوا وحققوا وضبطوا وعلقوا ونفخوا ..... ، ...... ، .......... ، ........ ولم يخطّ كلمة في الكتاب. فهو كما قالوا: من تحلَّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان وجرى في العلوم جرى سُكَيْت (¬2) ... خلَّفته الجياد يوم الرهان وقد ذكر الشيخ العلامة بكر بن عبد اللَّه أبو زيد هذه المحنة التي طلَّت على الأمة في كتابه "الرقابة على التراث" وبيَّن وجوه العبث التي هبَّت على التراث فقال: ومنها أن يرسم على طره الكتاب حققه فلان وما رآه قط وأخص من هذا: نسبة الكتاب إلى غير مؤلفه للترويج تارة، ولإفساد الأحكام والعقائد تارة أخرى ... ، وتسول العلم وحقيقته عمل المتشبع بما لم يعط: باستئجار المملقين لتحقيق التراث، وإخراجه بتحقيق مستأجر، ولم يخُط قلمه حرفًا, ولم يشرف على أصل ولا حاشية، فرحم اللَّه أهل الحياء. أهـ. أقول: فمن الواجب والأمانة أن يعطى كل ذي حق حقه، ومن لا يشكر الناس لا يشكر اللَّه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن عائشة رضي اللَّه، عنها وهو في صحيح الجامع (6675). (¬2) هو أخر خيل الحلَبة.

وهذا الكتاب ساعدنا في نسخه من المخطوط الأخوان الحبيبان أيمن محمود، وسامي وصفي وهما من طلاب العلم المجدِّين. ولما طال الكتاب عليَّ، وتعذر القيام به كله، طلبت من أخي الشيخ أبي تميم ياسر بن إبراهيم صاحب دار المشكاة وهو الذي قام أولاً بعرض العمل في الكتاب عليَّ أن يقوم على خدمة المجلد الرابع منه، فأجابني إلى ذلك والعلم، رحم بين أهله، نسأل اللَّه أن نحشر في زمرتهم. وجزى الله خيرًا كل من شاركنا في عملنا وسدد خطاه وجعلنا خدامًا لكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم أن نلقاه وثقل به موازيننا إلى منتهاه وصل اللهم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين كتبه أحمد بن سليمان

بسم اللَّه الرحمن الرحيم وصل اللهم على محمد وعلى آله وسلم الحمد للَّه الذي أنطق ألسنة العصماء بجوامع الكَلم، وأغرق قلوب البلغاء بينابيع الحِكَم، ورفع أقدار العلماء بعوالي الهمم، إلى مراتب العلا الغوالي القيم، أحمدهُ على تظاهر النعم، وتناصر القسم، حمدًا ينْفي عن الأغراضِ أجناس التهم، وعن الأعراض أدناس الكبائر واللمم، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه شهادة تصون الأسماع عن نقيصة الصمم، والألسن عن فضيحة العي والبكم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله شهادة تشفي عليل الخواطر من سوء الفهم، وعليل الأفكار من السأم، وأصلي عليه، وعلى آله صلاة تهدي قائلها إلى طريق الحق الواضح اللَّقم (¬1)، وتنير لسالكيه جَوَادَّ الطلب في غياهب الظلم. أما بعد: فإن أحسن القول أصدقه، كما أن أصدق الفعل أحسنه، وأمكن الكلام أصحه، كما أنَّ أصح المعنى أمكنه، وإني وإن كنت في هذا المقام طالب شكرٍ، وراغبًا في جميل ذكرٍ، فإن الحق لا يُدْفَعُ والصواب لا يمنع، فرحم اللَّه امرأً عرف نفسه فوقف بها حيث انتهت، عالماً أن لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وازنًا أقواله وأفعاله بميزان العدل، قائلاً في الاعتراف بالحق بالقول الفصل، لا كالغُمْر (¬2)؛ يحسب نفسه فَطِنًا، والألكن (¬3)؛ يظن عِيَّه لَسَنًا، أو كمن زُين له سوء عمله فرآه حسنًا، نعوذ باللَّه من موقف الخزي والندم، ومقام العُجْبِ ومزلة القدم، وإليه نرغب أن يوفقنا للسداد من القول والعمل، ويعصمنا ¬

_ (¬1) اللَّقَم بالتحريك: وسط الطريق. اللسان مادة لقم. (¬2) هو الجاهل الغِرُّ الذي لم يجرب الأمور، ورجل غُمْر وغَمِر لا تجربة له بحرب ولا أمر ولم تحنكه التجارب. اللسان مادة غمر. (¬3) اللُّكنة: عُجْمَةٌ في اللسان وَعِيٌّ، قال ابن سيده: الألكن الذي لا يقيم العربية من عجمة لسانه. اللسان مادة لكن.

من الزيغ والزلل، ويهدينا إلى أوضح السبل بمنه وكرمه، وبَعد أن استخرنا اللَّه -تعالى- وسألناه التوفيق والهدى، ومجانبة الرياء واتباع الهدى، فإنا لما تدبرنا ما وقفنا عليه من كتب العلماء وتصانيف الفضلاء من علماء الشريعة المطهرة -على اختلاف أغراضهم وآرائهم، وتباين مقاصدهم وأهوائهم، وتشعب مباغيهم وأنحائهم- وجدناهم بين مطيل ومقصد، ومقلّ ومكثر، ومُقتصر على نوع من العلم الذي قصد إليه، واقف عند فن من الغرض الذي حافظ عليه، ولكل منهم غرض حسَّنه رأيُه لديه، ووقفنا على بعض كتب من تصدي منهم لشرح أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وآثار الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وسمعنا بعضًا فرأيناها -كما قلنا- مختلفة الأوضاع والمقاصد، غير متفقة المصادر والموارد، ورأينا كلًّا منهم قد شرح أحاديث وترك غَيْرها، فأول من دوّن شرح الأحاديث أبو عُبيْدة: مَعْمرُ بْنُ الُمثنى (¬1)، جمع أحاديث يسيرة شرح ما فيها من غريب ثم قفى أثره أبو عبيد القاسم بن سَلَّام (¬2) فزاد عليه فيما شرحه وجمع أحاديث كثيرة وشرحها وأخذ على أبي عبيدة بعض ما شرحه، وبسط القول في كتابه وبه اقتدى الناس بعده، وعلى كتابه بنوا، وكان أبو عبيْد ثقة عالماً عارفاً بما يرويه وما يقوله ثم جاء من بعده: أبو محمد عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة فجمع أحاديث ¬

_ (¬1) هو الإمام النَّحوى صاحب التصانيف. قال الإمام الذهبي: كان هذا المرء من بحور العلم، ومع ذلك لم يكن بالماهر بكتاب اللَّه ولا العارف بسنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولا البصير بالفقه واختلاف أئمة الاجتهاد، بلى وكان معافىّ في معرفة حكمة الأوائل والمنطق وأقسام الفلسفة وله نظر في المعقول. سير أعلام النبلاء (9/ 447) قلت: وذكره البخاري في صحيحه في مواضع سماه في بعضها وكناه في الأخرى. وقال الحافظ في التقريب: صدوق أخباري وقد رُمِىَ برأى الخوارج. (¬2) هو الإمام المفسر اللغوي، وهو من أحسن من صنف في الغريب؛ له كتاب (الغريب المصنف) لم يطبع وقد صنفه في أربعين سنة؛ وكتابه (غريب الحديث) ذكره بأسانيده فرغب فيه أهل الحديث، وقد قالوا: إن اللَّه أيد هذه الأمة بجماعة منهم أبو عبيد: فسر الغريب من الحديث، ولولا ذلك لاقتحم الناس في الخطأ. وانظر السير (10/ 490).

كثيرة أخل بها أبو عبيد؛ وشرحها وبسط القول فيها وذكر أشياءً كثيرة زعم أنه أخذها على أبي عبيْد وأودعها كتابه وبينَّ وجه الصواب فيها عنده (¬1)، ثم جاء أبو سليمان أحمد بن محمد الخطابي البُسْتي، فجمع أحاديث أخر لم يذكرها واحد من هؤلاء الأئمة المذكورين؛ فشرحها وبسط القول فيها وأجاد [رحمه] (¬2) اللَّه -تعالى- فيما قاله، وَبَيَّنَ أشياء كثيرة من أقوالهم وأظهر الصواب فيها. ثم جاءَ بأخرةٍ أبو القاسم: محمود بن عمر الزمخشري فصنف كتاب "الفائق في غريب الحديث" وذكر أشياءً كثيرة لم يذكرها السابقون؛ لكنه أعاد أكثر ما ذكروه من الأحاديث فأحسن شرحه ورتب كتابه أحسن ترتيب (¬3). وغير هؤلاء من الأئمة ممن تصدى لشرح غريب الحديث -ممن وقفنا على كتبهم وممن لم نقف له على كتاب- فإنهم وإن كانوا جماعة فإن المشهور منهم هم هؤلاء المذكورون، وأما من عدا هؤلاء من الأئمة والعلماء ممن شرح الحديث؛ فإن فيهم كثرة لا يمكن حصرهم وإثباتهم. إلا أن منهم مَنْ شرح أحاديث تتعلق بالأحكام الشرعية عند ذكرهم إياها في معرض الاستدلال ليستنبطوا منها الأحكام المطلوبة؛ ولم يخصوا تلك الأحاديث بكتاب مفرد؛ وهؤلاء هم أئمة الفقه، كَثَّر منهم اللَّه وأرشدهم - وقد فعل. ومنهم من قصد إلى شرح كتب الأحاديث المدونة كما فعله: أبو سليمان الخطابي في شرح صحيح البخاري في كتابه الذي سماه "أعلام السُّنَّة" وفي كتابه الذي سماه ¬

_ (¬1) قال المصنف في ترة كتاب النهاية (1/ 6): صنف -ابن قتيبة- كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار حذا فيه حذو أبي عبيد، ولم يودعه شيئًا من الأحاديث المودعة في كتاب أي عبيد إلا ما دعت إليه حاجة من زيادة شرح وبيان أو استدراك أو اعتراض؛ فجاء كتابه مثل كتاب أبي عبيد أو أكبر منه. (¬2) في الأصل [علم] وهو تحريف والسياق غير مستقيم والجادة ما أثبتناه، وهو موافق لما سطره المصنف في ديباجة كتابه "النهاية". (¬3) انظر مقدمة المصنف لكتابه "النهاية" فقد أشبع القول هناك في بيان هذه المسألة ولولا الإطالة لنقلت كلامه كاملًا فهو نفيس.

"معالم السنن في شرح سنن أبي دواد السجستاني" وكما فعله الفقيه أبو عبد الله: محمد بن علي المازري في كتابه "المعلم في شرح صحيح مسلم" وكما فعله: أبوعمر: يوسف بن عبد البر في شرح كتاب الموطأ في كتابه الذي سماه "التمهيد". وغير هؤلاء ممن تصدى لشرح كتب الحديث المدونة؛ فإن فيهم كثرة، إلا إنهم دون القسم الأول في الكثرة. ومنهم جماعة أخرى قصدوا إلى تدوين أحاديث تتعلق بالأحكام وغيرها وشرحوها على نحو ما اختاروه من أنواع الشروح مثل الإمام: أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب "السنن الكبير" (¬1) له، وكتاب "السنن والآثار" له. ومثل الإمام: أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي الفراء في كتاب "شرح السنة" له، وغيرهما من الأئمة؛ إلا أن هؤلاء دون القسم الثاني في الكثرة. ومن عدا هؤلاء من العلماء فإن أغراضهم ومقاصدهم في تأليفاتهم لا تقف عند حدٍّ ولا تنتهي إلى حصر بحسب ما يعرض لهم من الخواطر الداعية إلى التصنيف إلا أني لم أرَ فيما وقفت عليه أو سمعته أو بلغني أن أحدًا تصدّى لشرح: "مسنْد الشافعي" -رحمة اللَّه عليه- الذي يرويه عنه الربيع بن سليمان المرادي، وقد جمعه: أبو العباس محمد بن يعقوب الأصمّ، وهو كتاب مشهور بينْ العلماء، مروي ثابت الإسناد متصل الطريق، ولقد عجبت من غُفُول العلماء وذهول الفقهاء عن اغتنام هذه الفضيلة وانتهاز هذه المنقبة والمسابقة إليها؛ اللهم إلا أن يكون قد شرح ولم يصل إلىّ ولا بلغني، وإن ما لم أقف عليه ولا سمعت به من تصانيف العلماء وكتب الفضلاء لكثير لا يمكن حصره، هذا مع كون هذا المسند من أعلى المسانيد قدرًا وأبعدها ذكرًا، وصاَحبه أشرف العلماء وأجلهم، واحد الأئمة المجتهدين -بل واحدهم. وحيث لم أقف له على شرح إلا ما قصد إليه الإمام أبو بكر البيهقي في كتاب "السنن والآثار" من تدوين أحاديث الشافعي ¬

_ (¬1) وهو المطبوع بعنوان (السنن الكبرى) والصواب في تسميته ما ذكره المصنف وكذا ذكر الذهبي في السير في ترجمة البيهقي، وهذا هو المثبت على لوحة بعض مخطوطات الكتاب.

التي تضمنها هذا المسند، والتي جاءت في غيره من كتبه في الفقه وغيرها؛ فإنه- وإن كان قد جمعها وتكلم عليها -فإنه لم يقصد في كتابه قصد الشارحين، وإنما تكلم على بعضها من جهة الإسناد وعلى بعضها من جهة الفقه. ولقد أحسن -رحمه اللَّه- فيما قصد إليه، فإنه أتى بكل حسنة، ونبه على كل فضيلة. فناجَتني نفسي أن أنتصب لشرح هذا الكتاب شرحًا جامعًا كل ما يتعلق به من أنواع الشروح وأقسام المعاني، وتقضت الأيام وهذا العارض في النفس، ويقوى الخاطر المبارك ويشتد والهمة تنازع إليه، والرغبة تنافس عليه، وأنا أعلل النفس بما يشغلها عن مقصدها وهي لا ترعوي إلى مقالة ناصح ولا يردعها عن رأي صالح في اغتنام متجرٍ رابح، فاستخرت اللَّه -عز وجل- وشرعت في العمل بهذا الرأي الذي أرجو من اللَّه سبحانه الجزاء عليه، وإتمام النعمة علي بالنظر في الدار الآخرة إليه، إنه ولي الإجابة. وقد سميته كتاب "الشافي في شرح مسند الشافعي" وأنا أسأل كلَّ من وقف عليه من أولى الفهم والدراية وأرباب النقل والرواية, ورأي فيه خللًا أو لمَح منه زللًا أن يصلحه فإني مقر بالتقصير في هذا المقام الكبير، معترف بالعجز عن الإحاطة بهذا البحر الغزير، واللَّه الموفق للصواب في القول والعمل بمنه وكرمه. ثم لما يسر اللَّه هذا الرأي وقدره؛ نظرت في هذه الأحاديث التي اشتمل عليها المسند المذكور فرأيتها مخرجة من بعض كتب الشافعي -رحمه اللَّه- مثل كتاب "استقبال القبلة"، وكتاب "الأمالي" وكتاب "الإمامة" وكتاب "الصيام الكبير"، وكتاب "اختلاف الحديث" وكتاب "الرسالة"، وغيرها من الكتب وسيجيء تفصيل ما صنفه الشافعي من الكتب في ذكر مناقبه وفضائله مستوفاة مفصلة، وهي زائدة على الكتب المسماة في هذا المسند، وليس كتاب من كتبه إلا وهو مشحون بأحاديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة والتابعين، وأجلتُ الفكر في هذا المسند وهو ما أخرجه أبو العباس الأصم من الكتب المذكورة وجمعه، فرأيته صغير الحجم قليل الأحاديث بالنسبة إلى ما رواه الشافعي من

الأحاديث والآثار, ثم هو على قلته كثير التكرار؛ لأن الشافعي -رحمه اللَّه- كان يستدل بالأحاديث في موضع من كتابه ثم يأتي ذلك المعنى أو غيره من المعاني يدل هذا الحديث أو بعضه عليها في موضوع آخر من كتابه أو في غيره من الكتب، فيعود يستدل بذلك الحديث فيتكرر ذكره لتكرر (¬1) ذكر ذلك المعنى، إما لاختلاف الموضع أو لاشتماله على معنى آخر. وليس هذه الأحاديث المودعة في هذا المسند جميع ما رواه الشافعي ولا جميع ما استدل به على الأحكام الفقهية وغير هؤلاء الأحاديث التي وردت في جميع كتبه بل ولا جميع الأحاديث التي وردت في الكتب التي سماها أبو العباس الأصم في المسند، وذكر أنه أخرج الأحاديث منها، فلست أدري ما كان غرض الأصم -رحمه اللَّه- من اقتصاره على هذه الأحاديث التي خرجها من هذه الكتب وسماها "مسند الشافعي" ولعله قد كان له غرض لم أقف عليه فإن أغراض العلماء تختلف، ومقاصدهم -تتباين (¬2). وبالجملة فإن هذه الأحاديث التي تضمنها هذا المسند- وإن كانت قليلة العدد- فإنها من أمهات الأحاديث الفقهية، وظواهر الأدلة الشرعية. وحيث تعين الشروع فيها والتزام شرحها رأينا أقرب الطرق في ذلك إجراءها على ما هي عليه من الوضع والترتيب وأن نبتدئ بالحديث الأول من المسند ونشرحه، ثم بالثاني، ثم بالثالث، وكذلك إلى آخر كل كتاب منها ثم نتلوه بالكتاب الثاني وأحاديثه على النسق، ثم بالكتاب الثالث وهكذا إلى آخر المسند؛ ونذكر شرح كل حديث بعد ذكر متنه لكن صَدتنا عن ذلك أمور؛ الأول: أن كثيرًا من الأحاديث قد تكرر -كما ذكرنا في عدة مواضع- فإن نحن شرحنا كل حديث فيها تكرر الشرح، وإن نحن أحلنا بالشرح على ما سبق احتاج الناظر في الكتب أن يتجشم كلفة ¬

_ (¬1) في الأصل "لتكر" وهو تصحيف أو سهو من الناسخ والصواب الموافق للسياق ما أثبتناه. (¬2) وهذا يدل على نبل هذا الإمام الهمام وشدة إنصافه وإجلاله لأهل العلم ورجاله، والأنصاف عزيز.

التطلب والاعتبار لذلك الحديث في أي موضع قد جاء ثم الكتاب في نفسه كبير فيضع الغرض. الأمر الثاني: أن كثيرًا من الأحاديث قد جاء في المسند في غير موضعه من أحكام الفقه كما جاء في أحاديث كتاب "الرسالة" وكتاب "اختلاف الآحاديث"، وكتاب "اختلاف الشافعي ومالك"، وكتاب "اختلاف علي وعبد اللَّه"، وكل واحد من هذه الأحاديث المودعة في هذه الكتب المذكورة هو دليل على حكم فقهي أولى المواضع به موضع ذلك الحكم الفقهي، وإنما أورده الشافعي في هذه الكتب لبيان ما تضمنه اسم الكتاب المودع فيه. الأمر الثالث: أن أحاديث المسند مسرودة فيه على غير ترتيب ولا نسق وإنما هي مخرجة من أماكنها في كتب الشافعي ولا تكاد أحاديثها تنتظم ولا يتبع بعضها بعضًا ولا يفهم كل حديث منها لِمَ أخرجه الشافعي؟! إلا بعد نظرٍ وتدبّر وفكر في معناه، ولعل الشافعي يكون قد أخرج ذلك الحديث لمعنى ويشتمل الحديث على غيره من المعاني فيظن أنه إنما أخرجه لمعنى غير المعنى الذي أخرجه له. الأمر الرابع: أنها وإن كانت مخرجة على معاني الفقه، فإن كتب الصدر الأول من الأئمة لم تكن مرتبة مبوبة مفصلة على الوضع الذي هي كتب الفقه اليوم عليه، فإن كتب المتأخرين أحسن ترتيبًا، وأتم شيء صنعًا، وأكمل تفصيلاً. والنفوس إلى هذه الأوضاع [المتأخرة] (¬1) أميل وفي تلك أزهد. فلما كان الأمر على ذلك رأينا أن ننقل الأحايث التي في المسند إلى المواضع ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [المتأخر] والجادة ما أثبتناه.

اللائقة بها وترتيب الكتاب على ترتيب كتب الفقه المرتبة المبوبة المفصلة المتداولة بين أهل العصر لتكون الهمم لها أطلب، وفيها أرغب. ونذكر كل حديث منها في النوع والفرع والفصل والباب الذي أراده الشافعي واستدل به هو ومن فهم كلامه من أصحابه والقائلين بقوله الناقلين لمذهبه، ثم أضفنا إلى الأحاديث التي في المسند ما عرفناه مما رواه الشافعي في كتبه القديمة والجديدة ومما لم يجيء ذكره في المسند ليعلم الواقف عليها أن ما تضمنه هذا المسند بالنسبة إلى ما لم يتضمنه من الأحاديث التي رواها الشافعي قليل، هذا مع أن الذي أضفناه من هذه الأحاديث بالنسبة إلى ما لم يذكر أقل من ذلك إلا أن هذه الأحاديث المضافة إلى أحاديث المسند لم نتعرض إلى شرحها لأن الكتاب موضوع لشرح مسند الشافعي المشهور الذي جمعه أبو العباس الأصم، وإنما كان غرضنا بإضافتها ما قلناه من التنبيه على أن أحاديث المسند قليلة في حين ما رواه الشافعي - رحمه اللَّه-. فأما بيان ما قصدنا إليه من هذا الشرح فهو أنا نبدأ في أول كل حديث بأن نقول: أخبرنا الشافعي الحكاية عن الربيع بن سليمان؛ فإنه هو راوي المسند أو أكثره عن الشافعي. ولو أردنا بذلك أنفسنا لجاز؛ فإننا إذا قلنا: أخبرنا الشافعي -وقد أخبرنا عنه واحد عن واحد عن آخر إليه- فإن الشافعي يكون قد أخبرنا إذا كان قد أخبر من أخبرنا؛ ولأن اللبس في قولنا هذا منتف لتحقق المعنى ولأنا لو ذكرنا إسناد كل حديث فيما بيننا وبين الشافعي لطال من غير حاجة إليه. وقد سلك كثير من العلماء هذه الطريق ولنا في الاقتداء بهم أسوة. ثم نذكر حسن (¬1) الحديث وإن كان قد جاء من طريق أو اثنين أو ثلاث ذكرناها في موضع واحد؛ وإن كان قد تكرر الحديث في موضع آخر من المسند نقلناه إلى هذا الموضع فإذا فرغنا من المتن شهدنا للحديث بالصحة والاستحسان والغرابة ¬

_ (¬1) كذا بالأصل ولعل الصواب (متن) فصحفت.

ونحو ذلك من أنواع ما أطلق على الأحاديث ثم اعتمدنا في تصحيحه وتحقيقه على ذكر من أخرجه من الأئمة الستة الذين اشتهروا بتصحيح الأحاديث ونقلها وضبطها واشتهرت كتبهم بالصحة والسلامة من الطعن كمالك بن أنس في كتابه "الموطأ"، ومحمد بن إسماعيل البخاري في كتابه "الجامع الصحيح" ومسلم بن الحجاج النيسابوري في "صحيحه"، وأبي داود سليمان بن الأشعث السجسْتاني في "سننه"، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي في "جامعه"، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في "سننه" الذين هم أئمة الأمصار، وعلى كتبهم وقع تعويل العلماء في جميع الأقطار، فإن كانوا قد أجمعوا على تخريج الحديث ذكرناهم وذكرنا أسانيد طرقهم أو أكثرها، وألفاظ حديثهم في غالب الأمر إلا أقلها وإن كان بعضهم قد أخرجه ذكرناه دُون من لم يخرجه، فإن لم يكن واحد منهم قد أخرجه، وعرفنا من أخرجه من أئمة الحديث غير هؤلاء ذكرناه، وعضدناه بذكر روايته وإسناده حتى تثبت صحته ويترجح العمل به، فإن أصل الحديث والاحتجاج به إنما هو صحة نقله وصدق رجاله وتعديل رواته، ثم إنا بعد ذكر الأسانيد والروايات؛ نشرع في ذكر ما في الحديث مما تدعو الحاجة إلى بيانه، وجرت العادة بشرح ما يتعلق به من إسناد، ورجال، وغريب, ولغة، ونحو، وإعراب، وتصريف، واشتقاق، ومعنى، وفقه، وأصول فقه، وعلم كلام، وأصول حديث، وناسخ ومنسوخ، وتفصيل وإجمال، ورفع وإرسال، وقطع ووقف، وعموم وخصوص، وتبين وإهمال، وتحقيق وإغفال، وكشف وإبهام، وجرح وتعديل، وإفساد وتصحيح، وقديم وحديث، وما يتعلق به من علم البيان والبلاغة والفصاحة وما فيه من الحقيقة والمجاز والاستعارة والتشبيه، وبيان من قال به من الأئمة المجتهدين ومن خالف فيه، وما يتطرق إليه من وجوه الاحتمالات والتأويلات والترجيح بما يمكن من طرق الترجيحات وبيان ما يخالف من الأحاديث، تارة من جهة إسناده وكثرة رواته، وتارة من جهة تاريخه، وتارة من جهة لفظه، وتارة من جهة معْناه،

وتارة من جهة العاملين به من الخلفاء الراشدين وغيرهم، وتارة من جهة موافقته القياس، وغير ذلك من الأسباب المرجحة المقومة لصحته، وأشياء كثيرة من وجوه البيان والإيضاح وأنواع الكشف والإفصاح، فإذا فرغنا من ذلك جميعه أو مما يقع في الحديث منه جعلنا خاتمة كل حديث بيان ما ذهب إليه الشافعي -رحمه اللَّه- من الحكم الذي احتج بهذا الحديث عليه وأتبعناه بذكر من قال به من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين: ثم ذكرنا بعقب ذلك من قال بخلافه من الأئمة في ذلك الحكم، فإذا فرغنا من ذلك انتقلنا إلى الحديث الآخر وهلم جرّا إلى آخر الكتاب -إن شاء اللَّه تعالى-. وقبل أن نشرع في ذلك فلنبدأ بذكر شيء من مناقب الإمام الشافعي - رحمه اللَّه- نستدل بها على قدر ما كان عنده من العلم والنعمة التي آتاه اللَّه إياها من الدراية والفهم ولنوردها في عشرة فصول:

الفصل الأول في نسبه

الفصل الأول في نسبه هو الإمام: أبو عبد اللَّه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيْد بن عبد يزيد بن هاشم بن المُطَّلب بن عبد مناف بن قُصَيِّ بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن فزار بن معد بن عدنان القرشي المطلبيّ ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتمع معه في عبد مناف. قال أحمد بن محمد بن حميد النسابة: ولد الشافعي محمد بن إدريس هاشم بن عبد مناف ثلاث مَرَاقٍ (¬1): أم السائب، هي: الشفاء، هي: خلدة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وأم عبد يزيد، هي: الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف، وشافع الذي هو جد الشافعي لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مترعرع وأسلم أبوه السائب يوم [بدر] (¬2) وكان صاحب راية بني هاشم مع أهل مكة وأسر، وفدى نفسه ثم أسلم فقيل له: لِمَ لَمْ تسلم قبل أن تفتدي نفسك؟ فقال؛ ما كنت أحرم المسلمين طمعًا لهم (¬3). قال بعض أهل العلم بالنسب: فقد وصف ¬

_ (¬1) المروق: الخروج من شيء من غير مدخله، وامترق وامَّرق الولد من بطن أمه، وامترقت الحمامة من وكرها: خرجت. اللسان مادة: مرق. قلت: وفي تاريخ بغداد (2/ 57) وعنه المزي في تهذيبه (24/ 359) ساق الأثر بلفظ (مرار) وهو واضح لا غموض فيه. (¬2) بين المعقوفتين مثبت من تاريخ بغداد (2/ 58) وغيره، وفي الأصل وضع علامة لحق وقال: لعله فتح مكة. قلت: وهذا غير صحيح، فقد ترجم له من صنف في الصحابة وأثبتوا خلاف هذا. قال ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 142). كان السائب هذا صاحب راية بني هاشم يوم بدر مع المشركين فأسر ففدى نفسه ثم أسلم. وانظر الإصابة (3/ 23)، والتجريد للذهبي (1/ 206). (¬3) في تاريخ بغداد (طمعًا لهم فيّ) (2/ 58).

الشافعي أنه شقيق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في نسبه وشريكه في حسبه، لم ينل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - طهارة في مولده وفضيلة في آبائه إلا وهو قسيمه فيها إلى أن افترقا في عبد مناف، فزوَّج المطلب ابنه هاشمًا الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف فولدت له عبد يزيد جد الشافعي، فكان يقال له: المحض لا قذًي فيه. والشافعي كما أنه ابن عم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والشفا بنت هاشم بن عبد مناف -أخت عبْد المطلب- عمة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولما فتح رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خيبر قسم سهم ذوي القربي بين بني هاشم وبني عبد المطلب فجاء عثمان بن عفان وجبير بن مطعم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول اللَّه! هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم لِمكانك الذي جعلك اللَّه -عز وجل- منهم؛ أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا؛ وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة. فقال: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبَّك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه إحداهما بالأخرى (¬1) ". ولما تعاقدت قريش علي بني هاشم أن لا يبايعوهم ولايناكحوهم ولا يكلموهم، فلم يدخل الشِّعب مع بني هاشم أحد من إخوتهم إلا بنو المطلب حسب مسلمهم ومشركهم (¬2). ... ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في مسنده (2/ 125) بترتيب السندي، ويأتي تخريجه -إن شاء اللَّه- عما قريب في موضعه. (¬2) انظر البداية والنهاية لابن كثير (3/ 132).

الفصل الثاني في مولده وعمره ووفاته

الفصل الثاني في مولده وعمره ووفاته قال محمد بن عبْد اللَّه بن عبد الحكم: لما حملت أم الشافعي به رأت في المنام كأن "المشترى" خرج من فرجها حتى انقضّ بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم يخص علمه أهْل مصر ثم يتفرق في سائر البلدان (¬1). وقال [أبو عبيد اللَّه] (¬2): أحمد بن عبد الرحمن الوهبي: سمعت الشافعي يقول: ولدت باليمن فخافت أمي عليّ الضيعة فقالت: الحق بأهلك فتكون مثلهم فإني أخاف أن تغلب على نسبك؛ فجهزتني إلى مكة، فقدمتها وأنا يومئذ ابن عشر سنين أو شبيهًا بذلك، فصرت إلى نسيب لي وجعلت أطلب العلم فيقول لي: لا تشتغل بهذا، وأقبل على ما ينفعك. فجعلت لذتي في هذا العلم وطلبه حتى رزقني اللَّه -عز وجل- منه ما رزق. ورُوي عنه أنه قال: ولدتُ بعسقلان، فلما أتى عليّ سنتان حملتني أمي إلى مكة فكانت نُهْمتي في شيئين: في سبق الرمي وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيبُ من عشرة تسعة، وسكتَ عن العلم، قال الراوي (¬3): فقلت له: أنت واللَّه في العلم أكثر منك في الرمي. وقال محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم: ولد الشافعي بغزة سنة خمسين ومائة، ومات بمصر آخر يوم من رجب من سنة أربع ومائتين، وعاش أربعًا ¬

_ (¬1) قال الذهبي في السير (10/ 10): هذه رواية منقطعة. (¬2) ما بين المعقوفتين في الأصل [عبد اللَّه] وهو تصحيف. وأحمد بن عبد الرحمن كنيته: أبو عبيد اللَّه. ترجمه المزي في تهذيبه (1/ 387)، والسمعاني في الإنساب (5/ 619). (¬3) هو عمرو بن سوّاد. وانظر تاريخ بغداد (2/ 59).

وخمسين سنة. وقال يونس بن عبْد الأعلى: مات الشافعي سنة أربع أو خمس ومائتين وهو ابن ست وخمسين سنة. والصحيح الأول، وقال الربيع بن سليمان: ولد الشافعي يوم مات أبو حنيفة. قال الواقدي: ومات أبو حنيفة سنة خمسين ومائة. واللَّه أعلم.

الفصل الثالث في طلبه العلم

الفصل الثالث في طلبه العلم قال عبد اللَّه بن الزبير الحُمَيْدي: قال لي الشافعي: كنت يتيمًا في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي للمعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسْجد وكنت أجالس العلماء وأحفظ الحديث أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، فكنت انظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث أو المسألة وكانت لنا جرة قديمة فإذا امتلأ العظم طرَحتُه فيها. وقال الزبير بن سليمان القرشي: سمعت الشافعي يقول: طلبت هذا الأمر عن خفة ذات يد، كنت أجالس الناس وأتحفظ، ثم اشتهيت أن أدون، وكنت آخذ العظام والأكتاف فأكتب فيها حتى امتلأ في دارنا من ذلك حُبَّان (¬1). وقال الشافعي: كنت أستوهب الظهور من الديوان أكتب فيها, ولم يكن لي مال. وقال الربيع بن سليمان: قال الشافعي: قدمت على مالك وقد حفظت الموطأ ظاهرًا فقلت: إني أريد أن أسمع الموطأ منك. فقال: اطلب من يقرأ. قلت: لا؛ عليك أن تسمع قراءتي فإن سهل عليك قرأت لنفسي. قال: اطلب من يقرأ لك. فكررت عليه، فقال: اقرأ. فلما سمع قراءتي قال: اقرأ، فقرأتُ عليه حتى فرغت منه. وقال أحمد بن حنبل: قال الشافعي لنا: قرأت الموطأ على مالك لأنه كان يعجبه قراءتي. قال أحمد: لأنه كان فصيحًا. وقال الحميديّ: قال الشافعي: خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها. ¬

_ (¬1) الحُبّ: الجرة الضخمة. اللسان مادة: حب.

وقال الشافعي: أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين دينارًا ثم تدبرتها فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثًا. وقال الحميديّ: كان الشافعي رجلًا شريفًا، وكان يطلب اللغة، والعربية والفصاحة، والشعر في صغره وكان كثيرًا ما يخرج إلى البَدْوِ، فبينا هو ذات يوم في حيِّ من أحْياءِ العرب جاء إليه رجل فقال له: ما تقول في امرأة تحيض يومًا وتطهر يوما؟. فقال: ما أدري. فقال له البدوي: يا ابن أخي الفريضة أولى بك من النافلة. فقال له الشافعي: إنما أريد هذا لذاك وعليه قد عزمتُ وباللَّه التوفيق، ثم خرج إلى مالك بن أنس وكان مالك صدوقًا في حديثه وحيدًا في مجلسه فدخل الشافعي عليه فارتفع على أصحابه فهزه مالك فوجده موفورًا (¬1) من الأدب فرفعه على أصحابه، وقدمه عليهم، وقربه من نفسه. وقال الشافعي: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت "الموطأ" وأنا ابن عشر سنين. وقال الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي: كان العلم بالمدينة قد انتهى إلى الفقهاء السبعة وهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هاشم، وخارجة بن زيد بن ثابت، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق فأخذ عن هؤلاء السبعة علمهم: محمد بن شهاب الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو الزناد؛ وأخذ الشافعي علم هؤلاء الأربعة عن أصحابهم، أما الزهري فحفظ علمه عن مالك وسفيان بن عيينة وإبراهيم بن سعد ومسلم بن خالد الزنجي وعمه: محمد بن علي بن شافع. وأما يحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد فحفظ علمهم عن مالك وسفيان، وكان من فقهاء ¬

_ (¬1) في الحلية (9/ 81) بلفظ: (فنهره مالك فوجده موقرًا في الأدب).

المدينة ومحديثها محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب فلم يدركه الشافعي لكنه أخذ علمه عن صاحبيه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك وعبد اللَّه بن نافع الصائغ، وأمّا أهل مكة فانتهى العلم فيهم إلى عطاء وطاوُس ومجاهد وعمرو ابن دينار وابن أبي مليكة، فأخذ الشافعي علم عطاء من أصحاب ابن جريج ومنهم مسلم ابن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روَّاد وسعيد القداح وهؤلاء كانوا بمكة؛ ورحل إلى اليمن فأخذ عن هشام بن يوسف قاضي صنعاء، ومطرّف بن مازن وهما من كبار أصحاب ابن جريج وكان ابن جريج أخذ العلم عن عطاء نفسه، وأما طاوس ومجاهد فإن علمهما انتهى إلى ابن جريج وكان أخذ عن ابن طاوس والحسن بن مسلم بن ينّاق وإبراهيم بن ميسرة وشاركه في السماع من ابن طاوس وإبراهيم بن ميسر وسفيان بن عيينة، فأخذ الشافعي علم ابن جريج عمن قدمنا ذكره من أصحاب ابن جريج وأخذ عن ابن عيينة نفسه ما كان عنده من هذا النوع وأخذ عنه أيضًا علم عمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وبعضه أخذه عن داود بن عبد الرحمن العطار وكان ممن علت سنّه وتقدم سماعه، وأما أهل الشام فانتهي العلم فيهم إلى الأوزاعي فأخذه الشافعي عن صاحبه [عمرو بن أبي سلمة] (¬1) التِّنِّيسي وأما أهل مصر فانتهى العلم فيهم إلى الليث بن سعد فأخذه الشافعي عن جماعة من أصحابه والذي عول عليه منهم يحيى بن حسان، وأما أهل العراق فإن العلم انتهى فيهم: أما أهل الكوفة فإلى أبي إسحاق السَبيعيِّ منصور والأعمش وابن أبي خالد فأخذ علمهم عن ابن عيينة وحماد بن أسامة ووكيع، وأمّا أهل البصرة فأخذ علمهم عن ابن عُلَيَّةَ وعبد الوهاب الثقفي، فكمل للشافعي الاطلاع على علم جميع الأمصار والإشراف على حال علماء الأقطار. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين في الأصل: [عمر بن أبي مسلمة] وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه، وهو مشهور في مشايخ الشافعي وربما كان الشافعي يصرح باسمه، وأحيانًا يقول: أخبرنا الثقة. وعمرو من رجال الجماعة، ومترجم له في التهذيب.

الفصل الرابع في ذكر أسماء مشايخه ومن روى عنه منهم

الفصل الرابع في ذكر أسماء مشايخه ومن روى عنه منهم قد تقدم في الفصل الثالث طريق انتقال العلم إليه عن العلماء قبله، ونذكر في هذا الفصل أسماء مشايخه الذين روى عنهم، وهم خلق كثيرون ذكرنا منهم في هذه المقدمة جماعة اشتهر بالرواية عنهم وأكثر، وهم: إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وإبراهيم بن عبد العزيز بن أبي محذورة، وإبراهيم بن يحيى (¬1)، وإسماعيل بن إبراهيم، وإسماعيل بن جعفر، وإسماعيل بن عليَّة، وأنس بن عياض بن ضَمْرة، وأيوب ابن سُويد الرَّمليِّ، وحاتم بن إسماعيل، وحماد بن أسامة، وداود بن عبد الرحمن العطار، وسفيان بن عيينة، وسعيد بن سالم القداح، وسليمان بن عمر، وسماك بن الفضل، وسعيد بن مسلمة، وسلم بن خثيم، وعبد اللَّه بن شافع، وعبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرديِّ وعبد المجيد بن عبد العزيز، وعَطَّاف بن خالد، وهارون بن أبي سلمة، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي (¬2)، وعبد اللَّه بن الحارث بن عبد الملك المخزومي، وعبد اللَّه بن مؤمل العائِذي، وعبد اللَّه بن سعيد بن عبد الملك بن مروان: أبو صفوان، وعبد الكريم بن محمد الجرجاني، وعمر بن حبيب، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعبد الرحمن بن الحسن بن القاسم الأزرقي، وعمرو بن الهيثم، وعبد الرحمن بن أبي بكر الملُيكي، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماَجِشُون، والقاسم بن عبد اللَّه بن عمر، ومالك بن أنس، ومسلم بن خالد الزنجيّ، ومحمد بن علي بن شافع ¬

_ (¬1) كذا بالأصل وهو اختصار مخل وتحريف، وصوابه: إبراهيم بن أبي يحيى، وهو: إبراهيم بن محمد أبي يحيى الأسلمي وهو من مشايخ الشافعي الضعفاء بل: المتروكين. (¬2) في الأصل زيادة (ابن) قبل الثقفي وهي زيادة مقحمة وأظنها وقعت سهوًا من الناسخ لذا لم أثبتها بالأصل.

عمه، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك، ومروان بن معاوية، ومطرف بن مازن، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن عمر الواقدي، ومحمد بن عثمان بن صفوان الجُمَحي، ومحمد بن خالد الجنْدي، ومحمد بن عبد اللَّه، وهشام بن يوسف، ويحيى بن سليم ويحيى بن حسان، ويحيى بن سليمان، ويوسف بن خالد. هؤلاء خمسون نفسًا تكررت رواياته عنهم في كتبه؛ ومن عداهم لم نطل بذكرهم. قال أبو العباس: محمد بن يعقوب الأصم: سمعت الربيع بن سليمان يقول: كان الشافعي -رحمه اللَّه- إذا قال: أخبرنا الثقة: يريد يحيى بن حسان، وإذا قال: أخبرنا من لا أتهم: يريد إبراهيم بن أبي يحيى، وإذا قال: أخبرنا بعض الناس: يريد أهل العراق، وإذا قال: بعض أصحابنا: يريد به أهل الحجاز. قال أبو عبد اللَّه الحافظ: قد أخبر الربيع عن الغالب من هذه الروايات فإن أكثر ما رواه الشافعي عن الثقة هو يحيى بن حسان، وقد قال في كتبه: أخبرنا الثقة والمراد به غير يحيى، وقد فصل لذلك تفصيلًا على غالب الظن فذكر في بعض ما قال: أخبرنا الثقة أنه أراد به إسماعيل بن علية، وفي بعضه أسامة، وفي بعضه عبد العزيز بن محمد، وفي بعضه هشام بن يوسف الصنعاني، وفي بعضه أحمد بن حنبل أو غيره من أصحابه، ولا يكاد يعرف ذلك باليقين إلا أن يكون قد أطلقه في موضع وسماه في موضع آخر. واللَّه أعلم (¬1). ¬

_ (¬1) أكثر الشافعي -رحمه اللَّه- في مصنفاته إطلاق التوثيق لبعض مشايخه من غير تعيين وهذا التوثيق عند جمهور أهل الحديث غير مقبول، ولا يرفع الراوي إلى حيِّز القبول بل يعد في طبقة المبهم. قال الخطيب البغدادي في الكفاية (373): لو قال الراوي: حدثنا الثقة، وهو يعرفه بعينه واسمه وصفته إلا أنه لم يسمه؛ لم يلزم السامع قبول ذلك الخبر لأن شيخ الراوي مجهول عنده، ووصفه إياه بالثقة غير معمول به ولا معتمد عليه في حق السامع لجواز أن يُعْرَفَ -إذا سماه الراوي- بخلاف الثقة والأمانة. =

الفصل الخامس ذكر أصحابه الذين رووا عنه

الفصل الخامس في ذكر أصحابه الذين رووا عنه أصحابه الذين أخذوا الفقه عنه ورووا الأحاديث والآثار وغير ذلك خلق كثير. وقد جمع الإِمام: أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني -رحمه اللَّه- منهم جماعة، فذكرت منهم طائفة مجردة أسماؤهم من ذكر ما رووا عنه، فإن الدراقطني ذكر لكل منهم حديثًا أو أثرًا رواه عنه، وقد رتبهم على حروف المعجم، ومنهم: أحمد بن محمد بن حنبل، وأحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، وأحمد بن محمد بن سعيد، وأحمد بن عمرو بن السرح أبو طاهر، وأحمد بن سعيد بن بشير المصري وأحمد بن الصباح الرازي، وأحمد بن محمد بن الحجاج المروزي، وأحمد بن سنان القطان الواسطي، وأحمد بن عبد اللَّه بن قبيل المكي، وأحمد بن خالد الخلال، وأحمد بن يحيى بن الوزير المصري، وأحمد ابن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم القرشي، وأحمد بن صالح المصْري، ¬

_ = وقال ابن الصلاح في المقدمة: لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل، فإذا قال: حدثني الثقة أو نحو ذلك مقتصرًا عليه لم يكتف به فيما ذكره الخطيب الحافظ والصيرفي الفقيه وغيرهما خلافًا لمن اكتفى بذلك، وذلك لأنه قد يكون ثقة عنده وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده أو بالإجماع، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف، بل إضرابه عن تسميته مريب يوقع في القلوب فيه ترددًا التقييد والإيضاح (143). وقال الصنعاني: المانع عن قبول ما ذكر هو الإبهام المانع عن تحقيق حاله لا إنكار وجوده وعدم قبول خبر العدل فيه. فإنهم يقولون: نحن نقبل خبر العدل بأنه موجود، ونقبل خبره بأنه عدل عنده، لكنا نريد معرفة عينه من طريق غيره وشهرته لتجويز وجود جارح فيه، والحاصل أن هذه المسأله بعينها ملاقية لمسألة توثيق المبهم. توضيح الأفكار (2/ 118)، وانظر -لزامًا- "تدريب الراوي" (1/ 310). والباعث الحثيث ص80

وأحمد بن محمد بن الأموي، وأحمد بن أبي بكر، وأحمد بن أبي موسى، وإبراهيم بن خالد أبو ثور، وإبراهيم بن محمد بن العباس ابن عمه، وإبراهيم بن هرم المصري، وإبراهيم بن عبيد اللَّه الحجبيِّ، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وإسماعيل بن يحيى المزني، وإسحاق بن عيسى الطَّبَّاع، وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وإسحاق بن البهلول، وإسحاق بن صفير البصري، وإدريس بن يوسف المخزومي، وأيوب بن سويد البرمكي، وأسد بن سعيد بن عفير، وبحر بن نصر الخولاني، والحسن بن محمد الصَّبَّاح الزعفراني، والحسن بن عبد العزيز البصري، والحسن بن إدريس الخولاني، والحسن بن عثمان الزيادي، والحسين ابن علي الكرابيسي، والحسين القلاَّس الغلامي البغدادي، والحسين بن عبد السلام، والحارث بن شريح النقال البغدادي، والحارث بن مسكين القاضي، وحامد بن يحيى البلخي، وحرملة بن يحيى التجيبي، وخالد بن يزيد الرسلي، وداود بن أبي صالح، والرييع بن سليمان المرادي، والربيع بن سليمان الجيزيّ وزكريا بن يحيى المصري، وسفيان بن عيينة، وسفيان بن محمد المسعري، وسعيد بن كثير الأنصاري، وسعيد بن أسد بن موسى المصري، وسعيد بن عيسى الرعيني، وسليمان بن داود المهري، وسليمان بن عبد العزيز الزهري، وسليمان بن داود بن علي بن عبد (¬1) [.....] لم يقول لها وكيف ذلك؛ فأخبرته الخبر، فحلف أن لا يقيل مرة طويلة إلا والرحا عند رأسه تطحن، فكان إذا أراد أن يقيل جيء بالرحا تطحن عند رأسه. وحكى الحارث بن سريج قال: أراد الشافعي الخروج إلى مكة فأسلم إلى قَصَّارٍ ثيابًا ببغداد مرقعة فوقع الحريق فأحرق دكان القصار والثياب فجاء القصار ¬

_ (¬1) وقع سقط من المخطوط مقدار ورقة تقريبًا.

ومعه قوم يتحمل بهم على الشافعي في تأخيره ليدفع إليه قيمة الثياب فقال له الشافعي: قد اختلف أهل العلم في تضمين القصار، ولم أتبين أن الضمان يجب فلست أضمنك شيئًا. وقال الحارث: دخلت مع الشافعي على خادم الرشيد وهو في بيت قد فرش بالديباج، فلما وضع الشافعي برجله على العتبة أبصره، فرجع ولم يدخل؛ فقال الخادم: ادخل. فقال: لا يحل افتراش هذا، فقام الخادم متبسمًا حتى دخل بيتًا قد فرش بالأرميني، فدخل الشافعي، ثم أقبل عليه وقال: هذا حلال وذاك حرام، وهذا أحسن من ذاك وأكثر ثمنًا منه. وقال أبو ثور: خرج الشافعي إلى مكة ومعه مال -وقلَّما كان يمسك شيئًا من سماحته- فقلت له: ينبغي أن تشترى بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك من بعدك، فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال ما فعل به؛ فقال: ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها لمعرفتي بأصلها, ولكن قد بنيت بمنى مضربًا (¬1) يكون لأصحابنا إذا حجوا ينزلون فيه. وقال إبراهيم بن محمد الشافعي: ما رأيت أحسن صلاة من محمد بن إدريس الشافعي؛ وذلك أنه أخذها من مسلم ابن خالد وأصحاب ابن جريج، وأخذوا عن ابن جريج، وأخذ ابن جريج عن عطاء، وأخذ عطاء عن ابن الزبير، وأخذ ابن الزبير عن أبي بكر الصديق، وأخذ أبو بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل -عليه السلام-. ¬

_ (¬1) المضْرب: هو فسطاط الملك. انظر اللسان مادة ضرب؛ وفي الحلية جاء بلفظ: (بيتًا). وانظر الحلية (9/ 127).

وحدث عبد اللَّه بن محمد البلوي، قال: كنت أنا وعمر بن نباتة جلوسًا نتذاكر العبّاد والزهاد، فقال لي عمر: ما رأيت أورع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي؛ خرجت أنا وهو والحارث بن لبيد إلى الصفا وكان الحارث، تلميذ صالحِ المري فافتتح يقرأ وكان حسن الصوت فقرأ {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (¬1) فرأيت الشافعي قد تغير لونه، واقشعر جلده، اضطرب اضطرابًا شديدًا، وخر مغشيًّا عليه، فلما أفاق جعل يقول: أعوذ بك من مقام الكذابين وإعراض الغافلين، اللهم لك خضعت قلوب العارفين وذلت هيبة المشتاقين، إلهي هب لي جودك، وجَلِّلْني بسترك واعف عن تقصيري بكرم وجهك. قال: ثم قمنا وانصرفنا، فلما دخلت بغداد -وكان هو بالعراق- قعدت على الشط أتوضأ إذ مرَّ لي رجل فقال لي: يا غلام؛ أحسن وضوءك أحسن اللَّه إليك في الدنيا والآخرة فالتفتُّ فإذا أنا برجل يتبعه جماعة فأسرعت في وضوئي وجعلت أقفو أثره فالتفتَ إليَّ فقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: نعم؛ تعلمني مما علمك اللَّه شيئًا، فقال لي: اعلم أن من صدق اللَّه نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الرَّدى، ومن زهد في الدنيا قرت عيناه بما يرى من ثواب اللَّه غدًا، أفلا أزيدك؟ قلت: نعم بلى (¬2)، قال: من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان؛ من أمر بالمعروف وائتمر، ونهى عن المنكر وانتهى، وحافظ على حدود اللَّه تعالى، ألا أزيدك؟ قلت: بلى. قال: كن في الدنيا زاهدًا وفي الآخرة راغبًا واصدق اللَّه في جميع أمورك تنج مع الناجين، ثم مضى. فسألت عنه فقيل لي: هو الشافعي. وقال الشافعي: ما شبعت منذ [ست] (¬3) عشرة سنة لأن الشبع يثقل البدن، ويقسي القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويضعف صاحبه عن العبادة. ¬

_ (¬1) المرسلات: [35 - 36]. (¬2) كذا بالأصل، ولا يصح الجواب بنعم، ولعله تلعثم في الجواب فصوب خطأه في الثانية. (¬3) ما بين المعقوفتين مثبت من الحلية (9/ 127) وفي الأصل وضع علامة لحق فنظرنا في الهامش فرأينا الكلمة مطموسة وعليها (صح) فأثبتنا ما في الحلية ولموافقته للسياق ..

فانظر إلى حكمته في ذكر آفات الشبع ثم في جده في العبادة إذ اطَّرَحَ الشبع لأجلها، ورأس التعبد تقليل الطعام. وقال الشافعي: من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب. وقال المأمون: لقد خص اللَّه -تعالى- محمد بن إدريس الشافعي بالورع والعلم والفصاحة والأدب والصلاح والديانة، لقد سمعت أبي هارون يتوسل إلى اللَّه به- والشافعي حَيٌّ يرزق. وقال يونس بن عبد الأعلى: قال لي الشافعي: يا أبا موسى! قد أنست بالفقر حتى صرت لا أستوحش منه. وهذا باب واسع لاتتسع هذه المقدمة لاستقصائه، فإنما نذكر فيها إشارات يستدل بها على أمثالها [فإن] (¬5) الرجل كان فوق الوصف -رحمة اللَّه عليه-. ¬

_ (¬5) في الأصل "قال" والمثبت هو الصواب.

الفصل السابع في وصف العلماء له

الفصل السابع (*) في وصف العلماء له من أولى ما نذكر في هذا الفصل -مُقَدَّمًا في أوله- تأويل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا قريشًا فإن عالمها يملأ الأرض علمًا" (¬1) والحديث قد [أخرجه] (¬2) ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسبوا قريشًا فإن عالمها يملأ الأرض علمًا، اللهم إنك أذقت أولها عذابًا -أو وبالاً- فأذق آخرها نكالاً" وقد [أخرج] (2) أبو هريرة نحو دلك. قال الإمام أبو نعيم: عبد الملك بن محمد (¬3): في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "فإن عالمها يملأ الأرض علمًا" علامة بينة للمميز المنصف أن المراد بذلك رجل من علماء هذه الأمة من قريش قد كثر علمه وانتشر في البلاد، وكتبوا تآليفه كما تكتب المصاحف واستظهروا أقواله، وهذه صفة لا نعلمها أحاطت إلا بالشافعي، إذ كان كل واحد من علماء قريش من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وإن كان علمه قد ظهر وانتشر فإنه لم يبلغ مبْلغًا يقع تأويل هذه الرواية عليه إذ كان لكل واحد منهم نتف وقطع ومسألات وليس في كل بلد من بلاد الإسلام مدرس، وَمُفْتٍ، ومصنف يصنف على مذهب قريش إلا على مذهبه، ¬

_ (¬1) حديث ضعيف جدَّا، وقد خَرَّجَ العلامة الألباني -رحمه اللَّه- الحديث في الضعيفة (398) وقالا: ضعيف جدًّا. (¬2) كذا بالأصل، وهو إطلاق على خلاف الجادة. (¬3) هو الإمام الحافظ الثقة عبد الملك بن محمد بن عدي الجُرجاني الفقيه الشافعي. وراجع ترجمته من السير (14/ 541). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفصل السادس"، والله أعلم.

فعلم أنه بعينه لا غيره، وهو الذي شرح الأصول والفروع، وازدادت على مر الأيام حسنًا وبيانًا (¬1). وقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنة قال: "إن اللَّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" (¬2). قال أحمد بن حنبل -رحمه اللَّه: نظرنا فإذا في رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائة الثانية محمد بن إدريس الشافعي. وقال بلال الخواص: كنت في تيه بني إسرائيل وإذا رجل يماشيني فعجبت، ثم ألهمت أنه الخضر. فقلت: بحق الحق من أنت؟ قال: أنا أخوك الخضر. قلت: أريد أن أسألك. قال: سل. قلت: ما تقول في الشافعي؟ قال: مؤمن الأوتاد. قلت: فأحمد؟ قال: صديق. قلت: فبشر بن الحارث؟ قال: لم يخلف بعده مثله. قلت: بأي وسيلة رأيتك؟ قال: ببرك أمك (¬3). وقال مالك للشافعي: يجب أن تكون قاضيًا -وكان القضاء في ذلك الزمان أعْلى المراتب وأجلها ولا يصلح له إلا الآحاد من الناس. وقال مالك: ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى-يعني الشافعي- وكان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من الفتيا والتفسير يُسأل عنهما التفت إلى الشافعي فيقول: سلوا هذا. وروي أن ابن عيينة روى حديثًا من الرقائق فغشي على الشافعي، فقيل له: قد ¬

_ (¬1) انظر تاريخ بغداد (2/ 61). (¬2) أخرجه أبو داود وغيره وصححه الألباني -رحمه اللَّه- في الصحيحة (599). (¬3) النكارة بادية على هذا الأثر، وبلال الخواص لم أقف له على ترجمة، وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/ 187) مختصرًا لكنه جعلها رؤيا منامية.

مات؛ فقال: إن مات فقد مات أفضل أهل زمانه. وقال الحميدي: سمعت مسلم بن خالد الزنجي يقول للشافعي: أفتِ يا أبا عبْد اللَّه، فقد آن لك أن تُفْتي، وهو ابن خمس عشرة سنة. وكتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي -وهو شاب- أن يضع له كتابًا فيه معاني القرآن، ويجمع له نقول الأخبار وفيه حجة للإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة؛ فوضع له كتاب "الرسالة" وقال عبد الرحمن: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها. وقال يحيى بن سعيد القطان: إني لأدعو اللَّه للشافعي في كل صلاة. يعني لما فتح اللَّه عليه من العلم ووفَّقه للسداد فيه. وقال أيوب بن سويد الرملي -لما رأى الشافعي-: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل هذا الرجل، ما رأيت مثله قط. وكان قد رأى الأوزاعي ومالكًا والثوري. وقال الزبير بن بكار: قال لي عمي مصعب: كتبت عن فتى من بني شافع من أشعار هذيل ووقائعها وقرأ لم تر عيناي مثله. قلت: لم تر عيناك مثله؟! قال: نعم يا بنيّ لم تر عيناي مثله. وكان مصعب قد رأى مالكًا ومن عاصره من العلماء بالمدينة. قال الشافعي: كان محمد بن الحسن يقرأ عليّ جزءًا فإذا جاء أصحابه يقرأ عليهم أوراقًا، فقالوا له إذا (¬1) وكتاب خلاف أهل العراق علي وعبْد اللَّه، وكتاب سير الأوزاعي، وكتاب الغصب، وكتاب الاستحقاق، وكتاب الأقضية، وكتاب إقرار أحد الاثنين وكتاب الصلح، وكتاب قتال أهل البغي، وكتاب الأسارى والغلول، وكتاب القسامة، وكتاب الجزية، وكتاب السرقة والقطع، وكتاب الحدود، وكتاب المرتد الكبير، وكتاب المرتد الصغير, وكتاب الساحر والساحرة، وكتاب القراض، وكتاب الأيمان والنذور، وكتاب ¬

_ (¬1) وقع سقط من الخطوط بمقدار ورقة تقريبًا.

الأشربة، وكتاب الوديعة، وكتاب العُمرى، وكتاب بيع المصاحف، وكتاب خطأ الطبيب، وكتاب جناية معلم الكتاب، وكتاب جناية البيْطار والحجام، وكتاب اصطدام الفارسين والتنشين، وكتاب بلوغ الرشيد، وكتاب اختلاف الزوجين في متاع البيت، وكتاب صفة البغي، وكتاب فضائل قريش وبني هاشم والأنصار، وكتاب الوليمة وكتاب صول الفحل، وكتاب الضحايا، وكتاب البَحِيرة والسَّائبة، وكتاب قسم الصدقات، وكتاب الاعتكاف، وكتاب الشفعة، وكتاب السبق والرمي كتاب الرجعة، وكتاب اللقيط والبنوة وكتاب الحوالة والكفالة، وكتاب كراء الأرض، وكتاب التفليس، وكتاب اللقطة فهذه الكتب التي يرويها محمد بن صالح بن الحسن بن زياد، عن الربيع بن سليمان إجازة لنا بخطه. وهذا ذكر ما يفوق السحر من كتب الشافعي -رحمه اللَّه- مما يدخل في العدد: كتاب فرض الصدقة، وكتاب قسم الفيء، وكتاب القرعة، وكتاب صلاة الخوف، وكتاب الديات، وكتاب الجهاد، وكتاب جراح العمد، وكتاب الخرص، وكتاب العتق، وكتاب الأولياء، وكتاب إبطال الاستحسان، وكتاب العقول، وكتاب الرد على محمد بن الحسن، وكتاب سير الواقدي، وكتاب اختلاف مالك والشافعي، وكتاب حبل الحبلة، وكتاب قطاع الطريق. وسمعت أبا بكر بن محمد بن صالح بن الحسن بن زياد بالبصرة يقول: الذي لم يسمعه الربيع من الشافعي -رحمه اللَّه- من الكتب: كتاب الوصايا الكبير، وكتاب جماع العلم، وكتاب خلاف أهل العراق علي وعبد اللَّه، فكان الربيع يقول فيها: قال الشافعي. وزاد عبد الملك بن محمد بن عبد الوهاب الشعراني في كتب الشافعي على محمد بن صالح البغوي: كتاب درجات الخطايا، وكتاب قتل المشركين، وكتاب الإقرار بالحكم الظاهر، وكتاب مسألة الجنين، وكتاب الأجناس، وكتاب فرض اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكتاب ذبح بني

إسرائيل، وكتاب غسل الميت، وكتاب ما ينجس الماء مما يخالطه وكتاب الأمالي في الطلاق، وكتاب مختصر البويطي وكتاب وصية الشافعي. قال الربيع بن سليمان: أقام هاهنا الشافعي يعني: بمصر أربع سنين فأملى ألفًا وخمسمائة ورقة وخرج كتاب الأم ألفي ورقة، وكتاب السنن, وأشياء كثيرة كلها في أربع سنين وكان عليلًا شديد العلة -رحمة اللَّه عليه-. ما استصوبنا إيراده من مناقب الشافعي -رحمه اللَّه- وإن كانت يسيرة في جنب مناقبه وفضائله، وحيث انتهينا إلى الغرض المطلوب من ذلك، فلنشرع في ذكر مقدمة تتضمن عقودًا من أصول. الحديث مختصرة، يحتاج إلى معرفتها الراغبون في علم الحديث ممن يربأ بنفسه عن الاقتصار على مرتبة الرواية -وإن لم يطمع في إعلاء درجة الرواية. على أننا قد بسطنا القول في ذلك- وإن لم نكن استوفينا في مقدمة كتاب "جامع الأصول في أحاديث الرسول" وهاهنا نذكر على سبيل الإشارة والتنبيه على المقصد في أربعة فصول. الفصل الأول: في طريق نقل الحديث وروايته؛ وفيه سبعة فروع؛ الفرع الأول: في صفة الراوي. لراوي الحديث أوصاف وشروط لا يجوز قبول روايته دون استكمالها وهي أربعة: الإسلام والتكليف والضبط والعدالة، وقد شرط قوم العدد فلم يقبلوا إلا رواية رجلين يروي عن كلٍّ رجلان، وقال قوم: لا بد من أربعة رجال تعظيمًا لشأن الحديث، والأصل الأول؛ فلا يقبل رواية الكافر ولا الصبي؛ نعم إذا تحصل الحديث وهو صبي ورواه بالغاً قبلت روايته وأصحاب الحديث يجيزون رواية ما سمعه الصبي الصغير وإن لم يعلم عند التحمل ما سمع، وأكثرهم على أنه لا يجوز سماع من له دون خمس سنين، وأما أهل الفقه فلا يرون ذلك بل لابد من تمييز الصبي عند التحمل، ولابد من ضبط ما سمع وحفظه حتى يؤديه كما سمعه فالاعتبار بضبط اللفظ وإن لم يعرف المعنى ومنهم من اشترط المعنى

وهذا حجر يتعذر مع العمل به رواية الحديث إلا على الآحاد ولا تجوز رواية الفاسق ولا صاحب بدعة وهوى في دينه يدعو إلى هواه على أن جماعة من أئمة الحديث قد أخذوا عن جماعة من الخوارج والقدرية والغلاة وتخرج عن الأخذ عنهم آخرون. وللراوي صفات أخرى ليست شرطًا ولكنها مكملات منها: العلم والفقه، ولا يشترط ذلك، ومنها مجالسة العلماء وسماع الحديث فليس شرطًا بل تقبل رواية الأعرابي ومن لم يجالس أحدًا من أهل العلم، ومنها معرفة نسب الراوي ليست شرطًا بل تقبل رواية المجهول النسب. الفرع الثاني: في مستند الراوي وكيفية أخذه. راوي الحديث لا يخلو في تلقيه الحديث من طرق ست؛ الأولى -وهي العليا-: قراءة الشيخ في معرض الإخبار ليروي عنه، وذلك إذْن منه للراوي على أن يقول: حدثنا، وأخبرنا، وقال فلان، وسمعته يقول. وقد فرق قوم بيْن "حَدَّثنا"، "وأخبرنا" فقالوا: "حدثنا" عبارة عما سمعته من لفظ الإمام مع الناس، و"حدثني" ما سمعته وحدك و"أخبرنا" ما قُرئ على الإمام وأنت حاضر، "وأخبرني" ما قرأته على الإمام، والصحيح أنه لا فرق بينهما، وعليه الأكثر، وأما "أنبأنا" فإن أهل الحديث يطلقونه على الإجازة والمناولة دون القراءة والسماع اصطلاحًا وإلا فلا فرق بين الإنباء والإخبار.

الطريق الثانية: أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت، فهو كقوله: هذا صحيح [فتجوز الرواية] (¬1) -خلافًا لبعض الظاهرية- لأنه لو لم يكن صحيحًا لكان سكوته عليه -وهو يقرأ- وتقريره له فسقًا قادحًا في عدالته؛ وهذا إذْن من الشيخ بأن يقول الراوي: "حدثنا" "وأخبرنا" قرءاة عليه، وقال قوم: لا يجوز أن يقول فيه: "حدثنا" ويقول فيه "أخبرنا"، وأما قوله "حدثنا" "وأخبرنا" مطلقًأ ففيه خلاف ثم القراءة على الشيخ إخبار، وإليه ذهب العلماء والفقهاء ومعظم أهل الحديث فقد ذهب قوم إلى أن القراءة على الشيخ أعلى من قراءَة الشيخ وأحوط. الطريق الثالثة: سماع ما يُقْرَأ على الشيخ ويتنزل منزلة القراء عليه لكنها ينقص عنها بأن السامع [.....] (¬2) وحينئذ يقول الشيخ: حدثني فلان على أني حدثته. والثاني: أن يقول الشيخ بخلاف الخبر فإن كان قبل الرواية فلا يكون تكذيبًا بوجه وكذلك إذا لم يعلم التاريخ, وأما إن كان بعد الرواية فإن كان يحتمل التأويل بضرب ما] (1) لم يكن تكذيبًا وإن كان لا يحتمل الخبر التأويل له لما عمل به] (1) فهو مردود. والثالث: أن ينكره تاركًا فإذا [امتنع] (1) من [العمل به ففيه دليل] على أنه لو عرف صحته لما امتنع لأنه يحرم عليه مخالفته مع العلم بصحته. الفرع الثالث: في لفظ الراوي وإيراده؛ وهو خمسة أنواع. النوع الأول: في مراتب الإخبار، وهي خمس؛ المرتبة الأولى: أن يقول الصحابي: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا، وحدثني بكذا، وأخبرني بكذا وكذلك غير الصحابي من الرواة عمن رووا عنه، فهذا لا يتطرق إليه احتمال وهو الأصل في التبيلغ والإخبار. ¬

_ (¬1) من ديباجة جامع الأصول (1/ 79). (¬2) النسخة (س). (3) وقع سقط من المخطوط بمقدار ورقة تقريبًا. قال معد الكتاب للشاملة: حدث خلط في حواشي الكتاب، والأليق -والله أعلم- أن تكون حاشية (3) لهامش (2)، وقد يكون الهامش (1) المكرر بعد الهامش (2) يتبع الحاشية (2)، والعلم عند الله تعالى.

المرتبة الثانية: أن يقول الصحابي: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وحدثنا أو أخبرنا وكذلك غير الصحابي عن شيخه فهذا ظاهره النقل وليس نصًّا صريحًا إذ يقول الواحد منا: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - اعتمادًا [على] (¬1) ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه. المرتبة الثالثة: أن يقول الراوي: أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بكذا أو نهى عن كذا فهذا دون الثاني: يتطرق إليه ثلاثة احتمالات: أحدهما: في سماعه كما في قوله. والثاني: في الأمر إذ ربما يرى ما ليس بأمرٍ أمرًا. والثالث: احتمال العموم والخصوص حتى قد ظن قوم أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الأمة. المرتبة الرابعة: أن يقول الراوي: أمِرنا بكذا ونهينا عن كذا، من السنة كذا، السنة جارية بكذا، فهذا، وما أشبهه في حكم واحد، ويتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة التي تطرقت إلى المرتبة الثالثة واحتمال رابع وهو الآمر فإنه لايدري أنه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو غيره؛ فقال قوم: لا حجة فيه لأنه محتمل، وذهب الأكثرون إلى أنه لايحتمل إلا أمر اللَّه ورسوله لأنه يريد به إتيان شرع أو إقامة حجة. المرتبة الخامسة: أن يقول الراوي: كنا نفعل كذا -وغرضه تعريف أحكام الشرع- فإن ظاهره يقتضي أن جميع الصحابة فعلوا ذلك على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على وجه ظهر له ولم ينكره, لأن تعريف الحكم يقع به، فإن قال: كانوا يفعلون، وأضافه إلى زمن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فهو دليل على جواز الفعل كقول أبي سعيد الخدري: "كنا نخرج على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل.

بُرٍّ في زكاة الفطر" النوع الثاني: في نقل لفظ الحديث بالمعنى: وهو حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ، أما العالم بذلك فقد جوزه الشافعي وأبو حنيفة، ومالك، وجماهير الفقهاء، ومعظم أهل الحديث، وقال قوم: لا يجوز إلا إبدال اللفظ بما يرادفه ويساويه في المعْنى. ومدار القول في ذلك على أربعة أقسام: الأول: أن يكون الحديث محكمًا لا يحتمل التأويل بوجه، فيجوز نقله بالمعنى لأنه لا يحتمل إلا معنى واحدًا. والثاني: أن يكون الخبر ظاهر المعنى ويحتمل غير ما ظهر، ولا يجوز النقل بالمعنى إلا للفقيه العالم بطرق الاجتهاد والدين لئلاً يكسوه لفظًا آخر لا يحتمل ما احتمله اللفظ الأول. والثالث: أن يكون الخبر مشتركًا أو مشكلًا، فلا يجوز النقل بالمعنى على جهة التأويل لأنه لا يتوقف على معناه إلا بنوع تأويل، وتأويل الراوي لا يكون حجة على غيره فإنه يكون ضربًا من القياس. والرابع: أن يكون الخبر مجملًا فلا يتصور نقله بالمعنى لأنه لا يوقف على معناه، وما لا يوقف على معناه فلا يتصور نقله بمعناه فيكون الامتناع بذاته لا بدليل يمتنع الناقل عنه. والقول الجامع: أن اللفظ إذا كان مما يجب نقله للعمل بمعناه فوقف على معناه حقيقة ثم أدى بلفظ آخر بغير خلل فيه سقط اعتبار اللفظ، فالنقل باللفظ عزيمة، وبالمعنى رخصة في بعض الأخبار -على التفصيل المذكور-. النوع الثالث: رواية بعض الحديث وهي ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى، ومن جوز ذلك جوز هذا إن كان قد رواه مرة بتمامه ولم يتعلق

المتروك بالمذكور تعلقًا يغير معنى، فأما إذا تعلق به تعلقًا يغير المعنى فلا يجوز لأنه يكون تحريفًا وتلبيسًا، والمقصد الأعظم من ذكر الحديث إنما هو الاستدلال به على الحكم الشرعي فإذا ذكر من الحديث ما هو دليل على ذلك الحكم المستخرج منه فقد حصل الغرض لكن يبقى الأدب بالمحافظة على ألفاظ الرسول -صلوات اللَّه وسلامه عليه- وإيرادها كما ذكرها، والأولوية درجة وراء الجواز. النوع الرابع: انفراد الثقة بالزيادة. [إذا] (¬1) انفرد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة، فإنما تُقْبَل عند الأكثر سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ أو من حيث المعنى، لأنه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ قبل وكذلك الزيادة (¬2). النوع الخامس: الإضافة إلى الحديث ما ليس منه. وهو أن يذكر الراوي في الحديث زيادة من قوله -إلا أنه لا تتبين تلك الزيادة أنها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قوله-فتبقى مجهولة- وأهل الحديث يسمون هذا النوع "الُمدْرَج" أي أنه أدرج كلامه مع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يميز بينهما، فيظن أن الجميع لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك بخلاف النوع الثالث فإن الزيادة التي يزيدها الراوي فيه تبين أنها من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. الفرع الرابع: في المسند والإسناد، والمسند من الحديث هو أن يروي الحديث واحد عن واحدٍ رآه وسمع منه أو عليه قراءةً أو إجازةً أو مناولة، وله رواية متصلة إلى من رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع منه، وللإسناد أَوْضَاع واصطلاح وشرائط فمنها أن لا يكون في الإسناد أُخْبرت عن فلان، ولا حُدِّثت، ولا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين طمس بالأصل والمثبت من جامع الأصول (1/ 103). (¬2) وفي المسألة تفصيل، فالزيادة لاتقبل مطلقًا ولا ترد مطلقًا, ولكن تقبل بقرائن وترد بقرائن، وليس الموضع موضع بسط لذلك فيرجع فيها إلى كتب أصول الحديث.

بلغني، ولا رفعه فلان، ولا أظنه مرفوعًا، ومن الإسناد أن [يقول] (¬1) الصحابي أمرنا بكذا وكنا نفعل كذا، وكنا نقول ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فينا كذا. ومن السنة كذا فإذا جاء هذا عن صحابي مشهور فهو مسند. من المسندات المعنعن: وهو أن يقول أحد الرواة: حدثنا فلان، عن فلان ولا يذكرون طرقًا بحدثنا وأخبرنا وسمعنا، وهذا إذا كان رواته ثقات مشهورين بالصدق لا ينسب إليهم التدليس؛ فسواء ذكروا [طريق] (¬2) سماعهم أو لم يذكروه؛ فإن حديثهم مقبول معمول به، فإنْ كان أحد رواته متهمًا بالتدليس فيحتاج أن يذكر طريق سماعه حتى يكون مسندًا. ومن المسندات نوع يسمى: المسلسل، وهو اصطلاح بين المحدثين مثل أن يشترك رواة الحديث جميعهم عند السماع في قول أو فعل أو حالة أو مكان ونحو ذلك من زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر رواته مثل المصافحة والأخذ باللحية يقول: حدثني فلان وصافحني قال: حدثني فلان وصافحني قال: حدثني فلان وصافحني وكذلك وكذلك إلى أول الإسناد. والإسناد في الحديث هو الأصل، وبه يعرف صحة الحديث من سقمه، وفيه عال ونازل، فطلب العالي سنة؛ ومن العالي ما هو بقلة العدد، ومنه ما هو بثقة الرواة ومنه ما هو بفقه الرواة، ومنه ما هو باشتهار الرواة، ومنه ما يجمع هذه الأوصاف أو أكثرها -وهو أكملها- وقد اختلف في أعلى هذه المراتب لكن الأولى أن يكون أعلاها ما اجتمع فيه هذه الأوصاف، ثم ما كان في طريقة الفقهاء ثم الثقات ثم المشهورون ثم العدد إذا عري من هذه الأوصاف. الفرع الخامس: في المرسل: وهو أن يؤدي الراوي حديثًا عمن لم يعاصره، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [يقوله] وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه، وكذا جاء في جامع الأصول (1/ 107) (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [طرق] واثبت من جامع الأصول (1/ 108) وهو الأقرب.

وله بين المحدثين اصطلاح في تسمية أنواعه؛ فمنه المرسل المطلق وهو أن يقول الشافعي: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا يكون مرسلًا مطلقًا ما لم يرسله التابعي خاصة ومنه قسم [] (¬1). ¬

_ (¬1) وقع بعد هذا الموضع سقط في المخطوط وقد شرع المصنف في شرح الأحاديث فتنبه.

الباب الأول في المياه

وليس بالقوي لأنه لم يجئ إلا قليلًا، قالوا في قرأت قريت، فالوُضوء بالضم الفعل نفسه، وقيل: إنه مصدر، وبالفتح الماء الذي يُتَوَضَّأُ به، وقيل: هو مصدر أيضًا وقيل: هما لغتان بمعنى واحد. فأما توضأت فمصدره الحقيقي الجاري على القياس التوضّؤ مثل تكفَّأَ تكفُّؤ وتلكَّأَ تَلَكُّؤ، والأحسن في الوضوء أن يكون اسمًا للمصدر، لا مصدرًا؛ لأن فعولًا لم يجئ مصدرًا إلا لفَعَلَ يفعُل، وفَعَلَ يفعِلُ نحو شكر يشكر شكورًا, وجلس يجلس جلوسًا، والفعل المستعمل في الوضوء إنما هو توضأت ولم يرد فيه وضأت مثل جلست وشكرت؛ لكنهم قالوا: وضؤ الرجل إذا صار وَضِيًّا أي حسنًا نظيفًا, ولم يرد في مصادر فعُل بالضم فعول؛ اللهم إلا أن يقال: إنه مصدر فِعل مرفوض الاستعمال، وله في العربية نظائر، هذا معنى الوضوء في اللغة. وهو في الشرع: عبارة عن استعمال الماء الطهور على أعضاء مخصوصة، بنية مخصوصة، مقرونًا بنية منعقدة في القلب دالة على رفع الحدث أو استباحة الصلاة وغير ذلك، وهذه النية شرط في صحة الوضوء عند الشافعي -رحمه اللَّه. والهمزة في قوله: "أنتوضأ" همزة استفهام دخلت على فاء العطف التي عطفت الجملة على الجملة، ولولا الفاء لكان الكلام غير ملتبس بالأول؛ وإنما هي التي جمعت بين الأول والثاني، وجعلت الوضوء مترتبًا على الحمل، فكأن الكلام كان في الأول نحمل فنتوضأ، فلما أن أراد أن يستفهم عن جواز الوضوء بماء البحر أدخل همزة الاستفهام عليه، والباء في قوله "بماء البحر" يجوز أن تكون للإطلاق والتسبيب كما تقول: ضربت بالسيف، وكتبت بالقلم؛ أيْ توضأت بالماء كأنه آلة حصلت النظافة والطهارة بها. ويجوز أن تكون الباء للملابسة والمخالطة كقوله تعالى:

{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬1) -فيمن قرأ بفتح التاء- تنبت ملتبسة ومختلطة بالدهن، وكذلك هذا توضأ ملتبسًا بالماء ومخالطًا له. والأول أقوى لأن الوضوء على الحقيقة إنما جعل بالماء وحده مع النية عند من اشترطها. وقولى: "بماء البحر" مطلقًا يحتمل ظاهر إطلاقه أن الوضوء يجوز بجميع ماء البحر وأن يكون ببعضه -وهو المراد- كما تقول: شربت ماء النهر، يجوز في إطلاق هذا اللفظ الأمران ولكن الفرض البعض لا الكل، وقد قال الفقهاء: إذا حلف: ليشْربنَّ ماء البحر أنه يجزئه أن يشرب منه أقل ما يطلق عليه اسم المائية ولا يكلف شرب جميعه، وقيل في وجه: إنه يحنث في الحالات لأن شرب جميعه يلزمه بمقتضى يمينه؛ وذلك محال على أن لِباب الأيمان حكمًا لا يعم غيره إذ مبناه على العُرْف، وقوله في الرواية الأخرى "أفنتوضأ من ماء البحر" ظاهر لا يحتاج إلى تخصيص لأنه جاء بلفظة "من" التي هي للتبعيض وهي تفيد الغرض المطلوب من الرواية الأولى في أحد مدلولي الباء. وقولى: "الطَّهور"، بفتح الطاء هو البالغ في الطهارة، وهي التنزه عن الأدناس والنجاسات، يقال: طَهُور وطَهُرَ يَطْهُرُ طَهَارَةً فيها فهو طاهر، وتَطَهَّرَ يَتَطَهَّرُ تَطَهُّرًا، والاسم الطَّهُور، والماء الطاهر له وصفان؛ أحدهما: طاهر غير مطهر، والثاني: طهور. فالطاهر هو الذي ليس بنجس ويدخل فيه المستعمل في رفع الحدث؛ وهذا الماء لا يرفع به الحدث ولاتزال به النجاسة ولكن يجوز شربه والطبخ به وحمله في الصلاة ولا يغسل به الثوب ولا البدن لأنه طاهر (¬2)، وأما الطهور فهو الذي ¬

_ (¬1) المؤمنون: (20). (¬2) وفي المسألة خلاف طويل بين أهل العلم. قال ابن قدامة: ظاهر المذهب أن المستعمل في رفع الحدث طاهر غير مطهر لا ورفع حدثًا =

يصح به رفع الحدث وإزالة النجاسة، وفَعُول -بفتح الفاء- إذا كان اسم فاعل فهو من أبنية المبالغة نحو: أكول، وشروب، وقتول لمن يكثر منه الأكل والشرب والقتل وذلك أكثر من: آكل وشارب وقاتل، فإن لم يكن اسم فاعل فهو من الأسماء التي تستعمل نحو السَّحور والفطور لما يتسحر به ويفطر عليه. قال اللَّه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬1) أي مطهرًا، وقد خالف قوم من أهل اللغة فقالوا: الطهور هو الطاهر وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني، وقوم من أصحاب أبي حنيفة رحمه اللَّه -واعتلوا بأن العرب لا تفرق بين فاعل وفعول في التعدي واللزوم مثل قاعد وقعود وضارب ضروب تعدي فاعله تعدي فعوله، والطاهر غير مُتَعَدٍّ وطهور كذلك، والأكثرون على خلاف هذا القول- كما قدمناه. وأما "الحِل" -بكسر الحاء- فهو الحلال ضد الحرام، يقال: حَلَّ الشيء يَحِلُّ حلالًا وَحِلًّا فهو حلٌ أي طلق. "والميتة" تأنيث للميت تقول: مات يموت موتًا فهو مَيّت ومَيْت ومائت، وأصل مَيت: مَيُوت، ثم أدغم، ثم إنهم حققوه فقالوا: ميت يستوى فيه المذكر والمؤنث، قال اللَّه تعالى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} (¬2) ولم يَقُل ميتة، فأما المَيْتة التي في الحديث فهي اسم لكل حيوان زهقت روحه بغير الذبح الشرعي، وهي مفتوحة الميم، وبعض من لا عِلْمَ عنده يكسرها وهو خطأ؛ فإن الميتة -بالكسر- هي حالة الميت نحو ¬

_ = ولا يزيل نجسًا وبه قال الليث، والأوزاعي وهو المشهور عن أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك، وظاهر مذهب الشافعي. وعن أحمد رواية أخرى أنه طاهر مطهر، وبه قال الحسن وعطاء والنخعي والزهري ومكحول وأهل الظاهر والرواية الثانية لمالك، والقول الثاني للشافعي. المغني (1/ 18)، وانظر المجموع (9/ 149). (¬1) الفرقان: 48 (¬2) الفرقان: [49].

الجِلْسة والرِّكْبة، وفي جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السائل بقوله: "هو الطهور ماؤه الحل ... " بلاغة معروفة من كلامه وفصاحةٍ خاصةٍ بألفاظه، فإنه لو قال له في الجواب: نعم. لم يحصل للسائل غرضه لكنه - صلى الله عليه وسلم - عدل عن هذا الجواب إلى الجواب الذي أتى بالغرض على أكمل وجه مقرونًا بعلة الجواز وهي الطهورية المتناهية في مائه، ثم إنه قدم الطهارة على الماء فقال: "هو الطهور ماؤه" ولم يقل: ماؤه الطهور؛ لأنه في هذا المقام أشد عناية بذكر الوصف الذي اتصف به الماء وجاز الوضوء به وهو الطهورية دون ذكر الماء، فقدم في الذكر الأهم عنده والأحوج إليه. فانظر إلى ما في هذا الجواب السديد من الفائدة التي في قوله: "نعم" هذا إلى ما كان يجوز أن يُحْمل لفظة "نعم" عليه من أن ذلك إنما أجازه رخصة لهذا السائل ولمن كان في حاله ممن معه القليل من الماء وأنه مع كثرة الماء لا يجوز الوضوء به، وهذا الاحتمال من النبي - صلى الله عليه وسلم - منتف بذكر العلة في جواز الوضوء به وهي (¬1) وأن ذلك وصف لازم له سواء قل الماء مع المسافرين فيه أو كثر، ثم [...] (¬2) - صلى الله عليه وسلم - لما أجاب السائل عن سؤاله أضاف إليه جوابًا على شيء ولم يسأله عنه فقال - صلى الله عليه وسلم -: "الحل ميتته" لأنه لما سأله عن ماء البحر فأجابه رأى من المصلحة لهذا السائل أن يعرفه لهم في طعام البحر لعلمه أنهم قد يعرض لهم إذا ركبوا البحر قلة الزاد كما أعوزهم الماء العذب، فلما جمعتهم الحاجة إليهما جمع الجواب عنهما وأبان عن الحكم فيهما, ولأن علم طهارة ماء البحر أمر ظاهر عند الأكثرين وعلم حال ميتة البحر وكونها حلالًا مشكل في الأصل؛ فلما رأى السائل جاهلًا بأظهر الأمرين، علم أن أخفاهما بالبيان أولاهما, ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أعلمهم بطهارة ماء البحر، وقد علم أن في البحر حيوانًا قد يموت فيه، -والميتة نجس- احتاج أن يظهر أن حكم هذا النوع من الميتة حلال بخلاف سائر الميتات وألا يتوسموا أن ماءه ينجس بحلولها فيه، وفي إضافة ¬

_ (¬1) يبدو أنه وقع سقط هنا. (¬2) بياض قدر كلمتين.

النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجواب جوابًا عما لم يُسْأَل عنه دليل على جواز أمثاله من الزيادات في الأجوبة إذا كنت حال السائل كحال السائل، فإن ذلك تعريفٌ بطرق الرشاد وهداية إلى مناهج الصلاح (¬1) والمعنى الذي دل عليه قوله: "هو الطهور ماؤه" وما أشرنا إليه من الأعراض اللطفة والمقاصد الشريفة موجود في قوله "الحل ميتته" ولفظة "وهو" في قوله: "هو الطهور ماؤه" ضمير راجع إلى البحر وموضعه رَفْعٌ بالابتداء، "الطهور ماؤه" خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول الذي هو البحر، والهاء التي أضيفت إليها الماء راجعة إلى المبتدأ الأول وإن شئت قلت: هو مبتدأ والطهور بمعنى الذي طهر، وماؤه فاعل والجملة خبر المبتدأ لكنها في هذا القول من فعل وفاعل والتقدير في قوله "الحل ميتته" كذلك. وقوله: "هو الطهور ماؤه" قد جعل ذاته جميعها طاهرة، ثم فسر بقوله "ماؤه"، وكذلك جعل ذاته حِلًّا ثم فسر الحل بالميتة، وفي هذا من البلاغة مالا يخفى على العارفين بمواقع الخطاب الواقفين على حدود الفصاحة من أولى الألباب. "والأرماث" -جمع رَمث بفتح الميم- وهو الطّوفُ من الخشب يضم بعضه إلى [بعض] (¬2) فيركب في البحر والأنهار، والذي ذهبت إليه الشافعية العمل بهذا الحديث، فماء البحر عنده طاهر مطهر يزيل به النجاسة ويرفع به الحدث وقد عمل بذلك من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أبو بكر وعمر، وعلي، وابن ¬

_ (¬1) وهذا ما يسميه علماء الأصول: جواب الحكيم. قال ابن القيم -رحمه اللَّه-: يجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه، وهو من كمال نصحه وعلمه وإرشاده، ومن عاب ذلك فلقلة علمه وضيق عطنه وضعف نصحه، وقد ترجم البخاري لذلك في صحيحه فقال: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه. إعلام الموقعين (4/ 128) وقال النووى -رحمه اللَّه-: واستحب العلماء أن يزيد -أي المفتي- على ما في الرقعة ما له تعلق بها مما يحتاج إليه السائل لحديث (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) مقدمة المجموع (1/ 48) وانظر فتح الباري (1/ 279). (¬2) ليست موجودة بالأصل والسياق يقتضيها.

عباس، وأنس بن مالك، وعتبة بن عامر، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعطاء بن رباح، وطاوس، وعكرمة، ومحمد بن سيرين، والحسن البصري، وبه قال مالك بن أنس، وأهل المدينة، وأبو حنيفة، والثوري، وأهل الكوفة، والأوزاعي وأهل الشام، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام (¬1)، وقد كره الوضوء به: عبد اللَّه بن عُمر، وعبد اللَّه بن عَمرو وقالا: التيمم أعجب إلينا منه (¬2) وحُكي عن المسيب أنه قال: إذا ألجئت إليه فتوضأ منْه. ¬

_ (¬1) قال الإمام البغوي: في هذا الحديث فوائد، منها: أن التوضؤ بماء البحر يجوز مع تغير طعمه ولونه، وهو قول أكثر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعامة العلماء، وكذلك كل ما نبع من الأرض على أي لون وطعم كان، جاز الوضوء به، وكذلك ما تغير بطول المكث في المكان. شرح السنة (2/ 56) بتصرف يسير. (¬2) أخرجه بنحوه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 3)، وابن أبي شيبة (1/ 156) واللفظ لابن أبي شيبة وإسناد عبد الرزاق ضعيف، وهو عن ابن عمر وحده، وعند ابن أبي شيبة من طريقين عنهما ورجالهما ثقات لكنه قد عارضه المرفوع فلا حجة فيه. قال المباركفوري: لم يقم على الكراهة دليل صحيح، قال الزرقاني: التطهير بماء البحر حلال كما عليه جمهور السلف والخلف وما نقل عن بعضهم من عدم الأجزاء به مزيف أو مئول بأنه أراد بعدم الإجزاء على وجه الكمال عنده. تحفة الأحوذي (1/ 192).

الفصل الثاني في ماء البئر

الفصل الثاني في ماء البئر أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة، عن ابن أبي ذئب، عن الثقة عنده، عمَّن حدثه، أو عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن العدوي، عن أبي سعيد الخدري أن رجلًا سأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن بئر بُضَاعة يطرح فيها الكلاب والمحيض فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماء لا ينجسه شيء" (¬1). أخرجه في كتاب اختلاف الحديث، هذا حديث صحيح (1)، قد أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما أبو داود (¬2)، فأخرجه عن أحمد بن شعيب، وعبد العزيز بن يحيى، الحرّانيين، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سليط بن أيوب، عن عبيد اللَّه بن عبد الرحمن بن رافع الأنصاري ثم العدوى، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يقال له: إنه يُسْتَقَى لك من بئر بضاعة، وهي تلقى فيها لحوم الكلاب والمحايض وعذر الناس؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الماء طَهُور لا يُنجِّسُهُ شَيء". قال أبو داود: سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها فقلت (¬3): أكثر ما يكون فيها الماء؟ قال: إلى العانة. قلت: وإذا نقص؟ قال: دون العورة. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في التلخيص (1/ 13). وصححه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو محمد بن حزم. ونقل ابن الجوزي أن الدارقطني قال: إنه ليس بثابت وأعله ابن القطان بجهالة راويه عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه وانظر نصب الراية (1/ 113). (¬2) أبو داود (67). (¬3) في السنن: (قال).

قال أبو داود: قدّرت بئر بضاعة بردائي، مددته عليها، ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع. وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني فيه: هلُ غيَّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال: لا. ورأيت فيها ماءً متغير اللون. ولأبى داود في رواية أخرى عن محمد بن العلاء، والحسن بن علي، ومحمد سليمان الأنباري، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن رَافع بن خديج، عن أبي سعيد، فذكر الحديث. قال أبو داود: وقال بعضهم، عبد الرحمن بن رَافع. وأما الترمذي (¬1)، فأخرجه عن هنَّاد بن السرىِّ، والحسن بن علي الخلال، وغيْر واحد، عن أبي أسامة؛ بإسناد أبي داود الثاني، قال: "قيل يا رسول اللَّه أنتوضأ من بئر بضاعة، وهي يلقى فيها الحِيَض ولحوم الكلاب والنَّتْن؟ فقال: "إن الماء طَهُور، ولا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ". قال الترمذي (¬2): قد جود أبو أسامة هذا الحديث، لم يُرْوَ حديث أبي سعيد في بئر بضاعة (¬3)، في أحسن مما روى أبو أسامة. وقد روى هذا الحديث من غير وجه، عن أبي سعيد. وأما النسائي (¬4) فأخرجه عن هارون بن عبد اللَّه، عن أبي أسامة، بإسناد أبي ¬

_ (¬1) الترمذي (66)؟ (¬2) لم ينقل المصنف -رحمه اللَّه- حكم الترمذي على الحديث مع أهميته، فقد قال في صدر كلامه: هذا حديث حسن ... (¬3) كذا بالأصل ولعلها زائدة ويؤكد ذلك أنها لم ترد في كلام الترمذي من النسخة المطبوعة لجامع. (¬4) النسائي (1/ 174).

داود، والترمذي، ولفظه في رواية أخرى عن العباس بن عبد العظيم، عن عبد الملك بن [عمرو] (¬1) عن عبد العزبز بن مسلم -وكان من العابدين- عن مطرف بن طريف، عن خالد بن أبي نوف، عن سَليط، عن أبي سعيد قال: "مررتُ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ من بئر بضاعة". وفي الباب عن ابن عباس، وعائشة. فقد روى الزعفراني، عن الشافعي، أنه قال -في القديم-: أخبرنا رجل عن سليط بن أيوب [عن] (¬2) عبيد اللَّه بن عبد الرحمن العدوي، عن أبي سعيد الخدري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له، فذكر الحديث مثل رواية أبي داود. وقد اخْتُلِفَ في اسم عبد الرحمن بن رافع، فقيل: عبيد اللَّه، وقيل عبد اللَّه، واختلف في اسم أبيه أيضًا، فقيل عبد الرحمن، وقيل عبد اللَّه (¬3). "بئر بضاعة": بئر معروفة لأراضى المدينة -وقد تُكْسَرُ بَاؤُها. و"المحيض": مصدر حاضت المرأة تحيض، حيضًا، ومحيضًا، وقد استعمل المصدر في هذا الحديث، استعمال الاسم، يريد بالمحيض هاهنا: الدم. وفي رواية أبي داود: المحايض، وهي جمع محيضة، والمحيضة الخِرْقة التي تستثفر بها المرأة عند الحيض. وفي رواية الترمذي، والنسائي، الحيض، وهي جمع الحيضة -بكسر الحاء وبفتحها- فالكسر هي الحالة، والفتح هي المرة الواحدة من الحيض. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [عمر] وهو تصحيف؛ والصواب ما أثبتناه وكذا جاء في السنن. (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [بن] وهو تصحيف؛ والصحيح ما أثبتناه. (¬3) قال الحافظ في التهذيب (4/ 21): قال ابن القطان الفاسي: في هذا الرجل خمسة أقوال فذكر الثلاثة، وزاد ما ذكره البخاري عن يونس بن بكير: عبد اللَّه بن عبد الرحمن فهذا قول رابع. والخامس، قاله: محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق: عبد الرحمن بن رافع ثم قال: وكيف ما كان فهو من لا يعرف له حال، وقال ابن منده: عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن رافع مجهول، نعم صحح حديثه أحمد بن حنبل وغيره، وقد نص البخاري على أن قول من قال عبد الرحمن بن رافع وهم.

"والنتنُ": ما يستقذر من النجاسات، كالميتات ونحوها. و"العَذِر": بفتح العين، وكسر الذال، جمع عذرة، وهي الغائط، مثل كلمة وكلم ونبقة ونبق. "وَالعَانة": الشعر النابت حول الفرج من الذكر والأنثى. "والعورة" من الإنسان، كل ما يستحي منه إذا ظهر. وهو في الشرع: موضع مخصوص من بدنه، وهذا يجيء بيانه في موضعه. وفي رواية الجماعة "إن الماء طهور لاينجسه شيء" بزيادة لفظة طهور، وفيها فائدة حسنة, لأن قوله "إن الماء لا ينجسه شيء". يجوز أن يكون غير نجس, وهو غير طهور، كالماء المستعمل في الحدث، ليس بنجس, وهو مع ذلك غير طهور، فإذا قال: "طهور"، زال هذا الوهم، وبقي قوله "لا ينجسه شيء"، زيادةً في البيان، وتعريضًا بذكر ما قالوا، أنه يلقى فيها من الحِيَضِ وغيرها، أي أن هذه النجاسات لا تؤثر في هذا الماء، فذكر ذلك تأكيدًا وبيانًا. وقد يتوهم كثير من الناس إذا سمع هذا الحديث، أن هذا كان منهم عادة، وأنهم كانوا يأتون هذا الفعل قصدًا وتعمدًا، وهذا ما لا يجوز أن يُظَنَّ بذِمِّيِّ بل بوثني، فضلاً عن مسلم وصحابي، ولم يزل من عادة الناس قديمًا وحديثًا، مسلمهم وكافرهم، تنزيه المياه وصونها عن النجاسات، فكيف يظن بأهل ذلك الزمان، وهم أعلى طبقات أهل الدين، وأفضل جماعة المسلمين، والماء ببلادهم أعز، والحاجة إليه أمس، أن يكون هذا صنيعهم بالماء، وامتهانهم له؟!

وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - "من تغوط في موارد الماء ومشارعه" (¬1) (¬2) فكيف من اتخذ عيون الماء ومنابعه، رَصَدًا للأنجاس، ومُطَّرَحًا للأقذار؟ مثل هذا الظن لا يليق بهم، ولا يجوز فيهم. وإنما كان ذلك، من أجل أن هذه البئر موضعها في حَدُور من الأرض، وأن السيول كانت تكسح هذه الأقذار من الطرق والأفنية وتحملها، فربما ألقت منها فيها شيئًا، وكان الماء لكثرته فيها, يؤثر فيه وقوع شيء من هذه الأشياء ولا يغيره، فسألوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن شأنها ليعلموا حكمها في الطهارة والنجاسة، فكان من جوابه لهم أن الماء لاينجسه شيء، يريد الماء الذي صفته صفة هذه البئر، في غزارته وكثرة جمامه، لأن السؤال إنما وقع عنها بعينها فجاء الجواب عليها. ولا يخالف حديث القلتين إذا كان معلومًا أن الماء الذي في بئر بضاعة يبلغ قلتين، فأحد الحديثين يوافق الآخر ولا يناقضه والخاص يقضي على العام ويبينه، ولا ينسخه ولا ييطله (¬3). قال الشافعي: بئر بضاعة كثيرة الماء، واسعة، كان يطرح فيها من الأنجاس، ما لا يغير لها لونًا, ولا طعمًا, ولا يظهر له فيها ريح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مجيبًا: "الماء لا ينجسه شيء" يعني في الماء مثلها. واستدل على ذلك، بحديث أبي هريرة في ولوغ الكلب، لأنه لما كان الإناء الذي يلغ فيه الكلب صغيرًا في الغالب، والماء فيه قليل، أمر بغسله، حيث نجس ¬

_ (¬1) مشارع الماء: هي الفُرَض التي تشرع فيها الواردة اللسان مادة شرع. (¬2) أخرج أبو داود وغيره عن معاذ بن جبل قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "اتقوا الملاعن الثلاث: البَرَاز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل". وحسنه الألباني -رحمه اللَّه- في الإرواء (62) وله شواهد ذكرها هناك فراجعه إن شئت. (¬3) وهذا هو قول أبي سليمان الخطابي كما في المعالم (32،1 - 33).

أصليته بالولوغ. والذي ذهب إليه الشافعي، أن النجاسة إذا وقعت في الماء فغيرت لونه، أوطعمه، أوريحه، فالماء نجس, قل الماء أم كثر، وإن لم يغيره فإن كان قلتين فصاعدًا لم ينجس، وإن كان دونهما فهو نجس. وروى الفرق بين القليل والكثير، عن جماعة وإن اختلفوا في مقدارهما، منهم: ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وإسحاق، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، وأبو عبيْد، واختاره المزني. وذهبت طائفة إلى أن القليل والكثير سواء، لا ينجس إلا بالتغير، وروي ذلك عن ابن عباس، وحذيفة، وأبي هريرة، والحسن البصري، وابن المسيب، وعكرمة، وابن أبي ليلى، وجابر بن زيد، وإليه ذهب مالك، والأوزاعي، والثوري، وداود، واختاره ابن المنذر. وذهب أبو حنيفة وأصحابه؛ إلى أن كل ما تيقن وصول النجاسة إليه، أو غلب في الظن لم يجز استعماله. هذا تحقيق مذهبه، وما يحكى عنه من اعتبار الحركة، فإنها أمارة تدل على وصول النجاسة إليه، فإنه إذا بلغته الحركة بلغته النجاسة، واللَّه أعلم. قال الشافعي في القديم: أخبرنا رجل، عن أبيه، عن أمه، عن سهل بن سعد الساعدي قال: "سقيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بيدي من بئر بضاعة" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 337 - 338)، والدارقطني في سننه (1/ 32) كلاهما من طريق فضيل بن سليمان، عن محمد بن أبي يحيى، عن أمه عنه به. وتابع الفضيل حاتم بن إسماعيل بنحوه. أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 12). واختلف على محمد بن أبي يحيى. رواه حاتم بن إسماعيل أيضًا عنه عن أن أبيه -بدل أمه- عنه بنحوه، أخرجه الطبراني في الكبير (6/ 207 رقم 6026)، وأبو يعلى (7519) والبيهقي في سننه (1/ 259). قال البيهقي عقبه: هذا إسناد حسن موصول. وقال الهيثمي في المجمع (4/ 15): رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني في الكبير ورجاله ثقات. قلت: أم محمد مجهولة، والحديث مختلف في إسناده كما ترى وقد قال ابن التركماني في =

وهذا الرجل الذي روى عنه هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وقد رواه غيره، عن أن أبيه، وأبوه ثقة (¬1). ¬

_ = الجوهر النقي (1/ 258 - 259) بهامش السنن الكبير: لم نعرف حال أمه ولا اسمها بعد الكشف التام ولا ذكر لها في شيء من الكتب الستة، وقد ذكر الطبراني في "معجمه الكبير" هذا الحديث في ترجمة أبي يحيى عن سهل، فذكر بسنده عن محمد بن أبي يحيى، عن أبيه، عن سهل الحديث. فظهر أن في سنده اضطرابًا أيضًا، ومع ما تقدم كيف يكون إسناده حسنًا؟!!. (¬1) كذا قال البيهقي في المعرفة (1/ 79)، وأخرجه من وجه آخر بإسناده إلى سهل بن سعد. وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى: متروك فلا تعويل على روايته.

الفصل الثالث في الماء الدائم

الفصل الثالث في المَاءِ الدائم أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَبُولَنَّ أَحدُكُم في الماءِ الدائم ثم يغتسل منه". أخرجه في كتاب اختلاف الحديث. هذا حديث صحيح، متفق عليه، أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). أما البخاري فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزِّنَاد، عن الأعرج, عن أبي هريرة، وزاد بعد "الدائم": "أي الذي لا يجرى"، وقال: (¬6) "يغتسل فيه". وأما مسلم، فأخرجه عن زهير بن حَرب، عن جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، بلفظ الشافعي. وفي أخرى عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام ابن منبه، عن أبي هريرة نحوه. أما أبو داود، فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن زائدة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، بلفظ الشافعي. ¬

_ (¬1) البخاري (239). (¬2) مسلم (282). (¬3) أبو داود (69 , 70). (¬4) الترمذي (68) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (1/ 49) وفي الكبرى (55، 57) وأخرجه أيضًا في المجتبى من طرق أخرى (1/ 197). (¬6) لفظ الصحيح: ثم.

وفي أخرى عن مسدَّد، عن يحيى، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة نحوه، وقال: "لا يغتسل فيه من الجَنَابَة". وأما الترمذي فأخرجه عن محمود بن غَيْلان، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة وقال: "ثم يتوضأ منه". وأما النسائي: فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس عن عوف، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة. مثل الترمذي. وفي أخرى عن يعقوب بن (¬1) إبراهيم، عن إسماعيل، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ الشافعي. قال النسائي: كان يعقوب لا يحدث بهذا الحديث إلا بدينار. هذه "لا" ناهية، ومن حقها أن تجزم الفعل الواقع بعدها. وعلامة الجزم في الأفعال الصحيحة, سكون آخرها، نحو "لم يضربْ" فإن كان قبل حرف الإعراب حرف علة نحو: تقول، وتبيعُ وتخاف، حذفته لئلا يجتمع ساكنان، هما حرف العلة، وحرف الإعراب، تقول: لم يقل، ولم يبع، ولم يخف، وبقيت حركة فاء الكلمة، تدل على المحذوف، فإذا صرنا إلى قوله: "لا يبولنَّ" الأصل "لاَ يَبُل" فلما دخلت عليه نون التوكيد الثقيلة وهما نونان، الأولى منهما ساكنة، فاجتمعت مع اللام وهي ساكنة، ونون التوكيد الثقيلة، إذا دخلت على فعل الواحد لا يكون ما قبلهما إلا مبنيًّا على الفتح، فَفُتِحَتْ اللام لذلك، فلما فتحت عادت الواو المحذوفة التي هى عين الفعل، لأنها إنما حذفت لاجتماعها مع اللام وهي ساكنة، فقال "لا يبولن". "والماء الدائم" هو: الراكد الذي لايجري، ويدل على ذلك أنه جاء في رواية البخاري وغيره، مصرحًا به، فقال: "الماء الدائم الذي لا يجرى". ¬

_ (¬1) في الأصل زاد بعد (ابن): (أبي) وهي خطأ ولعلها من الناسخ.

وفي رواية الشافعي: "ثم يغتسل منه". وفي رواية البخاري وأبي داود "ثم يغتسل فيه" والفرق بينهما، أن الاغتسال منه هو: أن يأخذ منه ماءً فيغتسل به. وأما الاغتسال فيه فهو: أن يدخل في الماء ويغتسل وهو داخل فيه؛ لأن قوله "فيه" يفيد الظرفية، فجعل الماء ظرفًا له، وهذا يظهر اعتباره فيما إذا كان دون القلتين، فإنه إذا أخذ منه شيئًا فاغتسل به صح غسله، وبقيت فضلة الماء بحالها. فأما إذا دخل في الماء وغط فيه، وكان الماء دون القُلَّتَيِنْ، فإنه يطهر ويصير الماء مستعملًا، وذلك بِخلاف القُلَّتَيِنْ فإنه لا يؤثر فيه الاستعمال، نص عليه الشافعي في الأم. وقال بعض أصحابه: لا يجوز التوضؤ به وإن كان أكثر من قلتين، والأول أولى. وقوله: "يغتسل منه أو فيه" فيه ترتيب لوقوع الغسل بعد البول، وأن النَّهْيَ عن الاغتسال، إنما هو لأجل وجود البول فيه. فأما في رواية أبي داود الثانية: "ولا يغتسل فيه من الجنابة". فظاهرها لايفيد ما أفادته لفظة "ثم"، وكأن الحديث تضمن نَهْيين، أحدهما: النهي عن البول في انماء الدائم، والآخر: النهي عن الاغتسال في الماء الدائم، فيكون فائدته النهي عن دخول الماء الدائم، والاغتسال فيه، هذا مدلول اللفظ، ويكون الاغتسالُ فيه سالبًا له حُكْمَ الطهوريةِ، كما يسلبه إياها البول. ويزيد البول عليه بأنه ينجسه لنجاسته في نفسه، والجنب ليس بنجس البدن، لكن اغتساله فيه يجعله مستعملًا.

وفي رواية الترمذي، والنسائي "ثم يتوضأ منه" بدل "يغتسل"، والحكم فيهما واحد، فإن كُلًّا منهما رفع حدث. والذي ذهب إليه الشافعي، أن الماء الدائم -وهو الراكد- لا ينجس لوقوع النجاسة فيه، ما لم يتغير أو كان دون القلتين. وقد تقدم خلاف الأئمة فيه، والاعتبار بالبول في الماء الدائم عنده وعند من وافقه واعتبر القلة والكثرة. ويُحمل هذا النهى على أحد أمرين: إما على تخصيصه بالماء القليل، أو أنه على جهة الاستحباب, لأن النفس تعاف الماء إذا خالطه البول، ولو كان قُلَّتَيِنْ. وقد ذهب داود، إلى أنه إذا بال في الماء الراكد، فلم يتغير أنه لا ينجس, ولكن لا يجوز له أن يتوضأ منه، ويجوز لغيره، لأنه إذا تغوط فيه ولم يتغير لم ينجس, وأجاز له ولغيره الوضوء منه عملًا بظاهر الحديث. وفي هذا الحديث دليل على أن حكم الماء الجاري بخلاف الراكد, لأن الشيء إذا ذكر بأَخَصِّ أَوْصَافِه، كان حكم ما عداه بخلافه. والمعنى فيه: أن الماء البخاري إذا خالطه النجو (¬1) دفعه الجري الثاني، الذي يتلوه فيه فيغلبه فيصير في معنى المستهلك، ويَخْلُفُهُ الطاهر الذي يخالطه النجس, والماء الراكد لا يدفع النجس عن نفسه إذا خالطه، لكن يداخله ويقاربه فمهما أراد استعمال شيء منه، كان النجس فيه قائمًا، والماء قليل فكان مُحَرَّمًا، واللَّه أعلم. ... ¬

_ (¬1) النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط. اللسان مادة: نجا.

الفصل الرابع في القلتين

الفصل الرابع في القلتين أخبرنا الشافعي، قال أخبرنا الثقة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن عباد ابن جعفر، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قُلَّتَيْنِ لم يحمل نَجسًا أو خَبَثًا". أخرجه في كتاب اختلاف الحديث (¬1). الثقة في هذا الحديث هو: أبو أسامة حماد بن أسامة القرشي الكوفي، فإن الحديث مشهور به، وهو حديث صحيح (¬2). ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث ص 499 وأيضًا في الأم (1/ 4). (¬2) اختلفوا في صحة هذا الحديث فأعله الكثير بالاضطراب في سنده ومتنه، ورجح آخرون وقفه وصححه البعض. قال الحافظ في التلخيص (1/ 17 - 19): قال ابن منده: إسناده على شرط مسلم ومداره على الوليد بن كثير، فقيل: عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير، وقيل: عنه عن محمد بن عباد بن جعفر، وتارة عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، وتارة عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، والجواب: أن هذا ليس اضطرابًا قادحًا فإنه على تقدير أن يكون الجميع محفوظًا انتقال من ثقة إلى ثقة. قال ابن عبد البر في التمهيد: ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت من جهة الأثر. لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم، ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، وقال في الاستذكار: حديث معلول، ردّه إسماعيل القاض، وتكلم فيه؛ وقال الطحاوي: إنما لم نَقُلْ به لأن مقدار القلتين لم يثبت. وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو صحيح على طريقة الفقهاء، لأنه وإن كان مضطرب الإسناد، مختلفًا في بعض ألفاظه فإنه يجاب عنها بجواب صحيح، بأنه يمكن الجمع بين الروايات ولكني تركته لأنه لم يثبت بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعًا في تعيين مقدار القلتين. وراجع في ذلك أيضًا نصب الراية (1/ 104) وما بعده، فقد أطال النفس جدًّا في بيان طرقه. وأيضاً عون المعبود (1/ 112). =

قد أخرجه أبو داود (¬1)، والترمذي (¬2)، والنسائي (¬3). فأما أبو داود فأخرجه بن محمد بن العلاء، وعثمان بن أبي شيبة، والحسن ابن علي، وغيرهم، قالوا: حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد ابن جعفر بن الزبير، عن عبيد اللَّه (¬4) بن عبد اللَّه بن [عمر] (¬5) عن أبيه قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل الحبث". قال أبو داود هذا لفظ ابن العلاء، وقال: عثمان، والحسن عن محمد بن عباد بن جعفر، وأخرجه أيضًا عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن أسامة، وعن أبي كامل، عن يزيد بن زريع، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن جعفر، قال: أبو كامل وابن الزبير عن عبد اللَّه (¬6) بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الماء يكون في الفلاة" فذكر معناه؛ وله في أخرى عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن أسامة، عن عاصم بن المنذر، عن عبد اللَّه (6) بن عبد اللَّه بن عمر، قال: حدثني أبي أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين فإنه لا يَنْجُسُ" (¬7). ¬

_ = تنبيه: ذكر المصنف أن الثقة هنا هو أبو أسامة وهذا صحيح لكن هناك آخر رواه عنه الشافعي قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 105). ذكر ابن منده أن أبا ثور رواه عن الشافعي، عن عبد اللَّه بن الحارث المخزومي عن الوليد بن كثير. فدل روايته على أن الشافعي سمع هذا الحديث من عبد اللَّه بن الحارث وهو من الحجازيين، ومن أبي أسامة وهو كوفي جميعًا عن الوليد بن كثير. (¬1) أبو داو (63، 64، 65). (¬2) الترمذي (67). (¬3) النسائي (1/ 46). (¬4) كذا بالأصل عن (عبيد اللَّه) وفي تحفة الأشراف (5/ 471). عن (عبد اللَّه بن عبد اللَّه) مكبر الاسم، وكذا جاء في المطبوع من السنن وعون المعبود. (¬5) ما بين المعقوفتين في الأصل [عمرو] وهو تصحيف. (¬6) كذا بالأصل [عبد اللَّه] وهو غريب، فقد جاء في نسخة أبي داود بذكر (عبيد اللَّه) وراجع تحفة الأشراف (6/ 3)، وعون المعبود (64، 65). (¬7) قال أبو داود -عقبه: حماد بن زيد وقفه عن عاصم.

وأما الترمذي فأخرجه عن هناد بن السَّريّ، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عبد اللَّه (¬1) بن عبد اللَّه، عن أبيه، قال: "سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يُسْأَلُ عن الماء يكون في الفلاة من الأرض، تنوبه السباع والدواب" وذكر الحديث (¬2). وأما النسائي فأخرجه عن هناد، والحسين بن حريث، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن جعفر، عن عبد اللَّه، وذكر مثل رواية أبي داود الأولى. وهذا الحديث لم يخرجه البخاري، ومسلم، للاختلاف الذي فيه على الوليد ابن كثير، وعلى أبي أسامة. فإن الوليد، رواه عنه جماعة عن محمد بن عباد بن جعفر، ورواه آخرون عن محمد بن جعفر بن الزبير. وأما أبو أسامة، فرواه عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر مرة، وعن عبد اللَّه بن عبد اللَّه أخرى، وغير أبي أسامة فيرويه عن عبيد اللَّه، فلهذا الاختلاف تركاه، لأنه على خلاف شرطهما، لا لِطَعْنٍ في مَتْنِ الحديث، فإنه في نفسه حديث مشهور، معمول به، ورجاله ثقات مُعَدَّلُونَ، وليس هذا الاختلاف مما يوهنه، لأنه يكون قد رواه عبد اللَّه، وعبيد اللَّه، أبناء عبد اللَّه بن عمر معًا، ورواه ¬

_ (¬1) كذا بالأصل وهو خطأ والصحيح (عبيد اللَّه) كذا جاء في التحفة (6/ 3) والمصادر الأخرى. (¬2) قال الترمذي -عقبه: قال عبدة: قال محمد بن إسحاق: القلة هي الجرار، والقُلة التي يُسْتقى فيها؛ ثم قال: وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ما لم يتغير ريحه أو طعمه. وقالوا: يكون نحوًا من خَمْسِ قِرَبٍ. وفي تعليق الشيخ أحمد شاكر -رحمه اللَّه- قال: لم يتكلم الترمذي على هذا الحديث، وإنما ذكر أقوال العلماء الذنى يأخذون به، وهذا يشير إلى صحته عندهم وعنده وهو حديث صحيح، أطال العلماء القول في تعليله، لاختلاف طرقه ورواته، وليس الاختلاف فيه مما يؤثر في صحته.

محمد بن جعفر بن الزبير، ومحمد بن عباد بن جعفر معًا. وقد رواه جماعة من طرق عدة، عن عبد اللَّه، وعبيد اللَّه، وعن ابن جعفر، وابن عباد، وكان الحاكم أبو عبد اللَّه النيسابوري - رحمه اللَّه- يقول: الحديث محفوظ عنهما، وكلاهما رواه عن أبيه -يعني عبد اللَّه وعبيد اللَّه- وإليه ذهب كثير من أهل الرواية (¬1). وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: غلط أبو أسامة في عبد اللَّه، إنما هو [عبيد اللَّه] (¬2). وقد أخرج الشافعي في القديم (¬3) قال: أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن حماد ابن سلمة، عن عاصم بن المنذر، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين أوثلاثًا لم يَحْمِلْ نَجَسًا". وكذلك رواه وكيع بن الجراح، عن حماد. ويشبه أن يكون الشافعي عنه أخذه، أو عن بعض أصحابه عنه. وقوله: "أو ثلاث" شك وقع لبعض الرواة، فقد تعاضدت الروايات عن حماد بن سلمة بهذا الإسناد، وقالوا فيه: "إذا كان الماء قلتين" ولم يقولوا: "ثلاثًا". ¬

_ (¬1) انظر المستدرك (1/ 132 - 133). (¬2) ما بين المعقوفتين في الأصل (عبد اللَّه) وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه. وقد نقل البيهقي في المعرفة (1865) هذا القول عن إسحاق بن إبراهيم، وكذا ذكره الزيلعي في نصب الراية (1/ 107). (¬3) وأخرجه البيهقي في المعرفة (1876) قال: أخبرناه أبو عبد اللَّه الحافظ قال: أخبرنا أبو الوليد، قال: حدثنا الحسن بن سفيان قال: حدثنا هُدْبة وإبراهيم بن الحجاج قال: حدثنا حماد بن سلمة فذكره بإسناده.

وقد تقدمت رواية عاصم بن المنذر، فيما ذكرناه من طريق أبي داود وفيها "قلتان". وكذلك قد أخرجه الشافعي أيضًا في القديم، عن رجل، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه، إلا أنه شك في إسناده، والرجل الذي رواه عنه، هو إبراهيم بن محمد، وكل ذلك يؤكد قول إسحاق الحنظلي، واللَّه أعلم. "القُلَّة" في العربية عبارة عن إناء للعرب كالجَرِّةِ الكبيرة، وتجمع على قِلاَل، وقُلَل. قال أبو عبيد: القلال هذه الحيَابُ العظام، واحدتها قُلَّة، وهي معروفة بالحجاز. واشتقاقها مما يقله الإنسان أي يحمله، فكأنه "فُعْلَة" من أَقَلَّ الشيء يُقِلُّهُ، إذا حمله ورفعه. وقد اختلف العلماء في مقدار ما تَسَعُ القلة من الماء، قال ابن جريج: رأيت قلال هَجَر، فإذا القلة تَسَعُ قربتن وشيئًا. قال الشافعي: أرى أن يكون الشيء المضاف إلى القربتين نصفًا. وقال الشافعي: وَقِرَبُ الحجاز قديمًا، وحديثًا، كبار [لحجز] (¬1) الماء بها، تسع القربة منها مائة رطل بالعراقي، فإذا كان الماء خمس قرب كبار لم يحمل خبثًا، وذلك قلتان بقلال هجر، فيكون مقدار القلتن على هذا التقدير خمس مائة رطل. وحُكِيَ عن أحمد بن حنبل قولان؛ أحدهما: أن القلتين أربع قرب. والثاني: أنها خمس قرب ولم يعين بأي قربة. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين لم تظهر في الأصل بوضوح، والمثبت من المعرفة للبيهقي (1/ 90) وهو الموافق لرسم الأصل.

وقال إسحاق بن راهويه: أما الذي يعتمد عليه إذا كان الماء قلتين، فنحو ست قِرَبٍ؛ لأن القلة نحو الخابية. وقال أبو ثور: القلتان خمس قرب، ليس بأكبر القرب ولا بأصغرها. وأما أبو عبيد: فلم يجعل لها حدًّا. وقال عبد الرحمن بن مهدي، ووكيع، ويحيى بن آدم: القُلَّة: الجَرَّة ولم يحدوها بشيء معلوم. والذي يقتضيه الوضع اللغوي، ما قدمناه، وهو أن تكون محمولة على أصل اشتقاقها وهو: ما يُقِلُّةُ الإنسان أي يحمله ويطيقه، والذي جرت العادة أن يحمله الإنسان غالبًا وفي الأكثر: مائتا رطلٍ، وأكثره مائتان وخمسون رطلاً، وهو ما حَدَّه الشافعي. وقد اختلف أصحابه، هل هو تحديد أو تقريب؟. فذهب بعضهم إلى أنه تقريب، فلو نقص منها شيء يسير لم ينجس الماء. وقال بعضهم: بل هو تحديد، فلو نقص الماء نجس. "وهَجَرُ" التي تنسب إليها القلال، موضع قريب من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وليس هجر قصبة البحرين، وإنما نسبت القلال إلى هذا الموضع وإن كان عملها بالمدينة لأن ابتداء عملها كان بِهجر، ثم نُقِلَ إلى المدينة. والظاهر من لفظ الحديث، أن المراد بالقلة، نحو ما ذهب إليه الشافعي من التحديد، لأنهم إنما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الماء الذي يكون بالفلاة من الأرض، في المصانع، والوهاد والغدران، ونحوها، ومثل هذه المياه لا تُحَدُّ بالكوز والكوزين في جاري العرف، والعادة، وأن الكوز يسمى أيضًا قلة، وليس مُرادًا في هذا الحديث.

قال الخطابي -أبو سليمان رحمه اللَّه-: وقلال هجر مشهورة الصنيعة، معلومة المقدار، لا تختلف المكائل، وهي أكبر ما يكون من القلال وأشهرها، والحد لا يقع بشيء مجهول المقدار، ولو لم تكن عندهم معلومة لما حَدَّها بها، ولذلك قال: "قلتان" بلفظ التثنية، ولو كان وراءها قلة أكبر منها, لأشكلت دلالته فلما ثنَّاها دل على أنه أراد أكبر القلال، وأشهرها, لأن لا بد لها من فائدة (¬1). و"الخبث": من الخبيث؛ ضد الطيب، وقد خَبُثَ الشيء يَخْبُثُ خَبَاثَةً، وخبث الرجل خُبْثًا فهو خبيث، أي خبث رديء؛ هذا هو الأصل، ثم نقل إلى النجس, ولذلك أطلق على النَّجْو. والمراد "بالخبث" في الحديث: "النَّجَس"، ويعضده أنه قال: نَجَسًا أو خُبْثًا، والنجس ضد الطاهر. وهو: كل ما استقذر في نفسه عرفًا، أو قَرَنَ الشارعُ به هذا الوَصْفَ حُكْمًا، تقول نَجِسَ الشىء -بالكسر- يَنْجَس -بالفتح- نَجَسًا، فهو نَجِسٌ ونَجَسٌ. "والفلاة": المفازة والبرية الواسعة، والجمع: الفلا والفلوات. وقوله "تنوبه" أي تتردَّدُ إليه وتطرقه مرة بعد مرة، يقال: انتاب فلان القوم أي أتاهم مرة بعد أخرى. ونابهم، ينوبهم، نوبة، والجمع نوب. "والدواب": جمع دابة وهو كل ما دب على الأرض من الحيوانات، والإنسان، والوحش، والطير، والحشرات داخلة فيه، إلا أن العرف والاستعمال خَصَّصا هذه اللفظة بما يُرْكَبُ. "والسباعُ" جمع سَبُعٍ وهو: كل ماله ناب كالأسد، والكلب. ¬

_ (¬1) معالم السنن (1/ 31).

وإنما ذكر السباع بعد قوله "الدواب" لأنه لما ذكر الأهم وهو الدواب، وكان العرف قد خصص الدواب بالمركوب، أتبعه ذكر السباع، لئلا يُظَنَّ أن السؤال إنما كان عن الدواب المركوبة خاصة -دون السباع؛ فزادها بذلك بيانًا وإيضاحًا, ولأن السائل إذا سأل عن الدواب- ولعل أكثرها حلال وسؤرها طاهر -فبالأولى أن يسأل عن السباع التي هي حرام، وسؤرها مجهول الحكم عنده، فلذلك خَصَّ بعد أن عَمَّ. وكذلك في الرواية الأخرى، التي قَدَّمَ فيها السباع على الدواب، أنه لما ذكر الخاص، أتبعه ذكر العام لتحصل المسألة عن الأمرين، ويسمع الجواب عنهما، لأن الدواب قد صارت خاصة في العرف -كما قدمنا. قلنا: وأما معنى قوله: "لم يحمل خبثا" فإنه أراد أن الماء إذا كان قلتين، دفع الخبث عن نفسه، كما يقال: فلان لايحمل الضيم، إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه. وقيل: أراد به إذا كان قلتين، لم يحتمل أن يكون فيه نجاسة لأنه ينجس بوقوع الخبث فيه، أي أنه يضعف عن حمل النجاسة، فيكون على الأول؛ قد قصد أوَّل مقادير المياه التي لا ينجس بوقوع النجاسة فيها، وهو ما بلغ القلتين فصاعدًا، وعلى الوجه الثاني: يكون قد قصد آخر المياه، التي ينجس بوقوع النجاسة فيها، وهو ما انتهى في القِلَّةِ إلى القلتين. فيكون التقدير على هذا القول الثاني: إذا وقعت النجاسة فيهما أنهما نجستان، فإذا زادتا على القلتن احتملتا النجاسة، وهذا على خلاف ما ذهب إليه القائلون بالقُلَّتن، لأن مذهبهم أن الماء إذا بلغ قلتين دفع النجاسة عن نفسه، ولم ينل بوقوعها فيه، على التفصيل الذي يأتي بيانه آنفا (¬1). ولأنه لو كان للتأويل الثاني وجه في الصحة، لم يكن إذًا فَرْقٌ بين ما بلغ من ¬

_ (¬1) كذا بالأصل والسياق غير مستقيم ولعله (أتى بيانه آنفًا).

الماء قلتين، وبين ما لم يبلغهما، وإنما ورد هذا الحديث للفصل والتحديد بين المقدار يَنْجُسُ والذي لا يَنْجُسُ. ويؤكد ذلك ما جاء في إحدى روايات أبي داود أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإنه لا ينجس". وأما جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل بقوله: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثًا". ففيه نوع مما ذكره في جوابه عن ماء البحر من البلاغة والفائدة, لأنه ذكر الجواب مُعَلَّلاً بذكر السبب المانع من نجاسته وهو: بلوغ القلتين وتَحَدُّدُ الحَدِّ ظاهر عند السائل لايحتاج مع سماعه إلى استفسار وإيضاح، وهو معرفة مقدار القلة، ولو لم تكن عند ظاهرة معروفة لم يحده بها, ولو أنه أجابه فقال إنه طاهر، وأنه ليس بنجس, لكان قد حصل غرض السائل، ولكنه عدل عنه إلى هذا الجواب المعلل المحدد، لما فيه من زيادة البيان، وتأكيد الإيضاح، ولأنه لو لم يحده بذلك، لكان الكثير والقليل في الحكم سواء، وذلك في محل الإبهام، حيث كان الحكم عنده التحديد في القِلَّةِ بالقُلَّتَيِنْ. والذي ذهب إليه الشافعي. والعمل بالقلتين المحددتين بما سبق، من ذكر قوله: وأنه متى وقَعَ في الماء الراكد الذي هو: خمس مائة رطل بالعراقي فصاعدًا نجاسةٌ فلم تغير طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، فإنه طاهر طهور -يَرْفع الحدث ويزيل النجس, فإن تغير أحد أوصافه فهو نَجِسٌ، والذي ورد به الشرع من هذه الأوصاف: الطعم، والريح. وحمل الأئمة اللون عليهما، لأنه أدل على غلبة النجاسة فإذا. أخذ من القلتين اللتَينْ فيهما النجاسة العينية شيء، فنقص الماء عن القلتين فالموجود طاهر، والباقي نجس سواء تغير أو لم يتغير. ووافَقَ الشافعيَّ على العمل بالقلتين: أحمدُ بن حنبل، وإسحاقُ بن راهويه،

وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو ثور، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وعبد الرحمن بن مهدي، ووكيع بن الجَرَّاح ويحيى بن آدم. وقد يَسْتدِلُ بهذا الحديث؛ من يرى أن سؤر السباع نجس؛ لقوله: "وما ينوبه من السباع" فلولا أن شرب السباع منه ينجسه لم يكن لمسألتهم عنه، ولا لجوابه إياهم بهذا الكلام معنى. وقد يحتمل أن يكون ذلك من أجل أن السباع إذا وردت المياه خاضتها وبالت فيها، وذلك كالمعتاد من طباعها، وقلما يخلو أعضاؤها من لوث أبوالها وأرواثها؛ وقد ينتابها في جملة السباع الكلاب وسؤرها نجس، واللَّه أعلم. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، بإسناد لا يحضرني ذكره -أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحملْ نَجَسًا". قال في الحديث: بقلال هجر. قال ابن جريج: وقد رأيتُ قِلالَ هَجَر، فالقلة تَسَعُ قربتين وشيئًا. هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث (¬1)، هكذا عن ابن جريج، ولم يذكر تمام الإسناد، وقد رواه غيره (¬2) عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد أن يحيى بن عقيل أخبره أن يحيى بن يعمر أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يَحْمِلْ نَجَسًا ولا بأسًا" قال: فقلت ليحيى بن عقيل: قلال هجر؟ قال: قلال هجر. ومحمد هذا الذي حَدَّثَ عنه ابن جريج، هو محمد بن يحيى، يحدث عن ¬

_ (¬1) وعنه البيهقي في السنن الكبير (1/ 263). (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 24)، والبيهقي في السنن الكبير (1/ 263) كلاهما من طريق ابن جريج. قال الحافظ في التلخيص (1/ 19): قال الحاكم أبو أحمد: محمد -شيخ ابن جريج- هو محمد بن يحيى، له رواية عن يحيى بن أبي كثير أيضًا. قلت (الحافظ): وكيف ما كان فهو مجهول.

يحيى بن أبي كثير، ويحيى بن عقيل. وهذا الحديث مرسل، فإن يحيى بن يَعْمَرَ، تابعي مشهور، روى عن ابن عباس، وابن عمر، فيحتمل أن يكون هذا الحديث رواية من الحديث الذي قبله، ويكون ابن يَعْمر قد رواه عن ابن عمر، ويجوز أن يكون غيره، لأنه يكون قد رواه عن غير ابن عمر (¬1) واللَّه أعلم. ... ¬

_ (¬1) قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 111): فهذان الوجهان ليس فيهما رفع هذه الكلمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان مرسلًا، فإن يحيى بن عقيل ليس بصحابي.

الفصل الخامس في الأسآر وفيه ثلاثة فروع

الفصل الخامس في الأسآر وفيه ثلاثة فروع الفرع الأول: في سؤر الهرة أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد اللَّه، عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة، عن كَبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة أو أبي قتادة- الشك من الربيع بن سليمان أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءًا فجاءت هرة تشرب منه، فقالت: فرآني أنظر إليه، فقال: تعجبين يا ابنة أخي؛ إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنها ليست بِنَجَسٍ إنها من الطَّوَّافين عليكم أو الطوافات". وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا الثقة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللَّه ابن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله أو مثل معناه. وقد رواه الربيع، عن الشافعي، في موضع آخر وقال: وكانت تحت ابن أبي قتادة -لم يشك- وفيه: فجاءت هرة فأصغى لها الإناء حتى شربت منه. وقال في القديم: وذكر الأوزاعي، والدُّسْتُوَائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما معناه هذا المعنى. وهذا الحديث صحيح مشهور (¬1). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في التلخيص (1/ 4): وصححه البخاري، والتزمذي، والعقيلي، والدارقطني. وأعله ابن منده بأن حميدة وخالتها كبشة محلهما محل الجهالة ولا يعرف لهما إلا هذا الحديث. فأما قوله: إنهما لا يعرف لهما إلا هذا الحديث، فمتعقب بأن لحميدة حديثًا آخر في تشميت العاطس رواه أبو داود، ولها ثالث رواه أبو نعيم في المعرفة، وأما حالها فحميدة روى عنها مع إسحاق ابنه يحيى، وهو ثقة عند ابن معين، وأما كبشة فقيل: إنها صحابية، فإن ثبت فلا =

أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). فأما مالك: فأخرجه بهذا الإسناد الأول، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة الأنصاري، عن حُميْدة بنتِ أبي عبيدة، عن خالتها كبشة بنت كعب ابن مالك -وكانت تحت ابن أبي قتادة- أنها أخبرتها "أن أبا قتادة دخل عليها فسكبت له وضوءًا فجات هرة لتشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني انظر إليه قال: أتعجبين يا ابنة أخي! قالت: فقلت نعم. فقال: إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: إِنَّهَا ليست بِنَجسٍ إنها من الطَّوافِينَ عليكم أو الطوافات". هكذا رواه يحيى بن يحيى، عن مالك. حُميدة: -بضم الحاء وفتح الميم- ابنة أبي عبيدة بن فروة. ¬

_ = يضر الجهل بحالها. وقال ابن دقيق العيد: لعل من صححه اعتمد على تخريج مالك، وإن كل من خرج له فهو ثقة عند ابن معين، وأما كما صح عنه فإن سلكت هذه الطريقة في تصحيحه -أعني تخريج مالك- وإلا فالقول ما قال ابن مندة. اهـ. قلت: وصححه أيضًا الحاكم وابن حبان وابن خزيمة. والنووي في المجموع ونقل تصحيح سنده عن البيهقي، وقال الحاكم: قد صحح مالك هذا الحديث واحتج به في "موطئه" وقد شهد البخاري ومسلم لمالك أنه الحاكم في حديث المدنيين فوجب الرجوع إلى هذا الحديث في طهارة الهرة. وراجع هذه الأقوال من نصب الراية (1/ 137). والإرواء (173) وصححه هناك. (¬1) الموطأ (1/ 50 رقم 13) قال يحيى: قال مالك: لا بأس به إلا أن يرى على فمها نجاسة. (¬2) أبو داود (75). (¬3) الترمذي (92) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعي ومن بعدهم مثل الشافعي وأحمد وإسحاق: ولم يروا بسؤر الهرة بأسًا وهذا أحسن شيء روى في هذا الباب، وقد جَوَّد مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة ولم يأت به أحدا أتم من مالك. (¬4) النسائي (1/ 55، 178).

ورواه ابن وَضَّاحٍ وغيره من أصحاب مالك، حَمِيدة: -بفتح الحاء وكسر الميم- بنت عُبَيْدِ بن رفاعة. وهو الصواب كما رواه عنه الشافعي، وكذلك انفرد يحيى بن يحيى بقوله: خالتها. وأما أبو داود: فرواه عن القعنبي، عن مالك، بإسناده من طريق ابن وَضَّاح ولفظه، إلا أنه قال: حُمَيْدة -بالضم. وأما الترمذي: فرواه عن إسحق [بن موسى] (¬1) الأنصاري، عن معن بن عيسى، عن مالك مثل أبي داود. وأما النسائي: فرواه عن قتيبة بن سعيد، عن مالك -مثل أبي داود؛ "والطَّوَّافَات" بغير "أو". والخلاف الواقع في زوج كبشة أنه أبو قتادة، أو ابنه، مَنشَأُهُ من أصحاب مالك، فإنهم اختلفوا عليه. والصحيح أنها كانت تحت عبد اللَّه بن أبي قتادة، وبذلك يشهد قول أصحاب التواريخ، والأنساب. والشافعي كذلك رواه، وإنما الشك من الربيع لا منه. وكذلك رواه أكثر المحققين (¬2). قال الترمذي: سألت عنه محمد بن إسماعيل -يعني البخاري-؟ فقال ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [مع شيء] وهو تحريف واضح، والمثبت من جامع الترمذي. (¬2) قال الترمذي: وقد روى بعضهم عن مالك: (وكانت عند أبي قتادة) والصحيح: ابن أبي قتادة. وقال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 319): ورواه ابن المبارك، عن مالك، عن إسحاق بإسناده مثله إلا أنه قال: "كبشة امرأة أبي قتادة"؛ وهذا وهم منه وإنما هي امرأة بن أبي قتادة.

جَوَّدَ: مالك بن أنس هذا الحديث، وروايته أصح من رواية غيره (¬1). وفي الباب عن عائشة، وابن عباس، والحسن بن علي، وغيرهم. "السَّكْبُ": الصَّبُّ، وماء مسكوب: يجري على وجه الأرض من غير حفر. وسَكَبَ الماء بنفسه، يَتَعَدَّى ولا يَتَعَدَّى. والوَضُوءُ -هاهنا بالفتح- وهو: الماء الذي يًتَوَضَّأُ به. والِهرُّ: السِّنَّوْرُ، والأنثى هِرَّة. وجمع الهر: هِرَرَة، بوزن عنبة، وجمع الهرة: هِرَرْ بوزن عنب. "وإصغاء الإناء": إمالتهُ. "والعجب": الحالة التي تعرض لمن رأى شيئًا، أو سمعه أو علمه، وخفى عليه سببه. فكأنها لمَّا رأته وقد أصغى لها الإناء عجبت من فعله ذلك، حيث خفي عليها حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ليست بِنَجَسٍ"، فلما سمعته زال عجبها. "والبنت والابنة": تأنيث الابن، إلا أنها أُنِّثَتْ بعد التغيير والحذف والتعويض، فإن أصل ابن "بَنَو" "بوزن حمو" فحذفت الواو، وعوض منها الهمزة في أولها، وأُسْكِنَتْ الباءُ، وأما بنت، فلما حذفت الواو من أصل ابن زيدت تاء التأنيث قبل التعويض، وسَكَنَتِ النونُ. وجمع الابنة والبنت: بنات لا غير. والنَّجَسُ -بفتح الجيم-: مصدر يقع على الواحد والاثنن والجماعة، ولا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث. فإذا كسروا الجيم، ثنوا، وجمعوا، وأَنَّثوا. ¬

_ (¬1) نقل هذا القول البيهقي في المعرفة (2/ 68) ولم أره في "العلل الكبير" للترمذي.

"والطَّوَّافُ": الذي يدور حول الإنسان والبيت، وغير ذلك. وهو: "فَعَّال" من طاف يطوف، وهذا (¬1) الياء للمبالغة، فإن "ضَرَّابًا"، أكثر من "ضَارِب"، وهو الذي يكثر وقوع الفعل منه، ويتكرر مرات. "وإنَّما": حرف مُرَكَّبٌ من حرفين، هما "إنَّ" و"ما" "فإنَّ" للتحقيق و"ما" كافَّة، فلما دخلت عليها كَفَّتْهَا عن الذي يَخُصُّها، وهو: نصب الاسم، تقول قبل دخولها: "إنَّ زيدًا قائمٌ"، وبعد دخولها "إنَّما زيدٌ قائمٌ". وحدث لها مع التركيب معنىً مُسْتَجَدٌّ، وهو: قَصْرُ الحكم على الشيء، أو قصر الشيء على الحكم تقول في الأول: "إنما المنطلقُ زيدًا"، وفي الثاني: "إنما زيدٌ المنطلق" فقصرت الانطلاق على زيد، وقصرت زيدًا على الانطلاق. وهكذا قوله: "إنما هي من الطَّوَّافين" قَصَرَ الِهَّرةَ على الطواف، ولكنه جعلها بعضًا مِنْ كل، بقوله "من الطوافين" فإن القصر غير موجود فيها. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - "من الطوافين والطوافات" تأويلان:- أحدهما: أنه شَبَّههًا بخدم البيت، وبمن يطوف على أهله للخدمة، ومعاناة الاشتغال، كقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬2) يعني: العبيد والخدم. والثاني: أن يكون شَبَّهَهَا بمن يطوف بالإنسان للحاجة والمسألة، يريد أن الأجر في مواساتها؛ كالأجر في مواساة من يطوف بها للحاجة، ويتعرض للمسألة. وإنما قال: "من الطوافين والطوافات" بِجَمْعِ السَّلاَمَة، وجمع السلامة إنما هو لمن يعقل، لأنه لما أضافها ونسبها، وشبهها بهم؛ حسن له ذلك. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل. (¬2) النور: [58].

والذي جاء في بعض الروايات بـ "أَوْ" وفائدته: أنها إما أن يكون ذكرًا أو أنثى، فجاء بحرف الشك لذلك. وأما ماجاء منها بواو العطف، فلأنه أراد أن ما يطوف بكم منها، يكون ذَكرًا أو أنثى. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الهرة طاهرة الذات، بمنزلة طهارة ما يؤكل لحمه. وسيجيء في الفرع الثاني، تفصيل القول في الحيوانات -إن شاء اللَّه تعالى. قال الشافعي: وخالفنا بَعْضُ الناسِ، فَكَرِهَ الوضوءَ بِفضلِ الهرة، واحتج بأن ابن عمر كره الوضوء بفضلها. قال الشافعي: في الهر حديث أنها ليست بِنَجَسٍ، فَيُتَوَضَّأُ بفضلها، ويُكْتَفَي بالخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يكون في واحد قال بخلاف ما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة. وقد ذكر الشافعي في "الأم"، أخبارًا تفرق بين الكلب وغيره من الحيوانات، وتلك الأخبار تَرِدُ في مَوْضِعِها -إن شاء اللَّه تعالى.

الفرع الثاني في سؤر الحمر والسباع

الفرع الثاني في سؤر الحُمُر والسِّباع أخبرنا الشافعي، قال أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن أبي [حبيبة] (¬1) -أو أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن جابر بن عبد اللَّه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحُمر؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "نعم وبما أفضلت السباع كلها". ابن أبي حبيبة هو: إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري الأشهلي. هذا الحديث، هكذا رواه أبو العباس الأصم، عن الربيع (¬2). وقد رُوِي عن الربيع أيضًا بهذا الإسناد، فقال: عن داود بن الحصين، عن أبيه، عن جابر. ورُوي عن الشافعي أيضًا من طريق أخرى، عن داود، عن أبيه، عن جابر (¬3). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين في الأصل [حنيفة] وهو تصحيف، والتصويب من الأم (1/ 6)، والمعرفة للبيهقي (2/ 65) وكذا من ترجمته. (¬2) وأخرجه الدارقطني في سننه (1/ 62)، والبيهقي في السنن الكبير (1/ 250)، وفي المعرفة (2/ 176)، والبغوي في شرح السنة (287) كلهم من طريق سعيد بن سالم به. وقد زادا محققا شرح السنة: (أبيه) بعد داود بن الحصين وقالا: هذه الزيادة لم ترد في (أ)، (ب)، واستدركناها من البيهقي وغيره. (¬3) أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 62)، والبيهقي في السنن الكبير (1/ 249)، وفي المعرفة (1760، 1764). من طريق إبراهيم بن أبي يحيى، عن داود به. قال الدارقطني: إبراهيم هو إبراهيم بن أبي يحيى ضعيف، وتابعه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وليس بالقوى في الحديث. وقال البيهقي: إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي مختلف في ثقته وضعفه أكثر أهل العلم =

ففي الرواية الأولى، يكون الحديث منقطعًا، وفي الثانية موصولًا. وإبراهيم عند الشافعي، ثقة (¬1). وداود بن الحصين: قد تكلم فيه (¬2). وقد أخرج عنه مالك، على أنه كان يكرمه، لأنه كان يروي عن عكرمة، والبخاري: قد أكثر الرواية عن عكرمة، فقال يحيى بن معاوية: هو ثقة. "أَفْضَلَتْ": أبقت وتركت فَضْلَةً بعد ما أخذت منه. "والفَضْلَةُ، والفُضَاَلةُ": بمعنىً نقول منه: فَضل يفضُل، وفَضِل يفضَلُ. "والحُمرُ": جَمْعُ كَثْرَةٍ لحمار، ويجمع على حَمِير وحُمُر وأَحْمِرَة، وربما قالوا للأَتَان: حمارة. ونعم: كلمة يجاب بها في الإيجاب، كما أن "بلى" كلمة يجاب بها في ¬

_ = بالحديث وطعنوا فيه وكان الشافعي يبعده عن الكذب. ثم ساق بإسناده إلى الشافعي قوله: كان إبراهيم بن أبي يحيى قدريًّا، قلت: (أي يحيى بن زكريا) للربيع: فما حمل الشافعي على أن روى عنه؟ قال: كان يقول: لأن يخر إبراهيم من بعد أحب إليه من أن يكذب وكان ثقة في الحديث. قال أبو أحمد: قد نظرت أنا في أحاديثه فليس فيها حديث منكر وإنما يروى المنكر إذا كان العهدة من قبل الرواي عنه أو من قبل من يروي إبراهيم عنه. قلت: وقد مال البيهقي إلى تقوية الحديث. فقد قال في المعرفة (1768): فإذا ضممنا هذه الأسانيد بعضها إلى بعض، أخذت قوة، وفي معناه حديث أبي قتادة وإسناده صحيح والاعتماد عليه. (¬1) ووثقه أحمد أيضًا لكن ضعفه أكثر النقاد، قال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن معين: ليس بشيء وفي رواية: صالح يكتب حديثه ولا يحتج به. وراجع مزيدًا على هذا في تهذيب الكمال (2/ 42). (¬2) وأجمل الحافظ القول فيه فقال في "التقريب": ثقة إلا في عكرمة، ورُمِي برأي الخوارج.

النفي، تقول: "هل قام زيد؟ فيقول المجيب: نعم. و"ما قام زيد" فيقول المجيب: بلى. فإن أجاب "نعم" في النفي كانت تصديقًا، بمنزلة "بلى" يقول القائل: "ليس لي مال"، فيقول: "نعم"، أي ليس لك مال. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الحيوان على ضَرْبَيِنْ: طاهر، ونجس. فالنجس: الكلب، والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، وهذا سؤره، ولعابه، وعرقُةُ، كله نجس. وأما الطاهر: فسؤره ولعابه وعرق طاهر. وروي ذلك عن: عمر بن الخطاب، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: الأسآر على أربعة أضرب: - ضرب نجس وهو: سؤر الكلب والخنزير والسباع كلها. وضرب مكروه، وهو: سؤر جوارح الطير، والهر، وحشرات الأرض. وضرب مشكوك فيه، وهو: سؤر البغل والحمار. وضرب طاهر، وهو: سؤر كل حيوان مأكول. وقد حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال: كل حيوان يؤكل لحمه، فسؤره طاهر، وكذلك حشرات الأرض والهر. وأما السباع، فعنه فيها روايتان؛ - إحداهما: أنه طاهر، والآخر: أنه نجس. وأما البغل، والحمار ففيهما عنه روايتان: أصحهما: أن سؤرهما نجس, والثانية: مشكوك فيه. وقد أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جواب السائل، جوابًا عن شيء لم يُسْأَلْ عنه،

وهو قوله "وبما أفضلت السباع كلها" وإنما فعل ذلك، زيادة في البيان، لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - مُشَرِّعًا، وحيث رأى السائل قد سأل عن سؤر الحمر-وهم بها عارفون، ولها معانون- عَلِمَ أنه إلى معرفة ما هو أبعد عنه -وأجهل به أَحْوَجُ- وهي السباع، فَعَرَّفهُ الحكم فيها، لأن السباع مرسلة لنفسها في الصحاري، ومِنْ دَأْبها أن ترد الماء الذي يكون في الغدران والمناقع، من غير دافع ولا مانع. وأما الحمر فلا ترد المياه إلا بمعرفة أصحابها، وهم قادرون على منعها، فأعلمهم الحكم في سؤر السباع التي لاحكم لهم عليها, لكثرة ترددهم في الأسفار، وسكناهم في الصحاري والفلوات، وأن أكثر مياههم التي يستعملونها، إنما هي مياه الغدران والأجمار والمناقع، وما أشبه ذلك. وقد قال الشافعي -في القديم-: أخبرنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيْمِي، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب "أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضًا، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض، هل ورد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع وترد علينا". وقال الشافعي -أيضًا في القديم: أنبأنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار "أن عمر بن الخطاب ورد حوض مجنة، فقيل له: إنما ولغ الكلب فيه آنفًا، فقال عمر: إنما ولغ بلسانه؛ فشربه أو توضأ". وهذا يدل على أن الماء الكثير، لا تؤثر فيه النجاسة، إذا لم يغير أحد أوصافه ***

الفرع الثالث في سؤر الكلب

الفرع الثالث في سؤر الكلب أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال "إذا شرب الكلب في إناء أحدكم، فيلغسله سبع مرات". وأخبرنا الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات". وأخبرنا الشافعي، عن ابن عيينة، عن أيوب بن أبي تميمة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات، أولاهن -أو أخراهن بالتراب". هذا حديث صحيح، متفق عليه، أخرجه مالك (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6)، وغيرهم من أهل العلم والرواية, من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، مجمعين على صحته. فأما مالك: فرواه بالإسناد واللفظ في الرواية الأولى. وأما البخاري: فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف التَّنِيسي، عن مالك، ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 58 رقم 35). (¬2) البخاري (172). (¬3) مسلم (279). (¬4) أبو داود (71، 72، 73، 74). (¬5) الترمذي (91) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) النسائي (1/ 52 - 53).

بالإسناد واللفظ. وأما مسلم: فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، بالإسناد. ولمسلم عن علي بن حجر السعدي، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، عن أبي رُزَيْن، وأبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فَلْيُرِقْهُ، ثُمَّ لْيغْسِلْهُ سَبْعَ مرات". وله في أخرى، عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام بن حسان، عَن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب". وله في أخرى، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام ابن منبه، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرّات". وأما أبو داود: فرواه عن أحمد بن يونس، عن زائدة، في حديث هشام، عن محمد، عن أبي هريرة مثل رواية مسلم. وفي أخرى له عن المسدد، عن المعتمر، وعن محمد بن عبيد، عن حماد بن زيد، جميعًا عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة بمعناه لم يرفعاه، وزاد "وإذا ولغ الهر غسل مرة". وله في أخرى، عن موسى بن إسماعيل، عن أبان، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ولغ الكلب في إناء فاغسلوه سبع مرات، السابعة بالتراب". قال أبو داود: وأما أبو صالح، وأبو رزين، والأعرج، وثابت الأحنف، وهمام بن منبه (¬1)، فرووه عن أبي هريرة، ولم يذكروا التراب. ¬

_ (¬1) وزاد في السنن (وأبو السدي: عبد الرحمن).

وأما الترمذي: فأخرجه عن سوار بن عبد اللَّه العنبري، عن المعتمر بن سليمان، عن أيوب، بالإسناد قال: "يُغْسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب، سبع مرات أُولاَهُنَّ (¬1) بالتراب، وإذا ولغت الهرة غسل مرة". وأما النسائي: فأخرجه عن قُتَيْبةَ بن سعيد، عن مالك، بالإسناد الأول واللفظ. وعن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن ثابت مولى عبد الرحمن يزيد -عن أبي هريرة، بلفظ رواية الشافعي الثانية. وأخرجه: عن علي بن حجر، مثل مسلم، رواية ولفظًا. قال النسائي: ولا أعلم أحدًا تابع علي بن مسهر على قوله "فَلْيُرِقْهُ" (¬2). وفي الباب عن علي، وابن عمر، وابن عباس، مرفوعًا في الأمر بغسله سبعًا. والاعتماد على حديث أبي هريرة لصحة طرقه وقوة إسناده. قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. "الولوغ": الشرب بطرف اللسان، يقال: ولغ الكلب في الإناء وُلوغًا، وأولغه صاحبه فهو مولوغ، وفِعْلُهُ يتعدى "بالباء، وفي، ومن" تقول: ولغ ¬

_ (¬1) زاد في النسخة المطبوعة من جامع الترمذي (أو أخراهن) قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه اللَّه-: هذا هو الصواب، وهو الذي في كل النسخ ما عدا (ت) فإن فيها بدله (أو قال: أولهن) وهو خطأ لأن الحديث رواه الشافعي عن سفيان، عن أيوب وفيه: (أو أُخراهن) انظر الأم. (¬2) وقال الحافظ في التلخيص (1/ 23): قال ابن منده: تفرد بذكر الإراقة فيه: علي بن مسهر؛ ولا يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه من الوجوه إلا من روايته، وقال الدارقطني: إسناده حسن، رواته كلهم ثقات. وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريقه ولفظه: (فليهرقه) اهـ

الكلب بشرابنا، ومن شرابنا. "والكلب": معروف، وربما سمي غير الكلب من السباع كَلْبًا مجازًا. "والإناء": معروف، وجمعه آنية، وسواء فيه ما كان من: المعدنيات، والحجارة، والجلود، والنبات، والعظام، وغيرها، الكل آنية. "الغَسْل": -بفتح الغين- تنظيف الإناء والثوب والبدن ونحو ذلك، مما يكون عليه من نجاسة أو وسخ أو غير ذلك؛ تقول: غسلت الثوب غسلاً، والاسم الغُسْل -بالضم، والغِسْل -بالكسر- ما يغسل به من خَطْميّ وغيره. "والمرات": -جمع مرة، وهي النوبة الواحدة، والدَّفْعَةُ الواحدة، من الأفعال والأقوال، ويجمع على "مرات" أيضًا. "والأولى" و"الأخرى": تأنيث الأول والآخر، والهاء فيهما ضمير المرات، والنون نون جماعة المؤنث. وقد جاء في بعض الروايات "أَوَّلُهُنَّ" بلفظ المذكر لأن تأنيث المرة غير حقيقي وفيه بُعْدٌ لأن في المرة تاء التأنيث، وهذا من نحو ما أُخِذَ على أبي العباس: ثعلب في كتاب "الفصيح"، في قوله: "فاخترنا أفصحهن" قالوا: كان الواجب أن يقول فُصْحَاهُنَّ، وله وجه، وقد جاء مثله في فصيح الكلام. "والأراقة": صب الماء وتبديده، يقول أراق الماء يُرِيقُه: إراقه، وقد أبدلوا من الهمزة هاءً فقالوا: هَرَاقَ الماء هِرَاقَةً. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الكلب نجس الذات، وأنه إذا ولغ في الإناء -وفيه الماء القليل أو الطعام- نَجَّسَهُ، ووجبت إراقته، وغسل الإناء منه. وبه قال من الصحابة: ابن عباس، وأبو هريرة، ومن التابعين: عروة بن الزبير.

وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأبي ثور، وأبي عبيد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه إلا أن أبا حنيفة قال: الكلب طاهر الذات إلا أن سؤره نجس. وذهب الزهري، ومالك، وداود؛ إلى أن الكلب طاهر الذات، وأن الماء الذي ولغ فيه طاهر يجوز الوضوء به. وقال الترمذي، والأوزاعي: يتوضأ به إذا لم يجد ماءً غيره. وزاد الثوري: ثم يتيمَّم بعده. ويدل على نجاسة عين الكلب، الأمر بتطهير الإناء من ولوغه. ويدل على نجاسة الماء أمران: - أحدهما: أن الكلب إنما باشر الماء، وقد أمر بتطهير الإناء الذي فيه الماء، فبالأولى أن يكون المباشر نَجِسًا. والثاني: أنه قد جاء في إحدى روايات مسلم "فَلْيُرِقْهُ" والأمر بإراقته دليل على نجاسته، لأنه لو كان باقيًا على طهارته لم يأمر بإراقته. ومن ذهب إلى طهارة الماء والإناء قال: إنما أَمَرَ بغسله تَعَبُّدًا، لا لأنه نجس. وهذا القول كما تراه (¬1). وأما عدد الغسلات: فمذهب الشافعي سبع إحداهن بالتراب وروي ذلك عن ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 332): التعليل بالتنجيس أقوى لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب بأنه رجس رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح. ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه، وأذا ثبتت نجاسة سؤره كان أعم من أن يكون لنجاسة عينه أو لِنجاسة طارئة كأكل الميتة مثلاً، لَكن الأول أرجح إذ هو الأصل، ولأنه يلزم على الثاني مشاركة غيره له في الحكم كالهرة مثلًا، وإذا ثبتت نجاسة سؤره لعينه لم يدل على نجاسة باقيه إلا بطريق القياس، كأن يقال: لعابه نجس ففمه نجس لأنه متحلب منه واللعاب عرق فمه وفمه أطيب بدنه فيكون عرقه نجسًا وأذا كان عرقه نجسًا كان بدنه نجسًا ... اهـ بتصرف

ابن عباس، وأبي هريرة، وعروة، وطاوس، وبه قال مالك، إلا أن من أصحابه من قال: يفعل ذلك استحبابًا، وبه قال أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وروي عنه أيضًا أنها ثمانية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يعتبر عدد، إنما يغسل حتى يغلب على الظن طهارته، كسائر النجاسات. والمستحب عند الشافعي: أن يكون التراب في المرة الأولى، لموافقته لفظ روايته، وليرد الماء بعدها، فينظف أثر التراب. وما عدا من لسان الكلب من باقي أعضائه وسائر أجزائه بمنزلة لسانه عند الشافعي. وقال مالك: لا يجب غسل الإناء من باقي أجزائه، بناءً على أصل مذهبه في طهارة الكلب. وكذا ينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة، في باقي أجزائه. واللَّه أعلم.

الفصل السادس في فضلة الوضوء والغسل

الفصل السادس في فَضْلَةِ الوضُوءِ والغُسْل أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن الزُّهْرِيِّ، عن عروة، عن عائشة "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل من القدح -وهو الفَرَقُ- فكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد". وأخبرنا الشافعي، عن مالك، عن هشام، عن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كنتُ أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد". وأخبرنا الشافعي، عن سفيان، عن عاصم، عن معاذة العدوية، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، فربما قلت له: أَبْقِ ليِ أَبْقِ ليِ". قال الشافعي: وروى سالم أبو النضر، عن القاسم، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من الجنابة". هذا حديث صحيح متفق عليه. أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). فأما البخاري: فرواه عن آدم بن [أبي] (¬5) إياس، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، بالإسناد قالت: "كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، من قدح -يقال له الفَرَق". ¬

_ (¬1) البخاري (250، 261، 263). (¬2) مسلم (319، 321). (¬3) أبو داود (238). (¬4) النسائي (1/ 128 - 130). (¬5) من البخاري.

وله في أخرى: عن القعنبي، عن أفلح، عن القاسم، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد تختلف أيدينا فيه". وفي أخرى: عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة, عن أبي بكر بن حفص، عن عروة، عن عائشة ... الحديث وفيه "من إناء واحد -من جنابة". وأما مسلم: فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن الزهري، بالإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يغتسل من إناء -هو الفَرقَ- من الجنابة". وفي أخرى: عن قتيبة، وابن رمح، عن الليث، وعن قتيبة, وأبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، قالوا: حَدَّثنا سفيان، كلاهما عن الزهري (¬1)، قالت: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يغتسل في القدح -فهو الفرق- وكنت أغتسل أنا وهو في الإناء الواحد" قال سفيان: والفَرَقُ ثلاثة آصعٍ. وفي أخرى: عن القعنبي، عن أفلح، بإسناد البخاري ولفظه، وزاد: "من الجنابة". وفي أخرى: عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة، عن عاصم الأحول، عن معاذة، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من إناء، بيني وبينه واحد، فيبادرني حتى أقول: دَعْ لي، دَعْ لي. قالت: وهما جنبان". وأما أبو داود: فأخرجه عن أحمد بن صالح، عن عنبسة، عن يونس، عن الزهري، قال: قال عروة: عن عائشة بلفظ مسلم الأول (¬2). ¬

_ (¬1) والإسناد مختصر وتمامه [عن عروة، عن عائشة قالت: وإنما سقته دفعًا للالتباس. (¬2) يبدو أنه وقع انتقال نظر من المصنف -رحمه اللَّه- فنقل إسناد الحديث السابق لهذا الحديث في السنن وتمام الإسناد المذكور (عن عائشة أن أم سليم الأنصارية -وهي أم أنس بن مالك قالت: يا رسول اللَّه، إن اللَّه -عز وجل- لا يستحيي من الحق ... الحديث)؛ وأما إسناد حديث الباب المقصود فقد أخرجه أبو داود عن. [القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة .... الحديث].

قال أبو داود: قال معمر -عن الزهري، في هذا الحديث: قالت: "كنت أغتسل ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد قَدْرَ الفَرَقِ". وقال أبو داود: رواه ابن عيينة، مثل حديث مالك. وأما النسائي: فأخرجه عن سويد بن نصر، عن عبد اللَّه، [عن] (¬1) هشام، وعن قتيبة، عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل وأنا من إناء واحد نغترف منه جميعًا". وقال سويد: "كنت أنا ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". وفي أخرى: عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة وفيه "من إناء واحد من الجنابة". وفي أخرى: عن قتيبة، عن عبيدة بن حميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "لقد رأيتني أنازع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الإناء، أغتسل أنا وهو منه". وفي أخرى: عن محمد بن بشار، عن محمد، عن شعبة، عن عاصم، وعن سويد بن نصر، عن عبد اللَّه، عن عاصم، عن معاذة، عن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد، أبادره ويبادرني، حتى يقول دَعِي لي، وأنا أقول دَعْ لي". وقال سويد: "يبادرني وأبادره، فأقول: دَعْ لي، دعْ لي". "القَدَح": إناء بَيْن بينَ لا صغير ولا كبير، وقد يقترن به وصف الصغر والكبر، فيقال قدح صغير وقدح كبير. والفَرق: -بفتح الراء- قَدَحٌ يَسَعُ ستة عَشَرَ رطلًا. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين في الأصل [بن] وهو تصحيف، والصحيح الموافق للسياق وللأصول المخرج منها ما أثبتناه.

قال الأزهري: هو الفَرق -يعني بالفتح- قال: المُحَدِّثُون يقولون: الفَرْق: يعني -بالسكون - قال: وكلامُ العرب الفَرَقُ. قال ذلك (¬1): أحمد بن يحيى، وخالد بن يزيد، وهو إناء يأخذ ستة عشر رطلًا، وذلك ثلاثة آصع قال الجوهري: الفرْق -بالسكون- مكيال معروف بالمدينة، وهو: ستة عشر رطلًا، وقد تُحَّركُ الراء. وقال الشافعي: الفَرَق ثلاثة آصُعٍ، يكون ستة عشر رطلًا. وأما الفرْق بالسكون: فمائة وعشرون رطلًا. هكذا حكاه الإمام. وقال أبو نصر بن الصباغ، في كتاب "الشامل"، وهو: بخلاف المنقول في اللغة. وما نقله الإمام قد حققه، وهو به أعرف، فإن هذا ما يتداوله الفقهاء بينهم، وهم أعرف به من غيرهم. فأما ضمير المتكلم والأصل فيه "أن" مفتوحة النون، فأضيف إليها ألف بعدها لبيان الحركة، فقيل "أنا" وهو ضمير الغائب، فلما أرادت أن تعطف على الضمير الذي في "أغتسل" وهو ضمير مرفوع متصل لم يُعْطف عليه حتى تؤكده. فجات بـ"أنا" فقالت: "كنت أغتسل أنا" وهو كقوله تعالى {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬2) ويجوز العطف من غير توكيد، وفيه فتح، وقد جاء في بعض روايات النسائي كذلك. و"من" في قوله "من إناء واحد" لابتداء الغاية، أي: أَنِ ابتَدأْنَا بالغُسْلِ من الإناء. ¬

_ (¬1) زاد في الأصل (ذلك): (فقلت) وهي مقمحة لا معنى لها والسياق مستقيم. وانظر اللسان مادة فرق. (¬2) البقرة: [35].

ويجوز أن يكون "للتبعيض" أي: أنهما اغتسلا ببعضه. "وربما": حرف جر، أضيف إليه "ما"، وهو مبني على الفتح، ويفيد التعليل، وفائدة إدخال "ما" عليه ليرد بعده فعل، لأن "رب" من خواص الأسماء، تقول "رب رجلٍ قائمٍ لَقِيتُ" فإذا أردت إدخاله على الفعل زدت عليه "ما" فقلت: "رُبَّما قام زيد، وربما يقوم" ومثله قوله -تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (¬1) وقد يخفف فيقال: رُبَمَا. وقوله "أَبْقِ لي، أَبْقِ لي" أي: اترك لي بقية من الماء لأغتسل بها، وتكرارها للتأكيد. وقوله "تختلف أيدينا فيه" تريد أنها كانت تغتسل معه في وقت واحد، تتعاقب أيديُهما على اغتراف الماء. و"الجنابة": معروفة وهي: الحالة التي أوجب الشرع على الإنسان فيها الغسل، كالجماع التام، والتقاء الختانين، والاحتلام، والاستمناء، وغير ذلك مما هو مفصل في كتب الفقه. وأصل الجنابة: البُعْدُ، يقال: أجنب الرجل، وجنب إذا صار جُنُبًا. ويستوي فيه الذكر والأنثى، والواحد والاثنان، والجمع، وربما قالوا في جمعه: أجناب وجنبون. قالوا: إنما سمي به لأنه يصير بحالة مجتنبًا معها الصلاة، ومس المصحف، وقراءة القرآن، ونحو ذلك. وقيل: لأنه مجتنب، أي يبعد منه. و"الآصع": جمع صاع، والصاع هو: مكيال معروف، تَسَعُ أربعةَ أمدادٍ، ¬

_ (¬1) الحجر: [2].

والُمدُّ مكيال بالمدينة معروف، تَسَعُ رَطْلًا وَثُلُثًا بالعراقي، عند أهل الحجاز. وبه قال الشافعي، ومالك. ورطلين عند أهل العراق، وبه قال أبو حنيفة. و"المبادرة": السابقة إلى الشيء، يقال: بدر إلى الشيء يبدر بدورًا، إذا أسرع إليه، وكذلك بادر وتبادَرَ القومُ وابتدروا، أي تسارعوا. وقولها "دَعْ لِي دَعْ لِي" مثل قولها: " أبْقِ لي، أبْقِ لِي". والتكرار للتأكيد، ولتكرار الأخذ من الماء، وتعاقب أيديهما عليه. و"دع" أمر من وَدَعْتُ الشيء أُودِعُه إذا تركته. وقد رفضوا ما [...] (¬1) يجيء إلا في ضرورة الشعر، استغناء عنه فترك. قال؛ أبو الأسود الدؤلي: لَيْتَ شِعْرِي عَنْ خَلِيِلي ما الَّذِي ... غَاَلهُ في الحُبِّ حَتَّى وَدَعَهْ وقد قرأ يعقوب قوله تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} (¬2) بالتخفيف، بمعنى تركك. "والاغتراف": أخذ الماء باليد، غرفت واغترفت، والَغْرفة -بالفتح المرة الواحدة، وبالضم الاسم للمغروف فإن الماء لأنك ما لم تغرفه لا يسمى غرفة. "والمنازعة": المغالبة والمجاذبة، كأنها تنزع الماء من يده، وينزعه من يدها طلبًا لأخذه والاغتسال به. والذي ذهب إليه الشافعي: جواز وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة، واغتساله بفضل غسلها، وأن يتوضآ أو يغتسلا معًا. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بياض بالأصل قدر كلمتين. (¬2) الضحى: [3].

والماء الفاضل من المتوضئ والمغتسل، لا يخلو من أحد قسمين: أحدهما: ما فضل عن أعضاء المحدث، بعد مروره عليها رافعًا للحدث. والثاني: ما بقي منه في الإناء، أو في الأرض بعد الفراغ. فالأول: هو الماء المستعمل في رفع الحدث، فلا يستعمل فيه مرة أخرى، وقد سبق القول فيه. والثاني: يكون باقيًا على طهوريته الأصلية، ويجوز استعماله في رفع الحدث، وإزالة النجس, وبهذا قال أكثر العلماء. وحكي عن أحمد بن حنبل أنه قال: لا يجوز أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة، إذا خَلَتْ بِهِ. وروي عنه أيضًا: أنه يكره. وحكاه ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه، وعن الحسن البصري، وسعيد بن المسيب. وكان ابن عمر: لا يكره فضل وضوء المرأة إلا أن تكون جنبًا أو حائضًا، قال: إذا خلت به فلا تقربه. وحكي عن أبي يوسف أنه قال: إذا أدخل الجنب أو الحائض يده في الماء، لم يفسد، وإن أدخل رجله فسد، قال: لأن الجنب نجس، وإنما عفي عن يده لأجل الحاجة والضرورة. وقد أخرج الشافعي، عن مالك، عن ابن عمر، أنه كان يقول: لا بأس أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، ما لم تكن حائضًا أوجنبًا. قال الشافعي: أما تركه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل وعائشة من إناء واحد،

وإذا اغتسلا معًا كان كل واحد منهما يغتسل [بفضل] (¬1) صاحبه. وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس، عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنها كانت تغتسل هي والنبي - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد". هذا حديث صحيح، متفق عليه. أخرجه: البخاري (2)، ومسلم (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). فأما البخاري: فأخرجه عن أبي نعيم، عن ابن عيينة، بالإسناد عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد". قال البخاري: كان ابن عيينة يقول: -أخيرًا-: عن ابن عباس، عن ميمونة، والصحيح مارواه أبو نعيم. وأما مسلم: فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن حاتم، عن محمد ابن بكر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، بالإسناد، عن ابن عباس "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة". وأما الترمذي: فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، بالإسناد قالت: "كنت أغتسل أنا ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد من الجنابة". ¬

_ (1) ما بين المعقوفتين رسمت بالأصل كذا [بو] والمثبت من "الأم" (1/ 8) المعرفة للبيهقي (1/ 499) وهو الموافق لسياق الكلام. (¬2) البخاري (253). قال الحافظ في الفتح (1/ 436 - 437). إنما رجح البخاري رواية أبي نعيم جريًا على قاعدة المحدثين لأن من جملة المرجحات عندهم قدم السماع لأنه مظنة قوة حفظ الشيخ، ولرواية الآخرين جهة أخرى من وجوه الترجيح وهي كونهم أكثر عددًا وملازمة لسفيان، ورجحها الإسماعيلي من جهة أخرى من حيث المعنى وهي كون ابن عباس لا يطلع على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حالة اغتساله مع ميمونة فيدل على أنه أخذه عنها أ. هـ. (¬3) مسلم (323). (¬4) الترمذي (62) وقال: حسن صحيح، وهو قول عامة الفقهاء: أن لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد. (¬5) النسائي (1/ 129).

وأما النسائي: فأخرجه عن يحيى بن موسى، عن ابن عيينة، بالإسناد قال: أخبرتني ميمونة: "أنها كانت تغتسل ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد". وفي الباب عن علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وابن عمر، وأم سلمة، وأم هانئ، وأم صُبَية. وقد اختلف في هذا الحديث على سفيان، فإنه رواه عن ابن عباس، ومرة عنه وعن ميمونة. وقيل: إنما الاختلاف على ابن عباس، رواه مرة عن ميمونة، ومرة لم يذكر ميمونة، ويجوز أن يكون لما لم يذكر ميمونة، مسندًا ومرسلًا، فالمسند عن نفسه، والمرسل عن ميمونة؛ وله نظائر مثل ذلك الأثر في أنه قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "إنما الربا في النسيئة" فلما روجع فيه قال: حدثني به أسامة بن زيد (¬1) ولعله قد فعل في هذا الحديث مثل ذلك، إلا أن الحديث بنفسه صحيح لا مطعن فيه. وما يتعلق به من شرح، فقد تقدم في حديث عائشة, لأنه مثل طريق من طرق حديثها، وإنما ذكره الشافعي مؤكدًا لحديث عائشة. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر كان يقول: "إن الرجال والنساء كانوا يتوضئون في زمن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جميعًا". هذا حديث صحيح، أخرجه مالك (¬2)، والبخاري (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5). ¬

_ (¬1) وهو عند مسلم (1596) وتمامه. عن أبي سعيد الخدري قال: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم مِثْلًا بِمِثْلٍ من زاد أو ازداد فقد أَرْبَىَ، فقلت له: إن ابن عباس يقول غير هذا، فقال: لقد لقيت ابن عباس، فقلت: أرأيت هذا الذي تقول أَشَيْءٌ سمعته من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو وجدته في كتاب اللَّه -عز وجل-؟ فقال: لم أسمعه من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولم أجده في كتاب اللَّه ولكن حدثني أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "الربا في النسيئة". (¬2) الموطأ (1/ 51 رقم 15). (¬3) البخاري (193). (¬4) أبو داود (79، 80). (¬5) النسائي (1/ 57).

فأما مالك: فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري: فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك. وأما أبو داود: فأخرجه: عن مسدد، عن حماد، عن أيوب، عن نافع. وأخرجه القعنبي، عن مالك، بإسناد، قال: "كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال مسدد -من الإناء الواحد". وأخرجه أيضًا عن مسدد، عن يحيى بن عبد اللَّه [عن عبيد اللَّه] (¬1)، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كنا نتوضأ نحن والنساء من إناء واحد، على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ندلي فيه أيدينا". وأما النسائي: فأخرجه عن هارون بن عبد اللَّه، عن معن، عن مالك، بالإسناد واللفظ. "فعلت الشيء على عهد فلان": أي في أيامه وزمانه. و"ندلي في أيدينا": أي نحطها فيه ونرسلها، من قولك: أَدْلَيْتُ الدلو ودَلَّيْتُهَا، إذا أرسلتها في البئر، فأمَّا "دَلَوْتُهَا" فإذا نَزَعْتَهَا، فيجوز أن يكون قوله "ندلي" مشدَّدًا من دَلَّى، ومخفَّفًا من أَدْلَى. وفي هذا الحديث: بيان أعم من الحديثين اللذَيْنِ قبله، فإن ذينك الحديثين دلاّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ هو وعائشة، وهو وميمونة، من إناء واحد، ولعل ذلك خاص بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه. وأما هذا الحديث فلا يحتمل التأويل، حيث قال: كان الرجال والنساء مطلقا غير مقيد، ولفظة "نحن" بعد "نتوضأ" مؤكدة للضمير المستتر فيه، كما سبق في حديث عائشة. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين، سقط من الأصل والاستدراك من السنن. وكذا أخرجه أحمد (2/ 103)، وابن خزيمة (121،120).

وقول ابن عمر: "كنا نفعل كذا"، من طرق روايات الحديث، وهي آخر مراتب لفظ الراوي وأنزلها، فإن الصحابي إذا قال ذلك فإن ظاهره يقتضي أن الصحابة فعلوه على وجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره, لأن تعريف الحكم به وهو غرض الراوي. وأما قوله "كانوا يفعلون كذا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - " فهو دليل على جواز الفعل، لأن ذكره في معرض الحجة، يدل على أنه أراد ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو سكت عنه، دون ما لم يبلغه، وذلك يدل على الجواز. فأما إذا قال الشافعي هذا القول، فلا حجة فيه، إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع فيكون ذلك نقلًا للإجماع. وإنما ذكره الشافعي تبيينًا للحديثن اللذين قبله وتثبيتًا, ولما فيه من زيادة البيان. فإن قيل: هَلَّا اكتفى به وذكره أَوَّلًا؟ قيل: ذانِكَ الحديثان مرفوعان، مصرح بهما عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا موقوف على ابن عمر، وهو غير مصرح به في لفظ الرواية, واللَّه أعلم.

الفصل السابع في الماء المسخن والمشمس

الفصل السابع في المَاءِ المُسَخَّنِ والمُشَمَّسِ هذا الفصل لم يرد في المسند فيه حديث فنذكره، وقد جاء في غير المسند من رواية الأصم، عن الربيع أيضًا عن الشافعي، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، "أن عمر كان يُسَخَّنُ لَهُ الماءُ فيغتسل به ويتوضأ" (¬1). وبهذه الرواية عن الشافعي: أنه قال: لا أكره الماء المُشُمَّسَ إِلَّا أن يكون من جهة الطب. ثم قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: أخبرني صدقة بن عبد اللَّه، عن أبي الزبير، عن جابر، أن عمر كان يكره الاغتسال بالماء المشمس؛ وقال: إنه يُورِثُ البَرَصَ (¬2). قال الإمام أحمد البيهقي: وأما ما روي عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله في ذلك "يا حميراء لا تفعلي فإنه يورث البرص" ولا يَثْبُتُ البتة، وهو حديث ضعيف لا يُعَوَّلُ عليه (¬3). وتفصيل المذهب في ذلك: أن الوضوء بالماء المسخن جائز، فإنه قال: والمسخن وغيره سواء، وحكي عن مجاهد أنه كره المسخن. وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه كره المسخن بالنجاسة. ¬

_ (¬1) ومن طريقه أخرجه البيهقي في المعرفة (506). (¬2) أخرجه البيهقي في السنن الكبير (1/ 6)، وفي المعرفة (508). (¬3) وقال البيهقي بعد إيراده: وهذا لا يصح، أخبرنا الفقيه أبو بكر قال: قال أبو الحسن الدارقطني: خالد بن إسماعيل متروك. وروي هذا الحديث عن هشام بن عروة مع خالد بن وهب أبو البختري وهو شر منه، وروي بإسناد منكر عن ابن وهب، عن مالك، عن هشام ولا يصح، ورواه عمرو ابن محمد الأعشم، عن فليح، عن الزهري، عن عروة. قال الدارقطني: عمرو بن محمد الأعشم منكر الحديث. ولم يروه عن فُلَيْح غيره ولا يصح عن الزهري. اهـ بتصرف يسير. وانظر التلخيص الحبير (1/ 20 - 21)، ونصب الراية (1/ 102).

وأما المشمس فما لم يقصد إلى تشميسه كالغدران والسواقي فلا يكره. وأما ما قصد إلى تشميسه في الأواني، وخصوصًا المنطبعة كالصفر ونحوه فإنه يكره. وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يكره. واللَّه أعلم.

الباب الثاني في الأواني

الباب الثاني في الأواني وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: في الجلود قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد اللَّه بن عباس أنه قال: "مَرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بشاة ميتة قال: فَهَلَّا انتفعتم بجلدها! فقالوا: يا رسول اللَّه إنها مَيْتَةٌ! قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما حَرُم أَكْلُها". وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر بشاة لمولاةٍ لميمونة ميتة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما على أهل هذه، لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به، فقالوا: يا رسول اللَّه، إنها ميتة! قال - صلى الله عليه وسلم -: إنما حَرُمَ أَكْلُها". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، والبخاري (¬2) ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4) والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6). فأما مالك: فأخرجه بالإسناد الأول واللفظ. وأما البخاري: فأخرجه عن زهير بن حرب، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري، بالإسناد "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة فقال: ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 397 رقم 16). (¬2) البخاري (5531، 5532). (¬3) مسلم (363). (¬4) أبو داود (4120 - 4122). (¬5) الترمذي (1727) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (7/ 171 - 172).

"هَلَّا استمتعتم بإهابها! قالوا: إنها ميتة! قال: "إنما حرم أكلها". وفي أخرى: عن خَطّاب بن عثمان، عن محمد بن حِمْيَر، عن ثابت بن عجلان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعنز ميتة فقال: "ما على أهلها لو انتفعوا بإهابها". وأما مسلم: فأخرجه عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، وابن أبي عمر، جميعًا عن ابن عيينة، عن الزهري، بالإسناد قال: "تُصُدِّق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فَمَرِّ بها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَلَّا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به! قالوا: إنها ميتة! قال: "إنما حرم أكلها". وقال أبو بكر، وابن أبي عمر، في حديثهما: عن ميمونة. وله روايات أخرى. وأما أبو داود: فأخرجه من مسدد، ووهب بن بيان، وعثمان بن أبي شيبة، وابن أبي خلف، عن سفيان، عن الزهري، قال مسدد، ووهب: عن ميمونة قالت: "أُهْدِيَ لمولاة لنا شاة من الصدقة، فماتت، فمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ دبغتم إهابها" الحديث. وفي أخرى له: عن مسدد، عن يزيد، عن معمر، عن الزهري؛ بهذا الحديث، لم يذكر ميمونة، ولم يَذْكُرِ الدِّبَاغَ. قال معمر: وكان الزهري يُنْكِرُ الدِّبَاغَ ويقول: استمتع به على كل حال. قال أبو داود: ولم يذكر الأوزاعي، ويونس، وعقيل، في حديث الزهري الدِّبَاغَ، وذكره الزبيري، وسعيد بن عبد العزيز، وحفص بن الوليد. وأما الترمذي: فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء، عن ابن عباس وقال: "ماتت شاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهلها: "ألا نزعتم جلدها (¬1) فاستمعتم به". ¬

_ (¬1) زاد في الجامع (ثم دبغتموه).

قال الترمذي: وقد روى من غير وجه عن ابن عباس، عن ميمونة، وروي عنه عن سَوْدة. قال: وسمعت محمدًا -يعني البخاري- يصحح حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث ابن عباس عن ميمونة. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري، بالإسناد، الحديث. وفي أخرى: عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، بإسناده ولفظه. وقد كثرت الطرق لمسلم والنسائي في تخريج هذا الحديث، فلم نُطِلْ بذكرها. "الشاة": واحدة الشياه من الغنم، وقد يقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، وقد يطلق لفظ الشاة على الجميع، يقولون: فلان كثير الشاة والبعير، لأن الألف واللام للجنس. وأصل الشاة "شاهة" لأن تصغيرها "شويهة"، وجمعها لأدني العدد "شياه" وفي الكثير "شات". و"العطاء": الهبة، و"العطية": الشيء المُعْطَى. و"المولاة": تأنيث المولى وهو وارد في العربية مطلقًا على مسميات عدة، منها: المُعْتِق، والمُعْتَق، والسَّيِّد، والصَّاحِب، والناصر، والمنعم، والجار، والحليف، وكل من ولي من أحد شيئًا فهو وليه، ويقال: بينهما ولاء أي: قرابة، والمراد في هذا الحديث بالمولاة، الجارية والأَمَة. "وَهَلَّا": حَثٌّ وتحضيض، وأصلها "هَلْ" التي للاستفهام، و"لا" التي للنفي بُنِيَتَا معًا فأحدثت معنى التحضيض، كما بنوا "لولا" و"لوما" وجعلوهما

كلمة واحدة، وهي مختصة بالفعل، لأجل المعنى الحادث فيها وهو التحضيض. و"النفع": ضد الضر، و"الانتفاع" افتعالٌ منه، والاسم "المنفعة". و"الحرام": ضد الحلال، يقال حرم الشيء يحرم فهو حرام. والذي جاء في هذا الحديث، يجوز أن يكون حَرُمَ -بفتح الحاء وضم الراء- صار هو في نفسه حرامًا، فكان الفعل له مثل شَرُفَ، وظَرُفَ. ويجوز أن يكون حُرِّم -مضموم الحاء مكسور الراء- مشدد لما لم يُسَمَّ فاعله أي: حَرَّمَهُ اللَّه -عز وجل. ويعضد هذا الوجه الثاني، ما جاء في رواية النسائي "إنما حَرَّمَ اللَّه -عز وجل- أكلها". وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - من الجواب السديد والفائدة؛ ما ليس في غيره من الأجوبة، كما لو قال مثلًا: إن جلدها ليس بحرام، أو ادبغوه فإنه يطهر، وذلك لأن فيه من التنبيه، على أن المعنى الذي امتنعتم من الانتفاع به لأجله، وهو التحريم الشرعي، والتنجيس بالموت إنما مخصوص بلحمها وشحمها، اللذين هما من وظيفة الأكل، وأن ذلك هو المُحَرَّمُ وحده، لا الانتفاع بالجلد، فجمع في الجواب بين الغرضين وأتى فيه بالحكمين، ونبه على ما سبق به حكمه العام من تحريم الميتة، في قوله -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬1) فالقرآن دل ظاهر إطلاقه على تحريم الانتفاع به، بجميع أجزاء الميتة، لكن لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عالماً بخصوص حكم اللَّه -عز وجل- ومراده من قَصْرِ التحريم على الأكل، قال: "إنما حَرُمَ أكلها" فَخَصَّصَ ذلك العام، وقيد ذلك المطلق بجوابه. "والأهل": الأقارب والألزام من الرجال والنساء، أنسابًا وأصهارًا، إلا أنه بالنسب أشبه. ¬

_ (¬1) المائدة: 3

وأما "الآل": فإنهم الأهل، والهمزة مبدلة من الهاء، وقيل: بَل الهاء مبدلة من الهمزة، وقيل: بل هما اسمان مرتجلان، وما أشبه الإبدال في الكلمتين وأقربه!!. ويقال لمن أهمل شيئًا أو غفل عنه: "ما عليه لو فعل كذا"، أو لو كان كذا [أي] (¬1) شيء يلحقه من الضرر أو العيب أو العار، ونحو ذلك: لو فعل ذلك، فكأنه استفهام يتضمن تنبيهًا وتوبيخًا. "والإهاب": الجِلْدُ ما لم يُدْبَغْ، وقيل: هو الجلد دُبِغَ أو لم يُدْبَغْ. وذهب قوم: إلى أن جلد ما لا يؤكل لحمه، لا يسمى إهابًا. ويُجْمَعُ "الإهاب": على "أَهَب" بفتح الهمزة والهاء، على غير قياس. وقد جاء أَدِيم، وأُدُم، وقد جاء أُهُب بضم الهمزة، وضم الهاء، على القياس. "والدِّبَاغَةُ": معاناة الجلد بما يصلحه، من نحو الشَّبِّ، والقرظِ والعفص، والملح، بما ينشف رطوبته ويذهب فضلاته ويليِّنه. وأكثر ما يدور في ألسنة الفقهاء وغيرهم، "الشث" -بثاء مثلثة- وكذا ذكره الجوهري في الصحاح، فإنه قال -في فصل الشين من باب الثاء-: و"الشث": نبتٌ طَيِّبُ الريح، مُر الطعم، يدبغ به. وقال الأزهري: في كتاب "التهذيب" (¬2) -في باب الشين والثاء-: الشث: شجر طيب الريح، مر الطعم، ينبت في جبال الغوْر وتِهَامة، وقال -في باب الشين والباء: الشب: حجارة منها الزاج وأشباهه، وأجوده ما جُلِبَ من اليمن. ولم يتعرض في البابين إلى ذكر الدباغ بهما أو بواحد منهما. ¬

_ (¬1) جات مكررة بالأصل. (¬2) تهذيب اللغة (11/ 337، 289).

وقال في كتاب "لغة الفقه" -في باب ما يفسد الماء-: عند دخول القرظ والشب. فأما القرظ: فهو ورق السلم، نبت بنواحي تهامة، يدبغ به الجلود، يقال أديم مقروظ، والذي يجني القرظ يسمى قارظًا، والذي يبيعه يسمى قرَّاظًا. وأما "الشب": فهو من الجواهر التي أنبتها اللَّه -عز وجل- في الأرض، يدبغ به، شبه الزاج، والسماع: الشب. -بالباء- قال: وقد صحفه بعضهم فقال: الشب، والشث: شجر مر الطعم، ولا أدري أيدبغ به أم لا. وقد جاء في كتاب "الشامل لابن الصباغ": قال: قال الشافعي في الأم (¬1): الدباغ بكل ما دبغت به العرب، من قرظ وشب وما عمل عمله، مما يمكث في الإهاب حتى يُنَشِّفَ فضوله، ويُطيِّبَهُ وَيَمْنَعهُ الفسادَ إذا أصابه الماء، فأما القرظ -وهو ورق السَّلم- ينبت بنواحي تِهامة، يدبغ به العرب، يقال: أديم مقروظ، والشب يشبه الزاج، وقيل: شث بثلاث نقط وهو: شجر مر الطعم، لا يعلم هل يدبغ به أم لا (¬2). "والعَنْزُ": الأنثى من المعز ومن الظِّبَاء. و"الاستمتاع": استفعال من المتاع، وهو المنفعة، تقول تمتعت كذا، واستمتعت به، أي انتفعت، والاسم المنفعة، ومنه متعة النكاح، ومتعة الطلاق، ومتعة الحج لأنه انتفاع. و"النزع": القَلْعُ، نزعت الشيء من مكانه، إذا قلعته منه وأزلته عنه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الجلد لا يخلو أن يكون لما يؤكل لحمه، أو لما لا يؤكل لحمه. ¬

_ (¬1) تصحفت في الأصل إلى (الأمل). (¬2) وراجع المزيد على هذا من لسان العرب مادة: "شب".

فإن كان لما يؤكل لحمه، فلا يخلو إما أن يكون ذَكِيًّا أو مَيْتَةً، فإن كان ذَكِيًّا فإنه طاهر بالذكاة، وإن كان ميتة فإنه طاهر بالدباغ. وأما ما لا يؤكل لحمه، فإن الذكاة لا تفيده طهارة، ولكنه يَطْهُرُ بالدباغ، وسواء ذكية وميتة إلا الكلب والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة والثوري. إلا أن أبا حنيفة قال: إن جلد الكلب يطهر بالدباغ، وقال: إن التذكية تفيد الطهارة. وذهب الأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وابن المبارك؛ أن الدباغ لاَ يُطَهِّرُ إلا جِلْدَ ما يؤكل لحمه. وأما أحمد بن حنبل فقال في إحدى الروايتين عنه: إنه لا يطهر من جلود الميتة شيء، مأكولًا كان أو غير مأكول. وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعائشة. وروي هذا القول عن مالك أيضًا، قالوا: كان يقول: إنه يفيدها الطهارة في الظاهر دون الباطن، ويُصَلَّى عليه ولا يصلى فيه، ويستعمل في الأشياء اليابسة دون الرطبة. قال ابن المنذر: كان الزهري يُنْكِرُ الدباغ، يقول بجلود الميتة على كل حال، تعلقًا بظاهر الحديث، فإنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "فهلا أخذتم إهابها وانتفعتم به" ولم يذكر دباغًا. وقد تعارضت الروايات على ذكر الدباغ، والإجماع من القائلين بالدباغ على خلافه. والزيادة في الحديث معمول بها؛ ولا سيما إذا جاءت من الثقة، فالعمل بها أولى.

وللشافعي قول قديم في المنع من بيع جلد الميتة المدبوغ، موافقًا لقول مالك، حيث قال: إنه يُطَهِّرُ ظاهِرَهُ دُونَ بَاطِنِهِ. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مر بشاة ميتة لمولاة لميمونة، فقال: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به". فأما حديث عبد اللَّه بن عكيم "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كعب إلى جهينة قبل موته بشهر، أن لا ينتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". فقد رواه الشافعي: في سنن حرملة، عن عبد الوهاب الثفقي، عن خالد الحَذَّاء، عن الحكم، عن عبد اللَّه بن عكيم. وفي الحديث إرسال: وهو محمول على إهابها قبل الدبغ، جمعًا بين الخبرين (¬1). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في التلخيص (1/ 48). ومحصل ما أجاب به الشافعية وغيرهم عنه التعليل بالإرسال: وهو أن عبد اللَّه بن عكيم لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. والانقطاع بأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمعه من عبد اللَّه بن عكيم. والاضطراب في سنده فإنه تارة قال عن كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتارة عن مشيخة من جهينة وتارة عن من قرأ الكتاب. والاضطراب في المتن، فرواه الأكثر من غير تقييد، ومنهم من وراه بقيد شهر أو شهرين، أو أربعين يومًا أو ثلاثة أيام. والترجيح بالمعارضة، بأن الأحاديث الدالة على الدباغ أصح والقول بموجبه بأن الأهاب اسم الجلد قبل الدِّباغ، وأما بعد الدِّباغ فَيُسَمَّى شَنًّا، وقربة؛ وحمله على ذلك ابن عبد البر والبيهقي وهو منقول عن النضر بن شميل؛ والجوهري قد جزم به. وانظر بتفصيل أوسع من هذا في نصب الراية (1/ 120). وقد مال الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- إلى تقوية الحديث. وقال في الضعيفة (1/ 239): في ثبوته خلاف كبير بين العلماء، لكن الراجح عندنا صحته كما حققناه في كتابنا إرواء الغليل (رقم 38).

أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، أنه سمع ابن وعلة، سمع ابن عباس سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول "أَيُّما إِهابٍ دُبغَ فَقَد طَهُرَ" وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن ابن وعلة، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَد طَهُرَ". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1)، ومالك (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). فأما [مسلم] (¬6): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، بالإسناد وذكر الرواية الثانية. وفي أخرى: عن إسحق بن منصور، وأبي بكر بن إسحاق، عن عمرو بن الربيع، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، أن أبا الخير حدثه قال: رأيت على ابن وعلة السَّبَائي فَرْوًا، فَمَسَسْتُهُ، فقال مالك: تَمَسُّهُ؟ قال: سألت عبد اللَّه بن عباس قلت: إنا نكون بالمغرب، ومعنا البربر والمجوس نُؤْتَى بالكبش [قد ذبحوه] (¬7) ونحن لا نأكل ذبائحهم، ويأتوننا بالسقاء يجعلون فيه الودك، فقال ابن عباس: قد سألنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: "دباغه طهوره". ¬

_ (¬1) مسلم (366). (¬2) الموطأ (2/ 397 رقم 17) ولم يسق المصنف إسناده ومتنه كعادته في التخريج، وتتميمِا للفائدة أقول أخرجه مالك عن زيد بن أسلم بإسناد ومتن الرواية الثانية. (¬3) أبو داود (4123). (¬4) الترمذي (1728) وقال: حديث ابن عباس حسن صحيح، وقد رُوِي من غير وجه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا. (¬5) النسائي (7/ 173). (¬6) ما بين المعقوفتين في الأصل (مالك) وهو تحريف مخالف للسياق والذي يبدولي أنه كتب (مالك) على أن يُبَينَّ وجه روايته، فوقع له ذهول أو نسيان فلم يتكلم على رواية مالك؛ ثم انتقل إلى تخريج مسلم. (¬7) ما بين المعقوفتين مثبت من صحيح مسلم، وجاء في الأصل (فذبحوه) والسياق به غير ملائم.

وأما الترمذي: فأخرجه عن قتيبة، عن ابن عيينة، وعن عبد العزيز بن محمد عن زيد بن أسلم، بالإسناد ولفظ الأولى. وأما أبو داود: فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، بالإسناد ولفظ الرواية الثانيه. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، وعلي بن حجر، عن سفيان، عن زيد، مثل الترمذي. وفي أخرى: عن الربيع، وسليمان بن داود، عن إسحاق بن بكر -وهو ابن مضر- عن جعفر بن ربيعة، أنه سمع أبا الخير، وذكر نحو رواية مسلم. وفي الباب عن عائشة، وميمونة، وسودة بنت زمعة، وسلمة بن المحبَّق. "أيما": كلمتان هما "أيّ"، و"ما"، "فأي" هي التي تنوب في الشرط مناب حرفه، وهي اسم، تقول: أي الرجال يقم اضربه، وأيُّ الرِّجالِ يُكْرِمْنِي أُكْرِمْهُ، وهي فيه معرفة للإضافة، وقد تُترك الإضافة، وفيه معناها. وأما "ما" فإنها المبهمة، وَزِيدَتْ لتفيد التنكير لما يدخل عليه ويضاف إليه، وهو في هذا المكان "الإهاب"، وهي التي في قولهم: شيءْ ما، أي أيُّ شيء: كان قليلًا أوكثيرًا وهذه الرواية تؤكد مذهب الشافعي: أن الدباغ يطهر جلود الميتة لدلالة هذا اللفظ على الاستغراق من وجهين:- أحدهما: الشرط، والثاني: الإبهام والتنكير الحادثان بها. وأما "إذا" فاسم مبني، وهو ظرف زمانٍ مُسْتَقْبَل، ولم يستعمل إلا مضافًا إلى جملة، تقول: "أجيبك إذا قام زيد"، وفيها نوع مجازاة، فيجاب بها الشرط، كما يجاب بالفعل والفاء، نحو قوله تعالى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} (¬1) وهذا هو معنى قولهم: إنها تكون للمفاجآت، تقول: "خرجت فإذا زيد قائم" المعنى: خرجت ¬

_ (¬1) التوبة: [58].

ففاجأني قيام زيد. و"دُبِغَ" فِعْلٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُه. و"الإهاب، والطهورية" قد تقدم بيانهما. و"قد": حرف يصحب الأفعال، ويقرب إلى الحال، ويدخل على الماضي والمستقبل. و"المَسُّ واللَّمْسُ" أخوان تقول: مَسِسْتُ الشيِءَ -بالكسر- أَمسٌّ -بالفتح- وحكى أبو عبيدة: مَسَستُ -بالفتح- أمُسٌّ بالضم. وقوله: "مالكَ" أي ما شأنك وما أمرك؟. و"البربر" جيل من الناس مساكنهم البلاد العربية. و"السقاء" الظَّرْفُ الذي يكون فيه الماء واللبن إذا كان من جلد، والرطب للبن خاصة، والقربة للماء خاصة. وقوله: "يأتوننا بالسقاء" أي يجيئوننا ومعهم السقاء، وهذه الباء هي التي في قوله تعالى {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1)، وقوله {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (¬2). و"الودك" دسم اللحم، ولحم ودك.: أي سمين. و"الطَّهور" بالفتح- ما يتطهر به، وهو في هذا الحديث: ما يُدْبَغُ به الجلد من شب أو قرظ ونحوهما، ويجوز أن يكون بالضم يريد به الفعل نفسه. والمذهب في هذا الحديث؛ قد تقدم بيانه في حديث ابن عباس الذي قبله. واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) يوسف: [93]. (¬2) النمل: [38].

وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن ابن قسيط، عن محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يُسْتمتع بجلود الميتة إذا دُبِغَتْ". هذا حديث أخرجه (¬1) الموطأ، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3). وأما مالك: فأخرجه إسنادًا ولفظًا وقال: يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط. وأما أبو داود: فأخرجه عن القعني، عن مالك. وأما النسائي: فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن بشر بن عمر، عن مالك. وعن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. وله روايات أخرى في المعنى. ما في هذا الحديث من غريب وشرح وفقه؛ قد تقدم ذكره في حديثين: شاة ميمونة. وهذه الأحاديث الثلاثة، التي رواها الشافعي عن ابن عباس، في شاة مولاة ميمونة، وفي حديث ابن وعلة، وهذا الحديث دليل على فساد قول من قال: إن جلود الميتة لا تطهر بالدباغ، حيث قد صرح فيها بجواز الانتفاع بها بعد الدباغ، واحتج من قال بذلك بحديث عبد اللَّه بن عكيم، وقد تقدم ذكر الحديث، وهو حديث متروك, لأن ابن عكيم قد وهَّن حديثه العلماء، فإنه لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قوله حكاية عن كتاب أتاهم، فيحتمل إن ثبت الحديث، أن يكون جاء ناهيًا عن الانتفاع بها قبل الدباغ، ولذلك قال قوم: إن الإهاب ¬

_ (¬1) كذا بالأصل وهو خلاف العبادة، وعادته أن يسمي صاحب الكتاب؛ وموضعه في الموطأ (2/ 397 رقم 18). (¬2) أبو داود (4124). (¬3) النسائي (7/ 172).

هو اسم للجلد قبل أن يدبغ، فنهاهم أن ينتفعوا به من الميتة قبل أن يدبغ. ثم الحديث مضطرب الإسناد، فإنه روي مرة عن عبد اللَّه بن عكيم، عن أشياخ له من جهينة. ومرة قال: قبل موته بشهر، ومرة بشهرين. ولأجل ذلك روي عن أحمد بن حنبل في العمل به روايتان. وقال الترمذي: إن أحمد رجع عن القول الأول، ووافق الجماعة لهذا الاضطراب الذي في إسناده -واللَّه أعلم.

الفصل الثاني في آنية الذهب والفضة

الفصل الثاني في آنية الذهب والفضة أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن زيد بن عبد اللَّه بن عمر، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يَشْرَبُ في آنيةِ الفِضَّةِ إنما يُجَرْجِرُ في بَطْنِهِ نارَ جَهَنَّمَ". هذا حديث صحيح، متفق عليه، أخرجه مالك (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3). فأما مالك: فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري: فأخرجه عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك. وأما مسلم: فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأخرجه عن قتيبة، ومحمد بن رمح، عن الليث بن سعد، وعن علي بن حُجْرٍ، عن إسماعيل [بن] (¬4) عُلَيَّة، عن أيوب، وعن ابن نمير، عن محمد بن بشر، وعن ابن المثنى، عن يحيى بن سعيد، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، والوليد بن شجاع، عن علي بن مسهر، عن عبيد اللَّه، وعن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن الفضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، وعن شيبان بن فروج، عن [جرير] (¬5) بن حازم، عن عبد الرحمن السرَّاج؛ كل هؤلاء عن نافع بمثل حديث مالك، عن نافع. ¬

_ (¬1) الموطأ (3/ 705 رقم 11). (¬2) البخاري (5634). (¬3) مسلم (2065). (¬4) ما بين المعقوفتين سقطت من الأصل، والصواب إثباتها كذا جاء في مسلم. (¬5) ما بين المعقوفتين في الأصل [يحيى] وهو تصحيف، والمثبت من صحيح مسلم.

وزاد في حديث علي بن مسهر، عن عبيد اللَّه: "إن الذي يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة"، وليس في حديث واحد منهم ذكر "الأكل" و"الذهب"، إلا في حديث ابن مسهر وله في أخرى: عن أبي معن زيد بن يزيد الرقاشي، عن أبي عاصم عن عثمان بن مُرَّة، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن، عن خالته أم سلمة قالت: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارًا من جهنم". وفي الباب عن حذيفة، والبراء بن عازب، وعائشة، وأنس بن مالك، وابن عمر. "الذي": اسم مبهم معرفة ناقص، يحتاج إلى صلة وعائد، تقول: الذي أبُوه منطلق زيد، "فالذي" مبتدأ، و"أبوه منطلق" جملة من مبتدأ وخبر، والهاء في أبيه عائدة إلى "الذي"، وهذه الجملة صلة "الذي"، وزيد خبر المبتدأ الذي و"الذي". و"الجرجرة": صوت يردده البعير في جوفه، وهو بعير جرْجار. وقيل: هو صوت وقوع الماء في الجوف، وقيل: هو تردده فيه. والمراد بالجرجرة هاهنا: انحدار الماء في الحلق والجوف؛ يجعل للشرب جرجرة. و"البطن": خلاف الظهر وهو مذكر. وحكى أبو حاتم، عن أبي عبيدة أنَّ تأنيثه لغة. "والنار": مؤنثة والألف فيها منقلبة عن الواو، بدليل تصغيرها: نُوَيْرَة. و"جهنم": اسم عام لنار الدار الآخرة، وهو اسْمٌ مُلْحَقٌ بالخماسي، بتشديد النون، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث، ويقال: إن اشتقاقها من قولهم: ركية جِهِنَّام -بكسر الجيم والهاء- أي: بعيدة القعر، وقيل: إنها فارسية معربة. وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب الماء في آنية الذهب والفضة بابتلاع النار، ثم لم

يكتفِ أنه شَبَّبهَهَا بابتلاع النار مطلقًا، حتى جعلها نار جهنم، التي نار الدنيا جزء من سبعين جزءًا منها. والذي ذهب إليه الشافعي: أن آنية الذهب والفضة محرمة الاستعمال على الرجال والنساء مطلقًا، في الأكل، والشرب، وغيرهما من أنواع الاستعمالات. إلا أن لفظ الحديث إنما صرح بالشرب، وقاس العلماء عليه غيره حتى أنه حرم اصطناعه، ولذلك لا قيمة له على كاسره. وقيل في اتِّخَاذِهِ، وغرامةِ قيمته قولان، وقيل وجهان. ثم هذا النهي نهي تحريم، لتأكيده بالوعيد. وقال في القديم: إنه نهي تنزيه، وفيه بُعْد. والمُمَوَّة بالذهب فيه وجهان، أظهرهما الجواز.

الفصل الثالث في العظام

الفصل الثالث في العظام هذا الفصل لم يرد فيه حديث في المسند. وقد روى فيه الأصم، عن الربيع، عن الشافعي قال: وروى عبد اللَّه ابن دينار أنه سمع ابن عمر "يكره أن يدهن في مُدْهُن من عظام الفيل لأنه ميتة". وروى الزعفراني قال: قال الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عبد اللَّه ابن دينار، عن ابن عمر "أنه كان يكره عظام الفيل" وفي موضع آخر "أنه كان يكره أن يدّهن في عظم فيل". "المُدْهُنُ": إناء يكون فيه الدُّهْنُ، قال الجوهري: المُدْهُنُ -بالضم لا غير- قارورة الدهن، وهو مما جاء على مُفْعُل مما يستعمل من الأدوات. والذي ذهب إليه الشافعي: أن العظم والقرن والظفر فيه روح، وينجس بالموت وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، والمزني. قال أبو حنيفة: لا روح فيها ولا يَنْجُسُ بالموت. ومن أصحاب الشافعي من قال: إن حكم العظم والظفر والقرن حكم الشعور، والشعور عنده فيها خلاف، هل تنجس بالموت أم لا؟ وهل فيها روح أم لا؟ والصحيح أنها تنجس بالموت ولا تطهير بالدباغ. وقال الربيع عنه: إنها تَبَعُ الجلد في طهارته ونجاسته -واللَّه أعلم.

الفصل الرابع في آنية النصارى

الفصل الرابع في آنية النصارى وهذا الفصل لم يرد فيه حديث في المسند. وقد روى فيه الأصم، عن الربيع، عن الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، "أن عمر توضأ من ماء نصرانية في جرة نصرانية". وقد روى الشافعي في سنن حرملة، عن سفيان، عن أيوب [عن] (¬1) أبي قِلابة، عن أبي ثعلبة الُخَشْني -معنى مارواه غيره عنه وهو- أنه قال: يا رسول اللَّه! إنا بأرضٍ أهلها أهل كتاب، يأكلون لحوم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف بآنيتهم وقدُورِهِم؟ فقال: "دعوها ما وجدتم منها بُدًّا، فإذا لم تجدوا منها بُدًّا فارحضوها (¬2) بالماء -أو قال: اغسلوها- ثم اطبخوا فيها وكلوا -وأحسبه قال: واشربوا" (¬3). رواه الشافعي مختصرًا. "الرَّحْضُ": الغسل. والذي ذهب إليه الشافعي أنه قال: ولا بأس بالوضوء من ماء مشرك، وبفضل وَضُوئه ما لم يُعْلَم نجاسته. وتفصيل القول فيه: أن المشركين على ضربين:- ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين في الأصل (ابن) وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه. (¬2) عند الحاكم بلفظ (انضحوها). (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 143) من طريقين إلى أيوب بنحوه. والحديث أصله في الصحيحين والسنن ومسند أحمد بنحوه.

قوم لا يتدينون (¬1) بالنجاسات كأهل الذمة وغيرهم، فما شك فيه من ثيابهم وأوانيهم، [يرحض] (¬2) استعماله ولا يجب غسله، قال الشافعي: وأنا لما يلي أسافلهم أشد كراهة. وحكي عن أحمد، وإسحاق، أنهما قالا: يجب غسل أوانيهم وثيابهم. فأما من يتدين بالنجاسة كقوم يتقربون بأرواث البقر ومن يجري مجراهم، ففيه وجهان:- أحدهما:- يصح لأن الأصل في أوانيهم الطهارة. والثاني:- لا يصح لأنهم يتدينون باستعمال النجاسة، فالظاهر من ثيابهم وأوانيهم النجاسة. ... ¬

_ (¬1) قال الإمام النووي في المجموع (1/ 264): قال أصحابنا: المتدينون باستعمال النجاسة وهم الذين يعتقدون ذلك دينًا وفضيلة، وهم طائفة من المجوس يرون استعمال أبوال البقر وأخثائها قربة وطاعة، وقال الماوردي: وممن يرى ذلك البراهمة، وأما الذين لا يتدينون فكاليهود والنصارى. (¬2) في الأصل [يحصن] وهو تصحيف والصواب هو المثبت والرحض هو الغسل وانظر الحاوي للماوردي (1/ 90 - 91).

الباب الثالث في إزالة النجاسة

الباب الثالث في إزالة النجاسة وفيه خمسة فصول الفصل الأول في البول وفيه فرعان: الفرع الأول: في البول علي الأرض أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت أنس ابن مالك يقول: "بال أعرابي في المسجد، فَعَجِلَ الناس إليه، فنهاهم عنه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صُبُّوا عَلَيْهِ دَلْوًا مِنْ ماءٍ". هذا حديث صحيح، متفق عليه. أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، والنسائي (¬3). فأما البخاري: فأخرجه عن عبدان، عن عبد اللَّه، عن يحيى بن سعيد، وعن خالد [بن] (¬4) مخلد، عن سليمان، عن يحيى بن سعيد نحوه. وأما مسلم: فأخرجه عن قتيبة بن سعيد، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس: "أن أعرابيًّا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه لا تَزْرِمُوه"، قال: فلما فرغ، دعا بَدلْوٍ من ماءٍ فَصَبَّهُ عليه". وفي أخرى: عن زهير بن حرب، عن عمر بن يونس الحنفي، عن عكرمة بن ¬

_ (¬1) البخاري (221). (¬2) مسلم (284، 285). (¬3) النسائي (1/ 47 - 48). (¬4) من البخاري.

عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مَهْ مَهْ! قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لاتزرموه، دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هو لذكر اللَّه والصلاة، وقراءة القرآن، -أو كما قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -- قال: وأَمَرَ رجلًا من القوم فجاء بِذَنُوبٍ من ماء فَشَنَّهُ عليه". وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن حماد [عن] (¬1) ثابت، عن أنس، مثل رواية مسلم الأولى. وفي أخرى: عن قتيبة، عن عبيدة، عن يحيى بن سعيد، عن أنس. "الأعرابي": منسوب إلى الأعراب، وهم سكان البادية الذين لا يحضرون الأمصار ولا يسكنونها، سواء كانوا من العرب أو من غيرهم. "والعرب": كل من كان أصله عربيًّا، وإن لم يكن في بلاد العرب، كالذين [نزلوا] (¬2) بلاد فارس، وغيرهم من الأمم لمَا فتحوها وأولدوا فيها, ولسانهم اليوم عجمي، أو تركي، أو أرمني أو غير ذلك، ولا يتكلمون بالعربية ولا يحسنونها، فهم عرب لأنهم ينتسبون إلى العرب. وإنما نسب إلى الأعراب وهو جمع، لأنه جمع لا واحد له من لفظه، فَنُزِّلَ منزلة الواحد. "والذَّنُوبُ": -بفتح الذال المعجمة- الَّدَّلْو العظيمة إذا كانت ملأى ماء، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [بن] وهو تصحيف، والعجيب أنه تصحف أيضًا في النسخة المطبوعة من السنن. وانظر تحفة الأشراف (1/ 110) (¬2) في الأصل [تدبروا] والسياق بها غير متجه ولعلها صحفت والأقرب ما أثبتناه.

وقيل: إذا كانت قريبًا من الامتلاء، ولا يقال لها -وهي فارغة-: ذَنُوب، ويذكر ويؤنث. "وإلإزْرَامُ" -بتقديم الزاي على الراء- القَطْعُ، أي: لا تقطعوا عليه بوله، تقول (¬1): زَرِمَ البولُ والدَّمْعُ وغيرُهما: إذا انقطع، وأزرمه غيره. وقوله - صلى الله عليه وسلم - "دعوه" إنما قال ذلك لوجهين أحدهما: أن الأعرابي قد كان أراق بعض الماء والكل في النجاسة كالبعض من حيث إنه نجس. والثاني: أنه لو قطع بوله لتنجست ثيابه ولأعقبه داء في بدنه قاله الأطباء، فترجح جَانِبُ تَرْكِهِ حتى يُتِمَّ بَوْلَهُ على جانِبِ قَطْعِهَ لما قلنا, ولأنه أيضًا كان ينجس موضعين، وإذا ترك فالذي ينجس موضع واحد. ترجيح الفتوى بالدلالة أصل من أصول الفقه، ولا ينفذ فيها عند تعارض الوجوه إلا الماهر. وإنما سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأعرابي ولم يَلُمْهُ، لجِهله بحق المسجد، ومن أصول الشريعة أن الجاهل بالحرام إذا واقعه سلم من العقوبة والإثم، وقوله في الجهالة مقبول إلا أن يظهر من حاله وشاهد الأمن والوقت ما يدل على كذبه، فَيُقْضَى عليه بحكم العالم. وقوله "مه مه" بمعنى اسكت، وتكرارها للمبالغة. وقوله "فَشَنَّهُ عليه" قد جاء في كتاب مسلم، فيما قرأناه -وهو أخرج الحديث- بالشين المعجمة، وجاء في غيره بالمهملة. فأما المعجمة فمعناها: تفريق الماء عليه من جهاته، من قولك: شنَنْتُ الغارة، إذا فرَّقها من الجهات والجوانب. ¬

_ (¬1) كتب في الهامش: يقال.

وأما المهملة فمعناها الصَّبُّ والإراقة، فكأنه أشبه بالمعنى من المعجمة، لأن باقي الروايات قد جاء (¬1): "فصب عليه وأهراق عليه". والذي ذهب إليه الشافعي: أن البول إذا أصاب الأرض فإنها تطهر بأن يُصَبَّ عليها ماء يغمرها، فَيُسْتَهْلَكُ به البولُ فتذهب رائحته ولونه. وقال أبو حنيفة: إن كانت الأرض رَخْوةً ينزل فيها الماء فالصَّبُّ يُجْزِئُ، وإن كانت صُلْبَةً لم يجز فيها إلا الحفر ونقل التراب. وليس للدّلو التي تُصَبُّ على البَوْلِ مقدارٌ محدود، وإنما هو وما يغمره ويستهلكه -كما قلناه. على أن الشافعي قد قال في بعض كلامه: ويطرح على البول سبعة أضعافه من الماء، قالوا: لم يقل ذلك تقديرًا وإنما قاله تجربة. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: "دخل أعرابي المسجد وقال: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "لقد تحجّرتَ واسِعًا" فما لبث أن بال في ناحية المسجد، فكأنهم عجلوا عليه، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أمر بذَنُوبٍ من ماء، أو سَجْلٍ من ماء فأهريق عليه، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عَلِّمُوا ويَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا". وفي نسخة "أو سجل ماء". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). ¬

_ (¬1) كذا بالأصل. (¬2) البخاري (220، 6128). (¬3) أبو داود (380). (¬4) الترمذي (147) وقال: وهذا حديث حسن صحيح. (¬5) النسائي (1/ 48 - 49).

فأما البخاري فأخرجه مُفَرَّقًا في موضعين: أحدهما: عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة وقمنا معه، فقال أعرابي: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحمْ معنا أحدًا! فلما فرغ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد تحجرت واسعًا" -يريد رحمة اللَّه- عز وجل. والثاني: عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، أن أبا هريرة قال: "قام أعرابي في المسجد فبال، فتناوله الناس، فقال لهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه وهَرِيقوا على بوله سَجْلًا من الماء، أو ذَنُوبًا من ماء، فَإنَّما بُعِثتُمْ مُيسِّرِينَ، ولم تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ". وأما أبو داود: فأخرجه عن أحمد بن عمرو بن السرح. [و] (¬1) ابن عبدة في آخرين، وهذا لفظ ابن عبدة، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، وذكر الحديث بطوله نحوه. وأما الترمذي: فأخرجه عن ابن أبي عمر، وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي كليهما عن سفيان، عن الزهري، بالإسناد نحوه بطوله. وأما النسائي: فأخرجه عن عبد الرحمن بن إبراهيم، عن عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي، عن محمد بن الوليد، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن أبي هريرة، وذكر الفصل الأخير الذي يتضمن البول، كما أخرجه البخاري، إلا أنه قال: "دَلْوًا من ماء"، وأخرج الفصل الأول مفردًا كما أخرجه البخاري. قوله "تَحَجَّرْتَ واسِعًا" يعني ضَيَّقْتَ رحمة اللَّه، وأصله: اتخذت عليه حجرة أي: حظيرة أحاطت به من جوانبه، لأن رحمة اللَّه موصوفة بالسعة، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وإثباته هو الصواب، وكذا جاء في السنن.

قال الله عَزَّ وَجَلَّ (ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيء) (¬1) فحيث حصر الرحمة له وللنبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: لقد ضَيَّقْتَ الواسِعَ، وناحية المكان: جانبه. "والذَّنُوب": قد ذُكِرَ، "والسَّجْلُ": الدَّلْو العظيمة إذا كان فيها ماء قَلَّ أو كَثُرَ، ولا يقال لها -وهي فارغة -: سجل، كما لا يقال للدلو -وهي فارغة-: ذنوب، والسَّجْلُ مذكر، جمعه سِجَال. و"اليُسْرُ": ضد العسر، كالسعة والضيق، والرفق والعنف، المراد عَلِّمُوهم ما يلزمهم من أمور دينهم، وسهِّلوا عليهم، واسلكوا طريق الرفق في التعليم: ولا تشددوا عليهم، وتَلْقَّوْهُمْ بما يكرهون، فينفروا من قَبُولِ الدِّينِ، واتباعِ الهدى. "ومُيَسِّرين ومُعَسِّرِين": منصوبان على الحال من الضمير في "بُعِثْتُمْ"، والواو في قوله "ويسروا ولا تعسروا" واو الحال أي: عَلِّمُوا وحالتكم في التعليم اليسر لا العسر، ويشهد بصحة ذلك الرواية الأخرى "فإنما بعثتم ميسرين لا معسرين". وإضافة السَّجْلِ إلى الماء في قوله؛ "سَجْلَ مَاءٍ" إضافة بمعنى "من" بدليل ظهورها في الرواية الأخرى، في قوله: "سَجْلًا مِنْ ماءٍ". وإنما جازت هذه الإضافة -وإن كان السَّجْلُ ليس من ماء- لأن السَّجْلَ والذَّنُوبَ لا يسمِّيان بهذا الاسم إلا إذا كان فيهما ماء، فإذا لم يكن فيهما ماء فليس بَسجْلٍ ولا ذَنُوبٍ، فلما تخصصت التسمية بوجود الماء فيهما ولزومه لهما، صارا كأنهما من الماء وبعض الماء. "فَعَجَلَ الناس": يعني أطلقوا ألسنتهم في ذَمِّهِ وشتمه، وأيديهم في ضربه، كأنهم قد أخذوا من قولك: تناولت الشيء، إذا أخذته بيدك، ووقعت بفلان: إذا ذممته وشتمته، وما في هذا الحديث من الفقه قد تقدم في حديث أنس قبل هذا. ¬

_ (¬1) الأعراف: [156].

الفرع الثاني: في بول الطفل

الفرع الثاني في بول الطفل هذا الحكم لم يرد فيه في المسند شيء. وقد أخرج الشافعي في غير المسند قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "أُتِيَ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِصَبِيٍّ فَبَالَ على ثوبه، فَدَعا بماء فأتبعه إياه" (¬1). وروى الشافعي في حكاية بعض الأصحاب عنه، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، وعن أم قيس بنت محصن قالت: "دَخَلْتُ بِابنٍ لي عَلَى رسولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ فبال عليه، فدعا بماءٍ فَرَشَّهُ عليه" (¬2). قال الشافعي: وفيه دلالة على الفرق بين من أكل الطعام وبين من لم يأكله. وقال الشافعي في رواية حرملة: وإتباعه إياه الماءَ يَكُونُ صَبًّا عليه، ويكون غَسْلًا له بأن يصب عليه ويغسل، وقد يغسله مرة ويرشه أخرى، وفي الرش مرة دليل على أن الغَسْلَ اختيار. وقال في معنى الرش: فيجد صاحبه البلل فتطيب نفسه لأنه لا يدري لعل البلل من الماء. وقد حكى المزني -في المختصر الصغير- أنه قال: ولا يبين لي فَرْقٌ بينه وبين بول الصبية، ولو غُسِلَ كان أَحَبَّ إليَّ. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 78 - 79 رقم 109)، وأحمد (6/ 46)، والبخاري (222)، ومسلم (286) كلهم عن هشام به. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 79 رقم 110)، والبخاري (223) عن الزهري به.

فذهب وَهْمُ بعض الأصحاب: إلى أنه أراد به تعليق القول في جواز الرش على بول الصبية. وليس كما ذهب إليه، وإنما أراد تعليق القول في وجوب غسل بول الصبية، وذلك بَيِّنٌ في حكايته في الكبير قال: ولا يَبِينُ لي في بول الصبي والجارية فرق من السنة الثانية، ولو غسل بول الجارية، أكلت الطعام أو لم تأكل، كان أحب إلى احتياطًا، وإن رَشَّ ما لم يأكل الطعام أجزأ -إن شاء اللَّه. وإنما قال ذلك لأن الحديث الثابت في ذلك، حديث عائشة وأم قيس بنت محصن، وليس في حديثهما ذكر الصبية، فأشبه أن يكون بولها قياسًا على بول الصبي. ولم يثبت عند الشافعي، حديث من روى في حديث ذكر الصبية، حتى يفرق به بين بول الصبي والصبية. ولذلك قال: من السنة الثانية. ولذلك لم يثبت عند البخاري، ومسلم، سوى حديث عائشة وأم قيس. قال البيهقي - (رحمه اللَّه): وتفصيل المذهب في ذلك أن بول الصبي والصبية نجس، إلا أنهما يختلفان في الإزالة فإن بول الصبي:- ما لم يطعم الطعام -إذا أصاب إنسانًا، رش عليه حتى يغمره، وإن لم يَزُلْ الماء عنه. أما بول الجارية: فيغسل بأن يصب عليه ماء حتى يزول عنه، وبه قال أحمد، وأبو عبيد، قاله الإمام أبو نصر بن الصباغ في الشامل. وقال صاحب الإبانة، وصاحب التهذيب: في بول الجارية قولان. وقال أبو حنيفة، ومالك: يُغْسلُ بول الصبي والجارية. وقال داود: بول الصبي ما لم يأكل الطعام طاهر، والرش استحباب.

الفصل الثاني: في المني

الفصل الثاني في المني أخبرنا الشافعي، أخبرنا عمر بن أبي سلمة، عن يحيى بن سعد، عن القاسم، عن عائشة قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عائشة قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". وأخبرنا الشافعي، أنبأنا يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن حماد ابن أبي سليمان، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عائشة قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثم يصلي فيه". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). وقد روي عن الشافعي زيادة في رواية أخرى؛ من غير المسند "يفرك كما يفرك المخاط، والبصاقة، والطين، والشيء من الطعام يلصق بالثوب تنظيفًا لا تنجيسًا". وأخرج الشافعي أيضًا من رواية الربيع عنه، عن سفيان بن عيينة، عن منصور، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، قال: ضاف عائشة ضيف ¬

_ (¬1) مسلم (288). (¬2) أبو داود (371، 372) وقال عقب الرواية الثانية: وافقه مغيرة، وأبو معشر، وواصل. (¬3) الترمذي (116) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وهكذا روي عن منصور، عن إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عائشة مثل رواية الأعمش، وروى أبو معشر هذا الحديث عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، وحديث الأعمش أصح. وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر -رحمه اللَّه- عليه. (¬4) النسائي (1/ 156).

فأرسلت تدعوه، فقالوا لها: إنه أصابه جنابة، فذهب يغسل ثوبه، فقالت عائشة: "ولم غسله؟ إِنْ كُنتُ لأفرك المني من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". أما مسلم: فأخرج الحديث عن يحيى بن يحيى، عن خالد بن عبد اللَّه بن خالد، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود "أن رَجُلًا نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تره نضحت حوله، لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيصلي فيه". وأخرجه عن قتيبة بن سعيد، عن حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، وعن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عَرُوبة، جميعًا عن أبي معشر. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن هشيم، عن مغيرة. وعن محمد بن حاتم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مهدي بن ميمون، عن واصل الأحدب. وعن محمد بن حاتم، عن إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن منصور، ومغيرة. كل هؤلاء عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة في: حَتِّ المني من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، نحو حديث خالد، عن أبي معشر. وله روايات أخرى لهذا الحديث. وأما أبو داود: فأخرجه عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن همام، عن عائشة نحوه بِذِكْرِ الضَّيفِ. وله في أخرى: عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ويصلي فيه".

وأما الترمذي: فرواه عن هَنَّادٍ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، وذكر نحو الرواية التي فيها ذِكْرُ الضيف -بزيادة معنىً آخر فيها. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن حماد، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن الحارث [بن] (¬1) نوفل، عن عائشة [قالت] (¬2) "كنت أفرك المني، وقالت: مرة: الجنابة من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". وله روايات أخرى كثيرة لهذا الحديث. "الفَرْكُ": معروف وهو حكّ الشيء من الثوب بأصابعك أو بعود، ونحو ذلك لتزيله من الثوب. و"المَنِيُّ" -مشدد: معروف وقد منى وأمني بمعنى، واستمنى إذا استدعى خروج المني، وقالوا إنما سمي مَنِيًّا: لأنه يمنى أي يراق. و"النضح" بالحاء المهملة: -رش الماء على الثوب، والأرض، ونحو ذلك. وقولها "فيصلي فيه" فيه فائدة تَزِيدُ الاكتفاءَ بالفركِ تأكيدًا، وذلكِ أنه متى كان الفرك قريب العهد؛ واتصلت به الصلاة كان ذلك أَدَلَّ على بقاء أثر الشيء المفروك لقرب العهد به، وفي ذلك أقوى حجة لمن اكتفى فيه بالفرك، لأنها قالت: "كنت أفركه فيصلي" عَقَّبتِ الفركَ بالصلاة بالفاء، وهذه هي إحدى روايات هشام، وهي أشبه بالمعنى من باقي الروايات، لأن بعضها قالت: "ويصلي فيه"، وبعضها "ثم يصلي فيه"، وبعضها لم يذكر الصلاة. و"حَتُّ" الشيء مثل حَكِّهِ، إلا أن الحَتَّ كأنه أَخَصُّ بأطراف الأنامل من حكه. ¬

_ (¬1) بالأصل [عن] وهو تصحيف، والحارث هو: بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي المكي، صحابي. تقريب. (¬2) بالأصل [قال] وهو تصحيف والجادة ما أثبتناه كما في التخريج.

وقوله في رواية الجماعة: "وهو يغسل ثوبه" يعني أنه لم يكتف بغسل الموضع الذي ناله المني من ثوبه حتى غسل جميع الثوب احتياطًا، لئلا يكون قد أصاب موضعا آخر من ثوبه وجهلة "فلذلك قالت له: "إنما كان يكفيه إن رآه أن يغسل مكانه، وإن لم يره نضحه" ثم بَيَّنَتْ مستند فتواها بقولها: "لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيصلي فيه". وإذا كان الفرك مُجْزِئًا فكيف يغسل مكانه؟!. "ضِفْتَ الرَّجُلَ": إذا نزلتَ به ضَيْفًا، وأَضَفْتَهُ إذا أَنْزَلْته. والذي ذهب إليه الشافعي: أن مني الرجل طاهر، ومني المرأة نجس، وقيل: إنه طاهر. وإلى طهارة مني الرجل ذهب ابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وبه قال عطاء، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. فلا يجب غسله ويستحب فركه للحديث. وقال مالك، والثوري، والأوزاعي: إنه نجس يجب غسله ولا يكفي فيه الفرك، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وهو قول ابن المسيب. وقال أبو حنيفة: هو نجس إلا أنه يُغْسَلُ رَطْبُهُ، وَيُفْرَكُ يَابِسُهُ. ومن قال بطهارته، فليس في حديث الغسل وحديث الفرك تناقض؛ الغسل على الاستحباب والنظافة. وقد قال الشافعي: فإن قال قائل: عمرو بن ميمون، روى عن سليمان بن يسار، عن عائشة: "أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -" قلنا هذا إذا جعلناه يابسًا، فليس بخلافٍ لقولها: "كنت أفركه من ثوبه" كما لا يكون غسله قدميه مرة خلافُ لمسحه على خفيه في يوم من أيامه، وذلك أنه إذا مسح علمنا أنه يجزئ الصلاة بغسله لا أن واحدًا منهما خلاف الآخر، مع أن

هذا الحديث ليس بثابت عن عائشة، فإن عمرو بن ميمون يغلط في ذلك (¬1). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، وابن جريج، كلاهما يخبره عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال -في المني يصيب الثوب- قال: أمطه عنك. قال: أحدهما بعود أو إذخرة فإنما هو بمنزلة البصاق والمخاط. هذا الحديث هكذا جاء في المسند، مرفوعًا (¬2) على ابن عباس، وهو الصحيح. وروي عن شريك، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء مرفوعًا، ولا يثبت رفعه. وقد أخرجه الترمذي (¬3) في كتابه موقوفًا بغير إسناد. "الإماطة": الإزالة، أمطت الشيء إذا نحيته، ومطت أنا إذا انتحيت، وقيل: يقال: مطت الإناء؛ وأمطت أيضًا إذا انتحيت، ولذلك يقال: مطت غيري. ¬

_ (¬1) وهذا ادعاء بغير بينة، وعمرو لم يثبت عنه الغلط في هذه الرواية، وروايته مستقيمة لا مغمز فيها. فقد أخرج هذه الطريق البخاري في صحيحه (229، 230)، ومسلم (289) كلاهما من طريق عمرو بن ميمون، عن سليمان عنها به، وفيه التصريح بالسماع منها. قال الحافظ في الفتح (1/ 398 - 399): وفي الإسناد الذي يليه (سألت عائشة) فيه رد على البزار حيث زعم أن سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة، على أن البزار مسبوق بهذه الدعوى، فقد حكاه الشافعي في الأم عن غيره، وزاد أن الحفاظ قالوا: إن عمرو بن ميمون غلط في رفعه وإنما هو في فتوى سليمان. وقد تبين من تصحيح البخاري له وموافقة مسلم له على تصحيحه صحة سماع سليمان منها وأن رفعه صحيح، وليس بين فتواه وروايته تنافٍ، وكذا لا تأثير للاختلاف في الروايتين حيث وقع في إحداهما: أن عمرو بن ميمون سأل سليمان، وفي الأخرى: أن سليمان سأل عائشة، لأن كُلًّا منهما سأل شيخه فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعض وكلهم ثقات. وانظر أيضًا التلخيص الحبير (1/ 32 - 33). (¬2) ليس معنى الرفع هنا على المعنى الاصطلاحي المعروف، وإنما يقصد بذلك أنه أسند إلى ابن عباس. (¬3) جامع الترمذي (1/ 202) عقب حديث رقم (117). والطريق المرفوعة المشار إليها أخرجها البيهقي في السنن الكبير (2/ 418) من طريق شريك، عن ابن أبي ليلى موقوفًا على ابن عباس وهو الصحيح.

و"الإذخر": معروف. وهذا القول من ابن عباس: ذهاب منه إلى طهارته، وأنه يكفي إزالته بعود، ولا يحتاج إلى الغسل، ولذلك شبهه بما هو طاهر إجماعًا، وهو البصاق والمخاط. أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد، قال: أخبرني المصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه: "أنه كان إذا أصاب ثوبه المني؛ إن كان رَطْبًا مَسَحَهُ؛ وإن كان يابسًا حَتَّه ثم صَلَّى فيه". هذا الحديث مؤكد لحديث عائشة، وابن عباس؛ وما ذهب إليه الشافعي من الاكتفاء فيه بالحَتِّ والفَرْكِ. ***

الفصل الثالث: في دم الحيض

الفصل الثالث في دم الحيض أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دم الحيض؟ فقال: "حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ بالماء ثم رُشِّيهِ وصَلِّي فيه". أخبرنا الشافعي قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: أخبرنا هشام بن عروة، أنه سمع امرأته فاطمة بنت المنذر، تقول: سمعت جدتي أسماء بنت أبي بكر تقول: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دم الحيضة" فذكر مثله. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر [قالت] (¬1): "سألتْ امرأةٌ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول اللَّه! أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة، كيف تصنع؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: "إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة؛ فلتقرصه؛ ثم لتنضحه بالماء؛ ثم تصلي فيه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة؛ إلا أنهم جعلوا التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أسماء، مثل ما جاء في الرواية الثالثة. فأما مالك (¬2): فأخرجه مثل الرواية الثالثة إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام. ¬

_ (¬1) في الأصل [قال] وهو تصحيف والجادة ما أثبتناه كما في مطبوعة المسند. (¬2) الموطأ (1/ 76 - 77 رقم 103). (¬3) البخاري (307). (¬4) مسلم (291).

وعن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، عن هشام قال: حدثتني أسماء قالت: "جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: "إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة، فكيف تصنع به؟ قال: "تحته ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه". وأخرجه أيضًا: عن أبي بكر، عن ابن نمير، وعن أبي الطاهر السرحي، عن ابن وهب، عن يحيى بن عبد اللَّه بن سالم، ومالك بن أنس، وعمرو بن الحارث، كلهم عن هشام، مثل حديث يحيى بن سعيد. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن محمد بن عبد اللَّه النفيلي (¬2)، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "سمعت امرأة تسأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كيف تصنع إحدانا بثوبها إذا رأت الطهر، أتصلي فيه؟ قال: تنظر فإن رأت فيه دمًا، فلتقرصه بشيء من ماء؛ ولتنضح ما لم تر وَلْتُصَلِّ فيه". وله في أخرى: عن القعنبي، عن مالك، بإسناده ولفظه. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن أبي عمر العدني المكي، عن سفيان، عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء: "أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الثوب يصيبه الدم من الحيضة" فذكر الحديث. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن يحيى بن حبيب بن عربي، عن حماد بن زيد، عن هشام، بالإسناد وذكر الحديث هذه روايات هؤلاء الأئمة كلهم عن ¬

_ (¬1) أبو داود (360، 361). (¬2) كذا جاء بالأصل، وقد انقلب الاسم عليه وصوابه: عبد اللَّه بن محمد النفيلي؛ وكذا جاء في السنن. (¬3) الترمذي (138) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (1/ 155)، وفي الكبرى (285).

أسماء أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذي جاء في رواية الشافعي، عن سفيان، أن أسماء سألت، فجائز أن تكون أسماء روت عن نفسها أنها سألت، كما رواه الشافعي أولًا، وروت أن امرأة أخرى غيرها سألت كما سألته هي. وجائز أن تكون السائلة هي وحدها، إلا أنها لما روت الحديث وروت عن نفسها؛ ولم تخبر أنها هي السائلة، فإنها إذا قالت: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو سألتْ امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو جاءت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحو ذلك من الألفاظ، أمكن حملها على أنها هي السائلة والقائلة، وقد أخرج البخاري، وأبو داود والنسائي (¬1)، هذا المعنى في غسْل دم الحيض من الثوب، عن عائشة من طرق عدة. وأخرج أبو داود، والنسائي؛ بهذا المعنى أيضًا عن أم قيصر بنت محصن (¬2). "الحَيْضُ": مصدر حاضت المرأة؛ تحيض حَيضًا ومَحَاضًا فهي حائض وحائضة؛ أيضا عن الفراء. و"الحَيْضَةُ" -بفتح الحاء: المرة الواحدة من نوب الحيض ومراته. وبكسر الحاء: الاسم والحالة، وجمعها: حيض. و"الحيضة" -بالكسر- أيضًا الخرقة التي تستتر بها المرأة. واستحاضت المرأة: أي استمر بها الحيض بعد أيامها، والحالة الاستحاضة، والمرأة مُسْتحاضة. ¬

_ (¬1) البخاري (314)، وأبو داود (314، 315، 316)، والنسائي (135) ولفظ البخاري: (أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل ... الحديث". (¬2) أبو داود (363)، والنسائي (1/ 154 - 155). ولفظه: "أن أم قيس بنت محصن سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن دم الحيض يصيب الثوب؟ قال: حُكِّيِهِ بِضِلَعٍ واغسليه بماء وسدر".

وأصل الحيض: من الفيض، يقال: حاض السيل؛ إذا فاض. و"المحيض" عند الشافعي هو: الحيض كما يقال سار يسير سيرًا ومَسِيرًا. وقد ذهب قوم إلى: أن "المحيض": هو الفرج، أي: موضع الحيض. والأول الوجه. وقيل: إن أصله من الانفجار. وقد جاء في الحديث: الحَيضة بالكسر والفتح، والكسر أشبه وأولى، لأنها لم تُرِدْ به السؤال عن دم نوبة واحدة من نوب الحيض، إنما أرادت السؤال عن دم الحيض مطلقًا في كل نوبة، ولا يتم ذلك إلا مع الكسر -واللَّه أعلم. و"إصابة الدم الثوب": إذا ناله منه بشيء، والثوب ما يلبس مَخِيطًا كان أو غير مخيط. و"الحَتُّ": الحك، وقد ذُكِر. و"القرص": معروف وهو في هذا المقام الأخذ بأطراف الأصابع، أي: أنها تغسله بأطرافها، لأنه قال "ثم اقرصيه بالماء" فجعل قرصه بالماء وإن كان بالأصابع، والماء لا يقرص؛ فدل على أن المراد: اقرصيه بأصابعك، ثم اغسليه. وإنما أمرها - صلى الله عليه وسلم - بالحت والقرص؛ لأن غسل الدم بهما أذهب له؛ وأبلغ في إزالته من الفرك بجميع اليد. و"الرش": نضح المكان بالماء قليلًا متفرقًا، كما ينزل "الرش" وهو المطر القليل، والمراد: أنها بعد الحت والقرص؛ ترش على موضع الدم وما جاوره من أجزاء الثوب ماءً، وهذا مما يدل على التخفيف في غسله حيث اكتفي بالرش، ويعضده ما جاء في روايات البخاري، ومسلم، ومن ذكرنا من الأئمة.

"ثم لتنضحه": "ولتنضح ما لم تر"، فتعاضدت الروايات على جواز التخفيف فيه؛ والاكتفاء بالنضح والرش. وقيل: إنما أراد بالنضح والريق: الغَسْلَ، وهو المذهب. وقوله "أرأيت": بمعنى أخبرني وكذلك أرأيتك وأرأيتكم، وقد تخفف الهمزة فيقال: أرايت، وأرايتك، وأرايتكم. وحقيقة هذا: أنه لما كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها، طريقًا إلى الإحاطة بها علمًا وصحة والخبر عنها، استعملوا "أرأيت" بمعنى "أخْبِر". و"الكاف": لا محل لها من الإعراب، لأنك تقول: أرأيتك زيد ما شأنه، وقيل: تقديره: هل رأيت، وهل رأيتم، والكاف للتأكيد. و"إحدى": تأنيث أحد، تقول: أحد الرجال، وإحدى النساء. وقد استعمل أحد مع المؤنث، قال اللَّه تعالى {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (¬1). و"الصنع" "والصنيع"، والفعل صنعت به كذا أي: فعلت، ويقال صنع به صنيعًا قبيحًا، وصنع إليه معروفًا أي: أولاه. ومعنى إدخال "ثم" بين هذه الأوامر في قوله: "حتيه، ثم اقرصيه بالماء، ثم انضحيه" أن لا يتقدم أحدهما على الآخر، لأن ذلك أبلغ الطرق في إزالته، لأنه بالحت يذهب معظمه، وبالقرص باقيه، والغسل والنضح يطهره. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الدم إذا أصاب الثوب، سواء كان من الحيض أو غيره؛ فطريق إزالته أن يحت، ويقرص، ثم يغسل بالماء، فإن بقى اللون بعد ذلك فهو معفو عنه؛ لتعذر إزالته بخلاف الطعم، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وإزالة النجاسة فرضٌ عندهم من الثوب والبدن ومكان المصلى. ¬

_ (¬1) الأحزاب: [32].

وقال مالك بن أنس: ليس ذلك فرضًا؛ إلا ما كان منه على أعضاء الوضوء؛ فإنه تجب إزالته وغيرها مسنون؛ وحكى بعض أصحابه أنها فرض. والمستحب عند الشافعي: أن يكرر الغسل ثلاثًا؛ والواجب مرة واحدة تزيل النجاسة. وقد استدل الشافعي بهذا الحديث في موضع آخر: على أن لا وضوء على من مس شيئًا نجسًا، وقال: فإذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدم الحيض أن يغسل باليد؛ ولم يأمر بالوضوء منه؛ فكل ما مس من نجس قياس عليه؛ بأن لا يكون منه وضوء. وكذا قد استدل به الشافعي: على وجوب طهارة ثوب المصلي، قال: وفي هذا دليل على أن دم الحيض نجس، وكذلك كل دم غيره، والنجاسة لا يطهرها إلا الغسل، قال: والنضح اختيار، فإذا رَخَّصَ النبي - صلى الله عليه وسلم - للحائض تغسل أثر الحيضة من الثوب وتصلي فيه؛ ففي هذا دليل على أن ثوبها لو كان ينجس بلبسها أمرها بغسله، قال: والجنب كالحائض في هذا كله أو أخف. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال: أخبرني محمد بن عجلان، عن عبد اللَّه بن رافع، عن أم سلمة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثوب يصيبه دم الحيض؟ قال: "تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تصلي فيه". هذا الحديث أخرجه الشافعي مؤكدًا لحديث أسماء، وقال: فيه دلالة على ما قلنا من أن النضح اختيار، لأنه لم يأمر بالنضح في هذا الحديث. والمحيض في هذا الحديث: هو الحيض، وقد سبق ذكره في حديث أسماء.

الفصل الرابع: في الشوارع

الفصل الرابع في الشوارع أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أم سلمة أن امرأة سألت أم سلمة فقالت: إني امرأة أطيل ذيلي، وأمشي في المكان القذر؟ فقالت أم سلمة: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "يطهره ما بعده". هذا الحديث أخرجه مالك (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3). فأما مالك: فأخرجه بالإسناد واللفظ، إلا أنه قال: إنها سألت -يعني أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن. أما أبو داود: فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، بالإسناد ولفظه. وأما الترمذي: فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، مثله. وقد روى عبد اللَّه بن المبارك هذا الحديث عن مالك، عن محمد بن إبراهيم، عن أم ولد لـ هود بن عبد الرحمن، عن أم سلمة. وهو وَهْمٌ، وإنما هو عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن. وهو الصحيح (¬4). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 51 رقم 16). (¬2) أبو داود (383). (¬3) الترمذي (143). وقال: وفي الباب عن عبد اللَّه بن مسعود قال: "كنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا نتوضأ من الموطأ". وهو قول غير واحد من أهل العلم، قالوا: إذا وطئ الرجل على المكان القذر أنه لا يجب عليه غسل القدم، إلا أن يكون رطبًا فيغسل ما أصابه. وتتمة كلام الترمذي نقله المصنف عقب ذكر روايته. (¬4) المقصود بالصحيح هنا: الصحة النسبية، وإلا فإن إسناده ضعيف لجهالة أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن. قال ابن المنذر في الأوسط (2/ 170): =

"ذيل القميص والإزار": طرفه الذي يلي الأرض. و"القذر": بخلاف النظافة، و"شيء قذر" -بكسر الذال-، وكذلك قذرت الشيء وتَقَذَّرْته فاستقذرته: إذا كرهته. ومعنى قوله "يطهره ما بعده": إنما هو في ما جُرَّ على مكانٍ يابس فيه نجاسة يابسة؛ لا يعلق بالثوب منها شيء، فأما إذا جُرَّ على نجاسةٍ رطبةٍ فإنه لا يطهره إلا الغسل، هذا مذهب الشافعي. قال الشافعي عقيب هذا الحديث -في غير المسند: وهذا في اليابس، فأما في الرَّطْبِ فإن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سَنَّ فيه أن طهارته بالماء. وقال أحمد بن حنبل: ليس معناه إذا أصابه نجاسة؛ ثم مر بعدها على الأرض أنها تطهره؛ ولكنه أراد أن يمر بمكان فيقذره؛ ثم بمكان آخر أطيب منه فيصير ذلك بهذا، إلا أنه يصيبه منه شيء. وقال مالك: معنى ذلك أن الأرض يطهر بعضها بعضًا، فأما النجاسة مثل: البول ونحوه يصيب الثوب أو البدن -الجسد- فإن ذلك لا يطهر إلا بالغسل، وهذا إجماع. وفي إسناد هذا الحديث مقال، لأنه عن أم ولد لإبراهيم بن عبد الرحمن، وهي مجهولة والمجهول لا يقوم به الحجة، وقد تقدم ذكر رواية ابن المبارك؛ عن أم ولد لهود بن عبد الرحمن، فقد اختلف فيه على مالك، وعلى تقدير صحته، يكون المعنى على ما ذكرناه مِنْ تأويل العلماء له. ¬

_ = روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا يدخل في هذا الباب، وفي إسناده مقال، وذلك أنه عن امرأة مجهولة، أم ولد إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف غير معروفة برواية الحديث. وكذا قال الخطابي ووافقه المنذري. وانظر مختصر السنن (1/ 227). وقال البيهقي في الخلافيات (1/ 135): أم ولد إبراهيم لم يخرج حديثها في الصحيح، وما رويناه أصح، ثم هو محمول على النجاسة اليابسة التي تسقط عن الثوب بالسحب على الأرض.

فأما طين الشوارع فقليله معفو عنه؛ لتعذر الاحتراز عنه، وقد حُدِّدَ القَلِيلُ بما يظن أن لابس الثوب قد سقط في الطين. وقد روى الشافعي -رضي اللَّه عنه- عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إن الريح لتسفي علينا الرَّوْثَ والخِراءَ اليابسَ؛ فيصيب وجوهنا وثيابنا فننفضه -أو قال فنمسحه- ثم لا نتوضأ ولا نغسله. ***

الفصل الخامس: في العرق

الفصل الخامس في العَرَقِ هذا الفصل لم يرد في المسند فيه حديث. وقد روى فيه المُزَنِيُّ عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن أيوب السختياني، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يدخل على أم سليم، فَتَبسُطُ له نِطْعًا فَيَقِيلُ عليه، فتأخذ من عَرَقِهِ فتجعله في طِيبها، وتبسط له الخُمْرَةُ فيصلي عليها". قال الشافعي في رواية حرملة: هذا ثابت ولا أحسب أم سُلَيم تجعل عرق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في طِيبِهَا، إلا أن تعلمه. وفي ذلك دلالة على أن العرق طاهر. وحديث أنس حديث صحيح، متفق عليه، قد أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، والنسائي (¬3)، أطول من هذا قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخلُ بيتَ أم سليم، فينام على فراشها -وليست فيه- قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأتت فقيل لها: هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - نائم في بيتك على فراشك، قال: فجاءت -وقد عرق واستنقع عَرَقُهُ على قطعةِ أديمٍ على الفراش- ففتحت عَتِيدَها (¬4) فجعلت تنشف ذلك العَرَق فتعصره في قواريرها، ففزع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟ فقالت: يا رسول اللَّه، نرجو بركته لِصِبْيانِنا، قال: "أَصَبْتِ". ¬

_ (¬1) البخاري (6281). (¬2) مسلم (2331، 2332). (¬3) النسائي (8/ 218). (¬4) كالصندوق الصغير الذي تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها النهاية (3/ 177).

وفي رواية "تجعله في طيبها، وهو أطيب الطيب". قوله "فيقيل عليه": من القائلة، وهو شدة الحر. و"الخُمْرَةُ": حصير صغير بقدر الكف من ليفٍ أو خوص، أو غير ذلك، وهو الذي يُسْجَدُ عليه اليوم (¬1). و"العتيدة": الإناء الذي تترك فيه المرأة ما يعز عليها من متاعها. و"الفَزَعُ": هنا الانتباه من النوم، وليس الخوف، والفَرَق. ... ¬

_ (¬1) قال المصنف في النهاية (2/ 77): هي مقدار ما يقع الرجل عليه وجهه في سجوده من حصير أو نسيجة خوص ونحوه من النبات ولا تكون خمرة إلا في هذا المقدار.

الباب الرابع في الاستطابة

الباب الرابع في الاستطابة وفيه خمسة فصول: الفصل الأول في استقبال القبلة واستدبارها وفيه فرعان:- الفرع الأول: في النهي عنه أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا لكم مثل الوالد؛ فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط؛ فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بغائط -وفي نسخة لغائط- ولا بول، وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرّمة؛ وأن يستنجي الرجل بيمينه". قال الشافعي: هذا حديث ثابت وبه نقول. وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1)، وأبو دواد (¬2)، النسائي (¬3). فأما مسلم: فأخرجه عن الحسن بن خراش، عن عمر بن عبد الوهاب، عن يزيد زريع، عن روح بن القاسم، عن سهيل، عن العقعاع [عن] (¬4) أبي صالح، ¬

_ (¬1) مسلم (265). قلت: وأعل الدارقطني وأبو الفضل الهروي هذا الطريق. قال الدارقطني: هذا غير محفوظ عن سهيل وإنما هو حديث ابن عجلان حدث به الناس عنه منهم: روح بن القاسم، كذلك قال أمية بن يزيد. انظر "التتبع والإلزامات" صـ 168 - 169 وانظر أيضًا "بين الإمامين مسلم والدارقطني" (77). (¬2) أبو داود (8). (¬3) النسائي (1/ 38). (¬4) بالأصل (ابن) وهو تصحيف وقد تكرر هذا النوع من التصحيف كثيرًا.

عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جلس أحدكم على حاجته؛ فلا يستقبلن القلبة ولا يستدبرها". وأما أبو داود: فأخرجه عن عبد اللَّه بن محمد النفيلي، عن ابن المبارك، عن محمد بن عجلان، بالإسناد وذكر معنى حديث الشافعي بتقديم وتأخير. وأما النسائي: فأخرجه عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن عجلان، بالإسناد مثل أبي داود ونحوه، وقد رواه الشافعي في كتاب "القديم"، عن بعض أصحابهم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، بإسناده مختصرًا في الأمر بالاستنجاء بثلاثة أحجار، والنهي عن الروث والرمة. وفي الباب عن عائشة، وخزيمة بن ثابت، وابن مسعود، وجابر، ورويفع بن ثابت. اللام في قوله "إنما أنا لكم" لام الملك، أو لام أَجْل، أي لأجلكم. "ومثل الشيء": شبهه ونطيره، يقال: هو مِثْلُهُ ومَثَلُهُ، وشِبْهُهُ وشَبَهُه، وهو اسم مُعْرَبٌ مضاف أبدًا، إلا أنه لا تفيد الإضافة فيه تعريفًا، تقول: مررت برجل مِثْلِكَ، فكل من عداه تناوله لفظ "مثل" إذا كان يشبهه، ولذلك يوصف به النكرة؛ فتقول: مررت برجل مثلك، فيجوز هذا اللفظ أن يكون أراد أنه مَرَّ به وبمثله، وأنه مر بمثله لا به. وقوله "بمنزلة الوالد" و"مثل الوالد" يعني أن الأب كما أنه يُعَلِّمُ وَلَدَهَ حُسْنَ الأدبِ في ما يأتيه ويَذَرُهُ من قول وفعل؛ فكذلك أنا لكم أعلمكم ما لكم وعليكم. و"الغائط": في أصل الوضع الموضع المطمئن من الأرض.

ولما كان من عادتهم؛ أنهم يقضون الحاجة في أمثال تلك الأمكنة؛ تسترًا عن أعين الناظرين؛ لأنهم لم يكن لهم كُنُفٌ في البيوت، ولا كانوا يتخذون الحُشوش في الأفنية وكَثُرَ فِعْلُ ذلك منهم، سموا النجو نفسه الغائط تسمية الشيء بمكانه، فهو في أول الحديث كناية عن الموضع، وفي أثنائه كناية عن النجو. وإنما فعل ذلك كراهةً لِذِكْرِ اسمه الخاص به؛ فإن من عاداتهم التأدب في ألفاظهم، واستعمال الكنايات في كلامهم، وصون الألسنة عما تصون عنه الأبصار والأسماع. و"القِبْلة": الجهة التي يُصَلَّى إليها؛ قصدًا إلى البيت الحرام. "واستقبالها": جَعْلُها في مقابل وجهه. "واستدبارها": جعلها بالعكس من جهة ظهره، وفي إحدى الروايتين "بغائط" بالباء؛ فجعل الغائط هو الذي يستقبل به القبلة. وفي الأخرى: "لغائط" باللام، جعل نفسه الذي يستقبل القلبة، ثم علل استقباله أنه لأجل الغائط والبول. وقوله: "ولا بول" فذكر "لا" زيادة في البيان، وإيضاح لتفصيل جملة متوهمة؛ وذلك أنه لو قال: فلا يستقبلها بغائط وبول، جاز أن يكون النهى عن استقبالها بهما معًا، وعن استقبالها بكل واحد منهما على الانفراد، فأما حيث قال "ولا بول" فإنه زال ذلك الاحتمال، وصار التقدير: فلا يستقبلها بهذا ولا يستقبلها بهذا. ويبقى حينئذٍ توهم جواز استقبالها بهما جميعًا؛ لأن اللفظ لا يدل عليه. وينبني بهذا الاحتمال، أنه إنما نهى عن استقبالها، بالغائط والبول إكرامًا لها؛ تنزيهًا عن كل واحد منهما؛ فإذا كان قد نَزَّهَها عن كل واحد منهما، على الانفراد فلأن ينزهها عنهما أولى.

"والاستنجاء": استفعال من النجو وهو الخارج، أو من النجو -وهو المكان المرتفع من الأرض- لأنهم كانوا يَقصدون تلك الأماكن ليستتروا بها، وقيل أصل الاستنجاء نزع الشيء عن موضعه وتخليصه منه، ومنه قولهم: نجوت الرطب واستنجيته إذا جنيته، فيكون "اليستنج" إما إزالة النجو -الذي هو الحدث- عن بدنه، وإما الذهاب إلى النجوة من الأرض. والباء في "بثلاثة" هي باء التسبب والمباشرة، مثل: كتبت بالقلم، وضربت بالسيف. "ولا" في قوله "فلا يستقبل" ناهية، وفي قوله "ولا بول" نافية. واللام في "وليستنج" لام الأمر وهي تجزم الفعل المستقبل، وجزم هذا الفعل حذف الياء، وهذه اللام إنما تدخل على أمر الغائب نحو: ليقم زيد، وقد دخلت على الحاضر شاذًّا، وقرئ به قوله سبحانه {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (¬1) وفعل الأمر مبني عند البصريين من النُّحاة، إلا ما دخل عليه لام الأمر مثل هذا الفعل فإنه معرب، "والنهي" خلاف الأمر، تقول: نهيته عن كذا فانتهى أي: كَفَّ. وقد اختلف الأئمة في كون الأمر بالشيء؛ هل هو نَهْي عن ضده أم لا؟. فقال الذاهبون إلى قدم الكلام الذي اتصف به الرب -سبحانه وتعالى- إنه وصف واحد يستحيل التعدد والتغاير، وهو خبر عن كل مخبر، وأمر بكل مأمور، ونهي عن كل منهي. واختلفوا في أوامرنا التي نتصف بها. فمن زعم أن حقيقة الكلام ترجع إلى ما في النفس؛ زعم أن الأمر بالشيء -على التنصيص؛ لا على التخيير- نَهْيٌ عن جميع أضداد المأمور به. ومن زعم أن الكلام ينطلق على العبارات والحروف المنتظمة والأصوات، لم يُطلق القول بالأمر بالشيء نهي عن ضده؛ فإن الأمر عنده قول القائل: افعل، ¬

_ (¬1) يونس: 58

والنهي قوله: لا تفعل، ولكنه قال: الأمر بالشيء على الجزم، معنى التخيير يتضمن النهي من طريق المعنى، وليس هو عين النهي. وذهبت المعتزلة بأسرها إلى: أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن أضداد المأمور به، لا من حيث الحقيقة ولا من حيث المعنى (¬1). "والروث": الرجيع من كل حيوان، وكأنه بالدواب أخص، والروثة أخص منه، ويُجْمع على أرواث. "والرِمّة" بكسر الراء: العظام البالية، والجمع رميم، فهو رميم (¬2). وموضع قوله "وأن يستنجي" جر لأنه معطوف على "الروث" "والرمة" لأن "أن" والفعل بمنزلة المصدر، تقديره والاستنجاء باليمين. "والاستطابة": الاستنجاء، وسمي استطابة لما فيه من إزالة النجاسة؛ وتطهير موضعها من البدن، يقال: استطاب الرجل إذا استنجى فهو مستطب، وأطاب فهو مطيب، ومعنى الطيب هنا الطهارة. "والخلاء": ممدودًا -موضع قضاء الحاجة، وأصله من الخلوة لأن من يريد قضاء الحاجة؛ فإنما يكون وحده ليخلو بنفسه، فسمي الموضع بذلك خاصة لهذا المعنى. ¬

_ (¬1) قال ابن حزم في الأحكام (2/ 328): الأمر: هو نهي عن فعل كل ما خالف العمل المأمور به، وعن كل ضد له خاص أو عام، فإنك إذا أمرته بالقيام فقد نهيته عن القعود والاضطجاع والاتكاء والانحناء والسجود، وعن كل هيئة حاشا القيام، وإنما كان هكذا لأن ترك أفعال كثيرة مختلفة في وقت واحد واجب موجود ضرورة، لأن من قام فقد ترك كل فعل خالف القيام كما أخبرنا في حال قيامه، والنهي يقتضي اجتناب المنهي عنه كما أن الأمر يقتضي إتيان المأمور به، وقد بينا أن النهي عن الشيء أمر بتركه، والأمر بالترك يقتضي وجوب الترك، وبيَّنَّا أن الأمر بالشيء نهيٌ عن تركه، فالنهي عن الترك يقتضي الفعل الذي بوقوعه يرتفع تركه. وانظر تفصيل المسألة في البحر المحيط للزركشي (2/ 416). (¬2) كذا بالأصل وفي النهاية (2/ 267) قال المصنف: الرمّةُ والرميم العظم البالي ويجوز أن تكون الرمة جمع الرميم.

وقوله: "إنما أنا لكم بمنزلة الوالد": مثل الوالد كلام بسط وتأنيس للمخاطبين، لئلا يحتشموه ولا يستحيوا أن يسألوه فيما يَعْرِضُ لهم من أمر دينهم وإن كان مما يوجب الحياء، كما لا يستحيي الولد من مساءلة الوالد؛ فيما يعرض له من الأمور. وفي هذا بيان على أن على الوالد: أن يعلم ولده ما يلزمه من أمر دينه، لأنه قال: "بمنزلة الوالد أعلمكم". والذي ذهب إليه الشافعي: أن استقبال القبلة واستدبارها؛ عند قضاء الحاجة والبول لا يجوز في الصحاري؛ ويجوز في البنيان وبه قال مالك، وإسحاق، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وروي ذلك عن العباس، وابن عمرو. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يجوز استقبالها في الصحراء والبناء. وعن أبي حنيفة في استدبارها روايتان، وروي مثل ذلك عن أحمد. وحكي المنع جملة عن أبي أيوب الأنصاري، وبه قال النخعي. وقال داود، وربيعة: يجوز الأمران معًا فيهما، وروي ذلك عن عروة بن الزبير. وأما الاستنجاء فإنه عند الشافعي واجب، وبه قال مالك في إحدى الروايتين عنه، وبه قال سفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، وداود. وقال أبو حنيفة: لا يجب الاستنجاء. وأما النجاسة في الثوب وسائر البدن، فَيُعْفَى عن قَدْرِ الدرهم البعلي. والاستنجاء إمّا أن يكون بالماء أو الحجر، أو ما يقوم مقام الحجر أو بهما جميعًا؛ والجمع بينهما هو الكمال، وبأحدهما هو الإجزاء، فإن استنجى بالماء فالذي يجزئه تنظيف المحل، وإن استنجى بالأحجار أو بما قام مقامها، فيلزمه الجمع بين الإنقاء واستيفاء العدد، فإن أنقى بما دون الثلاث لزمه إتمام العدد، وإن لم يُنْقِ بالثلاث زاد عليها حتى يُنقي، فإن أنقى بالرابعة أَوْتَرَ بخامسة

لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من استجمر فليوتر" (¬1) وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك، وداود: الواجب الإنقاء دون العدد. وأما أبو حنيفة: فإنه لا يوجبه، ولكن يستحبه ولا يراعي العدد. وقال الشافعي: يجوز الاستنجاء بما يقوم مقام الحجر، من كل جامد طاهر منق، غير مطعوم ولا محترم ولا متصل بحيوان. وقال داود: لا يجوز بغير الحجارة، وحكى ذلك عن زفر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. قال الشافعي: ويستنجي بالحجارة في الوضوء؛ من يجد الماء ومن لا يجده، ولو جمعه رجل فاستعمل الحجر ثم غسل بالماء؛ كان أحب إلىَّ. قال: ويقال: إن قومًا من الأنصار استنجوا بالماء، فنزلت فيهم {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (¬2). قال الخطابي: ويعضد مراعاة العدد، ما ورد في حديث سلمان الفارسي: "وأن لا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار" ففي ذلك البيان الواضح؛ أن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار لا يجوز -وإن وقع الإنقاء بما دونها- فلو كان الإنقاء هو المقصود فحسب، لم يكن لاشتراط عدد الثلاث معنى ولا في ترك الاقتصار على ما دونها فائدة، فلما اشترط العدد لفظًا كان الإنقاء من معقول الخبر ضمنًا، ودل على أنه إيجاب للأمرين معًا؛ وليس هذا كالماء لأن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (161)، ومسلم (237). كلاهما من حديث أبي هريرة وتمامه: (من توضأ فَلْيَسْتَنْثِرُ، ومن استجمر فليوتر). (¬2) يشير إلى ما أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "نزلت هذه الآية في أهل قباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} قال: كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية من سورة التوبة 108. وراجع تخريجه من الإرواء (45)، والتلخيص الحبير (1/ 112).

الماء يزيل العين والأثر، فحل محل المحسوس المشاهد ولم يحتج فيه إلى الاستظهار بالعدد، والحجر لا يزيل الأثر إنما يفيد الطهارة من طريق الاجتهاد، فصار العدد من شرطه استظهارًا كالعدة بالأقراء؛ لما كانت دلالتها من جهة الطهور والغلبة على سبيل الاجتهاد؛ شرط فيها العدد وإن كانت براءة الرحم قد تكون بالقرء الواحد. وقد أجاز الشافعي أن يستنجى بحجر له ثلاثة أحرف، بثلاث مسحات متفاصلة، وأقام ذلك مقام ثلاثة أحجار. ومذهبه في تأويل الخبر: أن معنى الحجر أَوْفَي من اسمه، وكل كلام كان معناه أَوْفَى من اسمه وأوسع فالحكم للمعنى، الاستنجاء غير واقع بجميع الحجر بل ببعضه، فأبعاض الحجر كأبعاض الأحجار. وأما نهيه عن الاستنجاء بالروث، فلأن الروث نجس؛ والمراد من الاستنجاء: التطهير، فما ليس بطاهر كيف يطهر نجسًا؛! وأما العظم فإنه يدخل فيه كل عظم، ذَكِيٍّ أو ميتة حملًا على عموم اللفظ، وإنما نهى عنه؛ لأنه لزج أملس لا يكاد لملاسته يقلع النجاسة، وينشف البلة بل يبسطها وينشرها. وقيل: إن العظم لا يكاد يَعْرَى من بقية دسم قد علق به، وقد جاء في بعض الحديث (¬1) "إن الروث علف دواب الجن، والعظم طعامهم" وهذا النهي عن الاستنجاء بالعظم والروث؛ نهي تحريم. ¬

_ (¬1) أخرج مسلم (450) عن ابن مسعود في ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الجن وفيه: "أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطَلَقَ بنا فأرانا اثارهم واثار نيرانهم. وسألوه الزاد، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم اللَّه عليه يقع في أيديكم أَوْفَرَ ما يكون لحمًا؛ وكل بعرة علف لدوابكم؛ فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم".

وأما "النهي عن الاستنجاء باليمين"، فإنه نهي تأديب وكراهية في قول أكثر العلماء، لأن اليمين مُرْصَدَةٌ في أدب السنة؛ للأكل والشرب، والأخذ والعطاء، مصونة عن مباشرة الأذى وأماكنه؛ وعن مُمَاسَّة الأعضاء التي هي مجاري النجاسات، وجُعِلتِ اليسرى لذلك. وقال بعض أهل الظاهر: إذا استنجى بيمينه لم يجزه، وجعلوه بمنزلة المستنجي بالروث والرِمّه لاشتراكها, ولأنهما في النهي في حديث واحد. والفرق بينهما: ما قدمناه من وجه النهي عن الروث والرمة، فإن ذلك المعنى معدوم في اليمين، ولأن الروث والرمة هما المباشران للنجاسة؛ التي يراد إزالتها بالاستنجاء وليست اليد كذلك، فإنها آلة تستعمل في إيصال المزيل إلى محل النجاسة، واليمين فيها والشمال بمعنى. فآداب الاستنجاء كثيرة، وهي معدودة في كتب الفقه. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهي أن تستقبل القبلة بغائط أو بول؛ ولكن شرقوا وغربوا"، فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنِيَت قِبل القلبة؛ فننحرف ونستغفر اللَّه. هكذا رواه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث (¬1)، ورواه في كتاب الرسالة (¬2) أن النبي صلى - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها" ثم ذكر ما بعده. والحديث حديث صحيح، متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬3): فأخرجه عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن رافع بن ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث ص 269. (¬2) الرسالة رقم (811). (¬3) الموطأ (1/ 172 رقم 1).

إسحاق -مولى لآل الشفّاء وكان يقال له: مولى أبي طلحة، أنه سمع أبا أيوب الأنصاري -وهو بمصر- يقول: واللَّه ما أدري كيف أصنع بهذه الكرابيس؟ وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ذهب أحدكم لغائط أو بول، فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بفرجه". وقد أخرج المزني عن الشافعي هذه الرواية عن مالك. وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن علي بن عبد اللَّه عن سفيان بالإسناد واللفظ. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن زهير بن حرب، وابن نمير، ويحيى بن يحيى عن سفيان، بالإسناد واللفظ. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسدد، عن سفيان، إسنادًا ولفظًا. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن منصور، بالإسناد إلى قوله: "وغَرِّبُوا" وله في أخرى مثل رواية مالك. "المراحيض": جمع مرحاض، وهو المُغْتَسَلُ، من رَحَضْتُ الثوب أَرْحَضُهُ إذا غسلته، فاستعير للكنيف لأنه موضع يغسل فيه أثر النجو والبول. "وَقُبُلُ الشيء": جهته ومقابله. وقوله: "شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا" خطاب لأهل المدينة ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، وأما من كانت قبلته إلى جهة الشرق أو جهة الغرب؛ فلا يجوز له أن يستقبلها ولا يستدبرها، فلا يُشَرِّق ولا يُغَرِّبْ. وقد اختلف الناس في الاستقبال والاستدبار، لاختلاف الأحاديث الواردة ¬

_ (¬1) البخاري (394). (¬2) مسلم (264). (¬3) أبو داود (9). (¬4) النسائي (1/ 21 - 22).

فيها، وقد ذكرنا ذلك في حديث أبي هريرة. وقد حمل الشافعي حديث أبي أيوب الأنصاري، على الصحاري وعلى أن الرخصة في البناء لم تبلغ أبا أيوب، ولذلك قال: "فننحرف ونستغفر اللَّه". وقد أخرج المزني (¬1)، عن الشافعي، عن مالك، عن نافع مولى ابن عمر أن رجلاً من الأنصار أخبره عن أبيه "أنه سمع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن تستقبل القبلة لغائط أو بول". ... ¬

_ (¬1) انظر معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/ 332).

الفرع الثاني: في جوازه

الفرع الثاني في جوازه أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى ابن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان يقول: إن ناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، قال عبد اللَّه بن عمر: "لقد ارتقيت على ظهر بيتٍ لنا فرأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين مستقبلًا بيت المقدس لحاجته". وقد روى المزني، عن الشافعي قال: أما مالك فذكره بإسناده وزاد: قال ابن عمر: لعلك من الذين يصلون على أوراكهم، قلت: لا أدري واللَّه، يعني: الذي يسجد ولا يرتفع عن الأرض؛ يسجد وهو لاصق بالأرض. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد ولفظ المزني. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك، بالإسناد واللفظ. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن القعنبي، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد بالإسناد نحوه. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه بإسناد مسلم نحوه. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 172 رقم 3). (¬2) البخاري (145). (¬3) مسلم (266). (¬4) أبو داود (12).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن هَنَّاد، عن عبدة، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، بالإسناد قال: رقيت على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على حاجته، مستقبل الشام مستدبر الكعبة. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، بالإسناد واللفظ. وهذا الحديث أخرجه الشافعي، في كتاب اختلاف الحديث (¬3)، بعد حديث أبي أيوب الأنصاري. "رقي": يرقي إذا صعد، "والمراقي" جمع مِرْقَاة، وهي الدرجة. "واللَّبِنة" -بفتح اللام وكسر الباء-: معروفة، وجمعها لَبِن. وقوله: "مستقبلًا": وهو نصب على الحال من رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. "والبيت المقدس" و"بيت المقدس": المسجد الأقصى، فالأول على الصفة، والثاني من إضافة الموصوف إلى الصفة كصلاة الأولى ومسجد الجامع. و"المقدس": الطهر، والقدس: الطهر. والمراد بـ "الحاجة": الغائط. وأما استقبال بيت المقدس واستدباره، فيحتمل أنه على معنى الاحترام له؛ لأنه موضع شريف وكان قبلة في أول الإسلام. ويحتمل لأنه إذا استقبل البيت المقدس استدبر الكعبة، وإذا استدبره استقبلها، فنهي عن ذلك. وهذا إنما يتم في المدينة وما يجري مجراها؛ مما هو في جهتها أو مثل جهتها، ونحو ذلك من الجهات التي يتم فيها الاستقبال والاستدبار للكعبة وبيت ¬

_ (¬1) الترمذي (11) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (1/ 23). (¬3) اختلاف الحديث (538).

المقدس. وهذا الحديث حجة لما ذهب إليه الشافعي، ومن قال بقوله في التفريق بين الصحاري والبنيان. فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد استقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة في البنيان، فوق ظهر البيت كما ذكر ابن عمر. وقد علل الفرق: بأن الفضاء والصحراء موضع الصلاة، ومتعبد للملائكة والإنس والجن، والقاعد فيه مستقبلًا ومستدبرًا لها، مستهدف لأبصار المصلين، وهذا المعنى مأمون في الأبنية. وفي العمل بذلك جمع بين الأخبار، والعمل بها، وفي العمل بحديث أبي أيوب، تعطل لبعض الأخبار وإسقاط العمل بها (¬1). ... ¬

_ (¬1) قال الإمام الشافعي في الرسالة (295 - 296). لما حكى ابن عمر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستقبلًا بيت المقدس لحاجته -وهو إحدى القبلتين- وإذا استقبله استدبر الكعبة أنكر على من يقول لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لحاجة، ورأى أن لا ينبغي لأحد أن ينتهي عن أمر فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولم يسمع -فيما يُرى- ما أمر به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصحراء فيفرق بين الصحراء والمنازل فيقول بالنهي في الصحراء وبالرخصة في المنازل فيكون قد قال بما سمع ورأى، وفرق بالدلالة عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على ما فرق بينه لافتراق حال الصحراء والمنازل.

الفصل الثاني: فيما يستنجى به

الفصل الثاني فيما يستنجى به فقد تقدم في الفصل الأول في حديث أبي هريرة ذكر بعض ذلك، لأن الحديث جمعه وغيره، فذكرناه ضرورة، وهنا يخرج حديثًا يخص هذا الفصل. أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان قال: أخبرني هشام بن عروة قال: أخبرني أبو وجزة، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الاستنجاء بثلاثة أحجار؛ ليس فيها رجيع". هكذا قال فيه سفيان: أبو وجزة، وأخطأ فيه وإنما هو أبو خزيمة واسمه: عمرو بن خزيمة. كذلك رواه الجماعة أبو أسامة، وأبو معاوية، ووكيع، وابن نمير، وعبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر، جميعًا عن هشام بن عروة. وقد أخرجه أبو داود (¬1): عن محمد بن عبد اللَّه النفيلي، عن أبي معاوية، ¬

_ (¬1) أبو داود (41). قلت: وقد اختلف على هشام بن عروة في إسناده على عدة وجوه. قال الترمذي في العلل الكبير (1/ 26 - 27) بعد إخراجه من طريق عبدة عن هشام بنحو رواية أبي داود: وقال وكيع: عن هشام، عن أبي خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو معاوية: عن هشام بن عروة، عن عبد الرحمن بن سعد، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة بن ثابت. وقال مالك بن أنس: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألت محمدًا عن هذا الحديث؟ فقال: الصحيح ما روى عبدة ووكيع، وحديث مالك عن، هشام بن عروة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح أيضًا. وأبو معاوية أخطأ في هذا الحديث إذ زاد (عن عبد الرحمن بن سعد) اهـ قلت: وكذا رجح أبو زرعة طريق وكيع وعبدة. فقال: الحديث حديث وكيع وعبدة. علل الحديث (1/ 55). ومداره على عمرو بن خزيمة. قال الحافظ: مقبول. وعلى هذا، فإسناده ضعيف. وانظر السنن الكبير للبيهقي (1/ 103).

عن هشام بن عروة، عن عمرو بن خزيمة، عن عمارة بن خزيمة، عن خزيمة ابن ثابت قال: "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاستطابة؟ فقال: بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع". قال أبو داود: كذا رواه ابن نمير، عن هشام. وقد روى الشافعي في القديم، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الاستطابة؟ فقال: أَوَلَا يَجِدُ أَحَدُكُم ثَلَاثَةَ أحجارٍ". وهذا مرسل (¬1). "الرجيع": النجو، إنما سُمِّي رجيعًا لرجوعه عن حال الطهارة إلى الاستحالة والنجاسة. وهذا الحديث الذي ذكرناه عن أبي هريرة، يشد قول من ذهب إلى العمل به. وقوله: "ليس فيها رجيع": أي ليس واحد من الأحجار رجيعًا لما قدمنا بيانه في الحديث الأول. وقد اختلف النحويون في "ليس" فذهب قوم: إلى أنها حرف يفيد النفي. وذهب الأكثرون: إلى أنها فعل غير منصرف، معدود في أخوات كان وهي تعمل عملها، فترفع الاسم وتنصب الخبر، تقول: ليس زيد قائمًا. واضطرب قول أبي علي الفارسي فيها فقال مرة: فعل، ومرة: حرف، ومات وهو يقول: إنها حرف. وأصلها لَيِسَ -بكسر الياء- فسكنت استثقالًا, ولم تُقلَبْ ألفًا لأنها ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 54 رقم 27).

لا تنصرف من حيث استعملت بلفظ الماضي للحال، ولها أحكام انفردت بها عن أخواتها. وقد أخرج الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا استجمر أحدكم فليستجمر وِتْرًا، وإذا توضأ فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر". هذا لفظ حديث البيهقي (¬1) قال في آخره: رواه الشافعي في من سنن حرملة عن سفيان. وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬2). وأخرج أيضًا البيهقي (¬3) عن سفيان، عن منصور، عن بلال بن يساف، عن سلمة [بن] (¬4) قيس يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استجمرت فأوتر، وإذا توضأت فانتثر". قال البيهقي: رواه الشافعي في سنن حرملة، عن سفيان. وأخرج الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن منصور [عن] (¬5) مجاهد، عن رجل يقال له الحكم بن سفيان، عن أبيه، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "نَضَحَ فَرْجَهُ". وقد أخرجه الترمذي: عن محمد بن يحيى [بن] (¬6) أبي عمر، عن سفيان ¬

_ (¬1) أخرجه في المعرفة (1/ 347). (¬2) مسلم (237). (¬3) المعرفة (864). (¬4) سقط من الأصل والصواب إثباته كما في إسناد البيهقي من المعرفة. (¬5) بالأصل [بن] وهو تصحيف وصوابه المثبت. (¬6) بالأصل [عن] وهو تصحيف والجادة ما أثبتناه وكذا جاء في المعرفة (1/ 350) وهو الأصل الذي نقل عنه المصنف هذا التخريج.

عن منصور [و] (¬1) ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن رجل من ثقيف، عن أبيه قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ونضح فرجه بالماء" (¬2). قال سفيان: هو الحكم بن سفيان، أو سفيان بن الحكم. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (1/ 350). (¬2) هكذا عزاه للترمذي، ولم أقف عليه عنده مسنداً -وما أراه أسنده فيما يتداول بيننا من مصنفاته- وقد ذكره الترمذي معلقًا، قال: وفي الباب عن أبي الحكم بن سفيان ... وقال بعضهم: سفيان بن الحكم، أو الحكم بن سفيان واضطربوا في هذا الحديث الجامع (1/ 72). وقال في العلل الكبير رقم (27): سألت محمدًا عن حديث منصور، عن مجاهد، عن الحكم بن سفيان أو أبي الحكم، أو سفيان ابن الحكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ؟ الحديث. فقال: الصحيح ما روى شعبة ووهيب وقالا: عن أبيه. وربما قال ابن عيينة في هذا الحديث: عن أبيه، وقال شعبة، عن الحكم أو أبي الحكم، عن أبيه. قال محمد: وقال بعض ولد الحكم بن سفيان: إن الحكم لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره اهـ. وقد عزاه البيهقي في المعرفة (1/ 350) إلى الترمذي وعنه نقل المصنف ثم ساقه البيهقي بإسناده قال: أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، قال: حدثنا علي بن عيسى، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي طالب، قال: حدثنا ابن أبي عمر فذكره. وكذلك أخرجه في السنن الكبير (1/ 161): وقال: رواه أبو عيسى الترمذي عن ابن أبي عمر، عن ابن عيينة عن منصور وابن أبي نجيح هكذا، وقال في الحديث: "ثم توضأ ونضح فرجه بالماء". ومما يؤكد أن الترمذي لم يسنده في جامعه، أن المزي في التحفة (3/ 70) عزاه إلى أبي داود (166 - 168)، والنسائي (1/ 86)، وفي الكبرى (135)، وابن ماجه (461) من طرق كثيرة عن الحكم ثم أطال النفس في ذكر اختلاف طرقه. وقال في تهذيب الكمال -ترجمة الحكم بن سفيان-: اختلف عليه -أي: مجاهد- فيه على عشرة أقوال ثم قال: روى له -أي الحكم- أبو داود، والنسائي، وابن ماجه هذا الحديث الواحد. قلت: وقد أعله الذهبي في الميزان (1/ 570) بالاضطراب وقال: قد اضطرب فيه منصور عن مجاهد ألوانًا وقال الحافظ في التهذيب -ترجمة- الحكم بن سفيان-: قال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه: الصحيح الحكم بن سفيان، عن أبيه، وكذا قال الترمذي في "العلل" عن البخاري، والذهلي عن ابن المديني، وصحح إبراهيم الحربي وأبو زرعة وغيرهما أن للحكم بن سفيان صحبة، =

الفصل الثالث: في الاستنجاء باليمين

الفصل الثالث في الاستنجاء باليمين قد تقدم في حديث أبي هريرة في أول الباب؛ النهي عن الاستنجاء باليمن. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة، عن سفيان، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن أبي قتادة، عن أييه قال: "نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يتنفس أحدنا في الإناء، وأن يمس ذكره بيمينه، وأن يستنجي بيمينه". هذا لفظ حديث البيهقي (¬1) بالإسناد وقال: أخرجه الشافعي في سنن حرملة، عن سفيان، عن معمر. وقد أخرجه: البخاري (¬2)، ومسلم (¬3) من حديث هشام وغيره، عن يحيى ابن أبي كثير. ... ¬

_ = فاللَّه أعلم، وفيه اضطراب كثير. وانظر علل الحديث (1/ 46)، وتحفة الأشراف (3/ 70). (¬1) المعرفة (1/ 342) لكن من طريق عبد الواحد بن زياد، عن معمر به. وأخرجه أيضًا في "السنن الكبير" (1/ 112) من طريق هشام، عن يحيى بن أبي كثير به. وقال: مخرج في الصحيحين من حديث هشام الدستوائي ورويناه من حديث سلمان وأبي هريرة. (¬2) البخاري (153) وانظر أطرافه هناك. (¬3) مسلم (267).

الفصل الرابع: في الاستتار

الفصل الرابع في الاستتار لم يرد في المسند حديث في هذا الفصل. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة، عن سفيان بن عيينة، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن حسنة قال: انطلقت أنا وعمرو بن العاص فخرج علينا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وبيده درقة (¬1) أو شبيهة بالدرقة، فاستتر بها فبال وهو جالس، فقلت لصاحبي: ألا ترى إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كيف يبول كما تبول المرأة! قال: فأتانا فقال: "ألا تدرون ما لقي صاحب بني إسرائيل؟ كان إذا أصاب أحدًا منهم شَيءٌ من البول قرضه بالمقراض، قال: فنهاهم عن ذلك فعذب في قبره". هذا لفظ حديث البيهقي (¬2) وقال: رواه الشافعي في سنن حرملة عن سفيان ابن عيينة. وقد أخرجه أبو داود (¬3): في كتابه من وجه آخر عن الأعمش. ¬

_ (¬1) الدرقة: الحجفة وهي تُرس من جلود ليس فيه خشب ولا عقب. اللسان: مادة درق. (¬2) المعرفة (1/ 340). (¬3) أبو داود (22). وقال: قال منصور: عن أبي وائل، عن أبي موسى في هذا الحديث قال "جلد أحدهم" وقال عاصم، عن أبي وائل، عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "جَسَدَ أحدهم".

الفصل الخامس: في ترك ذكر الله تعالى

الفصل الخامس في ترك ذكر اللَّه تعالى أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن عمر بن عبد الرحمن، عن نافع، عن ابن عمر: أن رجلًا مَرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - -وهو يبول- فسلم عليه الرجل فرد عليه السلام، فلما جاوزه ناداه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما حملني على الرد عليك؛ خشية أن تذهب فتقول: إني سلمت على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد عليَّ السلام، فإذا رأيتني على هذه الحال فلا تسلم عليَّ، فإنك إن تفعل لا أَرُدُّ عليك". هكذا جاء في الحديث؛ في هذه الرواية، والصحيح أنه سلم عليه فلم يرد عليه، ويحتمل أن يكون المراد به: فلم يرد عليه حتى تَيَمَّمَ ثم رد عليه. وقد ذكره الشافعي في حديث ابن الصمة (¬1)، وسيرد في كتاب التيمم، وقد ذكره أيضًا في حديث آخر مرسل، عن سليمان بن يسار، وقال فيه: "فلم يرد عليه حتى وضع يده على جدار ثم ردَّ عليه السلام". أخرجه الشافعي قال: أنبأ إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بئر جمل ثم أقبل فسلم عليه؛ فلم يرد عليه، الحديث. فيكون المراد بحديث ابن عمر -واللَّه أعلم- أنه رد عليه بعد ما تيمم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (337) عن أبي جهيم بن الحارث بن الصمَّة قال: "أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلَّم عليه فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام". وهو ظاهر في الدلالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد عليه أثناء البول. هذا بالإضافة إلى أن راوي هذا الحديث هو إبراهيم بن محمد وهو مهجور الرواية.

"البول": مَعروف، يقال: بال يبول بولًا، والاسم البيلة، كالجلسة والركبة، والمراد به إراقة الماء من الذكر في هذا الحديث. "والسلام": مصدر سلم يسلم تسليمًا وسلامًا، وقيل: هو اسم المصدر، وهو مشتق من السلامة ضد العطب، وهو أيضًا اسم من أسماء اللَّه تعالى. "والمجاوزة": العبور على الشيء وتركه وراءك، تقول: جزت الموضع أجوزه جوازًا، وجاوزته أجاوزه مجاوزة إذا سرت فيه وقطعته ثم خلفته. "والمناداة": مفاعلة من النداء. "ورد السلام": هو أن تقول: وعليك السلام، ونحو ذلك من ألفاظ الرد المعروفة شرعًا وعُرْفًا، والرد: إعادة الشيء أو مثله. "والخشية": الخوف، تقول: خشي الشيء يخشى خَشْيَةً أي خاف، وهو منصوب لأنه مفعول له. "ولم": حرف جزم لنفى قولك "فعل" فيقول "لم يفعل"، و"يَرُدّ" هو الفعل المجزوم بـ "لم". ولك فيما كان من هذا النوع ثلاثة مذاهب:- إن شئت فتحت الدال، وإن شئت كسرتها، وإن شئت ضَمَمْتَهَا. فمن فتح طلب أخف الحركات، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضمَّ أتْبَع الحركةَ الحركةَ. والأصل فيه "لم يردد" فلما شُدِّدَتِ الدَّالُ؛ حصل فيه هذه المذاهب الثلاثة. "والحال": الهيئة، يذكر ويؤنث، والأكثر التأنيث، وقد يضاف إليها فتقول: [الحالة] (¬1). ¬

_ (¬1) بالأصل [الهيئة] والظاهر أنها محرفة والمثبت هو الموافق للسياق.

والذي ذهب إليه الشافعي والعلماء غيره: كراهية رد السلام في حالة البول والغائط، لأن السلام اسم من أسماء اللَّه تعالى، وذكرُ اللَّه -عز وجل- عند قضاء الحاجة مكروه بالإجماع، مندوب إلى تركه لأجل أن لا يذكر اسم اللَّه على غير وضوء. وهذا من باب الاستحباب لا الوجوب - واللَّه أعلم. ***

الباب الخامس في الوضوء

الباب الخامس في الوضوء وفيه سِتَّة فصول الفصل الأول في صفته فرضًا ونفلًا أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه أنه قال لعبد اللَّه بن زيد الأنصاري: "هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبد اللَّه بن زيد: نعم، فدعا بوضوء فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين، وتمضمض واستنشق ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا؛ ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين؛ ثم مسح رأسه بيديه مرتين فأقبل بهما وأدبر؛ بدأ بمقدم رأسه؛ ثم ذهب بهما إلى قفاه؛ ثم ردهما إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه". وفي رواية أخرى بهذا الطريق المذكور "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل وجهه ثلاثًا، ويديه مرتين مرتين؛ ومسح رأسه بيديه" وذكر الحديث. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، ومالك (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6). ¬

_ (¬1) البخاري (185). (¬2) مسلم (235). (¬3) الموطأ (1/ 47 رقم 1). (¬4) أبو داود (118، 119). (¬5) الترمذي (47) وقال: حسن صحيح وقد ذكر في غير حديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بعض وضوئه مرة وبعضه ثلاثًا". (¬6) النسائي (1/ 71).

فأما مالك: فأخرجه بالإسناد وقال: استنثر [ثلاثًا] (¬1) واستنشق". وأما البخاري: فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك، بالإسناد وقال فيه: "إن رجلًا قال لعبد اللَّه بن زيد، ولم يقل: إنه قال لعبد اللَّه. فيحتمل أن يكون هذا (¬2) القائل، إلا أنه كنى عن نفسه بقوله: إن رجلًا؛ ويجوز أن يكون السائل غيره، إلا أن البخاري قد ذكر في بعض طرقه لهذا الحديث عن عمرو بن يحيى، عن أبيه أنه شَهِدَ عمرو بن أبي حسن سأل عبد اللَّه بن زيد، فهذا صريح في أن السائل كان غير الراوي -واللَّه أعلم. وله في أخرى: عن مسدد، عن خالد بن عبد اللَّه بن عمرو بن يحيى بالإسناد: أنه أفرغ من الإناء على يديه فغسلهما، وذكر نحوه، ثم قال في اخره: هكذا وضوء رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وله روايات أخرى. وأما مسلم: فأخرجه عن محمد بن الصباح، عن خالد بن [عبد] (¬3) اللَّه، عن يحيى، بالإسناد وذكره أتم منه، وقال هو والبخاري: "وغسل رجليه إلى الكعبين". وله في أخرى: "ولم يذكر الكعبين". وفي بعض طرقه: "فمضمض واستنشق من كف واحدة". وفي بعضها: "واستنثر من ثلاث غرفات". وأما أبو داود: فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، بالإسناد ولم يقل في غسل يديه أول مرة: "مرتين". وله في روايات أخرى باختلاف الألفاظ. ¬

_ (¬1) في الأصل: [يدك] وليست في الرواية ولها وجه لها والمثبت من الموطأ. (¬2) كذا بالأصل ولعله (هو). (¬3) بالأصل [عبيد] وهو تصحيف، وخالد هو: ابن عبد اللَّه الواسطي، مشهور؛ وكذا جاء في مسلم كما أثبتناه.

وأما الترمذي: فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو ابن يحيى، بالإسناد وذكر نحوه. وله طرق متفرقة بأسانيد مخالفة لهذا الحديث. وأما النسائي: فأخرجه عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، بالإسناد. وفي الباب: عن ابن عباس، ومعاوية، والمقدام بن معدي كرب، وعائشة. وحديث الوضوء قد روي من غير وجه، باختلاف الألفاظ عن عليٍّ، وعثمان، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، والربيع بنت معوذ، وكعب بن عمرو اليامي، وأبي أمامة، وجابر، وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن حنطب، وأوس بن أبي أوس. "هل": حرف يستفهم به، وقد يُدْخِلُون عليه هَمْزَةَ الاستفهام فيتأولون به معنى "قد" وقد ترد "هل" بمعنى "قد" أيضًا؛ قالوا في قوله تعالى {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (¬1) أي: قد أتى. "والاستطاعة": القدرة والطاقة على الشيء، وأصلها من الطاعة وهي المتابعة والانقياد، فإن القدرة لا تتأتي إلا عن مطاوعة النفس والأعضاء، وربما قالوا في استطاع. اسطاع يسطيع، يحذفون التاء استثقالًا لها مع الطاء لقرب المخرجين، ويكرهون إدغام التاء في الطاء لئلا تتحرك السين، وليست موضع حركة. وقد قرأ حمزة بن حبيب الزيات أحد القراء السبعة {فَمَا اسْتَطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ} (¬2) بالإدغام، فجمع بين الساكنين، وهو قليل. وهذه السين والتاء الداخلتان في "استفعل"، هما دليل التكلف والمعاناة في ¬

_ (¬1) الإنسان: (1). (¬2) الكهف: (97).

طلب الفعل، وتَرِدان للتحول نحو: "استنوق الجمل، واستجمر الطين". ويردان أيضًا للإصابة على صفة، نحو استعظمته، واستنجدته. ويردان بمنزلة فعل نحو: قرّ، واستقر. "وكيف": اسم مبني على الفتح لالتقاء الساكنين، وُضِعَ للاستفهام عن الحال فأقيم مقام حروفه. وموضع "أن تريني" نصب بـ "تستطع"، لأنه المسئول عن استطاعته. "ونعم": حرف يجاب به، مصدقًا لما سبقه من كلام منفي أو مثبت، تقول قام زيد، ولم يقم زيد، فيقول في جوابهما نعم، فيكون مصدقًا لهما. وكذلك إذا وقع الكلامان بعد حرف الاستفهام، فإنها تكون مصدقة لما بعد الهمزة. "والمضمضة": تحريك الماء في الفم، مضمض وتمضمض بمعنى، وفرق بين اللفظتين من جهة التركيب لا من جهة الحكم، فإن مَضْمَضَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ، وتمضمض فعل قاصر لأن التاء تدخل على الفعل إما للمطاوعة نحو: كسرته فتكسر أي: انقاد للكسر وطاوعني على حصوله، وترد بمعنى التكلف نحو: تَشَجَّعَ، وتَصَبَّرَ أي: طلب أن يصير صبورًا، وتكلف الصبر، وترد بمعنى اسْتَفْعَلَ نحو: تَكَبَّرَ، وتَعَظَّمَ، وترد بمعنى اسْتفْعلْ نحو: تَكَبَّر، وتَعَظَّمْ، وترد للعمل بعد العمل نحو، تجَّرعَ، تحسّى، ومنه تَفَهَّمَ:، وتَبَصَّرَ، وترد بمعنى اتخاذ الشيء نحو: تَوَسَّدْتُ الحَجَرَ، وتَدَبَّرْتُ المكان، وترد بمعنى التجنب نحو: تأثم، وتحرَّجَ. و"الاستنشاق": إدخال الماء في الأنف مع التنفس إلى داخل، وأصله من استنشق الريح إذا شمها، والشَّمُّ لا يكون إلا باسترجاع التنفس في الأنف إلى داخل، ومنه النشوق وهو: سعوط يُجْعَلُ في المنخرين.

"والَمِرْفق": -بكسر الميم وفتح الفاء، وبفتح الميم وكسر الفاء- موصل الذراع في العضد. "وإلى": حرف جر معناه: الانتهاء إلى الغاية، "وإلى" مقابلة "مِنْ" التي لابتداء الغاية، ولها في الكلام موضعان، أحدهما -حقيقي كقولك: سرت من البصرة إلى بغداد، أي كان ابتداء مسيري من البصرة وانتهاؤه إلى بغداد، فجائز أن يدخل ما تجره "إلى" في حكم ما قبله، كقوله تعالى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬1) فالمرافق داخلة في حكم الغسل. والموضع الثانِي: مجازي وهو: إذا كان بمعنى المصاحبة، كقوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬2) وكقولهم: الذود إلى الذود وقيل: إنها هاهنا بمعنى "مع". "والمسح": معروف تقول: مسحت الشيء، ومسحت به، ومسحت عليه، ومسحت عنه، وهو في الوضوء: أن تبل اليد بماء جديد غير ما فضل فيها من أثر الماء؛ فتمره على الرأس. وسنذكر كيفية مسح الرأس، عند ذكر أقوال الأئمة في المسح واختلافهم فيه؛ والفرق بين "مسحتُ رأسي"، "ومسحتُ برأسي"، أَنَّ "مسحتُ رأسي" مخرجه على العموم، ويجوز أن يكون بعض الرأس، كما تقول: شججت رأسه، وإنما يكون قد شج بعضه ومَوْضِعٌ منه، وكذلك تقول: قَبَّلَ رأسه، وإنما يكون قد قَبَّلَ مَوْضِعَ الشفتين منه. وإذا قلت: "مسحت برأسي"، فمخرجه إلصاق المسح بالرأس، فهو أقرب إلى الاختصاص من العموم، كما تقول: أخذت الزمام وأخذت بالزمام، فيكون مع الباء بمعنى: ألصقت يدي به وأعلقتها بطرفه. ¬

_ (¬1) المائدة: [6]. (¬2) النساء: [2].

ومع حذف الباء، يدل على أخذ جميعه والتمكن منه، وهذا مما يعضد قول مَنْ ذَهَبَ إلى إيجاب مسح اليسير من الرأس، على ما نذكر مفصلًا -إن شاء اللَّه تعالى. ولدخول الباء فائدة لولاها لم تكن، وذلك أن: "الغسل" لغة يقتضي متى ذُكِرَ مغسولًا به، والمسح لا يقتضي ممسوحًا به، فلو قال: امسحوا رءوسكم، أو مسح رأسه، لم يفد ذلك ممسوحًا به، ولأجزأ مسح اليد على الرأس بغير شيء سوى إمرار اليد عليه، فدخلت الباء لتفيد متعلقًا به وهو الممسوح به وهو الماء، والتقدير: وامسحوا برءوسكم الماء، ويكون هذا على القلب، أي امسحوا رءوسكم بالماء، وذلك جائز في العربية. أو يكون على الاشتراط في الفعل والتساوي في نسبته، كأنه لما حصل في التلاقي بين الرأس والماء؛ كان كل واحد منهما ممسوحًا بالآخر، فَذَكَرَ أحدَ الأمرين الجائزين -واللَّه أعلم. وقوله "فأقبل بهما وأدبر": أي أنه وضع يديه على مقدم رأسه مما يلي وجهه، ومر بهما إلى دبره أي جهة قفاه، وكذلك قد شرحه في الحديث فقال: "بدأ بمقدم [رأسه] (¬1) ثم ذهب بهما إلى قفاه". "والاستنثار": الامتخاط وهو: نثر ما في الأنف من بالأذى بالنَّفَسِ، وهو من نثرت الشيء، أنتثره نثرًا؛ إذا غرفته وألقيته، والنثرة الفرجة بين الشاربين حيال وترة الأنف، والنثرة للدواب شبه العطسة. وقد جاء في بعض الروايات الجمع بين الاستنشاق والاستنثار؛ لأن الاستنشاق إلى فوق، والاستنثار إلى تحت وبهما يحصل نظافة الأنف والغرض المطلوب من غسله. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفقين سقط من الأصل والسياق يقتضيها، بل هو نص الرواية التي عليها مدار الكلام.

"والغَرفة": بفتح الغين للمرة الواحدة من الاغتراف، وبضمها الاسم للمغروف منه، لأنك ما لم تغرفه لا تسميه غرفة، وقد قرى بهما. وتجمع "الغَرْفَةُ" بالفتح على غرفات وغرفات والغُرفة بالضم على غراف. "والكعبان": هما العظمان الناشزان عند ملتقى الساق والقدم عند الجماعة، وذهبت الشيعة: إلى أن الكعب هو العظم الناشز في ظهر القدم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن فرائض الوضوء ستة: الأول- "النية" ولا يصح الوضوء إلا بها وكذلك الغسل والتيمم. ومحلها القلب، واللسان عبارة عما استقر في القلب، والتلفظ بها مستحب (¬1). ووقتها عند غسل الوجه، فإن تأخرت عنه لم يكفه. وصورتها: أن ينوي رفع الحدث مطلقًا أو استباحة الصلاة، أو ما لا يستباح إلا بالوضوء، كمس المصحف ونحوه، أو ينوي أداء الوضوء، أو فريضة الوضوء. الفرض الثاني: "غسل الوجه": وحده من مبدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى الذقن في الطول، ومن الأذن إلى الأذن في العرض. الفرض الثالث: "غسل اليدين إلى المرفقين" ويدخل المرفقان في الغسل. الفرض الرابع: "مسح الرأس" بماء جديد غير البلل الباقي في يده، فأقل ما يجزئه في المسح، ما يطلق عليه اسم المسح؛ ولو أنه بعض شعرة من الرأس، وقيل لا يجزئه أقل من ثلاث شعرات. والذي قاله الشافعي: وإن مسح بعض رأسه بيده أو بعضها، ما لم يخرج عن منابت شعر رأسه أجزأه. ¬

_ (¬1) والاستحباب حكم شرعي ولا يثبت حكمه إلا بدليل، وليس ثم دليل على ذلك.

وقال ابن الصباغ: وتقديره بثلاث شعرات ليس بمقدار منقول عن الشافعي، وإنما يجزئ ما يقع عليه الاسم، وبه قال داود. وقال مالك: يجب مسح الجميع، وحكي عنه أنه إن ترك قدر الثلث جاز. وقيل: إن ترك يسيرًا لغير قصد جاز. وأما أحمد بن حنبل: عنه روايتان إحداهما يجب مسح الجميع، والثانية -يجب مسح أكثره. وأما أبو حنيفة: فَرُوِي عنه ثلاث روايات:- إحداها:- الربع، والثانية: قدر الناصية، والثالثة: قدر ثلاث أصابع، ومنهم من قال يرجع ذلك إلى الربع، وعليه يُعوِّل أصحابه، والتكرار مستحب. وروى ذلك عن أنس بن مالك، وهو مذهب عطاء. وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد وأبو ثور: لا يستحب التكرار فيه بماء جديد، وبه قال الحسن ومجاهد. وقال ابن سيرين: يمسح مرتين؛ مرة فرضًا ومرة سنة. الفرض الخامس: "غسل الرجلين إلى الكعبين" والكعبان يدخلان في الغسل، وقد ذكرنا معنى الكعبين. الفرض السادس: "الترتيب" فبدأ بالوجه، ثم باليدين، ثم بالرأس، ثم بالرجلين. وقال في القديم: إن نَسِي الترتيب أجزأه، وهو ضعيف. وأما قول الأئمة من العلماء في هذه الفرائض: فقد قال بوجوب النية في الوضوء، والغسل، والتيمم، مع الشافعي؛ على ابن أبي طالب، وربيعة، ومالك، والليث، وأحمد، وإسحاق وأبو ثور،

وأبو داود، وأبو عبيد. وقال أبو حنيفة، والثوري: يجوز الوضوء والغسل بغير نية، ولا يجوز التيمم إلا بنية. وقال الحسن بن صالح: يجوز التيمم. وعن الأوزاعي روايتان: إحداهما- مثل أبي حنيفة، والأخرى مثل الحسن. وأما الوجه: فواجب بالإجماع. وحكى عن الزهري أنه قال: الأذنان من الوجه، فأوجب غسلهما. وحكي عن أبي حنيفة؛ في الشعر المحاذي لمحل الفرض روايتان إحداهما: يجب غسله، والثانية: يجب مسح ربعه. ورويت هذه الرواية عن أبي يوسف. وروي عن أبي يوسف أنه: يسقط الفرض عن البشرة، ولا يتعلق بالشعر. واعتبر أبو حنيفة ذلك بشعر الرأس فقال: الفرض إذا تعلق بالشعر كان مسحًا. وإرسال الماء على ما انحدر من شعر اللحية، فيه عند الشافعي قولان: أحدهما: يجب؛ وبه قال مالك، والثاني: لا يجب؛ وبه قال أبو حنيفة، والمزني. أما الرِّجْلاَن: فغسلهما واجب، إلا ما حكي عن محمد بن جرير الطبري فإنه قال: يُخَيَّرُ بين الغسل والمسح. وقالت الشيعة: لا يجب إلا المسح، والغسل لا يجوز. وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه قال: يجب الجمع بينهما. وقال زفر، وابن داود: لا يدخلان الكعبان في الغسل كما قالا في المرفقين. وأما الترتيب فيه، قال بوجوبه: أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد.

وقال قوم: إنه ليس بواجب وروي ذلك عن على، وابن مسعود، وابن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، والنخعي، ومكحول، وإليه ذهب الأوزاعي، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه، والمزني، وداود. واستدل الشافعي بحديث عبد اللَّه بن زيد هذا، وبما أخرجه في القديم عن مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد اللَّه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ من ركعتي الطواف وخرج إلى الصفا فقال: نبدأ بما بدأ اللَّه -عز وجل- به" يعني قوله -عز وجل- {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬1) فبدأ بالصفا، وذلك ذهاب منه إلى أن الواو تفيد الترتيب، وكذلك الآية، قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬2) فبدأ بالوجه، ثم ثنى باليدين، فأفادت الواو فيها الترتيب. وهذا الحديث قد أخرجه الترمذي (¬3). وأما سنن الوضوء فكثيرة وسيجيء في أحاديثها. إلا أن هذا الحديث يتضمن منها: غسل اليدين في أول الوضوء والمضمضة، والاستنشاق، فإنهما (¬4) والاستنثار التكرار. أما غسل اليدين فيجيء في حديثه. وأما المضمضة والاستنشاق فإنهما سنة، وبه قال الزهري، وربيعة، ومالك والأوزاعي. ¬

_ (¬1) البقرة: [158]. (¬2) المائدة [6]. (¬3) الترمذي (862). من طريق سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد به. وقال: حسن صحيح. قلت: وأصله في صحيح مسلم (8/ 12) بسياق طويل في وصف حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) كذا بالأصل.

وقال أحمد، وإسحاق، وابن أبي ليلى، هما واجبان في الوضوء. وقال أبو حنيفة، والثوري: هما واجبان في الغسل دون الوضوء. وأما التكرار: فإن السنة أن يأتي فيه ثلاثًا ولا يزيد عليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - "توضأ مرة مرة، وقال: هذا وضوء لا يقبل اللَّه الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: من توضأ مرتين، آتاه أجره مرتين، وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء خليلي إبراهيم" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (419). من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر به وفي آخره زيادة. قلت: وهو حديث واهٍ، وله طرق أخرى وهي أيضًا واهية. قال الحافظ في التلخيص (1/ 82). ومداره على عبد الرحيم بن زيد العمي، عن أبيه، وقد اختلف عليه فيه وهو متروك، وأبوه ضعيف، وقال الدارقطني في "العلل"، رواه أبو إسرائيل الملائي، عن زيد العمي، عن نافع، عن ابن عمر فوهم، والصواب قول من قال، عن معاوية بن قرة، عن عبيد بن عمير، عن أبي كعب، وهذه رواية عبد اللَّه بن عرادة الشيباني، وهي عند ابن ماجه أيضًا، ومعاوية بن قرة لم يدرك ابن عمر، وعبد اللَّه بن عرادة وإن كانت روايته متصلة، فهو متروك، وقال أبو حاتم: لا يصح هذا الحديث عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: حدثنا الربيع بن سليمان ثنا أسد بن موسى، عن سلام بن سليم، عن زيد بن أسلم، عن معاوية بن قرة، عن ابن عمر فقال: هو سلام الطويل، وهو متروك، وزيد هو العِمِّيُّ، وهو متروك أيضًا، ولحديث ابن عمر طريق أخرى، رواها الدارقطني من طريق المسيب بن واضح، عن حفص بن ميسرة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر بنحوه، وليس في آخره: وضوء خليل الله إبراهيم، وقال: تفرد به المسيب وهو ضعيف، وقال عبد الحق، هذا أحسن طرق الحديث. قلت: هو كما قال لو كان المسيب حفظه، ولكن انقلب عليه إسناده. وقال ابن أبي حاتم: المسيب صدوق إلا أنه يُخْطِئُ كثيرًا. وقال البيهقي: غير محتج به، والمحفوظ رواية معاوية بن قرة عن ابن عمر، وهي منقطعة، وتفرد بها عنه زيد العمي، وله طريق أخرى ذكرها ابن أبي حاتم في "العلل"، قال: سألت أبا زرعة عن حديث يحيى بن ميمون، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عائشة نحوه، ولفظه في صفة الوضوء مرة مرة، فقال: هذا الذي افترض الله عليكم، ثم توضأ مرتين مرتين، فقال: من ضَعَّفَ ضَعَّفَ الله له، ثم أعادها الثالثة، فقال، هذا وضوؤنا معاشر الأنبياء. فقال: هذا ضعيف واه منكر، وقال مرة: لا أصل له، وامتنع من قراءته أهـ.

قال الشافعي في رواية حرملة عنه: ولأنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا قال: "فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم" أَمّا الإساءة فلأنه وضع الشيء في غير موضعه. وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، وأحمد، وأبو ثور: لا يستحب التكرار في مسح الرأس بماء جديد، وبه قال الحسن ومجاهد. وقد جمع هذا الحديث من أحكام الوضوء، وفروضه، وسننه: الابتداء بغسل اليدين، والمضمضة، والاستنشاق والاستنثار، وغسل والوجه، واليدين، ومسح الرأس واستيعابه، وغسل الرجلين، والترتيب، والتكرار، إلا أن في [روايات] (¬1) الحديث قد اختلف في التكرار، ففي بعضها "ثلاثًا ثلاثًا"، وفي بعضها "مرتين، مرتين" وفي بعضها "مرة مرة"، وهذا دليل على أن التكرار ليس بواجب، وأن الواجب المرة الواحدة لا غير. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، وعن ابن عباس قال: "توضأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فأدخل يده في الإناء، فاستنشق، ومضمض مرة واحدة، ثم أدخل يده وصب على وجهه مرة، وصب على يده مرة، ومسح رأسه وأذنيه مرة واحدة". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، إلا أنهم أخرجوه باختلاف ألفاظهم، وزيادة فيه من طرق كثيرة. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [آيات اللَّه] ولا وجه لوضعها هنا وأظنها سهوًا من الناسخ، والذي يبدو لي أنه ضرب عليها لكنه لم يصوب في الحاشية، وما أثبتناه هو الأقرب إلى الشكل والسياق. (¬2) البخاري (140) ولفظه: "أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليُسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غرفة من ماء فَرَشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله -يعني: اليسرى- ثم قال: هكذا رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ". (¬3) أبو داود (137، 138) في الموضع الأول بنحو سياق البخاري، والموضع الثاني مختصرًا جدًّا. (¬4) النسائي (1/ 74) بنحو رواية البخاري.

والذي في هذا الحديث من الأحكام؛ التي لم ترد في حديث عبد اللَّه بن زيد وضوؤه مرة مرة؛ لكل أعضائه المذكورة في الحديث، وذلك هو الفرض الذي لا تصح الصلاة إلا به. والثاني: أنه أدخل يده في الإناء، ولم يذكر أنه غسلهما قبل إدخاله إياها الإناء، فهذا دليل على بطلان من أوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، اللهم إلا أن يقال: إنه لم يذكر في هذا الحديث، أنه كان عند الانتباه من النوم. والثالث: أنه استنشق ومضمض من كف واحدة، ويجوز أن يكون قوله "استنشق ومضمض مرة واحدة" أنه فعل ذلك من كفين. وفيه دليل على جواز تقديم الاستنشاق على المضمضة، لأنه عَقَّبَ إدخاله يده الإناء بالاستنشاق بالفاء، ثم عطف عليه المضمضة. وقوله "واحدة" تأكيد لمرة، كقوله تعالى {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1). وقوله "صب على يديه مرة واحدة" يريد: على كل واحد من يديه يكون في [...] (¬2). ¬

_ (¬1) النساء: (171). (¬2) هنا وقع سقط بالمخطوط كما هو ملاحظ وظني أن السقط لا يتعدى ورقتين إن لم يكن ورقة ويشرع المصنف الآن في شرح حديث من المسند وأنا أسوق الحديث كاملًا ليفهم الشرح. قال الشافعي: أخبرنا يحيى بن سليم، حدثني أبو هاشم إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه، قال: كنت وافد بني المنتفق -أوفي وفد بني المنتفق- فأتينا فلم نصادفه، وصادفنا عائشة، فأتينا بقناع فيه تمر -والقناع: الطبق- وأمرت لنا بحريرة فصنعت، ثم أكلنا، فلم نلبث أن جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل أكلتم شيئًا؟ هل أمر لكم بشيء؟ فقلنا: نعم، فلم نلبث أن دفع الراعي غنمه فإذا بسحلة تيعر، فقال: هيه يا فلان، ما ولدت؟ قال: بهمة، قال فاذبح لنا مكانها شاة، ثم انحرف إليَّ وقال: لا تحسبَن -ولم يقل: لا تحسبن- أنا من أجلك ذبحناها, لنا غنيم مائة، لا نريد أن نزيد فإذا أولد الراعي بهمة ذبح مكانها شاة، فقلت: يا رسول اللَّه! =

مكانه الذي كان نحله. "والانحراف": الميل من جهة إلى جهة أخرى، وكأنه من حَرَفَ الشَّيْءَ أي طَرَّفَهُ، فكأن المائل كان على حرف الشيء فمال عنه بانحرافه. وقوله "تَحْسَبَنَّ وتَحْسِبَنَّ" بكسر السين وفتحها، من الحِسْبان بالكسر، وهو الظن، تقول: حَسِبْتُ الشيء أَحْسَبُه وأَحْسِبُه حسابًا، وقد قرئ القرآن بالاثنين معًا، والكسر لغة علياء مضر، والفتح لغة سفلاها وإن كان القياس، فإن الكسر شاذ، وأبو داود أخرجه في كتاب القراءات لبيان القراءة بكسر السين بالفتح. وهذا الفعل يتعدى إلى مفعولين، تقول: حسبت زيدًا قائمًا، والمفعول الأول في هذا الحديث، هو: أنا والتقدير: "لا تحسبننا"، والمفعول الثاني هو: الجملة من الفعل والفاعل والمفعول. "ذبحناها من أجلك": جار ومجرور متعلق بقوله: "ذبحناها". ومعنى قوله: "لا تحسبن أَنَّا من أجلك ذبحناها" ترك الاعتبار به والمنَّة على الضيف والتبرؤ من والرياء هذا من ألطف أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -، وحسن عشرته. والمائة عنهم مرتحل لجملة من العدد معلومة، وهي مؤنثة مضافة إلى مفرد من العدد، نحو: مائة درهم، وقد يتأولون بها معنى العدد والاجتماع. ويكون: صفة ... في هذا الحديث في قوله: "لنا غنم مائة". "والبذاء": -بفتح الباء وبالذال المعجمة والمد- الفحش في النطق، وفلان بذىء اللسان، والمرأة بذيئة. ¬

_ = إن لي امرأة في لسانها شيء -يعني البذاء- فقال طلقها، فقلت: إن لي منها ولدًا ولها صحبة؟ قال: فمرها -يقول: فعظها- فإن يكن فيها خير فستقبل، ولا تضربن ظعينتك ضربك أمتك قلت: يا رسول اللَّه! أخبرني عن الوضوء؟ قال: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا".

"والصحبة": مصدر صَحِبَه، يَصْحَبُهُ، صُحْبةً بالضم، وصَحَابة بالفتح. "والوعظ": النصح والتذكير بالعواقب. وقوله: "فإن يك" أي فإن يكن، إلا أنهم حذفوا النون لغير علة لا أن يكون تخفيفًا، لأن أصله يكون، فلما دخل عليه حرف الجزم سَكَّنَ النون، والواو قبلها ساكنة، فالتقى ساكنان الواو والنون، فحذفت الواو لأنها حرف علة، والحذف يتطرق إلى حروف العلة أكثر من غيرها، ثم لما كثر استعمالهم لها حذفوا النون تخفيفًا لغير علة سواه، فبقي "يك" بغير نون، لكنهم متى جاءت في موضع تكون النون متحركة فإنهم لا يحذفونها، نحو قوله تعالى {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (¬1) وأجاز يونس حذفها مع الحركة وأنشد:- إذا لم تَكُ الحاجات منَ هِمَّة الفتى ... فليس بِمُغْنٍ عَنْكَ عَقْدُ الزَّنايمِ و"الزنايم" جمع زنيمة، وهي خيط يشد في الأصبع ليستذكر به الحاجة، على أن هذا البيت قد أنشدوه: إذا لم تكن حاجتنا في نفوسكم ... فليس بمغنٍ عنك عقد الزنايم وحينئذ لا يكون فيه حجة. وقوله: "فستقبل" أي تقبل وعظك وينفعها. وقد رواه أبو داود: فستفعل، أي تفعل الخير وتترك البذاء. والنون في "تضربنَّ" نون التأكيد الثقيلة، وهما نونان: ثقيلة، وخفيفة، وهما ¬

_ (¬1) البينة: [1].

يدخلان الأمر، والنهي، والاستفهام، والقسم المستقبلين. "والظعينة": في الأصل الهودج كانت فيه المرأة أو لم تكن، والجمع ظعن وظُعن، وظعائن، وأظعان، ثم قيل للمرأة ظعينة مادامت في الهودج، تسمية للشيء باسم مكانه، فإذا لم تكن فيه فليْست بالظعينة، وكأن اشتقاقها من الظعن وهو: السير إما لأن المرأة تسير مع زوجها، أو لأنها تكون في الهودج غالبًا في حالة السفر (¬1). "وضربك هذا": منصوب على المصدر، في الأصل تقول: ضربته ضربًا مثل ضَرْبِ زَيْدٍ، وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل لأن الكاف هنا ضمير الفاعل. "والأَمَة": خلاف الحرة، والجمع "إماء"، فأصلها أَمَوَة بوزن ثَمَرةَ، وتصغيرها "أُمَيَّةٌ"، وقد سُمِّى "بأمية" الرجل والمرأة ولذلك لم ينصرف للتعريف والتأنيث، وليس هذا النهي من الضرب مما يمنع الأزواج من ضرب نسائهم عند الحاجة إليه، فقد أباح اللَّه -تعالى- ذلك في قول {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} (¬2) وإنما النهي عن تبريح الضرب كما يُضرب المماليك، في عادات من يستحسن ضربهم، ويستعمل سوء المملكة فيهم. وتمثيله بضرب الأماء، لا يوجب إباحة ضربهن، وإنما جرى على طريق الذم لأفعالهم. "والإسباغ": الإكمال والإتمام، وشيء سابغ: شامل وافٍ ومنه درع سابغة أي واسعة، والمراد به في الوضوء: المبالغة في مجاوزة الموضع المفترض غسله من الأعضاء، مثل أن يتجاوز المرفقين، والكعبين، إلى قريب من نصف الباقي. "وتخليل الأصابع": يريد به أصابع الرجلين يدخل بينهما أصابع يديه ليصل الماء إلى باطنهما. ¬

_ (¬1) في الأصل زاد: [في] وحذف الفاء أليق بالسياق. (¬2) النساء: 34.

"والمبالغة في الاستنشاق": هو إيصال الماء إلى أعلى الأنف والخياشيم ليغسلها. والندب إلى المبالغة فيه، يجوز أن يكون لما فيه من المعونة على القراءة وتنقية مجرى النفس الذي يكون به النطق والصوت بإزالة ما فيه من الثقل لتصح مخارج الحروف، أو لأن الأنف ضيق المجرى ولا تناله اليد، فَأُمْروا بالمبالغة في الاستنشاق، ليصل الماء إلى أعاليه التي لا تبلغها اليد. وقوله: "إلا أن يكون صائمًا" احترازًا من خوف وصول الماء إلى الباطن فيفطر. "والمُرَاح": -بضم الميم- الموضع الذي [تأوى] (¬1) إليه الإبل والغنم ليلًا. وبفتح الميم: الموضع الذي يروح منه القوم، أو يروح إليه، وأصله من الرواح وهو: اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل، وقد جاء في رواية أبي داود بدل "فلم يَلْبَثْ"، "فلم يَنْشَبْ" وهو من نشب الشيء في الشيء ينشب نشوبًا، إذا علق فيه، والمعنى "يلبث" لأن من علق في الشيء يبطئ في الخلاص منه، فيلبث في خلاصه زمانًا فإذا لم ينشب لم يحتج إلى زمان، فاستعمل في الأمر إذ المرء يبطئ على من يريد فعله أو قوله أو انتظاره. والذي ذهب إليه الشافعي في هذه السنن (¬2) أن يذكر في موضعه. وأما تخليل الأصابع فإنه مستحب، فإن علم وَصل الماء إلى الأصابع أجزأه، واستحب له التخليل، وإن لم يعلم ذلك وجب عليه إيصال الماء إليها [وابتدأ] (¬3) بالتخليل من الخنصر. قال الشافعي في "الأم": وإن كان في أصابعه شيء خلق ملتصقًا [أوصل] (¬4) الماء على عضويه حتى يصل الماء ما ظهر من جلده، وليس عليه أن يفتق ما خُلِقَ مرتتقًا. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [تساوي] وهو تصحيف وما أثبتناه هو مقتضى السياق. (¬2) في الأصل قال بعد: السنن [أيضًا] لكنه ضرب عليها، ولم يُكتب في الهامش التصويب. (¬3) جاءت مكررة بالأصل. (¬4) في الأم: غلغل.

الفصل الثاني: في إسباغ الوضوء

الفصل السابع (*) في إسباغ الوضوء أخبرنا الشافعي أخبرنا محمد بن أبي فديك، عن [ابن] (¬1) أبي ذئب، عن عمران بن بشير بن [مُحَرَّر] (¬2)، عن سالم سبلان مولى النصريين، قال: "خرجنا مع عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة، وكانت تخرج بأبي حتى يصلي بها، قال: فأتى عبد الرحمن بن أبي بكر، وتوضأ، فقالت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: أسبغ الوضوء فإني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ويل للأعقاب من النار" (¬3). هذا حديث صحيح، أخرجه الموطأ (¬4)، ومسلم (¬5). فأما مالك: فأخرجه تعليقًا قال: بلغني: أن عبد الرحمن بن أبي بكر دخل على عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم مات سعد بن أبي وقاص فدعا بوضوء فقالت له عائشة: "يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء". وذكر الرواية الثانية. وأما مسلم: فأخرجه عن هارون بن سعيد الأيلي، وأبي طاهر، وأحمد بن عيسى، عن عبد اللَّه بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن سالم مولى شداد قال: دخلت على عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر مثل رواية مالك. "والوضوء": هاهنا مفتوح الواو، وهو الماء الذي يُتَوَضَّأ به، وقد تقدم بيان ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والصواب ما أثبتناه. وابن أبي ذئب هو: محمد بن عبد الرحمن. (¬2) بالأصل [محرز] بالمعجمة وهو تصحيف، كذا جاء في المسند بترتيب السندي والصواب ضبطه بالمهملة كما أثبتناه، وكذا جاء مضبوطًا في توضيح المشتبه (8/ 74) وتبصير المنتبه (4/ 1262). (¬3) في المسند بترتيب السندي (81) زاد (يوم القيامة) وأخرجه أحمد (6/ 112) بهذه الزيادة مع تقديم وتأخير في لفظه. (¬4) الموطأ (1/ 48 رقم 5). (¬5) مسلم (240). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفصل الثاني"، والله أعلم.

ذلك مُسْتَوْفىً. "والإسباغ": قد ذكر في الحديث الذي قبل هذا. "والأعقاب": جمع عقب الرجل، وهو مؤخرها وذلك أنهم كانوا يغسلون أرجلهم عند الوضوء ولا يستقصون في غسلها، فلا يكاد الماء يصل إلى أعقابهم، فَتُوُعِّدُوا بالنار بعد القيامة. "وويل" كلمة تتضمن دعاءً وعذابًا، تقول: وَيْلٌ لزيد، وويلًا لزيد، فالرفع على الابتداء، وإنماء جاز الابتداء به وهو نكرة؛ لما فيه من الدعاء كقوله: "سلام عليكم"، والنصب على إضمار الفعل، فإذا ما أضفته فقلت: وَيْلَ زيد، لم يكن إلا النصب، لأنك لو رفعته لم يكن له خبر. وقيل: "ويل" وادٍ في جهنم، فعلى الأول تكون "من" في قوله: "من النار" لابتداء الغاية أي: ابتداؤه الويل من النار، ويجوز أن يكون للتبعيض، لأن العذاب الذي وُعِدَ به هو من النار أي بعضها، وعلى الثاني: يكون لتمييز الجنس، أي لها الويل الذي هو النار، ويجوز أن يكون للتبعيض أيضًا لأن الوادي -هو ويل- بعض النار. وفي هذا الحديث دليل على:- بطلان قول من ذهب إلى جواز مسح الأقدام، لأن المسح لا يبلغ الأعقاب، وإنما يكون على مشط القدم أو بعضه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتوعد بالنار على ما ليس بواجب. والذي ذهب إليه الشافعي: أن إسباغ الوضوء مستحب عنده، وعليه الأئمة.

الفرع الأول: في الموالاة

الفرع الثامن (*) في الموالاة أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه توضأ بالسوق، فغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم دُعِىَ لجنازة فدخل المسجد ليصلي عليها، فمسح على خفيه، ثم صلى عليها. هكذا أخرجه في كتاب الطهارة، وأعاد إخراجه في موضعين اخرين من كتاب اختلافه مع مالك بهذا الإسناد أيضًا، وفي اللفظ تقديم وتأخير. هذا حديث صحيح، أخرجه في الموطأ (¬1) بالإسناد قال: ابن عمر بال بالسوق، ثم توضأ وغسل وجهه ويديه، ومسح برأسه، ثم دعي لجنازة ليصلي عليها حين دخل المسجد، فمسح على خفيه ثم صلى عليها. "الباء": في قوله: "بالسوق" واقعة في موقع "في" وقد جاءت في الشعر كذلك قال: ما بكاء الكبير بالأطلال (¬2) أي فيها. "والسوق": يذكر ويؤنث، وتأنيثها أكثر. واللام في قوله: "لجنازة" يجوز أن تكون باقية على بابها، أي: دُعي لأجلها، ويجوز أن تكون متنقلة بمعنى "إلى" أي: دعي إليها، قال اللَّه -تعالى- {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (¬3) أي إلى هذا. ويعضد هذا التأويل الثاني، ما جاء في رواية الموطأ "ثم دعي لجنازة ليصلي عليها" فلو كانت اللام على بابها كان تكرارها مستكرهًا وإن أفاد زيادة تأكيد بكونه بدلًا منه. وإذا جُعِلَت "اللام" بمعنى إلى كان "اللام" متسقًا لا تكرار فيه. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 60 رقم 43). (¬2) وتمام البيت، وسؤالي فهل ترد سؤالي والبيت للأعشى. (¬3) الأعراف 43. (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفرع الأول"، والله أعلم.

ويجوز أن يجاب عن هذا بأن اللام في "ليصلي عليها" إنما هي بمعنى "كي" أي دعي لها كي يصلي عليها. واللام في "ليصلي" متعلقة بقوله "فدخل المسجد" في رواية الشافعي، وبقوله "ثم دعى" في رواية الموطأ. "والجنازة": -بكسر الجيم وفتحها- فبالكسر: هي السرير، وبالفتح: الميت، قاله ثعلب. وقيل بالكسر هو الميت نفسه، قاله الأصمعي. قال: والعوام يتوهمون أنه السرير. وقال الليث: قد جرى في أفواه الناس جنازة -بالفتح- والنحارير ينكرونه. وقيل الجنازة: الرجل والسرير معًا، وهو من قولهم: جنز الشيء، وهو مجنوز إذا جمع. "والمسجد": موضع السجود في الأصل، ثم جعل علمًا على هذه البِنْية المخصوصة بجميع أجزائها وجهاتها؛ وإن كان موضع السجود بعضها، ويقال فيه: بفتح الجيم. والذي ذهب إليه الشافعي في الموالاة، قال في القديم: إنه واجب، ولا يجوز تفريق الوضوء؛ وأن يتخلل بين الفرضين زمان يجف فيه العضو المتقدم في الزمان المعتدل، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وروي عن قتادة، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وحكي عن الليث بن سعد، ومالك بن أنس، أنه إن تعمد التفريق بطلت طهارته، وإن كان لعذر جاز في قول مالك ما لم يجف العضو. وقال في الحديث: يجوز التفريق، وروي ذلك عن ابن عمر، وذكر هذا

الحديث وبه قال سعيد بن المسيب، والنخعي، والحسن البصري، وعطاء، وطاوس، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. قال الشافعي: وأحب أن يتابع الوضوء ولا يفرقه، لأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جاء به متتابعًا؛ وإن قطع الوضوء فأحب إليّ أن يستأنف وضوءه، ولا يقين لي أن يكون عليه استئناف وضوئه، ثم احتج بهذا الحديث. ووجوه الاستدلال منه، تأخير مسح خُفَّيهِ إلى أن دخل المسجد. وفيه دليل على أن الفرض في الوضوء، إنما هو متعلق بهذه الأعضاء الأربعة دون غيرها, ولم يذكر أنه تعرض لعضو اخر سواها. وفيه دليل: على أن البول في السوق إذا كان مستترًا؛ ليس قادحًا في العدالة. وفيه دليل: على جواز المسح على الخفين، وسيرد بيان ذلك في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى. ***

الفرع الثاني: في مقدار الماء الذي يتوضأ به

الفرع الثالث (*) في مقدار الماء الذي يتوضأ به أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوَضُوءَ فلم يجدوه فأتي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بِوَضُوءٍ فوضع في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه، قال: "فرأيت الماء ينبع تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضأ من عند اخرهم": وفي نسخة "ينبع من تحت أصابعه" وفي أخرى: "فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الموطأ (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). فأما الموطأ: فأخرجه بالإسناد واللفظ إلا أنه قال: "التمسَ الناسُ وَضُوءًا". وأما البخاري: فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك، بالإسناد واللفظ وقال: "من تحت أصابعه" ولم يذكر فتوضأ الناس (¬6). وفي أخرى: عن عبد اللَّه بن منير، عن عبد اللَّه بن بكر، عن حميد، عن أنس، وذكره، وزاد فيه: فأُتِيَ بمخضب من حجارة فيه ماء، فَصَغُرَ المِخْضبُ أن ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 57 رقم 32). (¬2) البخاري (169، 195، 3572). (¬3) مسلم (2279). (¬4) الترمذي (3631) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (1/ 60 - 61). (¬6) لكنه ذكر لفظًا قريبًا من هذا، قال: "حتى توضئوا من عند اخرهم". (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفرع الثاني"، والله أعلم.

يبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم، قلنا: كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة. وفي أخرى عن محمد بن بشار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد عن قتادة، وفيه: قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة. وأما مسلم: فأخرجه عن سليمان بن داود (¬1) العتكي، عن حماد بن زيد، عن أنس وفيه: "فأتى بقدح رحراح"، وفيه: "فحزرت ما بين الستين إلى الثمانين". وفي أخرى عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، وعن أبي طاهر، عن ابن وهب جميعًا عن مالك بالإسناد واللفظ. وفي أخرى: عن أبي غسان المسمعي، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، وذكر مثل البخاري. وله وللبخاري روايات غير هذه. وأما الترمذي: فأخرجه عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك، بالإسناد واللفظ. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، بالإسناد واللفظ. وله في أخرى: عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت وقتادة، عن أنس وفيه: "فوضع يده في الإناء ويقول: "توضئوا باسم اللَّه" فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه. وفي الباب عن جابر، وأبي قتادة، وعمران بن حصين، وسلمة بن الأكوع، وابن مسعود. "حان الشيء" يحين حينًا، إذا قرب، وحان حينه أي قَرُبَ وقته، والحين: ¬

_ (¬1) زاد في الأصل حرف (و) قبل "العتكي" وهذا الحرف يوهم أنهما اثنان وهو خطأ، وسليمان بن داود هو العتكي من رجال الصحيحين.

الوقت والمدة. والواو في قوله "وحانت": واو الحال، مثل قولك: جاء زيد ويده على رأسه، وقدم الأمير وطلعت الشمس، أي: وقد طلعت. وحكم هذه الواو إذا دخلت على فعلٍ ماضٍ، أنها لا تَحْسُنُ إلا ومعها قد مظهرة أو مقدرة، وتحتاج إلى عائد، والواو تنوب مناب العائد، تقول: يا زيد فقد ركب الأمير، وقد حذفوا "قد" اكتفاءً بالواو عنها، فقالوا: جاء زيد وخرج أخوه، أي وقد خرج أخوه، وقد حذفوا الواو رأسًا كقوله تعالى {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (¬1) أي وقد حصرت في -أحد الوجهين. "والعصر": اسم لصلاة معروفة، والأصل فيه أن "العصر" اسم لوقت الغداة ووقت العشي، ومنه قولهم: العصران وهي الغداة فسميت هذه الصلاة المخصوصة باسم وقتها. "والالتماس": الطلب، والتلمس التطلب مرة بعد مرة، وكأن أصله من لمس الشيء باليد، لأن الذي يلتمس الأشياء يتطلبها، فكأنه يلمسها بيده ليجد غرضه. "والناس": اسم يقع علي بني ادم ذكرهم وأنثاهم، وقد يقع على -الجن- في قولٍ -وأصل الناس "أناس" فخفف، ولم يجعلوا الألف فيه عوضًا من الهمزة المحذوفة، لأنه لو كان كذلك لما اجتمع العِوَصُ والمعوض منه، قال الشاعر:- إن المنايا تطلعن علي الأناس الا منينا. "والوَضوء": في هذا الحديث بفتح الواو يريد الماء. "وأُتِي" بكذا: أي أحضر عنده وجيء به، وهو من أتى يأتي إذا جاء كأنه جاء إليه بالماء، فالباء مُعَدِّيَةٌ لفعل الإتيان، ولو كانت "أوتى" لم يحتج إلى ¬

_ (¬1) النساء: [90].

الباء، لأن اتى يُؤْتِي متعدٍّ، وهذه الباء هي للملابسة والمخالطة، التقدير: أتاه حاملًا للماء وملتبسًا به، وقد جاء في معظم روايات هذا الحديث، "فوضع في ذلك الإناء يده"، وفي بعضها "فوضع يده في ذلك الإناء"، فأما من قدم حرف الجر على اليد، فلأن العناية في هذا المقام؛ كانت بذكر الإناء أشد، وبه أهم، لأن الغرض منه أن إناء صغيرًا يتوضأ منه خلقٌ كثيرٌ، مما تنصرف الهمم إلى الوقوف على كنه أمره؛ والعلم بعجيب حاله؛ فقدم في الذكر ما هو به أعنى، وعندهم أهم. وأما من قدم اليد على الإناء، فإن الإناء وإن كان صغر حجمه وسعته لهذا الماء الكثير، عجبيًا غرييًا مُعْجِزًا فإن ورود الماء اليد من الأصابع، أكثر غرابة وأشد عجبًا, ولأن اليد هي الأصل في وجود الماء، وهي السبب في ظهوره، فالإعجاز فيها أكثر منه في القدح، فكان الابتداء بذكرها أولى، والاهتمام بتقديمها أعني. وقوله: "أن يتوضأ" في موضع نصبٍ لأنه مفعول "أَمرَ" والأصل فيه أمر الناس أن تتوضأ، لأن فعل الأمر يتعدى إلى مفعول واحد وهو "الناس"، فاحتاج أن يجىء بحرف الجر؛ الذي هو الباء لتعديه إلى مفعول اخر، التقدير: أمر الناس بالوضوء، ولكنه لما كثر استعماله حذف حرف الجر وهو مراد، ومثله في العربية كثير. وقوله: و"منه" يجوز أن تكون لابتداء الغاية أي يكون ابتداء وضوئهم من هذا الماء، ويجوز أن تكون للتبعيض، أي: أنهم توضئوا ببعضه لا بكله، وكلا الوجهين صحيح فصيح.

"ونبع الماء" ينبُع وينبَع نبوعًا إذا خرج، "والينبوع": عين الماء، والذي في الروايات ينبع من تحت أصابعه، وفي رواية الشافعي الواحدة بحذف "من" وهما في المعنى سواء، وقد جاء بهما القرآن العزيز، وإثباتها فيه أكثر كقوله تعالى {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ} (¬1) وقال في اية أخرى {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (¬2) وهذه "من" لابتداء الغاية، أي ابتداء نبوعه من ذلك المكان، وإذا حذفها لم يكن متعرضًا لابتداء النبوع، إنما أراد أن نبوع الماء كان تحت الأصابع. وقوله: "فتوضأ من عند اخرهم"، يريد أنهم توضئوا جميعًا؛ ولم يبق منهم أحد حتى وصلوا إلى اخرهم. وهذه "من" لابتداء الغاية، فكأنهم لما كملوا في الوضوء ولم يتخلف منهم أحد كانوا كأنهم ابتدأوا من اخرهم، فكأن الأول والاخر منهم سواء في الاكتفاء بالماء والوضوء منه؛ وأنه لا فرق بين الطرفين في الحالة، وأن الماء كان اخره مثل أوله ولم ينقص، حتى إن الأول الذي من شأن مثله في هذه الحال أن يتسابق إلى الوضوء لعلمه بقلة الماء وصغر الإناء؛ كي لا يفوته الوضوء إن أهمل المسابقة إليه، فكأنه ترك المسابقة إلى الماء والمبالغة عليه، كما يتركه إذا كان الماء كثيرًا غزيرًا؛ حتى يدع سَبْقَهُ للاخر فيقدمه عليه، وهذا من لطائف الألفاظ العربية، ودقائقها الشريفة. وفي الرواية الأخرى: "فرأيته -بالهاء- نبع من أصابعه"، وبين نبع وينبع فرق دقيق. أما "بين" فهو بمعنى وسط، تقول: جلست بين القوم، أي وسْطهم، ساكن السين وهو ظرف مكان لا يزال منصوبًا، فإن جعلته اسمًا رفعته وجررته، كقوله ¬

_ (¬1) التوبة: [100]. (¬2) البقرة [25].

تعالى {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} (¬1) في إحدى القراءتين. وأما الفرق بين "نبع" و"ينبع"، فإنه مع المستقبل حكاية الحال الحاصلة عند نبوع الماء، كأنه استحضر الحال عند حديثه، وصورها عند خطابه، وليس كذلك "نبع" إنما هو حكاية حال ماضية، والمستقبل في هذا النوع من الخطابة أبلغ وأحسن وإلى القلوب أقرب، وبها أعلق وعندها أبين، وكثيرا ما يجيء هذا الفعل في القرآن العزيز؛ لما فيه من الفصاحة والبيان. وقوله في رواية البخاري: "حضرت الصلاة" أي حضر وقتها ودنا زمانها، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ثم لما حذف المضاف واتصل الفعل بالصلاة أثبت فيه تاء التأنيث لتأنيث الصلاة. "والمخضب": كالإجانة والمركن (¬2). و"من" في قوله: "من حجارة"، لتبيين الجنس، كقولك: ثوب من خَزٍّ. وقوله: "فصغر المخضب أن يبسط فيه يده" وقيل في رواية: "عن أن يبسط"، وفي رواية بحذف "عن"؛ والأصل إثباتها لأن "صَغُرَ" فعل قاصر لا يتعدى إلا بمعد، كأنه قال: صغر عن بسط يده، وأما من حذفها فلأن حروف الجر قد تحذف، وهي مدارة لكثرة الاستعمال؛ والأصل ما ذكرناه. "والبسط": ضد القبض، والمراد نشر أصابعه وكفه في الإناء، وتكتب بالسين والصاد لأجل الطاء، لأن السين تبدل صادًا إذا وقعت قبل أربعة أحرف وهي: الطاء، والحاء، والعين، والقاف، هربًا من كلفه الصعود من الأدنى إلى الأعلى عند النطق، وليصير النطق بالحرفين من مكان واحد، بخلاف ما إذا وقعت بعدها فإنه يكون نزولًا من الأعلى إلى الأدنى. وبيان ذلك: أن هذه الأحرف الأربعة مخرجها من أعلى الحنك الأعلى، ¬

_ (¬1) الأنعام: [94]. (¬2) قال المصنف في النهاية (2/ 39): المخِصب بالكسر: شبه المركن، وهي إجَّانة تغسل فيها الثياب.

والسين من أسفل الحنك الأسفل، فإذا كانت قبل الطاء احتجت أن تنطق بالسين من الأسفل، وبالطاء من الأعلى وإذا تأخرت انعكست الحال فسهل النطق. "والقوم": الجماعة من الرجال خاصة، ولا واحد من لفظه، وربما دخل النساء فيه على سبيل التبعية، ويُذكَّر لفظه ويؤنث، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها؛ إن كانت للادميين تذكر ويؤنث، مثل: رهط، ونفر، وقوم، قال اللَّه -تعالى- {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} (¬1) وقال {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (¬2). و"كل" اسم للتأكيد معناه الإحاطة والعموم، ولا يؤكد به إلا ما يتبعض نحو: جاء القوم كلهم، ويؤكد بها المُظْهَرُ والمُضْمَرُ، وقد تجيء اسمًا غير تأكيد، تقول: جاءني كلهم، إلا أن الأصل وضعها للتأكيد. وقد اختلفوا في إدخال الألف واللام على "كل" و"بعض"، فمنع منه قوم لتقدير الإضافة فيه، وأجازه اخرون اعتبارًا بنصبه على الحال، في قولهم، مررت بهم كلاًّ. وأكثر ما يجيء مضافًا إلى المظهر والمضمر، وقد يقطع عن الإضافة ويُنَوَّن كقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (¬3). وكم: اسم منه تارة بمعنى الاستفهام، وأخرى بمعنى الخبر، وهي في الحديث استفهامية. و"الرحراح": الواسع الذي ليس بضيق. "وزهاء الشيء": قدره وما يقاربه، تقول: هم زهاء مائة أي قدر مائة. ¬

_ (¬1) الأنعام: [66]. (¬2) الشعراء: [105]. (¬3) النمل: [87].

وفي رواية النسائي: "فوضع يده في الماء ويقول: باسم اللَّه" الواو في يقول واو الحال وهي أبلغ وأحسن في الخطاب. قال: لما تقدم بيانه في نبع وينبع. والباء في "باسم اللَّه" متعلقة بقوله: "بوضوء" ومعنى تعلق اسم اللَّه بالوضوء له وجهان:- أحدهما: أن يتعلق به تعلق القلم بالكتابة، في قولك: كتبت بالقلم، على أن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يجيء معتدًّا به في الشرع، حتى يصدر باسم اللَّه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ أمرٍ ذي بالٍ لم يُبْدَأْ فيه باسم اللَّه فهو أبتر" وإلا كان فِعْلًا كالأ فعال، جَعَلَ فِعْله مفعولًا باسم اللَّه، كما تُفْعَلُ الكتابة بالقلم. والثاني: أن يتعلق به تعلق الدُّهْنِ بالإنبات؛ في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬1) التقدير: تَنْبتُ مختطة بالدهن، وهنا يكون التقدير أتوضأ مُتَبَرِّكًا باسم اللَّه. "والاسم": أصله مختلف فيه، فذهب البصريون من النُّحَاة إلى أنه سمي بوزن "فعل"، وجمعه "أسماء" مثل: "قنْو" و"أقناء" فحذفت الواو استثقالًا ونقلت حركتها إلى الميم، ونُقِلَ سكونُ الميم إلى السين، ثم أدخلت همزة الوصل عليها توصُّلًا إلى النطق بالساكن يدلك على ذلك سمي في التصغير واسمًا في التكسير، وسميت في التصغير لأن هذه الأشياء ترد الأشياء غيرها إلى أصولها، فاشتقاقه حينئذ من "السمو" وهو العلو، وقال الكوفيون: هو من السِّمَة: العلامة، وأصله عندهم "وسم" فأبدلوا من الواو همزة، ومقتضى القياس أن يكون جمعه "أوسامًا"، وتصغيره "وُسَيمًا"؛ والحال بخلافه. وهذا الحديث قد جاء في المسند؛ مسرودًا مع باقي الأحاديث قبله وبعده، وليس للأحاديث المسندة تراجم تعرف بها, ولهذا الحديث معانٍ يجوز أن يكون ¬

_ (¬1) المؤمنون (20).

كل واحد منها ترجمة عليه، وقد اختلفت تراجم الأئمة في كتبها عليه، فترجم البخاري في كتابه في موضعين:- أحدهما -باب الوضوء والغسل من المخضب والقدح. والثاني -باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة. وأما النسائي: فأخرجه في موضعين من كتابه:- أحدهما -باب الوضوء من الإناء. والثاني -باب التسمية عند الوضوء. فأما مالك فأخرجه في "الموطأ" في باب "جامع الوضوء"، ولم يخصه بترجمة مفردة. وأما الترمذي ومسلم: فأخرجاه في باب معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأورده صاحب الشامل: في باب الجنب وغيره. وأورده البيهقي: في باب مقدار الماء الذي يتوضأ منه، وهو فقد ذكر في أول كتابه، أنه قد خَرَّجَ الأحاديث على ترتيب أبواب مختصر المزني، وهذا إشارة منه إلى أن الشافعي أورد هذا الحديث في الباب الذي قد أورده فيه البيهقي -واللَّه أعلم. ولذلك اقتدينا نحن به، فأوردناه في هذا الباب وكل من هذه التراجم مناسب؛ لأنه يدل على كل باب منها بالمعنى الذي يخصه. فلنذكر الان ما يتعلق بمقدار ماء الوضوء والغسل. قال البيهقي في روايته لهذا الحديث: قال الشافعي: وفي مثل هذا المعنى أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل وبعض نسائه من إناء واحد، وأكثر ما حكت وغسلها "فرق" و"الفرق" ثلاثة اصع؛ وقد تقدم تخريج هذا الحديث في الباب الأول من هذا الكتاب.

قال الشافعي: وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بالمُدِّ واغتسل بالصاع (¬1). قال الشافعي: وفي هذا ما دل على أن لا وقت فيه لإكماله؛ واللَّه أعلم. مع أنه قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الجنب: "فإذا وجدت الماء فأمسه طهرك" (¬2) بغير توقيت شيء منه. وبيان المذهب هو: أنه لا حد للماء الذي يغتسل به الجنب ويتوضأ به المحدث، إلا بأن يُمِرَّ الماء على الأعضاء ثم يجريه عليها. قال الشافعي: فقد يخرق بالكثير فلا يكفى، ويرفق بالقليل فيكفي. قال: وأحب إليَّ أن لا ينقص مما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه توضأ بالمُدِّ واغتسل بالصاع. وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: لا يمكن للمغتسل أن يعم جسده بأقل من صاع، ولا المتوضئ أن يسبغ أعضاء وضوئه بأقل من مد. وفي هذا نظر: فإنه روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ بثلثي مد (¬3). ويمكن أن يستخرج من هذا الحديث مسألة معاياة (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (201)، ومسلم (325). من حديث أنس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد" لفظ مسلم. (¬2) أخرجه أحمد (5/ 146 - 147)، وأبو داود (332 - 333) وغيرهم من حديث أبي ذر، وفيه قصة، وفي اخره: (إن الصعيد الطيب طهور -ما لم تجد الماء، ولو إلى عشر حجج، فإذا وجدت الماء فأمس بشرتك). ولفظ أبي داود: (فأمسه جلدك) واللفظ المذكور غريب. وهذا حديث مختلف في ثبوته وفي أسانيده اضطراب كثير وانظر "نصب الراية" (1/ 148)، "والتلخيص الحبير" (1/ 154). (¬3) أخرج أبو داود (94)، والنسائي (1/ 58)، وفي الكبرى (76) عن أم عمارة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: توضأ فأتي بإناء فيه ماء قدر ثلثي مد). وصححه الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- في صحيح النسائي (72). (¬4) أي: نادرة أو لا أصل لها.

فيقال: هل يجوز الوضوء بماء لم ينزل من السماء ولا ينبع من الأرض؟ فإن هذا الماء الذي توضأ به هذا الخلق العظيم؛ لم يكن ذلك القدر اليسير الذي كان في القدح؛ إنما هو نابع من أصابع - صلى الله عليه وسلم -، ولا شبهة أنه لم ينزل من السماء ولا نبع من الأرض، والماء هو معجزة أظهرها اللَّه -عز وجل- لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد تكرر ظهور الماء من بين أصابعه مرات، وهذا أكثر في باب الإعجاز من ظهور الماء من الحجر على يد موسى -عليه السلام- لأن الحجر من شأنه أن ينبع الماء منه كثيرًا في أماكن عدة، فأما من الأصابع!! ولا يعرف ذلك إلا للمؤيَّدِ بالمعجزة الإلهية - صلى الله عليه وسلم -. ***

الفصل الثالث: في الأحداث الناقصة

الفصل الثالث في الأحداث الناقصة وفيه ثمانية فروع:- الفرع الأول في النوم أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة، عن حميد، عن أنس بن مالك قال: "كان أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء فينامون -أحسبه قال- قعودًا حتى تخفق رءوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون". الثقة في هذا الحديث هو: إسماعيل ابن علية. قال الحافظ أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه: إذا قال الشافعي: أخبرنا الثقة، عن حميد الطويل، فإنما يكنى بالثقة عن إسماعيل بن علية (¬1). وأخرج الشافعي في كتاب القديم قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن الدستوائي، عن قتادة، عن أنس: "أن أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون". وهذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4). فأما مسلم: فأخرجه عن يحيى بن حبيب الحارثي، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا يقول: "كان أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ينامون ثم يصلون لا -أو- ولا يتوضئون" قال: قلت: سمعتَه من أنس؟ قال: إي واللَّه. ¬

_ (¬1) وكذا قال البيهقي عن شيخه الحاكم وعنه نقل المصنف -انظر المعرفة (1/ 358). (¬2) مسلم (376). (¬3) أبو داود (200). (¬4) الترمذي (78) وقال: حسن صحيح.

وأما أبو داود: فأخرجه عن شاذّ بن فيَّاض، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس قال: "كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء الاخرة، حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون". قال أبو داود: زاد فيه شعبة، عن قتادة: قال: كنا على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وأما الترمذي: فأخرجه عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة بالإسناد، قال: "كان أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -[ينامون] (¬1) ثم يقومون فيصلون ولا يتوضئون". وفي الباب عن علي، وابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عمر، وعائشة. وقد أخرج البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5)، هذا الحديث بأطول من هذا من طرق عدة، وفيه ذكر الصلاة وتأخير وقتها, وليس هذا موضع ذكرها، وربما جاءت في أحاديث الصلاة. "الأصحاب": جمع صحب، وصحب جمع صاحب، ويجمع صاحب أيضًا على صحاب وصحبة، والصحابة بالفتح: الأصحاب والمصدر. "والصاحب": هو الذي يوافقك ويكون معك. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من جامع الترمذي والسياق لا يتم بدونها. (¬2) البخاري (572) ولفظه: قال أنس: "أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العشاء إلى نصف الليل، ثم قال: قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها" وله ألفاظ أخرى عنده، وراجع أطرافه هناك. (¬3) مسلم (376). (¬4) أبو داود (200، 201). (¬5) النسائي (1/ 268). كلهم من حديث أنس.

وقد اختلف العلماء فيمن يطق عليه اسم الصحابة. وقد استقصيناه في كتاب "جامع الأصول في أحاديث الرسول" ولابد من ذكر طرف هاهنا. فنقول: كان ابن المسيب لا يعد الصحابي إلا من أقام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين، أو غزا معه غزوة أو غزوتين. وقال غيره: كل [من] (¬1) أدرك الحُلم ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعقل أمر الدين، فهو من الصحابة ولو أنه صحبه ساعة. وقيل: كل من صحبه سنة، أو شهرًا، أو يومًا، أو ساعة، وهو مسلم كبيرًا كان أو صغيرًا فهو صحابي. والحق في ذلك: أن اسم الصحبة في مطلق الفقه يتناول كل من صحبه زمانًا؛ إلا أن العرف المتناول بين الناس؛ أنهم لا يطلقون لفظ الصحبة؛ إلا على من عرف بصحبة الإنسان ودام معه واشتهر به، كما يقال: علقمة صاحب ابن مسعود، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة، والمزني صاحب الشافعي. والأكثرون على أنه لا ينطلق اسم الصحابي؛ إلا على من أسلم ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ولو أقل شيء؛ حتى أنهم عدّوا جماعة ولدوا على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ من أبناء الصحابة ولم يروه؛ في الصحابة، وليس بشيء (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وأثبتناه ليتناسب مع السياق. (¬2) قال السخاوي في فتح المغيث (3/ 80). الصغير غير المميز كعبد اللَّه بن الحارث بن نوفل، وعبد اللَّه بن أبي طلحة الأنصاري وغيرهما ممن حنكه النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا له ومحمد بن أبي بكر الصديق المولود قبل الوفاة النبوية بثلاثة أشهر وأيام، فهو وإن لم تصح نسبة الرؤية إليه صدق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وراه ويكون صحابيًّا من هذه الحيثية خاصة، وعليه مشى غير واحد ممن صنف في الصحابة ..... وقد قال شيخنا في "الفتح": إن أحاديث هذا الضرب مراسيل. وقال العراقي في التقييد والإيضاح (292): =

ونظرت فلانًا، وانتظرته نظرًا وانتظارًا بمعنى، وكان الانتظار افتعال من النظر وهو: تأمل الشيء بالعين، وكذا هو الذي يرتقب الشيء ويديم تحديق النظر إلى وصوله. "والعشاء": يريد بها صلاة العتمة. "والحِسْبان": بالكسر مصدر حسبت بمعنى ظننت، وقد تقدم بيانه. "والقعود": هنا جمع قاعد، مثل: جالس وجلوس، والمصدر فيهما مثل: لفظ الجمع قعدت قعودًا، وجلست جلوسًا. "وقعود" هنا منصوب على الحال؛ أي ينامون قاعدين. ويجوز أن يكون مصدرًا، أي ينامون في حالة قعودهم. "وخفق الرجل": إذا حرك رأسه وهو ناعس؛ يخفق خفوقًا فهو خافق، ومنه خفقت الدابة إذا تحركت، وخفق القلب والشراب إذا اضطربا، والمراد به في الحديث: ما يعرض للنائم إذا كان قاعدًا من سقوط ذقنه على صدره، وهذا لا يكون إلا عن نوم. "ثم": حرف عطف يفيد الجمع بين الشيئين؛ والأشياء بمهلة وترتيب في عطف المفردات والذوات، وبلا مهملة وترتيب في عطف الجمل والأحوال. "والصلاة": هذه العبادة المخصوصة، ذات الأحوال والأقوال المشهورة في الشرع. وأصلها في اللغة: "الدعاء"، ثم نقلها الشارع إِلى ذلك وهو: اسم يوضع موضع المصدر، تقول: صليت صلاًة. ¬

_ = فأما التمييز فظاهر كلامهم اشتراطه كما هو موجود في كلام يحيى بن معين وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي داود وابن عبد البر وغيرهم وهم جماعة أُتي بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أطفال فحنكهم ومسح وجوههم أو تفل في أفواههم؛ فلم يكتبوا لهم صحبة كمحمد بن حاطب بن الحارث ...

ومعنى رواية مسلم: "ثم يصلون لا -أو ولا- يتوضئون" يريد: ثم يصلون لا يتوضئون أو ولا يتوضؤن، كأنه شك في إثبات الواو قبل "لا" وحذفها مع حذفها؛ ففيه زيادة تحقيق لعدم التوضؤ في هذه الحالة؛ كأنه جعل ذلك حالة لازمة لهم، وأنها داخلة في الجملة وليست جملة خارجة عن الأول، لأن واو العطف يؤذن بانفراد المعطوف عن المعطوف عليه، وهذا نوع من البلاغة لطيف، وباب من الفصاحة شريف، وهو أن يذكر القائل جملًا من القول كل واحدة منها مستقلة بمعنى؛ ثم يسردها متلاحقة بغير عاطف، وهي مع ذلك اخذة بعضها برقاب بعض، ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1). و"إي": في قوله: "إي واللَّه" بمعنى نعم وبلى، وهي ابتداء يتقدم على القسم، والواو واو القسم، وهي نائبة عن حرفه الأصلي الذي هو الباء، لأن الباء هو الحرف الذي يوصل الفعل القاصر إلى المفعول فتعديه إليه، تقول: حلفتُ باللَّه، وأُقْسم باللَّه، ثم أبدلت من الباء الواو لقرب المخرج وصارت أولى من الأصل لكثرة الاستعمال. "والسماع": مصدر سمعت الشيء أسمعه سمعًا وسماعًا، وسمعت إليه وسمعت له، وتسمعت واستمعت، كل ذلك بمعنى. وقوله: "كان أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -" فرع من أنواع طرق لفظ الراوي وإيراده الحديث، وهو اخر مراتب الإيراد، وكذلك قول الصحابي: كنا نفعل كذا والمراد: أنهم كانوا يفعلون الشيء بمشهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ينكر عليهم ذلك، فهذا دليل الجواز، وهو حجة معمول به، فقد تقدم قبل هذا الحديث بيان ذلك أكثر إيضاحًا. ¬

_ (¬1) آل عمران: [118].

وقوله: "كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون العشاء". فيه دليل على أن ذلك أمر كان يتواتر منهم، وأنه قد كثر حتى صار كالعادة ولم يكن نادرًا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن النوم ينقض الوضوء، إلا أنه إذا كان النائم قاعدًا متمكنًا بمقعدته من الأرض ولو تجافى بمقعدته انتقض. وحكى البويطي، والزعفراني عنه قولًا قديمًا له: إن نام في الصلاة فلا تنفض طهارته، وهو ضعيف، وحكى مثله عن ابن المبارك. وأما أبو حنيفة فقال: إذا نام مضطجعًا وجب عليه الوضوء، وإن نام قائمًا، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو جالسًا؛ ولا (¬1) وضوء عليه. وهو يعتبر أن يكون على حالة يكون على مثلها في الصلاة في حال الاختيار، وبه قال الثوري، وابن المبارك، وداود. وقال مالك: النوم ينقض الوضوء بكل حال؛ إلا أن يكون جالسًا أو يكون نومه يسيرًا؛ فإن كثر نقض. وأما أحمد: فإنه اعتبر ما اعتبره أبو حنيفة وزاد فيه؛ أن يكون النوم قليلًا. وأما الاضطجاع: فقليل النوم وكثيره ينقض عنده. وقال المزني: قليل النوم وكثيره على جميع حالاته ناقض، وبه قال الحسن وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيدة، وقال به من الصحابة أبو هريرة، وعائشة، وروي عن علي. وقال ابن عباس: الوضوء على كل نائم إلا من خفق برأسه خفقة أو خفقتين. وقال الزهري: كانوا لا يرون بغرار (¬2) النوم بأسًا، يعني أنه لا ينقض الوضوء. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل بذكر (و) في جواب الشرط ولا وجه لها والصواب [فلا]. (¬2) قال البغوي: أصل الغرار: النقصان، وأراد بغرار النوم: قلته. شرح السنة (1/ 339).

وحكى عن أبي موسى الأشعري، وأبي مجلز، وحميد الأعرج أنهم قالوا: النوم لا ينقض الوضوء على سائر الأحوال، وبذلك قالت الشيعة الإمامية. ومنشأ هذا الخلاف: هو أن النوم هل هو ناقض لذاته أو لأنه مظنة الحدث؟ وهذا الحديث يدل على أن مجرد النوم مطلقًا ليس بناقض، لأنه لو كان ناقضًا على كل حال لنقضه كسائر الأحداث الناقضة، قليلها وكثيرها، خطئها وعمدها، وإنما هو مظنة للحدث موهم لوقوعه من النائم غالبًا, ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "العينان وكاء السَّه" (¬1) فإذا كان النائم بحال من التمسك والاستواء في القعود المانع من خروج الحدث منه؛ كان محكومًا له ببقاء الطهارة، ومتى زال عن هذه الحالة من الاستواء كالاضطجاع، والميل، والاتكاء، والقيام، والركوع، والسجود، وبالجملة فعلى حالة يسهل معها خروج الحدث؛ كان أمره محمولًا على أنه قد أحدث عملا بالغالب -واللَّه أعلم-. وقال بعض من ذهب إلى مذهب مالك: إنه إذا استقر وارتبط ثم نام، فإن الذي يجيء على المذهب أنه لا وضوء عليه. وحكى ذلك عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني -رحمة اللَّه عليه. أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان ينام قاعدًا ثم يصلي ولا يتوضأ. وأخرج هذا الحديث أيضًا في كتاب اختلاف الشافعي ومالك، وقال فيه: كان ينام وهو قاعد، وأخرجه أيضًا في كتاب اختلافه مع مالك قال: ¬

_ (¬1) روى من حديث علي ومعاوية وفي كلا الإسنادين مقال. قال الحافظ: قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن هذين الحديثين، فقال: ليسا بقويين، وقال أحمد: حديث علي أثبت من حديث معاوية في هذا الباب. وحسَّن المنذري وابن الصلاح والنووي حديث علي. التلخيص الحبير (1/ 118). وراجع نصب الراية (1/ 45 - 46).

أخبرنا الثقة، عن عبد اللَّه بن عمر عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: من نام مضطجعًا وجب عليه الوضوء ومن نام جالسًا فلا وضوء عليه. هذا حديث صحيح، أخرجه مالك في الموطأ (¬1) إلا أنه قال: جالسًا بدل قاعدًا. وإنما ذكره الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك، لأن من مذهب مالك أن يسير النوم لا ينقض الوضوءَ، ومذهب جماعة أخرى منهم الحسن البصري: أن النوم على جميع حالاته ناقض للوضوء. فأخرج الشافعي هاتين الروايتين في كتاب اختلافه مع مالك، نقضًا للمذهبين فإنه لم يفرق فيهما ابن عمر بين قليل النوم وكثيره؛ وإنما اعتبروا النوم قاعدا وجالسًا, ولا فرق بين القعود والجلوس من جهة المعنى، وإنما يفترقان من جهة اللفظ والتصرف في الموضع فإن موضع القعود مقعد -بفتح العين- قال اللَّه تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) (¬2) وموضع الجلوس مجلس بكسر اللام، فأما المجلس -لفتح اللام- فهو المصدر. وقاعدًا: منصوب على الحال، وقوله: وهو قاعد، جملة من مبتدأ وخبر في موضع الحال أيضًا. وقد صرح في الرواية الثالثة بالفرق بين النومتين، فقال: "من نام مضطجعًا فعليه الوضوء ومن نام جالسًا فلا وضوء عليه". فلم يبق تأويلًا يتطرق إلى اللفظ. وهذا يرد قول من قال: إن النائم جالسًا لا ينقض وضوؤه. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 50). وأخرج الرواية الثانية البيهقي في المعرفة (904). (¬2) القمر: [55].

وهو فعل صحابي مشهور من جلة الصحابة وفقهائهم، عارف بمواقع الخطاب، بصير بمظان الحلال والحرام، خبير بالجائز والممنوع، وفعله في هذا المقام حجة؛ لا سيما وقد ثبت ورود مثل هذا الفعل عن الصحابة، في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره عليهم، فكان الأخذ به أولى والعمل بموجبه أحرى. وقد تقدم ذكر مذاهب الأئمة، في الحديث الذي قبله. وقد اختلفت أقوال الأئمة؛ في قول الصحابي وفعله، هل هو حجة أم لا؟ أما في حق العامي فلا خلاف أنه حجة يجوز العمل به. وأما العالم فقال قوم: يجوز له تقليد الصحابة، وأضاف قوم إلى الصحابة التابعين، وممن ذهب إلى جواز تقليد العالم للعالم: الثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق. وقال قوم: تقليد العالم للأعلم، ولا يقلد من هو مثله أو دونه، وذهب الأكثرون من أهل العراق: إلى جواز تقليد العالم للعالم فيما يفتى به فيما يخصه. وقال قوم: يجوز له فيما خصه دون ما يفتى. وخصص قوم من جملة ما يخصه؛ بما يفوتُ وَقْتُهُ لو اشتغل عن الاستفتاء بالاجتهاد فيه. واختار القاضي أبو بكر: منع تقليد العالم للصحابة ولمن بعدهم، قالوا: وهو الأظهر. فإن المسألة اجتهادية، وتقليد من لم يثبت عصمته؛ ولم يعلم الحقيقة إصابته شديد. وقد اختلف قول الشافعي في المسألة.

وقال في القديم: إنه حجة يجب على المجتهدين من أهل الأعصار التمسك بها ثم قال: وإنما تكون حجة إذا لم يختلف الصحابة ولكن نقل قول واحد ولم يظهر خلاف، فيكون حينئذ حجة وإن لم ينتشر. وقال في بعض أقواله: إذا اختلف الصحابة فالتمسك يقول الخلفاء أولى. وقال في بعض أقواله: القياس الجلي يقدم على قول الصحابي. وقال في موضع اخر: إن قول الصحابي مقدم على القياس. وأجمعوا على أن قول الصحابة لا يكون حجة [] (¬1) والظاهر من المذهب أنهم إذا اختلفوا، سقط الاحتجاج بأقوالهم [] (1) اضطربت الأقوال فيها. وقد حكينا ما عرفناه من أقوال الأئمة فيها. وقد أخرج الشافعي في كتاب القديم: عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، أن عمر بن الخطاب قال: إذا نام أحدكم مضطجعًا فليتوضأ. وقد أخرجه مالك في الموطأ (¬2). ... ¬

_ (¬1) طمس بالأصل قدر كلمتين تقريبًا. (¬2) الموطأ (1/ 49 رقم 10).

الفرع الثاني: في الريح

الفرع الثاني في الريح أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري قال: أخبرني عباد بن تميم، عن عمه عبد اللَّه بن زيد قال: شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة فقال: "لا ينفتل حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). فأما البخاري: فأخرجه عن علي، عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب وعن عباد بن تميم عن عمه. وأما مسلم فأخرجه عن عمرو الناقد، وزهير بن حرب، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، جميعًا عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب، وعباد، عن عمه. وأما أبو داود: فأخرجه عن قتيبة بن سعيد، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب وعباد، عن عمه. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، ومحمد بن أبي منصور، عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب وعباد. وفي الباب عن أبي هريرة، وأنس بن مالك، وعلي بن طلق: شكوت فلانًا أشكوه شكوًا وشكايًة، إذا أخبرت عنه بسوء فعله بك، فهو مَشْكُوٌّ. وشُكِىَ إليه: فعل لم يسم فاعله. ¬

_ (¬1) البخاري (137). (¬2) مسلم (361). (¬3) أبو داود (176). (¬4) النسائي (1/ 98 - 99).

"والرجل": هو المفعول الذي صيغ الفعل له بهذه الصيغة، كأنه قال: وقع إليه حال الرجل. ولم يرد الرجل خاصة دون المرأة، إنما أراد الرجال والنساء جميعًا؛ لأن هذا الفعل يتعلق بالقُبُلَيْنِ (¬1). "ويخيل": من خلت الشيء أخاله، إذا ظننته وتوهمته، وخُيِّلَ إليَّ كذا: أي وقع في خيالي وظني وألقي في نفسي. "والشيء": اسم عام يتناول كل موجود عند من يقول: إن المعدوم ليس بشيء، وهم أهل الحق من السنة والجماعة. وذهبت المعتزلة ومن قال قولهم: إلى أن المعدوم شيء. فهو على قولهم يتناول المعدوم والموجود. والمراد به في الحديث: الكناية عن الريح الخارجة من الدبر. "والانفتال": الانصراف عن الشيء إلى خلاف الجهة المطلوبة، والغرض به في الحديث أيضًا الصلاة؛ والخروج منها الرجوع إلى الحالة التي كان عليها قبل الصلاة. وهو من فتلت الحبل إذا لويته. وقوله: "حتى يسمع صوتًا" يريد به الضرطة، ويريد بالريح الفساء، والريح تقع على الرائحة. وأراد بقوله: "أو يجد ريحًا" أن يشمها، وهو من وجدت الشيء أجده إذا أصبته. وهذا التعليق بسماع الصوت، وشم الرائحة معناه: حتى يتيقن الحدث، فإنه قد يكون أصم فلا يسمع وأبكم فلا يشم. وإنما ذكر السماع والشم، لأنهما من توابع هذا الحديث، فإنه لا يخلو عن ¬

_ (¬1) القُبل: بضمتين خلاف الدبر وهو الفرج من الذكر والأنثى. اللسان مادة: قبل.

أحدهما، وهما في باب الخطاب أكشف، وعند السامعين أبين وأظهر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الخارج من السبيلين نادرًا كان أو معتادًا، كالغائط، والبول، والريح، والمذي، والودي، وكالدود، والحصى، والدم، وغير ذلك هذا جميعه ينقض الوضوء عنده. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال مالك: لا ينتقض الوضوء بالنادر، ولا بالمذي إذا دام سيلانه كدم الاستحاضة. وقال داود: لا يجب بالدم، والدود. أما الخارج من غير السبيلين: فذهب جماعة إلى أنه لا يوجب الوضوء به. قاله ابن عمر، وابن عباس، وابن أبي أوفي، وأبو هريرة، وجابر، وعائشة. وإليه ذهب من التابعين: عطاء، وطاوس، والحسن البصري، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللَّه، وابن المسيب. وبه قال: مالك، والشافعي. وذهب اخرون: إلى إيجاب الوضوء بالقىء والرعاف والحجامة والفصد. وبه قال سفيان الثوري، وابن المبارك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق. إلا أن أبا حنيفة قال: إذا خرج النجس من غير السبيلين فسأل أوجب الوضوء، وإن لم يسل فلا يوجب. وقال في القىء: إذا مُلئ الفم أوجب الوضوء. وقال أحمد: إن كان الدم قطرة أو قطرتين لم يوجب وقد استدل الشافعي بهذا الحديث: على أن اليقين لا يزول بالشك، لأنه قال: لا ينفتل حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا.

الفرع الثالث: في المذي

الفرع الثالث في المذي أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبد اللَّه، عن سليمان بن يسار، عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل إذا دنى من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه؟ قال علي: فإن عندي بنت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأنا أستحيي أن أسأله، قال المقداد: فسألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؟ فقال: "إذا وجد أحدكم ذلك فلينضح فرجه، وليتوضأ وضوءه للصلاة". هكذا أخرجه الربيع في المسند، وقال الشافعي في سنن حرملة: حديث سليمان بن يسار، عن المقداد، مرسل لا يعلم سمع منه شيئا (¬1)، لكن الحديث في نفسه حديث صحيح، متفق عليه أخرجه الجماعة. وفي الباب عن عمر بن الخطاب، وسهل بن حنيف، وابن عمر، وعبد اللَّه ابن سعد الأنصاري، وأبي بن كعب. فأما مالك (¬2): فأخرجه إسنادًا ولفظًا وزاد: "فلينضح فرجه بالماء". وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن أبي الوليد، عن زائدة، عن أبي حصين، عن ¬

_ (¬1) قال العلائي في جامع التحصيل (190). سمع من جماعة من الصحابة منهم -المقداد بن الأسود. وفي الحاشية قال محققه: بهامش الظاهرية: لا يمكن سماعه من المقداد لأن الجمهور على أنه مات سنة سبع ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين فيكون مولده سنة أربع وثلاثين مع أن المقداد مات سنة ثلاث وثلاثين بلا خلاف نعلمه وبهذا صرح القاضي عياض في الإكمال فقال: وسليمان بن يسار لم يسمع من على ولا من المقداد. (¬2) الموطأ (1/ 6362 رقم 53) وزاد فقط ذكر (الماء). (¬3) البخاري (269).

أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: "كنت رجلًا مَذَّاءً فأمرت رجلًا أن يسأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته، فسأل فقال: "توضأ واغسل ذَكَرَك". وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع وأبي معاوية، وهشيم، عن الأعمش، عن منذر بن يعلى ويكنى: أبا يعلى، عن محمد ابن الحنفية، عن علي وذكر مثل البخاري، إلا أنه قال: فأمرت المقداد بن الأسود فسأله. وله روايات أخرى كلها نحو من هذا (¬2). وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن قتيبة بن سعيد، عن عبيدة بن حميد الحذاء، عن الركين بن الربيع، عن حصين بن قبيصة، عن علي قال: "كنت رجلًا مذّاء، فجعلت أغتسل حتى تشقق ظهري، قال: فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذكر له فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "لا تفعل؛ إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك وتوضأ وضوءك للصلاة؛ فإذا نضحت الماء [فاغتسل] (¬4). وفي أخرى: عن القعنبي، عن مالك بإسناده ولفظه. قال أبو داود: رواه الثوري وجماعة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن المقداد، عن علي. ورواه الثوري؛ والمفضل بن فضالة؛ وابن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن علي. ¬

_ (¬1) مسلم [303]. (¬2) وقد أخرجه من طريق سليمان بن يسار، عن ابن عباس عن علي به. وهذه الرواية تؤكد الانقطاع بين سليمان والمقداد. (¬3) أبو داود (206 - 207). (¬4) ما بين المعقوفتين بالأصل [واغتسل] وهو تصحيف وما أثبتناه هو مقتضى السياق وكذا جاء على الجادة عند أبي داود.

ورواه ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن المقداد (¬1). وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن محمد بن عمرو السَوَّاق، عن البلخي، عن هشيم، عن يزيد بن أبي زياد. ورواه عن محمود بن غيلان، عن حسين الجعفي، عن زائدة، عن يزيد بن أبي زياد؛ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي؟ فقال: "من المذي الوضوء ومن المني الغسل". وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن هناد بن السري، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي عبد الرحمن، عن علي. وفي أخرى: عن عتبة بن عبد اللَّه المروزي، عن مالك بن أنس، بإسناده ولفظه. ولهم روايات كثيرة لهذا الحديث، وهذه الروايات -وإن كثرت واختلفت- فبعضها عن علي، وبعضها عن المقداد، وبعضها لم يسم المقداد، فإن مدار المسند منها وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على المقداد، أو الرجل الذي أمره يسأله، وهو وإن لم يُسَمِّه في بعض الطرق فإنما يريد به المقداد. إلا ما جاء في رواية الترمذي: فإنه جعل عليًّا هو الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. المراد من قوله "إذا دنا من أهله" إذا قرب من زوجته والزوجة من الأهل. "والدنو منها" ملامستها ومباشرتها. "والمَذْي": بفتح الميم وسكون الذال المعجمة، ما يخرج من ذَكَرِ الإنسان عند الملاعبة والتقبيل ونحو ذلك، تقول فيه: مَذَى يمذى، وأمذيَ يمذي. ¬

_ (¬1) أبو داود (208 - 209) وقد تصرف المصنف في النقل فانظر الأصل. (¬2) الترمذي (114) وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (1/ 96 - 97).

قال الأموي: المنيِّ، والمذيّ، والوديّ، مشددات والأكثر الأول. "وماذا": لها معنيان باختلاف تقديرين:- أحدهما: أن يكون "ما" و "ذا" جميعًا بمنزلة كلمة مفردة، وموضعها نصب بالفعل الذي يتعلق به. والاخر: أن يكون "ما" التي للاستفهام و"ذا" بتقدير الذي وما بعده صلة، والعائد ضروري محذوف؛ ويجاب على حساب الموضع في القول القولى، يقال: ماذا صنعت؟ فيقول: خيرًا، ويجوز خير، ومعنى السؤال ما الذي يجب عليه بخروج المذي منه؟ "والحياء": تغير وانكسار يعرض للإنسان من خوف ما يعاب به أو يذم عليه. واشتقاقه من الحياة، فكأنه جعل الحياء لما يعتريه من الانكسار والتغير، متنكس القوة منتفش (¬1) الحياة. والحياء خصلة محمودة ممدوح عليها صاحبها, ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الحياء من الإيمان" والحياء خير كله، ولا يأتي الحياء إلا بخير" (¬2). تقول استحييت منه، واستحييته بمعنىً، ويقال: استحيت بياء واحدة -أسقطو الياء الواحدة الأولى وألقوا حركتها على الحاء، وقيل: إنها لغة تميم والأولى لغة الحجاز، وهو الأصل. "والنضح": بالحاء المهملة -الرش، نضحت البيت أنضِحه بالكسر، والنضخ -بالخاء المعجمة- أكثر من النضح، وقيل: هما سواء، تقول منه: نضحت أنضح -بالفتح. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل. (¬2) وهذه الروايات لم تأت في سياق واحد وإنما جاءت من طرق وألفاظ منفردة. وأخرج الأول البخاري (24)، ومسلم (36)، واللفظ الثاني والثالث عند مسلم (37) بنحوه.

والمراد بالنضح في هذا الحديث: الغسل بالماء فإنه هو الواجب. "والفرج": العورة، ويطلق كثيرًا على الدبر والقُبُل من الذكر والأنثى، وهو من الانفراج والفرجة بين الشيئين. "ومذّاء": من أبنيةِ المبالغة، يقال لمن يكثر منه المذي كما يقال لمن يكثر منه الأكل والضرب أكَّال وضَرَّاب. وفي إحدى روايات البخاري وغيره "توضأ واغتسل". "وذَكَرَك": دليل على أن الاستنجاء، يجوز أن يقع بعد الوضوء وأن الوضوء لا يفسد بتأخير الاستنجاء عنه، لا سيما عند من لا يرى نقض الوضوء بلمس الفرج. وأما من نقضه به، فإذا استنجى ولم يلمس فرجه بعد الوضوء؛ لم ينتقض وضوؤه. "والذَّكَر" العضو المعروف، وجُمِعَ على "مذاكير" على غير قياس، كأنهم فرقوا بالجمع بين الذكر العضو، وبين الذكر ضد الأنثى. قال الأخفش: المذاكير من الجمع الذي لا واحد له. "والنضخ" بالخاء المعجمة الدفق، نضخت الماء إذا دفقته. وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث، "فليغسل ذَكَرَه وأنثييه" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 124، 126)، وأبو داود (208، 209)، والنسائي (1/ 96)، وفي الكبرى (146) جميعًا عن عروة، عن علي به. وعند النسائي بلفظ (يغسل مذاكيره) قال أبو داود: رواه المفضل بن فضالة، وجماعة، والثوري، وابن عيينة، عن، هشام عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، ورواه ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن المقداد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر "أنثييه". قلت: وإسناده مُعَلٌّ بالإرسال. =

وغسل الأنثيين هو من باب الاستظهار والاحتياط في أمر الدين، وأنه ربما يكون قد نال: الأنثيين بعض المذي، فلذلك أمره بغسلهما، وقد قيل: من باب الطب أن الماء البارد إذا نال الأنثيين رد المذي وكسر غربه. وفي هذا الحديث من الفقه: أن المذي نجس لأنه أمره بغسله، والذي ذهب [إليه] (¬1) الشافعي: أن المذي لا يجب منه الوضوء. وبه قال الأئمة من الصحابة، والتابعين والمجتهدين ومن بعدهم، وحكمه حكم البول من غير فرق. وذهب مالك: إلى أن المذي إذا دام بصاحبه فإنه لا يوجب الوضوء كدم الاستحاضة. وقد أخرج الشافعي في كتاب القديم: عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال: "إني لأجده ينحدر مني مثل الخريزة، فإذا وجد ذلك أحدكم فليتوضأ". ¬

_ = قال الحافظ في التلخيص (1/ 117): عروة لم يسمع من علي، لكن رواه أبو عوانة في "صحيحه" من حديث عبيدة، عن علي بالزيادة وإسناده لا مطعن فيه، وروى أبو داود من حديث حزام بن حكيم، عن عمه عبد اللَّه بن سعد قال: سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الماء يكون بعد الماء قال: "ذلك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة"، وفي إسناده ضعف وقد حسنه الترمذي. وقال المنذري في تهذيب السنن (1/ 148) على حديث عروة: أخرجه النسائي ولم يذكر "أنثييه" وقال أبو حاتم الرازي: عروة بن الزبير، عن علي مرسل. قال ابن القيم في الحاشية: وقد رواه أبو عوانة -ثم ساقه- وقال: وهذا متصل. وقال على حديث حزام بن حكيم الذي أشار إليه الحافظ: قال أبو محمد بن حزم: نظرنا في حديث حزام بن حكيم عن عمه فوجدناه لا يصح. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وأثبتناه ليستقيم السياق.

قوله: "مثل الخريزة" (¬1): يريد أنه يخرج مجتمعًا متكرر الأجزاء ثخينًا حتى كأنه خريزة -واللَّه أعلم. وقد أخرجه الموطأ (¬2) كذلك. ... ¬

_ (¬1) الخرز: فصوص من حجارة، واحدتها خرزة. اللسان مادة خرز. (¬2) الموطأ (1/ 63 رقم 54).

الفرع الرابع: في لمس المرأة

الفرع الرابع في لمس المرأة أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه قال: "قبلة الرجل امرأته وجسّها من الملامسة، فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء". في نسخة "وجسها" بواو العطف لا بـ "أو". هذا حديث صحيح (¬1)، وقد أخرجه مالك في الموطأ (¬2) بالإسناد المذكور، وقال: إن ابن عمر كان يقول: وذكر الحديث بـ "أو". وفي الباب عن عبد اللَّه بن مسعود. "القُبْلَة": معروفة ويجمع على قُبَل؛ مثل ظُلْمَة وظُلَم. "والتقبيل": مصدر قبلته إذا بُسْتُهُ، إلا أن البَوْسَ فارسي معرب. "والجَسُّ": اللمس، تقول: جسه بيده يجسه جسًّا، إذا لمسه. والملامسة مفاعلة من اللمس، وهو أخو المس تقول: لمست الثوب ألمُسه -بالضم- وألمِسه -بالكسر- ولامسته ملامسةً. وقد يكنى باللمس عن الجماع، كما كنى بالمس عنه لاجتماعهما في المعنى، ولأن الجماع لمس وزيادة. وسيردُ الخِلاف في الحكم المترتب على التسمية عند الأئمة. وقوله: "من الملامسة": خبر المبتدأ الذي هو قبلة الرجل، وإنما قال: "من ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر: وهو ثابت عن ابن عمر من وجوه، من حديث سالم، ونافع عنه. "الاستذكار" (3/ 45). (¬2) الموطأ (1/ 65 رقم 64).

الملامسة" فأدخل لفظةِ "منْ" لأمور ثلاثه:- الأول: أن الملامسة فعل عام، وهو التقاء البشرتين من غير حاجز بأي، عضوٍ كان من البدن وبجميع البدن، فالقبلة نوع منها، لأنها مباشرة مخصوصة ببعض الأعضاء. والثاني: أن اللمس والمس في أصل الوضع هو: الجَسُّ باليد، فلولا هذا التبيين لظن أن القبلة غير داخلة في حكم اللمس باليد؛ فقال: هي من الملامسة، أي حكمها وهي نازلة منزلتها. والثالث: أن اللمس عند قوم: إنما أريد به الجماع دون المس باليد، فأخبر أن قبلة الرجل امرأته من جملة الجماع، لأنها من مقدماته ودواعيه، وهذا جائز في الاستعمال. ولما جمع بين الجماع وبعضه؛ أعطاها بعض الحكم المترتب على الجماع وهو الوضوء؛ لأنه غسل بعض الأعضاء، كما أن الواجب في الجماع غسل جميع الأعضاء، ألا ترى أنه قال: فمن قبل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء، فجعل القبلة والجس باليد في حكم واحد، وأنهما أمران مستويان في الحالة والحكم. وقوله: "من الملامسة": كلام فيه إيجاز واختصار واستدلال وذلك أتى بلفظتين اكْتُفِيَ بهما عن ألفاظ كثيرة، لأنه في هذا المقام يريد أن يعرف الحكم في شأن القبلة؛ وما يتعلق بها من الوضوء أو تركه، فقال: من الملامسة، لعلمه بما قد ثبت في الشرع من حكم الملامسة؛ وأنهما موجبة للوضوء. وهذا هو وجه الاستدلال؛ لأنه استدل بالملامسة على إلحاق القبلة بها. والمراد بالملامسة قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1) فأوجب في ملامسة النساء الوضوء، فألحق القبلة بها وبَيَّن أنها منها ليرتب عليها حكم الملامسة، ¬

_ (¬1) المائدة: [6].

وذلك ذهاب منه إلى أن المراد من الموجبة للوضوء؛ التقاء البشرتين مطلقًا. ولا خفاء بما في هذا اللفظ من الإيجاز والاختصار والاستدلال؛ وهكذا كانت ألفاظهم رضي اللَّه عنهم لإشراق أنوار النبوة عليهم. وقوله: "فعليه الوضوء": أبلغ من قوله: فليتوضأ لأمرين:- أحدهما:- أن "عليه" حرف جر يستدعى فعلًا قاصرًا؛ هي به من أجله لتوصله إلى المفعول؛ وهو حينئذ الوجوب. التقدير: فيجب عليه؛ فهو في هذا الجواب متعرض لذكر الواجب، بخلاف غيره. والثاني:- أن قوله "فعليه" فيه إيذان بوجوب هذا الأمر من جهة العلو والقدرة. والذي جاء في الرواية الثانية "وجسها" بواو العطف، وفي الأولي بـ "أو" فإنها مع الواو تفيد اشتراط القبلة والجس، في كونهما من الملامسة. وأما مع "أو" فإنه يفيد أن كل واحد منهما من الملامسة والجس، وهو أبين وأوضح، لأنه يشير بذلك إلى أن كل واحد منهما على الانفراد؛ له حكم الملامسة وهو وجوب الوضوء. ومع "الواو" وإن حصلت هذه الفائدة؛ إلا أنها مشوبة بتوهم يعرض من الجمعية؛ أن اجتماع القبلة والجس باليد هو الذي يوجب ما توجبه الملامسة، وهذا وهم بعيد وإن كان اللفظ يقتضيه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن لمس النساء يوجب الوضوء، بشهوة وبغير شهوة بأي موضع كان من البشرة، وبه قال عمر، وابن مسعود، وابن عمر، والزهري، وربيعة، وزيد بن أسلم، ومكحول، والأوزاعي. وقال أبو حنيفة، وأصحابه: لا تنتقض الطهارة باللمس، وروي ذلك عن ابن عباس، وهو مذهب عطاء، وطاوس، والحسن والثوري.

إلا أن أبا حنيفة، وأبا يوسف قالا: إذا وطئها دون الفرج وانتشر عليه العضو انتقض الوضوء. وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: إن لمسها بشهوة انتقض، وإن كان بغير شهوة فلا. حكى ذلك عن النخعي، والشعبي، والحكم، وحماد، وفيه وجه لأصحاب الشافعي. وقال داود: إن قصد لمسها انتقض، وإن لم يقصد فلا. وقال ابنه: لا ينتقض بحال، وروى مثل ذلك عن الثوري. وأما ذات المحرم: كالأم، والأخت، والبنت ففيها قولان، وأما العجائز ففيهن وجهان، بناء على القولين في المحارم، كذا قال أبو إسحاق، وابن الصباغ. والذي جاء في كتاب الغزالي قال: المحرم والصغيرة فيهما قولان: أصحهما: أنه لا ينتقض لذهاب الشهوة. والعجوزة الهرمة: ينتقض بلمسها الوضوء. واللامس ينتقض وضوؤه قولًا واحدًا. وفي الملموس قولان. ومستند الخلاف بين من نقض باللمس، ومن لم ينقض به أن من نقض جعل الملامسة التي في الاية عبارة عن الجس؛ ومن لم ينقض به جعل الملامسة عبارة عن الجماع خاصة، وهو بعيد فإن اللغة لا تساعده على ذلك. وقد استدل من لم ينقض به بحديث عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَ بعض

نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ" (¬1). وهذا حديث متروك لا يصح عند أهل المعرفة بالحديث؛ لموضع إسناده، وقد ضعفه يحيى بن سعيد القطان وقال: هو شبه لا شيء. وكان محمد بن إسماعيل البخاري يضعفه ويقول: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 210)، وأبو داود (179)، والترمذي (86)، وابن ماجه (502) وغيرهم. كلهم من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن عروة عنها به. قال أبو داود: قال يحيى بن سعيد القطان لرجل: احك عني أن هذين -يعني حديث الأعمش هذا عن حبيب، وحديثه بهذا الإسناد في المستحاضة أنها تتوضأ لكل صلاة- قال يحيى: احك عني أنهما شبه لا شيء، قال أبو داود: وروي عن الثوري قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني -يعني: لم يحدثهم عن عروة عن الزبير بشيء. وقال الترمذي: إنما ترك أصحابنا حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا لأنه لا يصح عندهم لحال الإسناد. وسمعت أبا بكر العطار البصري يذكر عن علي بن المديني قال: ضعَّف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث جدًّا، وقال: هو شبه لا شيء. وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث، وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة. قلت: وقد دافع ابن عبد البر عن هذا الحديث ومال إلى تقويته، قال في الاستذكار (3/ 51 - 52): وهذا الحديث معلول عندهم، فمنهم من قال: لم يسمع حبيب من عروة، ومنهم من قال: ليس هو عروة بن الزبير، وضعفوا هذا الحديث ودفعوه. وصححه الكوفيون وثبتوه لرواية الثقات أئمة الحديث له، وحبيب بن أبي ثابت لا ينكر لقاؤه عروة، لروايته عمَّن هو أكبر من عروة وأجل وأقدم موتًا وهو إمام من أئمة العلماء الجلَّة. وأفاض الزيلعي في نصب الراية (1/ 71 - 72) وكذلك الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1/ 134 - 138) في رد هذه العلل. لكن من ضعفه أقعد في هذا الفن وكلامه أدق فهم أصحاب الشأن في هذا الباب وعليهم المعول في التصحيح والتضعيف. قال الحافظ في التلخيص (1/ 133): معلول وذكر علته أبو داود والترمذي، والدارقطني، والبيهقي، وابن حزم، وقال: لا يصح في هذا الباب شيء، وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الأمر قبل نزول الوضوء من اللمس.

وقال الترمذي: وليس يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء وضعفه أبو داود (¬1) وقال: هو منقطع، لأن إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة، وعروة الذي روى عن عائشة ليس بعروة بن الزبير؛ إنما هو عروة المزني. وقد روى أبو حنيفة أيضًا: عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن حفصة (¬2). وروي عن: إبراهيم، وعائشة. وإبراهيم لم يسمع من عائشة ولا من حفصة ولا أدرك زمانهما، قاله الدارقطني وغيره. وقد أخرج الشافعي في كتاب "القديم" عن مالك أنه بلغه أن ابن مسعود كان ¬

_ (¬1) وهذه طريق أخرى أخرجها أبو داود (178)، وأحمد (6/ 210)، والنسائي (1/ 104) وغيرهم. من طريق أبي روق، عن إبراهيم التيمي عنه بنحو الأول. قال أبو داود: وهو مرسل، إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة. وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلًا، وقد روى هذا الحديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة. قال يحيى القطان: حديث حبيب، عن عروة، عن عائشة هذا، وحديث حبيب عن عروة عن عائشة: "تصلي وإن قطر الدم على الحصير"؛ لا شيء وقال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 53). وهو مرسل لا خلاف فيه، لأنه لم يسمع إبراهيم التيمي، عن عائشة، ولم يروه أيضًا غير أبي روق، وليس فيما انفرد به حجة. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 141)، والبيهقي في الخلافيات (444). قال البيهقي في سننه (1/ 127): ورواه أبو حنيفة، عن أبي روق، عن إبراهيم، عن حفصة، وإبراهيم لم يسمع من عائشة، ولا من حفصة قاله الدارقطني وغيره. والحديث الصحيح عن عائشة في قبلة الصائم فحمله الضعفاء من الرواة على ترك الوضوء منها, ولو صح إسناده لقلنا به إن شاء اللَّه. وقال في الخلافيات (2/ 174): أسنده الثوري عن عائشة، وأسنده أبو حنيفة عن حفصة وكلاهما أرسله، وإبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة ولا من حفصة ولا أدرك زمانهما.

يقول: من قبلة الرجل امرأته: الوضوء. وأخرج أيضًا في كتاب علي وعبد اللَّه بلاغًا، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال: القبلة من اللمس وفيها الوضوء. قال الشافعي: فخالفنا بعض الناس فقال: ليس في القبلة الوضوء، واحتج فيها بحديث ليس بمحفوظ، واللَّه أعلم. قال: ولو ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة، لم أر فيها شيئًا ولا في اللمس؛ فإن معبد بن نباتة، يروي عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل ولا يتوضأ (¬1). ولكني لا أدرى كيف معبد بن نباته هذا؛ فإن كان ثقة فالحجة فيما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكني أخاف أن يكون غلط من قبل أن عروة إنما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبلها صائمًا. قال البيهقي: معبد بن نباته هذا مجهول، ومحمد بن عمرو بن عطاء لم يثبت له عن عائشة شيء، واللَه أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه: عبد الرزاق في مصنفه (510). وقال ابن عبد البر في الاستذكار (1/ 54): هو -أي: معبد بن نباتة- مجهول لا حجة فيما رواه عندنا، وإبراهيم بن أبي يحيى عند أهل الحديث ضعيف متروك الحديث. وقال الحافظ في التلخيص بعد ذكره كلام الشافعي (1/ 122): روي من عشرة أوجه عن عائشة، أوردها البيهقي في الخلافيات وضعفها. قلت: وراجع الخلافيات للبيهقي المسألة رقم (19) لتقف على كل هذه الطرق وزيادة مع الكلام عليها بما لا تراه عند غيره.

الفرع الخامس: في لمس الذكر والفرج

الفرع الخامس في لمس الذكر والفرج أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، أنه سمع عروة بن الزبير يقول: دخلت على مروان بن الحكم وتذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ الوضوءُ، فقال عروة: ما علمت ذلك، فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا مس أحدُكُم ذَكَره فليتوضأ". هذا حديث صحيح (¬1)، أخرجه مالك في الموطأ (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). ¬

_ (¬1) قال الحافظ في التلخيص (1/ 122): وصححه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه أصح شيء في الباب وقال أبو داود، وقلت لأحمد: حديث بسرة ليس بصحيح؟ قال: بل هو صحيح، وقال الدارقطني، صحيح ثابت، وصححه أيضًا يحيى بن معين، فيما حكاه ابن عبد البر وأبو حامد بن الشرقي والبيهقي والحازمي، وقال البيهقي: هذا الحديث -وإن لم يخرجه الشيخان لاختلاف وقع في سماع عروة منها أو من مروان- فقد احتجا بجميع رواته؛ واحتج البخاري بمروان بن الحكم في عدة أحاديث فهو على شرط البخاري بكل حال؛ وقال الإسماعيلي في "صحيحه"؛ في أواخر تفسير سورة آل عمران: إنه يلزم البخاري إخراجه؛ فقد أخرج نظيره؛ وغاية ما يعلل به هذا الحديث أنه من رواية عروة عن مروان؛ عن بسرة، وأن رواية من رواه عن عروة عن بسرة منقطعة، فإن مروان حدث به عروة، فاستراب عروة بذلك، فأرسل مروان رجلًا من حرسه إلى بسرة، فعاد إليه بأنها ذكرت ذلك، فرواية من رواه عن عروة عن بسرة منقطعة، والواسطة بينه وبينها، إما مروان وهو مطعون في عدالته، أو حرسه وهو مجهول، وقد جزم ابن خزيمة وغير واحد من الأئمة، بأن عروة سمعه من بسرة، وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان، قال عروة: فذهبت إلى بسرة فسألتها، فصدقته، واستدل على ذلك برواية جماعة من الأئمة له، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن مروان، عن بسرة، قال عروة: ثم لقيت بسرة فصدقته، وبمعنى هذا أجاب الدارقطني وابن حبان أهـ. (¬2) الموطأ (1/ 63 - 64 رقم 58) (¬3) أبو داود (181). (¬4) الترمذي (82) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (1/ 100 - 101).

وفي الباب عن: سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي أيوب، وجابر، وزيد بن خالد، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأم حبيبة، وعائشة، وأروى بنت أنيس. قال البخاري: أصح شيء في هذا الباب حديث بسرة. فأما مالك: فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما أبو داود: فأخرجه عن عبد اللَّه بن مسلمة، عن مالك، بالإسناد واللفظ، وقال فيه: من مس ذكره فليتوضأ. وأما الترمذي: فأخرجه عن إسحاق بن منصور، عن يحيى بن سعيد القطان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن بسرة بنت صفوان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مَسَّ ذَكَرَه فلا يصلي حتى يتوضأ". قال: وروى من غير وجه عن عروة، عن بسرة، وعن عروة، عن مروان، عن بسرة. وأما النسائي: فأخرجه عن هارون بن عبد اللَّه، [عن] (¬1) معن، وعن الحارث ابن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك بالإسناد المذكور واللفظ. وفي رواية: عن أحمد بن محمد بن المغيرة، عن عمار بن سعيد، عن شعيب، عن الزهري قال: أخبرنا عبد اللَّه (¬2) بن أبي بكر بن حزم؛ أنه سمع عروة بن الزبير يقول: ذكر مروان في إمارته على المدينة أنه يُتَوَضَّأُ من مس الذكر؛ إذا أفضى إليه الرجل بيده؛ فأنكرتُ ذلك فقلت: لا وضوء على من مسه، فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول اللَّه: ذكر ما يُتوضأ منه فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "ويتوضأ من مس الذكر". قال عروة: [فلم أزل] (¬3) أُمارِي مروان حتى دعا رجلًا من حرسه فأرسله إلى ¬

_ (¬1) بالأصل [بن] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب، وكذا جاء عند النسائي. (¬2) زاد في الأصل بعد [بن]: "الحكم" وهي مقمحة والتصويب من رواية النسائي. (¬3) بالأصل [فلما زال] وهو تصحيف، ولا يتفق مع السياق وفي السنن جاء كما هو مثبت أعلاه.

بسرة فسألها عما حدثت مروان؛ فأرسلت إليه بسرة مثل الذي حدثني عنها مروان. "المذاكرة": مفاعلة من ذكرت الشيء أذكره إذا تلفظتُ به؛ وإذا خطر ببالك بعد النسيان. والمراد به في هذا الحديث الأول: هو الخوض في ذكر ما ينقض الوضوء؛ وهو قوله: "مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ"، خبر المبتدأ الذي هو الوضوء؛ وهو مقدم عليه في الذكر والنية به التأخير؛ وإنما قدَّم الخبر هاهنا لأن تقديمه أولى، وذلك أن عنايته بِذِكْرِ الناقض لا بِذِكْرِ الوضوء. "والإخبار" والإنباء والإعلام بمعنى. ولأهل الحديث خلاف في أخبرنا، وحدثنا، وأنبأنا. فذهب الأكثرون: إلى أنه لا فرق بين أخبرنا، وحدثنا؛ وهو الصحيح. وذهب آخرون: إلى أن حدثنا: هو ما سمعته من لفظ الشيخ، وأخبرنا: هو ما قرأته عليه. وأما أنبأنا: فله عندهم وضع واصطلاح: وهو عبارة عن الإجازة. "والإفضاء": المباشرة، وأفضى بيده إلى كذا إذا مدها إليه ولمسها به. "والمماراة": المجادلة والمخاصمة. "والحرس": جمع حارس؛ وهم الجماعة المرتبون لحفظ الأمير وحراسته من أعوانه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن مَنْ مَسَّ ذَكَرَه أو حَلْقَة دُبُرِهِ؛ أو مسهما من غيره، أو مس فرج امرأة، أو مست فرجها، كل ذلك من صغير أو كبير بباطن كفه انتقض وضوؤه.

وقال في القديم: إذا مس حلقة دبره لا ينتقض وضوؤه. وبه قال من الصحابة: عمر، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة، وأبو هريرة، وابن عباس. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والزهري، وأبو العالية، ومجاهد. وبه قال: مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والمزني. وذهبت طائفة أخرى: إلى أنه لا وضوء عليه. وروي ذلك: عن علي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وابن مسعود، وابن عباس، وعن حذيفة، وعمران بن حصين، وأبي الدرداء، وعن سعد بن أبي وقاص. وبه قال: الحسن البصري، وقتادة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه. وروي: عن الزهري، والأوزاعي، ومالك: أن مس ذكر الصغير لا ينقض. وقد احتج من لم ير الوضوء منه [بحديث] (¬1) قيس بن طلق، عن أبيه أنه لا وضوء عليه. قال الشافعي: قد سألنا عن قيس فلم نجد من يعرفه بما يكون لنا قبول خبره، وقد عارضه من وصفنا ثقته ورجاحته وثبت. قال ابن معين: لقد أكثر الناس في قيس بن [طلق] (¬2)؛ وأنه لا يصح بحديثه (¬3). ¬

_ (¬1) بالأصل [للحديث] والمثبت هو الموافق للسياق. (¬2) في الأصل [قيس] وهو تحريف وقد تقدم على الصواب. (¬3) كذا جاء بالأصل، ونقل الحافظ في التهذيب (6464) عن ابن معين قوله ولفظه: (.... وأنه لا يحتج بحديثه) ولابن معين رواية أخرى وَثَّقَه فيها. قال عثمان الدارمي: سألت ابن معين قلت: عبد اللَّه بن النعمان عن قيس؟ قال: شيوخ يمامية ثقات وكذا وَثَّقه العجلي. وقال الذهبي في الميزان (6916): ضعفه أحمد، ويحيى في إحدى الروايتين عنه. وقال ابن القطان: يقتضي أن يكون خبره حسنًا لا صحيحًا.

وقال أبو حاتم؛ وأبو زرعة: قيس بن طلق ليس ممن تقوم به حجة، وَوَهَّناهُ ولم يُثْبِتَاه. وحديث قيس -كما لم يخرجه البخاري، ومسلم في كتابيهما- لم يَحْتَجَّا بشيء من رواياته ولا روايات أكثر حديثه؛ في غير هذا الحديث. وحديث بسرة: وإن لم يخرجاه في كتابيهما لاختلافٍ في سماع عروة منها؛ فقد احتجا بسائر رواة حديثهما. وإذا ثبت سؤال عروة بسرة عن هذا الحديث، وكان الحديث صحيحًا على شرط البخاري ومسلم، ويكفي في ترجيح حديثهما من طريق الإسناد. واحتج البخاري ومسلم بأحاديثها دون أحاديث قيس بن طلق. وأما ما احتجوا به من أقاويل الصحابة فقد قال الشافعي: قول من لم يوجب منه إنما قاله بالرأي، والذي أوجب الوضوء منه أوجبه بالحديث الثابت عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ وما وجب بالحديث لم يكن في قول أحد خالفه حجة على قوله -واللَّه أعلم. وقال الشافعي: وخالفنا بعض الناس في هذا القول؛ وعاب علينا الرواية عن بسرة، والذي يعيب علينا الرواية عن بسرة؛ يروي عن عائشة بنت عجرد، وأم خداش، وعدة من النساء غير معروفات في العامة، ويحتج بروايتهن ويضعف بسرة مع سابقتها وقديم هجرتها وصحبتها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد حَدَّثت بهذا في دار المهاجرين والأنصار وهم متوافرون؛ فلم يدفعه منهم أحد بل عَلِمْنا بعضَهم صار إليه عن روايتها منهم: عروة بن الزبير، وقد دفع وأنكر الوضوء من مس الذكر قبل أن يسمع الخبر، فلما علم أن بسرة روته قال به، وترك قوله، وسمعها ابن عمر تُحَدِّث به فلم يزل يتوضأ من مس الذكر حتى مات، وهذه طريق أهل الفقه والعلم.

أخبرنا الشافعي، أخبرنا سليمان بن عمرو ومحمد بن عبد اللَّه، عن [يزيد] (¬1) بن عبد الملك الهاشمي، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، وليس بينه وبينها شيء فليتوضأ". هكذا رواه الشافعي في كتاب الطهارة في المسند. ورواه في سنن حرملة: عن عبد اللَّه بن نافع، عن يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبي موسى الخياط، عن سعيد بن أبي سعيد. وقال الشافعي: روى حديث يزيد بن عبد الملك عدد منهم: سليمان بن عمرة، ومحمد بن عبد اللَّه بن دينار، عن يزيد بن عبد الملك، عن سعيد المقبري (¬2). والإفضاء ذكرناه في الحديث الذي قبله، وقد جاء في كتب اللغة: أنه لمس الشيء بباطن كفه، وهذا مما يعضد ما ذهب إليه الشافعي من تحديد اللمس بباطن الكف دون ظاهرها. ¬

_ (¬1) بالأصل [زيد] وهو تصحيف، وقد ذكره المصنف بعد ذلك -كما يأتي- على الصواب. (¬2) ويزيد بن عبد الملك ضعيف الرواية، لكنه لم ينفرد به، فقد تابعه نافع بن أبي نعيم القارئ. أخرج المتابعة ابن حبان في صحيحه (8/ 11). وقال: احتجاجنا في هذا الخبر بنافع بن أبي نعيم دون يزيد بن عبد الملك النوفلي، لأن يزيد بن عبد الملك تبرأنا من عهدته في كتاب الضعفاء. وقد جود هذا الإسناد الشيخ ناصر -رحمه اللَّه- في الصحيحة (3/ 238) وقال الحافظ في التلخيص (1/ 126): وقال ابن حبان في كتاب الصلاة له: هذا حديث صحيح سنده، عدولٌ نَقَلَتُهُ، وصححه الحاكم من هذا الوجه، وابن عبد البر. وقال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب. وأما يزيد بن عبد الملك فضعيف. وقال ابن عبد البر: كان هذا الحديث لا يعرف إلا من رواية يزيد حتى رواه أصبغ عن ابن القاسم، عن نافع بن أبي نعيم ويزيد جميعًا عن المقبري، فَصَحَّ الحديث اهـ بتصرف وانظر نصب الراية (1/ 56).

وقوله: "ليس بينه وبينها حائل": يعني تحول بين الكف وبين الذكر كائنًا ما كان، كثيفه ورقيقه، وخفيفه وصفيقه؛ فإن ذلك كله حائل. "والحائل": الشيء الذي يحجب بين الشيئين ويمنع الملامسة بينهما. فأخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد اللَّه بن نافع، وابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن عقبة بن عبد الرحمن [عن] (¬1) ابن ثوبان قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ" وزاد ابن نافع فقال: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وقال الشافعي: سمعت [غير] (¬2) واحد من الحفاظ يرويه؛ لا يذكرون فيه جابرًا. وهذا الحديث: قد رواه دحيم الدمشقي، عن عبد اللَّه بن نافع كذلك موصولًا، وهو مما يعضد ما ذهب إليه الشافعي: من إيجاب الوضوء من مس الذكر. وقوله: سمعت غير واحد: أي أكثر من واحد، فهو يتناول الاثنين فصاعدًا، وإنما يذكر ذلك في معرض الكثير. و"الحفاظ": جمع حافظ، وهو في الأصل من يحفظ الشيء من الضياع والذهاب، وقد أطلقه العلماء بعد ذلك على من أتقن علم الحديث وضبطه عن الاختلال؛ رواية ولفظا في عرفه (¬3) وحفظًا. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب إثباته ففي المسند بترتيب السندي (89) قال: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وكذا أخرجه البيهقي في المعرفة (1022)، وفي السنن الكبير (1/ 134) وقال: وزاد ابن نافع، فقال: عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) بالأصل [عن] وهو تصحيف وقد نقلها مصححةً بعد قليل، وقد نقل العبارة البيهقي في سننه (1/ 134) عن الشافعي كما أثبتناه. (¬3) كذا بالأصل والعبارة غير مستقيمة.

وفي الرواية الأولى: أخرجه عن محمد بن عبد الرحمن فجعله مرسلًا. وفي الثانية: عنه، عن جابر ثم قال: وسمعت غير واحد من الحفاظ يرويه ولا يذكرون فيه جابرًا. فكأن المرسل عنده كان أكثر رواة من المسند (¬1). والمرسل مختلف فيه وفي [العمل] (¬2) به:- فذهب الشافعي: إلى ترك العمل به، وبه قال أحمد، وابن المسيب، والزهري، والأوزاعي، وفقهاء الحجاز، وأصحاب الحديث قاطبة أو معظمهم؛ فإن المراسيل عندهم واهية غير محتج بها. ومن هؤلاء الذين قالوا برد المرسل، من قبل مرسل الصحابي، ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين، ومنهم من خصص كبار التابعين كابن المسيب، ويُحْكى أنه قول الشافعي وأنه قال: مراسيل ابن المسيب وحده، واحتج له بأنه وجدها مسندة. ¬

_ (¬1) وقد رجح المرسل غيرُ واحد من الحفاظ. قال البخاري في التاريخ الكبير (6/ 435 - 436). عقبة بن عبد الرحمن بن معمر، عن ابن ثوبان، روى عنه ابن أبي ذئب مرسلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مس الذكر. وقال بعضهم: عن جابر رضي اللَّه عنه، ولا يصح. وقال ابن أبي حاتم في العلل (1/ 19): سألت أبي عن حديث رواه دحيم ..... قال أبي: هذا خطأ، الناس يروونه عن ابن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً لا يذكرون جابرًا أ. هـ. وكذا رجح الطحاوي الإرسال، نقل ذلك الزيلعي في نصب الراية (1/ 57) ونقل قول الذهبي في مختصر السنن قال: وهذا الحديث -إن صح- فليس الاستدلال فيه على باطن الكف إلا بالمفهوم، وإنما يكون المفهوم حجة إذا سلم من المعارض كيف! وأحاديث المس مطلقًا في مسمى المس أعم وأصح. (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل جاء مكررًا.

والمختار على قياس رد المرسل: أن التابعي والصحابي إذا عُرِفَ تصريح خبره، أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قُبِلَ مُرْسَلُهُ؛ وإن لم يُعْرَفْ ذلك فلا يُقْبَلُ. وأما أبو حنيفة، ومالك، والنخعي، وحماد بن أبي سليمان، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، ومن بعدهم من أئمة الكوفة فذهبوا إلى: أن المراسيل مقبولة محتج بها عندهم، حتى إن منهم من قال: إنها أصح من المسند، فإن التابعي إذا أسند الحديث أجاز الرواية على من رواه عنه؛ وإذا قال، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يقول إلا بعد اجتهاد في معرفة صحته. وإنما عمل الشافعي بهذا الحديث لأمرين:- أحدهما:- أنه قد رواه من طريق مسندًا عن جابر. والآخر:- أن هذا المعنى قد رُوي عن جماعة من الصحابة مسندًا، فقد ذكر الشافعي من طرقه طريقين:- أحدهما:- عن بسرة، والآخر:- عن أبي هريرة. فخرج بهذين الأمرين عن حكم المرسل من الحديث، هو أن يروي الراوي حديثًا عمن لم يعاصره. وله أوضاع واصطلاح وأنواع من أهل الحديث، إلا أنهم أكثر ما يطلقون المرسل إذا رواه الشافعي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخصون أمثال هذه الرواية بالمرسل، وإن كان غيرها مما هو في معناها مرسلًا أيضًا، مثل: أن يروي التابعي عن الصحابي ونحو ذلك، وقد خصوا هذا باسم آخر فقالوا: هو منقطع، ولهذا شرح وبيان قد استقصيناه في كتاب "جامع الأصول في أحاديث الرسول". أخبرنا الشافعي، أخبرنا القاسم بن عبد اللَّه، أظنه عن [عبيد] (¬1) اللَّه بن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [عبد] وهو تصحيف وقد نقله بعد قليل على الصواب، وفي المسند بترتيب السندي (90) كما أثبتناه.

عمر، عن القاسم بن محمد، عن عائشة [قالت] (¬1): إذا مست المرأة فرجها توضأت. تابعه عبد العزيز بن محمد، عن عبيد [اللَّه بن] (¬2) عمر. وهذا الحديث مما يعضد إيجاب الوضوء من مس الفرج، وقدم تقدم شرح أقوال الأئمة فيه، وحكم فرج المرأة حكم فرج الرجل، وينطلق فرجها على القبل والدبر. وقوله في إسناد الحديث "أظنه عن عبيد اللَّه بن عمر" من الألفاظ التي تُنْزِلُ الحديث عن الطبقة العالية في الإسناد، فإن المسند الصحيح: هو أن يروي الحديث واحد عن واحد، رآه سمع منه أو عليه، قراءة، أو إجازة، أو مناولة، رواية متصلة إلى من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع منه. وله عند المحدثين أوضاع أو اصطلاح وشرائط فمن شرائطه:- أن لا يكون في الإسناد: أُخْبِرْتُ عن فلان؛ ولا حُدِّثْتُ؛ ولا بَلَغَني؛ ولا رفعه فلان؛ ولا أظنه مرفوعًا؛ اسما يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه ليس يحتمله، وكذلك سماع شيخه من شيخه؛ إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج الشافعي في كتاب القديم عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج؛ عن عبد الواحد بن قيس؛ عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مس ذكره فليتوضأ". وقال الشافعي: وأخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب قال: سمع ابن عمر بُسْرة بحديثها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مس الذكر فلم يدع الوضوء منه حتى مات. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [قال] وهو خطأ. (¬2) بالأصل [بن أبيه] وهو تحريف والتصويب من المعرفة.

وقال الشافعي: وأخبرنا مسلم، وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن يحيى ابن أبي كثير، عن رجال من الأنصار، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ". وقال الشافعي: وأخبرنا مسلم، وسعيد، عن ابن جريج، عن فلان، أن عمر بن الخطاب بينا هو يؤم الناس -أحسبه قال: صلى ركعة أو أكثر- إذ زلت يده على ذكره، فأشار إلى الناس أن امكثوا؛ ثم خرج فتوضأ ثم رجع فأتم بهم ما بقي من الصلاة. وقال الشافعي: حدثنا مالك، عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر كان يقول: إذا مس الرجل ذكره فقد وجب عليه الوضوء. وقال الشافعي: وأخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه أنه قال: رأيت ابن عمر يغتسل ثم يتوضأ؛ فقلت له: يا أبه ما يجزئك الغسل من الوضوء؟ قال بلى، ولكني أحيانًا أمس ذكرى فأتوضأ. وقال الشافعي: وحدثني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه كان يقول: من مس ذكره فقد وجب عليه الوضوء. هذه الآثار كلها رواها الشافعي في كتاب القديم؛ عن مالك وغيره ممن ذكرنا اسمه، وجميعها مُؤَكِّدَةٌ لما ذهب إليه؛ من إيجاب الوضوء على من مس فرجه (¬1). ¬

_ (¬1) وانظرها وزيادة على ذلك عند عبد الرزاق (1/ 112 - 121)، ابن أبي شيبة (1/ 189 - 190).

الفرع السادس: في أكل ما مسته النار

الفرع السادس في أكل ما مسَّته النار أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن رجلين أحدهما جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، عن أبيه "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة؛ ثم صلى ولم يتوضأ". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، والترمذي (¬3). فأما البخاري: فأخرجه عن يحيى بن [بُكَيْر] (¬4)، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن جعفر بن عمرو بن أمية، أن أباه أخبره "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يَجْتَزُّ من كتف شاة؛ فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ. وفي أخرى: فألقاها والسكين التي يَجْتَزُّ بها. وأما مسلم: فأخرجه عن محمد بن الصباح، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن جعفر، مثل البخاري. وفي أخرى: عن أحمد بن عيسى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الزهري، وقال فيه: وطرح السكين. وأما الترمذي: فأخرجه عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، نحو البخاري. وفي الباب: عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، ¬

_ (¬1) البخاري (208). (¬2) مسلم (355). (¬3) الترمذي (1836) وقال: حسن صحيح. (¬4) بالأصل [كثير] وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه كذا عند البخاري.

وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي رافع، وجابر، وأنس، والمغيرة بن شعبة، وعبد اللَّه بن الحارث بن جزء، وسويد بن النعمان، وأم سلمة، وميمونة، وزينب بنت أبي سلمة، وأم الحكم، وأم عاصم. "الكتف": معروف، وفيه لغتان: بفتح الكاف وكسر التاء، وبكسر الكاف وسكون التاء. "والجز": القطع، واجتز افتعل منه. "والسكين": اسم عربي يذكر ويؤنث، والغالب عليه التذكير. وفي هذا الحديث من الفقه: جواز جز اللحم بالسكن، وإن كان قد روي في حديث آخر النهي عنه (¬1)؛ ويشبه أن يكون النهي ورد في من يفعله فِعْلَ الأعاجم، ويتزيا بزي المتكبرين والمترفين؛ الذين يجلون أنفسهم عن قطع اللحم باليد ونهسه بالأسنان. ¬

_ (¬1) أخرج أبو داود (3778)، والبيهقي (7/ 280) عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنيع الأعاجم، وانهسوه فإنه أهنأ وأبرأ". وهو حديث منكر قال أبو داود عقبه: وليس هو بالقوى، وقال المنذري في مختصر السنن (5/ 304): في إسناده: أبو معشر السندي المدني واسمه نجيح وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه، ويستضعفه جدًّا ويضحك إذا ذكره، تكلم فيه غير واحد من الأئمة، وقال أبو عبد الرحمن النسائي: أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا. اهـ وقد ذكر الحديث ابنُ الجوزي في الموضوعات (2/ 303). وقال: قال أحمد بن حنبل: ليس بصحيح، وقد كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يجتز من لحم شاة. هذا حديث أبي معشر واسمه: نجيح بن عبد الرحمن، قال يحيى: ليس بشيء، وقد سرقه من أبي معشر يحيى بن هاشم. قلت: وقد بوب البخاري (5408) على حديث الباب بقوله: "باب قطع اللحم بالسكين" إشارة منه إلى ترجيح الفعل على النهي الوارد. وقال الحافظ في شرحه (1/ 372 - 373): وفي النهي عنه حديث ضعيف في سنن "أبي داود" فإن ثبت خص بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك لما فيه من التشبه بالأعاجم وأهل الترف.

فأما من فعله لتعذر قطعه باليد إما لقلة نضجه، أو لكبر القطعة أو لحرارتها، أو نحو ذلك فلا. ومع ذلك فالنهي يكون من باب الكراهة لا التحريم بالإجماع (¬1). والذي ذهب إليه الشافعي: أن كل ما مسته النار لا ينقض الوضوء، وهو مذهب الأكثر من الصحابة والتابعين والفقهاء. وحكي أن عمر بن عبد العزيز، وأبا قلابة، وأبا مجلز، والزهري، والحسن البصري كانوا يتوضئون منه، تمسكًا بما روى أبو هريرة وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "توضأ مما مسته النار، ومما غيرت النار" (¬2). ¬

_ (¬1) هذا إن ثبت النهي، وأما وقد علمت ضعفه فلا معارضة. (¬2) أخرج مسلم (351، 352، 353) ثلاث روايات عن أبي هريرة وعائشة وزيد بن ثابت بنحوه. وقال النووي: ذكر مسلم -رحمه اللَّه تعالى- في هذا الباب الأحاديث الواردة بالوضوء مما مست النار، ثم عَقَّبَها بالأحاديث الواردة بترك الوضوء مما مست النار فكأنه يشير إلى أن الوضوء منسوخ، وهذه عادة مسلم وغيره من أئمة الحديث، يذكرون الأحاديث التي يرونها منسوخة ثم يعقبونها بالناسخ، وقد اختلف العلماء في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "توضئوا مما مست النار"، فذهب جماهير العلماء -من السلف والخلف- إلى أنه لا ينتقض الوضوء يأكل ما مسته النار، ممن ذهب إليه أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبو الدرداء، وابن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن سمرة، وزيد بن ثابت، وأبو موسى، وأبو هريرة، وأبي ابن كعب، وأبو طلحة، وعامر بن ربيعة، وأبو أمامة، وعائشة رضي اللَّه عنهم أجمعين، وهؤلاء كلهم صحابة، وذهب إليه جماهير التابعين، وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن يحيى، وأبي ثور، وأبي خيثمة رحمهم اللَّه. وذهب طائفة إلى وجوب الوضوء الشرعي -وضوء الصلاة- بأكل ما مسته النار، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري والزهري وأبي قلابة وأبي مجلز، واحتج هؤلاء بحديث "توضئوا مما مسته النار" واحتج الجمهور بالأحاديث الواردة بترك الوضوء مما مسته النار. =

وليس ذلك بحجة، لأن العلماء مجمعون على أنه منسوخ (¬1). وروي عن جابر بن عبد اللَّه أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار" (¬2). ويستحب غسل يده منه إن كان يغير رائحتها. وذهب أحمد بن حنبل، وإسحاق، وجماعة من أهل الحديث: إلى أن أكل ¬

_ = وقد ذكر مسلم -هنا- منها جملة وباقيها في كتب أئمة الحديث المشهورة وأجابوا عن حديث "الوضوء مما مست النار" بجوابين: أحدهما: أنه منسوخ بحديث جابر -رضي اللَّه عنه- قال: "كان آخر الأمرين من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار"، وهو حديث صحيح. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما من أهل السنن بأسانيدهم الصحيحة. والجواب الثاني: أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين، ثم إن هذا الخلاف الذي حكيناه كان في الصدر الأول، ثم أجمع العلماء بعد ذلك على أنه لا يجب الوضوء بأكل ما مسته النار، واللَّه أعلم. شرح مسلم (2/ 278 - 279). (¬1) دعوى الإجماع غير مسلم بها وقد نقلنا الخلاف بين أهل العلم في التعليق السابق، وإن كنا نذهب إلى هذا القول وهو مذهب الجمهور لكن المسألة لم تصل إلى حد الإجماع. قال الشوكاني في نيل الأوطار (1/ 246): أما دعوى الإجماع فهي من الدعاوي التي لا يهابها طالب الحق، ولا تحول بينه وبين مراد منه. (¬2) أخرجه أبو داود (192)، والنسائي (1/ 108) وابن حبان (1134)، وابن خزيمة (43) في صحيحهيما. كلهم من طريق علي بن عياش، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر عنه به. قال الحافظ في التلخيص (1/ 116): قال أبو داود: هذا اختصار من حديث: قربت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خبزًا ولحمًا فأكل، ثم دعا بوضوء فتوضأ قبل الظهر، ثم دعا بفضل طعامه فأكل، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ. وقال ابن أبي حاتم في "العلل" عن أبيه نحوه، وزاد: ويمكن أن يكون شعيب حدث به مِنْ حِفْظِهِ فوهم فيه. وقال ابن حبان نحوًا مما قاله أبو داود، وله علة أخرى، قال الشافعي في "سنن حرملة": لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر إنما سمعه من عبد اللَّه بن محمد بن عقيل. وقال البخاري في "الأوسط": ثنا علي بن المديني، قال: قلت لسفيان إن أبا علقمة الفروي روى عن ابن المنكدر، عن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل لحمًا ولم يتوضأ" فقال: أحسبني سمعت ابن المنكدر قال: أخبرني من سمع جابرًا.

لحم الجزور خاصة يوجب الوضوء خاصة، وحكى أنه قول قديم للشافعي؛ تمسكًا بما رواه البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سُئل عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "توضأ منها"، وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: "لا يُتَوَضَّأُ منها" (¬1). وهذا محمول عند الجمهور: على غسل اليد والفم منها لشدة رائحتها، وكثرة دهنها وزهومتها. وحكي عن الشافعي أنه قال في بعض كتبه: إن صح الحديث من الوضوء من لحوم الإبل قلت به (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 288)، وأبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494)، وابن خزيمة (32) وابن حبان (1128) وغيرهم. من طريق عبد اللَّه بن عبد اللَّه الرازي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عنه بنحوه. قال الحافظ في التلخيص (1/ 115). قال ابن خزيمة في صحيحه: لم أر خلافًا بين علماء الحديث، أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة ناقليه، وذكر الترمذي الخلاف فيه على ابن أبي ليلى هل هو عن البراء أو عن ذي الغرة، أو عن أسيد بن حضير، وصحَّح أنه عن البراء كذا ذكره ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه. قلت: وصحح إسناده الشيخ الألباني -رحمه الله- في الإرواء (1/ 153). (¬2) قلت: صح فيه حديثان. قال الترمذي (1/ 125): قال إسحاق: صح في هذا الباب حديثان عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: حديث البراء، وحديث جابر بن سمرة وهو قول أحمد وإسحاق. وقال الحافظ في التلخيص (1/ 116): فائدة: قال البيهقي: حكى بعض أصحابنا عن الشافعي، قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل، قلت به، قال البيهقي: قد صح فيه حديثان، حديث جابر بن سمرة وحديث البراء قاله أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وهذا هو القول الصحيح في المسألة لصحة النص في ذلك؛ وقد أنصف الإمام النووي -رحمه اللَّه- عندما قال: هذا المذهب أقوى دليلًا، وإن كان الجمهور على خلافه وقد أجاب الجمهور عن هذا الحديث بحديث جابر: "كان آخر الأمرين من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار". ولكن هذا الحديث عام، وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاص والخاص مقدم على العام. شرح مسلم (2/ 284).

وقد أخرج الشافعي في كتاب القديم: عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد اللَّه بن عباس: "أن رسول - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ". وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4). وأخرج الشافعي: أيضًا في كتاب القديم: عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن بُشيْر بن يسار مولى بني حارثة، أن سويد بن النعمان أخبره "أنه خرج مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء -وهي أدنى خيبر- فنزل للعصر؛ ثم دعى بالأزاود فلم يؤت إلا بالسويق؛ فأمر به فثري ثم صلى ولم يتوضأ". قوله "فَثُرِّىَ": أي بُلَّ بالماء. وهذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬5)، والموطأ (¬6)، والنسائي (¬7). وفيه: "فثري وأكل وأكلنا، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المغرب فمضمض ومضمضنا, ولم يتوضأ". وهذا يدل على أن الوضوء إن أطلق في أكل ما مست النار؛ فإنما يراد به غسل الفم واليد. ¬

_ (¬1) البخاري (207). (¬2) مسلم (354). (¬3) أبو داود (187). (¬4) لم أجده عنده بهذا الإسناد المذكور والمتن، وقد عزاه إليه المزي في تحفة الأشراف (5/ 106) وقال: حديث النسائي في رواية ابن الأحمر، ولم يذكره أبو القاسم. (¬5) البخاري (215). (¬6) الموطأ (1/ 52 رقم 20). (¬7) النسائي (1/ 108 - 109).

وأخرج الشافعي في سنن حرملة، عن عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه مختصرًا من حديث [جابر] (¬1). وقد أخرجه: أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4) أنه قال: "ذهب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة من الأنصار ومعه أصحابه، فقربت لهم شاة مصلية، قال: فأكل فأكلنا، ثم حانت الظهر فتوضأ ثم صلى؛ ثم رجع إلى فضل طعامه فأكل، ثم كانت العصر فصلى ولم يتوضأ". رواه الشافعي مختصرًا ثم قال: لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر، إنما سمعه من عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن جابر. وهذا الذي ذكره الشافعي محتمل، وذلك لأن صاحِبَي الصحيح لم يخرجا هذا الحديث من جهة محمد بن المنكدر، عن جابر في الصحيح، مع كون إسناده من شرطهما, ولأن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل قد رواه أيضًا عن جابر، ورواه عنه جماعة إلا أنه قد روي عن حجاج بن محمد، عن عبد الرزاق، ومحمد بن بكر، عن ابن جريج، عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه فذكر هذا الحديث. فإن لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ السَّمَاعِ فيه وَهْمًا من ابن جريج؛ فالحديث صحيح على شرط صاحبي الصحيح، واللَّه أعلم. قال الشافعي: قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء مما مست النار، وإنما قلنا: لا يتوضأ منه لأنه عندنا منسوخ، ألا ترى أن عبد اللَّه بن عباس إنما صحبه بعد الفتح، يروي عنه أنه رآه يأكل من كتف شاة ثم صلى ولم يترضأ؛ وهذا عندنا ¬

_ (¬1) بالأصل [لجابر] والصواب ما أثبتناه. (¬2) أبو داود (1091) من طريق ابن جريج عن ابن المنكدر عنه بنحوه. (¬3) الترمذي (80) من طريق سفيان بن عيينة، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عنه بنحوه. (¬4) أخرج النسائي الرواية المختصرة وقد سبق تخريجها.

من أبين الدلالات على أن الوضوء منه منسوخ، أو أن أمره بالوضوء منه للتنظيف، والثابت عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يتوضأ منه، ثم عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأبي بن كعب، وأبي طلحة، كل هؤلاء لم يتوضئوا منه. ***

الفرع السابع: في الضحك في الصلاة

الفرع السّابع في الضحك في الصلاة أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة، عن [ابن] (¬1) أبي ذئب، عن ابن شهاب. أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "أمر رَجُلًا ضحك في الصلاة أن يعيد الوضوء والصلاة". قال الشافعي: فلم يُقْبَلْ هذا لأنه مرسل. قال: وأخبرنا الثقة، عن معمر، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث. هذا الحديث هكذا أخرجه الشافعي؛ في كتاب الرسالة (¬2) مرسلاً عن الزهري، وعن الحسن، في معرض ترك العمل بالمراسيل وما فيها من العوار، فإن الزهري، يروي بعد الصحابة عن خيار التابعين، ثم يرسل عن مثل سليمان بن أرقم، وهو -فيما بين أهل العلم بالحديث -ضعيف، فلذلك قال يحيى بن معين وغيره: مراسيل الزهري ليس بشيء. قال الشافعي: لمَّا أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان بن أرقم؛ لم يؤمن مثل هذا على غيره. والحديث على خلاف طرقه؛ لم يُرْوَ إلا مُرْسلًا؛ ولم يسند رسالة إرسال لا يعتد به (3). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب ما أثبتناه. وهو: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب؛ وأخرجه الشافعي في الرسالة (1299) على الجادة. (¬2) الرسالة (1301). (3) كذا بالأصل، ويبدوا أنه وقع سقط أو سهو من الناسخ، وراجع قول الشافعي على الحديث في الرسالة (469).

وقد رواه جماعة عن جماعة مرسلًا؛ كأبي العالية، وإبراهيم النخعي، ومعبد الجهني. وقال ابن سيرين: لا يؤخذ بمراسيل الحسن وأبي العالية؛ فإنهما لا يباليان عمن أخذا. وقد رواه أبو حنيفة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن، عن معبد الجهني. ومعبد هو أول من تكلم في القدر بالبصرة. قال الشافعي: وقال بعض الناس: عليه الوضوء ويستأنف -يعني الصلاة- ولو ثبت عندنا الحديث بما يقول لقلنا به، والذي زعم أن عليه الوضوء زعم أن القياس لا ينتقض؛ ولكنه يتبع (غير) (¬1) الآثار ولو كان يتبع منها الصحيح المأثور المعروف؛ كان بذلك عندنا حميدًا, ولكنه يرد منها الصحيح الموصول المعروف، ويقبل الضعيف المنقطع (¬2). والذي ذهب إليه الشافعي: [أن] (¬3) القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء وبه قال: جابر بن عبد اللَّه، وأبو موسى، والقاسم بن محمد، وعروة، وعطاء، والزهري، ومكحول، وأبو ثور، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: يجب الوضوء بها في الصلاة، وروي ذلك عن الحسن والنخعي، وبه قال الثوري. وعن الأوزاعي روايتان. فأما حكمها في الصلاة: فإنها تبطلها وحكمها حكم الكلام. وأما التبسم: فإنه لا يبطلها وذلك ما لم يكن له صوت. ¬

_ (¬1) كذا الأصل، وفي المعرفة للبيهقي (1/ 432) نقل قول الشافعي بلفظ (ولكنه -زعم- يتبع الآثار ..). (¬2) راجع الكلام على هذه الآثار وغيرها بتفصيل عند الزيلعي في نصب الراية (1/ 47 - 54)، والمعرفة (1/ 430 - 437). (¬3) مما بين المعقوفتين بالأصل [أنه] وهو خطأ.

الفرع الثامن: في القيء والدم

الفرع الثامن في القيء والدم لم يرد في هذا المعنى في المسند حديث، إنما قد أخرج الشافعي في كتبه أحاديث تتعلق بهذا المعنى. قال الشافعي في كتاب القديم: قد بَينَّ اللَّه -عز وجل- ما يكون منه الوضوء، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم ينزل في الدم كتاب ولم تأت فيه سنة، قلنا كأنه من العفو مع ما اعتمدنا فيه على الآثار القوية. ثم قال: أخبرنا رجل عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد اللَّه قال: "رأيت ابن عمر عصر بثرة بوجهه فخرج منها الدم، فدلكه بين أصابعه، ثم قام إلى الصلاة ولم يغسل يده". قال: وأخبرنا بعض أصحابنا، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان إذا احتجم غسل أثر المحاجم". قال: وأخبرنا رجل، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "اغسل أثر المحاجم عنك وحَسْبُكَ". قال: وأخبرنا رجل، عن يحيى بن شعيب، عن القاسم بن محمد قال: "ليس على المحتجم وضوءه". قال: وأخبرنا بعض أصحابنا عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم قال: رأيت سعيد بن المسيب رعف فمسح أنفه بصوفة ثم صلى قال: وأنبأ مالك، عن عبد الرحمن بن المجَّبر "أنه رأى سالم بن عبد اللَّه يخرج من أنفه الدم فيمسحه بأصابعه، ثم يفتله ثم يصلي ولا يتوضأ". قال الشافعي: قد روينا عن ابن عمر، وابن المسيب: أنهما لم يكونا يريان

في الدم وضوءًا، وإنما معنى وضوئهما عندنا؛ غسل الدم وما أصاب من الجسد، لا وضوء الصلاة. وقد روي عن ابن مسعود "أنه غسل يديه من طعام؛ ثم مسح [ببلل] (¬1) يديه وجهه وقال: هذا وضوء من لم يحدث" وهذا معروف في كلام العرب يسمى غسل بعض الأعضاء وضوءًا (¬2). ومذهب الشافعي: أن كل ما يخرج من غير السبيلين كالقيء، والدم والبصاق، وغير ذلك لا ينقض الوضوء. وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وابن أبي أَوْفَي، وأبو هريرة، وعائشة، وجابر بن عبد اللَّه، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعطاء، وطاوس، وسالم بن عبد اللَّه، ومكحول، وهو مذهب ربيعة، ومالك، وأبي ثور، وداود. وقال أبو حنيفة: كل نجس خارج من البدن؛ يوجب الوضوء إذا سال. وقال في القيء: إذا كان ملاء الفم أوجب الوضوء. وبه قال الأوزاعي، والثوري، وأحمد وإسحاق. وقد تقدم بيان ذلك قبل هذا الموضع. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل (ببل) والمثبت من المعرفة (1168) وهو المناسب للسياق. (¬2) راجع هذه الآثار وغيرها من المعرفة للبيهقي (1/ 418 - 429).

الفصل الرابع من الباب الخامس: في المسح على الخفين

الفصل الرابع من الباب الخامس في المسح على الخفين أخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم، وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن عباد بن زياد، أن عروة بن المغيرة، أخبره أن المغيرة (¬1) [...]. يديه فغسل كفيه ووجهه، ثم أراد أن يخرج ذراعيه؛ وعليه جبة من صوف من جباب الروم؛ ضيقة الكمين، فضاقت فادّرعها ادّراعًا ثم أهويت إلى الخفين لأنزعهما فقال: "دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان" فمسح عليهما، قال الشعبي: شهد لي عروة على أبيه، وشهد أبوه على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وأما الترمذي: فأخرجه عن أبي الوليد الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن ثور بن يزيد، عن [رجاء] (¬2) بن حيوة، عن كاتب المغيرة، عن المغيرة أن ¬

_ (¬1) هنا سقط في المخطوط من بداية اللوحة (ب) وإليك نص الحديث الساقط قد ساق المصنف إسناده، وتمام الحديث. ابن شعبة أخبره أنه قد غزا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - غزاة فحملت معه إدارة قبل الفجر فلما رجع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أخذت أهريق على يديه من الإداوة وهو يغسل يديه ثلاث مرات ثم غسل وجهه، ثم ذهب يحسر حُبته عن ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ ومسح على خفيه ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف وصلى لهم، فأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى الركعتين معه وصلى مع الناس الركعة الأخيرة، فلما سلم عبد الرحمن قام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأتم صلاته فأفرغ ذلك المسلمين وأكثروا التسبيح، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته أقبل عليهم ثم قال: أحسنتم أو قال: أصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن حمزة بن المغيرة بنحو حديث عباد. قال المغيرة: فأردت تأخير عبد الرحمن فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - "دعه". (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [رد] والظاهر أن الناسخ كتب حرفين من الكلمة ثم تشاغل بشيء وانتقل إلى غيرها، والصواب ما أثبتناه وكذا جاء في كل مصادر التخريج؛ عند أحمد (4/ 251)، وأبي داود (165)، وابن ماجه (550) وهو المثبت أيضًا عند الترمذي.

النبي - صلى الله عليه وسلم - "مسح أعلى الخف وأسفله". وفي أخرى: عن علي بن حجر، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن المغيرة، عن أبيه قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخُفَّيْن على ظاهرهما". قال الترمذي: لا نعلم أحدًا يذكر عن عروة، عن المغيرة: "على ظاهرهما" غير أبي الزناد. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، بإسناد البخاري الأول ولفظه. وفي أخرى: عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن إسماعيل، عن محمد ابن سعد، عن حمزة بن المغيرة، عن أبيه قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وذلك الحديث نحو ما سبق، وله روايات كثيرة طويلة ومختصرة. وفي الباب: عن علي، وابن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وجرير، وعمرو بن أمية الضمري، وبريدة، وأنس، وأوس بن أوس الثقفي، وخزيمة بن ثابت، وصفوان بن عَسَّال المرادي، وابن عمارة. "الغزو": مصدر غزا يغزو، والاسم الغزاة، ورجل غازٍ والجمع: غزاة، وغزَّاء وغزًّى فكأنه من مغزى الكلام أي مقصده. "وتبوك" بفتح التاء: تفعل من البوك، وهو من قولهم: باك الحمار الأتان تَبَوَّكَهَا بَوْكَا، إذا نزل عليها. وإنما سميت غزوة تبوك: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى قومًا من أصحابه يبوكون حِسْيَ، أي يدخلون فيه القدح، وهو السهم ويحركونه ليخرج الماء، فقال: "مازلتم تبوكونها بَوْكًا"، فسميت تلك الغزوة "تبوك"، قاله الجوهري (¬1). ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة (10/ 405).

"والتبرز": الخروج لقضاء الحاجة، وهو تفعل من البَراز بفتح الباء وهو الفضاء الواسع الذي ليس فيه ساتر. وأما البِزار -بكسر الباء- فهو كناية عن الغائط نفسه. "وقِبَلُ الشيء": بكسر القاف وفتح الباء جهته وهو ظرف مكان. والإداوة: -بكسر الهمزة- السطيحة فقد تقدم ذكرها. "والفجر": في آخر الليل كالشفق في أوله، من الانفجار والانشقاق "وأَرَقْتُ": الماء وهرقته وأهرقته قلبته، وقد تقدم بيانه. "وحسرت الشيء عن الشيء": إذا أزلته عنه وكشفته. "الذراع": الساعد. وقوله "فأقبلت معه حتى يجد الناس" حكايته حال حاضرة، ولذلك جاء بلفظ الفعل الحاضر، فقال: "حتى يجد" ولم يقل: "وجدنا". وقوله "قد قدّموا عبد الرحمن": يعني جعلوه إمامًا لهم. وقوله "قد صلى بهم" هذه الجملة مبدلة من الجملة التي قبلها, ولذلك جاء بها بغير واو، وقد جاءت في بعض النسخ بواو. وقوله: "وصلى مع الناس الركعة الآخرة": يريد الركعة التي أدرك معهم منها، لأن الصلاة كانت صلاة الفجر، وهي ركعتان فاتته الركعة الأولى وأدرك معهم الثانية. وقوله: "فأفزغ ذلك المسلمين"، للفزع سببان:- أحدهما: أنهم لما سلموا ورأو النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي معهم، فزعوا كيف تقدموا عليه في الصلاة، وسبقوه إلى وقتها. والثانية: كيف صلى وراءهم مقتديًا بهم. "والتسبيح" في اللغة: التنزيه، وهو مصدر يسبح تسبيحًا، وهو قولك: سبحان اللَّه.

"وسبحان" نصب على المصدر كأنه قال: أُبَرِّئُ اللَّه من السوء براءة وأنزهه تنزيهًا، والمراد بإظهارهم التسبيح، التنبيه على ما عرض لهم من الفزع والانزعاج. وقوله: "أحسنتم" أي فعلتم حسنًا، والحَسَنُ ضد القبيح. "والإصابة": من الصواب ضد الخطأ. وقوله: "يُغَبّطهم" -بضم الياء، وفتح الغين، وتشديد الباء وكسرها- من الغِبْطَة وهي: أن تتمنى مثل حال المغبوط، من غير أن تريد زوالها عنه. تقول منه: غبطته، أغبطه، غَبْطًا، وغِبْطَةً، والاسم: الغبطة، وغبّطت الإنسان -بالتشديد- أي حسنت له ما فعل، كأنك جعلته يغتبط. وحقيقته: أنه جعل بعضهم يغبط بعضًا بالحال التي كانوا عليها، وهي مسابقتهم إلى أول وقت الصلاة، وفوزهم بفضيلته. ولو روى يَغْبِطُهُم بالتخفيف لكان جائزًا، كأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غبطهم حيث سبقوه إلى إحراز فضيلة الوقت، فتمنى أن يكون له مثل حالهم التي فاتته. وقوله: "أن صلوا"، في موضع جر تقديره لأن صلوا، أي لصلاتهم في أول وقتها. وقوله: "فأتبعه"، فيه لغتان:- تبعت فلانًا أتبعه، واتبعته أتبعه وقيل: اتبعت القوم إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم. واتبعت أيضًا غيري يتعدى ولا يتعدى. "وأهويت إلى الشيء": مددت يدي إليه. والضمير في "أدخلتها": راجع إلى الرجلين، وهما غير مذكورين، لدلالة اللفظ والحال عليهما. وقوله: "جبَّة شامية": قد جاء في بعض طرق الحديث أنها كانت من صوف، وإنما نسبها إلى الشام: إما لأنها كانت من عمل الشام، أو من لبوس

أهل الشام. يريد أنها كانت ضيقة الأكمام، وهي التي يسميها الناس "جاودك" وفي بعض الطرق: فصب عليه حتى فرغ من حاجته. وفي بعضها: حين فرغ. والفرق بينهما: أنها مع حتى يريد بالحاجة الوضوء، المعنى حتى فرغ من وضوئه. ومع حين يريد بالحاجة البراز، المعنى: صب عليه الماء في وضوئه حين فرغ من البراز. "والركبة": بفتح الراء وفتح الكاف أقل من الركب، وهم أصحاب الإبل في السفر، دون باقي الدواب؛ وهم العشرة فما فوقها. وقوله: "من جباب الروم"، أراد من جباب الشام كما سبق، لأن الشام كان يومئذ ساكنة الروم، ليصح الجمع بين الروايتين. وفي رواية أبي داود: فادّرعهما ادراعًا أي: نزع ذراعيه من الكُمَّيِنْ، وأخرجهما من قِبَلِ الذيل، ووزنه افتعل من ذرع أي مد ذراعيه، كما يقال: اذَّكَرَ من ذكر. وحقيقته: من الذراع وهو الساعد، فإذا بَنَيْتَ افتعل من الذرع قلت: اذترع يذترع اذتراعًا، فلما اجتمع الذال والتاء، والنطق بهما ثقيل، أراد أن يدغموا ليخف النطق، فقلبوا التاء دالًا -غير معجمة- لأنها من مخرجها, ولأن الدال أخت الذال فاجتمع قال وذال، ولهم حينئذ فيما كان من هذا النوع مذهبان:- فمنهم: من يقلب الدال -المهملة- ذالًا -معجمة- ويدغم، فيقول: مذّرع بذال معجمة مشددة: مذَّكر. ومنهم: من يقلب الذال المعجمة دالًا مهملة ويدغم، فيقول: مدّرع بدال

مهملة مشددة. فإن كان الحديث في رواية أبي داود بالذال المعجمة، فيكون المراد به ما سبق ذكره من الذراع، وإن كان بالدال المهملة على التقدير الذي ذكرناه، فيكون المراد به: المعنى المطلوب من الادِّراع -بالدال المهملة- مع الإبدال والإدغام الذي أشرنا إليه، وإلا فالادراع -بالدال المهملة- على غير هذا التقدير؛ إنما هو افتعال من الدرع -بالدال المهملة- وهو لبس الدرع والدراعة، وذلك بخلاف المطلوب من الحديث؛ لأنه إنما أراد أنه أخرج يديه لا أدخلهما. وقال الأزهري: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادرع ذراعه من أسفل الجبة ادِّراعًا. قال النضر: ادَّرَعَ ذراعيه أي أخرجهما، وكذا قال الهروي. فإن كانت الرواية هكذا فقد زال ذلك التعسف، والذي قاله الخطابي في معالم السنن: أنه اذّرعهما بالتشديد والذال المعجمة، فالحديث رواه أبو داود، والخطابي إنما شرح روايته -واللَّه أعلم- والذي ذهب إليه الشافعي: جواز المسح على الخفين، وأنه رخصة للمسافر والمقيم، وبه قال عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة. وقد قال الحسن البصري: حدثني سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على الخفين؛ وإليه ذهب عامة الفقهاء. وروي عن الخوارج والشيعة إنكاره (¬1)، وحكي ذلك عن أبي بكر بن داود. ثم اختلف في أحكام. ¬

_ (¬1) ولهذا ترى علماء السنة يدخلون هذه المسألة -وهي من المسائل العملية- في مسائل الاعتقاد وذلك لبيان أنه لم يخالف في هذه المسأله إلا أهل البدع والضلالات، أما أهل السنة قاطبة فاتفقوا على العمل بهذه السنة. قال ابن أبي العز: تواترت السنة عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة. شرح الطحاوية (320) تحقيق أحمد شاكر. وانظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (21/ 128).

فقال بتوقيت المسح للمسافر والمقيم: الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: المسافر لا توقيت له، وروى عنه في المقيم روايتان:- أحدهما:- أنه يمسح بلا توقيت، والثاني: أنه لا يمسح. وحكى الزعفراني عن الشافعي أنه كان يقول: يمسح بلا توقيت إلا أن يجب عليه غسل جنابة، ثم رجع عن ذلك قبل أن يخرج إلى مصر. فقال الليث بن سعد، وربيعة: يمسح على الخفين إلى أن ينزعهما, ولم يفرقا بين المسافر والحاضر. وروى ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي. وقال داود:- يمسح خمس صلوات. وأما ابتداء مدة المسح. فعند الشافعي: من وقت الحدث. وقال الأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور، وداود: أولها من وقت المسح. وأما الجورب فلا يجوز المسح عليه إلا أن يكون صفيقًا وله نعل، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والثوري. وقال أحمد: يجوز المسح عليه وإن لم يكن له نعل، وروي ذلك عن عمر، وعلي، وإليه ذهب أبو يوسف، ومحمد، وداود. وأما الجرموق: فذهب مالك إلى أنه لا يجوز المسح عليه، في إحدى الروايتين. وقال الشافعي: إن كان الجرموق قويًّا والخف ضعيفا جاز المسح عليه، وإن

كان ضَعِيفًا والخف قويًا لم يجز، وان كانا قويين لم يجز على الجرموق في القول الجديد، وفي القديم يجوز، وبه قال المزني. وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: يجوز، والجورب والجرموق متقاربان. وهو الذي يلبس فوق الخف، وهو خف قصير، وهو أيضًا الذي يلبسه الصوفية، وبالجملة فكل ما لبسه الإنسان في رجله، مما يقصر عن الخف ولا يسد مسده في تتابع المشي عليه؛ فهو عند الفقهاء جورب. وهو معرب والجمع الجواربة، والهاء المعجمة مثل: الموازجة، والكيالجة ويقال: الجوارب أيضًا. والفرق بين الجرموق والجورب: إنما هو من تخصيص الجرموق باللبس فوق الخف، والجورب قد يلبس فوق الخف ويلبس منفردًا. أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، وعبد اللَّه بن دينار أنهما أخبراه أن عبد اللَّه بن عمر قدم الكوفة على ابن أبي وقاص -وهو أميرها- فرآه يمسح على الخفين فأنكر ذلك عليه عبد اللَّه، فقال له سعد: سل أباك؟ فسأله, فقال له عمر: إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهران (¬1) فامسح عليهما؛ قال ابن عمر: وإن جاء أحدنا من الغائط؟ فقال: وإن جاء أحدكم من الغائط. هذا حديث صحيح، أخرجه الموطأ (¬2) بالإسناد أتم من هذا، وأخرجه البخاري (¬3) والنسائي (¬4). ¬

_ (¬1) وفي المسند بترتيب السندي (طاهرتان). (¬2) الموطأ (1/ 59 - 60 رقم 42). (¬3) البخاري (202). (¬4) النسائي (1/ 82).

فأما البخاري: فأخرجه عن أصبغ [عن] (¬1) ابن وهب، عن عمرو بن الحارث المخزومي، عن أبي النضر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن عمر، عن سعد بن أبي وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين" وأن عبد اللَّه بن عمر سأل عمر عن ذلك؟ فقال: نعم، إذا حدثك سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فلا تسأل عنه غيره. وأما النسائي: فأخرجه عن سليمان بن داود والحارث بن مسكين، عن ابن وهب، بإسناد البخاري: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الحفين". لم يزد على هذا القدر. وهذا الحديث مؤكد لجواز المسح على الخفين. ويشبه إنكار ابن عمر على سعد؛ إنما هو لأنه رآه يمسح وهو مقيم أمير على الكوفة، فاستغرب المسح للمقيم، وإلا فابن عمر، ما كان يغيب عنه جواز المسح للمسافر، وهو من أعيان الصحابة وفقهائهم، وقد صحب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في أسفاره؛ وصحب أباه وغيره من الصحابة فما كان يجهل هذا القدر. وأما مسح المقيم فجائز أن يغيب عنه ولا يعلمه، لأن المقيم قد يتوضأ في بيته في غالب الأمر؛ ولا يراه إلا من هو عنده من أهله وخاصته، فلذلك يكون قد خفي عليه فأنكره -واللَّه أعلم- وأما جواب عمر لابنه، فمن أبلغ الأجوبة وأكملها, لأنه لما رأى وقد خفي عليه جواز المسح؛ علم أنه يخفى عليه ما هو أخفى منه من حكم جواز المسح فقال له: إذا أدخلت رجليك في الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما. فعرفه بذلك جواز المسح، والحال التي يجوز المسح عليها. وكذلك ما أحسن أدبه -رضي اللَّه عنه- لما رأى ابنه وصغيره؛ وقد أنكر ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل واستدركته من صحيح البخاري، وأصبغ هو: ابن الفرج المصري.

على سعد وهو الشيخ الكبير السابق إلى الإسلام [............] (¬1). الأول فيكون ست عشرة صلاة؛ فإن جمع في اليوم الرابع الظهر مع العصر؛ وصلاهما معًا في وقت الظهر كملت سبع عشرة صلاة. وأما المقيم فأكثر ما يمكن أن يصلي سبع صلوات بشرط: أن يكون في اليوم الثاني قد صلى الظهر مع العصر؛ بنية الجمع بسبب المطر، فإذا انقضت مدة المسح وهو على طهارة؛ فلا يجوز له أن يصلي بذلك المسح؛ وعليه أن ينزع الخفين، ثم يغسل رجليه ويصلي أو يستأنف الوضوء. قال الحسن البصري: لا يبطل المسح بل يصلي إلى أن يُحْدِث. وقال داود: يجب عليه النزع لكن يصلي إلى أن يحدث. حيث انتهى بنا الكلام في هذا الحديث؛ رأينا أن نورد رواية الترمذي (¬2) الطويلة، بلفظها وبذكر ما فيها من معنى، فإنه حديث حسن نافع. قال زر بن حبيش: أتيت صفوان بن عَسَّال؛ أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك يازر؟ قلت: ابتغاء العلم، قال: إن الملائكة تضع أجنحتها (¬3) رضي بما يطلب، قلت: إنه حاك في صدري المسح على الخفين بعد الغائط والبول؛ وأنت امرؤ من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فجئتك أسألك، هل سمعته يذكر في ذلك شيئًا؟ قال: نعم، "كان يأمرنا إذا كنا في سفر أو مسافرين؛ أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم"، قال: فقلت: هل سمعته يذكر في الهوى شيئًا؟ قال: نعم، كنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فبينا نحن عنده إذ ناداه أعرابي بصوت جَهُوري: يا محمد، فأجابه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بنحو من صوته "هاؤم"، فقلنا له: ¬

_ (¬1) وقع سقط في المخطوط والكلام غير متصل، وقد انتقل الكلام إلى حديث صفوان بن عسال في المسح على الخفين وهو برقم (122) من المسند بترتيب السندي. (¬2) الترمذي (3535). (¬3) في المطبوع من السنن زاد: (لطالب العلم).

ويحك أغضض من صوتك فإنك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نهيتَ عن هذا، فقال: واللَّه لا اغضض! قال الأعرابي: المرء يُحبُّ القوم ولما يلحق بهم؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المرء مع من أحب يوم القيامة" قال زر: فما زال يحدثني حتى ذكر بابًا من قِبَلِ المغرب مسيرة عرضه أو يسير الراكب في عرضه أربعين أوسبعين عامًا، قال سفيان: قِبَلَ [الشام] (¬1) خلقه اللَّه يوم خلق السموات والأرض مفتوحًا يعني للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه. زاد في رواية, وذلك قول اللَّه -عز وجل {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} (¬2). "الهوى": مقصورًا هوى النفس وميلها إلى الشيء وحبها له، وهذا الشيء أَهْوى إِليَّ من كذا أي: أَحَبُّ، تقول: هَوِىَ بالكسر يَهْوَى بالفتح -إذا أحبه. "وبَيْنا" مثل: بينما وأصلها "بين" فَأُشْبِعَتْ الفتحةُ فصارت أَلِفًا، "وبينما" زيدت عليها "ما" تقول: بينما منتظره أتانا، أي أتانا بين أوقات انتظارنا إياه، فحذفت المضاف الذي هو أوقات، وولى الظرف: الذي هو "بين" الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليها، وكذلك بَيْنا ولا يجاب إلا بالفعل. وكثير من الناس يتلقاها بـ "إذ"، يقولون: بينا زيد جالس إذ دخل عمرو. "والأعرابي": منسوب إلى الأعراب -بفتح الهمزة- وهم سكان البادية من العرب خاصة، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وليس جمع عرب، وإنما العرب اسم جنس، وإنما جاء النسب إليه على لفظ الجمع؛ لأنه لما لم يكن له واحد من لفظه صار كأنه واحد، فنسب إليه على حالته. "والصوت الجَهُوري": هو القوي العالي، جهر بالقول وجهور رفع به صوته، وهو رجل جَهُوري الصوت، وجهير الصوت. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [اللَّه] والصواب هو المثبت؛ وهو لفظ السنن والتصحيح منه. (¬2) الأنعام: [158].

وقوله: "هاؤم": بمعنى تعالوا، وهو صوت يصوّت به فيفهم منه معنى "خذ". وقوله "فأجابه بنحوٍ من صوته": يشبه أن تكون تعلية النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع صوته، حتى كان مثل صوته أو نحوه، لفرط رأفته وشفقته على أمته. وفي ذلك: دليل على استحباب احتمال دالَّةِ (¬1) التلامذة؛ والصبر على أذاهم لما يرجى لهم من حميد العاقبة والإصلاح. "وويح": كلمة تقال لمن يُشْفَقُ عليه أو يرحم، بخلاف "ويل" فإنها تقال لمن ينكر عليه ويغضب، تقول: ويح لزيد، وويل لزيد، فترفعها على الابتداء، وتقول: ويحًا لزيد، وويلًا لزيد، فتنصبها بإضمار فعل، كأنك قلت: أَلْزَمَهُ اللَّه ويحًا وويلًا ونحو ذلك، ولك أن تقول: ويحك وويح زيد، وويلك وويل زيد، بالإضافة فتنصبهما أيضًا بإضمار فعل. "وغض الصوت": إخفاؤه، تقول: غَضَّ صَوْتَهُ ومن صوته أي خفضه، وكل شيء كفْته فقد غضضته، والأمر منه في لغة الحجاز اُغْضُضْ، وفي لغة نجد غُضَّ. وفي قوله "المرء مع من أحب": دليل على أنه أقام المحبة؛ والمشايعة في الخير والطاعة مقام العمل بها، في اشتراك المحب والمحبوب معًا في الثواب والعقاب في يوم (¬2). "ولمَّا": هنا حرف جزم مثل: "لم" تقول: لم يَقُمْ زيد، ولما يَقُمْ بكر. وقوله "لما يلحق بهم": يريد أنه لم يلحقهم في الطاعة والعبادة والخير، ¬

_ (¬1) أي: انبساطهم. (¬2) كذا بالأصل ولعله سقط قوله (القيامة).

وتقول: بيني وبينك مَسِيرُ شهرٍ ومسيرة شهرٍ بمعنىً، وإنما أتت اللفظة لأنه أراد به المرة الواحدة من السير. "وعرض الشيء" خلاف طوله، وإنما خَصَّ العرض بالذِّكْر؛ لأنه إذا كان صفة عرضه الذي هو أبدًا دون الطول في الغالب؛ فما ظنك بالطول الذي هو أكثر منه، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (¬1). وليس في ذوات الأقدار ما عرضه أكثر من طوله، إلا ما جاء في الاصطلاح والوضع الخارج من الوضع اللغوي؛ فمن ذلك بروج السماء الاثني عشر عرضها أكثر من طولها، وذلك أن الفلك مقسوم اثنى عشر قسما من جهة الشرق إلى جهة الغرب مارًّا إلى أن يعود إلى جهة الشرق، وهذه الأقسام أيضًا قاطعة من جهة الجنوب إلى جهة الشمال مارة إلى أن ترجع إلى حيث ابتدأت من جهة الجنوب مجتازة على النقطتين الجنوبي والشمالي، فيحصل من هذه القسمة اثنى عشر قسمًا، هي أشبه الأشكال بقسمة أضلاع البطيخة المضلعة، فما كان من هذه الأقسام من جهة أحد النقطتين إلى الآخر فهو عرض البرج، وما كان منها من جهة الشرق إلى الغرب فهو طول البرج، فيكون مقدار العرض مائة وثمانين درجة، لأنه نصف الفلك، ويكون مقدار الطول ثلاثين درجة, لأنه واحد من اثنى عشر قسمًا من الفلك. وسبب هذا الاصطلاح هو من مسير الشمس في البرج، فإنها تبتدئ من أول البرج وتقطعه في الدرج المقدر لها وهي ثلاثون؛ ومسيرها فيه إنما هو فيما بين المشرق والمغرب؛ لا ما بين الجنوب والشمال، فلذلك سموا ما تقطعه الشمس من البرج طولًا. ¬

_ (¬1) آل عمران (133).

"والسموات": جمع سماء، وهو كل ما علاك فأظلك، وهي تذكر وتؤنث والتأنيث أكثر. "والأرض": مؤنثة وهي اسم جنس، وقد جمعوها في أَرَضَات بتحريك الراء، أرَضين أيضًا بالتحريك، وقيل: إنهم قالوا فيها: أراض بالمد، ولم ترد في التنزيل إلا مفردة. "والتوبة": الرجوع عن الذنب، وتاب إلى اللَّه توبة ومتابًا وتاب اللَّه -عز وجل- عليه: وفقه للتوبة، وحقيقة التوبة المعتبرة شرعًا: هو أن ينوي بقلبه الإقلاع عن الذنب مع الندم على ما كان من مباشرته؛ وترك العمل به والرجوع إليه، نِيَّةً جازمة وتركًا مبتوتًا غير متعلق بزمن ولا متناه إلى أمد. "والآيات": جمع آية، وهي العلامة، والمراد بها: أشراط الساعة التي تتقدم عليها وتجيء أمامها، فمن أولها طلوع الشمس من مغربها. وقوله: "لا ينفع نفسًا إيمانها": المعنى أن اشراط الساعة إذا جاءت وهي آيات مضطرة ذهب أوان التكليف عندها، فلا ينفع الإيمان حينئذ نفسًا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيرًا. هذا ما عنّ لنا ذكره من معنى رواية الترمذي-واللَّه أعلم- وأخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي قال: حدثني المهاجر أبو مخلد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أرخص للمسافر أن يمسح على الحفين ثلاثة أيام ولياليهن؛ والمقيم يومًا وليلة". قال البيهقي في كتابه (¬1) في آخر هذا الحديث: قال الشافعي: إذا تطهر فلبس ¬

_ (¬1) وهو المعرفة (2/ 108 - 109).

خفيه أن يمسح عليهما. قال: ورواه بندار وغيره، عن الثقفي بإسناده نحوه وقال فيه: إذا تطهر ولبس خفيه أن يمسح عليهما, ولم يقل في أوله: "أن يمسح على الخفين". ثم قال البيهقي: هذه الزيادة غلط من الربيع جعلها من قول الشافعي؛ وزاد في أول الحديث: "أن يمسح على الخفين". قال: وقد رواه حرملة، والمزني عن الشافعي وجعلا هذه الزيادة موصولة بالحديث, وليست من قول الشافعي. ولذلك رواه جميع من رواه ولم يذكره في أول الحديث: "أن يمسح على الخفين" وهذا حديث صحيح (¬1). قال الشافعي في سنن حرملة: وإنما أخذنا في التوقيت بحديث المهاجر وكان إسنادًا صحيحًا. وشد المسافر حديث صفوان بن عسال فقال الترمذي (¬2): سألت محمدًا -يعني البخاري- قلت أي حديث أصح عندك؛ في التوقيت في المسح على الخفين؟ فقال: حديث صفوان بن عسال، وحديث أبي بكرة حسن. "الرُّخْصَة": ضد العزيمة، وكأنها من الرخص ضد الغلاء، والرَّخْص الناعِمُ، رَخُصَ الشيء: فهو رخيص وأرخصه غيره. "وأن يمسح": في موضع نصب, لأنه مفعول "أرخص" أي أرخص له المسح. ¬

_ (¬1) ونقل الحافظ في التلخيص (1/ 157) تصحيحه عن الخطابي. وراجع شواهده في نصب الراية (1/ 168). (¬2) العلل الكبير (54 - 55).

"واللام" في "للمسافر": لام الملك أي أن الرخصة له لا لغيره، مثل قولك: الثوب لزيد، ويجوز أن تكون اللام لام أجل، أي أرخص المسح لأجل المسافر؛ وفي جعلها لام أجل زيادة معنى؛ وذلك أنه يكون قد يعرض لذكر العلة الداعية إلى الرخصة وهو السفر؛ بخلاف الأول. فأما اللام التي في "المقيم" فلا يحسن إلا أن تكون لام الملك، لأن سبب الرخصة في حقه منتفٍ وهو السفر، ومع ذلك فقد رخص له، فجعل اللامين معنى لمعنىً واحد أولى من جعلها لمعنيين مختلفين. "واليوم": الزمان الذي تكون الشمس فيه ظاهرة على وجه الأرض وهو والنهار بمعنىً، هذا هو الأصل. وقد جعل الشرع أول النهار منذ طلوع الفجر الثاني إلى أن تغيب الشمس هذا هو النهار عنده. "والليل" خلاف "النهار" وهو: الزمان الذي تكون الشمس فيه غائبة عن وجه الأرض. وقوله في النهار والليل وجه الأرض: إنما هو بالنسبة إلينا وجهها، وإلا فكل سطح الأرض وجهها، وإنما يخص كل قطر منها قومًا هم ساكنوه، فما كان عندهم فهو وجه الأرض، وما كان في مقابل جهتهم فهو ظهرها، وهذا اسم إضافي. وإنما قال: "لياليهن" ولم يقل لياليها, لأن نون التأنيث تَخُصُّ جَمْع القِلَّة، وحيث كان الأيام ثلاثة جاء بما يقتضي العدد القليل. "والليالي" جمع ليلة على غير قياس، لأنهم زادوا فيه ياء ولا ياء في الأصل، كما قالوا في أهل أَهلل، وقيل: إن الأصل فيه ليلات فحذفت. وأما "ليلة": فهو واحدة وجمعها ليل، مثل: تمرة وتمر، وهذا وإن كان

جمعًا فإن المحققين من النحويين لا يسمونه جمعًا، ويقولون: هو جنس ولهذا يقع على القليل والكثير، وجمعها الحقيقي ليلات. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش قال: رأيت أنس بن مالك أتى قباء، فبال، وتوضأ، ومسح على الخفين، وصلى. هذا الحديث: أخرجه الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك، وقد أخرجه مالك في الموطأ بالإسناد قال: إنه أتى قباء فبال؛ ثم أتي بوضوء فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ومسح على الخفين؛ ثم جاء المسجد فصلى. وقد أخرجه من رواية المزني، عن سفيان، عن رباح بن محمد العجلاني، عن أبيه قال: (رأيت) (¬1) أنس بن مالك بقباء فبال؛ ثم مسح ذكره بالجدار وتوضأ ومسح على خفيه، ثم دخل مسجد قباء. مسجد مشهور (¬2) وهو الذي أسس على التقوى في قول. وقباء يعرف ولا يصرف، فإن ذهب ذاهب إلى أنه قد روى (عن بعض) (2) أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: سبق الكتاب المسح على الخفين. فالمائدة نزلت قبل المسح المثبت بالحديث في غزوة تبوك. فإن زعم: أنه كان فرض الوضوء قبل الوضوء الذي مسح رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعده أو فرض وضوءه بعده فنسخ المسح، فليأتنا بفرض وضوءين في القرآن، فإنا لا نعلم فرض الوضوء إلا واحدًا. أو إن زعم: أنه مسح قبل أن يفرض عليه الوضوء، فقد زعم أن الصلاة بلا وضوء، ولا نعلمها كانت قط إلا بوضوء، فأي كتاب سبق المسح على الخفين؟ قلت: هذا الصحابي الذي ذكر الشافعي أنه روى عنه هذا الكلام، هو: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين جاء مكررًا بالأصل. (¬2) أي: قُباء.

علي ابن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- ولم يرو هذا الكلام عنه بإسناد موصول صحيح تقوم به الحجة (¬1)، وقد روى عنه من وجه صحيح تقوم به الحجة خلاف [....] (¬2):. الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر. وقال الأزهري: أراد بالجلاب هنا ماء الورد، وهو فارسي معرب, لأن الورد كل والماء أب، فلما عربوه أبدلوا الكاف جيمًا لقرب المخرجين. قال الأزهري: وذهب بعض أصحاب المعاني؛ إلى أنه الحلاب -بالحاء- وهو تحلب فيه الغنم. يعني أنه كان يغتسل في ذلك الحلاب، فصحف في هذا الحديث. في كتاب صحيح البخاري، إشكال ربما ظن الظان أنه قد تأوله على الطيب لأنه ترجم الباب فقال: من بدأ بالحلاب والطيب عند الغسل (¬3)، وفي بعض النسخ أو الطيب، ولم يذكر في هذا الباب غير هذا الحديث (¬4). وهذا يدل منه على أنه يجوز أن يكون أراد الجلاب -بالجيم- ويعضده ما فسره الأزهري في كتاب التهذيب وإنكاره على من ذهب إلى أنه بالحاء. وأما باقي الأئمة الذين أخرجوه، فإن مسلمًا (¬5) لم يترجم عليه بابًا يخصه، إنما جمع أحاديث الغسل في باب واحد، وذلك من فعله يدل على أنه أراد الآنية لا الطيب. وأما أبو داود (¬6) فأخرجه في باب الغسل من الجنابة، وذكره مع غيره من الأحاديث، فلا تعلق له بذكر الطيب. وأما النسائي (¬7): فأخرجه في باب استبراء البشرة في الغسل من الجنابة، وذكره مع غيره من الأحاديث، ولم يعرض لذكر الطيب. ¬

_ (¬1) وقال البيهقي في المعرفة (2/ 119): لم يصح عن علي ما رُوي عنه من إنكار المسح على الخفين. (¬2) وقع سقط في الأصل. (¬3) كتاب الغسل باب رقم (6) رقم الحديث (258). وانظر في ذلك بحثًا نفيسا للحافظ في الفتح (1/ 440) في شرحه لهذا التبويب. (¬4) ولفظه: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب فأخذ بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر، فقال بهما على رأسه". (¬5) أخرجه مسلم برقم (318). (¬6) أبو داود برقم (240). (¬7) النسائي (424).

إلا أن الحاء أشبه من الجيم وأولى، فإن العادة لمن أراد أن يستعمل الطيب؛ إما أن يستعمله بعد الغسل ليبقى أثره وفائدته حاصلة بعد الغسل؛ ومتى قَدَّمَ الطِّيبَ على الغسل؛ ذهبت فائدته بالغسل بعده لأنه يزيله. ويعضد ذلك: ما ذكره الخطابي في معالم السنن (¬1)، فإن الحلاب إناء يسع قدر حَلْبَةِ ناقةٍ، قال: وذكره محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه، وتأوله على استعمال الطيب في الطهور، قال: وأحسبه توهم أنه أراد المحلب الذي يستعمله الناس في غسل الأيدي، وليس هذا من الطيب في شيء، وإنما هو على ما فسرته لك. انتهى كلام الخطابي. وقوله: "ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه" أي أفاض بهما الماء على رأسه. فأجرى قال: مجرى فعل و "وسط الشيء" -بفتح السين وسكونها- ما كان بعده من جميع أطرافه سواء؛ إلا أنه بالفتح مخصوص بما لايتبين أجزاؤه بعضها من بعض؛ كالحلقة من الناس والعقد والسبحة، تقول: جلست وَسَطَ الدار والسفينة فتفتح، وجلست وَسْطَ الحلقة، والدُّرَّة وسط العقد فتسكن. وقيل: بالسكون هو طرف الشيء فلا يختص حينئذ بشيء، ويجرى في المتصل الأجزاء والمنفصل. وبالفتح: هو اسم لما بين طرفي كل شيء، قالوا: وكل شيء صلح فيه بين هو ساكن السين، ولم يصلح فيه بين فهو بالفتح، وربما سكن وليس بالوجه. "وأروى": أفعل من الرِّيِّ خلاف العطش، تقول: رَوِيتُ من الماء -بالكسر- أَرْوَي -بالفتح- رِيًّا وَريَّا ورِوىً وأرويتُه أنا. "والبشرة والبشر": ظاهر جلد الإنسان. ويريد بقوله: "أروى البشرة"، أنه أوصل الماء إلى جميع جلده؛ إلا وقد ¬

_ (¬1) معالم السنن (1/ 80).

وصل الماء إلى ما عليه من الشعر. "وأَنْ" في قوله: "حتى إذا ظن أَنْ قد أروى"، هي المخففة من الثقيلة، التقدير: حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته. "والظن" هنا يجوز أن يكون بمعنى العلم، وبمعنى الظن، فإنه من الأضداد؛ فإن كان بمعنى "العلم": فقد استيقن الطهارة، وإن كان بمعنى "الظن": فقد أتى بما يجب عليه شرعًا؛ فإنه لا يكلف زيادة على ذلك. "وسائر الشيء": باقيه وهو من "السؤر": البقية، وبعض من لا علم عنده يضعها موضع الجميع وليس بصحيح، وإن كان قد كثر استعمال ذلك في الألسنة قال الشنفري:- إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري. أي جسدي، وهو الباقي منه بعد الرأس. "والاستبراء": استفعال من البرء، وهو طلب براءة الشيء وخَلَاصُهُ مما يتهم به ويظن فيه، ومنه "استبرأت الجارية" إذا طلبت براء رحمها من الحمل، فالمعنى حتى إذا رأى أنه قد أزال ما كان [....] (¬1). وللتطهر به صورة تخصه والتراب به وله صورة تخصه وهذه كذلك للتطهر بها صورة تخصها؛ وهي التمسح بها وتتبع بها أثر الدم. وقوله "توضئي بها": يريد تطهري، فإن الوضوء طهارة. "والسِّدْرُ": وَرَقُ النبق، وهو غسُولٌ معروف. وقوله: "فتطهر" الأصل فتتطهر: فأدغم إحدى التائين في الأخرى. وقوله: "تَطَهَّرين وتَتَبِّعينَ" الأصل فيهما تَتَطَهَّرين وتَتَتَبَّعِين فأدغم طلبًا للخفة، ويجوز أن يكون بتخفيف الطاء من تطهرين، والتاء الثانية من تتبعين ¬

_ (¬1) وقع سقط في المخطوط.

ويكون قد حذف التاء الواحدة تخفيفًا. وقوله: "أو تبلغ الطهور" أي تنتهي وهو معطوف على فتحسن. وهذا الشك من أحد الرواة؛ كأنه شك هل قال: فتحسن أو تبلغ؛ ويجوز أن يكون من لفظ الحديث، أي أنه لما قال: فتحسن الطهور توهم أنها ربما لا تأتي به حسنًا فقال: أو تبلغ الطهور، فإن البلوغ إليه قد يكون حسنًا وقد لا يكون حسنًا. ويريد "بالحسن": الكمال والإتيان بجميع فرائضه وسننه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن غُسْلَ الحيض كغسل الجنابة، وتزيد عليه بالطيب فإن لم تجد طِيبًا فالماء كاف فيه. والمرأة التي سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغسل هي: أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، إحدى نساء بني عبد الأشهل، وتكنى أم عامر، وقيل أم سلمة وقيل: اسمها فكيهة، وهي مدنية مِن المُبايعات، ويقال: إنها بنت عم معاذ بن جبل أو بنت عمته، وكانت من ذوات العقل والدين، شهدت اليرموك وقتلت من الكفار بعمود فسطاط. وروى عنها: محمود بن عمر، ومهاجر، وشهر بن حوشب. ***

الباب السابع من كتاب الطهارة في التيمم

الباب السابع من كتاب الطهارة في التيمم وفيه ثلاثة فروع:- الفرع الأول: في ابتداء التيمم وكيفيته أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -[في بعض أسفاره، فانقطع عقد لي فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) على التماسه وليس معهم ماء فنزلت آية التيم". هذا حديث صحيح متفق عليه، قد أخرجه بطوله الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد: قالت: خرجنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش؛ انقطع عقد لي، فأقام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على التماسه وأقام الناس معه؛ وليسوا على ماء وليس معهم ماء؛ فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة! أقامت برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وبالناس؛ وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت عائشة: فجاء أبو بكر ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - واضع رأسه على فخذي وقد نام، فقال: حبست رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء! قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء اللَّه -عز وجل- أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فما يمنعني من التحريك (¬3) إلا مكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على فخذي، فنام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح على غير ماء، فأنزل اللَّه تعالى آية التيمم، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والاستدراك من المسند بترتيب السندي (127). (¬2) الموطأ (1/ 71 - 72 رقم 89). (¬3) في الموطأ: (التحرك).

فتيمموا؛ فقال أُسَيْدُ بن حُضَيْر: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك بالإسناد واللفظ. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك إسنادًا ولفظًا. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عبد اللَّه بن محمد النفيلي، عن أبي معاوية [عن هشام بن عروة] (¬4) عن أبيه، عن عائشة قالت: بعث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أسيد ابن حضير وأناسًا معه؛ في طلب قلادة أضلتها عائشة، فحضرت الصلاة فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له، فأنزل اللَّه آية التيمم، زاد النفيلي: فقال أسيد: يرحمك اللَّه ما نزل بك أمر تكرهينه إلا [جعل اللَّه وللمسلمين ولك فيه فرجًا] (¬5) [....] (¬6)، وللاستراحة. و"ظِفَار" بوزن فِطَام مكسورًا غير منون، موضع باليمن وهذا الجَزْعُ ينسب إليه. وأما أظفار فهو اسم لنوع من الجزع معروف (¬7). "والصعيد": التراب وقيل: هو وجه الأرض. وأراد "بالطَّيَّبِ" الطاهر، ومنه الاستطابة للاستنجاء وهو: تطييب الرجل نفسه بإزالة الأذى عنه. "والابتغاء": الطلب، ويجوز أن يكون منصوبًا ومرفوعًا، فأما النصب فلأنه ¬

_ (¬1) البخاري (334). (¬2) مسلم (367). (¬3) أبو داود (317). (¬4) ما بين المعقوفتين سقطت من الأصل، والاستدراك من سنن أبي داود. (¬5) من أبي داود. (¬6) وقع سقط بالمخطوط من ابتداء اللوحة (ب). (¬7) وللبيان نقول إن هذه الألفاظ جاءت في رواية أبي داود (320)، ويحسن أن أذكر طرفًا منه: "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عرس بأولات الحبس ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جزع ظفار".

مفعول، أي حبس رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الناس لابتغاء العقد، وأما الرفع فلأنه فاعل أي حَبَسَ ابتغاء العُقْدِ الناسَ. و"يعيط" من العيط، تقول اعياط ويعيط بمعنى. وقد جاء في رواية أبي داود: ولم يقبضوا من التراب شيئًا. وفي رواية النسائي: ولم ينفضوا. فإن صح الخلاف، فألأول: أراد أنهم لم يأخذوا بأيديهم من التراب شيئًا يقبض، إنما أخذوا منه ما علق بأكفهم عند ضربها بالتراب. والثاني: أراد أنهم لما ضربوا أكفهم في التراب، وعلق بها ما علق منه لم ينفضوها؛ ليذهب بعض التراب المتعلق بها، إنما أبقوها على حالتها. وكلا الأمرين سنة في التيمم، فإنه يستحب أن لا يتكلف أحد شيئًا من التراب بيده؛ أكثر مما يتعلق بها عند الضرب؛ وأن لا ينفض ما علق منه بها؛ وبيان المذهب في التيمم قد ذكرناه في حديث عائشة. وقال الشافعي عند ذكر هذا الحديث: لا يجوز على عمار إذ كان ذكر تيممهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الآية إلى المناكب إن كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه منسوخ عنده، إذ قد روى هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتيمم على الوجه والكفين، أو يكون لم يرو عنه إلا تيمُّمًا واحدًا، فاختلفت رواياته فتكون رواية ابن الصمة التي لم تختلف أثبت -ويريد برواية ابن الصمة الحديث الذي يجيء بعد-. قال: وإذا لم يختلف فأولى أن يؤخذ بها؛ لأنها أوفق لكتاب اللَّه تعالى من الروايتين اللتين رويتا مختلفتين، أو يكونوا لما سمعوا آية التيمم عند حضور صلاة فتيمموا، فاحتاطوا فأتوا على عامة ما يقع عليه اسم اليد؛ لأن ذلك لا يضرهم كما لا يضرهم لو فعلوه في الوضوء، فلما صاروا إلى مسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أنه يجزئهم عن التيمم أقل مما فعلوا.

وهذا أولى المعاني عندي، فرواية ابن شهاب من حديث عمار بما وصفت لك من الدلائل -واللَّه أعلم- وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث، عن الأعرج، عن ابن الصمة قال: مررت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد عليَّ؛ حتى قام إلى جدار فَحَتَّه بعصًا كانت معه ثم وضع يده على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليَّ السلام. قال الشافعي: وروى أبو الحويرث، عن الأعرج، عن ابن الصمة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بال فتيمم. أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث: عبد الرحمن بن معاوية، عن الأعرج، عن ابن الصمة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تيمم فمسح وجهه وذراعيه. وأخبرنا الشافعي بإلإسناد قال: مررت بالنبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يبول فتمسح بجدار، ثم تيمم وجهه وذراعيه. ذكر الشافعي هذا الحديث في ثلاثة مواضع من المسند، الرواية الأولى وهي أتمها: ذكرها في باب ذكر اللَّه على غير وضوء. والثانية: ذكرها في باب التيمم. والثالثة: ذكرها في كتاب اختلاف الحديث. والحديث في نفسه صحيح (¬1) متفق عليه، ¬

_ (¬1) نعم لكن بغير اللفظ المخرج. قال الحافظ في الفتح (1/ 527): الثابت في حديث أبي جهيم بلفظ "يديه" لا ذراعيه فإنها رواية شاذة مع ما في أبي الحويرث، وأبي صالح من الضعف. =

أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4). إلا أن رواية الشافعي هكذا وقعت، وفيها اختصار من جهة إبراهيم بن محمد، أو أبي الحويرث (¬5)، لأن الأعرج لم يسمعه من ابن الصمة، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة؛ وسنبين ذلك في روايات البخاري ومسلم وغيرهما. فأما البخاري: فأخرجه عن يحيى بن كثير، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج قال: سمعت عميرًا مولى ابن عباس قال: أقبلت أنا وعبد اللَّه بن يسار مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى دخلنا على أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري فقال أبو الجهيم: أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نحو بئر جمل، فَلقِيَهُ رجل فسلم عليه، فلم رد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه؛ ثم رد عليه السلام. وأما مسلم: فأخرجه تعليقًا عن الليث بن سعد، عن جعفر بن ربيعة بإسناد البخاري ولفظه. وأما أبو داود: فأخرجه عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن جده، عن جعفر بإسناد البخاري ولفظه. ¬

_ = وقال في موضع آخر من كتابه (1/ 530). الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حدث أبي جهيم وعمار، وما عداهما فضعيف أو مختلف في رفعه ووقفه والراجح عدم رفعه. (¬1) البخاري (337). (¬2) مسلم (369) معلقًا. (¬3) أبو داود (329). (¬4) النسائي (1/ 165). (¬5) وعزاه الحافظ في التلخيص (1/ 153) إلى الطبراني في "الأوسط" "والكبير" وقال: فيه إبراهيم بن محمد ابن أبي يحيى وهو ضعيف، لكنه حجة عند الشافعي، ورواه الشافعي في حديث ابن الصمة كما تقدم، وقال ابن عبد البر: أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة، وقد جمع البيهقي طرق حديث عمار فأبلغ.

وأما النسائي: فأخرجه عن الربيع سليمان، عن شعيب بن الليث عن أبيه مثل البخاري. وفي الباب: عن ابن عمر، وجابر، والبراء، ومهاجر بن قنفذ، وعبد اللَّه بن حنظلة. قال الترمذي: وأحسن شيء روي في هذا الباب حديث ابن عمر. "الجدار": الحائط وجمعه جُدُر، والجَدْرُ كذلك وجمعه جُدْران. "والحتّ": أخو الحك، وقد تقدم بيانه. وفي هذا الحديث فوائد منها: تعيين المسح على الذراعين، ومنها: أن التيمم لا يصح ما لم يعلق باليد غبار التراب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حت الجدار بالعصا, ولو كان مجرد الضرب كافيًا لكان لا يحتاج أن يحته. ومنها: استحباب الطهارة لذكر اللَّه تعالى، فإنه قد صرح به في حديث ابن عمر أنه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهارة". ولذلك جاء في حديث المهاجر بن قنفذ. ومنها: أن السلام وإن كان واجبًا؛ فالمسلم على الرجل في مثل هذه الحالة مضيع حظ نفسه، فلا يستحق رد سلامه. وفيه دليل: على كراهية الكلام عند قضاء الحاجة. وفيه دليل: على أن من أراد ذكر اللَّه في الحضر؛ وهو على غير طهارة ولا ماء معه فله أن يتيمم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن

يسار: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بئر جمل لحاجة، ثم أقبل فسلم عليه رجل، فلم يرد عليه حتى مسح يده بجدار ثم رد عليه السلام". هذا الحديث هكذا جاء مرسلًا، وهو طريق من طرق حديث ابن عمر، وقد تقدم في باب الاستطابة ذكره؛ وذكرنا ما يتعلق به فلا حاجة إلى إعادته. وقد أخرج الشافعي: من رواية الزعفراني عنه، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: كان يقول: التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين. وأخرج الشافعي أيضًا: في كتاب علي وعبد اللَّه -بلاغًا- عن هشيم، عن خالد، عن أبي إسحاق أن عليًّا قال: في التيمم ضربة للوجه وضربة للكفين. وقد روي ذلك عن علي وقال: وضربة للذراعين (¬1). ... ¬

_ (¬1) نقل المصنف -رحمه اللَّه- عن البيهقي في المعرفة (2/ 24 - 25) كلامه وتصرف فيه وأغفل قول البيهقي: هكذا حكاه في كتاب علي، وعبد اللَّه، وهو منقطع وراجع المعرفة.

الفرع الثاني: في التيمم في السفر القريب

الفرع الثاني في التيمم في السفر القريب أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر "أنه أقبل من الجرف؛ حتى إذا كان بالمربد تيمم فمسح وجهه ويديه، وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد الصلاة". قال الشافعي: "الجرف" قريب من المدينة. وأخبرنا الشافعي بالإسناد، أن ابن عمر تيمم بمربد "النَّعَمِ". وفي نسخة، "الغنم" وصلى العصر ثم دخل المدينة الحديث. ذكر الشافعي الرواية الأولى في كتاب التيمم. والثانية: في كتاب اختلافه مع مالك. وقد أخرجه مالك في الموطأ (¬1) بالإسناد، أنه أقبل هو وعبد اللَّه بن عمر من الجرف، حتى إذا كانا بالمربد؛ نزل عبد اللَّه فتيمم صعيدًا طيبًا فمسح بوجهه ويديه إلى المرففين ثم صلى. وقد أخرج الشافعي أيضًا: هذه الرواية عن مالك في غير المسند. "المربد": بكسر الميم وفتح الباء- موقف الإبل، من ربد بالمكان إذا أقام فيه. وفي رواية الشافعي: "مسح وجهه" وفي رواية مالك: "مسح بوجهه"، والمراد منهما سواء، وقد تقدم القول في ذلك بما فيه كفاية. وفي هذا الحديث من الفقه: ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 73 رقم 90). وقد علقه البخاري في صحيحه في كتاب التيمم باب (3) وانظر تعليق الحافظ عليه في الفتح (1/ 526).

أن السفر القريب يجوز فيه التيمم، وإن كان الماء قريبًا منه. وفيه: أن المسافر إذا كان قريبًا من الماء؛ وقد دخل وقت الصلاة؛ فالأولى أن يتيمم ويصلي؛ ولا يؤخر الصلاة إلى أن يصل الماء. وفيه أيضًا: أن المسافر إذا دخل عليه الوقت؛ وليس عنده ماء فتيمم وصلى؛ ثم وجد الماء والوقت باق أنه لا إعادة عليه. وقد روي عن ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تيمم وهو ينظر إلى بيوت المدينة، بمكان يقال له مربد النعم" (¬1). ... ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 185 - 186)، والحاكم في المستدرك (1/ 180)، والبيهقي في سننه (1/ 224). قال الحاكم: هذا حديث صحيح تفرد به عمرو بن محمد بن أبي رزين وهو صدوق ولم يخرجاه وقد أوقفه يحيى بن سعيد الأنصاري وغيره عن نافع، عن ابن عمر. قلت: أني له الصحة وقد خالف الأثبات وقد رووه موقوفًا؟ قال البيهقي في المعرفة (2/ 36): تفرد به عمرو بن محمد بإسناده هذا، والمحفوظ عن نافع عن ابن عمر من فعله كما تقدم. وقال الحافظ في "التلخيص" (1/ 145): قال الدارقطني في "العلل": الصواب ما رواه غيره، عن عبيد اللَّه موقوفًا، وكذا رواه أيوب ويحيى ابن سعيد الأنصاري وابن إسحاق وابن عجلان موقوفًا.

الفرع الثالث: في تيمم الجنب

الفرع الثالث في تيمم الجنب أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عباد بن منصور، عن أبي رجاء العطاردي، عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر [رجلًا] (¬1) كان جنبا أن يتيمم، ثم يصلي فإذا وجد الماء اغتسل". قال الربيع: وذكر حديث أبي ذر: "وإذا وجدت الماء فأمسه جلدك". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬2)، ومسلم (¬3) والنسائي (¬4). فأما البخاري: فأخرجه عن عبدان، عن عبد اللَّه، عن عوف، عن أبي رجاء بالإسناد، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا معتزلًا لم يصل في القوم، فقال: يا فلان، ما منعك أن تصلي في القوم؟ فقال: يا رسول اللَّه، أصابتني جنابة ولا ماء، قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك". وأخرجه: عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن عوف أطول من هذا، وفيه: ذكر سَفْرَةً سافرها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنهم ناموا عن صلاة الصبح، وطلبوا الماء فلم يجدوه. والحديث مشهور بطوله وفيه: "فلما انفتل من صلاته؛ إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم"؛ وذكر الحديث بتمامه. وأما مسلم: فأخرجه عن أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي، عن عبيد اللَّه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [جنبًا] وهو خطأ والصحيح من المسند [129] بترتيب السندي. (¬2) البخاري (344، 348). (¬3) مسلم (682). (¬4) النسائي (1/ 171).

ابن عبد المجيد، عن [سَلم] (¬1) بن زَرِير العُطَاردي، عن أبي رجاء، عن عمران، وذكر الحديث بطوله مثل البخاري؛ وذكر فيه "فصلى بنا الغداة؛ فاعتزل رجل من القوم لم يصل معنا؛ فلما انصرف قال له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "يا فلان، ما منعك أن تصلي معنا" قال: يا نبي اللَّه، أصابتني جنابة، فأمره رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فتيمم بالصعيد فصلى". وأما النسائي: فأخرجه عن سويد بن نصر، عن عبد اللَّه، عن عوف، عن أبى رجاء، مثل رواية البخاري المختصرة، إلا أنه أبدل لفظة "في" بـ "مع". وأما حديث أبي ذر، الذي أشار إليه الربيع، فإنه حديث صحيح؛ قد أخرجه أبو داود (¬2): في كتاب السنن, واحتج به على جواز تيمم الجنب إذا عدم الماء، ¬

_ (¬1) بالأصل [سالم] وهو تصحيف، و"سَلْم" أخرج له الشيخان وهو مقل الرواية وضعفه بعض النقاد. وانظر تهذيب الكمال (11/ 222). (¬2) أبو داود (332). وأخرجه الترمذي (124) من طريق خالد الحذاء وقال: روى هذا الحديث أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر، عن أبي ذر، ولم يسمِّه. وهذا حديث حسن صحيح. قلت: اختلف فيه على أبي قلابة على وجوه. ذكرها الدراقطني في العلل (6/ 252 - 255) ورجح طريق خالد الحذاء، وكذا فعل أبو زرعة في علل الحديث (1/ 11). وقال: أخطأ فيه قبيصة إنما هو أبو قلابة، عن عمرو بن بجدان عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ في التلخيص (1/ 154). ورواه ابن حبان والحاكم من طريق خالد الحذاء، كرواية أبي داود وصححه أيضًا أبو حاتم، ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان وقد وثقه العجلي. وغفل ابن القطان فقال: إنه مجهول. اهـ، وقد دافع ابن دقيق العيد وأجاب عن هاتين العلتين كما نقل عنه الزيلعي في نصب الراية (1/ 149). واستحسن قوله الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي (1/ 216)، وقال الشيخ الألباني في الأرواء (153): إسناده صحيح، وصححه ابن حبان، والدارقطني، وأبو حاتم، والحاكم، والذهبي، والنووي، وله شاهد من حديث أبي هريرة وسنده صحيح.

وهذا لفظه، قال: حدثني عمر بن عون، ومسدد قالا: أخبرنا خالد، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمرو بن بُجْدان، عن أبي ذر قال: اجتمعت غنيمة عند رسول اللِّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا ذر، اُبْدُ فيها" فبدوتُ إلى الربذة، فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست، فأتيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أبو ذر" فَسَكَتُّ، فقال: "ثكلتك أمك أبا ذر لأمك الويل" فدعا لي بجارية سوداء، فجاءت بِعُسٍّ فيه ماء، فسترني بثوب، واستترت بالراحلة، واغتسلت فكأني ألقيت عني جبلًا، فقال: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير". [قال] (¬1) مسدد: "غنيمة" من الصدقة. "الاعتزال": الانفراد من الجماعة والتَّنَخّي عنهم، اعتزل وتعتزل والعزل كله بمعنى، والاسم: العُزْلة. وقوله: "فأمسه جلدك": يريد به الاغتسال من الجنابة، فذكر لفظ الإمساس في موضع الغسل؛ لأنه إذا مس جلده الماء فقد فعل ما يجب عليه من إيصال الماء إلى بشرته وشعره، تقول: مسست الشيء وأمسه، فلما أراد أن يعديه إلى مفعول ثان عَدَّاه بالهمزة فقال: "أَمِسَّه جِلْدَكَ". وقوله: "ولا ماء" يريد ولا ماء عندي، أو ولا ماء أجد، فحذف ذلك ليكون النفي أبلغ وأعم، ويكون عذره عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أتم، لأنه إذا قال: ولا ماء فكأنه نفى وجوده نفيًا عامًّا؛ أي ليس له وجود البتة؛ إذ لو كنت أظن له وجودًا أو أعرف له مكانًا لقصدته فاغتسلت وصليت، فقال له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حينئذ "عليك بالصعيد"، أي: اقصده وتعمده، تقول: عليك زيدًا؛ وعليك بزيد، أي خذه والزمه. وأما الفرق بين قوله: "في القوم"، و "مع القوم": ¬

_ (¬1) بالأصل [فإن] وهو تصحيف والصواب هو المثبت كذا في السنن.

فإن معنى "مع" المصاحبة، ومعنى "في" [الظرفية] (¬1)، وكلا المعنيين مستعمل في هذا المقام. فمعنى "مع" أي ما منعك أن تصاحبهم في فعلهم وتتابعهم عليه؟. ومعنى "في" أي ما منعك أن تكون في جملة المصلين؟ فجعل اجتماع المصلين ظرفًا قد خرج هو منه. وقوله "اُبْدُ فيها" أي اخرج بها إلى البادية، تقول بَدَا الرجلُ يبدو بدوًا فهو بادٍ، إذا خرج إلى البادية وهي: البرية التي لاعمار فيها؛ والأمر منه "ابد" بحذف الواو للجزم. "والبداوة": -بفتح الباء- الإقامة في البادية -وقد تكسر- وكأنه من الظهور، وتقول: بدا الأمر إذا ظهر، وأبديته: أظهرته. "والمكث": الإقامة على الشيء واللبث تقول: مَكَث ومكُث بالفتح والضم، والاسم: المُكْث بضم، والمصدر: بالفتح. وقوله: فقال: "أبو ذر فسكت"، هذا كلام يقوله المنكر على الإنسان فعله الذي لا يرضى له به؛ فكأنه لما قدم عليه عرفه ما كان منه، فقال له ذلك، أي مثلك لا يؤتى من هذه الجهة؛ وقد دل عليه الرواية الأخرى لهذا الحديث؛ فإنه قال فيها: هلكتُ يا رسول اللَّه، ويعضده أنه - صلى الله عليه وسلم - أردفه بقوله: "ثكلتك أمك ولأمك الويل". "والثكل": فقد الأم ولدها، وامرأة ثاكل وثكلى وثكول بفتح الثاء. "والويل": كلمة عذاب ودعاء على المخاطب بها، تقول: ويل زيد وويل لزيد، وقد تقدم شرح ذلك مستوفيًا. ¬

_ (¬1) بالأصل [الظريفة] وهو خطأ.

"والعس": القدح الضخم. "والراحلة": البعير القوي على الأسفار والأحمال، هذا هو الأصل ثم كثر استعماله حتى أطلق على كل بعير. ومعنى قوله: "كأني ألقيت عني جبلًا"، يريد ما كان نحوه من ثقل الجنابة التي كانت تمنعه من العبادة؛ وتحول بينه ويين الطاعة. وهذا هل يختص بالأرواح دون الأجسام؟ ألا تراه جعل نفسه هالكًا فقال: هلكتُ يا رسول اللَّه؟! فسمى ترك الغسل وفوات الصلاة على الوجه المشروع هلاكًا, ولا ثقل أثقل من الهلاك. وقوله: "الصعيد الطيب" يريد الذي ينبت، كذا ذكر أهل التفسير (¬1). وفي ذلك دليل: على المنع من التيمم بغير التراب، كالجص والحجر وأشباه ذلك لأنه لا ينبت. وقيل: أراد "بالطيب": الطاهر. والذي ذهب إليه الشافعي وأكثر الأئمة من الصحابة والتابعين والمجتهدين: أن الجنب إذا لم يجد الماء تيمم وصلى. وقد حكي عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والنخعي: أنه لا يجوز له ¬

_ (¬1) وهو قول لبعض المفسرين ولم يتفقوا عليه. قال ابن جرير: أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها، ولا غراس. وقال آخرون: بل هو الأرض المستوية. وقال آخرون: بل الصعيد: التراب. وقال آخرون: الصعيد: وجه الأرض. وقال آخرون: بل هو وجه الأرض ذات التراب والغبار. وأولى ذلك بالصواب قول من قال: هو وجه الأرض الخالية من النبات والغروس والبناء المستوية جامع البيان (4/ 109).

التيمم، وقيل: إنهم رجعوا عن ذلك، وهو الصحيح. وقوله: "فإذا وجد الماء اغتسل" وهو المذهب وعليه الإجماع في الجنابة والحدث، أنه متى وجد المتيمم الماء؛ اغتسل إن كان جنبًا؛ وتوضأ إن كان مُحْدِثًا. وحكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي أنهما قالا: لا يلزمه استعمال الماء. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي خفاف ناجية بن كعب قال: قال عمار بن ياسر لعمر: أتذكر إذ مكثت أنا وأنت في الإبل، فأصابتني جنابة فتمعكت كما تتمعك الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له فضحك ثم قال: "يكفيك من ذلك التيمم". وهذا حديث صحيح، قد أخرجه أطول من هذا البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، النسائي (¬4). وأخرج الشافعي: في كتاب على وعبد اللَّه فيما خالف العراقيون عبد اللَّه بن مسعود، بلاغًا عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد اللَّه قال: الجنب لا يتيمم. قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا ويقولون: لا نعلم أحدًا يقول به. قال الشافعي: ونحن نروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الجنب أن يتيمم. يعني حديث عمران بن حصين المقدم ذكره. ¬

_ (¬1) البخاري (338). (¬2) مسلم (368). (¬3) أبو داود (322، 323، 324، 325، 326، 327). ثلاثتهم من طريق عبد الرحمن بن أبزى عنه بنحوه مطولًا. (¬4) النسائي (1/ 166)، من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن ناجية به.

الباب الثامن في الحيض والأستحاضة

الباب الثامن في الحيض والأستحاضة وفيه فصلان:- الفصل الأول في الحيض وفيه ثلاثة (¬1) الفرع الأول في أقل الحيض وأكثره أخبرنا الشافعي قال: أخبرني (¬2) ابن عُلَيَّة، عن الجلد بن أيوب، عن معاوية ابن قرة، عن أنس بن مالك أنه قال: "قرء المرأة، أو قرء حيض المرأة ثلاث أربع، حتى انتهى إلى عشر". قال الشافعي: وقال لي ابن علية: الجَلْدُ أعرابي لا يعرف الحديث. هذا الحديث ذكره الشافعي، في كتاب الحيض، أورده على لسان بعض من كلمه في أمر الحيض، فقال: ألست تريد حديث الجلد بن أيوب؟ قال: بلى، فأورد الحديث بإسناده، ثم ذكر أن الجلد ضعيف أعرابي لا يعرف الحديث، قال: وقال -يعني ابن علية- قد استحاضت امرأة من آل أنس بن مالك، فسئل ابن عباس عنها فأفتى فيها وأنس حي، فكيف يكون عند أنس بن مالك ما قلت مِنْ عِلْم الحيض؛ ويحتاجون إلى مسأله غيره فيما عنده فيه علم؟. ¬

_ (¬1) يعني: ثلاثة فروع. (¬2) زاد في الأصل بعدها [أخبرنا] وهي مقمحة.

وقد ضَعَّفَ الجَلْدَ بن أيوب جَمَاعَةٌ من العلماء منهم: حماد بن زيد، وابن عيينة، وابن المبارك، وأبو عاصم، وسليمان بن حرب، وإسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهم (¬1). "القَرْء": جمع قروء بفتح القاف -وهو الطهر عند الشافعي، والحيض عند أبي حنيفة، وهو من الأضداد. وقوله: "ثلاث أربع حتى انتهى إلى عشر"، أي ثلاث، أربع، خمس، ست سبع، ثمان تسع، عشر، وذلك أنه يريد أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن أقل الحيض يوم وليلة، هذا هو المشهور، وبه قال أحمد، وأبو ثور. وقيل عنه: إنه يوم، وبه قال داود. وقال أبو حنيفة والثوري: ثلاثة أيام. وقال أبو يوسف: يومان، وأكثر الثالث. وقال مالك: ليس لقلته حد، فيجوز أن يكون ساعة. ¬

_ (¬1) وقال البيهقي في المعرفة (1/ 169 - 170): والذي قاله الشافعي وحكاه عن ابن علية في تضعيف الجلد بن أيوب موافق لكلام غيره من حفاظ الحديث. وروينا عن حماد بن زيد: أنه كان يضعفه ويقول: لم يكن يعقل الحديث، وقال حماد: ذهبت أنا وجرير بن حازم إلى الجلد بن أيوب فحدثنا بحديث معاوية بن قرة عن أنس في الحائض فذهبنا نوقفه، فإذا هو لا يفصل بين الحائض والمستحاضة، وروي من أوجه أخر ضعيفة عن أنس مرفوعًا وموقوفًا، وليس له عن أنس بن مالك أصل، إلا من جهة الجلد بن أيوب، ومنه سرقه هؤلاء الضعفاء: اهـ. وذكره الذهبي في الميزان (1547): وقال: ضعفه ابن راهويه، وقال الدارقطني: متروك. وقال أحمد بن حنبل: ضعيف ليس يسوى حديثه شيئًا.

والشافعي إنما رجع في قوله إلى الموجود فإنه قال: "رأيت امرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يومًا لا تزيد عليه". قال: وأثبت لي عن نساء أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام. وعن نساء أنهن لم يزلن يحضن خمسة عشر، وعن امرأة -إذا كثر- أنها لم تزل تحيض ثلاثة عشر. وأما أكثر الحيض: فخمسة عشر يومًا، وبه قال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه، والأخرى سبعة عشر، وبه قال أبو ثور، وداود، وروى ذلك عن علي بن أبي طالب، وعطاء بن أبي رباح. وقال أبو حنيفة والثوري: عشرة أيام. وقال ابن جبير: ثلاثة عشر يومًا (¬1). ¬

_ (¬1) قال ابن رشد في بداية المجتهد (1/ 45): وهذه الأقاويل كلها المختلف فيها عند الفقهاء في أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر؛ لا مستند لها إلا التجربة والعادة، وكُلٌّ إنَّما قال من ذلك ما ظن أن التجربة أوقفته على ذلك، ولاختلاف ذلك في النساء عسر أن يعرف بالتجربة حدود هذه الأشياء في أكثر النساء، ووقع في ذلك هذا الخلاف الذي ذكرنا.

الفرع الثاني في ترك الصلاة

الفرع الثاني في ترك الصلاة أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة؛ فشكوت ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "افعلي ما يفعل الحاج؛ غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري". وأخبرنا الشافعي بالإسناد، عن عائشة وذكرت إحرامها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها حاضت؛ فأمرها أن تقضي ما يقضي الحاج؛ غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر. أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب الحيض (¬1)، والثانية في كتاب الرسالة (¬2). والحديث حديث صحيح متفق عليه (¬3)، له عدة طرق كثيرة طويلة مختصرة وقد أخرجه الجماعة كلهم من طرق عدة، فليس هذا موضع ذكرها، فإنه بكتاب الحج أشبه، وسيجيء باختلاف طرقه هناك إن شاء اللَّه تعالى. وإنما أخرجه الشافعي في كتاب الحيض إشارة، ليستدل به على ترك الحائض الصلاة. وذكره أيضًا: في كتاب ذكر اللَّه على غير وضوء, لأن الحائض ليست على وضوء، وقد نهاها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطواف وفيه ذكر اللَّه تعالى. وَأَمْرُ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عائشة أن "لا تطوفي بالبيت حتى تطْهُري": يدل على أن لا تصلي حائضًا لأنها غير طاهر ما كان الحيضُ قائمًا، وكذلك قال اللَّه ¬

_ (¬1) الأم (1/ 59). (¬2) الرساله (348). (¬3) البخاري (1650)، ومسلم (1211) [119].

{حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬1). وبيان ذلك: أن الطواف بالبيت كالصلاة إلا أنه يجوز فيه الكلام؛ ومن شرط صحته أن يكون الطائف على وضوء، ولأن الطواف فيه إذا كان فخصوصة بكل ركن من أركان البيت. وأخرج الشافعي في كتاب حرملة، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة ويزيد الرشك، عن معاذة، أن امرأة سألت عائشة فقالت: "أتقضي إحدانا الصلاة أيام محيضها؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قد كانت إحدانا تحيض على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا تؤمر بقضاء". وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة (¬2) إلا الموطأ. ... ¬

_ (¬1) البقرة: (222). (¬2) البخاري (321)، ومسلم (335)، وأبو داود (262، 263)، والترمذي (130)، والنسائي (1/ 191 - 192)، وابن ماجه (631).

الفرع الثالث في مباشرة الحائض

الفرع الثالث في مباشرة الحائض أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، أن عبد اللَّه (¬1) أرسل إلى عائشة يسألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: [لتشد] (¬2) إزارها على أسفلها؛ ثم يباشرها إن شاء. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك في الموطأ (¬3) بالإسناد واللفظ هكذا موقوفًا على عائشة. وقد أخرجه الجماعة عن عائشة مسندًا؛ فيما تحكيه عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ومباشرة نسائه. فأما البخاري (¬4): فأخرجه عن إسماعيل بن الخليل، عن علي بن مسهر، عن أبي إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا فأراد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضتها؛ ثم يباشرها؛ قالت: وأيكم يملك إربه كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يملك إربه؟ ". وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، ¬

_ (¬1) اختلفت النسخ في ضبط اسم المُرْسِل ففي الأصل هكذا (عبد الله) وفي نسخة السندي (عبيد الله)، وعند مالك من رواية يحيى بن يحيى بالتصغير، وكذا في الاستذكار (3/ 182)، وفي نسخة محمد بن الحسن بالتكبير. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (1241) عن ابن عمر ولم يسمه، وعبد الله وعبيد الله كلاهما أبناء عبد الله بن عمر وكلاهما محتمل، وهما ثقتان فالاختلاف غير قادح. والله أعلم. (¬2) بالأصل [لتشدد] وهو تصحيف ولم أره بهذا اللفظ في مصادر التخريج وكذا في المسند بترتيب السندى. (¬3) الموطأ (1/ 75 رقم 95). (¬4) البخاري (302). (¬5) مسلم (293).

وإسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا؛ أمرها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فتأتزر بإزار، ثم يباشرها. وفي أخرى: عن أبي بكر، وعلي بن حجر، عن علي بن مسهر، بإسناد البخاري ولفظه. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود نحو مسلم مختصرًا. وقال: ثم يضاجعها زوجها، وقال مرة: ثم يباشرها. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن بندار [عن] (¬3) عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مختصرًا نحوه. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم [و] (¬5) عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل، عن عائشة. وفي الباب: عن أنس بن مالك، وميمونة، وزيد بن أسلم، وعكرمة. "المباشرة": مفاعلة من إلصاق البشرة -وهي ظاهر جلد الإنسان- بشرة غيره، هذا هو الأصل؛ ثم استعير للجماع ومنه قوله تعالى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ} (¬6) أي: لا تجامعوهن، وذلك أن الحائض ¬

_ (¬1) أبو داود (268). (¬2) الترمذي (132)، وقال: حسن صحيح. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وبندار هو لقب محمد بن بشار يروى عن عبد الرحمن بن مهدي وعند الترمذي في المطبوع قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي. (¬4) النسائي (1/ 189). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وإثباته لازم، وقد ذكر النسائي تحت باب "مباشرة الحائض" الإسنادين منفصلين. (¬6) البقرة: [187].

لا يجوز جماعها، ويجوز مباشرتها. "والإزار": يريد به ما تشده على وسطها؛ مما يستر محل الجماع من منديل أو ثوب أورغيره. والسراويل في معناه، لأنه يختص بلباس ذلك المحل. وفي رواية البخاري: تتزر -بتشديد التاء- وإنما اللفظ تأتزر بالهمز لأنه تفعل من الإزار؛ و"فاء" الكلمة إنما هي همزة لا تاء، وهذا من تحريف الكُتَّابِ أو جهلة الرواة (¬1). وأما رواية مسلم: فلم تجىء فيها إلا "تأتزر"، وفي رواية للبخاري أيضًا (¬2). "في فَوْر حيضها": فور كل شىء أوله وابتداؤه. "والإِرْب": الذكر. وقوله: "أيكم يملك إربه" تريد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغلب هواه ويكف شهوته وأنتم لا تقدرون، وكان يباشر نساءه وهُنَّ حُيَّضٌ ولا يقع فيما هو حرام؛ وغيره لو هَمَّ بذلك ربما وقع في الحرام، تعني: إتيان الفرج في حال الحيض. ويُروى الأَرَب: بالفتح أي الحاجة. وهذا الحديث: أخرجه الشافعي في كتب أحكام القرآن (¬3). قال الشافعي: قال بعض أهل العلم بالقرآن في قول اللَّه -عز وجل- {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (¬4) أن تعتزلوهن يعني في مواضع ¬

_ (¬1) قال العيني في شرح البخاري (3/ 165) بعد نقل قول ابن الأثير: وقال ابن هشام: وعوام المحدثين يحرفونه فيقرءونه بألف وتاء مشددة، ولا وجه له لأنه افتعل من الإزار ففاؤه همزة ساكنة بعد همزة المضارعة المفتوحة وكذا الزمخشري أنكر الإدغام .. أهـ. وقال الحافظ في الفتح (1/ 481): أنكر أكثر النحاة الإدغام حتى قال صاحب المفصل: إنه خطأ لكن نقل غيره أنه مذهب الكوفيين، وحكاه الصغاني في مجمع البحرين. (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 482): وللكشميهيني "أن تأتزر" بهمزة ساكنة وهي أفصح. (¬3) أحكام القرآن ص52. (¬4) البقرة: [222].

الحيض، وكانت الآية محتملة لما قال، ومحتملة أن اعتزالهن اعتزال جميع أبدانهن؛ فدلت سنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على اعتزال ما تحت الإزار منها وإباحة فوقه وذكر الحديث. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الاستمتاع بما فوق الإزار؛ وهو ما فوق السرة وبما تحت الركبة جائز بالإجماع، وأما بينهما هو داخل تحت الإزار فإن الوطء فيه محرم؛ نص عليه في الأم وأحكام القرآن. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف. وذهب الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، ومحمد بن الحسن، وغيرهم: إلى جواز ذلك. وقد أخرج الشافعي من رواية المزني عنه، عن مالك؛ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كنت أُرَجِّلُ رأس رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائض". "الترجيل": التسريح والغسل. وقد أخرج في كتاب حرملة، عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - معتكفًا في المسجد؛ فأخرج إليَّ رأسه فغسلته وأنا حائض". وهاتان الروايتان من حديث عائشة. وهو حديث صحيح له طرق كثيرة؛ وقد أخرجه الجماعة (¬1) بأسرهم على اختلاف ألفاظهم واتفاقها. ¬

_ (¬1) البخاري (295)، ومسلم (297)، وأبو داود (2467 - 2469)، والنسائي (1/ 147 - 148)، وابن ماجه (633) ومالك في الموطأ (1/ 76 رقم 102).

الفصل الثاني في المستحاضة

الفصل الثاني في المستحاضة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: قالت فاطمة بنت أبي حبيش لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: إني لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصَلِّي". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما الموطأ (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد اللَّه بن محمد بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، عن وكيع، عن هشام، عن أبيه. وفي أخرى: عن يحيى بن يحيى، عن عبد العزيز بن محمد، وأبي معاوية، عن قتيبة، عن جرير، وابن نمير، عن أبيه، عن خلف بن هشام، عن حماد بن زيد، كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن أحمد بن يونس، وعبد اللَّه بن محمد النفيلي، عن زهير، عن هشام بن عروة. وفي أخرى: عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن هنَّاد، عن وكيع وعبدة وأبي معاوية، عن هشام بن عروة. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبدة ووكيع وأبي معاوية، عن هشام بن عروة. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 77 رقم 104). (¬2) البخاري (306). (¬3) مسلم (333). (¬4) أبو داود (282، 283). (¬5) الترمذي (125) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (1/ 184).

وله روايات كثيرة لهذا الحديث؛ بزيادة ألفاظ ونقص. قولها: "إني لا أطهر" تريد أن الدم لا ينقطع عنها وأنه متصل فلا تزال حائضًا وطهارة الحائض إنما هي مع انقطاع الدم، فكَنّتْ بعدم الطهر عن اتصال الدم وجريانه، وهذا من أحسن آداب الخطاب، ثم لما كانت قد علمت أن الحائض تدع الصلاة؛ وأنها ليست واجبة عليها؛ ورأت أن ذلك الحكم مقرون بالدم؛ استفتَتْهُ قالت: "أفأدع الصلاة؟ " ظَنًّا منها أن هذا حكم مطرد مع رؤية الدم، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنما ذلك عرق" سائل قد انفجر، وليست بالحيضة المعتادة التي تعرفها النساء عامة. "والحيضة" هاهنا مكسورة الحاء، تريد بها الحالة المألوفة. فأما بالفتح: فإنها المرة الواحدة والأول أشبه. وقوله: "إذا أقبلت الحيضة" يريد: الحيض المعتاد المألوف الذي هو من عادتها، فاتركي الصلاة ولا تصلي، فإن ذلك هو الحيض الذي تسقط معه الصلاة، فإذا ذهب قدرها من الأيام التي كنت تحيضين فيها قبل هذه الحالة فاغسلي الدم وصلى. والشافعي ذكر هذا الحديث في الحيض؛ وذكره في كتاب "ذكر (¬1) اللَّه تعالى على غير وضوء", لأن الصلاة أكثرها [ذكر] (¬2) اللَّه تعالى. وقول رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة" إنما قاله عن علم منه أنها تميز بين دفع دمها؛ فتراه زمانًا أسود ثخينًا وذلك في إقبال حيضها؛ ثم تراه مشرقًا رقيقًا وذلك حين إدبار حيضها؛ ولا يقول ذلك إلا وهو يعرف إقبالها وإدبارها، بعلامة تفصل لها بين الأمرين، ولذلك قد جاء في حديث آخر قال لها: "إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف" وهذا القول يبين لها أن الدم ¬

_ (¬1) زاد في الأصل قبل هذه الكلمة لفظ الجلالة (الله) وأظنه سبق قلم. (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [ذكرها] وهو خطأ.

إذا تميز كان الحكم له، وإن كانت لها أيام معلومة فإن اعتبار الشيء بذاته وبخاص صفاته أولى من اعتباره بغيره من الأشياء الخارجة عنه؛ فأما إذا عدمت التمييز فالاعتبار بالأيام. وبيان المذهب: أن من رأت الدم واتصل بها أكثر من خمسة عشر يومًا في سن المحيض، فقد اختلط حيضها باستحاضتها, وللمستحاضة أربعة أحوال. أحدها: أن تكون مميزة لا عادة لها. والثانية: أن تكون معتادة لا تمييز لها. والثالثة: أن تكون لها عادة وتمييز. والرابعة: أن تكون مُبْتَدَأة لا عادة لها ولا تمييز. أما المميزة: فإن كان يختلف دمها فترى بعضه أسود شديدًا، وبعضه مشرقًا أو يكون بعضه أحمر وبعضه أصفر؛ فإن هذه ترد إلى تمييزها ويكون الدم الأسود حيضها؛ بشرط أن لا يزيد على خمسة عشر يومًا ولا ينقص عن يوم وليلة؛ والأصل في التمييز حديث فاطمة هذا. فأما المعتادة التي لا تمييز لها: فهي امرأة لها أيام تحيضها في كل شهر فلما كان بعض الشهور اتصل بها الدم وعم خمسة عشر يومًا بصفة واحدة؛ فإنها ترد إلى أيام عادتها؛ فيكون حيضها تلك الأيام والباقي استحاضة؛ والأصل فيه حديث أم سلمة الثاني بهذا الحديث (¬1). وأما التي لها عادة وتمييز: فظاهر مذهب الشافعي أن التمييز يقدم على العادة؛ وهو مذهب الأوزاعي، ومالك، وأبي إسحاق. وقال قوم من أصحاب الشافعي: بل ترد إلى العادة، وهو مذهب أبي حنيفة ¬

_ (¬1) أي: الحديث الآتي في هذا الباب ويأتي بعد قليل.

والثوري. وأما من لا عادة لها ولا تمييز ففيه قولان:- أحدهما: ترد إلى أقل الحيض يوم وليلة، وتقضى صلاة أربعة عشر يومًا، وبه قال أحمد -في إحدى الروايات عنه- وأبو ثور وزفر. والثاني ترد إلى غالب عادة النساء ست أو سبع، وإليه ذهب عطاء، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وإحدى روايات أحمد. وقال مالك: نقول: عادةُ لِدَاتها، وتستظهر بثلاثة أيام. وقال أبو حنيفة: تحيض أكثر الحيض. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن سليمان بن يسار، عن أم سلمة: أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فاستفتت لها أم سلمة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر؛ قبل أن يصيبها الذي أصابها؛ فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل؛ ثم لتستثفر بثوب ثم [تصلي] (¬1) ". أخرج الشافعي هذا الحديث في كتاب اختلافه مع مالك، وفي كتاب الحيض، وهو حديث صحيح، أخرجه الموطأ (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). فأما الموطأ: فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما أبو داود: فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، [و] (¬5) عن قتيبة ويزيد بن ¬

_ (¬1) بالأصل [لتغتسل] وهو تحريف، والتصويب من المسند بترتيب السندي ومصادر التخريج. وعند بعضهم [لتصل]. (¬2) الموطأ (1/ 77 رقم 105). (¬3) أبو داود (277,276,275,274). (¬4) النسائي (1/ 182 - 183). (¬5) سقط من الأصل، والصواب إثباته وراجع السنن.

خالد بن عبد اللَّه بن موهب، عن الليث. وعن القعنبي، عن أنس بن عياض، عن عبيد اللَّه. وعن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن مهدي، عن صخر بن جويرية كلهم عن نافع، عن سليمان، إلا أنه قال في الأولى: عن سليمان، عن أم سلمة، وفي الباقي: عن سليمان، عن رجل، عن أم سلمة. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن مالك بالإسناد واللفظ. وهذا الحديث هكذا جاء مرسلًا، فإن سليمان بن يسار لم يسمعه عن أم سلمة؛ إنما سمعه من رجل من أم سلمة كما ذكره أبو داود. وفي بعض الطرق عن مرجانة، عن أم سلمة (¬1). تقول: "هرقت الماء" أهريقه -بفتح الهاء- هراقة أي صببته، وأصله أراق يريق إراقة، وتقول: أهراق يهراق إهراقًا فهو مُهْرَقٌ، ويريد بقوله: "يهراق الدم": الاستحاضة. وقوله: "تحيضهن" أي تحيض فيهن، فأضاف الفعل إلى الظرف نفسه، فجعل الظرف هو الحيض اتساعًا، لأن الحيض يقع فيه، على ذلك قول اللَّه تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬2) وقوله -عز وجل- {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (¬3) أي في يوم الدين، والمكر في الليل والنهار. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في التلخيص (1/ 170): قال البيهقي: هو حديث مشهور إلا أن سليمان لم يسمعه منها وفي رواية لأبي داود، عن سليمان: أن رجلًا أخبره عن أم سلمة وللدارقطني عن سليمان أن فاطمة بنت أبي حُبيش استحيضت فأمرت أم سلمة، وقال المنذري: لم يسمعه سليمان. وقد رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن سليمان، عن مرجانة عنها. وساقه الدارقطني من طريق صخر بن جويرية، عن نافع، عن سليمان أنه حدثه رجل عنها. (¬2) الفاتحة: (4). (¬3) سبأ: (33).

و "من" في قوله: "من الشهر" للتبعيض لأن الحيض في بعض الشهر، ويجوز أن تكون التي للتبيين؛ يريد الأيام التي كانت تحيض فيهن من كل شهر. وقوله: "قبل أن يصيبها الذي أصابها" يريد الاستحاضة, لأن دم الحيض كان يأتيها قبل حدوث ذلك بها؛ فاعتبارها بأيام حيضها المعتاد أولًا. "وخَلَفْتُ الشيء" أخلفه -مخففًا-: إذا جئت بعده، وخَلَّفْتُه أخلِّفه -مشددًا- إذا تركته بعدك. والمراد في الحديث: له أول وذلك أنها أذهبت تلك الأيام وقضتها؛ وانفصلت عنها وبقيت بعدها، لأن الأيام تبقى بعدها. "والاستثفار": مِن الثفر وهو الذي يجعل تحت ذنب الدابة ليحفظ الرَّحْل على ظهرها. وصورة الاستثفار: أن تشد المرأة وسطها بخرقة أو حبل ونحو ذلك، ثم تحشو فرجها قطنًا أو خرقة أو ما يجري مجراها؛ ثم تضع فوق ذلك منديلًا على فم الفرج؛ وتشد طرفيها في الخرقة أو الحبل الذي شدت به وسطها من بين يديها ومن خلفها ليمنع بذلك الدم أن يجري أو يقطر، وقد تبدل من الثاء ذال فيقال: تستذفر وكذلك الذفر. والذي ذهب إليه الشافعي في حكم المستحاضة؛ قد ذكرناه في حديث عائشة قبل هذا، ونحن نزيده هاهنا بيانًا:- وذلك أنا قد قلنا إنها المعتادة التي لاتمييز لها، وأنها تُرَدُّ إلى عادتها في أيام حيضها؛ فيكون حيضها تلك الأيام والباقي استحاضة، ثم إنها تغتسل مرة واحدة ويصير حكمها حكم الطواهر في وجوب الصلاة والصوم؛ وسائر الأحكام الشرعية التي لا يجوز للحائض فعلها؛ إلا أنها تتوضأ لكل صلاة، فإذا المستفاد من العادة قدر الحيض ووقته -واللَّه أعلم.

أخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد اللَّه بن محمد ابن عقيل، عن إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن عمه عمران بن طلحة، عن أمه حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فجئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه فوجدته في بيت أختي زينب فقلت: يا رسول اللَّه، إن لي إليك حاجة [.......] (¬1). في شعره من الجنابة بالتخلل. "والحفن": أخذك الشيء براحة الكف والأصابع مضمومة، وملء كل كف حفنة؛ قاله الأزهري. وقال الجوهري: "الحفنة" ملء الكف من طعام، و"حفنت الشيء" إذا جَرَفْتَهُ بِكِلْتَىْ يديك، ولا يكون إلا من الشيء اليابس كالدقيق ونحوه. وهذا التخصيص غير معروف بدليل هذا الحديث؛ فإنه قال: "حفن على رأسه ثلاث حفنات"، و"الحفنات" جمع سلامة الحفنة وفاؤها في الواحد ساكنة، وفي الجمع مفتوحة، وهو قياس مطرد في الاسم الصحيح دون المعتل؛ والحفنة يجوز أن تكون اسمًا للمأخوذ بالكف، ويجوز أن تكون المرة الواحدة. "والأذي": كناية عن النجاسة التي تعلق بالجسد. ومعنى قوله "غسل عنه بشماله" أي غسل الأذي عن جسده بشماله. "والغرفات": جمع غرفة؛ فإن كانت غينها وراؤها مفتوحتين فهي جمع غرفة مفتوحة الغين مثل: قصَعَة وقصَعَات، كما قلنا في حفنة وحفنات. وإن كانت غينها مضمومة فهي جمع غُرفة مضمومة الغين. وفيها ثلاث لغات: غُرُفات -بضم الغين والراء- وغُرْفات بضم الغين وسكون الراء، وغُرَفات بضم الغين وفتح الراء. والذي ذهب إليه الشافعي في كيفية غسل الجنابة: فيه ما هو واجب وسنة. فأما الواجب: فهو النية، واستيعاب الجلد بالماء. ¬

_ (¬1) وقع سقط في المخطوط وانظر تمام الحديث في المسند برقم (141) ..

أما النية: فحكمها في الغسل حكم الوضوء. وأما الاستيعاب:- فيجب إيصال الماء إلى جميع بشرة الإنسان، وإلى جميع شعره، ولا يجب المضمضة والاستنشاق في الجنابة. وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وابن أبي ليلى: هما واجبتان فيهما. وقال داود (¬1) وأبو ثور: الاستنشاق واجب دون المضمضة. وأما السنة: فالأكمل في الغسل هو أن يبتدئ فيسمى اللَّه تعالى، ثم يغسل يديه ثلاثًا قبل أن يدخلهما الإناء، ثم يصب الماء بيمينه على شماله؛ فيغسل ما على بدنه من أذى إن كان ثم يتمضمض ثلاثًا؛ ويستنشق ثلاثًا؛ ويتوضأ وضوء للصلاة. وقيل: إنه يؤخر غسل رجليه إلى آخر الغسل، وبه قال أبو حنيفة (¬2) ثم يدخل أصابعه العشر في الإناء؛ فيأخذ الماء بها فيُشْرب بها أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات من الماء، ثم يفيض على سائر جسده؛ ويتعهد معاطف (¬3) بدنه، ويبتدئ بميامنه ثم بمياسره، ثم يمر يديه على ¬

_ (¬1) بالأصل [أبو داود] وهو تصحيف والصواب هو المثبت. وداود هو صاحب المذهب وانظر المسأله في المحلى (2/ 50). (¬2) وهو قول الجمهور قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/ 287): ذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين في الغسل. وعن مالك: إن كان المكان غير نظيف فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم، وعند الشافعية في الأفضل قولان: قال النووي: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أن يكمل وضوء لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك. (¬3) العِطْف: المنكب، قال الأزهري: منكب الرجل عطفه، وإبطه: عطفه والعُطوف: الآباط، وعِطْفا الرجل والدابة: جانباه عن يمين وشمال شقاه من لدن رأسه إلى وركه. اللسان مادة. عطف.

جميع بدنه ليصل الماء إلى جميع شعره وبشره، ثم يتحول من موضعه فيغسل قدميه، ويستحب له التكرار ثلاثًا مثل الوضوء. وحكي عن مالك، والمزني أنهما قالا: إمرار اليد إلى حيث يصل واجب. وأما نقض الضفائر فسيرد بيانه في حديث أم سلمة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغرف على رأسه ثلاثًا وهو جنب". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، والنسائي (¬3). فأما البخاري: فأخرجه عن محمد بن بشار قال: حدثني غندر، عن شعبة، عن مخول بن راشد، عن محمد بن علي، عن جابر قال: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يفرغ على رأسه ثلاثاً". وفي أخرى: عن أبي نعيم، عن معمر بن يحيى، عن أبي جعفر قال: قال لي جابر: أتاني ابن عمك -يعرض بالحسن بن محمد ابن الحنفية- فقال: كيف الغسل من الجنابة؟ فقلت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذ ثلاث أكف ويفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده". فقال لي الحسن: إنى رجل كثير الشعر، فقلت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر منك شعرًا. وأما مسلم: فأخرجه عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر نحو رواية البخاري الثانية، وقال: كان شعر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -[] (¬4) فقالوا: إن أرضنا أرض باردة فكيف بالغسل؟ ¬

_ (¬1) البخاري (255، 256) (¬2) مسلم (328 - 329) (¬3) النسائي (1/ 207). (¬4) الظاهر أنه وقع سقط في موضعين بالأصل. الأول: تمام الفقرة [كان شعر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أكثر من شعرك وأطيب]. الثاني: ثم انتقل المصنف إلى رواية أخرى من غير الطريق الأول وجاءت متقدمة قبل رواية الباب وفيها: [أن وقد ثقيف سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ...].

فقال: "أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثًا". وأما النسائي: فأخرجه عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، بإسناد البخاري الأول ولفظه. وفي الباب: عن جبير بن مطعم. إنما قال ثلاثًا ولم ويعين من أي شيء هي، لأنه قال: "كان يغرف على رأسه"، فعلم أن الثلاث هي عدد المرات من الغرف، ولذلك حذف منها التاء, لأنه الغرفات وهي مؤنثة. وقوله: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر منك شعرًا" أي أنه مع كثرته كان يكتفي بثلاث غرفات، فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه. وقد جاء في رواية "وأطيبهم بدنًا" أطيب هنا للمبالغة في الطهارة والنظافة، وأنه كان مع كثرته واكتفائه بالغرفات الثلاث وقلتها أنظف وأطهر؛ فعبر بالطيب عن ذلك. وقوله في رواية مسلم الأخرى: "أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثًا" من أحسن الأجوبة وألطفها وأبلغها وأكفاها مع الزيادة التي فيها من تسهيل الأمر عليهم بالإقتداء به والاتباع لفعله، وإنه -مع كونه مشرعًا ومحتاطًا في أمور دينه أكثر من كل أحد من أمته- يكتفي بهذه الإفراغات الثلاث ولا يزيد عليها فما الظن بكم فأنتم المقتدون بي والسالكون طريقتي، والمهتدون بهديي. قولهم بهذا الجواب أقل ما يجب عليهم في الغسل؛ وأن ذلك لا يضر مع برد البلاد لعلته حتى لا يظنوا لو قال لهم: يجب عليكم استيعاب الشعر والبشر غسلًا؛ أن الواجب عليهم الإكثار من الماء فكانوا يفعلونه فيتضرَّرون به لشدة البرد.

وأخبرنا الشافعي: عن ابن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن [سعيد] (¬1) بن أبي سعيد، عن عبد اللَّه بن رافع، عن أم سلمة قالت: سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول اللَّه إني امرأة أشد ضفر رأسي؛ فأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: "لا إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات من ماء؛ ثم تفيضين (¬2) عليك الماء فتطهرين أو قال "إذا أنت قد طَهُرْتِ". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6). فأما مسلم: فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، وابن أبي عمر، كلهم عن ابن عيينة. قال إسحاق: أخبرنا سفيان بالإسناد وذكر الحديث، إلا أنه قال: أفأنقضه [لغسل الجنابة] (¬7). وفي أخرى له: أفأنقضه للحيضة والجنابة؟ فقال: "لا" وفي أخرى: أفأحله فأغسله من الجنابة؟ وأما أبو داود: فأخرجه عن زهير بن حرب، وأحمد بن عمرو بن السرح، عن سفيان بالإسناد، عن أم سلمة: أن امرأة من المسلمين، وقال زهير: إنها قالت وذكره نحوه، وقال فيه: "ثم تفيضي [على سائر] (¬8) جسدك فإذا أنت قد طهرت". ¬

_ (¬1) بالأصل [سعد] وهو تصحيف، وسعيد هو المقبري. والتصويب من مصادر التخريج. (¬2) جاءت مكررة بالأصل. (¬3) مسلم (330). (¬4) أبو داود (251، 252). (¬5) الترمذي (105) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (1/ 131)، وفي الكبرى (243). (¬7) بالأصل [ولقل من ماء] وهي عبارة غريبة وأظنها وقعت سهوًا أو غفلة من الناسخ؛ والمثبت من رواية مسلم. (¬8) بالأصل [عائر] وهو تصحيف والمثبت من مطبوعة السنن.

وفي أخرى: أن امرأة جاءت إلى أم سلمة قالت: فسألت لها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بمعناه قال فيه: "اغمزي فيه قرونك عند كل حفنة". وأما الترمذي: فأخرجه عن محمد بن أبي عمر، عن سفيان بإسناد الشافعي ولفظه، إلا أنه قال: "فإذا أنت قد تطهَّرْت". وأما النسائي: فأخرجه عن سليمان بن منصور، عن سفيان بالإسناد، قالت: قلت يا رسول اللَّه، إني امرأة شديدة ضفيرة (¬1) رأسي أفانقضها عند غسلها من الجنابة؟ قال: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء، ثم تفيضين على جسدك". وفي الباب: عن عائشة. "الشد": الإيثاق، شده إذا أوثقه، وهو من الشدة القوة، والمراد به هنا: تقوية فتل الضفيرة؛ وإدخال بعض خصلها في بعض. "والضفر": مصدر ضفرت الشعر أضفره ضفرًا، وهو نسجه وإدخال بعضه في بعض "والضفيرة" الذؤابة المضفورة، والضفائر جمعها. "والنقض": خلاف البناء، والمراد به في الحديث حل الضفيرة، وقد جاء في رواية الشافعي والترمذي: فأنقضها بإسقاط حرف الاستفهام (¬2)، وباقي الروايات بإثباتها والمعنى فيهما سواء، إلا أن الأصل إثبات حرف الاستفهام؛ لأنه حرف من حروف المعاني التي جيء بها لأجل المعنى المطلوب، وأما من حذفه فإنما حذفه لكثرة الاستعمال ودلالة الحال عليه وفهم المخاطب لغرض [.......] (¬3). قال الشافعي: وليسوا يقولون لهذا -يريد بعض العراقيين وإنما أورده فيما خالفوا عبد اللَّه بخبر آخر وغيره، ولا يقبلون منا أمثال ذلك. ¬

_ (¬1) هذا لفظ الكبرى، وفي المجتبى (.. أشد ضفر ....). (¬2) وكذا رواية مسلم. (¬3) وقع سقط بالمخطوط.

الفرع الأول في نوم الجنب

الفرع الثالث (*) في نوم الجنب لم يرد في هذا المعنى في المسند حديث، وإنما الشافعي قال في القديم: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمر، أنه قال: ذكر عمر بن الخطاب لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "توضأ واغسل ذكرك ثم نم". هذا حديث صحيح، أخرجه الجماعة (¬1). وقال الشافعي أيضًا: وأخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: إذا أصاب أحدكم المرأة ثم أراد أن ينام قبل أن يغتسل، فلا ينام حتى يتوضأ وضوءه للصلاة (¬2). وقال الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ توضأ وضوءه للصلاة". وهذا حديث صحيح، أخرجه الجماعة (¬3) كلهم. قال الشافعي في البويطي: ومن أراد النوم وقد أصابته الجنابة؛ فليتوضأ قبل أن ينام وضوءه للصلاة، وليس ذلك على الحائض. ¬

_ (¬1) البخاري (290)، ومسلم (306)، ومالك في الموطأ (1/ 67 رقم 76)، وأبو داود (221)، والنسائي (1/ 140). كلهم من طريق مالك به. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 68 رقم 77) بإسناده ولفظه. (¬3) البخاري (286)، ومسلم (305)، وأبو داود (222، 223)، والنسائي (1/ 138 - 139). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفرع الأول"، والله أعلم.

الفصل الثالث في غسل الحيض

الفصل الثالث (*) في غسل الحيض أخبرنا الشافعي؛ أخبرنا سفيان، عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي، عن صفية بنت شيبة [عن عائشة رضي اللَّه عنها] (¬1) قالت: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله عن الغسل من الحيض؟ فقال: "خذي فِرْصَةً من مسك فتطهري بها" فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان اللَّه سبحان اللَّه":- واستتر بثوبه -تطهري بها؛ فاجتذبتها وعرفت الذي أراد؛ فقلت لها: تتبعي بها آثار الدم -يعني: الفرج". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5). فأما البخاري: فأخرجه عن يحيى، عن ابن عيينة بالإسناد نحوه. وفي أخرى: عن وهيب [عن] (¬6) منصور بالإسناد، أن امرأة من الأنصار قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف أغتسل من الحيض؟ قال: "خذي فرصة مُمَسَّكَة وتوضئي ثلاثًا"، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحيا فأعرض بوجهه وقال: "توضئي بها"، فأخذتها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما مسلم: فأخرجه عن عمرو بن محمد الناقد، وابن أبي عمر جميعًا، عن ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند. (¬2) البخاري (314، 315). (¬3) مسلم (332). (¬4) أبو داود (315،314). (¬5) النسائي (1/ 135 - 136، 207). (¬6) الأصل [بن] والصواب ما أثبتناه، وكذا جاء في رواية البخاري. (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفصل الثالث"، والله أعلم.

ابن عيينة وذكر الحديث وفيه: "أثر الدم"، "وآثار الدم" معًا. وفي أخرى عن أحمد بن سعيد الدارمي، عن حِبَّان، عن وهيب، عن منصور بالإسناد نحو حديث البخاري. وفي أخرى: عن محمد بن المثنى، وابن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن إبراهيم بن المهاجر قال: سمعت صفية تحدث عن عائشة أن أسماء سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غسل الحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دَلْكًا شديدًا حتى يبلغ شؤون رأسها؛ ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها" فقالت أسماء: فكيف أتطهر بها؟ فقال: "سبحان اللَّه! تطهرين بها" فقالت عائشة:- كَأنها تخفي ذلك تتَّبعين أثر الدم. وسألته عن غسل الجنابة؟ فقال: "تأخذ ماءً فتطهَّر فتحسن الطهور" -أو "تبلغ الطهور"- ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء" فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. وله روايات أخرى. وأما أبو داود: فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن سلام بن سليم، عن إبراهيم بن مهاجر، عن صفية، عن عائشة قالت: دخلت أسماء على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وذكر نحو رواية مسلم، إلا أنه لم يذكر الجنابة. وفي أخرى: عن مسدد، عن أبي عوانة، عن ابن مهاجر بالإسناد وذكر نحوه، إلا أنه قال: "فرصة ممسكة" قال مسدد: كان أبو عوانة يقول: فرصة، وكان أبو الأحوص يقول: [قرصة] (¬1). ¬

_ (¬1) بالأصل [قريصة] وهو تصحيف، والمثبت من مطبوعة السنن وعون المعبود، وتهذيب السنن, وقد ذكرها المصنف على الجادة في شرحه ويأتي بعد قليل إن شاء الله

وأما النسائي: فأخرجه عن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن، عن سفيان بالإسناد ونحوه. وفي أخرى: عن [الحسن] (¬1) بن محمد، عن عفان، عن وهيب، عن منصور بالإسناد: أن امرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول اللَّه، كيف أغتسل عند الطهور؟ قال: "خذي فرصة ممسكة فتوضئ بها" قالت: كيف أتوضأ بها؟ قال: توضئيء بها" قالت: كيف أتوضأ بها؟ قالت: ثم إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سبح وأعرض عنها، ففطنت عائشة لما يريد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. فأخذتها، فجبذتها إلىَّ، فأخبرتها بما يريد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. "الحيض": عبارة عن جريان الدم من فرج المرأة، في أوقات معلومة ونوب معتادة، ولا يكاد يختلف على المرأة، فإن اختلف أو دام جريانه؛ وتغيرت أوقاته فهو استحاضة. قال الأزهري: ومسيل الاستحاضة عن عرق يقال له: العاذل، تقول: حاضت المرأة تحيض حيضًا ومحيضًا ومحاضًا فهي حائض وحائضة. أيضًا عن الفراء، ونساء حُيَّضٌ، فالمحيض يكون اسمًا ويكون مصدرًا. "والحيضة": بالكسر الاسم وجمعها حيض وحيضات ساكنة الياء، فأما الحيضة بالفتح فالمرة الواحدة من دفع الحيض، والجمع حَيْضات -مفتوحة الحاء ساكنة الياء أيضًا- وقد تقدم بيان ذلك. والفِرْصة: -بكسر الفاء وسكون الراء وبالصاد المهملة- قطعة من صوف أو قطن أو خرقة، وهي من الفرص: القطع. وقوله: "من مسك" ظاهره أن الفرصة هي من المسك أي قطعة منه، وعليه المذهب. ¬

_ (¬1) بالأصل [الحسين] وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه. والحسن هو: ابن محمد بن الصباح الزعفراني. روى له الجماعة سوى مسلم. وانظر تهذيب الكمال (6/ 310) وقد جاء في سنن النسائي على الجادة، وكذا تحفة الأشراف (12/ 398).

وقول الفقهاء: إن الحائض بعد انقطاع الدم إذا اغتسلت يستحب لها أن تأخذ يسيرًا من مسك فتطيب به مواضع الدم، ليذهب به ريحه، قالوا: "والفِرْصَة" القطعة من كل شيء. وأهل اللغة: لم يطلقوا هذا القول، وإن كان القياس يقتضيه لأنه من الفرص: القطع. فإن لم تجد المسك أخذت طيبًا غيره، وهذا من غسل الحيض عند الفقهاء، عملًا بهذا الحديث. ولذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فرصة ممسكة" أي مطيبة بالمسك وهذا ظاهر في اللغة، أي تأخذ قطعة من صوف أو قطن أو خرقة فتطيبها بالمسك، وتتبع بها أثر الدم فيحصل منه فوائد الطيب والتنشيف وإزالة الدم بالمسح. وهذه الرواية أوضح من الأولى وأبين، واتفق عليها البخاري ومسلم، وأبو داود، والنسائي. والأولى لم يخرجها أبو داود، وقد حكى أبو داود في بعض طرقه عن أبي الأحوص قرصة -بالقاف- يعني شيئًا يسيرًا يؤخذ من المسك مثل: القرصة بطرف الإصبعين: الإبهام والسبابة، ولكنه لم يذكر "من المسك" لما أورده في آخر حديثه الذي ذكر فيه "فرصة ممسكة" كما سبق. قال الخطابي في شرح هذا الحديث، في معالم السنن (¬1): وقد تأول بعضهم "الممسكة" على معنى الإمساك دون الطيب، يقال: أمسكت (¬2) الشيء ومسكته يريد أنها تمسكها بيدها فتستعملها، وقال: متى كان المسك عندهم بالحال التي يمتهن؛ فيتوسع في استعماله وفي هذا الموضع (¬3). وهذا الأمر وإن كان حكاه الخطابي والحالة تناسبه، ولكن الصحيح الأول وهو الذي ذهب إليه الفقهاء والمحدثون من الصدر الأول، وهم أعرف بتأويل ¬

_ (¬1) معالم السنن (1/ 97). (¬2) في المعالم: (مسَّكت). (¬3) في المعالم: (هذا التوسع).

الأحاديث ومعانيها, ولا يجوز مخالفتهم لقياس مناسب وأمر محتمل لا حاجة إليه ولا ضرورة -واللَّه أعلم. وقوله: "تتبعي بها أثر الدم" يريد أن يعصر بالفرصة الأماكن التي نالها الدم فتنضحه بها؛ وتوصله إليها لتزيله منها. ومعنى قوله: "سبحان اللَّه" في هذا المقام: التعجب من سؤالها وأن هذا ليس مما يخفى عن أحد حتى تكرر السؤال عنه. وفيه معنى الاستحياء من سماع هذا السؤال لما فيه من إظهار حالة المرأة في حيضها وذِكْرِ فرجها، وكثيرًا ما يستريح المتعجب والمستحيي إلى أمثال هذا اللفظ، فيقول مرة: سبحان اللَّه، ومرة: لا إله إلا اللَّه، ونحو ذلك، من الألفاظ التي يستراح إليها في المخاطبات؛ ولهذا جاء في بعض روايات هذا الحديث: "فأعرض بوجهه واستتر بيده" حياء من هذا الخطاب. "والجبذ": لغة في الجذب، وقيل هو مقلوب منه. "والشئون": هو أصل فتائل الرأس وملتقاها، وأحدها: شأن مهموز ومنها تجيء الدموع؛ قاله الجوهري. وقال ابن السكيت: الشانآن عرقان ينحدران من الرأس إلى الحاجبين. والمراد بالشئون في هذا الحديث: جميع منابت الشعر التي يجب إيصال الماء إليها في الغسل، فاستعمل بعض الرأس في معنى كله. وقوله: "تطهري بها" يريد اعملي بها ما تعملين بما من شأنه أن يتطهر به، فإن الماء يتطهر به. الضربة والدفعة: أي أن الشيطان قد عك (¬1) هذا الدم؛ وليس بدم حيض معتاد، يعني: أن الشيطان قد وجد بذلك طريقًا إلى التلبيس عليها في أمرها وشأن دينها ووقت طهرها وصلاتها حتى أنساها ذلك، فصار في التقدير كأنه ركضة نالها من ركضاته. ¬

_ (¬1) أي: فجَّره وانظر اللسان مادة: عكك.

"والميقات": مفعال من الوقت، يريد الوقت الذي تعيده من الحيض. وهذا الحديث بخلاف حديث عائشة وحديث أم سلمة، وإنما هو للتي لا عادة لها ولا تمييز. فكذلك قد ذكر الشافعي على الأحكام الثلاثة ثلاثة أحاديث كل حديث لحكم منها؛ ورد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها إلى العرف الظاهر، والأمر الغالب من أحوال النساء، كما حمل أمرها في محيضها في كل شهر مرة واحدة؛ على الغالب من عاداتهن ويدل على ذلك قوله: "كما تحيض النساء ويطهرن" ميقات حيضهن وطهرهن. وهذا أصل في قياس أمر النساء؛ بعضهن على بعض في باب الحيض، والحمل؛ والبلوغ، وما أشبه ذلك من أمرهن. وقوله: "ستًّا أو سبعًا" يحتمل أن يكون ذلك على غير وجه التخيير بين الستة والسبعة؛ لكن على معنى اعتبار حالها بحال من مثلها؛ وفي مثل سنها من نساء أهل بيتها؛ فإن كانت عادتها مثلها منهن أن تقعد سِتًّا قعدت ستًّا؛ وإن سبعًا فسَبْعًا؛ ويحتمل: أن تكون هذه المرأة قد ثبت لها فيما تقدم من أيام ستة أو سبعة، إلا أنها قد نسيتها فلا تدري أيتهما كانت؛ فأمرها أن تتحرى وتجتهد وتبني أمرها على ما تتبينه من أحد العددين. ومن ذهب إلى هذا استدل بقوله: "في علم اللَّه" أي فيما علم اللَّه من أمرك من ستة أو سبعة -واللَّه أعلم. أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة قال: أخبرني الزهري، عن عروة، عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت سبع سنين فسألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنما هو عرق وليست بالحيضة" وأمرها أن تغتسل وتصلي؛ فكانت تغتسل لكل صلاة وتجلس في المركن فيعلو الدم". وقد رواه المزني عن الشافعي نحوه، وقال في آخره: "وكانت تجلس في

مركن؛ فتعلو حمرة الدم، ثم تخرج فتصلي". رواه الشافعي: عن عمرو بن أبي سلمة الدمشقي، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة بن الزبير وعمرة. ورواه المزني أيضًا: عن الشافعي، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن الزهري، عن عمرة. هذا حديث صحيح متفق عليه؛ أخرجه الجماعة إلا الموطأ. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن إبراهيم بن المنذر، عن معن، عن [ابن] (¬2) أبي ذئب، عن ابن شهاب. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن محمد بن جعفر بن زياد، عن إبراهيم بن سعد. وعن ابن المثنى، عن سفيان بن عيينة، كلاهما عن الزهري، عن عمرة. وعن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن عمرو، عن ابن شهاب، عن عروة، وعمرة. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن ابن أبي عقيل، ومحمد بن سلمة المصريين، عن ابن [وهب] (¬5)، عن عمرو بن الحارث، عن الزهري، عن عروة. وفي رواية: عن عروة، وعمرة. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري، عن عروة. ¬

_ (¬1) البخاري (327). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل؛ والتصويب من رواية البخاري، وهي الجادة. (¬3) مسلم (334). (¬4) أبو داود (288 - 292). (¬5) بالأصل [ذئب] وهو تصحيف، والتصويب من مطبوعة السنن وتحفة الأشراف (12/ 69). (¬6) الترمذي (129) وقال: قال قتيبة: قال الليث: لم يذكر ابن شهاب أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر أم حبيبة أن تغتسل عند كل صلاة، ولكنه شيء فعلته هي.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه مثل الترمذي. قال الشافعي: قد رواه [غير] (¬2) الزهري هذا الحديث: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل لكل صلاة". ولكن رواه عن عمرة بهذا الإسناد والسياق، والزهري أحفظ. قال: وقد روى فيه شيئًا يدل على أن الحديث غلط؛ قال: تترك الصلاة قدر أقرائها؛ وعائشة تقول: الأقراء: الأطهار. قال الليث: لم يذكر ابن شهاب أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر أم حبيبة بنت جحش؛ أن تغتسل عند كل صلاة؛ ولكن شيء فعلته هي. قال الشافعي: في حديث حمنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "إن قويت أن تجمعي بين الظهر والعصر بغسل؛ وبين المغرب والعشاء بغسل؛ وصلي الصبح بغسل"؛ وأعلمها أنه أحب الأمرين إليه؛ وأنه يجزئها الأمر الأول أن تغتسل عند الطهر من الحيض؛ ثم لم يأمرها بغسل بعده. قال الخطابي: ليس كل مستحاضة يجب عليها الاغتسال لكل صلاة؛ وإنما هي فيمن تبتلي وهي التي لا تمييز لها؛ أو كانت لها أيام فنسيتها؛ فهي لا تعرف موضعها ولا عددها؛ ولا وقت انقطاع الدم عنها من أيامها المتقدمة؛ فإذا كان كذلك فإنها لا تدع شيئًا من الصلاة؛ وكان عليها أن تغتسل عند كل صلاة؛ لأنه قد يمكن أن يكون ذلك الوقت صادف زمان انقطاع دمها؛ فالغسل عليها عند ذلك واجب ومَنْ كان هذا حالها من النساء؛ لم يأتها زوجها في شيء من الأوقات لإمكان أن تكون حائضًا. وعليها أن تصوم شهر رمضان كله مع الناس؛ وتقضيه بعد ذلك؛ لتحيط ¬

_ (¬1) النسائي (1/ 119). (¬2) بالأصل [عن] وهو تصحيف؛ والتصويب من الأم (1/ 62) وهو الموافق للسياق.

علمًا أنها قد استوفت عدد ثلاثين يومًا؛ في وقت كان لها أن تصوم فيه. وإن كانت حاجَّةً؛ طافت طوافين بينهما خمسة عشر يومًا؛ لتكون على يقين من وقوع الطواف في وقت حكمها فيه حكم الطهارة؛ وعلى مذهب من رأى أكثر أيام الحيض خمسة عشر يومًا. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن سُميّ مولى أبي بكر أن القعقاع بن حكيم وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة؟ فقالت: تغتسل من ظهر إلى ظهر؛ وتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت. هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1) وقال: روى عن ابن عمر، وأنس بن مالك: تغتسل من ظهر إلى ظهر. وكذلك رواه داود وعاصم، عن الشعبي، عن امرأته، عن قمير، عن عائشة، إلا أن داود قال: "كل يوم"، وفي حديث عاصم "عند الظهر"، وهو قول سالم ابن عبد اللَّه، والحسن، وعطاء. وقال مالك: إني لأظن حديث ابن المسيب "من ظهر إلى ظهر" إنما هو: "من طهر إلى طهر"؛ ولكن الوهم دخل فيه (¬2). فأخرج الشافعي في كتاب علي وعبد اللَّه: عن ابن علية، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن علي قال: المستحاضة تغتسل لكل صلاة. أورده الشافعي فيما ألزم العراقيين من خلاف على، فرع "في سلس البول"، ¬

_ (¬1) أبو داود (301). (¬2) قال الخطابي في معالم السنن (1/ 79): ما أحسن ما قال مالك، وما أشبهه بما ظنه من ذلك لأنه لا معنى للاغتسال من وقت صلاة الظهر إلى مثلها من الغد، ولا أعلمه قولًا لأحد من الفقهاء، وإنما هو من طهر إلى طهر وهو وقت انقطاع دم الحيض.

قال الشافعي: ذكر سفيان بن عيينة، عن معمر، عن الزهري، أن زيد بن ثابت سلس عليه البول، فكان يتوضأ لكل صلاة. وهذا هو المذهب، أنه لا يجوز له الجمع بين صلاتي فرض بوضوء واحد ولا طوافى فرض؛ وعليه أن يستطهر في شد رأس ذكره؛ أو يحشو في ثقبه قليل قُطْنٍ -إن أمكن- نحوًا مما تستعمله المستحاضة من الشد والاستثفار، واللَّه أعلم. ***

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: في الفرائض وأحكامها وفيه خمسة أبواب الباب الأول في صلاة المنفرد وأحكامها وفيه ثمانية فصول الفصل الأول في فرض الصلاة وكيفيتها أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه أنه سمع طلحة بن عبيد اللَّه يقول: جاء أعرابي من أهل نجد ثائر الرأس، يُسْمَعُ دَوِيُّ صوته ولا يُفْقَهُ ما يقول؛ فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلوات في اليوم والليلة" قال: على غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" وذكر له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صيام شهر رمضان، قال: هل عليَّ غيره؟ قال: "لا إلا أن تَطَوَّعَ" فأدبر الرجل وهو يقول: واللَّه لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أفلح إن صَدَقَ". وأخبرنا الشافعي بالإسناد، قال: جاء رجل إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يسأل عن الإسلام؟ وذكر إلى قوله: "إلا أن تطوع" الأولى. أخرج الرواية الأولى: في كتاب الرسالة (¬1). والثانية: في كتاب استقبال القبلة مختصرة. وقد روى الزعفراني عن الشافعي الرواية الأولى. ¬

_ (¬1) الرسالة رقم (344).

وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5). فأما مالك: فأخرجه بالإسناد ولفظ الرواية الأولى؛ وزاد "وذكر له رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "الزكاة" فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوَّع" قال: فأدبر الرجل وهو يقول. وذكر الحديث. وأما البخاري: فأخرجه عن إسماعيل، عن مالك بالإسناد، وذكر "الزكاة" أيضًا. وأخرجه أيضًا: عن قتيبة بن سعيد، عن إسماعيل بن جعفر، عن أبي سهيل، بالإسناد أن أعرابيَّا جاء إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثائر الرأس فقال: يا رسول اللَّه، أخبرني ماذا فرض اللَّه عليَّ من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس إلا أن تطّوَّع شيئًا" قال: أخبرني بما فرض اللَّه من الصيام؟ فقال: "شهر رمضان إلا أن تطوَّع" قال: أخبرني بما فرض اللَّه عليَّ مِن الزكاة؟ قال: فأخبره رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بشرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك (¬6) لا أتطوع شيئًا؛ ولا أنقص مما فرض اللَّه عليَّ شيئًا، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق". وأما مسلم: فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، بالأسناد وذكر رواية مالك. وفي أخرى: عن يحيى بن أيوب، وقتيبة، عن إسماعيل، عن أبي سهيل، بالإسناد، قال في آخره: "أفلح إن صدق" أو "أدخل الجنة إن صدق". وأما أبو داود: فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، بإسناده ولفظه وقال في الزكاة: فهل على غيرها؟ قال: لا [إلا] (¬7) أن تطوع، وقال فيه: "أفلح وأبيه ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 159 رقم 94). (¬2) البخاري (46، 1891). (¬3) مسلم (11). (¬4) أبو داود (391، 392). (¬5) النسائي (1/ 226 - 228). (¬6) زاد في رواية البخاري (بالحق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة السنن.

إن صدق، دخل الجنة وأبيه إن صدق". وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، بالإسناد وبتمامه. وفي الباب: عن عمر، وأنس، وأبي ذر، وأبي هريرة، وابن عباس. "الأعرابي": واحد من الأعراب منسوبًا إليهم، وقد تقدم بيانه فيما سبق من الكتاب. وقوله: "ثائر الرأس": أي شعث الشعر بعيد العهد بالتسريح والغسل والدهن؛ فهو منتفش الشعر قائم إلى جهة فوق. "والدَّوِيّ": وَقْعُ الأصوات في الأذُنِ كدوي النحل، وهمهمة المتكلم إذا لم يفصح بالكلام، ولذلك إذا كان يتكلم أو يقول شيئًا عن بعد فلا يُفْهَمُ قوله، وهذا معنى قوله "ولا يُفْقَهُ ما يقول"، أي لا يفهمه. "والفقه": الفهم، فَقُهَ الرَّجُلُ يَفْقُهُ -بالضم- فيهما، إذا صار فقيهًا أي عالماً فَهِمًا، فهو فعل قاصر. فأما "فَقِهَ" -بالكسر- فمستقبله يَفْقَهُ -بالفتح-، وهو مُتَعَدٍّ تَقول: فقهت المسألة أي عرفتها وفهمتها. و"الإسلام": معروف وهو في الأصل الانقياد والطاعة، وبينه وبين الإيمان فرق، وهو أن الإيمان ما كان بالقلب لأنه تصديق، والتصديق محله القلب، والإسلام باللسان. وللعلماء فيهما خلاف كبير ومذاهب متنوعة، وقد يقع أحدهما موقع الآخر اتساعًا. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلوات في اليوم والليلة" مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو خمس صلوات، أي الإسلام خمس صلوات؛ وهذا إخبار بأحد أنواع الإسلام. ولما كان أحد أنواعه ذكر بعده الصومَ والزكاةَ؛ ولم يأت بجميع أنواع

الإسلام لوجهن:- أحدهما: أن الذي ذكرهم أنواعه، ولذلك قدم الأهم منها وهو الصلاة؛ لأنها أشرف العبادات، ولأنها تتكرر كل يوم وليلة خمس مرات، ثم أردفها بالصوم الذي يتكرر كل سنة؛ ثم أردفه بالزكاة التي تجب على من له مال. والظاهر من حال الأعراب أن الأكثر منهم لم تكن تجب عليهم الزكاة للفقر المستولي على أكثرهم، ولعل المخاطب قد كان يَعْلَمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - من حاله أنه لا مال له أو لأنه بزيّه وهيئته وكونه قد جاء من أهل نجد ثائر الرأس، وذلك يباين حال المترفين وأصحاب الأموال. والوجه الثاني: أن هذا السائل كان مسترشدًا طالب هدى؛ والمرشد والهادي ينبغي له أن يوصل السائل إلى الغرض، بألطف وجه وأقرب طريق بما هو أنفع للسائل وأحسن عنده وقعًا وأن يرفق به ولا يبسط القول له ويعدد كل ما يلزمه فيثقل عليه وينفر منه، وأن يكون جوابه على حسب حال السائل؛ ألا تراه قد قال - صلى الله عليه وسلم - وقد سأله رجل أي الإسلام أفضل؟ قال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (¬1). وقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" (¬2). وقال -وقد سأله إنسان فقال له: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك- فقال: "قل آمنت بالله ثم استقم" (¬3). وقال: "من صلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا؛ فهو المسلم" (¬4). وأمثال هذه الأحاديث الدالة، على أنه قالها مناسبة للحال التي قالها فيه، ويجيب حسب ما يقتضيه حال السائل والسامع. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (12)، ومسلم (39). كلاهما من حديث عبد الله بن عمرو. (¬2) أخرجه البخاري (11)، ومسلم (42). كلاهما من حديث أبي موسى الأشعري. (¬3) أخرجه مسلم (38) من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي. (¬4) أخرجه البخاري (391) من حديث أنس بن مالك.

وقوله: "هل على غيرها؟ فقال: لا" يريد من الصلوات لا من غيرها من الفرائض، ولذلك أردفه بقول رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "الصيام". وقوله: "إلا أن تطوع" أصله تتطوع فسكن التاء الثانية وأدغمها في الطاء لقرب المخرجين، ويجوز أن يكون قد حذف إحدى التائين اختصارًا، لتخف الكلمة وأبقى التاء الأخرى، فتكون الطاء مخففة وقبلها تاء واحدة؛ وهذا مطرد في الكلام. و"التطوع": ما ليس بفرض ولا سنة راتبة، إنما هو تقرب من العبد إلى اللَّه تعالى بما يراه؛ من صلاة وصوم وغير ذلك من العبادات وإن كان كل ما عدا الفرض تطوعًا إلا أنه خص التطوع بما لم ترد به سنة معينة، وهو تَفَعُّلٌ من الطاعة: الانقياد والمتابعة. وقوله: "شهر رمضان" فَعَلَان من الرمض؛ وهو شدة الحر ووقْع الشمس على الأرض، والأرض رمضاء؛ وقد رمض يومنا يرمض رمضًا. قالوا: إنما سمي بذلك لأنهم لما نقلوا الأسماء من اللغة القديمة؛ سموا المشهور بأوقات الأزمنة؛ فصادف ذلك شدة الحر فسمي به، وقيل: بل هو اسم مرتجل لهذا الشهر. وقيل: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى؛ ولهذا يقال فيه: "شهر رمضان" أي: شهر اللَّه ولا يقال رمضان بغير شهر (¬1). و"الزكاة": اسم من التزكية وهي الطهارة، زَكَّى ماله تزكيةً إذا أدَّى عنه زكاته. ¬

_ (¬1) وهو قول ضعيف لبعض أهل العلم. وقد رده البخاري في صحيحه في كتاب "الصوم" وبوب بباب: (هل يقال رمضان أو شهر رمضان؟ ومن رأى كله واسعًا). ثم ساق بسنده عدة أحاديث وفي بعضها ذكر رمضان مفردًا. قال الحافظ في التعليق (4/ 135) (فتح). أشار البخاري بهذه الترجمة إلى حديث ضعيف رواه أبو معشر نجيح المدني، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مرفوعاً "لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء اللَّه، ولكن قولوا: شهر رمضان".

"والفَلَاح": الفوز والنجاة والنقاء، أفلح يفلح إفلاحًا، والفَلَاحُ الاسم. و"الجنة": البستان والعرب تسمِّي النخيل جنة، وأصله من الالتفاف وطول الشجر، قالوا: جن النبت: إذا طال والتف وخرج زهرهُ، ثم خُصَّ بهذا الاسم جنة الدار الآخرة فصار لها كالعلم، فإذا قيل: الجنة علم أنه لا يراد إلا تلك، فصار الاختصاص لها وكثرة إطلاقه عليها كأنه لا يجوز أن يطلق على غيرها؛ لأجل اللبس في المراد. وقوله: "أفلح إن صدق ودخل الجنة إن صدق" قد جاء في هذا اللفظ بفعل ماض، وفلاحه دخوله الجنة، إنما يكون مستقبلًا ولا سيما دخول الجنة فإنما يقع بعد الموت، وفي بيان ذلك ثلاثة أقوال:- أحدها: وهو المعتبر أنه جعله لخلوصه في نيته وصدقه في قوله، بمنزلة من قد دخلها، حتى كأنه قد رآه فيها أو داخلًا إليها فأخبر عنه، ثم إنه أعقبه بقوله: "إن صدق" حتى لا يتكل الناس في أمر كوني إلى ظاهر هذا اللفظ، وعلقه على الشرط المتأخر، ليعلموا أن سبب دخوله إنما هو صدقه فيما أخبر عنه، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - وإن علم منه ذلك؛ فإنه يعلم أن أصحابه لم يكونوا يعلمونه فعرفهم ماجهلوا وعلمه دونهم. القول الثاني: أنه فعل ماض أريد به مستقبل، وقد جاز ذلك في الثاني: كما جاءوا بفعل مستقبل وأرادوا به الماضي؛ والأول كقول الهذلي: تقول له كفيتك كل شيء ... أَهَمَّكَ ما تخطتني الحتوفُ أي: أكفيك. والثاني كقول زياد بن الأعجم:

فإذا مررتَ بقبره فاغقِر له ... كوم الهجان وكل طِرف سابحِ وَانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح أي: فلقد كان. والقول الثالث: أنه فعل تقدم على حرف الشرط، والنية فيه التأخير كما أن النية في قوله: "إن صدق" التقديم؛ ألا ترى أن "أفلح" و"دخل" هو جواب الشرط، لأن التقدير إن صدق أفلح وإن صدق دخل الجنة، وإنما قدم الجواب لفهم المعنى، [والنحويون] (¬1) يقولون: إن هذا وأمثاله ليس جوابًا للشرط، ولكنه دال على جواب الشرط سادٌّ مسَدَّهُ، والجواب محذوف تقديره أفلح إن صدق أفلح، لأن الجواب محله التأخير؛ وهو يتنزل منزلة الجزء من الجملة وجزء الجملة إذا كان متأخرًا لا يتقدم عليها؛ وإنما يظهر هذا إذا كان الجواب فعلًا مستقبلًا، حتى يظهر فيه الإعراب فإنه يرتفع بعد أن كان مجزومًا، تقول: أقوم إن قمت، فترفع أقوم وكان قبل التقديم مجزومًا، تقول: إن قمت أقم، فلما ارتفع في حالة التقديم دل على أنه غير الجواب وأنه ساد مسد الجواب. وقد ذهب قوم من النحاة إلى أنه لا يجوز ذلك مع الماضي، قالوا: لا يقال: قمت إن قمت، ولا أخطأت إن خالفتني على هذا التقدير؛ الذي قلناه في التقديم والتأخير؛ ويجوز ذلك مع المستقبل تقول: أقوم إن قمت. وهذا ليس بصحيح، فإن ذلك قد جاء في القرآن العزيز، قال اللَّه تعالى {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا في مِلَّتِكُمْ بَعْدَ [إِذْ] (¬2) نَجَّانَا الله مِنْهَا} (¬3)، وكثيرًا ما قد جاء ذلك في الحديث. وقد كان سبق لي قديمًا؛ كلام وجيز في رسالة ضمنتها مسألة سئلت عنها، ¬

_ (¬1) بالأصل [النحيون] وهو تصحيف. (¬2) بالأصل [ا] وهو خطأ. (¬3) الأعراف: [89].

من مسائل الطلاق المعلق بالشرط، وهي إذا قال لزوجته: طلقتك إن دخلت الدار، هل يقع الطلاق وإن لم تدخل الدار، أو لا تطلق حتى تدخل الدار؟ وأشبعت القول فيها، فلتطلبه من هناك. وأما قوله: "أفلح وأبيه إن صدق" فأقسم بأبيه وقد جاء النهي عن القسم بالآباء؟، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلفوا بآبائكم" حتى قال عمر بن الخطاب: ما حلفت بها [منذ] (¬1) سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ينهي عنها ذاكرًا ولا آثرًا" (¬2). ووجه الجمع بينهما: أن هذه كلمة جارية على ألسن العرب تستعملها كثيراً في خطابها، تريد تارةً القسم، وتارة التوكيد، وتارة لا قَسَمًا ولا توكيدًا، إنما هو استمرار في جاري عاداتهم، ولا يخلو أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه بعد القسم به في هذا الحديث, فيكون النهي ناسخًا له، وإن كان قبله فيحتمل أمورًا: أحدها: أن يكون من قِبَلِ اللَّغْوِ البخاري على اللسان المعفوِّ عنه مما لا يقصده المتكلم، وإنما جرى على العادة الطبيعية المألوفة في اللسان العربي. قال بعضهم: إنما نهاهم عن ذلك لأنهم كانوا يضيفون القسم إلى آبائهم تعظيمًا لشأنهم، ولا يضمرون فيها مضافًا محذوفًا نحو قولك: لا ورب أبي، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أضمر اسم اللَّه تعالى عند قوله: "أفلح وأبيه" وهذا فيه بُعْدٌ- وإن كان حَذْفُ المضاف شِرْعةٌ مَطْروقةٌ؛ وسنة مألوفة كثيرة الاستعمال في القرآن والحديث وفصيح الكلام. ويجوز أن يكون لما كان القسم دأب الأعرابي؛ فالسامع كذلك يعلم من حال الأعرابي، ولأنه ليس في محل تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه حتى يقسم به، ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من رواية الصحيحين. (¬2) أخرجه البخاري (6647) ومسلم (1646).

وكان القسم بأبيه كالقسم الذي لا يعتد به، ولا هو مؤكد للمحلوف عليه، لم يكن لذكره كثير فائدة، فكان كالملغي المُطَّرح الذي هو كما لم يذكر. ويجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر ذلك؛ تألفًا للأعرابي وتطييبًا لقلبه، وإعلامًا له أن له من المحل عنده أنه يقسم بأبيه، فيكون ذلك داعي إلى قبول قوله واستماع كلامه. وقيل: إنما النهي إنما وقع إذا كان على جهة التوقير والتعطم؛ فأما إذا لم يكن الغرض ذلك؛ وإنما هو للتوكيد دون القسم فلا، وذلك في العربية كثير، قال ابن ميادة: أظنَّتْ سِفاهًا من سفاهة رأيها ... لأهجوها لمَّا هجتني محاربُ؟ فلا وأبيها إنَّنِي بعشيرتي .... ونفسي عن ذاك المقام لراغبُ وليس يجوز أن يقسم بأبي من هجوه على سبيل الإعظام لحقه. وقال عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، وهو الفقيه المشهور وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة:- لعمر أبي الواشين أيام نلتقي ... لَماَ لَا يلاقيها من الدهر أكثرُ يَعُدُّون يومًا واحداً إن لقيتها ... وينسون ما كانت على النأي تهجرُ وقال الآخر:- لعمر أبي الواشين لا عمر غيرهم ... لقد كلفتني خطة لا أنالُها. والمحب لا يقسم بأبي الوشاة، وإنما يريد بأمثال هذا القسم التوكيد، وهذا

في كلامهم فاشٍ كثير. و"الفرض": ما كتبه اللَّه على عباده من حقوقه، كالصلاة والصيام والحج، وغير ذلك مما ألزمهم بأدائه وحتم عليهم به، وأصله من (الفرض) (¬1): القطع، وإنما سمي هذا النوع من اللوازم فرضًا، لأن الفرائض لها حدود ومقاطع ينتهي إليها ويقف عندها؛ وهو والواجب عند الشافعي سواء في الحكم. وفرق أبو حنيفة: بين الفرض والواجب. وحد الفرض والواجب عند الشافعي أنه الذي يُذم تاركه، ويُلام شرعًا بوجه ما. والفرض عند أبي حنيفة: ما يقطع بوجوبه؛ والواجب ما لا يدرك إلا ظنًّا. قال الغزالي -رحمه اللَّه-: ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون، فلا حجر في الاصطلاحات. والذي أراده الشافعي من هذا الحديث: هو الاستدلال على أن الصلوات الواجبة هي خمس، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلوات في اليوم والليلة" وهذا بإجماع المسلمين كلهم أنه لا فرض إلا خمس صلوات، إلا ما ذهب إليه أبو حنيفة فإنه قال: الوتر واجب، وليس بفرض ولا نافلة، لأنه يفرق بين الفرض والواجب كما قلناه، والعجب كيف أوجب الوتر وقد صرح في لفظ الحديث بقوله: هل عليَّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوَّع"، فجعل ما عدا الخمس تطوعًا ولا شبهة أن الواجب ليس هو عند أبي حنيفة تطوعًا, وليس الحديث الذي استدل به على وجوب الوتر مما يصادم هذا الحديث المجمع على صحته وهو صريح في الاستدلال وذلك غير صريح, لأنه حديث برواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن اللَّه زادكم صلاة فاحفظوها وهي الوتر" (¬2). ¬

_ (¬1) كررت هذه الكلمة في الأصل. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 180, 208)، والدارقطني في سننه (2/ 31) كلاهما من طريق عمرو بن =

قال الشافعي: سمعت من أثق بخبره وعلمه، يذكر أن اللَّه تعالى أنزل فرضًا في الصلاة ثم نسخه بفرض غيره ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس. قال الشافعي: كأنه يعني قول اللَّه -تبارك وتعالي: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} ثم نسخه في السورة معه بقوله جل ثناؤه {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬1) فنسخ قيام الليل ونصفه أو أقل أو أكثر بما تيسَّر. قال الشافعي: وما أشبه ما قال بما قال، وإن كنت أحب أن لا يدع أن يقرأ بما تيسر من ليله. قال: ويقال نسخ ما وصفت في المزمل يقول اللَّه -عز وجل- {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} و"دلوك الشمس": زوالها {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} العتمة {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} الصبح {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬2) فأعلمه أن صلاة الليل نافلة، وأن الفرائض فيما ذكر من ليل ونهار. قال: ويقال في قول اللَّه -عز وجل- {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ} المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الصبح {وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّمَاوَاتِ ¬

_ = شعيب به. وإسناده ضعيف قال الزيلعي في نصب الراية (2/ 110): أخرجه الدارقطني في "سننه" عن محمد بن عبيد الله العرزمي عن عمرو بن شعيب ... والعرزمي، ضعيف، ونقل ابن الجوزي عن النسائي، وأحمد، والفلاس أنه متروك الحديث، ورواه أحمد في مسنده عن الحجاج بن أرطأة، عن عمرو بن شعيب، والحجاج غير ثقة. قلت: وقد روى الحديث جماعة من الصحابة بنحوه. وفصَّلَ هذه الطرق الزيلعي وتكلم عليها في فانظره فإنه هام. والحديث صححه الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- في الإرواء (423). (¬1) المزمل: (1 - 4، 20). (¬2) الإسراء: [78 - 79].

وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا} العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (¬1) الظهر. قال الشافعي: روى عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه يقول: "خمس صلوات كتبهن اللَّه على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا؛ بحقهن كان له عند اللَّه عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند اللَّه عهد؛ إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة". أخرج هذا الحديث مالك (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). ¬

_ (¬1) الروم: [17 - 18]. (¬2) الموطأ (1/ 120 رقم 14). (¬3) أبو داود (1420). (¬4) النسائي (1/ 230). ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز أن رجلًا من بني كنانة يدعى المخدجي، سمع رجلًا بالشام يكنى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب، فقال الخدجي: فَرُحْتُ إلى عبادة بن الصامت، فاعترض له وهو رائح إلى المسجد، فأخبرته بالذي قال أبو محمد، فقال عبادة: كذب أبو محمد سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: فذكره. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (23/ 288 - 289): لم يختلف عن مالك في إسناد هذا الحديث، فهو حديث صحيح ثابت رواه عن محمد بن يحيى ابن حبان جماعة منهم: يحيى بن سعيد، وعبد ربه بن سعيد، ومحمد بن إسحاق، وعقيل بن خالد، ومحمد بن عجلان وغيرهم بهذا الإسناد، ومعناه سواء، إلا أن ابن عجلان وعقيلًا لم يذكرا المخدجي في إسناده، فيما روى الليث عنهما. ورواه الليث أيضًا عن يحيى بن سعيد كما رواه مالك سواء وإنما قلنا: إنه حديث ثابت لأنه روي عن عبادة من طرق ثابتة صحاح من غير طريق المخدجي بمثل رواية المخدجي. قلت: وصححه أيضًا ابن حبان كما في صحيحه (1732،1731). وصححه الشبخ الألباني -رحمه اللَّه- في صحيح الجامع (3243،3242). وراجع التلخيص الحبير (2/ 147).

وقال الشافعي: عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء"؟ قالوا: لا، قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه بهن الخطايا". أخرج هذا الحديث: البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). ... ¬

_ (¬1) البخاري (528). (¬2) مسلم (667). (¬3) الترمذي (2868). (¬4) النسائي (1/ 230 - 231).

الفصل الثاني في القضاء

الفصل الثاني في القضاء أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب: أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نام عن الصبح فصلاها بعد ما طلعت الشمس ثم قال: "من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها؛ فإن اللَّه يقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1). هذا طرف من حديث طويل صحيح، أخرجه مالك في الموطأ (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6). فأما مالك: فأخرجه هكذا مُرْسَلًا، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من خيبر أسرى؛ حتى إذا كان من آخر الليل عَرَّسَ؛ وقال لبلال: "اكلأ لنا الصبح" ونام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وكلأ بلال ما قدر له ثم استند إلى راحلته، وهو مقابل الفجر، فغلبته عيناه فنام فلم يَستيقظ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولا بلال ولا أحد من الرَّكْبِ حتى ضربتهم الشمس ففزع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال بلال: يا رسول اللَّه، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "اقتادوا" فبعثوا رواحلهم، واقتادوا شيئًا، ثم أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بلالًا فأقام الصلاة؛ فصلى بهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الصبح، ثم قال حين قضى الصلاة: "من نسى الصلاة فليصلها إذا ذكرها؛ فإن اللَّه تبارك وتعالى يقول في كتابه "وأقم الصلاة لذكري". فأما مسلم: فأخرجه مسندًا إلى أبي هريرة، عن حرملة بن يحيى، عن ابن ¬

_ (¬1) طه: [14]. (¬2) الموطأ (1/ 44 رقم 25). (¬3) مسلم (680). (¬4) أبو داود (435). (¬5) الترمذي (3163). وقال: هذا حديث غير محفوظ، رواه غير واحد من الحفاظ عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكروا فيه "عن أبي هريرة" وصالح بن أبي الأخضر يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قِبَلِ حفظه. (¬6) النسائي (1/ 295).

وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، وذكر لفظ مالك بطوله، وزاد فيه: "ثم توضأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأمر بلالًا فأقام الصلاة". وزاد في آخره، قال يونس: وكان ابن شهاب يقرأها "لذكري" (¬1). وأما أبو داود: فأخرجه مسندًا أيضًا عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، بإسناد مسلم ولفظه وزيادته. وأما الترمذي: فأخرجه مسندًا مثل رواية مالك بطولها. وأما النسائي: فأخرجه مسندًا عن [عبد الأعلى بن واصل بن] (¬2) عبد الأعلى، عن يعلى، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، بالإسناد قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نسيت الصلاة فصل إذا ذكرت؛ فإن اللَّه -عز وجل- يقول "وأقم الصلاة لذكري" قال يعلى: مختصرًا، يعني: من هذا الحديث بقوله. وقد أخرج الشافعي الحديث بطوله، مثل رواية مالك من رواية المزني عنه (¬3)، وأخرج قبله أيضًا من رواية المزني عنه؛ عن عمران بن حصين حديثًا بطوله في هذا المعنى. ثم قال في كتاب حرملة: [وهذان] (¬4) حديثان ثابتان. وحديث ابن المسيب وإن كان مرسلًا؛ فقد أخرجه الجماعة مسندًا كما ذكرنا. وأما حديث عمران بن حصين؛ فقد أخرج الشافعي منه طرفًا في تيمم ¬

_ (¬1) وعند مسلم "للذكرى". (¬2) بالأصل [عبد الله بن واصل عن] وهو تصحيف، والتصويب من مطبوعة السنن, وتحفة الأشراف (10/ 43). (¬3) السنن المأثورة رقم (74، 75). (¬4) بالأصل [هذا] وهو تصحيف، والجادة ما أثبتناه، وأيضًا جاء في المعرفة (3/ 135) على الوجه.

الجنب، وقد ذكرنا هذا الطرف في كتاب التيمم. وأما متن الحديث بطوله فلم يرد في المسند، وإنما جاء في رواية المزني. وفي الباب: عن أنس بن مالك، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وعمرو بن أمية الضمري، وابن مسعود، وجبير بن مطعم، وابن عباس، وجابر، وزيد بن أسلم، ويزيد بن أبي مريم، وأبي سعيد، وابن عمر. "الذِّكْرُ": مصدر ذكرت الشيء أذكره ذِكْرًا، إذا مَرَّ بخاطرك بعد أن كنت نسيته، أو إذا أجريته على لسانك، والذكرى مثله، تقول: ذكرته ذكرى غير مصروفة، وتقول: اجْعَلْني منك على ذِكْر، وذُكْر بالكسر والضم. وقد اختلف المفسرون في معنى قوله {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} فالذي عليه أكثر المفسرين أن معناه: أقم الصلاة متى ذكرت أنك لم تصلها؛ وأنها قد فاتتك؛ سواء كان الوقت الذي ذكرتها فيه وقتها أو غير وقتها؛ وهذا التفسير مطابق للفظ هذا الحديث. وقال جماعة من العلماء: معنى قوله "لذكري" أي لتذكرني فيها فإن ذكري أن أُعبد ويُصَلَّى لي، وقيل: لاشتمال الصلاة على الأذكار. وقيل: لذكري خاصة لا يَشُوبُهُ ذكر غيري. والأول الوجه, لأنه قال: فليصلها إذا ذكرها، ثم علل ذلك بقوله: يقول اللَّه تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1). و"القفول": الرجوع من السفر، وكذلك القفل، واشتق اسم القافلة من ذلك. قال الأزهري (¬2): سُمِّيَت القافلة وإن كانت مبتدئة السفر "قافلة"، تفاؤلًا بقفولها عن سفرها. ¬

_ (¬1) طه: [14]. (¬2) تهذيب اللغة (9/ 160 - 161).

وظن القتيبي أن عوام الناس يغلطون في تسميتهم المُنْشِيءَ سفرًا قافلة، وقال: لا تسمى قافلة إلا منصرفة إلى وطنها، وهو عندي غلط؛ لأن العرب لم تزل تسمي المنشئة للسفر قافلة على سبيل التفاؤل، وهو شائع في كلام فصحائهم إلى اليوم. و"الإسراء": مسير الليل خاصة؛ يقال سَرَى وأَسْرَى لغتان. و"التعريس": نزول المسافر آخر الليل نزلة خفيفة للنوم والراحة. و"الكلأة": الحفظ، تقول: كلأته أكلأه كلأة، إذا حفظته وحرسته، والمراد: أنه أمره أن يحفظ لهم الصبح، لئلا تطلع الشمس فتفوتهم الصلاة. و"استند": استفعل من "الاستناد"؛ وهو الاتكاء على الشيء والاعتماد عليه. و"الراحلة": البعير القوي المعد للأسفار والأحمال؛ ويقع على الذكر والأنثى. و"فزع" النائم من نومه؛ إذا انتبه، يقال: أفزعته ففزع أي أنبهته فانتبه. وقوله: "أخذ بنفسي" يجوز أن تكون الفاء ساكنة ويريد بها الروح، ويجوز أن تكون مفتوحة من التنفس؛ وأَخْذُ اللَّه -عز وجل- إياها كناية عن النوم. ويعضد الأول قوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (¬1) ولأن نَفَسَ النائم غير مأخوذ ولا مسلوب عنه لأنه ينام، متصل لا ينقطع على حالته في اليقظة ولو أمسك نفسه لمات. والذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نام عن الصلاة ثلاث مرات: الأولى: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أولهم استيقاظًا. والثانية: استيقظ قبله أبو بكر وعمر، وكبر عمر حتى استيقظ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) الزمر: [42].

والثالثة: لم يحضرها أبو بكر ولا عمر؛ وإنما كان في ركب ثمانية أو نحوها. و"اقتادوا": أَمْرٌ بِقَوْدِ الإبل، وهو جذبها لتسير. و"بعثوا الرواحل": إذا ثوروها من مباركها وساقوها. وإنما أمرهم بقود الإبل ومسيرهم عن مكانهم وصلاتهم في غيره، لترتفع الشمس قليلًا عن الأفق؛ ويذهب وقت الكراهة. وقيل: إنما أمرهم بالمسير عن ذلك المكان بعدًا منه؛ حيث أصابتهم فيه الغفلة والنسيان. وقد جاء هذا المعنى مرويًّا عن أبي داود، عن موسى بن إسماعيل، عن أبان، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، وذكر القصّة قال: وقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة". وقيل: لانتظار أمر اللَّه -عز وجل- كيف يكون العمل في ذلك. وقيل: ليعم الانتباه والنشاط إذا رحلوا جميعهم. والذي ذهب إليه الشافعي في قضاء الصلاة الفائتة سواء فاتت تعمدًا، أو سهوا، أو عن نوم أو غير ذلك: أنه يصلِّيها إذا ذكرها أي وقت كان؛ إلا إن كان يخاف فوات فريضة حاضرة مثل أن يكون قد ذكرها في آخر وقت الصلاة الحاضرة؛ فلو قدمها وبدأ بها فاتته الحاضرة؛ فحينئذ يقدم الحاضرة على الفائتة. وذكر ذلك عن علي -رضي اللَّه عنه- وعن غير واحد من الصحابة، وبه قال أبو العالية، والنخعي، والشعبي، والحكم، وحماد، ومالك، والأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور وقال غيرهم: إذا ذكرها في الأوقات المكروهة المنهي عن الصلاة فيها لا يصليها؛ وسيجيء بيان ذلك في الفصل الثالث.

قال [الشافعي] (¬1) في استدلاله بحديث عمران بن حصين؛ وابن المسيب على أن وقتها لا يضيق لتأخيره الصلاة بعد الاستيقاظ، ولا يجب التتابع في قضائين (¬2). [قال الشافعي] (¬3) من قبل أن تأخير [الظهر] (¬4) لغير صلاة ليس بأكثر من تأخيرها لصلاة. قال [وحديث] (¬5) ابن المسيب من أوضحها معنى، وذلك أن فيه: "لم يستيقظوا حتى ضربتهم الشمس"، وضرب الشمس لهم أن يكون لها حر، وذلك بعد أن يتعالى النهار. وقد أخرج الشافعي: عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن يونس، عن الحسن، عن عمران بن حصين قال: كنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في مسير له فنمنا عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس؛ فأمر المؤذن فأذن ثم صلينا ركعتي الفجر، حتى إذا أمكنتنا الصلاة صلينا" قال الشافعي: يعني -واللَّه أعلم- إذا اتسع لنا الموضع وأمكنتنا جميع (¬6) الصلاة ولا ضيق علينا، وإذا تتامَّ أصحابه الذين تفرقوا في حوائجهم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير (¬7)، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في سفر فَعَرَّسَ فقال: "ألا رجل صالح يكلؤنا الليلة لا نرقد عن الصلاة" فقال بلال: أنا يا رسول اللَّه. قال: فاستند بلال إلى راحلته، واستقبل الفجر فلم يفزعوا إلا بِحَرِّ ¬

_ (¬1) بالأصل [الشعبي] وهو تصحيف وانظر المعرفة (3/ 137) والمصنف كثير النقل منه. (¬2) في المعرفة (3/ 137): [قضائهن]. (¬3) (¬4) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة [3/ 137]. (¬5) بالأصل [حيث] وهو تصحيف والمثبت هو الجادة، كذا جاء في المعرفة (3/ 137). (¬6) في المعرفة (3/ 134) بلفظ [فأمكننا جمع]. (¬7) في الأصل [عن ابن جبير] وهو تحريف.

الشمس في وجوههم، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال" فقال: يا رسول اللَّه، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك، قال: فتوضأ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثم صلى ركعتي الفجر، ثم اقتادوا شيئًا، ثم صلى الفجر". هذا الحديث أخرجه النسائي (¬1): عن أبي عاصم، عن يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير، عن أبيه: أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال في سفر له: "من يكلؤنا الليلة؛ لا نرقد عن الصلاة من صلاة الصبح" قال بلال: أنا، فاستقبل مطلع الشمس الفجر فضرب على آذانهم؛ حتى أيقظهم حر الشمس؛ فقالوا: توضئوا، ثم أذن بلال فصلى ركعتين فصلوا ركعتي الفجر، ثم صلوا الفجر". قوله: "لا نرقد عن صلاة الصبح" زيد لئلا نرقد أي لئلا يستمر نومنا حتى يقربنا الصبح. وباقي ألفاظ الحديث قد تقدم شرحها في الحديث قبله. وفي هذا الحديث زيادة: أنه صلى ركعتي الفجر في مكانه، وصلى الفريضة في مكان آخر لما قلناه في الحديث قبله، وفرقًا بين أداء الفريضة وأداء النافلة. وقوله {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} كناية عن النوم، وحقيقته كأنها ضرب عليها حجاب من أن تسمع، يريد أنهم ناموا نومة ثقيلة؛ لا ينبههم فيها الصوت كما يجيء المثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه، فحذف المفعول الذي هو الحجاب، وبني الفعل لما لم يسم فاعله، وقد حذف المفعول مع إبقاء الفعل المسمى فاعله؛ وذلك قوله تعالى {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ} (¬2) وفي رواية النسائي أنه أذن، والأذان فيه خلاف وسنذكره في الحديث الثاني لهذا الحديث. أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، ¬

_ (¬1) النسائي (1/ 298). (¬2) الكهف: [11].

عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبي سعيد قال: "حُبِسْنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بُعَيْدَ المغرب هَوِيًّا" (¬1) من الليل حتى كُفِينا، وذلك قول اللَّه تعالى {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (¬2) فدعا رسول اللَّه بلالًا فأمره فأقام الظهر. فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها؛ ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك قال: وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬3). هذا الحديث أخرجه النسائي (¬4): عن عمرو بن علي، عن يحيى [عن] (¬5) ابن أبي ذئب، بالإسناد قال: "شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة [الظهر] (¬6)؛ حتى غربت الشمس وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فأنزل اللَّه -عز وجل- {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} فأمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بلالًا؛ فأقام لصلاة الظهر فصلاها كما كان يصليها لوقتها ثم أقام العصر فصلاها كما كان يصليها لوقتها". وفي الباب: عن علي، وابن مسعود. "الحبس": المنع والصد، ومنه الحبس -السجن- لأنه يمنع الإنسان من التصرف في نفسه، وتقول: حبسته أحبسه حبسًا. "ويوم الخندق": يريد به غزوة الأحزاب، لما جاء المشركون: أهل مكة وغيرهم إلى المدينة لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنة أربع من الهجرة في شوال؛ قاله البخاري عن موسى بن عقبة (¬7)؛ وأمر النبي (- صلى الله عليه وسلم -) بحفر الخندق، فشغله ¬

_ (¬1) في المطبوعة من المسند بترتيب السندي [... بعد المغرب بهوىِّ]. (¬2) الأحزاب: [25]. (¬3) البقرة: [239]. (¬4) النسائي (2/ 17)، وفي الكبرى (1625). (¬5) من النسائي. (¬6) بالأصل [العصر] والمثبت هو لفظ النسائي في المجتبى والكبرى, وهو الأقرب للسياق. (¬7) وذهب أكثر أهل السير والتواريخ إلى أن الخندق كانت في العام الخامس من الهجرة النبوية. قال ابن كثير في البداية والنهاية (4/ 95): =

المشركون عن الصلاة يومئذ حتى غربت الشمس. و"بعيد": تصغير بعد، وهذا تصغير تقريب؛ أي أن الزمان الذي كان قد عبر المغرب؛ كان قريبًا ولم يكن بعيدًا؛ والتصغير ينقسم إلى أقسام:- تصغير هو تصغير على الحقيقة، وذلك يختص بالأجسام نحو: جَبَل وجُبَيْل. وتصغير تحقير: ويختص بالأقدار والأنفس، نحو: مَلِك ومليك. وتصغير تقريب: مثل ما ذكرناه ويختص بالظروف من المكان والزمان. وتصغير تقليل: ويختص بالأعداد نحو: مال ومويل. وتصغير تعظيم: كقوله - صلى الله عليه وسلم - "كنيف مُلِئ علمًا" في حق عبد اللَّه بن مسعود (¬1). "الهوي": بفتح الهاء وكسر الواو وتشديد الياء -الطائفة من الليل. وقوله: "حتى كفينا" أي اندفع المشركون عنا؛ وكفانا اللَّه شرهم وهو قوله ¬

_ = كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة، نص على ذلك ابن إسحاق، وعروة بن الزبير، وقتادة، والبيهقي وغير واحد من العلماء سلفًا وخلفًا، وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع، وكذلك قال الإِمام مالك بن أنس فيما رواه أحمد بن حنبل، عن موسى بن داود عنه. قال البيهقي: لا اختلاف بينهم في الحقيقة لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقيل استكمال خمس، ولا شك أن المشركين لما انصرفوا عن أحد، وَاعَدُوا المسلمين إلى بدر العام القابل، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كما تقدم في شعبان سنة أربع، ورجع أبو سفيان بقريش لجدب ذلك العام، فلم يكونوا ليأتوا إلى المدينة بعد شهرين، فتعين أن الخندق في شوال من سنة خمس. (¬1) وهم المصنف -رحمه اللَّه- في رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو من قول عمر رضي اللَّه عنه. وقد أخرج هذا الأثر أبو نعيم في الحلية (1/ 129)، وابن سعد في الطبقات (3/ 115). عن زيد بن وهب قال: كنت جالسًا في القوم عند عمر إذ جاء رجل نحيف قليل، فجعل عمر ينظر إليه ويتهلل وجهه ثم قال .. فذكره ثلاثًا، واللفظ لابن سعد.

تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (¬1). "ورجالًا": جمع راجل كقائم وقيام. "والركبان": الجماعة على الإبل، ولا يقال راكب إلا لمن يكون على بعير، هذا هو الأصل، ثم اتسع فيه لكثرة الاستعمال؛ فأطلق على راكب الفرس والبغل والحمار مجازًا واتساعًا. وفي رواية "كما كان يصليها في وقتها" وفي الأخرى "يصليها لوقتها" وهما بمعنى واحد. اللام تقع موقع في, لأن حروف الجر يقع بعضها موقع بعض، إلا أن اللام هي التي في قولك: جئت لخمس بقين ولعشر خلون، كأنه خص مجيئه بهذا الوقت، وخص صلاته بهذا الوقت، واللام للتخصيص. وأما "في" فإنه ظرف صريح لصلاته. والمراد بقوله "وذلك قبل أن ينزل في صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬2) أنه لم يكن قد شرع لهم صلاة الخوف، فلهذا لما شغلهم المشركون عن الصلاة، أخروها عن وقتها, ولو كان قد نزل الأمر [في صلاة] (¬3) الخوف؛ لصلوها في وقتها ولم يؤخروها. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا فاتته صلاة حتى دخل وقت الأخرى؛ فإن كان وقت الحاضرة يسع الصلاتين؛ بدأ بالفائتة ثم صلى الحاضرة؛ فإن خالف وبدأ بالحاضرة جاز؛ وإن كان وقت الحاضرة يضيق عنهما؛ بدأ بالحاضرة ثم بالفائتة؛ فإن ذكر الفائتة وهو في الحاضرة تَّممَ الحاضرة وصلَّى الفائتة وإن اجتمع عليه فوائت فلا ترتيب عليه فيها. ¬

_ (¬1) الأحزاب: [25]. (¬2) البقرة: [239]. (¬3) بالأصل [فصلاة] وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه.

وبه قال الحسن البصري، وطاوس، وشريح، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة ومالك: إن ذكر الفائتة وهو في الحاضرة، بطلت الحاضرة ويجب عليه أن يقضي ما فاته، ثم يصلي الحاضرة فإن اجتمع عليه فوائت؛ فإن الترتيب واجب عليه؛ ما لم تبلغ ست صلوات فصاعدًا. وقال أحمد وإسحاق: يتم التي هو فيها ثم يصلي الفائتة ثم يعيد التي صلاها. وقال أحمد: إذا اجتمع عليه فوائت، وجب عليه فيها الترتيب إلا أن يخاف ضيق الوقت. وأما الأذان والإقامة للفوائت، فللشافعي فيه ثلاثة أقوال في الأم. والبويطي: لا يستحب لها أذان ويقيم لكل صلاة، وبه قال مالك، والأوزاعي، وإسحاق. وقال في القديم: يؤذن للأولى ولا يؤذن للتي بعدها. وبه قال أحمد، وأبو ثور، واختاره ابن المنذر. وقال في الإملاء: إن رجي اجتماع الناس أذن، وهذا إنما يكون في الأولى من الفوائت. وقال أبو حنيفة: يؤذن لكل فائتة ويقيم. والذي اعتمد عليه الشافعي في الأم، وهو حديث ابن عمر، وأبي سعيد، في ترك الأذان عند الجمع بين الصلاتين، وفي وقت الثانية منها وفي الفائتة.

وأما ما قاله في الإملاء فهذا لفظه قال: إذا جمع المسافر في المنزل ينتظر أن يثوب الناس، أذن للأولى من الصلاتين فأقام وأقام للأخرى ولم يؤذن، وإذا جمع في موضع لا ينتظر فيه أن يثوب إليه الناس، أقام لهما جميعًا ولم يؤذن. وخرج الأحاديث في عرفة ومزدلفة والخندق على اختلاف هاتين الحالتن. ***

الفصل الثالث في الواقيت

الفصل الثالث في المواقيت وفيه ستة فروع الفرع الأول في تعيين أوقات الصلاة أخبرنا الشافعي: أخبرنا عمرو بن أبي سلمة، عن عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن حكيم بن حكيم، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمني جبريل عند باب البيت مرتين فصلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء بقدر ظله، وصلى المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الصبح حين حرم الطعامُ والشراب على الصائم، ثم صلى المرة الآخرة الظهر حين كان كل شيء قدر ظله قدر العصر بالأمس ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب للقدر الأول ولم يؤخرها، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين". قال الشافعي: وبهذا نأخذ؛ وهذه المواقيت في الحضر.

وهذا حديث صحيح (¬1)، أخرجه أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3). فأما أبو داود: فأخرجه عن مسدد، عن يحيى، عن سفيان، عن عبد الرحمن، بالإسناد واللفظ، وفيه: "في الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك"، وفيه " في العصر كان ظله مثله" ولم يقل "ظل كل شيء"، وكذلك في المرة الثانية في الظهر والعصر، ولم يذكر باب البيت (¬4). وأما الترمذي: فأخرجه عن هناد بن السري، عن عبد الرحمن، عن ابن أبي ¬

_ (¬1) قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 221) قال الترمذي: حسن صحيح، ورواه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وعبد الرحمن بن الحارث هذا تكلم فيه أحمد، وقال: متروك الحديث، هكذا حكاه ابن الجوزي في كتاب "الضعفاء"، وليّنه النسائي، وابن معين، وأبو حاتم الرازي، ووثقه ابن سعد وابن حبان، قال في الإمام: رواه أبو بكر بن خزيمة في "صحيحه" وقال ابن عبد البر في "التمهيد": وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم اهـ. وقال الحافظ في التلخيص (1/ 173). في إسناده عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة مختلف فيه، لكنه توبع، أخرجه عبد الرزاق، عن العمري، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن عباس نحوه. قال ابن دقيق العيد: هي متابعة حسنة، وصححه أبو بكر بن العربي وابن عبد البر. وراجع علل ابن أبي حاتم (1/ 28 - 129). والحديث صححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في الإرواء (249) وذكر جملة من شواهده فانظره هناك. (¬2) أبو داود (393). (¬3) الترمذي (149). وقال: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. وقال محمد: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) قال الحافظ في التلخيص (1/ 173). اعترض النووي على الغزالي في قوله في هذا الخبر عند باب البيت وقال: المعروف عند البيت، وليس اعتراضه جيدًا، لأن هذا رواه الشافعي، ... وهكذا رواه البيهقي والطحاوي في "مشكل الآثار" بهذا اللفظ. اهـ بتصرف يسير.

الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث، بالإسناد واللفظ، إلا أنه قال في المغرب: "حين وجبت الشمس وأفطر الصائم"، وقال في الفجر: "حين بزق الفجر"، وقال في اليوم الثاني: "حين أسفرت الأرض". وفي الباب: عن أبي موسى، وأبي هريرة، وبريدة، وابن مسعود، وأبي سعيد، وجابر، وعمرو بن حزم، والبراء، وأنس. "أممتَ" القوم في الصلاة إمامة: أي كنتَ لهم إمامًا يقتدون بك، وأمَّني فلان أي صار لي إمامًا، وائتمَّ بفلان اقتدى به وجمع الإمام أئمة، وهو من الأمام -بفتح الهمزة- قدام الشيء وبين يديه. "الفيء": مهموزًا معروف وهو ما كان من لدن زوال الشمس إلى حين المغيب؛ لأنه فاء يفيء إذا رجع. و"الظل": ما كان من لدن طلوع الشمس إلى حين الزوال، والظل يفيء من الجانب الغربي بعد الزوال إلى الجانب الشرقي. قال ابن السكيت: "الفيء" ما نسخ الشمس، والظل ما نسخته الشمس. وقال غيره: كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل؛ وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل. والجمع أفياء، وفيوء. و"الشِّرَاك"سير من سيور النعل التي تكون على وجهها، وقدر الشراك في هذا الموضع ليس هو على طريق التحديد؛ وإنما أراد أن يدل به على زوال الشمس أنه هو أول وقت الظهر، وقد جاء مصرحًا به في رواية أبي داود، ولا يكاد يَبِينُ الزوالُ في أول الأمر إلا بأقل ما يُرى من الفيء الذي يستبين بما قبل الزوال؛ وليس هذا المقدار مما يتبين به الزوال في جميع البلاد؛ إنما يظهر آثار

ذلك في مثل مكة من البلاد التي تجتاز الشمس برؤوس أهلها؛ ولا يبقى حينئذ لشيء من الأشخاص ظل عند كون الشمس في خط نصف النهار، وهو ما تسامت الرؤوس من السماء، فإذا زالت الشمس ظهر للشخص القائم ظل من جهة الشمال، فأما ما عدا هذا الحد من البلاد مما لا يجتاز الشمس برؤوس أهله؛ فإن الظل من جهة الشمال لا ينعدم؛ بل يقل ويكثر بأحد أمرين. إما ببعد تلك البلدة من معدل النهار من جهة الشمال وإما بانحطاط الشمس إلى البروج الجنوبية. فإن الظل يكثر في جهة الشمال بكل واحد من هذين الأمرين وبهما جميعًا، فإنهما يجتمعان لبعض البلاد دون البعض. ورسول اللِّه - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبر عن صلاة جبريل -عليه السلام- وذلك بمكة هذا حكمها في هذا الظل عند الزوال؛ وذلك إذا كانت الشمس في الجوزاء والسرطان؛ لأنها إذا كانت في هذين البرجين فإنها تنحدر عن سمت رؤوس أهل مكة، ويظهر الفيء في الشمال كثيرًا، وزوال الشمس هو ميلها عن وسط السماء إلى جهة الغرب. وقوله: "حين كان كل شيء بقدر ظله" هذا من مقلوب الكلام لأن الأصل حين كان ظل كل شيء بقدره؛ وقد جاء في رواية أبي داود كذلك غير مقلوب فإنه قال: حين كان ظله مثله. و"الهاء" في "ظله": راجعه إلى جبريل -عليه السلام.

وكذلك جاء في سياق حديث الشافعي في ذكر وقت العصر قال: "حين كان ظل كل شيء مثليه" فإن الشخص هو الذي يتقدر به الظل لا يتقدر هو بالظل؛ ولكن لما كان المراد في هذا الحديث إنما هو بيان الظل إذ به يحصل الاعتبار لا بالشخص فكأن الشخص وإن كان هو سبب الظل؛ فقد سقط النظر إليه باعتبار [....] (¬1). في الجو قَلَّ جرمه وصفى وشف تكاثفه، فإذا كانت الشمس قريبة من الأفق؛ وحال الغبار والبخار بين الناظرين وبينها، تكدر لونها وانكسر نورها ومال إلى الحمرة والاصفرار؛ فأراد بقوله: "والشمس بيضاء" أنها كانت عالية مرتفعة، وقد صرح به في بعض روايات هذا الحديث. والغرض من ذلك تعجيل صلاة العصر، والمبادرة إليها في أول وقتها. وأما قوله: "حية" فقد تقدم بيانه في حديث ابن عباس. وقد جاء في بعض روايات الحديث قال: "حية وحياتها أن يتحد حرها". و"العوالي": أماكن قريبة من المدينة، ولكنها عالية، وقد جاء في بعض الروايات: أنها من المدينة على أربعة أميال، وفي بعضها على ميلين أو ثلاثة ونحوه. ووجه الجمع بين هذه التقديرات: أن ما كان منها قريبًا فهو على ميلين، وما كان منها أبعد من ذلك فثلاثة، وما بَعُدَ أكثر منه فأربعة. وأما "قباء" فهو الموضع المعروف قريبًا من المدينة، وفيه المسجد الذي أسس على التقوى في قولٍ؛ وهو في مساكن بني عمرو بن عوف الأنصاري. وقوله: "محلقة": أي مرتفعة، ومنه حلَّق الطائر إذا ارتفع في طيرانه. وقد أخرج الشافعي في القديم: عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب كتب إلى [أبي] (¬2) موسى أن صَلِّ العصر والشمس بيضاء ¬

_ (¬1) وقع سقط في المخطوط. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب ما إثباته وقد أخرج الأثر عبد الرزاق في "المصنف" (2036,2035) من وجهين آخرين بنحوه.

نقية؛ قدر ما يسير الراكب ثلاثة فراسخ. وأخرج: عن مالك، عن نافع، عن عمر بن الخطاب: كتب إلى عماله؛ أن صلوا العصر والشمس بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة. وأخرج أيضًا بلاغًا: عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان , عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: صَلِّ العصر قدر ما يسير الراكب فرسخين. وأخرج أيضًا: عن أبي منصور، عن ابن أبي ذئب، عن أبي حازم التمار، عن ابن حديدة صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لقيني عمر بن الخطاب بالزوراء، فسألني أين تذهب؟ فقلت: الصلاة. فقال: طففت وتسرع (¬1)، فذهبت المسجد، ثم رجعت فوجدت جاريتي قد احتبست من الاستقاء فذهبت إليها برومة، فجئت بها والشمس طالعة. وأخرج أيضًا: عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن قال: دخلنا على أنس ابن مالك بعد الظهر، فقام فصلى العصر، فلما فرغ من صلاته، ذكرنا تعجيل الصلاة أو ذكرها، فقال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تلك صلاة المنافقين - ثلاثاً- يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس؛ فكانت بين قرني الشيطان أو على قرني الشيطان؛ قام فنقر أربعًا لا يذكر اللَّه فيها إلا قليلاً". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، النسائي (¬5). و"التطفيف": النقصان، يريد أنك أخَّرْتَ الصلاة وبخست نفسك بفوات فضيلة الوقت. ¬

_ (¬1) عند البخاري في التاريخ الكبير (8/ 429): [فأسرع] وقد أخرج الأثر معلقًا (¬2) مسلم (622). (¬3) أبو داود (413). (¬4) الترمذي (160) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (2/ 254).

المغرب: أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي نعيم، عن جابر قال: "كنا نصلي المغرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم نخرج نتناضل حتى ندخل بيوت بني سلمة ننظر إلى مواقع النبل من الإسفار" وأخبرنا الشافعي: عن ابن أبي فديك، عن [ابن] (¬1) أبي ذئب، عن سعيد (¬2)، عن القعقاع بن حكيم قال: دخلنا على جابر بن عبد اللَّه، وقال جابر: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ننصرف فنأتى بني سلمة، فنبصر مواقع النبل. متن هذا الحديث صحيح متفق عليه، قد أخرجه البخاري (¬3)، ومسلم (¬4) عن رافع بن خديج. وأخرجه أبو داود (¬5): عن أنس بن مالك. وأخرجه النسائي (¬6): عن رجل من أسلم لم يسمه. والشافعي: قد أخرجه عن جابر من الطريقين. فالحديث في نفسه حديث صحيح، وإن اختلفت طرقه. "التناضل" و"النضال": الترامي، و"الرماء بالسهام": المسابقة فيها، تقول: ناضَلْتُ فلانًا فنضلته، إذا غلبته ومنه قيل: فلان يناضل عن فلان؛ إذا تكلم عنه يعزره، وحامَى عنه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، وقد تكرر هذا السقط كثيرا والصواب ما أثبتناه. (¬2) مطبوعة المسند، (سعيد بن أبي سعيد المقبري). (¬3) البخاري (559). (¬4) مسلم (637). (¬5) أبو داود (416). (¬6) النسائي (1/ 259).

و"مواقع": جمع موقع، وهو الموضع يقع فيه السهم، ومنه قوله تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (1) أي مساقطها في الغرب. و"النبل": السهام الصغار العربية، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها؛ فإذا رجعوا إلى الواحد قالوا: سهم؛ وقد جمعوها على نبال وأنبال. و"الإسفار": وقد تقدم ذكره وهو الإضاءة، والمراد به في هذا الحديث بقاء ضوء النهار، وهو غرض الشافعي من الاستدلال بهذا الحديث، لأن الذي ذهب إليه: هو القول بتعجيل صلاة المغرب؛ وليس عنده إلا وقت واحد، فإذا أخرها فرط في وقتها. وإليه ذهب الصحابة والتابعون، ولا خلاف بين الفقهاء أن تعجيلها هو الأولى، وإن ذهب منهم ذاهبون إلى أن لها وقتين. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن زيد بن خالد الجهني قال: كنا نصلي مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المغرب ثم ننصرف، فنأتى السوق ولو رُمِيَ نَبْلٌ لرئي مواقعها. وهذا الحديث أيضًا مذكور لما ذهب إليه الشافعي من تعجيل صلاة المغرب؛ وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كثير المحافظة على ذلك حتى أنه مع طول صلاته وتأنيه فيها -على ما قد ثبت عنه من ذلك- كان الإنسان إذا رمى سهمًا رأى أين يقع من الأرض، مع بعد المدى وصغر السهم، وأن الرمى في السوق؛ وفيه ما جرت به عادة الأسواق والجدر من إسراع الظلمة إليها، وأنها تحجب الضوء من الجانب الغربي عن الأرض؛ فاجتمع مع هذه الأوصاف رؤية النبل؛ وذلك من أوضح شيء في بقاء ضوء النهار؛ وتعجيل صلاة المغرب. والأحاديث إذا تعاضدت على الحكم كان أثبت له. وأخرج الشافعي في القديم: عن سفيان، سمع أبا عبيدة بن عبد اللَّه يقول: كان ابن مسعود يصلي المغرب إذا غاب حاجب الشمس ويحلف: ¬

_ (1) الواقعة: [75].

والذي لا إله إلا هو إنه الوقت الذي قال الله عز وجل {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬1) قال الشافعي: وقد حفظ غير سفيان هذا الحديث عن ابن مسعود؛ أنه قال: ما لها وقت غيره. ... ¬

_ (¬1) الإسراء: [78].

الفرع الثاني في تأخير الصلاة الصبح

الفرع الثاني في تأخير صلاة الصبح أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن عجلان، عن عاصم بن [عمر] (¬1) ابن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسفروا بالصبح فإن ذلك أعظم لأجوركم" وقال "للأجر". هذا حديث صحيح (¬2)، أخرجه أبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). فأما أبو داود: فأخرجه عن إسحاق بن إسماعيل، عن سفيان، قال: "أصبحوا بالصبح" الحديث. وأما الترمذي: فأخرجه عن هناد، عن عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بالإسناد، وقال: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر". وأما النسائي: فأخرجه عن عبيد اللَّه بن سعيد، عن يحيى [عن] (¬6) ابن عجلان بالإسناد، قال: "أسفروا بالفجر" لم يزد. والشافعي أخرج هذا الحديث في كتاب اختلاف الحديث؛ مع حديث عائشة ¬

_ (¬1) بالأصل [عمرو] وهو تصحيف والصواب هو المثبت، وكذا جاء في مطبوعة المسند على الجادة. (¬2) قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 235). قال ابن القطان في "كتابه": طريقه طريق صحيح، وعاصم بن عمر وثقه النسائي، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم، ولا أعرف أحدًا ضعفه ولا ذكره في جملة الضعفاء). ورواه ابن حبان في صحيحه ... اهـ. قلت: وصححه أيضا الشيخ الألباني -رحمه الله- في الإرواء (258). (¬3) أبو داود (424). (¬4) الترمذي (154) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (1/ 272). (¬6) سقط من الأصل، والاستدراك من السنن.

الذي تقدم في التغليس بالفجر. "أسفر الصبح": يسفر إسفارًا؛ إذا أضاء وانتشر ضوؤه. وكذلك: أصبح يصبح إصباحًا، إذا أضاء. و"الصبح" اسم للفجر أول ما يطلع، ولذلك قال: "أصبحوا به" و "أسفروا به". وقوله: "أعظم لأجوركم" أو قال: "للأجر" هذا الشك من أحد الرواة، وأولى الروايات وأشبهها بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية الشافعي؛ لأنه خلص من كلفة السجع وتعمده؛ لأنه إذا قال: "بالفجر" و "الأجر" كان كالقاصد للسجع، وذلك غير مقصود في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - غالبًا، فقد جاء السجع في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواضع، فإن ما لم يجئ فيه أكثر، ولذلك قال في روايته "أسفروا بالصبح" وهو أحسن من أن تقول: أصبحوا بالصبح لاختلاف اللفظتين ولفائدة المعنيين، وكذلك "أسفروا بالفجر" أحسن من "أصبحوا بالصبح"، لولا ما في السجع من مقالة "الفجر بالأجر"؛ والكل جائز مستعمل؛ والذي ذهب إليه الشافعي في أول الوقت بالصلاة قد تقدم. قال الشافعي: وقال بعض الناس: الإسفار بالفجر أحب إلينا، وذكر حديث رافع هذا؛ ثم إنه رجح حديث عائشة في الغلس؛ بأنه أشبه بكتاب اللَّه -عز وجل- لأن اللَّه تعالى يقول: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬1) فإذا دخل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة، وحديث عائشة أشهر رجالا بالثقة والحفظ، ومع حديث عائشة جماعة كلهم يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معنى عائشة؛ منهم زيد بن ثابت، وسهل بن سعد وغيرهما. قال: والذي لا يجهله عالم أن تقديم الصلاة في أول الوقت أولى بالفضل؛ لما يعرض للآدمين من الأشغال، والنسيان، والعلل، ولحديث رافع وجه يوافق ¬

_ (¬1) البقرة: [238].

حديث عائشة ولا يخالفه؛ وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حض الناس على تقديم الصلاة؛ وأخبر بالفضل فيها؛ احتمل من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر؛ فقال: أسفروا بالفجر حين يتبين الفجر الآخر معهما، فإن ابن عمر صلى بمكة مرارًا كلما بان له أنه صلاها أعاد، وإن أبا موسى فعل ذلك بالبصرة، فلعل الناس في زمان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قد كانوا يفعلون شبيهًا بفعلهما حين أخبر بفضيلة الوقت، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - -فيما نرى- الخروج من الشك؛ فأمرهم بالإسفار أي بالتبين. قال: فإذا احتمل أن يكون موافقًا للأحاديث؛ كان أولى بنا أن لا ننسبه إلى الاختلاف، وإن كان مخالفًا. وقد قيل في معنى الإسفار في هذا الحديث أقوال: منها: أنه قال: ربما قاله في وقت مخصوص؛ كالليالي المقمرة أو الليالي المغيمة التي لا يكاد الفجر يتضح فيها إلا بالإسفار. ومنها: أنه أراد بالإسفار الطلوع، وتحقيق الظهور أي أنه لا يصلي إلا بعد أن يتيقن طلوع الفجر وإيضائه. ومنها: أنه محمول على ما رواه أبو مسعود الأنصاري: "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - غلس بالصبح ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه اللَّه -عز وجل- وهو حديث صحيح (¬1). وقد ذكر الشافعي في ترجيح ما ذهب إليه؛ حديث: "أول الوقت رضوان ¬

_ (¬1) قلت: بل هو معلول. أخرجه أبو داود (394)، وابن خزيمة (352) والدارقطني في سننه (1/ 250 - 251) وغيرهم من طريق أسامة بن زيد، أن ابن شهاب أخبره، أن عمر بن عبد العزيز كان قاعدًا على المنبر فآخَّر العصر شيئًا، فقال له عروة بن الزبير: أما إن جبريل - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بوقت الصلاة، فقال له عمر: أعلم ما تقول، فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا مسعود الأنصاري يقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: نزل جبريل - صلى الله عليه وسلم - فأخبرني بوقت الصلاة فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه =

اللَّه وآخره عفو اللَّه" (¬1). وهو لا يؤثر على رضوان اللَّه شيئًا، والعفو لا يحتمل إلا معنيين عفو عن تقصير أو توسعة، والتوسعة يشبه أن يكون الفضل في غيرها، وقد سئل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -[أي] (¬2) الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة في أول وقتها" (¬3) وهو لا يدع موضع الفضل ولا يأمر الناس إلا به. ¬

_ = ثم صليت معه يحسب بأصابعه خمس صلوات. فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر ... الحديث. وفيه ذكر المواقيت. قال أبو داود: روي هذا الحديث عن الزهري، معمر، ومالك، وابن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة، والليث بن سعد وغيرهم؛ لم يذكروا الوقت الذي صلى فيه ولم يفسروه. وقال ابن خزيمة: هذه الزيادة لم يقلها أحد غير أسامة بن زيد. قلت: والحديث ثابت في صحيح مسلم بالشطر الأول كما أشار أبو داود، وقد أعل هذه الزيادة أيضا الدارقطني في العلل (6/ 184 - 186). فقال: يرويه عروة بن الزبير عنه، واختلف عنه في الإسناد والمتن فرواه الزهري، عن عروة، عن بشبر بن أبي مسعود، عن أبيه أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حتى عد خمسًا كذلك رواه أصحاب الزهري عنه، منهم: مالك، وابن عيينة، ويونس، وعقيل، وشعيب. ورواه أسامة بن زيد، عن الزهري، وذكر فيه مواقيت الصلاة الخمس، وأدرجه في حديث أبي مسعود. وخالفه يونس، وابن أخي الزهري، فروياه عن الزهري قال: بلغنا أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وذكر مواقيت الصلاة بغير إسناد فوق الزهري، وحديثهما أولى بالصواب لأنهما فصلا ما بين حديث أبي مسعود وغيره. (¬1) روي من عدة طرق ولا يثبت منها شيء. قال الحافظ في التلخيص (1/ 180): قال الحاكم: لا أحفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه يصح ولا عن أحد من أصحابه، وإنما الرواية فيه عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر. وقال الميموني: قال أحمد: لا أعرف شيئا يثبت فيه يعني: في هذا الباب. (¬2) بالأصل [إلى] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت كما في أصول التخريج. (¬3) أخرجه أبو داود (426)، والترمذي (170). من حديث أم فروة به، واللفظ لأبي داود. قال الترمذي: حديث أم فروة لا يروى إلا من حديث عبد الله بن عمر العمري، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث، واضطربوا عنه في هذا الحديث، وهو صدوق وقد تكلم فيه يحيى بن =

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، وعن بسر بن سعيد وعن الأعرج، يحدثونه عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6). فأما مالك: فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما البخاري: فأخرجه عن عبد اللَّه بن مسلمة، عن مالك، بالإسناد واللفظ، إلا أنه قال في الصبح: "من أدرك من الصبح ركعة". ¬

_ = سعيد من قبل حفظه. قلت: وأصل الحديث ثابت في الصحيحين لكن بلفظ: (الصلاة على وقتها) وكذلك (الصلاة لوقتها). وقد حقق الشيخ أحمد شاكر هذه اللفظة في تعليقه على الترمذي (1/ 326) وبين اختلاف الرواة فيها ونقل عن النووي في المجموع قوله: رواية: "في أول وقتها" ضعيفة. فانظر هذا المبحث فإنه نفيس وراجع أيضا نصب الراية (2/ 241). (¬1) الموطأ (1/ 39 رقم 5). (¬2) البخاري (579، 556). (¬3) مسلم (608). (¬4) أبو داود (412). (¬5) الترمذي (186) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (1/ 257 - 258).

وفي أخرى: عن أبي نعيم، عن شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فليتم صلاته". وأما مسلم: فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، بالإسناد واللفظ. وفي أخرى: عن حسن بن الربيع، عن ابن المبارك، عن معمر، عن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن أبي هريرة نحوه، إلا أنه قدم العصر على الصبح، وقال: فقد أدرك، فقد أدرك ولم يقل الصبح ولا العصر. وأما أبو داود: فأخرجه بإسناد مسلم في هذه الرواية ولفظها. وأما الترمذي: فأخرجه عن [الأنصاري] (¬1)، عن معن، عن مالك، مثل البخاري. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، إسنادًا ولفظًا. وفي أخرى: عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مثله. وله رواية أخرى: نحو من رواية البخاري الثانية، إلا أنه قال: "إذا أدرك أحدكم أول السجدة من صلاة العصر". "أدركت الشيء" أدركه إدراكًا، إذا بلغته ووصلت إليه ولحقته. "الركعة": عبارة عن الركوع المعروف مرة واحدة، ركع يركع ركعة، وهي في هذا الحديث عبارة عن مجموع: القراءة، والقيام، والركوع، والسجود، ¬

_ (¬1) بالأصل [الأنصار] وهو تصحيف، وفي مطبوعة الترمذي [إسحاق بن موسى الأنصاري] وفي بعض نسخه جاء [الأنصاري] فقط كما أشار الشيخ أحمد شاكر -رحمه اللَّه- هناك.

إلى أن يعود قائمًا للركعة الثانية، أو إلى أن يجلس للتشهد إن كانت الركعة الثانية؛ هذا في حق المنفرد، فإن المأموم إذا أدرك الإمام راكعًا فركع معه؛ اعتدت له ركعة وإن لم يقرأ شيئًا؛ ولهذا يقال: إن صلاة الصبح ركعتان، والظهر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات؛ بهذا التقدير. وهذه التسمية مجاز واتساع وهو من باب تسمية الشيء ببعض أجزائه، وكذلك قوله في رواية البخاري: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة الصبح" إنما يريد هذا المعنى؛ فعبر بالسجدة في هذه الرواية كما عبر بالركعة في تلك الرواية. وقوله في رواية النسائي: "إذا أدرك أحدكم أول السجدة" فإنما أريد به السجدة الأولى لا أول السجود، فإن الإجماع على خلافه. وقد جاء في بعض الروايات "من أدرك ركعة من الصبح". وفي أخرى: "من أدرك من الصبح ركعة". وبينهما فرق: وذلك أن من قَدَّمَ الركعة؛ فلأنها هي السبب الذي يحصل به الإدراك، وأن الحكم بصحة الصلاة مبني على إدراكها؛ فلما كانت بهذه الحال قدمها في الذكر؛ للعناية بها وأن الفائدة مقرونة بها. وأما من قدم الصبح والعصر قبل الركعة، فلأن هذين الاسمين هما اللذان يدلان على هاتين الصلاتين دلالة خاصة تتناول جميع أوصافها بخلاف الركعة. فلهذا تدل على أوصاف الصلاة، فقدم اللفظ الأهم الجامع لما يريد أن ينوط الحكم به؛ وهو صحة الصلاة وإدراكها. وكذلك جاء في رواية: "فقد أدرك الصبح" وفي رواية "فليتم صلاته" وكلاهما بمعنى، إلا أن أحدهما كناية، والآخر صريح. فإن أدرك الصبح لم يرد به أن تلك الركعة التي أدركها قبل طلوع الشمس أجزأته عن صلاته الصبح؛ إنما يريد أنها أجزأته عن الأداء؛ وإن خرج الوقت

بدخوله في الركعة الثانية إلا أنها إنما تجزئه عن الصلاة إذا صلى الركعة الثانية وإن كانت الشمس غاربة؛ وبهذا القدر استغني عن التصريح به بقوله: "فقد أدرك الصبح". وأما قوله: "فليتم صلاتة" فإنه صريح في الإجزاء، ألا تراه كيف أبان عن الوصف الذي به يحصل الإجزاء، وهو الإتمام والمجيء بالركعة الأخرى في الصبح والثلاث في العصر، ولم يحتج هنا أن يقول: "فقد أدرك" لأنه إذا أمره بإتمام الصلاة مع وقوع بعضها في وقتها، وبعضها في غير وقتها؛ فقد أجاز له ذلك وأمضاه، ولذلك قد جاء في بعض الروايات بتقديم الصبح على العصر وفي بعضها بالعكس، فأما تقديم الصبح؛ فلأنها أول صلاة يبتدئ بها الإنسان في أول يومه وأول أعماله، ولأن هذا الحكم الذي تعرض لذكره هو مقرون بطلوع الفجر، وكان الابتداء به أولى؛ لأن الطوع قبل الغروب. وأما تقديم صلاة العصر في الذكر، فلأن لها شرفًا على غيرها، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" (¬1). فلذلك جعلها الأكثرون الصلاة الوسطى, لأن حفظ وقتها ومعرفته فيه صعوبة، وليس كوقت غيرها من باقي الصلوات؛ ألا ترى أن كل واحدة من الصلوات يُدْرَكُ وقتها الخاص والعام؟، فإن الصبح وقتها بطلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، والظهر بالزوال، والمغرب بمغيب الشمس، والعشاء بمغيب الشفق وهذه حدود يشترك فيها كل بصير. وأما العصر فيحتاج في معرفة وقتها إلى معرفة الظل وزيادته ونقصانه وحفظ مقدار ظل الزوال، لبسطه (¬2) من الظل، وهذا إنما يعرفه الخواص من العارفين بالأوقات، فحيث كانت بهذه الصفة من الإشكال؛ قدمها في الذكر اهتمامًا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (552)، ومسلم (626)، من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما. (¬2) كذا في الأصل.

بشأنها، وتوفرًا على المحافظة عليها. وهذا الوجه من ألطف ما قيل في تعليق قول من ذهب إلى أنها الصلاة الوسطى، وأن التخصيص بالمحافظة عليها؛ إنما كان لهذا السبب الذي ذكرناه. وأما تخصيص هاتين الصلاتين بالذكر من بين سائر الصلوات فعنه جوابان:- أحدهما: أنه ليس هذا الحكم خاصًّا لهما، بل يعم جميع الصلوات عند أكثر العلماء، فإنه قد جاء في حديث آخر عن أبي هريرة مما اتفق على إخراجه مالك (¬1) والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". وجاء في حديث عبد اللَّه بن عمر مما أخرجه النسائي (¬7)؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعة من صلاة من الصلوات؛ فقد أدركها كلها إلا أنه يقضي ما فاته". والجواب الثاني: أن هاتين الصلاتين؛ هما طرفا النهار أولًا وآخرًا، وآخر وقتيهما هو طلوع الشمس وغروبها، وهو ظاهر لا لبس فيه، بحيث إن المصلي إذا صلى بعض الصلاة وطلعت عليه الشمس أو غربت؛ عرف خروج الوقت، فلو لم يعين - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم وعرف المصلي أن صلاته تجزئه؛ لظن فوات الصلاة ¬

_ (¬1) الموطأ (428 رقم 15). (¬2) البخاري (580). (¬3) مسلم (607). (¬4) أبو داود (1121). (¬5) الترمذي (524) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (1/ 274). (¬7) النسائي (1/ 275) وفي الكبرى (1/ 482 رقم 1541) لكن من حديث سالم مرسلاً.

وبطلانها بخروج الوقت، وليس كذلك آخر أوقات باقي الصلوات، فإنها لا تعرف حقيقة إلا بعد الاعتبار والتدقيق، فإذا صلى المصلي بعض صلاة الظهر آخر وقتها؛ ودخل عليه وقت العصر ولم يتم صلاته، فإنه لا يحس بدخول وقت العصر ما لم يهتبر الظل، وكذلك صلاة المغرب وصلاة العشاء، إذا أخر صلاة العشاء إلى آخر الليل؛ فإنه لا يكاد يدرك أول جزء يطلع من الفجر؛ لأنه إذا لم يضئ له الشرق ويتسع؛ لم يكد يدرك طلوعه، وحيث كانت صلاة الفجر وصلاة العصر مخالفتين لها في الصلوات بهذا الوصف الذي ذكرناه؛ خصصهما بالذكر. واللَّه أعلم- ولأنها قد جاء لهاتين الصلاتين من الفضيلة ما لم يأت لغيرهما لقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (¬1) وقوله -عز من قائل- {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (¬2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" (¬3)، ثم قرأ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} الغروب، وقد سماهما صلاة البردين، والعصرين، وحث عليهما في غير موضع، وقال. "يتعاقب فيها ملائكة الليل وملائكة النهار" (¬4) ونحو ذلك، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، فلو لم يبين لهم صحة صلاة من أدرك ركعة من هاتين الصلاتين، لظن أن الصلاة تفسد بدخول هذين الوقتين وهو يصلي، فعرفهم ذلك ليزول هذا الوهم. ¬

_ (¬1) النور: [36]. (¬2) آل عمران: [41]. (¬3) أخرجه البخاري (554). (¬4) أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632)، من حديث أبي هريرة، لكل بلفظ (يتعاقبون فيكم ملائكة ..) والظاهر أن المصنف -رحمه اللَّه- ذكره بالمعنى.

والذي ذهب إليه الشافعي العمل بهذا الحديث في هاتين الصلاتين وفي غيرهما من الصلوات، أنه متى أدرك المصلي من وقت الصلاة ركعة؛ أتم ما بقي منها وإن خرج الوقت. وإليه ذهب: مالك، وأحمد، وإسحاق. وكان أبو ثور يقول: إنما ذلك لمن نام أو سهى، ولو تعمد ذلك أحد كان مخطئًا مذمومًا بتفريطه. وقد روي ذلك عن الشافعي، وهو غير مشهور من مذهبه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يَصِحُّ ذلك في العصر دون الصبح، فإذا أدرك ركعة من صلاة الصبح وطلعت الشمس، فسدت صلاته وعليه القضاء ولا يلزمه ذلك. قال الشافعي: ومن أخر العصر حتى صار كل شيء مثليه في الصيف أو قدر ذلك في الشتاء، فقد فاته الاختيار، ولا يجوز أن يقال: قد فاته وقت العصر مطلقًا، واحتج بهذا الحديث. وفي هذا الحديث: دليل على أن من أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة من المعذورين كالمجنون إذا أفاق، والصبي إذا بلغ، والنفساء، والحائض إذا طهرت؛ فإن الصلاة تجب عليه. وللأئمة في ذلك خلاف مذكور في كتب الفقه. الإبراد بالظهر. أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم" وقال: "اشتكت النار إلى ربها، فقالت: ربّ أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسَينْ: نفس في الشتاء، ونفس في

الصيف، فأشد ما تجدون من الحر فمن حرها، وأشد ما تجدون من البرد فمن زمهريرها". وفي رواية: عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله إلى قوله: "جهنم" إلا أنه قال "فأبردوا على الصلاة". وفي أخرى: عن الثقة، عن الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وأخرجه الشافعي في كتاب "اختلافه مع مالك": عن مالك، عن أبي الزناد، إلى قوله: "جهنم". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالرواية الثانية إلى قوله: "جهنم". وفي أخرى: عن عبد اللَّه بن زيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن [و] (¬2) عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة مثله إلى قوله: "في الصيف". وقال: "أبردوا عن الصلاة" ولم يقل: "أكل بعضي بعضًا". وأخرج الشافعي هذه الرواية: عن مالك، من رواية المزني عنه، وأخرجها في القديم: من رواية الزعفراني عنه. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن علي بن [عبد] (¬4) اللَّه، عن سفيان، إلى قوله: "في الصيف" ثم قال: "أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير". ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 46 رقم 28 - 29). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من الموطأ؛ وهو الصواب. (¬3) البخاري (533، 534، 536). (¬4) ما بين المعقوفتين بالأصل (عبيد) وهو تصحيف؛ والصواب هو المثبت. وعلي هو ابن عبد اللَّه المديني شيخ البخاري مشهور.

وفي أخرى: عن أيوب بن سليمان، عن أبي بكر، عن سليمان، عن صالح ابن كيسان، عن الأعرج وغيره، عن أبي هريرة. وعن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر أنهما حدثاه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم". وله روايات أخرى تتضمن شكوى النار خاصة، فلم يذكرها (¬1). وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن قتيبة، ومحمد بن رمح، عن الليث، عن الزهري، بالإسناد عن ابن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة مثل الشافعي إلى قوله: "جهنم". وفي أخرى: عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، وابن المسيب، مثله. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن يزيد بن خالد بن موهب، وقتيبة بن سعيد، عن الليث، بالإسناد، إلى قوله "جهنم". وقال قتيبة: فأبردوا عن الصلاة. وقال ابن موهب: بالصلاة. وأما الترمذي (¬4) والنسائي (¬5): فأخرجاه عن قتيبة، عن الليث، بالإسناد، إلى قوله: "جهنم" وقال: "عن الصلاة". وفي الباب: عن أبي ذر، وأبي سعيد، وأبي موسى، وأنس. ¬

_ (¬1) انظر صحيح البخاري كتاب "بدء الخلق" باب صفة النار وأنها مخلوقة، وذكر تحت الباب جملة من الأحاديث وفيها شكوى النار إلى ربها. (¬2) مسلم (615). (¬3) أبو داود (402). (¬4) الترمذي (157) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (1/ 248 - 249).

"اشتد": افتعل من الشدة: القوة، أي إذا قوى الحر، وأصل اشتد اشتدد فسكنت الدال الأولى وأدغمت في الثانية. "والإبراد": من البرد تقول منه: أبرد الرجل إذا فعل فعلًا، وقد انكسر الحر وضعفت شدته. قال الأزهري: يقول الركب في السفر إذا زاغت الشمس فقد أبردتم فروحوا، "وأبرد القوم" إذا صاروا في آخر القيظ. "والإبراد في الصلاة": هو تأخير صلاة الظهر عن أولها في شدة الحر إلى أن ينكسر الحر قليلًا، وله أحكام نذكرها في آخر الكلام على هذا الحديث. "والفَيْح": سطوع شدة الحر وانتشاره، وأصله من كلامهم السعة والانتشار، ومنه قولهم: مكان أفيح، فجعل شدة الحر من فيح جهنم، ولذلك أردفه بقوله "اشتكت النار إلى ربها". "والزمهرير": شدة البرد، والميم أصلية، ويجوز أن يكون قد أخرج الكلام مخرج التشبيه، أي كأنه من نار جهنم. والوجه الأول. "والصيف والشتاء": معروفان، والذي كان عند العرب في تقسيم السنة أنهم كانوا يجعلون كل ثلاثة أشهر منها قسمًا، فقسم منها هو عندهم الربيع، والذي يسميه الناس الخريف, لأن الثمار تخترف فيه أي تجتني؛ وأوله عند حلول الشمس في أول برج الميزان, وذلك نصف أيلول، وآخره عند خروج الشمس من برج القوس، وذلك نصف كانون الأول، وله من المنازل العقرب، والزبان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة. والقسم الثاني: هو الشتاء، وأوله عند حلول الشمس أول برج الجدي، وذلك نصف كانون الأول، وآخره عند خروجها من برج الحوت وذلك نصف آذار، وله من المنازل سعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية

وفرع الدلو المقدم، وفرع الدلو المؤخر، والرشا. والقسم الثالث: الصيف وهو عند الناس الربيع، وأوله عند حلول الشمس في برج الحمل في نصف آذار، وآخره عند خروج الشمس من برج الجوزاء، وذلك نصف حزيران وله من المنازل، السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع. والقسم الرابع: القيظ وهو عند الناس الصيف، وأوله عند حلول الشمس في برج السرطان، في نصف حزيران وآخره عند خروجها من برج السنبلة؛ في نصف أيلول وله من المنازل: النثرة والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك. ومنهم من يقسم السنة أربعة أقسام أخرى:- الأول: أيلول، وتشرين، وتشرين (¬1). والثاني: كانون، وكانون (¬2)، وشباط. والثالث: آذار، ونيسان، وأيار. والرابع: حزيران، وتموز، وآب. وكأن هذه القسمة أقرب إلى الاعتدال، وتلك أقرب إلى قسمة البروج ومسير الشمس. ومنهم من قسم السنة قسمين:- الصيف، الشتاء، فجعل الصيف ستة أشهر أولها نيسان وآخرها آذار، والذي أراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصيف؛ فإنما هو القيظ لأنه هو الزمان الذي يستحب فيه الإبراد. ¬

_ (¬1) أي: تشرين أول وتشرين ثاني. (¬2) كذلك: كانون أول وكانون ثاني.

وقد جاء في بعض الروايات "فأبردوا بالصلاة" وفي بعضها "فأبردوا عن الصلاة" والفرق بينهما أن الباء لا تخلو أن تكون للإلصاق؛ أو للاستعانة، أو زائدة، وكل هذه الأوجه لائقة بهذا الموضع صالحة له، إلا أن بعضها أحسن من بعض. وأما "الإلصاق": فنحو قولك: مررت بزيد، فإن الباء ألصقت المرور بزيد، وكذا هذا كأن الباء ألصقت الإبراد بالظهر. وأما التي للاستعانة: فكقولك: كتبت بالقلم، فكأن صلاة الظهر هي التي استعنت بها على الإبراد، فصرت مبردًا بسببها إلا أن الإبراد إنما هو لشدة الحر لا للصلاة، ولكن صار خاصًّا بها للاستعمال؛ لأنه لما جعل الإبراد في هذا الوقت لأجل تأخيرها، صارت كأنها هي التي فعلته وحملت عليه. وأما الزيادة: فكقولك: "بحسبك قول السوء، أي: حسبك" فإذا جعلنا في الحديث زائدة، صار المعنى أبردوا الظهر أي أخروها إلى أن يذهب شدة الحر لكن مع إثباتها يكون الإبراد فعلا قاصرًا لازمًا للمصلي، ومع حذفها يكون متعديًا أي: احملوها على أن تبرد هي، وفيه بعد، وأولى هذه الأوجه الثلاثة، أن تكون للاستعانة. وأما قوله: "فأبردوا عن الصلاة" فإن معناها المجاوزة، تقول: صفحت عن فلان أي جاوزته فلم أعاقبه، فهي في هذا الحديث بمعنى تجاوزوا وقتها المختص بها، واعبروه إلى أن ينكسر الحر. وفي هذا دليل على أن الوقت الأخص والأولى في الصلوات هو الأول, لأنه أَمْرٌ بالترخص أو بالتخصيص في شدة الحر، ومجاوزة الوقت الخصيص بها لأجل الحر؛ وما يتجاوز الإنسان أمرًا إلا وقد ترك ما هو أولى به، لاسيما إذا كانت المجاوزة رخصة أو تخصيصًا لهذه، ويجوز أن يكون التقدير في "أبردوا عن الصلاة"، أخروا الصلاة لكنه أراد أن لا يقرن لفظ التأخير بالصلاة، صيانة لها

عن هجنة التأخير، فقال: أبردوا عن الصلاة. وإنما قلنا: إن معنى "أبردوا" "أخروا" من قبيل المجاز, لأن التأخير من ثمرة الإبراد، فكنى عن الشيء بما يؤول إليه، كقول الشاعر: وما العيش إلا نومة وتشرق ... وتمر على رأس النخيل وماء. فسماه "تمرًا" وإنما يكون وهو على رأس النخيل رُطَبًا فما قبله. وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أخر عني" أي تأخر عني وأخر عني تمسك. وفي قوله: "اشتكت النار إلى ربها" مسألة أصولية هل هذه الشكوى حقيقية بكلام أم هي مجاز عبَّر فيه بلسان الحال عن لسان المقال؟ كما قال الراجز: يشكو إلىّ جملي طول السرى ... وأي الأمرين قدّر كان جائزًا لأن الكلام عند المحققين من الأصوليين وأهل السنة؛ ليس من شرطه وشرط العلم في القيام بالجسم؛ إلا الحياة. فأما الهيئة والبنية واللسان، فليس من شرطه، فإذا خلق اللَّه في النار حياة؛ وُجِدَ منها الكلام الذي هو الكلام الحقيقي، ولو قلنا: إنه الكلام العرفي الذي هو الأصوات والحروف، لكان خلق اللَّه لها لسانًا تنطق به، ألا ترى أنه قد جعل لها عينين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ بين عَيْنَيْ جهنم مقعدًا"، قالوا يا رسول اللَّه: أو لجهنم عينان؟! قال:

أو ما سمعتم إلى قول اللَّه -عز وجل-: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (¬1) " (¬2). وإن قلنا إنه مجاز عن لسان الحال، فالأمر فيه ظاهر. وقوله: "فأذن له بنفسين" إشارة إلى أنها مطبقة محاط عليها بجسم مكتنفها من جميع نواحيها؛ لم يتصور باضطرامها أن تتنفس، وكانت الحكمة في التنفس عنها، إعلام الخلق بأنموذج منها. وأما قوله في البرد: "إنه من بردها"، والنار لا توصف بالبرد، فلأن مذاب الأجسام إما أن يكون حارًّا أو باردًا، فلما جمع اللَّه نوعي العذاب المعد للأجسام، عبر بأحدهما عن الآخر وأطلق عليه مجازًا واتساعًا، كقولهم: القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الإبراد إنما يجوز بأربعة شرائط: الأولى: أن تكون الصلاة جماعة في مساجد الجماعات. والثانية: أن يكون شدة الحر. والثالثة: أن يكون في البلاد الحارة، كالحجاز، والعراق، واليمن وما يقرب منها مما يشتد فيه الحر. ¬

_ (¬1) الفرقان: [12]. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير (8/ 131 - 132 رقم 7599). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 153): فيه الأحوص بن حكيم ضعفه النسائي وغيره، ووثقه العجلي ويحيى بن سعيد القطان في رواية، ورواه عن الأحوص محمد بن الفضل بن عطية، ضعيف. وقال ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 95): هذا الحديث لا يصح, لأن محمد بن الفضل قد كذبه يحيى بن معين والفلاس وغيرهما، وقال أحمد بن حنبل: ليس بشيء، وإنما وضع هذا من في نيته الكذب. قلت: والحدث متواتر بلفظ (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار). وليست فيه هذه الزيادات.

والرابعة: أن يقصد الناس الصلاة من الأماكن البعيدة. وقيل: إن البعيد والقريب سواء. وحد البرد: هو أن ينكسر الحر ويحصل للحيطان فيء يجوز الساعي إلى الصلاة فيه. وقال مالك: الأفضل أن يؤخرها حتى يصير الفيء قَدْرَ ذراع. وقال أبو حنيفة: تعجيلها في الشتاء أفضل، وتأخيرها في الصيف أفضل، ولم يراع ما ذكرنا من الشروط، وبه قال أحمد، وإسحاق. وقد اختلف أصحاب الشافعي في الإبراد: فقال بعضهم: إنه سنة للأمر الوارد فيه بقوله: "أبردوا" ولأن شدة الحر تذهب بالخشوع فسنه لمراعاة ذلك. وقال بعضهم: إنه رخصة، لأن الشافعي قال: أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بتأخيرها في الحر توسعًا منه ورفقًا، مثل توسعته في الجمع بين الصلاتين. وأما "الإبراد بالجمعة"، فقد اختلف أصحاب الشافعي. فقال قوم: يبرد بها كما يبرد بالظهر. وقال قوم: لا يبرد بها, لأنهم أمروا بالتبكير إلى الجمعة، وانتظارها في الجامع يشق عليهم ويؤذيهم حره. تأخير صلاة العشاء لم يرد في المسند حديث، وإنما المزني روى عن الشافعي، عن سفيان، عن الزهري: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء".

أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). وأخرج أيضًا المزني: عن الشافعي، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر مثله أخرجه البخاري (¬5)، ومسلم (¬6). ... ¬

_ (¬1) البخاري (672). (¬2) مسلم (557). (¬3) الترمذي (353). (¬4) النسائي (2/ 111). (¬5) البخاري (671). (¬6) مسلم (558).

الفرع الرابع في أولى الأوقات بالصلاة

الفرع الرابع في أولى الأوقات بالصلاة لم يرد في المسند عن الشافعي في هذا المعنى حديث, ولكن قد قال الزعفراني: قال الشافعي: أخبرنا أبو صفوان بن سعيد بن عبد الملك، عن عبد اللَّه بن عمر، عن القاسم بن غنام، عن بعض أمهاته، عن أم فروة -وكانت ممن بايع النبي -صلى الله عليه وسلم -- أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة في أول وقتها". هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي (¬1). وفي الباب: عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة. وقد ذكرنا في الفرع الأول بيان المذاهب في اختيار الأئمة وأقوالهم في المواقيت وأولى الأوقات بالصلاة فلم نعده. ... ¬

_ (¬1) سبق تخريجه والتنبيه على ضعفه قبل قليل تحت حديث أسفروا بالصبح، فانظره هناك.

الفرع الخامس في الأوقات المكروهة

الفرع الخامس في الأوقات المكروهة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد اللَّه الصنابحي أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، فإذا استوت قارنها؛ فإذا زالت فارقها، فإذا دنت للغروب قارنها؛ فإذا غربت فارقها" ونهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات. هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث، وأخرجه مالك في الموطأ (¬1)، والنسائي (¬2). فأما مالك فأخرجه هكذا عن عبد اللَّه الصنابحي. ورواه معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي عبد اللَّه الصنابحي (¬3). قال الترمذي: -الصحيح رواية معمر وهو أبو عبد اللَّه: عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي (¬4). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 191 رقم 44). (¬2) النسائي (1/ 275). (¬3) أخرجه من هذا الوجه أحمد (4/ 348)، وابن ماجه (1253). (¬4) نقل هذا القول البيهقي في المعرفة (3/ 415) عن الترمذي. وفي العلل الكبير للترمذى (حديث رقم 1) سأل البخاري عن حديث رواه عبد اللَّه الصنابحي من طريق مالك بنفس إسناد حديث الباب فقال: مالك بن أنس وهم في هذا الحديث، فقال: عبد اللَّه الصنابحي وهو: أبو عبد الله الصنابحي، واسمه: عبد الرحمن بن عسيلة، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث مرسل وعبد الرحمن هو الذي روى عن أبي بكر الصديق. والصنابح بن الأعسر الأحمسي صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحافظ في التلخيص (1/ 185): اتفق جمهور رواة مالك عنه على سياقه، وقال مطرف وإسحاق بن الطباع وغيرهما =

وقد أشبعنا القول في بيانه، واختلاف الأئمة فيه، في كتابنا كتاب "جامع الأصول في أحاديث الرسول" (¬1). فأما النسائي فأخرجه عن قتيبة، عن مالك بالإسناد. وفي الباب: عن عتبة بن عامر، وابن عمر، وأبي سعيد، وعمرو بن عبسة، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، وغيرهم من الصحابة؛ إلا أن حديث عمرو ابن عبسة كالمبين المفسر لهذا الحديث، وهو: قال: قلت يا رسول اللَّه، أي الليل أسمع؟ قال: "جوف الليل الآخر فصل ما شئت؛ فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، حتى تصلي الصبح؛ ثم اقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيس رمح أو رمحين؛ فإنها تطلع بين قرني الشيطان فيصلي لها الكفار، ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة، حتى يعدل الرمح ظله ثم اقصر، فإن جهنم تُسَجَّرُ وتفتح أبوابها، فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت، فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي العصر، ثم ¬

_ = عن أبي عبد الله الصنابحي وهو الصواب وهو عبد الرحمن بن عسيلة وهو تابعي كبير لا صحبة له. وقال القطان: نص حفص بن ميسرة على سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترجم ابن السكن باسمه في الصحابة، وقال عباس عن ابن معين: يشبه أن يكون له صحبة، ثم حكى الخلاف فيه إلى أن قال: ولست أثبت أنه عبد الرحمن بن عسيلة، ولا أثبت أن له صحبة. (¬1) ومن الفائده نقل كلامه هنا، قال - (2/ 575) من التتمة-: قد اختلف فيه على عطاء بن يسار، فقيل: عبد اللَّه الصنابحي، وقيل: أبو عبد اللَّه الصنابحي، وقال يحيى بن معين: يقال عبد اللَّه وأبو عبد اللَّه. وخالفه غيره، فقال: هذا غير عبد اللَّه، وأما أبو عبد الله الصنابحي، فاسمه عبد الرحمن، وسيرد ذكره في التابعين، وقال ابن عبد البرِّ: الصواب عندي أنّ الصنابحي أبو عبد اللَّه تابعي؛ لأن عبد اللَّه الصنابحي غير معروف في الصحابة، والصنابحي الصحابي قد أخرج حديثه مالك في "الموطأ"، والنسائي، في "سنه" واللَّه أعلم. ولتمام الفائدة راجع حاشية الرسالة بتعليق الشيخ أحمد شاكر -رحمه اللَّه- صـ (317 - 320) فقد عقد مبحثًا نفيسًا في تحقيق، وكذلك انظر ترجمته من التهذيب للحافظ والمزي مع الحاشية في تهذيب الكمال ..

اقصر حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، ويصلي لها الكفار" (¬1). وقد اختلف العلماء في معنى "قرني الشيطان". فقال قوم: معناه مقارنة الشيطان لها في هذه الأوقات. وقيل: معنى القرن قوته، من قولك: أنا مقرن لهذا الأمر، أي مطيق له قوى عليه، وذلك لأن الشيطان لها يقوى أمره في هذه الأوقات، لأنه يسول لعبدة الشمس أن يسجد لها في هذه الأوقات. وقيل: "قرنه" حزبه وأصحابه الذين يعبدون الشمس، يقال: هؤلاء قرن، أي قوم جاءوا بعد قوم. وقيل: إن هذا تمثيل وتشبيه، وذلك أن تأخير الصلاة إنما هو من تسويل الشيطان لهم، وتسويفه وتزيين ذلك في قلوبهم، وذوات القرون من شأنها أنها تعالج الأشياء وترفعها بقرونها، فكأنهم لما دافعوا الصلاة وأخروها عن وقتها، بتسويل الشيطان لهم حتى اصفرت الشمس؛ صار ذلك بمنزلة ما تعالجه ذوات القرون بقرونها وتدفعه بها. وقيل: إن الشيطان يقابل الشمس حين طلوعها، وينتصب دونها حتى يكون طلوعها بين قرنيه، وهما جانبا رأسه، فينقلب سجود الكفار للشمس عبادة له. "وقرنا الرأس" جانباه، ويجوز أن يكون المراد به: أنه شبه طلوع الشمس وهو ظهورها على العالم، بظهور الملوك والسلاطين على رعيتهم؛ وما يعاملونهم به من الخدم، والتحايا، والركوع، والسجود، وذلك على اختلاف أقدارهم ومراتبهم، وكذلك يفعلون معهم عند انفصالهم عنهم وعودهم إلى مساكنهم، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (832)، وأحمد (4/ 111)، وأبو داود (1277) واللفظ له.

فشبه طلوع الشمس وغروبها بظهور الملوك ورجوعهم إلى أماكنهم، وأن الصلاة في هذين الوقتين؛ يشبه أن تكون مضافة إلى طلوع الشمس وغروبها, لحدوثها عند حدوثها فنهوا عنها. فأما وقت توسطها السماء واستوائها في قبة الفلك، فلأن ذلك المكان هو أعلى أمكنتها وأرفعها، والسجود في هذا الوقت إذا توهم مضافًا إليها كان تعظيمًا لشأنها وإكبارًا لقدرها، فنهوا عن الصلاة حينئذ حتى لا يجري هذا الوهم، ولا يظن هذا الخيال. الذي ذهب إليه الشافعي: أن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها خمسة: ثلاثة متعلقة بالوقت وهي الصلاة عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند الاستواء حتى تزول، وعند الغروب حتى تغرب، واثنان متعلقان بالفعل وهما: الصلاة بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، وبعد العصر إلى الغروب، وهذه الأوقات لا تجوز الصلاة فيها عنده، إلا أن تكون صلاة لها سبب، كقضاء فرض، أو صلاة جنازة، أو سجود قرآن، أو إدراك جماعة أو نذر. وقال أبو حنيفة: الأوقات الثلاثة: الأول: لا يصلي فيها فرض ولا نفل إلا عصر يومه ولو عند اصفرار الشمس. وأما الوقتان الآخران فلا يصلي فيهما، سواء كان لها سبب أو لم يكن. وقال مالك: تقضي الفرائض في الأوقات المنهي عنها، دون النوافل. وبه قال أحمد، إلا أنه أجاز فيها الجماعة مع إمام الحي وركعتي الطواف. وهذا النهي عند الشافعي عام إلا بمكة، وإلا يوم الجمعة عند الزوال، خلافًا لأبي حنيفة وأحمد، قال: لأن الناس ينتظرون الجمعة ويشق عليهم مراعاة الشمس، وفي ذلك قطع للنوافل. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن

الأعرج، عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". هذا حديث صحيح، أخرجه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث، وأخرجه مالك في الموطأ (¬1)، ومسلم (¬2). فأما مالك: فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، بالإسناد واللفظ. وقد أخرج البخاري (¬4) هذا المعنى في جملة حديث نَهى عن بيعتين، [وعن] (¬5) لبْستين وعن صلاتين،، وذكر الحديث عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد اللَّه [عن] (¬6) خُبيب [بن] (¬7) عبد الرحمن، عن حفص [بن] (7) عاصم، عن أبي هريرة. قال الشافعي: وأعاد حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح" وكذلك في العصر. وقد تقدم هذا الحديث في الفرع الثالث من هذا الفصل. قال الشافعي: فالعلم محيط أن المصلي ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس، ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 192 رقم 48). (¬2) مسلم (825) من طريق يحيى بن يحيى، عن مالك به. (¬3) كذا بالأصل، ولم يعزه له في صدر كلامه، وأسقط تخريج مسلم على غير عادته وقد استدركته في الحاشية السابقة. وأما النسائي فقد أخرجه في سننه (1/ 276) بالإسناد. (¬4) البخاري (584). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت من صحيح البخاري. (¬6) ما بين المعقوفتين بالأصل [بن] وهو تصحيف والصواب هو المثبت. (¬7) ما بين المعقوفتين بالأصل [عن] وهو تصحيف والصواب ما أثبتناه كذا في رواية البخاري.

والمصلي ركعة من العصر قبل غروب الشمس؛ قد صليا معًا في وقتين مجمعان تحريم وقتين، فلما جعله مدركًا للصبح والعصر، استدللنا على أن نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات على النوافل التي لا تلزم، وكان أبو هريرة يفتى بمثل ذلك فيما رواه المقبري عنه، فإذا كانت فتوى أبي هريرة هذه روايته، وهو أحد رواة النهي عن الصلاة في هذه الأوقات، فكيف يجوز دعوى نسخ ما رواه أبو هريرة في الإدراك بما رواه في النهي من غير تاريخ ولا سبب يدل على النسخ، فقد رُوي عن علي بن أبي طالب: أنه دخل فسطاطه بعد العصر فصلى ركعتين. وروي ذلك عن الزبير، وابن الزبير، والنعمان بن بشير، وأبي أيوب، وعائشة، وتميم الداري. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث، وأخرجه مالك في الموطأ (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، والنسائي (¬4). فأما مالك: فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما البخاري: فأخرجه عن عبد اللِّه بن يوسف، عن مالك. وأما [النسائي] (¬5) فأخرجه عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا طلع حاجب ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 192 رقم 47). (¬2) البخاري (585). (¬3) مسلم (828). (¬4) النسائي (1/ 277). (¬5) ما بين المعقوفتين بالأصل [مسلم] وهو سهو، فلم يخرجه مسلم بهذا الإسناد إنما أخرجه من طريق آخر [829] عن هشام بنحوه، وهذا العزو إنما هو للنسائي (1/ 279) وقد أخرجه بهذا التمام فَلِذَا أثبته.

الشمس فأخروا الصلاة حتى تشرق، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغرب". وقد أخرج الشافعي هذه الرواية في كتاب الرسالة (¬1). "التحرك": القصد والتعمد لفعل الشيء وقوله وهذه لا في قوله. "لايتحرى" ناهية ومن حقها أن تجزم الفعل الواقع بعدها، وعلامة جزم هذا الفعل المعتل هو حذف الياء، وقد جاءت في الرواية مثبتة، فإن لم يكن تحريفًا من الرواة والكتاب، فتكون "لا" نافية لا ناهية، وقد ضمَّنت معنى النهي، وقد جاء مثل هذا في الاستعمال كثيرًا. والفاء في قوله: "فيصلي" عاطفة "ليصلي" على "يتحرى"، وحقها أيضًا أن تكون مجزومة محذوفة الياء مثل "يتحرى"، ولها حكمها. "ولا" في قوله: "ولا عند غروبها" نافية، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها, ولأن النهي متعلق بالوقتين، وفي دخول "لا" فائدة وهو: أن لا يتوهم أن النهي متعلق بالصلاتين معًا في الوقتين معًا؛ وأنه إن صلى إحداهما ولم يصل الأخرى؛ لم يكن النهي متعلقًا بذلك؛ ومع دخول "لا" يزول هذا الوهم؛ لأنك إذا قلت: لم يقم زيد وعمرو، جاز أن يكون قد قام أحدهما، وأنك إنما أردت أن تخبر أنهما لم يقوما معًا في وقت واحد، فأما إذا قلت: لم يقم زيد ولا عمرو فإن اللفظ خاص لنفي القيام عن كل واحد منهما مجتمعين ومنفردين. وفي تكرار لفظة "عند" زيادة تأكيد لنفي الفعل في هذا الوقت. وبيان النهي متعلق بحالة الغروب. وحاجب الشمس: أول ما يبدو منها، قال الجوهري: حاجب الشمس ¬

_ (¬1) الرسالة (873).

طلوعها وإضاءتها، تقول: أشرقت الشمس إذا أضاءت وإذا طلعت. فأما "شرقت الشمس" بغير ألف فإنما هو طلعت، والأحسن في الحديث أن يكون من أشرقت بمعنى أضاءت، لأنه قد نهى عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قدر رمح، وعند ذلك يضيء نورها ويشرق. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي لبيد قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: قدم معاوية بن أبي سفيان المدينة؛ فبينا هو على المنبر إذ قال: يا كثير بن الصلت اذهب إلى عائشة فسلها عن صلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر، قال أبو سلمة: فذهب معه إلى عائشة، وبعث ابنُ عباس عبدَ اللَّهِ بن الحارث بن نوفل معنا، فأتى عائشة وسألها عن ذلك؟ فقالت له: اذهب غسل أم سلمة، فذهبت معه إلى أم سلمة فسألها؟ فقالت أم سلمة: "دخل عليَّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بعد العصر، فصلى عندي ركعتين لم أكن أراه يصليهما، فقالت أم سلمة: فقلت يا رسول اللَّه، لقد صليت صلاة لم أكن أراك تصليها؟ قال: "إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وإنه قدم عليَّ وفد بني تميم -أو صدقة- فشغلوني عنهما، فهاتان الركعتان". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عبد اللَّه بن أبي لبيد، بالإسناد واللفظ، وقال فيه، وبعث ابن عباس عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل معنا، فقال: اذهب فاسمع ما تقول أم المؤمنين، وفيه فقالت له عائشة: لا علم لي. وذكرنا في الحديث الذي أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب الصلاة (¬1) والثانية في كتاب اختلاف الحديث. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 148 - 149).

وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، إلا أنهم لم يذكروا معاوية وقوله. فأما البخاري: فأخرجه عن يحيى بن [سليمان] (¬5) عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير، عن كريب أن ابن عباس والمسور بن مخرمة، وعبد الرحمن بن أزهر أرسلوه إلى عائشة، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعًا، وسلها عن الركعتين بعد صلاة العصر؟ وقل لها: إنا أخبرنا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهي عنهما، قال ابن عباس: وكنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنها، قال كريب: فدخلت على عائشة، فبلغتها ما أرسلوني فقالت: سل أم سلمة، فخرجت إليهم فأخبرتهم بقولها، فردوني إلى أم سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالت أم سلمه: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما، ثم رأيته يصليهما حين صلى العصر، ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فأرسلت إليه الجارية فقلت: قومي بجنبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: يا رسول اللَّه، سمعتك تنهى عن هاتين وأراك تصليهما؟ فإن أشار بيده فاستأخرى عنه، [ففعلتْ] (¬6) الجارية، فأشار بيده فاستأخرت عنه، [فلما] (¬7) انصرف قال: "يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عبد القيس -زاد في رواية بالإسلام- فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان". وأما مسلم: فأخرجه عن حرملة، عن ابن وهب، بالإسناد ونحوه. وأما أبو داود: فأخرجه عن [أحمد] (1) بن صالح، عن ابن وهب، بالإسناد، ¬

_ (¬1) البخاري (1233). (¬2) مسلم (834). (¬3) أبو داود (1273). (¬4) النسائي (1/ 281 - 282)، وفي الكبرى (1557). (¬5) بالأصل [سليم] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت كذا عند البخاري. (¬6) بالأصل [ففعل] وهو خطأ والتصويب من رواية البخاري. (¬7) بالأصل [فإنما] وهو خطأ، والتصويب من رواية البخاري.

مثل البخاري ومسلم. وأما النسائي: فأخرجه عن محمد بن عبد الأعلى، عن معتمر، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في بيتها بعد العصر ركعتين مرة واحدة، وإنها ذكرت ذلك له، فقال: "هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر؛ فشغلت عنهما حتى صليت العصر". وله روايتان أخريان نحوهما مختصرًا. وقد جاء في جواب بينا أداة بـ "إذ"، وقل ما تستعمل في العربية، إنما جوابها الفعل، تقول: بينا زيد قائم وصل عمرو، وقد سبق فيما مضى من الكتاب بيان هذه الكلمة مستوفيً فلم نعده. وقوله: "ذات يوم" أي في يوم وهو من ظروف الزمان التي لا تتمكن، تقول: لقيته ذات يوم، وذات غداة، وذات العشاء، وذات مرة، وذات الزمين، وذات العريم. وقالوا: لقيته ذا صباح، وذا مساء، وذا صبوح، وذا غبوق، فهذه الأربعة بغير تاء، وإنما سمع في هذه الأوقات المذكورة ولم يقولوا: ذات شهر، ولا ذات سنة. "وهاتان" تثنية "هذه"، كما أن "هذان" تثنية "هذا". "والوفد": القوم القادمون على الأمير، يسترفدون أو زائرين، ونحو ذلك. وقوله: "أو صدقة" يريد أو صدقة بني تميم، وتقول: قرأ على فلان السلام، واقرأ عليه السلام أي سلم عليه وأقرئ آل فلان السلام. وقوله: "كنت أضرب الناس مع عمر بن الخطاب عنهما" أي كان ضربي ¬

_ (1) بالأصل [محمد] وهو تصحيف, والتصويب من تحفة الأشراف (13/ 30) ومطبوعة أبي داود.

لهم صادرًا عن صلاتها وبسببها، يريد أن عمر بن الخطاب قد كان يمنع من يصليها وينهاه عنها؛ وكان ابن عباس ممن أمره عمر بذلك. وفي هذا الحديث من الفقه:- جواز الصلاة بعد العصر إذا كانت صلاة ذات سبب، لأن أم سلمة لما رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد العصر وقد سمعت منه النهي عنها، سألته فقال في جوابه ما قال فأضافها إلى سببها، وهذا نص ظاهر في جواز الصلاة السببيَّة في الوقت المنهي عنه، فهو أيضًا صريح في أن صلاة هاتين الركعتين بعد العصر كان بعد النهي عن الصلاة بعد العصر، فلا يمكن ادعاء النسخ فيه، لأنه ثبت أنه بعد النهي، فكيف يكون منسوخًا وهو ناسخ. وفيه من الفقه: أن الرواتب تُقْضَى. وللشافعي فيها قولان:- أحدهما: أنها تقضى، وبه قال أحمد في أصح الروايتين عنه وبه قال المزني. والثانية: لا تُقضى، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، إذا فاتت الرواتب مع الفريضة قضيت جميعها.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني إسحاق بن عبد اللَّه، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس، إلا يوم الجمعة". هكذا رواه الشافعي في كتاب "الجمعة" (¬1)، ورواه في كتاب اختلاف الحديث (¬2)، عن إبراهيم بن محمد قال: وروي عن إسحاق بن عبد اللَّه ورواه أبو خالد الأحمر، عن شيخ من أهل المدينة يقال له: عبد اللَّه بن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3) وفي الباب: عن أبي قتادة، وأبي سعيد الخدري. وقد أشار الشافعي إلى حديث أبي سعيد في رواية المزني عنه. قد تقدم بيان الأوقات المكروهة، وأن الكراهة ساقطة للصلوات ذوات الأسباب، وفي يوم الجمعة خاصة نصف النهار لهذا الحديث، ولذلك أخرجه الشافعي في كتاب الجمعة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن عامر بن مصعب أن طاوسًا أخبره أنه سأل ابن عباس عن الركعتين بعد العصر؟ فنهاه عنهما، قال طاوس: فقلت: ما أدعهما، قال ابن عباس: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬4). إنما قرأ ابن عباس هذه الآية في معرض الاحتجاج، والاستدلال على طاوس في إبطال قوله: إني ما أدعهما، وذلك أنه إذا كان اللَّه ورسوله قد قضى أن لا ¬

_ (¬1) الأم (1/ 197). (¬2) اختلاف الحديث (503). (¬3) الحديث ضعيف جداً. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 20). وإبراهيم بن محمد الذي روى عنه الشافعي هذا الخبر، هو: ابن أبي يحيى المدني، متروك، الحديث، وإسحاق بعده في الإسناد، وهو: ابن أبي فروة ضعيف أيضًا. (¬4) الأحزاب: [36].

صلاة بعد العصر، فلا فسحة لأحد من الناس أن يختار خلاف ما قضى به. وإيراد هذه الآية في معرض الاحتجاج، على سبيل التعريض لا على سبيل الاستدلال من أبلغ أنواع البلاغة، وهذا النوع يسمى في علم البيان "التعليق"، لأنه قد حذف من الخطاب شيئاً كان يريد أن يذكره، ثم يعضده بذكر الآية، وذلك أنه كان عليه أن يقول لطاوس لما قال: ما أدعهما، لا يجوز لك ذلك، فيقول له: ولم؟ فيقول: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنهما، فيقول: وكيف نهى عنهما؟ فيقول: قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس"، فيقول: ولم كان اتباع ذلك لازمًا؟ فيقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} (¬1) فانظر كيف حذف هذه الأسئلة والأجوبة، واكتفى بذكر الآية فأغنت عن ذلك جميعه، وتلاوة القرآن "وما كان لمؤمن" بواو قبل "ما"، والذي جاء في هذا الحديث بحذفها، فإن صحت الرواية بها، فلأنها إنما ذكر الآية مبتدئًا ولم يتقدمها ما يعطفها عليه، فأسقط الواو لذلك. والأولى إثباتها محافظةً على لفظ القرآن. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب الرسالة (¬2)، في جملة أحاديث أُخَر في معناه، استدل بها على بعضٍ من كُلِّهِ، في جواز صلاة الأسباب في الأوقات المكروهة. قال الشافعي في جملة قوله: فإذا وجدت عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خبرًا مُجْمَلًا فهو على جملته وظاهره، لا يحيله عن جملته وظاهره شيء إلا أن يأتي عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خبر يكون فيه دلالة على أنه خاص دون عام، وباطن دون ظاهر، فيستدل بخبر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على خبره، وذلك أن ينهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن الشيء فيأتي الخبر جملة بنهيه عنه، ثم يأتي خبر عنه بترخيص ¬

_ (¬1) الأحزاب: [36]. (¬2) الرساله (1220).

بعض ما يدخل في معنى الجملة، فيعلم أنه لم هد بالجملة قطعًا أجل، وقد بينت بعض هذا في كتابي هذا، ثم قال: ومن هذا الوجه من السنة، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من أن تصلي للصَّلواتِ كلها لمواقيت معلومة، وذكر أحاديث منها، حديث أبي هريرة: "نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" وحديث ابن عمر: "لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها". قال الشافعي: بظاهر هذه الأحاديث عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا تحل في شيء من هذه الساعات، لا صلاة فائتة ولا صلاة لطواف، ولا صلاة على جنازة، ولا سجدة، ولا غيرها من الصلوات. فإن قال قائل: فلم تقل هذه الأحاديث على عمومها وظواهرها؟ قلنا: بالدلالة البينة عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وذكر حديث أبي هريرة: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" وحديث ابن المسيب "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها" وحديث جبير بن مطعم "لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت أو صلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار" وسيجيء الحديث. قال الشافعي: فدلت هذه الأحاديث عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - -واللَّه أعلم- أن رسول الله إنما أراد -بالنهي عن الصلاة في الساعات التي نهي عنها فيها- النافلة، فأما صلاة لزمت بوجه من الوجوه فلا, ولو كان على جملته ما كان لمن فاتته صلاة أن يصليها بعد الصبح، ولكان من كان في بقية من صلاته مع مغيب الشمس، أو طلوعها غير جائز الصلاة، ولما صلى أحد للطواف في شيء من هذه الأوقات، ولا على جنازة، ولم أر الناس اختلفوا في الصلاة على الجنازة بعد الصبح والعصر، ولو جاز لنا أن نزيل هذه الأحاديث بالأحاديث التي جاءت في النهي جاز لغيرنا أن يزيل هذا النهي بهذه الأحاديث. قال: وقد خالفنا بعض الناس في هذا، فقال -مع ظانة السنة فيه- قولًا متناقضًا، فزعم أن من صلى

ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فصلاته تامة، ومن صلى ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فصلاته فاسدة. فقيل لبعض من قال هذا القول من أصحابه، أَرَأيْتَ لو قال رجل يستخف بخلاف السنة: أفسد التي زعمت أنها تامة، وأتم التي زعمت أنها فاسدة، ما الحجة عليه؟. قال: الذي صلى الركعة من العصر، خرج إلى وقت تحل فيه الصلاة والذي صلى الركعة من الصبح؛ خرج إلى وقت تحرم فيه الصلاة. قيل له: أرأيت ما أفسد أول الصلاة، أليس يفسد آخرها؟ وما أفسد آخرها يفسد أولها؟ قال: بلى، قيل: فما صلى (¬1) العصر في وقت تحرم فيه الصلاة من اصفرار الشمس، ومن مغيب حاجب الشمس؟ قال: بلى، قلت: فكيف لم تفسد الأولى وأفسدت الأخرى؟ ثم ذكر كلامًا كثيرًا، وقال في آخره: وفيما كتبت إن شاء اللَّه كفاية لك، فإذا ورد عليك غيره، قلت فيه واللَّه لنا ولك بالتوفيق (¬2) على ما شرحت من الناسخ والمنسوخ وغيره. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزبير المكي، عن عبد اللَّه بن باباه عن جبير بن مطعم أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني عبد مناف! من ولي منكم من أمر المسلمين شيئًا، فلا ينفر (¬3) أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد وعبد [المجيد] (¬4)، عن ابن جريج، عن عطاء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله أو مثل معناه لا يخالفه، وزاد عطاء: "يابني ¬

_ (¬1) جاءت مكررة في الأصل. (¬2) كذا بالأصل وراجعت لفظ الشافعي من مصادره فلم أقف عليه بهذا التمام أو اللفظ وانظر قول الشافعي السابعة في الرسالة (316 - 330). (¬3) كذا بالأصل وفي مطبوعة المسند بلفظ (يَمْنَعَنَّ). (¬4) بالأصل [المجد] وهو تصحيف.

عبد المطلب، أو يا بني هاشم، أو يا بني عبد مناف". هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث (¬1)، مع حديث أبي سلمة، عن معاوية، وعائشة، وهو حديث قد أخرجه أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). فأما أبو داود: فأخرجه عن ابن السرح، عن سفيان، بالإسناد عن جبير بن مطعم يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمنعوا أحدًا يطوف بهذا البيت، ويصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار". فأما الترمذي: فأخرجه عن أبي عمار، وعلي بن خشرم، عن سفيان، بالإسناد: "يا بني عبد مناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى" الحديث. وأما النسائي: فأخرجه عن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن، عن سفيان بالإسناد، مثل الترمذي، وقال: لا يمنَعَنَّ. وفي الباب: عن أبي ذر، وابن عباس. والشافعي لما أخرج رواية جبير بن مطعم وهي متصلة، أكدها برواية عطاء المرسلة. وإنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني عبد مناف ولاة الأمر لأن الأمر والنهي خصوصًا في الأحكام الشرعية إنما هو منوط بأولي الأمر وإنما خصَّ بني عبد مناف لأنهم ألزم به من غيرهم، وذلك جاء في رواية "يا بني عبد مناف، أو يا بني هاشم", لأن بني هاشم أقرب إليه من بني عبد مناف، وبني عبد المطلب أقرب ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث (504). (¬2) أبو داود (1894). (¬3) الترمذي (868) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (5/ 223)، وأخرجه في (1/ 284) عن محمد بن منصور به.

إليه من بني هاشم. وفي رواية أبي داود: "يطوف ويصلي" وفي رواية الباقين "طاف وصلى" ورواية أبي داود أحسن، لأن لفظ الحالية يقتضي التجدد والحدوث، بخلاف لفظ الماضي لأنه مقصور على الواقع دون المتوقع والمتجدد. ورواية الشافعي: قد جاءت مصدرة بالشرط والجزاء، الذي هو "مَنْ وَلِيَ" "فلا يمنع" وهي آكد وأعم وأبلغ في وجوب الحكم من غيرها، إلا أنها مخصوصة بمن ولي منهم الأمر. والرواية الباقية مطلق لبني عبد مناف، سواء ولوا أمرًا أو لم يلوا. وفيها دليل على أن: حكم البيت والحرم؛ مفوض إليهم على اختلاف الحالين، لأن من يكون إليه المنع يكون حكم ذلك الممنوع إليه، فإنه قادر عليه. ومع تخصيص من يلي منهم ينبغي ذلك، لأنه إنما أمرهم بترك المنع مع الولاية، إذ الولاة قادرون عليه، بخلاف من لم يَلِ منهم. وهذا الحديث: يدل على ما ذهب إليه الشافعي، من كراهة الأوقات المنهي عنها إلا في مكة، وقد سبق القول في ذلك. والصلاة في الأوقات المكروهة قد فعلها ابن عباس، وابن عمرو، وابن الزبير، والحسن والحسين بن علي بن أبي طالب، وعطاء، وطاوس، والقاسم بن محمد، ومجاهد، والشعبي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وأنكرت ذلك طائفة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وروي عن أحمد أيضًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: رأيت أنا وعطاء بن أبي رباح ابن عمر "طاف بعد الصبح وصلى قبل أن تطلع الشمس". هذا الحديث أخرجه في كتاب الرسالة (1)، في جملة الآحاديث التي أشرنا

إليها قبله، وأخرجه في كتاب الصلاة، عقيب اعتراض اعترضه على شيء رواه عن عمر، وأبي سعيد الخدري أنهما كانا يمنعان من الصلاة بعد العصر. قال الشافعي: وإن قال قائل: فهل من أحد صنع خلاف ما منعا؟ قيل: نعم، ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، والحسن، والحسين، وغيرهم وذكر إسناد حديث ابن عمر كما ذكرناه، ولم يذكر الأصم في المسند سوى حديث ابن عمر وقد ذكر الشافعي حديث الباقين في كتبه، عقيب حديث ابن عمر المذكور (1). قال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمار الدُهْنِيِّ، عن أبي شعبة: أن الحسن والحسين طافا بعد العصر وصليا. فقال: أخبرنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، أن ابن عباس طاف بعد العصر وصلى (¬2). وهذا الحديث المذكور مؤكد لما ذهب إليه الشافعي، من جواز الصلاة (¬3) السببية في الأوقات المكروهة. وقد أخرج الشافعي فيما حكاه الزعفراني عنه قال: قال الشافعي أخبرنا عبد اللَّه بن المؤمل، عن حميد مولى عفراء، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: قدم أبو ذر مكة فأخذ بعضادتي الباب فقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب أبو ذر، سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس؛ إلا بمكة إلا بمكة" تابعه إبراهيم بن طهمان، عن حميد مولى عفراء. ¬

_ (1) الرسالة (901). (¬2) أخرج الأثرين في الرسالة (902، 903). (¬3) في الأصل بهذا الموضع زاد حرف (و) والظاهر أنها مقحمة والسياق مستقيم بحذفها.

وهذا حديث مرسل (¬1)، وهو مع حديث عطاء المرسل، وحديث ابن عمر الموصول حجة متأكدة. قال الشافعي: سمع عمر بن الخطاب النهي عن الصلاة جملة بعد العصر، ولم يسمع ما يدل على أنه إنما نهى عنها؛ للمعني الذي وصفنا فكان يجب عليه ما فعل، وكذلك أبو سعيد الخدري حين صنع كما صنع، ويجب على عن علم المعنى الذي نهى عنه؛ والمعنى الذي أبيحت فيه إباحتها، بالمعنى الذي أباحتها فيه. وقد أخرج الشافعي، فيما ألزم العراقيين من مخالفة علي -كرم اللَّه وجهه- حكايه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن وهب بن الأجدع، عن علي، عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصلوا بعد العصر، إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة". وعن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي دبر كل صلاة ركعتين إلا العصر والصبح". ¬

_ (¬1) قال الحافظ في التلخيص (1/ 189): قال أبو حكم الرازي: لم يسمع مجاهد من أبي ذر، وكذا أطلق ذلك ابن عبد البر، والبيهقي، والمنذري وغير واحد. قال البيهقي: قوله في رواية إبراهيم بن طهمان: جاءنا أبو ذر أي جاء بلدنا، قلت (الحافظ): ورواه ابن خزيمة في "صحيحه" من حديث سعيد بن سالم، كما رواه ابن عدي وقال: أنا أشك في سماع مجاهد من أبي ذر.

وعن ابن مهدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عاصم قال: كنا مع عليّ في سفر فصلى العصر، ثم دخل فسطاطًا فصلى ركعتين. قال الشافعي. وهذه الأحاديث يخالف بعضها بعضا (¬1) - واللَّه أعلم. ... ¬

_ (¬1) وساق هذه الروايات البيهقي في السنن الكبير (2/ 459) ثم قال عقب قول الشافعي: فالواجب علينا اتباع ما لم يقع فيه الخلاف ثم يكون مخصوصًا بما لا سبب لها من الصلوات، ويكون ما لها سبب مستثناة من النهي بخبر أم سلمة وغيرها. وتعقب الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- قول البيهقي وعقد مبحثًا نفيسًا في الصحيحة (200) فانظره لزامًا.

الفرع السادس في تسمية [العشاء] بالعتمة

الفرع السادس في تسمية [العشاء] (¬1) بالعتمة أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تغلبَنَّكم الأعراب على اسم صلاتكم، هي العشاء ألا إنهم يعتمون بالإبل". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). فأما مسلم: فأخرجه عن زهير بن حرب، وابن أبي عمر، عن سفيان، وقال فيه: "ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل". وفي رواية له عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، بالإسناد قال: "لا تغلبنكم عن اسم صلاتكم (¬5)؛ فإنها في كتاب اللَّه العشاء، فإنها تعتم بحلاب الإبل". وأما أبو داود: فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن سفيان، وقال: "ألا وأنها العشاء ولكنهم يعتمون بالإبل". وأما النسائي: فأخرجه عن أحمد بن سليمان، عن أبي داود، عن سفيان، وفيه "فإنهم يعتمون على الإبل وإنها العشاء". "الأعراب": جمع قد تقدم بيانهم، وهم سكان البادية من العرب. وقوله: "لا تغلبنكم" هي كراهية، وسيرد بيان المذاهب فيه، والمراد بغلبتهم: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل والسياق يقتضيها. (¬2) مسلم (644). (¬3) أبو داود (4984). (¬4) النسائي (1/ 270). (¬5) في مطبوعة مسلم زاد [العشاء].

أن الأعراب كانوا [يسمون] (¬1) صلاة العشاء صلاة العتمة، والشرع سماها صلاة العشاء، وكلا التسميتين باسم الوقت، فحثهم - صلى الله عليه وسلم - على حفظ الاسم الشرعي الذي لم يكن الأعراب تعرفه، لأنهم لما ألفوه أَحْفَظُ، وبما عرفوه آنس، ولم تكن الأعراب تجري هذا الاسم في خطابها؛ ويحتاج الصحابة أن يخاطبوهم بعد بها؛ لكثرة الملابسة والمجاورة، مالوا إلى الاسم الذي هو العتمة، وغلب على ألسنتهم وأهملوا الاسم الشرعي، فحرضهم على حفظه بطريق النهي، ثم لم يكتف بمجرد النهي حتى جعله من طريق [الغلبة] (¬2)، لأن النفوس تنفر أن تغلب بالطبع، فأخرجه مخرج المغالبة، فإن الأعراب يريدون أن يقهروكم ويغلبوكم ويردوكم إلى موافقتهم في تسمية صلاتكم بالعتمة فإياكم أن تنقادوا لهم، ولا أن تسمحوا أن يغلبوكم وترضوا لأنفسكم أن يقهروكم. ثم انظر إلى ما في قوله: "صلاتكم" وإضافتها إليهم، وتخصيصها بهم؛ حتى كأنها لهم خاصة دون الأعراب من التخصيص والتحريض والحث على المحافظة، لأن من قيل له: لا تنقهر لخصمك في أخذ مالك، ليس كمن يقال له: لا تقهر لخصمك في أخذ مالٍ ما، فإضافتها إليهم مما يؤكدهم على حفظ هذا الاسم، وترك الميل إلى غيره. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "هي العشاء" بيانًا للتسمية الشرعية، لأنه قال أولًا: "على اسم صلاتكم" ولم يذكر الاسم، فعقبه بقوله: "هي العشاء" حتى لا يظن أن الاسم الذي أمرهم بالمحافظة عليه هو غيره ثم قال: "ألا إنهم يعتمون بالإبل". "العتمة": هي اسم للثلث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق، قاله الخليل وهو اسم لوقت صلاة العشاء، وقد "عتم الليل" يعتم، وعتمه: ظلامه والمراد بقوله: "يعتمون بالإبل" ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل، والسياق يقتضيها. (¬2) في الأصل [القبلة] وهو تصحيف والمثبت هو الموافق للسياق.

أي يؤخرون حلبها إلى أن يظلم الظلام، فسموا الصلاة باسم ذلك الوقت. و"ألا" يجوز أن تكون مشددة، فتكون استثناء، ويجوز أن تكون مخففة فتكون استفتاحًا للكلام، ويعضد الاستثناء ما جاء في رواية أبي داود: "ولكنهم يعتمون بالإبل" فجاء بـ "لكن" التي للاستدراك، كما أن تلك للاستثناء، ويعضد الاستفتاح باقي الروايات، على ما فيها من إضافة "ألا" تارة إلى العشاء وتارة إلى العتمة. ويشد من تخفيفها إدخال الواو بعد "إلا" في رواية أبي داود أيضًا. والأشبه برواية الشافعي أن تكون للاستثناء، وكلا الوجهين جائز. وأما دخول الواو بعد "ألا" المخففة، ففيه زيادة ليست مع عدمها وذلك كأنه لما استفتح الكلام بقوله: "ألا" أراد أن يذكر مقصوده، فأدخل الواو ليوهم المخاطب أن هذا القول معطوف على كلام قبله، كأنه قال: لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها الصلاة التي يعهدون ويعرفون وأنها العشاء. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنها في كتاب اللَّه العشاء" يريد قول اللَّه -عز وجل- في سورة النور {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} (¬1) وإنما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه التسمية: لئلا يرغبوا عما سماه اللَّه تعالى ورسوله، وليتأدبوا بآداب الشرع، ولا يميلوا إلى الأعراب محافظة على القانون الشرعي. وقيل: أراد لا يغرنكم فعل الأعراب تأخير حلب الإبل، وتسميتهم هذه الصلاة بالعتمة فتؤخروها عن وقتها الذي عرفتموه، ولكن صلوها لوقتها واتركوا فعلهم. والذي ذهب إليه الشافعي أنه قال: واجب أن لا تسمى صلاة العشاء بالعتمة لهذا الحديث. ¬

_ (¬1) النور [58].

وقد كره ذلك جماعة من الصحابة والتابعين. وكان ابن عمر: إذا سمع رجلًا يقول: "العتمة" صاح وغضب، وقال: إنما هو العشاء. وقال مالك بن أنس: واجب أن لا تسمى إلا بما سماها اللَّه -عز وجل- ومنهم من لم يكره ذلك، لما جاء عن عائشة قالت: اعتم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالعتمة، وفي رواية: اعتمّ بالعشاء (¬1)، ولما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا" (¬2) ويحتمل أن يكون النهي بعد حديث أبي هريرة. قال الشافعي: وسمى اللَّه -عز وجل- صلاة الصبح قرآنا في قوله -تعالى- {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬3) وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صبحًا في قوله: "من أدرك ركعة من الصبح فقد أدرك الصلاة" (¬4) فلا أحب أن يسمى بغير هذين الاسمين، فلا يقال: صلاة الغداة ولا غير ذلك. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (566)، ومسلم (638). (¬2) أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437). (¬3) الإسراء: (78). (¬4) تقدم تخريجه.

الفصل الرابع في الأذان والإقامة

الفصل الرابع في الأذان والإقامة وفيه فرعان الفرع الأول في صفتها أخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، أن عبد اللَّه بن محيريز أخبره، وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة حين جهزوه إلى الشام، فقلت لأبي محذورة: أي عم إني خارج إلى الشام، وإني أخشى أن أسأل عن تأذينك فأخبرني أبا (¬1) محذورة، قال: نعم، خرجت في نفر وكنا ببعض طريق حنين فقفل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من حنين، فلقينا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في بعض الطريق، فأذن مؤذن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عند رسول اللَّه، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بن يديه، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ " فأشار القوم إليّ -وصدقوا- فأرسل كلهم وحبسني، قال: "قم فأذن بالصلاة" فقمت ولا شيء أكْره إليَّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فألقى علي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - التأذين هو بنفسه، فقال قل: "اللَّه أكبر اللَّه أكبر، اللَّه أكبر اللَّه أكبر أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، ثم قال: ارجع فامدد من صوتك، ثم قال: قل "أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي ¬

_ (¬1) في مطبوعة المسند زاد: [يا].

على الفلاح، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه"، ثم دعاني حين قضيّت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أمَرَّها على وجهه، ثم مر بين ثديه، ثم على كبده، ثم بلغت يده سرة أبي محذورة، ثم قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "بارك اللَّه فيك وبارك عليك" فقلت يا رسول اللَّه مرني بالتأذين بمكة، فقال: "أمرتك به" وذهب كل شيء كان لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فَقَدِمْتُ على عَتَّاب بن أسيد عامل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن جريج: أخبرني بذلك من أدركت من آل أبي محذورة، على نحو مما أخبرني ابن محيريز. قال الشافعي: وأدركت إبراهيم بن عبد العزيز [بن] (¬1) عبد الملك [بن أبي] (¬2) محذورة يؤذن كما حكى ابن محيريز، وسمعته يحدث عن أبيه عن ابن محيريز، عن أبي محذورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى ما حكى ابن جريج. قال الشافعي: وسمعته يقيم فيقول: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه. هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5)، والترمذي (¬6). فأما مسلم: فأخرجه عن أبي غسان: مالك بن عبد الواحد المِسْمَعي، وإسحاق بن إبراهيم، عن معاذ بن هشام الدستوائي، عن أبيه، عن عامر ¬

_ (¬1) بالأصل [عن] وهو تصحيف، والصواب ما أثبتناه. (¬2) سقط من الأصل والاستدراك من مطبوعة المسند. (¬3) مسلم (379). (¬4) أبو داود (500). (¬5) النسائي (2/ 5). (¬6) الترمذي (191) وقال: صحيح.

الأحول، عن مكحول، عن عبد اللَّه بن محيريز، عن أبي محذورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الأذان، وذكر لفظة رواية الشافعي إلى قوله: "حي على الفلاح" ثم قال: وزاد إسحاق: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه. وأما أبو داود: فأخرجه من طرق كثيرة، وروايات عدة، وأطال فيها. فمما أخرجه عن مسدد، عن الحارث [بن] (¬1) عبيد، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه، عن جده قال: قلت يا رسول اللَّه! علمني سنة الأذان قال: فمسح مقدّم رأسه (¬2) قال: تقول: اللَّه أكبر وذكر لفظ رواية الشافعي إلى قوله: حي على الفلاح، ثم قال: فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه. وأما النسائي: فأخرجه عن إبراهيم بن الحسن، ويوسف بن سعيد و [اللفظ] (¬3) له -عن حجاج، عن ابن جريج، بإسناد الشافعي ولفظه، وله روايات أخرى. وأما الترمذي: فأخرجه مجملًا عن بشر بن معاذ، عن إبراهيم بن عبد العزيز ابن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه، وجده جميعًا عن أبي محذورة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أقعده وألقى عليه الأذان حرفاً حرفاً قال إبراهيم: مثل أذاننا، قال بشر: فقلت له: أعد عليَّ، فوصف الأذان بالترجيع. وفي أخرى: عن محمد بن المثنى، عن عفان، عن همام، عن عامر الأحول، عن مكحول، عن [ابن] (¬4) محيريز، عن أبي محذورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة. ¬

_ (¬1) بالأصل [عن] وهو تصحيف وانظر تحفة الأشراف (9/ 285) ومطبوعة السنن. (¬2) كذا بالأصل وفي السنن (رأسي). (¬3) بالأصل [اللَّه] وهو تحريف، والتصويب من السنن. (¬4) الأصل [أبي] وهو تصحيف، والتصويب من مطبوعة السنن وكذا تحفة الأشراف (9/ 286).

"اليتم": مصدر يَتِمَ الصبُّي يَيْتْمُ فهو يتيم، إذا مات أبوه وهو دون البلوغ، وهو في الأناسي من قبل الأب، وفي الدواب من قِبَلِ الأم، وأيتمت المرأة فهي مؤتم إذا صار أولادها أيتامًا. و"وحِجْرُ الإنسان": -بفتح الحاء وكسرها- معروف وبالفتح خاصة مصدر حجر عليه القاضي يحجر، إذا منعه من التصرف في ماله، واليتيم في حجر فلان يجوز أن يكون من كل واحد من الأمرين، ويجوز أن يكون منهما كليهما لصلاحة المعنيين فيه. "وجهزت المسافر" والقارئ، والعروس، ونحو ذلك، إذا أعددت وهيأت له ما يحتاج إليه من آلة وركوب وزاد، وغير ذلك مما تجر حاجته إليه، وتختص به، والاسم الحار بالفتح والكسر. وقوله: "فأخبرني أبا محذورة"، أي أخبرني يا أبا محذورة، فحذف حرف النداء وهذا جائز مع المنادى المضاف، والضابط فيه: أنه يجوز أن يحذف حرف النداء مع كل اسم لا يجوز أن يكون وصفًا لأي، تقول: زَيْدٌ أَقْبِلْ، وغلام زيد أقبل، لأنه لا يقال: يا أيها زيد أقبل، ويا أيها غلام زيد أقبل، ولا تقول: الرجل أقبل، لأنك تقول: يا أيها الرجل أقبل. "والنفر": الجماعة من الرجال من الثلاثة إلى العشرة. "وقفل المسافر": إذا رجع من سفره، والقافلة: اسم لجماعة المسافرين إذا رجعوا وإذا ذهبوا، قاله الأزهري. وقد تقدم القول فيه مبسوطًا، وهو من الصفات التي غلبت عليها الإسمية، التقدير في الأصل جماعة قافلة أي راجعة. وقوله "متنكبون" يجوز فيه تأويلان:- أحدهما: أنهم كانوا قد تنكبوا عن طريق، أي: عدلوا عنه وانحازوا إلى

جهة أخرى يمينًا أو شمالًا. والثاني: أن يكون من قولهم: تنكبت قوسي إذا ألقيتها على منكبك، وكأن الأول أشبه. "والصراخ": رفع الصوت والصياح. "والاستهزاء": السخرية، تقول: هزئت منه، وهزئت به، واستهزأت به، وتهزأت به، هزؤًا ومهزأة، ورجل هزأة بِسكون الزاي -يهزأ به، وبفتحها: يهزأ بالناس. وقوله: "حبسني" لم يرد به أنه حبسه في سجن؛ كما يسبق إلى الوهم، ولكن أراد أنه خلَّفَهُ عنده بعد أن صرف رفقته. وأما معنى كلمات الأذان فقوله: "اللَّه أكبر" معناه اللَّه كبير فوضع أفعل موضع فعيل، وذلك في العربية كثير. وقيل: معناه: اللَّه أكبر من كل شيء، وفيه نظر إلا أن يريد به كبر المعاني لا كبر الحثث، فإن اللَّه تعالى عن ذلك. وقيل: معناه اللَّه أكبر من أن يدرك عنه كبريائه، فخذف ذلك لفهم المعنى. وقيل: معناه: اللَّه أكبر كبيرًا، قال الهروي: قال أبو بكر: عوام الناس يضمون راء أكبر. وكان أبو العباس يقول: اللَّه أكبر اللَّه أكبر ويحتج بأن الأذان سمع موقوفًا غير معرب في مقاطعه، كقولهم: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهذا القول كما تراه. "والشهادة" في قوله: "أشهد" أصلها أنها خبر قاطع، تقول منه شهد الرجل على كذا، أو شهد له بكذا، أي أدى ما عنده من الشهادة فهو شاهد، والجمع

شَهْد، مثل: صاحب وصَحْب؛ وبعضهم ينكره، وجمع الشهد: شهود، وأشهاد، وقوله: "أشهد" فعل حال وإن شاركه في لفظه المستقبل، فهو هنا خاص للحال لأن المتلفظ به يُقْطع بإسلامه عقيب قوله، ولو كان مستقبلا لما قطع به فإنه كان يكون وعدًا بالشهادة. وقوله "حي على الصلاة" أي تعالوا إليها، فإن "حي" بمعنى هَلُمَّ وأَقْبِلْ، وهي اسم لفعل الأمر. "والفلاح": الفوز والبقاء. "والناصية": شعر مقدم الرأس. وقوله: "ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة" ولم يقل على ناصيتي لأنه لما طال الحديث وامتدت الحكاية عن نفسه، وجاء هذا المعنى المختص به، وفيه ما فيه من الفضيلة التي يفتخر بها؛ خاف لطول الكلام السابق أن يكون إذا قال: ثم وضع يده على ناصيتي، أن يتوهم السامع أن الحديث عن غيره، وأنه يحكي ذلك عن أحد سواه، فعاد من المضمر إلى المظهر ليزول هذا الوهم، ولما في الانتقال من المضمر إلى المظهر من تفنن الكلام، ولما فيه من إيقاظ السامع وتحريك فهمه للإصغاء مفان معانٍ إذا كان قد استمر سمعه على ذكر الرواية, وإسناد اللفظ إلى مضمر، ثم طرق سمعه الانتقال إلى مظهر تنبه للإصغاء، وألقى إليه سمعه فأدرك حينئذ تلك الفضيلة التي اخْتُصَّ بها أبو محذورة من [وضع] (¬1) يده - صلى الله عليه وسلم - على ناصيته، فلما أصغى وسمع ما أراد أن يسمع عاد إلى المضمر، فقال: ثم أمرّها على وجهه، ثم من بين يديه، ثم على كبده، وفرق ما بين المضمرين: فإنه كان في الأول ضمير المتكلم، وفي الثاني ضمير الغائب، وهو راجع إلى أبي محذورة، ثم عاد لما أراد أن يختم الفضيلة التي خصه بها ¬

_ (¬1) ليست في الأصل وإثباتها أجود.

رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، بحاله من يده رجع إلى المظهر فقال: ثم بلغت يده سرة أبي محذورة، ليراوح بين أول اللفظ وآخره، فيبدأ عند ذكر أول الفضيلة بالانتقال من المضمر إلى المظهر، ويختمها أيضًا بالانتقال من المضمر إلى المظهر، لتلك الفائدة التي ذكرناها، وقد جاء في نسخة "فأذنت على أمره"؛ وفي نسخة أخرى "عن أمره" ولهما جوابان:- أحدهما: أن حروف الجر يقع بعضها موقع بعض، وكلاهما واقعان موقع الثلاثي أي أذنت بأمره. والثاني: أن معنى "أمره" أي على مقتضى ما أمرني به، كأنه جعل أذانه آخذا بمجامع مع أمره حتى كأنه استولى عليه وصار فوقه، وأما عن أمْرِه فمعناه أن أذانه كان صادرًا عن إذنه وأمره، وأنه لم ينفرد بالأذان، ولم يصدره عن غير أَمْرِ من له الأمر. وفي قوله: "فذهب كل شيء لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من كراهية، وعاد ذلك كله محبة" دليل على بركة دعائه ومعجزته، لأنه كان قبل أن يمر عليه يده ويدعو له كما حكى عن نفسه من الكراهية لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولما يأمره به، ثم صار بعد ذلك أحب الناس إليه، وأحب الأشياء إليه الأذان، وحتى سأله أن يأذن له ليؤذن بمكة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الأذان والإقامة سنتان مؤكدتان؛ وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وقال الإصطخري: إنها فرض على الكفاية. وقال داود: فرضان على الإعيان، إلا أنهما ليسا بشرط في صحة الصلاة. وحكي عن الأوزاعي أنه قال: من نسي الأذان أعاد الصلاة في الوقت. وقال عطاء: من نسي الإقامة أعاد الصلاة. وقال أحمد: الأذان فرض على الكفاية.

قال الشافعي: يؤذن إن كان منفردًا أو في جماعة، وهو في المسجد أشد استحبابًا. والأذان عند الشافعي تسع عشرة كلمة، التكبير أولاً أربع كلمات، والشهادتان ثماني كلمات، أربع يقولها في نفسه وأربع يقولها ظاهرًا، والحيعلة أربع كلمات، والتكبير الآخر كلمتان، والتهليل كلمة واحدة، فهذه تسع عشرة كلمة؛ كل كلمة منها جملة من كلمات، وليس المراد بالكلمة لفظة واحدة، ويزيد في أذان الصبح التثويب مرتين؛ فيصير إحدى وعشرين كلمة. وقال مالك: الأذان سبع عشرة كلمة، فأسقط من التكبير الأول مرتين. وقال أبو حنيفة، والثوري: الأذان خمسة عشرة كلمة، فأسقط الترجيح. وروي عن أبي يوسف أنه قال: ثلاث عشرة كلمة، فبعض الترجيح وبعض من التكبير كلمتين، وروى أنه رَجعَ عن ذلك إلى مذهب أبي حنيفة. وحكي عن أحمد أنه قال: إن رجع فلا بأس، وإن ترك فلا بأس، وروي عنه بغير ترجيع. وأما الإقامة فهي إحدى عشرة كلمة، التكبير كلمتان والشهادة كلمتان، والحيعلة كلمتان، ولفظ الإقامة كلمتان، والتكبير الآخِر كلمتان، والتهليل كلمة. وبهذا قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وهو مذهب الحسن البصري، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والزهري. وقال الشافعي في القديم: إن الإقامة في الإقامة كلمة واحدة، فجعلها عشر كلمات، وبه قال مالك، وداود. وقال أبو حنيفة: الإقامة مثل الأذان، ويزيد في الإقامةِ الإقامةَ مرتين. وقد أخرج الشافعي من حكاية الزعفراني عنه قال: حدثنا رجل، عن عمر بن

حفص بن سعد، عن أبيه، عن بلال بن رباح مؤذن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أذن قال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمد رسول اللَّه أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، قال: وإذا كانت الإقامة قالها مرة إقامته كلها ولم يُرَجِّعْ كما يُرَجِّعُ في الأول. هذا الرجل الذي روى عنه الشافعي قيل: إنه إبراهيم بن محمد (¬1) بن أبي يحيى. وقال في الرواية: عمر بن حفص بن سعد، وإنما هو عمر بن حفص بن عمر ابن سعد، فكأنه نسبه إلى جده. قال الشافعي: وأخبرنا الثقة من أصحابنا عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعد القرظ في إمارة ابن الزبير يؤذن بالأذان الأول، فيقول في أذانه: أشهد أن لا إله إلا اللَّه مرتين أشهد أن محمدًا رسول اللَّه مرتين. وقد أخرج الشافعي أيضًا من رواية الربيع عنه، قال: سمعت إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة يقيم فيقول: اللَّه أكبر اللَّه أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، اللَّه أكبر اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، وقد قال إبراهيم: أدركت جدي وأهلي وأبي يقيمون، فذكر هذه الإقامة. وقال الشافعي في رواية الزعفراني عنه، في ترجيع الأذان وإفراد الإقامة، الرواية فيه تكلف الأذان خمس مرات في اليوم والليلة؛ في المسجدين على ¬

_ (¬1) بالأصل كررت كلمة (محمد).

رؤوس المهاجرين والأنصار، ومؤذنوا مكة: ابن أبي محذورة، وقد أذن أبو محذورة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وعلمه الأذان ثم وَلَدُهُ بمكة؛ وأذن آل سعد القرظ منذ زمن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، كلهم يحكون الأذان، والإقامة، والتثويب وقت الفجر كما قلنا، فإن جاز أن يكون هذا غلطًا من جماعتهم؛ والناس تحضر لهم، ويأتينا من طرف الأرض من يعلمنا له، جاز له أن يسألنا عن عرفة، وعن مني ثم يخالفنا ولو خالفنا في المواقيت كان أجدر له في خلافنا من هذا الأمر الظاهر المعمول به. يريد الترجيح في الأذان وإفراد الإقامة. وقد أخرج الشافعي من طريق المزني عنه، عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: أمر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة. ورواه أيضًا حرملة بن يحيى، عن الشافعي. قال الشافعي: هذا ثابت، وبهذا نقول فنجعل الإقامة وترًا، إلا في موضعين اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، في أول الإقامة وآخرها، وقد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، فإنها شفع (¬1). وحديث أنس هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، والنسائي (¬6)، وأجمع على ثبوته وصحته عامة الحفاظ. وإلى إفراد الإقامة ذهب سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والزهري، ومالك بن أنس، وأهل الحجاز، وعمر بن عبد العزيز، ومكحول، والأوزاعي، ¬

_ (¬1) راجع كل هذه الآثار والأقوال من المعرفة للبيهقي (2/ 224) (249). (¬2) البخاري (603). (¬3) مسلم (378). (¬4) أبو داود (508، 509). (¬5) الترمذي (193) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (2/ 3).

وأهل الشام، وإليه ذهب الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور، ومن تبعهم من العراقيين، وإليه ذهب يحيى، وإسحاق الحنظلي، ومن تبعهما دون الخراسانيين. ***

الفرع الثاني في أحكام تتعلق بالأذان

الفرع الثاني في أحكام تتعلق بالأذان التثويب لم يرد في المسند حديث في التثويب، ولكن قال الزعفراني في كتاب القديم: قال الشافعي: أخبرنا الثقة، عن الزهري، عن حفص بن عمر بن سعد القرظ، أن جده سعد كان يؤذن في عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لأهل قباء، حتى انتقله عمر في خلافته، فأذن بالمدينة في مسجد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فزعم حفص أنه سمع من أهله أن بلالًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - لِيُؤْذِنَهُ بالصلاة -صلاة الصبح- بعد ما أذن، فقيل: إن رسول اللَّه نائم، فنادى بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، فَأُمِرَّتْ في تأذين الفجر منذ سنها بلال" (¬1). قال الشافعي: أخبرنا غير واحد من أصحابنا، عن أصحاب عطاء، عن أبي محذورة أنه كان لا يثوِّب إلا في أذان الصبح، ويقول إذا قال: حي على الفلاح: الصلاة غير من النوم. قال الشافعي: أخبرنا رجل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليًّا كان يقول في أذان الصبح: الصلاة غير من النوم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن التثويب يستحب في صلاة الصبح. قاله في القديم وفي البويطي، وكرهه في استقبال القبلة والجديد. قال أبو إسحاق: ففي المسألة قولان، أصحهما الأخذ بالثبوت. وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في السنن الكبير (1/ 422)، وانظر المعرفة (2/ 262).

رفع الصوت

وأما أبو حنيفة، فحكى عنه التثويب في الفجر، في أثناء الأذان مثل الجماعة، وحكى عنه التثويب بعد الفراغ من الأذان وقبل الإقامة. ويشبه أن يكون الشافعي إنما كره التثويب في الأذان لانقطاع حديث بلال وأبي محذورة، وانقطاع الأثر الذي رواه فيه عن عليٍّ، وأنه لم يروه في الحديث الموصول عن ابن محيريز عن أبي محذورة. والقول القديم أصح، فإن التثويب قد جاء مرويًّا في حديث أبي محذورة، رواه أبو داود في السنن، وقد ذكرنا طريق حديثه في الفرع الأول، وروى ذلك عمر، وابن عمر، وأنس بن مالك. ومعنى التثويب لغة: هو الرجوع في القول مرة بعد مرة فكل داعٍ مثوب، وثوَّبَ فلان بالصلاة إذا دعي إليه، والأصل فيه الرجل يجيء متصرخًا فيلوح بثوبه، فسمي الدعاء تثويبًا، فتثويب الأذان قوله: الصلاة خير من النوم مرتين، وتثويب الصلاة، الصلاة بعد المكتوبة وقد يجيء التثويب في الحديث بمعنى الإقامة لأنها بعد الأذان. رفع الصوت أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي صعصعة، عن أبيه، أن [أبا] (¬1) سعيد الخدري قال له: "أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك فإنه لا يسمع مدى صوتك جن، ولا إنس، ولا شيء إلا شهد لك يوم القيامة". قال أبو سعيد: سمعته من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬2)، ومالك (¬3)، والنسائي (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والتصويب من مطبوعة المسند، ومصادر التخريج الأخرى. (¬2) البخاري (609). (¬3) الموطأ (1/ 82 رقم 5). (¬4) النسائي (2/ 12).

فأما مالك: فأخرجه في الموطأ بالإسناد، وقال فيه: فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن. وأما البخاري: فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك بلفظه. وأما النسائي: فأخرجه عن ابن (¬1) القاسم، عن مالك، إسنادًا ولفظًا. "البادية": الصحراء التي لا عمارة فيها. وإنما قال: الغنم والبادية، لأن الغالب من حال صاحب الغنم أن يكون في البادية لأجل المرعى. "والمدى": الغاية، يريد أنه يستنفذ وسعه في رفع صوته فيبلغ فيه الغاية، فكل من سمعه إلى منتهى الغاية؛ يشهد له يوم القيامة. وقوله: "ولا شيء"، يريد به كل ما يجوز أن يضاف إليه سَمَاعٌ من الحيوانات غير الجن والإنس. ويجوز أن يريد به كل شيء، سواء كان مما يسمع أو ما لا يسمع، وأن اللَّه يخلق لها [لسانًا] (¬2) يشهد له يوم القيامة، ويشهد لهذا القول ما رواه المزني، عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة قال: سمعت عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: سمعت أبي وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد الخدري قال: قال لي أبو سعيد الخدري: أي بني، إذا كنت في هذا الوادي فارفع صوتك بالأذان، فإني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يسمعه إنس، ولا جن، ولا حجر، ولا شجر إلا شهد له". قال الشافعي عقيب هذه الرواية: يشبه أن يكون مالك أصاب اسم الرجل. قال البيهقي: وهو كما قال الشافعي، وهو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن ¬

_ (¬1) كلمة (ابن) جاءت مكررة بالأصل. (¬2) بالأصل [بستانًا] وهو تصحيف والصواب هو المثبت.

عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، الأنصاري المدني، سمع أباه، وعطاء ابن يسار، وروى عنه مالك، وابنه عبد اللَّه (¬1). والذي ذهب إليه الشافعي أنه قال: وأحب أن يكون المؤذن صيِّتًا أي: عالي الصوت جهوريه، وأن يكون حسن الصوت. وفي سياق هذا الحديث: بيان فضيلة المؤذن والتأذين. وسيجيء المذهب في ذلك عند ذكر حديثه. ... ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "التهذيب" (3/ 382): قال ابن المديني: وهم ابن عيينة في نسبه حيث قال: عبد اللَّه بن عبد الرحمن، وقال الشافعي: يشبه أن يكون مالك حفظه. وقال الدارقطني: لم يختلف على مالك في تسمية عبد الرحمن بن عبد اللَّه، وقال ابن عبد البر في التمهيد: ثقة.

وقت الأذان أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحتَ أصبحتَ. وأخبرنا الشافعي: عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث وفيه "ينادي" بدل "يؤذن". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). وقد أخرجه الشافعي عن سفيان موصولًا، وعن مالك في القديم والحديث مرسلًا. فأما مالك: فأخرجه عن عبد اللَّه بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمر إلى قوله: ابن أم مكتوم. وله في أخرى: عن ابن شهاب، عن سالم، بالإسناد واللفظ. وأما البخاري (¬6): فأخرجه عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس بن يزيد. وعن قتيبة، عن ابن شهاب، بالإسناد واللفظ، إلى قوله: ابن أم مكتوم. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 86) رقم (14 - 15). (¬2) البخاري (617) عن القعنبي عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه به. (¬3) مسلم (1092). (¬4) الترمذي (203) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (2/ 10). (¬6) كذا بالأصل وهو خطأ والصحيح ذكر مسلم مكان البخاري فهذه روايته وهذا طريقه، وأظن أنه وقع سهو من المصنف فهو لم يشرح طريق البخاري ولم يذكر طريق مسلم في صدر كلامه وقد بينت طريق البخاري في الحاشية مع التخريج.

وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، بإسناد مالك ولفظه. وفي أخرى: عن قتيبة، بإسناد الترمذي ولفظه وفيه: "حتى تسمعوا تأذين ابن أم مكتوم". "الأذان": معروف وهو في اللغة: الإعلام، تقول: أذنته أُوذنه إيذانًا، وأذن يؤذن تأذينًا وآذانًا. والمراد به في الشريعة: الإعلام بوقت الصلاة. وقوله: "بليل" أي في الليل، وحقيقته: أنه يلصق أذانه بالليل، "فالباء" هنا بمعنى "في". "والنداء": يريد به الأذان، قال اللَّه -تعالى-: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬1)، وقال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} (¬2). وقوله: "فكلوا واشربوا" هو أمر لهم، وإعلام بامتداد وقت السحور إلى هذا الأمد، يريد طلوع الفجر الثاني. قال الزَّجَّاج: إنما سمي الإعلام أذانًا: اشتقاقًا من الإذن. والذي ذهب إليه الشافعي: أن صلاة الفجر تختص بجواز الأذان قبل طلوع الفجر الثاني، الذي هو وقتها بخلاف غيرها من باقي الصلاة، فانه لا يجوز إلا بعد دخول وقتها، وتقديم الأذان على الفجر عنده مستحب، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، وأبو يوسف. ¬

_ (¬1) الجمعة: [9]. (¬2) المائدة: [58].

وقال أبو حنيفة، والثوري، ومحمد بن الحسن: لا يجوز إلا بعد طلوع الفجر أسوة بغيرها من الصلاة. وإنما خصها بذلك لأن وقتها يدخل والناس أكثرهم نيام، فاستحب تقديم الأذان لينتبه النائم ويُرَجِّعَ القائم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن مسعود في الصبح لا يَمْنَعَنَّ أحدكم أذانُ بلالٍ من سحوره، فإنه يؤذن بليلٍ ليرجع قائمكم، ويوقظ نائمكم (¬1). قال: وإذا أذن قبل الفجر، فيستحب أن يكون له مؤذن آخر، يؤذن بعد طلوع الفجر، فإن لم يكن إلا مؤذن واحد، أذن قبل الفجر وترك الإعادة. قال الشافعي: وخالفنا في هذا بعض الناس فقال: لا يؤذن للصبح إلا بعد الفجر وهي كغيرها، وقال: فقد روينا أن بلالًا أذن قبل الفجر فأمر فنادى: إن العبد نام (¬2)، قلنا: سمعنا تلك الرواية، فرأينا أهل الحديث من أهل ناحيتك لا يثبتونها، يزعمون أنها ضعيفة ولا يقوم بمثلها حجة على الانفراد، وروينا بالإسناد والصحيح قولنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. واحتج الشافعي على ذلك بفعل أهل ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (621)، ومسلم (1093). (¬2) أخرجه البيهقي في سننه الكبير (1/ 383) وقال: هذا حديث تفرد بوصله حماد بن سلمة، عن أيوب، وروي أيضًا عن سعيد بن زربي، عن أيوب، إلا أن سعيدًا ضعيف، ورواية حماد منفردة، وحديث عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أصح منها، ومعه رواية الزهري، عن سالم، عن أبيه. وقال ابن عبد البر في التمهيد (10/ 59): هذا حديث انفرد به حماد بن سلمة دون أصحاب أيوب، وأنكروه عليه، وخطؤوه فيه، لأن سائر أصحاب أيوب يروونه عن أيوب قال: "أذن بلالًا مرة بليلٍ" فذكره مقطوعًا. وقال الحافظ في الفتح (2/ 122): اتفق أئمة الحديث: علي بن المديني، وأحمد، بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، والأثرم، والدارقطني على أن حمادًا أخطأ في رفعه، وأن الصواب وقفه على عمر ابن الخطاب، وأنه هو الذي وقع له ذلك مع مؤذنه وأن حمادًا انفرد لرفعه وانظر المعرفة (2/ 212).

الحرمين، وساق الكلام فيه إلى أن قال: هذا من الأمور الظاهرة، ولا شك أن أهل المسجدين، والمؤذنين، والأئمة أقروهم، والفقهاء لم يقيموا من هذا على غلط، ولا أقروه ولا احتاجوا فيه إلى علم غيرهم، ولا لغيرهم الدخول بهذا عليهم. وقد أخرج الشافعي في كتاب القديم قال: أخبرنا بعض أصحابنا عن الأعرج، [عن] (¬1) إبراهيم بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن جده، عن سعد القرظ قال: أذَّنَّا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقباء، وفي زمان بالمدينة، فكان أذاننا للصبح لوقت واحد في الشتاء لسبع ونصف تبقى، وفي الصيف لسبع تبقى منه. قال الشافعي: وأخبرنا ابن أبي الكنات (¬2) الخزاعي -وكان قد زاد على الثمانين أو زاهقها- قال: أدركت مذ كنت آل أبي محذورة يؤذنون قبل الفجر بليل؛ وسمعت من سمعت منهم يحكي ذلك عن آبائه. وقال الشافعي: وأخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن بشر بن عاصم، أن عمر بن الخطاب قال: عجلوا الأذان بالصبح، يدلج المدلج وتخرج العاهرة. وقال الشافعي: وأخبرنا مسلم، وسعيد، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: إن بعد النداء بالصبح لحزبًا حسنًا إن الرجل ليقرأ سورة البقرة. وقال الشافعي: وأخبرنا سفيان بن عيينة، عن شبيب بن غرقدة، عن حِبَّان بن الحارث قال: أتيت عليًّا -رضي اللَّه عنه- بدار أبي موسى وهو يتسحر فقال: إذن فاطعم، فقلت: إني أريد الصوم، قال: فأنا أريد الصوم، فطعم فلما فرغ، أمر ابن التياح فأقام الصلاة. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (2/ 210). (¬2) في المعرفة: (الكناني).

قال الشافعي [وهو لا يأمر] (¬1) بالإقامة إلا بعد النداء، وحين طلوع الفجر أمر بالإقامة. ففي هذا دلالة على أن الأذان كان قبل الفجر. قلت: قد تقدم هذا الحديث في باب المواقيت. وقوله: "لسبع ونصف" يريد أن الليل إذا قسم سبعة أقسام؛ كان الأذان في الشتاء إذا بقي من الليل قسم ونصف قسم، وفي الصيف إذا بقي منه قسم، والقسم الواحد في الصيف نسبته إلى مدة زمان ليل الصيف مثل القسم والنصف إلى مدة زمان ليل الشتاء، لأن سبعًا ونصف سبع هو ثلاثة من أربعة عشر، وغاية ما يطول الليل في الشتاء إذا نسبت إليه هذا المقدار كان بمنزلة السُّبْعِ الذي هو اثنان إذا نسبته إلى غاية قصر الليل في الصيف؛ وكان ليل الشتاء بطوله إذا بقى منه سبع ونصف سبع؛ يكون النائم قد اكتفى من نومه فيما انقضى من الليل، وليل الصيف إذا بقى منه سبع كان قد اكتفى النائم بما انقضى منه، فجعل في الشتاء زيادة نصف سبع على الصيف؛ لئلا يتضجر النائم في ليل الصيف لو قدم وقت الأذان، مثل الشتاء أو عسر عليه الانتباه. "والادّلاج": بالتشديد هو سير آخر الليل، وبالتخفيف سير أوله. وهو المراد في الحديث، لأن المسافر إذا أراد أن يسير بليل وسمع المؤذن خف لمسيره. "والعاهرة": الزانية، ومعنى قوله تخرج العاهرة، إشارة إلى الستر والصون على من عسى أن تكون قد أزلها الشيطان، وباتت في غير بيتها ابتغاء الفاحشة، فإذا سمعت الأذان خرجت من مكانها راجعة إلى بيتها خوف الفضيحة وهتك الستر: لو أصبحت في موضعها. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والاستدراك من المعرفة (2/ 211).

وهذا منه -رضي اللَّه عنه- حث على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم واقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إذا أطال أحدكم الغيبة، فلا يطرقن أهله ليلاً، لئلا يتخونهم أو يطلب عثراتهم" (¬1). وقد روى أنس بن مالك: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تطرقوا النساء ليلاً" (¬2). قال: فطرق رجلان بعد نهي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فوجد كل واحد منهما مع امرأته رجلاً". "والحِزْب": الوِرْدُ والوظيفة التي يوظفها الإنسان على نفسه من قراءة، أو عبادة، أو نحو ذلك من الأقوال والأفعال. ... ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5244)، ومسلم (715). (¬2) أخرجه البخاري (1800)، ومسلم (1928) لكن بلفظ: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يطرق أهله، كان لا يدخل إلا غدوة أو عشية". وهذه الزيادة المذكورة لم تقع في الصحيحين، وقد وردت من حديث ابن عمر وابن عباس -رضي اللَّه عنه-. وراجع الفتح (9/ 252).

الكلام في الأذان

الكلام في الأذان أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات ريح، يقول: "ألا صلوا في الرحال". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه أذن في ليلة ذات برد وريح فقال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: "إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول: ألا صلوا في الرحال". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر: "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مناديه في الليلة المطيرة والليلة الباردة ذات ريح، ألا صلوا في رحالكم". أخرج الشافعي الرواية الأولى، في كتاب استقبال القبلة في أحكام الأذان (¬1)، وأخرج الروايتين الأخريين في كتاب الإمامة (¬2). وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي، فأما مالك (¬3) فأخرج الرواية الثانية إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك، وذكر الرواية الثانية. وفي أخرى عن مسدد، عن يحيى، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع قال: أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان ثم قال: صلوا في رحالكم. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 88). (¬2) الأم (1/ 155). (¬3) الموطأ (1/ 85 رقم 10). (¬4) البخاري (666، 632).

وأخبرنا أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مؤذنا يؤذن على أثره: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر. وأما مسلم (¬1): فأخرج الرواية الثانية عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وفي أخرى: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبيد اللَّه، مثل البخاري. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن محمد بن عبيد، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، نحو رواية البخاري، ومسلم التي فيها ذكر ضجنان. وفي أخرى: عن القعنبي، عن مالك. وفي أخرى: عبد اللَّه بن محمد النفيلي، عن محمد بن سلمة، عن محمد ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: نادى منادي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بذلك بالمدينة في الليلة المطيرة والغداة القرَّة. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة عن مالك، مثل البخاري ومسلم. "كانت": في هذا الحديث هي التامة التي لا تحتاج إلى خبر، وهي بمعنى حدثت ووقعت، التقدير إذا حدثت ليلة باردة أو وجدت ليلة مطيرة. "وباردة": صفة لليلة فإنها ذات برد، فإنه لما أراد أن يصف بالمصدر أدخل "ذات" توصلًا إلى الصفة به فقال: "ذات برد" إلا أن باردة أبلغ في الوصف من ذات برد، لأن قوله: "ليلة باردة" كأن البرد قد اتصفت به أجزاؤها كلها، و"ذات بردٍ" ليس البردُ عامًّا فيها، إنما التقدير: ليلة صاحبة برد فكأن البرد لم يشمل جميع أجزائها، وإنما اختص ببعضها, ولما يستحسن أن يقول: ليلة راحة ¬

_ (¬1) مسلم (697). (¬2) أبو داود (1060، 1063، 1064). (¬3) النسائي (2/ 15).

على قياس قولهم: يوم راح إذا كان شديد الريح، كما قال: ليلة باردة قال: ليلة ذات ريح، لأنه أحسن وأكثر استعمالًا، وإنما كان ازدواج اللفظ أن يقول: ليلة باردة راحة، لولا قلة الاستعمال وقال: ليلة ذات برد، وذات ريح. "والرِّحال": جمع رحل للإنسان وموضعه الذي يكون فيه متاعه. "ويوم مطير"، "وليلة مطيرة": إذا كان فيها مطر. "والغداة القرة": الباردة ويوم قر، والقُرُّ بالضم: البرد. وقوله في الرواية الثالثة "في الليلة المطيرة، والليلة الباردة ذات ريح، فيه نظر، فإن الموصوف معرفة والصفة نكرة، وهذا لا يجوز، لا تقول: هذا زيد ظريف، وظريف صفة لزيد حتى تقول: الظريف، فإن جعلته حالًا نصبته فقلت: هذا زيد ظريفًا، كقوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} (¬1) فإن صحت الرواية بقوله: في الليلة الباردة ذات ريح، ولم يكن خطأ من الكُتَّاب والرواة فإنما يكون منصوبًا على الحال لا مجرورًا على الصفة، التقدير في الليلة الباردة ذات ريح، كما تقول: ضرب زيد عمرًا ذا ذنب، فتنصبه على الحال من عمرو، ورأيت في كتاب البيهقي: في الليلة الباردة ذات الريح، وهذا دليل على أن التحرف من الكُتَّاب- واللَّه أعلم. قوله: "كان يأمر مناديه" دليل على أن ذلك معتاد عنده مألوف، ولم يقع نادرا ولا مرة واحدة، وذلك بقوله كان يفعل. والذي ذهب إليه الشافعي: مستدلًّا بهذا الحديث هو أمران:- أحدهما: يتعلق بالأذان وهو جواز الكلام فيه، ولذلك أخرج الرواية الأولى. قال الشافعي: وأحب للإمام أن يأمر بهذا إذا فرغ المؤذن من أذانه، فإن قاله في أذانه فلا بأس عليه، والمستحب له أن لا يتكلم في أذانه، لأنه يقطع توالي ¬

_ (¬1) هود: [72].

ألفاظه، فإن تكلم جاز. والأمر الثاني: أن الجماعة يجوز تركها للعذر، ولذلك أخرج الروايتين الأخريين في كتاب "الإمامة" وسيجيء بيان الأعذار التي تبيح ترك الجماعة، في باب صلاة الجماعة. وقد جاء في رواية البخاري: ثم يقول على أثره: أي على أثر الأذان، وعند الفراغ منه، وهذا يؤيد استحباب ترك الكلام في الأذان، وأن هذا القول إنما كان بعد تمام الأذان وكذلك جاء في رواية البخاري في السفر. وفي رواية أبي داود: في المدينة، وليس ذلك لاختلاف قول (¬1)، وإنما هو لاختلاف حال، كأن ذلك حكى ما سمعه في السفر، وهذا حكى ما سمعه في المدينة. والسفر والحضر في الحكم سواء -واللَّه أعلم. ... ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [وأيضًا هو لاختلاف قول] وهي عبارة مقمحة وأظنها وقعت سهوًا من الناسخ.

الأذان والإقامة للجمع بين الصلاتين

الأذان والإقامة للجمع بين الصلاتين أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد وغيره، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر -في حجة الإسلام- قال: "فراح النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الموقف بعرفة فخطب الناس الخطبة الأولى، ثم أذن بلال، ثم أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة الثانية ففرغ من الخطة وبلال من الأذان، ثم أقام بلال، فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر". قال الشافعي: وأخبرنا محمد بن إسماعيل، أو عبد اللَّه بن نافع، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه. قال أبو العباس الأصم: يعني بذلك. قال البيهقي: انقطع الحديث من الأصل، وإنما أراد حديث الجمع بمزدلفة بإقامة إقامة. هذا طرف من حديث طويل صحيح، وقد أخرجه بطوله مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، وأخرج النسائي (¬3) منه أطرافًا هذا الطرف أحدها، والحديث بطوله يتضمن ذكر حجة الوداع بطولها. فأما مسلم: فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة (¬4)، وإسحاق بن إبراهيم جميعًا، عن حاتم بن إسماعيل المزني، عن جعفر بن محمد، بالإسناد. وأما أبو داود: فأخرجه عن عبد اللَّه بن محمد النفيلي، وعثمان بن أبي ¬

_ (¬1) مسلم (1218). (¬2) أبو داود (1905). (¬3) النسائي (5/ 228، 236) وفي مواضع أخرى، وأخرجه في الكبرى (4167) عن حاتم بن إسماعيل بالإسناد. (¬4) زاد في الأصل: (وإبراهيم بن أبي شيبة). وليس له ذكر وجود عند مسلم، وراجع تحفة الأشراف (2/ 271).

شيبة، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقيين، عن حاتم بن إسماعيل، بالإسناد قال: سار رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، حتى إذا انتهى إلى بطن الوادي، خطب الناس ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا. "الرواح": نقيض الصباح، وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل، وقد يكون مصدرًا تقول: راح يروح رواحًا، وهو نقيض غدا يغدو غدوًا، إلا أنه أكثر ما يستعمل في العَوْد من المكان بعشي، ومنه سرحت الماشية بالغداة، وأرحت بالعشي، لكنه لكثرة استعماله صار يطلق على الذهاب نفسه، سواء كان ابتداًء أو رجوعًا، وفي هذا الحديث إنما أراد الذهاب لأنه قال: فراح إلى الموقف، لكنه لما كان الوقت الذي ذهب فيه إلى الموقف بعد الزوال حسن استعماله فيه. "والموقف": موضع الوقوف بعرفة ويستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة خطبتين طويلة وقصيرة مثل الجمعة. "والقصواء": اسم ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقبها, ولم تكن قصواء فإن القصواء هي التي قطع طرف أذنها، يقال: ناقة قصواء وشاة قصواء، ولا يقال: جمل أقصى، كما يقال: امرأة حسناء، ولا يقال: رجل أحسن. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الجمع بين الصلاتين؛ إن جمع وقت الأولى أذن وأقام للأولى وأقام للثانية بلا أذان، وإن جمع في وقت الآخرة ففيه خلاف:- قال: يؤذن للأولى ولا يؤذن للتي بعدها. وقال: لا يؤذن لواحدة منهما. وقال في موضع آخر: إن رجي اجتماع الناس أذن وإلا فلا. وقد ذكرنا هذه الأقوال، وخلاف الأئمة في باب قضاء الصلوات مستقصىً.

الصلاة بإقامة لمن لم يؤذن

الصلاة بإقامة لمن لم يؤذن أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني عمارة بن غزية، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم قال: "سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يؤذن للمغرب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما قال، قال: فانتهي النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل وقد قال: "قد قامت الصلاة" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انزلوا فصلوا المغرب بإقامة ذلك العبد الأسود". هذا حديث مرسل (¬1)، حفص بن عاصم هو: ابن عاصم بن عمر بن الخطاب يروي عن أبيه، عن جده. والمراد [من] (¬2) هذا الحديث: هو الأخذ بأذان الغير وإقامته، وإن لم يقم هو، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع أذان إنسان، ثم انتهى إلى رجل يقيم الصلاة فأمرهم بالنزول، والصلاة بإقامته. وقوله: "ذلك العبد الأسود": كأن الرجل الذي كان يقيم كان أسود. ... ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في سننه الكبير (1/ 407 - 408) وقال: هذا مرسل. (¬2) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل وأضفته ليستقيم السياق.

القول مثل ما يقول المؤذن

القول مثل ما يقول المؤذن أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بإسناده ولفظه. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي. وأما الترمذي (¬5) والنسائي (¬6): فأخرجاه عن قتيبة. كل هؤلاء عن مالك بالإسناد واللفظ. وفي الباب: عن أبي هريرة، وأم حبيبة، وابن عمر، وعائشة، ومعاذ بن أنس. "النداء": هنا هو الأذان. وقوله: "فقولوا مثل ما يقول" يريد التلفظ بألفاظ الأذان. والذي جاء في السنة في غير هذا الحديث. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 81 رقم 2). (¬2) البخاري (611). (¬3) مسلم (383). (¬4) أبو داود (522). (¬5) الترمذي (208) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (2/ 23).

وإليه ذهب الشافعي: أن يقول مثل ما يقول المؤذن، إلا في "حي على الصلاة"، "حي على الفلاح"، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، وذلك لأن هذا دعاء إلى الصلاة وليس ذكرًا للَّه تعالى، والأجر في الدعاء يحصل لمن يسمع بها، فيصح أن يكون عليه السلام أمر من يحكى (¬1) المؤذن؛ أن يجعل الحوقلة أن يحكيه في الأذان؛ أن يحصل لعلة الأجر ولمحض الأجر (¬2). وقد جاء في العربية ألفاظ مركبة مثل الحيعلة، مركبة من حي على الفلاح، والحوقلة من لا حول ولا قوة إلا باللَّه، والبسملة من بسم اللَّه الرحمن الرحيم، والسبحلة من سبحان اللَّه، والحمدلة من الحمد للَّه، والهيللة من لا إله إلا اللَّه، والجعفلة من جُعِلْتُ فداك، والدمعزة من دام عزك، والطبقلة من طال بقاؤك. وإنما قال في جواب حي على الصلاة والفلاح: "لا حول ولا قوة إلا باللَّه"، لأنه لما دعاه المؤذن إلى الصلاة قال: لاحول لي ولا قوة على إجابتها والمجيء إلى الصلاة إلا باللَّه تعالى. وقد اختلف العلماء هل يقول المصلي ذلك؟ فقيل: يقوله أخذًا بعموم الخبر. وقيل: لا يقوله لأن الشغل بالصلاة أولى. وقيل: يقوله في النافلة دون الفريضة، لأن النافلة أمرها أخف. وقوله: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" ولم يقل المنادي، لأنه لما قال النداء -وهو لفظ مشترك بين نداء الصلاة وغيره- عدل إلى لفظ المؤذن عن المنادي، لئلا يتكرر لفظ النداء أولًا وآخرًا، فيقوى في النفس أحد القسمين على الآخر، فأما حيث قال "المؤذن" فإن ذلك الوهم زال، وَيُمحَّضُ النداء للصلاة خاصة دون غيرها. ¬

_ (¬1) أي قال مثل قوله سواء ولم يجاوزه. انظر اللسان مادة: حكى. (¬2) كذا العبارة في الأصل.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن مجمع بن يحيى، أخبرني أبو أمامة ابن سهل أنه سمع معاوية يقول: "سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا اللَّه قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول اللَّه قال: وأنا أشهد ثم يسكت". وأخبرنا الشافعي: أنا ابن عيينة، عن طلحة بن يحيى، عن عمه عيسى بن طلحة قال: سمعت معاوية يحدث مثله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخبرنا الشافعي: عن عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن يحيى المازني، أن عيسى بن عمر أخبرني عن عبد اللَّه بن علقمة بن وقاص قال: إني عند معاوية إذ أذن مؤذنه فقال معاوية كما قال مؤذنه، حتى إذا قال حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، وإذا قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، ثم قال بعد ذلك ما قال المؤذن، ثم قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬1) عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن يحيى، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عيسى بن طلحة، أنه سمع معاوية يومًا قال بمثله، إلى قوله: "وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه". وفي رواية عن إسحاق، عن (¬2) وهب بن جرير، عن هشام، عن يحيى نحوه، قال يحيى: ويحدثني بعض إخواننا أنه لما قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، وقال هكذا سمعنا نبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول. وفي أخرى: عن محمد بن مقاتل، عن عبد اللَّه، عن أبي بكر بن عثمان بن ¬

_ (¬1) البخاري (612، 613، 914). (¬2) زاد في الأصل بعد حرف الجر (عن): [ابن] وهو تحريف. والمثبت من صحيح البخاري، وتحفة الأشراف (8/ 446).

سهل بن حنيف، عن أبي [أمامة] (¬1) بن سهل بن حنيف قال: سمعت معاوية ابن أبي سفيان وهو جالس على المنبر، أذن المؤذن قال: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، فقال معاوية: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، فقال معاوية: وأنا أشهد أن لا إله إلا اللَّه، قال: أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، قال معاوية: وأنا، فلما قضى التأذين، قال: يا أيها الناس إني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على هذا المجلس حين أذن المؤذن (¬2) يقول: ما سمعتم مني من مقالتي. وهذا الحديث: بيان لحديث أبي سعيد الخدري المتقدم، ولذلك أخرجه الشافعي، لأن حديث أبي سعيد مجمل فقال: قولوا مثل ما يفعل المؤذن، وهذا مفصل بين فيه كيف يجيب المؤذن فيما يقوله، وما يخص "حي على الصلاة" و "حي على الفلاح". قال الشافعي: وبحديث معاوية نقول، وهو موافق حديث أبي سعيد، وفيه تفسير ليس في حديث أبي سعيد. وقوله: "سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا قال المؤذن" فاستعمل الفعل الماضي مع إذا وهي للمستقبل، وإنما أراد به الحال الحاضرة عند سماعه. وفيه فائدة أخرى: وذلك أن قوله: "سمعته إذا قال" يعطي أنه سمعه مرات لا مرة واحدة، بخلاف ما إذا قال: "سمعته إذ قال"، فإن هذا يجوز أن يكون قد سمعه مرة واحدة. "والحول": الحيلة وقيل: القوة، ومعنى لا حول ولا قوة إلا باللَّه، إظهار الفقر إلى اللَّه تعالى، وطلب المعونة على ما يزاوله من الأمور، وهو حقيقة العبودية. ¬

_ (¬1) بالأصل [أمه] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت. (¬2) بالأصل [المذن] وهو تصحيف والتصويب من رواية البخاري.

فضيلة الأذان

ويحكى عن ابن مسعود أنه قال: معناه لا حول عن معصية اللَّه إلا بعصمة اللَّه، ولا قوة على طاعة اللَّه إلا بمعونة اللَّه. والكلمة المبنية من هذه الكلمات التي تقدم ذكرها وهي "الحوقلة"، أكثر العلماء هكذا حكوها بتقديم القاف على اللام، ولذا ذكرها الأزهري في التهذيب. وذكرها الجوهري: الحولقة، بتقديم اللام على القاف، وأثبتها في فصل الحاء من باب القاف فعلى الأول: يكون الحاء من الحول، والقاف من القوة، واللام من اللَّه. وعلى الثاني: يكون الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة والأول أولى. فضيلة الأذان أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب، عن يونس عن الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "المؤذنون أمناء المسلمين على صلاتهم". وذكر معها غيرها، هكذا جاء في المسند، وهو مرسل أرسله الحسن بن أبي الحسن البصري فلم يرفعه (¬1). وقوله: "وذكر معها غيرها"، لعله أراد الزيادة التي جاءت في رواية علي بن المديني، عن محمد بن أبي عدي، عن يونس، عن الحسن قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "المؤذنون أمناء الناس على صلاتهم وحاجتهم -أو حاجاتهم" (¬2). "والمؤذنون": جمع سلامة للمؤذن. ¬

_ (¬1) وقد روي مرفوعًا من أوجه أخرى ولا تصح. قال الحافظ في التلخيص (1/ 183). رواه الشافعي في "الأم" عن عبد الوهاب ...... قال الدارقطني في "العلل": هذا هو الصحيح مرسل، وأما من رواه عن الحسن عن أبي هريرة فضعيف، قال البيهقي: يروي عن جابر وليس بمحفوظ، وروي عن أبي أمامة من قوله. (¬2) أخرجه البيهقي في سننه (1/ 432) وقال: وقد روي إجازة ذلك عن يونس، عن الحسن، عن جابر وليس بمحفوظ.

"والأمناء": جمع أمين، وهو الثقة الحافظ لما اؤُتمِنَ عليه تقول: أمنته على كذا وائتمنته بمعنى، وإنما كان المؤذن أمينًا للمسلمين على صلاتهم، لأنهم بأذانه يصلون فهم يتبعونه ويعتمدون على شهادته وأذانه، فهو يعينهم على وقت صلاتهم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المؤذن ينبغي أن يكون عدلًا، ثقة، عارفاً بأوقات الصلاة لأمرين:- أحدهما: ما ذكرناه من معرفته بالوقت وتقليد الناس له، فإنه إذا لم يكن ثقة؛ لم يؤمن أن يؤذن في غير الوقت للجهالة ولعدم الأمانة. الأمر الثاني: أنه يستحب للمؤذن أن يؤذن في موضع عالٍ، فيحتاج أن يشرف على الناس، فربما رأى من حرم الناس ما لا يجوز له. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء، فأرشد اللَّه الأئمة، وغفر (¬1) للمؤذنين". وقد أخرج الشافعي في كتاب الإمامة (¬2) عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم فأرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين". ¬

_ (¬1) في المطبوعة بترتيب السندي (وغفر). (¬2) الأم (1/ 159).

هذا حديث صحيح (¬1)، أخرجه أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3). فأما أبو داود: فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن رجل، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة، واغفر للمؤذنين" وفي أخرى: عن الحسن بن علي، عن ابن نمير، عن الأعمش، ¬

_ (¬1) هو حديث مختلف فيه صححه بعض أهل العلم وأعله آخرون. قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 207): قال أحمد: ليس لحديث الأعمش أصل، وقال ابن المديني: لم يسمع سهيل هذا الحديث من أبيه، إنما سمعه من الأعمش، ولم يسمعه الأعمش من أبي صالح بيقين، لأنه يقول فيه: نبئت عن أبي صالح، وكذا قال البيهقي في "المعرفة"، وقال الدارقطني في "العلل": رواه سليمان بن بلال وروح بن القاسم ومحمد بن جعفر وغيرهم عن سهيل، عن الأعمش قال: وقال أبو بدر عن الأعمش: حُدِّثت عن أبي صالح، وقال ابن فضيل: عنه، عن رجل، عن أبي صالح، وقال عباس، عن ابن معين، قال الثوري: لم يسمع الأعمش هذا الحديث من أبي صالح، ورجح العقيلي والدارقطني طريق أبي صالح عن طريق أبي هريرة، على طريق أبي صالح، عن عائشة كما نقل الترمذي، عن أبي زرعة، وصححهما ابن حبان جميعًا اهـ. وقد دافع الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- عن هذا الحديث وذهب إلى تقويته ودفع هذه العلل وقال في آخر مبحثه من الإرواء (1/ 234). فهذه طرق أربعة عن أبي صالح مهما قيل فيه، فإن مما لا ريب فيه أن مجموعها يحمل المُنْصِفَ على القطع بصحة الحديث عن أبي هريرة، فكيف إذا انضم إليه الشواهد الآتية ...... ثم ذكرها. (¬2) أبو داود (517، 518). (¬3) الترمذي (207). وقال: حديث أبي هريرة رواه سفيان الثوري وحفص بن غياث وغير واحد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ......... وروى أسباط بن محمد، عن الأعمش قال: حُدِّثْتُ عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى نافع بن سليمان، عن محمد بن أبي صالح، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسمعت أبا زرعة يقول: حديث أبي صالح، عن أبي هريرة أصح من حديث أبي صالح عن عائشة. وسمعت محمدًا يقول: حديث أبي صالح، عن عائشة أصح. وذكر عن علي بن المديني أنه لم يثبت حديث أبي صالح عن أبي هريرة، ولا حديث أبي صالح عن عائشة في هذا. أهـ.

قال: أنبئت عن أبي صالح؛ ولا أدري إلا قد سمعته منه -عن أبي هريرة عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مثله. وأما الترمذي: فأخرجه عن هناد، عن أبي الأحوص وأبي معاوية، عن الأعمش، بالإسناد مثل أبي داود. وفي الباب: عن عائشة، وسهل بن سعد، وعقبة بن عامر. وهذا الحديث لم يسمعه سهيل من أبيه، إنما رواه عن الأعمش، عن أبي صالح. وقول الأعمش قد حكيناه في رواية أبي داود. "الأئمة": جمع إمام، وقد سبق بيانه. "والضُّمَنَاُء": جمع ضَمِين وهو الكفِيل هذا هو الأصل. قال أهل اللغة: الضامن في كلام العرب معناه: الراعي، والضمان: الرعاية. فقوله: "والإمام ضامن" أي مُراعٍ لحفظ الصلوات، وعدد الركعات على القوم. وقيل: معناه ضمان الدعاء يعمهم به، ولا يختص به دونهم. وقد تأوله قوم: على أنه يحمل القراءة دونهم في بعض الوقت -عند من يوجب القراءة على المأموم وذلك إذا أدركه راكعًا يكبِّر ويركع ويدع القراءة، وعند من لا يوجبها على المأموم؛ فإنه يتحملها الإمام عنه، ولذلك يتحمل عنه القيام إذا أدركه راكعًا؛ كبر وركع وأسقط القيام. وليس الضمان الذي يوجب الغرامة من هذا في شيء، قاله الخطابي ولا أدري لم منع من ذلك، فإنه يجوز حمله على حقيقة الضمان، لأن الأمام ضامن لمن يأتم به صحة صلاته، فيما يرجع إلى التزامه في نفسه شرائط الصلاة وأركانها

التي لا تظهر للمأموم ولا يعرفها منه، كالوضوء، وطهارة البدن، واللباس، والنية، والقراءة المخفاة، والتشهد، وغير ذلك مما يفسد بعدمه الصلاة، وكل ذلك لا يعلمه المأموم، فصلاته في نفسه مع جهله بها صحيحة، وإنما صحت لما غلب عليه ظنه من وجود هذه الأوصاف في الإمام، فهو قد تكفل بصحة صلاة المأموم، حيث أظهر له من نفسه أنه قد التزم ذلك، لأن صحة صلاته في عهدته، وهي مقرونة بصحة صلاته ولولا ذلك لا صحت صلاته، ألا ترى أنه يعاقب على ذلك إذا تعمده، ويكون إثم المأموم عائدًا إلى الإمام، وهو المؤاخذ به؟، وهذا ظاهر لا خفاء به. وأما "الأمناء": فجمع أمين وقد تقدم بيان أمانة المؤذن في الحديث قبله. وقوله: "فأرشد اللَّه الأئمة" الرشد والرشاد والرشد، ضد الغيّ إلا أن الرُّشد -بالضم- مصدر -رَشَدَ -بالفتح- يَرْشُدُ، والرَّشد -بالفتح مصدر رَشِدَ- بالكسر-يرشد، والرشاد: الاسم المعروف. "والمغفرة ": التجاوز عن الذنب، وهو من الستر والتغطية. وقد جاء في رواية الشافعي: "أرشد وغفر" على لفظ الخبر. وفي رواية الباقين: "أرشد واغفر" بلفظ الأمر الذي هو الدعاء. والأول أبلغ وإن كان أراد به الدعاء أيضًا, ولكنه أخرجه مخرج الخبر؛ لتيقنه بإجابة هذا الدعاء، وأنه قد صار من جملة ما وُجَدِ ووَقَعَ، فجاء بلفظ الفعل الماضي المتيقن. وإنما خص الأئمة بالرشاد، ليكون أهدى لهم إلى التزام هذه الأشياء التي ذكرناها، والعمل بها والوقوف عندها. وإنما خص المؤذنين بالمغفرة: لأن تفريط المؤذن دون تفريط الإمام، والضرر ¬

_ (1) تراجع. قال معد الكتاب للشاملة: هذه الحاشية لم نجد الإشارة إليها.

الحاصل منه دون الضرر الحاصل من الإمام، فطلب له المغفرة لذلك. وبيان ذلك: أن ذنب الأئمة في التفريط بما يلزمهم من أحكام الصلاة متعلق بحقوق الآدميين ليس حقًّا للَّه تعالى، وما كان حقًّا للآدميين فإنما يُطْلَبُ العفو عنه إذا رضي صاحب الحق، فحيث كان بهذه الحال دعى لهم بالرشاد، لئلا يقعوا في هذه الورطة التي لا يجوز معها طلب المغفرة لهم قبل براءة الذمة من حق الغير، ولأن الدعاء بما يعصم من ارتكاب الذنب أولى من الدعاء بطلب المغفرة لمن ارتكبه. وقد ذهب قوم: إلى أن التأذين أفضل من الإمامة، فاعترض عليهم بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأذان، ولم يكن يترك الأفضل، واعْتُذِرَ عن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تركه لما فيه من الشهادة له بالرسالة والتعظيم لشأنه، ولأن في الأذان الحيعلة وهي أمر بالمجىء إلى الصلاة، فلو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل صلاة بإتيانها؛ فربما كان من الناس من لا تجب [عليه] (¬1) فلا يجيئون إليها؛ فكانوا يأثمون بتركها مع سماع دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها. ... ¬

_ (¬1) في الأصل [لها] والسياق غير مستقيم بها والمثبت هو الأقرب.

الفصل الخامس في استقبال القبلة

الفصل الخامس في استقبال القبلة وفيه ستة فروع: الفرع الأول: في تحويل القبلة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح، إذا أتاهم آت فقال: "إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوه الناس إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة". وفي رواية أخرى له بهذا الإسناد واللفظ، وفيها: "إذا جاءهم آت" وفيها "وكانت وجوههم إلى الشام". أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب "استقبال القبلة" (¬1)، وأخرج الرواية الثانية في كتاب "الرسالة" (¬2) مستدلًّا على جواز قبول خبر الواحد، وسنذكر كلامه في ذلك، ومذهبه. والحديث في نفسه صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا أبا داود. فأما مالك (¬3): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 94). (¬2) الرسالة (1113) وأيضًا في (365). (¬3) الموطأ (1/ 173 - 174 رقم 6). (¬4) البخاري (403).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن شيبان بن فروخ، عن عبد العزيز بن مسلم، عن عبد اللَّه بن دينار. وعن قتيبة، عن مالك الحديث. وفي رواية: عن سويد بن سعيد، عن حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر وعن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، ولم يذكر بقباء. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن هناد، عن وكيع، عن سفيان، عن عبد اللَّه ابن دينار، عن ابن عمر عقيب حديث البراء بن عازب بطوله يتضمن هذا المعنى وزيادة. وقال في حديث ابن عمر قال: كانوا ركوعًا في صلاة الفجر، يعني بدل قوله: "سجودًا". وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. وفي الباب: عن عمرو بن عوف المزني، والبراء بن عازب، وعمارة بن أوس، وأنس بن مالك. "وقباء": موضع بالمدينة معروف، يصرف ولا يصرف، وقد تقدم فيما مضى ذلك بيِّنًا مُسْتَقْصىً. وقد تلقاها هاهنا بإذ، وذلك على خلاف المستعمل العرفي، بأنها لا تستلقى إلا بالفعل، إلا أنه قد كثر تلقيها بإذ في الاستعمال العرفي، حتى رُفِضَ الأصل وصار الفرع فيه أكثر استعمالًا. "واستقبال الشيء": جعله قبل الوجه، والمقابلة المواجهة، والاستقبال ضد ¬

_ (¬1) مسلم (526). (¬2) الترمذي (341)، وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (2/ 61).

الاستدبار. "والاستدارة": استفعالة من الدوران، تقول: درت أدور دورًا ودورانًا، إذا كنت محاذيًا بوجهك لجهة فانتقلت عنها وحاذيت جهة أخرى. وإنما استعمل في هذا الحديث فعل ما لم يسم فاعله؛ في قوله: "أنزل عليه الليلة قرآن"، وفي قوله: "فقد أُمِرَ"، لأنهم كانوا يعلمون أن المنزّل والآمر هو اللَّه تعالى، وإنما يبني الفعل لم لِماَ يسمّ فاعله لأحد خمسة أشياء:- إما للعلم به كهذا وإما للجهل به، فإن من لا يُعْرَفُ لا يُخْبَرُ عنه، ومن لا يُعْرَفُ اسمه كيف يضاف إليه فِعْلٌ أو قَوْلٌ. وإما لتعظيمه: كقولك: "قُطع اليوم سارق" فيعلم أن القاطع لا يكون إلا صاحب الأمر كالسلطان والحاكم. وإما لتحقيره كقولك: "شتم الأمير"، فتعلم أنه ما ترك تسمية الشاتم إلا لحقارته. (وإما) (¬1) للخوف عليه كقولك: "قُتِل فلان" فتركت تسمية القائل خوفًا عليه لئلا يُقْتل به. والذي وردت به الأخبار في أمر القبلة وأول أمرها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان بمكة قبل الهجرة، كان يستقبل بيت المقدس، وكان يحب التوجه إلى الكعبة؛ لأنها قبلة أبيه إبراهيم الخليل -عليه السلام- فكان - صلى الله عليه وسلم - مدة مُقَامه بمكة يجعل البيت بينه وبين جهة بيت المقدس ويصلي، فيكون متوجهًا إليها معها، وكان يستقبل الركن الذي فيه الحجر الأسود، والصفحة التي بين الحجر الأسود والركن اليماني، فكان حينئذ يصلي إلى الغرب وبعض الشمال يسيرًا، ودام على ذلك، فلما هاجر إلى المدينة تعذر عليه الجمع بين القبلتين، كما كان ¬

_ (¬1) جاءت مكررة بالأصل.

يجمع بينهما بمكة، لأن من يستقبل بيت المقدس بالمدينة تكون الكعبة على شماله، فأقام بها ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، على ما جاء في الروايات وهو يصلي إلى بيت المقدس خاصة، وهو مع ذلك يحب التوجه إلى الكعبة، فأوحى إليه {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬1) وذلك في شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة. وقد روى المزني عن الشافعي -رحمه اللَّه- في ترتيب نزول الآيات في القبلة قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذُكر لنا -واللَّه أعلم- شأن القبلة، قال اللَّه -عز وجل {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬2) فاستقبل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، فقال {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (¬3) يعنون بيت المقدس، فنسخها وصرفه اللَّه إلى البيت العتيق، فقال {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬4). وهذا المعنى قد روي مرفوعًا عن ابن عباس (¬5)، وقد روي أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان أولًا بمكة يصلى إلى الكعبة، ثم أُمِرَ باستقبال بيت المقدس إلى رأس سبعة عشر شهرًا من الهجرة، ثم أُمِرَ بالعَوْدِ إلى استقبال الكعبة، وذلك قبل غزوة بدر بشهرين. ¬

_ (¬1) البقرة: (144). (¬2) البقرة: (115). (¬3) البقرة: (142). (¬4) البقرة: (150). (¬5) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 267 - 268)، والبيهقي في السنن الكبير (2/ 12). قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة.

وقد تأول العلماء قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ (¬1) مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} (¬2) على الوجهين المذكورين في أمر القبلة وأول شأنها. فأما من قال: إن الاستقبال أولاً كان إلى الكعبة، فقال: إن القبلة في قوله "وما جعلنا القبلة" مفعول أول لجعلنا، "والتي كنت عليها" مفعول ثان لها، التقدير: وما جعلنا القبلة الجهة -التي كنت عليها إلا لنعلم، أي وما جعلنا القبلة الكعبة إلا ليتبين من يثبت على الإسلام بتحويل القبلة، وممن ينتقل ممن كان إسلامه رغبة في موافقة أهل الكتاب في استقبال قبلتهم، وأما من قال بالقول الآخر: وهو أن الاستقبال أولًا إنما كان إلى بيت المقدس، فيكون "جعلنا" متعديًا إلى مفعول واحد بمعنى صيرنا، ومفعولُهُ "القبلة"، وقوله "التي كنت عليها" صفة للقبلة المجعولة، والمعنى: وما أمرناك أن تصلي إلى بيت المقدس -وهي القبلة التي كان عليها قبل التحويل- إلا لنعلم من يتبعك من اليهود والنصاري والمشركين ممن خالفك، لأنهم كانوا يعلمون أن بيت المقدس كان قبلة أهل الكتاب، وكانت العرب تعلم أنها كانت قبلة الأنبياء، فامتحنهم اللَّه بها ليظهر الموافق من المخالف، ولكنه علم لا يتعلق به الثواب والعقاب، لأن الثواب والعقاب إنما يتعلقان بوجود الفعل والقول -واللَّه أعلم. وقد اختلف العلماء في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه على المكلف؟ هل هو من حين وروده على الرسول، أو من حين بلوغ المكلف؟ ويحتج أحد القولين بهذا الحديث، لأنه ذكر أنهم تحولوا إلى القبلة وهم في الصلاة، ولم يعيدوا ما مضى منها، وهذا دليل على أن الحكم إنما يستقر بالبلوغ. فإن قيل: كيف استداروا إلى القبلة عند خبر المخبر، والنسخ في هذا ¬

_ (¬1) في الأصل [الرسل]. (¬2) البقرة: [143].

لا يكون بخبر الواحد؟ قيل: فقد قيل إن النسخ بخبر الواحد كان جائزًا في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما منع ذلك بعده. وقيل: إن الخبر تلا عليهم الآيات التي ذُكِرَ فيها النسخ، فتحولوا عند سماع القرآن، فلم يقع النسخ بخبره وإنما وقع عندهم بما سمعوه من القرآن. والذي أورده الشافعي في كتاب "الرسالة" -مستدلًّا على قبول خبر الواحد- قال: كان المسلمون يصلون إلى بيت المقدس قبل هذا، وكان الفرض عليهم فلما جاءهم آت لا يتهمونه، فأخبرهم أن القبلة حُوِّلَتْ نحو الكعبة، لم يسعهم أن يقيموا على ما عرفوا من القبلة؛ ويقولوا: خبرك وحدك إذ كان عندهم من أهل الصدق، وإنما أخبرهم بشيء للَّه لا للآدميين، ولو كانت الحجة لا تقوم بواحد إذا صدقوه، لم يكن لهم أن يدعوا القبلة التي وجههم اللَّه إليها، قبل أن يستيقنوا أن اللَّه وجههم إلى غيرها, ولا شك -إن شاء اللَّه- أن قد ذكروا لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك، لأنهم لا يُحَدَّثُون مثل هذا الحديث العظيم في دينهم ويطوونه عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وقوله في لفظ الحديث "قد أُمِرَ أن يستقبل القبلة" يريد الكعبة لأن لفظ القبلة يتناول كل ما يستقبل في الصلاة، وقد كان بيت المقدس يومئذ قبلتهم، فلو صرفناه إلى قبلتهم التي هم عليها لكان خطأ، لأنهم مستقبلوها فكيف يقول لهم قد أمر أن يستقبل القبلة التي هو عليها؟ فدل أن المراد إنما هو الكعبة، وأجاز تخصيص الكعبة بالقبلة فهم السامعون لذلك، لأنهم إذا عرفوا أن صرف اللفظ إلى قِبْلتهم التي هو عليها متعذر، فُهِمَ أن المراد باللفظ غير، ولم يبق ما تطلق عليه القبلة سوى قبلتهم التي كانوا عليها إلا الكعبة، ويجوز أن يقال: إن اللام في القبلة لام العهد، وذلك على قول من قال: إن استقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولًا بمكة إلى الكعبة، ثم تحول إلى بيت المقدس بمكة، فكان صرف القبلة إلى الكعبة

صرفًا عهديًّا. ويجوز: أن يكون أراد بالتعريف تعريف التعظيم والتحقيق، والتقدير: أمر أن يستقبل الجهة التي هي حقيقة أن تكون قبلة، إنما هي القبلة الصحيحة لا غيرها من القبل، وإن إطلاق لفظ القبلة على غيرها إنما هو مجاز واستعارة منها، وأن اسم القبلة لا يجوز أن يسمى به إلا الكعبة. وفي الحديث: دليل على أن الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أمر للأمة، لأنه قال: "أُمِرَ أن يستقبل القبلة" ولم يقل وقد أمركم أن تستقبلوها، فاستقبلوها حين سمعوا قوله ولم يستفهموا عن ذلك. والذي ذهب إليه الشافعي في استقبال القبلة: هو أن الناس في استقبال القبلة على ضربين:- ضرب يصلون معاينة، وهذا لا كلام فيه. وضرب يصلون عن معاينة، وينقسم هذا الضرب الثاني إلى ثلاثة أقسام:- أحدهما: أن يتوجه إلى الكعبة بيقين، مثل: أن يكون من أبناء أهل مكة ناشئًا بها أو مقيمًا بها من غير أهلها، ويعرف بيوتها وأزقتها وجهاتها، فإنه يدري كيف يتوجه نحوها وإن لم يشاهدها، ومثل: من يصلي بالمدينة إلى قبلة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يعلم يقينًا أنه يصلي إلى الكعبة. والقسم الثاني: يتوجه إلى الكعبة بالإخبار من ثقة بخبره عن المشاهدة أو ما يجري مجرى المشاهدة، وسواء فيه البصير والأعمى فإنهما يتبعان قول المخبر، إلا أن بينهما فرقًا وذلك أن الأعمى مقلد لا نظر عنده ولا استدلال، والبصير يساعده على اتباع نظره، فيكون أقرب حالاً من الأعمى. والقسم الثالث: يصلى بالاجتهاد والاستدلال عليها بالنجوم والرياح والجهات مما غلب على ظنه أنه القبلة؛ صلى إليه إذا ثبت ذلك.

فمذهب الشافعي: أن من عاين الكعبة فلا يجزئه إلا التوجه إلى عينها، ومن كان بحيث لا يراها فلا يخلو أن يكون الحائل بينهما أصليًّا في خلقته كالجبل، أو محدثًا كالبناء، فالأصلى يجوز له الاجتهاد ويصلي بما غلب على ظنه، وأما المحدث فمن أصحاب الشافعي من ألحقه بالأصلي، وهو الصحيح وظاهر كلام الشافعي، ومنهم من قال: لا بد له من مشاهدة العين والتوجه إليها. والذي نص عليه الشافعي في "الأم": أن طلب عين الكعبة واجب على المعاين والغائب عنها، إلا أن المعاين يواجهها بيقين، والغائب يجتهد. وقد نقل المزني: أن الواجب على الغائب طلب جهة الكعبة. وأنكره عليه أبو حامد الاسفراييني وقال: لا يعرف هذا للشافعي، وإنما هو مذهب المزني، وإليه ذهب أبو حنيفة. وقد ذكر من احتج للقائلين بالجهة، شبهه مخيلة في الظاهر في تعذر قصد العين على الغائب عن البيت فقال: إن الناس يصلون صفوفًا مستقيمة، فلو كان القصد إلى عين الكعبة واجب، لما صح إلا لمن هو في مسامتة عرض البيت أو طوله من الصف، ويبطل استقبال الباقين الخارجين عن مسامتة البيت، إلا أن ينحرف كل واحد منهم عن مسامتته جهة اليمين أو اليسار، بأن يكون جميع الصف قطعة من دائرة مركزها في البيت، وهذان المعنيان غير معتبرين في حال الصف، والإجماع يقضي بصحة صلاتهم، فوجب أن يكون جهة البيت قبلة مع البيت، وهذا أمر ظاهر يقضي بصحة ما قاله من تعذر قصد العين. والجواب عنه من وجهين:- أحدهما: أن جعل جهة البيت قبلة دون العين، فإنه يعترف بتوجه المصلي إلى غير البيت بلا إنكار، والخارجون عن مسامتة البيت يمينًا أو يسارًا، لم يُحَدَّ لهم هذا القائل حَدًّا ينتهون إليه، فإنا إذا جعلنا البيت في جهة الجنوب قبلة، لمن

هو في جهة الشَّمَال وإن امتدت صفوفهم بحيث يخرج عن سمت البيت، ويلزم على ذلك أن كل من صلى في جهة الشمال؛ إذا توجه إلى جهة الجنوب كان متوجهًا إلى القبلة، وإن طال الصف في جهتي الشرق والغرب، ولكان قبلة أهل الشمال جميعهم قبلة واحدة وجهة واحدة، وهذا لا قائل به، فإنا نعلم يقينًا أن قبل البلاد الشمالية مختلفة وكل قوم منهم لهم قبلة تخصهم ينحرفون إليها إما يمينًا وإما يسارًا، والحال التي عليها بلاد الإسلام شاهدة بصحة ذلك في جميع الجهات شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، فإذا توهمنا هيئة المصلين في أقطار الأرض، وجدناهم يصلون في دئرة محيطة بالبيت، كل قوم منهم بقدر بُعْدِهِم وقُربِهِمْ، وإنما لسعة الأرض وبُعْد المسافة بين المصلين وبين البيت لا تظهر بالاستدارة، وتكون الصفوت في رأي العين كأنها مستقيمة، ولا يمتري عاقل أن الدائرة إذا [عظمت] (¬1) واتسعت؛ وأخذ من محيطها قطعة يسيرة؛ لا يتبين في تلك القطعة تقوس ولا استدارة؛ وتبين في رأى العين كأنها خط مستقيم، والعقل يقضي بالتقوس فيها والاستدارة، فلولا قصد المصلين عين البيت دون الجهة؛ لما احتاجوا إلى الانحراف؛ وتسوية قبلهم على عين ولا قصدًا للجهة. والجواب الثاني:- نقول: إن موجب ما ذهب إليه من هذه الشبهة، رخصة فيما لا يقدر المجتهد على الإتيان به، وليست هذه الرخصة بأولى من غيرها، بل متى كانت الرخصة أقرب إلى حقيقة استقبال عين البيت، كانت أولى بالاعتماد عليها دون غيرها، لأن القائل بالجهة دون العين؛ إنما عدل عن العين إلى الجهة عند العجز عن قصد العين، فإذا أمكن مقاربة قصد العين كان أولى من تركه والعمل بغيره، وجعل ما ليس بقبلة قبلة، فإن المتوجه إلى البيت إن كان مسامتًا له بحيث إنه لو خرج من وسط وجهه خط إلى البيت لوصل إليه غير مائل إلى أحد جانبي وجهه اليمين أو اليسار، فهذا لا كلام فيه، وأنه مقابل ¬

_ (¬1) بالأصل [عصمت] وهو تصحيف.

للبيت بجميع وجهه، وإن كان الخط المذكور مائلًا إلى أحد جانبي وجهه؛ فإنه يستتر من وجهه عن البيت بسبب الميل جزءًا يسيرًا لا يحس به؛ ولا يتناوله اجتهاده؛ فيعفى عنه كما عفى الشرع عن نظائره وما هو أكثر منه في العبادات والمعاملات وغيرها، وتصح صلاته وتكون الرخصة في هذا الجزء اليسير الذي أحدثه ميل الخط إلى جانبي الوجه، أولى من أن يترخص ويجعل ما ليس بقبلة قبلة، وهو جهة البيت لا عينه، فأما متى كان هذا الجزء الذي يحدثه الميل له قدر يُحَسُّ به ويمكن تلافيه، فإن صلاة من صلى -وهذه حاله- لا [تصح] (¬1)، لأنه يكون قد توجه إلى غير البيت مع القدرة على التوجه إلى عينه. والنكتة في المسألة: أن استقبال المصلي بجميع وجهه جهة البيت وما قاربه، لا يمنع أن يكون مستقبلًا للبيت أيضًا بجميع وجهه إلا بجزءٍ يسير لا يحس به، ولا يتناوله اجتهاده فَتَصِحُّ صلاته لذلك، لاستقباله جهة البيت وما قاربه بجميع وجهه. وإذا فرضنا لذلك مثالًا معلومًا اتضح به الفرض فليجعل صف المسلمين ألف رجل، ولأن الغالب من حال المصلين أن الرجل الواحد يحتاج إلى ذراع ونصف لموضع صلاته في الأكثر، فيحتاج ألف رجل إلى ألف وخمس مائة ذراع، وذلك نصف ميل، وليجعل بُعْد هذا الصف عن البيت إلى جهة الشمال مثلاً سبع مائة ميل، ليكون بينه وبين طول الصف نسبة، والذين يحاذون البيت من هذا الصف بجميع وجوههم، عشرين نفرًا زائدًا فناقصًا، والباقون خارجون عن سمت البيت، لكن إذا رجعنا إلى تحقيق مقدار انحراف من في طرف الصف -الأيمن والأيسر- عن الذين في وسطه، كان جزءًا يسيرًا لا يحس به ولا يتناوله الاجتهاد، فإنه مع التحقيق الهندسي الذي لا يمترى فيه ولا يمكن إنكاره، وجد ما يُحْتَاجُ أن ينحرف المصلي في طرف هذا الصف نحو الوسط، جزءًا من أربع ¬

_ (¬1) بالأصل [تصحي] وهو تصحيف.

مائة جزء، بين حالته إذا كان مستقبلا بين يديه بجميع وجهه، وبين حالته إذا كان مستقبلًا للبيت بجميع وجهه، هذا انحراف من هو في طرف هذا الصف من المصلين، فأما انحراف كل مُصَلٍّ عن من إلى جانبه ممن يقرب إلى الوسط، فإنه جزءً من ألف جزء وأربع مائة جزء من ذراع، وذلك جزء من خمسة عشر جزءًا، من عرض شعيرة بالتقريب، هذا إذا فرضنا الصف مستقيمًا. فأما إذا فرضناه قطعة من دائرة، فإن كل واحد من المصلين ينحرف إلى يمينه أو يساره، جزءًا من ثلاثة آلاف جزء وخمس مائة جزء من ذراع، وذلك جزء من ستة وثلاثين جزء من عرض شعيرة بالتقريب، وهذا المقدار في هذا الصف المشتمل على ألف رجل، شيء لا يدركه الحس ولا يتناوله الاجتهاد. وليس هذا الذي ذكرناه مما يرتاب به ممن يقف على حقيقته، ولولا ما في بيانه من الإطالة والدقة على فهم أكثر من يسمعه من الواقفين عليه، لبسطنا القول فيه وأوردناه مبرهنًا محقَّقًا كما عرفنا، فليعلم السامع لما قلناه صحة ما ذهب إليه الشافعي -رحمه اللَّه-، وإدراكه بهذا المعنى الذي شرحناه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كاد يقول: "صلى - صلى الله عليه وسلم - ستة عشر شهرًا نحو بيت المقدس، ثم حُوِّلَتِ القبلة قبل بشهرين". وهذا حديث مرسل، هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬1) مرسلًا، وقد أخرج البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والترمذي (¬5)، هذا المعنى مسندًا بأتم منه وأطول. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 174 رقم 7). (¬2) البخاري (399). (¬3) مسلم (525). (¬4) لم أقف عليه عنده وقال المباركفوري في شرح الترمذي (2/ 265): أخرجه الجماعة إلا أبا داود. قلت: وقد بحثت عنه في مظانه فلم أجده، وقد أخرجه بنحوه من حديث أنس بن مالك (1045). (¬5) الترمذي (340).

عن البراء ابن عازب أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما قدم المدينة نزل على أجداده -أو قال أخواله- من الأنصار، وأنه صلى قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإن أول صلاة صلاها العصر، فصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه، فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد لقد صليت مع رسول اللَّه قِبَلَ مكة، فداروا كَمَا هُمْ قِبَلَ البيت، وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صلى قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما وجهه قبل البيت أنكروا ذلك، وأنه مات على غير القبلة -قَبْلَ أن يُحَوَّلَ إلى البيتِ- رجَالٌ وقُتِلُوا فلمِ يَدْرِ ما يَقُولُ فيهم، فأنزل اللَّه -عز وجل- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. قال الشافعي: فأعلمهم اللَّه أن صلاتهم إيمان فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}. قال البيهقي: والذي روى مرفوعًا: "البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض" (¬1) حديث ضعيف لا يحتج به، وكذلك ما روي عن جابر وغيره في صلاتهم في ليلة مظلمة كل رجل منهم على حياله، وخَطِّهِم خطوطًا وأنهم أصبحوا وأصبحت (تلك) (¬2) الخطوط لغير القبلة، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مضت صلاتكم" ونزلت: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬3) وهو حديث ضعيف لم يثبت فيه إسناد. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في السنن الكبير (2/ 10) وقال: تفرد به عمر بن حفص المكي وهو ضعيف لا يحتج به، وروي بإسناد آخر ضعيف عن عبد اللَّه بن حبشي كذلك مرفوعًا, ولا يحتج بمثله. (¬2) جاءت هذه الكلمة مكررة في الأصل. (¬3) أخرجه البيهقي في سننه أيضًا (2/ 11 - 12). وقال: لم نعلم لهذا الحديث إسنادًا صحيحًا قويًّا.

وروى ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في فرض الصلاة إلى بيت المقدس ثم نسخت حين حُوِّلَتِ القبلة إلى الكعبة. وروى ابن عمر قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة، على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. وهذا حديث ابن عمر حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1)، وهو أصح ما روي في نزول هذه الآية -واللَّه أعلم. ... ¬

_ (¬1) مسلم (700).

الفرع الثاني الصلاة داخل البيت

الفرع الثاني الصلاة داخل البيت أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ومعه بلال، وأسامة، وعثمان بن طلحة، قال ابن عمر: سألت بلالًا ما صنع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: جعل عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، ثم صلى، قال: وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة". أخبرنا الشافعي بهذا الإسناد قال: "دخل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هو وبلال، وعثمان بن طلحة، وأحسبه قال: أسامة بن زيد، فلما خرج سألت بلالًا كيف صنع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: جعل عمودًا عن يمينه، وعمودين عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، ثم صلى وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة". أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب الصلاة (¬1)، وأخرج الرواية الثانية في كتاب الحج من "الأمالي". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬2): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "دخل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - البيت هو وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، فأغلقوا عليهم، فلما فتحوا كنت أول من ولج، ¬

_ (¬1) الأم (1/ 98). (¬2) الموطأ (1/ 319 رقم 193). (¬3) البخاري (1598، 397، 468). قلت: وقد أخرجه البخاري (505) من طريق مالك كما رواه الشافعي.

فلقيت بلالًا فسألته: هل صلى فيه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم بين العمودين اليمانيين". وفي أخرى: عن يحيى، عن سيف بن سليمان قال: سمعت مجاهدًا قال: أتي ابن عمر فقيل له: هذا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة، قال ابن عمر: فأقبلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرج فأجد بلالًا قائمًا بين الناس، فسألت بلال فقلت: هل صلى النبي في الكعبة؟ قال: نعم، ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا [دخلت] (¬1)، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين". وفي أخرى: عن أبي النعمان وقتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر فذكر نحوه، وقال فيه: قال ابن عمر: [فَذَهَبَ] (¬2) عليَّ أن أسأله كم صلى؟ ". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى التميمي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وذكر الحديث. وفي أخرى: عن أبي الربيع الزهراني وقتيبة بن سعيد وأبي كامل الجحدري، كلهم عن حماد بن زيد، وذكر نحو البخاري. وله في أخرى: قال: أقبل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح على ناقة لأسامة ابن زيد، حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة فقال: "ائتني بالمفتاح" فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه فقال: واللَّه لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعه إليه ففتح الباب، ثم ذكر مثل حديث حماد بن زيد، وله وللبخاري روايات أخرى نحو ما سبق. ¬

_ (¬1) بالأصل [دخل] وهو تصحيف والتصويب من رواية البخاري. (¬2) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل، والاستدراك من رواية البخاري. (¬3) مسلم (1329).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، بالإسناد وذكر الحديث وقال فيه: " [عمودين] (¬2) عن يمينه". وفي أخرى: ولم يذكر السوارى وقال: "ثم صلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع". وفي أخرى: قال: ونسيت أن أسأله كم صلى؟. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر، عن بلال: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في جوف الكعبة". وله أخرى نحو إحدى هذه الروايات. وأما النسائي (¬4): فله روايات كثيرة منها: عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن ابن عوف، عن نافع، عن ابن عمر، وذكر نحوه. وفي أخرى: عن أحمد بن سليمان، عن أبي نعيم، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، وذكر رواية البخاري، التي بهذا الإسناد وقال فيها: قلت: أين؟ قال: [ما بين] (¬5) هاتين الأسطوانتين ركعتين، ثم خرج وصلى ركعتين في وجه الكعبة. "الكعبة": اسم خاص للبيت العتيق بمكة، وإن كان كل بيت يسمى كعبة، ¬

_ (¬1) أبو داود (2023، 2024، 2025). (¬2) بالأصل [عمود] والتصويب من رواية أبي داود، وهو الصحيح. (¬3) الترمذي (874). وزاد: قال ابن عباس: لم يصل ولكنه كبَّر. ثم قال: حديث بلال حديث حسن صحيح. (¬4) النسائي (5/ 216 - 218). (¬5) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل والاستدراك من رواية النسائي.

إلا أنه اختص هذا الاسم بالبيت الحرام، لكثرة الاستعمال حتى صار كأنه اسم يخصه دون غيره من البيوت، وإنما سمي كل بيت كعبة للتربيع الذي يكون في بنائه. "والعمودان اليمانيان": منسوبان إلى اليمن، تقول: رجل يمني ويمان، وإنما قال لهما يمانيان، لأنهما كانا مما يلي ظهر الكعبة، وظهرها مما يقابل اليمن. وقوله في إحدى روايات البخاري: "فأجِدُ بلالًا" بعد قوله "فأقبلت" وكان من حقه أن يقول: "فوجدت" حتى يكون قد عطف فعلًا ماضيًا على فعل ماض مثله، وإنما عدل عن الماضي إلى المستقبل؛ ليكون قد صور للمخاطب الحالة التي كان عليها ساعتئذ، حتى كأن المخاطب يشاهدها منه. "والسارية، والأسطوانة، والعمود": كلها بمعنى، وهي ما بني عليه السقوف، وسواء كانت من حجر، أو مدر، أو خشب، أو حديد، أو غير ذلك. وقوله: "فَذَهَبَ عليَّ": أي، غاب عني ونسيت، كأنه قد كان ذلك عنده فذهب عنه. وإنما قال: "عليَّ" لأحد أمرين: إما جواز وقوع بعض حروف الجر موقع بعض. وإما لأن معنى ذهب: اجتاز، فلذلك عداه بعليَّ أي جاز عليَّ وذهب. وقد قال الشافعي في الرواية الأولى: عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره، وكذلك قال عبد اللَّه بن يوسف وغيره. وقال في الرواية الثانية: عمودًا عن يمينه، وعمودين عن يساره، ورواه ابن مهدي، عن مالك، فقال: عمودين عن يمينه، وعمودًا عن يساره.

وكذلك قاله القاضي ابن أبي أوس، ويحيى بن بكير. قال البيهقي: وهو الصحيح، واختلف فيه على القعنبي. أما روايتي الشافعي فليس بينهما اختلاف، لأنه قال في الأولى: عمودًا عن يمينه، وعمودًا عن يساره، وقال في الثانية: عمودًا عن يمينه، وعمودين عن يساره، فهو في الأولى لم يتعرض إلى ذكر العمودين، إنما أراد أن يبين أنه صلى بين العمودين، وسواء كان العمودان عن يمينه أو عن يساره؛ لا يضره ذلك لأنه لم يقصد ذكر العمودين. وأما في الثانية: فإنه ذكر العمودين الباقين، وبَيَّنَ أنهما كانا عن يساره. ولا تناقض بين روايتيه، إنما التناقض بين روايته الثانية، وبين من روى أنه جعل عن يمينه عمودين، لأنه جعل في الثانية العمودين عن يساره، وغيره جعلها عن يمينه (¬1) واللَّه أعلم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن صلاة الفريضة والنافلة داخل الكعبة جائزة صحيحة، يستقبل المصلي أي جوانبها شاء، بشرط أن يقابل وجهه جزءًا من جدرانها، وبه قال أبو حنيفة. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (1/ 689 - 690). قال الكرماني: لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بيَّنته رواية (وعمودين)، ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثلاثة على سمت واحد بل اثنان على سمت والثالث على غير سمتها, ولفظ (المقدمين) في الحديث السابق مشعر به. قلت (الحافظ): ويؤيده أيضًا رواية مجاهد، عن ابن عمر فإن فيها: (بين الساريتين اللتين على يسار الداخل) وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار، وأنه صلى بينهما، فيحتمل أنه كان ثم عمود آخر عن اليمين لكنه بعيد أو على غير سمت العمودين فيصح قول من قال: (جعل عن يمينه عمودين) وقول من قال: (جعل عمودًا عن يمينه). وجوزَّ الكرماني احتمالًا آخر وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفة فصلى إلى جنب الأوسط، فمن قال: جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره لم يعتبر الذي صلى إلى جنبه، ومن قال عمودين اعتبره أهـ.

وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: تجوز النافلة دون الفريضة. وحكى عن ابن جرير أنه قال: لا تجوز النافلة ولا الفريضة، فلو صلى مستقبل الباب وهو مفتح لم تصح صلاته، إلا أن تكون العتبة مرتفعة بقدر آخرة الرحل، فإن استقبل الباب وهو مغلق صحت صلاته. وأما سطح الكعبة فلا تصح الصلاة عليه؛ إن لم يكن بين يديه شيء مرتفع من نفس الكعبة، فلو كان من غيرها لم يكفه. وقال أبو حنيفة: إن كان بين يديه قطعة من السطح يستقبلها؛ صحت صلاته. قال الربيع: قلت للشافعي: فما حجتك عليهم -يعني على من لم يجز الصلاة في الكعبة- فقال: قال بلال: صلى، وقال غيره: لم يصل، فكان من قال: "صلى" شاهدًا، ومن قال: "لم يصل ليس بشاهد"، فأخذنا يقول بلال. وقد روي عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن طلحة، وشيبة بن عثمان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فيها. وقال الشافعي في كتاب "الحج" واستحب دخول البيت إن كان لا يؤدي أحدًا بدخوله، ولأنه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من دخله دخل في حسنة، وخرج من سيئة مغفورًا له" (¬1) وأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دخله. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (11/ 177، 200 - 201 رقم 14414، 14490)، وابن عدي في الكامل (4/ 137)، والبيهقي في السنن الكبير (5/ 158) وغيرهم. ثلاثتهم عن عبد اللَّه بن المؤمل، عن محمد بن عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء، عن ابن عباس، به. قال ابن عدي: هذا مع ما أمليت من أحاديث ابن المؤمل فكلها غير محفوظة. وقال البيهقي: تفرد به عبد اللَّه بن المؤمل وليس بقوي. قلت: وضعَّفه أيضًا الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- وانظر الضعيفة رقم (1917).

الفرع الثالث صلاة أشد الخوف

الفرع الثالث في صلاة أشد الخوف أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، أن عبد اللَّه بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف؟ قال: يتقدم الإمام وطائفة، ثم قص الحديث، وقال ابن عمر في الحديث: فإن كان خوفًا أشد من ذلك، صلوا رجالًا وركبانًا، ومستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد اللَّه بن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وأخبرنا الشافعي بالإسناد: عن ابن عمر -أراه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -- فذكر صلاة الخوف، فقال: إن كان خوفًا أشد من ذلك صلوا رجالًا وركبانًا، مستقبلي القبلة وغير ومستقبليها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا رجل، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه لم يشك فيه، وأنه مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب "استقبال القبلة" (¬1) والرواية الثانية والثالثة في كتاب "الرسالة" (¬2). وقد روى الربيع الرواية الثالثة في غير المسألة عن الشافعي، عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، فسمى الرجل الذي لم يسمه في المسند (¬3). وهذا الحديث طرف من حديث صحيح، قد أخرجه الجماعة بطوله، وسيرد ذكر طرقه في صلاة الخوف، عند ذكر الشافعي هذا الحديث بطوله، وإنما ذكر منه في هذا الموضع هذا الطرف، ليستدل به على أن شدة الخوف ¬

_ (¬1) الأم (1/ 96). (¬2) الرسالة (513، 514). (¬3) أخرجها في الأم (1/ 222) قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل أو عبد اللَّه بن نافع، عن ابن أبي ذئب فذكره.

يجوز معها أن يصلي إلى غير القبلة، ولم يخرج هذا الطرف من الجماعة إلا البخاري (¬1)، فإنه قال: إن ابن عمر إذا سئل عن صلاة الخوف؟ قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس، فيصلي بهم الإمام ركعة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة، استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون، ويتقدمون الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فيقوم كل واحد من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإمام، فيكون كل واحد من الطائفتين قد صلوا ركعتين، فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، وركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. قال مالك: قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. "الرجال": جمع راجل، مثل صاحب، وصحاب، وقائم وقيام، ومنه قوله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬2) أي مشاةً وركبانًا. "والركبان": جمع راكب، مثل: راع ورعيان، والراكب في الأصل هو من ركب الإبل خاصة، ثم كثر الاستعمال حتى قيل لمن ركب الخيل والبغال والحمير. وقوله: "وقَصَّ الحديث" إشارة إلى لفظ رواية البخاري. وقوله: "فإن كان خوفًا أشد من ذلك" بالنصب فإنما هو منصوب لأنه وصف (¬3) حال، واسمها الضمير الذي فيها الراجع إلى الخوف المقدم ذكره، تقديره: فإن كان الخوف خوفًا أشد من ذلك، وقد جاء في رواية البخاري مرفوعًا، على أنه فاعل كان. ¬

_ (¬1) البخاري (4535). (¬2) الحج (27). (¬3) في الأصل [خف] هكذا والمثبت هو للسياق الأقرب.

"وكان" في هذه الرواية تامة، لا تحتاج إلى خبر. وقوله: "مستقبلي القبلة" منصوب لأنه حال ثانية، من صلوا أي صلوا مشاةً وركبانًا، مستقبلين وغير مستقبلين، أو لأنه صفة الحال التي هي رجالًا وركبانًا. فالذي ذهب إليه الشافعي: أن استقبال القبلة يسقط في حال شدة الخوف، وذلك عند المسابقة، والتحام القتال، ومطاردة العدو، فيصلون حينئذ كيف أمكنهم رجالًا وركبانًا، وقيامًا وقعودًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، يومئون برءوسهم بالركوع والسجود، ويكون السجود أخفض من الركوع، ويتقدمون ويتأخرون قليلًا، ولا يقضون إلا أن تكون أفعالهم وحركاتهم ومضاربتهم كثيرة، فيصلون ويعيدون. وقال أبو حنيفة: لا يصلي في هاتين الحالتين، ويؤخرها ويقضيها. ***

الفرع الرابع الصلاة على الراحلة

الفرع الرابع في الصلاة على الراحلة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، عن عبد اللَّه بن عمر قال: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته في السفر حيث ما توجهت به". وأخبرنا الشافعي: عن مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبي الحباب: سعيد بن يسار، عن عبد اللَّه بن عمر أنه قال: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر". قال الشافعي: يعني النوافل. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه عن عمرو بن يحيى، بإسناد الرواية الثانية ولفظها. وأخرج الرواية الأولى بإسنادها ولفظها وزاد فيه، قال عبد اللَّه بن دينار: وكان عبد اللَّه بن عمر يفعل ذلك. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الأعلى بن حماد، عن وهيب، عن موسى بن عقبة، عن نافع قال: "كان ابن عمر يصلي على راحلته ويوتر عليها، ويخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله". وفي أخرى: عن موسى، عن عبد العزيز بن مسلم، عن عبد اللَّه بن دينار قال: "كان عبد اللَّه بن عمر يصلي في السفر على راحلته أينما توجهت به، يومئ إيماءً، وذكر عبد اللَّه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله". وفي أخرى تعليقًا: عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: قال سالم: ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 142) رقم (25، 26). (¬2) البخاري (1095، 1096، 1098، 1105).

كان عبد اللَّه يصلي على دابته من الليل وهو مسافر، ما يبالي حيث كان وجهه، قال ابن عمر: "وكان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يسبح على الراحلة قِبَل أي وجه توجهت به، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة". وفي أخرى: عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على ظهر راحلته، حيث كان وجهه. وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي خالد الأحمر، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به". وفي أخرى: عن عبيد اللَّه بن عمر القواريري، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته، حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬2). وفي أخرى: عن يحيى بن يحيى، عن مالك، بالإسناد واللفظ في الروايتين، إلا أنه لم يذكر في الأولى السفر، وزاد زيادة الموطأ. وفي أخرى: عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، [عن سالم] (¬3)، عن أبيه، نحو رواية البخاري التي فيها ذكر المكتوبة. وفي أخرى: عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب، عن سعيد بن يسار أنه قال: كنت أسير مع ابن عمر بطريق مكة، قال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت ثم أدركته، فقال ابن عمر: أين كنت؟ فقلت له: خشيت الفجر فنزلت ¬

_ (¬1) مسلم (502) إلى قوله (راحلته)، وفي (700). (¬2) البقرة: [115]. (¬3) بالأصل [عالم] وهو تصحيف.

فأوترت، فقال عبد اللَّه: أليس لك في رسول اللَّه أسوة؟ فقلت: بلى واللَّه، قال: "إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: كان يوتر على البعير". وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، مثل رواية البخاري، ومسلم التي ذكر فيها المكتوبة. وفي أخرى: عن القعنبي، عن مالك، عن عمرو بن يحيى، بإسناد الشافعي ولفظه. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، بإسناد مسلم ونحو لفظه وأخصر منه. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن عيسى بن حماد وأحمد بن عمرو بن السرح والحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب بإسناد البخاري ومسلم نحو لفظ روايتهما. وفي أخرى: عن عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، عن يحيى، عن عبد الملك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، مثل مسلم. وفي أخرى: عن قتيبة، عن مالك، عن عبد اللَّه بن دينار، مثل الموطأ. وله روايات أخرى لهذا الحديث تركناها اختصارًا. وقد أخرج المزني: عن الشافعي، عن مالك، أيضًا وذكر الزيادة التي زادها مالك في الموطأ، وهي قوله: "وكان ابن عمر يفعل ذلك" وأخرج أيضًا المزني: عن الشافعي، عن مالك، رواية مسلم يقول فيها: كنت أسير مع ابن عمر بطريق مكة بطولها (¬4). ¬

_ (¬1) أبو داود (1224، 1226). (¬2) الترمذي (472) وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (1/ 243 - 244). (¬4) انظر الأم (1/ 97).

ورواها الزعفراني: عن الشافعي في القديم بمعناه. وأخرج الشافعي في القديم: عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يوتر على الراحلة. قال: وأخبرنا رجل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عليًّا كان يوتر على الراحلة. "الراحلة": البعير القوي على الأسفار والأحمال، والهاء فيه للمبالغة فسواء فيه الذكر والأنثى. وقيل "الراحلة": الناقة التي تصلح لأن ترحل، فيكون الهاء فيه للتأنيث والجمع: الرواحل. "وتوجهت إلى كذا": إذا استقبلته بوجهك وقصدته. "والنوافل": جمع نافلة، وهي من الصلاة ما ليس بفرض، وأصل النفل: الزيادة على الشيء، فكأنها زيادة على الفريضة. "والوتر": من الورد: الفرد والشفع: الزوج، والوتر في الصلاة: ما يصلى بعد الفراغ من فريضة العشاء، وسنتها في الليل، وفيه لغات فأهل الحجاز يفتحون الواو، وبنو تميم وغيرهم يكسرونها. "وأوترت" أُوتِرُ: إذا صليت الوتر، وأوتر المصلي صلاته: إذا جعلها فردًا. "والإيماء": الإشارة إلى الشيء بالرأس، أو العين، أو اليد، أو الأصبع. والمراد في الحديث الإشارة بالرأس في حالة الركوع والسجود. "والمبالاة": الاكتراث بالشيء والاحتفال له، تقول: ما أباليه، وما أبالي به. وأما قولهم: "لم أبل"، فإنما حذفوا ألف أبالي تخفيفًا لكثرة الاستعمال، كما حذفوا الياء من قولهم: لا أدر.

"والتسبيح" في العربية: هو أن يقول: سبحان اللَّه سبحان اللَّه، وسبحت اللَّه أسبحه تسبيحًا، هذا هو الأصل، ثم إنه أطلق على صلاة النافلة خاصة دون الفريضة، فقالوا: الصلاة النافلة، سبحة، وسبح المصلي: إذا صلى نافلة، إنما سميت سبحة لما فيها من التسبيح والدعاء، وإن كان ذلك أيضًا موجودًا في الفرض وجوده في النافلة، ولكنهم جعلوه خاصًّا بالنافلة وَضْعًا واصطلاحًا. "والمكتوبة": صلاة الفريضة، يعني أنها كتبت على الإنسان كما يكتب عليه الحق. "والأسوة": بكسر الهمزة وضمها: القدوة، تقول: لك في فلان أسوة أي قدوة، وأصله من المواساة المشاركة في الشيء، والتأسي التعزي عن المصاب، وجمع الأسوة إسّى وأُسّى بالكسر والضم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المتنفل في السفر لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون ماشيًا، أو راكبًا. فإن كان ماشيًا: وجب عليه التوجه إلى القبلة في ثلاثة أحوال في الافتتاح، وإذا ركع، وإذا سجد، وما عدا هذه الأحوال الثلاث فيجوز له أن يتوجه فيها إلى جهة سفره ومقصده، أي جهة كانت. فأما إن كان راكبًا: فلا يخلو أن يكون في محفة (¬1)، أو ما يشابهها مما يمكنه أن يتحول فيه من جهة إلى جهة، وحينئذ يتوجه فيها إلى القبلة، ويصلي قاعدًا ويركع ويسجد، فإن كان راكبًا على راحلة، أو قتب (¬2)، أو مركب ضيق، أو سرج، أو ما أشبه ذلك، فإن [كانت] (¬3) الدابة واقفة؛ فإما أن تكون مقطورة ¬

_ (¬1) رَحْلٌ يحف بثوب ثم تركب فيه المرأة، وقيل: المحفة مركب كالهودج إلا أن الهودج يقبب والمحفة لا تقبب اللسان مادة: حفف. (¬2) هو إكاف البعير، وهو رحل صغير على قدر السنام. اللسان مادة: قتب. (¬3) بالأصل [كان] والجاده ما أثبتناه وكذا ذكر المصنف بعد قليل.

إلى غيرها، أو منفردة، فالمقطور يجوز له أن يصلي حيث ما توجهت به لأنه يتعذر عليه إدارتها إلى القبلة. وإن كانت منفردة: فيتوجه في حالة الافتتاح إلى القبلة. وإن كانت الدابة سائرة: فإما أن تكون مقطورة فيصلي إلى جهة مسيرها. وإن كانت منفردة: فإما أن تكون سهلة في الإدارة، فيديرها إلى جهة القبلة وتصح الصلاة إلى جهة القبلة في أحد الوجهين والوجه الثاني: لا يديرها. وإن كانت صعبة الإدارة، صلى على ما هي عليه، وسواء طَوِيلُ السفر وقصيره، وبه يقول عطاء، ومالك، والأوزاعي، وأحمد، وروي ذلك عن: علي، وابن عمر، وابن عباس. وكان مالك يقول: لا يصلى على الراحلة إلا في سفر تُقْصَرُ فيه الصلاة. وقال أبو حنيفة: لا تجوز صلاة الماشي، لكثرة أفعاله الخارجة عن أفعال الصلاة. وقال أيضًا: يصلي النافلة على الراحلة، إذا خرج من المِصْر فرسخين أو ثلاثة. وقال سفيان الثوري: صل الفرض والوتر في الأرض، وإن أوترت على راحلتك فلا بأس. وأما من ذهب إلى أن الوتر ليس نافلة، كأبي حنيفة ومن تابعه، فإنه لا يجيز الصلاة على الراحلة، لأن الوتر عنده واجب لا فرض ولا نافلة. وأما الشافعي: فإن الوتر عنده نافلة، وحكمه حكم النوافل في جواز الصلاة على الراحلة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -

يصلى وهو على راحلته النوافل في كل وجه". وفي نسخة: "جهة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن إسماعيل، عن ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد اللَّه بن سراقة، عن جابر بن عبد اللَّه "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني أنمار كان يصلي على راحلته متوجهًا قبل المشرق". وقال في كتاب حرملة: هذا ثابت عندنا، وبه نأخذ. وفي أخرى: بهذا الإسناد الثاني واللفظ إلا أنه قال: "متوجهة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثل معناه، لا أدري أسمي بني أنمار أو قال: صلى في سفر. وأخرج الشافعي الرواية الأولى والثانية في كتاب "استقبال القبلة" (¬1)، وأخرج الرواية الثالثة والرابعة في كتاب "الرسالة" (¬2) والحديث حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي. فأما البخاري (¬3): فأخرجه عن أبي نعيم، عن شيبان، عن يحيى [عن] (¬4) محمد بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد اللَّه أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي التطوع وهو راكب في غير القبلة. وفي أخرى: عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن يحيى، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته نحو المشرق، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة". وفي أخرى: عن أبي معمر، عن عبد الوارث، [عن كثير] (¬5) بن شنظير، ¬

_ (¬1) الأم (1/ 97). (¬2) الرسالة (370، 497، 498). (¬3) البخاري (1094، 1099، 1217). (¬4) بالأصل [بن] وهو تصحيف. (¬5) سقط من الأصل والمثبت من رواية البخاري.

عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر قال: بعثني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في حاجة له فانطلقت (¬1) معه، ثم رجعت وقد قضيتها فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلمت، فلم يرد على، فوقع في قلبي ما اللَّه أعلم به، فقلت في نفسي: لعل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وجد عليَّ أني أبطأت عليه، ثم سلمت عليه فلم يرد عليَّ، فوقع في قلبي أشد من المرة الأولى، ثم سلمت عليه فرد عليَّ، فقال: "إنما منعني من أن أرد عليك، أنني كنت أصلي"، وكان على راحلته متوجهًا إلى غير القبلة. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن قتيبة، ومحمد بن رمح، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بعثني لحاجة، ثم أدركته وهو يسير، وقال قتيبة: يصلي، فسلمت عليه فأشار إليَّ، فلما فرغ دعاني فقال: "إنك سلمت آنفا وأنا أصلي"، وهو موجه حينئذٍ إلى المشرق. وفي أخرى: عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أرسلني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو منطلق إلى بني المصطلق، فأتيته وهو يصلي على بعيره، وذكر نحو رواية البخاري بمعناها. وله روايات أخرى. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عثمان بن [أبي] (¬4) شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: بعثني رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في حاجة، قال: فجئت وهو يصلي [على] (¬5) راحلته نحو المشرق، والسجود أخفض من الركوع. ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [معه] وهي مقمحة وليس في رواية البخاري. (¬2) مسلم (540). (¬3) أبو داود (1227). (¬4) سقط من الأصل؛ والمثبت من السنن وهو الصواب. (¬5) بالأصل [عا] وهو تصحيف.

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن [محمود] (¬2) بن غيلان، عن وكيع ويحيى ابن آدم، عن سفيان، عن أبي الزبير، مثل رواية أبي داود. وفي الباب عن أنس، وابن عمر، وأبي سعيد، وعامر بن ربيعة. "المَشْرِقُ": الموضع الذي تطلع فيه الشمس، تقول: شرقت الشمس تشرق إذا طلعت، وأشرقت إذا طلعت وإذا أضاءت، والقياس أن يكون المشرق بفتح الراء، إلا أنهم خالفوه في ألفاظ معدودة. قال الفراء: كل ما كان على فعل يَفْعُل، مثل: دَخَلَ يَدْخُلُ، فالمَفْعل بالفتح اسمًا كان أو مصدرًا, ولا يقع فيه الفرق مثل: دخل يدخل مدخلاً، وهذا مدخله، إلا أحرفًا من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك المسجِد، والمطلعِ، والمغرِب، والمشرِق، والمسقِط، والمفرِق، والمجرِز، والمسكِن، والمرفِق من رفق يرفق، والمنبِت والمنسِك من نسك ينسك، فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب في الاسم. قال: وسمعنا "المسجِد"، والمطلِع والمطلَع. قال: والفتح في كله جائز، وإن لم تسمعه. وما كان من فَعَلَ يَفْعِلُ مثل: جلس يجلس، فالمفعل منه بالكسر والمصدر بالفتح. وفي إحدى روايات الشافعي: متوجهًا، ردًّا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي [أخرى] (¬3): متوجهة، ردًّا إلى الراحلة. ولأن الراحلة إذا كانت متوجهة إلى جهة، فإن راكبها متوجه إليها، فقوله: ¬

_ (¬1) الترمذي (351) وقال: حسن صحيح. (¬2) بالأصل [محمد] وهو تصحيف والصواب هو المثبت كذا في رواية الترمذي. (¬3) بالأصل [خرى] وهو تصحيف.

"متوجهًا" أظهر في بيان الفرض إذ هو صريح في كونه يصلي إلى المشرق. فقوله: "متوجهة" جاز أن تكون هي متوجهة إلى المشرق، وهو على خلاف توجهها, ولكن ذلك بخلاف العادة للراكبين، وما أطلق "متوجهة" إلا وهو يريد ما يفهمه السامع، من موافقة الراكب في التوجه لمركوبه. وفي رواية: "أرسلني في حاجة"، وفي أخرى "أرسلني لحاجة". فجعل الحاجة في الأولى: ظرفًا للإرسال؛ لأنه فيها أرسله. أي: في طلبها وقضائها. وجعل الحاجة في الثانية: سببًا للإرسال؛ لأنه لأجلها أرسله. وتقول: "وجدت عليه" أجد موجدة، أي غضبت. "فعلت الشيء آنفًا": أي الآن. وقوله: "حينئذ" الأصل في هذه الكلمة وأمثالها مثل: يومئذ، وليلتئذ، وساعتئذ، وسنتئذ، الإضافة إلى الجملة، التقدير: حين إذ كان كذا وكذا، فحذفت هذه الجملة وبقيت "إذ" وحدها، فعوضت عن هذه الإضافة إلى الجملة بالتنوين، فقيل: يومئذٍ، وحينئذٍ وكتبت موصولة كما ترى، والقياس أن تكتب يوم إذن أو بحذف النون ويكتب بدلها التنوين، وفي حركة هذه الأسماء المضافة مذهبان:- فالأكثر: الإعراب بالنصب، والجر على الاسمية، والنصب على الظرفية، تقول لمن تخاطبه: كان زيد راكبًا يوم كذا وكذا، ثم تقول: لقيته يومئذ فتنصب، وكقوله تعالى {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (¬1) وتقول في ¬

_ (¬1) عبس: [37].

الجر: أنا خائف من شر زيد يوم يقدم، ثم تقول: أنا خائف من يومئذ، وعليه قوله تعالى {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} (¬1). وأما المذهب الثاني: فالبناء على الفتح في حال الإضافة، لقراءة أهل المدينة قوله تعالى {فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} (¬2) فجمعوا بين الإضافة والبناء على الفتح، قالوا: إنه مضاف إلى غير متمكن. وفي هذا الحديث: زيادة بيان لم يتضمنها الحديث الذي قبله، وذلك أن حديث ابن عمر ليس في لفظ رواية الشافعي ما يدل على أن الصلاة نافلة، ولا إلى جهة مصرحًا به، فإنه قال في الرواية الأولى: "حيثما توجهت به" ولم يعين جهة بعينها، وقال في الثانية: "وهو متوجه إلى خيبر" فجهة خيبر وإن كانت معلومة، إلا أنها غير مصرح بها، وأن خيبر قد تكون قبلة لمن يتوجه إليها، إنما (¬3) يتوجه إلى المدينة إليها فلا. وأما حديث جابر هذا فإنه قال في الرواية الأولى "يصلي على راحلته النوافل في كل جهة" فصرح بذكر النوافل، ولم يذكرها في حديث ابن عمر، وعمم الجهات فعلم أنه قد كان يصلي إلى غير القبلة. وقال في الرواية الثانية: "قبل" فخص الجهة بذكر الشرق، وإن كان الشرق قد يكون قبلة لمن هو في جهة الغرب من الكعبة. وفي هذا الحديث من الفقه، مما لا يتعلق بالقبلة أحكام منها:- أن المصلي لا يجوز له أن يتكلم بغير القراءة والأذكار المختصة بالصلاة حتى ¬

_ (¬1) المعارج: [11]. (¬2) النمل: [89]. (¬3) كذا بالأصل، والسياق غير مستقيم ولعلها (أما أن).

لا يرد السلام الذي هو واجب عليه، وسيجيء بيان هذا الحكم مفصلًا في موضعه. ومنها: جواز الإشارة في الصلاة حتى باليد، وذلك في قوله "فأشار بيده". ومنها وجوب رد السلام، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ما أهمله لما فرغ من الصلاة، واعتذر إليه من تأخير الرد عليه، ولو لم يكن أمرًا مهما عنده لما اعتذر منه.

الفرع الخامس فيما يحول بين المصلي وقبلته

الفرع الخامس فيما يحول بين المصلي وقبلته أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاته من الليل، وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4). فأما البخاري: فأخرجه عن مسدد، عن يحيى [عن] (¬5) هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت" وفي أخرى: عن إسماعيل بن خليل، عن علي بن مسهر، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت: "لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني لبينه وبين القبلة، وأنا مضطجعة على السرير، فيكون لي الحاجة فأكره أن أستقبله، فأنسل انسلالاً". وأما مسلم: فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد، وزهير بن حرب، عن سفيان (¬6)، عن الزهري، بالإسناد واللفظ. وفي أخرى: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن هشام بالإسناد: ¬

_ (¬1) البخاري (511، 512). (¬2) مسلم (512). (¬3) أبو داود (711). (¬4) النسائي (2/ 65 - 66). (¬5) بالأصل [بن] وهو تصحيف. (¬6) قوله [عن سفيان] جاء مكررًا بالأصل.

"أن (¬1) رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي صلاته من الليل وهي معترضة بينه وبين القبلة، راقدة على الفراش الذي يرقد عليه، حتى إذا أراد أن يوتر، أيقظها فأوترت". وأما النسائي: فأخرجه عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "كنت بين يدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فإذا أردت أن أقوم كرهت أن أقوم، فأمر بين يديه انسللت انسلالاً". ولهم في هذا الحديث روايات كثيرة تركناها للاختصار. وقد روى المزني: عن الشافعي، عن مالك، عن أبي النضر، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: "كنت أنام بين يدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته، وإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتها. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح" (¬2). وروى المزني عنه أيضًا: عن عبد العزيز بن محمد بن عمر وابن علقمة، عن أبي سلمة أنها قالت: "كنت أنام معترضة في القبلة، فيصلي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأنا أمامه، حتى إذا أراد أن يُوتر قال: تنحي" (¬3). وروى في كتاب حرملة حديث عروة، عن عائشة ببعض هذا المعنى، ثم استدل به أنه لا بأس بالصلاة خلف النائم الذي لم يحتشم من المصلي ولا يحتشم منه المصلي، وأن النهي عن الصلاة خلف النيام لحشمة النائم. ¬

_ (¬1) إلى هذا الموضع انتهى الحديث من رواية مسلم؛ وأظن أنه وقع سقط في الأصل فلم يعرج المصنف على ذكر رواية أبي داود. وهذا اللفظ المذكور هو لفظ أبي داود (711)، أخرجه من طريق أحمد بن يونس، عن زهير، عن هشام به فتنبه. (¬2) أخرجه البخاري (513) من طريق عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك به. (¬3) انظر الأم مع الحاشية (1/ 170).

و"من" في قوله: "من الليل" للتبعيض أي يصلي في بعض الليل، ويجوز أن تكون للابتداء، أي ابتداء صلاته من الليل. وهي بمعنى "في" فإن حروف الجر ينوب بعضها مناب البعض. "والمعترض": الذي يحول بين الشيء وبين غيره، كأنه صار بين يديه عرضًا. "والجنِازة": بكسر الجيم هو السرير إذا سوى عليه الميت مكفنًا، وهُيِّئ للدفن، ولا يقال له: "جنازة" حتى يشد عليه الميت. وأما "الجنَازة" -بالفتح- فالميت نفسه. وأصل التجنيز: تهيئة الميت وشده على السرير، قاله الأزهري. وقال الجوهري: "الجنازة " -بالكسر- واحدة الجنائز وهو الميت على السرير، وقال: والعامة تقول: الجنازة -بالفتح- فإذا لم يكن عليه ميت فهو سرير ونعش. وقد تقدم ذكر ذلك فيما سلف. و"الانسلال": انفعال من سللت السيف أسله سَلًّا، إذا أخرجته من غمده، والمراد: أنها كانت تكره أن تجلس قاعدة بين يديه، ثم تنهض قائمة لحاجتها، فكانت تسل نفسها من قِبَلِ رجليها وهي نائمة من غير أن تجلس قاعدة. "والرقاد": النوم. وموضع الكاف من قوله: "كاعتراض الجنازة" النصب لأن تقديره: وأنا معترضة مثل اعتراض الجنازة؛ أي اعتراضًا مثل اعتراضها، فهو صفة مصدر محذوف، والمعنى في التشبيه أنها كانت تكون نائمة بين يديه جهة يمينه إلى شماله كما تكون الجنازة، بين يدي المصلين عليها. والواو في "وأنا معترضة" للحال.

"والإيقاظ": الإنباه من النوم. وقولها: "أيقظني فأوترت" دليل على أنها كانت تؤخر وترها إلى آخر الليل موافقة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. و"الاضطجاع": معروف، إلا أن المضطجع قد يكون نائمًا، ومستقيظًا ويسمى مضطجعًا في الحين. وفي قولها: "على الفراش الذي يرقد عليه" دليل على قربها منه في حال صلاته، وأنه لم يكن بينها وبينه مسافة أكثر من موضع سجوده، فإنه قد جاء في الحديث الآخر عنها: "أنه كان إذا أراد أن يسجد حركها برجله، فتنحت ليسجد". وهذا يدل على شدة قربها منه، وأنه لم يكن له موضع يسجد فيه إن لم تتحرك من مكانها. وفيه دليل: على أنها كانت تنام معه على فراش واحد. وإليه ذهب الشافعي: أن الصلاة لا يقطعها شيء يعترض بين يدي المصلي رجلاً كان أو امرأة، أو دابة، أو كلبًا، أو سبعًا، أو غير ذلك من جميع الحيوانات، ولا النائم بين يديه، ولكن للمصلي أن يدفع المار بين يديه. وبه قال ابن المسيب، والشعبي، وعروة بن الزبير، واختاره ابن المنذر، وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور. وروي ذلك عن عليِّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان. وقال أحمد، وإسحاق: لا يقطعها إلا الكلب الأسود، وبه قالت عائشة. قال أحمد: وفي قلبي من الحمار والمرأة شيء. وقالت طائفة أخرى: يقطعها الكلب الأسود، والمرأة الحائض وروي ذلك: عن ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح.

وقالت طائفة أخرى: يقطعها كل ما يمر بين يدي المصلي ويعترضه. وروى ذلك: عن ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح. وقالت طائفة أخرى: يقطعها كل ما يمر بين المصلي ويعترضه. وروي ذلك عن: عمر، وأنس بن مالك، والحسن البصري، وأبي الأحوص. قال الشافعي في جواب من قال: يقطعها الكلب، والحمار، وغير ذلك حيث استدلوا بحديث أبي ذر (¬1) في المعنى، قال: لا يجوز إذا رُوِي حديث واحد أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار" وكان مخالفًا عدة أحاديث، وكان كل واحد أثبت منه ومعها ظاهر القرآن أن يترك -إن كان ثابتًا إلا بإذن يكون [منسوخًا] (¬2)، ونحن لا نعلم المنسوخ حتى نعلم الآخر، ولسنا نعلم الآخر، أو يرد أن يكون غير محفوظ، وهو عندنا غير محفوظ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وعائشة بينه وبين القبلة. "وصلى وهو حامِلٌ أُمامة فوضعها في السجود، ورفعها في القيام". ولو كان ذلك يقطع صلاته، لم يفعل واحداً من الأمرين، وصلى إلى غير سترة، وكل واحد من هذين الحديثين يرد ذلك الحديث. وقد قال الشافعي في سنن حرملة، في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار" قال: يقطع عن الذكر والشغل بها والالتفات، لا أنها تفسد الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (510) عنه مرفوعًا قال: "إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل مؤخرة الرَّحْل، فإذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود" قلت -أي عبد اللَّه بن الصامت-: يا أبا ذر! ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال: "الكلب الأسود شيطان". (¬2) في الأصل [مفتوحًا] والتصويب من اختلاف إلى حديث ص 512.

ويدل على صحة تأويل الشافعي: أن ابن عباس روى حديث ما يقطع الصلاة، فقيل له: أيقطع الصلاة: المرأة، والكلب، والحمار؟ فقال "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه". فما يقطع هذا ولكن يكره. وقد عاد الشافعي: استدل بهذا الحديث، أن المرأة إذا صلت إلى جانب الرجل لا تقطع صلاته. قال: فإن كانت لا تقطع الصلاة وليست فيها، لم تقطعها وهي فيها، وما يكون أبدًا خيرًا منها حين يصلي ولا أقرب من اللَّه -عز وجل. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن الزبيري، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن [ابن] (¬1) عباس قال: "أقبلت على أتان وأنا يومئذ قد راهقت الاحتلام، ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت فأرسلت حماري يرتع ودخلت الصف فلم ينكر عليَّ أحد". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة، والشافعي أخرجه في كتاب "اختلاف الأحاديث" (¬2). فأما مالك (¬3): فأخرجه بالإسناد واللفظ، وزاد فيه "يصلي بالناس بمنى، وقال: فأرسلت الأتان". وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن عبد اللَّه بن يوسف، عن مالك، بالإسناد وقال: على حمار أتان، وقال: ناهزت الاحتلام، وذكر لفظ مالك وزاد فيه بعد قوله بمنى "إلى غير جدار". ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والصواب إثباته كذا في مطبوعة المسند. (¬2) اختلاف الحديث ص 512. (¬3) الموطأ (1/ 145 رقم 38). (¬4) البخاري (493).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، وذكر نحوه. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن عيينة، عن الزهري. وعن القعنبي، عن مالك، بالإسناد وذكر الحديث. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، وذكر الحديث. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن الزهري، بالإسناد قال: أقبلت أنا والفضل على أتان لنا وذكر الحديث، وفيه: "يصلي بعرفة". وقد روى الزعفراني في القديم: عن الشافعي، بإسناده أيضًا هذا الحديث، وذكر لفظ رواية البخاري التي فيها ذكر الجدار. قال الشافعي: قول ابن عباس: "إلى غير جدار" يعني إلى غير سترة. وروى عنه المزني: عن سفيان، عن الزهري، بالإسناد المذكور قال: جئت أنا والفضل بن عباس على أتان ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -[يصلي] (¬5) فمررنا على بعض الصف، فنزلنا فتركناها ترتع ودخلنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، فلم يقل لنا شيئًا". ¬

_ (¬1) مسلم (504). (¬2) أبو داود (715). (¬3) الترمذي (337) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (2/ 64 - 65). (¬5) من السنن المأثورة (128).

"الأتان": الأنثى من الحمير، والجمع في القلة آتن بالمد -وفي الكثرة "أُتُن وأُتْن"، ولا يقال (¬1) له: أتانة. "وراهقت الشيء": قاربته، وراهق الغلام الاحتلام فهو مراهق إذا قارب الحلم، ويقال: غلام راهق، وجارية راهقة. "ورَتَعَ الحمار وغيره من الدواب": يرتع رتوعًا إذا أكلت في المرعى ما شاءت. قال الأزهري: الرتع: الرعي في الخصب؛ ولا يكون رتع إلا مع خصب وسعة، قال: والعرب تقول: رتع المال إذا رعى ما شاء. "وناهزت الشيء": قاربته ودانيته. وفي رواية البخاري "على حمار أتان" كأنه قال في الأول: على حمار ثم استدرك فقال: أتان، وإلا فإذا قال من الأول: أتان فقد علم أنه أنثى. والواو في قوله: "وأنا" وفي قوله: "ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - واو الحال. التقدير: أقبلت راكبًا مراهقًا في حال صلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع ثلاث أحوال، وليس فيها واو عطف. وفي قوله: "فلم ينكر ذلك عليَّ أحد" دليل على أن الشيء إذا فعل بين يدي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكره أنه جائز الفعل، لأنه لا يقر أحدًا على ما لا يجوز إذا رآه أو علمه. وفي رواية البخاري زيادة أفادت معنى، وهي قوله: "إلى غير جدار" فإنه بذلك أثبت أن الصلاة لم تكن إلى جدار يمنع من يحول بين المصلي وقبلته؛ فإنه إذا صلى إلى جدار أو ما يجري مجراه من خشبة، أو راحلة، أو عدل (¬2)، ¬

_ (¬1) بالأصل [يقاله] وهو تصحيف. (¬2) العِدل: نصف الحمل يكون على أحد جنبي البعير اللسان مادة: عدل.

ونحو ذلك، ولم يدخل داخل بينه وبين ذلك لم يضره، ولا يدخل في حكم هذا الحديث المختلف في حكمه. "والاحتلام": افتعال من الحلم، وهو ما يراه النائم في منامه فينزل معه المني، ثم نُقِلَ ذلك حتى جُعِلَ كناية عن حد البلوغ الذي يكلف الشرع صاحبه الأحكام الشرعية. وقوله: "فلم ينكر عليَّ أحد" يريد أنهم لم ينكروا عليه الاعتراض من الحمار بين أيديهم. ويجوز: أن يكون إرادته الاعتراض بنفسه وبالحمار إلا أنه بالحمار أشبه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان عن مالك بن مغول، عن عون بن [أبي] (¬1) جحيفة، عن أبيه قال: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح، وخرج بلال بالعَنَزَةِ فركزها فصلى إليها، والكلب والمرأة والحمار يمرون بين يديه". وقد أخرجه في سنن حرملة بهذا الإسناد واللفظ. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا، ورووه من طرق عدة طويلة ومختصرة، وقد ذكرنا منها هاهنا بعضًا. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن آدم، عن شعبة، عن عون قال: سمعت أبي يقول: "خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة فأُتي بِوضُوء، فتوضأ فصلى بنا الظهر والعصر، وبين يديه عنزة، والمرأة والحمار يمرون من ورائها". وفي رواية: عن أبي الوليد، عن شعبة، عن عون، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم بالبطحاء -وبين يديه عنزة- الظهر والعصر ركعتين يمر بين يديه المرأة والحمار". ¬

_ (¬1) سقط من الأصل، والصواب إثباته، وجاء على الصواب في مطبوعة المسند. (¬2) البخاري (499، 495).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن محمد بن المثنى وابن بشار، قال ابن المثنى: حدثني [محمد بن جعفر] (¬2)، عن شعبة، عن الحكم قال: سمعت أبا جحيفة قال: خرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ فصلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، وبين يديه عَنَزَةٌ. قال شعبة فزاد فيه: عون، عن أبيه أبي جحيفة: "فكان يمر من ورائها المرأة والحمار". وفي أخرى: عن محمد بن حاتم، عن [بهز] (¬3)، عن عمر بن أبي زائدة، عن عون، عن أبيه وذكر الحديث وفيها: "ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العَنَزَةِ". وفي أخرى: "يمر بين يديه الحمار والكلب". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن حفص، عن عمر، عن شعبة، عن عون، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم بالبطحاء -وبين يديه عنزة- الظهر ركعتين، والعصر ركعتين، يمر خلف العنزة المرأة والحمار". وأما الترمذي (¬5): فقد أخرج هذا المعنى في جملة حديث يتضمن ذكر الأذان، وقال فيه: "فخرج بلال بين يديه بالعنزة، فركزها بالبطحاء فصلى إليها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يمر بين يديه الكلب والحمار". وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن مالك بن ¬

_ (¬1) مسلم (503). (¬2) بالأصل [جعفر بن محمد] وأظنه انقلب على الناسخ والتصويب من رواية مسلم، ومحمد بن جعفر هو: غندر ربيب شعبة، مشهور بالرواية عنه، وهو من أثبت الناس فيه. (¬3) بالأصل [شهر] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وكذا في رواية مسلم على الجادة. (¬4) أبو داود (688). (¬5) الترمذي (197) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (1/ 87).

مغول، بالإسناد قال: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبطحاء وأخرج بلالٌ فَضْلَ وَضُوئِهِ، فابتدره الناس فنلت منه شيئًا، ورُكِزَتْ له العنزة فصلى بالناس، والحمار والكلب والمرأة يمرون بين يديه. "الأبطح": مسيل واسع فيه دقاق الحصى، والجمع الأباطح، فالبطاح على غير قياس، والبطيحة والبطحاء مثل الأبطح، ومنه بطحاء مكة وهي من أعلاء الوادي؛ وإياها أراد في هذا الحديث. "والعَنَزَة": شبه العكازة، وهي مثل نصف الرمح أو أكبر شيئًا يسيرًا، وفيها سنان كسنان الرمح. "والرَّكْز": الغرز في الأرض، ركزت الرمح في الأرض أركزه ركزًا، إذا غرزته فيها. وقوله: "بالأبطح" الباء في موضع، أي في الأبطح، ويجوز أن تكون على بابها، وهي بمعنى الإلصاق أي رأيته ملاصقًا بالأبطح والواو في قوله: "وخرج بلال" واو الحال ولا بد فيها من "قد" مقدرة، أي: وقد خرج بلال. وقوله: "فصلى إليها" يريد أنه جعل العنزة تلقاء وجهه من جهة القبلة، ليكون حاجزًا بينه وبين من يمر بين يديه. والباء في قوله: "بالعنزة" للملابسة، أي خرج ملبسًا بها حاملًا لها. و"الهاجرة": شدة الحر عند انتصاف النهار تقول منه: هَجَرَ النهار إذا اشتد حره، والباء التي فيها هي التي في قوله: بالبطحاء، وقد ذكرنا معناها. وهذا الحديث يتضمن حكمين:- أحدهما: الصلاة إلى السترة. والثاني: مرور المار بين يدي المصلي. والثاني قد تقدم بيانه في حديث عائشة، وسيجيء ما لم يذكر فيه فيما بعد الحديث -إن شاء اللَّه تعالى.

وأما الحكم الأول: فإنه يستحب للمصلي إذا صلى في صحراء لا جدار فيها، أن يجعل بين يديه شيئًا مرتفعًا من الأرض، بقدر مؤخرة الرحل. وروي ذلك عن أنس، وأبي هريرة. وقال الأوزاعي: يُجْزِىُء السهم والسيف والسوط. وقال عطاء: قدر الذراع، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة. وقال مالك، والشافعي: قدر عظم الذراع فصاعدًا. وقال قتادة: ذراع وشبر. فأما الخط: فقال به سعيد بن جبير، وأحمد، وأبو يوسف، والأوزاعي. وأنكر مالك الخط. قال ابن المنذر: كان الشافعي يأمر أن يخط المصلي بين يديه خَطًّا إذا لم يجد شيئًا مرتفعًا. ثم قال بمصر: لا يخط إلا أن يثبت فيه حديث فيتبع (¬1). ¬

_ (¬1) قلت: ورد حديث في هذا المعنى لكنه معلول بالاضطراب، وقد أخرجه أحمد (2/ 249) وأبو داود (690)، وابن خزيمة (811)، وابن حبان (2361) في صحيحيهما وغيرهم. عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد شيئًا فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطًّا, ولا يضره ما مر بين يديه". قال ابن الصلاح في المقدمة: ومن أمثلته -أي: المضطرب- ما رويناه عن إسماعيل .... فذكره، قال: رواه بشر بن المفضل وروح بن قاسم، عن إسماعيل هكذا ورواه سفيان الثوري عنه عن أبي عمرو بن حريث، عن أبيه، عن أبي هريرة، ورواه حميد بن الأسود، عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن محمد بن حريث بن مسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة، ورواه وهيب وعبد الوارث، عن إسماعيل، عن أبي عمرو بن حريث، عن جده حريث وقال عبد الرزاق: عن ابن جريج، سمع إسماعيل، عن حريث بن عمار، عن أبي هريرة وفيه من الاضطراب أكثر مما ذكرناه. قال العراقي معقبًا كما في التقييد (126): ..... فتعارضت حينئذ الوجوه المقتضية للترجيح وانضم إلى ذلك جهالة راوي الحديث =

وقال القاضي أبو حامد: أنه يخط بين يديه خَطًّا. وقد جاء في رواية الشافعي: "والكلب والحمار والمرأة يمرون بين يديه". وكذلك جاء في رواية البخاري الواحدة، وإحدى روايتي مسلم، وفي رواية الترمذي والنسائي. وهذا مسوق لبيان أن مرور هؤلاء بن يدي المصلي، لا يقطع الصلاة. فأما الذي جاء في باقي الروايات: "يمرون من ورائها"، و"يمرون خلف العنزة" فإنه كلام موجه؛ إن أراد بورائها، وبين يديها وخلفها، الجهة التي تلي المصلي، فيكون الكلام مسوقًا لبيان ما تقدم في رواية الشافعي، وإن أراد الجهة التي تحول العنزة بينها وبين المصلي؛ فيكون الكلام مسوقًا لبيان أمور ثلاثة:- أحدها: دنو المصلي من العنزة، وأنه ليس بينه وبينها مكان تمر فيه هذه الأشياء. ¬

_ = وهو شيخ إسماعيل بن أمية فإنه لم يرو عنه فيما علمت غير إسماعيل بن أمية مع هذا الاختلاف في اسمه واسم أبيه، وهل يرويه عن إبيه أو عن جده أو هو نفسه عن أبي هريرة وقد حكى أبو داود في "سننه" تضعيفه عن ابن عيينة فقال: قال سفيان: لم نجد شيئًا نشد به هذا الحديث ولم يجيء إلا من هذا الوجه؛ وقد ضعفه أيضًا الشافعي والبيهقي. وقول من ضعفه أولى بالحق من تصحيح الحاكم له مع هذا الاضطراب والجهالة براويه. وقد ذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف وقال: قال الحافظ: هو ضعيف لاضطرابه. اهـ وراجع أيضًا في ذلك التلخيص الحبير (1/ 286). وعلل الحديث (534)، والنكت (2/ 772 - 773). قلت: وسوف يأتي ذكر هذا الحديث بعد قليل في باب سترة المصلي.

والثاني: أن هذه الأشياء لو مرت بين يدي المصلي فيما بينه وبين السترة، لقطعت صلاته. والثالث: أن الغرض من الحديث ما هو إلا الاستدلال باستحباب السترة للمصلي، لا لبيان ما يقطعها أو لا يقطعها. ***

الفرع السادس في سترة المصلي

الفرع السادس في سترة المصلي قد تقدم في الفرع الخامس حديث أبي جحيفة، ونذكر في هذا الفرع ما يخصه، فإنه لم يرد في المسند سوى ما ذكرنا. وقد أخرج الشافعي: فيما رواه عنه الزعفراني قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي محمد بن عمرو بن حريث، عن جده حريث العدوي، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يكن شيء، فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخط خطًّا، لا يضره ما مر بين يديه". وهذا الحديث أخرجه أبو داود في السنن (¬1). قال بشر بن موسى: سألت الحُمَيْدِيَّ عن الخط؟ فأومأ إلى مثل الهلال العظيم. وقال أبو داود: قالوا: الخط بالطول، وقالوا: بالعرض مثل الهلال. وهذا الحديث قد أخذ به الشافعي في القديم، وفي سنن حرملة. وقال في البويطي: لا يخط بين يديه خطًا، إلا أن يكون في ذلك حديث ثابت فيتبع. وإنما توقف الشافعي في صحة هذا الحديث، لاختلاف الرواة على إسماعيل ابن أمية في أبي محمد بن عمرو بن حريث، قيل هكذا، وقيل: عن أبي عمرو بن أبي محمد بن حريث، عن أبيه، وقيل غير ذلك. ¬

_ (¬1) أبو داود (690).

قال سفيان بن عيينة: كان إسماعيل بن أمية إذا حَدَّثَ بهذا الحديث يقول: عندكم شيء تشدونه به؟ فإنه لم يجيء إلا من هذا الوجه (¬1). وأخرج الشافعي فيما رواه المزني عنه قال: حدثنا الشافعي قال: حدثنا سفيان، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن سهل بن أبي [حثمة] (¬2) أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها, لا يقطع الشيطان عليه صلاته". أخرجه أبو داود (¬3): عن عثمان بن أبي شيبة، وغيرة، عن سفيان قال: ورواه واقد بن محمد، عن صفوان عن [محمد بن سهل، عن أبيه] (¬4)، (¬5) وعن محمد بن سهل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال بعضهم: عن نافع بن جبير، عن سهل. وقد رواه نافع أيضًا مرسلًا (¬6). قال الشافعي: وأحب أن يكون بين المصلي وبين سترته؛ ثلاث أذرع أو أقرب. وأخرج الشافعي فيما رواه الربيع قال: حدثني الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن كثير بن كثير بن المطلب، عن بعض أهله، عن المطلب بن أبي وداعة قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي مما يلي باب بني سهم، والناس يمرون بين يديه، ¬

_ (¬1) تقدم قبل قليل في آخر الباب السابق الكلام على هذا الحديث وذكر من أعله من أهل العلم. (¬2) بالأصل [خيثمة] وهو تصحيف. (¬3) أبو داود (695). (¬4) ما بين المعقوفتين جاءت مكررة بالأصل. (¬5) في مطبوعة السنن وتحفة الأشراف (4/ 94) بلفظ (أو). (¬6) أخرج الطريق المرسل البيهقي في سننه (2/ 272) وقال: قد أقام إسناده سفيان بن عيينة وهو حافظ حجة.

وليس بينه وبين الطواف سترة (¬1). استدل الشافعي بهذا الحديث، وبحديث ابن عباس المتقدم، على أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدنو من السترة اختيار، وأمره بالخط في الصحراء اختيار. وقوله: "لا يفسد الشيطان عليه صلاته" أن يلهو ببعض ما يمر بين يديه، فيصير إلى أن يحدث ما يفسدها, لا بمرورها تمر بين يديه. واعلم أن أحاديث سترة المصلي كثيرة، وقد ذكرنا منها هاهنا ما يتعلق به، وسيرد ما بقى منها في موضعه. والسترة من محاسن أوصاف الصلاة ومكملاتها وفائدتها: قبض الخواطر عن الانتشار، وكف البصر عن الاسترسال، حتى يكون العبد مجتمعًا للمناجاة التي خصلها والتزمها. وسنزيد هيئة السترة بيانًا فنقول: هو أن تكون في طول الذراع، لأنها بِقَدْرِ آخرة الرحل الوارد في الحديث الثابت، وأن تكون بِغِلظِ الرمح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى العنزة، وهي قطعة من الرمح كما ذكرنا، فإذا وضعها بين يديه، فلا يجعلها قبالة وجهه، بل تكون مائلة إلى اليمين أو اليسار، لحديث المقداد: ما رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى عمود أو شيء فصمد إليه صمدًا، ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 399)، وأبو داود (2016)، والحميدي (578) من طريق كثير بن كثير به. وقال أبو داود: قال سفيان: كان ابن جريج أخبرنا عنه قال: أخبرنا كثير، عن أبيه قال: فسألته، فقال: ليس من أبي سمعته ولكن من بعض أهلي عن جدي. قال المنذري في مختصر السنن (2/ 434): في إسناده مجهول: وجده: هو المطلب بن أبي وداعة السهمي القرشي، له صحبة، ولأبيه أبي وداعة الحارث بن صبيرة أيضًا صحبة وهما من مسلمة الفتح اهـ. وأخرجه البيهقي في سننه (2/ 273): وقال: وقد قيل عن ابن جريج: عن كثير: عن أبيه، قال: حدثني أعيان بني المطلب، عن المطلب ورواية ابن عيينة أحفظ. والحديث ضعفه الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- في ضعيف أبي داود (437).

إنما كان يجعله عن يمينه أو يساره. وليجعل بينه وبين سترته من المسافة، بمقدار ما يحتاج لِسجوده ولا يتأخر عنها تأخيرًا كثيرًا، ولا يتقدم إليها كثيرًا بحيث إذا أراد السجود تأخر عنها، لأن ذلك عمل في الصلاة خارج عن أعمالها. وقد غلط بعض الناس فقالوا: إذا صلى إلى غير سترة، فلا يمر أحد بين يديه بمقدار رمية السهم. وقيل: بمقدار رمية حجر. وقيل: بمقدار رمية رمح. وقيل: بمقدار المطاعنة. وقيل: بمقدار المضاربة بالسيف. وهذا كله: خطأ أوقعهم فيه قول (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان" (¬2). فحملوه على أنواع القتال، ولم يفهموا أن القتال هو المدافعة بِيَدٍ كانت أو بآلة، وإنما حَرَمُ المصلي -سواء وضع بين يديه سترة أو لم يضع- بمقدار ما يستقبل قائما أو راكعًا وساجدًا، لا يستحق من الأرض كلها التي هي المسجد العام، ولا من المسجد الخاص سواها، وسائر ذلك لغيره، ولا يقاتل إلا من أدرك بيده إذا مدها، وما وراء ذلك لا يمد إليه يدًا، ولا يمشي إليه قدمًا. وسيرد المذهب في مدافعة المعترض بين يدي المصلي، في جملة أحاديث ترك الأفعال الخارجة عن أفعال الصلاة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505) من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه، وفيه قصة. (¬2) أي: سوء فَهْم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالخطأ في الفهم وليس في قوله - صلى الله عليه وسلم - فوجب هذا التقدير.

ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في المعترض: "إنما هو شيطان" يريد أنه يفعل أفعال الشيطان في الشغل عن الصلاة وقطع المصلي عن الإقبال على عبادته، فجعل ذلك مثلًا حيث إن الشيطان يحول بين المرء وقلبه -واللَّه أعلم. ***

الفصل السادس من الباب الأول من كتاب الصلاة في كيفية الصلاة وصفتها

الفصل السادس من الباب الأول من كتاب الصلاة في كيفية الصلاة وصفتها وفيه عشرة فروع:- الفرع الأول: في التكبير ورفع اليدين أخبرنا الشافعي: أخبرنا [سعيد] (¬1) بن سالم، عن سفيان الثوري، عن عبد اللَّه بن محمد [بن] (¬2) عقيل، عن محمد بن علي ابن الحنفية، عن أبيه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". قال الشافعي في القديم: وكذلك روي عن ابن مسعود. هذا حديث صحيح معمول به (¬3)، أخرجه أبو داود (¬4)، والترمذي (¬5). ¬

_ (¬1) بالأصل [سفيان] وهو تصحيف، وفي المطبوعة من المسند جاء على الجادة وسعيد هو: ابن سالم القداح قال الحافظ: صدوق. (¬2) بالأصل [عن] وهو تصحيف، وابن عقيل يهم، ورُمِيَ بالإرجاء وكان فقيهًا. (¬3) قلت: وهو من هذا الوجه ضعيف. قال الحافظ في التلخيص (1/ 216) قال البزار: لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه، وقال أبو نعيم: تفرد به ابن عقيل، عن ابن الحنفية، عن علي، وقال العقيلي: في إسناده لين، وهو أصلح من حديث جابر اهـ. وقال العقيلي في الضعفاء (2/ 230). وفي هذا الباب حديث ابن عقيل، عن محمد ابن الحنفية، عن علي في مفتاح الصلاة بإسناد أصلح من هذا، على أن فيه لينًا، اهـ. وذهب النووي إلى تحسينه كما نقل الزيلعي عنه في نصب الراية (1/ 307) ولعله حسنه لما له من شواهد يرتقي بها إلى الحسن، وقد صححه الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- بشواهده. قال في الإرواء (2/ 9): الحديث صحيح بلا شك فإن له شواهد يرقى بها إلى درجة الصحة. (¬4) أبو داود (61، 618). (¬5) الترمذي (3) =

فأما أبو داود: فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، بالإسناد واللفظ. وأما الترمذي: فأخرجه عن هناد، وقتيبة، ومحمد بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان. وعن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن، عن سفيان، بالإسناد واللفظ، إلا أنهما قالا: "الطهور" بدل و"الوضوء". وفي الباب: عن جابر، وأبي سعيد. أراد "بالمفتاح" الشيء الذي يتوصل به الإنسان إلى الصلاة، كما أن المفتاح الحقيقي هو: الآلة التي يتوصل بها إلى دخول البيت، فشبه الوضوء الذي هو أول أعمال الصلاة بالمفتاح. "الوُضوء": بضم الواو الفعل نفسه. وكذلك "الطُهور" بالضم. وأما "التحريم" فأصله من قولك: حرمت فلانًا عطاءه، إذا منعته إياه، وأحرم الرجل بالحج إذا دخل فيما يمنع منه، من أشياء كانت مطلقة له، وكذلك المصلي يصير بالتكبير ممنوعًا من الكلام والأفعال الخارجة عن كلام الصلاة وأفعالها فلذلك قال: "تحريمها التكبير". وأما "التحليل" فهو ضد التحريم، وذلك أن المصلي بالتسليم يدخل في الحل والإباحة مما كان ممنوعًا منه، كما يستبيح المحرم عند فراغه من الحج ما كان محظورًا عليه. ¬

_ = وقال: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن. وعبد اللَّه بن محمد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي، يحتجون بحديث عبد اللَّه بن محمد بن عقيل. قال محمد: وهو مقارب الحديث.

وقوله: "التكبير والتسليم" مصدران مطردان أكبرت وسلمت، وتقول: كبرت أكبر تكبيرًا، وسلمت أسلم تسليمًا، مثل: كلمت تكليمًا، وقدرت تقديرًا. وفي قوله: "التكبير والتسليم" بالألف واللام دليل على أنه لا يجوز افتتاح الصلاة إلا بلفظ التكبير، ولا الخروج منها إلا بلفظ التسليم، دون غيرها من الأذكار، لأن الألف واللام للتعريف، وهما مع الإضافة يفيدان السلب والإيجاب، وهو أن يسلب الحكم فيما عدا المذكور، ويوجبان ثبوت المذكور، كقولك: فلان بيته المساجد، أي لا مأوى له غيرها، وكقولهم: حيلة الهم الصبر، أي لا مدفع له إلا الصبر، ومثله في الكلام كثير. والذي ذهب إليه الشافعي: أن التكبير في افتتاح الصلاة ركن من أركانها، وكذلك السلام في آخرها لا تصح الصلاة إلا بها، فأما التكبير فلا يجزئه إلا قول: اللَّه أكبر، واللَّه أكبر، وبه قال الثوري، وإسحاق، وداود. فإن قدم الصفة على الاسم فقال: أُكبِّرُ اللَّه، والأكبر اللَّه، ففيه بين أصحاب الشافعي خلاف. وقال مالك، وأحمد: لا تصح الصلاة إلا بقوله: اللَّه أكبر وحدها, ولا يصح بقوله: اللَّه الأكبر. وقال أبو حنيفة ومحمد: يصح بكل اسم للَّه تعالى على وجه التعظيم، كقوله: اللَّه عظيم، وجليل، وقدير، ونحو ذلك، وكذلك يقول: الحمد للَّه، وسبحان اللَّه، ولا إله إلا اللَّه، ولو قال: "اللَّه" ولم يضف إليه صفة، لم تنعقد الصلاة عنده في إحدى الروايتين.

فإن قال: "يا اللَّه" على جهة النداء لم تنعقد، وبهذا قال النخعي، والحكم ابن عتيبة. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: أكره أن تعقد الصلاة بغير قوله: اللَّه. وقال أبو يوسف: تنعقد بلفظ الكبير خاصة، فلو قال: اللَّه الكبير أجزأه. وحكى عن الزهري أنه قال: تنعقد بمجرد النية من غير لفظ. وأما التسليم فسيرد بيانه في موضعه -إن شاء اللَّه تعالى. وقد عاد الشافعي، استدل بهذا الحديث فيما يقطع الصلاة من حدث، قال: لا يحرم بالصلاة إلا بالتكبير، ولا تنقضي الصلاة إلا بالتسليم، فمن عمل عملًا مما يفسد الصلاة، فيما بين أن يكبر إلى أن يسلم فقد أفسد صلاته، لأنه موافق لما روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر هذا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع، ولا يرفع بين السجدتين". أخرج الشافعي هذه الرواية في كتاب "الصلاة" (¬1)، وأعاد إخراجها بهذا الإسناد وهذا اللفظ في كتاب "اختلاف الحديث" (¬2). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعها كذلك، وكان لا يفعل ذلك في السجود". قال الأصم: كتبنا حديث سفيان، عن الزهري، بمثله قبل هذا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا ابتدأ ¬

_ (¬1) الأم (1/ 103). (¬2) اختلاف الحديث ص 523.

الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعها دون ذلك. وأخرج هاتين الروايتين في موضع آخر، من كتاب "اختلافه مع مالك"، إلا أن هذه الرواية هكذا أخرجها الشافعي موقوفة على ابن عمر. وكذا رواه حرملة: عن الشافعي وقال في آخره: ويُحَدِّثُ بذلك عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: وقد روى -سوى ابن عمر- اثنا عشر رجلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبهذا نقول. والحديث في نفسه صحيح، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه عن الزهري، بالإسناد وذكر الرواية الثانية. وعن نافع، وذكر الرواية الرابعة موقوفة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن محمد بن مقاتل، عن عبد اللَّه، عن يونس، عن الزهري، وذكر الحديث وزاد فيه: ويقول: سمع اللَّه لمن حمده. وفي أخرى: عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري. وفي أخرى: عن عياش بن الوليد، عن عبد الأعلى، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى التميمي [و] (¬4) سعيد بن منصور عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب وابن نمير، كلهم عن سفيان، عن الزهري، وذكر الرواية الأولى. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 86 - 87 رقم 16، 20). (¬2) البخاري (736، 738، 739). (¬3) مسلم (390). (¬4) بالأصل [عن] وهو تحريف والتصويب من صحيح مسلم.

وفي أخرى: عن محمّد بن رافع، عن حجين، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن سفيان، عن الزهري. وفي أخرى: عن ابن المصفى الحمصي، عن بقية، عن الزبيدي، عن الزهري، وزاد فيه بعد قوله: "ولا يرفع يديه في السجود ويرفعهما مع كل تكبيرة يكبرها قبل الركوع، حتى تنقضي صلاته". وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، وابن أبي عمر، عن سفيان، عن الزهري. إلا أن حديث قتيبة انتهى عند قوله: "وإذا رفع رأسه من الركوع". وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن عمرو بن منصور، عن علي بن عياش، عن شعيب، عن الزهري. وفي أخرى: عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري. وفي أخرى: عن قتيبة، عن مالك، عن الزهري. ولفظ النسائي قال: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح التكبير في الصلاة رفع يديه حين يكبر حتى يجعلها حذو منكبيه، وإذا كبر للركوع فعل مثل ذلك، ثم إذا قال: سمع اللَّه لمن حمده فعل مثل ذلك، وقال: ربنا لك الحمد، ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود". وقد اتفقت رواية مالك بن أنس، وابن جريج، وشعيب بن أبي حمزة، وسفيان بن عيينة، وعقيل بن خالد، وغيرهم عن الزهري في الرفع حذو ¬

_ (¬1) أبو داود (721، 722). (¬2) الترمذي (255) وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (2/ 121 - 122).

المنكبين، وكذلك هو في رواية أيوب، عن نافع. وفي رواية علي بن أبي طالب، وفي رواية أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وفي إحدى الروايات عن وائل بن حُجْرٍ، وفي رواية مالك بن الحويرث. قال الشافعي: وإنما أخذنا بذلك لأنه أثبت إسنادًا، وأنه حديث عدد، والعدد أولى بالحفظ من الواحد. وقال: إنما حديثنا عن الزهري أثبت إسنادًا، ومعه عِدَاد يوافقونه ويحدونه تحديدًا لا يشبه اللفظ -واللَّه أعلم. "الافتتاح بالصلاة": الشروع فيها والابتداء بها، فكأنها دار لها باب قد فتحه ليدخلها، فشبه الابتداء بها والدخول فيها بافتتاح الدار والدخول إليها. وفي قوله: "رفع يديه" وفي رواية "يرفع يديه" والفرق بينهما أنها مع الماضي حكاية حال ماضية غير مشاهدة، وهي مع المستقبل حكاية حال حاضرة مشاهدة، كأن السامع لها يشاهدها. "والمحاذاة": المسامتة والمساواة. "والمنكبان": مجمع عظام العضدين هما أعلى الكتفين. وقوله: "وإذا أراد أن يركع" أي يرفع يديه كذلك. وقوله: "وبعد ما يرفع" أي بعد أن يرفع رأسه من الركوع يرفع يديه كذلك.

وفي هذا كله دليل على تقديم التكبير، ورفع اليد مع (¬1) الركوع والقيام، لأنه قال: "إذا أراد أن يركع" والإرادة تتقدم الفعل والفعل يتركب عليها. وقوله: "ولا يرفع بين السجدتين" أي لا يرفع يديه؛ بل يكبر ولا يرفع. والذي جاء في رواية البخاري: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة -في موضع-: "إذا افتتح الصلاة" وهما بمعنىً واحد، إلا أن رواية البخاري أعم وتلك أخص، فإن القيام إلى الصلاة يكون متقدمًا عليه, لا ينحصر مقداره وإن كان قريبًا منها. وأما الافتتاح: فإنما هو عبارة عن الشروع فيها والابتداء بها، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في المتقدم -"وتحريمها التكبير"، فجعل التكبير جزءًا منها وهو ركن من أركانها، فرواية البخاري جاءت مبينة لما جاء مجملًا في رواية الشافعي. وقوله: "ويقول: سمع اللَّه لمن حمده" لم يُرِدْ بذكره هنا الإعلام بأنه يقول ذلك، وإنما يريد به أن يكبر رافعًا يديه، في الحالة التي يقول فيها: سمع اللَّه لمن حمده، وهي القيام من الركوع. قال: هذا الحديث مسوق لبيان التكبير ورفع اليدين، لا لبيان باقي أذكار الصلاة. وقد جاء في رواية النسائي: "إذا افتتح التكبير في الصلاة" بخلاف الجماعة فإنهم قالوا: "إذا افتتح الصلاة" وفي هذه الزيادة فائدة صرحت بأن رفع اليدين إنما هو مع التكبير. وكذلك فيها "رفع يديه حين يكبر" والافتتاح بالتكبير هو الابتداء به والشروع فيه كما سبق، ثم لما كان التكبير قد يقع في غير الصلاة، وكان غرضه إنما هو التكبير المختص بالصلاة؛ قال في الصلاة لتخصيصه بها. ¬

_ (¬1) زاد في الأصل بعد (مع) حرف الجر (على) وهي زيادة مقحمة والسياق يستقيم بحذفها.

والذي ذهب إليه الشافعي: أن رفع اليدين مع التكبير مستحب عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه. وروي ذلك عن أكثر من عشرين نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم (¬1): أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وأبو قتادة، وأبو أسيد، ومحمد بن مسلمة، وأبو حميد، وأبو موسى، ومالك بن الحويرث، وابن عمرو، وابن الزبير، ووائل بن حُجْر، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وجابر، وأبو سعيد الخدري وغيرهم. وهو مذهب: الحسن البصري، وابن سيرين، ونافع، وابن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد اللَّه، وقتادة، ومكحول، والأوزاعي، والليث، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، وروي عن مالك. وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى: يستحب رفع اليدين في تكبيرة الافتتاح وَحْدَها. وروي عن مالك أيضًا وهو الأشهر (¬2) عنه، وروي عن الشعبي، والنخعي. فأما الموضع التي ترفع الأيدي إليه، فقال الشافعي: تصريح هذا الحديث هو ¬

_ (¬1) وقد صنف البخاري -رحمه اللَّه- جزءًا في رفع اليدين. قال الحافظ في الفتح (2/ 257 - 258): قال البخاري في جزء رفع اليدين: من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه، قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع. وذكر البخاري أيضًا أنه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة، وذكر الحاكم، وأبو القاسم بن منده: ممن رواه العشرة المبشرة، وذكر شيخنا أبو الفضل الحافظ أنه تتبع من رواه من الصحابة فبلغوا خمسين رجلاً، اهـ. (¬2) وروى ذلك عنه ابن القاسم، وخالفه غيره من أصحاب مالك فذكروا عنه الرفع في المواضع الثلاث. قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (4/ 100 - 101). وذكر ابن خواز بنداذ قال: اختلفت الرواية عن مالك في رفع اليدين في الصَّلاة، فمَرَّةً قالَ: =

رفعها إلى محاذاة أذنيه. وقد حكي عن الشافعي أنه لما جاء إلى بغداد، سئل عن اختلاف الأحاديث التي جاءت في منتهى رفع اليدين؟ فقال: يمكن الجمع بينها وأري أن يحاذي رءوس أصابعه أذنيه، وإبهامه شحمة أذنيه، وكفاه منكبيه، فاستحسنوا ذلك منه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عاصم بن كليب قال: سمعت أبي يقول: حدثني وائل بن حجر قال: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وبعد ما يرفع رأسه". قال وائل: ثم أتيتهم في الشتاء فرأيتهم يرفعون أيديهم في البرانس. ¬

_ = يرفع في كل خفض ورفع على حديث ابن عمر ومرّةً قال: لا يرفع إلا في تكبيرة الإحرام، ومرة قال: لا يرفع أصلاً. والذي عليه أصحابنُا أن الرَّفْعَ عنْدَ الإحْرامِ لا غير. قالَ أبو عمر: وحُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ مذهب ابْنِ القاسم في روايته عَنْ مالِك في حديث ابن مسعُود، وحديث البراء بنِ عازب عنِ النَّبيِّ عليه السلام أنَّه كان يَرْفعُ عند الإحْرام مَرَّةً، لا يزيد عليها. وبعض رواتهما يقولُ: كانَ لا يرفَعُ في الصلَّاةِ إلاَّ مّرَّة وبعضهُم يقولُ: كانَ يرفعُ يدَيْهِ إذَا افْتتَحَ الصلَّاةَ. وقد ذكَرْنا الحديثَيْنِ مِنْ طرق في "التمهيِد"، وذكرنا العِلَّةَ عَنِ العلماءِ فيهما هنا. وروى أبو مصعب، وابنُ وهبِ، عَنْ مَالكِ أنَّهُ كانَ يرفعُ يديْهِ إذا أحْرَمَ، وإذَا رَكَعَ، وإذَا رفَعَ مِنَ الرُّكُوع على حديثِ ابن عمَر. وراهُ أيضًا عَنْ مالك، الوليدُ بنُ مسلم، وسعيدُ بنُ أبي مريم، وقال ابن عبد الحكم: لم يرْوِ أحمد عَنْ مالِكِ مثل رواية ابن القاسم في رَفع اليدين. قال محمدٌ: والذي آخذُ بهِ أنْ أرفَعَ على حديث ابنِ عمر. وذكرَ أحمدُ بنُ سعيد، عَنْ أحمد بنِ خالد، قالَ: كانَ عندنا جماعَةٌ من علمائنا يرفعُون أيديهم في الصلَّاةِ على حديث ابن عمر، ورواية من روى ذلك عَنْ مالك، وجماعةٌ لا يرفعون إلاَّ في الإحْرامِ على روايةِ ابنِ القاسم، فَما عابَ هؤلاءِ على هؤلاء، ولا هؤلاء على هَؤلاءِ. وقال الحافظ في الفتح (2/ 257): لم أر للمالكية دليلًا على تركه ولا تمسكّا إلا يقول ابن القاسم.

هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3). فأما مسلم: فأخرجه عن زهير بن حرب، عن عفان، عن همام، عن محمد ابن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن علقمة بن وائل -مولى لهم- عن أبيه وائل بن حجر وذكر نحوه. وأما أبو داود: فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن شريك، عن عاصم بالإسناد نحوه. وأما النسائي: فأخرجه عن سويد بن نصر، عن عبد اللَّه بن المبارك، عن زائدة [عن] (¬4) عاصم بن كليب، بالإسناد، وذكر الحديث أطول من هذا وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث" (¬5). "وحذر الشيء": مقابله، وهو مصدر، حَذَوْتُ فلانًا حَذْوًا إذا قابلته، وأصله: من حذوت النعل أحذوها حذْوًا، إذا قطعتها على قدر أختها. و"البرانس": جمع برنس، وهو شيء كان يلبسه المسلمون في صدر الإسلام على رءوسهم وأبدانهم، وهو اليوم خصص بملابس الرهبان، وإنما كانوا يرفعون أيديهم في "البرانس"، اتقاءَ البرد في الشتاء، ومحافظة على رفع اليدين؛ اتباعًا للسنة الثابتة. وفي هذا الحديث: زيادة تأكيد لما ذهب الشافعي إليه من رفع اليدين، لأنهم مع البرد -وإن أيديهم تحت البرانس- لم يسامحوا أنفسهم بترك الرفع. ¬

_ (¬1) مسلم (401). (¬2) أبو داود (728). (¬3) النسائي (3/ 37)، (2/ 126). وأخرجه أيضًا (2/ 236) بنحو رواية أبي داود. (¬4) بالأصل [و] وهو تحريف، والصواب ما أثبتناه. وزائدة يروي عن عاصم كما ورد عند النسائي وغيره. (¬5) اختلاف الحديث ص 523.

قال الربيع: قلت للشافعي: وما معنى رفع اليدين عند الركوع؟ فقال: مثل معنى رفعهما عند الافتتاح تعظيمًا للَّه -عز وجل- وسنة متبعة يرجى فيها ثواب اللَّه -عز وجل-، ومثل رفع اليدين على الصفا والمروة وغيرهما. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: "رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: إذا: افتتح الصلاة رفع يديه". وقال سفيان: ثم قدمت الكوفة فلقيت يزيد، فسمعته يحدث بها هكذا، وزاد فيه: "ثم لا يعود"، فقلت إنهم لقنوه، قال سفيان: هكذا سمعت يزيد يحدثه، ثم سمعته بعد يحدثه هكذا، ويزيد فيه: "ثم لا يعود". قال الشافعي: ذهب سفيان إلى أن يغلِّط يزيدَ في الحديث ويقول: كأنه لقن هذا الحرف الأخير فتلقنه، ولم يكن سفيان يذكر يزيدَ بالحفظ كذلك. هذا حديث صحيح (¬1)، أخرجه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" (¬2)، ¬

_ (¬1) بل هو ضعيف وزيادة: (ثم لا يعود) مدرجة. قال الحافظ في التلخيص (1/ 220). واتفق الحفاظ على أن قوله: "ثم لا يعود" مدرج في الخبر من قول يزيد ابن أبي زياد، ورواه عنه بدونها شعبة والثوري وخالد الطحان وزهير وغيرهم من الحفاظ، وقال الحميدي: إنما روى هذه الزيادة يزيد، وقال عثمان الدارمي، عن أحمد بن حنبل: لا يصح، وكذا ضعفه البخاري وأحمد ويحيى والدارمي والحميدي وغير واحد، وقال يحيى بن محمد بن يحيى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا حديث قد كان يزيد يحدث به برهة من دهره لا يقول فيه "ثم لا يعود" فلما لقنوه تلقن، فكان يذكرها. وقال البيهقي: رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، واختلف عليه فقيل: عن أخيه عيسى عن أبيهما، وقيل: عن الحكم عن ابن أبي ليلى، وقيل عن يزيد بن أبي زياد، قال عثمان الدارمي: لم يروه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أحد أقوى من يزيد بن أبي زياد، وقال البزار: لا يصح قوله في الحديث "ثم لا يعود"، وروى الدارقطني من طريق علي بن عاصم، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن يزيد بن أبي زياد هذا الحديث قال علي بن عاصم: فقدمت الكوفة فلقيت يزيد بن أبي زياد، فحدثني به، وليس فيه "ثم لا يعود" فقلت له: إن ابن أبي ليلى حدثني عنك وفيه "ثم لا يعود" قال: لا أحفظ هذا. اهـ. وللمزيد من أقوال أهل العلم راجع نصب الراية (1/ 402 - 403). (¬2) اختلاف الحديث (523 - 524).

عقيب حديث وائل بن حجر، وأجاب عنه، وسنذكر قوله في ذلك. وقد أخرجه أبو داود (¬1): عن محمد بن الصباح البزاز، عن شريك، عن يزيد ابن أبي زياد، بالإسناد "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة، ركع يديه إلى قريب [من] (¬2) أذنيه ثم لا يعود". قال سفيان: قال لنا بالكوفة بعد "ثم لا يعود". ومعنى: "ثم لا يعود" يريد لا يعود لرفع يديه في الركوع، والقيام منه والسجود. وقوله: "فظننت أنهم لقنوه" يريد أن أهل الكوفة ذكروا له هذه الزيادة، فظن أنها في الحديث فرواها فيه. وكان أحمد بن حنبل يقول: هذا حديث وإن كان يزيد يحدث به برهة من دهره، لا يذكر فيه: (ثم لا يعود)، فلما لقن أخذه فكان يذكره فيه. والذي يدل على أنه لقنها، أن أصحابه القدماء لم يرووها عنه مثل: سفيان الثوري، وشعبة، وهشيم، وزهير، وخالد بن عبد اللَّه بن إدريس. وإنما أتى بها من سمعها منه بآخره، وكان قد تغير وساء حفظه وكان يحيى ابن معين يضعفه. قال الشافعي لبعض من قال هذا القول: أحديث الزهري، عن سالم، عن أبيه أثبت عند أهل العلم بالحديث أم حديث يزيد؟ قال: بل حديث الزهري وحده. ¬

_ (¬1) أبو داود (749). (¬2) ما بين المعقوفتين لم يثبت بالأصل، والاستدراك من مطبوعة السنن.

فقلت: فمع الزهري أحد عشر رجلاً من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - منهم: أبو حميد، وحديث وائل بن حجر، كلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما وصفت لك، وثلاثة عشر رجلاً أولى أن يثبت حديثهم من حديث واحد ومن أصل قولنا وقولك: أنه لو لم يكن معنا [إلا حديث] (¬1) واحد، ومعك حديث يكافئه في الصحة، وكان في حديثك أن لا يعود لرفع اليدين، وفي حديث [يعود] (¬2) لرفع اليدين، كان حديثنا أولى أن يؤخذ به، لأن فيه زيادة حفظ ما لم يحفظ صاحب حديثك، فكيف صرت إلى حديثك وتركت حديثنا؛ والحجة لنا فيه عليك بهذا؛ وبأن إسناد حديثك ليس كإسناد حديثنا، وبأن أهل الحفظ يروون أن يزيد لُقِّنَ: "ثم لا يعود"؟. وقال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: كان أبي ينكر حديث الحكم وعيسى، وذلك أن هذا الحديث رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن أبيه عبد الرحمن، عن البراء، ومحمد بن عبد الرحمن أضعف عند أهل العلم من يزيد بن أبي زياد، واختلف عليه في إسناده، فقيل: هكذا. وقيل: عنه، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى. وقيل: عنه، عن يزيد [بن أبي زياد] (¬3) عن ابن أبي ليلى. وقال الشافعي في القديم: [قال] (4) قائل: رويتم قولكم عن ابن عمر، والثابت عن علي وابن مسعود أنهما كانا لا يرفعان أيديهما في شيء من الصلاة إلا في تكبيرة الافتتاح، وهما أعلم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -[من ابن عمر لأن النبي]- صلى الله عليه وسلم - (¬4) قال: ¬

_ (¬1) بالأصل [الأحاديث] وهو تصحيف، والاستدراك من المعرفة (2/ 421). (¬2) جاءت مكررة بالأصل. (¬3) من الأصل، والاستدراك من المعرفة للبيهقي (2/ 420). (¬4) غير مثبت بالأصل والاستدراك من المعرفة (2/ 425).

"لِيَليني منكم أولو الأَحْلام والنُّهَى" (¬1) وكان ابن عمر خلف ذلك. قال الشافعي: وإنما أراد صاحب هذا -واللَّه أعلم- بقوله: "رواه عن ابن عمر"، ليوهم العامة أن ابن عمر لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: علي وابن مسعود أعلم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن عمر. وقوله لا يثبت عن علي وابن مسعود، وإنما رواه عن عاصم بن كليب، عن أبيه، فأخذ برواية عاصم بن كليب فيما روى عن أبيه، عن علي، وترك ما روى عاصم، عن أبيه، عن وائل بن حجر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه، كما روى ابن عمر، ولو كان هذا ثابتًا عنهما كان يشبه أن يكون رآهما مرة، أغفلا فيها رفع اليدين، ولو قال قائل: ذهب عنهما حفظ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحفظ ابن عمر، لكانت له حجة، لأن ضحاك (¬2) بن سفيان قد حفظ على المهاجرين والأنصار، وغيره أولى بالحفظ منه، والقول قول الذي قال: رأيته فعل لأنه شاهد، ولا حجة في قول الذي قال: لم يره. قال: والذي يحتج علينا بهذا يقول -في الأحاديث والشهادات- من قال: لم يفعل فلان فليس بحجة، ومن قال: فعل فهو حجة، لأنه شاهد والآخر قد تغيب عنه ذلك أو يحضره فينساه، وقد روى هذا عدد عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - سوى ابن عمر. وقوله: "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليليني منكم أولو الأحلام والنهى" فيرى ابن عمر كان خلف ذلك، لقد كان ابن عمر عندنا من ذوي الأحلام والنهى، ولو كان فوق ذلك منزلة كان أهلها، وإن تقدم أحد ابن عمر بسابقة، ما قَصَّرَ ذلك بابن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (432). (¬2) كذا جاء بالأصل وفي المعرفة جاء معرفًا: (الضحاك). وهو الضحاك بن سفيان الكلابي له صحبة، مقل في الرواية. روى له الأربعة حديثًا واحدًا وليس له في الكتب الستة سوى حديث واحد وانظر تهذيب الكمال (13/ 261).

عمر عن بلوغ ما هو أهله من الفضل في صحبته وسابقته وصهره، ورضي المسلمين عامة عنه. قد وقف الصنابحي خلف أبي بكر، ثم المهاجرين، والأنصار، ولا شك أنه قد كان يقف خلف رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، مع المهاجرين والأنصار وغيرهم، وإن كانوا أكثر من ثلاثة، وليس ابن عمر ممن يقصر به عن ذلك الموقف، ولا ممن تغمز روايته، ولا ممن يخاف غلطه ولا روايته، إلا ما قد أحاط به. وقد أجاب الشافعي أيضًا إبراهيم النخعي لما أنكر حديث وائل بن حجر، فقال: أترى وائل بن حجر أعلم من علي، وعبد اللَّه؟ ولعله فعل ذلك مرة واحدة ثم تركه. قال الشافعي في بعض جوابه عن كلام إبراهيم: ومن قولنا وقولك: أن وائل ابن حجر إذا كان ثقة لو روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وقال عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ما روى، كان الذي قال أولى أن يؤخذ به. وأصل قولنا: إن إبراهيم لو روى عن علي، وعبد اللَّه لم يقبل منه، لأنه لم يلق واحدًا منهما. قال إبراهيم: وائل أعرابي. قال الشافعي: أفرأيت قرثع الضبي، وقزعة، وسهم بن منجاب، حين روى إبراهيم عنهم، أهم أولى أن يروي عنهم أم وائل بن حجر؟ وهو معروف عندكم بالصحابة، وليس واحد من هؤلاء فيما زعمت معروفًا عندكم بشيء، قال: لا، بل وائل بن حجر، قال الشافعي: فكيف يرد حديث رجل من الصحابة، ويروى عمن دونه؟ ونحن إنما قلنا برفع اليدين عن حديث عدد، لعله لم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط عدد أكثر منهم غير وائل، ووائل أَهْلٌ أن يُقْبَلَ عنه. وقد أخرج الشافعي في القديم قال: أخبرنا رجل قال: أخبرني إسحاق بن

عبد اللَّه، عن عباد بن سهل قال: اجتمع محمد بن مسلمة، وأبو أسيد الساعدي، وأبو حميد الساعدي، فقال أبو حميد: أنا أعلمكم بصلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -،: "كان إذا قام إلى الصلاة كبر ورفع يديه حذو منكبيه، ثم غير ساجدًا" وهذا طرف من حديث طويل. قد أخرجه البخاري (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) بطوله. وأول الحديث: عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو قتادة، وللحديث روايات كثيرة، وطرق عدة لم نطل القول بذكرها. وقد أخرج الشافعي أيضًا في القديم قال: وأخبرني من أثق به، عن سليمان ابن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في الصلاة ثلاثًا: حين يكبر الافتتاح، وحين يريد أن يركع، وحين يرفع رأسه من الركوع". وهذا الحديث وإن كان مرسلاً، فإن سليمان بن يسار من الفقهاء السبعة، الذين اتفق الناس على تقديمهم في العلم، وصدق روايتهم، وصحة أحاديثهم، والعمل بأقوالهم (¬4). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين قال: "كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يكبر كلما خفض ورفع، فما زال تلك صلاته حتى لقي اللَّه -عز وجل-". هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬5) مرسلاً، وقال فيه: "فلم تزل تلك صلاته". ¬

_ (¬1) البخاري (828). (¬2) أبو داود (730، 731، 963). (¬3) الترمذي (304، 305) وقال: حسن صحيح. (¬4) وكل هذا لا يقتضي صحة الرواية فالمرسل أبدًا مرسل. (¬5) الموطأ (1/ 87 رقم 17).

وعلي بن الحسين زين العابدين تابعي جليل القدر، أدرك جماعة كثيرة من الصحابة، وروى عنهم. والمرسل المطلق: هو الذي يرويه التابعي عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولا يذكر في الإسناد اسم الصحابي الذي سمع الحديث منه فهذا هو المرسل المطلق. وهذا الحديث قد احتج به الشافعي، وهو مرسل، وهو لا يقبل المراسيل، ولا يحتج بها على الصحيح من مذهبه. ووجه الجمع بين هاتين الحالتين وأمثالهما، أن هذا الحديث قد رواه مسندًا؛ إما من هذا الطريق أو من غيره، فاحتج به لذلك. كما نقل عنه أنه احتج بمراسيل سعيد بن المسيب، قالوا: لأنه اعتبرها فوجدها كلها مسندة، وإنما لم يذكر طريق إسناده لأمرين: أحدهما: أن مالك بن أنس قد أخرج هذا الحديث في الموطأ هكذا مرسلاً، ومالك يقول بالمراسيل ويحتج بها فحيث أراد الشافعي أن يروي هذا الحديث كما سمعه من مالك مرسلًا كما ترى. والأمر الثاني: أن الطريق الذي يكون قد سمعه الشافعي مسندًا، دون هذا الطريق في التثبت وثقة الرواة، لأن طريق مالك رجح عنده وعند غيره من غيره من الطريق، لا سيما في حديث يتضمن حكمًا فقهيًّا. "والخفض": ضد الرفع، ويريد بالخفض الركوع، والسجود، وبالرفع القيام من الركوع، ومن التشهد الأول، والجلوس من السجدة الأولى والثانية. و"ما زال": هي من أخوات كان، وتحتاج إلى اسم وخبر، فأما اسمها فهو مضمر فيها وهو ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما خبرها فهو الجملة التي بعدها من المبتدأ والخبر اللذين هما "تلك صلاته" ويجوز أن يكون "تلك" اسمها وهو إشارة إلى الصلاة، وتكون "صلاته" خبرها لكن تكون منصوبة. وإنما لم يثبت في "زال" تاء التأنيث لتقدم الفعل، ولأن الفعل لضمير

النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لأن تأنيث الصلاة غير حقيقي؛ وكان القياس أو ألحقها أن يقول: فما زالت تلك صلاته، ويكون "تلك" هو الاسم. وأما رواية الموطأ: فإن [كانت] (¬1) يزل بالياء فلها حكم التأويل الأول، فإن كانت بالتاء فلها حكم التأويل الثاني. وأراد بلقاء اللَّه -عز وجل-: وفاته - صلى الله عليه وسلم - فكنى عنها بذلك، وفيه أدب حسن، لأنه جمع له بين اتصال العبادة ولقاء اللَّه -عز وجل- فكأن عبادته وصلاته كانت موصولة بلقائه، ومن كانت هذه حاله فهنيئًا له الوفاة. والذي ذهب إليه الشافعي وغيره من العلماء: أن تكبيرات الانتقالات في الصلاة مستحسنة مسنونة محافظ عليها مرغب فيه, لا خلاف بينهم في ذلك. وذهب أحمد في رواية عنه، وإسحاق إلى وجوبها، وأن الصلاة تفسد مع عدمها. وعدد تكبيرات الصلاة الرباعية كالظهر، اثنتان وعشرون تكبيرة: تكبيرة الافتتاح وهي فرض، وتكبيرات الركوع أربع، وتكبيرات السجود في كل سجدتين أربع، فتلك ست عشرة تكبيرة. وتكبيرة النهوض من التشهد الأول. وفي الصلاة الثنائية: إحدى عشرة تكبيرة، واحدة للافتتاح، واثنتان للركوع، وثمان للسجود. ولصلاة المغرب؛ سبع عشرة تكبيرة: واحدة للافتتاح، وثلاث للركوع، واثنتى عشرة للسجود، وواحدة للقيام من التشهد الأول. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة عن أبي ¬

_ (¬1) بالأصل [كا] وهو تصحيف، وبما أثبتناه يستقيم السياق.

هريرة: كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع، فإذا انصرف قال: واللَّه إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الموطأ (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، والنسائي (¬4). فأما مالك: فأخرجه بالإسناد المذكور واللفظ، وقال: أشبهكم صلاة برسول اللَّه. وأما مسلم: فأخرجه يحيى بن يحيى، عن مالك، ولفظ البخاري. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، مثل البخاري. وهذا أخرجه الشافعي مؤكدًا لحديث علي بن الحسين وهو مسند، لأنه قال: كان أبو هريرة يصلي بهم؛ ثم قال: إني لأشبهكم بصلاة رسول اللَّه؛ وهذا إنما هو تعريف من أبي هريرة لصلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - حيث صلى بهم، ثم شبه صلاته بصلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وشبه الشيء له حكمه. والذي جاء في رواية الشافعي: "أشبهكم صلاة بصلاةِ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". وفي رواية الباقين: "أشبهكم صلاةً برسول اللَّه". وأتم هذه الروايات الثلاث وأبلغها رواية الشافعي؛ وإن كانت الجميع تفيد المعنى وتدل عليه، إلا أن هذه أجمل وأبين؛ وذلك لأن أفعل التي هي للتفضيل؛ لا بد لها من مميَّز تضاف إليه وتقترن به، تقول: زيد أحسن الناس، فأنت حينئذ بين أمرين: ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 87 رقم 19). (¬2) البخاري (785) ولم يذكر المصنف رواية البخاري في شرحه وقد أخرجها عن عبد اللَّه بن يوسف عن مالك بنحو رواية الموطأ. (¬3) مسلم (392). (¬4) النسائي (2/ 235).

أحدهما: الإظهار: وهو أن يذكر ما فضلهم فيه بالحسن؛ فتقول: وجهًا أو خلقًا أو غير ذلك مما تريد أن تخص التفضيل به. والثاني: الإضمار: وهو أن تسكت على قولك: أحسن الناس، فلا يجوز إلا فيما يفهم من ظاهره ما سكت من ذكره؛ وهو في مثل هذا المثال إما صورة؛ أو خلقة، لأن الحسن لما لم يخصصه بأحد أوصافه أو أجزائه كان شاملًا له، ولا يكون في هذا المثال إلا على ما قلناه؛ فأما على قولهم: زيد أعلم الناس، أو أفضل الناس، أو أرحم الناس، وما أشبه ذلك، فإنما هو على تقدير: أعلم الناس علمًا، وأفضلهم فضلاً، وأرحمهم رحمة. أو على تقدير: أكثر الناس علمًا، وفضلاً، ورحمة، ونحو ذلك فلما كثر الاستعمال جاز حذف هذا معه، لدلالة الحال عليه والخطاب. فأما أشبه الناس كما جاء في هذا الحديث وأمثاله، فلا يجوز إلا بذكر المخصوص بالتفضيل، فاحتاج أن يقول: "أشبهكم صلاة". ثم لما أراد أن يذكر الشبه به جاء به فقال: "بصلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". فجاء باللفظ تامًّا كاملًا مظهرًا لا يحتاج إلى تقدير، ولا حذف، ولا إضمار. وأما رواية مالك؛ فإنه حذف اللفظ المميز المخصوص بالتفضيل، واقتنع باللفظ المشبه به لدلالة الثاني عليه؛ لأنه لما ذكر الشبه به عُلِمَ منه الغرض؛ وأنه بماذا يشبه؛ فحذف المخصوص بالتفضيل لذلك. وأما رواية الباقين بعكس رواية مالك، فإنهم حذفوا الشبه به واكتفوا بذكر المخصوص بالتفضيل، لدلالته على المحذوف والتقدير فيه: بصلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يرد أنه يشبه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في غير صلاته، كما أراد في رواية مالك أنه يشبه صلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وكلتا الروايتين في مقام واحد من البيان، لا يكاد تفضل إحداهما الأخرى.

والذي أراده أبو هريرة بقوله: "إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -" سبب خاص، وذلك أن عثمان بن عفان لما أسن وكبر، ضعف عن الإعلان بتكبيرات الانتقالات كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلن بها وأبو بكر وعمر من بعد، فكان عثمان يخفيها والمؤذنون وراءه يعلنون بها؛ ليسمعها الناس وبقى على ذلك مدة إلى أن مات فلما ولي الأمر بنو أمية اقتدوا به في الإخفاء -وإن كانوا أقوى شبابًا- حتى صار ذلك سنة لهم، فكان أبو هريرة بعد عثمان إذا صلى يعلن بالتكبيرات، على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وعمر، ثم يقول: "أنا أشبهكم صلاة بصلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -". ولذلك قال مطرف بن عبد اللَّه: صليت خلف علي بن أبي طالب، وعمران ابن حصين، فكان إذا سجد كبر؛ وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ عمران بيدي فقال: "ذكَّرني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولقد صلى بنا صلاة محمد". أخرج هذا الحديث البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4) -واللَّه أعلم. ... ¬

_ (¬1) البخاري (786). (¬2) مسلم (393). (¬3) أبو داود (835). (¬4) النسائي (2/ 204 - 205).

الفرع الثاني في دعاء الاستفتاح

الفرع الثاني في دعاء الاستفتاح أخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد وغيرهما، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن عبد اللَّه بن الفضل - هو ابن ركعة بن الحارث ابن عبد المطلب- عن الأعرج، عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال بعضهم: "كان إذا ابتدأ"، وقال غيره منهم: "كان إذا افتتح الصلاة" قال: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، للَّه رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت -قال أكثرهم- "وأنا أول المسلمين" وشككت أن يكون قال أحدهم: -"وأنا من المسلمين"- اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير بيديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، أنا بك وإليك لا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك". أخبرنا الشافعي بهذا الإسناد واللفظ إلى قوله: "وأنا أول المسلمين" [ثم قال: وقال الآخر: "وأنا من المسلمين] " (¬1). قال الشافعي: ثم يقرأ بالتعوذ، ثم بسم اللَّه الرحمن الرحيم فإذا أتي عليها قال: "آمين" ويقول من خلفه، وفي نسخة "حوله إن كان إمامًا يرفع صوته حتى يسمع من خلفه إذا كان يجهر بالقراءة"، وفي نسخة: "إذا كان ممن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين جاءت مكررة بالأصل.

يجهر بالقراءة". أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب "استقبال القبلة". وأخرج الرواية الثانية في كتاب "الإمامة" (¬1). فالحديث في نفسه صحيح، أخرجه مسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). فأما مسلم: فأخرجه عن محمد بن أبي بكر [المُقَدّمي] (¬6) عن يوسف بن الماجشون، عن أبيه، عن الأعرج بالإسناد: "أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة قال: "وجهت وجهي" وذكر الحديث وزاد فيه: "ما يقول في الركوع" والقيام من الركوع والسجود، وما يقول عند الفراغ من التشهد قبل السَّلام". وفي أخرى: عن زهير بن حرب، عن عبد الرحمن بن مهدي، وعن إسحاق ابن إبراهيم، عن أبي النضر، عن عبد العزيز بن عبد اللَّه بن أبي سلمة، عن عمه الماجشون بن أبي سلمة، عن الأعرج بالإسناد قال: كان إذا استفتح الصلاة كبر وذكر الحديث مثل روايته. وأما أبو داود: فأخرجه عن عبيد [اللَّه] (¬7) بن معاذ، عن أبيه، عن عبد العزيز ابن أبي سلمة، عن عمه الماجشون، عن الأعرج بالإسناد، وذكر لفظ مسلم ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 106)، (7/ 166). (¬2) مسلم (771). (¬3) أبو داود (760، 761). (¬4) الترمذي (3421، 3422، 3423). (¬5) النسائي (2/ 129 - 130). (¬6) ما بين المعقوفتين بالأصل [المقدسي] وأراه تصحيفًا ولم أر من نسبه هكذا، وعند مسلم على الجادة كما أثبتناه، وترجم له السمعاني في الأنساب في المقدمي وقال: هذه النسبة إلى الجد والمشهور بها: أبو عبد اللَّه: محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي. الأنساب (5/ 364). (¬7) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل، والاستدراك من السنن.

إلى آخره ولم يقل فيها: "والشر ليس إليك". وفي أخرى: عن الحسن بن علي، عن سليمان بن داود، عن عبد الرحمن ابن أبي [الزناد] (¬1)، عن موسى بن عقبة بإسناد الشافعي قال: "إنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة؛ كبر ورفع يديه حذو منكبيه"، وذكر نحوه. وأما الترمذي: فأخرجه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن يوسف بن الماجشون، عن أبيه، عن الأعرج بالإسناد قال: "وأنا من المسلمين" وذكرنا في الحديث مثل مسلم. وفي أخرى: عن الحسن بن علي الخلال، عن أبي الوليد الطيالسي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة ويوسف بن الماجشون. وقال عبد العزيز: حدثني عمي. وقال يوسف: حدثني أبي، عن الأعرج وذكر الحديث بطوله مثل مسلم. وفي أخرى: عن الحسن بن علي الخلال، عن سليمان بن داود الهاشمي، عن [عبد الرحمن بن أبي الزناد] (¬2) عن موسى بن عقبة بالإسناد وقال: كان [إذا] (¬3) قام إلى الصلاة المكتوبة؛ رفع يديه حذو منكبيه إذا رفع رأسه من الركوع، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد، فإذا قام من سجدتين رفع يديه كذلك فكبر، ويقول حين يفتتح الصلاة بعد التكبير: "وجهت وجهي" ... الحديث. وأما النسائي: فأخرجه عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد العزيز بن عبد اللَّه بإسناد مسلم الثاني، ونحو لفظ الشافعي، ولم يقل: "أنت ربي". والشافعي فرق هذا الحديث الطويل؛ فذكر هنا ما يتعلق بدعاء الاستفتاح، ¬

_ (¬1) بالأصل [داود] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وكذا جاء مصوبًا في السنن. (¬2) بالأصل [الأعرج] وهو خطأ، والتصويب من السنن وهو الصواب. (¬3) بالأصل [إذ] والتصويب من السنن.

وذكر ما يتعلق بالتكبير وحده، وما يتعلق بالسجود وحده، وكذلك كل جزء منه ذكره مفردًا عند ذكر ما يختص به. ورواية بعض الحديث جائزة، إذا لم يتعلق المتروك بالمذكور تعلقًا يفسد المعنى؛ أو يتوقف فهم المذكور على ذكر المتروك، وقد تقدم فيما سلف من الكتاب ذكر ذلك مستوفيًا. وقد فرق الشافعي في روايته، بين قول بعض الرواة: "كان إذا ابتدأ" وبين قول بعضهم: "كان إذا افتتح الصلاة"، ولم يرد الفرق بينهما من جهة المعنى، وأن هذا الاختلاف يترتب عليه حكم [من أحكام] (¬1) الصلاة لا يترتب على الآخر؛ فإن المعنى فيهما عنده سواء، بدليل أن هذا الدعاء إنما يقوله المصلي بعد تكبيرة الإحرام، فسواء قال: "إذا ابتدأ" و "إذا افتتح" وإنما كان غرضه بذكر اللفظين؛ المحافظة على ألفاظ الرواة والإتيان بها، حتى لم يتسامح في هذا القدر الذي لا يغير عنده حكمًا. "والفطرة": الخلقة، فطره: إذا خلقه، وهو أيضًا الابتداء والاختراع. قال ابن عباس: كنت لا أدري ما {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} (¬2) حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها وحفرتها. و"الحنيف": المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وهو في الأصل: المائل عن الشيء مطلقًا. "والنسك": العبادة في الأصل. "والمحيا والممات": حالة الحياة والموت، وهما مصدران والمراد بهما ما يأتيه في حيويته وما يموت عليه من الأعمال. ¬

_ (¬1) جاء بالأصل مكررًا. (¬2) فاطر: (1).

"والكاف" في "بذلك": راجعة إلى هذه الأوصاف المشتملة على العبادة والإخلاص. وقوله: "وأنا أول المسلمين" هذا حكاية لفظ إبراهيم خليل الرحمن -صلوات اللَّه عليه- وهو أول المسلمين وكذلك قال هو. وأما قوله: "من المسلمين" فذلك يقوله من هو بعد إبراهيم، لأن كل من دان بدين الإسلام كان من جملة المسلمين. وقد جاء في إحدى الروايات "أول المسلمين" وفي بعضها "من المسلمين" فجائز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: "وأنا أول المسلمين" حكى لفظ القرآن العزيز الذي أخبر به عن إبراهيم، فقال مثل إبراهيم محافظة على لفظ القرآن وجائز أن يكون أراد أنه - صلى الله عليه وسلم - هو أول المسلمين، لأنه الذي شرع الإسلام وأرسل به. وأما "من المسلمين" فلا لبس في أنه يريد أنه واحد منهم. "والمسلم": اسم فاعل من أسلم يسلم، إذا انقاد وخضع، هذا هو الأصل، ثم جعل اسمًا جامعًا لأوصاف مخصوصة اشترطها الشارع، أولها: الإتيان بالشهادتين لفظًا. وأما قوله: "اللهم" فإن أصله "يا اللَّه" فحذفت "يا" من أوله وعوضت الميم عنها في آخرها, ولذلك لا يجوز الجمع بينهما. وقد جاء في الشعر. "وسبحانك": بمعنى تنزيهك وبرائتك، وهو مصدر. "والباء" في "بحمدك" متعلقة بمحذوف تقديره "وبحمدك سبحت". "والرب": المالك، والسيد، والصاحب، والمدبر، والخالق وغير ذلك إلا أنه لا يرد مطلقًا إلا على اللَّه -عز وجل- غالبًا، فأما غير اللَّه فيقال فيه رب كذا، على أنه قد جاء في الشعر على غير اللَّه تعالى مطلقًا.

"والعبد": ضد الحر، وأصله الذل والخضوع، ومنه طريق مُعَبَّد أي مذلَّل. "والظلم": الجور ومجاوزة الحد وأخذ ما ليس لك، وأصله وضع الشيء في غير موضعه. "والنفس" في اللغة: الروح يقال: خرجت نفسه إذا مات، وقد يطلق على الدم: سألت نفسه، وفي الحديث "ما ليس له نفس سائلة" (¬1) أي ما لا دم له، وقد يطلق على الجسد. وجاء في الشعر. ومعنى "ظلمه نفسه": يريد: بما ارتكبه من الذنوب والمعاصي فإنه ظلمها، حيث قلدها الآثام والأوزار وأخرجها إلى أن تعاقب. وإنما قال: "واعترفت بذنبي" يريد ظلمه نفسه فإنه ذنب واحد؛ وإن كان قد ظلمها مرات كثيرة، إلا أنه يطلق على تلك المرات لفظة الظلم لجمعه إياها، ولأن الذنب معصية والاعتراف به يورث الخجل والفضيحة، لكنه لما علم أن الاعتراف بالذنب يمحوه ويوجب العفو والمغفرة وأراد أن يعترف؛ وَحَّدَ الذنب لئلا يكون معترفًا بذنوب كثيرة؛ فتكبر فضيحته. على أن الذنب قد يقع على القليل والكثير، ولكن لفظ الجمع أفصح فلما جاء إلى طلب المغفرة زال ذلك السبب الذي وحد لأجله، فقال: "فأغفر لي ذنوبي جميعًا" فأتى بلفظ الجمع لتكون المغفرة لها شاملة، وليزول الوهم الذي يحصل من لفظ المفرد عند الإتيان بلفظ الجمع، ثم لم يكفه ذلك حتى قال "جميعًا" تأكيدًا لطلب العفو عن الذنوب كلها. ¬

_ (¬1) كأنه يشير إلى حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (5782) ولفظه "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاء". وأخرجه البيهقي في السنن (1/ 252) وبوب عليه "باب ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل". وساق بسنده عن سلمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فهو الحلال أكله وشربه ووضوؤه" وضعفه.

ثم عقب ذلك بقوله: "لا يغفر الذنوب إلا أنت" إقرارًا منه واعترافًا أنه قد قطع أمله ورجاءه عن كل أحد سواه، وصرف رغبته إلى من لا توجد المغفرة إلا عنده. و"الهدى": ضد الضلال. و"الأخلاق" واحدها خُلُق -بضم اللام وبسكونها- وهي السجية التي جُبِلَ الإنسان عليها من حسن وقبح، ولذلك طلب الهداية لأحسنها. ثم عقب بقوله: "لا يهدي لأحسنها إلا أنت" كما قال في "لا يغفر الذنوب إلا أنت". وكذلك قوله: "واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت". وأما قوله: "لبيك" فإنها لفظة مبنية من ألَبَّ بالمكان إذا أقام فيه، وضعت لإجابة الداعي، والمراد بها إجابة اللَّه تعالى إلى دعاية الخلق إلى الإيمان" ومعنى هذه: التنبيه فيها إجابة بعد إجابة، وإقامة على إجابتك بعد إجابة. وأما "سعديك" فإنها من الألفاظ المقرونة بلبيك، ومعناها إسعاد، أي: ساعدت على طاعتك مساعدة بعد مساعدة. وهما منصوبان على المصدر. وأما قوله: "الخير بيديك، والشر ليس إليك" فله تأويلان (¬1): أحدهما على مذهب أهل الحق من السنة والجماعة. والثاني على مقتضى مذهب المعتزلة. فأما الأول -وهو الصحيح والصواب- إن شاء اللَّه تعالى- فإنما ذكره على ¬

_ (¬1) قال النووي في شرح مسلم (3/ 317): قوله: والشر ليس إليك: مما يجب تأويله لأن مذهب أهل الحق أن كل المحدثات فعل اللَّه تعالى وخلقه سواء خيرها وشرها وحينئد يجب تأويله وفيه خمسة أقوال. وانظر هذه الوجوه هناك.

سبيل الإرشاد إلى استعمال الأدب في الثناء على اللَّه -عز وجل- ومدحه، بأن تضاف محاسن الأشياء إليه دون مساوئها, وليس المقصود نفى شيء عن قدرته ولا إثباته لها، فإن محاسن الأشياء تضاف إلى اللَّه -عز وجل- عند الثناء عليه دون مساوئها، كما قال اللَّه -عز وجل- {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1) فيقال: يا رب السموات والأرض، ولا يقال: يا رب القردة والخنازير (¬2). وقد سئل الخليل بن أحمد عن ذلك؟ فقال: معناه ليس ذلك مما يتقرب به إليك، كقولهم: أنا منك وإليك، أي: معدود من جهتك ومنتم إليك. وأما على القول الثاني: فإن المعتزلة يذهبون إلى أن الخير من اللَّه والشر من الإنسان، وهذا يوافق ظاهر اللفظ. ولكلا المذهبين شرح وتفصيل ودليل يذكر في علم الكلام، لا حاجة بنا إلى ذكره هنا، لكنا نسأل اللَّه العصمة والتوفيق في القول والعمل، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا؛ وأن يستن بنا منهج أهل السنة، ويجمع لنا طرق الجماعة بمنه وكرمه (¬3). وفي رواية الشافعي "والخير بيديك" وفي غيرها "في يديك". والمعنيان متقاربان إلا أن مع "الباء" يكون متمسكًا به، ومع "في" يكون حاويًا له، وهذا تمثيل كما يقال: البلدة في يد السلطان وبيد السلطان، أي أمرها إليه وحكمها منوط به، وإلا فلا شيء على الحقيقة باليد ولا فيها. واليد وإطلاقها على اللَّه تعالى -من قبيل التشبيه المحض، إذا أريد بها الجارحة ونعوذ بالله من ذلك، وإنما يراد بها القدرة والاستيلاء والحكم، وهذا تمثيل كما ¬

_ (¬1) الأعراف: [180]. (¬2) انظر المصدر السابق. (¬3) وانظر مجموع الفتاوى (14/ 18 - 28).

قلنا وبحثنا، والتقدير: أن الخير في حكمك وتحت أمرك وقدرتك (¬1). وقوله: "المهدي من هديت" فيه نفي أن يكون من هداه أحد آخر مهديًّا، أو أنه لا هادٍ سواه. وقوله: "أنا بك وإليك" أي أنا موجود بك في حياتي فلولا أنت لم أكن، ومردي إليك في مماتي. و"المنجى" موضع النجاة أي: لا مهرب ينجو الإنسان فيه منك إلا إليك؛ فإنه إن طلب النجاة عند غيرك ضل، فجاء به على لفظ النفي والإثبات ليكون أبلغ. وقوله: "تباركت" تفاعلت من البركة وهي البقاء والفلاح. و"تعاليت" تفاعلت من العلو والمراد به علو القدرة لا علو المكان (¬2). "والاستغفار": طلب المغفرة، "والتوبة": الرجوع من الذنب والإخلاص ¬

_ (¬1) رحم اللَّه المصنف فقد نأى منأىً بعيدًا وخالف جمهور أهل السنة والجماعة، وَقَفَّى بهذا القول سبيل المعطلة، فلم يثبت ما أثبته اللَّه لنفسه على الوجه اللائق به -سبحانه- بل عطل صفاته وحَرَّفَها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الواسطية: ومن الإيمان باللَّه، الإيمان بما وصف به نفسه من غير تحريف في كتابه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يؤمنون بأن اللَّه سبحانه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" ثم شرع -رحمه اللَّه- في ذكر الأدلة على ذلك وذكر جملة من صفات اللَّه تعالى فنقل في صفة اليد قوله تعالى. {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} و {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. قال الشيخ خليل هراس -رحمه اللَّه:- تضمنت هاتان الآيتان إثبات اليدين صفة حقيقية له سبحانه على ما يليق به ... ، ولا يمكن حمل اليدين هنا على القدرة، فإن الأشياء جميعها حتى إبليس خلقها اللَّه بقدرته فلا يبقى لآدم خصوصية يتميز بها. وأيضًا فلفظ اليدين بالتثنية لم يعرف استعماله إلا في اليد الحقيقية ولم يرد قط بمعنى القدرة أو النعمة فإنه لا يسوغ أن يقال: خلقه اللَّه بقدرتين أو بنعمتين، على أنه لا يجوز إطلاق اليدين بمعنى النعمة أو القدرة أو غيرها إلا في حق من اتصف باليدين على الحقيقة، ولذلك لا يقال للريح يد ولا للماء يد (¬2) ولا يتوهم من =

في الترك، والندم على الفائت. والذي ذهب إليه الشافعي؛ قال في الأم: أنه يأتي بهذه الأذكار جميعها من أولها إلى آخرها؛ عقيب تكبيرة الإحرام في الفريضة والنافلة، لأنه قال لما ذكرها: وبهذا أقول وآمر وأحب أن يأتي بها كما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغادر منها شيئًا. وأما المزني فإنه روى عنه أنه يقول "وجهت وجهي" إلى قوله "من المسلمين" وقال مالك: لا يدعو بشيء بل يكبر ثم يقرأ. وقال أبو حنيفة: يدعو بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. وبه قال الثوري، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق. وروي عن أبي يوسف أنه قال: يقول معه: وجهت وجهي. وقال الشافعي في سنن حرملة: وخالفنا بعض الناس فقال: افتتح بسبحانك اللهم وبحمدك، وذكر باقي الكلام ثم قال: وأصل ما نذهب إليه أن أول ما نبدأه بقوله وفعله؛ ما كان في كتاب اللَّه -تعالى- وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: فقد روينا هذا القول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث بعض أهل مذهبكم -قلنا له ولبعض من حضر: أحافظ من رويت عنه هذا القول، ويحتج بحديثه؟ فقال عامة من حضره: لا ليس بحافظ. قال الشافعي: فكيف يجوز أن تُعارِضَ برواية من لا يحفظ وتقبل حديث مثله وعلى الانفراد روايةَ مَنْ يحفظُ ويُثْبِتُ حديثه؟ وإنما أراد حديث حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الافتتاح، وحارثة بن محمد هو حارثة بن محمد بن أبي الرجال، وهو ضعيف لا يحتج بحديثه، ضعفه

يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والبخاري وغيرهم (¬1). قال الربيع: قال الشافعي -فيما بلغه عن هشيم، عن بعض أصحابه، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي، كان إذا افتتح الصلاة قال: "لا إله إلا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وجهت وجهي" وذكر إلى قوله: "من المسلمين". ثم قال الشافعي: وقد روينا من حدثنا عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يقول هذا الكلام إذا افتتح الصلاة، يبدأ بهذا: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض". ... ¬

_ = قوله أنه ينفي علو الذات فهو ثابت قطعًا. (¬1) وقال أبو زرعة: واهي الحديث ضعيف. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث مثل عبد اللَّه بن سعيد المقبري. وقال النسائي: متروك الحديث وفي موضع آخر: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه منكر، وانظر تهذيب الكمال (5/ 313 - 316).

الفرع الثالث في الاستعاذة والقراءة والتأمين

الفرع الثالث في الاستعاذة والقراءة والتأمين وفيه ستة أنواع:- النوع الأول: في الاستعاذة أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ربيعة بن عثمان، عن صالح ابن أبي صالح أنه سمع أبا هريرة وهو يؤم الناس رافعًا صوته: ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم -في المكتوبة- وإذا فرغ من أم القرآن (¬1). هكذا جاء في المسند "وإذا فرغ" بواو قبل إذا. والذي رواه البيهقي في السنن والآثار (¬2): "إذا فرغ من أم القرآن" بغير واو وهو الظاهر والصواب إن شاء اللَّه -تعالى-، لأنه مع إثبات الواو يقتضي أن يكون يستعيذ قبل أم القرآن وبعدها. فإن الواو للعطف وهي تقبل معناه؛ فإذا قال: "وإذا فرغ" يستدعي وجودها معطوفًا عليه. والخلاف في الاستعاذة، إنما هو في محله قبل الفاتحة أو بعدها. فأما في الجمع بين الحالين فلا. "عاذ" بالشيء يعوذ به: إذا التجأ إليه وكذلك: استعذت به، وقال: عياذي وملاذي أي ملجأي. و"الشيطان" في الأصل: العاتي المتمرد من الجن والإنس والدواب، والوارد به إذا أطلق إبليس -لعنه اللَّه- وشياطين الجن، فإذا أريد إطلاقه على غير الجن ¬

_ (¬1) وإسناده ضعيف جدًّا، وآفته: إبراهيم بن محمد، وهو متروك. (¬2) معرفة السنن والآثار (3011).

قيل: شيطان الإنس، وهو من شطن إذا بعد، والنون فيه أصلية ووزنه فيعال، وقيل: هي زائدة ووزنه فعلان فيكون من شيط إذا أحرق، أو من قولهم: استشاط فلان غضبًا إذا اشتد والتهب. و"الرجيم": المرجوم فعيل بمعنى مفعول، وهو الملعون المْبعد. و"أم القرآن": فاتحة الكتاب وسيجيء معنى تسميتها فيما بعد. و"المكتوبة": صلاة الفريضة. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه يستحب أن يتعوذ قبل القراءة وبعد دعاء الاستفتاح في الفرض والنفل. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك: لا يتعوذ في المكتوبة؛ ويتعوذ في قيام رمضان. وحكى عن النخعي، وابن سيرين أنهما كانا يتعوذان بعد القراءة، عملًا بظاهر لفظ القرآن وهو قوله -تعالى- {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬1) فعقَّب القراءة بالاستعاذة. والأكثرون على خلاف ذلك، فإن الإجماع منعقد على أن قول اللَّه -عز وجل- {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬2) أن الوضوء قبل الصلاة فكذلك التعوذ. ولفظ التعوذ عند الشافعي: "أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم" بلفظ القرآن، وبه قال أبو حنيفة. قال الشافعي: وأي كلام استعاذ به أجزأه. وقال الثوري: يزيد على هذا اللفظ إن اللَّه هو السميع العلم. ¬

_ (¬1) النحل: [98]. (¬2) المائدة: [6].

النوع الثاني في البسملة

وقال الحسن بن صالح: يقول: أعوذ باللَّه السميع العلم من الشيطان الرجيم. وحكي ذلك عن ابن سيرين. والمذهب: أنه يسر بها في الصلاة السرية، وهو في الجهرية مُخَيَّر، وهو مستحب في أول كل ركعة والأولى آكد. وقال الحسن البصري، والنخعي، وعطاء بن أبي رباح، والثوري: يجزئه الاستعاذة في أول ركعة. قال الشافعي: وكان ابن عمر يتعوذ في نفسه، وأيهما فعل أجزأه. قال: ولا نأمر به في شيء من الصلاة أمري به في أول ركعة. النوع الثاني في البسملة أخبرنا الشافعي: أخبرنا [عبد] (¬1) المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرنى أبي، عن سعيد بن جبير {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (¬2) هي أم القرآن، قال أبي: وقرأها عليَّ سعيد بن جبير حتى ختمها، ثم قال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم الآية السابعة، قال سعيد: قرأها ابن عباس كما [قرأتها] (¬3) عليك، ثم قال بسم اللَّه الرحمن الرحيم الآية السابعة، وقال ابن عباس: فدخرها لكم فما أخرجها لأحد قبلكم". قال الشافعي في كتاب البويطي: قال اللَّه -عز وجل-: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (¬4) هي أم القرآن أولها بسم اللَّه الرحمن الرحيم. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل، والاستدراك من مطبوعة المسند. (¬2) الحجر: [87]. (¬3) بالأصل [قرها] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت وكذا جاء في مطبوعة المسند على الصواب. (¬4) الحجر: [87].

وهذا التفسير: روي عن علي بن أبي طالب من قوله، وعن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفًا، وعن محمد بن كعب القرظي (¬1). وقال البويطي: أخبرني غير واحد، عن حفص بن غياث، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا قرأ بأم القرآن بدأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم فعدها آية، ثم قرأ الحمد للَّه رب العالمين بعد ست آيات" (¬2) وبمعنى ذلك رواه جماعة عن ابن جريج من غير هذا الوجه. وقد ثبت بالروايات الصحيحة عن ابن عباس، أنه كان يعد "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" آية من الفاتحة (¬3). ¬

_ (¬1) وراجع هذه الآثار وغيرها في جامع البيان لابن جرير الطبري (8/ 54 - 59). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 302)، وأبو داود (4001)، والترمذي (2927)، والطبراني في الكبير (23/ 278 رقم 603). والدارقطني في السنن (1/ 312 - 313)، والبيهقي في سننه (2/ 44)، والحاكم (2/ 231 - 232). كلهم من طريق ابن جريج بالإسناد، ولفظه. "كان يُقَطَّعُ قراءته آية آية "بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين". وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (493)، وابن المنذر في الأوسط (1345) من وجه آخر عن ابن جريج بلفظ: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصلاة بسم اللَّه الرحمن الرحيم فعدها آية، والحمد للَّه رب العالمين، آيتين، وإياك نستعين، وجمع خمس أصابعه". وفي إسناده: عمر بن هارون وهو ضعيف. وصحح الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- الطريق الأول في الإرواء (343). (¬3) قال البيهقي في المعرفة (2/ 365 - 366): قد علمنا بالرواية الصحيحة عن ابن عباس أنه كان يعد: بسم اللَّه الرحمن الرحيم آية من الفاتحة =

وهذا الحديث إنما أخرجه الشافعي، ليثبت به ما ذهب إليه من كون البسملة آية من الفاتحة. وقد صرح بها ابن عباس في هذا الحديث، حيث قال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم الآية السابعة. والسبع المثاني: قد اختلف العلماء فيها. والذي ذهب إليه الأكثرون منهم: أنها فاتحة الكتاب، وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب؛ وعبد اللَّه بن مسعود، وابن عباس؛ وأبي هريرة، وأبي ابن كعب، وأبي سعيد بن المعلى. وقال آخرون: السبع المثاني هي السور الطول: البقرة، وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف، والسابعة سورة الأنفال وبراءة جعلها بمنزلة سورة واحدة من الطول. وقال آخرون: السبع المثاني هي كل القرآن. والوجه الأول (¬1)، وأدل شيء عليها أن قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} في سورة الحجر وهي مكية والسور الطول إنما نزلت بالمدينة. إذا ثبت هذا فنقول: إنما سميت سبعًا لأنها سبع آيات. وقيل: لأن فيها سبع آداب كل آية لأدب، وهي: الحمد للَّه؛ والثناء ¬

_ = ثم ساق بإسناده عنه قال: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم ختم السورة حتى تنزل بسم اللَّه الرحمن الرحيم. قلت: وأخرجه أيضًا أبو داود (788)، والحاكم (1/ 231) وصححه. وقال الذهبي: أما هذا فثابت. وصححه أيضًا ابن كثير في التفسير تحت شرح البسملة في أول الفاتحة. (¬1) وقال ابن جرير بعد ذكر الخلاف: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: عني بالسبع المثاني: السبع اللواتي هن آيات أم الكتاب لصحة الخبر بذلك. جامع البيان (8/ 57 - 58).

بصفات الذات وبصفات الأفعال، والعبادة، والاستعانة، وطلب الهداية، والتبري من حال الكافرين. وإنما سميت المثاني: لأنها في كل صلاة يقال ثَنَّيْتُه إذا رددته وليست هذه الخاصية لغيرها من السور. وقيل فيهما أقوال أخرى غير ذلك. و"المثاني": جمع مثنى. و"مِنْ " في قوله: "من المثاني" للبيان، وإنما عطف القرآن العظيم على قوله: "سبعًا" والسبع قرآن لأن القرآن اسم يقع على البعض كما يقع على الكل. وأما عدد هذه الآيات السبع، فقد اختلف فيه. فالذي ذهب إليه أهل مكة، والكوفة وهو قول الشافعي: أن البسملة الآية الواحدة من الفاتحة؛ والثانية: العالمين؛ والثالثة: الرحيم؛ والرابعة: الدين؛ والخامسة: نستعين؛ والسادسة: المستقيم؛ والسابعة: الضالين. وتفصيل القول في المذهب: أن البسملة عند الشافعي آية من الفاتحة ومن كل سورة إلا براءة. وحكى عنه قول آخر: أنها آية من الفاتحة تحسب، وروي ذلك عن الزهري، وعطاء، وابن المبارك، وأبي عبيد، وأبي ثور. وقال مالك، وأبو حنيفة، وداود، والأوزاعي: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل. وقال الكرخي: إنها آية في مكانها ليست من السور، وروي ذلك عن أحمد. وروي عنه: أنها من الفاتحة.

وقوله: "هي أم القرآن" تفسير السبع المثاني. ومعنى قول ابن عباس، وابن جبير: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الآية السابعة وأنها هي الأولى، يريد أن الفاتحة سبع آيات وهي آية من السبع، أي أن الفاتحة بها كملت سبع آيات؛ وإن كانت في الوضع هي الأولى، فلولاها كانت ست آيات. وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، من جعل البسملة من الفاتحة ومن لم يجعلها؛ أن موضعها في التلاوة في الأول. ومن أحسن ما استدل به من ذهب إلى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة سوى سورة براءة؛ إجماع الصحابة على إثباتها في أوائل السور في جميع المصاحف من غير استثناء، وأنهم لم يدخلوا في المصاحف شيئًا سوى القرآن؛ حتى احترزوا من النقط والإعراب، وحتى قيل: إن إثبات النقط والإعراب في المصاحف بدعة لم يعرفها الصحابة ولا كانت في المصاحف، وإنما فعلوا ذلك نفيًا أن يكتبوا مع القرآن شيئاً ليس منه، فكيف بهم وقد احترزوا من مثل هذا الأمر السهل أن يكتبوا في المصاحف مائة وثلاث عشرة آية ليست من القرآن؟. ومما يؤكد ذلك [] (¬1) حديث عثمان بن عفان سؤال ابن عباس إياه، قال: قلت له: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني -وإلى براءة- وهي من المائين -فقرنتم بينهما, ولم تكتبوا سطر بسم اللَّه الرحمن الرحيم [و] (¬2) وضعتموها في السبع الطول؟. فقال عثمان: إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي [عليه] (2) الزمان؛ تنزل عليه السور ذوات عدد؛ فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتب ¬

_ (¬1) بياض بقدر كلمة. (¬2) ما بين المعقوقتين غير مثبت بالأصل، والاستدراك من المعرفة (2/ 365).

فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وتنزل عليه الآية فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" فكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أنها منها؛ فظننا أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر "بسم اللَّه الرحمن الرحيم". وقال ابن عباس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم ختم السورة حتى تنزل "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" (¬1). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا صالح مولى التوأمة أن أبا هريرة [كان يفتتح الصلاة ببسم اللَّه الرحمن الرحيم] (¬2) وقد رواه حرملة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 57)، وأبو داود (786، 787)، والترمذي (3086)، وابن حبان (43)، والحاكم في المستدرك (2/ 330)، والبيهقي في سننه (2/ 42) وغيرهم. من طريق عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس، ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث، ويقال: هو يزيد بن هرمز. ويزيد الرقاشي؛ هو: يزيد بن أبان الرقاشي ولم يدرك ابن عباس وإنما روى عن أنس بن مالك وكلاهما من أهل البصرة، ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي. قلت: وقد خولف الترمذي في تصحيحه لهذا الحديث. قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه اللَّه- في تعليقه على المسند (1/ 197 - 198) في إسناده نظر كثير، بل هو عندي ضعيف جدَّا، بل هو حديث لا أصل له ..... ثم قال: فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث، يكاد يكون مجهولًا حتى شُبِّهَ على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون وابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء. فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي، قراءة وسماعًا وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك. فلا علينا إذا قلنا إنه حديث لا أصل له تطبيقًا للقواعد الصحيحة التي لا خلاف فيها بين أئمة الحديث، أهـ. والحديث مختلف في إسناده على عوف الأعرابي. وانظر علل الدارقطني (276). وضعِّف إسناده أيضًا الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود (168، 169). (¬2) سقط من الأصل، والاستدراك من المعرفة للبيهقي (2/ 372).

ابن يحيى، عن عبد اللَّه بن وهب، عن حيوة، عن خالد بن يزيد، عن سعيد ابن أبي هلال، عن نعيم المجمر (¬1) قال: صليت وراء أبي هريرة فقال: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال: آمين، وقال الناس: آمين، فلما ركع قال: اللَّه أكبر وذكر التكبير في كل خفض ورفع وقيام وقعود، فلما سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاةً بنبيِّ اللَّه (¬2). وروى البويطي: عن عمر بن الخطاب، وعن رجال من أصحاب رسول اللَّه مثل ذلك أخرج الترمذي (¬3): عن أحمد بن عبدة، عن المعتمر بن ¬

_ (¬1) بالأصل [ابن المجمر] وأظن أن زيادة (ابن) مقحمة، فنعيم هو: ابن عبد اللَّه النحام القرشي العدوي، الصحابي، والمجمر لقب له، والسبب أنه كان يجمر المسجد. انظر التاريخ الكبير (8/ 92)، والإصابة (6/ 458). ومما يؤكد غلط هذه الزيادة أن البيهقي أخرج الحديث في المعرفة (3076) بإسناده إلى حرملة بن يحيى بدون الزيادة. والمصنف غالبًا يعتمد على البيهقي في كتاب "المعرفة"؛ وقد جاء الحديث في أصول التخريج الأخرى على الجادة كما، أثبتناه. (¬2) أخرجه النسائي (2/ 134)، وابن خزيمة (499)، وابن حبان (1797) في صحيحيهما، والحاكم (1/ 232)، والبيهقي في السنن الكبير (2/ 58) والدارقطني في سننه (1/ 305 - 306). كلهم من طريق خالد بن يزيد به. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. وقال البيهقي في المعرفة (3074) عقب إخراجه: وهذا إسناد صحيح. وقال الدراقطني: هذا صحيح ورواته كلهم ثقات. وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 335): للقائلين بالجهر أحاديث، أجودها حديث نعيم المجمر، وأجاب على من صححه بعدة أجوبة لا يتسع المقام لبسطها فانظر كلامه هناك. (¬3) الترمذي (245) وقال: هذا حديث ليس إسناده بذاك. وقال الزيلعي في نصب الراية (1/ 324): قال ابن أبي حاتم في الكنى: سئل أبوزرعة عن أبي خالد الذي روى عن ابن عباس حديث البسملة وروى عنه إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، قال: لا أدري من هو، لا أعرفه. وقال العقيلي في إسماعيل: حديثه ضعيف، ويحكيه عن مجهول. وقال ابن عدي: =

سليمان قال: حدثني إسماعيل بن حماد، عن أبي خالد الوالبي، عن ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. والباء في "بسم اللَّه" إما للابتداء، أو للاستعانة، أو للملابسة التقدير: ابتدأت باسم اللَّه، أو استعنت على قراءتي باسم اللَّه، أو قرأت متبركًا ملتبسًا باسم اللَّه. ثم لما كثر الاستعمال وصارت الباء كأنها من نفس الكلمة حتى أنه احتاج لّما أراد أن يعدي الافتتاح إلى البسملة في قوله: "كان يفتتح الصلاة" أدخل بالتعدية على "بسم اللَّه" كما هي والباء فيها فصارت ببسم اللَّه؛ فجمع بين بائين زائدتن؛ وإنما حسن له ذلك كثرة الاستعمال؛ وَإِلْف الأسماع لها مقترنة بها غير عارية منها؛ حتى إنهم لكثرة مصاحبتها في الأسماع لما صرَّفوا من اللفظ كلمة، صرفوا من الباء والاسم واللَّه جميعًا، فقالوا: البسملة وإلا فالقياس أنه كان يقول: يفتتح الصلاة "ببسم اللَّه الرحمن الرحيم". وأخبرنا الشافعي: عن مسلم وعبد المجيد عن [عن] (¬1) بن جريج، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لايدع بسم اللَّه الرحمن الرحيم لأم القرآن والسورة التي بعدها. هذا الحديث هكذا أخرجه الشافعي من رواية ابن جريج، عن نافع (¬2). وقد رواه كذلك عبيد وعبد اللَّه ابنا عمر، وجويرية بن أسماء، وأسامة بن زيد وغيرهم، عن نافع، عن ابن عمر. وفي رواية عبيد اللَّه: بيان جهره بها في الفاتحة والسورة جميعًا. ¬

_ = هذا الحديث لا يرويه غير معتمر، وهو غير محفوظ، وأبو خالد: مجهول. قلت: وعزاه المزي في التحفة (5/ 265) إلى أبي داود، وقال أبو داود: ضعيف. (¬1) من مطبوعة المسند. (¬2) أخرجه في الأم (1/ 108).

وكذلك رواه غير نافع، عن ابن عمر. وكان عبد اللَّه بن الزبير يفعله؛ وكان أَخَذَها عن أبي بكر الصديق. وقد روي عن حميد الطويل: عن بكر بن عبد اللَّه قال: كان ابن الزبير يفتتح القراءة في صلاته ببسم اللَّه الرحمن الرحيم ويقول: ما يمنعهم منها إلا الكِبْر. وقال الشافعي -في من حرملة: "كان ابن عباس يفعله ويقول: نَزَعَ الشيطان منهم خير آية في القرآن". وفي قول نافع: "أنه كان لا يدع بسم اللَّه الرحمن الرحيم" دليل على شدة محافظته عليها وتعهده لها، فإنها لو لم تكن عنده بمكانة من الوجوب لما حافظ عليها حتى لايدعها؛ ثم سوى فيه بين الفاتحة وغيرها من السور. وقوله: "السورة التي بعدها" لا يريد سورة مخصوصة هي بعدها في الموضع والكتابة، وإنما يريد بها السورة التي يقرؤها بعدها في الصلاة، أي سورة كانت، هذا إذا ابتدأ بأول السورة، فأما إذا لم يبتدئ بأولها فلا يقرأ قبلها "بسم اللَّه الرحمن الرحيم". وسنذكر المذهب في ذلك. و"السورة": طائفة من القرآن أقلها ثلاث آيات، فإن كانت واوها أصلية فإما أن تكون من سُور المدينة؛ لأنها طائفة من القرآن محدودة محوزة على انفرادها بأول وآخر، كالبلد المسور، ولأنها محتوية على فنون من العلوم، وأجناس من الفوائد، كاحتواء سور المدينة على ما فيها. وإما أن يكون من السورة المرتبة والمنزلة؛ لأن السور بمنزلة المراتب، أو لرفعة بنائها وجلالة قدرها في الدين. وآكدها (¬1) منقلبة عن همزة، ولأنها قطعة من ¬

_ (¬1) كذا في الأصل والمعنى غير متضح لي، وفي اللسان قال: سميت السورة من القرآن سورة لأنها درجة إلى غيرها ومن همزها جعلها بمعنى بقية من القرآن وقطعة وأكثر القرآن على ترك الهمزة فيها.

القرآن كالسور البقية من الشيء والقطعة منه، وجمع السورة سُوَر مثل: ظُلْمة وظُلَم، وهذا مطرد في بابه. أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال: [أخبرني] (¬1) عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم، أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره أن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة [فجهر] (¬2) فيها بالقراءة، فقرأ "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" لأم القرآن، ولم يقرأ لها للسورة التي بعدها حتى قضى تلك القراءة، ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، فلما سَلَّمَ ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى معاوية بعد ذلك قرأ "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" للسورة التي بعد أم القرآن، فكبر حين يهوى ساجدًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه: أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ "بسم اللَّه الرحمن الرحيم"، ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع؛ فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار: يا معاوية، أسرقت الصلاة؟ أين "بسم اللَّه الرحمن الرحيم"؟ وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟! فصلى بهم صلاة أخرى، فقال ذلك فيها الذي عابوا عليه. أخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن [سليم] (¬3)، عن عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، أن معاوية والمهاجرين والأنصار مثله أو مثل معناه لا يخالفه. ¬

_ (¬1) بالأصل [أخبرتني] وهو تصحيف. (¬2) بالأصل [فجر] وهو تصحيف وجاء في مطبوعة المسند على الصواب. (¬3) [سليمان] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وكذا جاء مصوبًا في مطبوعة المسند، ويحيى بن سليم هو الطائفي مذكور فيمن روى عن ابن خثيم في التهذيب وغيره. وليس هناك من يسمي يحيى بن سليمان روى عن ابن خثيم.

وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول (¬1). هذا الحديث اعتمد عليه الشافعي: بإجماع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار في أمر البسملة؛ وأنها من أم القرآن ووجوب قراءتها. ولقد أتى بما حقق غرضه وأثبت مذهبه، لاسيما وقد أنكر المهاجرون والأنصار على معاوية ترك البسملة في أول السورة غير الفاتحة؛ ومعاوية يومئذ صاحب الأمر وذو الحكم، وكان الناس من سطوته خائفين؛ ومن بأسه جد حذرين، فلم يسامحوا أنفسهم ولا رأوا في أديانهم أن يقروه على أمر خالف فيه السنة، حتى إنهم أنكروا ذلك عليه أشنع إنكار بقولهم: أسرقت الصلاة أم نسيت؟. ¬

_ (¬1) وهذا ترجيح نسبي ولا يعني الصحة المطلقة، وإلا فإن الحديث مضطرب كما حقق ذلك الزيلعي في نصب الراية (1/ 353 - 354) في بحث هام: قال: اعتمد الشافعي -رحمه الله- على حديث معاوية هذا في إثبات الجهر. وقال الخطب: هو أجود ما يعتمد عليه في هذا الباب والجواب عنه من وجوه: أحدها: أن مداره على عبد الله بن عثمان بن خثيم وهو وان كان من رجال مسلم لكنه متكلم فيه، أسند ابن عدي إلى ابن معين أنه قال: أحاديثه غير قوية، وقال النسائي: لين الحديث ليس بالقوي فيه. وقال الدارقطني: ضعيف لَيَّنُوهُ. وقال ابن المديني: منكر الحديث. وبالجملة فهو مختلف فيه، فلا يقبل ما تفرد به، مع أنه قد اضطرب في إسناده ومتنه، وهو أيضًا من أسباب الضعف، أما في إسناده فإن ابن خثيم تارة يرويه عن أبي بكر بن حفص، عن أنس؛ وتارة يرويه عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه، وقد رجح الأولى البيهقي في "كتاب المعرفة" لجلالة راويها، وهو ابن جريج، ومال الشافعي إلى ترجيح الثانية، ورواه ابن خثيم أيضًا عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن جده، فزاد ذِكْرَ الجد كذلك رواه عنه إسماعيل بن عياش، وهي عند الدارقطني، والأولى عنده. وعند الحاكم، والثانية عند الشافعي، وأما "الاضطراب في متنه" فتارة يقول: صلى، فبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم" لأم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها -كما تقدم عند الحاكم- وتارة يقول: فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حين افتتح القرآن، وقرأ بأم الكتاب، كما هو عند الدارقطني في رواية إسماعيل بن عياش، وتارة يقول: فلم يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" لأم القرآن ولا للسورة التي بعدها، كما هو عند الدارقطني في رواية ابن جريج، ومثل هذا الاضطراب في السند والمتن مما يوجب ضعف الحديث، لأنه مشعر بعدم ضبطه أهـ. ثم ذكر وجوهًا أخرى للإعلال لولا خشية الإطالة لنقلتها، فانظرها هناك.

ولو لم يكن الجهر بالبسملة راسخًا في نفوسهم متيقنًا لديهم مألوفًا عندهم مستمرًّا في صلاتهم؛ لما بادروا إلى الإنكار عليه. ولو لم يكن معاوية قد ترجح في نظره صدقهم؛ وثبت عنده صحة إنكارهم؛ لما رجع إلى ما قالوه ولا وافقهم على ما عابوه. وبعد ذلك موافقة من قد كان حاضرًا في المسجد، ممن سمع إنكارهم فلم يرده وهم بين أمرين: إما موافق قولًا واعتقادًا. وإما ساكت مقر لمن أنكر على ما أنكره. وكلا الأمرين يعضد صحة ذلك. وقوله: "صلى صلاة يجهر فيها" وفي نسخة "فجهر فيها" أما الجهر -بالياء: فإنه يريد به صلى صلاة جهرية، فوصف الصلاة بالفعل المستقبل. وأما قوله: فجهر -بالفاء- فإنه عطف على صلى. و"الجهر": ضد الإخفاء وجهر بكلامه أي رفع صوته، وهو رجل جهوري تقول منه: جهر الرّجل -بالضم- فهو جهير. وقوله: "قرأها لأم القرآن دون السورة" يريد أنه ابتدأ في أول الفاتحة بالبسملة؛ ولم يبدأ بها في أول السورة التي قرأها بعد الفاتحة. و"اللام " في "لأم القرآن" "وللسورة" لام التخصيص؛ أو "لام" أجل؛ والأول أحسن. وقوله: "لم يكبر حين يهوى" يريد حين يخر راكعًا وساجدًا. "هوى" -بالفتح- يهوي -بالكسر- إذا وقع من عال إلى أسفل وقوله: "إذا اخفض وإذا رفع" يريد إذا ركع وسجد وإذا قام من الركوع والسجود.

وقوله: "فقال ذلك فيها" يريد ما أنكروه عليه من ترك البسملة والتكبير. وقوله: "الذي عابوا عليه" هو بدل من ذلك، لأنه لما قال: "فقال ذلك فيها" رأى أنه لم يفصح عن الغرض، فربما سبق الوهم إلى البسملة دون التكبير، أو إلى التكبير دون البسملة، فأبدل منه فقال: الذي عابوا عليه، فتحقق أنه قال: البسملة والتكبير. و"العيب" و "العاب" بمعنى، تقول: عبته وعبت عليه يتعدى ولا يتعدى، أي صار ذا عيب ويجوز أن يكون أراد عيب قوله أو فعله عليه فعداه إلى مفعوله، ثم لما أراد أن يضيف إليه ذِكْرَ المعيب جاء بحرف الجر ليتعدى إليه فقال: عبت فعله عليه. والفرق بين "ياء" و "أي" في النداء، أن أي ينادى بها من كان أقرب مسافة ممن ينادي بيا. وقوله: "أسرقت الصلاة" أي أخذت بعضها فكتمته. وقد جاء مثل هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النعمان بن مرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما ترون في الشارب، والزاني؛ والسارق"؟ -وذلك قبل أن ينزل فيهم الحدود- قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هن فواحش، فيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق في الصلاة" قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 153 رقم 72). عن يحيى بن سعيد عنه بنحوه. وإسناده مرسل. النعمان بن مرة تابعي من الطبقة الثانية. قال الحافظ في التقريب: وَهِمَ من عَدَّهُ في الصحابة. وقال ابن عبد البر في التمهيد (23/ 409): لم يختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان بن مرة، وهو حديث صحيح يستند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد. قلت: وكذا عن أبي قتادة وعبد الله بن مغفل وانظرصحيح الترغيب والترهيب (525، 526).

فسمى النقص الذي يدخل الصلاة سرقةً، كما سموه في هذا الحديث. قال الشافعي: وقوله: "فصلى بهم صلاة أخرى" يحتمل: أن يكون أعادها، ويحتمل أن تكون الصلاة التي تليها. وإنما قال الشافعي: وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الأول، لأن اثنين روياه عن ابن خثيم عن إسماعيل، ولذلك رواه إسماعيل بن عياش، عن ابن خثيم، إلا أنه قال: عن إسماعيل بن عبيد، عن أبيه، عن جده. ورواه عبد الرزاق: عن ابن جريج، كما رواه عنه عبد المجيد بن عبد العزيز. وابن جريج حافظ ثقة، إلا أن الذين خالفوه عن ابن خثيم -وإن كانوا غير أقوياء- عدد (¬1). ويحتمل: أن يكون ابن خثيم سمعه من الوجهين معًا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن قراءة البسملة قبل "الحمد لله رب العالمين" فرض لا تصح الصلاة إلا بها كباقي الفاتحة. وسنذكر المذهب في الفاتحة بعد هذا. ثم الجهر بها في الصلاة الجهرية قبل الفاتحة وقبل السورة مستحب. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وابن الزبير، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة. وإليه ذهب عطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومجاهد. وقالت طائفة: لا يجهر بها، وإليه ذهب علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعمار. وهو مذهب: الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وأبي عبيد. ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (2/ 374 - 375).

وقال مالك: المستحب أن لا يقرأها. وقال الحكم، وابن أبي ليلى، وإسحاق: إن جهرت بها فحسن وإن أخفيت فحسن. واستحب أبو حنيفة قراءتها قبل الفاتحة مع الإخفاء دون السورة. ***

النوع الثالث في الفاتحة

النوع الثالث في الفاتحة أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن محمود بن [الربيع] (¬1)، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الموطأ. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان بالإسناد واللفظ. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن سفيان بالإسناد واللفظ. وفي أخرى: عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري بالإسناد قال: "لا صلاة لمن لم يقترئ بأم القرآن". وفي أخرى: عن الحسن بن علي الحُلْواني، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري بالإسناد نحوه. وفي أخرى: عن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري مثله، وزاد: "فصاعدًا". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن قتيبة بن سعيد، وابن السرح، عن سفيان بالإسناد واللفظ وزاد: "فصاعدًا". وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن ابن أبي عمر وعلي بن حجر، عن سفيان ¬

_ (¬1) بالأصل [ربيع] من غير التعريف وهو مخالف لمطبوعة المسند وسائر أصول التخريج، ومن ترجم له ما ذكره إلا معرفًا وانظر على سبيل المثال ترجمته في تهذيب الكمال (27/ 301). (¬2) البخاري (756). (¬3) مسلم (394). (¬4) أبو داود (822). (¬5) الترمذي (247) وقال: حسن صحيح.

بالإسناد واللفظ. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان بالإسناد واللفظ. وفي أخرى: عن سويد بن نصر، عن عبد الله عن معمر، عن الزهري مثله وزاد: "فصاعدًا" هؤلاء كلهم أخرجوا الحديث ولم يذكروا فيه "فيها" إلا الشافعي (¬2). وفي ذكرها فائدة وإيضاح وبيان، فإن قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحه الكتاب" وإن كانت قرينة الحال والعلم بها يدلان على أنه يريد القراءة في الصلاة، ولكن لا كدلالة قوله "فيها" فإن ذلك الوهم يزول، ويصير اللفظ مطابقًا للمعنى دالًّا عليه دلالة واضحة لا يحتاج أن تعلم بقرينة حال ولا علم سابق. وقوله: "لا صلاة" نفي مستغرق كقولك: "لا رَجُلَ في الدار" فلا يجوز أن يكون فيها رجل البتة؛ ولا أقل منه ولا أكثر منه. وكذلك "لا صلاة" تدل أنه ليس للصلاة العارية من قراء الفاتحة وجود ولا اعتبار، كأنها لعدم صحتها والاعتداد بها؛ صارت كأنها معدومة بالنفي المستغرق. والمنفي بعد هذه لا يُبْنَى على الفتح أبدًا، وقد اختلف أهل الأصول في مثل هذا النفي إذا وقع في الشرع، على ماذا يحمل؟ بعضهم يُلْحِقُهُ بالمجملات لأن نصه يقتضي نفي الذات، ومعلوم ثبوتها حِسًّا فقد صار المراد مجهولًا. ¬

_ (¬1) النسائي (2/ 137 - 138). (¬2) قال الحافظ في الفتح (2/ 282): زاد الحميدي، عن سفيان "فيها" كذا في مسنده، وهكذا رواه يعقوب بن سفيان، عن الحميدي، أخرجه البيهقي، وكذا لابن أبي عمر عند الإسماعيلي، ولقتيبة وعثمان بن أبي شيبة عند أبي نعيم في المستخرج، وهذا يعين أن المراد القراءة في نفس الصلاة.

وهذا الذي قالوه خطأ؛ فإن المعلوم من عادة العرب: أنها لا تضع هذا لنفي الذات في كل مكان؛ وإنما تورده مبالغة فيذكر الذات ليحصل لها ما أرادت من المبالغة. وقال آخرون: بل يحمل على نفي الذات وسائر أحكامها، ويخص الذات بالدليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكذب. وقال قوم: لم تقصد العرب إلى نفي الذات، ولكن لنفي أحكامها ومن أحكامها الكمال والإجزاء، فيحمل اللفظ على العموم منها. وأنكر هذا بعض المحققين؛ لأن العموم لا يصح دعواه فيما يتنافى، ولا شك أن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء، فإذا قُدِّر الإجزاء منتفيًا بحق العموم، قُدِّر ثابتًا بحق إشعار نفي الكمال بثبوته، وهذا يتناقض وما يتناقض لا يحمل الكلام عليه. وصار المحققون إلى التوقف بين نفي الإجزاء ونفي الكمال، وادعوا الاحتمال من هذه الجهة، لا مما قاله الأولون. فعلى هذه المذاهب يخرج قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" (¬1). ¬

_ (¬1) قال الشوكاني في "نيل" الأوطار (2/ 235): النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات ان أمكن انتفاؤها، وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا إلى الكمال، لأن الصحة أقرب المجازين والكمال أبعدهما، والحمل على أقرب المجازين واجب، وتوجه النفي ههنا إلى الذات ممكن كما قال الحافظ في "الفتح"، لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات؛ لأن المركب كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها، فلا يحتاج إلى اضمار الصحة ولا الإجزاء ولا الكمال كما روي عن جماعة؛ لأنه إنما يحتاج إليه عند الضرورة، وهي عدم إمكان انتفاء الذات، ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية فلا يمكن توجه النفي إلى ذاتها لأنها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال.

وإنما سميت فاتحة الكتاب: لأنها مكتوبة في أول القرآن فهي التي يُفْتتح القرآن بها. وإنما سميت أم القرآن، وأم الكتاب: لأنها مقدمة أيضًا على سوره كالإمام، أو لأنها مجمع الخيرات كما يقال للدماغ: أم الرأس؛ لأنه مجمع الحواس. و"القراءة": معروفة وهي القرء: الجمع، ومنه سمي القرآن، تقول: قرأت الكتاب قراءة وقرآنًا، وتقول: قرأ سورة كذا وبسورة كذا. و"الباء": زائدة. و"الكتاب": مصدر كتبت أكتب كتابًا، كما تقول: حسبت حسبانًا، فالكتاب هو المكتوب، وهو اسم لكل ما يكتب إلا أن الاستعمال الشرعي وكثرته جعله خاصًّا بالقرآن العزيز من بين الكتب. وقوله في رواية مسلم: "لمن لم يقترئ" الاقتراء: افتعال من القراءة. وقوله: "فصاعدًا" أي فزائدًا عليه، تقول: بعت الثوب بدينار فصاعدًا أي فزاد الثمن صاعدًا، وهو منصوب على الحال (¬1). والذي ذهب إليه الشافعي: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة؛ لا تصح الصلاة إلا بها. وهو قول عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين، وعثمان بن أبي العاص، وخوات بن جبير، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وابن عباس، وغيرهم من الصحابة. وبه يقول الثوري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وابن المبارك، وأبو ثور، وداود. ¬

_ (¬1) هذا على التسليم بصحة الزيادة وإلا فقد قال البخاري في كتابه "الصلاة خلف الإمام" ص 8: عامة الثقات لم يتابع معمرًا في قوله "فصاعدًا" مع أنه قد أثبت فاتحة الكتاب، وقوله "فصاعدًا" غير معروف ما أردته حرفاً أو أكثر من ذلك إلا أن يكون كقوله: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا" فقد تقطع اليد في دينار، وفي أكثر من دينار. قال البخاري: ويقال: إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرًا وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري، ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره ولا نعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا أهـ.

وقال أبو حنيفة: الواجب آية واحدة من القرآن. وقال أبو يوسف ومحمد: ثلاث آيات أو آية كبيرة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم، والموطأ، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما الموطأ (¬1): فأخرجه عن العلاء، عن أبي السائب -مولى هشام بن زهرة- عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، هي خداج، هي خداج غير تمام" قال: قلت: يا أبا هريرة إني أحيانًا أكون وراء الإمام؟ قال: فغمز ذارعي ثم قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تبارك وتعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" وذكر حديثًا طويلًا. وقد رواه الشافعي في سنن حرملة: عن مالك. قال حرملة: قال الشافعي: الحفاظ يروونه عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه يخالفون مالكًا، ومالك يرويه عنه عن أبي السائب. قلت: وهذا الحديث يرويه عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة (¬2): شعبة بن الحجاج، وابن عيينة، وروح بن القاسم، وأبو غسان: محمد بن مطرف، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وإسماعيل بن جعفر، ومحمد بن يزيد البصري، وجهضم بن عبد الله. ¬

_ (¬1) الموطأ: (1/ 92 - 93 رقم 39). قلت: وسقط من النسخة المطبوعة -التي تحت يدي- ذكر أبي هريرة فيستدرك. (¬2) زاد في الأصل بعد أبي هريرة [عن] وهي زيادة مقحمة لا وجه لها؛ والاستدراك من المعرفة (2/ 357).

ورواه مالك، وابن جريج، ومحمد بن إسحاق بن يسار، والوليد بن كثير، ومحمد بن عجلان، عن العلاء، عن أبي السائب، وكلاهما صحيح. وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن سفيان بالإسناد قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثًا -غير تمام"، وذكر مثل رواية مالك وأخرجه أيضًا: عن قتيبة، عن مالك بالإسناد. وعن محمد بن رافع: عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن العلاء بالإسناد. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك بإسناده ولفظه. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن عبد العزيز بن محمد، عن العلاء مثل مسلم بطوله. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك بإسناده ولفظه. قوله: "كل صلاة" لفظ عام يدخل فيه الفريضة والنافلة والفرادى والجماعة، لأن لفظة "كل" تفيد العموم، و "كل" رفع بالابتداء، واحتاج في هذا الحديث إلى ذكر "فيها" ليعود الضمير إلى المبتدأ، فلو أسقطه لم يجز، بحيث إنه لو قال: "كل صلاة لم يقرأ بفاتحة الكتاب" لم يصح ولا كان اللفظ مستقيمًا حتى يقول: "فيها". و"الخداج": الناقص نَقْصَ فسادٍ وبُطْلان، تقول العرب، أخدجت الناقة، إذا ألقت ولدها وهو دم لم يتبينَّ خلقه. وقيل: ألقته ناقصَ الخَلْقِ وإن كانت أيامه تامة فهو مخدج. ¬

_ (¬1) مسلم (395). (¬2) أبو داود (821). (¬3) الترمذي (2953). قال الترمذي: هذا حديث حسن. ثم ذكر اختلاف طرقه وقال: سألت أبا زرعة عن هذا الحديث: -كذا- كلا الحديثين صحيح. واحتج بحديث ابن أبي أويس، عن أبيه، عن العلاء. (¬4) السنن الكبرى (981).

والولد مخدج، وخدجت تخدج خداجًا فهي خادج، والولد خديج، وكِلَا المعنيين دائر على نقص مفسد: إما في تمام الأيام، أو في تمام الخلقة. وقوله: "فهي خداج" أي وهي ذات خداج لأن الخداج مصدر، والمصدر لا يوصف به إلا بذي للمذكر؛ وذات للمؤنث تقول: مررت برجل ذي قيام، وامرأة ذات قيام. والفاء في "فهي" لا حاجة إليها، وإن كان لوجودها أثر صالح وفائدة حسنة، لأن خبر المبتدأ لا يحتاج إلى فاء تقول: كل عبد لي حر، وعليه قوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬1). و {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬2). فأما دخولها في هذا الموضع وأمثاله، فإنما يكون مع الإشمال (¬3) له يتضمن نوعًا من الشرط، ولها موضعان: أحدهما: الأسماء الموصولة إذا كانت صلتها فعلًا وظرفًا كقوله تعالى {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬4) وكقوله قوله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} (¬5). وأما قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬6) وأمثاله فإن الخبر عند سيبويه محذوف تقديره: وما يتلى عليكم السارق والسارقة. والمُبَرِّد يحمله على الباب. والموضع الثاني: النكرات الموصوفة إذا كانت صفتها فعلًا وظرفًا كقولك: كل رجل يأتيني فله درهم، وكل رجل في الدار فله درهم، وهذا الحديث هو من النكرة الموصوفة بالفعل. والفرق بين دخول الفاء وعدمها أن الدرهم مع الفاء يُسْتَحَقُّ بالإتيان ولا ¬

_ (¬1) آل عمران: [185]. (¬2) المدثر: [38]. (¬3) الشمل: هو الاجتماع. (¬4) البقرة: [274] (¬5) النحل: [53]. (¬6) المائدة: [38]

يُسْتَحَقُّ مع عدمه؛ ويتنزل منزلة الإخبار كقولك: زيد له درهم، وكل لك. قوله: "كل صلاة لم يُقْرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج". فإن النقص لهذه الصلاة لازم موجود بدخول الفاء، لا في الكلام من معنى الشرط كأنه قال: إن صليت بغير فاتحة الكتاب فصلاتك ناقصة، فدخولها الفاتحة آكد وأقوى من عدمها، ويدل على صحة ذلك ما جاء في رواية الجماعة "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج" فجاء بمن التي هي للشرط مصرحا بهًا فأجابها بالفاء، ثم تكرار قوله: "فهي" مما يؤكد نقصها وبطلانها، لأنه لو لم يكن عنده ذلك مؤثرًا لما كرره وأكده. وكذلك قوله: "غير تمام" تأكيد للنقص حتى يفهمه كل من سمعه؛ فإذا جمع في الإخبار بن إثبات الشيء ونفي ضده؛ كان آكد له وأثبت وأصح عند السامعين. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المأموم يجب عليه قراءة الفاتحة في السرية والجهرية، إلا في ركعة المسبوق. ونقل المزني: سقوطها عنه في الجهرية. وبه يقول الأوزاعي، وابن عون، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه قراءة شيء من القرآن رأسًا، وإليه ذهب سفيان الثوري، وابن عيينة، وجماعة من الكوفة. وقال الزهري، ومالك، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: يجب عليه في السرية ولا يجب في الجهرية؛ سواء سمع المأموم قراءة الإمام أو لم يسمع. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن قتادة، عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان يفتتحون القراءة "بالحمد لله رب العالمين". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة.

فأما مالك (¬1): فأخرجه عن حميد الطويل، عن أنس قال: قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان وكلهم كان لا يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" إذا افتتحوا الصلاة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن حفص بن عمر، عن شعبة، عن قتادة بالإسناد واللفظ ولم يذكر عثمان. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن محمد بن المثنى وابن بشار كليهما عن غندر (¬4) محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع [أحدًا] (¬5) منهم يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم". وفي أخرى: عن محمد بن مهران الرازي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن قتادة، عن أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، ولا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام، عن قتادة بالإسناد ولفظ الشافعي. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 90 رقم 30). (¬2) البخاري (743). (¬3) مسلم (399). (¬4) زاد بالأصل [عن] بعد غندر وهو تحريف عجيب!! وغندر هو محمد بن جعفر فكيف يروي عنه، وأسوق سند مسلم لترى الفارق: قال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار كلاهما عن غندر، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ...... (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والاستدراك من رواية مسلم. (¬6) أبو داود (782).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة بالإسناد واللفظ. وأما النسائي (¬2): فأخرجه مثل الترمذي، ولم يذكر عثمان. وفي أخرى: عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري، عن سفيان، عن أيوب بإسناد الشافعي؛ قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر فافتتحوا بالحمد. وقد روى المزني: عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن حميد قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "كان أبو بكر وعمر يفتتحان القراءة بالحمد لله". قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن حميد، عن أنس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر، وعثمان كانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين". قال الشافعي: في سنن حرملة -فإن قال قائل: قد روى مالك، عن حميد، عن أنس: "صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان كلهم لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم". قيل له: خالفه سفيان بن عيينة، والفزاري، والثقفي، وعدد لقيتهم سبعة أو ثمانية متفقين مخالفين له، والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحد، ثم رجح روايتهم بما رواه الربيع وهي الرواية الأولى. ثم قال: معنى يبدأون بقراءة أم القرآن، قيل: ما يقرأ بعدها، والله أعلم- ولا يعني أنهم يتركون بسم الله الرحمن الرحيم. ¬

_ (¬1) الترمذي (246) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (2/ 133).

قال البيهقي: هكذا رواه أكثر [أصحاب] (¬1) قتادة، عن قتادة، عن أنس. وكذا رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وثابت البناني، عن أنس، يعني كما رواه الشافعي. ولم يتعرضوا في روايتهم إلى ذكر بسم الله الرحمن الرحيم، إنما يقولون: كانوا يفتتحون الصلاة "بالحمد لله رب العالمين". قال الدارقطني: هذا هو المحفوظ عن قتادة وغيره، عن أنس وقال الدراقطني بإسناده: قال: سألت أنس بن مالك أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتتح بِـ "الحمد لله رب العالمين" أو بِـ "بسم الله الرحمن الرحيم"؟ فقال إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك، قلت: أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في النعلين؟ قال: نعم (¬2). ¬

_ (¬1) بالأصل [الأصحاب] وهو تصحيف والسياق لا يستقيم مع لفظ الأصل، وقد جاء في المعرفة (2/ 381) على الجادة كما أثبتناه. (¬2) قلت: وقد أجاب الحافظ -رحمه الله- عن وجوه إعلال الحديث ودفعها فقال في الفتح (2/ 266 - 267): وقد اختلف الرواة عن شعبة في لفظ الحديث: فرواه جماعة من أصحابه عنه بلفظ: "كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين" ورواه آخرون عنه بلفظ "فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم" كذا أخرجه مسلم من رواية أبي داود الطيالسي ومحمد بن جعفر، وكذا أخرجه الخطيب من رواية أبي عمر الدوري شيخ البخاري فيه، وأخرجه ابن خزيمة من رواية محمد بن جعفر باللفظين، وهؤلاء من أثبت أصحاب شعبة، ولا يقال هذا اضطراب من شعبة، لأنا نقول قد رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه باللفظين، فأخرجه البخاري في "جزء القراءة" والنسائي وابن ماجه من طريق أيوب وهؤلاء، والترمذي من طريق أبي عوانة، والبخاري في "جزء القراءة" وأبو داود من طريق هشام الدستوائي، والبخاري فيه وابن حبان من طريق حماد بن سلمة، والبخاري فيه والسراج من طريق همام كلهم عن قتادة باللفظ الأول، وأخرجه مسلم من طريق الأوزاعي، عن قتادة بلفظ "لم يكونوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم", وقد قدح بعضهم في صحته بكون الأوزاعي رواه عن قتادة مكاتبة، وفيه نظر فإن الأوزاعي لم ينفرد به فقد رواه أبو يعلى، عن أحمد الدورقي والسراج عن يعقوب الدورقي، وعبد الله بن أحمد بن عبد الله السلمي ثلاثتهم عن أبي داود الطيالسي عن شعبة بلفظ "فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم" =

وفي هذا دلالة على أن مقصود أنس بن مالك بما رواه الشافعي وغيره عن قتادة عنه؛ ما ذكر الشافعي من تأويل قوله والله [أعلم] (¬1). وقد روى البيهقي (¬2) بإسناده: عن محمد بن أبي السري العسقلاني قال: صليت خلف المعتمر بن سليمان ما لا أحصي صلاة الصبح والغرب يجهر ببسم ¬

_ = قال شعبة: قلت لقتادة: سمعته من أنس؟ قال: نحن سألناه. لكن هذا النفي محمول على ما قدمناه أن المراد أنه لم يسمع منهم البسملة، فيحتمل أن يكونوا يقرأونها سرًّا، ويؤيده رواية من رواه عنه بلفظ: "فلم يكونوا يجهرون بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" كذا رواه سعيد بن أبي عروبة عند النسائي: وابن حبان وهمام عند الدارقطني، وشيبان عند الطحاوي، وابن حبان وشعبة أيضًا من طريق وكيع عنه عند أحمد أربعتهم عن قتادة، ولا يقال هذا اضطراب من قتادة لأنا نقول: قد رواه جماعة من أصحاب أنس عنه كذلك: فرواه البخاري في "جزء القراءة" والسراج وأبو عوانة في صحيحه من طريق إسحاق بن أبي طلحة، والسراج من طريق ثابت البناني، والبخاري فيه من طريق مالك بن دينار كلهم عن أنس باللفظ الأول، ورواه الطبراني في الأوسط من طريق إسحق أيضًا، وابن خزيمة من طريق ثابت أيضًا، والنسائي من طريق منصور بين زاذان، وابن حبان من طريق أبي قلابة والطبراني من طريق أبي نعامة كلهم عن أنس باللفظ النافي للجهر، فطريق الجمع بين هذه الألفاظ حمل نفي القراءة على نفي السماع ونفي السماع على نفي الجهر ويؤيده أن لفظ رواية منصور بن زاذان "فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم"، وأصرح من ذلك رواية الحسن، عن أنس عند ابن خزيمة بلفظ: "كانوا يسرون بسم الله الرحمن الرحيم" فاندفع بهذا تعليل من أعله بالاضطراب كابن عبد البر؛ لأن الجمع إذا أمكن تَعَينَّ المصير إليه، وأما من قدح في صحته بأن أبا سلمة سعيد بن يزيد سأل أنسًا عن هذه المسألة فقال "إنك لتسألني عن شيء ما أحفظ ولا سألني عنه أحد قبلك" ودعوى أبي شامة أن أنسًا سئل عن ذلك سؤالين، فسؤال أبي سلمة "هل كان الافتتاح بالبسملة أو الحمدلة" وسؤال قتادة "هل كان يبدأ بالفاتحة أو غيرها" قال: ويدل عليه قول قتادة في صحيح مسلم "نحن سألناه" انتهى، فليس بجيد، لأن أحمد روى في مسنده بإسناد الصحيحين أن سؤال قتادة نظير سؤال أبي سلمة، والذي في مسلم إنما قاله عقب رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة، ولم يبين مسلم صورة المسألة، وقد بينها أبو يعلى والسراج وعبد الله بن أحمد في رواياتهم التي ذكرناها عن أبي داود أن السؤال كان عن افتتاح القراءة بالبسملة، وأصرح من ذلك رواية ابن المنذر من طريق أبي جابر، عن شعبة، عن قتادة قال: "سألت أنسًا: "أيقرأ الرجل في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم" فقال: صليت وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر فلم، أسمع أحدًا منهم يقرأ بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" فظهر اتحاد سؤال أبي سلمة وقتادة وغايته أن أنسًا أجاب قتادة بالحكم دون أبي سلمة، فلعله تذكره لما سأله قتادة بدليل قوله في رواية أبي سلمة "ما سألني عنه أحد قبلك" أو قاله لهما معًا فحفظه قتادة دون أبي سلمة، فإن قتادة أحفظ من أبي سلمة بلا نزاع. (¬1) سقط من الأصل. (¬2) المعرفة (2/ 383).

الله الرحمن الرحيم؛ قبل فاتحة الكتاب وبعدها؛ وسمعت المعتمر يقول ما [آلو أن] (¬1) أقتدى بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس [بن مالك وقال] (1) أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة رسول - صلى الله عليه وسلم - (¬2). ورواة هذا الإسناد كلهم ثقات معمول بروايتهم. وَلْنَعُدِ الآن إلى بيان معنى ألفاظ الحديث:- أما قوله: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان يفتتحون". فله معنيان:- أحدهما: أنهم كانوا فيما مضى ثم رجعوا عنه، وهذه دلالة لفطة لا طائل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقطت من الأصل، والاستدراك من المعرفة (2/ 383). (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 308)، والحاكم في المستدرك (1/ 233 - 234) كلاهما عن عثمان بن خرزاد، عن محمد المتوكل بن أبي السري به. قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، وكذا قال البيهقي في "المعرفة" عقب إخراجه. قلت: لا يسلم هذا التوثيق. محمد بن المتوكل في حفظه مقال، وهو كثير الغلط؛ فلا يحتج بما تفرد به. وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليِّن الحديث. وقال ابن عدي: كثير الغلط. وقال مسلمة بن قاسم: كان كثير الوهم، وكان لا بأس به. وقال ابن وضاح: كان كثير الحفظ كثير الغلط انظر التهذيب (5/ 271). وقال الذهبي في الميزان (4/ 24): لمحمد هذا أحاديث تستنكر. وقال أبو الطيب في تعليقه على سنن الدارقطني (1/ 309): وهو معارض بما رواه ابن خزيمة، والطبراني في "معجمه"، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن، عن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة وأبو بكر وعمر. ثم قال -وقد اختلف عليه -أي: محمد بن المتوكل- فيه، فقيل: عنه كما تقدم، وقيل: عنه عن المعتمر، عن أبيه، عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم وأبو بكر وعمر، هكذا أخرجه الطبراني، وقيل: عنه بهذا الإسناد وفيه الجهر كما رواه الحاكم وقال: رجاله ثقات، وتوثيق الحاكم يعارض بما ثبت في الصحيح خلافه؛ لما عرف من تساهله.

وراءها ولا عمل عليها. والثاني: أنهم كانوا مدة حياتهم وإلى أن ماتوا يفتتحونها بالحمد لله، وعلى هذا المعنى قوله -عز وجل- {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} و {كَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} وأمثال ذلك مما جاء في القرآن؛ لم يرد أنه كان ثم زال. و"افتتاح القراءة": هو الابتداء بها، ويريد بها قراءة الصلاة وقد جاء ذلك مصرحًا به في رواية مسلم ومالك وإحدى روايتي النسائي. وقوله: "يفتتحون بالحمد لله رب العالمين" يريد سورة الفاتحة لا سورة أخرى، كما يقال: قرأت البقرة وآل عمران وغيرهما من السور بذكر أسمائها، فأراد أراد أنس أن يعرف الناس أنهم كانوا يفتتحون الصلاة بهذه السورة -ومن أسمائها سورة الحمد- وحينئذ تدخل البسملة فيها ولا يحتاج إلى أن يذكرها؛ لاسيما عند من قال: إنها آية منها. وهذا يوضح ما فسره الشافعي من معنى قول أنس كما رواه. ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كانوا يفتتحون بالحمد ويخفون البسملة؛ فالسامع إنما روى ما سمع؛ فليس في كونه لم يسمعها دليل على إسقاطها من التلاوة. والذي جاء في رواية مالك ومسلم الواحدة: "أنهم كانوا لا يقرأون بسم الله الرحمن". فقد تقدم بيان مخالفة أكثر رواة الحديث لهذه الرواية، وإنما لم تجئ إلا من هذا الوجه، فترجح ما كثر رواية أولى وأحرى. وقوله: "فكلهم كان لا يقرأ" يجوز في رد الضمير إلى كل وجهان: تارة مفردًا، وتارة جمعًا، تقول: كل الرجال قام ردًّا إلى اللفظ، وكلهم قاموا ردًّا إلى المعنى، وعليه -قوله تعالى-:

{وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (¬1) فوَحَّد الضمير وقال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (¬2) فجمع. و"الحمد": نقيض الذم وهو أعم من الشكر؛ لأن كل شكر حمد، وليس كل حمد شكرًا تقول: حمدت الرجل على إحسانه وشكرته عليه؛ وحمدته على جميل صفاته، ولا تقول: شكرته عليها. واللام في "لله" لام الملك أي هو مستحق الحمد ومالكه، ومجيئها بلام التعريف المستغرقة لجنس الحمد: دليل على أنه خاص به دون غيره؛ وأن غيره ليس فيه نصيب كما تقول: المال لزيد أي: ليس لغيره فيه حق. و"العالمون" جمع عالم وهو واقع في كل موجود على سوى الله تعالى وقيل: هو واقع على الملائكة والإنس والجن وقيل غير ذلك والأول أكثر. وهذا الحديث إنما أخرجه الشافعي ليبيِّن أن من خالفه واستدل بحديث أنس؛ لا دلالة له فيه لما قدمنا ذكره مما حكيناه عن قوله؛ وما عضدناه به من قول الدارقطني والبيهقي وغير ذلك وأن المعتمد في حديث أنس هو ما رواه الشافعي عنه من طريقه، وغيره من الطريق التي لم يتعرض فيها إلى ذكر بسم الله الرحمن الرحيم، والله أعلم. وقد أخرج الشافعي -في سنن حرملة: عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن الجريري، عن قيس بن عباية -وهو أبو نعامة- عن ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني (¬3) أبي وأنا اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال لي: مه إياك والحدث إني قد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر وعمر وعثمان؛ فكانوا ¬

_ (¬1) مريم [95]. (¬2) النمل: [87]. (¬3) زاد في الأصل بعد [سمعني]: (أن) وهي زيادة مقحمة لا وجه لإثباتها، والرواية في المعرفة (3143) بدونها.

يفتتحون بالحمد رب العالمين، ولم أر أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أشد عليه الحدث منه" (¬1). تفرد به أبو نعامة واختلف عليه في لفظه، كما اختلف في حديث شعبة عن قتادة، عن أنس. وابن عبد الله بن مغفل وأبو نعامة لم يحتج بهما صاحبا الصحيح، وقد عارضه الشافعي بحديث أنس وغيره في قصة معاوية -والله أعلم-. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 85)، والترمذي (244) وقال: حديث حسن. وحسنه أيضًا الزيلعي في نصب الراية (1/ 332 - 333) رد على من ضعفه من أهل العلم وقال: وبالجملة، فهذا حديث صريح في عدم الجهر بالتسمية، وهو وإن لم يكن من أقسام الصحيح، فلا ينزل عن درجة الحسن وقد حسنه الترمذي، والحديث الحسن يحتج به، لاسيما إذا تعددت شواهده، وكثرت متابعاته، والذين تكلموا فيه وتركوا الاحتجاج به لجهالة ابن عبد بن الله مغفل قد احتجوا في هذه المسألة بما هو أضعف منه، ... ولم يحسن البيهقي في تضعيف هذا الحديث، إذ قال بعد أن رواه في كتاب "المعرفة" من حديث أبي نعامة بسنده المتقدم ومتن السنن: ... ثم نقل قوله، وقال: فقوله: أبو نعامة وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحبا الصحيح ليس هذا لازمًا في صحة الحديث، ولئن سلمنا، فقد قلنا: إنه حسن والحسن يحتج به، اهـ بتصرف يسير.

النوع الرابع في التأمين

النوع الرابع في التأمين أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي [سلمة] (¬1) أنهما أخبراه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أمّنَ الإمام فأمِّنُوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". قال ابن شهاب: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: آمين. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك قال: أخبرني سُمَي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " [إذا قال] (¬2) الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: "آمين"، فإنه من وافق قولُه قولَ الملاتكةِ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال أحدكم آمين، وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى؛ غفر له ما تقدم من ذنبه". أخرج الشافعي هذه الروايات الثلاث في كتاب "استقبال القبلة". وعاد، أخرج الرواية الأولى بإسنادها في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬3). وقد روى عنه المزني أيضًا قال: حدثنا الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة بمثله وقال: "فإن الملائكة تؤمن" ولم يذكر قول الزهري. والحديث في نفسه حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬4): فأخرج الرواية (¬5) إسنادًا ولفظًا. ¬

_ (¬1) بالأصل [مسلمة] وهو تصحيف. (¬2) سقط من الأصل، والاستدراك من مطبوعة المسند. (¬3) الأم: (1/ 109)، (7/ 201). (¬4) الموطأ: (1/ 94 - 95). (¬5) يعني روايات الشافعي المتقدمة كلها كما في الموطأ.

وأما البخاري (¬1): خرج الأولى والثالثة عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بالإسناد واللفظ. وأخرج الرواية الثانية: عن القعنبي، عن مالك. وأما مسلم (¬2): فأخرج الرواية الأولى عن يحيى بن يحيى، عن مالك وأخرج الثانية: عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: "إذا قال القارئ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقال من خلفه: "آمين"، فوافق قوله قولَ السماء غفر له ما تقدم من ذنبه". وأخرج الثالثة: عن القعنبي، عن المغيرة، عن أبي الزناد. وأما أبو داود (¬3): فأخرج الأولى عن القعنبي، عن مالك. وأخرج الثانية: عن القعنبي أيضًا، عن مالك، عن سمىّ. وأما الترمذي (¬4): فأخرج الأولى عن أبي كريب محمد بن العلاء، عن زيد ابن حباب، عن مالك. وأما النسائي (¬5): فأخرج الأولى عن عمرو بن عثمان، عن بقية، عن الزبيدي، عن الزهري. وأخرج الثانية والثالثة: عن قتيبة، عن مالك يإسنادهما ولفظهما. لا خلاف بين أهل الإسلام، أن آمين ليست من سورة الفاتحة ولا من القرآن وقد أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته ورغب فيها وأمر بها، وإنما اختلفوا في تفسيرها ومعناها:- فقال قوم: معناها: اللهم افعل. وقال آخرون: اللهم استجيب. وقال آخرون: كذلك يكون. والذي تقتضيه اللغة وإليه ذهب أبو علي الفارسي: أنها اسم سمي به الفعل كأمثاله، نحو: صه، ومه، وإيه، ووَيْه فكذلك آمين بمعنى استجيب. ¬

_ (¬1) البخاري (780، 781، 782). (¬2) مسلم (409، 410). (¬3) أبو داود (935، 936). (¬4) الترمذي (250) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (2/ 143، 144).

وفيه ضمير مرفوع أنه فاعل، وفيها لغتان: المد والقصر، والمد أفصح فإن الرواية بها أكثر؛ ورواية القصر قليل. والنون فيها مبنية على الفتح؛ وإنما بنيت على الفتح هربًا من اجتماع ساكنين: نون والياء قبلها مثل: أين وكيف، وطلبًا لأخف الحركات. وقوله: "أمّن" فعل ماض مبني من آمين تقول: أمن يؤمن تأمينًا. وفي قوله في الرواية: "فقولوا آمين" دليل على أن الإمام لا يقولها. وإنما أمر بها المأمومين، ولكن صريح الرواية الأولى يبطل ذلك، ومعنى قوله: "فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة" أن الملائكة تؤمن على دعاء المؤمن طمًعا في الإجابة والقبول؛ ويعضد ذلك قوله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬1). و"الموافقة" بين الشيئين؛ يكون في الذات والوقت والحال. والمراد به هنا: الوقت، يريد أنه من اجتمع تأمينه وتأمين الملائكة في وقت واحد. وقد قيل في الموافقة بين تأمين الملائكة والمصلين خمسة أقوال:- الأول: الموافقة -في الابتداء- في النية والإخلاص؛ ولا قبول إلا بهما. الثاني: الموافقة في الفائدة وهي الإجابة، المعنى: من استجيب له كما يُستجاب للملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. الثالث: الموافقة في الوقت أي: حتى يتواردوا عليه جميعًا؛ فتعم الناس البركة الكائنة من الاشتراك مع الملائكة. الرابع: الموافقة في الكيفية: وهي بأن يدعو لنفسه وللمسلمين كما تفعل ¬

_ (¬1) غافر: [7].

الملائكة؛ لأنها تدعو لجميع الأمة كما أخبر الله -عز وجل- في قوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}. الخامس: أن يدعو في طاعة الله ولا يمزجها بغيرها؛ فإنها أقرب إلى الإجابة. وقوله: "غفر له ما تقدم من ذنبه" فيه فائدة حسنة وهي أنه يغفر له وأن يسأله المغفرة؛ لأن الملائكة سألتها له بقوله: "ويستغفرون لمن في الأرض". وقد جاء في التفسير أن "المَغْضوبِ عليهم": اليهود، و "الضالين": النصارى. "والملائكة": جمع ملك، قال الكسائي: أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوكة وهي الرسالة، ثم قلبت وقدمت اللام فقيل مالك، ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال فقيل ملك، فلما جمعوه ردو إليه الهمزة فقالوا: الملائكة والملائك أيضًا. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه يستحب للإمام والمنفرد إذا فرغ من قراءة الفاتحة أن يقول: آمين، فإن كانت الصلاة سرية أخفاها، وإن كانت جهرية جهر بها. وبه قال أحمد وداود. وقال أبو حنيفة والثوري: لا يجهر بها. وعن مالك روايتان:- إحداهما: لا يقولها رأسًا. والثانية: يخفيها. ثم المأموم هل يجهر بها؟ فيه قولان للشافعي، وبالجهر قال أحمد وأبو ثور وإسحاق وعطاء، وبالإخفاء قال الثوري وأبو حنيفة. قيل للشافعي.: فإنا نكره للإمام أن يرفع بها صوته، قال الشافعي: فهذا

خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -يريد حديث مالك، عن ابن شهاب- قال الشافعي: ولو لم يكن عندنا وعندكم إلا هذا الحديث الذي ذكرنا عن مالك، انبغي أن نستدل به على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بآمين، وأنه أمر الإمام أن يجهر بها؟ فكيف ولم يزل أهل العلم عليه؟ وروى وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "آمين يجهر بها". ويحكي مطّه إياها (¬1). ويقول أبو هريرة للإمام: لا تسبقني بآمين -وكان يؤذن له. وقد روى الزهري: عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من أم القرآن رفع صوته قال آمين" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (932)، والترمذي (248) وغيرهما من طريق سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس عنه بنحوه. قال الترمذي: حديث حسن. وروى شعبة هذا الحديث عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس عن علقمة بن وائل، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) فقال: "آمين"، وخفض بها صوته. وسمعت محمدًا يقول: حديث سفيان أصح من حديث شعبة في هذا وأخطأ شعبة في مواضع من هذا الحديث. فقال: عن حجر أبي العنبس، وإنما هو: حجر بن عنبس، ويكنى أبا السكن وزاد فيه: عن علقمة ابن وائل، وليس فيه عن علقمة، وإنما هو: حجر بن عنبس عن وائل بن حجر وقال: وخفض بها صوته، وإنما هو: ومد بها صوته. وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث فقال: حديث سفيان في هذا أصح من حديث شعبة اهـ. والحديث صححه جماعة من أهل العلم غير من ذكر. قال الحافظ في التلخيص (1/ 236 - 237): سنده صحيح، وصححه الدارقطني، وأعله ابن القطان بحجر بن عنبس وأنه لا يعرف. وأخطأ في ذلك، بل هو ثقة معروف .... وانظر تمام كلامه هناك. (¬2) أخرجه الدارقطني في سننه (1/ 335)، والحاكم في المستدرك (1/ 223) والبيهقي في المعرفة (3170) كلهم من طريق الزبيدي، عن الزهري به. قال الدارقطني: هذا إسناد حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ. وقال البيهقي: هذا حديث صحيح وانظر التلخيص (1/ 236).

وهذا حديث (¬1) صحيح، وروي من غير طريق عن الثوري بمعناه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء قال: كنت أسمع الأئمة -وذكر ابن الزبير ومن بعده- يقولون آمين ويقول من خلفه آمين، حتى إن للمسجد للجَّة. أخرجه الشافعي في كتاب "الأمالي"، وعاد إخراجه بالإسناد في كتاب اختلافه مع مالك (¬2). قال: كنت أسمع الأئمة -من ابن الزبير ومن بعده- يقولون: آمين ومن خلفهم آمين، حتى إن للمسجد للجة. في كتاب السنن والآثار (¬3): كنت أسمع الأئمة -ابن الزبير ومن بعده- بإسقاط من قبل ابن الزبير. و"اللجة": (بفتح اللام) الصوت، الْتَجَّتِ الأصواتُ: إذا اختلطت، وسمعت لجة الناس أي أصواتهم. واللام الأولى في قوله: "للجة" لام التأكيد دخلت في اسم إن، ومن حقها أن تدخل على الخبر؛ لأنه هو الذي يحتاج إلى التأكيد، ولكن لما كان الخبر هاهنا جارًّا ومجرورًا؛ كان الاسم نكرة، وقد تأخر لذلك أدخل اللام عليه كما تقول: إن زيدًا لقائم، وإن في الدار لزيدًا, ولا يجوز إن لزيدًا قائم. و"من" في قوله: "من ابن الزبير" لابتداء الغاية، أي: كان في ابتداء سماعه منه. ويجوز أن يكون للتفصيل؛ لأنه لما قال الأئمة فَجَمَعَ .. فصَّلَهُم، فقال: من فلان وفلان. ¬

_ (¬1) الذي يبدو أن الكلام يعود على حديث وائل بن حجر، والثوري قد رواه بالإسناد إلى وائل. وراجع "المعرفة" فقد ذكر نحو هذه الفقرة عقب حديث وائل، وقبل رواية أبي هريرة، والله أعلم. (¬2) الأم (7/ 201). (¬3) رقم (3180).

النوع الخامس في قراءة السورة

وأما قوله "ومن بعده" فيجوز أن تكون جارَّةً فتكون معطوفة على من الأولى، ويكون التقدير: من عهد ابن الزبير والذين بعده. وأما قوله: "ومَنْ خلفهم" فإن "مَنْ" اسم، يريد: والذين هم خلفهم؛ يعني المأمومين. وفي هذا الحديث من الفقه: استحباب التأمين للإمام والمأموم والجهر به لهما -والله أعلم. النوع الخامس في قراءة السُّورة أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن عمه قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ}. قال الشافعي: يعني: بقاف. هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1)، و [الترمذي] (¬2)، والنسائي (¬3). فأما مسلم: فأخرجه عن أبي كامل الجحدري: فضيل بن حسين، عن [أبي] (¬4) عوانة، عن زياد بن علاقة، عن عمه قطبة بن مالك قال: صليت وصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} حتى قرأ {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} قال: فجعلت أرددها ولا أدري ما قال. وفي أخرى: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن شريك وابن عيينة وعن زهير بن حرب، عن ابن عيينة، عن زياد بن علاقة، عن قطبة بن مالك ¬

_ (¬1) مسلم (457). (¬2) بالأصل [الثوري] وهو تصحيف، والمثبت هو الجادة وسيأتي بعد قليل العزو إليه وبيان طريقه، مما يدل على أنه سبق قلم أو سهو من الناسخ، والحديث عند الترمذي (306) وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (2/ 157). (¬4) بالأصل [بن] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت كذا في صحيح مسلم.

سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الفجر: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ}. وأما الترمذي: فأخرجه عن هناد، عن وكيع، عن مسعر وسفيان، عن زياد بن علاقة، وذكر الحديث. وأما النسائي: فأخرجه عن إسماعيل بن مسعود ومحمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن زياد، عن عمه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح فقرأ في إحدى الركعتين {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ}. قال شعبة: فلقيه في السوق في الزحام فقال: "ق". "الباسق": العالي، بسق النخل بُسُوقًا إذا طال وعلا. ولم يرد أنه قرأ بهذه الآية التي هي {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} وإنما أراد أنه قرأ سورة "ق" التي فيها {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} بدليل قول الشافعي: يعني بقاف أي سورة "ق" وكذلك جاء في رواية مسلم والنسائي. وإعراب "باسقات" وإن كان في اللفظ جرًّا فإنه في موضع نصب؛ لأنه في موضع الحال من النخل. و"النخل" منصوب عطفًا على ما قبله. وعلامة جمع التأنيث السالم في النصب والجر تقول: رأيت الهنداتِ، كما تقول: مررت بالهنداتِ، ولما كان "باسقاتٍ" جمع باسقة أي نخلةٍ باسقةٍ جرى كذلك. و"طلع النخل": معروف. و"النضيد": المنضود وهو الموصوف من قولك: نضدت المتاع إذا جعلت بعضه فوق بعض. والذي ذهب إليه الشافعي قال: أحب أن يقرأ المصلي بعد أم القرآن سورة من القرآن وإن قرأ بعض سورة أجزأه.

قال: ويبتدئ القراءة في السورة التي بعدها بـ "بسم الله الرحمن الرحيم". واستدل بحديث ابن عمر، وسيجيء في فتح القراءة على الإمام. وأما صلاة الفجر: فإنه يستحب أن يقرأ بطوال المفصَّل بعد الفاتحة مثل سورة "ق"، و"الواقعة"، ويستحب في صبح يوم الجمعة أن يقرأ في الأولى: بـ "آلم السجدة" وفي الثانية: بـ "هل أتى". وقال في الأم: وأحب أن يكون أقل ما يقرأ مع فاتحة الكتاب قدر أقصر سورة من القرآن ولم يفصل بينهما وإلى هذا ذهب أكثر الصحابة. وقيل: يستحب له أن يطيل في القراءة في الركعة الأولى أكثر من الثانية لاسيما إن كان إمامًا؛ وهذا الاستحباب في الفجر أكثر. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يستحب له ذلك في الفجر دون غيرها، وأن يقرأ فيها من ثلاثين آية إلى ستين آية، وفي الثانية من عشرين إلى ثلاثين. وقال الثوري ومحمد: يستحب ذلك في جميع الصلوات. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن مسعر بن [كدام] (¬1) عن الوليد بن سريع، عن عمرو بن حريث قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الصبح {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}. قال الشافعي: يعني في الصبح {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}. ¬

_ (¬1) بالأصل بياض قدر كلمة، والاستدراك من مطبوعة المسند.

هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3). وأما مسلم: فأخرجه عن زهير بن حرب، عن يحيى بن سعيد وعن أبي بكر ابن أبي شيبة، عن وكيع. وعن أبي كريب، عن ابن بشر، عن الوليد بن سريع، وذكر الحديث. وأما أبو داود: فأخرجه عن إبراهيم بن موسى، عن عيسى، عن إسماعيل، عن أصبغ -مولى عمرو بن [حريث] (¬4)، عن عمرو قال: كأني أسمع صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الغداة {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}. وأما النسائي: فأخرجه عن محمد [بن] (¬5) أبان البلخي، عن وكيع، عن مسعر. والمسعودي عن الوليد بالإسناد قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الفجر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}. "عسعس الليل": إذا أدبر، وقيل: إذا أقبل ظلامه والأول أكثر. و"كُوِّرَتْ": عبارة عن إزالتها وإذهابها وإلقائها عن فلكها، من تكوير العمامة أي لفها وجمعها، أو من التكوير والإلقاء والرمي. وارتفعت الشمس بفعل مضمر يفسره "كورت"؛ لأن "إذا" تطلب الفعل لما فيها من الشرط. و"الخنس": جمع خانس وهي النجوم الخمسة: زحل والمشترى والمريخ والزهرة وعطارد. سميت خنسًا: لأنها ترجع في مسيرها، بينا تراها مُشَرِّقَةً قد رجعت مُغَرِّبَةً، وهو الذي يسميه أهل علم الهيئة الرجوع وذلك من الخنوس: التأخر. ¬

_ (¬1) مسلم (456). (¬2) أبو داود (817). (¬3) النسائي (2/ 157). (¬4) بالأصل [حرب] وهو تصحيف. (¬5) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل، والاستدراك من السنن.

وقيل: هي الكواكب كلها، سميت بذلك لأنها تخنس في أماكنها بالنهار، فتغيب عن العيون وتظهر في الليل. و"الجواري": السيارة: جمع جارية. و"الكنس" التي تكنس: أي تغيب من كنس الوحش إذا دخل في كناسته؛ وهو بيته ومأواه الذي يكون فيه. قال الشافعي: وليس نعد هذا اختلافًا؛ لأنه قد صلى الصلوات عمره، فيحفظ الرجل قراءته يومًا [والرجل قراءته يومًا] (¬1) غيره. وهذان الحديثان والذي بعدهما أخرجهما الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" (¬2). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن عباد بن جعفر قال: أخبرني [أبو] (¬3) سلمة بن سفيان، وعبد الله بن عمرو، والعابدي، عن عبد الله بن السائب قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنون حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخَذَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - سعلة فحذف فركع". قال: وعبد الله بن السائب حاضر ذلك. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري (¬4)، ومسلم (¬5)، وأبو داود (¬6)، والنسائي (¬7). فأما البخاري: فأخرجه تعليقًا قال: ويذكر عن عبد الله بن السائب: "قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - "المؤمنون" في الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ¬

_ (¬1) من اختلاف الحديث ص 488 وانظر تمام العبارة هناك. (¬2) اختلاف الحديث (ص 488). (¬3) بالأصل [ابن] وهو تصحيف. (¬4) البخاري كتاب الأذان باب: [106] الجمع بين السورتين في الركعة .... (¬5) مسلم (455). (¬6) أبو داود (649). (¬7) النسائي (2/ 176).

عيسى، أخذته سعلة فركع". وأما مسلم: فأخرجه عن هارون بن عبد الله، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج. وعن ابن رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن محمد [بن] (¬1) عباد، عن أبي سلمة بن سفيان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن المسيب العابدي، عن عبد الله بن السائب، وقال فيه: محمد بن عباد يشك، واختلفوا عليه -يعني في قوله "أو ذِكْر عيسى"- وفي روايته "سعلة فركع". وفي أخرى: "فحذف فركع". وفي أخرى: "ولم يذكر ابن عمرو بن العاص". وأما أبو داود: فأخرجه عن [] (¬2). وأما النسائي: فأخرجه عن محمد بن علي، عن خالد، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بالإسناد قال: "حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يساره، فافتتح سورة المؤمنين فلما (¬3) ذكر موسى وعيسى -عليهما السلام- أخذته سعلة فركع". قوله: "فاستفتح" يريد ابتدأ بقراءة أول سورة المؤمنين، وسورة المؤمنين هي سورة "قد أفلح المؤمنون" كأنه شبه الابتداء بفتح باب. وقوله: "فحذف" يريد ترك القراءة وقطعها لما أخذته من السعلة فركع. وقُبُل الكعبة: تقدمها مما يلي الباب. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بياض بالأصل؛ والاستدراك من صحيح مسلم. (¬2) ما بين المعقوفتين بياض بالأصل قدر سطر، وللفائدة أسوق سنده، قال: حدثنا الحسن بن علي، ثنا عبد الرزاق وأبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج، قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول:- فذكره بنحو رواية مسلم. (¬3) زاد في مطبوعة السنن بعد [فلما] [جاء].

وفي هذا الحديث من الفقه:- أن المستحب أن يقرأ في صلاة الفجر من السور الطوال كهذه السورة وقد ذكرنا ذلك. والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما افتتح السور ليقرأها وهي مائة وتسع عشرة آية. وفيه من الفقه: أنه يجوز الاقتصار في الصلاة على بعض السورة كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه. وسواء قد قوي أن يقرأ السورة كلها أو بعضها، فإنه قد ذهب قوم (¬1) في تفسير قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الاختصار في الصلاة، إلى أنه نهى عن قراءة بعض السورة في ركعة. وهذا تأويل بعيد، فإن صح ففي هذا الحديث ما يبطله ويكون ناسخًا له. والله أعلم. وفي قوله: "فحذف، فركع" بفاء التعقيب دليل على أن للقارئ إذا ارتج عليه في الصلاة؛ أو عَرَضَ له مانع منها؛ أن يقطع القراءة ويركع ولا يتوقف ليتذكر أو ليزول المانع. وقوله: "فخلع نعليه ووضعهما عن يساره" من الآداب المستحبة للمصلي فلا يتركهما بين يديه؛ لأنها جهة قبلته؛ ولا عن يمينه حرمة لليمين. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه أن أبا بكر الصديق صلى الصبح، فقرأ فيها بسورة البقرة في الركعتين كلتيهما. هكذا أخرجه الشافعي في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬2) وقد أخرجه الربيع أيضًا في غير المسند عن الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن أنس أن أبا بكر صلى بالناس الصبح ¬

_ (¬1) بالأصل جاء على النصب [قومًا] والصواب مرفرعة لأنها فاعل ذهب. (¬2) الأم: (7/ 207، 228)

فقرأ بسورة البقرة، فقال له عمر: كربت (¬1) الشمس أن تطلع فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. هكذا أخرجه البيهقي في كتاب "السنن والآثار" (¬2). والرواية الأولى هكذا جاءت في الموطأ (¬3)؛ إلا أنه قال: فقرأ فيه، ولم يقل فيهما. فأما فيهما: فإنه إشارة إلى الركعتين؛ لأنه لما قال: "صلاة الصبح" وقد علم أن صلاة الصبح ركعتان، قال "فيهما" كالتفصيل والبيان لما أجمله، والضمير المثنى راجع إلى غير مذكور، وإنما حسن ذلك لدلالة لفظ الصلاة وفهم كميتها عليه فقال: فيهما. ثم أعاد البيان وأكد القول بقوله في الركعتين كلتيهما. فجاء باللفظ الصريح الظاهر، لا يحتاج إلى البيان. وأما رواية الموطأ فإنه قال: "فيها"، وأعاد الضمير إلى الصلاة مفردًا، ثم بَيَّنَ المجمل بقوله: "في الركعتين كلتيهما". وقوله في: "الركعتين كلتيهما" يحتمل أمرين:- أحدهما: أنه قرأ كل ركعة بسورة البقرة. والثاني: أنه قرأ السورة في الركعتين، ففرقها عليهما، وهو الأشبه؛ لأن قراءة البقرة مرتين في الركعتين في وقت الصبح يبعد، لاسيما مع قراءة مِثْلِ الصديق وترتيله وتأنيه فيها. و"كلا" و "كلتا": اسمان مفردان موضوعان للتثنية وليسا بمثنيين فكلا ¬

_ (¬1) في المعرفة بالقاف؛ وكلاهما صحيح ومعنى كربت، أي: دَنت، وانظر اللسان مادة كرب. (¬2) المعرفة (4807). (¬3) الموطأ (1/ 91 رقم 33).

للمذكر، وكلتا للمؤنث، ومتى أضفتهما إلى مظهر أجريتهما على حالهما تقول: جاءني كلا أخويك، ورأيت كلتا أختيك، ومررت بكلا أخويك. ومتى أضفتهما إلى مضمر أعربتهما إعراب التثنية تقول: جاءني أخواك كلاهما، ورأيت كليهما، ومررت بهما كليهما. و"كَرَبَ أن يفعل كذا": أي كاد وقرب وتقول: كربت الشمس أن تطلع وأن تغيب، وقد يقولون: كربت الشمس مطلقًا، إذا دنت للغروب، قاله الجوهري ولا شك أن الطلوع مثله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه أنه سمع عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: صلينا وراء عمر بن الخطاب الصبح فقرأ فيهما بسورة يوسف وسورة الحج، فقرأ قراءة بطيئة فقلت: والله لقد كان إذًا يقوم حين يطلع الفجر، قال أجل. هكذا جاء هذا الحديث في المسند من رواية مالك. وكذا رواه مالك في الموطأ (¬1) وقال: فقرأ فيها. ورواه [أبو] (¬2) أسامة، ووكيع، وحاتم بن إسماعيل، عن هشام، عن عبد الله ابن عامر دون ذكر أبيه فيها، وهو الصواب، والله أعلم. والحكم فيهما وفيها كما قلنا في الحديث الذي قبلها. وقوله: "قراءة بطيئة" يريد بتأنَّ وترتيل؛ فإنه المستحب أن يقرأ في الصلاة كذلك لا يستعجل. و"أَجَلْ": بمعنى نعم. و"إذًا": حرف مكافأة وجواب تنصب الفعل المستقبل إذا تقدم، فإن تأخرت ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 91 رقم 34). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والاستدرك من المعرفة (3/ 333).

أو توسطت وكان الفعل بعدها معتمدًا على ما قبلها لم تعمل. تقول في الإعمال -إذا قال لك قائل: الليلة أزورك- إذن أُكْرِمَكَ فتنصب، وتقول في ترك الإعمال: أُكرِمُكَ إذن، فترفع فإن كان الفعل الذي بعدها فعل حال لم تعمل؛ لأن فعل الحال لا تعمل فيه العوامل الناصبة، وإذا وقفت على "إذن". قلت: "إذا" فتقف بالألف. وفي هذا الحديث -والذي قبله- دلالة على تقديم صلاة الصبح في أول وقتها والمحافظة عليه، وقد صرح به في هذا الحديث. وهذان الحديثان والذي بعدهما؛ مسوقه لبيان جواز إطالة القراءة في صلاة الصبح. وأما المستحب والأولى فهو ما ذكرناه قبل هذا. أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، وربيعة بن أبي عبد الرحمن أن الفرافصة بن عمير الحنفي قال: ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في صلاة الصبح من كثرة ما كان يرددها. هذا الحديث أخرجه الموطأ (¬1). وقولى: "ما أخذت سورة يوسف" يريد حفظه إياها وتلقيه لها؛ فسمى سماعه لها وحفظه إياها من قراءة عثمان لها أَخْذًا، أشبهها بالشيء المأخوذ من غيره. و"مِنْ" الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: لتبيين النوع: أو هي بدل من الأولى، وكأنه قال: ما أخذته إلا من كرة قراءته إياها. و"الترديد": إعادة الشيء مرة بعد مرة، تقول: ردد يردده ترديدًا وهي فعل من ردَّ يردِّ، وهذا البناء موضوع للتكثير. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 91 رقم 35).

مثل: ضَرَّب من ضَربَ، وقَتَّل: من قتل، وذلك لمن يكثر وقوع الضرب والقتل منه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: كان يقرأ في الصبح في السفر بالعشر الأولى من المفصل، في كل ركعة بسورة. هذا الحديث أخرجه الموطأ (¬1) وقال: بالعشر السور الأولى من المفصل في كل ركعة بأم القرآن. و"العشر الأولى" (¬2): يريد العشر السور الأولى، بدليل ما جاء في رواية الموطأ مصرحًا به. و"الأُولى": تأنيث الأول وهو صفة المفرد، ولذلك وصفت به العشر حملًا على اللفظ، ولو رده إلى المعنى لقال الأُوَلِ، والجميع جائز وقد جاء به القرآن العزيز قال الله -عز وجل-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬3) فوصف الأسماء وهي جمع اسم بالحسنى؛ وهو مفرد تأنيث الأحسن. وكذلك قوله {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} (¬4) وقال -عز من قائل-: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} (¬5) فوصف الجمع بالجمع. وإنما حسن وصف الجمع بالمفرد؛ لأن اللفظ المؤنث يجوز إطلاقه على جماعة المؤنث بخلاف المذكر، ردًّا إلى لفظ جماعة المؤنث. وقد كرر لفظة "في" في ثلاثة مواضع فقال:- في الصبح، في السفر، في كل ركعة. ¬

_ (¬1) الموطأ. (¬2) في الأصل [وسورة العشر] والسياق غير مستقيم بها. (¬3) الأعراف: [180]. (¬4) طه: [51]. (¬5) طه: [4].

وذلك أنه لما أراد أن يخبر عن قراءته في الصبح جاء بلفظ الظرف ليبين غرضه، ثم إنه لم يكن إخباره عن مطلق صلاة الصبح، إنما كان غرضه عن صلاة الصبح في السفر، فجاء بلفظ السفر أيضًا تخصيصًا لحالة السفر، ثم لما كان صلاة الصبح أكثر من ركعة وقد قال: "بالعشر الأولى" فأجمل؛ احتاج أن يبين كيفية قراءته فقال: في كل ركعة. فبان لك أن كل واحد من هذه اللفظات الثلاث مخصصة لما قبلها. وأراد بالعشر الأول سورة الحجرات، وقد تقدم بيان ذلك. وفي رواية الموطأ زيادة أفادت حكمًا، وهي قوله: "بأم القرآن وسورة" فبين أن السورة التي كان يقرؤها في كل ركعة؛ إنما هي سوى أم القرآن. وقد احتج المزني عن الشافعي: عن سفيان، عن عثمان بن أبي سليمان قال: سمعت عراك بن مالك يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قدمت المدينة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، ورجل من غفار يؤم الناس، فسمعته يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الأولى بسورة "مريم" وفي الثانية بـ "ويل للمطففين". وكان عندنا رجل له مكيالان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر، فقلت: ويل لفلان. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بالطور في المغرب". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي.

فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وعن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، عن سفيان. وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس. وعن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن معمر كلهم عن الزهري. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. جاء في رواية الشافعي ومالك والبخاري: "قرأ بالطور في المغرب". وفي بعض رواية الباقين "في المغرب بالطور". وفي رواية الشافعي ومالك "سمعته قرأ". وعند غيره "سمعته يقرأ". فأما الأول: فإنما قدم اسم السورة على المغرب، لأن الحديث مسوق لبيان ما قرأ في المغرب، فكان تقديم المقروء أولى من تقديم اسم الصلاة. وأما من قدم ذكر المغرب: فلأن الأصل هو الصلاة؛ ثم القراءة تترتب عليها فقد ذكر الأصل. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 88 رقم 23). (¬2) البخاري (765). (¬3) مسلم (463). (¬4) أبو داود (811). (¬5) النسائي (2/ 169).

وأما الثاني: فإن رواية الشافعي تدل على أنه قد سمعه مرة يقرأ بالطور، لأنه ذكر الفعل ماضيًا، وحكاية الماضي إنما تكون للمرة الواحدة. وأما الرواية الأخرى التي هي "سمعته يقرأ" فإنها تدل على أنه سمعها مرة وأكثر من مرة، لأن الفعل المستقبل يقتضي المرة وأكثر منها. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المغرب يُسْتحب أن يُقْرَأَ فيها بقصار المفصل، "كالقارعة" و "ألم نشرح لك صدرك" وما أشبهها. قال الشافعي: ويقرأ في المغرب مع أم القرآن "بالضحى"، و "ألم نشرح لك صدرك" وأشباههما, ولسنا نضيق أن يقرأ بأكثر منه وإن كانت الإطالة فيها جائزة؛ ولكن الأولى الأول. وهذا الحديث مسوق لبيان الإطالة فيها. وقد روى المزني هذا الحديث عن الشافعي: عن سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب بالإسناد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن أم الفضل بنت الحارث سمعته يقرأ: "المرسلات عرفًا" فقالت: يا بني لقد ذَكَّرْتَنِي بقراءتك هذه السورة؛ أنها لآخر ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها في المغرب. وقد روى المزني عن الشافعي: عن ابن عيينة، عن ابن شهاب بالإسناد "أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالمرسلات". وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 88 رقم 24). (¬2) البخاري (763).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وقد أخرجاه من أوجه أخرى. وأمما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن هناد، عن عبدة، عن محمد بن إسحاق [عن] (¬4) الزهري بالإسناد قالت: "خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عاصب رأسه في موضعه (¬5)، فقرأ بالمرسلات فما صلاها بعد حتى لقي الله -عز وجل". وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن عمرو بن منصور، عن موسى بن داود، عن عبد العزيز بن سلمة (¬7) الماجشون، عن حميد، عن أنس، عن أم الفضل قالت: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته المغرب فقرأ المرسلات، ما صلى بعدها صلاة حتى قبض". وله في أخرى: عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري بالإسناد: "أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالمرسلات". "المرسلات": الملائكة أُرسلن بأمر الله -عز وجل. وقيل: هي الرياح. فإنما جمعها جمع التأنيث: لأنه أراد بها صفة جماعة مرسلة؛ ثم جمع مرسلة جمع صحة فقال: مرسلات. ¬

_ (¬1) مسلم (462). (¬2) أبو داود (810). (¬3) الترمذي (308) وقال: حسن صحيح. (¬4) بالأصل [و] وهو تحريف، والصواب ما أثبتناه كذا عند الترمذي. (¬5) كذا الأصل، ولفظ السنن: (مرضه). (¬6) النسائي (2/ 168). (¬7) كذا بالأصل وفي السنن (بن أبي سلمة)، وعبد العزيز هو: ابن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، واسم أبي سلمة ميمون

و"العرف": قيل: أراد بها متتابعة كشعر عرف الفرس وهو منصوب على الحال؛ وهو بمعنى العرف الذي هو نقيض المنكر، فيكون منصوبًا لأنه مفعول له؛ أي أرسلن للإحسان والمعروف. وقوله: "ذَكَّرْتَنِي بقراءتك هذه السورة" يحتاج ذكرتني إلى مفعولين:- الأول منها: ضميرها. والثاني: هذه السورة أي ذكرتنيها. وإن جعلت هذه السورة مفعولًا لقراءتك؛ أي بقراءتك إياها كان المفعول الثاني محذوفًا؛ وحسن حذفه لدلالة الحال عليه، وذلك أنها قالت: "إنها لآخر ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها" فكان هذا الكلام دليلًا على المفعول الثاني المحذوف. وقوله: "عاصب رأسه" أي سنده بعصابة. وقوله: "فما صلاها بعد" يريد ما صلاها معهم وبهم؛ وإلا فقد كان يصلي في موضعه وهو في بيته مُفْرِدًا؛ إلى أن مات - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج الشافعي من رواية المزني عنه قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب أنه قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العتمة فقرأ: بالتين والزيتون". قال: وحدثنا الشافعي قال: أخبرنا عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد بالإسناد: "أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء فقرأ فيها بالتين والزيتون". وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة (¬1) باختلاف طرقهم ورواياتهم. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 89 رقم 27)، والبخاري (767)، ومسلم (464)، وأبو داود (1221) والترمذي (310) والنسائي (2/ 173). كلهم من طرق عن عدي بن ثابت به.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي عبيد -مولى سليمان بن عبد الملك- أن عبادة بن نسي أخبره أنه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد الله الصنابحي أنه قدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق؛ فصلى وراء أبي بكر الصديق المغرب؛ فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الركعة الثالثة فدنوت منه؛ حتى إن ثيابي تكاد [أن] (¬1) تمس ثيابه؛ فسمعته قرأ بأم القرآن وهذه الآية {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬2). "الأوليين": يجوز أن تكون تثنية "الأولى" فتكون بتاء وياء تحتهما نقطتان وتكون الهمزة مضمومة. ويجوز أن تكون تثنية "الأولة"؛ فتكون بياء وتاء وتشديد الواو. وقوله: "بسورة سورة" يريد في كل ركعة بسورة. وقوله: "أن تمس" المشهور في العربية والأفصح ألا تدخل "أن" في خبر "كاد" تقول: كاد زيد يفعل، وكدت أقوم، وعلى ذلك جاء التنزيل قال {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا} (¬3)، {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} (¬4)، {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (¬5). وأما دخول "أن" في خبرها فإنه قليل، وإنما أدخلوا عليها تشبيهًا لكاد بعسى؛ كما شبهوا عسى بكاد فحذفوا "أن" من خبرها وهو قليل؛ مثل قلة دخول "أن" في خبر كاد. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل، وقد أضفته لسببين، الأول: أنه لفظ مالك في "الموطأ". الثاني: أن المصنف شرع في شرح الحديث كما سيأتي بذكر هذه الزيادة؛ لذا أثبتها. (¬2) الموطأ (1/ 89 رقم 25). (¬3) البقرة: [20]. (¬4) النور: [35]. (¬5) الجن: [19].

و"الزيغ": الميل عن الحق؛ ومنه زاغت الشمس إذا مالت عن وسط السماء. "ولدن": مثل عند إلا أنها أقرب منها. قال الربيع: سألت الشافعي، أيقرأ أحد خلف أم القرآن في الركعة الآخرة من شيء؟ قال: أحب ذلك وليس بواجب عليه، فقلت: وما الحجة؟ فذكر هذا الحديث. وقال الشافعي: قال سفيان بن عيينة: لما سمع عمر بن عبد العزيز بهذا عن أبي بكر الصديق قال: إن كنت لعلى غير هذا حتى سمعت بهذا فأخذت به. واستدل الشافعي أيضًا بحديث ابن عمر، وسيجيء عقيب هذا الحديث. وقال الشافعي -في القديم-: لا يقرأ في الركعة الثالثة والرابعة غير الفاتحة. ورواه عنه المزني والبويطي، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنه كان إذا صلى وحده: يقرأ في الأربع جميعًا في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن قال: وكان يقرأ أحيانًا بالسورتين والثلاث في الركعة الواحدة في صلاة الفريضة. هذا الحديث أخرجه في الموطأ (¬1) وزاد في آخره "ويقرأ في الركعتين من المغرب بأم القرآن وسورة سورة". وقال: "من صلاة الفريضة"، ولم يقل: "في صلاة الفرض". قوله: "الأربع" يريد الصلاة الرباعية كالظهر والعصر والعشاء. و"الأحيان": جمع حين وهو: جزء من الزمان مجهول المقدار؛ يقع على القليل والكثير، هذا هو الصحيح. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 89 رقم 26).

وقوله: "في صلاة الفريضة" بدل من قوله: "في الركعة الواحدة" وهو بدل اشتمال، أو هو على تقدير: في الركعة في صلاة الفريضة، وأما رواية الموطأ "من صلاة الفريضة" فظاهره تقديره: الركعة التي من صلاة الفريضة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المنفرد له أن يقرأ في صلاته بما شاء من قليل وكثير لا حجر عليه، إنما على الإمام أن لا يطيل بالمأمومين إلا بإذنهم. وسيجيء بيان ما يتعلق بالإمام في صلاة الجماعة. وهذا الحديث مؤكد لقول الشافعي في الجديد، وأنه يستحب قراءة السورة في الركعات جميعها، إلا أنه حيث قال: "إذا صلى وحده" فكان الاستدلال به فيه نظر؛ لأن حكم المنفرد في الإطالة والقصر خلاف حكم الإمام، وقد ذكرنا أن للمنفرد الإطالة والتخفيف؛ وكذلك أن يقرأ بسورة وسورتين أو أكثر أو أقل. قال الربيع: قلت للشافعي أتستحب أنت هذا؟ قال: نعم وأفعله -يعني الجمع بين السور-. وهذه الأحاديث الثمانية، أخرجها الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك (¬1). وقد أخرج الربيع قال: قال الشافعي: عن ابن علية، عن أيوب، عن محمد أن: "ابن مسعود كان يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب". قال الشافعي: وبهذا نقول ولا يجزئه إلا أن يقولوا هم -يعني العراقيين- يقولون: إن شاء قرأ، وإن شاء سبح، وإن شاء لم يقرأ. وإنما استدل الشافعي بهذا الحديث؛ على وجوب القراءة في كل ركعة. ¬

_ (¬1) الأم: (7/ 207).

النوع السادس في نسيان القراءة

النوع (¬1) السادس في نسيان القراءة هذا النوع لم يرد في المسند فيه شيء. وقد روى الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أن عمر بن الخطاب صلى بالناس المغرب فلم يقرأ فيها؛ فلما انصرف قيل له: ما قرأت؟ قال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسنًا، قال: فلا بأس -وفي رواية- فلا بأس إذًا" (¬2). وروى الشافعي: عن رجل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن عمر صلى بالمغرب فلم يقرأ فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسنًا، قال: فلا بأس. قال الشافعي -في كتاب اختلافه مع مالك: قد رويتم هذا عن عمر وصلاته بالمهاجرين والأنصار، فكيف خالفتموه؟ -يريد أصحاب مالك-. قال: فإن كنتم إنما ذهبتم إلى [أن] (¬3) النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة إلا بقراءة" فينبغي أن تذهبوا في كل شيء هذا المذهب؛ فإذا جاء شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تدعوه لشيء؛ إن خالفه غيره كما قلتم هاهنا" (¬4). والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا نسي قراءة الفاتحة لم تجزئه صلاته في القول الجديد، وكان يقول في القديم: تجزئه لهذا الحديث. ¬

_ (¬1) كتب في الهامش أما [بيان النوع]. (¬2) إسناده منقطع. أبو سلمة لم يسمع من عمر. قال البخاري: أبو سلمة عن عمر منقطع. انظر تهذيب التهذيب (6/ 371). (¬3) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل، والاستدراك من "اختلاف مالك والشافعي" المطبوع مع "الأم" (7/ 237). (¬4) انظر تمام كلامه في الأم (7/ 237).

وهذه الروايات مرسلة. وقد روى يونس: عن الشعبي، عن زياد بن عياض ختن أبي موسى قال: صلى عمر فلم يقرأ فأعاد. ورواه أيضًا: أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عمر: صلى المغرب ولم يقرأ فأعاد (¬1). وهذا موافق للسنة في وجوب القراءة والقياس؛ فإن الأركان لا تسقط بالنسيان -والله أعلم. قال الربيع: قال الشافعي فيما بلغه عن زيد بن الحباب، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي أن رجلاً قال: إني صليت ولم أقرأ؟ قال: أتممت الركوع والسجود؟ قال: نعم، قال: تمت الصلاة. قال الشافعي: وهم لا يقولون بهذا يزعمون أن عليه إعادة الصلاة. والحارث هو الأعور، ولا يحتج بحديثه فإن العلماء قد تكلموا فيه (¬2). ... ¬

_ (¬1) انظر مصنف عبد الرزاق (2/ 123 - 127). (¬2) وقال البيهقي في المعرفة (2/ 399 - 400) بعد ذكر هذا الأثر: وقد روينا عن علي بإسناد صحيح خلاف ذلك. ثم ساق بإسناده عن علي: "أنه كان يأمر في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب".

الفرع الرابع الركوع والسجود

الفرع الرابع في الركوع والسجود وفيه سبعة أنواع النوع الأول في: صفتهما وأقل ما يجزئ منهما والطمأنينة فيهما. أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن جده رفاعة بن مالك أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمره الله -عز وجل- ثم ليكبر فإن كان معه شيء من القرآن قرأ به، وإن لم يكن معه شيء من القرآن فليحمد الله -عز وجل- وليكبر ثم ليركع حتى يطمئن راكعًا، ثم ليقم حتى يطمئن قائمًا ثم يسجد حتى يطمئن ساجدًا، ثم ليرفع رأسه فليجلس حتى يطمئن جالسًا، فمن نَقَصَ هذا فإنما ينقص من صلاته". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني محمد بن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة بن رافع قال: "جاء رجل فصلى في المسجد قريبًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي: "أَعِدْ صَلاتَكَ فإنك لَمْ تُصَلِّ"، فقام فصلى كنحو مما صلى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "أعد، صلاتك فإنك لم تصل" فقال: علمني يا رسول الله كيف أصلي. قال: "إذا توجهت إلى القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ فإذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ومَكِّنْ ركوعك وامْدُدْ ظهرك؛ فإذا رفعت فأقم صُلْبَكَ وارفع رأسك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها، فإذا سجدت فمكن السجود، فإذا رفعت فاجلس على فخذك اليسرى، ثم اصنع في كل ركعة".

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ابن عجلان عن علي بن يحيى، عن رفاعة بن رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "إذا ركعت فاجعل راحتيك على ركبتيك ومَكِّن لركوعك، فإذا رفعت فأقم صُلْبك وارفع رأسك؛ حتى ترجع العظام إلى مفاصلها" أخرج الشافعي الروايتين الأوليين في موضع من كتاب "استقبال القبلة". وعاد أخرج الرواية الثالثة في كتاب "استقبال القبلة". أيضًا بعد ذلك (¬1). وهذا الحديث قد أخرجه أبو داود (¬2)؛ والترمذي (¬3)؛ والنسائي (¬4). فأما أبو داود: فأخرجه عن [موسى] (¬5) بن إسماعيل، عن حماد، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن عمه أن رجلاً دخل المسجد وقال، فذكر نحوه. يريد به نحو حديث ذكره قبله عن أبي هريرة، ثم قال أبو داود: قال فيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء -يعني مواضعه- ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه، ويقرأ بما شئت من القرآن، ثم يقول: الله أكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ثم يقول: سمع الله لمن حمده حتى يستوي قائمًا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يسجد حتى تطمئن مفاصله، ثم يرفع رأسه فيكبر؛ فإذا فعل ذلك فقد تمت صلاته". وله في أخرى: عن الحسن بن علي، عن هشام بن عبد الملك والحجاج بن المنهال، عن همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى ¬

_ (¬1) الأم (1/ 102، 113). (¬2) أبو داود (857، 858، 859، 861). (¬3) الترمذي (302) وقال حدث حسن، وقد روى عن رفاعة هذا الحديث من غير وجه. (¬4) النسائي (2/ 193). (¬5) بالأصل [محمد] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت، وكذا بالصواب في السنن.

ابن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع بمعناه. وفي أخرى: عن وهب بن بقية، عن خالد، عن محمد بن عمرو، عن علي ابن يحيى بن خلاد، عن رفاعة بن رافع بهذه القصة. وفي أخرى: عن عباد بن موسى، عن إسماعيل بن جعفر، عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي، عن أبيه، عن جده، عن رفاعة بن رافع، فقصَّ هذا الحديث. وأما الترمذي: فأخرجه عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر عن يحيى ابن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي، عن جده، عن رفاعة بن رافع وذكر نحو رواية الشافعي. وأما النسائي: فأخرجه عن قتيبة، عن بكر بن مضر، عن ابن عجلان، عن علي بن يحيى الزرقي، عن أبيه، عن عمه -وكان بدريًّا- قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ دَخَلَ رَجُلٌ المسجد فصلى؛ وذكر نحو ما تقدم من رواية الشافعي. وقد ذكره البيهقي في كتاب "السنن والآثار" (¬1) وزاد في آخر الرواية الثانية بعد قوله: "في كل ركعة" قال: "وسجدة حتى تطمئن" وهذا الحديث قد جاء في طرقه اختلاف في الرواة، ومدار طرقه كلها على عليّ بن يحيى بن خلاد:- فرواه مرة: عن أبيه، عن جده رفاعة بن مالك. ومرة: عن رفاعة بن رافع. ومرة: عن عمه. ومرة: عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع. ومرة: عن جده، عن رفاعة بن رافع. ¬

_ (¬1) معرفة السنن والآثار رقم (4768).

ونحن نذكر أولاً نسب علي بن يحيى، ونذكر اسم عمه، وما جاء في اختلاف طرق حديثه، حتى يتبين ذلك بيانًا ينتفي اللبس معه -إن شاء الله تعالى. فأما هو: فهو علي بن يحيى بن خلاد بن رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الزرقي، الأنصاري المدني. قال البخاري في التاريخ (¬1): روى عن أبيه، عن عبيد بن رفاعة بن رافع. وفي نسخة: روى عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع. وروى عنه: محمد بن عجلان، وداود بن قيس، وبكير بن عبد الله، وابنه يحيى بن علي (¬2). وأما رفاعة بن رافع: فهو أبو معاذ رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الزرقي الأنصاري صحابي بدري. روى عنه معاذ، وعبيد ابناه، وابن أخيه يحيى. وأما ما جاء في رواية الشافعي الأولى: عن جده رفاعة بن مالك، فإنما يريد به رفاعة بن رافع بن مالك، فنسب رفاعة إلى جده وحذف ذكر أبيه، وهذا كثير في الروايات لا حرج فيه؛ ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال له الأعرابي: أيكم ابن عبد المطلب؟ قال له: "أنا ابن عبد الطلب" (¬3). وإنما عبد المطلب جده. ¬

_ (¬1) التاريح الكبير (6/ 300). (¬2) قلت: وعلي ثقة. وثقه: يحيى بن معين، والنسائي، والدارقطني، وابن البرقي، والحافظ ابن حجر أيضًا، وهو من رجال البخاري. انظر تهذيب الكمال (21/ 173)، وتهذيب التهذيب (4/ 248). (¬3) يشير إلى حديث ضمام بن ثعلبة عند البخاري (63) من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله ثم قال لهم: أيكم محمد -والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم- فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ =

ونحن نبين الآن ما يصح من هذه الروايات مع هذا النسب. وقد قال البيهقي -لما روى هذا الحديث بهذه الطرق التي في المسند- ما هذا حكايته- قال: لم يُقِمْ إسناده إبراهيم بن محمد، والصواب عن يحيى بن عليّ بن خلاد، عن أبيه، عن جده [عن] (¬1) رفاعة بن رافع؛ هذا هو الصحيح بهذا الإسناد. وقال أيضًا لما ذكر الرواية الثانية: لم يقم إبراهيم بن محمد إسناد هذا الحديث أيضًا، فإن ابن عجلان إنما رواه عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه يحيى بن خلاد بن رافع، عن عمه رفاعة بن رافع. هكذا رواه عنه الليث بن سعد وغيره عن محمد بن عجلان. وكذلك رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وداود بن قيس، ومحمد ابن إسحاق بن يسار، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه يحيى بن خلاد بن رافع، عن عمه رفاعه بن رافع. وقد كتب الشافعي هذا الحديث: عن حسين الألتغ، عن يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه، فأكد الشافعي رواية إبراهيم بن محمد بهذه الرواية الموصولة. انتهى كلام البيهقي (¬2). قلت: أما رواية أبي داود الثانية التي قال فيها: عن علي بن يحيى بن خلاد، ¬

_ = فقال له الرجل: ابن عبد المطلب؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجبتك .... الحديث". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والاستدراك من المعرفة (3/ 323)، وهو الصواب. (¬2) راجع المعرفة (3/ 323، 324) وقال في آخر مبحثه: وهؤلاء الرواة يزيد بعضهم على بعض في حديث رفاعة، وليس في هذا الباب أصح من حديث أبي هريرة، فالاعتماد عليه.

عن أبيه، عن عمه -يعني بأبيه يحيى بن خلاد، ويعني بعمه رفاعة بن رافع (¬1)، والهاء في "عمه" راجعة إلى يحيى لأن رافعًا عمه، ويحيى روى عنه. وكذلك روايته الرابعة: التي أخرجها عن مؤمل بن هشام وقال فيها: عن علي، عن أبيه، عن عمه رفاعة. وكذلك روايته الخامسة: التي أخرجها عن عباد بن موسى. وقال فيها عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه -يعني عليًّا- عن جده -يعني يحيى بن خلاد، عن رفاعة بن رافع. وكذلك رواية الترمذي: فإنه قال فيها: عن يحيى بن علي بن يحيى، عن جده -يعني يحيى بن خلاد، عن رفاعة بن رافع. وكذلك رواية النسائي فإنه قال فيها: عن علي بن يحيى، عن أبيه، عن عمه. فهذه خمس روايات ظاهرة الصحة، لا تحتاج إلى زيادة إيضاح (¬2). ويبقى رواية الشافعي، وروايتا أبي داود الأولى والثانية فيهن النظر:- فأما الرواية الأولى من روايات الشافعي فقد تقدم قول البيهقي: إن إبراهيم ¬

_ (¬1) قال المنذري في تهذيب السنن (1/ 406): المحفوظ في هذا: علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع. (¬2) وسئل أبو حاتم عن بعض طرق هذا الحديث. قال ابن أبي حاتم في "علل الحديث" (1/ 82): سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة, عن علي بن يحيى بن خلاد، عن عمه -لم يذكر أباه- أن رجلاً دخل المسجد فصلى والنبي - صلى الله عليه وسلم - قاعد فذكر الحديث، ورواه همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن علي بن يحيى بن خلاد، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبي: ورواه شريك بن عبد الله بن أبي نمر وداود بن قيس وابن عجلان، عن علي بن يحيى بن خلاد فقالوا: عن أبيه رفاعة. وحماد ومحمد ابن عمر لا يقولان عن أبيه، والصحيح عن أبيه عن رفاعة.

بن محمد لم يقم إسنادها. وأما الرواية الثانية: فإنها منقطعة لأنه قال: عن علي بن يحيى بن خلاد، عن رفاعة بن رافع، وعلي لم يرو عن رفاعة إنما روى عنه أبوه يحيى، وروى علي عن أبيه. وأما الرواية الثالثة: فإنها مثل الأولى. وأما رواية أبي داود الأولى: فلا تصح حتى يراد فيها عن أبيه، حتى تصير مثل روايته الثانية؛ وألا تكون منقطعة؛ وألا يكون قد قال فيها: عن عمه وليس عمه وإنما هو عم أبيه، ثم هذا قد كان يمكن التسامح فيه؛ لو كان علي بن يحيى قد روى عن عم أبيه الذي هو رفاعة بن رافع. وأما الرواية الثالثة التي لأبي داود: فإنها منقطعة لأن علي بن يحيى لم يرو عن رفاعة بن رافع. هذا بيان ما عرفناه في هؤلاء الرواة، والصواب ما ذكرناه، والله أعلم. ولنعد الآن إلى شرح ما في الحديث من الغريب، والمعنى، والفقه؛ فإنه حديث جمع أوصافًا من أعمال الصلاة، فلنوسع القول فيه وإن كان قد تقدم بعض ما يفيد ذكره فيه. قوله: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ" مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬1) - الآية. وكقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (¬2) المراد إذا أردتم وعزمتم على القيام إلى الصلاة، والدخول فيها؛ فتوضأوا وإذا أردتم القراءة فاستعيذوا. وإنما عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل: لأن الفعل مُسَبَّبٌ عن الإرادة، وهو ¬

_ (¬1) المائدة: [6]. (¬2) النحل: [98].

مع القصد إليه موجود، فكان منه بسبب وملابسة ظاهرة. و"الكاف" في "كما" في موضع النصب لأنها صفة لمصدر محذوف، تقديره: فليتوضأ وضوءًا مثل الوضوء الذي أمره الله تعالى، ويريد بالذي أمره الله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية. وإن شئت كما أمره الله ورسوله من باقي سنن الوضوء وأحكامه، كالمضمضة والاستنشاق وغيرهما: فإن أمر الرسول أمر عن الله تعالى. وقوله: "ثم ليكبر" يجوز كسر لام "ليكبر" وسكونها، وقد قرئ بمثلها في القرآن العزيز كقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬1) بالكسر والسكون، فمن كسر فعلى الأصل لأن أصل لام الأمر الكسر، ومن سَكَّنَ فلطلب الخفة. وهذا التكبير: هو تكبيرة الإحرام والدخول في الصلاة، وهو فرض وركن من أركان الصلاة وقد تقدم بيان ذلك. وقوله: "فإن معه شيء من القرآن قرأ به" فيه دليل على قول من لم يشترط قراءة الفاتحة في الصلاة؛ لأنه قال: "شيء من القرآن" والشيء يقع على القليل والكثير، ولكن هذا عام والأمر بقراءة الفاتحة قول خاص، والخاص يقضي على العام. وقوله: "وليكبر ثم يركع" هذه تكبيرة الركوع؛ وليست ركنًا من أركان الصلاة بل هي مستحبة. و"الطمأنينة": السكون والثبات على الحالة تقول: اطمأن الرجل اطمئنانًا وطمأنينة، فهو مطمئن إلى كذا أي سكن. وقوله: "أعد صلاتك فإنك لم تصل" فيه دليل على وجوب هذه الأفعال المعددة في الحديث من التكبير والقراءة والركوع والقيام والطمأنينة والسجود، ¬

_ (¬1) الحج: [29].

لأنه لم يعتد بصلاته حيث لم يأت بها على هذا الوجه. و"الراحة": الكفُّ. وقوله: "وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ" التمكين: الاستقرار والثبات على الشيء. و"الصُّلْبُ" و "الظهْر" سواء؛ وهو في اللغة: كل موضع من الظَّهْر فيه فقار فهو "صُلْب". و"المفاصل": المقاطع التي بين كل عضوين من أعضاء الحيوان. الواحد: مَفْصِل -بفتح الميم، وكسر الصاد- وهو من الفصل بين الشيئين. وفي هذا الحديث: أحكام كثيرة من أفعال الصلاة وأقوالها، فلنشر إلى بيانها فنقول:- اعلم أن الصلاة فعل وقول يلزم المكلف؛ ولا يصح التلبس بها إلا لأمر يتألف من عقد وقول وفعل. أما العقد: فهو النية؛ ولا خلاف في وجوبها بين الأمة، وهي قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما أمر به لحق الآمر خاصة. والأصل في كل نية: أن يكون عقدها مع التلبس بالفعل المنوي بها. وقيل: ذلك بشرط استصحابها، فإن تقدمت النية أو طرأت غفلة مع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتد بها؛ كما لم يعتد بها إذا وقعت بعد التلبس بها. وقد رُخِّصَ في تقديمها في الصوم، ولعظيم الحرج في اقترانها بأوله. وأما القول: فهو التكبير وهو واجب. وقد ذكرنا الخلاف فيه، وأن منهم من جَوَّزَ إبدال التكبير بغيره من الصفات الجائزة على الله تعالى، وإبدال اسم الله بغيره من أسمائه قالوا: لأن الأصل فيه

قوله تعالى {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬1) فلم يعين اسمًا خاصًّا. وهذا اللفظ الذي هو {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} لفظ محتمل لكون المراد بالذكر النية والذكر باللسان؛ ففي القرآن الأمر بالذكر مطلقًا، وفي السنة الأمر به مقيدًا بصفته ووقته فكان أولى، وإذا تعين التكبير حسب ما عينه الرسول في هذا الحديث قولًا حيث قال له: "كبِّر" وحسب ما عينه فعلًا حين قال: "الله أكبر" فلا يجوز مخالفته. ولذلك ذهب من قال إلى أنه لا يجوز "الله الأكبر" لأنه زيادة الألف واللام على البيان في عبادة لا مجال للقياس فيها. وأما الفعل فنحو: استقبال القبلة، ورفع اليدين، وستر العورة، وقد تقدم بيان ذلك. وقد تعارضت روايات الناقلين لأحاديث الصلاة جملة وتفصيلًا كأبي حميد الساعدي، وأبي هريرة وغيرهما ممن نقل أكثر أحكامها في حديثه، وكغيرهما من الصحابة ممن نقل بعض أوصافها؛ واجتمع البيان في كل طريق منها. والذي نقل عنه في هيئة الصلاة بين الأفعال والأقوال ما يقارب خمسين خصلة؛ اختلف مناهج العلماء فيها على ثلاثة أنحاء:- الأول: أنها كلها واجبة. والثاني: أن كل ما يُضَمَّنُ القرآن منها واجب، وما خرج منها فهو مسنون. والثالث: المقابلة بين الأفعال والأقوال؛ فما يخلص منها إلى الوجوب والسنة قُضِي به. وهذا هو المنهج الأَسَدُّ وبيان ذلك: ¬

_ (1) الأعلى: [15].

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي" (¬1) فوجب الانتهاء إلى هذا، وتعين الاقتداء به، ثم نظر الأئمة إلى ما ورد عنه في أحكام الصلاة، نظرًا مجملًا ومفصَّلاً: أما المجمل: فنحو هذا الحديث حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فَصَلِّ فإنك لَمْ تُصَلِّ" إلى أن بَيَّنَ له فقال: "توضأ واصنع" إلى آخر الحديث؛ فذكر ذلك كله في معرض التعليم؛ وسكت عن بعض ما بينه في غير هذا الحديث؛ من رفع اليدين وتعيين القراءة، وتكبيرات الانتقال، والجلسة الوسطى، والتشهد، والسلام، وغير ذلك. ثم إنهم استقرؤا الشريعة فثبت أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وكل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خَدَاج" (2) فتعينت قراءة الفاتحة لذلك. وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الجلسة الوسطى ناسيًا؛ ولم يجعل ذلك قادحًا في الصلاة، لكنه عَوَّضَ عنها بالسجود وقال: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" (¬2). ثم اختلف العلماء في هذه الأخبار، بحسب اختلافهم في مراتب الأدلة من الكتاب والسنة وارتباطها باللغة، واختلاف الرواية في الأحاديث والزيادة والنقصان، وعلى هذه الأصول ابتنى اختلاف الاجتهاد بين العلماء. والذي تقرر عليه مذهب الشافعي: أن الصلاة تشتمل على فرائض، وسنن, وهيئات، وآداب. أما الفروض فهي أربعة عشر: النية، وتكبيرة الإحرام، والقيام، وقراءة الفاتحة، والركوع مع الطمأنينة، والاعتدال عنه قائمًا، والسجود مع الطمأنينة، والاعتدال عنه، والجلوس للتشهد الآخر، والتشهد الأخير، والصلاة على النبي ¬

_ (¬1) قطعة من حديث طويل أخرجه البخاري (631) من حديث مالك بن الحويرث وصدره (أتينا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن شببة متقاربون ...) الحديث. (¬2) تقدم تخريجهما.

والسلام، ونية الخروج من الصلاة في أحد الوجهين، وترتيب الأفعال المذكورة. وأما السنن فمن الأفعال خمس: وهي رفع اليدين في تكبيرة الإحرام، وعند الهوي إلى الركوع، وعند الاعتدال منه، والجلسة للتشهد الأول، وجلسة الاستراحة. ومن الأقوال خمسة عشر: وهي دعاء الاستفتاح، والتعوذ، والتأمين وقراءة سورة بعد الفاتحة، وتكبيرات الانتقال، والذكر في الركوع والسجود وفي الاعتدال منها، والتشهد الأول، والصلاة على النبي فيه، والصلاة على آله في التشهد الآخر، والقنوت في صلاة الصبح، والدعاء في آخر التشهد الآخرة، والتسليمة الثانية. وأما الهيئات والآداب: فنشر الأصابع، وحد رفعها، والتورك، والافتراش، والإطراق، والتجافي، وترك الالتفات، ووضع اليد على الركبة في الركوع، ومد الظهر والعنق، والبداية بالركبة ثم باليد في السجود، والسجود على الأنف، ورفع البطن عن الفخذ في السجود، ووضع اليدين على الأرض للقيام، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة، والإشارة بالمُسَبِّحَةِ، ووضع اليد اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والجهر بالقراءة، والإسرار، ووضع اليمين على الشمال، والنظر إلى موضع السجود. ونحو ذلك مما قد فرغ من تقسيمه وتفصيله في كتب الفقه، وكل واحد من هذه الأركان؛ وأكثر هذه الأحكام له موضع يُذْكَرُ فيه؛ إلا أن الذي يخص هذا الحديث هو ذكر الركوع، والسجود، والطمأنينة فيها، وهي فرض عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجب الطمأنينة في واحد منها, ولا يجب الرفع والقيام من الركوع. ولم يثبت عن مالك في ذلك نص، ومَيْلُ أصحابه إلى وجوبها. والله أعلم.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد عن النعمان بن مرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تقولون في الشارب والزاني والسارق"؟ وذلك قبل أن ينزل الله الحدود -فقالوا: الله ورسوله أعلم؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [هن] (¬1) فواحش وفيهن عقوبة؛ وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته"، ثم ساق الحديث. هكذا جاء في المسند ولم يذكر باقيه، وقد أخرجه الموطأ (¬2) بتمامه؛ "قالوا: وكيف يسرق صلاته يا رسول الله؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها"، قال النعمان: وكان عمر يقول: إن وجه دينكم الصلاة فَزَيِّنُوا وجه دينكم بالخشوع. "الشارب": اسم فاعل من شرب يشرب شُرْبًا فهو شارب، ويقال ذلك: لكل من شرب شيئًا من المياه والمائعات واللبن ونحوه، ثم جعله كثرة الاستعمال إذا ذُكِرَ مطلقًا خاصُّا بشارب الخمر والنبيذ حتى كأنه موضوع في الأصل له، فإذا قيل: فلان شارب وفلان يشرب لا يذهب الفهم إلا في ذلك، وإذا أريد أنه شرب شيئًا بعينه؛ قرن به لفظ المشروب حتى يُعْرَفَ، فيقال: شرب ماءً، وشرب لبنًا وغير ذلك. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: "ما تقولون في الشارب؟ ". يريد به شارب الخمر. وقوله: "قبل أن ينزل الحدود" غنية لسؤاله - صلى الله عليه وسلم - إياهم عن الواجب على ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط بالأصل، والمثبت من مطبوعة السنن. (¬2) الموطأ (1/ 153 رقم 72). وتقدم ذكر قول ابن عبد البر: لم يختلف الرواة عن مالك في إرسال هذا الحديث عن النعمان بن مرة، وهو حديث صحيح مسند من وجوه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد. وانظر الاستذكار (6/ 282).

الشارب والزاني والسارق، لأنه بعد نزول الحدود ومعرفتهم لا يتجه السؤال إلا على جهة التقرير، ولذلك قالوا في الجواب: الله ورسوله أعلم. "الحدود": جمع حَدّ، وهو ما أوجبه الله على من باشر شيئًا من المحظورات التي قرن بها الحدود. وأصل الحد في اللغة: المنع، والحد الحاجز بين الشيئين، ويرجع إلى المنع لأنه يمنع أحد الشيئين أن يدخل في الآخر. و"الحد" أيضًا: منتهى الشيء. وكل مدار هذا اللفظ يرجع إلى المنع، فكأن الحد يمنع مرتكب الذنب من معاودته. و"الفواحش": جمع فاحشة، وهي كل خصلة قبيحة في العقل والشرع معًا، وكل شيء جاوز حده فهو فاحشة. وقد جعل الاستعمال إطلاق الفاحشة على الزنا أكثر من غيره. و"العقوبة" معروفة: وهي المؤاخذة بالذنب والانتقام من جانيه تقول: عاقبته معاقبة، والعقاب والعقوبة سواء. و"أسوأ": أفعل من السوء خلاف الإحسان أي أكثر سوءًا، قد جعل الذي لا يتم ركوع صلاته وسجودها سارقا؛ لأنه تارك بعضها فكأنه قد أخذ منها شيئًا؛ فنقصها كما ينقص السارق المال الذي يسرقه. وقوله: "أسوأ السرقة" مبتدأ، وخبره: "الذي يسرق صلاته" فجعل الصفة خبرًا عن الحدث، وإنما يصح هذا على تقدير حذف مضاف، التقدير: أسوأُ السَّرِقَةِ سَرِقَةُ الذي يسرق صلاته، أو أسوأ ذوي السرقة الذي يسرق صلاته، كقوله -تعالى- {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (¬1). ¬

_ (¬1) البقرة: [189].

التقدير: ولكن البِرَّ بِرُّ من اتقى، أو لكن ذا البر من اتقى. وتمام الركوع والسجود هو الاعتدال فيهما والطمأنينة. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1). ... ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث (533).

النوع الثاني أعضاء السجود

النوع الثاني في أعضاء السجود أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبعة: يديه، وركبتيه، وأطراف أصابعه، وجبهته، ونُهِيَ أن يكفت منه الشعر والثياب". وزاد ابن طاوس: "فوضع يده على جبهته، ثم مَرَّ بها على أنفه حتى بلغ طرف أنفه، فكان أبي يَعُدُّ هذا واحداً. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار سمع طاوسا يحدث عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يسجد منه على سبعة، ونهى أن يكفت شعره أو ثيابه". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "أمر أن نسجد على سبع فذكر منها كفيه وركبتيه". أخرج الشافعي الروايتين الأوليين: في كتاب "استقبال القبلة" (¬1). وأخرج الرواية الثالثة: في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬2). وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الموطأ. فأما البخاري (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، عن عمرو بن دينار بالإسناد قال: "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن يسجد على سبعة أعضاء -ولا يكف شَعْرًا ولا ثَوْبًا-: الجبهة، واليدين، والركبتين، والرجلين". ¬

_ (¬1) الأم (1/ 113). (¬2) الأم (1/ 251). (¬3) البخاري (809، 810).

وفي أخرى: عن مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، عن عمرو بن دينار بالإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم، ولا نكف شعرًا ولا ثوبًا". وفي أخرى: عن معلى بن أسد، عن وهيب، عن عبد الله بن طاوس بالإسناد قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرتُ أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه-، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثياب ولا الشعر". وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وأبي الربيع الزهراني، عن حماد ابن [زيد] (¬2)، عن عمرو بن دينار بالإسناد، وذكر نحو رواية البخاري الأولى. وفي أخرى: عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة مثل البخاري. وفي أخرى: عن عمرو الناقد، عن سفيان، عن ابن طاوس. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسدد وسليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن عمرو بالإسناد قال: "أمِرَ نبيكُم أن يسجد على سبعة ولا يكف شعرًا ولا ثوبًا". وفي أخرى: عن محمد بن كثير، عن شعبة، عن عمرو بالإسناد قال: أمِرَ نبيكُم أن يسجدَ على سبعة آراب. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن عمرو بالإسناد وذكره. ¬

_ (¬1) مسلم (490). (¬2) بالأصل [يزيد] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت. (¬3) أبو داود (889، 890). (¬4) الترمذي (273) وقال: حسن صحيح.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة مثل الترمذي. وله روايات أخرى كثيرة. قوله: "أُمِرَ ونُهِيَ" على ما لم يسم فاعله؛ يريد بالآمر: الله عز وجل -لأنه هو الذي يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويريد بالمأمور: نحن وقد صرح به. و"السجود"، في اللغة: الخضوع. وهو في الشرع: عبارة عن هيئة مخصوصة على ما هو معرف في الصلاة وهو على الحقيقة خضوع، تقول: سجد يسجد سجودًا، والاسم السجدة -بالكسرة- فأما بالفتح فهو المرة الواحدة من السجود. و"الكَفْتُ": الضم، تقول: كَفَتُّ الشيء أَكْفِتُه كَفْتًا إذا ضممته إلى نفسك. والكف: من كف الثوب وهو خياطته وعطفه؛ المعنى: لا يعطف ثوبه ويجمعه. و"الأعضاء": جمع عضو وهو الطرف من أطراف الإنسان، كاليد، والرِّجْلِ، والرأس، وغير ذلك. و"الأعظم": جمع عظم. و"الآراب": جمع إرب (بكسر الهمزة) -وهو العضو أيضًا. والمراد بالأعضاء والأعظم والآراب شيء واحد. ولما كانت في هذا الحديث سبعة جمعها على القلة؛ فإن أفعلًا وأفعالًا جَمْعَا قلة، ولما لم يرد في جمع الأعظم أعظام؛ عدل إلى ما ورد فيه من جموع القلة وهي أعظم، ولم يقل "عظام" لأن فعال جمع كثرة. ¬

_ (¬1) النسائي (2/ 208).

و"الثوب": ما يُلبس ويُتزر به ويُتغطى به؛ سواء كان مخيطًا أو غير مخيط. و"الشعر" (بفتح العين وسكونها): اسم جنس لِـ "شَعْرة" (ساكنه العين) فهو يقع على القليل والكثير. وأهل اللغة يسمون هذا النوع جَمْعًا، والنحويون يسمونه جِنْسًا. وقوله: "أن يسجد منه" في لفظة "منه" زيادة في البيان والتخصيص، وأن الأعضاء المأمور بالسجود عليها هي من الساجد. فإنه إذا أطلق احتمل أن يكون من غيره. وكذلك هي في قوله: "يكفت منه". وقوله: "كان يعد هذا واحداً" يعني: أن الجبهة والأنف هما شيء واحد من السبعة. و"أطراف الأصابع": يريد بها أصابع الرجلين وفي رواية: الرجلين ولم يذكر الأصابع وذكرها أولى لأنه أخص؛ ولأن السجود الحقيقة على أطراف الأصابع لا على الرجلين جميعًا. وأما ذكر الرجلين: فلأن السجود على بعضها؛ وقد يطلق الكل ويراد به البعض، ويطلق البعض ويُراد به الكل لفهم الخطاب، ولذلك قال: "على يديه" وإنما أراد كفيه فأطلق الكل وأراد البعض. وإنما نهى عن كف الثياب والشعر -وهو جمعها وضمها من الانتشار، والثوب خاصةً جَمْعُهُ باليدين عند السجود- وأمر بإرسالهما: ليسقطا على الموضع الذي يصلي عليه صاحبهما من الأرض فيسجُدَا معه. و"كف الشعر" كناية عن عقصه؛ فإن شعور العرب كانت مرسلة على أكتافهم، ولذلك لما رأى أبو رافع -مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسين بن علي بن أبي

طالب -رضي الله عنه- وقد عقص شعره في قفاه حله وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ذلك كفل الشيطان" (¬1) أي معقده. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الواجب على المصلي أن يسجد على جبهته، وأما الأنف فعنده مستحب. وبه قال أبو حنيفة وصاحباه، والثوري، ومالك. وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد في إحدى الروايتين عنه: يجب السجود عليهما. وقال أبو حنيفة: إن سجد على أنفه دون جبهته أجزأه. وقال أبو يوسف ومحمد: إنما يجزئه السجود على الأنف إذا كان بالجبهة علة. وأما باقي الأعضاء: وهي اليدان، والركبتان، والرجلان، فيها للشافعي قولان:- أحدهما: أنه واجب، وبه قال أحمد، وإسحاق. والثاني: ليس بواجب، وبه قال أبو حنيفة، وأكثر الفقهاء ولكنه مستحب. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: وإذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (646)، والترمذي (384) بنحوه، وقال الترمذي: حسن. وله طرق وشواهد انظرها في نصب الراية (2/ 93).

هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). فأما مسلم: فأخرجه عن قتيبة، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد. وأما أبو داود، والترمذي، والنسائي فأخرجوه مثل مسلم أيضًا. وللنسائي أخرى عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، عن الليث، عن ابن الهاد. وفي الباب عن أبي هريرة، وجابر، وأبي سعيد الخدري. وهذا الحديث مؤكد للحديث الذي قبله، إلا أن ذلك أقوى دلالة على وجوب السجود على الأعضاء التي يسجد عليها؛ لأنه قال فيه: "أمرت وأمرنا" وقال في هذا: "إذا سجد العبد سجد معه" فهو إخبار عن حال الأعضاء التي تسجد، ولذلك ولذلك قال في الأول: "جبهته" وقال هاهنا: "وجهه" وذلك أخص دلالة؛ لأن الإجماع منعقد على أن السجود على الجبهة. ومنهم من أضاف الأنف دون باقي الوجه، فيكون المراد بالوجه في هذا الحديث بعضه. كما بيناه من ذكر الكل والمراد البعض؛ ولأن الجبهة أعم ما في الوجه وأعلاه وأشرفه؛ ولأنه إذا وضع جبهته على الأرض فقد وضع جميع وجهه وألقاه على الأرض، فمعنى السجود موجود فيه. وقال هاهنا: "كفاه" وذلك صريح في اللفظ؛ لأنه قال في الأول: "يداه" وأراد بهما كفيه؛ لأنهما اللذان يباشران الأرض. وسمي ذلك افتراش الكلب تشبيهًا بوضع الكلب ذراعيه على الأرض. ¬

_ (¬1) مسلم (491). (¬2) أبو داود (891). (¬3) الترمذي (272) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (2/ 208، 210).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا سجد وضع كفيه على الذي وضع عليه جبهته. قال: "ولقد رأيته في يوم شديد البرد يخرج يده من تحت برنس له". أخرج الموطأ (¬1) هذا الحديث إسنادًا ولفظًا [وزاد] (¬2) "حتى يضعهما على الحصباء". "البرنس": قلنسوة طويلة كان النساء يلبسونها في صدر الإسلام، وقد تبرنس الرجل: إذا لبس البرنس، هكذا قاله الجوهري. ولفظ الحديث يخالفه لأنه قال يخرج يديه من تحت برنس له، واليدان لا تغطيهما القلنسوة؛ وإنما تغطيهما الشملة والملاءة والقميص ونحو ذلك من الثياب. والصحيح ما قاله الأزهري قال: البرنس كل ثوب رأسه منه ملتزق به دُرّاعة كانت أوجُبَّة، أو غير ذلك، وهو الذي يلبسه اليوم الرهابين والمطارقة من معه من النصارى يسمونه البرنس. وإذا أراد لابسه أن يضع يديه على جبهته احتاج أن يخرجهما من تحت البرنس. "والحصباء": الحصى الصغار. والذي ذهب إليه الشافعي في كون الكفين من أعضاء السجود، قد تقدم بيانه. وغرضه من هذا الحديث حكم آخر وهو: أن الواجب عنده أن لا يضع جبهته على شيء يحول بينها وبين ما يسجد عليه من أرض أو مصلى، سواء كان الحائل بعض أعضائه أو ثوبه، أو طرفًا من ثوبه، أو شيئًا هو حامله في الصلاة. كل ذلك لا يجوز أن يحول بين جبهته وبين ما يسجد عليه. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 163) رقم 59). (¬2) سقط من الأصل والسياق يقتضيها.

وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: لا يجوز ذلك، ويجوز السجود على كور العمامة. وروي عن شريح: أنه كان يسجد على برنسه. فأما غير الجبهة من أعضاء السجود كاليدين، والركبتين، وأصابع القدمين ففيه للشافعي قولان: أحدهما: أن السجود عليهما يجب. والثاني: لا يجب. وقد ذكرنا ذلك. فإن قلنا بالوجوب ففط كشف الكفين قولان: أحدهما: لا يجب وهو المشهور. والثاني: يجب. وأما الركبتان والقدمان فلا كلام في كشفهما، بل يستحب تغطية الركبتين. واستدل الشافعي بهذا الحديث على كشف الكفين. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: أبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف علينا صبحة إحدى وعشرين من رمضان، وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين. وهذا حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬1) إلا الترمذي. قال الشافعي: فإن سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه. واحتج بما تقدم من حديث رفاعة. ¬

_ (¬1) البخاري (2016)، ومسلم (1167)، وأبو داود (1382) والنسائي (2/ 209،208) و (3/ 80،79)، ومالك في الموطأ (1/ 262،261 رقم 9)، وابن ماجه (1775).

وأخرج الشافعي أيضًا من رواية المزني عنه قال: أخبرنا عبد المجيد قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرنا عمران بن موسى قال: أخبرني سعيد بن أبي سعيد المقبري أنه رأى [أبا] (¬1) رافع -مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بحسن بن علي يصلي قد غرز ضفرته في قفاه، فحلها أبو رافع فالتفت إليه الحسن مغضبًا، فقال أبو رافع: أقبل على صلاتك ولا تغضب فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ذلك كفل الشيطان". مقعد الشيطان -يعني: مغرز ضفرته. هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3) إلا أنهما قالا: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه أنه رأى أبا رافع. والكفل (بكسر الكاف وسكون الفاء): ما اكتفل به الراكب، وهو أن يدار حول سنام كساء ثم يركبه. وقد تقدم بيان منعه من كفت الشعر، وأنه أراد به أن يقع على الأرض في حالة السجود. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والصواب هو المثبت كذا في مطبوعة المسند. (¬2) أبو داود (646). (¬3) الترمذي (384)، وقال: حسن. وتقدم تخريجه، وراجع نصب الراية (2/ 93).

النوع الثالث في التجافي

النوع الثالث في التجافي أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن داود بن قيس الفراء، عن [عبيد الله بن عبد الله] (¬1) بن أقرم الخزاعي، عن أبيه قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقاع من نمرة، أو النمرة -يشك الربيع- ساجدًا. فرأيت بياض إبطيه". هكذا أخرجه الربيع عن الشافعي في كتاب "استقبال القبلة" وعاد أورده الربيع فيما لم يسمعه من الشافعي في كتاب "عليّ بن عبد الله" (¬2) بالإسناد من غير شك. وهذا الحديث أخرجه الترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). فأما الترمذي: فأخرجه عن أبي كريب، عن أبي خالد الأحمر، عن داود بن قيس بالإسناد قال: "كنت مع أبي بالبقاع من نمرة فمرت ركبة فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي قال: فكنت أنظر إلى عفرتي إبطيه إذا سجد، أي: بياضه". وأما النسائي: فأخرجه عن علي بن حجر، عن إسماعيل، عن داود بن قيس بالإسناد قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنت أرى عفرة إبطه إذا سجد". وفي الباب عن ابن عباس، وابن بحينة، وجابر، وأحمر بن جزء، وميمونة، وأبي حميد الساعدي، والبراء بن عازب، وعدي بن عَمِيرة، وعائشة. ¬

_ (¬1) بالأصل [عبد الله بن عبيد الله] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وكذا -على الصواب- في مطبوعة المسند، وأيضًا في مصادر التخريج وتراجم الرواة، تهذيب الكمال (19/ 66). (¬2) الأم (1/ 115)، (7/ 186). (¬3) الترمذي (274) وقال: حديث عبد الله بن حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث داود بن قيس، ولا نعرف لعبد الله بن أقرم الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث. (¬4) النسائي (2/ 213).

وليس لعبد الله بن أقرم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث غير هذا الحديث. "نَمِرة" -بفتح النون وكسر الميم-: موضع بعرفات فيه ضربت للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفات قبته. هذا هو المشهور في اسمها، وقد جاء في هذا الحديث بالشك "النمرة" بالألف واللام وهو جائز، وكان يعقوب بن سفيان يذهب إلى أنها بالتاء، والأول الوجه. "والقاع": الموضع المستوي من الأرض. "والإبط" -بكسر الهمزة وسكون الباء-: ما تحت الجناح معروف يذكَّر ويؤنث. "وبياض الإبط": ما تحت أعلى الكتف، وهو الموضع الذي لا ينكشف من الإنسان إلا إذا رفع يده. "والرَكَبة" -بفتح الراء وفتح الكاف-: أقل من الركب، والركب أصحاب في السفر دون غيرها؛ وهم العشرة فما فوقها. "والركاب": الإبل لا واحد لها من لفظها. "والعُفْرة" -بضم العين المهملة وسكون الفاء-: البياض، والمراد من هذا الحديث: هو المبالغة في التجافي وابعاد اليدين عن الجنبين، والذي ذهب إليه الشافعي: أن التجافي هيئة من هيئات الصلاة؛ وهو مستحب وليس بواجب. وإليه ذهب الأئمة والفقهاء لم يختلف في ذلك. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: أخبرنا سفيان، حدثنا عبد الله بن أخي يزيد بن الأصم، عن عمه، عن ميمونة أنها قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد لو أرادت بهْمة أن تمر تحته لمرت مما يتجافى".

هكذا أخرجه الربيع في كتاب "اختلاف علي وعبد الله" (¬1) وهو مما لم يروه الربيع عن الشافعي، إنما قال: قال الشافعي. والحديث في نفسه حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). فأما مسلم: فأخرجه عن يحيى بن يحيى وابن أبي عمر، عن ابن عيينة. وأما أبو داود: فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان. وأما النسائي: فأخرجه مثل أبي داود. إلا أن مسلمًا وأبا داود روياه عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم، عن عمه يزيد بن الأصم (¬5). والشافعي والنسائي: روياه عن عبد الله بن عبد الله بن الأصم عن عمه (¬6). وعبيد الله وعبد الله أخوان، وعبد الله أكبرهما (¬7). ومثل الشافعي رواه الحميدي (¬8): عن سفيان قال: حدثنا أبو سليمان عبد الله ¬

_ (¬1) الأم (7/ 186). (¬2) مسلم (496). (¬3) أبو داود (898). (¬4) النسائي (2/ 213، 232). (¬5) نعم وهذا هو المثبت عند مسلم، لكن أشار الحافظ المزي في التحفة (12/ 497) إلى أن مسلمًا رواه عن عبد الله بن عبد الله في رواية. وقال الحافظ في النكت: أخرجه أبو العباس السراج في "مسنده" عن إسحاق بن إبراهيم ووقع عنده "عبيد الله" بالتصغير، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" وقد جزم المصنف في التهذيب بأن مسلمًا لم يخرج لعبد الله بن عبد الله شيئًا سوى حديث واحد وهو هذا والله أعلم. (¬6) لم أقف عليه عند النسائي بهذا السند وقد أخرجه في الكبرى أيضًا (697) عن عبيد الله به. وانظر تحفة الأشراف (12/ 497). (¬7) وقد وثقه ابن معين والعجلي والذهبي وقال أبو حاتم: شيخ، وقال الحافظ: صدوق. وقال أبو الحجاج المزي: روى له مسلم حديثًا واحدًا، وقد وقع لنا عاليًا عنه. تهذيب الكمال (15/ 164 - 166) (¬8) مسند الحميدي (314).

ابن عبد الله بن أخي يزيد بن الأصم. وقال يحيى بن يحيى وقتيبة عن عبيد الله. ورواه مروان بن معاوية، وعبد الواحد بن زياد، عن عبد الله. "البهمة": الصغيرة من الغنم. "وجافى جنبه عن الأرض": إذا رفعه عنها ولم يلصقه بها. وإنما أراد الشافعي بإخراج هذا الحديث في كتاب "اختلاف علي وعبد الله" (¬1) ما قاله الربيع قال: قال الشافعي: عن رجل عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود- هيئت عظام ابن آدم للسجود، فاسجدوا حتى بالمرافق. قال الشافعي: وليسوا -يعني العراقيين- يقولون بهذا، يقولون: لا نعلم أحدًا يقول بهذا. فأما نحن فأخبرنا سفيان، عن داود بن قيس وذكر حديث ابن أقرم، ثم ذكر بعده حديث ميمونة، فذكر دليل ما ذهب إليه، وذكر حديث عبد الله ومخالفتهم إياه فيما ذهب إليه وروي عنه. ¬

_ (¬1) الأم (7/ 186).

النوع الرابع في وضع اليدين علي الركب

النوع الرابع في وضع اليدين علي الرُّكب لم يرد في المسند شيء في هذا المعنى، وإنما قال الربيع: قال الشافعي: قال الأعمش: عن إبراهيم، عن علقمة والأسود قالا: دخلنا على عبد الله في داره، فصلى بنا فلما ركع طبق بين كفيه فجعلهما بين فخذيه، فلما انصرف قال: كأني انظر إلى اختلاف أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين فخذيه، وأقام أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره (¬1). قال الشافعي: وليسوا -يعني العراقيين- يأخذون بهذا ولا نحن. أما نحن: فنأخذ بحديث رواه يحيى القطان، عن عبد الحميد بن جعفر قال: حدثني محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي حميد الساعدي أنه سمع في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدهم أبو قتادة يقول: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع وضع يديه على ركبتيه" (¬2). وروى الربيع قال: قال الشافعي: وروى ابن علية، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني علي بن يحيى بن خلاد الزرقي، عن أبيه، عن عمه رفاعة بن رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "إذا ركعت فضع يدك على ركبتيك". ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في صحيحه (534) وقال الحازمي في الاعتبار (132،131) عقب حديث ابن مسعود: "اختلف أهل العلم في هذا الباب: فذهب نفر إلى العمل بهذا الحديث، منهم: عبد الله ابن مسعود، والأسود بن يزيد، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن الأسود، وخالفهم في ذلك كافة أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ورأوا أن الحديث الذي رواه ابن مسعود كان محكمًا في ابتداء الإسلام ثم نسخ، ولم يبلغ ابن مسعود نسخه، وعرف ذلك أهل المدينة فرووه وعملوا به". (¬2) أخرجه بالإسناد: البخاري في جزء رفع اليدين (4،3) وأبو داود (963،730)، والنسائي (2/ 187، 211) وغيرهم بنحوه مطولًا.، وهو في صحيح البخاري (828) عن محمد بن عمرو به مطولًا.

وهذا الذي رواه ابن مسعود كان حكمًا في ابتداء الإسلام، ثم صار منسوخًا ولم يبلغه نسخه؛ حتى أخبر به أهل المدينة. وفي ذلك دلالة على أن أهل المدينة أعلم بالناسخ والمنسوخ ممن فارقها وسكن العراق من الصحابة والله أعلم (¬1). وقد روى الأسود عن عبد الله بن مسعود قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فكبر ورفع يديه، فلما ركع طبق يديه بين ركبتيه. فبلغ ذلك سعدًا فقال: صدق أخي، قد كنا نفعل ذلك، ثم أمرنا بهذا يعني الإمساك على الركبتين. وقال الشافعي في سنن حرملة: أخبرنا سفيان، عن أبي [حصين] (¬2)، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عمر بن الخطاب: قد سنت لكم الركب فخذوا بالركب (¬3). وهذا دليل على ترك التطبيق، ووضع اليدين على الركبتين؛ لأن قوله: "قد سنت لكم الركب" صريح أن الأخذ بها سنة، وأن ذلك أمر يضاف إلى من له أن يسن وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم لم يكتف بالإخبار عن السنة حتى أردفه بقوله: "فخذوا بالركب" فأمر بعد أن أخبر حتى لا يجزي من بعض من يسمع قوله يوقف في العمل بإخباره فعضد الإخبار بالأمر تأكيدًا. ¬

_ (¬1) ومما يدل على نسخ التطبيق أيضًا ما رواه البخاري (790) عن مصعب بن سعد قال: صليت إلى جنب أبي فطبقت بين كفى ثم وضعتهما بين فخذي فنهاني أبي وقال: كنا نفعله فنهينا عنه، وأمرنا أن نضع أيدينا على الرُّكب. (¬2) بالأصل [حسين] وهو تصحيف والصواب هو المثبت كذا في الأصول المخرج منها، وقد قال الترمذي عقب سياق الحديث وأبو حصين، اسمه: عثمان بن عاصم الأسدي. (¬3) أخرجه الترمذي (258)، والنسائي (2/ 185)، وفي الكبرى (623). كلاهما من طريق سفيان، عن أبي حصين به. وقال الترمذي: حسن صحيح.

النوع الخامس في سجود المريض

النوع الخامس في سجود المريض أخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن يونس، عن الحسن، عن أمه قالت: "رأيت أم سلمة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تسجد على وسادة من أدم من رمد بها" (¬1). "الوسادة": المخدة. "والرمد": وجع في العين رَمِدَ يَرْمَدُ رَمَدًا فهو رَمِدٌ، وَأَرْمَدُ العين. و"من" الأولى لتبيين الجنس يريد أن الوسادة هي أدم لا غير من الأشياء التي يعمل منها المخاد. وأما التي في قوله: "من رمد بها" فإنها واقعة موقع اللام، التقدير: لأجل الرمد، ومن أجل الرمد. والذي أراده الشافعي من هذا الحديث: بيان ما يجوز للمريض في السجود، وذلك أن مذهبه في السجود: أنه يجب فيه الطمأنينة والتنكيس، بحيث يكون أسفل ظهره أعلى من رأسه؛ فلو سجد على وسادة وكان رأسه مساويًا لظهره؛ ففيه وجهان لفوات التنكيس، فلو كان به مرض يمنعه من التنكيس، فإن وضعها على يديه لم يجزه؛ لأنه يسجد على ما هو حامل؛ وإن وضعها على الأرض ثم سجد عليها جاز ذلك، فإن لم يستطع أومأ برأسه إيماء. قال الشافعي: ولا يرفع إلى وجهه شيئًا يسجد عليه. ¬

_ (¬1) وأخرجه البيهقي في المعرفة (4356)، وإسناده ضعيف لعلتين: 1 - إبهام الثقة. 2 - أم الحسن هي خيرة مولاة أم سلمة، قال الحافظ: مقبولة.

ثم أخرج في القديم: عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، أن ابن عمر عاد ابن صفوان فحضرت الصلاة، فرآه يصلي على شيء فقال له: "إن استطعت أن تضع وجهك على الأرض فافعل، وإلا فأومئ إيماءً". قال الشافعي: وإن وضع وسادة على الأرض يسجد عليها أجزأه ذلك إن شاء الله. وأخرج حديث أم سلمة. وقد روى سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) عاد مريضًا، فرآه يصلي على وسادة فأخذها فرمى بها، فأخذ عودًا ليصلي عليه فأخذه فرمى به وقال: "صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء؛ واجعل سجودك أخفض من ركوعك" (¬1). وهذا يحتمل أن يكون في وسادة مرفوعة إلى جبهته. ويحتمل أن يكون في وسادة مرتفعة عن الأرض جدًّا، فأما إذا كانت على الأرض وهي قليلة الارتفاع عنها فلا بأس. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في سننه (2/ 306)، وفي المعرفة (4359) من طريق أبي بكر الحنفي عن سفيان به. وقال: هذا الحديث يعد في أفراد أبي بكر الحنفي، وقد تابعه عبد الوهاب بن عطاء، عن الثوري. وعزاه الحافظ في التلخيص (1/ 226) إلى البزار وقال: قال البزار: لا أعلم أحدًا رواه عن الثوري غير أبي بكر الحنفي، ثم غفل فأخرجه من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سفيان نحوه، وقد سئل عنه أبو حاتم فقال: الصواب عن جابر موقوفًا، ورفعه خطأ، قيل له: فإن أبا أسامة قد روى عن الثوري في هذا الحديث مرفوعًا، فقال: ليس بشيء. وانظر علل الحديث (1/ 113).

النوع السادس في جلسة الاستراحة

النوع السادس في جلسة الاستراحة أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: جاءنا مالك بن الحويرث فصلى في مسجدنا قال: "والله إني لأصلي وما أريد الصلاة ولكني أريد أريكم كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فذكر أنه يقوم من الركعة الأولى، وإذا أراد أن ينهض. قلت: كيف؟ قال: مثل صلاتي هذه". أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة بمثله غير أنه قال: "وكان مالك إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة في الركعة الأولى فاستوى قاعدًا؛ قام واعتمد على الأرض". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). فأما البخاري: فأخرجه عن معلى بن أسد، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة وذكر الحديث إلى قوله: كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي. ثم قال أيوب: فقلت لأبي قلابة: وكيف كانت صلاته؟ [قال] (¬5): مثل صلاة شيخنا هذا -يعني عمرو بن سلمة- قال أيوب: وكان ذلك الشيخ يتم التكبير، وإذا رفع من عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام. ¬

_ (¬1) البخاري (823، 824). (¬2) أبو داود (842، 844). (¬3) الترمذي (287)، وغفل المصنف عن ذكر إسناده في شرحه للحديث، وقد أخرجه عن علي بن حجر، عن هشيم بمثل رواية البخاري الثانية. (¬4) النسائي (2/ 233، 234). (¬5) ما بين المعقوفتين غير مثبت بالأصل، والاستدراك من رواية البخاري.

وله في أخرى: عن محمد بن الصباح، عن هشيم، عن خالد , عن أبي قلابة، عن مالك، أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدًا. وأما أبو داود: فأخرجه عن مسدد، عن إسماعيل، عن أيوب بالإسناد ولفظ البخاري. وفي أخرى: عن مسدد، عن هشيم عن [خالد] (¬1) بالإسناد ولفظ البخاري إلا أنه قال: جالسًا (¬2). وأما النسائي: فأخرجه عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل، عن أيوب بالإسناد قال: جاءنا أبو سليمان مالك بن الحويرث إلى مسجدنا فقال: أريد (¬3) أريكم كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، قال: فقعد في الركعة الأولى حين رفع رأسه من السجدة الآخرة. وفي أخرى: عن علي بن حجر مثل الترمذي وقال: قاعدًا (¬4). وفي أخرى: عن محمد بن بشار، عن عبد الوهاب، عن خالد، عن أبي قلابة قال: كان مالك بن الحويرث يأتينا فيقول: ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصلي في غير وقت الصلاة، فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية في أول الركعة استوى قاعدًا ثم قام فاعتمد على الأرض. قوله: "وما أريد الصلاة" يعني أن صلاته هذه ليست فرضًا يؤديه ولا واجبًا فاته فيقضيه، ولا نافلة يتطوع بها؛ لأن نيته لهذه الصلاة ليست للعبادة والتقرب إلى الله -عز وجل- وإنما نيته بها أن يريهم كيف كانت صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين مطموس بالأصل، والاستدراك من سنن أبي داود. (¬2) لفظ أبي داود: [قاعدًا]. (¬3) لفظ السنن (أريد أن ...). (¬4) لفظ النسائي في المطبوع: [جالسًا].

وهذه وإن كانت صلاة؛ إلا أن الجزاء عليها إنما يقع حسب النية فيها. فقوله: "فذكر أنه يقوم من الركعة الأولى، وإذا أراد أن ينهض" يريد [] (¬1) إحداهما ما يفعله عند الفراغ من السجدة الآخرة، والأخرى كيفية النهوض إلى الركعة الثانية. ويوضح ذلك ما جاء في الرواية الثانية؛ من رواية الشافعي وفي روايات الأئمة الباقين المذكورة. وإنما اكتفى بقوله ذلك ولم يبين غرضه؛ لأنه لما قال له: كيف؟ قال: مثل صلاتي هذه. فحيث قد شاهد صلاته ورآه كيف صلى، فلم يحتج أن يفصل له ذلك اعتمادًا على ما رآه من صلاته. وقوله في الرواية الثانية: "من الركعة الأولى" لأن غرضه إنما هو جلسة الاستراحة، والنهوض إلى الركعة الثانية. وقوله: "فاستوى قاعدًا" قام بتبيين لأحد الحكمين وهو كيفية القيام، إلا أنه أبان عنه بيانًا مقصودًا إليه، وأبان عن الحكم الآخر وهو جلسة الاستراحة؛ بيانًا غير مقصود إليه بقوله: "فاستوى قاعدًا" وهذا البيان وإن لم يكن مقصودًا إليه في اللفظ؛ فإنه أقوى في الإيضاح من البيان المقصود إليه؛ لأنه أورده معطوفًا بالفاء على قوله: "رفع رأسه من السجدة الآخرة" فأخذه مُسَلَّمًا مفروغًا منه، كأنه ثابت مستقر مفهوم لا يحتاج إلى استئناف بيان. والاعتماد على الشيء: الاتكاء عليه وهو افتعال من العماد والعمدة لما يعتمد عليه، أراد أنه إذا قام اتكأ بيديه على الأرض وقام. والواو في "واعتمد" واو الحال، أي قام وهو معتمد على الأرض، إلا أن هذه الواو مع الفعل الماضي لا تحسن إلا ومعها "قد"؛ إما مظهرة وإما مقدرة أي قام وقد اعتمد على الأرض. ¬

_ (¬1) طمس في الأصل بقدر كلمة.

فأما من جعل الواو للعطف، فإنما يجوز إذا كان لا يجعل الواو للترتيب. فأما من جعلها تفيد الترتيب فلا يجوز؛ لأن الاعتماد على الأرض قبل القيام يقول: قام واعتمد؛ إنما يقول: اعتمد وقام، فجعل الواو للحال أولى لذلك. وقوله: "إذا كان في وتر من صلاته" الوتر للفرد، والمراد به هاهنا: الركعة الأولى من الصلاة الثنائية والثلاثية والرباعية، والركعة الثالثة من الصلاة الرباعية؛ فإنها وتر أيضًا. وقوله في رواية النسائي: "في أول الركعة" وإنما هو في آخر الركعة يريد في الركعة الأولى؛ فقدم الصفة على الموصوف. والذي ذهب إليه الشافعي -في رواية المزني-: أنه إذا رفع المصلي رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى، ومن الركعة الثالثة من الصلاة الرباعية، جلس مستويًا قبل أن يقوم إلى الركعة الثانية وإلى الرابعة؛ وهي جلسة الاستراحة، وهي مستحبة عنده. وقال في الأم: يقوم من السجدة الثانية، ولم يأمر بالجلوس. فقال بعض أصحابه: إن ذلك على اختلاف حالين: إن كان كبيرًا ضعيفًا جلس للاستراحة، وإن لم يحتج إلى ذلك قام من غير جلوس. فقال بعض أصحابه: في المسأله قولان: أحدهما: لا يجلس. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وروي ذلك عن: عبد الله بن مسعود، وابن عمر، وابن عباس. وأما بقية القيام: فقال الشافعي: إذا أراد القيام من الركعة الثانية ومن جلسة الاستراحة؛ فإنه يقوم معتمدًا على يديه. وحكي ذلك عن: ابن عمر، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق.

وقال أبو حنيفة والثوري: لا يعتمد على يديه، بل ينهض معتمدًا على صدور قدميه، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. تم الجزء الأول من كتاب "الشافي في شرح مسند الشافعي" رضي الله عنه بعون الله وحسن توفيقه يتلوه في الجزء الثاني: النوع السابع في دعاء الركوع، والسجود، والقيام من الركوع وبين السجدتين. وكان الفراغ من نسخه يوم السبت [لتسع] (¬1) بقين من رمضان المعظم عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة والحمد لله وحده والصلاة التامة على سيدنا محمد وآله والرضا عن أصحابه ¬

_ (¬1) في الأصل [التاسع] والمثبت هو الأقرب للسياق.

الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ مَجْد الدِّيِنْ أبي السَّعادَاتْ: المباركْ بْن محمَّد بْن عَبْد الكريم الجزْريْ تحِقْيقْ أحمَدْ بْن سُليمان أبْي تميم يَاسر بْن إبْرَاهيم الجزْءُ الثَّاني مَكتَبةَ الرُّشْدِ نَاشِروُنْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشَّافِيْ فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْن الأثِير مَجْد الدَّينْ أبي السَّعادَاتْ: المباركْ بْن محمَّد بْن عَبْد الكريم الجزْريْ

جميْع الحقوقْ محفوظة الطَّبْعَةُ الأولى 1426هـ - 2005مـ مَكتَبةَ الرُّشْدْ نَاشِروُنْ المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17552 الرياض 11494 هاتف 4593451 فاكس 4573381 Email :[email protected] website: www.rushd.com * فرع طريق الملك فهد: الرياض - هاتف 2051500 فاكس 2052301. * فرع مكة المكرمة: هاتف 5585401 فاكس 5583506. * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - هاتف 8340600 فاكس 8383427. * فرع جدة: ميدان الطائرة - هاتف 6776331 فاكس 6776354. * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - هاتف 3242214 فاكس 3241358. *فرع أبها: شارع الملك فيصل - تلفاكس 2317307. * فرع الدمام: شارع الخزان - هاتف 8150566 فاكس 8418473. وكلاؤنا في الخارج القاهرة: مكتبة الرشد - ت 2744605. بيروت: دار ابن حزم هاتف 701974. المغرب: الدار البيضاء - وراقة التوفيق - هاتف 303162 فاكس 303167. اليمن: صنعاء - دار الآثار - هاتف 603756. الأردن: عمان - الدار الأثرية 6584092. البحرين: مكتبة الغرباء - هاتف 957833 - 945733. الإمارات: مكتبة دبي للتوزيع هاتف 43339998 فاكس 4337800. سوريا: دار البشائر 2316668. قطر: مكتبة ابن القيم - هاتف 4863533.

صلاتك ولم يقل مكانًا حتى سكت على قوله: "في بيتي" ثم قال: "اتخذه مصلى" جاز عود الضمير في "اتخذه" إلى البيت لا إلى المكان الذي صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، فلما قال: مكانًا عاد الضمير إليه؛ واختص بالمكان الذي يصلي فيه من بيته. "واتخذه" يجوز: أن يكون مرفوعًا لأنه صفة المكان. ويجوز: أن يكون مجزومًا لأنه جواب الأمر. والمصلَّى: موضع الصلاة لأن ما زاد من الأفعال على الثلاثي فإن الموضع، والوقف، والمصدر، واسم المفعول فيه سواء على المفعل (بضم الميم وفتح العين) نحو: المدخل، والمكرم، والمستخرج. وفي هذا الحديث من الفقه سوى جواز ترك الجماعة للعذر، وسوى كون هذه الأشياء المذكورة عذرًا: اتخاذ موضع من البيت مسجدًا، وإقامة الجماعة في البيوت. وجواز استدعاء الصغير الكبير إلى منزله لغرض يخصه، وإجابة الكبير للصغير في استدعائه وسؤاله. والذي أراده الشافعي من هذا الحديث هاهنا: جواز إمامة الأعمى بدليل أنه أورد الرواية الثانية واقتصر منها على قوله: "إنه كان يؤم قومه وهو أعمى" لم يزد على هذا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن إمامة الأعمى جائزة كالبصير، ولم يرجح أحدهما على الآخر لأنه قال في كتاب "الإمامة": الأعمى والبصير في الإمامة سواء. وقد اختلف أصحابه أيهما أولى؟ فقال قوم: البصير أولى لأنه يتوقى النجاسات. وقال قوم: الأعمى أولى لأنه أخشع في صلاته من البصير.

• إمامة العبد •

وأما من رجح البصير فإنه اتبع الظاهر، وراعى قشر الصلاة، وأما من رجح الأعمى فإنه اتبع الباطن وراعى لب الصلاة، وقصد الغرض الذي شرعت الصلاة لأجله: والله أعلم. وقال بجواز إمامة الأعمى معظم العلماء. وروي عن ابن عباس أنه قال: كيف أؤم وهم يعدلوني إلى القبلة. وروي عن أنس بن مالك أنه قال: وما حاجتهم إليه. قال الشافعي: سمعت عددًا من أهل العلم يذكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستخلف ابن أم مكتوم وهو أعمى فيصلي بالناس، في عدة غزوات: والله أعلم. إمامة العبد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز [عن ابن] (¬1) جريج قال: أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة أنهم كانوا يأتون عائشة -أم المؤمنين- بأعلاء الوادي هو وعبيد بن عمير، والمسور بن مخرمة وناس كثير، فيؤمهم أبو عمرو -مولى عائشة- وأبو عمرو غلامها حينئذٍ لم يعتق، قال: فكان إمام بني محمد بن أبي بكر، وعروة. قوله: "أعلاء الوادي": يريد وادي مكة، كانوا يأتون عائشة يزورونها فيه، ويسمعون منها ويستفتونها. وذلك عندما كانت تحج، أو لما خرجت مغاضبة لعثمان بن عفان في السنة التي قتل فيها. "والعتق": تحرير رقبة العبد من الرق تقول: أعتقت العبد فهو معتق. وعتق هو يعتق عتقا وعتاقة فهو عتيق وعاتق إذا صار حرا، وفلان مولى عتاقة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [عن] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب وكذا جاء في مطبوعة السندي برقم (314).

• إمامة الأعجمي •

بالإضافة، ومولى عتق بالتنوين، والغلام: الخادم، والأنثى غلامه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن العبد يجوز له أن يؤم الأحرار والعبيد في كل صلاة، وبه قال أكثر العلماء. وحكي عن أبي مجلز أنه كره إمامة العبد. وقال مالك: لا يؤمهم إلا أن يكون قارئًا، ومن معه من الأحرار لا يقرءون. قال: ولا يؤم في جماعة ولا عيد. وحكي عن الأوزاعي أنه قال: أربعة لا يؤمون الناس فذكر العبد إلا أن يؤم أهله. ومع جواز إمامته فالحر أولى منه. وقوله: "فكان إمام بني محمد وعروة" يعني أنه كان لهم إمامًا راتبًا. إمامة الأعجمي أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا عبد المجيد، عن [ابن] (¬1) جريج قال: أخبرني عطاء قال: سمعت عبيد بن عمير يقول: اجتمعت جماعة فيما حول مكة قال: حسبت أنه قال: في أعلاء الوادي هاهنا في الحجر قال: فحانت الصلاة فتقدم رجل من بني أبي السائب أعجمي اللسان قال: فأخره المسور بن مخرمة وقدم غيره، فبلغ عمر بن الخطاب فلم يعرِّفه بشيء حتى جاء المدينة، فلما جاء المدينة عرَّف بذلك فقال المسور بن مخرمة: أنظرني يا أمير المؤمنين إن الرجل كان أعجمي اللسان وكان في الحج، فخشيت أن يسمع بعض الحاج قراءته فيأخذ بعجمته. فقال: هنالك ذهبت بك؟ فقال: نعم. فقال: قد أصبت. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [أم] وهو تصحيف والصواب هو المثبت، وكذا في مطبوعة السندي (322)

وفي نسخة: هنالك ذهبت بها؟. قوله: "في أعلاء الوادي وفي الحج": بيان لما أجمله، أو لأنه قال: اجتمعت جماعة فيما حول مكة" وهذا عام في المكان والوقت، ثم إنه خصص المكان بقوله: في أعلاء الوادي، وخصص الوقت بقوله: في الحج. وحان الشيء: إذا قرب وقته والمراد به دخول وقت الصلاة. "والأعجمي": الذي لا يفصح لسانه وإن كان عربي الأصل. وقد تقدم بيان ذلك مستوفى؛ وذكرنا الفرق بن الأعجمي والعجمي، والأعراب والعربي. وأراد بالتقدم والتأخر: التقديم (¬1) بالإمامة والتأخر عنها. وقولى: "فلم يعرفه بشيء" أي: لم يعلمه أنه سمع ما بلغه عنه، تقول: عرفت زيدًا، أي: جربته، وعرفت زيدًا، أي: أعلمته، وعرفته بكذا. وإنما أخر إعلامه بذلك إلى المدينة؛ لأن مكة في الموسم تجمع أخلاط الناس من البلاد؛ وكان عمر أراد أن ينكر على المسور فعله، فلو فعل لانتشر ذلك عنه وتناقلته الرفاق، فأراد عمر أن يرفق به ولا يظهر عنه أنه أخطأ في فعله؛ فأخر تعريفه في المدينة. وقوله: "انظرني" أي: أخرني ولا تعجل عليَّ في الإنكار؛ حتى أقوم بعذري. فذكر له السبب الباعث في تأخيره وتقديم غيره؛ وهو المعجمة التي كانت في لسانه. فلما سمعها عمر قَبِلَ عذره وقال له: قد أصبت. وقوله: "هنالك ذهبت بك وبها" أي عند ذلك الغرض الذي ذكرت ذهبت بصنيعك الذي صنعت، وفعلت لك التي فعلت من تأخير واحد وتقديم آخر. ¬

_ (¬1) بالأصل: "والتقديم"، بزيادة الواو وحذفها أنسب للسياق.

إمامة المرأة

والذي ذهب إليه الشافعي: كراهة إمامة الأعجمي. وبيان المذهب: أن الإمام إذا لحن في قراءته؛ فإن كان لحنًا لا يحيل المعنى صحت صلاته وصلاة من خلفه، لكن يكره أن يكون إمامًا. وإن كان لحنه يحيل المعنى نظرت: فإن كانت في الفاتحة صحت صلاته دونهم. وقال في موضع آخر: لا تصح صلاته ولا صلاتهم. وليست المسألة على قولين؛ إنما على اختلاف حالين: فالأولى: إنما هي إذا كان لسانه لا يطاوعه على الصواب فحينئذٍ تصح صلاته. والثانية: لمن يمكنه أن يتعمد الصواب ولا يفعله. وان كان اللحن فسواء حال المعنى أو لم يحله فإن الصلاة تصح وتصح، إلا أن يكون كفرًا وقد تعمده؛ هذا حكم اللحن. وأما إن كان لسانه أعجميًا ويبدل الحرف بحرف غيره؛ ولا يمكنه النطق به إلا كذلك، فحكمه حكم اللحن الذي يحيل المعنى. والله أعلم. إمامة المرأة أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمار الدهني، عن امرأة من قومه يقال لها حجيرة، عن أم سلمة "أنها أمتهن فقامت وسطهن (وفي نسخة) فقامت وسطًا". قال الشافعي (¬1): وروى ليث بن سليم، عن عطاء، عن عائشة "أنها صلت بنسوة العصر فقامت وسطهن". قال: وروى صفوان بن سليم: "من السنة أن تصلي المرأة للنساء تقوم وسطهن". قال الشافعي: فكان علي بن حسين يأمر جارية له تقوم بأهله في رمضان. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 164).

وكانت عمرة تأمر المرأة أن تقوم للنساء في شهر رمضان. وقد روت أم ورقة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أو أذن لها أن تؤم أهل دارها. وكانت [قرأت] (¬1) القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬2). وتقول جلست وسْط القوم بالتسكين، وجلست وسَط الدار بالفتح، وكل موضع صلح فيه بين فهو ساكن السين، وإن لم يصلح فيه فهو متحرك فربما سكن وليس بالوجه، والضابط فيه: أن كل ما كان متصل الأجزاء فهو متحرك به؛ وما كان منفصل الأجزاء ساكن. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المرأة لا يجوز أن تكون إمامًا للرجل. وبه قال عامة الفقهاء. إلا ما حكي عن أبي ثور، والمزني، ومحمد بن جرير الطبري فإنهم قالوا: يجوز في التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال. ويجوز أن تكون إمامًا للنساء؛ وتستحب الجماعة لهن وبه قال عطاء، والأوزاعي، والثوري، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك: يكره لهن. وحكي عن نافع وعمر بن عبد العزيز. وإذا صلت المرأة بالنساء وقفت وسطهن، ولا يعرف فيه خلاف عند من استحب لهن الجماعة، فإن تقدمت عليهن كره لها ذلك وصحت صلاتها وصلاتهن. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [قدرأت] وهو تصحيف والمثبت من مصادر التخريج والأصول التي نقل منها وستأتي. (¬2) أخرجه أحمد (6/ 405)، وأبو داود (591، 592) وغيرهما من طريق الوليد بن جميع قال: حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاد عنها به مطولاً. والطريق الثاني عند أحمد بإسقاط عبد الرحمن بن خلاد، ورواية أبي داود الثانية بإسقاط (جدته) قال المنذري في مختصره (1/ 307): في إسناده الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي، وفيه مقال، وقد أخرج له مسلم. وقال ابن القطان في الوهم والإيهام (5/ 23) -متعقبا عبد الحق في أحكامه-: أستبعد عليه تصحيحه, فإن حال عبد الرحمن بن خلاد مجهولة، وهو كوفي، وجدة الوليد كذلك لا تعرف أصلاً.

إمامة من لا تحمد حاله

إمامة من لا تحمد حاله أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن نافع "أن ابن عمر [اعتزل] (¬1) بمنى في قتال ابن الزبير والحجاج بمنى، فصلى مع الحجاج. "الاعتزال": الانفراد عن الجماعة والاسم العزلة. "ومنى": لهذا الموضع المعروف يصرف ولا يصرف؛ فمن صرفه فلأنه أراد به الموضع وهو مذكر. ومن لم يصرفه فلأنه أراد به البلدة؛ فاجتمع فيه علتان التعريف والتأنيث. وقال (¬2) الحجاج لعبد الله بن الزبير من قبل عبد الملك بن مروان، وذلك في سنة إحدى وسبعين. والمراد: أن عبد الله بن عمر كان قد مضى حاجًّا؛ فصادف الحجاج يحارب ابن الزبير في أيام الموسم؛ فاعتزل القتال ولم يكن مع إحدى الطائفتين. قال الشافعي: ومن صلى صلاة من بالغ مسلم يقيم الصلاة أجزأه ومن خلفه صلاتهم، وإن كان غير محمود الحال في دينه أي غاية بلغ يخالف الحمد في الدين؛ وقد صلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف من لا يحمدون فعاله من السلطان وغيره قال: وأكره إمامة [الفاسق والمظهر للبدع المبدع، ولا يعيد من ائتم بهما] (¬3). وقال مالك: لا تصح الصلاة خلف الفاسق بغير تأويل، والفاسق بتأويل يعيد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [اعتمر] وهو تصحيف وجاءت بعد قليل في شرح الروايه على الجادة وكذلك في مطبوعة السندي (323). (¬2) كذا كان بالأصل والظاهر أنها مصحفة من [وقتال]. (¬3) ما بين المعقوفتين في الأصل جاءت مكررة، لكن جاءت في سياق كلام مالك الآت عقب قوله [... والفاسق ...].

في الوقت. وعن أحمد في الفاسق روايتان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، عن أبيه "أن الحسن والحسين عليهما السلام [كانا] (¬1) يصليان خلف مروان، قال: فقال: ما [كانا] (1) يصليان إذا رجعا إلى [منازلهما] (¬2)؟ فقال: لا والله ما [كانا] (1) يزيدان على صلاة الأئمة". وهذا الحديث مؤكد لما سبق للحديث قبله، فإن الحسن والحسين على جلالة قدرهما وعلو مكانهما، واستيلائهما على أسباب التقدم جميعها، إذا صليا خلف مروان بن الحكم؛ وهو يومئذ أمير على المدينة من قبل معاوية بن أبي سفيان دل ذلك على جواز إلائتمام بمن لا تحمد حاله، وشد من أعضاد هذا المعنى استفسارة عنهما هل كانا يعيدان صلاتهما في منازلهما؟ فقال: لا؛ لأنهما لو لم يعلما أن صلاتهما وراء مروان صحيحة لأعاداها. وإنما استفسر عن ذلك؛ لأنه ظن أن صلاتهما وراء مروان كان تقية؛ وخوفًا من أذى يلحقهما لو تركا الصلاة وراءه، ومعاذ الله من ذلك، فإنهما أعلى قدرًا وأعظم دينًا؛ أن يداهنا أحدًا من خلق الله -تعالى- في دينهما. ولنزد بيان المذهب إيضاحًا: وذلك أن الفاسق من المسلمين بارتكاب الكبائر وإظهار البدع في الدين؛ والطعن علي السلف الصالحين من الخوارج والقدرية والمرجئة؛ والداعي إلى هواه ومن يجري مجراهم؛ تكره الصلاة خلفه فإن صلى صحت صلاته. وقال أحمد: من صلى خلف [الجهمي] (¬3) يعيد، والمرجئ إذا كان داعيًا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [كان] وهو تصحيف والمثبت من مطبوعة السندي (324). (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [منازلهم] وهو تصحيف والمثبت من مطبوعة السندي. (¬3) ما بين المعقوفتين بالأصل [الجهني] وهو تصحيف وما أثبتناه هو الموافق لمقتضى السياق.

إلى هواه لا يصلى خلفه، والقدري إذا كان يرد الأحاديث يعيد من صلى خلفه. قال ابن المنذر: كل من أخرجته بدعته إلى الكفر لم تجز الصلاة خلفه، ومن لم يكن كذلك فالصلاة خلفه جائزة، ولا يقدم من هذه صفته. وفي الحديث من الفقه: أن الوالي أحق بالإمامة من غيره؛ لأن ابن عمر مع فقهه، وقراءته، وهجرته ونسبه، وشرفه، وصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك من الأسباب التي لا يتقدم بها الإنسان على غيره، صلى وراء الحجاج على ما كان عليه من الأمور التي توجب تأخره لولا الإمارة، وكذلك الحسن والحسين مع مروان. ***

الفرع الثاني في أولى الناس بالإمامة

الفرع الثاني (*) في أولى الناس بالإمامة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب عن أبي قلابة قال: حدثنا أبو سليمان مالك بن الحويرث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي؛ فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". هكذا رواه الربيع مختصرًا. فقد رواه المزني عنه بالإسناد قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناس ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرون ليلة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلينا واشتقنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه فقال: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم. فذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". وروى الربيع عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا وحاجب، فلما أردنا الإقفال من عنده قال لنا: "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن سليمان (¬2) بن حرب، عن حماد بن زيد، ¬

_ (¬1) البخاري (689). (¬2) في الأصل [ابن سليمان] وزيادة [ابن] مقحمة، ولا وجه لها والصواب حذفها، كذا جاء عند البخاري. (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ويظهر والله أعلم حصول سقط من الفرع السابع من الفصل السادس، وجزء من الفصل السابع وبداية الفرع الأول.

عن أيوب وذكر نحو رواية المزني وقال فيها: لو رجعتم إلى بلادكم فعلمتموهم، مروهم فليصلوا كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا. وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب وذكر [رواية] (¬2) المزني. وأخرج رواية الربيع الآخرة: عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن عبد الوهاب. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسدد، عن مسلمة بن محمد، وإسماعيل عن خالد، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ولصاحب له: "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما ثم ليؤمكما أكبركما". وفي حديث مسلمة قال: وكنا يومئذٍ متقاربين في العلم. وفي حديث إسماعيل: قال خالد: "قلت لأبي قلابة: فأين القراءة؟ قال: إنهما كانا متقاربين. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، عن مالك قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وابن عم لي فقال لنا: إذا سافرتما فأذنا وأقيما فليؤمكما أكبركما". وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن حاجب بن سليمان، عن وكيع مثل الترمذي وزاد قال مرة: أنا وصاحب لي، بدل ابن عم لي. قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فيه مجرد الأمر بالصلاة بقوله "صلوا" ¬

_ (¬1) مسلم (674). (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [واايه] وهو تصحيف، والمثبت هو الموافق للرسم والسياق. (¬3) أبو داود (589). (¬4) الترمذي (205) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (2/ 8، 77).

والأمر على الوجوب. وقوله: "كما رأيتموني أصلي" تخصيص للأمر العام بالصلاة، أي صلوا صلاة مثل الصلاة التي رأيتموني أصليها، وهذا أمر مجمل حوى جميع أوصاف الصلاة: فرضها، وسنتها، وهيئتها من أولها إلى آخرها: "فليؤذن لكم أحدكم" هذا أمر على العموم من غير تخصيص لأحد بالأذان، فأيهم أذن أجزأ بخلاف قوله: "وليؤمكم أكبركم" فإنه خص الإمامة بالكبر وهو كبر السنن. "والشببة": جمع شاب مثل: طالب وطلبة، وكافر وكفرة، وشاب: اسم فاعل من شب يشب شبابا فهو شاب. "والرفيق": اسم فاعل من الرفق ضد العنف، تقول: رفق به يرفق فهو رفيق. وقد جاء في روايه البخاري: "لو رجعتم إلى بلادكم فعلمتموهم" وهو من أحسن الألفاظ وأشرفها التي تحصل المعنى المطلوب من الخاطب، والمخاطب على ألطف وضع وأكمل حالة، وذلك كأنه - صلى الله عليه وسلم - تلمح منهم ميلهم إلى العود والرجوع إلى أوطانهم. وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يريد منهم ذلك لأمرين: أحدهما: إيناسهم وتخفيف كلفة الغيبة عليهم، ولئلا ينفروا من الإسلام لو طال مقامهم عنده أو منعهم من العود. والثاني: وهو الأهم عنده والأدعى إليه عودهم إلى أهليهم ليعلموهم أمر الإسلام وشرائعه، فاجتمع في ذلك هذه الأغراض المتعلقة به وبهم، فلم يقل لهم: عودوا إلى أوطانكم، ولا ارجعوا إلى بلادكم، ولا علموا أهليكم ما عليهم من الفرائض. وإنما عدل من هذه العبارة وما فيها من غلظه الأمر الحازم، والتكليف لميثاق الواجبات فقال: "لو رجعتم إلى بلادكم فعلمتوهم" فأتى بأحسن عبارة، وألطف لفظ، وأشرف خطاب، جمع الأغراض المشار إليها حتى كان المنبه لهم

عليه في رجوعهم، الذي هو أكبر أغراضهم ومقاصدهم، حيث جاء بلفظ السؤال والعرض المترفع. ثم قوله: "فعلمتموهم" لم يأت به بلفظ الأمر وجاء به بلفظ الخبر؛ لئلا يكونوا مع كلفة مشقة التعليم مأمورين به. ثم لما أراد أن يصدر الأمر الذي يثبت عندهم وجوب المأمورية؛ وإلا كانوا يظنونه غير واجب حيث لم يجئ بلفظ الأمر، قال عقيب هذه الألفاظ اللطيفة: "مروهم فليصلوا كذا في حين كذا" فجعلهم آمرين وأولئك مأمورين، مجمع بين تفضليهم عليهما بالأمر ليهون ذلك عليهم؛ وبين جعل أولئك مأمورين ليتحقق وجوبها المأمور به. وقوله: "فليصلوا كذا" أي كذا ركعة إما أربعًا، أو ثلاثًا أو اثنتين. وقوله: "في حين كذا" أي وقت الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء أو الصبح. فقوله: "فليصلوا صلاة كذا" أي صلاة الظهر والصبح وغيرهما, وليس هذان اللفظان من قبيل التكرار الذي يفيد تأكيدًا وبيانًا فحسب؛ بل كل واحد منهما له معنى جىء به من أجله ليس في الآخر. أما الأول وهو قوله: "فليصلوا كذا" فإنما ساقه لبيان عدد ركعات كل صلاة؛ وإن لم يعرف المخاطب اسم الصلاة، أي صلوا أربع ركعات بعد الزوال، وثلاثًا بعد المغرب، واثنتين بعد طلوع الفجر؛ وهذا خطاب أول لمن يعرف أسماء الصلوات؛ وإن واحدة منها تسمى صلاة الظهر والأخرى صلاة العصر، ولا يعرف عدد ما عليه من الركعات المفترضة في كل وقت. فجمع هذا اللفظ بين إعلام عدد الركعات المفترضة؛ وبين أوقاتها. وأما اللفط الثاني وهو: "صلوا كذا في حين كذا" فإنه مسوق لبيان أوقات

الصلوات التي عرفها المخاطب؛ وعرف مقدار ركعاتها وأسمائها، وإنما كان جاهلاً بأوقاتها. فلذلك جمع بين هذين اللفظين في البيان، ليكون كل واحد منهما واردًا على من يختص به من المخاطبين، فإن لفظة "كذا" مبهمة يشار بها إلى كل مسمى لا يفصح باسمه. فوقعت في اللفظة (¬1) الأول على العدد، وفي الثاني على اسم الصلاة. وقوله: "ونحن شببة متقاربون" يريد التقارب في الأعمار لا يكبر أحدنا الآخر بكثير. وقد جاء في رواية أبي داود قال: "يومئذٍ متقاربون في العلم" وقال في روايته الأخرى: "في القراءة". وقوله: "فلما ظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا" يجوز أن يكون الظن هاهنا على بابه، ويجوز أن يكون بمعنى العلم وهو الأشبه لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد علم منهم ميلهم إلى أوطانهم. والشوق والاشتياق: نزاع النفس إلى الشيء وطلبها وإياه (¬2) تقول: شاقني الشيء يشوقني، واشتقته، واشتقت إليه بمعنًى. والأهلون: جمع أهل وإنما جمع بالواو والنون لأن الأهل يقع على الذكر والأنثى فغلب الذكر، وقد جاء في الشعر مطلقًا على الأناسي قال الشنفري (¬3): ولى دُونَكم أهْلُونَ سيدُ عَملَّس ... وأَرْقَطُ ذُهْلُولٌ وعرفَاء جيأَلُ ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، والأحسن: اللفظ. (¬2) كذا بالأصل، والظاهر أن الواو زائدة وانظر اللسان مادة شوق. (¬3) وانظر منحة الجليل بتحقيق ابن عقيل للعلامة: محمد محيى الدين عبد الحميد (1/ 63).

وإذا جاز له ذلك لأنه لما ذكر أهله؛ وأنه قد استبدل بهم غيرهم من الوحش قال: ولي دونكم أهلون لذلك. "والإقفال" (بكسر الهمزة) يريد به الرجوع من السفر، هكذا جاء في الحديث. والمعروف في اللغة: قفل المسافر يقفل قفولاً، إذا رجع والقافلة: الرفقة الراجعة من السفر. فأما أقفلت فلا أعرفه إلا من قولهم: أقفلت الجند من مبعثهم إذا أذنت لهم في الرجوع؛ كأنك حملتهم على القفول، وكذلك هاهنا كأنهم قالوا: حملنا أنفسنا على القفول وعرضناها له، كما تقول: أبعث الثوب أي عرضته للبيع، وأشريت فلانًا الثوب أي حملته على شرائه. وقوله: "فأذنا ثم أقيما" ظاهرة يدل على الأمر لهما معا بالأذان والإقامة. ويجوز أن يطلقه على كل واحد منهما لا على التعيين؛ لأنك إذا قلت لجماعة: اضربوا زيدًا فضربه بعضهم دون بعض؛ كانوا قد امتثلوا الأمر لأن عرضك إنما هو وقوع الضرب بزيد وقد حصل؛ ولم يرد أن يضربه كل منهم. وعليه قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬1) فهو وإن كان أمرًا للكافة إلا أنه إذا قتلهم بعضهم حصل الامتثال بحصول القتل. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أذنا وأقيما" أي أن الأذان والإقامة مأمور بهما للمسلمين كافة؛ ومتى حصلا من البعض أغنى الباقين لوجودهما. وهذا مطرد في جميع المأمورات الشرعية إذا وردت عارية من الضوابط والتخصيصات؛ ولم يتعقبها بيان وإيضاح من الشارع ونقصان، أو تفصيل، أو إجمال، أو تخصيص، أو تعميم أو إطلاق ونحو ذلك من أحكام الشرع الواردة في أماكنها. والذي جاء في رواية أبي داود: "كانا متقاربين في العلم"، "وكانا متقاربين ¬

_ (¬1) التوبة (5).

في القراءة بيان لأنه إنما قال: "ليؤمكما أكبركما" لعلمه أنهما لم يتفاضلا في العلم والقراءة، فإن القراءة والعلم يقدمان في الإمامة على السنن على ما سيأتي بيانه. وقوله في رواية الترمذي: "إذا سافرتما فأذنا" فيه دليل على أن الأذان في السفر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الأكبر في السنن مقدم على الأصغر؛ والأسباب التي يستحق بها التقديم في الإمامة: الفقه، والقرآن، والهجرة، والشرف، والسن. فأما الفقه والقرآن: فمقدمان على الثلاثة الأخرى. وفي تقديم الفقيه على القارئ؛ والقارئ على الفقيه خلاف مرجعه إلى مسيس حاجة الصلاة إلى الفقه أكثر من القراءة ومسيس حاجتها إلى القراءة حيث هي ركن من أركانها. وبتقديم الفقيه قال أبو حنيفة والأوزاعي وأبو ثور، وبتقديم القارئ قال الثوري، وأحمد، وإسحاق. والأول أولى؛ لأن القدر الواجب من القراءة لا يترجح به على الفقه؛ والزيادة على قدر الواجب من القراءة لا يقع معارضًا للفقه؛ لمسيس حاجة المصلي في الصلاة إليه. وأما الأسباب الثلاثة الباقية فاختلف قول الشافعي فيها: قال في القديم: النسب والهجرة ثم السنن. وقال في الجديد: السن ثم النسب ثم الهجرة، فإن استويا في هذه الأوصاف قدم أورعهم وأدينهم. ومعنى التقديم بالهجرة: أن يكون أقدمهم هجرة، أو يكون بالجملة مهاجرًا مع غير مهاجرى، أو يكون من أولاد من تقدمت هجرته.

وأما التقديم بالنسب: فبنو هاشم من قريش، ثم بنو المطلب ثم قريش على غيرهم. قال إمام الحرمين: يرجع ضبط الكلام في الأولوية إلى أن السلطنة مقدمة على كل إمام؛ ثم المالك للموضع؛ فإن لم تكن ولاية ولا مالك فالذي يختص بالصلاة القراءة والفقه. وقد ذكرناهما وما قيل فيهما. وأما الورع وإن لم يكن شرطًا في صحة الصلاة؛ فله تعلق عظيم بثقة المقتدي وحسن ظنه في رعاية الإمام. شرائط الصلاة ثم السن والنسب لا تعلق لهما بالصلاة، ولكنهما من موجبات التقديم. وتحقق قول إمام الحرمين أن الشافعي لما روى حديث مالك بن الحويرث قال: هؤلاء قوم قَدِموا معًا فأشبهوا أن تكون قراءتهم وفقههم سواء فأمروا أن يؤمهم أكبرهم. وبهذا نأخذ فنأمر القوم إذا اجتمعوا في الموضع ليس فيهم والٍ، وليسوا في منزل أحد؛ أن يقدموا أقرأهم إذا كان يعلم من الفقة ما (¬1) يلزمه في الصلاة، ويقدموا هذين معًا على من هو أسن منهما. وأشار إلى حديث أبي مسعود الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله؛ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة؛ فإن كانوا في السنه سواء فأقدمهم هجرة؛ فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًّا, ولا يؤمن الرجل في سلطانه، ولا يجلس على [تكرمته] (¬2) إلا بإذنه" (¬3). قال الشافعي: وإنما قيل -والله أعلم- أن يؤمهم أقرؤهم "أن من مضى من الأئمة كانوا يُسْلمون كبارًا فيفقهون قبل أن يقرءوا، ومن بعدهم كانوا يقرءون ¬

_ (¬1) في الأصل [ما لم] وهي زيادة غربية والمعنى غير مستقيم بإثباتها. (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [تركته] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب كذا جاء في الأصول المخرج فيها ومعنى تكرمته، أي: فراشه. (¬3) أخرجه مسلم (673) وغيره.

صغارًا قبل أن يتفقهوا". فأشبه أن يكون من كان فقيهًا، إذا قرأ من القرآن شيئًا أولى بالإمامة؛ لأنه قد بينو به في الصلاة ما يعلم كيف يفعل فيه بالفقه؛ ولا يعلمه من لا فقه له. فإذا استووا في الفقه والقراءة أمهم أسنهم. وإنما أمر بتقديم الأسن -والله أعلم لأنهم كانوا مشتبهي الحال في القراءة والعلم. أخبرنا الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرنا معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود قال: "من السنة أن لا يؤمهم إلا صاحب البيت". قوله: "من السنة": من ألفاظ ذلك أن يقول الراوي: السنة كذا وكذا، والسنة كذا وكذا، والسنة جارية بكذا ونحو ذلك من الألفاظ. فإن مراتب الرواية خمس أعلاها: أن يقول الراوي: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -. والثالثة: أن يقول: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بكذا ونهى عن كذا. والرابعة: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، والسنة كذا أو من السنة كذا. والخامسة: أن يقول: كانوا يفعلون كذا وكنا نفعل كذا. وهذه المراتب الخمس داخلة في جملة المسندات؛ محتج بها مخرجة الأحاديث التي جاءت بها في المسانيد. فأما إذا قال الراوي: أخبرت عن فلان، أو حدثت عنه؛ أو بلغني أو رفعه فلان، أو أظنه مرفوعًا، فإنَّ هذا وأمثاله ليس بمسند وإن كان الحديث المخرج به صحيحًا فإنه يكون إما مرسلاً؛ أو موقوفًا؛ أو منقطعًا أو غير ذلك من أنواع الحديث.

والذي ذهب إليه الشافعي: أن صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره؛ وإن كان غيره أفقه منه وأقرأ. ويتنزل منزله من تقدمه المالك أو يأذن له. وقد تقدم تفصيل المذاهب في ذلك. قال الشافعي (¬1): وروي "أن نفرًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في بيت رجل منهم فحضرت الصلاة؛ فقدم صاحب البيت منهم رجلاً فقال: تقدم فأنت أحق بالإمامة في منزلك". وهؤلاء هم: أبو ذر، وحذيفة، وابن مسعود دعاهم أبو سعيد -مولى الأنصار فلما حضرت الصلاة؛ تقدم أبو ذر ليصلي بهم، فقال له حذيفة: تأخر يا أبا ذر فقال أبو ذر: كذلك يا ابن مسعود أو يا أبا عبد الرحمن؟ قال: نعم فتأخر (¬2). وأخبرنا الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال: أقيمت الصلاة في مسجد بطائفة المدينة، ولابن عمر قريب من ذلك المسجد أرض يعملها، وإمام ذلك المسجد مولى له، ومسكن ذلك المولى وأصحابه ثمة، فلما سمعه عبد الله جاء ليشهد معهم الصلاة، فقال له المولى صاحب المسجد: تقدم فصل فقال عبد الله: أنت أحق أن تصلي في مسجدك مني. فصلى المولى (¬3). طائفة الشيء: بعضه، تقول: هذه طائفة من الناس؛ وطائفة من البلد؛ وطائفة من المال، قال الله تعالى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬4) جاء في التفسير عن ابن عباس: أنه الواحد فما فوقه. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 157) (¬2) وأخرجة عبد الرزاق في مصنفه (3822)، والبيهقي في سننه (3/ 126)، وفي المعرفة (5930). (¬3) أخرجه الأم (1/ 158)، والبيهقي في السنن الكبير (3/ 126) وفي المعرفة (5937). (¬4) النور: (2).

وقال غيره: لا تطلق الطائفة على الواحد، بل أقله اثنان وقيل ثلاثة وقيل أربعة. والأشبه في الآية: أن يكون المراد أربعة لأن الحد في الزنا يثبت بالأربعة، ولأن الغرض الشهرة، وبالواحد والاثنين لا يحصل. والمراد بالطائفة في الحديث: الناحية من نواحي المدينة وهي طائفة منها. وثمة: بمعنى هنالك وهي المكان البعيد بمنزلة "هنا" للمكان القريب، والهاء فيه للسكت. وقوله: "يعملها" يريد يصلحها للزراعة والعمارة. وقوله: "أنت أحق مني" أي أولى وهو أفعل من الحق الذي هو ملك الإنسان وجمعه حقوق، التقدير: أنت أثبت حقًّا مني وأصح. وقوله: "صاحب المسجد ومسجدك" فأضافه إليه لأنه أراد أنك إمامه وهو معروف بك، وهذه الإضافة هي إضافة التخصيص مثل: سرج الدابة. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه الإمام الراتب في المسجد أولى من غيره؛ إلا مع حضور الوالي فإنه يكون أولى منه. وفيه زيادة تأكيد؛ لأن ابن عمر قال لمولاه هذا: "أنت أحق مني بالإمامة" وهو مولاه فقدمه عليه مع كونه مولاه: لأجل أنه إمام راتب لذلك المسجد.

الفرع الثالث في آداب الإمامة

الفرع الثالث في آداب الإمامة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أحدكم يصلي للناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف، فإذا كان يصلى لنفسه فليطل ما شاء". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد وزاد فيه: "والكبير" وقال "فليطول". وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك مثل مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن المغيره بن عبد الرحمن الحزامي، عن أبي الزناد. وفي أخرى: عن ابن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة وزاد في بعض طرقه: "وذا الحاجة". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وعن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيَّب وأبي سلمة، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 129 رقم 13). (¬2) البخاري (703). (¬3) مسلم (467). (¬4) أبو داود (794، 795).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن المغيرة، عن أبي الزناد وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. قد جاء في رواية الشافعي: "إذا كان أحدكم يصلي للناس" و"إذا كان يصلي لنفسه". وجاء في رواية غيره "إذا صلى للناس" و"إذا صلى لنفسه". وبينهما فرق دقيق من جهة تغاير الألفاظ، وذلك أن رواية الشافعي: تدل على أنه إذا كان المصلى معروفًا بالإمامة مكثرًا منها. ولفظ روايه غيره لا يدل على ذلك. وكذلك قوله: "إذا كان يصلي لنفسه". ولذلك جاء في رواية الشافعي: "يصلي للناس" وفي غيرها "يصلي بالناس". فأما تعديها باللام فمعناه: صلى لأجلهم إمامًا. وأما بالباء فالمعنى: صليت إمامًا بسببهم. ويعضد الرواية الأولى قوله: و"إذا صلى لنفسه" فلا يقال صلى لنفسه، فيكون قد جمع في الفعلين بين اللام وعداهما بها. ومع الباء: يكون قد خالف الأول الثاني. وكذلك جاء في رواية: "فإن منهم" وفي غيرها "فإن فيهم" فالتقدير في "منهم" التبعيض أي أن بعض من يصلي من الناس ضعيف وسقيم كبير. وأما "فيهم" وكأنه جعل الناس طرفا يكون فيه السقيم، والصحيح، والضعيف، والقوي، والكبير، والصغير، ثم أخبر عن بعضه من فيه. وقوله: "فليطل" أمر بالإطالة من أطال يطيل. وأما قوله: "فليطول" فإنه طول يطول، والهمزة والتضعيف شيئان في تعدية الفعل القاصر؛ إلا أن التضعيف أكثر إطالة وفيه إيذان بتفريق الإطالة، كما في ¬

_ (¬1) الترمذي (236) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (2/ 94).

قوله تعالى {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} (¬1). وذلك أنه لما كان نزول القرآن مفرقًا منجمًا قال فيه: نزل ولما كان نزول التوراة والإنجيل دفعة واحدة قال: أنزل. وقوله في رواية أخرى: "فليصل كيف شاء" هو من قوله: "فليطول ما شاء" لأنه رد الأمر في الصلاة إليه ردًّا مطلقًا جمع الطول والقصر والوسط، إلا أن الأول في هذا المقام أولى، لأنه إنما أنكر عليه الإطالة وأمره بالتخفيف في حالة الإمامة، فينبغي أن يكون في مقابلة ذلك؛ التعريض إليه في الإطالة التي هي خلاف التخفيف، ومراده بالتخفيف: تقليل القراءة والأذكار. "وذو الحاجة": يريد به من يكون له شغل تأخر عن قضائه والسعي فيه؛ لإشغاله بالصلاة وطولها فيتبرم بالصلاة ويضج منها؛ فيكون ذلك أمنًا إلى فوات حاجته أو تأخرها، وإلى كراهيته للصلاة ونفوره منها. والذي ذهب إليه الشافعي: أن على الإمام تخفيف الصلاة قال: ويستحب للإمام أن يكمل الصلاة ويخففها أي يكمل أفعالها ويخفف أذكارها وقراءتها. قال أبو إسحاق المروزي: هذا إذا كان يصلي في مسجد يستطرقه الناس، فأما إذا كان يصلي في موضع يصلي فيه أهل قريته ومحلته ورضوا بالتطويل، جاز وكان أولى. وقد أخرج المزني عن الشافعي: عن [عبد] (¬2) المجيد، عن ابن جريج [قال أخبرنى] (¬3) عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن نافع بن سرجس قال: عدنا أبا ¬

_ (¬1) آل عمران: (3). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب إثباته، كذا جاء في السنن المأثورة له (392)، وعنه البيهقي في المعرفة (5881). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت هو الصواب وكذا جاء في السنن المأثورة (392)، وأحمد في مسنده (5/ 218) والبيهقي في السنن الكبير (3/ 118)، والمعرفة (5881).

واقد البدري في وجعه الذي مات فيه، فسمعته يقول: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخف الناس صلاة على الناس، وأطول الناس صلاة لنفسه". ورواه في كتاب حرملة، عن إبراهيم بن محمد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم. وأخرجه الشافعي (¬1) أيضًا قال: روى شريك بن أبي نَمِر، وعمرو بن أبي عمرو، والعلاء بن عبد الرحمن، عن أنس بن مالك قال: "ما صليت خلف أحدٍ قط أخف ولا أتم صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وأخرج المزني عن الشافعي قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا مسعود يقول: "قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأتخلف عن صلاة الصبح مما يطول بنا فلان، قال: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب [في] (¬2) موعظة قط غضبه يومئذٍ فقال: "إن [منكم] (2) منفرين إن منكم منفرين! فأيكم أمَّ الناس فليخفف بهم، فإن فيهم الكبير والسقيم والضعيف وذا الحاجة". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4). وأخرج المزني (¬5): عن الشافعي، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه قال: "قدمت المدينة فنزلت على أبي هريرة فرأيته يؤم الناس فصلى صلاة خفف فيها، فقلت: يا أبا هريرة، أهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي؟ قال: نعم. وأوجز". ¬

_ (¬1) الأم (1/ 161). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت من السنن المأثورة رقم (116) وقد أخرجه هناك. (¬3) البخاري (90). (¬4) مسلم (466). (¬5) أخرجه في السنن المأثورة (117) وليس في إسناده الشافعي.

وأخرج المزني عن الشافعي، عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن سعيد ابن أبي هند، عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت عثمان بن أبي العاص يقول: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن أؤم الناس وأن أقدرهم بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والسقيم والضعيف وذا الحاجة" (¬1). وأخرج المزني (¬2): عن الشافعي، عن محمد بن إسماعيل، عن ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن (¬3) عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه قال: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليأمرنا بالتخفيف، وإن كان ليؤمنا بالصافات". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله أن معاذًا أم قومه في العتمة فافتتح سورة البقرة، فتنحى رجل من خلفه فصلى، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: " [أفتان] (¬4) أنت، أفتان أنت؟ اقرأ سورة كذا وسورة كذا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، أخبرنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال في حديثه: اقرأ. قال سفيان فذكرت ذلك لعمرو فقال نحو هذا. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (5888) (¬2) في السنن المأثوره (118) (¬3) ما بين المعقوفتين بالأصل [الحارث بن أبي عبد الرحمن] وزيادة [أبي] مقحمة والصواب حذفها، والحارث هو: ابن عبد الرحمن القرن العامري خال ابن أبي ذئب. انظر تهذيب الكمال (5/ 255) وعزاه المزي في التحفة (5/ 352) إلى النسائي من هذا الوجه. (¬4) ما بين المعقوفتين بالأصل [فتان] والمثبت من المسند بترتيب السندي.

فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن غندر، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر "أن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع فيؤم قومه، فصلى العشاء فقرأ بالبقرة فانصرف الرجل، فكأن معاذًا نال منه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أفتان أنت -ثلاث مرات-؟ وأمره بسورتين من أوسط المفصل. قال عمرو: لا أحفظهما. وفي أخرى: عن آدم، عن شعبة، عن محارب بن دثار، عن جابر قال: "أقبل رجل بناضحين -وقد جنح الليل-، فوافق معاذًا يصلي فترك ناضحيه (¬2) وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء فانطلق الرجل وبلغه أن معاذًا نال منه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكى إليه معاذًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذ، أفتان أنت؟ أفاتن أنت -ثلاث مرار؟ فلولا صليت بـ "سبح اسم ربك الأعلى"، "والشمس وضحاها"، "والليل إذا يغشى" فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن محمد بن عباد، عن سفيان وذكر نحو رواية البخاري الثانية. وفي أخرى: عن قتيبة وابن رمح، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر وذكر الحديث وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أتريد أن تكون فتانًا يا معاذ؟ إذا أممت الناس فاقرأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن سفيان وذكر نحوه. ¬

_ (¬1) البخاري (701، 705)، (¬2) عند البخاري بلفظ (ناضحه). (¬3) مسلم (465). (¬4) أبو داو (790).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن واصل بن عبد الأعلى، عن ابن فضيل، عن الأعمش، عن محارب بن دثار وأبي صالح، عن جابر قال: جاء رجل من الأنصار وقد أقيمت الصلاة، فدخل المسجد فصلى خلف معاذ. وذكر الحديث وفيه: وأن معاذًا أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحاله. وفي أخرى: عن محمد بن قدامة، عن جرير، عن الأعمش، عن محارب. وعن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير معًا، عن جابر. التنحي: الانفراد إلى ناحية من المكان. والفتنة: الاختلاف. والفاتن: الذي يوقع الفتنة بين الناس. والفتان: أبلغ منه وهو الذي يكثر منه ذلك، تقول: فتنت وافتنت. وأنكر الأصمعي افتنت. والهمزة في قوله: "أفتان أنت" همزة استفهام تتضمن توبيخًا وإنكارًا وبدأ بها مبالغة في الإنكار عليه. وفي إدخال همزة الاستفهام على "فتان"، وتقديمه وهو الخبر على المبتدأ الذي هو "أنت" دليل على أن غرضه في هذا المقام ذكر ما نفر الرجل عن إتمام صلاته وراء معاذ؛ وهو طول القراءة وأن ذلك سبب لإيقاع الفتنة في الناس؛ حتى ترك هذا صلاة الجماعة وعدل عنها إلى صلاة الفرد؛ أو حتى قال فيه باقي المصلين: إنه منافق، وحتى أحوجه ذلك إلى الشكوى والتألم. فبدأ بما هو أولى بالتقديم وإن كان محله التأخير، هذا سبب تقديم الخبر عليه وأما تخصيص الهمزة بالخبر دون المبتدأ، فلأنه إنما أراد أن يستفهم ويوبخ وينكر هذا الفعل الصادر عنه، فكان إدخال الحرف الدال على غرضه ومقصده على ما يريده؛ أولى من إدخاله على من صدر هذا الفعل عنه. ¬

_ (¬1) النسائي (2/ 97 - 98)، (2/ 172 - 173).

وقد جاء في رواية البخاري "فتان ثلاث مرات" بغير ألف وهو مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو فتان أو أنت فتان أو هذا فتان ونحو ذلك. وقوله: "فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -" يجوز أن يكون ذكر فعلًا لم يسم فاعله؛ وفعلًا مسمى الفاعل وفاعله مضمر فيه، وعلى كلا الحالين يجوز أن يكون الذاكر معاذًا أو الرجل المنفرد عن الجماعة. وقد جاء ذلك مصرحًا به في باقي روايات الحديث، فتارة أضيف إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ. وقوله في الرواية الثانية: "فذكرت ذلك لعمرو فقال نحو هذا" يريد بهذا القول ما جاء مصرحًا به في رواية البخاري ومسلم وغيرهما؛ من تعداد السور التي سماها في الحديث. وتقول: نلت من فلان إذا سمعته وقبحت ذكره، وأصله من نال فلان خيرًا وشرًّا ينال نيلًا إذا أصاب. "والتناول": أخذ أعراض الناس من تناولت الشيء إذا أخذته. "والناضح": البعير يسقى عليه، والأنثى ناضحة والجمع نواضح. وجنح الليل يجنح: إذا أقبل، وجنح الليل أول إظلامه. وقوله: "فلولا صليت إلى فتلا ... " وقد تقدم بيان ذلك مستقصى. والنفاق: ضد الإخلاص وهو أن يظهر شيئًا ويخفي خلافه، وهذه التسمية إسلامية لم تكن معروفة عند العرب؛ وإن كان أصلها معروفًا؛ لأنه مأخوذ من "النافقاء" وهو أحد حجر اليربوع فإنه يعدله حجر آخر يسمى القاصعاء، فإذا طلب من حجر هرب إلى آخر تقول: نافق الرجل ينافق منافقة ونفاقًا فهو منافق. وقوله في رواية مسلم: "أتريد أن تكون فتانًا يا معاذ" ألطف خطابًا من قوله: "أفتان أنت" وأرفق وإن كان أرسخ في باب الفتنة وأثبت. أما وجه لطفها ورفقها: فإنه قال في الأولى: "أفتان أنت" فأثبت له وصف الفتنة مصرحًا به، ومقررًا أن هذا الفعل الذي فعلته حتى نفر هذا المصلي؛ فعل

الفتانين الذين أنت منهم. وأما قوله: "تريد أن تكون فتانًا" فإن هذا الفعل لا يصدر إلا عن الفتانين، فقال: كنت تريد ذلك فعرفني. والفرق الظاهر بينهما: أن همزة الاستفهام دخلت في الأولى على الفتنة نفسها، وفي هذا دخلت على إرادة الفتنة فكانت ألطف. وأما بيان أن قوله: "أتريد أن تكون فتانًا" أثبت في باب الافتنان وأرسخ، أن الإنسان قد يفعل الفعل ولا يريده؛ لأسباب تدعوه إليه من إكراه أو سهو أو جهل به أو ظن جوازه وغير ذلك، من الأسباب التي تبعث على إيجاد الفعل والقول من غير إيثارٍ له، وكثير من هذه الحالات لا يؤاخذ العبد بها ولا يتوجه إليه النكير. فأما مع كون الفعل والقول الصادرين عن الفاعل والقائل مرادين له؛ فلا عذر له فيه وهو مؤاخذ به. وكذلك هاهنا فإن قوله: "أفتان أنت" يجوز أن يكون فتانًا وهو لا يريد الفتنة؛ أو يجهلها أو يسهو عنها أو يظن أنها جائزة، فأما مع إرادته لها فلا، ولأنا قد قلنا: أن همزة الاستفهام دخلت في الأول على الفتنة فكان الشك فيها، وفي الثانية دخلت على الإرادة فكانت الفتنة معها مسلمة ثابتة، وإنما الشك وقع في إرادتها فكان هذا القول أدل على وجود الفتنة وأثبت. في هذا الحديث من الفقه: الصلاة الواحدة في جماعتين، وصلاة المفترض خلف من صلى فرضه وخلف المتنفل، وأن على الإمام تخفيف الصلاة، وأن المصلي في جماعة إذا أراد أن ينفرد عن الجماعة ويتم لنفسه جاز له ذلك. وفيه: بيان ما يقرأ في الصلاة من السور وقدر ما يقرأ. ولكل واحد من هذه الأحكام موضع يذكر فيه، والذي يخص هذا الموضع منها: هو تخفيف الصلاة.

وقد ذكرنا الحكم فيه ولهذا المعنى أخرجه الشافعي في هذا الموضع مختصرًا في معنى التخفيف. ***

الفرع الرابع في موقف الإمام

الفرع الرابع في موقف الإمام أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي حازم قال: "سألوا سهل بن سعد من أي شيء منبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم -؟ قال: ما بقي من الناس أحد أعلم به مني، من أثل الغاب، عمله له فلان مولى فلانة، ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صعد عليه؛ استقبل القبلة فكبر ثم قرأ، ثم ركع، ثم نزل القهقرى ثم سجد، ثم صعد فقرأ ثم ركع، ثم نزل القهقرى ثم سجد" وفي نسخة "فسجد" في الموضعين. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان وفيه "فاستقبل القبلة وكبر وقام الناس خلفه، فقرأ وركع وركع الناس خلفه". قال البخاري: قال علي بن عبد الله سألني أحمد بن حنبل عن هذا الحديث (¬2). وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وقتيبة، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه "أن نفرًا جاءوا إلى سهل بن سعد قد تماروا في المنبر من أي عود هو؟ فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود ومَن عَمِلَه، ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول يوم جلس عليه قال: ¬

_ (¬1) البخاري (377). (¬2) وتمام الكلام (قال: فإنما أردت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أعلى من الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث، قال: فقلت: إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرا فلم تسمه منه؟ قال: لا). (¬3) مسلم (544).

فقلت يا أبا عباس فحدثنا قال: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة -قال أبو حازم إنه ليسميها- "انظري غلامك النجار فيعمل لي أعوادًا أكلم الناس عليها" فعمل هذه الثلاث درجات ثم أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعت هذا الموضع، فهي من طرفاء الغابة ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه على المنبر. وذكر الحديث وقال في آخره: ثم "أقبل على الناس وقال لي: أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا لي ولتعلموا صلاتي". وله في أخرى: عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبي حازم. وعن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير وابن أبي عمر، عن سفيان. وأما أبو داود (¬1) والنسائي (¬2): فأخرجاه عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم. "المنبر": معروف فهو مِفْعَل من المنبر رفع الشيء، تقول: نبرته أنبره نبرًا إذا رفعته. "والأثل": شجر معروف وهو نوع من الطرفاء إلا أنه عظيم أثله. "والطرفاء": شجر معروف الواحدة طرفة. وقال سيبويه: الطرفاء واحد وجميع الغابة الأجمة. "والقهقرى": الرجوع إلى ورائك مشيًا إلى جهة ظهرك من غير أن تحول وجهك عن جهته، وهو في موضع نصب على المصدر من غير لفظ الفعل، لأنك إذا قلت: رجع القهقرى كأنك قلت رجع الرجوع الذي يعرف بهذا الاسم، لأن القهقرى ضرب من الرجوع. وقوله: "استقبل القبلة فكبر" عطف التكبير بالفاء وعطف القراءة والركوع ¬

_ (¬1) أبو داود (1080). (¬2) النسائي (2/ 57).

والسجود والنزول بثم، لأن التكبير يتعقب النية وليس كذلك القراءة مع التكبير، ولا الركوع مع القراءة، ولا النزول مع الركوع، ولا سجود مع النزول؛ لأن بين كل اثنين منها زمانًا فيه طول. وقوله في رواية مسلم: "الثلاث درجات" على خلاف المعروف في النحو؛ لأن فيه مذهبين: أحدهما: وهو مذهب البصريين: تعريف المضاف إليه وهو درجات. والثاني: وهو مذهب الكوفيين: تعريف المضاف والمضاف إليه، تقول: ثلاث الدرجات، والثلاث الدرجات. وأما تعريف المضاف وتنكير المضاف إليه كما في هذه الرواية، فلا أعرفه ولعله غلط من النساخ (¬1). والذي ذهب إليه الشافعي في ارتفاع موضع الأمام قال: واجب للإمام الذي يُعلِّم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع؛ ليراه من وراءه فيقتدي به. وقال أبو حنيفة ومالك: يكره ذلك. وحكى الطحاوي: أنه يكره ذلك إذا كان ارتفاعه يجاوز القامة. وقال أبو بكر الرازي: لا يعرف ذلك. فأما إذا لم يحتج إلى التعليم فيكره له أن يصلي على شيء عال، قال: لأن ذلك ضرب من الكبر والترأس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم من هذا، والأشبه أنه إنما فعل ذلك ليعلهم الصلاة، وقد جاء مصرحا به رواية مسلم. ¬

_ (¬1) والأحسن من ذلك ما قاله النووي في شرحه على مسلم (3/ 39): هذا مما ينكره أهل العربية، والمعروف عندهم أن يقول: ثلاث الدرجات أو الدرجات الثلاث، وهذا الحديث دليل لكونه لغة قليلة.

وإنما نزل القهقرى: لئلا يولي إلى القبلة ظهره فتبطل صلاته، فإن استقبال القبلة واجب في الصلاة. وفي هذا الحديث من الفقه: جواز الفعل القليل في الصلاة، وقد تقدم بيان ذلك فيما مضى. والأشبه أن منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثلاث درجات؛ ونزوله منه لا يبلغ في الكثرة ما يقطع الصلاة، وكذلك صعوده لم يكن متصلًا بنزوله، وإنما تخلل بينهما السجود -وهو إن كان عملا- فهو لمصلحة الصلاة فلم يكن له تأثير. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن عيينة، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن همام قال: "صلى بنا حذيفة على دكان مرتفع، فجاء فسجد عليه فجبذه أبو مسعود فتابعه حذيفة، فلما قضى الصلاة قال أبو مسعود: أليس قد نهي عن هذا؟ فقال له حذيفة: ألم ترني تابعتك". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1): عن أبي مسعود: أحمد بن الفرات الرازي وأحمد بن سنان، عن يعلى، عن الأعمش ... بالإسناد: أن حذيفة أمَّ الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى قد ذكرت حين مددتني. " الدكان": واحدة الدكاكين وهي الحوانيت فارسي معرب قاله الجوهري. وقال الأزهري: والدكان فعلان من الدك، وقيل فعال وإن كان فعلان فنون زائدة؛ وإن كان فعالًا فهي أصلية والجوهري أورده في دكن، وقد ترد هذه اللفظة في الحديث؛ ويراد بها موضع مبنى مرتفع على وجه الأرض؛ تتخذ للجلوس وتسميه الناس: الدكة. "والجبذ": لغة في الجذب، وقيل: هو مقلوب منه. وقوله: "فتابعه" أي انقاد له ومضى معه. ¬

_ (¬1) أبو داود (597).

وقوله في جواب الاستفهام باستفهام مثله: فيه بلاغة مقرونة بفصاحة اللغة العربية واتساعًا (¬1)؛ وذلك أن قوله: "أليس قد نهى عن ذلك" استفهام يتضمن إنكارًا وتوبيخًا، وإنما جوابه أن يقول: بلى أولاً، لكنه عدل عن ذلك إلى استفهام مثله، ليقابل السؤال الجواب فيكون مقررًا لسؤاله مثبتًا لإنكاره وتوييخه، ويكون قد أتى بجواب حصل الفائدة، وتضمن من الفرض المطلوب من الاستفهام والإنكار، وهو الانقياد له والرجوع إلى ما نبهه عليه، وترك ما كان تعمده مما أوجب الاستفهام. والإنكار في الجواب مقابله إنكار بإنكار لأنه لما جذبه فانقاد معه وتابعه، ما كان لسؤاله وإنكاره وجه؛ حيث تابعه على غرضه، فلما جمع له في الإنكار بين الفعل والقول بالجذب والتوبيخ؛ قابله باستفهام يتضمن إنكارًا وتوبيخًا كأنه قال: أي حاجة بك أن تنكر عليَّ بلسانك بعد ما انقدت لك؛ فإن انقيادى لك ومتابعتي يدلانك على اعترافي بالنهي. وقد جاء في رواية أبي داود: بالجواب الحقيقي صريحًا فقال: بلى ثم أردفه بما قام بعذره عنده وإن كان ناسيًا للنهي فقال: قد ذكرت حين مددتني. وفي رواية الشافعي: "أليس قد نهي" بفعل ما لم يسم فاعله، وما كان من هذا القبيل فإنما يضاف الحكم فيه إلى من له النهي وهو الشارع؛ والصحابة الذين نعمل بأقوالهم وهم أهل الحل والعقد؛ إلا أنه في هذا المقام خصيص بالشارع؛ لأن النهي إذا أطلق كان الأولى إضافته إليه. وأما رواية أبي داود "ينهون" فلا يتهيأ إضافتها إلى الشارع خاصة، لأنها جاءت بلفظ الجمع وما كان من هذا النوع ففيه خلاف بين العلماء؛ هل هو حجة أم لا؟ وقد تقدم بيان ذلك مستقصى فيما مضى من الكتاب. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، ولعلها مصحفة من (واتساعها).

الفصل الرابع • في المأموم •

الفصل الرابع في المأموم وفيه ثمانية فروع الفرع الأول في موقف المأموم أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب -مولى ابن عباس- عن ابن عباس أنه أخبره "أنه بات عند ميمونة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين، وهي خالته- قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله في طولها، فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل؛ استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجلس يمسح وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ فأحسن وضوء، ثم قام فصلى، فقال ابن عباس: فقمت فصنعت ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده اليمنى على رأسي فأخذ بأذني ففتلها، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع، حتى جاء المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي. وقد تنوعت طرق هذا الحديث وكثرت برواة طويلة وقصيرة فقد أشرنا إلى بعضها.

فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد وفيه: فجلس فمسح النوم عن وجهه بيده. وقال: "شن معلق" وقال: "ثم ركعتين مرة أخرى ثم أوتر". وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك نحو لفظه. وفي أخرى: عن أحمد، عن ابن وهب، عن عمرو، عن عبد ربه بن سعيد، عن مخرمة وفيه: "فصلى ثلاث عشرة ركعة". وفيه: فقمت عن يساره فأخذني فجعلني عن يمينه، ثم نام حتى نفخ -وكان إذا نام نفخ- ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك بلفظه. وفي أخرى: عن محمد بن سلمة المرادي، عن ابن وهب، عن عياض بن عبد الله الفهري، عن مخرمة. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن عبد الملك بن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن جده، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن مخرمة. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك بلفظه. وقد أخرج الترمذي (¬6) منه طرفًا: عن قتيبة، عن داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن كريب، عن ابن عباس قال: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه". ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 119 رقم 11) وراجع ألفاظه هناك. (¬2) البخاري (992، 698). (¬3) مسلم (763/ 182، 183). (¬4) أبو داود (1364). (¬5) النسائي (3/ 210 - 211). (¬6) الترمذي (232) وقال: حسن صحيح.

وقد روى المزني: عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن كريب، عن ابن عباس قال (¬1): "إنه بات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة خالته ميمونة، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ من شنة معلقة فوصف وضوءه وجعل يقلله بيده، ثم قام ابن عباس فصنع مثل ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم جئت فقمت عن شماله فأخذني فجعلني عن يمينه، فصلى ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتى بلال فآذنه بالصبح فصلى ولم يتوضأ". قال سفيان: لأنه بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينام عيناه ولا ينام قلبه. "بات" فلان يبيت وبيات: إذا جن عليه الليل وسواء كان يقظان أو نائمًا، تقول: بات يفعل كذا: إذا فعله ليلاً، كما تقول: ظل يفعل كذا إذا فعله نهارًا. "والاضطجاع": افتعال من الضجعة تقول: ضجع الرجل يضجع ضجعًا وضجوعًا فهو ضاجع: إذا وضع جنبه إلى الأرض وسواء كان يقظان أو نائمًا. وفي افتعل من هذا اللفظ للعرب مذهبان: أحدهما: تقلب التاء طاء لمكان الضاد فتقول: اضطجع. والثاني: تدعم التاء في الضاد لقرب ما بينهما، فتقول: اضجع ولا تقول: اطجع لأن الضاد لا تدغم في الطاء. "والوسادة": المخدة. ويريد بأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجته ميمونة. "وانتصف": افتعل من النصف. والتعريف في العشر الآيات على خلاف ما ذهب إليه نحاة البصرة، وقد ¬

_ (¬1) بالأصل ذكر بعد هذا الإسناد لفظ الترمذي السابق ولعله انتقال نظر من الناسخ، وبحذف هذا التكرار يستقيم السياق وقد أخرجه المزني كما في السنن المأثورة رقم (54) وعنه البيهقي في المعرفة (5787) بهذا السياق كما نقل المصنف.

ذكرناه في حديث المنبر. "والشن والشنة": القربة الخلق والجمع شنان. وقد جاء في رواية الشافعي: "شن معلقة" باتت نظرا إلى القربة وحملًا على المعنى. ومعنى أخذه - صلى الله عليه وسلم - بأذن ابن عباس وفتله لها: أنه يوقظه بذلك ويداعبه استحسانا لفعله وقيامه، وموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلاته ليلًا فذلك على خلاف ما يقتضيه شن مثله؛ وقد جاء هذا مصرحًا به في رواية أبي داود قال: ثم وضع يده على رأسي يمس أذني كأنه يوقظني. وقد جاء في رواية الشافعي: "فجلس يمسح وجهه". وعند الباقين: "فجلس فمسح". ورواية الشافعي أحسن وأبلغ في البيان، لأنه جاء بها بلفظ المضارع الذي يدل على حكايه الحال الحاضر، وتصويرها للسامع حتى كأنه يشاهدها؛ ولأن قوله: "فجلس يمسح" كان المسح غير متأخر عن الجلوس وإنما جلس ماسحًا؛ فهيئته كانت لما جلس من نومه ماسحًا وجهه؛ وليس كذلك "فجلس فمسح" وإن كانت الفاء تفيد تعقيبا إلا أن التعقيب إنما يكون بعد الفراغ مما تعقبه، والأول ممتزج مع ما بعده غير متقدم عليه إلا تقدما بالرتبة ولا تقدما بالزمان. وفصله بين كل ركعتين بـ " ثم": دليل على أنه لم يعقب كل ركعتين بما قبلهما، وأنه فصل بينهما بزمان متراخ. وقد ورد أنه يستحب أن يفصل بين صلاة الليل بتسبيح وتحميد وتقديس وتكبير وتهليل ونحو ذلك من الأذكار وأن لا يتابع بعضها ببعض. وقوله: "ثم نام حتى نفخ" يشبه أن يكون نام جالسًا متمكنًا من الأرض، لأن النفخ لا يكون غالبا إلا عن نوم صحيح حقيقي، والنوم على هذه الحالة لا ينقض الوضوء، ويجوز أن يكون النوم خاصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينقض

وضوءه، لأن له خصائص ليست لأحد من أمته. ويدل على أن هذا هو الصحيح أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث عن ابن عباس وعائشة وغيرهما: أنه لما فرغ من صلاة الليل اضطجع على شقه الأيمن. وكذلك جاء عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ فقال: "يا عائشة، إن عيني تنامان ولا ينام قلبي". وهذا يدل على أنه لم يكن نائما على هيئة القاعد، وإنما كان ذلك خصيصة له - صلى الله عليه وسلم -. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المأموم لا يخلو أن يكون رجلاً أو امرأة، وكل واحد منهما لا يخلو أن يكون واحداً أو أكثر منه؛ فإن كان رجلًا واحدًا أقام إلى جنب الإمام عن يمينه، وإن كانوا اثنين فصاعدًا قاموا خلفه. وإن كان المأموم امرأة واحدة قامت خلفه. وإن كان رجلًا وامرأة قام الرجل عن يمينه والمرأة خلفه. وإن كانوا رجالًا ونساءً قام الرجال خلف الإمام، والنساء خلف الرجال. وإلى قياس الواحد ذهب أكثر العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم: عمر، وابن عمر، وجابر [بن] (¬1) زيد، وعروة بن الزبير، ومالك، وسفيان، والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق. وقال ابن المسيب: يقوم الواحد عن يسار الإمام. وقال النخعي: يقوم خلفه. فأما إذا كان المأموم اثنين فذهب إلى تأخرها عن الإمام: عمر، وعلي، وابن عمر، وجابر بن زيد، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، ومالك، وأبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن مسعود: يقوم أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب إثباته.

وبه قال النخعى. وبما قال الشافعي في الرجل والمرأة، قال عطاء وعروة والنخعي، وقتادة، ومالك، والثوري. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن [محمد] (¬1) بن عبيد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه "أن عبد الله صلى به وبعلقمة فأقام أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وقال: هكذا يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا. ذكره فيما خالفوا فيه ابن مسعود. وقال الشافعي: عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه قال: "دخلت على عمر بالهاجرة فوجدته يسبح، فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه على يمينه، فلما جاء يَرْفأ (¬2) تأخرت فصففنا وراءه". وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك "أن جدته -مليكة- دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته له فأكل منه، ثم قال: "قوموا لأصلى لكم" قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا". وأخبرنا الشافعي: عن مالك بالإسناد قال: "صليت أنا ويتيم لنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتنا وأم سليم خلفنا". ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل: [أحمد] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب، وكذا أخرجه البيهقي في المعرفة (5798) بإسناده إلى الشافعي، وأخرجه النسائي في سننه (2/ 84) عن محمد بن عبيد الكوفي، عن محمد بن فضيل، عن هارون بن عنترة، عن عبد الرحمن بن الأسود عنه به. (¬2) قال الزرقاني في شرح الموطأ (1/ 440). بفتح التحتية وسكون الراء وفتح الفاء وهمز وأبداله؛ حاجب عمر، أدرك الجاهلية وحج مع عمر في خلافة أبي بكر.

وقد عاد الشافعي أخرج هاتين الروايتين في كتاب "اختلاف الحديث"، إلا أنه أخرج الأولى عن مالك وزاد في آخرها: وصلى لنا ركعتين ثم انصرف. وأخرج الرواية الثانية: عن سفيان بن عيينة. قال أبو بكر البيهقي (¬1): تعقب هذه الرواية الأخيرة من هذا الحديث بهذا اللفظ، إنما رواه الشافعي في رواية المزني وحرملة عن سفيان قال: هو الصحيح. وقد رواه الربيع في موضع آخر على الصحة. والحديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬2): فأخرجه في باب سبحة الضحى بالإسناد واللفظ، إلا أنه قال: [وراءه]، (¬3) بدل خلفه وزاد في آخره: "فصلى لنا ركعتين ثم انصرف". وهذه الزيادة قد جاءت في كتاب البيهقي (¬4) من روايته عن الربيع. وأما البخاري (¬5): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بلفظه. وأما مسلم (¬6): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬7): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك بلفظه. وأما الترمذي (¬8): فأخرجه عن إسحاق الأنصاري، عن معن، عن مالك. وأما النسائي (¬9): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. ¬

_ (¬1) المعرفة (4/ 175 - 176). (¬2) الموطأ (1/ 143 رقم 31). (¬3) ما بين المعقوفتين بالأصل [ورواه] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وهو لفظ في الموطأ. (¬4) المعرفة (5810). (¬5) البخاري (380). (¬6) مسلم (658). (¬7) أبو داود (612). (¬8) الترمذي (234) وقال: حسن صحيح. (¬9) النسائي (2/ 85).

"واللام" في "لطعام" بمعنى إلى؛ لأن الدعاء إنما يتعدى بإلى، ويجوز أن يكون لام أجل: أي دعته إليها لأجل طعام صنعته. "والفاء" في قوله: "فلأصلي" فاء التعقيب، واللام التي فيها لام التعليل وهي لام كي، كما تقول: أكرم زيدًا لأكرمك، فجعلت إكرامك له متعلقًا بإكرامه زيدا، ثم أدخل عليها الفاء ليدل على أن الفعل الذي دخل عليه اللام، يتعقب ما قبله ولا يتأخر عنه. إلا أن الفاء تحتاج إلى معطوف عليه، وليس في الكلام قبلها مذكور يعطف عليه، فيحتاج إلى تقدير محذوف كأنه قال: قوموا لأقوم فلأصلي لكم. "والصف": مصدر صف يصف صفًّا وهو اسم لواحد الصفوف وقد روى "فصففت أنا واليتيم" فصففت لما لم يسم فاعله وهو أحسن، لأن الفعل متعد وإذا فتحته استدعى مفعولًا وليس في اللفظ مفعول، وإذا ضممته كان المفعول مستترًا فيه. وفي رواية "فيه". وفي رواية الشافعي "خلفه". وفي روايات الباقين "وراءه". وهما بمعنى واحد إلا أن خلفًا آكد وأثبت في بابها من وراء، لأن وراء قد يقع على قدام كقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} (¬1) أي قدامهم. و"من" في قوله: "من ورائنا" لابتداء الغاية أي كان قيامها مبتدئا من ورائنا، أو هي بمعنى "في" أي كانت قائمة في الجهة التي هي الوراء، ويجوز أن تكون الوراء زائدة. "واليتيم" الذي جاء ذكره في الحديث قيل: اسمه ضميرة أخو أنس. ¬

_ (¬1) الكهف (79).

والعجوز: أم أنس. وفي الحديث من الفقه: جواز صلاة النافلة في الجماعة. وجواز صلاة المنفرد خلف الصف؛ لأن المرأة قامت وحدها من ورائها. وفيه: دليل على أن إمامة المرأة لا تصح، لأنها لما [أخرت] (¬1) عن مسامتة الرجال كان منعها من التقديم عليهم أولى. وفيه: دليل على ترتيب المأمومين. وفيه: جواز الصلاة على حائل بين الوجه والأرض. وفيه: جواز الدعاء إلى الطعام والإجابة إليه. قال الشافعي: وأنس [يحكي] (¬2) أن امرأة صلت منفردة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[صلاتها] (¬3) مع [الإمام] (¬4) منفردة أجزأت الرجل. قال: وسمعت من يروي بإسنادٍ حسن أن أبا بكرة ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ركع وراء الصف فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "زادك الله حرصا ولا تعد" (¬5). قال الشافعي: فلما لم يأمره بإعادة وقد ركع وحده دل على أنه يجزئ عنه. وقوله: "ولا تعد" يشبه أن تركع حتى تصل إلى موقفك لما في ذلك من التعب، كما ليس عليك أن تسعى إذا سمعت الإقامة، كأنه أحب له الدخول في الصف؛ ولم ير عليه العجلة حتى يلحق بالصف. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين بالأصل [خرت] بإسقاط الألف، وأثبتناه ليستقيم المعنى. (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [على] والسياق غير مستقيم، والذي أثبتناه هو لفظ في المعرفة (4/ 181). (¬3) ما بين المعقوفتين بالأصل [صلى بها] وهو تصحيف والمثبت من المعرفة. (¬4) ما بين المعقوفتين بالأصل [الإبهام] والمثبت من المعرفة. (¬5) أخرجه البخاري (783).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن صالح بن إبراهيم قال: رأيت أنس بن مالك صلى الجمعة في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف فصلى بصلاة الإمام بالتسبب أو المباشرة (¬1). أي كانت صلاته مسببة عن صلاة الإمام أو ملتبسة بها. ويجوز أن يكون بمعنى الآلة؛ كأن صلاته صليت بصلاة الإمام. والقول الواضح فيها معنى الباء الأصلي الذي هو الإلصاق، كأنه ألصق صلاته بصلاة الإمام وقرنها بها. وفي قوله "في المسجد" متعلقة يقول: "بصلاة الإمام" لا بقوله "فصلى" لأن معمول "صلى" إنما هو قوله في بيوت حميد بن عبد الرحمن ولو كان متعلقًا بصلى لكانت صلاة المأموم في المسجد وليس الأمر كذلك. والذي أراده الشافعي من هذا الحديث: أن موقف المأموم من الإمام والحكم في ذلك مختلف باختلاف الأمكنة؛ وفيه تفصيل يطول ذكره وكتب الفقه أولى به؛ لكن نذكر هاهنا حكم الطريق إذا فصل بين الإمام والمأموم. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا كان بين الإمام والمأموم، وبين آخر الصف طريق أو نهر ولم يكن بينهما بعد كثير صحت صلاة المأموم وبه قال مالك. وقال: أبو حنيفة وأحمد: لا تصح. وقال الشافعي: إذا صلى في مكان خارج من المسجد؛ فإن لم يحل بينهما حائل كحائط فاصل ولم يكن بينهما بعد كثير صحت الصلاة. وقد قدر الشافعي -رضي الله عنه- بُعد المسافة ثلاثمائة ذراع. ¬

_ (¬1) هكذا لفظه بالأصل وغالب الظن أن قوله: (بالتسبب أو المباشرة) من تصرف المصنف، والذي ثبت في المسند بدل هذا القول (... في المسجد وبين بيوت حميد والمسجد طريق) وهكذا أخرجه البيهقي في السنن الكبير (3/ 111)، والمعرفة (5838) عن الشافعي به.

وحكي عن عطاء أنه قال: يصلى بصلاة الإمام من علم بصلاته. ولم يراع قربًا ولا بعدًا قياسًا على المسجد، وفيه نظر للفرق بين المساجد وغيرها. وقد أخرج الشافعي من رواية الزعفراني عنه، عن إبراهيم بن محمد، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة "أن نسوة صلين في حجرتها فقالت: لا تصلين بصلاة الإمام فإنكن في حجاب". قال الشافعي: وهذا مخالف للمقصورة؛ المقصورة شيء من المسجد فهو وإن كان حائلًا دون ما وراءها بينه وبين الإمام؛ فإنما هو كحول الأصطوان أو أقل؛ وكحول صندوق المصاحف وما أشبهه. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن أبي يحيى، عن صالح مولى التوأمة- قال: "رأيت أبا هريرة يصلى فوق ظهر المسجد وحده بصلاة الإمام". قال الشافعي: رأيت من المؤذنين من يصلي بصلاة الإمام وهم فوق ظهر المسجد فسألت عن ذلك مسلم بن خالد وقال: هي مجزئ عنهم ولو صلوا في الأرض كان أحب إلي. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المأموم إذا كان في المسجد أي مكان منه صحت صلاته، حتى ولو كان في أعلى المنارة والإمام في قعر البئر. فأما في غير المسجد فله حكم آخر: وذلك أن حكم الموقف ارتفاعًا وانخفاضا في غير المسجد؛ حكمه اختلاف البنيان فلا بد فيه من اتصال محسوس؛ وهو أن يحاذي رأس المستقل ركية العالي تقديرًا. وقال أبو حنيفة: يكره للمأموم أن يرتفع عن موضع الإمام. وقال الشافعي: لو صلى في علو داره بصلاة الإمام في المسجد فلا يجزئه؛ ذلك لأنها بائنة عن المسجد وليس بينهما قرار يمكن اتصال الصفوف فيه.

وقال أحمد: يجوز في المسجد وغير السجد. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن حصين -أظنه- عن هلال بن يساف قال: أخذ بيدي زياد بن أبي الجعد فوقف بي على شيخ بالرقة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له وابصة بن [معبد] (¬1) قال: أخبرني هذا "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. قال الشافعي: وقد سمعت من أهل العلم بالحديث من يذكر أن بعض المحدثين يدخل بين هلال بن يساف ووابصة فيه رجلاً. ومنهم من يرويه عن هلال عن ووابصة سمعه منه. وسمعت بعض أهل العلم منهم كأنه موهنه بما وصفت (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [مسلمة] وهو خطأ ولم أر في ترجمة وابصة من نسبه وسماه بهذا، والصواب هو المثبت، وهو المثبت أيضاً في مطبوعة المسند وغيرها من الأصول. (¬2) قال العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- في تعليقه على الترمذي (1/ 448 - 450): خلاصة القول في حديث وابصة: أنه جاء من رواية هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة، وجاء من رواية هلال، عن زياد بن أبي الجعد، عن وابصة، وجاء من رواية هلال عن وابصة بغير واسطة، وجاء بأسانيد أخرى سنذكرها، ثم اختلف المحدثون في أي هذه الروايات أرجح؟ ولاختلاف هذه الأسانيد ظن بعض العلماء أن الحديث معلول أو مضطرب فقد نقل الزيلعي في "نصب الراية" عن البيهقي في "المعرفة" قال: وإنما لم يخرجاه صاحبا الصحيح لما وقع في إسناده من الاختلاف .... واختار بعض العلماء الترجيح بين هذه الأسانيد، فرجح الترمذي هنا أن رواية حصين أصح، وذكر ابن أبي حاتم في "العلل" أنه سأل أباه عن روايتي حصين وعمرو بن مرة عن هلال: أيهما أشبه؟ وأن أباه قال: عمرو بن مرة أحفظ والراجح الصحيح أن هذه الروايات يؤيد بعضها بعضا, ولا يضرب بعضها ببعض، وكلها أسانيد صحاح رواتها ثقات ... اهـ بتصرف. والذي ذهب إليه الشيخ أحمد شاكر رجحه أيضاً الشيخ الألباني -رحمه الله- في بحث له في الإرواء (541) ومن قبلهما ابن حبان فقد قال في صحيحه (5/ 578) سمع هذا الخبر هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة بن معبد، وسمعه من زياد بن أبي الجعد عن وابصة، والطريقان جميعاً محفوظان. وراجع في ذلك نصب الراية (2/ 38)، والتلخيص (2/ 37).

والحديث أخرجه أبو داود والترمذي. فأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن سليمان بن حرب وحفص بن عمر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف، عن عمرو بن راشد، عن وابصة وذكره. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن هناد، عن أبي الأحوص، عن حصين عن هلال مثل الشافعي. وفي الباب عن: ابن عباس، وعلي بن شيبان. "وحده": منصوب على المصدر عند نحاة البصرة، وعلى الظرف عند نحاة الكوفة. فأما المصدر: فعلى تقدير أو حديه بروايتي إيحادًا أي لم أر غيره، ثم وضعت وحده هذا الموضع. وقيل: المعنى كأنك قلت: رأيت رجلاً منفردًا انفرادًا. ولا يضاف إلى الكلمة إلا في موضعين: أحدهما: مدح وهو قولهم نسيج وحده. والآخر: ذم وهو قسمان: أحدهما: قوله: عُيَيْر وَحْدِه. والآخر: جحيش وحده كأنك قلت: نسيج إفراد، فلما وضعت وحده موضع المصدر المجرور جررته وربما قالوا رجيل وحده (¬3). ¬

_ (¬1) أبو داود (682). (¬2) الترمذي (230) وقال: حديث وابصة حديث حسن واختلف أهل الحديث في هذا: فقال بعضهم: حديث عمرو بن مرة عن هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة بن معبد: أصح وقال بعضهم: حديث حصين عن هلال بن يساف عن زياد بن أبي الجعد عن وابصة بن معبد أصح وهذا عندي أصح من حديث عمرو بن مرة، لأنه قد روي من غير حديث هلال بن يساف عن زياد أبي الجعد عن وابصة. (¬3) راجع اللسان مادة: وحد.

والذي ذهب إليه الشافعي: أن المنفرد خلف الصف تصح صلاته ويكره له ذلك. وبه قال الحسن البصري، وأبو حنيفة ومالك والثوري، والأوزاعي وابن المبارك وروي عن زيد بن ثابت. وقال أحمد وإسحاق: تبطل صلاته، واختاره ابن المنذر. واستدل من ذهب إلى صحة الصلاة بحديث أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "زادك الله حرصًا ولا تعد" (¬1) ولو كانت صلاته غير صحيحة لأمره بإعادتها ولما أقره عليها. وأما قوله "ولا تعد" فإنه من طريق الكراهة، ويكون حديث وابصة موافقًا له وأنه على وجه الاستحباب. وهذا الحديث ذكره الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" وكان يقول في القديم: لو ثبت هذا الحديث لقلت به؛ ثم وهنه في الجديد مما ذكرناه. وكان إبراهيم النخعي يقول: صلاته تامة وليس له تضعيف الأجر بالجماعة. فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى عنه فضل الجماعة؛ وأمره بالإعادة ليحصل له زيادة الأجر ولا يعود إلى ترك السنة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الفرع الثاني * في الصفوف *

الفرع الثاني في الصفوف لم يرد في المسند حديث يتضمن ذكر الصفوف وما يتعلق، ولكن قد جاء في كتاب "السنن والآثار" للبيهقي عن الشافعي في ذلك أحاديث قد ذكرناها. أخرج الشافعي من رواية المزني عنه: عن سفيان، عن محمد بن عجلان، عن أبيه -أو- عن المقبري، عن أبي هريرة أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) قال: " [خير] (¬1) صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها". هكذا رواه سفيان بن عيينة بالشك، ورواه الثوري وأبو عاصم، عن محمد ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة من غير شك. ورواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. وهذا الحديث أخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (¬5). وأخرجه المزني (¬6) عنه: عن عبد الوهاب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل على أصحابه بوجهه بعد ما أقيمت الصلاة قبل أن يكبر فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا إني لأراكم خلف ظهري" قال الشافعي في رواية حرملة: هذا ثابت عندنا وبهذا نقول. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (5806). (¬2) مسلم (440). (¬3) أبو داود (678). (¬4) الترمذي (224) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (2/ 93 - 94). (¬6) السنن المأثورة (رقم 69).

وهو حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) والنسائي (¬3). وقد أخرج الشافعي في كتاب البويطي عن مالك، عن سمي -مولى أبي بكر- عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول؛ ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا, ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح أتوهما ولو حبوًا". وأخرج الشافعي في القديم -عن مالك، عن نافع "أن ابن عمر كان يأمر رجالًا بتسوية الصفوف، فإذا جاءوا فأخبروه أن الصفوف قد استوت كبر". أخرجه الموطأ (¬4). وأخرج الشافعي في القديم عن مالك، عن عمه، عن أبيه قال: "جئت عثمان ابن عفان وقد أقيمت الصلاة وأنا غلام أسأله أن يفرض لي فكلمته، حتى أتاه الذي أمره بتسوية الصفوف أن قد استوت فقال: ادخل في الصف وكبر". أخرجه الموطأ (¬5). وأخرج المزني عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" (¬6). هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬7) ومسلم (¬8) وأبو داود (¬9) والترمذي (¬10) والنسائي (¬11). ¬

_ (¬1) البخاري (719). (¬2) مسلم (434) من غير طريق حميد بنحوه. (¬3) النسائي (2/ 92، 105). (¬4) الموطأ (1/ 146 رقم 44) لكن عن عمر. (¬5) الموطأ (1/ 147 رقم 45). (¬6) السنن المأثورة (رقم 158). (¬7) البخاري (637). (¬8) مسلم (604). (¬9) أبو داود (539). (¬10) الترمذي (592) وقال: حسن صحيح. (¬11) النسائي (2/ 31).

الفرع الثالث * في اختلاف القيام والقعود *

الفرع الثالث في اختلاف القيام والقعود أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خفة فقعد إلى جنب أبى بكر، فأم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وهو قاعد، وأم أبو بكر الناس وهو قائم". وقد عاد الشافعي -رضي الله عنه- أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" بهذا الإسناد واللفظ. وعاد أخرجه في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬1) عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلًا بمثل لفظ مالك وسيأتي ذكره. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي. فأما مالك (¬2): فأخرجه عن هشام عن أبيه مرسلًا "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في مرضه فأتى المسجد؛ فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كما أنت" فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان الناس يصلون بصلاة أبي بكر. ¬

_ (¬1) الأم (7/ 199). (¬2) الموطأ (1/ 130 رقم 8).

وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن زكريا بن يحيى، عن ابن نمير، عن هشام بالإسناد وذكر نحوه. وفي أخرى: عن أحمد بن يونس، عن زائدة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة وذكر أتم منه. وأما مسلم (¬2): فأخرجه بإسناد البخاري للرواية الثانية. وفي أخرى: عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، عن ابن نمير، عن هشام وذكر نحوه. ولهذا الحديث عنهما روايات كثيرة وفي بعضها أنه - صلى الله عليه وسلم - جلس عن يسار أبي بكر. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة. وذكر الحديث وله روايات أخرى. الذي أراد الخفة التي وجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ هي الخفة من المرض الذي كان به كأن وجد في المرض ضعفًا أعقبه نشاطًا. وأما ما جاء في بعض طرق الحديث "أنه جلس عن يسار أبى بكر" فلم يخص اليسار بفضيلة ليست لليمين؛ ولكن لمعنيين: أحدهما: أن حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي في جهة يسار المصلى في مسجد المدينة؛ فلما خرج إلى الصلاة قصد أقرب المواضع إليه مما يلي الحجرة، وهو يسار أبي بكر حيث كان إمامًا. ¬

_ (¬1) البخاري (683، 687). (¬2) مسلم (418)، (418/ 97). (¬3) النسائي (2/ 83 - 84).

والمعنى الثاني: هو أنه أراد أن يكون هو الإمام ليأتم به أبو بكر والناس؛ فوقف عن يساره ليصير أبو بكر عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين قد صار إمامًا وأبو بكر مأمومًا وموقف المأموم إذا كان واحداً أن يقف عن يمين الإمام؛ وأبو بكر كان في صف وحده. وقوله: "وهو قاعد" الضمير عائد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد فصل بينهما بالمفعول الذي هو أبو بكر، كما فصل بين قوله: "وهو قائم": الذي هو ضمير أبي بكر بالمفعول الذي هو الناس. ومعنى قوله "فأم أبو بكر الناس وهو قائم" أن أبا بكر كان يبلغ الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الإمام إذا مرض وتعذرت عليه الصلاة قائمًا؛ فالأولى أن يستخلف من يصلي بهم قائمًا؛ لأن الناس اختلفوا في صلاة القائم خلف القاعد فيخرج من الخلاف، ولأن صلاة القائم أفضل إجماعًا؛ فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة؛ فإن لم يستخلف وصلى جالسًا يصلي من خلفه قائمًا. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور. وإحدى الروايتين عن مالك أنه قال: لا تصح صلاة القائم خلف القاعد. وإليه ذهب محمد بن الحسن. وقال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق: يصلون خلفه جلوسًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد الوهاب الثقفي قال: سمعت يحيى بن سعيدٍ يقول: حدثني ابن أبي مليكة أن عبيد بن عمير الليثي حدثه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر يصلي بالناس الصبح، وإن أبا بكر كبر فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الخفة فقام يفرج الصفوف قال: وكان أبو بكر لا يلتفت إذا صلى، فلما سمع أبو بكر الحس من ورائه عرف أنه لا يتقدم إلى ذلك المقعد إلا رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - فخنس وراءه إلى الصف فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانه؛ فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنبه وأبو بكر قائم، حتى إذا فرغ أبو بكر قال: أي رسول الله أراك أصبحت صالحًا وهذا يوم بنت خارجة فرجع أبو بكر إلى أهله. فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانه وجلس إلى جنب الحجر يحذر الفتن وقال: "إني والله لا يمسك الناس على شيء إلا أني لا أحل إلا ما حل (¬1) الله -عز وجل- في كتابه؛ ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة بنت رسول الله، يا صفية عمة رسول الله؛ اعملا لما عند الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً". هكذا جاء هذا الحديث في كتاب الصلاة (¬2) مرسلًا عن عبيد الله بن عمير. وقد عاد الشافعي أخرجه في كتاب اختلافه مع مالك (¬3) بهذا الإسناد عن عبيد بن عمير قال: أخبرني الثقة -كأنه يعني عائشة- وذكر صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جانب أبي بكر بمثل حديث هشام عن أبيه، وهو طريق من طرق حديث عائشة الذي قبل هذا. قوله: "فقام يفرج الصفوف" أي يتخللها ليخلص إلى موضع الإمام، أي جعل فيها فرجة وهي موضع خال مما كان فيه. "والمقعد": موضع القعود يريد به مكان الإمامة لشرفه، وأنه لا يقدم عليه إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من أمره النبي مثله. "وخنس" يخنس -بالخاء المعجمة والنون- إذا تأخروا. "وراءه" منصوب على الظرف، وإلى هذا تعدى إليه الفعل بغير معد. فكذلك قوله: "فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - مكانه" أي إلى مكانه. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل في مطبوعة المسند (أحل) وسيأتي بعد قليل على الجادة. (¬2) الأم (1/ 80). (¬3) الأم (7/ 199).

فحذف الجار وأوصل الفعل. "وبنت خارجة": زوجة أبي بكر واسمها حبيبة وهي من الخزرج. "والحجر": جمع حجرة يريد بها حجر نسائه. وقوله: "يحذر الفتن" أي يحذر الناس من الفتن، فحذف المفعول الذي هو الناس لدلالة الفتن وهي المفعول الثاني عليه. وقوله: "إني لا يمسك الناس على شيء" يريد أنه لا ينسب فيما شرعه وسنه إلى هوى وغرض دنياوي وأمر نفساني حمله على ما فعله وقاله، فإن الذي شرعه وسنَّه كان وحيًا إلا هيًّا وحكمًا ربانيًّا فإنه مأمور في كل ما يأتيه ويذره؛ ولا يقدر أحد أن يأخذ عليه قولًا ولا يطعن عليه فعلاً؛ إلا ردف ذلك بقوله: "إلا إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه". ثم لم يكتف بذلك حتى قال: "يا فاطمة بنت رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله، اعملا لما عند الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئًا" فذكر أعز الناس عليه من جهة الولد والوالد، وخص الإناث لأن اللطف بهن أكثر والرحمة لهن أعظم. فعرفهم أن أعز الناس عليه وألزمهم به لا يغني عنه ولا ينفعه؛ وحثهما على العمل لما عند الله لأنه هو الذي ينفعهما ويغني بينهما، كل ذلك لسان قوله: "لا يمسك الناس على شيء" إني إذا كنت لا أنفع ألزامي ولا أغني عنهم؛ فكيف يكون الأجانب؟!! وإنَّ الفريقين عندي في الحكم المديني شرع سواء - صلى الله عليه وسلم -. قيل إن الصلاة التي أمَّ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وهو قاعد، وأبو بكر قائم يسمع الناس تكبيره: صلاة الظهر. والصلاة التي صلاها آخر هي صلاة الصبح، وكان قد سبقه أبو بكر بركعة فصلى خلفه الركعة الثانية وهو قاعد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس "أن رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - ركب فرسًا فصرع عنه فجحش شقه الأيمن، فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد فصلينا معه قعودًا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا؛ وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد، فإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا إلا أنه قال: "وراءه" بدل "معه" وقال: "أجمعون". وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بالإسناد ولفظ مالك. قال البخاري: قال الحميدي: هذا منسوخ قوله: "إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا" هذا كان في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك جالسًا والناس خلفه قيامًا. قال البخاري: ولم يأمرهم بالقعود وإنما يؤخذ بالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى، وقتيبة، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو، وزهير بن حرب، وأبي كريب، وأبي كامل جميعًا عن سفيان، عن الزهري وذكر نحو مالك. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك بالإسناد ولفظ مالك. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب بالإسناد ولفظ مالك. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 129 رقم 16). (¬2) البخاري (689). (¬3) مسلم (411). (¬4) أبو داود (601). (¬5) الترمذي (361) وقال: حسن صحيح.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن هناد بن السري، عن ابن عيينة، عن الزهري وذكر الحديث. "صُرِعَ" الرجل يصرع إذا سقط إلى الأرض وسواء كان راكباً أو قائما، والفعل مبنى لما لم يسم فاعله. وقوله: "عنه" معناه أنه صرع متجاوزًا له؛ لأن "عن" للمجاوزة، التقدير: أنه جاوزه بسقوطه عن ظهره، والمصرع: الموضع والمصدر معا. "والجَحْش" (بفتح الجيم وسكون الحاء) شجج الجلد وخدشه، تقول: أصابه شيء فجُحِش وجهه أو وجنبه يجحشه. "والشِق" (بكسر الشين) من كل نصفه، وأراد به في هذا الموضع جنبه لا يصف جنبيه. وقوله: "قيامًا وقعودًا وجلوسًا" نصب على الحال وهي جمع قائم وقاعد، وجالس. وقوله: "أجمعين" منصوب فإنه تأكيد لقوله جلوسًا. ومن رواه "أجمعون" جعله تأكيدًا للضمير في قوله "فصلوا". وفي رواية الشافعي: "فصلينا معه". وفي رواية الجماعة "فصلينا وراءه". وأما قوله: "معه" فإنه يفيد الاجتماع في الصلاة. وقوله: "وراءه" يفيد كيفية الوقوف معه إفادة صريحة، ولكنها لا تفيد الاجتماع إلا من جهة العادة والعرف وسياق لفظ الحديث. "والسقوط": الوقوع من علو ومن قامة الإنسان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا يحيى بن حسان، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة يعني بمثله. ¬

_ (¬1) النسائي (2/ 98 - 99).

هكذا ذكره الشافعي عقيب حديث أنس. وقد أخرجه الشافعي في كتابه "اختلافه مع مالك" (¬1) عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي وهو شاك فصلى جالسًا وصلى خلفه قومُ قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود. وأما مالك (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بالإسناد واللفظ (¬3). وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان، عن هشام. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك وذكره. "رجل شاك": أي مريض، والشكوى المرض لأن المريض يشكو ما يعرض له من الألم؛ أي يخبر بما نزل به منه ويظهر ما عنده من سوء المرض به. وهذا الحديث والذي قبله فيهما من الفقه أمران: أحدهما: صلاة العاجز قاعدًا. والثاني: حكم من يأتي به في جميع صلاته من قيام وقعود وركوع وسجود. أما موافقة المأموم لإمامه في القعود فليس مذهبًا للشافعي، وقد ذكرنا ما ذهب ¬

_ (¬1) الأم (7/ 199). (¬2) الموطأ (1/ 13 رقم 17). (¬3) سقط ذكر البخاري من الأصل على خلاف عادة المصنف. وقد أخرجه (688) عن عبد الله بن يوسف عن مالك وذكره. (¬4) مسلم (412). (¬5) أبو داود (605).

إليه في حديث عائشة. وأما باقي الأحكام من: جواز قعود العاجز، ومتابعة المأموم إمامه في غير القعود فهو مذهبه. إلا أن سياق هذين الحديثين والغرض الأهم منهما إنما هو: لمتابعة الإمام في صلاته قاعدًا، ألا تراه قد صرح به في حديث عائشة حيث قالت: "فأشار إليهم أن اجلسوا لما رآهم قد صلوا خلفه قيامًا". ثم في كل الحديثين قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به". وقوله فيهما: "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين" وهذا من أوضح ما يقال في أن الغرض من الحديثين: الاستدلال على ما ذهب إليه من قال: أن المأموم يصلي جالسًا كالإمام. والاستدلال وإن كان واضحاً والاحتجاج به ظاهر، فإن الشافعي ومن قال بقوله لا ينكرونه؛ ولكن يجعلونه منسوخًا بحديث عائشة عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه قاعدًا والناس خلفه قيام، وذلك من آخر أفعاله لأنه كان مرضه الذي مات فيه. قال الشافعي عقيب حديث أنس وعائشة: هذا وهذا ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منسوخ بسنته، وذلك أن أنس بن مالك يروي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى جالسا من سقطة فرس"، وعائشة تروي ذلك، وأبو هريرة يوافق روايتها، وأمر من خلفه في هذه العلة بالجلوس إذا صلى جالسا؛ ثم تروي عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مرضه الذي مات فيه جالسًا والناس خلفه قيامًا، وهي آخر صلاة صلاها بالناس بأبي وأمي - صلى الله عليه وسلم - حتى لقي الله عز وجل" وهذا لا يكون إلا ناسخًا. ثم ذكر رواية عروة عن عائشة في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه. وبعدها رواية الثقة -يعني حسان- ثم قال: فإن قيل: فقد ائتم أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر مأموم يعلم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

كان جالسًا ضعيف الصوت وكان أبو بكر قائمًا يرى ويسمع ثم ذكر رواية عبيد بن عمير وقال: فلم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجلوس ولم يجلسوا ولولا أنه منسوخ صاروا إلى الجلوس لمتقدم أمره إياهم. قال الربيع: فقلت للشافعي: فإنا نقول: لا يصلي أحد بالناس جالسًا ونحتج بأنا روينا عن ربيعة بأن أبا بكر صلى برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: فإن كان هذا ثابتا فليس فيه خلاف، لما أخذنا به ولا لما تركنا من هذه الأحاديث، قد مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيامًا وليالى لم يبلغنا أنه صلى بالناس مرة؛ لا يمنع أن يكون صلى أبو بكر غير تلك الصلاة بالناس مرة ومرارًا، وكذلك لو صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف أبى بكر مرة ومرارًا لم يمنع ذلك أن يكون صلى خلفه أبو بكر أخرى، كان أبو بكر يصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر عمره. قال الربيع: فقلت للشافعي: فقد ذهب إلى توهين حديثا هشام بن عروة بحديث ربيعة. قال الشافعي: فإنما ذهبتم إليه لجهالتكم بالحديث، وحديث ربيعة مرسل لا يثبت مثله ونحن لم نثبت حديثا هشام عن أبيه حتى أسنده هشام، عن أبيه، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف احتججتم بما لا يثبت بالحديث على ما لا يثبت؟ وهو إذا ثبت حتى يكون أثبت حديثا يكون كما وصفت؛ لا يخالف حديث عروة ولا أنس ولا يوافقه ولا معنى فيه من حديثنا. قال الشافعي: روى جابر الجعفي، عن الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمَنَّ أحد بعدي جالسا". وقد علم الذي يحتج بهذا ليس فيه حجة، وأنه لا يثبت لأنه مرسل، لأنه عن رجل يرغب الناس عن الرواية عنه -يريد جابر الجعفي- فإنه متروك الحديث عند أهل العلم، مذموم في روايته ومذهبه.

قال الدارقطني: لم يروه غير جابر الجعفي وهو متروك لا يقوم بحديثه حجة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير، عن جابر: "أنهم خرجوا يشيعونه وهو مريض فصلى جالسًا وصلوا خلفه جلوسًا". هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" بعد حديث عائشة الذي يرويه يحيى بن حسان، عن حماد، عن هشام، عن أبيه. قال الشافعي: فقد روى في هذا الصنف شيء يغلط به بعض من يذهب إلى الحديث، وذلك أن عبد الوهاب الثقفي أخبرنا عن يحيى بن سعيد، أن أسيد بن حضير فعل مثل ذلك. قال الشافعي: وفي هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم خلافه عنه، فيقول بما علم ثم لا يكون في قوله بأعلم، ويرى رجحه على أحد علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال قولاً أو عمل عملا ينسخ العمل الذي قال به غيره وعمله. وأراد الشافعي أنهما إنما فعلا ذلك لأنهما لم يعلما ما نسخه. قال: وفي هذا دليل على أن علم الخاصة يوجد عند بعض ويعزب عن بعض. والله أعلم.

الفرع الرابع * في المسبوق ببعض الصلاة *

الفرع الرابع في المسبوق ببعض الصلاة لم يرد في المسند فيه حديث، وإنما أخرج الشافعي -رضي الله عنه-فيه من رواية المزني (¬1) عنه: عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح قال: "كان الرجل إذا جاء وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا من صلاته؛ سأل فإذا أخبر كم سبق به صلى الذي سبق به، ثم دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته، فأتى ابن مسعود فدخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يسأل، فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فقضى ما بقي عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن ابن مسعود قد سن لكم سنة فاتبعوها" (¬2). قال سفيان: وقال غير عمرو بن دينار: هو معاذ. قال المزني: يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستن هذه السنة، فوافق ذلك فعل ابن مسعود. وذلك أن بالناس حاجة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما سن وليس به حاجة إلى غيره ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (رقم 64). (¬2) وأخرجه عبد الرزاق (3176) بنحوه عن عطاء مرسلًا أيضًا.

الفرع الخامس * في الإسراع إلى الصلاة *

الفرع الخامس في الإسراع إلى الصلاة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع إلى المسجد. هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك. وقد أخرجه الموطأ (¬1) إسنادًا ولفظًا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن يمشي إلى الصلاة وعليه السكينة والوقار ولا يعدو إليها عدوًا, ولعل ابن عمر أسرع إليها خوف أن تفوت فضيلة الجماعة لبعد الموضع. قال الربيع: فقلت للشافعي: نحن نكره الإسراع إلى المسجد إذا أقيمت الصلاة. قال الشافعي: فإن كنتم إنما كرهتموه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها تمشون وعليكم السكينة". فقد أصبتم، وهكذا ينبغي لكم في كل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر كلامًا طويلًا في مخالفة المالكيين. وقد أخرج الشافعي من رواية المزني (¬2) عنه: عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها تمشون عليكم السكينة؛ فما أدركتم ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 85 رقم 9). (¬2) السنن المأثورة (رقم 65).

فصلوا وما فاتكم فأتموا -فاقضوا-" (¬1). وهذان حديثان صحيحان أخرجه الجماعة (¬2). فقد أخرج من طريق الربيع حكاية عنه فيما بلغه عن جرير، عن منصور، عن زيد بن وهب "أن عبد الله -يعني ابن مسعود- دخل المسجد والإمام راكع فركع ثم دب راكعًا". قال الشافعي: هكذا نقول وقد فعل ذلك زيد بن ثابت. ... ¬

_ (¬1) كذا بالأصل ولفظه عند المزني في السنن (فاقضوا) فقط. (¬2) الموطأ (1/ 82 رقم 4)، والبخاري (636). ومسلم (602)، وأبو داود (572، 573)، والترمذي (327، 328)، والنسائي (2/ 114 - 115) كلهم من طرق عن أبي هريرة بنحوه.

الفرع السادس * في القراءة مع الإمام والفتح عليه *

الفرع السادس في القراءة مع الإمام والفتح عليه قد ذكرنا فيما سبق من الكتاب عند ذكر قراءة الفاتحة، واختلاف الأئمة في وجوبها. ما يتعلق بقراءة الإمام والمأموم؛ وذكرنا الخلاف في ذلك فلا حاجة إلى إعادته. نذكر هاهنا وجه من ذهب إلى خلاف ما ذهب إليه الشافعي، من إسقاط القراءة عن المأموم. وقد استدلوا على ذلك بما قد أخرجه الشافعي من رواية المزني عنه: عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن أكيمة الليثي، عن أبي هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة قال: "هل قرأ أحدكم معي آنفا"؟ قال رجل: نعم يا رسول الله، قال: "إنى أقول ما لي أنازع القرآن". قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما جهر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقراءة من الصلوات حين سمعوا ذلك [من] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "فانتهى الناس" إلى آخره من كلام الزهري (¬2). وابن أكيمة مجهول (¬3)، وقد تفرد به وقد اختلف في اسمه، وكيف يصح عن أبي هريرة ذلك وأبو هريرة يأمر بالقراءة خلف الإمام فيما جهر به وفيما خافت؟!!. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [أن] وهو تصحيف والمثبت من مصادر التخريج كأبي داود (826)، والترمذي (312) وغيرهما. وهو لفظه في المعرفة (3747) وعنه نقل المصنف. (¬2) قال البيهقي في المعرفة (3/ 76): قاله: محمد بن يحيى الذهلي صاحب الزهريات، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وأبو داود السجستاني. (¬3) وكذا قال الحميدي، وقال البزار: ليس مشهورًا بالنقل ولم يحدث عنه إلا الزهري. لكن قواه جماعة من النقاد، قال أبو حاتم: صحيح الحديث حديثه مقبول، وقال يعقوب بن سفيان: من مشاهير التابعين بالمدينة ووثقه الحافظ في التقريب. وراجع تهذيب الكمال (21/ 228).

وقد روى عمران بن حصين نحو ما رواه ابن أكيمة بدون قول الزهري فانتهى الناس. قال شعبة في حديث عمران بن حصين: فقلت لقتادة: كأنه كرهه؟ فقال: لو كرهه لنهى عنه. وقد استدل الشافعي في البويطي بما رواه أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل صلاة لم يقرأ بأم القرآن فهي خداج" فقال له [حامل] (¬1) حديثه هذا إني أكون أحيانًا خلف الإمام قال: اقرأ بها يا فارسي في نفسك. وأبو هريرة حمل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أولى بتفسيره، لأنه قد سمعه منه وقد شهد من تفسيره ما لم يشهد غيره ممن لم يسمعه. وقد تقدم الكلام على حديث أبى هريرة هذا وفي بعض طرقه قال: قلت: يا أبا هريرة, إني أسمع قراءة الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك. وقد قال يزيد بن شريك لعمر بن الخطاب وسأله عن القراءة خلف الإمام؟ فقال: اقرأ بفاتحة الكتاب. قلت: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا. قلت: وإن جهرت؟ قال: وإن جهرت. وروى ابن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب "أنه كان يأمر أن يقرأ خلف الإمام أظنه قال: في الظهر والعصر -في الركعتين الأولتين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الركعتين الآخرتين بفاتحة الكتاب". وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن هشيم، عن منصور، عن الحسن "أن عليًّا قال: اقرأ فيما أدركت مع الإمام". وقد روي عن عبد الله بن مسعود من رواية عبد الله بن زياد الأسدي قال: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [كامل] وهو تصحيف والتصويب من المعرفة (3/ 84).

"صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر". وقد روي عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام في الركعتن الأولتين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الآخرتن بفاتحة الكتاب". وروي عن أبي الدرداء أنه قال: "لا تترك قراءة فاتحة الكتاب (¬1)، خلف الإمام جهر أو لم يجهر". وروى عن عبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وعبد الله ابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مغفل، وأبي هريرة، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين: أنهم كانوا يأمرون بالقراءة خلف الإمام. وكان عبد الله بن عمرو بن العاص وهشام بن عامر: يقرأان خلف الإمام. قال الشافعي: لا تجزئ صلاة المرء حتى يقرأ بأم القرآن في كل ركعة إماما كان أو مأمومًا، كان الإمام يجهر أو يخافت، فعلى المأموم أن يقرأ بأم القرآن فيما خافت الإمام أو جهر. قال الربيع: وهذا آخر قول الشافعي سماعًا منه؛ وقد كان قبل ذلك يقول: لا يقرأ المأموم خلف الإمام فيما جهر الإمام فيه، ويقرأ فيما خافت فيه. قال: وأحب أن يكون ذلك في سكتة الإمام. وأما الفتح في القراءة عليه: فقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن نافع -مولى ابن عمر- قال: "كان ابن عمر يقرأ في السفر -أحسبه قال في العتمة- "إذا زلزلت الأرض"، فقرأ بأم القرآن فلما أتى عليها قال: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الرحمن ¬

_ (¬1) في الأصل زاد بعد قوله: (الكتاب): [وروي عن أبي الدرداء خلف ...] وهي زيادة مقحمة والظاهر أنه انتقال نظر من الناسخ، وبحذفها يستقيم السياق وكذا في المعرفة (3/ 88).

الرحيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال: فقلت: إذا زلزلت. فقال: إذا زلزلت". "الزلزلة": الحركة الشديدة. وفي هذا الحديث من الفقه: جواز فتح المأموم على الإمام في القراءة إذا ارتج عليه. وقد أخرجه الشافعي في كتاب الأمالي (¬1) مستدلًا به على قراءة السورة بعد أم القرآن، والابتداء في أولها بالبسملة. وقد ذكرنا القول في ذلك فيما مضى من الكتاب. قال الربيع: سألت الشافعي أيقرأ أحد خلف الإمام أم القرءان في الركعة الآخرة من شيء؟ فقال: أحب ذلك وليس بواجب عليه. قال الشافعي: وأحب أن يقرأ المصلي بعد أم القرآن سورة من القرآن؛ فإن قرأ بعض سورة أجزأه؛ وإن مبتدأ القراءة في السورة التي بعدها ببسم الله الرحمن الرحيم. أما حكم الفتح عليه فإن الشافعي قال: ولا بأس بتلقين الإمام في الصلاة. وروي عن علي، وعثمان، وابن عمر، وبه قال عطاء، والحسن البصري، وابن سيرين، ونافع بن جبير بن مطعم، وابن معقل، ومالك، وأحمد، وإسحاق. وكره ذلك ابن مسعود، والشعبي، وشريح، والثوري. وأما أبو حنيفة [] (¬2) ¬

_ (¬1) انظر مسند الشافعي المطبوع مع الأم صـ (352). (¬2) ما بين المعقوفتين بياض بالأصل قدر نصف سطر، ولإتمام الفائدة نذكر مذهب الأحناف إجمالا. وحاصل المذهب أنه إن فتح على إمامه بنية القراءة فسدت صلاته، وإن فتح بنية إصلاح الصلاة وتلقينه لم تفسد. قال محمد بن الحسن في الآثار (1/ 187): أخبرنا أبو حنيفة عن حماد =

الفرع السابع * في إعادة الصلاة مع الإمام *

الفرع السابع في إعادة الصلاة مع الإمام أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن رجل من بني الديل يقال له بسر بن محجن، عن أبيه محجن "أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن بالصلاة فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحجن في مجلسه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منعك أن تصلى مع الناس ألست برجل مسلم"؟. قال: بلى يا رسول الله، ولكن كنت قد صليت في أهلي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت". هذا الحديث أخرجه الموطأ والنسائي. فأما الموطأ (¬1): فأخرجه بالإسناد مثله وزاد فيه بعد قوله: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فصلى ورجع ومحجن في مجلسه. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك مثل مالك. قوله: "ومحجن في مجلسه" يريد أنه لم يقم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة. وقوله: "ألست برجل مسلم" إستفهام يتضمن تقريرًا وتوبيخًا؛ لأنه استفسار عن العلة التي تترتب عليها الصلاة وهي الإسلام. وفيه إشارة إلى أن الصلاة إنما هي شعار المسلمين، فإن كنت مسلمًا فلم لم تصل؟!!. ¬

_ = عن إبراهيم في الإمام يغلط بالآية: قال: يقرأ بالآية التي بعدها فإن لم يفعل قرأ سورة غيرها، فإن لم يفعل فليركع إذا كان قرأ ثلاث آيات أو نحوها فإن لم يفعل فافتح عليه وهو مسيء، قال محمد: وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة. وانظر في ذلك شرح فتح القدير (1/ 399 - 401)، والفقه الإسلامي وأدلته (2/ 11) والفقه على المذاهب الأربعة (1/ 244). (¬1) الموطأ (1/ 127 رقم 8). (¬2) النسائي (2/ 112).

وأن تارك الصلاة إنما يكون من ليس بمسلم، فأما مع وجود الإسلام فلا وجه لترك الصلاة إلا من عذر. وقوله: "إذا جئت" يريد إذا جئت إلى المسجد، لأنه مظنة الصلاة. والذي ذهب إليه الشافعي أن الإنسان إذا كان قد صلى صلاة منفرداً؛ ثم أدركها في جماعة أعادها أداءً مع الجماعة. فإن كان صلاها في جماعة فاختلف أصحابه: فمنهم من قال: يصليها أيضًا. ومنهم من قال: لا يصليها. ومنهم من فصل: فقال: إن كانت صلاة الصبح أو صلاة العصر لا يعيدها؛ لكراهية الصلاة بعد الصبح والعصر ويعيد الباقي. والأول أشبه كلام الشافعي لأنه أطلق القول ولم يقيد. وروي مثل ذلك عن علي، وأنس، وحذيفة، وابن المسيب، وابن جبير، والزهري، وأحمد. إلا أن أحمد قال: لا يصلي الفجر والعصر إلا مع إمام الحي. وقال مالك: إن كان قد صلى وحده أعادها إلا المغرب، وإن صلاها جماعة لم يعدها. وقال الأوزاعي: يعيدها إلا الصبح والمغرب. وقال أبو حنيفة: لا يعيد إلا الظهر والعشاء. ثم إذا قلنا بالإعادة فإن الشافعي قال في الجديد: الأولى فرضه. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال في القديم: يحتسب الله أيتهما شاء. وحكي عن الشافعي والأوزاعى أنهما قالا: هما فرضه. قال الشافعي: لم يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه صلاة دون صلاة، وإنما قلنا هذا لأن

حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة، وأنه بلغنا أن الصلاة التي أمر النبي الرجلين أن يعودا لها صلاة الصبح، قاله في القديم. ورواه أيضًا هشيم فذكر الحديث الذي أخرجه أبو داود (¬1)، والترمذي (¬2) والنسائي (¬3): عن يزيد بن الأسود قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجته، فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف فلما قضى الصلاة انحرف، فإذا هو برجلين في آخر المسجد ما شهدا معه الصلاة، فقال: "عليّ بهما" فأتى بهما ترعد فرائصهما فقال "ما منعكما أن تصليا معنا"؟ قالا: يا رسول الله، إنا كنا صلينا في رحالنا. قال: "فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما". في احتجاج من احتج بحديث يعلى بن عطاء -يريد هذا الحديث- في أن المكتوبة هي الأولى. هذا إسناد مجهول (¬4)، وهذا الحديث يبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهما أن يعيدا الصبح، وهو يقول: لا تعاد الصبح -يعني من خالفه- فإن كانت فيه حجة فهي عليه. ¬

_ (¬1) أبو داود (575). (¬2) الترمذي (219) وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (2/ 112 - 113). (¬4) قال الحافظ في التلخيص (2/ 29): قال الشافعي في القديم: إسناده مجهول، قال البيهقي: لأن يزيد بن الأسود لبس له راو غير ابنه، ولا لابنه جابر راو غير يعلى. قلت: يعلى من رجال مسلم، وجابر وثقه النسائي وغيره، وقد وجدنا لجابر بن يزيد راويا غير يعلى أخرجه ابن منده في المعرفة ... اهـ. ونقل الحافظ تصحيحه عن ابن السكن، وأخرجه ابن خزيمة (1638)، وابن حبان (1564، 1565) في صحيحيهما، وقال الحاكم بعد إخراجه (1/ 244 - 245): هذا حديث رواه شعبة وهشام ابن حسان وغيلان بن جامع وأبو خالد الدالاني وأبو عوانة وعبد الملك بن عمير ومبارك بن فضالة وشريك بن عبد الله وغيرهم عن يعلى بن عطاء. وقد احتج مسلم بيعلى بن عطاء.

وإنما هذا: لأن يزيد بن الأسود ليس له راو غير أبيه؛ ولا لجابر بن يزيد راو غير يعلى بن عطاء؛ ويعلى لم يحتج بحديثه بعض الحفاظ. وقد نص الشافعي في كتاب "الجمعة" و"سنن حرملة" على أن صلاته مع الجماعة نافلة له. واحتج في "سنن حرملة" بحديث هشيم وكأنه عرف صحة إسناده فذهب إليه. وقال فيما ألزم مالكًا: قد روى مالك: عن ابن عمر، وابن المسيب أنهما أقرا من صلى ببيته أن يعود لصلاته مع الإمام. وقال السائل: أيتهما أجعل صلاتي؟. فقالا: وذلك إليك! إنما ذلك إلى الله. وقد روي مثل هذا عن أبي أيوب الأنصاري. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع أن ابن عمر كان يقول: "من صلى المغرب والصبح ثم أدركهما مع الإمام فلا يعد لهما". هذا الحديث هكذا جاء في الموطأ (¬1)؛ واستدل به مالك على مذهبه في أنه لا يعيد صلاة المغرب، واحتج بأنه إذا صلاها مرة ثانية صارت شفعًا؛ لأنها ثلاث ركعات فإذا أعادها صارت ستاً، والمغرب هي وتر صلاة النهار كذا جاء في الحديث (¬2). وهذا الحديث عن ابن عمر قد جمع في المنع من الإعادة بين الصبح والمغرب، فاستعمله مالك في المغرب وحدها لما ذكرناه من كون المغرب يصير بالإعادة شفعًا، وقد كان عليه أن يجري المنع في الصبح مثل المغرب؛ ويحتج بأن الصبح ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 128 رقم 12). (¬2) يشير إلى ما أخرجه أحمد (2/ 30، 41) وغيره عن ابن عمر مرفوعًا: (صلاة المغرب وتر النهار، فأوتروا صلاة الليل).

قد نهى عن الصلاة بعدها حتى تطلع الشمس؛ وبهذا يحتج من ذهب إلى المنع من إعادة صلاة الصبح. قال الربيع: قلت للشافعي: وإنا نقول يعيد كل صلاة إلا المغرب فإنه إذا أعادها؛ صارت شفعًا. فبين الشافعي خلافهم للحديث جملة، وخلافهم ابن عمر ثم قال: قولكم إذا أعاد المغرب صارت شفعًا، كيف يصير شفعًا وقد فصل يينهما بسلام؟. قال بعض العلماء: ودعوة من ادعى النسخ في هذه الأخبار؛ بأخبار النهي عن صلاة النفل بعد الصبح والعصر باطلة، لا يشهد له بها تاريخ ولا سبب يدل الناسخ منهما؛ والجمع بين الأخبار أولى. ***

الفرع الثامن في * الأقتداء بإمامين *

الفرع الثامن في الاقتداء بإمامين أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن أبي حازم (¬1) بن دينار، عن سهل بن سعد "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، وحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي للناس فأقيم؟ فقال: نعم. فصلى أبو بكر فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة، فخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس قال: وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، ثم استأخر أبو بكر وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما انصرف قال: "يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذا أمرتك"؟. فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله "ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ فمن نابه في صلاته شيء فليسبح فإنه إذا سبَّح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء". قال أبو العباس الأصم: أخرجت هذا الحديث في هذا الموضع وهو معاد، إلا أنه مختلف اللفظ وفيه زيادة ونقصان. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الترمذي، وقد تقدم ذكره في الكلام في الصلاة، وقد ذكرنا طرق الأئمة الذين أخرجوه. ¬

_ (¬1) بالأصل [ابن أبي حازم] وزيادة [ابن] مقحمة والصواب حذفها، كما جاء في مطبوعة المسند ومصادر التخريج الأخرى وأبو حازم هو: سلمة بن دينار.

وهذه الرواية التي أخرجها هاهنا هي رواية مالك في الموطأ التي ذكرناها هناك. وكذلك قد ذكرنا شرح ألفاظ الحديث وما فيه من الفقه هناك. ولنذكر الآن هاهنا ما يتعلق بأحكام الإمامة، فإن تلك الرواية أخرجها الشافعي في كتاب "الأمالي" (¬1) مستدلًا بها على ما يجوز من الكلام في الصلاة، وهذه أخرجها في كتاب "الإمامة" (¬2) وقد روى المزني، عن الشافعي، عن مالك هذه الرواية وزاد فيها "ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى". وأخرج الشافعي: عن سفيان بن عيينة، عن أبي حازم هذا الحديث أطول من هذه الرواية وأتم. قال الشافعي في الإمام إذا أحدث فقدموا وقدم الإمام رجلًا فأتم لهم ما بقي من الصلاة: أجزأتهم صلاتهم؛ لأن أبا بكر قد افتتح للناس الصلاة ثم استأخر فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصار أبو بكر مأمومًا بعد أن كان إمامًا، وصار الناس مع أبي بكر يصلون بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد افتتحوا بصلاة أبي بكر. قال الشافعي: وهكذا لو استأخر الإمام من غير حدث وتقدم غيره أجزأت من خلفه صلاتهم. وأختار أن لا يفعل هذا الإمام وليس أحد من هذا كرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وأحب إذا جاء الإمام وقد افتتح الصلاة غيره أن يصلى خلف المتقدم، وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلف عبد الرحمن بن عوف في سفره إلى تبوك. ¬

_ (¬1) الأمالي المطبوع مع الأم ص 351. (¬2) الأم (1/ 156).

قال: وللإمام أن يفعل أي هذه شاء والاختيار ما قلنا. وقال في القديم: قد قال قائل: يعتد بما مضى ثم يأتم بالإمام فيما بقي وليس نقول هذا. ثم قال: فإن كان يجزئ أن يصلي صلاة بإمامين إذا أحدث الأول، قدم الآخر، أجزأ هذا عندنا والله أعلم. وذكر في حديث عطاء بن يسار: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر في صلاة من الصلوات ثم أشار أن امكثوا ثم رجع على جلده أثر الماء" وأكده برواية ابن ثوبان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه. وقد ذكرنا هذين الحديثين فيما مضى من الكتاب وشرحنا القول فيهما. ***

الفصل الخامس من باب صلاة الجماعة في * اختلاف نية الأمام والمأموم *

الفصل الخامس من باب صلاة الجماعة في اختلاف نية الإمام والمأموم أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة أنه سمع عمرو بن دينار يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء أو العتمة، ثم [يرجع] (¬1) فيصليها بقومه في بني سلمة قال: فأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة قال: فصلى معاذ معه ثم رجع فأمَّ قومه فقرأ بسورة البقرة، فتنحى رجل من خلفه وصلى وحده فقالوا له: أنافقت؟ فقال: لا, ولكني آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه فقال: يا رسول الله، إنك أخرت العشاء وإن معاذًا صلى معك ثم رجع فأمَّنا فافتتح بسورة البقرة، فلما رأيت ذلك تأخرت فصليت وإنما نحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذ فقال: "أفتان أنت يا معاذ؟ اقرأ بسورة كذا وسورة كذا". أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، أخبرنا أبو الزبير، عن جابر مثله وزاد فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ونحوها". قال سفيان: فقلت لعمرو: وإن أبا الزبير يقول: قال له: اقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}. فقال عمرو: هذا أو نحوه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج -قال الربيع: قيل لي: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [رجع]، وقد ساقه قبل ذلك كما هو مثبت، وكذا في مطبوعة المسند.

هو عن ابن جريج ولم يذكر عندي ابن جريج- عن عمرو، عن جابر قال: "كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء؛ ثم ينطلق إلى قومه فيصليها لهم؛ هي له تطوع وهي لهم مكتوبة العشاء. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ابن عجلان، عن عبد الله ابن مقسم، عن جابر بن عبد الله "أن معاذ بن جبل كان يصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي العشاء وهي له نافلة". وكذا رواه حرملة عن الشافعي. وقال الشافعي في رواية حرملة: هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود والنسائي. فقد تقدم إخراجه وذكر طرقه، وبيان شرح غريبه ومعناه، واختلاف ألفاظ رواياته، وما فيه من الفقه والأحكام في آداب الإمام وما يجب عليه من تخفيف الصلاة، إلا أن الشافعي ذكره هناك مختصرًا وذكره هاهنا أتم، والزيادة التي ذكرها هاهنا قد أوردناها في جملة روايات الأئمة الذين أخرجوه باختلاف طرقهم واتفاق المعنى. وزاد الشافعي هاهنا في الرواية الثالثة قوله: "هي له تطوع ولهم مكتوبة" ونحن نشير إلى شيء مما يتعلق بألفاظ هذا الحديث. قال في الرواية الأولى: أنه كان يصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء والعتمة، وفي نسخة أخرى: أو العتمة فيجوز أن يكون أراد بالعشاء صلاة المغرب، وبالعتمة صلاة العشاء الآخرة، فقد بينا جواز إطلاق لفظة العشاء على المغرب وورد ذلك في الحديث، ومن منع من تسميتها ومن أجازها فأراد أن معاذًا كان يصلي الصلاتين مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.

ويكون قوله: فأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة" يجوز أن يريد بها المغرب كما قلناه. ويجوز أن يكون أراد بها العشاء الآخرة، وذلك أنه لما أراد أن يخبره عن صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يصلي الصلاتين معًا قال: كان يصلي العشاء والعتمة، ثم أراد يخبر أن الصلاة التي أمَّ قومه بها كانت العتمة سمَّاها باسمها الشرعي وهو العشاء؛ هذا على تقدير أن يكون أراد أن يخبر أنه كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاتين، فأما إن كان أراد أنه كان يصلي العشاء فوجه الجمع بين قوله: العشاء والعتمة. أنه لما قال: كان يصلي صلاة العشاء ربما كان سبق إلى الوهم أنه يريد فأتبعها بقوله: "والعتمة" ليخصصها بالذكر ويمنع من طرآن ذلك الوهم، فكأنه قال: كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة التي تسمى العشاء أو العتمة. وأما ما جاء في النسخة الأخرى وهو قوله: "أو العتمة" بالشك فإن هذا الشك إن كان في أصل العلم بإحدى الصلاتين المغرب أو العتمة على ما قلنا؛ ولم يدر أيهما كانت الصلاة فيجوز إطلاقه على جابر أو من بعده من الرواة، إلا أن إضافته إلى جابر أبعد لقرب عهده بالحادثة؛ ولأنه قد شاهدها ويعضد ذلك: أن باقي روايات الشافعي وروايات الجماعة الذين أخرجوا هذا الحديث أكثر ما أخرجوا طرقهم وسمعوا صلاة العشاء. وقد جاء في بعض طرق أبي داود: "صلاة المغرب" فيتوجه الشك لذلك. هذا إذا كان الشك في إحدى الصلاتين، فإن كان الشك في أي الاسمين روى الحديث هل هو العشاء أو العتمة؟ فينصرف الشك عن جابر؛ لأنه لم يشك في نفسه الصلاة التي صلاها معاذ؛ إنما الشك ممن روى عن جابر، هل قال: العشاء أو العتمة؟ أو ممن روى من رجال هذا الحديث غير التابعي -والله أعلم- وأما قوله: "وهي لهم مكتوبة العشاء" فيجوز أن يضاف مكتوبة إلى

العشاء وأن تنوبه مكتوبة. "والمكتوبة": هي المفروضة فمعنى الإضافة أي وهي لهم فريضة العشاء. وأما التنوين فيكون التقدير: وهي لهم فريضة، وذلك ليزدوج الكلام فإنه قال: فهي له تطوع، فاحتاج أن يقول: وهي لهم مكتوبة، ثم لما قال ذلك أردفه بقوله: العشاء بيانًا؛ لأن المكتوبة كانت فريضة العشاء، ويكون العشاء مرفوعًا لأنه بدل من قوله: مكتوبة، كأنه قال: وهي لهم للعشاء. وهذه الألفاظ التي هي قوله: "فهي له نافلة ولهم مكتوبة" يتعلق بها حكم من أحكام أصول الحديث، وذلك أن كل ما كان موصولاً بالحديث مدرجًا به فهو منه، إلا أن تقوم دلالة على التمييز وخاصة إذا روي من وجهين فالظاهر أن قوله: "هي له نافلة ولهم مكتوبة" من قوله جابر بن عبد الله فقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بالله وأخشى له من أن يقولوا مثل هذا إلا بعلم (¬1). وحين حكى الرجل فعل معاذ لرسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) لم ينكر منه إلا التطويل، ولم يفصل الحال عليه في الإمامة ولو كان فيها تفصيل لعلمه إياه كما علمه ترك التطويل. قال الشافعي: قلت لبعض أهل العلم: أرأيت هذا الحديث إذ رواه جابر وعمرو بن دينار وأبو الزبير وعبيد الله بن مقسم أصحيح هو؟ قال: نعم وعمرو من وافق الناس قلت: وجابر أوثق. قال: نعم. قلت أفتعرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافه؟ قال: لا. قال: فإن صاحبنا قال: [لعل] (¬2) معاذًا كان يجعل ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (2/ 230) عقب ذكر هذه الزيادة: هو حديث صحيح رجاله رجال الصحيح .... فهي زيادة من ثقة حافظ ليست منافية لرواية من هو أحفظ ولا أكثر عددًا، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها وأما ما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة، فجوابه: أن الأصل عدم الأدراج حتى يثبت التفصيل فمهما كان مضمومًا إلى الحديث فهو منه ولاسيما إذا روي من وجهين والأمر هنا كذلك. (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [لعلنا] وهو تصحيف والمثبت هو الجادة.

صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نافلة ومعهم فريضة. قلت له: حديث عمرو بن دينار يقطع عليك العذر فإنه قال عن جابر: فهو له نافلة ولهم فريضة قال: فلو لم يكن فيه هذا الحرف؟. قلت: إذًا تعلم أن ما قلت على غير ما قلت. قال بأي شيء قلت: أتجعل معاذًا صلاته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - التي بعد صلاة واحدة معه أحب إليه من كل صلاة صلاها في عمره ليست معه وفي الجماعة الكثيرة نافلة، وتجعل صلاته في القليل وهو إمام فريضة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المفترض يجوز له أن يصلى خلف المتنفل، والمتنفل يجوز له أن يصلي خلف المفترض، وأن يصلي صلاة والإمام في فرض آخر. وبه قال عطاء، وطاوس، والأوزاعي، وأبو ثور، وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره ابن المنذر، والحميدي. وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في روايته الأخرى: لا يصلي مفترض خلف متنفل، ولا مفترض في فريضة ويصلي متنفل خلف مفترض. وبه قال الزهري وربيعة. وقد استدل الشافعي على صحة ما ذهب إليه، بما أخرجه عن الثقة ابن علية أو غيره، عن يونس، عن الحسن، عن جابر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخلة، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم". قال الشافعي: والآخرة من هاتين للنبي - صلى الله عليه وسلم - نافلة وهي للآخرين فريضة. وهذا حديث صحيح وسيجيء مشروحًا مبينًا في باب صلاة الخوف. واستدل أيضاً عليه: بما أخرجه عن ابن عمر في صلاة المقيم خلف المسافر، وبما أخرجه أيضا عن عمر بن الخطاب في ذلك. وسيجيء ذكر هذين في باب صلاة المسافرين في موضعه إن شاء الله تعالى.

الباب الثالث من القسم الأول من كتاب الصلاة في صلاة المسافرين

الباب الثالث من القسم الأول من كتاب الصلاة في صلاة المسافرين وفيه فصلان: الفصل الأول في القصر وفيه تسعة فروع: الفرع الأول: في مبدأ القصر أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج [عن] (¬1) عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، عن عبد الله بن باباه، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله -عز وجل- {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس. قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صدقة تصدق الله -عز وجل- بها عليكم فاقبلوا صدقته". هكذا أخرجه في كتاب "استقبال القبلة" (¬2). وأخرجه في كتاب "الأمالي" (¬3) عن مسلم وحده بالإسناد قال: قلت لعمر ابن الخطاب: ذكر الله تعالى القصر في صلاة الخوف. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأول والصواب إثباته وكذا جاء في مطبوعة المسند. وفي الأم (1/ 179) لفظ التحمل هو: (أخبرني ...). (¬2) الأم (1/ 179). (¬3) الأم (كتاب الأمالي من المسند) صـ 351.

فأنى القصر في غير الخوف؟! فقال عمر بن الخطاب: لم عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته". وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وزهير بن حرب، عن ابن جريج بالإسناد واللفظ، إلا أنه زاد في أوله قال: قلت لعمر بن الخطاب: "ليس عليكم جناح أن تقصروا". وفي أخرى: عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن يحيى، عن ابن جريج. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، ومسدد، عن يحيى، عن ابن جريج. وعن خشيش، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج بالإسناد قال: قلت لعمر (¬3) إقصار الصلاة اليوم وإنما قال الله -عز وجل- {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬4) فقد ذهب ذلك اليوم؟! وفي أخرى: عن أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق ومحمد بن أبي بكر، عن ابن جريج. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج بالإسناد. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن عبد (¬7) بن حميد، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. ¬

_ (¬1) مسلم (686). (¬2) أبو داود (1199، 1200). (¬3) لفظ أبي داود: (أرأيت إقصار ...). (¬4) النساء: [101]. (¬5) النسائي (3/ 116 - 117). (¬6) الترمذي (3034) وقال: حسن صحيح. (¬7) في الأصل [عبد الله] وهو تحريف والصواب هو المثبت وكذا عند الترمذي.

"قصرت من الصلاة" أقصر قصرًا إذا أحذفت بعضها، وهو من القصر ضد الطول؛ لأن صلاة الحضر أربع ركعات وصلاة السفر ركعتان، فتلك طويلة وهذه قصيرة. وأما ما جاء في رواية أبي داود "إقصار الصلاة" فإنه على لغة من قال: أقصرت أقصر إقصارًا. واللغة الأولى أكثر وأفصح. "والفتنة": الابتلاء والمراد بها في الآية: الاغتيال والغلبة والقتال والتعرض بما نكره، وليست المخافات شرطًا لجواز القصر للاجماع على جوازه مع الأمن وإنما ذكر الخوف في الآية: لأن غالب أسفارهم يومئذٍ كانت مخوفة؛ لكثرة العدو بأرضهم وكونهم محدقين بهم من كل جهة؛ فأينما توجهوا واجههم العدو. ثم وردت السنة بجوازه مع عدم الخوف؛ ألا ترى كيف أتبعها بذكر صلاة الخوف فقال -عز وجل-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1) على أن ظاهر الآية للتخيير وإليه ذهب الشافعي وسيرد بيان المذهب في ذلك. "والأمن": ضد الخوف أمن يأمن فهو آمن. "والجناح": الإثم. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} (¬2) من أوضح الأدلة على أن القصر رخصة؛ لأن العزيمة لا يقال لفاعلها لا إثم عليك في فعلها؛ بل يقال له: يجب عليك فعلها، فنفي الإثم عن فاعلها دليل على أنها رخصة لا عزيمة. ثم قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (2) أدل دليل على أن أصل الصلاة هو أربع؛ لأن القصر إنما يكون من شيء أطول منه، فلو كان الأصل في الصلاة القصر لما قال "أن تقصروا". ¬

_ (¬1) النساء [102]. (¬2) النساء: [2].

وكذلك قوله: "صدقة تصدق الله بها عليكم" من أوضح البيان في كونها للرخصة؛ لأن الصدقة هى ما جاءت عفوًا لا كلفة فيها ولا حجر على من أعطيها؛ كأنه في ضيق بعدهما فلما خص بها وجد سعة وراحة. "والعجب من الشيء": هو استغرابه وخروجه عن أمثاله من الأمور المألوفة. وحقيقة الأمر الذي يخفى سببه ولا يعرف كيف حدوثه هذا هو الأصل. وأمر عجيب وعجاب تقول: عجبت من الأمر أعجب عَجَبًا -بالفتح- والاسم العُجب -بالضم- ولذلك يعجب من القصر لأنه خفي عنه سببه؛ إذا كان قد علم أن سبب القصر الخوف من العدو؛ فلما رآه مستمرًا مع عدم الخوف أنكره، لأن السبب الذي كان موجبًا له زال. وقوله: "فأنى نقصر" أنى بمعنى أين، فأين ذكر القصر من غير خوف، أو بمعنى كيف يقصر في غير الخوف ولم يذكر الله القصر إلا في الخوف؟!. والذي ذهب إليه الشافعي: أن القصر في الصلاة رخصة وليس بعزيمة، وهو مخير إن شاء قصر وإن شاء أتم. وروى الإتمام عن عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وأنس، وعائشة. وإليه ذهب الأوزاعى، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل وقال مرة: السنة ركعتان، ومرة: أنا أحب العافية من هذه المسألة وهو المشهور من مذهب مالك. وقال أبو حنيفة: إذا صلى أربعًا فإن جلس للتشهد الأول أجزأت عنه الركعتان الأوليان؛ وكانت الركعتان الآخرتان نافلة وإن لم يجلس للتشهد الأول وجب عليه إعادة الصلاة. والله أعلم.

الفرع الثاني * في وقت القصر وموضعه *

الفرع الثاني في وقت القصر وموضعه أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن أنس بن مالك قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر أربعًا، وصليت العصر بذي الحليفة ركعتين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن [ابن] (¬1) المنكدر أنه سمع أنس بن مالك يقول مثل ذلك. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك بمثل ذلك. وقد أخرجه المزني عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، قال: وأحسبه قال: بات بها حتى أصبح". ورواه حرملة عن الشافعي ثم قال الشافعي: هذا حدث ثابت. وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن أبي نعيم، عن سفيان، عن ابن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن خلف بن هشام وأبي الربيع الزهراني وقتيبة بن سعيد، كلهم عن حماد بن زيد. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب إثباته وكذا جاء في مطبوعة المسند ومصادر التخريج الأخرى. (¬2) البخاري (1089). (¬3) مسلم (690).

وأخرجه عن زهير بن حرب ويعقوب بن إبراهيم، عن إسماعيل بن علية كلاهما عن أبي قلابة. وفي أخرى: عن سعيد بن منصور، عن سفيان، عن ابن المنكدر وإبراهيم، عن أنس. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن زهير بن حرب، عن ابن عيينة، عن ابن المنكدر. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، عن ابن المنكدر. وأما النسائي (¬3): فأخرجه [] (¬4) "والظهْر" اسم للوقت بعد زوال الشمس، ومنه سميت صلاة الظهر وهو من الظهير: الهاجرة. والعصر: اسم لوقت العشي وبه سميت صلاة العصر. "وذو الحليفة": موضع قريب من المدينة إذا تجاوزت العقيق مقبلًا وبه مسجد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ميقات أهل المدينة منه يحرمون، وميقات أهل الشام إذا كان طريقهم عليه. والذي أراده الشافعي من هذا الحديث: الاستدلال على أن من أراد سفرًا وصلى قبل خروجه فإنه يتم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الظهر بالمدينة وقد نوى السفر؛ ثم صلى العصر بذي الحليفة ركعتين. وتفصيل المذهب فيه: أن من نوى السفر فلا يقصر حتى يفارق بنيان البلد الذي هو فيه. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وإسحاق. ¬

_ (¬1) أبو داود (1202). (¬2) الترمذي (546). (¬3) النسائي (1/ 235) (¬4) ما بين المعقوفتين بياض بالأصل قدر سطر. وقد أخرجه النسائي عن قتيبة، عن سفيان، عن ابن المنكدر وإبراهيم بنحو رواية الترمذي.

وحكي عن قتادة أنه قال: إذا فارق الجسر والخندق قصر. وروي عن الحارث بن أبي ربيعة: أنه أراد سفرًا فصلى ركعتين في منزله؛ وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي عن عطاء أنه قال: إذا حضرت الصلاة ولم يخرج من بيوت القرية؛ فإن شاء قصر وإن شاء أتم. وروي عن مجاهد أنه قال: إذا خرج نهارًا فلا يقصر إلى الليل؛ وإذا خرج ليلاً فلا يقصر إلى النهار، وإن كان المسافر بدويُّا فلا يقصر حين يقصر حتى يفارق جميع البيوت المجتمعة. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع "أن ابن عمر كان إذا خرج حاجُّا أو معتمرًا قصر الصلاة بذي الحليفة". قد ذكرنا أن أقصر لغة في قصره ليست بالعالية. وهذه الرواية أخرجها مالك في الموطأ (¬1). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 138 رقم 10).

الفرع الثالث في * مسافة القصر *

الفرع الثالث في مسافة القصر أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس "أنه سئل: القصر (¬1) إلى عرفة؟ فقال: لا. ولكن إلى عسفان وإلى جدة وإلى الطائف". هكذا أخرجه في كتاب "استقبال القبلة" (¬2)، وعاد أخرجه في كتاب "الأمالي" (¬3). بالإسناد وفيه قال: قلت: أقصر إلى عرفة؟ قال: لا ولكن إلى جدة وعسفان والطائف، وإن قدمت على أهل أو ماشية فأتم. قال: وهذا قول ابن عمر بن الخطاب وبه نأخذ. وعاد أخرجه في كتاب "علي وعبد الله" قال الربيع: قال الشافعي بهذا الإسناد أنه قال: تقصر الصلاة إلى عسفان وإلى الطائف وإلى جدة وهذا كله من مكة على أربعة بُرُد ونحو ذلك. هذا حديث صحيح قد أخرجه مالك في الموطأ (¬4) هذا لفظه: أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف وفي مثل ما بين مكة وعسفان، وفي مثل ما بين مكة وجدة. قال يحيى بن يحيى: قال مالك: وذلك أربعة بُرُد. قال مالك: وذلك أحب ما يقصر الصلاة فيه إلى. ¬

_ (¬1) كذا لفظه بالأصل، ولفظ في مطبوعة المسند: أتقصر الصلاة ... (¬2) الأم (1/ 183). (¬3) الأم (ص 351) مع مختصر المزني. (¬4) الموطأ (1/ 139 رقم 15).

الهمزة في "أقصر" همزة استفهام دخلت على همزة الفعل المستقبل؛ وكأن الأصل "أقصر" فلما التقت الهمزتان لينت الثانية فسكنت ومدت الأولى وهما جائزان؛ وقد قرئ بهما وبإدخال مَدّة بين الهمزتين. "والماشية": الغنم ويقع على قليلها وكثيرها ضأنها ومعزها، والجمع المواشي وكأنها صفة غلبت عليها أي حيوانات ماشية ثم خصصت بهذا النوع من الحيوان. وزاد في آخر الرواية الثانية: "وإن قدمت على أهل أو ماشية فأتم" وهذه الزيادة تتضمن حكمًا من أحكام القصر وسيرد بيانه. "والبرد": جمع بريد وهو كلمة فارسية قالوا: إن أصلها بريدة دم أي محذوف الذنب، وذلك أن نعال البريد كانت تكون محذوفة الأذناب؛ فعربت الكلمة وخففت ثم سُمي الرسول الذي يركبه بريدًا، والمسافة التي تكون بين السكنين بريدًا. والسكة: هي الموضع الذي كان يسكنه الفيوج (¬1) المرتبون لإيصال الأخبار من رباط أو قبة أو خيمة، وبعد ما بين السكتين فرسخان وقيل: أربعة فراسخ وهو الصحيح. "وعرفة": موضع الموقف في الجمع. "وعسفان": موضع وهو شمالي مكة، على طريق المدينة. "والطائف": بلد معروف، شرقي مكة. "وجده": موضع على ساحل البحر، غربي مكة. ¬

_ (¬1) الفيج: فارسي معرب والجمع فيوج هو الذي يسعى على رجليه، وأيضا هو المسرع في مشيه الذي يحمل الأخبار من بلد إلى بلد. انظر اللسان مادة: فيج.

وهذه حدود للمسافات التي يجوز فيها القصر لمن يسافر عن مكة. ولذلك قال ابن عباس حين سئل عن القصر إلى عرفة؟ إنما أراد السائل عمن يخرج من مكة إلى عرفة؛ هل يقصر أم لا؛ وذلك دون مسافة القصر؟ فلذلك قال له ابن عباس: لا ولكن إلى عسفان وجدة والطائف. والذي ذهب إليه الشافعي في مسافة القصر: أن أقلها ستة عشر فرسخًا وهي أربعة برد؛ والفرسخ ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف خطوة والخطوة ثلاثة أقدام. وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وإليه ذهب مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة، والثوري، والحسن بن صالح: لا يُقْصر إلا في ثلاث مراحل: أربعة وعشرون فرسخًا. وروى ذلك عن عبد الله بن مسعود، وسويد بن [غفلة] (¬1)، وإليه ذهب سعيد بن جبير، والنخعي. قال داود: تقصر في قليل السفر وكثيره. وقال الأوزاعي: تقصر في مسيرة يوم. وروي ذلك عن أنس. وحكي عن الزهري أنه قال: يقصر في مسيرة يوم تام ثلاثين ميلًا. قال الشافعي: قصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفره إلى مكة وهي تسع أو عشر، فدخل على أن يقصر في مثل قصر فيه وأكثر منه قال: ولم أعلم مخالفًا في أن يقصر في أقل من سفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قصر فيه، وكان الوجه أن يقصر فيما دون يومين، إلا عامة من حفظنا عنه لا يختلف في أن القصر فيما دونها. قال: فأما أنا فأحب أن لا أقصر في أقل من ثلاث احتياطًا علي، وإن ترك القصر مباح. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [علقة] وهو تصحيف.

قال: [فإن قال] (¬1) قائل: فهل في أن يقصر في يومين حجة بخبر متقدم؟ قيل: نعم عن ابن عباس وابن عمر، ثم ذكر حديث ابن عباس هذا، وقال في آخره: فأقرب هذا من مكة ستة وأربعون ميلًا بالأميال الهاشمية؛ وهو مسيرة ليلتين قاصرتين دبيب الأقدام ويسير الثقل. وقال في مختصر البويطي: ثمانية وأربعون ميلًا وكذا قاله في الصوم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن سالم "أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك". قال مالك: بين ذات النصب والمدينة أربعة برد. وأخبرنا الشافعي: عن مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه "أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك". قال مالك: في ذلك نحو من أربعة برد. هذا الحديث هكذا جاء في الموطأ (¬2) إسنادًا ولفظًا، وهو مؤكد لما ذهب إليه من تحديد مسافة القصر. "وذات النصب وريم": موضعان بين كل واحد منهما وبين المدينة أربعة برد -ستة عشر فرسخًا-. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع "أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة". هذا حديث صحيح هكذا أخرجه في الموطأ (¬3). "والبريد": أربعة فراسخ وهو دون مسافة القصر، فلذلك لم يقصر ابن عمر. وهو مؤكد لما تقدم من تقديم مسافة القصر. قال الشافعي -في القديم-: وقال بعض الناس: لا يقصر في أقل من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين جاء مكررًا بالأصل. (¬2) الموطأ (1/ 139 رقم 11). (¬3) الموطأ (1/ 139 رقم 14).

ثلاث، وزعم أن من حجته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسافر المرأة سفرًا يكون ثلاثة إلا مع ذي محرم" (¬1) فقيل لبعض من قال هذا: وما سفر المرأة مما يقصر فيه الصلاة أو ما قلتم دون الثلاث سفر، وحكيتم ذلك في الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسافر امرأة سفرًا" وقد نهيت المرأة عن السفر مع غير ذي محرم للحياطة لها، ثم قال: وقد أخبرنا مالك، عن المقبري، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأة أن تسافر يومًا وليلة إلا مع ذي محرم" (¬2). قال الشافعي: أفنقصر الصلاة في يوم وليلة؟ وفي رواية أخري عن أبي هريرة كما سبق قوله: ثلاثة أيام فصاعدًا. وهي التي أشار إليها الشافعي مما احتجوا به ثم احتج بها عليهم. وفي هذه الأخبار دلالة على أنه لم يقصد بروايتها تقدر السفر، إنما أراد بها الحياطة لها بذي محرم؛ مقيمة كانت أو مسافرة سفرًا طويلًا أو قصيرًا. وقد أخرجه الشافعي فيما ألزم العراقيين خلاف عبد الله قال فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن عمارة، عن الأسود قال: "كان عبد الله لا يقصر الصلاة إلا في حج أو عمرة". قال الشافعي: وهم يخالفون هذا ويقولون: نقصر الصلاة في كل سفر بلغ ثلاثًا. وغيرهم يقول: كل سفر بلغ ليلتين. قال: وروى إسحاق بن يوسف وغيره عن محمد بن قيس، عن عمران بن عمير -مولى ابن مسعود- عن أبيه قال: "سافرت مع ابن مسعود إلى ضيعته بالقادسية فقصر للصلاة بالنجف". قال الشافعي: وليسوا ولا علمته من المفتين يقول بها؛ أما هم فيقولون: لا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1086)، ومسلم (1338). (¬2) أخرجه البخاري (1088)، ومسلم (1339).

نقصر الصلاة في أقل من مسيرة ثلاث ليالٍ قواصد. ولا نعلمهم يروون هذا عن أحد ممن مضى ممن قوله حجة بل يروون عن حذيفة خلاف قولهم، رووا عن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: استأذنت على حذيفة بن اليمان من المدائن فقال: آذن لك على أن تقصر حتى ترجع. قال الشافعي: وهم يخالفون هذا ويقولون: نقصر من الكوفة إلى المدائن. ويخالفون ما رويناه عن ابن عباس وابن عمر مما ذهبنا إليه. ***

الفرع الرابع في * مقدار القصر *

الفرع الرابع في مقدار القصر أخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى [بمنى] (¬1) ركعتين وأبو بكر وعمر". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم والنسائي. فأما البخاري (¬2) فأخرجه عن مسدَّد، عن يحيى بن عبد الله [عن] (¬3) نافع عن ابن عمر قال: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -[بمنى] (¬4) ركعتين، وأبي بكر وعمر وعثمان صدرًا من إمارته ثم أتمها". وفي أخرى: عن إبراهيم بن المنذر، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عمر، عن أبيه قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[بمنى] (4) ركعتين، وأبو بكر وعثمان صدرًا من خلافته". وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين؛ وأبو بكر وعمر وعثمان وصدرًا من خلافته ثم أتمها أربعًا. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [بنا] وهو تصحيف والتصويب من مطبوعة المسند. (¬2) البخاري (1082، 1655). (¬3) ما بين المعقوفتين بالأصل [بن] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب وكذا في رواية البخاري. (¬4) ما بين المعقوفتين بالأصل [بمعنى] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب وهو لفظ البخاري. (¬5) مسلم (694).

وفي أخرى: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع وذكره [وزاد] (¬1) في آخره: فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا؛ وإذا صلى وحده صلى ركعتين. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى بإسناد البخاري. وفي أخرى: عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب بإسناد البخاري الثانية. قوله: "وأبو بكر وعمر" معطوفان على الضمير المستتر في "صلى" التقدير: صلى هو وأبو بكر وعمر فعطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد، وذلك جائز إلا أن الأولى أن لا يعطف عليه حتى يؤكد كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬3). وأما العطف في رواية البخاري في قوله: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر" فإنه عطف مجرور على مجرور ظاهر؛ فلا يحتاج إلى إعادة حرف الجر إلا أن إعادته في مثل هذا الموضع أحسن؛ للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وطول الكلام؛ فكانت إعادة حرف الجر أحسن ألا تراه قد أعاد حرف الجر مع عثمان وإنما أعاده لأمرين: أحدهما: زيادة طول الكلام. والثاني: ما أتبعه من قوله: "صدرًا من إمارته" لأنه لو لم يعده لكان داخلًا في حكم ما عطف عليه وحيث كان لم يشاركهم عثمان إلا في بعض مدته وغير ذلك؛ احتاج أن يعيد حرف الجر لتبيين القرض ويصير الكلام كأنه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [وازاد] وهو تصحيف. (¬2) النسائي (3/ 121). (¬3) البقرة: [35].

مستأنف تقديره: وصليت مع عثمان صدرًا من خلافته ذلك ثم أتمها. وكذلك في رواية النسائي أعاد حرف الجر مع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان. وصدر كل شيء: أوله ومقدمه. وقوله في رواية مسلم "صلى بمنى وغيره" يريد غير منى من الأماكن؛ وإنما رد الضمير مذكرًا لأنه أراد بمنى الموضع. وأما إتمام عثمان صلاته وترك ما كان عليه في أول إمارته. فقيل: لأنه كان قد نوى الإقامة فلم يقصر. وقيل: لأن القصر رخصة وهو خيرّ بين القصر والإتمام، ففعل أحد الجائزين له. وقيل: لأنه كان يؤم الناس كلهم في الموسم؛ وأهل مكة مقيمون فكان يصلي بصلاتهم وهو تمام. وقيل: إنما أتمها من أجل الأعراب فإنهم كثروا عامئذٍ، فصلى بالناس أربعًا ليعلمهم أن الصلاة أربع. وأما صلاة ابن عمر إذا صلى خلف الإمام أتم، وإذا صلى وحده قصر فلأن متابعة الإمام متعينة فكان يتم معه، وإما في حالة الانفراد فذلك إليه. وهذا يدل على صحة من ذهب إلى أن القصر رخصة؛ لأنه لو كان عزيمة لما أتم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عمر بن الخطاب مثله -يعني مثل ابن عمر الذي قبل- هذا حديث صحيح وهو مؤكد لحديث ابن عمر المذكور؛ وليس فيه ما يحتاج إلى شرح لفظ ولا معنى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن أيوب بن أبي تميمة، عن محمد بن سيرين قال: "سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بين

مكة والمدينة آمنا لا يخاف إلا الله تعالى، فصلى ركعتين". قال أبو العباس -هو الأصم-: أظنه سقط من كتابي: ابن عباس. وأخبرنا الشافعي: قال أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب السختياني، عن محمد ابن سيرين، عن ابن عباس قال: "سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مكة والمدينة آمنا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين". هذا حديث أخرجه الترمذي والنسائي. فأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن هشيم، عن منصور بن زاذان، عن ابن سيرين، عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين. وكذلك أخرجه النسائي (¬2) إسنادا ولفظًا. والنسائي (¬3): عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن ابن عون، عن محمد، عن ابن عباس قال: كنا نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين مكة والمدينة لا نخاف إلا الله -عز وجل- فصلى ركعتين. "الأمن": ضد الخوف، والأمن اسم فاعل منه وهو منصوب على الحال من سافر. ولما قال "آمنًا" فأطلق الأمن عقبه بقوله: "لا يخاف إلا الله تعالى" فقيد ذلك الإطلاق لأنه واجب، وقد كانت حالة النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك حتى قال في بعض أقواله "إني أعرفكم بالله وأشدكم له خوفا". وأراد بقوله "فصلى ركعتين" القصر في السفر فإن القصر لم يكن لأجل الخوف إلا في ابتداء الأمر، وأما ما بعد ذلك فقد صار السفر في الأمن والخوف مبيحًا للقصر. ¬

_ (¬1) الترمذي (457) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (3/ 117). (¬3) النسائي (3/ 117 - 118).

وفي قوله: "إلا رب العالمين" زيادة بيان ليست في قوله "إلا الله" وذلك أنه لما قال: "آمنًا" ثم أتبعه بالمخافة أضافها إلى رب العالمين؛ لأن الخوف إنما يكون في الغالب من رب العالمين، كالآدمين والشياطن والسباع والهوام وما يتقيه الإنسان من مضرات الحيوانات؛ فلما أطلق الأمن دخل هؤلاء فيه فلما استثنى وقال: "إلا رب العالمين" يريد رب هذه الموجودات كلها، فإن العالمين جمع عالم وهو كل موجود سوى الله تعالى؛ جعل الذي يخافه ربها وأنه بمكانه من الخوف لهذا الوصف وهو الربوبية، فليس بضار مع أمنه من هذه الأشياء أن يخاف ربها، وهذا المعنى وإن كان مفهومًا من قوله: "إلا الله" لكنه في هذه الرواية أبين؛ فإنه في تلك يفهم ضمنًا وفي هذه يفهم صريحًا. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني (¬1) [عن] (¬2) إسماعيل بن إبراهيم، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة قال: مر عمران بن الحصين في مجلسنا فقام إليه فتى من القوم فسأل عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغزو أو الحج والعمرة؟ فجاء فوقف علينا فقال: إن هذا سألني عن أمر فأردت أن تسمعوه، [أو] (¬3) كما قال غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة؛ وحججت معه فلم يصل إلا ركعتين ثم يقول لأهل البلد: "صلوا أربعا فإنا سفر" واعتمرت معه ثلاث عمر لا يصلي إلا ركعتين، وحججت مع عمر بن الخطاب حجات فلم يصل إلا ركعتين حتى رجع إلى المدينة، وحج عثمان سبع سنين في إمارته لا يصلي إلا ركعتين وصلاها بعد بمنى أربعًا". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬4) نحوه أخصر منه. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة رقم (12). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والسياق لا يستقيم إلا به. (¬3) ما بين المعقوفتين بالأصل [و] والمثبت من السنن المأثورة وهو الموافق للسياق. (¬4) أبو داود (1229) =

الفرع الخامس * في الإتمام في السفر *

الفرع الخامس في الإتمام في السفر أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن طلحة [بن] (¬1) عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: "كل ذلك قد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قصر الصلاة في السفر وأتم" (¬2). قال الشافعي: إذا كان القصر في السفر والخوف رخصة من الله -جل ثناؤه- كان كذلك القصر في السفر بلا خوف، فمن قصر في السفر والخوف قصر بكتاب الله ثم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن قصر في سفر بلا خوف قصر بنص السنة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الله تصدق بها على عباده، -ثم استدل بحديث يعلى بن أمية مع عمر بن الخطاب وقد ذكرناه في الفرع الأول، ثم قال: فدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله، والصدقة رخصة، لا حتم من الله أن تقصروا. ثم ذكر حديث عائشة هذا وقد رواه أبو عاصم، عن عمر بن سعيد، عن عطاء، عن عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم" (¬3). ¬

_ = قلت: وهو حديث ضعيف قال المنذري في مختصره (2/ 61): في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقال بعضهم: هو حديث لا تقوم به حجة لكثرة اضطرابه، وضعفه أيضاً الشيخ الألباني -رحمه الله- في ضعيف أبي داود (264). (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [عن] وهو تصحيف. (¬2) وأخرجه البيهقي في المعرفة (6064) -وقال: وكذلك رواه المغيرة بن زياد، عن عطاء، وأصح إسناد فيه، ثم ذكر الحديث الآتي من طريق عمر بن سعيد. وأخرجه الدارقطني في سننه (2/ 189): وقال: طلحة ضعيف. (¬3) وأخرجه الدارقطني في سننه (2/ 189)، والبيهقي في المعرفة (6066)، وفي السنن الكبير (3/ 141) وقال الحافظ في التلخيص (2/ 44): صحح إسناده -أي الدارقطني- ولفظ تتم وتصوم بالمثناة من فوق، وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم وذكر =

وقد جاء هذا المعنى عن عائشة في الصحيح من وجوه في ضمن حديث "فلو كان القصر عزيمة لما أتم" (¬1). وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغه عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "صلى عثمان بمنى أربعًا. فقال عبد الله: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتن ثم تفرقت بكم الطرق قال الأعمش: فحدثني معاوية بن قرة أن عبد الله صلاها بعد أربعًا فقيل له: عبت على عثمان وتصلي أربعًا؟! فقال: الخلاف شر". وهذا الحديث صحيح أخرجه البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4)، والنسائي. (¬5) وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر". قلت: فما شأن عائشة كانت تتم الصلاة؟ قال: إنها تأولت كما تأول عثمان. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الترمذي. ¬

_ = عروة أنها تأولت كما تأول عثمان كما في الصحيح، فلو كان عندها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية لم يقل عروة عنها أنها تأولت وقد ثبت في الصحيحين خلاف ذلك، وانظر نصب الراية (2/ 192). (¬1) انظر السنن الكبير للبيهقي (3/ 142 - 143). (¬2) البخاري (1084). (¬3) مسلم (695). (¬4) أبو داود (1960). (¬5) النسائي (3/ 120 - 121).

فأما مالك (¬1): فأخرجه عن صالح بن كيسان، عن عروة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن محمد، عن سفيان، [و] (¬3) عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن علي بن خشرم، عن سفيان وعن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان. وعن قتيبة، عن مالك. الفرض والواجب: قد تقدم ذكرهما وهما عند الشافعي بمعنى واحد. "والحضر": ضد السفر وفلان حضري إذا كان من سكان المدن والقرى؛ وليس المراد بالحضر هاهنا المدن خاصة؛ إنما يريد به الموضع الذي يقام فيه ويتخذ مسكنًا -مدينة كان أو صحراء- وذلك لأن صلاة القصر إنما هي مباحة للمسافر وإن كان حضريًّا أو بدويًّا؛ والإتمام على المقيم حضريًّا كان أو بدويًّا. وقوله: "تأولت كما تأول عثمان" يريد أن عائشة كانت تتم صلاتها وهي مسافرة في بعض أسفارها فلما سُئل عروة عن ذلك قال: "تأولت كما تأول عثمان" سنة حج في خلافته أقام بمكة أيامًا فأتم صلاته؛ لأنه نوى الإقامة بمكة تلك الأيام؛ وإذا نوى المسافر الإقامة بمكان ولو كان صحراء أتم صلاته؛ ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 138 رقم "8"). (¬2) البخاري (1090، 350). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وإثباته لازم فهما إسناد. (¬4) مسلم (685). (¬5) أبو داود (1198). (¬6) النسائي (1/ 225).

فلذلك تأول عثمان وأتم صلاته. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الصلاة إنما فرضت أولاً أربعًا ثم قصرت صلاة السفر رخصة، يدلك قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬1) والقصر إنما يكون مما هو أكثر منه فدل ذلك على أن القصر حكم ثان للإتمام. وقال أبو حنيفة: الفرض أولاً ركعتان، ثم زيد في صلاة الحضر بعد ذلك عملًا بهذا الحديث. قال الخطابي: هذا حديث عائشة ليس حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا حكاية عنه إنما هو قولها؛ وهو وإن كان محتملًا أن يكون على ما قالته فإنها لا يطعن عليها في نقلها وفهمها ومعرفتها، إلا أنها لم تشهد أول زمان الشريعة وفرض الصلاة، فإن الصلاة فرضت بمكة في أول الإسلام وقصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة. قال الشافعي: قول عروة أنها تأولت ما تأول عثمان لا أدرى أتأولت أن لها أن تتم وتقصر فاختارت الإتمام؟ وكذلك روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت مثله أولى بها. قال الشافعي: ولو كان فرض الصلاة في السفر ركعتين لم يتمها -إن شاء الله- منهم أحد ولم يتمها ابن مسعود في منزله، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم ولكنه كما وصفت. ¬

_ (¬1) النساء: [101].

الفرع السادس * في أي الأمرين أفضل *

الفرع السادس في أي الأمرين أفضل أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ابن حرملة، عن ابن المسيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خياركم الذين إذا سافروا قصروا الصلاة وأفطروا" أو قال: "ولم يصوموا" (¬1). "الخيار": جمع خيّر -مشددا- مثل: جيد وجياد ويجمع على الأخيار مثل: ميت وأموات؛ ويجوز أن يكون جمع خير -مخففا- والأول الوجه، والخيار ضد الأشرار. وهذا الحديث يدل على أن القصر أفضل وللشافعي فيه قولان: أحدهما: أن القصر أفضل ونص عليه في أكثر كتبه وبه قال مالك وأحمد وهو الأولى لموافقة من قال: إن القصر عزيمة. والقول الثاني: الإتمام أفضل واختاره المزني، لأنه الأصل والقصر رخصة. قال الشافعي: وأحب إليّ للمسافر أن يقصر ولو أتم ما كانت عليه إعادة لما وصفت من الدلالة؛ وكل ما كان رخصة أحببت قوله للاستنان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، وليس ترك الرخصة بإفساد للصلاة؛ ألا ترى أن عثمان بن عفان صلى شطر إمارته بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى فأتم الصلاة وصلوا معه، هل يجوز أن يقال هذه الصلاة غير مجزئة ولا يجزئ هذا لعالم. وفي هذا الحديث دليل على أن القصر رخصة؛ لأنه قال: "خياركم الذين إذا سافروا قصروا أو أفطروا" ولا خلاف أن الإفطار في السفر رخصة وليس ¬

_ (¬1) وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4480)، والبيهقي في المعرفة (6072). وإسناده تالف مع إرساله، وفيه إبراهيم بن محمد وهو متروك، وقد تابعه ابن عيينة عند عبد الرزاق. وابن حرملة قال عنه الحافظ: صدوق ربما أخطأ.

بعزيمة، ولأنه قال: "خياركم" فجعل عملهم بالقصر والإفطار دليلًا على فضلهم؛ ولو كانت عزيمة لما [قال] (¬1) "خياركم" لأن القصر كان واجبًا عليهم لا رخصة لهم، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وأثبته لضرورة السياق.

الفرع السابع في * اقتداء المقيم بالمسافر والمسافر بالمقيم *

الفرع السابع في اقتداء المقيم بالمسافر والمسافر بالمقيم أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعًا، فإذا صلى لنفسه صلى ركعتين". هذا طرف من حديث صحيح قد أخرجه (¬1) عن مسلم (¬2)، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر وذكر الحديث الذي ذكرناه في أول الفرع الرابع وفي آخره هذا الطرف. وله في أخرى: عن ابن المثنى وعبيد الله بن سعيد، عن يحيى القطان. وعن أبي كريب، عن ابن أبي زائدة. وعن [ابن] (¬3) نمير، عن عقبة بن خالد كلهم عن عبيد الله بالإسناد نحوه أما صلاة المسافر خلف المقيم والمقيم خلف المسافر فقد اختلف الأئمة فيها: فقال الشافعي، وأبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد، وداود: إذا صلى مسافر خلف مقيم أتم؛ لأنه يريد أن يتابعه في النية الأفعال، وسواء أدرك جميعها أو ركعة منها أو أقل من ركعة. قال إسحاق بن راهويه: يجوز للمسافر أن يقصر وإن كان الإمام مقيمًا مُتمًّا. وقال مالك إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم أتمها. وإنما كان ابن عمر يصلي أربعًا وراء الإمام؛ لأن إمام منى كان مقيمًا وابن ¬

_ (¬1) زاد في الأصل بعد قوله أخرجه: (عن) وهي زيادة مقحمة. (¬2) مسلم (694). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب إثباته وكذا جاء مثبتًا عند مسلم.

عمر حاج وحكمه حكم المسافر، فكان يتمها إذا صلى مع الإمام ويقصر إذا انفرد. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وهذا يدل على أن الإمام إذا كان من أهل مكة صلى بمنّى أربعًا؛ لأنه لا يحتمل إلا هذا ويكون الإمام من غير أهل مكة وقد أتموا باتمام عثمان؛ وهذا يدل على أن المسافر إذا أمَّ بقوم لم تفسد صلاتهم؛ لأن صلاته لو كانت تفسد لم يصل معه. وقد أخرج الشافعي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم انصرف فقال: يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا سفر، ثم صلى عمر بمنى ركعتين. قال: قال مالك: ولم يبلغني أنه قال لهم شيئًا. قال الشافعي في القديم: واحتج بعضهم بأن عمر قال: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، ولم يقل ذلك بمنى وقد يكون أن قال لهم بمكة فقنع بالقول الأول عن القول الآخر، لأنه لما أعلمهم أن فرضه غير فرضهم وأن عليهم الإتمام ولهم القصر كان ذلك مجزئًا في الموطنين جميعًا, ولعله يكون قد قاله ولم يحفظ عنه -والله أعلم. ***

الفرع الثامن في * الإقامة التي تبطل القصر *

الفرع الثامن في الإقامة التي تبطل القصر أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن ابن حميد قال: سأل عمر بن عبد العزيز جلساءه: ماذا سمعتم في مقام المهاجر بمكة؟. قال السائب بن زيد: حدثني العلاء بن الحضرمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا". هذا حديث متفق عليه أخرجه الجماعة إلا مالكاً. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن إبراهيم بن حمزة، عن حاتم، عن ابن حميد ... بالإسناد قال (¬2): سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "للمهاجر إقامة ثلاثة أيام بعد الصدر بمكة" كأنه يقول: لا يزيد عليها. وله في أخرى: عن يحيى بن يحيى، عن سفيان. وله روايات أخرى كثيرة. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن القعنبي، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عبد الرحمن بن حميد. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن سفيان. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن محمد بن عبد الملك بن زنجويه، عن ¬

_ (¬1) البخاري (3933). (¬2) وقع سقط في الأصل وهو عزوه إلى مسلم وإلى هذا الموضع انتهى العزو للبخاري، وهذه الفقرة هي لفظ مسلم وللفائدة أذكر تخريجه وإسناده: فقد أخرجه مسلم (1352) عن عبد الله بن مسلمة ابن قعنب، عن سليمان بن بلال، عن ابن حميد به. (¬3) أبو داود (2022). (¬4) الترمذي (949) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (3/ 121، 122).

عبد الرزاق، عن ابن جريح، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن عبد الرحمن. وفي أخرى: عن الحارث بن مسكين، عن سفيان بالإسناد. "المُقام" (بضم الميم): الإقامة وهو مصدر أقام يقيم إقامة، وبفتح الميم: الموضع وهو في هذا الحديث بالضم، لأنه المسئول عنه لا المكان الذي يقيم فيه. "والمهاجر": الذي ينتقل من أرض أخرى بنية المقام بها، وأراد به في هذا الحديث الحاج. "والنسك": العبادة والمراد به في هذا الحديث مناسك الحج جميعها؛ وإنما سأل عمر بن عبد العزيز عن المقام بمكة بعد قضاء المناسك هل ورد فيه سنة؟ وهل هو جائز أو مستحب أو لا؟ "والصدر" بالتحريك: الاسم من قولك: صدرت عن الماء وعن البلد وفي المثل: تركته على مثل ليلة الصدر يعني حين صدر الناس من حجهم. قال الشافعي: فكان هذا أشبه أن يكون أقصى غاية مقام المسافر، وكان ما جاوزه يشبه أن يكون مقام مقيم، فلم يكن بعد يوم كامل إلا أربع، فذهبنا إلى من أجمع مقام أربع فقد خرج من حد مقام المسافر؛ ليس في الأربع اليوم الذي دخل فيه ولا الذي يخرج فيه وذلك أنه في كليهما مسافر. قال: وأجلى عمر بن الخطاب أهل المدينة من الحجاز وضرب لمن تقدم منهم تاجرًا مقام ثلاث، فأشبه ما وصفت من السنة. وقد أخرجه في القديم: عن الثقة عنده، عن عبيد (¬1) [الله بن] (¬2) عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من جزيرة العرب وضرب لمن قدم منهم أجلًا ثلاثًا قدر ما يبيعون سلعهم، قال: فمن أجمع إقامة أربع أتم الصلاة وكان هذا أقل ما قال الناس فيه، فكان أن يتم وله أن ¬

_ (¬1) في المعرفة (4/ 270) وعنه نقل المصنف [عبد] وهو المكبر الاسم المصغر الرواية. (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [أن] وهو تصحيف.

يقصر أحب إلينا من أن يقصر وعليه أن يتم. وتفصيل المذهب في هذا الحكم: أن الشافعي قال: إذا نوى الإقامة أربعة أيام سوى يوم قدومه ويوم خروجه فعليه الإتمام؛ ولا يجوز له أن يقصر. وبه قال عثمان بن عفان، وابن المسيب، ومالك، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: إن نوى مقام خمسة عشر يومًا مع يوم دخوله ويوم خروجه أتم ولا يجوز له القصر. وبه قال الثوري واختاره المزني. وروي عن ابن عباس أنه إن نوى مقام تسعة عشر يومًا وجب عليه الإتمام، وإن كان أقل من ذلك لم يجب عليه وبه قال إسحاق. وقال الليث بن سعد: إن نوى مقام أكثر من خمسة عشر يوما أتم. وحكي ذلك عن سعيد بن جبير. وقال الحسن بن صالح: إن نوى عشرة أيام أتم. وحكي عن الأوزاعي: أنه إن نوى مدة يصلى فيها أكثر من عشرين صلاة أتم. وهذا قريب من مذهب الشافعي. وروي عن أنس بن مالك أنه أقام بنيسابور سنتين فكان يقصر فيهما. وروى النخعي أن علقمة أقام بخوارزم سنتين فكان يقصر فيهما. وفي هذا الحديث دليل على كراهية المجاورة بمكة وقد كان عمر بن الخطاب يضرب الناس بعد قضاء مناسك الحج ويقول: يا أهل الشام شامكم، ويا أهل اليمن يمنكم، ويا أهل العراق عراقكم.

الفرع التاسع * في النوافل في السفر *

الفرع التاسع في النوافل في السفر أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع [أن] (¬1) ابن عمر لم يكن يصلي مع الفريضة في السفر شيئًا قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد واللفظ وزاد: فإنه كان يصلي على الأرض وعلى راحلته حيث توجهت به". وهو عنده وعند الشافعي موقوف على ابن عمر، وأما الباقون فإنهم رفعوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، عن عمر ابن محمد، عن حفص بن عاصم قال: "سألت ابن عمر عن السبحة في السفر؟ فقال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أره يسبح في السفر وقال: والله لقد كان لكم في رسول الله أسوه حسنة". وله في أخرى: عن مسدد، عن يحيى [عن] (¬4) عيسى بن حفص بن عاصم، عن أبيه أنه سمع ابن عمر يقول: "صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن يزيد بن زريع، عن عمر بن محمد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [و] وهو تحريف وما أثبته هو الأقرب للسياق وسيأتي تخريجه بعد قليل. (¬2) الموطأ (1/ 141 رقم 22). (¬3) البخاري (1101، 1102). (¬4) ما بين المعقوفتين بالأصل [بن] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب وكذا عند البخاري. (¬5) مسلم (689/ 9).

مثل البخاري. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن عيسى بن حفص مثل البخاري. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن عبد الوهاب بن عبد الحكم الورَّاق البغدادى، عن يحيى بن [سليم] (¬3)، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "سافرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين لا يصلون قبلها ولا بعدها، وقال: لو كنت مصليًا قبلها أو بعدها لأتممتها". وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن أحمد بن يحيى، عن أبي نعيم، عن العلاء بن زهير، عن وبرة بن عبد الرحمن قال: "كان ابن عمر لا يزيد في السفر على ركعتين لا يصلي قبلها ولا بعدها، فقيل له: ما هذا؟ قال: هكذا رسول الله (¬5) - صلى الله عليه وسلم - يصنع. قوله: "إلا من جوف الليل" يريد ويعني بها: صلاة الليل، فإنه كان لا يدعها، فأما النوافل الرواتب التي مع الفرائض فإنه لا يصليها. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه يجوز للمسافر التنفل ولا يكره. وقال بعض الناس: لا يجوز لمن يقصر أن يتنفل لأنه إذا سقط بعض الفرض فلا يأتي بالنافلة أولى. وهذا لا يلزم فإن الترخص لا يمنع من الإتيان بالسنن، ألا ترى أن الماسح على الخفين يأتي بسنن الوضوء، وهذا الحديث من ابن عمر شاهد بمثله ألا تراه كان ¬

_ (¬1) أبو داود (1223). (¬2) الترمذي (544) وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم مثل هذا. (¬3) ما بين المعقوفتين بالأصل [سليمان] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب وكذا جاء على الجادة في رواية الترمذي. وانظر ترجمته من تهذيب الكمال (31/ 356 -). (¬4) النسائي (3/ 122 - 123). (¬5) كذا لفظ بالأصل، وعند النسائي بلفظ: (هكذا رأيت ...).

محافظًا على صلاة الليل، والنوافل الرواتب آكد منها؟! قال الشافعي: وللمسافر أن يتطوع ليلاً ونهارًا قصر أو لم يقصر. قال: وثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان يتنفل ليلاً وهو يقصر" وروي عنه "أنه كان يصلي قبل الظهر مسافرًا ركعتين، وقيل أربع ركعات، وثابت عنه أنه تنفل عام الفتح ثماني ركعات ضحى وقد قصر عام الفتح". وهذا الحديث الذي أخرجه الشافعي عن ابن عمر أخرجه في كتاب اختلافه مع مالك، إلزامًا لمالك في خلاف ابن عمر. وإنما خالفه الشافعي بما ثبت عنده من تنفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر والله أعلم. ***

الفصل الثاني في * الجمع بين الصلاتين *

الفصل الثاني في الجمع بين الصلاتين وفيه ثلاثة فروع: الفرع الأول في الجمع مطلقا أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبره "أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام تبوك، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأخر الصلاة يومًا ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعًا". هكذا أخرجه في كتاب "استقبال القبلة" (¬1) وعاد أخرجه في كتاب اختلاف "علي وعبد الله" (¬2) بالأسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في سفره إلى تبوك. هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري. فأما مالك (¬3): فأخرجه بالإسناد واللفظ وزاد فيه حديثًا طويلًا يتعلق بعين تبوك ومائها. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن ¬

_ (¬1) الأم (1/ 77). (¬2) الأم (7/ 185). (¬3) الموطأ (1/ 136 رقم 2). (¬4) مسلم (706).

أبي الزبير بالإسناد قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا". وفي أخرى عن يحيى بن حبيب، عن خالد بن الحارث، عن قرة بن خالد، عن أبي الزبير بالإسناد ... وقال: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحرج أمته. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل بالأسناد "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر فصلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. قوله: "كان يجمع بين الظهر والعصر" يقتضي إطراد الحال في الجمع وتكرار ذلك منه، كذلك قوله: "كان يصلي" بخلاف ما يدل عليه أنه جمع ¬

_ (¬1) أبو داود (1206). (¬2) الترمذي (553). وقال: حسن غريب، تفرد به قتيبة، لا نعرف أحدًا رواه عن الليث غيره، وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ، غريب، والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل عن معاذ (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -) جمع في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وين المغرب والعشاء. رواه قرة بن خالد وسفيان الثوري ومالك وغير واحد عن أبي الزبير المكي. اهـ قلت: وأعله غير واحد من النقاد وراجع التلخيص (2/ 49). (¬3) النسائي (1/ 285).

بين الظهر والعصر، فإن هذا اللفظ كما أنه يقتضي العموم في تكرار الجمع، يقتضي الخصوص وأنه جمع مرة واحدة. وقوله: "فأخر الصلاة يومًا" يريد أنه أخر صلاة الظهر إلى أن دخل وقت العصر؛ فصلى الصلاتين معًا في وقت العصر. وقوله: "ثم دخل ثم خرج" يريد أنه دخل إلى مضربه وموضع نزوله، وهذا اللفظ كأنه يوهم أنه صلى صلاتي الظهر والعصر في آخر وقت العصر بقوله: "ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء" وإن كانت ثم تفيد المهلة. وفيه: بيان جواز تأخير إحدى الصلاتين إلى وقت الأخرى، وتقديم إحداهما إلى وقت الأخرى على سبيل التخيير، وهو الذي ذهب إليه القائلون بالجمع. وقوله: "أراد أن لا يحرج أمته" أي لا يضيق عليهم ويشق عليهم، فإنهم كانوا يحتاجون إذا كانوا مسافرين أن ينزلوا لكل صلاة، فوضع عليهم بالجمع رفقًا بهم ورعاية لهم. و"زيغ الشمس": ميلها عن وسط السماء وهو وقت الزوال. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جائز في السفر الذي يجوز فيه القصر. وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، ومعاذ بن جبل، وأسامة بن زيد، وأنس بن مالك. وبه قال طاوس، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وسالم بن عبد الله، ومالك، والثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور. وذهب أبو حنيفة إلى أن ذلك لا يجوز إلا بمزدلفة -وسيأتي بيانه- وبه قال الحسن، وابن سيرين، والنخعي، ومكحول، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والمزني. والجمع -عند القائلين به- أفضل من الإفراد اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا

أراد ذلك نوى تأخير الظهر إلى وقت العصر وصلاهما عند دخول وقت العصر أو نوى تقديم العصر إلى الظهر وصلاهما في وقت الظهر، وكذلك المغرب والعشاء. وقال الشافعي في القديم: يجوز الجمع في السفر القصير. وبه قال مالك. وقال في الجديد: لا يجوز وهو الصحيح من مذهبه. قال الشافعي وأصحاب مالك -لما ذكر حديث معاذ هذا: فأخذنا نحن وأنتم به وخالفنا فيه غيرنا فروي عن ابن مسعود "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع إلا بمزدلفة" ويروى عن عمر أنه ذكر الجمع بين الصلاتين من الكبائر إلا من عذر، فكانت حجتنا عليه أن ابن مسعود وإن قال "لم يفعل" فقد قال غيره "فعل"، وقول من قال "فعل" أولى أن يؤخذ به لأنه شاهد والذي قال: "لم يفعل" غير شاهد، وليس في قول أحد خالف ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة. وأما ما كتب به عمر فقد أجاب عنه في القديم: بأن لا يعرفه عن عمر وقد يكون السفر عذرًا، وعمر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو يجمع، وعمر أعلم بالله وبرسوله من أن يقول هذا إلا على هذا المعنى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن أبي يحيى، عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن كريب، عن ابن عباس أنه قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر؟ كان إذا زالت الشمس وهي في منزله جمع بين الظهر والعصر في الزوال، وإذا سار قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر، قال: وأحسبه قال في المغرب والعشاء مثل ذلك. هذا حديث صحيح (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم. ¬

_ (¬1) قلت: بل إن إسناده ضعيف ولفظه يختلف عن لفظ الصحيحين وهو ظاهر لمن تدبر =

فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن إبراهيم بن طهمان، عن الحسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء". وأما مسلم (¬2) فأخرجه عن يحيى بن حبيب الحارثي، عن خالد بن الحارث، عن قرة، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن [عباس] (¬3) وذكر الحديث. قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. قوله: "وهو بمنزله" أراد به المكان الذي قد نزله في سفرة غزوه. وقوله: "في الزوال" أي في وقت الزوال وهو ميل الشمس عن وسط السماء من جهة الشرق إلى جهة الغرب. وقوله في رواية البخاري: "إذا كان على ظهر سير" يريد به إذا كان مسافرًا لأنه يجمع منهما وهو سائر على الظهر، واستعار السير ظهرًا على سبيل الاتساع والمجاز، لأن المسافر كالراكب على ظهر السير. "والحرج": الضيق والإثم وقد ذكر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل في السير جمع بين المغرب ¬

_ = ذلك. قال الحافظ في التلخيص (2/ 48): وحسين ضعيف، واختلف عليه فيه، وجمع الدارقطني في سننه بين وجوه الاختلاف فيه، إلا أن علته ضعف حسين. (¬1) البخاري (1107) معلقً. (¬2) مسلم (705/ 51). (¬3) ما بين المعقوفتين بالأصل [مسعود] وهو تحريف والصواب هو المثبت وهو الثابت عند مسلم.

والعشاء" وفي نسخة "إذا عجل به السير". هكذا أخرجه في كتاب "استقبال القبلة" وقد عاد أخرجه في كتاب "علي وعبد الله" (¬1) عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة من طرق كثيرة. فأما مالك (¬2): فأخرجه عن نافع، عن ابن عمر بلفظ الشافعي. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن علي بن عبد الله بالإسناد قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين المغرب والعشاء إذا جَدَّ به السفر". في رواية عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري بالإسناد قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أعجله السير في السفر" وذكر الحديث. قال سالم: وكان عبد الله يفعله إذا أعجله السير في السفر. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر. وفي أخرى: عن محمد بن المثنى، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع "أن ابن عمر كان إذا جَدَّ به السير جمع بن المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق ويقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جَدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء". وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن عبيد المحادبي (¬6)، عن محمد بن فضيل، عن أبيه، عن نافع وعبد الله بن واقد "أن مؤذن ابن عمر قال: الصلاة، قال: سِر حتى إذا كان قبل غيوب الشفق -وفي رواية- حتى إذا كان عند ذهاب الشفق ¬

_ (¬1) الأم (7/ 185). (¬2) مالك (1/ 136 رقم 3). (¬3) البخاري (1106، 1091). (¬4) مسلم (703). (¬5) أبو داود (1211، 1213). (¬6) كذا جاء بالأصل وفي السنن (محمد بن عبيد المحاربي) وكذا في تحفة الأشراف (5/ 476).

نزل فجمع بينهما. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن هناد، عن عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أنه استغيث على بعض أهله فجدَّ به السير، فأخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما، ثم أخبرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك إذا جد به السير". وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر وقال: جد به السير. فقال في أخرى: جدَّ به السير أو حزبه أمر. و"العجلة": هو البطرُ، وقد عَجِل -بالكسر- ورجل عجل وعجول وعجلان، ويجوز أن يكون عجل وعجل. و"جدَّ" به السير يجد: إذا أسرع، وأصله من قولك جدَّ في الأمر يجد ويجد وأجد فيه يجد: إذا اجتهد، ويقولون: هو على جد أمر أي على عجلة أمر. والشفق: هو الحمرة الباقية في الأفق بعد مغيب الشمس. وإليه ذهب الشافعي، وروى ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس، وهو قول: مكحول، وطاوس، ومالك، والثوري، وابن أبي ليلى، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: هو البياض الذي يبقى في الأفق بعد مغيب هذه الحمرة. وروي ذلك عن إبراهيم، وبه قال عمر بن عبد العزيز، والأوزاعي وقد جاءت اللغتان معا فهو من الأضداد. وقوله: "لا يسبح بينهما" يريد بالسُبحة النافلة من الصلاة وقد تقدم بيانها. وقوله: استغيث على أهله أي استعجل في مسيره وذلك أن زوجة عبد الله ¬

_ (¬1) الترمذي (555) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (1/ 289).

ابن عمر -وهي صفية بنت أبي عبيد- كانت مريضة وكان ابن عمر قد خرج يريد أرضًا له فنفدت إلى طريقه تستعجله ليدركها قبل أن تموت. "وحزبه" الأمر يحزبه: اشتد عليه وناله منه مشقة، أو كان عنده مهمًّا. وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث مع اتفاق المعنى أو ما يقاربه، فجاء في رواية: عجل في السير، وفي أخرى: أعجله السفر، وفي أخرى: عجل به أمر، وفي أخرى: حزبه أمر. فأما عجل في السفر: فإن العجلة مخصوصة بذاته، ثم إلى إدراك أن يبين الأمر الذي كانت العجلة فيه، ولأجله عداه بقي الدالة على الظرفية فقال: في السير، كما تقول: عجلت في الكلام وفي الأكل ونحو ذلك. وأما عجل به السير: فإنه نقل العجلة من اختصاصها بذاتها إلى السير، وجعل السير هو الفاعل للعجلة؛ ثم لما أراد أن يبين مستند العجلة وعمن هي أدخل حرف الجر الذي هو بالإلصاق على ضميره فقال: عجل به السير، ومنهما فرق دقيق وذلك أن عجل به السير: تكون العجلة جامعة للسير وله، كأن السير عجل وأخذه معه. وأما عجل في السير: فإن العجلة مخصوصة به دون السير وإن كانت العجلة لازمة للسير، إلا أنها باللفظ الأول أشمل وأظهر ولذلك نقول: إنها أبلغ. وأما جد به السير: فإنه مثل عجل به السير فيما ذكرناه من البيان وليس بينهما فرق إلا ما بين لفظي عجل وجدَّ، فإن عجل صريح في الشرعية وجد كناية عنه، ولو كانا بمعنى واحد لكان في عجل من كثرة الاستعمال والظهور ما يرجح جانبها على جانب جد. ولقائل أن يقول: إن في جد من معنى الاجتهاد ما يقابل الظهور وكثرة الاستعمال الذي في عجل أو يفضله، وكلا الأمرين محتملان. وأما عجله السير: وكأن السير هو الذي حمله على العجلة وهو دون عجل

فيه وعجل به، وجد به، فإن فعل به أبلغ من أفعلته، ألا ترى أنك إذا قلت: ذهبت يزيد فإنه أبلغ من قولك: أذهبته، وذلك أن "ذهبت به" معناه: أنك أخذته من مكانه واستصحبته وذهبت فأعدمته وأخليت مكانه منه ولم يبق له فيه ولا لك أثر. وأما أذهبته فلا يدل على أنك ذهبت أنت، ولهذا قال الله تعالى {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (¬1) ولم يقل أذهب وأما قوله: أعجله السفر فإن السير بعض أحوال المسافر وحكمه حكم أعجله السير. وأما قوله: أعجله السير في السير: فإن فيه زيادة إيضاح لئلا يتوهم أن السير لم يكن في سفر ولا يخلو من حالتين: إحديهما: أن يكون سفرًا لا تقصر فيه الصلاة وهو المراد في الحديث، لأن الفقيه متى أطلق لفظ السفر وقرن به أحكام القصر والجمع والفطر؛ فإنما يعني به سفرًا مخصوصًا عنده. والحالة الثانية: أن لا يظن أن السير كان في ضواحي البلدة ومتنزهاتها فإنه يسمى سيرًا ولا يسمى سفرًا, ولأنا قد قلنا إن السير أحد ما يشتمل عليه اسم السفر، فأضاف لفظ السير إلى السفر ليزول هذا الوهم. وأما قوله: "عجل به أمر" فحكمه حكم عجل به السير إلا أن في لفظة "أمر" وإبدال السير بها فائدة من وجه وخللًا من وجه فأما الفائدة: فلأنها أعم من السير والسفر وهو الحقيقة السفر الموجب للعجلة. إضافة العجلة تارة إلى السير وأخرى إلى السفر: فإنما هو محال وإنما جاز ذلك لقرب ما بينهما ولفهم المعنى؛ فإن المسافر ما يسرع في سيره إلا لباعث في نفسه اقتضى السرعة، فذكر في هذه الرواية السبب الأصلي وكنى عنه بقوله "أمر" أي حال تجددت له. وأما تخلل الحادث بها: فإنه لفظ مطلق غير مقيد لأنه قال: إن رسول الله ¬

_ (¬1) البقرة: (20).

- صلى الله عليه وسلم - كان إذا عجل به أمر فعل كذا وكذا" ولم يتعرض للسفر فيوهم إطلاق هذا اللفظ جواز الجمع في كل حال وليس كذلك، وإنما أطلق لفهم المعنى وأن الخطاب إنما وقع في حالة السفر. وأما "حزبه أمر": فحكمه حكم "عجل به أمر" وليس بينهما فرق إلا بين ما عجل وحزب من الاختلاف في المعنى، فإن "حزب" فعل متعد و"عجل" فعل قاصر ومعناهما قد تقدم بيانه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب الأسدي قال: "خرجنا مع ابن عمر إلى الجماء فغربت الشمس فهبنا أن نقول له أنزل فصل، فلما ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء نزل فصلى ثلاثًا ثم سلم ثم صلى ركعتين ثم سلم، [ثم] (¬1) التفت إلينا فقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل". هذا الحديث أخرجه النسائي (¬2): عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان بالإسناد وقال: إن إسماعيل بن عبد الرحمن: شيخ من قريش (¬3). وهذا الحديث وإن كان قد جاء مفردًا في المسند فيشبه أن يضاف إلى حديث ابن عمر الذي قبله، لأن المسند منه هو المسند في ذلك. قوله: "حتى ذهب بياض الأفق" يريد به الشفق على قول من قال الشفق هو البياض. "وفحمة العشاء" أول إظلامه. وقوله: "صلى ثلاثًا" يريد المغرب. وقوله: "ثم صلى ركعتين" يريد العشى مقصورة والذي جاء في مسند ¬

_ (¬1) من مطبوعة المسند. (¬2) النسائي (1/ 286 - 287). (¬3) وقال أبو زرعة: ثقة، وكذا قال محمد بن سعد ووثقه أيضاً الحافظ كما في "التقريب" وراجع "تهذيب الكمال" (3/ 130 - 131).

الشافعي "خرجنا مع ابن عمر إلى الجماء" بالجيم والمد. والذي جاء في سنن النسائي "بالحمى" بالحاء المهملة والقصر فإن لم يكن الغلط من أحد الناسخين وإلا فهما اسمان لموضعين من أراضي المدينة قريبًا منها. فأما "الجماء": فقد جاء ذكرها في الشعر قال أبو قطيفة: فالقصر والنخل فالجماء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون فالجماء قريب من العقيق وقصر سعيد بن العاص. وأما "الحمى": فالظاهر أنه النقع -بالنون والقاف- وهو الذي كان قد حمى لإبل الصدقة والغنائم. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغه عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يدخل أول العصر ثم ينزل فيصليهما معًا". ورواه في القديم قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن ليث بن سعد بهذا الإسناد وذكر نحوه. هذا حديث أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). وقد أخرج عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: "فراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة حين زالت الشمس فخطب ثم صلى الظهر والعصر معًا". وهذا طرف من حديث طويل وقد أخرجه مسلم (¬5)، وأبو داود (¬6) وهو ¬

_ (¬1) البخاري (1111). (¬2) مسلم (704). (¬3) أبو داود (8/ 12). (¬4) النسائي (1/ 284). (¬5) مسلم (8/ 12). (¬6) أبو داود (1905).

الحديث الذي يتضمن حجة الوداع. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم: عن مالك، عن يحيى بن سعيد قال: قلت لسالم: ما أشد ما رأيت ابن عمر أخر الصلاة؟ قال: غربت له الشمس بذات الجيش فصلاها بالعقيق. قال: وأخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن سالم مثله قال: قلت: أي ساعة تلك؟ قال: فذهب ثلث الليل أو ربعه. وقد رواه سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد وذكر ما بينهما ثمانية أميال. ***

الفرع الثاني في * الجمع بمزدلفة *

الفرع الثاني في الجمع بمزدلفة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب والعشاء بمزدلفة جميعًا". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم والجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن آدم [عن] (¬3) ابن أبي ذئب، عن الزهري بالإسناد قال: "جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء يجمع كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما ولا على إثر كل واحدة منهما". وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك إسنادًا ولفظًا. وفي رواية (¬5): عن حرملة بن يحيى [عن] (¬6) ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن أباه قال: "جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المغرب والعشاء بجمع ليس بينهما سجدة، وصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين فكان عبد الله يصلي بجمع كذلك حتى لقي الله -عز وجل-. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 321 رقم 196). (¬2) البخاري (1673). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب إثباته، وآدم هو: ابن أبي إياس يروي عن ابن أبي ذئب، وهو محمد بن عبد الرحمن، وعند البخاري بلفظ التحديث. (¬4) مسلم (703). (¬5) مسلم (2/ 937 رقم 1288) (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وإثباته لازم وكذا جاء في مسلم على الجادة.

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبى، عن مالك إسنادًا ولفظًا. وفي أخري: عن أحمد بن [حنبل] (¬2) عن حماد بن خالد، عن ابن [أبي] (2) ذئب، عن الزهري. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مالك، "أن عبد الله بن عمر صلى بجمع فجمع بين الصلاتين بإقامة وقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل هذا في هذا المكان". وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن عبيد الله بن سعيد، عن عبد الرحمن، عن مالك بالإسناد واللفط ولم يقل جميعًا. "المُزدلِفة" (بضم الميم وكسر اللام): اسم لموضع مخصوص معروف بين عرفات وهو موقف الحاج والمبيت به. قالوا: يسمى بذلك لأن إبراهيم الخليل ازدلف إليها لما أمسى بعرفة أي: قرب منها. و"جمع": اسم علم لمزدلفة قالوا: إنما سمي جمعًا لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه بحواء بعد أن أهبطا. وقيل: لأن الناس يجتمعون فيه بين صلاتي المغرب والعشاء. و"السبحة": اسم لصلاة النافلة وقد ذكر فيما مضى. و"النداء": يريد به الأذان والذي ذهب إليه الشافعي: أنه يجمع بين المغرب ¬

_ (¬1) أبو داود (1926، 1927). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من السنن. (¬3) الترمذي (887). (¬4) النسائي (1/ 291).

والعشاء بمزدلفة ويقيم لكل واحدة منهما. وهل يؤذن للأولى منهما، فيه خلاف. وقال أبو حنيفة: يجمع بينهما بإقامة واحدة، ولا يجزئه التفريق في وقتيهما عنده وعند محمد بن الحسن. ويجزئه عند الشافعي، ومالك، وأبي يوسف، وأحمد. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-: عن رجل، عن الأعمش، عن عمارة ابن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة قط إلا لوقتها إلا بالمزدلفة فإنه جمع بين الصلاتين المغرب والعشاء، وصلى الصبح يومئذٍ قبل وقتها. قال الشافعي: ولو كان صلاها بعد الفجر لم يقل قبل وقتها ولقال في وقتها الأول. قال: وروى ابن مهدي، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "كان عبد الله يصلي الصبح بجمع ولو أن متسحرًا يتسحر لكان ذلك". قال الشافعي: ولم يختلف أحد في أن لا يصلي أحد الصبح غداة جمع، ولا في غيرها إلا بعد الفجر وهم يخالفونه أيضاً في قوله: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع إلا بين المغرب والعشاء". ويزعمون أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة وكذلك نحن نقول: السنة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وقد روينا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين في غير ذلك الموطن -يريد ما تقدم من حديث معاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وجابر- والله أعلم" (¬1). ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (4/ 297 - 298).

الفرع الثالث في * الجمع بعذر المطر *

الفرع الثالث في الجمع بعذر المطر أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن أبي الزبير، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس أنه قال: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر". قال: أرى ذلك في مطر. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): أخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد وعن آدم، عن شعبة، وعن علي، عن سفيان كلهم عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر، عن ابن عيينة، وعن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، كلاهما عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، [و] (¬4) عن يحيى بن يحيى، عن مالك (¬5). ولهما روايات أخرى كثيرة. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن أحمد بن صالح، عن يحيى بن محمد ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 137 رقم 4). (¬2) البخاري (543، 562، 1174) بنحوه. (¬3) مسلم (705/ 55، 56). (¬4) سقط من الأصل والصواب إثباته. (¬5) مسلم (705/ 49). (¬6) أبو داود (1215، 1214).

الجاري، عن عبد العزيز بن محمد، عن مالك. وعن سليمان بن حرب ومسدد وعمرو بن عون، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، عن عمرو بن دينار. وعن قتيبة، عن مالك بالإسناد. وقد روى المزني (¬2) عن الشافعي: عن سفيان، عن أبي الزبير بالإسناد قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا من غير خوف، قلت: لم فعل ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. وروى المزني (¬3) أيضاً عن الشافعي: عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: "صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا". قوله: "جميعا" ظاهره يقتضي أن يكون جمع بين الصلوات الأربع لأنه قال: "صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء" فجمعها بواو العطف ثم قال: "جميعًا" وليس الأمر على ظاهره، إنما يريد أنه صلى الظهر والعصر جميعاً، وصلى المغرب والعشاء جميعًا. وإنما حسن ذلك لفهم المعنى، وأنهم قد عرفوا معرفة سالفة أن الجمع بين الصلوات؛ إنما يكون بين الظهر والعصر جميعًا وبين المغرب والعشاء معًا، فجاز الإطلاق لهذه المعرفة السابقة. وقوله: "من غير خوف ولا سفر" الصلاة إنما تقصر وتجمع في الخوف والسفر؛ فلما أخبر أنه جمع بينهما وكانوا بالمدينة احتاج أن يقول: من غير ¬

_ (¬1) النسائي (1/ 286، 290). (¬2) السنن المأثورة (24). (¬3) السنن المأثورة (23).

خوف ولا سفر تبيينًا للحال المخالفة للأصل، ليعلم أن الجمع لم يكن في مظنته المعهودة. وقد قال الشافعي: أمَّ جبريل -عليه السلام- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحضر ولا مطر وقال: "ما بين هذين وقت" فلم يكن لأحد تعمد أن يصلي بالصلاة في حضر ولا مطر إلا في هذا الوقت، ولا صلاة إلا منفردة كما صلى جبريل -عليه السلام- بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فصلى النبي بعد مقيمًا في عمره، ولما جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة آمنًا مقيمًا لم يحتمل إلا أن يكون مخالفًا لهذا الحديث، أو يكون الحال التي جمع فيها حالاً غير الحال التي فرق فيها. ولم يجز أن يقال: جمعه في الحضر مخالف لإفراده في الحضر من وجهين: أنه يوجد لكل واحد منهما وجه. وأن الذي رواهما معًا واحد وهو ابن عباس. فعلمنا أن لجمعه في الحضر علة فرقت بينه وبين إفراده فلم يكن إلا المطر -والله أعلم- إذا لم يكن خوف ووجدنا في المطر علة المشقة العامة فقلنا: إذا كانت العلة من مطر في حضر جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الجمع بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء، يجوز في المطر للمقيم كما يجوز للمسافر. وروي ذلك عن عبد الله بن عمر وهو مذهب الفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة؛ وسليمان بن يسار. وبه قال مالك، والليث، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور. إلا أن مالكًا وأحمد أجازا ذلك في المغرب والعشاء دون الظهر والعصر. وقال أبو حنيفة وأصحابه والمزني: لا يجوز.

وقال الشافعي: يجوز تقديم الثانية إلى الأولى. فأما تأخير الأولى إلى الثانية ففيه قولان كان في القديم والإملاء يبيحه في وقت إحديهما كيف كان أخف عليه، قياسًا على السفر. وقد أخرج الشافعي في القديم: عن مالك، عن نافع "أن عبد الله بن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء في المطر جمع معهم". قال الشافعي: وأخبرنا بعض أصحابنا عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر أنه جمع بينهما قبل الشفق. قال: أخبرنا بعض أصحابنا عن أسامة بن زيد، عن معاذ بن عبد الله "أن ابن عباس جمع بينهما في المطر قبل الشفق". وقال الشافعي: وأخبرنا بعض أصحابنا عن عبد الله بن زيد قال: "رأيت سعيد ابن المسيب جمع مع الأمراء قبل مغيب الشفق". ***

الباب الرابع من القسم الأول من كتاب الصلاة في صلاة الجمعة

الباب الرابع من القسم الأول من كتاب الصلاة في صلاة الجمعة ويشتمل على عشرة فروع: الفرع الأول في فضل يوم الجمعة وصلاة الجمعة أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير وعطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "شاهد: يوم الجمعة، ومشهود: يوم عرفة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم قال حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن عطاء بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذا حديث مشهور قد أخرجه الشافعي من طرق ثلاث مرسلًا وقد روي من حديث عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا (¬1)، وقد تكاثرت الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شاهد ومشهود، وأكثر ما وردت أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة (¬2) ومعنى كون يوم الجمعة شاهدًا: أنه يشهد لكل ¬

_ (¬1) قال البيهقي في المعرفة (4/ 308): والموقف أصح. وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}: وقد روي موقوفًا على أبي هريرة وهو أشبه. وانظر تخريجه في "السلسلة الصحيحة" (1502). (¬2) انظر اختلاف أهل العلم في بيان (الشاهد والمشهود) عند الطبري في تفسيره حيث نقل عدة =

عامل بما عمل فيه، وكذلك كل يوم وله فضل مخصوص باجتماع الناس في صلاة الجمعة؛ ما لا يجتمعون في غيره من الأيام. ومعنى كون يوم عرفة مشهودًا: ليشهد الناس فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة. وقد جاء في فضل هذين اليومين أحاديث كثيرة بغير هذا المعنى، وذهب قوم إلى أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر. وذهب آخرون: إلى أن الشاهد محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمشهود يوم القيامة. وقال آخرون: الشاهد من يشهد من الحقائق يوم القيامة، والمشهود في ذلك اليوم من عجائبه؛ لأن اليوم الوعود هو يوم القيامة لا شك فيه. ثم قال: وشاهد في كل ذلك اليوم ومشهود فيه، وإنما جاء بهما بلفظ النكرة على طريقة أنيقة من لطائف أوضاع البلاغة: وذلك أنه من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه ومثله قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} (¬1) فنكر النفس ومن المعلوم أن كل النفوس تعلم ما أحضرت بدليل قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} (¬2) لا نفس واحما يوددة. ومثل الأول قوله تعالى {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (¬3) وما يريد به هاهنا التقليل لأنه لا مبالغة فيه. ومثله من الكلام أن يقول لبعض أمراء الأجناد: كم عندك من الفرسان؟. ¬

_ = أقوال في ذلك وقال: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن يقال: ان الله أقسم بشاهد شهد، ومشهود شهد، ولم يخبرنا مع إقسامه بذلك أي شاهد وأي مشهود أراد، وكل الذي ذكرنا أن العلماء قالوا: هو المعنىّ مما يستحق أن يقال له: (شاهد ومشهود). (¬1) التكوير: (14). (¬2) آل عمران: (30). (¬3) الحجر: (2).

فيقول: رب فارس عندي، أو: لا يعدم عندي فارسًا، وعنده المعايب الكثيرة. وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه، ولكنه أراد إظهار براءته من التزيّد، وأنه ممن يقلد ما عنده فضلاً أن يتزيد، فجاء بلفظ التقليل وفهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين. "والجمعة": بمعنى المجموع كالضحكة بمعنى المضحوك منه، ويوم الجمعة يوم الوقت الجامع، وفيه لغتان: سكون الميم وضمها، وإنما سميت الجمعة: لأن الخلائق اجتمعت فيها وفرغ الله -عز وجل- من خلقها فيها، وقيل: أول من سماها الجمعة: كعب بن لؤي بن غالب وكان يقال لها: عروبة والعروبة. وقيل: أول من سماها الأنصار، وذلك أنهم قالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كل أسبوع، والنصارى كذلك فهلموا فنجعل لنا يومًا نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فيه، فقالوا: يوم السبت لليهود والأحد للنصارى فاجعلوا يوم العروبة لنا، فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم فيه، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم. وذبح لهم فيه شاة فتغدوا وتعشوا من شاة واحدة وذلك لقلتهم، فهذه أول جمعة جمعت في الإسلام قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة. وأما أول جمعة جمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإنه لما قدم المدينة مهاجرًا نزل بقُباء على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول حين اشتد الضحى، فأقام عندهم الثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج من بين ظهرانيهم يوم الجمعة غاديًا إلى المدينة؛ فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم وقد اتخذوا مسجدًا لهم؛ فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب، فكانت هذه أول جمعة جمعها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأول خطبة خطبها.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عمرو بن شرحبيل بن سعد (¬1)، عن أبيه، عن جده أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أخبرنا عن الجمعة ماذا فيها من الخير؟. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيه خمس خلال: فيه خلق الله آدم، وفيه أهبط الله آدم إلى الأرض، وفيه توفي الله آدم، وفيه ساعة لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا آتاه إياه ما لم يسأل مأثمًا أو قطيعة رحم، وفيه تقوم الساعة فما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا جبل؛ إلا وهو مشفق من يوم الجمعة". "الخلال": جمع خلة (بفتح الخاء) وهي الخصلة. وردَّ السائل الضمير في قوله "فيها" إلى لفظ الجمعة وهو مؤنث، ورده النبي - صلى الله عليه وسلم - مذكرًا إلى يوم. "والهبوط": ضد الطلوع. "والمأثم": الإثم وهو الذنب تقول: أثِم الرجل (بالكسر) يأثم (بالفتح) إثمًا: إذا وقع في الإثم، وتأثم أي خرج من الإثم وكف عنه. "والقطيعة": الهجران والصدّ. وقطيعة الرحم ضد وصلها، وصلة الرحم معروفة وهي الإحسان إلى الأهل والأرقاب والرفق والبر بهم. "والإشفاق": الخوف والفزع. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل [سعد] ولعل المصنف اختصره فنسبه إلى جده الأعلى، وعمرو هو: ابن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري. قال عنه الحافظ في التقريب: مقبول. وانظر تهذيب الكمال (22/ 59 - 60).

ووجه الأشفاق من يوم الجمعة لأجل توقع قيام الساعة فيه. "والساعة": اسم علم ليوم القيامة، قيل: سميت ساعة لقربها ووصفها بالقيام: لأنها اليوم ساكنة وهي كالقاعدة وإذا أراد الله إيجادها وصف بالحركة والقيام لذلك، ولقيام الناس من القبور فيها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها إنسان مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه -وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده يقللها". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خُلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا هي مسيحة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه". قال أبو هريرة وقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة في يوم الجمعة. فقلت له: وكيف يكون آخر ساعة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي" وتلك ساعة لا يصلى فيها؟ فقال ابن سلام: ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - "من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي"؟ قال: فقلت: بلى. قال: فهو ذاك. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة، إلا أن الرواية الأولى: أخرجها مالك، والبخاري، ومسلم، والنسائي.

والثانية: أخرجها مالك، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما مالك (¬1): فأخرج الروايتين بإسنادهما وذكر الثانية أطول منها بزيادة معنى آخر. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجها عن قتيبة، عن مالك وقال: "عبد مسلم". وفي أخرى: عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن محمد بن أبي هريرة. وأما الترمذي (¬4): فأخرجها عن قتيبة، عن المغيرة [بن] (¬5) عبد الرحمن، عن أبي الزناد. وفي أخرى: عن إسحاق بن [موسى] (¬6) الأنصاري، عن معن، عن مالك نحوه. وأما أبو داود (¬7): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك نحو رواية مالك. وأما النسائي (¬8): فأخرج الأولى عن عمرو بن زرارة، عن إسماعيل، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 19 - 110 رقم 15، 16). (¬2) البخاري (935). (¬3) مسلم (852/ 13 - 14). (¬4) الترمذي (488، 491). (¬5) ما بين المعقوفتين بالأصل [عن] وهو تصحيف. (¬6) بالأصل [منصور] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وكذا عند الترمذي على الجادة. (¬7) أبو داود (1046). (¬8) النسائي (3/ 113 - 116).

وأخرج الثانية: عن قتيبة، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد وذكر رواية أبي هريرة. وأخرج الثانية: عن قتيبة، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد وذكر رواية مالك بطولها. الموافقة والمصادفة سواء: يريد أنه متى كان في تلك الساعة يصلي ويدعو استجيب له. ومعنى قوله: "يقللها" أي أنها ساعة قصيرة الزمان وقد جاء في بعض طرق البخاري ومسلم "يزهدها" والمعنى سواء فإن الشيء الزهيد القليل. وكذلك جاء في بعض الطرق وهي ساعة خفيفة. "وتيب عليه": من التوبة وهو فعل ما لم يسم فاعله. وقوله: "مسيحة" -"بالسين"- وإنما هو مصيحة -بالصاد- من الإصاحة الإصغاء إلى إسماع الصوت، وقد أبدل من الصاد سيناً لقرب المخرج، ولأن السين تبدل من الصاد في أربعة مواضع: إذا كان بعدها طاء، أو حاء، أو عين، أو قاف نحو: السراط والصراط، والسحر والصحر، والسقر والصقر والسالع والصالع. وقد اختلف العلماء في تعيين هذه الساعة: فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها بعد العصر إلى مغيب الشمس، ورأى ذلك بعض الصحابة. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها آخر ساعة. وقيل: هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يقضي الصلاة. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها حين يقام إلى الصلاة وإلى الانصراف منها.

وقال ابن عباس: هي ما بين الآذان وانصراف الإمام. وقيل: هي عند نزول الإمام من المنبر. وقيل: ما بين أن ينزل الإمام عن المنبر إلى أن يكبر. قال محمد بن شهاب الزهري: إذا قسم الإنسان ساعات نهار يوم الجمعة على أيام الجمعة صادف الساعة المخصوصة لا بعينها. قالوا: وإنما كتمت ولم تعين ليجتهد العبد في الدعاء والصلاة والعبادة، في جميع ساعات يوم الجمعة ولو عرفها بعينها لقصر عبادته ومسألته عليها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيد الأيام يوم الجمعة". "السيد": الشريف العظيم في قومه. وقيل: الذي يفوق قومه في الخير. وقيل: الحليم الكريم. وقيل: سمي السيد سيدًا لأنه يسود سواد الناس أي معظمهم. ووزنه فعيل من ساد يسود سيادة وسؤددًا فهو سيد وقوم سادة هذا قول نحاة البصرة. وقال نحاة الكوفة: وزنه فعيل بوزن قتيل. قال الجوهري: هو مثل سدى وسداه. وإنما كان يوم الجمعة سيد الأيام: تشبيها له بالسيد من الناس لأن فيه الساعة المخصوصة بالمدح وإجابة الدعاء، ولما ورد فيه من خلق آدم عليه السلام وتوبته وقيام الساعة وغير ذلك من الخصائص التي تفرد بها عن باقي الأيام.

وهذا كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "آية الكرسي سيدة آي القرآن" (¬1) وذلك لما قد اجتمع فيها من التقديس والتمجيد والصفات الذاتية، التي لم تجمع في آية من آيات القرآن غيرها، وحيث كانت بهذه المثابة استحقت أن تكون سيدة آي القرآن. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون ونحن السابقون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له، فالناس لنا تبع، اليهود غدًا والنصارى بعد غد". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله إلا أنه قال: "بايد أنهم". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عمر بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بَيْد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم -يعني الجمعة- فاختلفوا فيه، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع: السبت والأحد". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن ¬

_ (¬1) طرف من حديث أخرجه الترمذي (2878) من حديث أبي هريرة وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير وضعفه. قلت: والحديث ضعفه الألباني -رحمه الله- في الضعيفة (1348). وللحديث شواهد بنحوه، وانظر تفسير ابن كثير تحت تفسير آية الكرسي. (¬2) البخاري (876، 896، 897).

الأعرج، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نحن الآخرون السابقون" وذكر الرواية الأولى. وفي أخرى: عن مسلم بن إبراهيم، عن وهيب، عن ابن طاوس بالإسناد نحوه وزاد فيه: ذكر الغسل يوم الجمعة. وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد نحوه وقال فيه: "ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا هدانا الله له" وذكره. وفي أخرى: عن محمد بن رافع [عن] (¬2) عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان، عن أبي الزناد واللفظ. "الآخرون": الذين جاءوا آخر الأمم. "والسابقون": الذين سبقوا الناس يوم القيامة إلى الموقف فجازوا سرعة الحساب، والتقدم على العباد وأحرزوا فضيلة الكرامة يومئذٍ وسبقوا في الدخول إلى الجنة، وقد صرح به في بعض الروايات. "وبيد": بمعنى غير أي: غير أنهم. وقيل: معناه على أنهم. قال المزني: سمعت الشافعي يقول: بيد بمعنى من أجل. قال أبو عبيد: وفيه لغة أخرى "ميد" أبدلوا الباء ميمًا لقرب المخرج، وفي ¬

_ (¬1) مسلم (855/ 19, 21). (¬2) بالأصل [بن] وهو تصحيف. (¬3) النسائي (3/ 85).

الحديث "أنا أفصح العرب ميد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر" (¬1). وقد فسره بعضهم من أجل أني. فأما في الرواية الأخرى "بايد أني" فلا أعرفه في لغة ولا وجدته في كتاب ولا أعلم وزن هذه اللفظة، هل الباء زائدة أو أصلية؟ وأنا أتطلبها في الكتب لعلي أعثر عليها والله الموفق (¬2). "والكتاب" له الذي أوتوه من قبلنا: يريد به التوراة والإنجيل. واليوم الذي اختلفوا فيه: يريد أنه كتب عليهم بفضله، وفرض عليهم تعظيمه فاختلفوا فيه فقالت اليهود: هو يوم السبت كان فيه الفراغ من خلق الخلائق فنحن نستريح فيه عن العمل ونشتغل بالشكر. وقالت النصارى: هو يوم الأحد لأن الله بدأ فيه بخلق الخلائق فهو أولى بالتعظيم. فهدى الله المسلمين إليه، فهو سابق على السبت والأحد ولسبقه معنى، وذلك أن ترتيب الأيام الثلاثة إذا شرحت متتابعة لا تصح إلا بأن يتقدمها الجمعة فنقول: الجمعة والسبت والأحد وليس ذلك لواحد من السبت والأحد لأنك إذا قدمت السبت وأتبعته الأحد فصلت باقي الأيام بين الأحد والجمعة، وإن قدمت الأحد فكذلك وليست فضيلة السبق في تتابع الترتيب الوضعي إلا للجمعة. وقد جاء في بعض الروايات "نحن الآخرون ونحن السابقون" وفي بعضهما "الآخرون السابقون" وكلاهما فصيحان. ¬

_ (¬1) قال العجلوني في كشف الخفا (1/ 200 - 201): قال في اللآلئ: معناه صحيح، ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ، وأورده أصحاب الغريب ولا يعرف له إسناد. (¬2) قال ابن منظور في اللسان بعد ذكره قوله ابن الأثير هذا: ... وقال بعضهم: إنها بأيد: أي بقوة، ومعناه: نحن السابقون إلى الجنة يوم القيامة بقوة أعطاناها الله وفضلنا بها. انظر اللسان (مادة: بيد).

بلغيان ولكل منهما مزية ليست في الآخر. أما قوله: "نحن الآخرون السابقون" بحذف العاطف فإنه أراد أن هذين الموضعين المذكورين من التأخر والسبق لنا قنية (¬1) وملكة؛ وأنهما فينا ثابتان متى ذكر أحدهما عرف الآخر فلا ينفك عنهما ولا يتوقف وجود الثاني لنا واتصافنا به على وجود سبب يحصله لنا، فلا حاجة بنا إلى حرف عطف يضف لنا الثاني إلى الأول. وأما قوله: "ونحن السابقون" فإنه لما قال: "نحن الآخرون" فأثبت لهم التأخر عطف وجاء بلفظة "نحن" ليبين أن السبق لهم دون غيرهم، كان قائلاً قال لما قال: "نحن الآخرون" فما ذلكم بذلك إذا ثبت لكم التأخر ونزلتم المتقدم فقال: "ونحن السابقون". ومثال ذلك: أن يقول القائل: من يولي الجميل، ويصنع المعروف، ويفك العاني، ويكسب المعدوم، ويحمل الكَلّ؟ فتقول: أنا الذي أفعل ذلك، وأنا الحقيق بها دون غيري. أي: أنا الجامع بين الاتصاف بهذه الصفات والمنفرد بها, ولما في إعادة ضمير المتكلم الذي يضاف الخبر إليه من الفائدة ويقرع السمع به في كل خصلة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم، حدثني موسى بن عبيدة، حدثني أبو الأزهر (¬2): معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد الله بن عمير، أنه سمع أنس بن مالك يقول: "أتى جبريل بمرآة بيضاء فيها وكتة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي: ما هذه؟ فقال: هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك، فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى، ولكم فيها خير، وفيها ساعة لا يوافقها ¬

_ (¬1) القِنْية: ما اكتسب، والجمع قِنيّ انظر: اللسان مادة: قنا. (¬2) بالأصل: أبو الأزهري وهو تصحيف، والمثبت هو الصواب، وهو الثابت في مطبوعة المسند.

مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له، وهو عندنا يوم المزيد. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريل، ما يوم المزيد؟ قال: إن ربك اتخذ في الفردوس واديًا أفيح فيه كثب مسك، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله ما شاء من ملائكته، وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد، عليها الشهداء والصديقين (¬1) فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب، فيقول الله -عز وجل-: أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم". فيقولون: ربنا نسألك رضوانك. فيقول: قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد. فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير، وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش، وفيه خلق الله آدم وفيه تقوم الساعة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم قال: حدثني أبو عمران: إبراهيم بن الجعد، عن أنس شبيهًا به وزاد عليه "ولكم فيه خير من دعا فيه بخير فهو له ولكم قسم أعطيه، وإن لم يكن له قسم ذخر له ما هو خير منه" وزاد فيه أيضًا أشياء. هذا لفظ المسند. "المرآة" (بكسر الميم والمد): معروفة وهي التي يُنظر فيها والجمع في القلة: مرآة بوزن غزال، والكثير: مرايا بوزن عطايا وفلان يمراي أي ينظر إلى وجهه في المرآة وبناء هذه اللفظة من الروية. "والوَكْتة" (بفتح الواو وسكون الكاف) كالنقطة في الشيء يقال: في عينه وكتة، ويقال للبُسْر إذا بدا فيه الإرطاب: قد وكت وكتًا ومعنى تشبيهه الجمعة بالمرآة البيضاء: مثل في نقائها وصفائها وحسنها من بين الأيام. ¬

_ (¬1) في المطبوع: الصديقون وهو الجادة.

وقوله: "فيها وكتة" يجوز أن يكون عني بالوكتة: الساعة المخصوصة في الجمع بالمدح تشبيها بوكتة البسر، لأن تلك النقطة التي تسرى بالإرطاب هي أشرف ما في البسرة، كما أن الساعة التي في الجمعة هي أشرف ساعاتها. ويجوز أن يريد: صلاة الجمعة التي يميز بها هذا اليوم على باقي الأيام. ويجوز أن يريد بالوكتة: أنها تزين المرآة البيضاء كما يزين الحال (¬1) الوجه الحسن فشبه الوكتة بالخال والله أعلم. وقوله: فضلت بها أنت وأمتك، يريد تخصيصهم بها دون أهل الكتابين. وقوله: اليهود والنصارى بدل البعض من الكل لأن هاتين الطائفتين بعض الناس. "والمزيد": مفعل من الزيادة تقول: زاد يزيد زيادة وزيدًا. "والفردوس": اسم من أسماء الجنة وهو البستان. قال الفراء: هو عربي، وكرم مفردس، أي معرش، وقد جاء في التفسير أن الفردوس حديقة في الجنة، وأهل السلام يسمون الكرم والبساتين، الفراديس، وقيل: إن اللفظة رومية عربت. "والأفيح": الواسع. "والكثب": جمع كثيب وهو ما اجتمع من الرمل مرتفعًا. وأما الاستواء على العرش فالمسلمون فيه مختلفون، والذي ذهب إليه أهل السنة والجماعة فيه مذهبان: أحدهما: أنهم أجروا هذه اللفظة على ظاهرها مجرى غيرها من آيات الصفات وأحاديثها، فلا يؤلونها، وقالوا: الاستواء صفة من جملة صفات الله ¬

_ (¬1) كذا بالأصل ولعلها: (الكحل).

-عز وجل - لا يعلم ما هو وينفى عنه التشبيه والاستقرار الذي هو من صفات الإسلام، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا، هذا مذهب كثير من صالحي السلف وأكثر المحدثين رحمة الله عليهم، أمروا الآيات والأحاديث على ظاهرها هربًا من الوقوع فيما لا يعلمون عاقبته ولا يتحققون معيته وسلوكًا في طريق السلامة من الزيغ والزلل، وهذا وإن كان طريقًا صالحة ومحجة سالمة فإن راكبها يدَّرع من التضرر جلبابًا، ويستمطر من التقليد سحابًا قانعًا بالوقوف عند أصحاب اليمين، راضيًا بالتأخر عن مقامات السابقين، ولعمري قد قال فضلاً وحاز من التوفيق حظًّا. وأما المذهب الثاني: وهو الذي صار إليه المحققون من أهل الإيمان الفائزون بالرضوان فإنهم اعتبروا الآيات والأخبار الواردة فما جاز إطلاق ظاهره على الله عز وجل وما دلت عليه أوضاع اللغة العربية أجروه بظاهره ولا يحتاجون فيه إلى تأويل لاستمراره في منهج الصحة والصدق وما لم يجز إطلاق ظاهره على الله عز وجل لقيام الدليل على استحالة إطلاق ظاهره عليه أولوه تأويلًا تقتضيه اللغة العربية وقد اطردت العادة بمثله فرارًا من إطلاق ظاهره عليه ما لا يجوز إطلاقه على الله عز وجل فقالوا في الاستواء: أنه بمعنى الاستيلاء والقدرة عليه وقد أطلق أهل اللغة الاستواء بهذا المعنى في غير الآية، وإنما خص الاستيلاء بالعرش لأن العرش أعظم الموجودات وهو محيط بالكرسي الذي وسع السموات والأرض، وإذا أضاف الاستيلاء إلى أعظم موجوداته كان ما دونه أولى بالاستيلاء. هذا ما قاله الراسخون في العلم الذين أخبر الله عز وجل عنهم أنهم هم الذين يعلمون تأويل كتابه فقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (¬1). ¬

_ (¬1) آل عمران: [7].

وأما ما ذهب إليه طوائف المشبهة والمجسمة في أمثال هذه الآيات والأخبار من التشبيه والتجسيم حتى قالوا: إن الاستواء على العرش هو القعود عليه والاستقرار كما تستقر الأجسام بعضها على بعض فالله سبحانه وتعالى منزه عن هذه الأقوال المفتراه والآراء الفاسدة التي تفضي بقائلها إلى سواء الجحيم، نسأل الله العصمة والتوفيق في القول والعمل، وأن يهدينا سواء السبيل (¬1). وأخبرنا الشافعي، أخبرني إبراهيم بن محمد قال: أخبرني أبي أن ابن المسيب قال: أحب الأيام إليَّ أن أموت فيه ضحى يوم الجمعة". إنما أختار الموت فيه: لشرفه وفضله على باقي الأيام كما تقدم ذكره. واختار ضحاه: لاجتماع الناس لصلاة الجمعة فيصلون عليه، إذ ربما لا يجتمع له من الناس ما يجتمع يوم الجمعة، حيث الباعث لهم على الاجتماع إنما هو صلاة الجمعة فيحظى بثواب صلاتهم عليه وعليهم له، وكان القياس أن يقول: وأحب الأيام أن أموت فيه يوم الجمعة حتى يكون الخبر مطابقًا، وإنما قال: ضحى يوم الجمعة لأنه لو قال يوم الجمعة لجاز أن يكون بعد الصلاة فتفوته فضيلة المصلين عليه. ¬

_ (¬1) قد فصلنا الكلام على هذه المسألة في مقدمة هذا الكتاب عند كلامنا عن عقيدة المؤلف فاليراجع هناك.

الفرع الثاني * في وجوبها وإثم تاركها *

الفرع الثاني في وجوبها وإثم تاركها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، قال حدثنا [سلمة] (¬1) بن عبد الله الخطمي، عن محمد بن كعب أنه سمع رجلاً من بني وائل يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيًّا أو مملوكًا". هكذا رواه الربيع: سلمة بن عبد الله. ورواه المزني عن الشافعي: سلمة بن عبيد الله. وهذا الحديث وإن كان مرسلًا فله شواهد يقوى بها. فقد أخرج أبو داود في "السنن" (¬2) عن عباس بن عبد العظيم، عن إسحاق بن منصور، عن هريم، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [سالم] وهو تصحيف وجاء مصوبا في مطبوعة المسند، والأم (1/ 189). (¬2) أبو داود (1067). وقال: طارق بن شهاب قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه. قلت: وأعله بالإرسال غير واحد أيضاً، قال الخطابي: ليس إسناد هذا الحديث بذلك، وطارق بن شهاب لا يصح له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم. معالم السنن (1/ 211). لكنه يصلح في باب الشواهد والمتابعات، قال الزيلعي: قال النووي في الخلاصة: وهذا غير قادح في صحته، فإنه يكون مرسل صحابي، وهو حجة، والحديث على شرط الصحيحين، وقال البيهقي في "سننه": هذا الحديث، وإن كان فيه إرسال فهو مرسل جيد، وطارق من كبار التابعين، وممن رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يسمع منه، ولحديثه شواهد اهـ نصب الراية (1/ 199). ولهذا قال الحافظ في التلخيص (1/ 65): وصححه غير واحد. وصححه الألباني -رحمه الله- بشواهده في الإرواء (592).

في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض". قد روى أبو العباس الأصم: عن محمد بن إسحاق الصغاني، عن يحيى بن بكير المصري، عن مفضل بن فضالة، عن عياش بن عباس، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، عن حفصة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "رواح يوم الجمعة على كل محتلم، وعلى من راح إلى الجمعة غسل". وهذا حديث حفصة أخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2). "الوجوب": قد تقدم وإنه وأنه والفرض سواء عند الشافعي وفرق بينهما أبو حنيفة. "والجمعة": قد ذكرنا أنه اسم اليوم فيكون هاهنا مضاف محذوف تقديره: تجب صلاة الجمعة. وإنما نصب "امرأةً، وصبيًّا، ومملوكًا" لأنه استثناء من موجب كما تقول: مررت على القوم إلا زيدًا. وأما في حديث أبي داود: فإنما رفع لأنه لما قال: "إلا أربعة" فجعلها المستثنى ونصبها استأنف تفصيل الأربعة ورفعها لذلك. "والرواح": هاهنا أراد به الذهاب والمضي، لأن المضي إلى صلاة الجمعة إنما يكون قبل الزوال، والرواح إنما يكون بعد الزوال. ويجوز أن يكون أراد الحقيقة في الرواح، لأن صلاة الجمعة إنما تكون بعد الزوال وهو وقت وجوب المضي إليها وذلك هو الرواح حقيقة. ¬

_ (¬1) أبو داود (342). (¬2) النسائي (3/ 89).

والذي ذهب إليه الشافعي: أن صلاة الجمعة فرض على كل مكلف حر ذكر مقيم صحيح. وهذه الشرائط معتبرة في الوجوب والانعقاد لا الصحة، فإن الصحة (¬1) تنعقد بالمريض. وقد حكى بعض أصحاب الشافعي: أنها عند الشافعي فرض على الكفاية، كقول الشافعي: ومن وجب عليه الجمعة وجب عليه صلاة العيدين. وغلط الراوي في ذلك، فإن الشافعي إنما أراد أن الخاطب بهذه مخاطب بهذه. وقد استثنى في هذا الحديث "المرأة، والصبي، والمملوك" وزاد في حديث أبي داود "المريض" ولم يتعرض للمسافر. وعلى هذا القول كثر الفقهاء، فقد أوجبها داود على العبد والمسافر. وجه الخلاف: أن خبر الواحد إذا ورد بالتخصيص فهل يخص عموم القرآن أم لا؟ فيه خلاف بن الأصوليين، هذا إذا قلنا العبد يدخل مع الحر في الخطاب، فأما إذا لم نقل بذلك فلا يكون هاهنا عموم عارضه خبر واحد، والعموم هو قوله الله -عز وجل-: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬2). هذا خطاب عام لكل الناس والاستثناء بالعبد، والصبي، والمملوك خاص في خبر الواحد. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم، قال حدثني عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز، عن أبيه، عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة: "قال لكل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم الجمعة". ¬

_ (¬1) كذا بالأصل ولعل الصواب [الجمعة] ليستقيم السياق. (¬2) الجمعة: (9).

هذا الأثر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهو من كبار التابعين وأحد الفقهاء السبعة المشهورين (¬1)، وبه أخذ الشافعي في انعقاد الجمعة: أنها لا تنعقد إلا بأربعين رجلًا ممن استكمل الأوصاف التي ذكرناها قبل هذا. وبه قال عمر بن عبد العزيز، ومالك، وأحمد. وقال ربيعة: ينعقد باثني عشر رجلًا. وقال الحسن بن صالح: ينعقد باثنين. وقال الأوزاعي، وأبو يوسف: ينعقد بثلاثة. وقال أبو حنيفة، والثوري، ومحمد بن الحسن: ينعقد بأربعة. ومعنى قوله: "فعليهم الجمعة" أي: فيجب عليهم صلاة الجمعة. قال الشافعي: ولا كانت الجمعة واجبة احتملوا (¬2) أن تكون تجب على كل مصل بلا وقت عدد مصلين، وأين كان المصلي من منزل مقام وظعن. ولم نعلم خلافًا في أن لا جمعة إلا في دار مقام، ولم أحفظ أن الجمعة تجب على أقل من أربعين رجلًا، وسمعت عددًا من أصحابنا يقولون: تجب الجمعة على أقل من أربعين رجلًا. وسمعت أهل دار مقام إذا كانوا أربعين رجلًا؛ وكانوا أهل قرية فقلنا به وكان أقل ما علمناه قيل به ولم يجد عندي أن أدع القول به وليس خبر لازم يخالفه، وقد روي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل قرى عربية أن يصلوا الجمعة والعيدين". وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي الكندي: انظر كل قرية أهل قرار ليسوا هم بأهل عمود ينتقلون فأمّر عليهم أميرًا ثم مرهم فليجمع بهم. ¬

_ (¬1) لكن في الإسناد إليه ضعف شديد، وعلة الإسناد: إبراهيم بن محمد: وهو متروك. (¬2) في الأم: احتملت.

وقال الليث بن سعد إن أهل الإسكندرية ومدائن مصر ومدائن سواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بأمرهما. وسئل ابن عمر عن القرى التي بين مكة والمدينة ما ترى في الجمعة؟. قال: نعم إذا كان عليهم أمير فليجمع. قال الشافعي في القديم: وقال بعض الناس: لا يجوز الجمعة إلا في مصر جامع. قال: ولا ندري ماحد المصر الجامع عنده أهل القرى العظام أو القرى التي لا تفارق كما قلنا؟ فقال: بل هي القرى العظام. قيل: فقد جمع الناس في القرى التي بين مكة والمدينة على عهد السلف وبالربذة على عهد عثمان، وإنما رأينا الجمعة وضعت عن المسافر وأهل البدو، فأما أهل القرى فلم يوضع عنهم. وروى عن جابر أنه قال: "مضت السنة في كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وفطر وأضحى. وقد أخرج الشافعي: عن إبراهيم بن محمد، عن عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: "تجب الجمعة على من سمع النداء". قال الشافعي: وكان سعيد بن زيد وأبو هريرة يكونان بالشجرة على أقل من ستة أميال ويشهدان الجمعة ويدعانها. وكان روى أن أحدهما كان يكون بالعقيق فيترك الجمعة ويشهدها. وكان يروى أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان على ميلين من الطائف فيشهد الجمعة ويدعها وذلك لأنهم كان لا يبلغهم النداء من المدينة. قال الشافعي: ومن خرج من المصر فكان يؤويه الليل إلى أهله إذا انصرف

إليهم من الجمعة أحببت له شهودها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني صفوان بن سليم، عن إبراهيم بن عبد الله بن معبد، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك الجمعة من غير ضرورة كتب منافقًا في كتاب لا يمحى ولا يبدل". وفي بعض الحديث: "ثلاثًا". "الضرورة": ما يكون مبيحًا لترك الجمعة، وقد تقدم في "باب الجمعة" ذكر الأعذار التي تبيح ترك الجماعة والجمعة، وسيجيء ذكر شيء منه في الفرع الثالث. ويريد "بالكتاب الذي لا يمحى ولا يبدل": ما يكتبه الحفظة الكرام والكاتبون من أعمال العباد خيرها وشرها. يريد بقوله "ثلاث" جمع. "والمنافق": معروف وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن خلافه وقد تقدم ذكره. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني محمد بن عمرو، عن عبيدة بن سفيان الحضرمي، عن أبي الجعد الضمري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يترك أحد الجمعة ثلاثًا تهاونًا بها إلا طبع الله على قلبه". قال الشافعي: في بعض الحديث ثلاثاً. هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1)، والترمذي (¬2)، والنسائي (¬3). فأما أبو داود: فأخرجه عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن ¬

_ (¬1) أبو داود (1052). (¬2) الترمذي (500) وقال: حديث حسن. وسألت محمدًا عن اسم أبي الجعد الضمري؟ فلم يعرف اسمه وقال: لا أعرف له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث. قال أبو عيسى: ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث محمد بن عمرو. (¬3) النسائي (3/ 88).

عمرو [بلفظ أبي داود] (¬1). وفي الباب عن ابن عمر وسمرة (¬2). "التهاون": تفاعل من الهوان وهو الذل والاستحقار وهو منصوب لأنه مفعول له، أي: تركها المتهاون بها. "والطبع": أخو الختم والطابع والخاتم وقد تكسر الباء والتاء فيهما لغة، والطبع على القلب كناية عن سده عن دخول الإيمان ووصول الحق إليه ومنه قول الله عز وجل: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (¬3) و {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (¬4) أي أغلقها فلا تدخلها الموعظة وإن دخلت فلا تعيها؛ تشبيها بالشيء الذي يختم عليه بعد الشد زيادة في الاغلاق والايكاء. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم، عن صالح بن كيسان، عن عبيدة بن سفيان قال: سمعت عمرو بن أمية يقول: لا يترك رجل مسلم الجمعة ثلاثًا تهاونًا بها لا يشهدها إلا كتب من الغافلين. قوله: "لا يشهدها" أي: لا يحضرها، شهد فلان البلد إذا حضر فيه. "والغافلون": يريد بهم الغافلين عن ذكر الله -عز وجل- واتباع أوامره والمسارعة إليها، والمطرحين لها المتهاونين بها. والاستثناء في قوله "إلا كتب" من قوله "لا يترك". وقوله: "لا يشهدها" في موضع الحال، التقدير: لا يتركها غير شاهد لها. "ولا" في هذه الحديث والذي قبله نافية. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، وواضح أنه وقع سقط في المخطوط، فلم يذكر هنا طريقي الترمذي والنسائي. (¬2) وانظر شواهده في التلخيص (2/ 52 - 53) وقد نقل تصحيح حديث أبي الجعد عن ابن السكن، وذكر هناك اختلاف أهل العلم في إسناده. وقال الشيخ الألباني -في المشكاة (1/ 433): إسناده حسن وصححه جماعة، وهو صحيح باعتبار شواهده. (¬3) البقرة: [7]. (¬4) التوبة: [93].

الفرع الثالث في * تركها للعذر ومن لا تجب عليه *

الفرع الثالث في تركها للعذر ومن لا تجب عليه أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مالك وسفيان، عن صفوان ابن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. "المحتلم": الذي رأى الحلم في منامه، ويريد في هذا الحديث البالغ من الرجال البلوغ الشرعي إما برؤية الماء، أو باستكمال خمس عشرة سنة. وإنما أطلق لفظة الاحتلام: لأنه البالغ من أحوال البالغين، ولأنه الأمارة المشترك في معرفتها كل أحد. وفي رواية مسلم "الغسل يوم الجمعة". ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 106) رقم 4). (¬2) البخاري (879). (¬3) مسلم (846). (¬4) النسائي (3/ 93).

ورواية الشافعي "غسل يوم الجمعة" وهي أظهر يياناً لأنه أضاف الغسل إلى اليوم فكان مخصوصًا به وليس غسلاً مطلقًا، فكأنه اعتبر فيه الاختصاص به والنية فيه. فأما إطلاق الغسل فلا فإنه لو اغتسل يوم الجمعة ولم ينو أنه اغتسل لصلاة الجمعة لم يجزئه مع أنه غسل حقيقي. والذي ذهب إليه الشافعي: أن غسل الجمعة سنة مؤكدة وليس بواجب، وبه قال جمهور العلماء إلا ما حكي عن الحسن البصري: أنه واجب. وحكي أيضًا عن داود وأهل الظاهر أخذا بهذا الحديث. ومن لم يقل صرف معنى الوجوب إلى الثبوت بدليل حديث سمرة بن جندب أنه قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" (¬1). بدليل إجماع الصحابة والعلماء على أنه إذا صلى يوم الجمعة ولم يغتسل أجزأه. قال الشافعي: احتمل قوله "واجب" أنه واجب لا يجزئ غيره، وواجب ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 15، 16، 22)، وأبو داود (354)، والترمذي (497)، والنسائي (3/ 94)، وابن ماجه (1091) كلهم من طريق الحسن عن سمرة به. قال الترمذي: حديث حسن. قلت: واختلاف أهل العلم في قبول هذا الحديث ورده مبني على إثبات سماع الحسن من سمرة فمن صحح السماع صحح الحديث، ومن نفاه ردَّه، وذهب بعضهم إلى أن روايته عنه كتاب. قال الحافظ في التلخيص (2/ 67): قال في الإمام: من يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث. قلت: وهو مذهب علي بن المديني كما نقله عنه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم، وقيل: لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وهو قول البزار وغيره، وقيل: لم يسمع منه شيئاً أصلاً وإنما يحدث من كتاب. اهـ. وانظر مذاهب العلماء بتوسع في هذا الموضوع من "نصب الراية" (1/ 88 - 91). والحديث حسنه الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في صحيح الجامع (6180).

على الاختيار وفي النظافة، ونفي تغير الريح عند اجتماع الناس، كما يقول الرجل للرجل: وجب حقك عليَّ إذ رأيتني موضعًا لحاجتك وما أشبه هذا، فكان هذا أولى معنييه به لموافقة ظاهر القرآن في عموم الوضوء من الأحداث وخصوص الغسل من الجنابة، والدلالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غسل الجمعة أيضًا. ثم ذكر حديث عمر وعثمان لما جاء عثمان يخطب ولم يكن اغتسل. وسيجيء الحديث في هذا الفرع -إن شاء الله تعالى-. فأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا أبا داود. فأما مالك (¬1): فأخرجه عن نافع، عن ابن عمر وقال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل". وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح وقتيبة، عن الليث، عن نافع. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن أحمد بن معين، عن سفيان. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. وفي الباب عن جابر، والبراء بن عازب، وأبي الدرداء، وعائشة. وفي رواية الشافعي: "من جاء منكم" وفي رواية مالك "إذا جاء أحدكم". ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 106 رقم 5). (¬2) البخاري (877). (¬3) مسلم (844). (¬4) الترمذي (492) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (3/ 94).

ورواية الشافعي: أبلغ لأن قوله "من جاء منكم فليغتسل" شرط وجزاء فهو يتناول كل جاءٍ. وأما "إذا جاء" وإن أعطى معنى الشرط فليس بشرط حقيقي. وقوله: "فليغتسل" أمر وهو مجزوم لأنه جواب الشرط؛ وهو أبلغ في الدلالة على ثبوت الغسل وتقريره والحث عنه. وقد أخرج الشافعي هذه الرواية عن مالك في القديم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عمرة، عن عائشة قالت: "كان الناس عُمّال أنفسهم فكانوا يروحون بهيآتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبدان، عن عبد الله [عن] (¬2) يحيى بن سعيد أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة؟ فقالت: قالت عائشة: "كان الناس مهنة أنفسهم وكان إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن محمد بن رمح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد بالإسناد قالت: "كان الناس أهل عمل لم يكن لهم كفاة فكانوا يكون لهم التفل فقيل لهم: لو اغتسلتم يوم الجمعة". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن مسدد، عن حماد بن زيد (¬5) عن يحيى بن سعيد بالإسناد قالت: "كان الناس مُهَّان أنفسهم" ... الحديث. ¬

_ (¬1) البخاري (903). (¬2) بالأصل [بن] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب. (¬3) مسلم (847). (¬4) أبو داود (352). (¬5) زاد في الأصل: [عن زيد] بعد ذكر حماد، وهي زيادة مقحمة.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن محمود بن خالد، عن الوليد، عن عبد الله ابن العلاء، عن القاسم بن محمد "أنهم ذكروا غسل يوم الجمعة عند عائشة فقالت: إنما كان الناس يسكنون العالية فيحضرون الجمعة وبهم وسخ، فإذا أصابهم الروح سطعت أرواحهم فيتأذى به الناس، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أولاً يغتسلون". وقد أخرج البخاري (¬2) ومسلم (¬3) نحو هذه الرواية أيضاً. قوله: "عمال أنفسهم" تريد أنه لم يكن لهم غلمان يكفونهم للعمل فكانوا يباشرون أعمالهم بأنفسهم. وقوله: "كانوا يروحون بهيآتهم" تريد يمضون إلى الجمعة بهيئتهم التي عليهم في العمل. "والهيئة": الحال التي يكون الإنسان عليها. وقوله: "لو اغتسلتم" من ألطف الخطاب وأجمله وذلك أنه أورده في معرض التعريض لا الأمر والحكم، وذلك أدعى إلى ميل النفوس وأسرعهم إلى قبوله. "والمهنة": جمع ماهن وهو الخادم فمثل: كاتب وكتبة والمُهَّان كذلك مثل: كاتب وكُتَّاب. "التفل": الرائحة الكريهة وهو في الأصل الذي لم يتطيب. "والعالية": واحده العوالي وهي أماكن قريبة من المدينة. "والرَّوح": (بفتح الراء) نسيم الريح. "وسطعت الريح": إذا هبت هبوبًا تعريًا. "والأرواح": جمع ريح، وقد يقال فيه: أرياح على غير قياس وقوله في رواية النسائي "إنما كان الناس يسكنون العالية يدل على أنهم لما ذكروا عندها ¬

_ (¬1) النسائي (3/ 93 - 94). (¬2) البخاري (902). (¬3) مسلم (847/ 6).

غسل الجمعة يكونون قد قالوا إنه واجب، فقالت هي: إنما كانوا يسكنون العالية فذكرت علة الغسل والسبب الذي من أجله ذكر الغسل وندب إليه. وقوله في هذه الرواية "أولاً تغتسلون" أورده بلفظ الاستفهام الذي يتضمن التوبيخ والتقرير ليكون أحسن عندهم في مواقع الخطاب. وهذه الأحاديث الثلاثة جاءت في المسند متتابعة في كتاب "اختلاف الأحاديث" لأن الأول والثاني يدلان على وجوب الغسل بلفظ العموم، والثالث من ذلك المطلق وخصص ذلك العام بذكر سبب الغسل. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم قال: "دخل رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسجد يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب فقال عمر: آية ساعة هذه؟. فقال: يا أمير المؤمنين، انقلبت من السوق فسمعت النداء فمازدت على أن توضأت" فقال عمر: الوضوء أيضًا وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل؟! ". وفي نسخة: "يأمرنا". هكذا أخرجه الشافعي مرسلًا في كتاب "الطهارة" (¬1) وفي كتاب "الرسالة" (¬2) وأخرجه أيضًا في كتاب "الرسالة" (¬3) مسندًا قال: أخبرنا الثقة، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه مثل حديث مالك وسمى الداخل يوم الجمعة بغير غسل: عثمان بن عفان. وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا النسائي. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 38). (¬2) الرسالة (842). (¬3) الرسالة (843).

فأما مالك (¬1): فأخرجه في الموطأ هكذا مرسلاً. وأخرجه في غير الموطأ مسندا عن سالم، عن أبيه (¬2). وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: " أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -" وذكر الحديث وقال فيه: والوضوء أيضاً -بواو-. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه وذكر الحديث. وفي أخرى عن إسحاق بن إبراهيم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: "بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس يوم الجمعة، إذ دخل عثمان بن عفان فعرَّض به عمر فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت وأقبلت. فقال عمر: والوضوء أيضًا ألم تسمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل". وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن أبي توبة: الربيع بن نافع، عن معاوية، عن يحيى، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة وذكر الحديث. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 105 رقم 3). (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 68): هكذا رواه أكثر رواة الموطأ عن مالك مرسلاً، عن ابن شهاب، عن سالم، لم يقولوا: عن أبيه، ووصله عن مالك: روح بن عبادة وجويرية بن أسماء، وإبراهيم بن طهمان، وعثمان بن الحكم الجذامي ... وذكر جماعة. (¬3) البخاري (878). (¬4) مسلم (845). (¬5) أبوة داود (340).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن محمد بن أبان، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: حدثني آل عبد الله بن عمر، عن [عبد الله] (¬2) بن عمر (¬3) وذكره. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. "أية": تأنيث أي، وهي اسم يُستفهم به تقول: أي شخص هو هذا، وأية امرأة هي هذه. "والساعة": اسم جزء من الزمان مخصوص، وترد على أنحاء، أحدها: أنها تطلق على من أربعة وعشرين جزءًا من مجموع اليوم والليلة، فإذا قيل: قد مضى ساعة الزمان، فإنما يعنون انقضاء هذا الجزء المذكور، وتارة تطلق مجازًا على جزء ما غير مقدم من الزمان ولا يتحقق، وتارة تطلق على الوقت الحاضر. ولأرباب النجوم والهندسة وضع آخر خاص، وذلك أنهم يقتسمون كل نهار وكل ليلة باثني عشر قسماً، سواء كان النهار طويلًا أو قصيرًا وكذلك الليل، ويسمون كل قسم من هذه الأقسام ساعة، وعلى هذا التقدير تكون الساعة تارة طويلة وتارة قصيرة، على قدر قصر النهار وطوله، ويسمون هذه الساعات: الساعة المعوجة، وتلك الأولى: الساعات المستقيمة. "والانفلات": الرجوع من حيث جاء وهو انفعال من: قلبت الشيء أقلبه إذا ثنيته أو رددته. "والنداء": أراد به أذان يوم الجمعة، ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى: "أن سمعت التأذين". وقوله: "فما زدت على أن توضأت" يعني أني لم أعمل عملًا بعد أن ¬

_ (¬1) الترمذي (494). (¬2) بالأصل [على] وهو تصحيف. (¬3) إسناده عند الترمذي كما في النسخة المطبوعة: [عن الزهري، عن سالم، عن أبيه].

سمعت النداء إلا الوضوء؛ لأن الوقت قد ضاق أن أشغله بعمل آخر. "فقال عمر: الوضوء أيضًا" وقد روي بالواو فإثبات الواو يفيد العطف على الإنكار الأول، لأنه أراد بقوله: "أية ساعة هذه" التعريض بالإنكار عليه والتوبيخ على تأخر المجيء إلى الصلاة، وترك السبق إليها في أول وقتها. وهذا من أحسن التعريضات وأرشق الكنايات، ثم إنه لما علم عثمان مراد عمر من سؤاله عن الساعة، اعتذر بأنه لما سمع النداء لم يشتغل بغير الوضوء، فقال له: ألم يكفك أنك أخرت الوقت وفوت تمسك فضلية السبق، حتى أتبعت التقصير الأول بتقصير ثان، وهو ترك الغسل والقنوع بالوضوء فتكون هذه الجملة المبسوطة مدلولًا عليها بتلك اللفظة المقبوضة، وهي معطوفة على الجملة الأولى. وأما مع حذف الواو فتكون إن صحت به الرواية، إما لأنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: الوضوء عذرك أو كفايتك في هذا المقام، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف عذرك وكفايتك الوضوء، ويجوز أن يكون الوضوء منصوبًا بإضمار فعل تقديره: الوضوء وحده، أو توضأت , ويعضده قوله: "وقد علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بالغسل" وتكون هذه الجملة حالاً منه والعامل فيها الفعل المقدر، ويكون العامل في الحال مع الرفع ما دل عليه مجموع الجملة المقدرة. وقوله: "أيضًا" منصوب لأنه مصدر آض يئيض أي عاد ورجع، قاله ابن السكيت، تقول: فعلت ذلك أيضًا إذا كنت قد فعلته بعد شيء آخر، كأنك أفدت بذكرها الجمع بين الأمرين أو الأمور. وفي بعض الروايات "كان يأمر" وفي أخرى "كان يأمرنا". وقد أشرنا فيما سبق من الكتاب أن قول الراوى: كنا نفعل، وكنا نؤمر، وكان يأمرنا ونحو ذلك هو من ألفاظ رواية الحديث وبينا ذلك بياناً شافيًا فلا حاجة إلى إعادته، إلا أن بين يأمر ويأمرنا فرقًا دقيقًا وذلك أن في قوله:

"يأمرنا" زيادة حجة لعمر تؤيد ما أنكره على عثمان؛ لأنه إذا أخبر عن نفسه أنه كان يأمره مع غيره كان آكد من قوله: "يأمر" لجواز أنه يكون قد أمر غيره بحكم يختص بالمأمور لم يقف عليه عمر، أو لأنه لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعه من غيره، ولأن قوله: "يأمرنا" يقتضي ظاهره وصريحه أن الأمر لجميع الصحابة وأن الحكم عام لجميع الأمة، وليس كذلك قوله: "يأمر" لأنه لم يدل صريح اللفظ على العموم، فأما مع قوله "يأمرنا" فإن هذه الاحتمالات لا تتجه. "والمهاجرون الأولون": هم الذين سبقوا الناس بالهجرة والفرار بدينهم من أذى المشركين، ومن أجلهم بدرا هذا الداخل يومئذ إلى المسجد وهو عثمان بن عفانة، لأنه هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة وفي رواية أبي هريرة "ما بال رجال يتأخرون بعد النداء". وهذا تعريض أيضًا إلا أنه أفصح من الأول وأوضح ظهورًا، والأول ألطف وآدب، وذلك أن الأول لم يتعرض فيه لذكر الذنب الموجب للتوبيخ، وهاهنا صرح به وهو التأخر عن الصلاة بعد النداء، لكنه لما صرح فيه عرض بالمخاطب ولم يصرح باسمه، وذلك من أحسن ألفاظ الخطاب وأشرف العبارة التي ندب الشرع إليها ونبهت السنة عليها في غير موضع. "وهو" في قوله: "ما هو إلا أن سمعت النداء" ضمير الشأن والقصة، التقدير: ما الأمر والحال إلا أن سمعت النداء وتوضأت، ففي هذه الرواية زيادة بيان وحصر لإقامة العذر لأنه بقي ثم استثنى، فانحصر القول بذلك في بقي جميع الأشغال والأعمال وقصرها على الوضوء خاصة، ولذلك عطف الفعل بالفاء أي: لم يتخلل بين سماع النداء والوضوء زمان. وقوله: ألم تسمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل".

هو ألد وأدل على الحكم المطلوب والإنكار من وجوه: -أحدهما: ذكر الحديث بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو أبلغ طرق روايات الحديث. والثاني: أنه جعل الحديث مسموعًا للمخاطبين من الصحابة الذين استشهد بهم. والثالث: أنه ذكره بهمزة الاستفهام التي معناها التقرير والتثبت، كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬1). وأمثاله في القرآن العزيز كثير. والرابع: أنه جاء بلفظ الحديث بصيغة الأمر وهي قوله "فليغتسل". والخامس: أنه أورد لفظ الأمر بفاء التعطيف فقال: "إذا جاء أحدكم فليغتسل" وكل هذه المعاني مما يوضح البيان ويحقق العرفان. وقد ذكرنا المذهب في حكم وجوب الغسل واستنانه ونزيده هاهنا بيانا: وإنما يستحب الغسل لمن أراد صلاة الجمعة، فأما من لم يردها أو لم تجب عليه فلا. وقال أبو ثور: يستحب له، والمرأة إن حضرت استحب لها الغسل. وقال أحمد: لا يستحب لها. ووقت الغسل: بعد طلوع الفجر من يوم الجمعة، وكلما قرب إلى وقت الصلاة كان أفضل. وفي الحديث دليل: على أن غسل الجمعة غير واجب لأن مثل عثمان وقدمه في الإسلام وعلمه ودينه ما كان يترك واجبًا عليه، ولأنه لو كان واجبًا لأمره عمر بالرجوع والاغتسال وفي سكوته عن ذلك والصحابة متكاثرون دليل على أنه غير واجب. ¬

_ (¬1) فصلت: [53].

قال الشافعي: فلما علمنا أن عمر وعثمان علما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغسل يوم الجمعة، ولم يغتسل عثمان ولم يخرج ليغتسل (¬1) ولم يأمره عمر بذلك ولا أحد ممن حضرها من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دل هذا على أن عمر وعثمان قد علما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغسل على الأحب لا على الإيجاب. وكذلك -والله أعلم- من سمع مخاطبة عمر وعثمان مثل عَلِمَ عِلْم عمر وعثمان -والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن السباق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع: "يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك". هكذا أخرجه البيهقي (¬2) ولا يصح وصله، والذي صح عن أبي هريرة هو غير هذا الحديث، ونحويين هذا رواه سعيد المقبري، عن أبيه، عن ابن وديعة، عن سلمان الفارسي. "والعيد": معروف وأصله الواو للزومها في التصرفة، لأنه في التصرف من عاد يعود وجمعه أعياد، وإنما جمعوه بالياء وأصله الواو لثبوتها في الواحد. وقيل: الفرق بينه وبين أعواد جمع عود. وقوله: "فلا يضره" نفي يتضمن إباحة وندبًا وتقريعًا، ومثله: أتك إذا كنت تتوقع من إنسان إحسانًا وهو متوقف في إيصاله إليك فإنك تقول له: لا يضرك أن تحسن إلي فهذا فيه نفي للضرر عنه مع مباشرته الإحسان، وندب إلى كرم الأخلاق بإسداء المعروف، وتقريع له على تركه ما لا يضره مع ما فيه من الخلق الجميل والصنيع الحسن. وقوله: "وعليكم بالسواك" تحريض عليه وندب إليه وفيه لغتان تقول: ¬

_ (¬1) بالأصل [فليغتسل] والسياق بحذف الفاء مستقيم. (¬2) المعرفة (4/ 413 رقم 6650). وقال: هذا مرسل ...

عليك زيدًا وعليد يزيد، فالنصب لأنه ضمن على معنى خذ وما يجري مجراه، والجر لظهور حرف الجر مع اتحاد المعنى. وقد اشتمل هذا الحديث من سنن الجمعة على ثلاث: وهي الغسل والطيب والسواك. ومن الجمعة لبس أحسن ثيابه وحلق الشعر وتقليم الأظفار وقطع الروائح الكريهة عن بدنه، والمشي إلى الصلاة راجلًا والثاني: في المشي والتبكير. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حُلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة والوفود إذا قدموا عليك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة". ثم جاء رسول الله، منها حلل فأعطى عمر منها حلة فقال عمر: يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم أكسكها لتلبسها" فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن قتيبة. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 699 رقم 18). (¬2) البخاري (886). (¬3) مسلم (2068). (¬4) أبو داود (1076). (¬5) النسائي (3/ 96).

كلهم عن مالك بالإسناد وكلهم قال: والوفد. والشافعي قال: والوفود (¬1). "الحلة" من الثياب: واحد الحلل وهي برود اليمن، والحلة إزار ورداء من جنس واحد ولا تسمى حلة حتى تكون ثوبين. والسيراء (بكسر السين وفتح الياء والمد): البرد إذا كان فيه خطوط صفر. وقال الأزهري: السيراء: برد يخالطها إبريسم. "والوفود": جمع وفد والوفد جمع وافد: وهو الذي يقدم على الإنسان رسولاً أو زائرًا أو منتجعًا أو مسترفدًا، تقول: وفد فلان على الأمير إذا ورد عليه رسولاً، وأوفدته إلى الأمير أرسلته. "الخلاق": النصيب. "وعطارد" المذكور في الحديث هو رجل من الصحابة واسمه عطارد بن جاجب بن زرارة التميمي، وذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجوده من قومه فأسلموا وكان حلة سيراء (¬2) فأراد بيعها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال له عمر: لو ابتعتها فلبستها. فقال له: "إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة". وإنما عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواب عمر إلى هذا القول: تنبيها على السبب المانع من لبسها وهو انتفاء نصيب لابسها من الآخرة، فذكر الجواب مفصحًا فيه بذكر السبب وهو جواب عن سؤال مقدر، كأنه قال لعمر أولاً: لا أشتريها وكأن عمر قد قال له بعد ذلك: لأي سبب يُمتنع من شرائها؟ فقال له: لأن لابسها لا خلاق له في الآخرة. فذكر ما استغني به عن الجواب الأول وعن السؤال الثاني مع ما فيه من ذكر السبب المانع. ¬

_ (¬1) وفي رواية عند مسلم (ولوفود العرب). (¬2) كذا العبارة بالأصل وهي غير متجانسة.

وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: "لم [أكسكها] (¬1) لتلبسها" يوهم ظاهره تناقضًا لأن الكسوة هي اللباس، فكأنه قال: لم أكسها لتكسيني بها أو لم ألبسكها لتلبسها, وليس الأمر كذلك فإنه إذا قال: كسوتك ثوبًا إنما يريد به أنه جعله له كسوة، وقد يكون للإنسان ملابس -ثياب- معدة للبسه وقد لا يلبس بعضها ويطلق عليها اسم الكسوة، ولذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: أي لم أجعلها لك كسوة لتلبسها، إنما أردت بها إيثارك وتخصيصك وتمليكك لها. والذي ذهب إليه الشافعي: وأحب ما يلبس إلى البياض فإن جاوزه فعصب اليمن والقطري. "وعصب" اليمن: هو البرود المخططة يصبغ غزلها وينسج باليمن والعصب الفعل نفسه. "والعصاب": الغزال الذي يبيع الغزل. "والقطري": منسوب إلى موضع بين عمان وسيف البحر يقال له: قطر تغير في النسبة فكسرت قافه فسكنت طاؤه، ويجلب منه ثياب حمر لها أعلام فيها بعض الخشونة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن علية، عن شعبة عن عمرو بن مرة، عن زاذان قال: سأل رجل عليًّا عن الغسل؟ قال: اغتسل كل يوم إن شئت. فقال: الغسل الذي هو الغسل. فقال: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر. هذا حديث حسن إلى (¬2) سأله عن الغسل مطلقًا أجابه مطلقًا فقال: "اغتسل كل يوم إن شئت" ولم يكن أراد الغسل المطلق، إنما أراد الغسل المسنون فلذلك قال له: "الغسل الذي هو الغسل" أي الغسل المعروف المندوب إليه الشرعي الذي ¬

_ (¬1) بالأصل [أكسها] والمثبت هو لفظ الرواية وعليه المعول في الشرح. (¬2) كذلك بالأصل ولعلها (لما).

ينبغي أن يسأل عنه، فأجابه حينئذٍ بقوله: يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم الفطر. وهذه أغسال مسنونة ولكل واحد منها موضع يرد فيه. ويوم الجمعة: منصوبة على الظرف وكذلك ما بعده. والتقدير: الغسل الذي يسأل عنه هو يوم الجمعة ويوم كذا، ويوم كذا أي يوم الجمعة. ***

الفرع الرابع في * التبكير إلى الجمعة والمشي إليها *

الفرع الرابع في التبكير إلى الجمعة والمشي إليها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سعيد ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم الأول فالأول؛ فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الذكر؛ والمهجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة، ثم يليه كالمهدي بقرة؛ ثم الذي يليه كالمهدي كبشًا، حتى ذكر الدجاجة والبيضة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن سمي، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". هكذا أخرج الشافعي هاتين الروايتين في كتاب "الجمعة" (¬1)، وقد أخرج بعض الرواية الأولى في كتاب "الأمالي" إلى قوله: على أبواب المسجد ثم قال وذكر الحديث. فقال الشافعي -في رواية حرملة والمزني-: قد خالف سفيان في هذا الحديث ابن أبي ذئب، وإبراهيم بن سعد قالا: أخبرنا الزهري، عن أبي عبد الله ¬

_ (¬1) الأم (1/ 195 - 196).

الأغر، عن أبي هريرة. قال المزني: حدثني الشافعي، عن محمد بن إسماعيل، عن [ابن] (¬1) أبي ذئب فذكره. قال الشافعي: واثنان أولى بالحفظ من واحد إلا أن يكون ابن شهاب قد رواه عنهما جميعًا -يعني سعيد بن المسيب والأغر (¬2) -. والحديث في نفسه صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬3): فأخرج الرواية الثانية إسنادًا ولفظًا وزاد: ثم راح في الساعة الأولى. وأما البخاري (¬4): فأخرج الرواية الأولى عن آدم [عن] (¬5) ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن الأغر، عن أبي هريرة. وأخرج الرواية الثانية: عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬6) فأخرج الراوية الأولى: عن يحيى بن يحيى وعمرو الناقد، عن سفيان. وعن أبي الطاهر وحرملة وعمرو بن سواد العامري، عن ابن وهب، عن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. (¬2) وهذا الاحتمال هو الأقوى، والزهري هو الزهري الحافظ، فله أن يحدث بالحديث على أكثر من وجه وعن أكثر من شيخ؛ لذا قال البيهقي في المعرفة (4/ 394 - 395) -بعد ذكر كلام الشافعي-: وكان البخاري -رحمه الله- ذهب إلى الترجيح بكثرة الرواة فأخرج حديث إبراهيم ابن سعيد، عن الزهري، عن أبي سلمة والأغر، عن أبي هريرة، وحديث ابن أبي ذئب، عن الزهري عن الأغر، عن أبي هريرة، ولم يخرج حديث سفيان بن عيينة، وذهب مسلم بن الحجاج إلى الاحتمال أن يكون الزهري رواه عن سعيد كما رواه عن الأغر، ثم ساق بإسناده إلى علي بن المديني قوله: حديث أبي هريرة (مثل المهجر إلى الجمعة ...) قال: رواه معمر وأصحاب الزهري عن الأغر، عن أبي هريرة إلا أن ابن عيينة سواه عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة، وجميعا صحيح. (¬3) الموطأ (1/ 105 رقم 1). (¬4) البخاري (929، 881). (¬5) ما بين المعقوفين سقط من الأصل، والصواب إثباته. (¬6) مسلم (2/ 582، 587 رقم 850).

يونس، عن الزهري، عن الأغر. وأخرج الرواية الثانية: عن قتيبة، عن مالك. وأما أبو داود (¬1): فأخرج الرواية الثانية عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬2): فأخرج الرواية الثانية عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك. وأما النسائي (¬3): فأخرج الرواية الأولى عن نصر بن علي بن نصر، عن عبد (¬4) الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن الأغر. وزاد فيها قبل الدجاجة "كالمهدي بطة". وعن محمد بن منصور، عن سفيان بإسناد الشافعي. وأخرج الرواية الثانية: عن قتيبة، عن مالك. كان: في هذا الحديث هي التامة التي لا تحتاج إلى خبر وهي بمعنى في وجد وجدت. وفي تنكير "الملائكة" إيهام وتكثير لها شبه المصلين. وقوله: "يكتبون الأول فالأول" أي يكتبون اسم المتقدم في المجيء إلى الصلاة واحداً بعد واحد. ويريد "بمنازلهم": مراتبهم في الفضيلة ولهذا قال: الأول فالأول أي السابق إلى المسجد والسابق. أو يريد بها منازلهم في المجيء لأن منزلة كل واحد منهم قبل الآخر. ¬

_ (¬1) أبو داود (351). (¬2) الترمذي (499). وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (3/ 97 - 99). (¬4) زاد في الأصل لفظ الجلالة (الله) بعد [عبد] وأظنها سبق قلم، والمثبت هو الصواب وهو الثابت عند النسائي.

"والصحف": جمع صحيفة وهي الورقة التي يكتب فيها، يريد ما يكتب فيه الملائكة الحفظة من أعمال العباد وأقوالهم. "والهجر": اسم فاعل من هجر يهجر إذا بكر وإذا بكر وإذا أتى الأمر من أوله، تقول: هجرت إلى زيارة الأمير إذا بكرت إليه وتقدمت في وقت زيارته، وليس من الهاجرة شدة الحر إنما هو السبق والتقدم والمراد به: المضي إلى الصلاة في أول وقتها أو أول النهار على ما سيأتى بيانه. ولو ذهب ذاهب إلى أن يكون من الهاجرة لساغ له، إلا أن الأول هو الغرض لأنه عقبه بقوله: "كالذى يهدي بدنة" وما ذاك إلا لإحراز فضيلة السبق والتقدم في الوقت. "والمهدي": اسم فاعل من أهده يهدي فهو مُهْدٍ، فيجوز: أن يكون أراد به من المهدي الذي يهدي إلى البيت الحرام، فيجوز ثواب المهدي إليه على قدر هديه. ويجوز: أن يكون أراد به من الهدية المتداولة بين الناس، فيجوز به ثواب فاعلها على قدر هديته. والأول أكثر وهو الوجه. في الهدى لغتان: إحداهما: تخفيف الياء وسكون الدال. والثاني: كسر الدال وتشديد الياء. والجمع الهدايا والواحدة هدية وهدية. "والبدنة": اسم يقع على ما يهدى إلى البيت الحرام من الإبل والبقر، وقيل: من الإبل خاصة. وقيل: اختصاصها بالإبل إنما هو اختصاص عرفي وأيضًا شرعي، فمتى أطلقت البدنة فلا يفهم منها إلا البدنة، وإن دلت في أصل الوضع على البقر. وأما الهدي في حكم الشرع: فلا يكون إلا بعيرًا أو بقرة وأما الشاء ففيه خلاف.

وأما جعله الدجاجة والبيضة من الهدي وليسا بهدي إجماعًا فإنما حمله على ما قبله تشبيهًا به، فأعطاه مجازًا وتنزيلًا في القلة إلا (¬1) أدنى الأشياء، ولأنه ابتدأ بالبدنة وأراد بها البعير، ثم البقرة وهي دونها، ثم الكبش وهو دون البقرة وهذا منتهى ما يجوز أن يهدى، ثم أتبعه الدجاجة والبيضة وذلك مما يقوي قول من جوز: أنه أراد الهدية المتداولة بين الناس لا الهدي إلى البيت الحرام. "والرواح": لا يكون إلا بعد الزوال كما أن الغدو لا يكون إلا قبله. ولذلك ذهب مالك بن أنس: إلى أن الساعات التي ذكرت في الحديث إنما هي أجزاء من الزمان قليلة، أولها بعد الزوال وإلى وقت جلوس الإِمام على المنبر وليست الساعات الحقيقية. إلى كل ساعة منها جزء من أربعة وعشرين جزءًا من يوم وليلة. فعند مالك أن الفضيلة المرتبة هي بعد الزوال، كما تقول: فعدت عندك ساعة أي جزءًا من الزمان وإن لم تكن ساعة حقيقية؛ وإنما جاز ذلك لأن الأجزاء متصلة متقاربة؛ فجاز إطلاق البعض القليل على ما هو أقل منه. وقيل: إنما أراد بالرواح الذهاب إلى الصلاة من طلوع الشمس فما بعدها إلى وقت الزوال، فإن الصلاة وإن كانت لا تصلى إلا بعد الزوال فإنه قد جعل القصد إليها رواحًا، كما يقال لمن يقصد بيت الله الحرام: حجاج، وللخارجين إلى الغزوة: غزاة، قبل أن يحجوا ويغزوا. وزعم بعضهم: أن الرائح هو الخارج من أهله، فكل من خرج من أهله في وقت من الأوقات فقد راح، ولذلك يقولون إذا أراد الرحيل إلى وقت كان من ليل أو نهار: الرواح. والأصل في الرواح الأول وإن جاء هذا فعلى المجاز. ¬

_ (¬1) كذا ولعلها: إلى.

"والتقرب": التوصل إلى إحراز القرب من الشيء، والمعنى: فعل فعلًا يدنيه منه ويقربه إليه، ومنه القربان: وهو كل ما يتقرب به إلى الله تعالى. "والأقرن": الذي له قرنان. وفضيلته: أنه إذا كان قرون (¬1) دفع عن نفسه ما يناله من أذى غيره من الكباش ونجا [منه] (¬2) فيتمكن من المرعى والورد فلا يضعف حيث لم يستضعف. وكلهم رووا "ثم راح" ولم يذكروا الساعة الأولى إلا مالكا فإنه قال: "في الساعة الأولى" فأبان عنها مصرحًا بها، فإن كانت مفهومة في تلك الروايات من قولهم: "ومن راح في الساعة الثانية" والثانية لا تكون إلا بعد الأولى. وزاد النسائي: "بطة" وحكمها حكم الدجاجة وقد تفرد بها دونهم. وقولها "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة" تحديد مثل غسل الجنابة أي: إيصال الماء إلى جميع شعره وبشره وقيل: المعنى أنه جامع واغتسل ليمكن نفسه في رواحه إلى الصلاة، ولئلا تمتد عينه إلى شيء مما عساه أن يشاء هذه في طريقه. فيكون قد نصب "غسل الجنابة" في الأول: على أنه صفة مصدر محذوف. وفي الثاني: على أنه مصدر ظاهر إلا أنه على غير لفظ فعله لأن مصدر "اغتسل" الاغتسال لا الغسل. والذي ذهب إليه الشافعي: أن التبكير إلى الجمعة مستحب. وبه قال أحمد والأوزاعي. وقد اختلف قول أصحاب الشافعي في وقت التبكير والتهجير. ¬

_ (¬1) كذا ولعله سقط: (له) قبلها. (¬2) بالأصل [مره] وأظنه تصحيفًا والمثبت هو الموافق للسياق.

فقال قوم منهم: هو من وقت طلوع الشمس. وقال آخرون منهم: من وقت طلوع الفجر. وقيل: بل المراد بالتبكير المضي في أول جزء من الساعة التي تجب فيها صلاة الجمعة وهو بعد الزوال. وقد تقدم ذكر ذلك -والله أعلم-. وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب عن [سالم] (¬1) بن عبد الله، عن أبيه قال: [ما] (¬2) سمعت عمر يقرؤها قط إلا "فامضوا إلى ذكر الله". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬3) قال: سألت ابن شهاب عن قول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قال مالك: وإِنما السعي في كتاب الله العمل والفعل، يقول الله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} (¬4) وقال: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} (¬5) وقال: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} (¬6)، وقال: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (¬7): قال مالك: وليس السعي الذي ذكر الله في كتابه السعي على الأقدام ولا الاشتداد؛ وإنما عني العمل والفعل. وبهذا القول قال الشافعي: أنه لم يرد بالسعي الإسراع في المشي وإنما أراد به المضي والذهاب؛ وذكر الشافعي في هذه الآيات التي ذكرها مالك وزاد {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} (¬8)، {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (¬9)، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬10) وقال زهير: ¬

_ (¬1) بالأصل [سلام] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب. (¬2) ما بين المعقوفين سقط من الأصل والمثبت هو الصواب وكذا في مطبوعة المسند. (¬3) الموطأ (1/ 109 رقم 13). (¬4) البقرة: [205]. (¬5) عبس: [8، 9]. (¬6) النازعات: [22]. (¬7) الليل: [4]. (¬8) الإنسان: [22]. (¬9) الإسراء: [19]. (¬10) النجم: [39].

سعى بعدهم قوم لكي يدركونهم ... فلم يدركوهم ولم يلاموا ولم يألوا ولهذا المعنى أخرج هذا الحديث يريد به: أن قراءته إياها "فامضوا إلى ذكر الله" فيعدل عن المراد بالسعي القصد والمشي لا الإسراع. وبهذه القراءة قرأ ابن عباس وابن مسعود. ويروى عن عمر "أنه سمع رجلاً يقرأ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب: فقال: لا يزال يقرأ بالمنسوخ لو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي". "والسعي" في اللغة: يطلق على العدو والسرعة في المشي، وعلى الكسب والعمل، وكل من ولى شيئًا على قوم فهو ساع عليهم، وأكثر ما يطلق الساعي على ولاة الصدقة. وذكر الله في هذه الآية: الخطبة والصلاة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن جابر بن عتيك، عن جده جابر بن عتيك -صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا خرجت إلى الجمعة فامش على هينتك. وقد جاء في بعض الروايات: فامش على هيئتك. "الهينة": التأني التؤدة، الهيئة: الحالة. قال الشافعي: وإذا مشى الجمعة فلا يزيد على سجيته ومشيته، ولأن ذلك أكثر لخطاه التي يتضاعف بها أجره وأعون له على التوجه إليها. قال الربيع: قلت للشافعي: نحن نكره الإسراع إلى لمسجد إذا أقيمت الصلاة. قال: فإن كنتم إنما كرهتموه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة" (¬1) فقد أصبتم وهكذا ينبغي لكم في كل أمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (908)، ومسلم (602).

الفرع السادس في وقت الجمعة والأذان

الفرع السادس (*) في وقت الجمعة والأذان أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني خالد (¬1) بن رباح، عن المطلب بن حنطب "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الجمعة إذا فاء الفيء قدر ذراع". فاء الفيء: إذا رجع، يريد أنه رجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق وذلك الزوال؛ لأن الشمس تقصر الظل إلى وقت استواء الشمس في وسط السماء؛ وحينئذٍ لا يبقى للحائط ظل من كل الجانبين، وإذا زالت الشمس انقلب الظل إلى جهة الشرق ويسمى حينئذٍ فيئًا وكان انقلب الظل إلى جهة الشرق ويسمى حينئذٍ فيئًا وكان يسمى قبل ذلك ظلًّا. ومنه قول الشاعر: فلا الظل من برد الضحى نستظله ... ولا الفيء من برد العشي نذوق وإنما سمي فيئًا: لأنه فاء إلى جهة المشرق من جهة المغرب أي رجع. وقوله: قدر ذراع ونحوه يريد: أن الذراع الحاصل من الفيء كان بقدر ما انقضت الخطبة؛ لأن الخطبة بعد الأذان والأذان بعد الزوال. والذي ذهب إليه الشافعي: أن أول وقت الجمعة بعد الزوال. وقال أحمد: يجوز قبل الزوال. وآخر وقتها: فهو آخر وقت الظهر بالإجماع. ¬

_ (¬1) بالأصل [ابن خالد] وزيادة [ابن] خطأ، والصواب حذفها وانظر الأم (1/ 194). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفرع الخامس"، والله أعلم.

أما إذا خرج وقتها قبل أن يخرج من صلاة الجمعة أتمها ظهرًا. وقال أحمد: يتمها ظهرًا إذا دخل فيها، في وقتها. وقال أبو حنيفة: لا يبني عليها ويستأنف الظهر. وقال ابن القاسم -صاحب مالك-: إذا لم يصل بالناس حتى دخل وقت العصر يصلى بهم الجمعة ما لم تغب الشمس. وقال أحمد أيضًا: إذا تشهد قبل أن يسلم ودخل وقت العصر تجزئه صلاته. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن يوسف بن ماهك قال: "قدم معاذ بن جبل على أهل مكة وهم يصلون الجمعة والفيء في الحجر؛ فقال: لا تصلوا حتى تفيء الكعبة من وجهها". قال الشافعي: وجهها إلى باب، ويعني معاذ: حتى تزول الشمس، ولا اختلاف لقيته أن لا تصلى الجمعة حتى تزول الشمس. قال: ووقتها ما بين أن تزول الشمس إلى أن يكون الظل آخر وقت الظهر. الحجر للبيت: معروف وهو مما يلي الجهة الغربية والشمالية إذا كان الظل فيه كان قبل الزوال. فنهاهم عن الصلاة ذلك الوقت وأمرهم أن يصلوا بعد الزوال، وحينئذٍ يكون الفيء قد صار مقابل الحجر من الجهة الأخرى. وقوله: "حتى تفىء الكعبة" هو بضم التاء أي تُحْدِث الكعبة فيئًا؛ لأن فاء يفيء فعل قاصر، فلما أراد تعديته أدخل الهمزة فصار فاء يفيء. وقوله: "وجهها" أي من جهة مقدمها، ووجه كل شيء مقدمته ومقدم البيت جهة الباب وكذلك كل بيت، ولأن الركن الأسود هو إلى جهة الشرق ويقابله الركن الشامي إلى جهة الغرب، إلا أن هذين الركنين هما في أعلى مطالع الشرق ومغارب الغرب وليسا في وسطها؛ فإذا كان في أول النهار رمت الشمس ظلها في جهة الركن الشامي والحجر، ويمتد من الطرفين من الركن

العراقي إلى الركن الشامي وإلى الركن اليماني. وإذا زالت الشمس صار الفيء في جهة الركن الأسود ويمتد ما بين الركن العراقي أيضًا، وإلى الركن الأسود ثم إلى الركن اليماني أيضًا، ويقع على صفحة الباب وصفحة الركن اليماني مما يلي باب الصفا. ثم هذا مختلف اختلاف الأزمنة، فإن الشمس إذا كانت في البروج الجنوبية وهي: الميزان، والعقرب، والجدي، والدلو، والحوت وذلك من نصف أيلول وإلى نصف آذار؛ يكون مطلعها هناك مائلًا إلى الصفحة التي فيما بين الحجر الأسود والركن اليماني. وإذا كانت البروج الشمالية وهي: العمل والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة وذلك نصف آذار وإلى نصف أيلول يكون مطلعها مائلًا إلى صفحة الباب -والله أعلم-. وقد أخرج الشافعي: فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق قال: رأيت عليًّا يخطب يوم الجمعة نصف النهار. قال الشافعي: ولسنا نقول ولا إياهم بهذا، نقول: لا يخطب إلا بعد زوال الشمس، وكذلك روينا عن عمر وغيره. وأخرج الشافعي: فيما بلغه عن شعبة، عن عمرو، عن عبد الله بن سلمة قال: صلى عبد الله بأصحابه الجمعة ضحى وقال: خشيت الحر عليكم. قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا يقولون: لا يقول أحد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان والأئمة بعد في كل جمعة بعد زوال الشمس. قال البيهقي: عبد الله بن سلمة كان قد تغير في آخر عمره (¬1) ويشبه أن يكون غير محفوظ. ¬

_ (¬1) وقد تكلم فيه غير واحد من النقاد: قال البخاري: لا يتابع في حديثه، وقال أبو حاتم: تعرف وتنكر، وقال عمرو بن مرة: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، كان قد كبر. وانظر تهذيب الكمال (15/ 50 - 55).

وأما أبو إسحاق: فرأى عليًّا وهو صبي فيشبه أن يكون قد تعجل بها في أول وقتها فحسبه نصف النهار من تعجيلها. ويحتمل أن يكون خطب بهم (¬1) نصف النهار، ثم أتى منها ببقية الأجزاء بعد الزوال. وقد روى زهير، عن أبي إسحاق: أنه صلى خلف عليِّ الجمعة فصلاها بالهاجرة بعد ما زالت الشمس، وأنه رآه قائمًا أبيض اللحية أجلح (¬2). -والله أعلم-. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة -وهو سفيان- عن الزهري، عن السائب بن يزيد: أن الأذان كان أوله للجمعة حين يجلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، فلما كان خلافة عثمان كثر الناس أمر عثمان بأذان ثانٍ فأذن به فثبت الأمر على ذلك. وكان عطاء ينكر أن يكون أحدثه عثمان ويقول: أحدثه معاوية -والله أعلم-. أخبرنا الشافعي في القديم قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن [ابن] (¬3) أبى ذئب، عن الزهري فذكر بمعناه وقال في آخره: ثم أحدث عثمان الأذان الأول على الزوراء. قال الشافعي: وأيهما كان -يعني ما أحدثه عثمان أو معاوية- فالأمر الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما البخاري (¬4): فأخرجه عن آدم، عن [ابن] (¬5) أبي ذئب، عن الزهري، ¬

_ (¬1) زاد بالأصل حرف [في] قبل [بهم] ولا وجه له، وكذا جاء بحذفها في المعرفة (4/ 336). (¬2) الجلَح: هو انحسار الشعر عن جانبي الرأس. اللسان مادة جلح. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت هو الصواب وكذا نقله عنه في المعرفة (4/ 337). (¬4) البخاري (912، 913). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط الأصل والمستدرك من رواية البخاري وهو الصواب.

عن السائب وذكر الحديث وقال: وزاد النداء الثالث على الزوراء. وفي أخرى: عن أبي نعيم، عن عبد العزيز أبي سلمة الماجشون، عن الزهري، عن السائب: "أن الذي زاد النداء الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان، حين كثر أهل المدينة ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤذن غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام" يعني على المنبر. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن محمد بن سلمة المرادي، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري مثله. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن حماد بن خالد الخياط، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري. وفي أخرى (¬3) بإسناد أبى داود. الأذان للجمعة إنما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان؛ أذانًا واحداً حين يجلس الإمام على المنبر، وكانت فائدته إعلام من في المسجد بجلوس الإمام ليستمعوا الخطبة؛ فلما اتسع المسجد وكثر الناس وبعد أواخر المصلين عن الإمام؛ احتاجوا إلى أذان آخر يبلغ الناس ويعلمهم بدخول الوقت فأمر عثمان بأذان آخر يؤذن به عند الزوال بظاهر المسجد وعلى موضع مرتفع، وقد جاء أنه يؤذن به على الزوراء، وهو موضع معروف بالمدينة قريبًا من المسجد ثم كان يؤذن الأذان الأول بعد ذلك عند جلوس الإمام على المنبر. والذي في رواية البخاري: "فلما كثر الناس زاد النداء الثالث" يريد بالنداء الثالث: الأذان الذي هو اليوم الأول وهو الذي يؤذن به عقيب الزوال، فسماه ¬

_ (¬1) أبو داود (1087). (¬2) الترمذي (516) وقال: حسن صحيح. (¬3) الذي يظهر أنه قد وقع سقط في هذا الموضع، فلم تذكر رواية النسائي يإسنادها كما هي العادة، وقد أخرجه النسائي (3/ 100 - 101) بإسناد أبي داود، فالعطف هنا يعود على النسائي وليس الترمذي، وبهذا يستقيم الكلام.

ثالث: لأن المعروف كان أذانًا واحداً عند جلوس الإمام على المنبر وبعده عند الفراغ من الخطبة الإقامة فسماها أذانًا؛ لأنها أذان بالصلاة فهذان أذانان، فلما زاد عثمان أذانًا ثالثًا وهو في الموضع الآن أول. وفي رواية الشافعي: "فأمر بأذان ثان" لأنه لم يعد الإقامة أذانًا.

الفرع السابع في الخطبة وما يتعلق بها

الفرع السابع في الخطبة وما يتعلق بها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صُنِع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد، حتى نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتنقها فسكتت". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن يحيى بن سعيد قال: أخبرني ابن أنس أنه سمع جابر عبد الله قال "كان جذع يقوم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار، حتى نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليه". وقال سليمان، عن يحيى، أخبرني حفص بن عبد الله بن أنس سمع جابرًا. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن عمرو بن سواد بن الأسود، عن ابن وهب، عن ابن جريح إسنادًا ولفظًا. تقول: سندت إلى الشيء أسند سنودًا وأسندت واستسندت إذا ألصقت ظهرك والتجأت إليه واعتمدت عليه. "والجذع": ساق النخلة وجمعه جذوع. "والاضطراب": التحرك والانزعاج وهو افتعال من الضرب، الأصل فيه: اضتراب ثم قلبت التاء طاء لأجل الضاد. ¬

_ (¬1) البخاري (918). (¬2) النسائي (3/ 102).

"وحنين الناقة": هو صوتها في نزاعها إلى ولدها. "والعشار": جمع عشر وهي الناقة الحامل إذا أتى عليها عشرة أشهر من أول حملها، ثم لا يزال ذلك اسمها إلى أن تلد وبعد ما تلد. وغرض الشافعي من هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب على المنبر وأنه كان يخطب قبل ذلك مستندًا إلى جذع وأنه كان في الحالتين قائمًا. وفي الحديث معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وهي تحرك الجذع وحنينه وسكونه لما اعتنقه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جاء في طرق أخرى لهذا الحديث صحيحة: "أنه كان يحن إلى ما كان يسمع من الذكر عنده" (¬1). وقوله: "اضطربت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتنقها" فجاء بحتى مرتين بغير واو عطف وكان التقدير: حتى سمعها أهل المسجد وحتى نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ووجه [بيان] (¬2) حتى: يجوز أن تكون في الموضعين بمعنى إلى ويجوز: أن تكون الأولى عاطفة بمعنى الواو، والثانية بمعنى "إلى أن". فإن كانت الأولى عاطفة فلا كلام فيه والتقدير: اضطربت وسمعها أهل المسجد إلى أن نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتكون الثانية متعلقة باضطربت أي: اضطربت إلى أن نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتنقها. فأما إن كانت الأولى بمعنى "إلى أن" ففيه إشكال ويحتاج إلى أحد أمرين: 1 - إما أن يقدر لها فعل تعلقت به دل عليه ما في قوله "كحنين" من معنى الفعل الذي هو حنت، وتبقى الثانية متعلقة باضطربت فإن التقدير: اضطربت حانة حنينًا كحنين الناقة. 2 - وإما أن تجعل الثانية بدلاً من الأولى وتكون الثنتان متعلقتين بقوله: ¬

_ (¬1) وهي عند البخاري (3584) بلفظ: (كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها). (¬2) في الأصل: [دان] والمثبت هو الأقرب للسياق.

اضطربت، أو تكون الأولى متعلقة باضطربت والثانية متعلقة بسمعها. وفيه وجه آخر لطيف: وذلك أنه أراد عطف الثانية على الأولى فحذف العاطف؛ ليكون أدعى له إلى إصغاء الأسماع إليه وأبعث للقلوب على تفهم خطابه؛ فإن اللفظ إذا جاء فيه نوع غرابة غير مألوفة ولا معتادة أصغى السامع إلى تدبره والفكر فيه، فحذف العاطف وجاء بالمعاني مسرودة واحداً بعد واحد؛ مؤذنا أن كل واحد منها مستقل في الإخبار بنفسه قائم برأسه صالح لأن يفرد بالغرض ويأتي بالمقصود، ومثال ذلك من المحاورات الوارد به في معرض الإعجاب والإكثار، أن يكون لك مع غيرك موعد إلى أمد مخصوص بطلوع الشمس مثلا؛ فينتهى الأمد ولم يف به وتكون أنت على أتم ترفق وأشد توقع لوفائه في انتظاره، فتقول له: انتظرتك حتى طلعت الشمس، حتى علا النهار، حتى اشتد الحر، حتى صار العصر، حتى غابت الشمس، حتى انقضى النهار وما رأيتك. فانظر ما في تعداد هذه الأوقات غير معطوفة من المعنى الذي سجل عليه بالتقصير؛ وقضى عليه بالتكبير ما ليس فيها لو عطف بعضها على بعض؛ وذلك أنك بالعطف كانت تقصر جملة واحدة. وبيان ذلك: أن الواو تنوب مناب الفعل الأول فتوصله إلى كل معطوف عليه، وإذا لم يأت بالعاطف احتجت أن تقدر لكل جملة من هذه الجمل فعلا غير الأول، فيفيد هذا التقدير ما لم يفد الأول. وفيه وجه آخر: وهو أن يكون قوله: "حتى سمعها أهل المسجد" متعلقًا بما في قوله: "كحنين الناقة" وقد تقدم بيانه، وتكون حتى الثانية متعلقة باضطربت. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جذع إذا كان المسجد عريشاً، وكان يخطب إلى

ذلك الجذع فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، هل لك أن نجعل لك منبرًا تقوم عليه يوم الجمعة، ويسمع الناس يوم الجمعة خطبتك؟. قال: "نعم". فصنع له ثلاث درجات هن اللاتي على المنبر، فلما صنع المنبر وضع موضعه الذي وضعه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بدا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم على ذلك المنبر فيخطب عليه فمر إليه، فلما جاوز ذلك الجذع الذي كان يخطب إليه خار حتى تصدع وانشق؛ فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع صوت الجذع فمسحه ييده ثم رجع إلى المنبر؛ فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبيّ بن كعب، وكان عنده في بيته حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتًا". "العريش": ما يستظل به من أخشاب تنصب وسقف وكذلك العرش، وعرش البيت سقفه وهو فعيل بمعنى مفعول. "وبدا" لفلان أن يفعل كذا: أي: عنَّ له ونشأ له فيه رأى، وهو من البدو الظهور والمصدر منه بدا ممدود. "والخوار": الصوت، خار يخور خوارًا إذا صاح. "وتصدع الشيء": إذا تشقق صدعه فانصدع وصدعته فتصدّع شدد للتكثير. وإنما جمع بين التصدع والانشقاق وهما بمعنىً واحد: لأحد أمرين: إما للتأكد على عادة لغتهم لاسيما مع اختلاف اللفظ، فإن هذا النوع في كلامهم كثير. وإما إختلاف البنائين فإن التصدع للتكثير، والانشقاق لا يختص بالتكثير. ويمكن أن يقال: إن التصدع عبارة عن تشقق في الجسم متفرق في نواحيه. "والانشقاق": كأنه أبلغ في تفرق الأجزاء وأكثر فكًّا للجسم وتأثيرًا. "والأرضة": دويبة صغيرة من أجناس الدود تأكل الخشب وكأنها تتولد منه، يقال: أرضت الخشبة تؤرض أرضا فهي مأروضة.

"والرفات": العظام المتكسر البالي من الأجسام وكأنه بالنبات أشبه، ورفت الشيء: كسرته وحطمته بمعنًى. وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث "فلما وضع المنبر ووضع موضعه" فأدخل واو العطف على "وضع" وهو أولى، ليكون بدا غير متعلقة بشيء إلا أن يبدل الجملة الثانية من الأولى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس". هذا الحديث أخرجه مالك (¬1) مرسلًا: عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب خطبتين يوم الجمعة وجلس بينهما. ورواية الشافعي أولى لأنها مسندة (¬2)، ولأنها حكاية كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليها بقوله: "كان يخطب" وذلك إشارة إلى دوام فعله؛ بخلاف قوله: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب خطبتين يوم الجمعة" فإن ذلك يدل على حكاية حال واحدة فلم يختلف أحد من العلماء أن الخطبة في الجمعة واجبة لا بد منها، إلا ما حكي عن الحسن البصري أنه قال: لا تجب. ثم القيام شرط فيها مع القدرة عليه. وقال أبو حنيفة وأحمد: تجوز قاعدًا. والقدر الواجب من الخطبة الأولى: هو حمد الله والثناء عليه، والصلاة على ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 112 رقم 21). (¬2) هذا على تقدير ثبوتها لكن إسناد الشافعي واهٍ، وفيه: إبراهيم بن محمد؛ وهو متروك، وقد خالفه مالك المثبت، وقد جاء هذا الحديث موصولًا من غير هذا الوجه. قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (5/ 124 - 125) -عقب حديث مالك-: مرسل في روايته عند جميع رواته وقد أسندناه من طرق في "التمهيد" صحاح كلها منها حديث عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب خطبتين قائمًا يفصل بينهما بجلوس. وانظر التمهيد (2/ 165).

رسوله، والوصية بالتقوى، وقراءة آية. وفي الثانية: حمد الله، والصلاة على رسوله، والوصية بالتقوى والدعاء للمؤمنين والمؤمنات وهذا أقل ما يجزئ. وقد اختلف أصحاب الشافعي في القراءة هل هي واجبة في الخطبتين؟ أو في إحداهما لا بعينها، أو أنها غير واجبة فيهما وكذلك في الدعاء هل هو واجب أو مستحب؟. والجلوس بينهما واجب. وقال أبو حنيفة: إذا خطب بتسبيحة أجزأه. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه حتى يأتي بكلام يسمى خطبة في العادة. وعن مالك روايتان: إحداهما: أن من هلل أو سبح أعاد ما لم يصل. والثانية: لا يجزئه إلا ما تسميه العرب خطبة. ومذهب أحمد قريب من مذهب الشافعي. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله -يعني حديث جابر المذكور قبله. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن مسدد، عن بشر بن المفضل، عن عبيد الله قال (¬2): "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين يقعد بينهما". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن عبيد الله بن عمر القواريري، وأبي بكر ¬

_ (¬1) البخاري (928). (¬2) القائل هو: ابن عمر وليس عبيد الله، والمصنف اختصر إسناده على اعتبار أنه ذكره سابقًا والله أعلم. (¬3) مسلم (861).

الجحدري، عن خالد بن الحارث، عن عبيد الله قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائمًا ثم يجلس، ثم يقوم كما يفعلون اليوم". وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن محمد بن سليمان الأنباري، عن عبد الوهاب ابن عطاء عن عبيد الله نحوه. وأما النسائي (¬2) فأخرجه عن إسماعيل بن مسعود، عن بشر بن المفضل، عن عبيد الله نحوه. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن حميد بن مسعدة البصري، عن خالد بن الحارث، عن عبيد الله نحوه. وقد تقدم بيان الحكم في هذا الحديث، وهو مسوق لبيان وجوب الخطبتين، والقيام فيهما مؤكد لحديث جابر. وفي رواية مسلم زيادة (¬4) بيان وإيضاح: لأنه صرح بالقيام والجلوس، ثم أكده بقوله: كما يفعلون اليوم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم، عن صالح -مولى التوأمة- عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان: "أنهم كانوا يخطبون يوم الجمعة خطبتين على المنبر قياماً يفصلون بينهما بجلوس حتى جلس معاوية في الخطة الأولى فخطب جالسًا أو خطب في الثانية قائما". وهذا الحديث مسوق لتأكيد ما سبق من الحديثين قبله، وقد تقدم بيان المذاهب في الخطبتين والقيام فيهما إلا أن يكون معذورًا, ولعل معاوية كان معذورًا حين جلس. وإنما لم يجلس في الثانية لأمرين: ¬

_ (¬1) أبو داود (1092). (¬2) النسائي (3/ 109). (¬3) الترمذي (506) وقال: حسن صحيح. (¬4) زاد بالأصل [بن] قبل قوله (زيادة) وهي زيادة مقحمة لا وجه لها.

أحدهما: زوال عذره. والثاني: أن الثانية قصيرة فاحتمل فيها القيام دون الأولى لطولها. وقد أخرج الشافعي: فيما بلغه عن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن الحسن بن صالح، عن أبي إسحاق قال: رأيت عليًّا يخطب يوم الجمعة ثم لم يجلس حتى فرغ. قال البيهقي: يحتمل أن يكون أراد لم يجلس في حال الخطبة خلاف ما أحدث بعض الأمراء. وقد أخرج الشافعي قال: بلغنا عن سلمة بن الأكوع أنه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الدرجة التي تلي المستراح قائمًا ثم سلم وجلس على المستراح حتى فرغ [المؤذن] (¬1) من الأذان، ثم قام فخطب الخطبة الأولى ثم جلس ثم قام فخطب الثانية. وأتبع هذا الكلام الحديث فلا أدري أحدثه عن سلمه أم شىء فسره هو في الحديث. قال الشافعي: حدثني محمد بن عمر، عن عبد الله بن يزيد، عن إياس بن سلمة -يعني: ابن الأكوع- عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس جلستين وخطب خطبيتين يوم الجمعة". قال الشافعي: والإمام يجلس جلستين ويخطب خطبتين وهكذا السنة. والأثر الأقوى أن حديث ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: كان الأذان الأول يوم الجمعة، حين يخرج الإمام فيجلس على المنبر في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر. فهذا يدل على أنهم كانوا يجلسون جلسة حتى يفرغ المؤذنون من أذانهم. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [المؤخر] وهو تصحيف والتصويب من "الأم" (1/ 200)، و"المعرفة" (4/ 360).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: "أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم على عصا إذا خطب؟. قال: نعم، كان يعتمد عليها اعتمادًا". هكذا جاء الحديث في المسند مرسلًا. وقد روى أبو داود (¬1) عن سعيد بن منصور، عن شهاب بن خراش، عن شعيب بن زُرَيق الطائفي، عن الحكم بن حَزْن عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه شهد معه الجمعة فقام متوكئًا على عصا". قوله: "أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم على عصا" زيد أكان يتكئ عليها إذا كان قائمًا، وقد فسره بقوله: كان يعتمد عليها اعتمادًا. "والاعتماد على الشيء": الاستناد إليه والاتكاء عليه، كأنه يكون قد ألقى عليه ثقله وكأنه حامله. والمستحب للخطيب عند الشافعي: أن يعتمد على عصا أو سيف أو قوس أو ما أشبه ذلك. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا خطب اعتمد على عنزة. والعنزة: شبه الحربة في رأسها شبه السنان، وأن يشغل اليد الأخرى بجانب المنبر فإن لم يفعل ذلك. قال الشافعي: أحببت أن يسكن جسده ويديه، إما أن يجعل اليمنى على اليسرى أو يضعهما موضعهما. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني إسحاق ابن عبد الله، عن أبان بن صالح، عن كريب -مولى ابن عباس- عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يومًا فقال: "الحمد لله نستعينه، ونستهديه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله ¬

_ (¬1) أبو داود (1096) مطولًا. وقال أبو داود عقبه: ثبَّتني في شيء منه بعض أصحابنا -وكان قد انقطع من القرطاس- اهـ. قلت: حسن إسناده الحافظ، ونقل تصحيحه عن ابن السكن وابن خزيمة. وانظر التلخيص الحبير (2/ 65) ومختصر السنن للمنذري (2/ 18).

فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله [من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله] (¬1) فقد غوى حتى يفىء إلى أمر الله" متن هذا الحديث صحيح (¬2) أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي عن ابن مسعود. فأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن أبي عاصم، عن عمران، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن ابن مسعود. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، عن محمد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن عبثر بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود. وفي أحاديثهم زيادة معنىً آخر مع اتفاقهم على هذا المعنى. "الاستعانة": طلب المعونة والمساعدة تقول: استعنته واستعنت به، والأول أفصح، قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬6). "والاستغفار": طلب المغفرة وهو أن يقول: اللهم اغفر لي أو استغفر الله. "والاستهداء": طلب الهداية إلى الحق والدين، وإلى الصراط المستقيم، وهديت الرجل أهديه هديًا وهداية. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت من مطبوعة المسند. (¬2) وللشيخ الألباني -رحمه الله- رسالة على هذا الحديث وصححه فيها فلتراجع. (¬3) أبو داود (2119). (¬4) النسائي (6/ 89) (¬5) الترمذي (1105). وقال: حديث حسن، رواه الأعمش، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص، عن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلا الحديثين صحيح، لأن إسرائيل جمعهما فقال: عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، وأبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) الفاتحة: [5].

"والاستنصار": طلب النصر. "والتعوذ بالشيء": الالتجاء إليه والاحتماء به، عاذ به يعوذ إذا التجأ إليه. "والشرور": جمع شر على غير قياس، لأن الشر اسم جنس فلا يجمع إلا إذا اختلفت أنواعه. "والسيئات": جمع سيئة وهي الخصلة الرديئة من الفعل والقول، وهي الأوصاف العالية على الأسماء لأن الأصل فيها الوصف، ثم لما كثر استعمالها جرت مجرى الأسماء. "والمضل": اسم فاعل من الإضلال ضد الهدى. والرشاد والرشد: خلاف الغى تقول: رشد يرشد رُشْدًا، ورشد يرشد رَشْدا. "وغوى" الرجل يغوي غيًّا وغواية: إذا ضل عن القصد في القول والفعل وكأنه بالفعل أشبه. "وفاء يفيء": إذا رجع يريد حتى يرجع إلى الحق والهدى اللذين هما مضمون أمر الله، لأن الله يأمر بالعدل والإحسان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوما فقال في خطبته: "ألا إن الدنيا عَرَض حاضر يأكل منه البر والفاجر، ألا وإن الآخرة أجل صادق يقضي فيها مالك قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة، ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار، ألا فاعلموا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره". العَرَض بفتح العين والراء: ما كان من مال قل أم كثر ومنه قولهم: الدنيا عرض زائل، ومنه اصطلاح المتكلمين على أن العرض: ما لا يقوم بنفسه من الموجودات كالألوان، والطعوم والأصوات وأشباه ذلك؛ ولذلك قالوا: إن العرض لا يبقى زمانين فهو أبدًا متجدد.

وقوله: "حاضر" أي موجود وأن المنفقة به منفقة الأشياء الحاضرة التي إذا غابت ذهبت منفعتها معها. "والبَر" (بفتح الباء): واحد الأبرار وهم الصادقون المطيعون لله القائمون بعبادته، ومنه قولهم: بَرَّ فلان في يمينه أي صدق، وهو بر بوالده أي مطيع له محسن إليه. "والفاجر": الكاذب والفاسق، فجر يفجر فجورًا فهو فاجر يعني: أن الناس على اختلافهم يشتركون في الانتفاع بها؛ بخلاف الآخرة فإن نفعها للأبرار دون الفجار، والأصل الميقات المضروب للشيء. ووصفه بالصدق: لأنه أراد به الذي أجله صادق لتأجيله إلى منتهاه، وأنه أجل مصدوق فيه من باب قوله: "عيشة راضية" أي مرضية فوصفه باسم الفاعل، كأنه هو الذي يصدق في وقوعه لا يتأخر عن وقته. والملك القادر: هو الله -عز وجل- ووصفه بالقدرة لأن القاضي إذا كان عاجزًا قادرًا تمكن من إنفاذ حكمه وإمضاء قضائه، وإذا كان عاجزًا تعذر عليه ذلك. "والحذافير": النواحي والأعالي من كل شيء يقال: أعطاه الدنيا بحذافيرها أي بأسرها، الواحد حذفار. "والمعروض على الشيء": من عرضت الشيء على فلان إذا أظهرته له وكشفته وأبرزته، ومنه عرضت الجند على السلطان إذا أبرزتهم بن يديه لينظر إليهم. وفي قوله: "معروضون على أعمالكم" معنيان: أحدهما: أنه من المقلوب، التقدير: أن أعمالكم معروضة عليكم لتوافقوا عليها وتشاهدوها؛ فتعلموا أنكم مؤاخذون بها. والثاني: أنكم معروضون يوم العرض والحساب على قدر أعمالكم.

وقريب منه قول الله -عز وجل:- {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} (¬1) أي: على لسان رسلك. ويجوز: أن يكون قد جعل أعمالكم كأنها هي التي تجاوز بهم وأن الفعل لها والحكم إليها، لأن الجزاء يومئذ بحسبها يكون، فجعل ما هو سبب الجزاء مجازها على طريقة المجاز والاتساع، كما يقول للظالم: ظُلْمه أهلكه، وللعادل: عَدْله أنجاه، ويعضد التأويل الأول قوله في سياق الحديث: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره". أي أن أعمالكم تعرض عليكم فترون خيرها وشرها؛ وإن قل إلى حد الذرة التي هي أصغر النمل. ولا حرف تنبيه، وتكراره زيادة في التنبيه، وإن كل كلمة من هذه الكلمات حقيقة بأن يتنبه الخاطب لها فيلقى إليها سمعًا واعيًا، وقلبًا مراعيًا؛ بخلاف ما لو ذكر حرف التنبيه ولم يكرر والله أعلم. وقد أخرج الشافعي عن الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله أنه سمعه يقول: خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة يحمد الله -عةز وجل- ويثني عليه ثم يقول على إثر ذلك -وقد علا صوته، واشتد غضبه، واحمرت وجنتاه كأنه منذر جيش- يقول: "صبَّحكم أو مساكم" ثم يقول "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بأصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم يقول: "إن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك دينًا أو ضيةاعًا فإليَّ وعليَّ". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬2)، والنسائي (¬3). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال حدثني عبد العزيز بن رفيع، ¬

_ (¬1) آل عمران: [194]. (¬2) مسلم (867). (¬3) النسائي (3/ 188 - 189).

عن [تميم] (¬1) بن طرفة، عن عدي بن حاتم قال: خطب رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اسكت فبئس الخطيب أنت". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا تقل: ومن يعصهما". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي. فأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، عن وكيع، عن سفيان، [عن] (¬3) عبد العزيز بن رفيع. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن مسدد، عن يحيى، عن سفيان، عن عبد العزيز: أن رجلًا خطب عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ومن يطع الله ورسوله ومن يعصهما فقال: "قم، أو اذهب فبئس الخطيب". وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن، عن سفيان [عن] (¬6) عبد العزيز قال: "تشهد رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بئس الخطيب أنت". وجه إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الخطيب في قوله: "يعصهما" أنه جمع بين الله وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في الضمير المقترن بقوله "يعص" فأنكر ذلك عليه حيث رد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [عثمان] وهو تحريف، والصواب هو المثبت وكذا جاء في مطبوعة المسند ومراجع التخريج. (¬2) مسلم (870). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من رواية مسلم. (¬4) أبو داود (1099). (¬5) النسائي (6/ 90). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت من رواية النسائي.

الضمير إليهما، وكان ينبغي له أن يجيء باسم الرسول مظهرًا. وقد صرح به في الرواية بقوله: "ومن يعص الله ورسوله ولا تقل: ومن يعصهما". وفي هذا دليل على أن الواو تفيد الترتيب، لأنها لو لم تفد الترتيب لكان قد نهاه عن شيء وأتى بمثله، وذلك أن النهى كان لاشتراك اسم الله -تعالى- والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الضمير، فإذا لم يفد الترتيب لم يفد وجه النهي، لا بل كان مع الواو أبلغة، لأن من لم يجعل الواو مرتبة قال: إذا قلت: قام زيد وعمرو جاز أن يكون قام عمرو قبل زيد، فعلى هذا يكون قد نهاه لأنه جمع وهاهنا أقل مراتب الواو الجمع، وفيها زيادة جواز تقدم المتأخر في الذكر فيكون المأمور به آكد في تحقيق سبب المنع. وإلى ترتيب الواو ذهب الشافعي -رحمه الله تعالى-. وأما ما جاء في رواية أبي داود، والنسائي من إسقاط قوله: "فقد غوى" (¬1) فلأن الغرض إنما هو ذكر السبب الذي أوجب النهي وهو الجمع بين اسم الله -تعالى- ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الضمير، وذلك موجود في قوله: "يعصهما" فلا حاجة إلى تمامه، لأن الحديث إنما هو لذكر سبب النهي لا غير. وأما قوله في رواية أبي داود: "بئس الخطيب" ولم يقل "أنت" فلدلالة الكلام عليه، ولأنه لم يرد أن يواجهه بالخطاب رفقًا به. "وبئس": فعل ماض اللفظ غير متصرف وهو أخو "نعم" إلا أن "نعم" للمدح "وبئس" للذم. وقد قال الشافعي: قال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آلله، أَمِثْلان؟! قل: ما شاء الله ثم شئت". قال الشافعي: والمشيئة مخالفة الطاعة والمعصية، فإن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) بل هذه اللفظة جات في رواية النسائي (6/ 90).

ومعصيته تبع لطاعة الله ومعصيته، لأن الطاعة والمعصية منصوبتان بفرض الطاعة من الله، فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاز أن يقال: ومن يطع الله ورسوله ومن يعص الله ورسوله. "والمشيئة": إرادة الله وقال الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1) فأعلم الله خلقه أن المشيئة له دون خلقه، وأن مشيئتهم لا تكون إلا أن يشاء الله، فيقال لرسول الله: ما شاء الله ثم شئت ولا شئت، يقال: ما شاء الله وشئت، ويقال: من يطع الله ورسوله على ما وصفت فإن الله تعبد العباد بأن فرض طاعة رسول الله، فإذا أطيع رسول الله فقد أطيع الله بطاعة رسوله. وقد أخرج الشافعي في "سنن حرملة": عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة قال: أتى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت في المنام أني لقيت بعض اليهود فقال لي: نِعْم القوم أنتم لولا أنكم تزعمون أنا نشرك وأنتم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن كنت لأكرهها لكم قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد" (¬2). ... ¬

_ (¬1) الإنسان: [30]. (¬2) راجع المعرفة (4/ 372 - 373).

الفرع الثامن • في الانصات للخطبة والكلام فيها

الفرع الثامن في الانصات للخطبة والكلام فيها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ثعلبة ابن أبي مالك أنه أخبرهم أنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوم الجمعة يصلون حتى يخرج عمر بن الخطاب؛ فإذا خرج الإمام وجلس على المنبر وأذن المؤذن جلسوا يتحدثون؛ حتى إذا سكت المؤذنون وقام عمر سكتوا فلم يتكلم أحد". وأخبرنا الشافعي قال: حدثني ابن أبي فديك، عن [ابن] (¬1) أبي ذئب، عن ابن شهاب قال: حدثني ثعلبة بن أبي مالك "أن قعود الإمام يقطع السبحة، وأن كلامه يقطع الكلام، وأنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على [المنبر] (¬2)، فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين كلتيهما، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا". أخرج مالك (¬3) الرواية الأولى، وقد أخرجه الشافعي في القديم وزاد: قال ابن شهاب: [فخروج] (¬4) الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام. "السبحة": صلاة النافلة وإنما سميت سبحة؛ لأن فيها تسبيحًا، وقد كان القياس أن الفريضة تسمى سبحة أيضًا، إلا أن العرف الشرعي والوضع النبوي خص بها النافلة. "وكلا وكلتا": لفظتان مفردتان وإن كان معناهما التثنية، فكلا للمذكر وكلتا للمؤنث وهما إذا أضيفتا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي النصب ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والصواب إثباته وكذا جاء في مطبوعة المسند. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند. (¬3) الموطأ (1/ 107 رقم:7). (¬4) بالأصل "فخرج" وهو تصحيف، وقد أخرجه مالك كما مرّ بهذه الزيادة والتصويب من روايته.

والجر بالياء، وإن أضيفتا إلى المظهر كانا معه بالألف على كل حال، تقول: قام الرجلان كلاهما، ورأيتهما كليهما، ومررت بهما كليهما، وقام كلا الرجلين، ورأيت كلا الرجلين، ومررت بكلا الرجلين. وقد ذهب الفراء وغيره إلى أنه شيء قالوا: هو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية. هذا الحديث مسوق لبيان حكمين: أحدهما: الصلاة في حال الخطبة. والإنصات لسماع الخطبة. أما الصلاة فالذي ذهب إليه الشافعي: أن صلاة النوافل يوم الجمعة مستحبة إلى أن يجلس الإمام على المنبر، فإن كان في صلاة أخفها وخرج منها، وإن كان خارجًا منها لم يبتدئ بها إلا تحية المسجد وسيأتي بيانه. وأما الكلام والإمام يخطب فقال في القديم والإملاء: هو حرام، والإنصات واجب. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، وأحمد، واختاره ابن المنذر. وقال في الجديد: هو مستحب. وإليه ذهب عروة بن الزبير والشعبي، والنخعي، وسعيد بن جبير، والثوري. وهذا الخلاف فيمن يبلغه صوت الخطب، فأما من لم يبلغه فلا يلزمه السكوت بل هو مخير. ووقت السكوت عند الشافعي وأحمد: إذا ابتدأ الخطيب بالخطبة. وعند أبي حنيفة: إذا خرج. والسكوت إلى أن تنتهي الخطبتان ويباح له الكلام، والأولى أن يستديم السكوت إلى أن يدخل في الصلاة. قال الشافعي في القديم: وخبر ثعلبة عن عامة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في

دار الهجرة؛ أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة ويتكلمون والإمام على المنبر. قال: وأخبرنا الثقة، عن عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد، عن السائب بن زيد قال: رأيت عمر بن الخطاب يتحدث يوم الجمعة والمؤذنون يؤذنون. قال: أخبرنا الثقة، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن موسى بن طلحة، عن عثمان مثله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه إلا أنه قال: لغيت. قال ابن عيينة: لغيت لغة أبي هريرة. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرج الرواية الثانية إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب وزاد بعد قوله: "لصاحبك: يوم الجمعة". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن قتيبة ومحمد بن رمح، عن الليث بإسناد ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 106 رقم 6). (¬2) البخاري (934). (¬3) مسلم (851).

البخاري ولفظه، لكنه قدم الإنصات على يوم الجمعة. وفي أخرى: عن [ابن] (¬1) أبي عمر، عن سفيان، عن أبي الزناد. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك بالإسناد الأول. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث. وأما النسائي (¬4): فأخرجه مثل الترمذي. وقد أخرجه الشافعي: عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب. "أنصت" ينصت إنصاتًا: إذا سكت واستمع إلى الحديث تقول منه: أنصتوا وأنصتوا له. "واللغو": الهذر من القول والباطل، لغا يلغوا لغوًا , ولغى يلغي لغا وعلى هذه اللغة جاءت الرواية الآخرة. يريد بالصاحب هاهنا: الجليس. وقد أفادت تخصيصًا للقول الجمعة، وإن كان المراد بالروايات جميعها خطبة الجمعة، لكن هنا صرح بذكرها زيادة في البيان. وفي إحدى الروايات قدم الإنصات على الجمعة. وفي أخرى بعكسها. وفي أخرى: ذكر الإمام. وكل من هذه له فائدة: فمن كانت عنايته بأحد الأشياء الثلاثة قدمه بالذكر والكل في العناية سواء، فأيها قدم جاز لأنه لا بد من ذكر الإنصات والخطبة والجمعة، وبذكر الثلاثة يحصل كمال الغرض فأيها قدم كان مصيبًا. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والاستدراك من رواية مسلم. (¬2) أبو داود (1112). (¬3) الترمذي (512) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (3/ 103 - 104).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن أبي النضر، عن مولى عمر بن عبيد الله، عن مالك بن أبي عامر: "أن عثمان بن عفان كان يقول في خطبته -قل ما يدع ذلك إذا خطب-: إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا، فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ مثل ما للسامع المنصت، فإذا قامت الصلاة فاعدلوا الصفوف وحاذوا بالمناكب، فإن اعتدال الصفوف من تمام الصلاة، ثم لا يكبر عثمان حتى يأتيه رجال قد وكّلهم بتسوية الصفوف فيخبرونه أن قد استوت فيكبر". أخرج هذا الحديث مالك (¬1) بالإسناد واللفظ إلا أنه قال: مثل ما للمنصت السامع. "ما" في قل زائدة جيء بها ليلي الفعل فعل آخر كما جيء بها في "ربما" ليلي "رب" فعل. و"إذا" الأولى متعلقة بيدع، و"إذا" الثانية متعلقة بيقول، التقدير: أن عثمان كان قَلَّ ما يدع إذا خطب أن يقول: إذا قام الإمام فخطب. ووجه التسوية بن المنصت الذي لا يستمع وبين المنصت السامع في الحظ: أن الذي لا يبلغه صوت الخطيب معذور في تعذر السماع، والذي يقدر عليه إنما هو الإنصات وهو الأصل في الاستماع، لأن من لم ينصت وإن كان يبلغه صوت الخطيب فإنه لا يسمع الخطة فسوى بينهما في الحظ لذلك. والمراد من استماع الخطبة: ليس فرع صوت الخطيب أذن السامع حسب، إنما المراد فهم الخطبة؛ تقديرها والعمل بما فيها من موعظة ووعد ووعيد وغير ذلك. "والتعديل" بين الأشياء: التسوية بينهما من العدل -الإنصاف- وتعديل الشيء تقويمه، تقول منه: عدلت بن الشيئين والأشياء، وعادلت مثله وعدلت فلانًا بفلان إذا سويت بينهما. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 107 رقم 8).

فإن كانت الهمزة في قوله: "فاعدلوا الصفوف" همزة وصل فهو من عدلت فلانًا بفلان يريد: سووا الصفوف. فإن كانت همزة قطع: فقد أقام الهمزة مقام التشديد وهو من عدلت الشيء إذا قومته. "والمحاذاة": -المساممة. "والمناكب": أعالى الأكتاف والظهر والباء في "بالمناكب" إما زائدة لأن الفعل متعد. وإما متعلقة بمحذوف فتقديره: حاذوا المناكب بالمناكب. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم، عن هشام، عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عطس الرجل والإمام يخطب يوم الجمعة فشمته". هكذا جاء هذا الحديث مرسلًا. "عطَس" الرجل (بفتح الطاء) يعطس (بكسرها). "والتشميت" (بالشين): الدعاء للعاطس وكل داع لأحد بخير فهو مشمت ومسمت. قال أبو عبيد: المعجمة أعلى في كلامهم وأكثر. واختار ثعلب فقلب المهملة قال: لأنه مأخوذ من السمت وهو القصد والمحجة. وقد تقدم بيان قول الشافعي في وجوب الانصات واستحبابه فمع الوجوب تشميت العاطس لم يكن مختارًا والمسلِّم سلم في غير موضع السلام. ومع الاستحباب: يرد السلام ويشمت العاطس.

قال الشافعي: ولو سلم رجل على رجل يوم الجمعة كرهت ذلك له ورأيت أن يرد عليه بعضهم، لأن رد السلام فرض. ولو عطس يوم الجمعة فشمته رجل رجوت أن يسعه لأن التشميت سنة. هذا قوله في الجديد وبه قال الحسن البصري، والنخعي، والشعبي، والحكم، وحماد، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وكان ابن المسيب يقول: يشمت العاطس. وقال مالك، والأوزاعي: لا يشمت ولا يرد. واستحب أصحاب الرأي قولة مالك. قال الشافعي: وإن تكلم رجل والإمام يخطب لم أحب ذلك له، ولم يكن عليه إعادة الجمعة، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلم الذين قتلوا ابن أبي الحقيق على المنبر وكلموه وتداعوا قتله، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلم الذي لم يركع وكلمه. أما حديث ابن أبي الحقيق فأخرجه في القديم: عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن ابن كعب بن مالك: "أن الرهط الذين بعثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ابن أبي الحقيق ليقتلوه بخيبر فقتلوه، فقدموا والنبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر يوم الجمعة فلما رآهم قال: "أفلحت الوجوه". قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله. قال: "أقتلتموه"؟ قالوا: نعم. وفي هذا الحديث زيادة من وجه آخر لم يخرجه الشافعي: "فدعا بالسيف الذي قتل به وهو قائم على المنبر فسله فقال رسول الله: "أجل، هذا طعامه في ذباب السيف".

وهذا وإن كان مرسلًا فهو مشهور فيما بين أهل العلم بالمغازي (¬1). وقد روي من وجه آخر موصولاً عن عبد الله بن أنيس واحتج: حدثنا أنس ابن مالك: في الرجل الذي قام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وهو يخطب فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي وانقطعت السبل. وسيجيء الحديث بتمامه في كتاب الاستسقاء -إن شاء الله تعالى- واحتج بحديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حيث دخل يوم الجمعة وعمر على المنبر وقد تقدم ذكره. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فإن قيل: فما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد لغوت؟. قيل: -والله أعلم- أما ما وصفت من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلام من كلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلامه، فيدل على ما وصفت وأن الإنصات للإمام اختيار وأن قوله: "لغوت" تكلمت في موضع الأدب فيه أن لا تكلم، والأدب في موضع الكلام أبي يتكلم بما يعنيه. وقيل للشافعي: أفرأيت حديث أبي هريرة أيخالف حديث جابر وأبي سعيد؟ قال: لا يختلفان، هذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره وكلام من كلمه بأمره في الصلاة وفي قتل من قتل، فكلام الإمام في هذا وكلام من كلمه غير كلام رجل ليس بإمام كلم آخر مثله، بأن قال له أنصت وليس له ولا عليه من الأمر والنهي ما للإمام وعليه، وما على المأموم الذي يكلمه الإمام. فإذا تكلم المأموم والإمام يخطب فلا أحب ذلك له ولا ينتقص عليه جمعته؛ فأكثر ما يصيبه في هذا أن يبطل عليه أجر من استمع الخطبة، فإذا كان لو فاتته الخطبة أجزأته الجمعة ولو أدرك ركعة أضاف إليها فكيف تفسد صلاته بالكلام ¬

_ (¬1) كذا قال البيهقي في المعرفة (4/ 382)، ونقل الحافظ في التلخيص (2/ 61) عن البيهقي قوله: مرسل جيد، وروي عن عروة نحوه. وانظر السنن الكبير (3/ 222).

في استماع الخطبة؟. وقال الشافعي فيما بلغه عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن منهال، عن عباد ابن عبد الله "أن عليًّا كان يخطب على منبر من آجُر فجاء الأشعث بن قيس وقد امتلأ المسجد وأخذوا مجالسهم فجعل يتخطى حتى دنى وقال: غلبتنا عليك هذه الحمراء (¬1). فقال على: ما بال هذه الضياطرة (¬2) يتخلف أحدكم ثم ذكر كلاما. قال الشافعي: قد تكلم الأشعث فلم ينهه علي وتكلم علي -رضي الله عنه. ... ¬

_ (¬1) الحمراء: العجم؛ لبياضهم، ولأن الشقرة أغلب الألوان عليهم. لسان مادة: "حمر". (¬2) الضيطر: العظيم من الرجال والجمع ضياطر وضياطرة وضيطارون. لسان مادة: "ضطر".

الفرع التاسع في القراءة والخطبة والصلاة

الفرع التاسع في القراءة والخطبة والصلاة أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن [خبيب بن] (¬1) عبد الرحمن بن يساف، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان "أنها لم تحفظها إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وهو على المنبر، لكثرة ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بها يوم الجمعة على المنبر". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا محمد بن أبي بكر ابن حزم، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان مثله. قال إبراهيم: ولا أعلمني إلا سمعت أبا بكر بن حزم يقرأ بها يوم الجمعة على المنبر. قال إبراهيم: سمعت محمداً بن أبي بكر يقرأ وهو يومئذٍ قاضٍ على المدينة على المنبر. هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي. فأما مسلم (¬2): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن خبيب، عن عبد الله بن محمد بن معن، عن بنت حارثة بن النعمان قالت: "ما حفظت "ق" إلا من فيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بها كل جمعة". قالت: وكان تنورنا وتنور رسول الله واحد. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن محمد بن بشار بإسناد مسلم إلا أنه قال: ابنة الحارث بن النعمان. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند وهو الصواب. (¬2) مسلم (873). (¬3) أبو داود (1100).

قال: ورواه روح بن عبادة، عن شعبة فقال: ابنة حارثة بن النعمان. وقال ابن إسحاق: أم هشام بنت حارثة بن النعمان. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن محمد بن المثنى، عن هارون بن إسماعيل، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن محمد بن عبد الرحمن، عن ابنة حارثة. قول إبراهيم: ولا أعلمني إلا سمعت أبا بكر بن حزم يريد: أنه وإن كان قد روى هذا الحديث عن عبد الله بن أبي بكر فإنه قد سمع أباه أبا بكر يقرؤها، كأنه أراد علو [الإسناد] (¬2) برجل وأنه وإن كان قد روى عن الابن فقد سمع الأب. وكذلك قوله أيضًا: "سمعت محمد [بن] (¬3) أبى بكر يقرأ بها" يريد: أنه كما أنه روى عنه فقد سمعه يفعل بما روى له، كل ذلك يزيد الحديث بيانًا وصحة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الخطيب يستحب له في آخر كل خطة سورة "ق". وأخرج الشافعي أيضًا: عن مالك [عن] (¬4) هشام، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب قرأ -يعني السجدة- وهو على المنبر يوم الجمعة". قال الشافعي: إن عليًّا كان يقرأ على المنبر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (¬5) و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} (¬6) وبلغني أن عثمان بن عفان كان إذا كان في آخر خطبته قرأ آخر النساء {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ} (¬7) إلى آخر السورة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني محمد بن عمرو بن حلحلة، عن أبي نعيم: وهب بن كيسان، عن حسن بن ¬

_ (¬1) النسائي (3/ 107). (¬2) بالأصل [سناد] والمثبت هو الموافق للسياق. (¬3) سقط من الأصل والمثبت هو الثابت في الرواية. (¬4) بالأصل [بن] وهو تصحيف والصواب هو المثبت، انظر المعرفة (4/ 365). (¬5) الكافرون: [1]. (¬6) الإخلاص: [1]. (¬7) النساء: [17].

محمد بن علي بن أبي طالب أن عمر كان يقرأ في خطبته يوم الجمعة "إذا الشمس كورت" حتى بلغ "علمت نفس ما أحضرت" ثم يقطع السورة. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قرأ بذلك على المنبر. قوله: "كان يقرأ في خطبته" يدل على تكرار ذلك منه واعتياده له. وقوله: "حتى بلغ" وكان القياس "حتى يبلغ" لأن المعطوف عليه مستقبل، ولكنه إنما جاء بالماضي حكاية حال الراوي عن عمر. والقراءة في الخطبة غير متعينة، وقد ذكرنا وجوبها في الخطبة قبل هذا، وإنما تورد أمثال هذه الأحاديث محافظة على ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرؤه فيها، وكذلك الصحابة -رضي الله عنهم-. ففي حديث أم هشام ابنة حارثة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ فيها سورة "ق"". وفي هذا الحديث أن عمر -رضي الله عنه- كان يقرأ "كورت" والجميع سنة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد الله بن أبي لبيد، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قرأ في ركعتي الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين". وأخبرنا الشافعي: أنا عبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي رافع، عن أبي هريرة "أنه قرأ في الجمعة بسورة "الجمعة" و {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال عبد الله: فقلت له: قد قرأت بسورتين كان علي رضي الله عنه يقرأ بهما في الجمعة. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهما". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد وغيره، عن جعفر، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي هريرة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في إثر سورة الجمعة {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}.

أخرج الشافعي الروايتين الأولتين في كتاب "الجمعة" (¬1) والرواية الثالثة في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬2). هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي. فأما مسلم (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن مسلمة، عن سليمان بن بلال، عن جعفر، عن أبيه، عن [ابن] (¬4) أبي رافع قال: استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة، فصلى لنا [أبو] (¬5) هريرة الجمعة فقرأ بعد سورة الجمعة في الركعة الآخرة {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قال: فأدركت أبا هريرة فقلت له: إنك قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة. فقال أبو هريرة: أنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بهما يوم الجمعة. وفي رواية: فقرأ بسورة "الجمعة" في السجدة الأولى، وفي الآخرة "إذا جاءك المنافقون". وأما أبو داود (¬6): فأخرجه بإسناد مسلم ولفظه إلا أنه لم يذكر استخلاف أبي هريرة. وأما الترمذي (¬7): فأخرجه عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بإسناد مسلم ولفظه. هذه الباء الداخلة على سورتين وأمثالها قد تقدم القول فيها مرارًا, ولطول الأحاديث فلا بأس أن نشير إلى ما ينبه على معناها. وذلك أنها في الأصل للإلصاق يكون المتقدم وألصقت قراءتك بها، إلا أن ¬

_ (¬1) الأم (1/ 205). (¬2) الأم (7/ 204). (¬3) مسلم (877). (¬4) سقط من الأصل والصواب إثباته، والاستدراك من رواية مسلم. (¬5) بالأصل جاء على النصب [أبا] والجادة ما أثبتناه. (¬6) أبو داود (1124). (¬7) الترمذي (519) وقال: حسن صحيح.

الفعل متعد بنفسه فلا يحتاج إلى معد فلو قال: قرأت سورتين لكفاه، ولكنه أراد أن قراءته كانت مقروء بها بين السورتين، وأن الباء بمعنى الملابسة والمخالطة: أي قرأت متلبسًا بهاتين السورتين، كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬1) أي: تنبت ملتبسة ومختلطة بالدهن وأن الباء زائدة. وقوله: "قرأ في إثر سورة الجمعة" يريد به: القراءة في الركعة الثانية لا أنه جمع بين السورتين في ركعة واحدة، تقول: جئت على إثره -مكسورة الهمزة- مثل أثره أي من بعده وعقيبه، وإنما جعل القراءة في الركعة الثانية على إثر القراءة في الركعة الأولى؛ لأن الركعة في اصطلاح الشرع: عبارة عن جميع الأفعال والأقوال المتعلقة بها من القيام، والقراءة، والركوع، والسجود، والنهوض، فحكم ذلك جميعه حكم شيء واحد، فكانت القراءة في الركعة الثانية في إثر الأولى، لأنها عند إنقضائها والفراغ منها شرع في القراءة، فجاز لذلك أن تقول: قرأ في إثر سورة الجمعة {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}. والمستحب عند الشافعي: أن يقرأ في الصلاة الجمعة (¬2) بهاتين السورتين. وأبو حنيفة يرى تخصيص القراءة بشيء. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ضمرة بن سعيد المازني، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة [أن] (¬3) الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: "ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ به يوم الجمعة؟. فقال: كان يقرأ بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري. فأما مالك (¬4): فأخرجه بالإسناد واللفظ. ¬

_ (¬1) المؤمنون: [20]. (¬2) كذا بالأصل والجادة: (صلاة الجمعة). (¬3) سقط من الأصل والاستدارك من مطبوعة المسند. (¬4) الموطأ (1/ 112 رقم 19).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عيينة، عن ضمرة. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب [بن] (¬3) سالم، عن النعمان بن بشير قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن ضمرة. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬5). وليست القراءة في الصلوات مخصوصة ببعض القرآن دون بعض، إنما يستحب المحافظة على ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر وقوعه منه. والمشهور عنه في صلاة الجمعة بسورة "الجمعة" و"المنافقون"، وليست الغاشية وسبح بمنزلتهما في كثرة الوقوع منه، فكان الأخذ بهما أولى. قال الربيع: سألت الشافعي -رضي الله عنه- بأي شيء يستحب أن يقرأ في الجمعة؟. فقال: في الركعة الأولى بالجمعة، وأختار في الركعة الثانية {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، ولو قرأ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أو {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} كان حسنًا، لأنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بها كلها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني مسعر بن كدام، عن معبد بن خالد، عن سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ¬

_ (¬1) مسلم (878/ 63). (¬2) الترمذي (533) وقال: حسن صحيح. (¬3) بالأصل [عن] وهو تصحيف. (¬4) النسائي (3/ 112). (¬5) الأم (7/ 204 - 205).

كان يقرأ في الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. فأما أبو داود (¬1): عن مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن معبد بن خالد، عن زيد بن عقبة، عن سمرة. وأخرجه النسائي (¬2): عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة مثل أبي داود. ورواه الحسن بن علي بن عفان، عن محمد بن عبيد، عن مسعر، عن زيد، عن سمرة. هكذا رواه جميعهم بزيادة زيد بن عقبة (¬3). والذي جاء في مسند الشافعي وسنن البيهقي بإسقاط اسم زيد بن عقبة. وقد قال البخاري في تاريخه الكبير (¬4): زيد بن عقبة سمع سمرة بن جندب، روى عنه عبد الملك بن عمير وابنه سعيد ومعبد ابن خالد. وهذا الحديث وإن كان مرويًّا، إلا أن حديث أبي هريرة الذي قبله أولى ¬

_ (¬1) أبو داود (1125). (¬2) النسائي (3/ 111 - 112). (¬3) الظاهر أن إسقاط زيد بن عقبة من الإسناد، هو من تخاليط إبراهيم بن محمد، وهو متروك الحديث ويؤكد هذا أن الجماعة خالفوه وزادوا زيد بن عقبة، منهم: محمد بن عبيد عند أحمد (5/ 14) والبيهقي في السنن الكبير (3/ 201)، ويعلي بن عبيد عند ابن أبي شيبة (2/ 50)، وأبو نعيم عند الطبراني في الكبير (7/ 184 رقم 6775) لكن قال فيه: عمن حدثه عن سمرة ... وتوبع مسعر على إثبات زيد تابعه شعبة كما سبق عند أبي داود والنسائي، وسفيان عند الطبراني في الكبير (7/ 184 رقم 6774)، والمسعودي عنده أيضًا (7/ 184 رقم 6776)، وأخرجه البيهقي في سننه (3/ 294 - 295) وأبو معاوية الحجاج عند الطبراني أيضًا (7/ 184 رقم 6777)؛ فثبت بذلك أن المحفوظ إثبات زيد بن عقبة. (¬4) التاريخ الكبير (3/ 402).

بالعمل منه لأمرين: أحدهما: أن حديث أبي هريرة عمل به علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- وأبو هريرة، والحديث إذا عمل به أكابر الصحابة وبمحضر منهم؛ كان أولى بالعمل من غيره (¬1). والثاني: أن حديث أبي هريرة أخرجه مسلم وهو آكد لصحته (¬2). ... ¬

_ (¬1) قلت: وهذا اعتراض غير مقبول لأسباب عديدة منها: ما قاله الشافعي في صدر كتابه "اختلافه مع مالك" من الأم: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم مستغن بنفسه، وإن كان يروى عمن دون رسول الله حديث يخالفه، لم ألتفت إلى ما خالفه، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يؤخذ به اهـ. وكذلك: ليس بن الحديثين تعارض حتى يؤخذ بأحدهما ويترك الآخر، بل هو من اختلاف التنوع في العبادة كما هو معلوم في سائر العبادات. (¬2) وكذلك حديث النعمان بن بشير عند مسلم، وحديث سمرة إسناده صحيح لا مغمز فيه، وعليه فالعمل بهما ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الفرع العاشر في أحكام وآداب للجمعة متفرقة

الفرع العاشر في أحكام وآداب للجمعة متفرقة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فكانت لهم سوق يقال له البطحاء، كانت بنو سليم يجلبون الخيل والإبل والغنم والسمن، فقدموا فخرج إليهم الناس فتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان لهم إذا تزوج أحد من الأنصار ضربوا بالكبر (¬1) فعيرهم الله بذلك فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬2). هذا الحديث هكذا جاء مرسلاً؛ لأن جعفرًا رواه عن أبيه، عن محمد. ومحمد هو الباقر بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، هو من التابعين. وقد جاء هذا المعنى مسندًا عن جابر بن عبد الله أخرجه البخاري (¬3)، ومسلم (¬4)، والترمذي (¬5). وهذا لفظ إحدى روايات البخاري: أخرجه عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن [حصين] (¬6)، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر قال: "بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعامًا، فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثني عشر رجلاً، فنزلت هذه الآية {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (2) ". ¬

_ (¬1) هو: الطبل الصغير وسيأتي بيانه، وانظر النهاية (4/ 143). (¬2) الجمعة: [11]. (¬3) البخاري (936). (¬4) مسلم (863). (¬5) الترمذي (3311) وقال: حسن صحيح. (¬6) بالأصل [حسين] وهو تصحيف والصواب هو المثبت. كذا في رواية البخاري وحصين هو: ابن عبد الرحمن الواسطي.

ولعل محمد الباقر يكون قد رواه عن جابر، فإنه كبيرًا كما يروى عنه (¬1). "البطحاء": تأنيث الأبطح وهو مسيل الماء إذا كان واسعًا ومنه أبطح مكة. الضمير في قوله: "لهم" راجع إلى أهل المدينة، لأن السوق المذكورة كانت بالمدينة. وكذلك الضمير في قوله: "أحدكم" ويدل عليه قوله: "من الأنصار" فأبدل المظهر من المضمر زيادة في البيان. "والكبَر": -بفتح الكاف وفتح الباء- هو الطبل ويجمع على أكبار وكبار مثل: جمل وأجمال. "والتعبير": إلحاق العار بالأنساب لنقيصة ارتكبها. "والانفضاض": التفرق، فضضت القوم فانفضوا أي: فرقتهم فتفرقوا. وأعاد الضمير في قوله "انفضوا" إلى التجارة دون اللهو لأمرين: أحدهما: أن التجارة أعظم قدرًا عندهم من اللهو وهم إليها أحوج وبها أعنى. والثاني: أن الضمير إنما أعاده إلى المعنى دون اللفظ، التقدير: انفضوا إلى الرؤية التي رأوها، أي مالوا إلى طلب ما رأوه. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- في حكم الانفضاض أنه باعتبار أحوال ثلاثة في الخطبة وبعدها قبل الصلاة وفي خلال الصلاة. أما الحال الأولى: فإن سكت الإِمام إلى أن عاد عن قرب، أو كان مكانهم آخرون غيرهم بني عليه، وإن مضى ركن من أركان الصلاة في غيبتهم لم يعتد به، وإن طال سكوت الإِمام ففي البناء قولان: ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (2/ 492) -عقب ذكر رواية الشافعي-: ووصله أبو عوانة في "صحيحه"، والطبري بذكر جابر فيه.

وأما الحال الثانية: فإن طال الفصل ففي جواز بناء الصلاة على الخطبة قولان، مرجعهما إلى أن الموالاة بين الخطبة والصلاة هل يشترط أم لا؟. وأما الحال الثالثة ففيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن الجمعة تبطل بنقصان العدد. والثاني: إن كان العدد لا يشترط إلا في ابتداء الصحة انعقد، وفي الدوام يكفي أن يبقى واحد. والثالث: أنه لا بد وأن يبقى اثنان سوى الإِمام نظرًا إلى أقل الجمع. وقال أبو حنيفة: إن انفضوا عنه بعدما صلى ركعة بسجدة واحدة أتمها جمعة، وإن كان قبل ذلك لم يتمها جمعة. وقال مالك مثله إلا أنه قال: ركعة بسجدتيها. وقال أحمد: إن بقي معه أربعون أتمها جمعة وإلا صلاها ظهرًا. وقال أبو يوسف ومحمد: انفضوا عنه بعد ما أحرم أتمها جمعة.

من أدرك ركعة من الصلاة

من أدرك ركعة من الصلاة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه عن الزهري بالإسناد واللفظ. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن قتيبة. كلهم عن مالك، إلا أن مسلمًا قال في بعض طرقه: "ركعة من الصلاة مع الإِمام". وقال النسائي في بعض طرقه: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة" (¬6). وقد أخرج الشافعي هذا الحديث عن مالك، عن ابن شهاب من رواية المزني (¬7) عنه. وقد تقدم القول في حكم هذا الحديث فيما سلف من الكتاب. قال الشافعي: فكان أقل ما في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فقد أدرك الصلاة" إن لم تفته الصلاة ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغه عن معاوية، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: إذا أدركت ركعة من الجمعة فأضف إليها أخرى، فإذا فاتك الركوع فصلها أربعًا. قال الشافعي: وبهذا نقول لأنه يوافق ما روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬8). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 42 رقم 15). (¬2) البخاري (580). (¬3) مسلم (607). (¬4) أبو داود (1121). (¬5) النسائي (1/ 274). (¬6) ولفظه هناك في سننه (1/ 274 - 275): "من أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت صلاته". (¬7) السنن المأثورة (110). (¬8) وانظر الأم (1/ 205 - 206).

إقامة الرجل من مجلسه

إقامة الرجل من مجلسه أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن [عمر] (¬1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يخلفه فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني أبي، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يعمد الرجل إلى الرجل فيقيمه من مجلسه ثم يقعد فيه". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن محمد بن سلام، عن مخلد بن يزيد، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن قتيبة ومحمد بن رمح، عن ليث، عن نافع. وله روايات أخرى. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن حماد بن [زيد] (¬5)، عن أيوب، عن نافع. "خلفت" الرجل أخلفه: إذا جئت بعده وقمت مقامه. "والتفسح": تفعل من الفسحة من الأرض وهو المتسع منها. وإنما جمع بين تفسحوا وتوسعوا وهما بمعنىً واحد: التأكيد باختلاف اللفظ، وكثيرًا ما يجيء هذا النوع في كلامهم. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والاستدراك من مطبوعة المسند. (¬2) البخاري (911). (¬3) مسلم (2177). (¬4) الترمذي (2749) وقال: حسن صحيح. (¬5) بالأصل [يزيد] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وكذا في رواية الترمذي.

ومعنى قوله: "ولكن تفسحوا وتوسعوا" يجوز أن يكون من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن قول الداخل للمصلين (¬1). "وعمدت" للشيء وإلى الشيء -بالفتح- أعمِد -بالكسر- عمدًا: قصدت إليه، وتعمدت الشيء نقيض أخطأت. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه لا يجوز للداخل أن يقيم أحدًا من مجلسه الذي سبق إليه، إلا أن يكون جالسًا في مصلى الإِمام، أو طريق الناس، أو يكون مستقبل المصلين والموضع عليهم ضيق، فإن كان واسعًا انحرفوا عنه يمينًا وشمالًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى؛ عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل: افسحوا". هذا حديث مرسل أرسله سليمان بن موسى، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (¬2): عن سلمة بن شبيب، عن الحسن بن أعين، عن معقل بن عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر الحديث وفيه "ثم ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه". هذه اللام في قوله: "ليقل" لام الأمر وهي تدخل على الغائب، وقد أدخلت على المخاطب شاذًّا وعليه قرئ قوله تعالى في القراءة الشاذة {فبذلك فليفرحوا} (¬3). وأما اللام التي في "ليخالف إلى مقعده" فلام التعليل، وهي تستدعى معللًا محذوفًا بعطف "ثم" عليه تقديره لولا وجود ثم لا يقيمن أحدكم أخاه ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، فلما أدخل ثم احتاجت إلى تقدير محذوف نحو ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (11/ 65): قوله: (ولكن تفسحوا وتوسعوا) هو عطف تفسيري، ووقع في رواية قبيصة، عن سفيان عند ابن مردويه: "ولكن ليقل: افسحوا وتوسعوا" .... اهـ. (¬2) مسلم (2178). (¬3) يونس: (58).

قولك: ليتكبر عليه أو ليتقدم عليه ثم ليخالف إلى مقعده. ويجوز: تقدير المحذوف متأخرًا أي: ليخالف إلى مقعده كانت إقامته إياه من مكانه. ومثل هذا النوع كثير فاش في كلامهم، هو في القرآن العزيز كثير وعليه قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬1). التقدير: يريد بكم اليسر لتصوموا, ولتكملوا ولتكبروا، أو لتكملوا العدة، ولتكبروا الله يعد ذلك. وعليه قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} (¬2) أخرجكم طفلًا. وقوله: "ولكن ليقل: افسحوا" يعضد أن "تفسحوا وتوسعوا" في حديث ابن عمر من قول الداخل. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثني سهيل بن [أبي] (¬3) صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قام أحدكم من مجلسه يوم الجمعة ثم رجع إليه فهو أحق به". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود. فأما مسلم (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة وعبد العزيز بن محمد كليهما عن سهيل ولم يذكر يوم الجمعة. ¬

_ (¬1) البقرة: [185]. (¬2) غافر: [67]. (¬3) سقط من الأصل، والصواب إثباته كذا في مطبوعة المسند ومصادر التخريج. (¬4) مسلم (2179).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن سهيل ولم يذكر الجمعة. وكذلك لم يرد ذكر الجمعة في بعض طرق المسند (¬2). قال الشافعي: إذا جلس في موضع ثم قام لحاجته فجلس فيه غيره، فإذا عاد إلى موضعه أحببت لمن خلَّفه فيه أن يتنحى له عنه. فأما إن كان قد سبق إلى موضع فجاء غيره فتنحى له، نظرت فإن كان قد تنحى إلى موضع يساوي الأول في سماع كلام الإِمام لم يكره له، وإن كان لا يساويه كره له ولا يكره ثم تنحى له أن يجلس في الحالين فيه. ¬

_ (¬1) أبو داود (4853). (¬2) راجع المعرفة للبيهقي (4/ 405).

النعاس والاحتباء يوم الجمعة

النعاس والاحتباء يوم الجمعة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: "كان ابن عمر يقول للرجل إذا نعس يوم الجمعة والإِمام يخطب؛ أن يتحول منه". هكذا جاء هذا الحديث موقوفًا، وقد أخرجه الترمذي (¬1): عن أبي سعيد الأشج، عن عبدة بن سليمان وأبي خالد الأحمر، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نعس أحدكم يوم الجمعة فليتحول من مجلسه ذلك". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وكذلك رواه يحيى بن سعيد، عن نافع. قال البيهقي: الموقوف أصح (¬2). "النعاس": الوسن وهو أول النوم تقول: نعس ينعس نعاسًا فهو ناعس، ولا يقال: نعسان. "والتحول": الانتقال من مكان إلى مكان آخر، يقال: تحولت عن المكان ومنه وإليه. قال الشافعي: وأحب إذا نعس يوم الجمعة ووجد مجلسًا غيره ولا يتخطى فيه ¬

_ (¬1) الترمذي (526). (¬2) وقال في السنن الكبير (3/ 237): هذا الحديث يعد في أفراد محمد بن إسحاق بن يسار، وقد روي من وجه آخر عن نافع. ثم قال: ولا يثبت رفع هذا الحديث والمشهور عن ابن عمر من قوله. قلت: وقد استنكره علي بن المديني. قال: كما في ترجمة محمد بن إسحاق من التهذيب -لم أجد لابن إسحاق إلا حديثين منكرين: نافع، عن ابن عمر وذكر الحديث. وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى تقوية الحديث نظرًا إلى ظاهر إسناده مع تصريح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد (2/ 135) وغيره. وقال الدارقطى في علله (4 ق 113) .. والمحفوظ عن المحاربي عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، وكذلك رواه الثوري ... وانظر السلسلة الصحيحة (468).

أحدًا أن يتحول عنه، لأن ذلك يصرف عنه النوم. والضمير في قوله: "منه" راجع إلى المجلس وهو غير مذكور، وذلك جائز لدلالة الحال عليه، ولفهم المخاطب له. ومنه قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬1) يريد الشمس لما غربت ولم يتقدم لها ذكر وذلك في العربية كثير، ويحقق ذلك التصريح به في رواية الترمذي وقد أخرج الشافعي قال: أخبرني من لا أتهم، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يحتبي والإِمام يخطب يوم الجمعة. وقد روي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين (¬2)، والذي روي من حديث معاذ بن أنس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحبوة يوم الجمعة" إن ثبت (¬3) فلما فيه اختلاف النوم، وتعريض الطهارة للانتقاض، فإذا لم يخش ذلك فلا بأس بالاحتباء. "والاحتباء": هو أن -يجمع بين ظهره وركبتيه بحبل أو منديل ونحو ذلك ليكون كالمستند إلى شيء. وقد يكون الاحتباء باليدين، والحبوة (بضم الحاء وكسرها). ¬

_ (¬1) ص: [32]. (¬2) قال أبو داود في سننه عقب حديث (رقم 1111): كان ابن عمر يحتبي والإِمام يخطب، وأنس ابن مالك، وشريح، وصعصعة بن صوحان، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، ومكحول، وإسماعيل بن محمد بن سعد، ونعيم بن سلامة، قال: (لا بأس بها، ولم يبلغني أن أحدًا كرهها إلا عبادة بن نسي. (¬3) أخرجه الترمذي (514) وقال: حسن، وابن خزيمة في صحيحه (1815)، والحاكم (1/ 289) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الشيخ الألباني -رحمه الله- في تعليقه على ابن خزيمة (3/ 158) إسناده فيه ضعف، لكن الحديث حسن كما قال الترمذي. وحسنه أيضًا في صحيح الجامع (6876).

التطوع بعد الجمعة

التطوع بعد الجمعة لم يرد في المسند فيه شيء ولكن روى المزني (¬1): عن الشافعي قال: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز قال أخبرنا: ابن جريج قال: أخبرنا عمر بن عطاء بن أبي الخوار أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب بن زيد -ابن أخت نمر- سأله عن شيء رآه من معاوية في الصلاة: فقال نعم. صليت مع معاوية الجمعة في المقصورة، فلما سلمت قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إليَّ فقال: لا تعد لما فعلت إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك أن لا توصل صلاة بصلاة حتى تتكلم أو تخرج". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬2) وأبو داود (¬3). وقال الشافعي: هذا ثابت عندنا وبه نأخذ. وقد روى المزني أيضًا: عن الشافعي، عن سفيان [عن] (¬4) عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يأمرنا إذا صلى المكتوبة وأراد أن يتنفل بعدها أن لا يتنفل حتى يتكلم أو يتقدم. وربما حدثه فقال: إذا صلى أحدكم المكتوبة ثم أراد أن يصلي بعدها، فلا يصلي حتى يتكلم أو يتقدم (¬5). وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن عبد الرحمن، أن عليًّا -رضي الله عنه- قال: من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل بعدها ست ركعات. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (282). (¬2) مسلم (883). (¬3) أبو داود (1129). (¬4) سقط من الأصل والاستدراك من رواية المزني في السنن المأثورة وهو الصواب. (¬5) السنن المأثورة (288).

الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -

الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرنا صفوان ابن سليم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يوم الجمعة فأكثروا الصلاة علي -وفي نسخة- يوم الجمعة وليلة الجمعة". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة". هكذا جاء الحديث مرسلًا من هذين الطريقين؛ لأن صفوان وعبد الله بن عبد الرحمن تابعيان جليلا القدر سمعا أنس بن مالك ورويا عنه. وعبد الله يكنى: أبا طوالة الأنصاري المديني، سمع منه مالك بن أنس. و"كان" في هذا الحديث تامة لا تحتاج إلى خبر، المعنى: إذا وجد ووقع يوم الجمعة. وقوله: "فأكثروا الصلاة علي" ما تحتاج إلى ضمير يعود إلى ضمير تقديره: فيه، ومثله قوله تعالى: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} (¬1) أي فيه. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الدعاء له، والوارد في الصلاة عليه ألفاظ كثيرة وأشهرها: اللهم صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. وقد تقدم ذلك في حديث التحيات فليطلب منه. قال الشافعي: قد بلغنا عن عبد الله بن أبي أوفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكثروا الصلاة علي في يوم الجمعة، فإني أبلغ وأسمع". قال: وتضعف فيه الصدقة، وليس مما خلق الله من شيء فيما بين السماء ¬

_ (¬1) البقرة: [48، 123] وصدرها [واتقوا يوما ...]. وجاءت بالأصل على رفع: "يوم".

والأرض، -يعني غير ذي روح- إلا وهو ساجد لله تعالى في عشية الخميس لليلة الجمعة حتى يصبح يوم الجمعة، فإذا أصبح فليس من ذي روح إلا روحه في حنجرته مخافة أن تغرب الشمس؛ فإذا غربت الشمس أمنت الدواب وكل شيء كان فزعًا منها غير الثقلين (¬1). قال الشافعي: وأحب كثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حال، وأنا في يوم الجمعة وليلتها أشد استحبابًا. قال: وأحب قراءة سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها لما جاء فيها. ... ¬

_ (¬1) وأخرجه عنه البيهقي في المعرفة (6671) وإسناده معضل كما ترى.

الباب الخامس في صلاة الخوف وأحكامها

الباب الخامس في صلاة الخوف وأحكامها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عمَّن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "وأن طائفة صفَّت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى لهم الركعة التي بقيت عليه، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم". وأخبرنا من سمع من عبد الله بن عمر بن حفص يذكر عن أخيه عبيد الله بن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات بن جبير، عن خوات بن جبير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه لا يخالفه. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بهذا الإسناد. وأخرجه في أخرى: عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح ابن خوات، عن سهل بن أبي حثمة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك وقال: عمن شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع. وفي أخرى: عن مسدَّد، عن القطان، عن يحيى بن سعيد مثل مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 164 رقم 1، 2). (¬2) البخاري (4129، 4131). (¬3) مسلم (842).

وقال: عمَّن صلى. وفي أخرى (¬1): عن عبيد الله بن معاذ العنبري، عن أبيه، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح، عن سهل. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن العنبري بإسناد مسلم وسمى سهلًا. وفي أخرى: عن القعنبي، عن مالك بإسناديه الأول والثاني. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن القطان بإسناد البخاري وسمى سهلًا. وأما النسائي (¬4): فأخرج الرواية الأولى: عن قتيبة، عن مالك. وفي أخرى: عن عمرو بن علي، عن القطان، عن شعبة بإسناد مسلم. فهؤلاء جميعهم قد وافقوا الشافعي على رواية الحديث عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلهم سموا سهلًا. وأما الرواية الثانية للشافعي: عن صالح بن خوات بن جبير؛ فلم يخرجها واحد منهم، فيحتمل أن يكون حديثًا آخر لأن خوات بن جبير صحابي. أو يكون الاختلاف عن القاسم بن محمد، فإن بعضهم رواه عنه [عن] (¬5) صالح، عن أبيه. وبعضهم عنه عن صالح، عن سهل كما تقدم -والله أعلم- قال الشافعي: قال الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا ¬

_ (¬1) مسلم (841). (¬2) أبو داود (1237، 1238). (¬3) الترمذي (565). (¬4) النسائي (3/ 170 - 171). (¬5) سقط من الأصل والاستدراك من المعرفة (5/ 14).

مَوْقُوتًا} (¬1) فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارك وتعالى تلك المواقيت، فصلى الصلوات لوقتها، فحوصر يوم الأحزاب فلم يقدر على الصلاة لوقتها فأخرها للعذر، حتى صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء في مقامٍ واحد. وذكر حديث أبي سعيد الخدري وقد تقدم ذكره في آخره. وذلك قبل أن ينزل الله في صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬2). قال الشافعي: فبين الخدري أن ذلك قبل أن ينزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية التي ذكر فيها صلاة الخوف، وقال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3) وقال {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬4) الآية. وذكر حديث صالح بن خوات ثم قال: فنسخ الله تعالى تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف، بأن صلوها كما أنزل الله تعالى وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقتها، ونسخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنته في تأخيرها بفرض الله تعالى في كتابه ثم سنته حين صلاها في وقتها. "وجاه" الشيء (بضم الواو بكسرها) وتجاهه (بالتاء المضمومة) كله بمعنى ما يقابله ويواجهه. "وصفت الطائفة معه": يريد أنها صارت معه صفا تقول: صف بالقوم يصفون وصففتهم أنا فاصطفوا: إذا أقمتهم صفًا. "ويوم ذات الرقاع": غزوة معروفة من غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي الغزوة السابعة من غزواته، وإنما سميت بذات الرقاع لما قاله أبو موسى الأشعري قال: ¬

_ (¬1) النساء: [103]. (¬2) البقرة: [239]. (¬3) النساء: [101]. (¬4) النساء: [102].

خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فتعقبت أقدامنا وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب من الخرق على أرجلنا" (¬1). والذي ذهب إليه الشافعي: أن صلاة الخوف معمول بها باق حكمها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإليه ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعن، وتابعي التابعين وغيرهم. وقال أبو يوسف: إنما كانت تختص صلاة الخوف برسول الله في حال حياته لقول الله -عز وجل-: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬2). وقال المزني: هي منسوخة. وأما كمية صلاة الخوف: فإن كانت في السفر فركعتان، وإن كانت في الحضر فأربع وبه قالت الجماعة، إلا ما حكي عن ابن عباس أنه قال: صلاة الخوف بكل طائفة ركعة والإِمام ركعتان. وبه قال الحسن، وطاوس، ومجاهد. وأما كيفية صلاة الخوف: فإن الإِمام يحرم بالطائفة الواحدة ويصلي بهم ركعة خفيفة، فإذا قام إلى الثانية وقف قائمًا ثم صلوا لأنفسهم ركعة أخرى وتشهدوا وسلموا وانصرفوا والإِمام قائم، وهل يقرأ أم لا؟ فيه خلاف، ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة الثانية ثم يجلس للتشهد، ويقومون فيصلون لأنفسهم ركعة أخرى ثم يلحقونه في التشهد فيسلم ويسلمون معه، فيحل للإِمام ركعتان، ولكل واحد من الطائفتن ركعتان. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4128). (¬2) النساء: [102].

وبهذا القول قال مالك وأحمد وداود، إلا أن مالكًا قال: إذا جلس للتشهد جلسوا معه وإذا سلم قاموا وصلوا لأنفسهم ركعة أخرى ثم سلموا. وقال أبو حنيفة: يصلي بإحدى الطائفتين ركعة ثم ينصرف إلى وجه العدو وهو في الصلاة، ثم تأتي الطائفة الأخرى إلى الإِمام فيصلي بهم الركعة الأخرى؛ ثم ترجع هذه الطائفة إلى وجه العدو وهي في الصلاة؛ ثم تأتي الطائفة الأولى إلى موضع الصلاة مع الإِمام فيصلي ركعة منفردة ولا يقرأ فيها. لأنها في حكم الائتمام، ثم ينصرف إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الأخرى إلى موضع الإِمام فتصلى الركعة الثانية منفردة؛ وتقرأ فيها لأنها فارقت الإِمام بعد فراغه من الصلاة. قال الشافعي: على من زعم أنها كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة إذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء فهو عام إلا بدلالة لا يكون شيء من فعله خاصة حتى تأتينا الدلالة من كتاب أو سنة أو إجماع أنه خاص ويكتفى بالحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمن بعده. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا الثقة ابن علية أو غيره، عن يونس، عن الحسن، عن جابر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخلة: فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاء بطائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي. فأما البخاري (¬1): فإنه أخرجه مفرقًا ومجموعًا، رواية وتعليقًا، في جملة حديث طويل ذكره في الغزوات، فأقرب ما في طرقه مما يشبه هذه الرواية أنه قال: وقال أبان: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع وذكر الحديث وفيه قال: وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتن، ثم أخروا وصلوا بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان ¬

_ (¬1) البخاري (4136).

للنبي - صلى الله عليه وسلم - أربع وللقوم ركعتان. وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عثمان، عن أبان، عن يحيى بن أبي كثير بإسناد البخاري ولفظه ولهما روايات كثيرة غير هذه. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزيبر، عن جابر. وفي الباب عن ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي هريرة وأبي بكرة، وعائشة. "الطائفة" من كل شيء: بعضه. قال الشافعي: أقل ما تكون الطائفة في صلاة الخوف ثلاثة لقوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (¬3) ثم قال: {فَإِذَا سَجَدُوا} (3) فخاطبهم بلفظ الجمع، والجمع أقله عنده ثلاثة. وقوله: "ثم جاء طائفة" فلم يثبت في "جاء" علامة التأنيث لأن الطائفة تأنيثها غير حقيقي، ومثله قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬4) وكما تقول: جاءني جماعة من الرجال، وجاءتني جماعة. وهذه الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كثيرة صحيحة لا مطعن فيها ورواتها ثقات، وفيها من الاختلاف ما لا خفاء به حتى في حديث جابر فإن الشافعي رواه فقال: صلى بإحدى الطائفتين ركعتين، ولذلك قال البخاري ومسلم في بعض طرقها، وفي بعض طرق مسلم والنسائي: "أنه صلى بكل طائفة ركعة" فحصل له ركعة، وقد صرح به النسائي في بعض طرقه قال: ¬

_ (¬1) مسلم (843). (¬2) النسائي (3/ 176). (¬3) النساء: [102]. (¬4) الأنعام: [157].

فكانت للنبي ركعتان ولهم ركعة. قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع وقد صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة وعلى أشكال متناسبة، يتوخى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها مؤتلفة المعاني. فأما توجيه قول الشافعي في روايته: أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة ركعتين وبطائفة ركعتين، وإنما صلى بكل طائفة ركعة فالمراد بذلك: أن كل طائفة ركعتين في حكم صلاته والائتمام به فجاز نسبة الركعتين إليه حيث كانت الثانية داخلة في حكم الأولى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أراه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر صلاة الخوف فقال: "إن كان خوفًا أشد من ذلك صلوا رجالا وركبانا مستقبل القبلة وغير مستقبلها". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا رجل، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه ولم يشك أنه عن أبيه وأنه مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. مثل هكذا رواه ما في كتاب "الرسالة" (¬1) وإنما أراد مثل معناه في كيفية صلاة الخوف دون صلاة شدة الخوف. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة، وقد تقدم تخريج طرقه في استقبال القبلة. وقد أخرجه الشافعي في القديم: عن مالك، عن نافع، أن ابن "عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإِمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو ثم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة ¬

_ (¬1) الرسالة (513، 514).

استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولم يسلموا، ثم يتقدم بالذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإِمام وقد صلى ركعتين فتقوم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة بعد أن ينصرف الإِمام، فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلوا ركعتين، فإن كان خوفًا أشد من ذلك صلوا قيامًا على أقدامهم، وركبانًا مستقبل القبلة وغير مستقبليها". قال مالك، قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: فإن قال: كيف أخذت بحديث خوات بن جبير دون حديث ابن عمر؟ قيل لمعنيين: موافقة القرآن وأن معقولًا فيه: أنه عدل بين الطائفتين. وأخرى: أن لا يصيب المشركون غِرة من المسلمين. قال في القديم: حديث خوات صحيح الإسناد ووجدناه أشبه الأقاويل بالقرآن، إذا زعمنا أن على المأموم ركعتين كما هما على الإِمام، فلم يذكر الله تعالى واحدة من الطائفتين يقضي ولم يكن نسيا، ووجد (¬1) علي بن أبي طالب -وهو ألزم شيء للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حروبه- صلى صلاة تشبه قولنا, ولم نجد صلاة أمنع لغرة العدو من هذه. قال الشافعي: فقال: فهل للحديث الذي تركت وجه غير ما وصفت؟. قلت: نعم. يحتمل أن يكون لما جاز أن يصلي صلاة الخوف على خلاف الصلاة في غير الخوف، جاز لهم أن يصلوها كيف تيسر لهم ومقدر حالاتهم وحالات العدو؛ إذا أكملوا العدد فاختلت صلالهم وكلها مجزئة عنهم. قال الشافعي: وقد روي حديث لا يثبت أهل العلم بالحديث مثله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بذي قَرَد بطائفة ركعة ثم سلموا، وبطائفة ركعة ثم سلموا، فكانت ¬

_ (¬1) في المعرفة (5/ 22): ووجدت.

للإمام ركعتين ولكل واحدة ركعة (¬1). قال الشافعي: وإنما تركناه لأن جميع الأحاديث في صلاة الخوف مجتمعة على أن المأمومين من عدد الصلاة ما على الإِمام، وكذلك أصل الفرض في الصلاة على الناس واحد في العدد، لأنه لا يثبت عندنا مثله لشيء في بعض إسناده، وحديث جابر لا وجه له إلا إذا كان العدو في القبلة، لأن فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صف صفين والعدو بينهم وبين القبلة، فلو كان العدو في دبر القبلة وصلوا كذلك لكان تعريضًا للتلف وركوبًا للخطر، وأما رواية صالح ورواية ابن عمر فلكل منهما ترجيح على الأخرى: أما ابن عمر: فإن فيها إثبات قضاء المأموم بعد فراغ الإِمام على ما أصلته الشريعة في سائر الصلوات. ورواية صالح فيها القضاء والإِمام في الصلاة وهذا خلاف الأصول. وفي رواية صالح: من الترجيح قلة العمل في الصلاة، ورواية ابن عمر تضمنت انصراف المأموم صلاة الخوف من قاتل أهل الشرك وكل جهاد كان مباحاً فخاف أهله، وذلك جهاد أهل البغي، وجهاد قطاع الطريق، ومن أراد مال رجل ونفسه أو حريمه. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد". ثم قال: حدثنا ابن عيينة عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد". هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4). ¬

_ (¬1) وتعقبه الحافظ في التلخيص (2/ 77) وقال: قلت: قد صححه ابن حبان وغيره، وذكر الحاكم منها ثمانية أنواع وابن حبان تسعة، وقال: ليس بينها تضاد، ولكنه صلي الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف مرارًا، والمرء مباح له أن يصلى ما شاء عند الخوف من هذه الأنواع، وهي من الاختلاف المباح، ونقل ابن الجوزي عن أحمد أنه قال: ما أعلم في هذا الباب حديثا إلا صحيحًا. (¬2) أبو داود (4772). (¬3) الترمذي (1418) وذكر اختلافًا في طرقه ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) النسائي (7/ 115 - 116).

القسم الثاني من كتاب الصلاة في النوافل

القسم الثاني من كتاب الصلاة في النوافل وفيه بابان: الباب الأول في النوافل المقرونة بالأوقات وفيه سبعة فصول: الفصل الأول ° في صلاة الوتر° أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا أبو يعفور، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت: "من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهى وتره إلى السحر". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الموطأ. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن (¬3) سفيان، وعن أبي بكر ابن شيبة وأبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم. ¬

_ (¬1) البخاري (96). (¬2) مسلم (745). (¬3) بالأصل [وعن] وزيادة الواو مقحمة.

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن مسلم. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثَّاب، عن مسروق. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي حصين، عن يحيى [عن] (¬4) مسروق. "الوتر": الفرد، وتفتح واوه وتكسر، والفتح لغة أهل الحجاز، أوتر إذا أفرد وصلاة الوتر معروفة. وقوله: "من كل الليل قد أوتر" من هاهنا بمعنى في، أي: في كل ساعات الليل قد صلى الوتر ولم يخص وقتًا بعينه من الليل، وحقيقة من هاهنا: أن تكون لابتداء الغاية أي: إن ابتداء وتره كان من الليل. وقولها: "من كل الليل" أي: ابتدأ من كل ساعة من ساعات الليل في الوتر. وقولها: "فانتهى" هذه الفاء للتعقيب، تريد أن وتره كان متصلًا غير منقطع، فكان في ساعات الليل وأنه لا يقطع الوتر ليلة من الليالي، فانتهى إلى السحر فكان يعاقب الليالي وساعاتها كأنها متصلة بغير تراخ، فلذلك جاء بفاء التعقيب. وتريد بالانتهاء إلى حين وفاته يدل عليه ما صرح به في رواية أبي داود والترمذي فإنهما قالا: "فانتهى وتره حتى مات إلى السحر"، وفي رواية ¬

_ (¬1) أبو داود (1435). (¬2) الترمذي (456) وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (3/ 230). (¬4) بالأصل [بن] وهو تصحيف والصواب هو المثبت.

البخاري وغيره "أوتر كل الليل" بحذف "من" ونصبه على الظرف. وقد بين أوقات الوتر في رواية مسلم والترمذي وأبي داود يقول "من أول الليل وأوسطه وآخره". والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن وقت الوتر بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وإن لم يكن له عادة التهجد، فإن [أوتر] (¬1) أول الليل ثم تهجد لم يعد الوتر. وقال مالك: والثوري وأصحاب الرأي: الوتر آخر الليل. قال الشافعي: وذلك مما وصفت من المباح له أن يوتر في الليل كله، واختار في سنن حرملة الوتر في آخر الليل وهو موافق رواية عائشة وابن عباس وزيد بن خالد الجهني. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة (¬2): عن عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريح، عن سليمان بن موسى، عن نافع، أن ابن عمر كان يقول: "من صلى من الليل فليجعل آخره وترًا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك، فإذا كان الفجر فقد ذهب صلاة الليل والوتر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أوتروا قبل الفجر". وقد أخرج الشافعي (¬3): فيما بلغه عن يزيد بن هارون، عن حماد، عن عاصم، عن [أبي] (¬4) عبد الرحمن، "أن عليًّا خرج حين ثوَّب المؤذن فقال: أين السائل عن الوتر؟ نعم ساعة الوتر هذه، ثم قرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) ¬

_ (¬1) بالأصل [أول] وربما وقع سهو من الناسخ، والمثبت هو مقتضى السياق. (¬2) انظر معرفة السنن والآثار (5300). (¬3) المعرفة (5306). (¬4) سقط من الأصل، والصواب إثباته، وأبو عبد الرحمن هو: عبد الله بن حبيب السلمي، وقد أخرج الأثر البيهقيُّ في موضعين في المعرفة كما مرّ، وفي السنن الكبير (2/ 479) بنحوه على الصواب كما أثبتناه.

وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}. وقد أخرج الشافعي من رواية "المزني" (¬1) عنه: عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب: "أن أبا بكر وعمر تذاكرا الوتر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو بكر: فأما أنا فأوتر في أول الليل، وقال عمر: أما أنا فأوتر في آخر الليل". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حذر هذا وقوي هذا". وفي رواية (¬2) قال الشافعي: حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: "متى توتر"؟. قال: قبل أن أنام أو قال: في أول الليل. وقال: "يا عمر، متى توتر"؟. قال: آخر الليل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أضرب لكما مثلًا؟ أما أنت يا أبا بكر فكالذي قال: أحرزت بهي وابتغى النوافل، وأما أنت يا عمر فتعمل بعمل الأقوياء" (¬3). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عتبة بن محمد بن الحارث أن كريبًا مولى ابن عباس أخبره أنه رأي معاوية صلى العشاء ثم أوتر بركعة واحدة لم يزد عليها، فأخبر ابن عباس قال: أصاب أي بني ليس أحد منا أعلم من معاوية هي واحدة أو خمس أو سبع إلى أكثر من ذلك، الوتر ما شاء الله". هذا حديث أخرجه البخاري (¬4): عن الحسن بن بشر، عن المعافى، عن عثمان ابن الأسود، عن [ابن] (¬5) أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (181). (¬2) السنن المأثورة (183). (¬3) قال أبو جعفر الطحاوي عقب هذه الرواية: بهي، يعني: سهمي. (¬4) البخاري (3764، 3765). (¬5) سقط من الأصل وهو ثابت عند البخاري وهو الصواب.

وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي أخرى: قال: أصاب إنه فقيه. قوله: "ليس أحد منا أعلم من معاوية" قول معناه على التواضع وهضم المرء من نفسه وتركه بعض حقه، وإلا فلا شبهة أن عبد الله بن عباس كان يصادم الصدر الأول من أكابر الصحابة وفقهائهم، وقد كان عمر رضي الله عنه يأخذ برأيه في الحوادث المشكلة عليه ويحضره مع أكابر الصحابة والسابقين، حتى إن عبد الرحمن بن عوف قال يومًا لعمر: أتداخله معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال: إنه من علمتم. وفضله لا ينكر، ولا سيما ومعاوية يومئذٍ الحاكم على المسلمين الواجب التوقير والتعظيم، وهذا دأب العلماء وأهل الفضل والمعرفة، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تفضلوني على يونس بن متى" وقال: "من قال: إنه خير من يونس بن متى فقد كذب" (¬1) ولا شبهه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير منه، وأولوا العزم من الرسل خير منه بالإجماع، ولكن هذا يذكر في معرض التواضع وترك الإنسان بعض ما يستحقه، ولا شبهة أن ابن عباس أفضل من معاوية نسبًا وإسلامًا وهجرةً وعلمًا, ولا يحل لأحد أن يحمل قول ابن عباس "أصاب معاوية" على التقية منه، فابن عباس كان أبعد الناس من أن يخاف معاوية في سكوته عن فعل أخطأ فيه، وكان أعلم وأورع من أن يقول لأصحابه في دين الله ما يعتقد خلافه. وقوله: "الوتر ما شاء" أي ما شاء المصلي أن يصليها. ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في صحيحه (3414، 3415) عن أبي هريرة مرفوعاً: " ... لا تفضلوا بين أولياء الله، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي، ولا أقول إن أحدًا أفضل من يونس بن متى" وفيه قصة وأخرجه مسلم (2373).

وأما قوله في النسخة الأخرى: "ما شاء الله" إن صحت الرواية به فيكون المعنى: ما قدر الله للعبد أن يصليه من أعداد الوتر. وقوله: "فإنه قد صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" يحتمل أنه أراد أنه صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يذكر ذلك في معرض التجهيل فإنه صحابي، وتجهيل الصحابة لا يجوز لاسيما وهو الإِمام يومئذٍ. "والفقيه": اسم فاعل من فَقُه يفقُه -بالضم فيهما- إذا صار فقيهًا أي: عالمًا عارفًا, وليس من فقِه -بالكسر- يفقه إذا علم. والفقه في الأصل: العلم، ثم جعله الاستعمال خاصًا بعلوم الشريعة، وأكثر ما يطلق على العالم بالفروع، وهذا فاش بين العلماء حتى قد صار كأنه موضوع في الأصل له لا يشاركه فيه غيره. والذي ذهب إليه الشافعي: أن صلاة الوتر أقلها ركعة واحدة وأكثرها إحدى عشر ركعة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة. وبه قال أحمد. ورويت الركعة عن عثمان، وسعد، وابن عباس، وابن عمر، ومعاوية، وزيد بن ثابت، والأشعري، وابن الزبير، وعائشة. وبه قال ابن المسيب، وعطاء، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، إلا أنهم قالوا: يصلي ركعتين ثم يوتر بواحدة. وقال مالك: الوتر ركعة وليس لما قبلها من الشفع حد وأقله ركعتان. وقال أبو حنيفة، والثوري: الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة لا يزيد عليها ولا ينقص منها. وروي ذلك عن عمر، وعلي، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وأبي أمامة، وعمر بن عبد العزيز.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن يزيد، عن خصيفة، عن السائب بن يزيد: أن رجلاً سأل عبد الرحمن التيمي عن صلاة طلحة؟ قال: إن شئت أخبرتك عن صلاة عثمان، قال: قلت لأغلبن الليلة على المقام، فقمت فإذا برجل يزحمني متقنعًا فنظرت فإذا هو عثمان، قال: فتأخرت [عنه فصلى] (¬1) فإذا هو سجد سجود القرآن حتى إذا قلت: هذه هوادي الفجر فأوتر بركعة لم يصل غيرها. هذا الحديث ذكره الشافعي مؤكدًا لجواز الإيتار بركعة واحدة. ورواه محمد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن عثمان بمعناه في صلاة عثمان. قال: فلما انصرف قلت: "يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة قال: هي وتري" (¬2). وهذا يرد قول من حمل فعل عثمان هذا على الوهم، لأنه لو كان ذلك منه سهوًا لتنبه له بقول عبد الرحمن ولأعاد الوتر ثلاثاً؛ ولكن قال: هي وتري، لعلمه بأن الوتر بركعة غير منكر. "والمقام" -بفتح الميم-: موضع القيام، والمراد به في الحديث: مقام إبراهيم خليل الرحمن -عليه السلام- الذي تجاه باب الكعبة. "فيه تقنعا": يريد مغطى الرأس وهو منصوب على الحال. وقوله: "فإذا رجل يزحمني" يريد أنه يزحمه على المقام ليصلي فيه. والباء في قوله: "برجل" زائدة تقول: خرجت فإذا زيد قائم وإذا به قائم، ويجوز: أن تكون غير زائدة وتكون للتسبب لأن معنى "فإذا زيد قائم" فقام جاء في قيام زيد، ومعنى فإذا زيد بقائم ففاجأني زيد بقيامه. وإنما قال: "لأغلبن الليلة على المقام" ليشاهد صلاة عثمان فيقتدي به فإنه يعلم أن عثمان إنما يصلي في المقام، فإذا من يزاحمه على المقام يحقق صلاة ¬

_ (¬1) بالأصل [منه صلى] والمثبت من مطبوعة المسند، وكذا معرفة السنن والآثار (4/ 60). (¬2) انظر المعرفة (1/ 60).

عثمان. وهوادي الفجر: أوائله، والهادي: العنق فاستعاره للفجر، وكذلك يقولون: أقبلت هوادي الخيل، يعنون أعناقها. وفي قوله: "فأوتر بركعة لم يصل غيرها" نظر؛ لأنه قال: إنه صلى وسجد سجود القرآن وهذا إثبات أنه (¬1) صلى غير هذه الركعة، فإن أراد أنه صلى الوتر ركعة واحدة مفصولة وقبلها ركعتان فذلك صحيح، وأما على التقدير الأول فلا. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب: "أن سعد بن أبي وقاص كان يوتر بركعة". هكذا جاء الحديث مرسلًا (¬2) وكذلك مالك في الموطأ (¬3). وأخرجه البخاري (¬4): مسندًا عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير -وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مسح عينه- "أنه رأى سعد بن أبي وقاص أوتر بركعة". وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك (¬5) مؤكدًا لبيان ما ذهب إليه من جواز الوتر بركعة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بخمس ¬

_ (¬1) زاد بالأصل بعد (أنه): [صلي الله عليه وسلم] وأرى أنها مقحمة وعادة المصنف الترضي عن الصحابة. (¬2) وذلك لأن الزهري لم يسمع من سعد شيئًا، فقد ولد الزهري قبل وفاة سعد ببضع سنوات على اختلاف في تحديد التاريخ. (¬3) الموطأ (1/ 121 رقم 21). وقال مالك عقبه: ولبس على هذا العمل عندنا, ولكن أدنى الوتر ثلاث. (¬4) البخاري (6356). (¬5) الأم (7/ 205).

ركعات لا يجلس ولا يسلم إلا في الآخرة منهن". هذا حدثنا صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن [] (¬2) عن مالك، عن هشام. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وابن نمير، عن عبد الله بن نمير، عن هشام إلا أنه قال: كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، ويوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيةء إلا في آخرها. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب عن هشام مثل مسلم. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن هشام. هذا الحديث مسوق لبيان جواز الوتر بخمس بتشهد وتسليم واحد. وفي رواية الشافعي وغيره من الأئمة المذكورين: "لا يجلس" بغير واو، وفي رواية النسائي: "ولا يجلس" بواو. والفرق بينهما: أنها مع حذف الواو تكون الجملة المنفية صفة لما قبلها أو في موضع الحال، التقدير: كان يوتر بخمس ركعات غير ذات جلوس فيها، أو كان يوتر بخمس غير جالس فيها. ¬

_ (¬1) البخاري (1170) بنحوه كما تقدم تخريجه. (¬2) بالأصل بياض، وقد أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك به. (¬3) مسلم (737). (¬4) أبو داود (1338). (¬5) النسائي (3/ 240).

وأما مع الواو: فيكون معطوفًا على ما قبلها والتقدير: كان يوتر ولا يجلس، أو تكون الواو للحال، التقدير: كان يوتر وهو غير جالس. والمراد بالجلوس في هذا الحديث: إنما هو الجلوس للتشهد. قال الربيع: قلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلة يسع أن يوتر بواحدة وأكثر ونختار ما وصفت من غير أن يضيق عليه. ولقد صدق -رضي الله عنه- وهذا هو الطريق عند أهل العلم في أحاديث الثقات أن يؤخذ بجميعها إن أمكن الأخذ به. ووتر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في عمره مرة واحدة حتى إذا اختلف الروايات في كيفيتها كانت متضادة، والأشبه أنه كان يفعلها على ممر الأوقات على الوجوه التي رواها هؤلاء الثقات، ويؤخذ بالجميع كما قال الشافعي (رضي الله عنه). وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: أخبرنا ابن علية، عن أبي هارون الغنوي، عن حطان بن عبد الله قال: "قال علي -رضي الله عنه - الوتر ثلاثة أنواع: فمن شاء أن يوتر أول الليل أوتر، و (¬1) إن استيقظ فشاء أن يشفعها أشفعها بركعة ويصلي ركعتين حتى يصبح ثم يوتر فعل، وإن شاء صلى ركعتين ركعتين حتى يصبح، وإن شاء أوتر آخر الليل" هذا الحديث ذكره الشافعي في كتاب "اختلاف علي وعبد الله" (¬2) وهو مما لم يروه الربيع عن الشافعي. قال الربيع: قلت الشافعي: أفتقول يشفع وتره؟ قال: لا. روينا عن ابن عباس أنه كره لابن عمر أن يشفع قال: لا روينا عن ابن عباس: من أوتر أول الليل صلى مثنى مثنى حتى يصبح، ثم ذكر هذا الحديث عن علي ¬

_ (¬1) كذا بالأصل بذكر حرف الجر (و) وفي المطبوعة (ثم) وكذا في "الأم" و"المعرفة" (4/ 83). (¬2) الأم (7/ 168).

وقال في آخره: وهم يكرهون أن ينقض وتره ويقولون: إذا أوتر صلى مثنى، أورده الشافعي في خلافهم عليًّا -رضي الله عنه-. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "كان يسلم بين الركعة من الوتر حتى يأمر ببعض حاجته". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا أبا داود. وأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ومتنًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم، والترمذي، والنسائي (¬3): فقد أخرجوا عن ابن عمر ما يدل على هذا المعنى بغير هذا اللفظ، وهو قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا أدرك الصبح فأوتر بواحدة". وهذا مثل هذا الحديث في المعنى لأنه إذا كانت الصلاة مثنى مثنى فقد سلم بين الركعتين. والذي ذهب إليه الشافعي في الوتر قد تقدم ذكره. وقد اختلف أصحابه أيما أولى ثلاث مفصولة بتشهدين وتسليمتين، أو ثلاث موصولة بتشهدين وتسليمة؟. فقال قوم: ثلاث موصولة أفضل؛ لأن الركعة الفردة ليست صلاة عند قوم فيتحرز عن شبهة الخلاف. وقال آخرون: ركعة فردة أولى من ثلاث موصولة؛ بل من إحدى عشرة ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 121 رقم 20). (¬2) البخاري (991). (¬3) مسلم (749)، والترمذي (461) بنحوه، والنسائي (3/ 133). قلت: وأخرجه أبو داود (1326) بنحوه.

موصولة؛ لأنه صح مواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - على المفردة في آخر التهجد. وقال آخرون: ثلاث مفصولة أفضل من ثلاث موصولة. فأما الإِمام فيستحب له الموصولة؛ لاختلاف اعتقاد المأمومين حتى تصح صلاتهم في كل مذهب. وقد أخرج الشافعي في القديم (¬1): عن رجل، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب -مولى ابن عباس- عن عبد الله بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل من الركعتين والركعة من وتره بسلام. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع قال: "كنت (¬2) مع ابن عمر بمكة والسماء متغيمة فخشي ابن عمر الصبح فأوتر بواحدة؛ ثم تكشف الغيم فرأى عليه ليلاً فشفع بواحدة". هذا حديث الموطأ (¬3) أخرجه بالإسناد وزاد: ثم صلى ركعتين ركعتين فلما خشي الصبح أوتر بواحدة. غامت الشمس وأغامت وتغيمت: إذا صار فيها الغيم وهو السحاب. وقوله: "فخشي الصبح" أي خشي أن يدركه الصبح قبل أن يوتر فأوتر بواحدة، فلما تكشف الغيم عرف أنه بعد ليل فعاد نقض الوتر بركعة، وهذا معنى قوله: "فعاد فشفع بواحدة" أي جعل الوتر شفعا. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا أوتر ثم عاد إلى الصلاة صلى شفعًا ولم يعد الوتر أخذًا بما كان يفعله الصديق أبو بكر - رضي الله عنه- وروي ذلك عن عمار بن ياسر، وسعد، وابن عباس، وعائذ بن عمرو، وعائشة. ¬

_ (¬1) انظر المعرفة للبيهقي (4/ 56). (¬2) في مطبوعة المسند: (قمت) وفي المعرفة (4/ 82) كما هو بالأصل. (¬3) الموطأ (1/ 121 رقم 19).

وبه قال النخعي، وطاوس، ومالك، والأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور. وقالت طائفة: إذا قام إلى الصلاة بعد الوتر صلى ركعة مفردة تشفع الوتر الذي صلى، ثم يصلي ما بدا له ثم يوتر في آخر صلاته. وروي ذلك عن علي، وعثمان، وابن مسعود، وابن عمر، وسعد، وابن عباس. وبه قال ابن سيرين، وإسحاق. وقال ابن عمر: إنما هو شيء أفعله برأيي لا أرويه عن أحد وقالت عائشة: ذلك الذي يلعب بوتره. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغه عن هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عبد الرحيم، عن زاذان أن عليًّا كان يوتر بثلاث يقرأ في كل ركعة بتسع سور من المفصل. قال الشافعي: وهم يقولون: يقرأ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} وأما نحن فنقول: يقرأ فيها بـ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ويفصل بين الركعتين والركعة بالتسليم. هذا أورده إلزامًا لهم في خلاف علي (رضي الله عنه) مع دعواهم موافقته. وقد روي عن عائشة إضافة المعوذتين إلى سورة الإخلاص (¬1). ¬

_ (¬1) يعني في الركعة الثالثة، وانظر هذه الرواية في المعرفة (1/ 86) للبيهقي.

الفصل الثاني في ركعتي الفجر

الفصل الثاني في ركعتي الفجر أخرج الشافعي من رواية المزني عنه قال: قال لنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن يحيى بن سعيد قال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن أنه سمع عمرة تحدث عن عائشة -رضي الله عنه- أنها كانت تقول: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتي الفجر فيخففها، حتى إني لأقول: هل قرأ بأم القرآن؟! ". هذا حديث متفق عليه أخرجه البخاري (¬1)، ومسلم (¬2)، ومالك (¬3) وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5). وذكره الشافعي في "سنن حرملة" وقال: هذا ثابت وبه نأخذ. قال: وإنما خفف ركعتي الفجر لتعجيل صلاة الفجر، وفي ذلك تأكيد لتعجيل صلاة الفجر بكل حال يمكن تعجيلها, ولولا ذلك المعنى كان كلما طال من صلاة المرء لنفسه أحب إلينا. وقد استحب في مختصر البويطي والربيع: أن يقرأ في ركعتي الفجر {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} قال: فإن قرأ غيرهما مع أم القرآن أجزأه إن شاء الله. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في "سنن حرملة": أخبرنا سفيان، ¬

_ (¬1) البخاري (1165). (¬2) مسلم (724/ 92). (¬3) الموطأ (1/ 123 رقم 30). (¬4) أبو داود (1255). (¬5) النسائي (2/ 156).

حدثنا زياد بن سعد، عن ابن أبي عتاب، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتي الفجر؛ فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يقوم إلى الصلاة". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). والشافعي -رحمه الله تعالى- يشير إلى أنه للفصل بن النافلة والفريضة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن قيس، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن جده قيس قال: "رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإني أصلي ركعتين بعد الصبح فقال: "ما هاتان الركعتان يا قيس؟! ". فقلت: إني لم أكن صليت ركعتي الفجر. فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي. أما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن نمير، عن سعد بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن قيس بن عمرو قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الصبح ركعتين" وفي نسخة "أربعًا" فقال الرجل: إنى لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلها فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن محمد بن عمرو السَّوَّاق، عن عبد العزيز بن محمد، عن سعد بن سعيد، عن جده قيس. وذكر الحديث وهذا الحديث لا ¬

_ (¬1) البخاري (1161). (¬2) مسلم (743). (¬3) أبو داود (1267). وقال: وروى عبد ربه ويحيى ابنا سعد هذا الحديث مرسلًا. (¬4) الترمذي (422) وقال: لا نعرفه إلا من حديث سعد بن سعيد وقال سفيان بن عيينة: سمع عطاء بن أبي رباح من سعيد بن سعيد هذا الحديث وإنما يروى هذا الحديث مرسلًا. وإسناد هذا الحدث ليس بمتصل، محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس.

يعرف إلا من حديث سعد بن سعيد، وإنما يروى هذا الحديث مرسلاً، ومحمد ابن إبراهيم لم يسمع ابن قيس. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن من فاته ركعتي الفجر يصليهما بعد الفريضة. ثم وقتها عنده فيه قولان: أحدهما: وهو ظاهر كلام الشافعي: أن وقتهما يمتد إلى زوال الشمس. والثاني: أنه يمتد إلى طلوع الشمس، لأنه وقت الصلاة التي هي متابعة لها. والنوافل المرتبة هل تسقط بفوات وقتها؟ فيه قولان أحدهما: لا تقضى وهو القديم، وبه قال مالك وأبو حنيفة. والثاني: تقضى عند ذكرها وإن كان في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها، فعلى هذا إذا فاته ركعتا الفجر يصليهما بعد صلاة الفجر. وبه قال ابن عمر، وطاوس، وعطاء، وابن جريج. وقال الأوزاعي وإسحاق: إذا طلعت الشمس.

الفصل الثالث في صلاة الليل

الفصل الثالث في صلاة الليل أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة، وقد اختلفت طرق رواياتهم له وكثرت كثرة زائدة طويلة وقصيرة ونحن نشير إلى بعضها. أما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا وزاد: فإذا فرغ اضطجع على شقه الأيمن. وفي أخرى: عن هشام، عن عروة وقال: ثلاث عشرة ركعة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري. وحديثه أتم. وأخرج رواية مالك: عن عبد الله بن يوسف عنه (¬3). وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن الزهري. وأمما أبو داود (¬5): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، عن الزهري. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك. وله في أخرى: ثلاث عشرة ركعة. ¬

_ (¬1) بالأصل زاد حرف الجر: (و) وحذفته ليستقيم السياق تراجع. قال معد الكتاب للشاملة: هذه الحاشية لم يشر إليها. (1) الموطأ (1/ 118 رقم 8)، (1/ 119 رقم 10). (¬2) البخاري (1123). (¬3) البخاري (1164) بلفظ: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ثلاث عشرة ركعة). (¬4) مسلم (736). (¬5) أبو داود (1335). (¬6) الترمذي (439) وقال: حسن صحيح.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن، عن مالك، عن الزهري. صلاة الليل نافلة مستحبة مندوب إليها، فكانت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضًا، وهي أفضل السنن بعد الوتر وركعتي الفجر ورواتب الفرائض، وأفضل الأعداد فيها: أن يصلي إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ثنتين ويوتر بالواحدة الآخرة. وأفضل أوقات التهجد: أن ينام نصف الليل الأول وسدسه الآخر؛ ويقوم ثلثه الذي بين نصفه وسدسه، هذا مذهب الشافعي. وإذا حققنا القول في عدد صلاة الليل فإنما اختلف في ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها مختلفة الأعداد، فتارة يجد خفة فيطيل وأخرى يختصر على قدر الحال. ومجموع صلاة الليل والوتر: تارة يعبر عنها بالوتر وتارة بصلاة الليل، فإن الوتر إنما هو الفرد وأقل الوتر الواحد؛ فإذا أضيفت إليه ركعتان كانت ثلاثًا وهي وتر؛ فإن زيد عليها ركعتان كانت خمسًا وهي وتر؛ وإن زيد عليها ركعتان كانت سبعًا وهي وتر؛ وإن زيد عليها ركعتان كانت تسعًا وهي وتر؛ وإن زيد عليها ركعتان كانت إحدى عشرة ركعة وهي وتر، وإن زيد عليها ركعتان كانت ثلاث عشرة ركعة وهي وتر هذا أقصى ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو حنيفة: إن شاء صلى صلاة الليل ركعتين ركعتين، وإن شاء صلى أربع ركعات، وإن شاء ست أو ثماني ركعات بتسليمة واحدة. وقال مالك وأحمد: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وقال أبو يوسف ومحمد: صلاة الليل مثنى مثنى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر ¬

_ (¬1) النسائي (3/ 234).

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الليل مثنى مثنى، وإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى". هذه الرواية أخرجها له الشافعي في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬1)، وأخرجها في كتاب "علي وعبد الله" (¬2) بهذا الإسناد أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وذكر الحديث. وقال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عمر مثله. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا أبا داود. أما مالك (¬3): فأخرجه بالإسناد وذكر الرواية الثانية. وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف عن مالك وعن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن سالم. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وعن حرملة، عن ابن وهب، عن عمرو، عن الزهري، عن سالم. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع. وأما النسائي (¬7): فأخرجه مثل الترمذي. "مثنى مثنى": اثنين اثنين يريد ركعتين ركعتين بتسليم ¬

_ (¬1) الأم (7/ 204). (¬2) الأم (7/ 186). (¬3) الموطأ (1/ 120 رقم 13). (¬4) البخاري (990، 1137). (¬5) مسلم (749) [145، 147]. (¬6) الترمذي (437) وقال: حسن صحيح. (¬7) النسائي (3/ 228).

في آخر كل ركعتين، ومثنى معدول عن اثنين اثنين فهي لا تنصرف للعدل المكرر فكأنها عدلت مرتين، مرة عن صيغة اثنين ومرة عن تكررها، وهي نكرة تعرف بلام التعريف تقول: المثنى وكذلك ثلاث ورباع. وقيل: إنما لم تنصرف للعدل والوصف تقول: مررت بقوم مثنى أي مررت بقوم اثنن اثنين، وموضعها رفع؛ لأنها خبر المبتدأ الذي قوله "صلاة الليل". وقوله: "يوتر له ما صلى" أي تجعل صلاته فردًا؛ لأن من صلى صلاة الليل ركعتين ركعتين وسلم بين كل ركعتين فإنها تكون جميع صلاته أزواجًا، فإذا صلى واحدة جعلت جميع صلاته أفرادًا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الأفضل عنده في النوافل في الليل والنهار أن يصلي ركعتين ركعتين بتسليمة -عقيب كل ركعتين- فإن صلى أربعًا أو أكثر بتشهيد واحد وبسلام واحد جاز، ويجوز أن يصلي شفعًا ووترًا، ويجوز أن يصلي بغير عدد. قال أبو حنيفة: صلاة النهار اثنين وأربع، وصلاة. الليل إن شاء صلى ركعتين. وقد تقدم شرح المذاهب في الحديث قبل هذا. وأخرج الشافعي في القديم عن بعض أصحابه، عن شعبة عن يعلي بن عطاء، عن علي الأزدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" (¬1). وقد أخرج الشافعي: عن سفيان، عن أبي لبيد، عن أبي سلمة، عن عائشة قال: سألتها عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: "كانت صلاته بالليل في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر". هذا حديث صحيح وقد أخرجه مسلم (¬2). ¬

_ (¬1) قال الحافظ الفتح (2/ 556): أكثر أئمة الحديث أعلوا هذه الزيادة وهي قوله (والنهار). بأن الحفاظ من أصحاب ابن عمر لم يذكروها عنه، وحكم النسائي على راويها بأنه أخطأ فيها، وقال يحيى ابن معين: من علي الأزدي حتى أقبل منه؟!!. (¬2) مسلم (736) [127].

الفصل الرابع في صلاة التراويح

الفصل الرابع في صلاة التراويح أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني (¬1) عنه قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة (¬2). قال الشافعي: إن صلى رجل لنفسه في بيته في رمضان فهو أحب إليَّ، وإن صلى في جماعة فحسن، وأحب إلى إذا كانوا جماعة أن يصلوا عشرين ركعة ويوتروا بثلاث. قال: ورأيت الناس يقومون بالمدينة تسعاً وثلاثين ركعة وأحب إلى عشرون (¬3). قال: وليس في شيء من هذا ضيق ولا حد ينتهي إليه، لأنه نافلة فإن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن وهو أحب إلي، وإن كثروا الركوع والسجود فحسن. أخرج الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن محمد بن يوسف، عن السائب بن يزيد قال: أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما (¬4) للناس بإحدى عشرة ركعة. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (168). (¬2) البخاري (37) ومسلم (759)، ومالك في الموطأ (1/ 113 رقم 2)، وأبو داود (1317)، والترمذي (808)، والنسائي (3/ 201 - 202) كلهم من طرق عن أبي هريرة به. (¬3) بالأصل [عشرين] وعشرون في محل رفع، وربما وقع ذلك خطأ من الناسخ، والمثبت هو الجادة. (¬4) بالأصل [يقوموا] وهو خطأ، فضمير الخطاب عائد على أبي وتميم، وهو في الموطأ كما سيأتي على الجادة، وكذا نقل البيهقي عنه في المعرفة (4/ 42).

قال: فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر. هذا الحديث أخرجه الموطأ (¬1)، وفي رواية القعنبي عنه "بزوغ الفجر" (¬2). ... ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 114) رقم 4). (¬2) انظر المعرفة (4/ 43).

الفصل الخامس في صلاة الضحى

الفصل الخامس في صلاة الضحى أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب حرملة: عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن [نوفل] (¬1)، عن أم هانئ "أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الفتح ثماني ركعات". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة (¬2)، فمن جملة طرقهم عن عبد الله بن الحارث، قال: سألت وحرصت على أن أجد أحدًا من الناس يخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبح سبحة الضحى، فلم أجد أحدًا يحدثني ذلك غير أم هانئ بنت أبى طالب، أخبرتني "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بعد ما ارتفع النهار يوم الفتح، فأتى بثوب فستر عليه، فاغتسل ثم قام فركع ثماني ركعات، لا أدري أقيامه فيها أطول أم ركوعه أم سجوده كل ذلك منه متقارب قالت: فلم أره سبحها قبل ولا بعد". وأخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان بن عيينة، عن أيوب، عن القاسم الشيباني، عن عبد الله بن أبي أوفى "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال: "إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال". هكذا روى سفيان بن عيينة، عن الشيباني، عن زيد بن أرقم. ¬

_ (¬1) بالأصل [مغفل] وهو تحريف، ولم أرى أحدًا نسبه هكذا في كتب الرجال ومصادر التخريج، وانظر تحفة الأشراف (12/ 452). (¬2) البخاري (357)، ومسلم (1/ 497 - 498 رقم 336)، ومالك في الموطأ (1/ 142 - 143 - رقم 27، 28)، وأبو داود (1290، 1291) والترمذي (474)، والنسائي في الكبرى (483 - 485).

وهو في صحيح مسلم (¬1) كذلك. "والفصال": جمع فصيل، الناقة. "والرمضاء": شدة الحر، ورمضت الفصال: إذا اشتد عليها الحر فآلم أخفافها. "والأوابين": جمع أواب وهو الراجع إلى الله بالتوبة والإنابة. ... ¬

_ (¬1) مسلم (748). قلت: إنما رواه سفيان بإثبات ابن أبي أوفى، ولم يذكر فيه زيدًا. قال البيهقي في المعرفة (4/ 97) -عقب سياقه الحديث من رواية زيد بن أرقم-: ورواه الشافعي في سنن حرملة، عن سفيان، عن أيوب، عن القاسم الشيباني، عن عبد الله بن أبي أوفى، وكذلك رواه جماعة عن سفيان، وهو مما غلط فيه سفيان فقال: عن ابن أبي أوفى بدل زيدًا اهـ. وأما مسلم فلم يخرجه من طريق سفيان، إنما رواه من طريق إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن القاسم، عن زيد له فتنبه.

الفصل السادس في أحاديث متفرقة تتعلق بصلاة النوافل

الفصل السادس في أحاديث متفرقة تتعلق بصلاة النوافل أخرج الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني (¬1) عنه قال: أخبرنا سفيان ابن عيينة قال: أخبرنا زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: "قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تورمت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟. قال: "أفلا أكون عبدًا شكورا". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) والترمذي (¬4) والنسائي (¬5). وقد أخرج الشافعي من رواية المزني (¬6) عنه قال: أخبرنا مالك وسفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد حتى يذهب عنه النوم؛ فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة (¬7). وأخرج الشافعي من رواية المزني (¬8) عنه: عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن حميد، عن أنس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى حبلًا ممدودًا بين ساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ فقالوا: لفلانة تصلي فإذا غلبت تعلقت به. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (84). (¬2) البخاري (130). (¬3) مسلم (2819). (¬4) الترمذي (412) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (3/ 219). (¬6) السنن المأثورة (30، 31). (¬7) البخاري (212)، ومسلم (786)، وأبو داود (1310) والترمذي (355) وقال: حسن صحيح، النسائي في الكبرى (154)، ومالك في الموطأ (1/ 116 رقم 3). (¬8) السنن المأثورة (32).

فقال: "لا تفعل لتصل ما عقلت فإذا غلبت فلتنم". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1)، وأبو داود (¬2)، والنسائي (¬3). قال الشافعي: هذا حديث ثابت وبهذا نأمر، لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة، وحديث أنس موافق له؛ ولما قال في حديث آخر: "اكلفوا من العمل ما لكم به طاقة". قال الشافعي: وذلك أن مخوفا على من تكلف ما لا طاقة له به السآمة حتى يدع قليل العمل وكثيره. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "القديم" قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن سفيان، عن قابوس [عن] (¬4) أبي ظبيان: "أن عمر بن الخطاب دخل المسجد فصلى ركعة فقيل له: ركعة؟! فقال: إنما هو تطوع من شاء زاد ومن شاء نقص". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه قال: حدثني من رأى أبا ذر يكثر الركوع والسجود فقيل له: أيها الشيخ! أتدرى أعلى شفع تنصرف أو على وتر؟! فقال: لكن الله يدري". قال الشافعي: وأخبرنا الثقفي، عن خالد الحذاء، عن رجل، عن مطرف قال: "أتيت [بيت] (¬5) المقدس فإذا أنا بشيخ كثير الركوع والسجود، فلما ¬

_ (¬1) البخاري (1150). (¬2) أبو داود (1312). (¬3) النسائي (3/ 218 - 219). (¬4) بالأصل [بن] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب، فقد نقل البيهقي هذا الأثر في المعرفة (4/ 73) -وعنه أخذ المصنف- عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، وفي سننه الكبير (3/ 24) بنحوه وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (7794) كما صححناه. قلت: والأثر إسناده ضعيف، أصحاب الشافعي مجاهيل، وأيضًا: قابوس بن أبي ظبيان ضعيف وانظر الميزان (3/ 367). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من المعرفة للبيهقي (4/ 74) وهو مقتضى السياق.

انصرف قلت: إنك شيخ وإنك لا تدري على شفع انصرفت أم على الوتر". قال: إني قد كفيت حفظه، وإني لأرجو أن لا أسجد لله سجدة إلا رفعني الله بها درجة، وكتب لي بها حسنة، أو جمعهما لي كلتيهما. قال عبد الوهاب: الشيخ الذي صلى وقال المقالة: أبو ذر. وأخرج الشافعي من رواية المزني (¬1) عنه: عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة "أنها لم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى صلاة الليل قاعدًا حتى أسن، فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع؛ قام فقرأ نحواً من ثلاثين أو أربعين آية ثم ركع". وبالإسناد (¬2) عن مالك عن أبي النضر -مولى عمر بن عبيد الله- وعبد الله يزيد، عن أبي سلمة، عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي جالسًا ويقرأ وهو جالس، فإذا بقي من قراءته قدر ما يكون ثلاثين آية أو أربعين قام فقرأ وهو قائم، ثم ركع ثم سجد، ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك". وبالإسناد (¬3) عن إسماعيل بن إبراهيم، عن الوليد بن أبي هشام، عن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام قدر ما يقرأ إنسان أربعين آية". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة (¬4). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني (¬5) عنه قال: أخبرنا ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (27). (¬2) السنن المأثورة (28). (¬3) السنن المأثورة (29). (¬4) أخرجه البخاري (1118، 1119)، ومسلم (731)، ومالك في الموطأ (1/ 131 رقم 22، 23) وأبو داود (953، 954) والترمذي (374)، والنسائي (3/ 220) كلهم من طرق عن عائشة بنحوه. (¬5) السنن المأثورة (26).

مالك، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، عن المطلب بن أبي وداعة، عن حفصة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبحة (¬1) قاعدًا قط، حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعدًا يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها". هذا حدثنا صحيح أخرجه مسلم (¬2)، والموطأ (¬3) والترمذي (¬4)، والنسائي (¬5). "السبحة": صلاة النافلة. "والترتيل": التأني في القراءة. ... ¬

_ (¬1) في السنن المأثورة بلفظ: (صلى في سبحته) وكذا جاء في مصادر التخريج الآتي ذكرها بهذا اللفظ. (¬2) مسلم (733). (¬3) الموطأ (1/ 131 رقم 21). (¬4) الترمذي (373) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (3/ 223).

الفصل السابع في صلاة العيدين

الفصل السابع في صلاة العيدين وفيه عشرة فروع: الفرع الأول في غسل العيد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬1) بالإسناد إلى قوله: المصلى. وقد أعاد الشافعي "يوم الفطر" في روايته مرة ثانية، فإن صحت الرواية بذلك يكون تأكيدًا في البيان وتكون الأولى متعلقة بقوله: "يغتسل" والثانية متعلقة "بالمصلى" أي: قبل أن يغدو إلى المصلى يوم المنير بيانًا أنه إنما يريد مصلى العيد لا مصلى غير العيد. وغسل العيد مستحب عند الشافعي لمن يريد حضور العيد ومن لا يريد بخلاف الجمعة؛ لأن غسل العيد يستحب لأمرين: أحدهما: لأجل الصلاة. والثاني: لإظهار الزينة. فمن لم يحضر استحب له لأجل المعنى الآخر. ووقت الغسل: بعد طلوع الفجر، وقيل: قبله لضيق الوقت بخلاف الجمعة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرني يزيد ابن أبي عبيد -مولى سلمة بن الأكوع- عن سلمة بن الأكوع: أنه كان يغتسل يوم العيد. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 160 رقم).

هذا الحديث أعم في باب الفضل من حديث ابن عمر، لأنه قال في هذا الحديث: يوم العيد، فيشمل عيد الفطر وعيد الأضحى، وحديث ابن عمر خصه بيوم الفطر. وفي قوله: "يوم العيد" دليل على أن الغسل بعد طلوع الفجر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه: "أن عليًّا -رضي الله عنه- كان يغتسل يوم العيدين، ويوم الجمعة، ويوم عرفة، وإذا أراد أن يحرم" هذا الحديث مرسل (¬1). والأغسال المسنونة: هي غسل الجمعة، والعيدين، والإحرام، والوقوف بعرفة، ومزدلفة، ودخول مكة، وأيام التشريق، وطواف الوداع، والكافر إذا أسلم، وبعد الإفاقة من زوال العقل. وقد أخرج الشافعي: عن إبراهيم، عن صالح بن محمد بن زائدة، عن عروة ابن الزبير قال: السنة أن يغتسل يوم العيدين. وأخرج الشافعي: عن الثقة، عن الزهري، عن ابن المسيب أنه قال: الغسل في العيدين سنة. وكان يغتسل يوم العيد إذا غدا إلى المصلى. قال الشافعي: كأن مذهب سعيد وعروة في الغسل في العيد سنة أنه أحسن وأنظف وأنه قد فضله قوم صالحون لا أنه حتم بأنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) وأيضًا إبراهيم بن محمد، متروك.

الفرع الثاني الزينة والخروج إلى الصلاة والرجوع

الفرع الثاني في الزينة والخروج إلى الصلاة والرجوع أخبرنا إبراهيم قال: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يلبس برد حبرة في كل عيدٍ". "البرد": من ثياب اليمن معروف. "والحبرة" (بكسر الحاء وفتح الباء): ما كان من البرود موشيًا منقوشًا. ويستحب أخذ الزينة يوم العيد بالغسل والتنظيف واللباس. قال الشافعي: وأستحب ذلك للإمام أكثر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا إبراهيم قال: حدثني جعفر ابن محمد قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتمر في كل عيد". وقد روى الحجاج بن أرطاة: عن أبي جعفر، عن جابر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة". قال الشافعي: وبلغنا أن الزهري قال: "ما ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيد ولا جنازة قط". وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: من السنة أن تأتي العيد ماشيًا ثم تركب إذا رجعت. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن [محمد] (¬1) قال: حدثني خالد بن رباح، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم، فإذا رجع [رجع] (¬2) من ¬

_ (¬1) بالأصل [أحمد] وهو تصحيف والصواب هو المثبت، وكذا في مطبوعة المسند (466)، وفي الأم (1/ 233) قال: [أخبرنا إبراهيم] ولم ينسبه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت من مطبوعة المسند (466)، والأم (1/ 233).

الطريق الأخرى على دار عمار بن ياسر. هذا حديث مرسل، المطلب بن عبد الله تابعي مشهور روى عن أبيه وأبوه صحابي. "والطريق": تذكَّر وتؤنث وقد جمع في هذا الحديث بينهما فقال: "الطريق الأعظم" فذكَّر، ثم قال: الطريق الأخرى فأنث. والسنة أن يغدو إلى العيد في طريق فيعود في أخرى. قالوا: إنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الزحام كان في الطريق الأعظم، فتركه توسعًا على الناس. وقيل: إنما فعله ليتبرك به أهل الطريقين يشاهدوه، وقيل: لتكتب خطأه وتشهد له بها الطريقان. وقيل: إنه كان يتصدق في ذهابه ورجوعه فيخالف بين الطريقين لتصل الصدقة إلى من فيهما. وقيل: لغيظ المنافقين ممن لم يسلك الطريق الأعظم. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وأحب أن يصنع الإمام مثل هذا، وأن يقف في موضع فيدعو الله مستقبل القبلة، وأحب ذلك للمأموم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني معاذ بن عبد الرحمن التيمي، عن أبيه، عن جده "أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع من المصلى في يوم عيد فسلك على التمارين في أسفل السوق حتى إذا كان عند مسجد الأعرج -الذي عند موضع البركة التي بالسوق- قام فاستقبل فج أسلم، فدعا ثم انصرف". هذا حديث مسند (¬1)، معاذ تابعي، وأبوه عبد الرحمن وجده صحابيان ¬

_ (¬1) نعم هو مسند، لكن إسناده ضعيف، وآفته: إبراهيم بن محمد وهو متروك الرواية" كما مر.

واسم جده: عثمان بن عبد الله التيمي وهو أخو طلحة بن عبيد الله. "السلوك في الطريق": المشي فيها من قولك: سلكت الخيط في الإبرة إذا أدخلته فيها. "والتمارون": جمع تمار وهو بائع التمر، وهذا من أبنية النسب الذي استغني بها عن يأئى النسب اللتين في تمري، وكما قالوا في النسب إلى التمر: تأمر وإلى اللبن لابن ونحو ذلك. "والسوق": معروفة تذكر وتؤنث وكأن التأنيث فيها أكثر. ***

الفرع الثالث في وقت الصلاة وموضعها

الفرع الثالث في وقت الصلاة وموضعها أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني أبو الحويرث الليثي "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عمرو بن حزم وهو بنجران: "أن عجل الأضحى، وأخر الفطر، وذكِّر الناس". هذا حديث مرسل (¬1). قوله: "عجل الأضحى وأخر الفطر" كلام فيه مضاف محذوف تقديره: عجل صلاة الأضحى وأخر صلاة الفطر. والسنة في صلاة العيد يوم الفطر أن تؤخر، ليخرج الناس صدقة الفطر قبل الصلاة فإنه أولى، وأن يعجل يوم الأضحى لأجل الأضحية وليأكل الناس من لحوم أضاحيهم لأن وقت التضحية بعد الصلاة وذكّر الناس: أي عظهم يعني: الخطبة. وفي هذا دليل على أن الخطبة بعد الصلاة. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا الثقة، أن الحسن كان يقول: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغدو إلى الأضحى والفطر حين تطلع الشمس فيتتام طلوعها". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع: "أن ابن عمر كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيدين بالمصلى لم يصل قبلهما ولا بعدهما شيئًا، ثم انفتل إلى النساء ¬

_ (¬1) أبو الحويرث هو: عبد الرحمن بن معاوية، لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الحافظ في "التقريب": صدوق سيئ الحفظ رمي بالإرجاء من السادسة. وضعف إسناده الحافظ انظر التلخيص (3/ 83).

فخطبهن قائمًا وأمر بالصدقة، قال: فجعل النساء يتصدقن بالقرط وأشباهه". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الموطأ. وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن سليمان بن حرب، عن شعبة، عن عدي بالإسناد وذكر نحوه. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن عبيد الله بن معاذ العنبري (¬3)، عن شعبة، عن عدي نحوه وقالا: "فجعلت المرأة تلقى خرصها وسخابها". ولهما روايات أخرى كثيرة. وأما أبو داود (¬4) عن حفص بن عمر، عن شعبة بالإسناد. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن محمود بن غيلان [عن] (¬6) أبي داود الطيالسي، عن شعبة. وأما النسائي (¬7): [فأخرجه عن عبد الله بن سعيد الأشج عن ابن إدريس، عن شعبة] (¬8). وفي الباب عن عبد الله بن عمر، وأبي سعيد. "القرط": من حلي الأذن معروف، وهو ما علق في شحمة الأذن من ذهب أو فضة وقد يكون فيه خرز وفصوص، والجمع قرطة بوزن عنبة وقراط بوزن حمار. ¬

_ (¬1) البخاري (964) (¬2) مسلم (884) (¬3) حدث به عبيد الله -كما في رواية مسلم- عن أبيه، عن شعبة (¬4) أبو داود (1159) (¬5) الترمذي (537) (¬6) بالأصل وضع [و] العطف وهو خطأ، ومحمود يروي عن أبي داود الطيالسي، وعند الترمذي بلفظ التحديث. (¬7) النسائي (3/ 193) (¬8) بالأصل [فأخه .....] ثم بياض بقدر خمس كلمات. والمثبت من رواية النسائي.

"والخريص" (بالضم والكسر): الحلقة من الذهب أو الفضة وهو حلي العرب، ويجمع على خرصان. "والسخاب": قلادة من مسك وغيره من الطيب وليس فيهما من الجوهر شيء. قاله الجوهري. والجمع: سخب وقيل: إنه القلادة من الخرز يلبسها الصبيان والجواري. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-: عن إبراهيم بن محمد قال: أخبرني جعفر بن محمد، عن رجل: أن أبان بن عثمان صلى بالناس في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر في يوم مطير في يوم فطر. قال: وحدثني إبراهيم قال: حدثني صالح بن محمد بن زائدة: أن عمر بن الخطاب صلى بالناس في يوم مطر في المسجد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روى عبيد الله التيمي، عن أبي هريرة أنهم أصابهم مطر في يوم عيد فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغه عن ابن مهدي، عن شعبة، عن محمد بن النعمان، عن أبي قيس الأودي، عن هذيل: أن عليًّا -رضي الله عنه- أمر رجلاً أن يصلى بضعفة الناس يوم العيد أربع ركعات في المسجد. وفي ما بلغه: عن أبي أحمد الكوفي، عن سفيان، عن أبي قيس، عن هذيل، عن علي مثله. وعن ابن علية، عن ليث، عن الحكم، عن ابن المعتمر أن عليًّا قال: صلوا يوم العيد في المسجد أربع ركعات؛ ركعتان للسنة وركعتان للخروج. قال: وقال ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق: أن عليًّا أمر رجلاً يصلي بضعفة الناس يوم العيد في المسجد ركعتين. فيحتمل أن يكون المراد بالأول: ركعتين مفصولتين تحية المسجد، وركعتين أخرتين للعيد والله أعلم-.

الفرع الرابع في أن الصلاة قبل الخطبة

الفرع الرابع في أن الصلاة قبل الخطبة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أيوب السختياني قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت ابن عباس يقول: "أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى قبل الخطبة يوم العيد ثم خطب، فرأى أنه لم يسمع النساء فأتاهن فذكرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة، ومعه بلال قائل بثوبه هكذا فجعلت المرأة تلقى الخرص والشيء". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان؛ فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة". وفي أخرى: قال ابن جريج: عن الحسن بن [مسلم] (¬2)، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "شهدت الفطر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان يصلونها قبل الخطبة ثم يخطب ثم ذكر نحو موعظة النساء والصدقة". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر، عن سفيان بإسناد الشافعي ولفظه، إلا أنه قال: "أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلى قبل الخطبة". ¬

_ (¬1) البخاري (989) (¬2) بالأصل [مسلمة] وهو تصحيف، وقد تقدم في الرواية السابقة على الصواب، وانظر صحيح البخاري. (¬3) مسلم (2/ 602 رقم 884) [2].

وأما أبو داود (¬1)، فأخرجه عن حفص بن عمر، وابن كثير، عن شعبة، عن أيوب بالإسناد: "أنه خرج يوم الفطر فصلى ثم خطب ثم أتى النساء ومعه بلال وفيه: فأمرهن بالصدقة فجعلن يلقين". وفي أخرى (¬2) قال: فقسمه على فقراء المسلمين. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن أيوب بالإسناد. هذا الحديث وإن كان طريقًا من طرق حديث عبد الله بن عباس الذي قبل هذا، إلا أن ذلك مسوق لبيان أنه صلى صلاة العيد بالمصلى، وهذا مسوق لبيان تقديم الصلاة على الخطبة، وفي الرواية الأولى حكم التنفل يوم العيد، وسيرد فيما بعد ذكر ذلك. قوله: "فبلال قائل بثوبه هكذا" يعني أنه عطف طرف ثوبه إلى ما يلي وجهه، ليصبر كالوعاء الحافظ لما يقع فيه. "والخرص": قد تقدم بيانه. "والشيء": كناية عن الموجودات العامة، فكلما تصدقن به أطلق عليه اسم الشيء، فلذلك جاء باللفظ العام، وقد تقدم بيان ذكر إطلاق هذه اللفظة على المعدوم والاختلاف فيه. واللام في رواية مسلم في قوله: "ليصلي" جواب القسم الذي دل عليه قوله: "أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" ومثله قول امرئ القيس: حَلَفَتُ لها بالله حِلْفَة فاجِر ... لناموا فما إن مِنْ حديث ولا صال وفي رواية أبي داود: "فجعلن يلقين" ولم يذكر الشيء الملقى لدلالة اللفظ عليه، لأنه قال: "وعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة، ثم قال: فجعلن يلقين" أي يتصدقن ويلقين إليه ما معهن، وحذف المفعول في العريية لأنه فضلة والعلم ¬

_ (¬1) أبو داود (1142). (¬2) أبو داود (1144). (¬3) النسائي (3/ 184).

به وهو في حذفه على ضربين: الأول: أن يحذف لفظًا ويراد معنى وتقديرًا، نحو قوله تعالى: {الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (¬1) التقدير: ويقدره ليعود الضمير إلى الرزق، وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬2) يريد السيئة. الثاني: أن يحذف ويجعل الحذف منسيًّا؛ حتى كان فعله من جنس الأفعال غير المتعدية؛ كما ينسى الفاعل عند بناء الفعل لما لم بسم فاعله، وذلك مثل قولهم: فلان يعطى ويمنع ويصل ويقطع، وعليه قوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي} (¬3). والذي ذهب إليه الشافعي: أن الصلاة يوم العيد قبل الخطبة، وعليه إجماع المسلمين إلا ما روي عن مروان بن الحكم أنه صلى بعد الخطبة. وسيرد ذكر ذلك في حديث أبي سعيد الخدري، وقد روى عن عثمان بن عفان أنه خطب ثم صلى لما كثر الناس على عهده، وكذلك روي عن عبد الله ابن الزبير. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني أبو بكر بن عمر بن عبد العزيز، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون في العيدين قبل الخطبة". وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان مثله. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي. ¬

_ (¬1) الرعد: [26]. (¬2) المؤمنون: [96]. (¬3) الأحقاف: [15].

فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبي أسامة [عن] (¬2) عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر لفظ الشافعي الأول. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبدة بن سليمان وأبي أسامة مثل البخاري. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن محمد بن المثنى، عن أبي أسامة بالإسناد. وهذا الحديث مسوق لبيان حديث ابن عباس تأكيدًا له وتثبيتًا للعمل به. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني داود بن الحصين، عن عبد الله بن يزيد الخطمي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يبدؤن بالصلاة قبل الخطبة، حتى قدم معاوية فقدم معاوية الخطبة". هذا الحديث مسوق لبيان تأكيد ما سبق من تقديم الصلاة على الخطبة؛ وأن ذلك لم يزل من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى آخر زمن عثمان -رضي الله عنه- وأن أول من قدم الخطبة معاوية. ويريد بقوله "حتى قدم معاوية" قدومه إلى المدينة، لأن عبد الله بن يزيد الخطمي صحابي أنصاري، وإنما قديمة معاوية المدينة في حال خلافته. والذي جاء في الصحيح في حديث أبي سعيد الخدري: أن أول من قدمها مروان على أنه قد يمكن الجمع بين الحديثين: وذلك أن مروان كان أميرًا على المدينة لمعاوية، فيكون معاوية قد أمره بتقديم الخطبة فنسب أبو سعيد التقديم إلى مروان؛ لأنه المباشر للتقديم، ونسبه عبد الله بن يزيد إلى معاوية لأنه الذي أمر به. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد وقال: ¬

_ (¬1) البخاري (963). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والصواب إثباته وكذا في رواية البخاري، وأبو أسامة هو: حماد ابن أسامة يروى عن عبيد الله. (¬3) مسلم (888). (¬4) الترمذي (531) وقال: حسن صحيح.

حدثني محمد بن عجلان، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أن أبا سعيد الخدري قال: أرسل إلى مروان وإلى رجل قد سماه فمشى بنا حتى أتى فذهب ليصعد فجبذته إليَّ فقال: يا أبا سعيد، تُرك الذي تعلم، فقال أبو سعيد: فهتفت ثلاث مرات وقلت: والله لا تأتون إلا شرًّا منه". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال حدثني زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله بالإسناد قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي يوم الفطر والأضحى قبل الخطبة". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم. وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن سعيد بن أبي مريم، عن محمد بن جعفر، عن زيد [عن] (¬2) عياض بالإسناد قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، فقال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة من أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلى فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له: غيرتم والله فقال: يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر عن إسماعيل ابن جعفر، عن داود بن قيس، عن عياض ¬

_ (¬1) البخاري (956). (¬2) بالأصل [بن] وهو تصحيف. (¬3) مسلم (889).

بنحو لفظ البخاري، وفي آخره قلت: كلا والذي نفسي بيده لا يأتون بخير مما أعلم -ثلاث مرار- ثم انصرف. وقد أخرج النسائي (¬1) طرفًا من أول رواية البخاري، ولم يتعرض لذكر مروان والخطبة. وكذلك قد أخرج أبو داود (¬2) طرفًا؛ يتضمن ذكر تقديم الخطبة وليس من هذا الحديث. وهذا الحديث أيضًا مسوق لما سبق إليه حديث أبي عبد الله بن يزيد الخطمي، وقد تقدم ذكره وأن مروان هو أول من قدم الخطبة على الصلاة، وبينا وجه الجمع بين الحديثين. "والجبذ": لغة الجذب، وقيل: مقلوب منه. وقوله: "ترك الذي يعلم" أي ترك العمل بما يعلمه من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده. "والهتف": الصوت تقول: هتف به يهتف هتفًا وهتافًا، أي: صاح به. وقوله: "لا يأتون إلا شرًّا منه" يريد شراً مما أعلم، ويجوز أن يكون أراد: لا يأتون إلا شرًّا من هذا الفعل الذي قد فعلته وهو تقديم الخطبة على الصلاة؛ لأن من أقدم على تغيير سنة جارية معمول بها متصلة أقدم على ما هو مثلها وأعظم منها لأن منتهك الحرمة يجرئه انتهاكه على مباشرة أمثالها وما هو أكثر منها. ولقائل أن يقول: إن قوله: "لا يأتون إلا شرًّا منه". للتفضيل ويدل ذلك على أن فيما كان يعلمه أبو سعيد شرًّا حتى قال: شرا منه. والجواب عن ذلك: أن هذا باب واسع في العربية كثير الاستعمال وهو في القرآن العزيز كثير، فإن أفعل وان كان موضوعًا للتفضيل والتفضيل لا يكون ¬

_ (¬1) النسائي (3/ 187). (¬2) أبو داود (1140).

إلا بعد الاشتراك في الوصف الذي انفرد الأفضل بزيادة فيه على المفضول، نحو زيد أحسن من عمرو، فقد اشترك في الحسن وزاد حسن زيد على عمرو بما فضل به عليه. فاعلم أن العرب قد اتسعت في لغتها وأطلقت أفعل على ما لم يقع فيه الاشتراك، قالوا: الثلج أبيض من القار، والعسل أحلى من النحل، وعليه قول الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (¬1). وقوله عز وجل: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} (¬2). وهذا التفضيل وإن أهل الجنة والنار لا خير فيها. وقيل: إن هذا على طريق المظاهرة في الاحتجاج، أي: لو كان لأهل النار مستقر خير لكان هذا خيرًا منه. وقيل: الجنة والنار قد دخلا في باب المنازل في صنف واحد فوقع التفضيل في ذلك. وعلى كلا التقديرين يحمل قوله: "شرا منه" والله أعلم. "والبعث": طائفة من الجند يبعثون في سرية. وقطعهم: أفرادهم من العسكر الأعظم. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم: عن مالك، عن ابن شهاب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[كان] (¬3) يصلي يوم الفطر ويوم الأضحى قبل الخطبة". قال: وأخبرنا مالك أنه بلغه أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك. وقد أخرج الشافعي من رواية المزني (4): عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي ¬

_ (¬1) الفرقان: [24]. (¬2) الفرقان: [15]. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط الأصل، والمثبت من المعرفة للبيهقي (5/ 83 - 84). (4) السنن المأثورة (180).

عبيد -مولى ابن أزهر- أنه قال: "شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صومهما يوم فطركم من صيامكم، والآخر يوم تأكون فيه من نسككم، قال أبو عبيد: ثم شهدت العيد مع عثمان بن عفان فجاء فصلى ثم انصرف فخطب فقال: إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فليرجع فقد أذنت له". قال أبو عبيد: "ثم شهدت العيد مع علي بن أبي طالب -وعثمان محصور- فجاء فصلى ثم انصرف فخطب". هذا حديث صحيح قد أخرجه الجماعة (¬1)، وقد أخرج الشافعي أيضًا منه طرفًا وسيرد في موضعه بطرقه. ... ¬

_ (¬1) مالك في الموطأ (1/ 161 رقم 5)، والبخاري (1990). ومسلم (1137)، وأبو داود (2416) والترمذي (771). كلهم عن الزهري به. قال الترمذي: حسن صحيح.

الفرع الخامس في تكبيرات الصلاة

الفرع الخامس في تكبيرات الصلاة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني جعفر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كبروا في العيدين والاستسقاء سبعًا وخمسًا، وصلوا قبل الخطبة وجهروا بالقراءة". قال الشافعي: يكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرات الإحرام، وفي الثانية. خمسًا سوى تكبيرة النهوض. وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة. وبه قال الليث، والأوزاعي، وداود، وقال مالك، وأحمد، والمزني، وأبو ثور مثلهم، إلا أنهم جعلوا تكبيرة الإحرام من السبع. وقال أبو حنيفة: الزوائد ست، ثلاث في الأولى وثلاث في الآخرة. وروي ذلك عن ابن مسعود. وقال الثوري: الزوائد أربع أربع. وروي ذلك عن حذيفة، وأبي موسى، وابن الزبير، وابن مسعود. وقال النخعي: الزوائد تسع تسع. وروي ذلك عن ابن عباس، والمغيرة، وأنس، وابن المسيب. وأما الجهر بالقراءة فيها فهو إجماع المسلمين. وروي ما ذهب إليه الشافعي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كان يكبر في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة".

قال أبو عيسى الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث؟. فقال: ليس في هذا الباب شيء أصح من هذا وبه أقول، قال: وحديث عمرو بن شعيب في هذا الباب هو صحيح أيضًا (¬1). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: حدثني إبراهيم بن محمد، عن إسحاق بن عبد الله، عن عثمان بن عروة، عن أبيه: "أن أبا أيوب وزيد بن ثابت أمرا مروان أن يكبر في صلاة العيدين سبعًا وخمسًا". وهذا الحديث مؤكد لما سبق، وهو موقوف على أبي أيوب وزيد بن ثابت وهما صحابيان، لأن قوله: "أمرا مروان" يدل على أن الأمر منهما، وجائز أن يكونا أمراه بأن أخبراه به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرا علة أمرهما إياه بالإخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مالك، عن نافع -مولى ابن عمر- قال: "شهدت الفطر والأضحى مع أبي هريرة فكبر في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي آخره خمس تكبيرات قبل القراءة". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬2) في الموطأ إسنادًا ولفظًا. قال الشافعي في القديم: وقال بعض الناس: يكبر أربعًا في الأولى بالتي يفتتح بها الصلاة، ثم يقرأ ثم يكبر فيركع ثم يقوم فيقرأ ثم يكبر أربعًا. وعاب علينا قولنا وزعم أنَّا إنما رويناه عن غير أبي هريرة، قال: قول ابن مسعود أحق أن يؤخذ به. فقيل له: إن تكبيرة العيدين من الأمر الذي لا يجهله العلماء ولا نحسب ابن ¬

_ (¬1) العلل الكبير (93 - 95). وقال البخاري في آخر كلامه: والصحيح ما روى مالك، وعبد الله، والليث، وغير واحد من الحفاظ عن نافع، عن أبي هريرة فِعْله. قلت: وفي نصب الراية (2/ 218) نقل عن الإِمام أحمد قوله: ليس في تكبير العيدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح وإنما أخذ مالك فيها بفعل أبي هريرة. (¬2) الموطأ (1/ 162 رقم 9).

مسعود يخالف فيه أصحابه ولو فعل -رحمة الله عليه- لأن الثابت عندنا من أهل الأمانة قول أهل المدينة، ولو لم يكن عندنا فيه إلا فعل أبي هريرة تكبيره في دار الهجرة والسنة وبين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع علمه وعلمهم به، علمنا أنه لم يكبر بهم خلاف تكبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله- ولو خفي علينا تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - علموه إياه أنكروا عليه خلافه، و [لم يكن] (¬1) ذلك كفعل رجل في بلد كلهم يتعلم منه ليسوا كأهل المدينة، وتكبير أبي هريرة عام لأنه بين ظهراني المهاجرين والأنصار وأهل العلم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن التكبير في صلاة العيدين قبل القراءة في الركعتين. وقال أبو حنيفة والثوري: يكبر في الركعة الأولى قبل القراءة وفي الثانية بعدها. وفيه عن أحمد روايتان. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب: "أنه كبر في العيدين والاستسقاء سبعًا وخمسًا وجهر بالقراءة". هذا الحديث مؤكد لأحاديث قبله وهو موقوف على علي -كرم الله وجهه- والمشهور عند الشيعة في صلاة العيد: أن يكبر في الأولى سبعًا في جملتها تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وذلك قبل القراءة، وفي الثانية يقوم إليها من غير تكبير ثم يقرأ ويكبر بعد القراءة أربع تكبيرات ثم يكبر للركوع. ¬

_ (¬1) بالأصل [ولو لم] والسياق غير متجانس، والمثبت من المعرفة (5/ 73) للبيهقي.

الفرع السادس في القراءة في صلاة العيد

الفرع السادس في القراءة في صلاة العيد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ضمرة بن سعيد المازني، عن عبيد الله بن عتبة، أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ما يقرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟ فقال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} (¬1) و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (¬2). هكذا جاء في كتاب صلاة العيدين (¬3). وأخرجه الشافعي أيضًا في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬4) بهذا الإسناد وفيه: أبا واقد الليثي ماذا كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري. فأما مالك (¬5): فأخرجه بالإسناد واللفظ وقال: ما كان يقرأ به. وأما مسلم (¬6): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك بالإسناد ولفظ مالك. وله في أخرى: عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي عامر العقدي، عن فليح، عن ضمرة، عن عبيد الله، عن أبي واقد قال: سألني عمر بن الخطاب عما قرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم العيد؟ فقلت: بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} و {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}. وأما أبو داود (¬7): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك بالإسناد. ¬

_ (¬1) ق: [1: 2]. (¬2) القمر: [1]. (¬3) الأم (1/ 237). (¬4) الأم (7/ 205). (¬5) الموطأ (1/ 162 رقم 8). (¬6) مسلم (8919). (¬7) أبو داود (1154).

ماذا كان يقرأ به. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن بن عيسى، عن مالك بالإسناد واللفظ. وفي أخرى: عن هناد، عن سفيان بن عيينة، عن ضمرة. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن ضمرة، عن عبيد الله قال: خرج عمر ذات يوم فسأل أبا واقد وذكره. قال الشافعي في رواية حرملة: هذا ثابت إن كان عبيد الله لقي أبا واقد. وإنما قال هذا لأن عبيد الله لم يدرك أيام عمر مسألته أبا واقد، وبهذه العلة لم يخرجه البخاري -والله أعلم- وإنما أخرجه مسلم لأن فليح بن سليمان رواه عن ضمرة، عن عبيد الله، عن أبي واقد قال: سألني عمر. فصار الحديث بذلك موصولاً. وهذا يدلك على حسن نظر الشافعي ومعرفته بصحيح الأخبار وسقيمها. والذي جاء في الرواية الأولى: أنه سأل أبا واقد ما يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وفي باقي الروايات: ما كان يقرأ، وماذا كان يقرأ؟. فإن صح حذف كان ولم يكن سهوًا من النساخ فبينهما فرق دقيق: وذلك أن عمر -رضي الله عنه- إنما أراد سؤاله أبا واقد استثباته وتحقق ما قرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العيدين، وليسمع من الناس من لم يكن عساه عرف ذلك، فإذا سمعوه وقد استفسر ذلك من صحابي مشهور كان أعلق بقلوبهم وأدخل في أسماعهم، فلما كان غرض عمر هذا القدر قال له في سؤاله: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. وهذا هو اللفظ الموضوع للسؤال عن كيفية فعل صادر عن فاعل غائب ولاسيما غيبة الموت، فدخول كان يفيد انقراض زمن المسئول عن فعله وقوله أو ¬

_ (¬1) الترمذي (534، 535) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (3/ 183 - 184).

غيبته. وأما قوله: "ما يقرأ به" -مع حذف كان، فإنه أراد تصوير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفس المسئول والسامعين كأنه حاضر، واستفسره عنه استفسار الموجود الحاضر فقال: "ما يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"؟ كأنه موجود فسأل عن قراءته كيف هي، وفي هذا زيادة استثبات لأن من سأل عن حال شخص موجود فأخبر بها كان أقرب إلى التصديق من الإخبار عن حال غائب مسئول عنها, ولأن نسبة التحريف إلى الأخبار عن المعدوم والغائب أقرب منه عن الموجود والحاضر، فكان حذف "كان" في هذا المقام أبلغ في القول والخطاب من إثباتها. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أنه يستحب أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة العيدين بـ "ق" وفي الثانية "اقتربت" عملًا بهذا الحديث. وقال أبو حنيفة: لا اختصاص لهاتين السورتين دون غيرهما من السور. وقال مالك وأحمد: يقرأ بسورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬1) وسورة "الغاشية". قال الشافعي -في رواية حرملة في حديث أبي واقد-: يحتمل أن يكون ذلك الذي حفظ من عيد أو أعياد، وقد كانت أعياد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون صادقًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بما ذكر في العيد. وإنما أراد الشافعي بما ذكر حديث النعمان بن بشير "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الجمعة والعيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وفرق بين قوله: "كان يقرأ" وبين قوله: "أنه قرأ" فإن لفظة "كان يقرأ" يفيد استمرارًا وكثرة. ¬

_ (¬1) الأعلى: [1].

الفرع السابع في الخطبة

الفرع السابع في الخطبة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد [عن عبد الرحمن ابن عبد الله عن إبراهيم بن عبد الله] (¬1)، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين يفصل بينهما بجلوس". هذا حديث مرسل، عبيد الله بن عبد الله تابعي جليل أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدم في صلاة الجمعة حكم الخطبتين والجلوس بينهما وحكم خطبة العيد في ذلك كحكم خطبة الجمعة. وقوله: "السنة أن يخطب" من ألفاظ رواية الحديث وهي دائرة بين الرواة مقبولة عندهم، لأن السنة لا تضاف إلا إلى ما سنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر به، لكنه إن ورد عن صحابي مشهور فهو داخل في حكم المسند، لأن الصحابي لا يقول ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما إن كان تابعيًّا أو غيره ففيه نظر وتفصيل يحتاج إلى استفسار لأنه ربما يكون قد حكي عن إجماع الصحابة أو عن إجماع منهم. وظاهر إطلاق قوله: "أن يخطب في العيدين خطبتين" يعني أن الخطبتين في العيدين أي في كل عيد خطبة وليس كذلك إنما يريد في كل عيد خطبتين. وقوله: "يفصل بينهما بجلوس" يحقق هذا المعنى لأن الجلوس إنما يكون بين خطبتين متلاحقتين لا بين خطبتين في عيدين. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم قال: حدثني ليث، عن عطاء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب يعتمد على عنزته اعتمادًا". "العنزة": كالحربة، وقد تقدم ذكرها في صلاة الجمعة، وقد جاء في رواية ¬

_ (¬1) بالأصل [بن عبد الله] وهو تحريف والمثبت من مطبوعة المسند (463)، وانظر الأم (1/ 238)، والمعرفة للبيهقي (5/ 879).

"يعتمد على عنزة". وقد أخرج الشافعي قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب اعتمد على عصا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني هشام بن حسان، عن ابن سيرين "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب على راحلته بعدما ينصرف من الصلاة يوم الجمعة والنحر". هذا الحديث مرسل من هذا الطريق. وقد رواه ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه قال: "خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته يوم النحر وأمسكت -إما قال: بخطامها، وإما قال: بزمامها" (¬1) وذكر الحديث. "الراحلة": هي البعير القوي على الأسفار والأحمال جملًا كان أو ناقة. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الإمام يستحب له أن يخطب يوم العيد قائمًا، فإن خطب جالسًا أجزأه لهذا الحديث لأنه خطب وهو جالس على الراحلة. وفي هذا نظر: فإن القيام في الخطبة إنما شرع ليرى الناس الخطيب ويسمعوه حيث هو قائم، وإذا كان على الراحلة فإنه يظهر للناس ويسمعوه أكثر من القائم؛ لأن البعير أعلى من قامة الرجل. والله أعلم. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-: عن إبراهيم بن محمد، عن عبد الله، عن إبراهيم بن عبد الله، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عتبة قال: السنة في التكبير يوم الأضحى والفطر على المنبر قبل الخطبة: أن يبتدئ الإمام قبل الخطبة وهو قائم على المنبر بتسع تكبيرات تترى لا يفصل بينهما بكلام؛ ثم يخطب، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679).

ثم يجلس جلسة؛ ثم يقوم في الخطبة الثانية فيفتحها بسبع تكبيرات لا يفصل بينهما بكلام ثم يخطب". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن الثقة من أهل المدينة أنه أُثْبت له كتابٌ عن أبي هريرة فيه: تكبير الإمام في الخطبة الأولى يوم الفطر والأضحى إحدى أو ثلاث وخمسون تكبيرة في فصول الخطبة بين ظهراني الكلام. ***

الفرع الثامن في الصلاة قبل العيد وبعده

الفرع الثامن في الصلاة قبل العيد وبعده أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني عمرو بن أبي عمرو [عن ابن عمر] (¬1): "أنه غدا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد إلى المصلى، ثم رجع إلى بيته، لم يصل قبل العيد ولا بعده". وقد تقدم في الفرع الثالث حديث ابن عباس في هذا المغنى، وهذا الحديث أوضح دلالة منه لأنه قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم العيد"، وهذا قال: "أنه غدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى، ثم رجع إلى بيته" فحصر الحال بين الغدو والرجوع وذكر أنه كان حاضرًا وفي هذا من زيادة البيان ما ليس في ذلك. قال الشافعي عقيب هذا الحديث: هكذا نحب للإمام وأما المأموم فمخالف للإمام، قال: وقد تنفل قوم قبل صلاة العيد وبعدها، وآخرون قبلها، وآخرون بعدها، وآخرون تركوه كما يكونون في كل يوم يتنفلون ولا يتنفلون. والمذهب: أن صلاة العيد عنده سنة مؤكدة. وقال أبو سعيد الاصطخري: إنها واجبة على الكفاية وليس لها سنة راتبة قبلها ولا بعدها، لأنها نافلة والنافلة لا تبع لها, ولا بأس للمأموم أن يتنفل قبلها وبعدها بخلاف الإمام فإنه يكره له ذلك، لأنه ربما توهم الناس أنها سنة ويتبعونه فيها. وروي ذلك عن أنس، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، ورافع بن خديج. وبه قال الحسن البصري، وجابر بن زيد، وعروة بن الزبير. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: يكره قبلها ولا يكره بعدها. وبه قال علقمة، والأسود، ومجاهد، وابن أبي ليلى. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت من مطبوعة المسند (447)، والأم (1/ 234).

وقال مالك وأحمد: يكره قبلها وبعدها. وروي عن مالك: أنه إذا صلى العيد في المسجد يجوز التنفل فيه. وروي ذلك عن علي، وابن عمر، وابن مسعود، وحذيفة، وجابر بن عبد الله، وابن أبي أوفى. [وبه] (¬1) قال مسروق، والشعبي، والقاسم بن محمد، وسالم، والزهري ومعمر، وابن جريج. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني سعد ابن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عبد الملك بن كعب بن عجرة: "أن كعب بن عجرة لم يكن يصلى قبل العيد ولا بعده". قال الشافعي: وروي هذا عن ابن مسعود أو أبي مسعود، وحذيفة، وجابر ابن عبد الله، وابن أبي أوفى، وشريح، [وابن معقل] (¬2) شك الربيع. قال الشافعي: وروي عن سهل بن سعد، وعن رافع بن خديج: أنه كان يصلي قبل العيد وبعده. إلا أن في حديث كعب بن عجرة ما يشعر بزيادة في البيان، وهو قوله: "لم يكن يصلي" فإن قوله: "لم يكن" يدل على تكرار ذلك منه وأن هذه كانت عادته، وأن ذلك لم يكن منه مرة واحدة ولا على سبيل الندور. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن علي بن الحنفية، عن أبيه قال: "كنا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر والأضحى لا نصلي في المسجد حتى نأتي المصلى، فإذا رجعنا مررنا بالمسجد فصلينا فيه". ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وأثبته لتمام المعنى به. (¬2) تكررت في الأصل.

غرض الشافعي من هذا الحديث: بيان أن النوافل ما كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلونها يوم العيد قبل الصلاة حتى في المسجد، وإنما كانوا يصلونها بعد فراغهم من الصلاة. وكل هذا تأكيد لما ذهب إليه، وذلك أنهم بعد الرجوع يكونون قد قضوا ما أرادوا من صلاة العيد، وتكون صلاتهم في المسجد بعد الرجوع غير معدوقة (¬1) العيد ولا مضافة إليه بخلاف ما لو صلوها في المصلى عقيب صلاة العيد لكانت منسوبة إلى العيد، وهذا جميعه لبيان، أنها لم تكن للعيد نافلة مسنونة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن نافع،: " [أن ابن عمر] (¬2) لم يكن يصلي يوم الفطر قبل الصلاة ولا بعدها". هذا حديث صحيح أخرجه الموطأ، والترمذي. فأما الموطأ (¬3): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن الحسين بن حريث -أبي عمار- عن وكيع، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن أبي بكر بن (¬5) حفص -وهو: ابن عمر بن سعد بن أبي وقاص- عن ابن عمر: "أنه خرج يوم عيد ولم يصل قبلها ولا بعدها، وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله". رواية الشافعي أكمل الروايتين، لأن الشافعي قال: لم يكن يصلي يوم الفطر وهذا عام في الأعياد وحكاية حال مستمرة له. ورواية الترمذي: "أنه خرج يوم عيد" وهو حكاية عن حال واحد في عيد واحد. ¬

_ (¬1) عَدَق الشي يعدقه عدقًا، أي: جَمَعَه. اللسان مادة: عدق. (¬2) ما بين المعقوفتين بالأصل [عن ابن عمر أن عمر] وهو تصحيف، والتصويب من مطبوعة المسند (446)، والمعرفة للبيهقي (5/ 92). (¬3) الموطأ (1/ 162 رقم 10). (¬4) الترمذي (538) وقال: حسن صحيح. (¬5) زاد بالأصل قبل حفص (أبي) وهي زيادة مقحمة.

الفرع الثامن في اجتماع العيد والجمعة

الفرع الثامن (*) في اجتماع العيد والجمعة أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني إبراهيم بن عقبة، عن عمر بن عبد العزيز قال: "اجتمع عيدان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من أحب أن يجلس من أهل العالية فليجلس في غير حرج". هذا الحديث مرسل (¬1) وقد روى من وجه آخر موصولاً عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم: "هل شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم. قال: كيف صلى؟. قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: "من شاء أن يصلي فليصل". ورواه عبد العزيز بن رفيع، عن ذكوان -أبي صالح- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. وقيل: عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرسلًا (¬2). ¬

_ (¬1) وفي الإسناد إليه إبراهيم بن محمد، وهو مهجور الحديث. (¬2) قال الحافظ في التلخيص (2/ 94) -عقب رواية زيد بن أرقم-: صححه علي بن المديني، ورواه أبو داود والنسائي والحاكم، من حديث عطاء: أن الزبير فعل ذلك، وأنه سأل ابن عباس عنه؟ فقال: أصاب السنة. وقال ابن المنذر: هذا الحديث لا يثبت، وإياس بن أبي رملة راويه عن زيد مجهول، ورواه أبو داود وابن ماجه والحاكم، من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمعون" وفي إسناده بقية. رواه عن شعبة، عن مغيرة الضبي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح به، وتابعه زياد بن عبد الله البكائي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، وصحح الدارقطني إرساله لرواية حماد عن عبد العزيز، عن أبي صالح وكذا صحح ابن حنبل إرساله. (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفرع التاسع"، والله أعلم.

"العالية": مواضع بأعالي أرض المدينة كان أهلها يحضرون أيام العيد والجمع للصلاة وسماع الخطبة. "والحرج": الإثم والضيق. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن العيد إذا وافق يوم جمعة فإن الجمعة لا تسقط عن أهل المصر. وبه قال أكثر الفقهاء. وقال عطاء: يصلي العيد ويترك الجمعة، ولا صلاة في هذا اليوم إلا العصر. وقال أحمد: يقسط عنهم حضور الجمعة. وأما أهل السواد: فإن الشافعي قال: يخطب الإِمام ويأذن لأهل السواد في الانصراف إلى أهاليهم إن شاءوا، ليس ذلك لأحد من أهل المصر، والاختيار لهم أن يقيموا حتى يجمعوا أو يعودوا إن قدروا. واختلف أصحاب الشافعي في هذا القول على طريقين: فمنهم من قال: أهل السواد الذين يبلغهم النداء. ومنهم من قال: أهل السواد كلهم لا يجب عليهم. وهذا ظاهر كلام الشافعي ورخص لهم في ترك الجمعة تخفيفًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن أبي عبيدة -مولى ابن أزهر- قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان فجاء يصلي ثم انصرف فخطب فقال: إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فليرجع فقد أذنت له.

هذا طرف من حديث صحيح قد أخرجه مالك (¬1) بطوله. وقد أخرج الشافعي من الحديث طرفًا آخر قد تقدم ذكره في صلاة الجمعة؛ وذكرناه أيضًا في الفرع الرابع من هذا الفصل. ... ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 161 رقم 5) وتقدم تخريجه.

الفرع التاسع في أحاديث متفرقة

الفرع التاسع (*) في أحاديث متفرقة أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد الله بن عطاء بن إبراهيم -مولى صفية بنت عبد المطلب- عن عروة بن الزبير، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون". هذا حديث أخرجه الترمذي (¬1): عن يحيى بن موسى، عن يحيى بن اليمان، عن معمر، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس". "أفطر" الصائم يفطر إفطارًا وهو مفطر والاسم الفطر، وقوم مفاطير وقوم فطر أي: مفطرون، وكأنه مصدر في الأصل. "والأضحى" بفتح الهمزة والقصر: اسم يوم عيد النحر، والأصل فيه الأضحية: وهي الشاة التي تذبح يوم العيد. قال [الأصمعي] (¬2): فيه أربع لغات: أُضحية وأَضحية وضحية وأضحاة والأوليان يجمعان على الأضاحي مثل: أتقية وأتاقي، والثالثة على ضحايا مثل: عطية وعطايا، والرابعة على أضحى مثل: أرطاة وأرطى وبهذه الرابعة سمي يوم العيد. وقال الفراء: الأضحى يذكر ويؤنث، فمن ذكَّر ذهب به إلى اليوم، ومن أَنَّثَ فلأنه جمع أضحاة. قال الترمذي (¬3): وفسر أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما معنى هذا أن ¬

_ (¬1) الترمذي (802) وقال: سألت محمدًا قلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ قال: نعم، يقول في حديثه: سمعت عائشة، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب صحيح من هذا الوجه. (¬2) بالأصل [الأمعي] وهو تصحيف. (¬3) الترمذي (3/ 71). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفرع العاشر"، والله أعلم.

الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس. وإيضاح ذلك: أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قومًا اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين من شعبان، ثم صاموا ولم يفطروا حتى استكملوا العدد لرمضان، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعًا وعشرين فلا شيء عليهم من وزر ولا قضاء، إلا أن يكونوا قد استوفوا شعبان ثلاثين ثم ثبت أنه كان تسعًا وعشرين، فإنه يجب عليهم قضاء يوم ولا وزر عليهم. وكذلك الحجيج إذا أخطأوا يوم عرفة فوقفوا اليوم العاشر، صح حجهم فلا قضاء عليهم، وإن أخطأوا بالتقديم فوقفوا في الثامن لم يصح حجهم وعليهم القضاء، لأن ذلك نادر وذلك تخفيف من الله تعالى ورفق بالعباد، لأنه لو كلفهم إذا أخطأوا العدد، يعيدوا ولم يأمنوا الخطأ ثانية وثالثة؛ فإن ما كان طريقه الاجتهاد كان الخطأ غير مأمون فيه؛ فيكون تقدير اللفظ يوم الفطر: هو اليوم الذي يجمعون على الفطر فيه، سواء كان مصادفًا للصحة أو مخالفًا، ويوم الأضحى: هو اليوم الذي يجمعون على التعييد والتضحية فيه ويكون مرفوعًا لأنه خبر المبتدأ وليس بظرف، وإن شئت نصبت "مصلى" الظرفية. وتكون في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ الذي هو الفطر تقديره: الفطر في اليوم الذي يفطرون فيه، لأن ظروف الزمان تكون إخبارًا عن الأحداث دون الجثث (¬1) تقول: القتال اليوم، أي: هو كائن في اليوم، فموضع الجملة رفع لأنها خبر المبتدأ. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، حدثني محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان إذا (¬2) غدا إلى المصلى ¬

_ (¬1) الجثث: هو القطع، وانظر اللسان مادة: جثث. (¬2) بالأصل زاد [همه] أو بنحو هذا الرسم وراجحت الأصول الأخرى كالأم (1/ 231) وغيره فلم أرها مثبتة فلم أثبتها، وأرى أنها مقحمة أو خطأ من الناسخ.

يوم العيد كبر فيرفع صوته بالتكبير". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى يوم العيد، ثم يكبر المصلى حتى إذا جلس الإِمام ترك التكبير". هكذا رواه إبراهيم بن محمد، عن ابن عجلان موقوفًا. ورواه ابن شهاب: عن عبيد الله بن عمر موقوفًا. ورواه عبد الله بن عمر العمري، عن نافع، عن ابن عمر [مرفوعًا] (¬1) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في رفع الصوت بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى. "المصلى" (بضم الميم وفتح اللام): موضع الصلاة وكذلك اسم الموضع من فعل رباعي فإنه مفعل (بضم الميم). وقوله: "يوم العيد" في قوله: "الصلاة يوم العيد" (¬2). وإليه ذهب الشافعي: أن التكبير يوم الفطر سنة قال: وأحب إظهار التكبير فرادى وجماعة مقيمين ومسافرين، في منازلهم، ومساجدهم، وأسواقهم. قال الشافعي: وأحب أن يكبر الإمام خلف صلاة المغرب، والعشاء والصبح، وبين ذلك، وغاديًا حتى ينتهي إلى المصلى. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة، وعن سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي بكر بن عبد الرحمن، ونافع بن جبير، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى، وأبي الزناد، وعمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان، وأبي بكر بن محمد، والحكم، وحماد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بالأصل [موقوفًا] وهو تصحيف والصواب هو المثبت، ثم رجعت إلى المعرفة (5/ 52) للبيهقي فوجدته على الصواب كما أثبتناه. (¬2) كذا بالأصل.

وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وروى عن أبي حنيفة أنه قال: يكبر يوم الأضحى في ذهابه إلى المصلى ولا يكبر في الفطر. وروي عنه مثل قول الشافعي. وقال داود: التكبير واجب ويستحب أن يرفع صوته بالتكبير ويستديمه إلى أن يجلس الإمام على المنبر. وفي أول وقت التكبير وآخره خلاف بين العلماء، وسيرد ذكره في كتاب الحج -إن شاء الله تعالى-. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني صفوان بن سليم: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطعم قبل أن يخرج إلى الجبان يوم الفطر ويأمر به". هذا حديث مرسل، وقد ورد مرفوعًا عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وأنس بن مالك، وبريدة، ورواه الشافعي بمعناه عن ابن المسيب، وعروة بن الزبير. "طعِم" -بكسر العين- يطعم -بفتحها-: إذا أكل. "والجبان": الصحراء، وكذلك الجبانة وقد تطلق على المقابر لأنها تكون في الصحراء، والمراد في الحديث: الأول، لأن المصلى يوم العيد في الصحراء. والمستحب: أن يأكل يوم الفطر قبل الصلاة، ولا يأكل في الأضحى حتى يصلى، لأن الفطر واجب يوم العيد ويميز عيد الفطر لأجل اتصال صوم رمضان به، خلاف يوم النحر لأنه ليس قبله صوم واجب. وقيل: لأن الصدقة يوم العيد مسنونة قبل الصلاة، فيستحب له أن يأكل منها ليشارك المساكين في ذلك. بخلاف يوم النحر لأن الصدقة تستحب في الأضحية، ووقت الأضحية بعد الصلاة فاستحب تأخير الأكل إلى أن يبدأ بالأكل من أضحيته -والله أعلم.

الباب الثاني الصلاة المقرونة بالأسباب

الباب الثاني في الصلاة المقرونة بالأسباب وفيه ثلاثة (¬1) الفصل الأول في صلاة الكسوف أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود الأنصاري قال: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الناس: "انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن يحيى بن إسماعيل بالإسناد. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع وأبي أسامة وابن نمير. وعن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير ووكيع. وعن ابن أبي عمر، عن سفيان ومروان، كلهم عن إسماعيل بالإسناد. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن إسماعيل. تقول: كسفت الشمس وخسف القمر هذا هو اللغة الفصحى، ثم يقال: خسفت الشمس وكسف القمر. ¬

_ (¬1) كذا ولعله سقطت كلمة (فصول). (¬2) البخاري (1057). (¬3) مسلم (911) [23]. (¬4) النسائي (3/ 126).

فأما انكسفت وانخسفت فغير مستعمل إلا في الكلام النازل، والظاهر أن هذا من تحريف الرواة. "وكسفت": يكون قاصرًا ومتعديًّا تقول في القاصر: كسفت الشمس تكسف كسوفًا، وفي المتعدي كسفها الله يكسفها كسفًا. والكسوف والخسوف: عبارة عن انمحاء ضوء الشمس والقمر. فأما سبب كسوف الشمس وخسوف القمر: فهما وإن كانا بتقدير الله -عز وجل- وأمره وإرادته، إلا أنه سبحانه قد جعل لهما سببًا يوجدان عند وجوده، كما فرق المسببات بالأسباب في مجرى العادات عبرة لأولي الألباب السليمي الطبع، وتبصرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع فتبارك الله أحسن الخالقين، ولا يظن أن الخوض في معرفة أمثال هذه الحكم؛ والبحث عن الوقوف على أشباه هذا الخلق (¬1) مما يقدح في الأديان أو تنهى عنه الشرائع، كيف وقد أثنى الله-عز وجل- على طالب ذلك وفاعله فقال عز من قائل: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2). أترى الفكر في السموات -التي أثنى الله على صاحبه- هو التعجب من لونها وحسن وضع الكواكب المنيرة فيها؛ مع الغفول عن الفكر في هيئتها وارتفاعها، وسرعة حركتها ومسير الكواكب فيها وطلوعها، وغروبها، واستقامتها ورجوعها، واختفائها، وظهورها، وعظم أجرامها، واختلاف أقدارها متلاها واستقبالها، واتصالها، وانفصالها، واجتماعها، وافتراقها، ¬

_ (¬1) الخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم يُسبق إليه، وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه على غير مثال سُبق إليه، ألا له لخلق والأمر تبارك الله أحسن الخالقين. انظر اللسان مادة: خلق. (¬2) آل عمران: 190 - 191.

وبعدها، وقربها، وخسوفها، وكسوفها، واستنارتها، وإظلامها؟ لا والله ليس الثناء على التفكر فيها إلا في أمثال هذه الأشياء وأشباهها؛ وكذلك التفكر في الأرض وما فيها من الموجودات: برها وبحرها، طولها، وعرضها، وسعتها، وجبالها، وصحارها، وآكامها، وروابيها، وأوديتها، ومنخفضها، ومرتفعها وأحجارها وصخورها، واختلاف ألوانها، وأنهارها، وأشجارها، وثمارها، وحرها، وبردها, وليلها، ونهارها، واختلاف صوت الحيوانات فيها، وأنواع الموجودات في ظاهرها وباطنها، وبيان أحوالهم وصورهم وأخلاقهم وغير ذلك مما لا ينتهى إليه وصف، ولا يحويه حد، فتبارك الخالق الباري، المصور الذي أتقن كل شيء وحكمة وعلماً, ولولا خوف الإطالة لذكرنا سبب كسوف الشمس وخسوف القمر أحسن ذكر ليزداد الذين آمنوا إيمانًا ويزداد المعطلة ضلالًا وخسرانًا، وإنما الحامل على القدح في أمثال هذه الأشياء؛ الجهل الذي يصاحبه في مهاوي الضل فينصر بظنه الدين، وهو بجهله قد خذله وندب عن الشرع وقد أسلمه. عصمنا الله وإياكم من اتباع الهوى، ووفقنا وإياكم لاقتفاء سنن الهدى، وأوزعنا وإياكم شكر نعمة اللهم، وألهمنا وإياكم التحدث بمواقع فضيلة العلم، وهذا خاطر عنَّ له مجرى ففاض ثم اعترضه حابس فغاض فلنرجع إلى الغرض قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬1). وقال: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي في الْبَحْرِ} (¬2) الآية. مع ما ذكر من الآيات في كتابه فذكر الله الآيات ولم يذكر معها سجودًا إلا مع الشمس والقمر، فأمر بأن لا ¬

_ (¬1) فصلت: (37). (¬2) البقرة: (164).

يسجد لهما وأمر بأن يسجد له، فاحتمل أمره: أن يُسْجد له عند ذكر الشمس والقمر؛ أن (¬1) يأمر بالصلاة عند حادثٍ في الشمس والقمر، واحتمل: أنه يكون إنما نهى عن السجود لهما كما نهى عن عبادة ما سواه، فدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي أن يُصلَّى لله عند كسوف الشمس والقمر فأشبه ذلك معنيين: أحدهما: أن يصلى عند كسوفهما لا يختلفان في ذلك، وأن لا يؤمر عند آية كانت في غيرهما بالصلاة كما أمر بها عندهما، لأن الله لم يذكر في شيء من الآيات صلاة، والصلاة في كل حال طاعة وغبطة لمن صلاها، فيصلى عند كسوف الشمس والقمر صلاة جماعة ولا يفعل ذلك في شيء من الآيات غيرها. "والآية": العلامة هذا هو الأصل، ثم للمعجزة الواردة على يد النبي، والكرامة الواردة على يد الولي، والحادثة التي يحدثها الله تعالى من ظهور أمر غريب ووجود حال عجيب كالزلازل والخسوف ونحو ذلك آية رجوعها إلى الأصل لأنها علامة دالة على قدرة مُوْجدها وسلطان مُحْدثها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، عن عبد الله بن عباس قال: "خسفت الشمس فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه فقام قيامًا طويلًا -قال: -نحوًا من سورة البقرة- قال: ثم ركع ركوعًا طويلاً، ثم رفع فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله". قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت في مقامك شيئًا ثم رأيناك كأنك ¬

_ (¬1) في الأم (1/ 242): (بأن).

تكعكعت! قال: "إني رأيت -أو أريت- الجنة فتناولت منها عنقودًا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت -أو أريت- النار فلم أر كاليوم منظرًا، ورأيت أكثر أهلها النساء". قالوا لِمَ يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن". قيل: أيكفرن بالله؟. قال "يكفرن العشير ويكفرن "الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم [رأت] (¬1) منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط". وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن الحسن، عن ابن عباس قال: إن القمر كسف وابن عباس بالبصرة، فخرج ابن عباس فصلى بنا ركعتين ثم ركب فخطبنا فقال: إنما صليت كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم شيئًا منها خاسفًا فليكن فزعكم إلى الله تعالى". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحكى ابن عباس أن صلاته ركعتان في كل ركعة ركعتان ثم خطبهم فقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله عز وجل". وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن الثقة، عن معمر، عن الزهري، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في كسوف الشمس ركعتين في كل ركعة ركعتين". ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند وهو الصواب.

هكذا أخرجه مرسلًا في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1) وقد أخرجه البخاري (¬2) مسندًا: عن أحمد بن صالح، عن عنبسة عن يونس، عن الزهري، عن كثير، عن ابن عباس. وأخرجه مسلم (¬3): عن حاجب بن الوليد، عن محمد بن حرب، عن الزبيدي، عن (¬4) ابن مهران، عن الوليد من عبد الرحمن ثم كلاهما (¬5) عن الزهري، عن كثير، عن ابن عباس. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬6): فأخرجه إسنادًا ولفظًا ولم يقل فيه: "أو أريت". وأما البخاري (¬7): فأخرجه عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك إسنادًا ولفظًا. إلا أنه قال (¬8): [وأما مسلم (¬9): فأخرجه عن سويد بن سعيد، عن حفص ابن ميسرة، عن زيد بن أسلم بالإسناد إلا أنه قال] (¬10): "انكسفت"، و"ينكسفان"، و"انجلت"، و"كففت يدك"، و"تكعكعت". وأما أبو داود (¬11): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك بالإسناد قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقام قيامًا طويلً بنحوٍ من سورة ¬

_ (¬1) مختصر المزني المطبوع مع الأم (ص: 527). (¬2) البخاري (1046). (¬3) مسلم (902). (¬4) إلى هذا انتهى إسناد الزبيدي، وكان اللائق أن نضع علامة تفيد تحويل السند وبداية إسناد آخر شيخ مسلم فيه وابن مهران. (¬5) نعم حدث به الزبيدي هكذا، لكن عبد الرحمن رواه -كما عند مسلم- عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. (¬6) الموطأ (1/ 166 رقم 2). (¬7) البخاري (1052). (¬8) كذا بالأصل، ولعل المقصود بالمقول هنا: "انخسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". (¬9) مسلم (907). (¬10) ما بين المعقوفتين جاء مكررًا "بالأصل"، إلا أنه زاد في الأولى (انخسفت) وهو بهذا غير ثابت في رواية مسلم، والصحيح ما جاء في الرواية المثبتة. (¬11) أبو داود (1189).

البقرة ثم ركع. وساق الحديث هكذا قال أبو داود. وأما الترمذي (¬1): فإنه أخرج هذا المعنى مختصرًا عن محمد بن بشار (¬2): بندار، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه صلى في كسوفٍ فقرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم رفع، ثم سجد سجدتين والأخرى مثلها". وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك. "تجلّت": إذا ظهرت وانكسفت، وجلوت الشيء: إذا كشفته، والانجلاء انفعال منه. "والتكعكع": التأخر إلى وراء على العقبين. وقيل: هو التوقف والاحتباس عن الشيء. وقيل: تكعكع أي: جَبُن -والأول هو الغرض وقد جاء "إني رأيت الجنة -أو أريت"- وكذلك في النار. أما رأيت: فإنه فعل لم مسمى الفاعل وفاعله الرأي، كأن الجنة عرضت له ولا حائل بينه وبينها فوقع بصره عليها فرآها. وأما أريت: فإنه فعل لم يسم فاعله وقد أقيم المفعول الذي هو الرأي على الحقيقة مقام الفاعل، فكأن الجنة عرضت عليه ثم كشفت عن بصره فرآها. والأول أعلى مقامًا: لأن بصره قد كان مستعدًا لرؤية ما يعرضه مما لا حائل دونه، فلما وجد المرء رآه ولم يحتج إلى أمر آخر. والثاني: لما كشفت له الجنة لم يكن في بصره قوة لإدراكها من ذاته ولا كان عنده استعداد لرؤيتها، فاحتاج إلى من يريه إياها؛ فذا راءٍ بنفسه، وهذا راءٍ ¬

_ (¬1) الترمذي (560) وقال: حسن صحيح. (¬2) بالأصل (وبندار) وزيادة الواو لا وجه لها، وبندار هو لقب محمد بن بشار. (¬3) النسائي (3/ 146 - 148).

بغيره. وقوله: "لأكلتم منه ما بقيت الدنيا" يعني أنه من ثمار الجنة، وما فيها لا نفاد له بدليل قوله تعالى {مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (¬1) وبقوله عز من قائل {أُكُلُهَا دَائِمٌ} (¬2). وقوله: "فلم أر منظرًا كاليوم" يعني أفظع وأعظم وأهول، و"الكاف" في موضع نصب، التقدير: فلم أر منظرًا مثل منظري اليوم، والمنظر: الشيء المنظور، وحقيقته: الموضع الذي يقع النظر عليه، وتراه يقول: فلان حسن المنظر، والمنظر خلاف المخبر وهو من الأول. "والكفر": ضد الإِيمان والكفر جحود النعمة وهو ضد الشكر، وقد كفره كفورًا وكفرانًا، والكفر: الجحود مطلقًا، كفرن بالشيء أكفر -بالكسر- كفرًا إذا سترته. "والعشير": الزوج وقيل: بمعنى مفاعل تقول: عاشرته أعاشره معاشرة إذا خالطته، والاسم العشرة. "والدهر" في قوله: "أو أحسنت إلى إحداهن الدهر" بمعنى أبدًا وهو منصوب على الظرف لأنه وقع موقع الحال الذي هي دائمًا، وليس منصوبًا على الظرف لأنه كان يجوز أن يكون الإحسان عبارة عن مرة واحدة وليس كذلك. "وقط": اسم زمان مبني على الضم ومنهم من يخفف الطاء. ومنهم من يضم القاف في اللغتين. "وفزعت" إلى الأمر أفزع فزعا: إذا لجأت إليه واعتمدت عليه، والفزع الملجأ، وفلان مفزع الناس يستوي فيه الواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث. والذي ذهب إليه الشافعي في صلاة الكسوف والخسوف: أنه يحرم بالصلاة ثم يقرأ الفاتحة ويقرأ بسورة البقرة وما يقاربها، ثم يركع ويطل الركوع بقدر مائة تسبيحة، ثم يقوم من الركوع ويقرأ بقدر مائتي آية من سورة البقرة، ثم يركع ¬

_ (¬1) ص: [54]. (¬2) الرعد: [35].

بقدر ركوعه الأول ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيقرأ بعد الفاتحة بقدر مائة وخمسين آية من سورة البقرة ثم يركع ويسبح قدر سبعين آية ثم يرفع ويقرأ قدر مائة آية من سورة البقرة، ثم يركع قدر خمسين آية ثم يسجد ويتشهد ويسلم، فحصل من ذلك ركعتان فيهما أربع ركعات. وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يصلي ركعتين مثل صلاة الصبح وبه قال النخعي. وقد جاء في صلاة الكسوف روايات كثيرة مختلفة. قال إسحاق بن راهويه: وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى ركعتين وأربعًا في ركعتين، وستًّا في ركعتين، وثماني ركعات في ركعتين، وكل ذلك مؤتلف مصدق بعضه بعضًا، لأنه إنما كان يزيد الركعات إذا لم ير الشمس قد انجلت فإذا انجلت الشمس سجد، ومن هاهنا صارت زيادة الركعات لا تجاوز أربع ركعات في كل ركعة، لأنه لم يرد به ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأزمان الكسوفات تختلف في الزيادة والنقصان لسبب ظاهره من عرف حقيقة الكسوف عرفه. والله أعلم. والشافعي لا يرى الجهر بصلاة الكسوف الشمس لأنها من صلاة النهار، ويجهر في الخسوف القمري لأنها من صلاة الليل. وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وقال أبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق: يجهر. وعمل به علي بن أبي طالب. ويستحب عند الشافعي: أن يصلي الخسوف القمري جماعة. وقال أبو حنيفة: ليس بمستحب بل يصلون فرادى. وأما الخطبة: فإن الشافعي قال: يخطب بعد صلاة الخسوف. وبه قال إسحاق.

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يخطب ولم يذكر أحد الخطبة. وخطبته كخطبة الجمعة. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الشمس كسفت فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوصفت صلاته ركعتين في كل ركعة ركعتان". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. هكذا أخرجه الشافعي في كتاب الصلاة (¬1)، وعاد أخرجه بهذين الطريقين في كتاب "اختلاف الحديث" (¬2) وفي كتاب "الكسوف" وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة بطرق كثيرة طويلة ومختصرة. فأما مالك (¬3): فأخرج الروايتين إسنادًا ولفظًا، إلا أنه شرح كيفية الصلاة والقراءة فيها نحو ما تقدم في حديث ابن عباس. وأما البخاري (¬4): فأخرج الروايتين عن القعنبي، عن مالك بالإسناد ولفظ مالك. وفي أخرى (¬5): عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب. وعن أحمد بن صالح المصري، عن عنبسة، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة. وأما مسلم (¬6): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن هشام. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن نمير، عن هشام. وعن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية، عن هشام. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 243). (¬2) كتاب اختلاف الحديث من الأم (527). (¬3) الموطأ (1/ 166 - 167 رقم 1، 3). (¬4) البخاري (1044). (¬5) البخاري (1046). (¬6) مسلم (901).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن [ابن] (¬2) السرح، وعن محمد بن سلمة المرادي، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن عروة. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة. وذكر كيفية الصلاة. وأخرجه أيضاً (¬5): عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة وذكره بطوله. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني (¬6) عنه-: عن مالك وسفيان بن عيينة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم انصرف وقد تجلت الشمس فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا، وقال: "يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، لو ¬

_ (¬1) أبو داود (1180). (¬2) بالأصل [أبي] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت، وابن السرح هو: أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح. (¬3) الترمذي (561) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (3/ 132). (¬5) النسائي (133 - 134). (¬6) السنن المأثورة (46) وليس في سفيان بن عيينة، وأخرجه في السنن المأثورة (51) من طريق سفيان به ولم يسق لفظه.

تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا". وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-أيضًا -من رواية الربيع والمزني (¬1) عنه-: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن يهودية جاءت تسألها فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيعذب الناس في قبورهم؟. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عائذًا بالله من ذلك، ثم ركب ذات غداة مركبًا فخسفت الشمس فجاء ضحى فمر بين ظهرانى الحُجَرِ، ثم قام ليصلي وقام الناس وراءه فقام طويلاً، ثم ركع ركوعًا طويلاً ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد ثم قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد وانصرف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر". وقد أخرجه الشافعي أيضًا -من رواية المزني (¬2) عنه-: عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد بالإسناد مثله. وفيه من الزيادة: ثم ركع فسجد سجودًا طويلاً، ثم رفع، ثم سجد سجودًا طويلاً وهو دون السجود الأول، ثم فعل في الثانية مثله، فكانت صلاته أربع ركعات في أربع سجدات قالت: فسمعته بعد ذلك يتعوذ من عذاب القبر. فقلت: يا رسول الله، إنا لنعذب في قبورنا؟. فقال: "إنكم لتفتنون في قبوركم". ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (48). (¬2) السنن المأثورة (50).

أخرج هذه الرواية مسلم (¬1)، والتي قبلها البخاري (¬2). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا أبو سهيل بن نافع، عن أبي قلابة، عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. هكذا قال الشافعي، وإنما يعني مثل حديث عروة وعمرة، عن عائشة، وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي. أما البخاري (¬3): فأخرجه عن محمد بن العلاء، عن [أبي] (¬4) أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: "خسفت الشمس فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فزعًا يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيت قط يفعله، وقال: "هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا إلى الله ودعائه واستغفاره". وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن أبي عامر عبد الله بن براد الأشعري ومحمد بن العلاء بإسناد البخاري ولفظه. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن موسى بن عبد الرحمن، عن أبي أسامة، عن بريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى بلفظ البخاري. وليس هذا الذي أخرجوه هو اللفظ الذي أراده الشافعي، لأنه لم يبينوا في روايتهم كيفية صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والشافعي قد أدرجه على حديث عائشة وهو يتبين. ¬

_ (¬1) مسلم (903). (¬2) البخاري (1055). (¬3) البخاري (1059). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت من رواية الصحيحين وهو الصواب. (¬5) مسلم (912). (¬6) النسائي (3/ 153 - 154).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرني إبراهيم بن محمد قال: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو أو صفوان بن عبد الله بن صفوان قال: "رأيت ابن عباس صلى على ظهر زمزم لخسوف الشمس ركعتين في كل ركعة ركعتين". هكذا رواه الربيع عن الشافعي بالشك عن عمرو أو صفوان فرواه المزني عنه عن صفوان بغير شك. وهذا الحديث إنما ذكره الشافعي: زيادة في بيان ما ذهب إليه من كيفية صلاة الكسوف وهي ركعتان في كل ركعة ركعتان وأن ابن عباس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلاها هكذا، وأن ابن عباس صلاها بالبصرة كذا وقال: إنما صليت كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى، ثم ذكر أن ابن عباس صلاها بمكة على ظهر زمزم كذلك، أن هذا الفعل مما واظب عليه وتكرر منه، والصحابي إذا روى الحديث وعمل به وواظب عليه، كان آكد في الاحتجاج به. وقد أخرج الشافعي في القديم (¬1): عن يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "إن الشمس خسفت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالناس ركعتين في كل ركعة ركعتين". وكذلك رواه الزعفراني عنه. قال الشافعي: وذكر هشام الدستوائي، عن أبي الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. قال: وبلغنا أن عثمان بن عفان صلى في كسوف الشمس ركعتين في كل ركعة ركعتين. قال الشافعي: فخالفنا بعض الناس في صلاة الكسوف فقال: يصلي في ¬

_ (¬1) وأسنده البيهقي في المعرفة (5/ 135)، وأيضًا في السنن الكبير (1/ 324) عن الشافعي وقال عقبه ... فهو مما تفرد به يحيى بن سليم.

كسوف الشمس والقمر ركعتين كما يصلي الناس كل يوم ليس في كل ركعة ركعتن، فذكرت له بعض حديثنا فقال: هذا ثابت، وإنما أخذنا بحديثٍ لنا غيره، فذكر حديثًا عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكسوف ركعتين نحوًا من صلاتكم هذه، وذكر حديثًا عن سمرة بن جندب في معناه. فقلت له: ألست تزعم أن الحديث إذا جاء من وجهين فاختلفا فكان في الحديث زيادة كان الجائي بالزيادة أولى أن يقبل قوله، لأنه أثبت ما لم يثبت الذي نقص الحديث؟ قال: بلى. قلت: ففي حديثنا الزيادة التي تسمع. فقال أصحابه: عليك أن ترجع إليه. قال: فالنعمان بن بشير يقول: النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ولا يذكر في كل ركعتين. قلت: فالنعمان يرعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين. أفتأخذ به؟ قال: لا. قلت: فإذًا أنت تخالف حديث النعمان بن بشير وحديثنا, وليس لك في حديث النعمان حجة إلا ما لَكَ في حديث أبي بكرة وسمرة؛ فأنت تعلم أن إسنادنا في حديثنا من أثبت إسناد الناس. قال الشافعي (¬2): فقال: روى بعضكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ثلاث ركعات في كل ركعة. فقلت له: فتقول به أنت؟ قال: لا ولكن لو لم تقل به أنت وهو زيادة على حديثكم ولو لم تثبته. قلت: هو من وجه منقطع ونحن لا نثبت المنقطع على الانفراد ووجه نراه -والله أعلم- غلطا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا سفيان، عن سليمان ¬

_ (¬1) في المعرفة (5/ 143): (صلي النبي ...). (¬2) المعرفة (5/ 145).

الأحول قال: سمعت طاوسًا يقول: "خسفت الشمس فصلى بنا ابن عباس في صفه زمزم، ست ركعات في أربع سجدات ثم أربع سجدات". هذا الوجه أخرجه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1) وقد أجاب عنه. قال الشافعي: فقال: وهل يروى عن ابن عباس ثلاث ركعات في كل ركعة ركعة؟ قال: نعم، وذكر هذا الحديث. قال: فما جعل زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس أثبت من سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس؟ [قيل] (¬2) روى إبراهيم بن محمد، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمر أو (¬3) صفوان بن عبد الله قال: "رأيت ابن عباس يصلي على ظهر زمزم في كسوف الشمس ركعتين في كل ركعة ركعتين" وابن عباس لا يصلي في الخسوف خلاف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله تعالى- وإذا كان عطاء وعمرو أو صفوان والحسن يروون عن ابن عباس خلاف ما روى سليمان الأحول؛ كانت رواية ثلاثة أولى أن تقبل، وعبد الله ابن أبي بكر وزيد بن أسلم أكثر حديثًا وأشهر بالعلم بالحديث من سليمان. قال: فقد روي عن ابن عباس أنه صلى في زلزلة ثلاث ركعات في كل ركعة. قلت: لو ثبت عن ابن عباس أشبه أن يكون ابن عباس فرق بين خسوف الشمس والقمر وين الزلزلة؛ وأحاديثنا أكثر وأثبت مما روسا فأخذنا بالأكثر الأثبت. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن هشيم، عن يونس، عن الحسن [أن] (¬4) علمًّا صلى في كسوف الشمس خمس ركعات وأربع سجدات. ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث مع الأم (528). (¬2) في الأصل [هل] والمثبت من اختلاف الحديث، والمعرفة (5/ 150). (¬3) في اختلاف الحديث: (و). (¬4) بالأصل [بن] وهو تصحيف والصواب هو المثبت كذا في المعرفة (5/ 151).

قال: ولسنا ولا إياهم -يريد العراقيين- نقول بهذا، أما نحن فنقول بالذي روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وأربع سجدات. وقالوا هم: يصلي ركعتين كما يصلي سائر الصلوات فخالفوا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفوا ما رووه عن علي عليه السلام. وقد ذهب جماعة من أهل الحديث إلى أن تصحح الروايات في عدد الركعات، وحملوها على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها مرات وأن الجميع جائز. فممن ذهب إليه إسحاق بن راهويه، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو بكر ابن إسحاق الضبعي، وأبو سليمان الخطابي، واستحسنه أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر. والذي ذهب إليه الشافعي، ثم محمد بن إسماعيل البخاري من ترجيح الأخبار أولى لما ذكرنا من رجوع الأخبار إلى حكاية صلاته يوم توفي ابنه - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج الشافعي رضي الله عنه -من رواية الربيع عنه- قال فيما [بلغه] (¬1) عن عباد، عن عاصم الأحول، عن قزعة، عن علي: أنه صلى في زلزلة ست ركعات في أربع سجدات، خمس ركعات وسجدتين في ركعة ركعة، وسجدتين في ركعة. قال الشافعي: ولو ثبت هذا عن علي عندنا لقلنا به وهم يثبتونه ولا يأخذون به. قال: ولا أرى أن يجمع صلاة عند شيء من الآيات غير الكسوف وقد كانت آيات، فما علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة عند شيء منها ولا أحد من خلفائه، وقد زلزلت الأرض في عهد عمر بن الخطاب فما علمناه صلى، وقد قام خطيبًا يحث على الصلاة وأمر بالتوبة، وأنا أحب للناس أن يصلي كل رجل منهم منفردًا عند الظلمة والزلزلة، وشدة الريح، والخسف، وانتثار النجوم ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (5/ 157).

وغير ذلك من الآيات. وقد روى البصريون: أن ابن عباس صلى بهم عند زلزلة، وإنما تركنا ذلك لما وصفها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بجمع الصلاة إلا عند الكسوف، وأنه لم يحفظ أن عمر صلى عند الزلزلة والله أعلم. ***

الفصل الثاني في صلاة الاستسقاء

الفصل الثاني في صلاة الاستسقاء وفيه فرعان: الفرع الأول في صفة الصلاة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك بن أنس، عن شريك بن عبد الله ابن أبي نمر، عن أنس بن مالك قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي، وتقطعت السبل، فادع الله. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمطرنا من جمعة إلى جمعة قال: فجاء (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشي، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهم على رءوس الجبال والآكام وبطون الأدوية" فانجابت عن المدينة انجياب الثوب". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد واللفظ إلا أنه قال: الجمعة إلى الجمعة، وقال: ظهور الجبال. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وفي المسند (فجاء [رجل إلى] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وكذا جاءت هذه الزيادة في الأصول المخرج منها بنحوه. (¬2) الموطأ (1/ 191 رقم 3).

وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك بالإسناد ولفظ مالك وقال: على الآكام والظراب. وفي أخرى: عن إسماعيل، عن مالك. فأما مسلم (¬2): فأخرجه من طرق كثيرة عن أنس ولم يذكر فيها رواية عن مالك. فأخرجه عن يحيى بن يحيى، ويحيى بن أيوب، وقتيبة وابن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن شريك، عن أنس وذكر مجيئه إلا أن روايته أتم. وله روايات أخرى عن ثابت، عن أنس. وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس. وأما [أبو] (¬3) داود (¬4): فأخرجه عن عيسى بن حماد، عن الليث، عن سعيد المقبري، عن شريك، عن أنس. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. "المواشي": جمع ماشية وهي الغنم وقد تطلق على كل ماشٍ من الدواب والأنعام. "والسبل": جمع سبيل وهي الطريق. السماء تمطر مطرًا والاسم المطر، وأمطرها الله، وقد مطرنا. قال الجوهري: وناس يقولون: مطرت السماء وأمطرت. إلا أن أكثر ما تجيء الأمطار في القرآن العزيز عند ذكر العذاب كقوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} (¬6) أمطرنا عليهم حجارة من السماء. ¬

_ (¬1) البخاري (1016، 1017). (¬2) مسلم (897). (¬3) سقط من الأصل والصواب إثباته. (¬4) أبو داود (1175). (¬5) النسائي (3/ 154). (¬6) النمل: [58].

"والتهدم": تفعل من الهدم وهو التخريب، هدمت الشيء أهدمه هدمًا وتهدم هو. وقوله: "اللهم على رءوس الجبال" أي أرسل المطر عليها وابعثه إليها. "والآكام" بوزن كتاب جمع أكمة: وهي ما ارتفع من الأرض كالرابية. وقيل: الأكمة: حجر واحد كبير منفرد في الأرض. وقد يجمع على آكام بوزن أحمال، قال الجوهري (¬1): جمع الأكمة أكمات وأكم، وجمع الآكام آكام مثل جمل وجمال، وجمع الآكام: أكم مثل: كتاب وكتب، وجمع الأكم: آكام، مثل: عنق وأعناق. ولم يقل الأزهري كذلك ولا تركها هذا التنزيل. "والانجياب": الانكشاف ومنه سميت الخربة: وهي الدارة من الأرض المنكشفة عن الشجر. ومعنى انجياب الثوب: أي تكشف السماء كما ينكشف الثوب عما يستره. "والظراب": جمع ظرب وهي الرابية الصغيرة. قال الأزهري (¬2): الظراب من الحجارة ما كان أصله ناتئًا في جبل وكان طرفه الثاني محددًا، وإذا كان خلفه الجبل كذلك سمى ظربًا بوزن كتف. وقوله: "انقطعت السبل" في الأول يريد: أنها انقطعت للقحط والجدب فهي لا تُسْلك لذلك. وقوله: "انقطعت السبل" في الثاني يريد: أنها تقطعت لكثرة الغيث والمطر فهي لا تسلك لذلك وتقطعها عبارة عن ترك سلوكها، فكأنها قد تفرقت وصارت قطعًا، وخربت فلا يقدر أحد أن يسلكها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة (10/ 409). (¬2) تهذيب اللغة (14/ 476).

أبي بكر بن عمرو بن حزم أنه سمع عباد بن تميم يقول: سمعت عبد الله بن زيد المازني يقول: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فاستسقى؛ وحوَّل رداءه حين استقبل القبلة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، حدثني عبد الله بن أبي بكر قال: سمعت عباد بن تميم يخبر عن عمه عبد الله بن زيد قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة، وحول رداءه، وصلى ركعتين". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرج الرواية الأولى إسنادًا لفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرج الرواية الثانية عن قتيبة، عن سفيان، وفي آخرها: فأخبرني المسعودي، عن أبي بكر قال: جعل اليمين على الشمال. وله في أخرى (¬3): عن آدم، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عباد، عن عبد الله بن زيد قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خرج استسقى، فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة". وأما مسلم (¬4): فأخرج الروايتين عن يحيى بن يحيى، عن مالك وعن سفيان. وأما أبو داود (¬5): فأخرج الرواية الأولى عن القعنبي، عن مالك. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 190 رقم 1). (¬2) البخاري (1026، 1027). (¬3) البخاري (1025). (¬4) مسلم (894). (¬5) أبو داود (1167).

وفي أخرى (¬1): عن السرح وسليمان بن داود، عن ابن وهب، عن ابن أبي ذئب بإسناد البخاري. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن يحيى بن موسى [عن] (¬3) عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عباد، عن عمه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج (¬4) يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما، وحول رداءه، ورفع يديه، واستسقى، واستقبل القبلة". وأما النسائي (¬5): فأخرج الثانية عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن المسعودي، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم. "الرداء": معروف وهو الثوب الذي يطرح على الأكتاف يلقى فوق الثياب، وهو مثل: الطيلسان إلا أن الطيلسان يكون على الرأس والأكتاف، والرداء يكون على الأكتاف وربما ترك في بعض الأوقات على الرأس، وسميت رداء كما يسمى الرداء طيلسانًا. وتحويل الرداء: هو أن يجعل أعلاه إلى أسفل ويمينه على شماله. وقوله في الرواية الأولى: "خرج فاستسقى" وفي الثانية "خرج يستسقي" بينهما فرق: وذلك أن الثانية أبلغ لفظًا من الأولى, لأن "يستسقي" في موضع نصب على الحال من "خرج" أي خرج مستسقيًا، فكأن الاستسقاء له لازما في حالة خروجه، وليس كذلك قوله: "خرج فاستسقى" لأنه معطوف على "خرج" ¬

_ (¬1) أبو داود (1162). (¬2) الترمذي (556). (¬3) في الأصل (بن) وهو تصحيف. (¬4) عند الترمذي بلفظ (خرج بالناس ...). (¬5) النسائي (3/ 155).

بالفاء وليس حالاً كالأولى، فكان الاستسقاء في الأولى مترتبًا على الخروج غير ممتزج به، والثاني كان الاستسقاء مخالطًا له ممتزجَا به، إلا على أن نيته في الخروج كانت الاستسقاء، والأولى وإن كانت كذلك إلا أن اللفظ لا يدل عليه. ولقائل أن يقول: إن قوله: "فاستسقى" فعل ماض يدل على وقوع الاستسقاء منه، و"يستسقي" فعل مضارع ولا يدل على وقوع الاستسقاء فإنه قد لا يوجد ذلك لمانع فكان أولى بالذكر وأبلغ في المعنى؟. والجواب: أنا قدمنا أن قوله: "خرج يستسقي" خرج مستسقيًا؛ لأنه في موضع الحال فاستسقى، فيطق عليه من حين إنشاء الخروج لأن فيه الاستسقاء متقدمة عليه وإنما الأعمال بالنيات، فهو من حين ابتدائه في الخروج كان مستسقيًا ولا يزال كذلك إلى أن يفرغ، ألا ترى أن الشارع في الصوم يسمى صائماً من حين ابتدائه في أول طلوع الفجر، وإن حدث له عارض فطره في أثناء النهار، وكذلك الشارع في الصلاة يُسمى مصليًا، ثم ما أردفه في كلا الروايتين من قوله: "وحوّل رداءه وصلى ركعتين" يزيل هذا الوهم المقتدر بأن الاستسقاء وجد منه وقوع، وثبت ما قلناه أولاً وبان وضوحه وصحَّ ترجيحه الله أعلم. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن صلاة الاستسقاء على ثلاثة أضرب: أكملها: أن يأمر الإِمام الناس ليصوموا ثلاثة أيام متتابعات، ويتوبوا ويخرجوا من المظالم في الأموال والأنفس والأعراض وأن يصطلحوا، ويأمرهم بالصدقة والصلاة وكثرة الدعاء فإن ذلك أقرب لإجابتهم، ثم يخرج الإِمام متبذلاً متخشعًا متواضعًا نطيف الثوب والبدن غير متطيب، ولا يكون عليه ثوب شهرة ولا زينة، ويأمر الصبيان وأكابر النساء بالخروج وكذلك العبيد والإماء، وفي إخراج البهائم تردد، ولا يخرج من خالف الإِسلام من الكتابيين وغيرهم، فإن خرجوا لأنفسهم فيكونون منفردين عن المسلمين ثم يصلي بهم الإِمام

ركعتين كصلاة العيد وهي السنة، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وابن المسيب، ومكحول، وأبو يوسف، ومحمد، وهو أشهر الروايتين عن أحمد. وقال مالك، وإسحاق، أبو ثور: يصلي ركعتين بلا تكبير زائد. وهي الرواية الأخرى عن أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يصلي. قال أصحابه: يعني أنها ليست سنة. ويقرأ فيها بـ"ق" و"اقتربت" ويجهر بالقراءة. وقال بالجهر: مالك وأحمد وأبو ثور ومحمد. وكل ما قيل في صلاة العيد فهاهنا مثله. ثم يخطب بعد الصلاة خطبتين ويحول وجهه إلى القبلة -في بعض الخطبة الثانية- ويدعو ويتضرعوا ويطلب الغيث من الله تعالى. وقال أبو حنيفة: لا يحول. حكي عن أبي يوسف أن الإِمام يحول رداءه دون المأمومين وروي مثل ذلك عن عروة، وابن المسيب، والثوري. والضرب الثاني من الاستسقاء: أن يستسقي الإِمام في خطبة الجمعة أو العيدين، كما تقدم في حديث أنس بن مالك. والضرب الثالث: أن يخرج الإمام فيدعو دعاءً مجردًا بغير صلاة ولا غيرها. وأخبرنا الشافعي رضي الله عنه: أخبرني من لا أتهم، عن صالح -مولى التوأمة-، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى بالمصلى، فصلى ركعتين". هذا طرف حديث صحيح قد أخرجه أبو داود، الترمذي، والنسائي. فأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن النفيلي وعثمان بن أبي شيبة، عن حاتم بن ¬

_ (¬1) أبو داود (1165) وقال عقبه: والإخبار للنفيلي، والصواب ابن عتبة.

إسماعيل، عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن كنانة، عن أبيه قال: أرسلني الوليد بن عتبة -قال عثمان: ابن (عقبة) (¬1): وكان أمير المدينة- إلى ابن عباس أسأله عن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء؟. فقال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - مبتذلاً (¬2)، متواضعًا متضرعًا، حتى أتى المصلى فرقى على المنبر فلم يخطب خطبكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما كان يصلى في العيد. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل. عن هشام بإسناد أبي داود ولم يذكر المنبر. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن إِسحاق بن عبد الله بن كنانة، عن أبيه، عن ابن عباس. هذا الحديث أخرجه الشافعي مؤكدًا لبيان ما ذهب إليه من صفة صلاة الاستسقاء. وقد أخرج الشافعي (¬5) -رضي الله عنه- قال: أخبرني من لا أتهم، عن جعفر ابن محمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون بالقراءة في الاستسقاء، ويصلون قبل الخطبة، ويكبرون في الاستسقاء سبعًا وخمسًا. قال: وأخبرني من لا أتهم قال: أخبرني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي عليه السلام مثله. قال: وأخبرني سعد بن إسحاق، عن صالح بن أبي حسان، عن ابن المسيب أن عثمان بن عفان كبر في الاستسقاء سبعاً وخمسًا. ¬

_ (¬1) في الأصل عتبة والمثبت من أبي داود وانظر تحفة الأشراف (4/ 363). (¬2) عند أبي داود: (متبذلاً). (¬3) الترمذي (558) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (3/ 156). (¬5) الأم (1/ 249 - 250).

قال: وأخبرني من لا أتهم قال: أخبرني صالح بن محمد بن زائدة (¬1)، عن عمر بن عبد العزيز أنه كبر في الاستسقاء سبعًا وخمسًا، وكبر في العيدين مثل ذلك. قال الشافعي: ونأمره أن يقرأ فيهما ما يقرأ في صلاة العيدين، فإن قرأ في الركعة الثانية {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (¬2) أحببت ذلك، قال: ويخطب الإِمام في الاستسقاء خطبتين كما -يخطب في صلاة العيدين، يكبر الله فيهما ويحمد (¬3)، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكثر فيهما الاستغفار حتى يكون أكثر كلامه، ويقول كثيرًا: استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويخطب مستقبل الناس في الخطبتين، ثم يحول وجهه إلى القبلة ويحول رداء، ويحول الناس أرديتهم معه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمارة بن غزية، عن عباد بن تميم قال: "استسقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعلها أعلاها؛ فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه". هذا الحديث هكذا جاء في رواية الربيع مرسلًا (¬4). وقد أخرجه النسائي (¬5): مرفوعاً عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن يزيد. ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [عن عمرة] بين صالح وعمر بن عبد العزيز ولم يضرب عليها الناسخ، وهي زيادة مقمحة. (¬2) نوح (1). (¬3) في الأم (1/ 250)، ونقله في المعرفة (5/ 172) بلفظ: (ويحمده) وهو الأقرب. (¬4) عباد بن تميم تابعي لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) النسائي (3/ 157).

[وكذلك رواه: إبراهيم بن حمزة والمعلي بن منصور وأبو الجماهر، عن عبد العزيز موصولاً] (¬1) (¬2). "الخميصة": كساء أسود له علامان، فإن لم يكن معلمًا فليس بخميصة. وقوله: "والخميصة" لا تكون إلا سوداء زيادة في البيان, لأنه ربما اتسع في الخميصة فأطلقت على كساء غير أسود مجازًا لكثرة الاستعمال. والذي أخرج له الشافعي هذا الحديث: هو أنه يستحب أن يجعل طرف ردائه الأسفل إلى جهة فوق؛ ويجعل الذي على شقه الأيسر على عاتقه الأيمن، والذي على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، فيجمع بين التحويل والتنكيس لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - همَّ بذلك ثقلت عليه قلبها على عاتقيه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني خالد بن رباح، عن المطلب بن حنطب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند المطر: "اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاءً ولا هدم ولا غرق، اللهم على الظراب ومنابت الشجر، اللهم حوالينا ولا علينا". تقول: سقى الله الناس الغيث وأسقاهم والاسم: السقيا -بالضم- فأما سَقيًا -بالفتح- فهو مصدر. والظراب: قد ذكره في حديث أنس أولاً. وهذا الدعاء كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو به عند نزول الغيث، فإنه كان إذا هبت الريح أو نزل الغيث تغير لونه وأقبل وأدبر وخاف لئلا يكون نزول عذاب، فكان ¬

_ (¬1) ورواه أيضًا نعيم بن حماد، والحميدي، وسريج بن النعمان، وعلي بن بحر، وقتيبة بن سعيد وغيرهم, عن عبد العزيز وانظر تحفة الأشراف (4/ 337 - 338)، وإتحاف المهرة للحافظ ابن حجر (6/ 635). (¬2) جاءت مكررة بالأصل لكن ذكره عن [عبد الله بن يزيد] مكان [عبد العزيز] وأظنه أراد أن يضرب على هذه الفقرة فسها وانظر المعرفة (5/ 173).

يقول: "اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب" وباقي الدعاء. وقوله: "حوالينا" لأنه إذا جاء الغيث حواليهم نزل على الزروع والشجر والأراضي وأنبتت العشب، وإذا لم يكن عليهم؛ انتفعوا بمعايشهم ولم يعقهم المطر عن السعي في مصالحهم. وقد أخرج الشافعي (¬1) -رضي الله عنه- عن إبراهيم بن محمد قال حدثنا شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استسقى قال: "اللهم أمطرنا" ورواه إسماعيل بن جعفر، عن شريك، عن أنس في قصة الرجل الذي دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فشكى إليه، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: "اللهم أغثنا" وهو حديث صحيح متفق عليه (¬2). قال الشافعي: وروي عن سالم بن عبد الله، عن أبيه مرفوعًا أنه كان إذا استسقى قال: "اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مرئيًا مريعًا، غدقًا مجللًا عامًّا طبقًا سحًّا دائمًا، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد وبالبهائم والخلق، من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا (¬3). ¬

_ (¬1) الأم (1/ 251). (¬2) البخاري (1013)، ومسلم (897). (¬3) قال الحافظ في التلخيص (2/ 105): هذا الحديث ذكره الشافعي في الأم تعليقًا ... ولم نقف له على إسناد، ولا وصله البيهقي في مصنفاته، بل رواه في "المعرفة" من طريق الشافعي قال: يروي عن سالم به، ثم قال: وقد روينا بعض هذه الألفاظ وبعض معانيها في حديث أنس بن مالك، وفي حديث جابر، وفي حديث عبد الله بن جراد، وفي حددث كعب بن مرة، وفي حديث غيرهم ثم ساقها بأسانيدها. اهـ بتصرف يسير.

"المريع": ذو الراعة والخصب، يقال: أمرع الوادي إذا أثبت. "والغدق": الكثير القطر. "والمجلل" -بكسر اللام-: هو الذي يجلل الأرض بمائه أو بنباته، أي: يغطيها. "والطبق": الذي يطبق وجه الأرض. "واللأواء": الشدة. "والضنك": الضيق. "والجهد" -بفتح الجيم-: الشدة. "والقانط": الآيس من الشيء. قال الشافعي: وأحب أن يدعو الإِمام بهذا ولا وقت في الدعاء. قال: وبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه. قلت: قد جاء هذا في كتاب البخاري (¬1) ومسلم (¬2): عن يحيى بن سعيد وابن أبي عدي، عن [ابن] (¬3) أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، فإنه كان يرفع يديه حتى يرفع بياض إبطيه". قال الشافعي: ويدعو سرًّا في نفسه ويدعو الناس معه، ويقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، فقد [دعوناك] (¬4) كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، اللهم إن كنت أوجبت إجابتك لأهل طاعتك وكنا قد فارقنا ما خالفنا ¬

_ (¬1) البخاري (1031). (¬2) مسلم (895). (¬3) سقط من الأصل والصواب إثباته و (ابن أبي عروبة) هو: سعيد. (¬4) في الأصل [دعوتنا] وهو خطأ والتصويب من الأم (1/ 250).

فيه الذين محضوا طاعتك، فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتنا في سقيانا وسعة رزقنا". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرني من لا أتهم، عن سليمان بن عبد الله بن عويمر الأسلمي، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: "أصاب الناسَ سنةٌ شديدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمر بهم يهودي قال: أما والله لو شاء صاحبكم لمطرتم ما شئتم، ولكنه لا يحب ذلك فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول اليهودي، فقال: "أوقد قال ذلك"؟. قالوا: نعم. قال: "إني لأستنصر بالسنة على أهل نجد؛ فإني (¬1) لأرى السحاب خارجة من العين فأكرهها، موعدكم يوم كذا أستسقي لكم فلما كان ذلك اليوم غدا الناس، فما تفرق الناس حتى أمطروا ما شاءوا فما أقلعت السماء جمعة". "السنة": الجدب والقحط واحتباس الغيث وقلة العشب، تقول العرب: أصابت بني فلان سنةٌ أي أجدبوا، وأكلت أموالهم السنة يعنون الجدب. وقوله: "لمطرتم ما شئتم" أي مهما شئتم، ويجوز أن تكون ما بمعنى "الذي" أي أمطرتم الذي شئتم، والعائد إلى "الذي" محذوف في قوله: شئتم. وهذا قول اليهودي من فصيح الكلام وأحسنه. قال ذو الرمة: قاتل الله أمة بني فلان ما أفصحها قلت لها: كيف كان المطر عندكم؟ فقالت: غيثًا ما شئنا. والهمزة في قوله: "أوقد" همزة استفهام دخلت على واو العطف، وفي دخول هذه الواو زيادة استفهام واستثبات وإنكار، فإن قوله: " [أقد] (¬2) قال ¬

_ (¬1) في مطبوعة المسند: (وإني). (¬2) في الأصل [أوقد] والمثبت هو الذي يتناسب مع السياق.

ذلك؟ " ليس فيه من الإعظام ما في قوله: "أوقد قال ذلك؟ " فكأنه معطوف على كلام مقدر محذوف من جنسه، حتى كأنه قال: أسمعتموه يقول ذلك، أوقد قال ذلك"؟ فحصل في إدخال الواو من الفائدة ما ليس في عدمها، وإنما استثبتهم عن قول اليهودي وأنكره: لأنه غرض اليهودي من قوله، فإنه أراد أن ينفر المسلمين عن دينهم ويوقع في أنفسهم أنه يتوقف في طلب الغيث ضنًّا منه عليهم، أو أنه فعل ذلك خبثًا منه وشرًّا وذلك أنه ما كان يعتقد صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، فأراد أن يعلمهم أنه قادر على مجيء المطر من طريق الاستهزاء حتى يسألوه ذلك فيعجز عنه ولا يجاب سؤاله فيظهر لهم ما ينفرهم عن الإِسلام بذلك وتسىء عقائدهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - والدين، أو لأنه كان راغبًا في حصول الغيث وزوال الجدب لاشتراك الخلق في النفع به، واليهود وإن لم يؤمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنما فعلوا ذلك عنادًا وحسدًا وبغيًا؛ وإلا فقد كانوا يعلمون صدقه، والتوراة ناطقة بذكره وإنما غيروها وبدلوها، فكان هذا القول منه طلبًا لبركة دعائه وإجابة لسؤاله. والله أعلم. وقوله: "إني لأستنصر بالسنة على أهل نجد" يريد أنه يجعل الجدب على أهل نجد تأكيدًا له؛ لأنهم إذا أجدبوا هلكت مواشيهم وضعفت أبدانهم، وقلت أرزاقهم، وهلكوا جوعًا وعطشًا، وجبنوا عن الحرب وانقادوا إلى الإِسلام طوعًا أو كرهًا، فجعل ذلك استنصارًا منه عليهم بالجدب. والاستنصار: طلب النصرة. ولأن أهل نجد أهل عمل وفلوات؛ فينالهم. من الجهد والبلاء بالجدب ما لا ينال أهل المدن والقرى بالسنة، وإن كانت تعم الطائفتين -فإنها بأهل العمل أكثر أضرارًا. "والعين": يريد ما عين (¬1) يمين القبلة قبلة العراق، يقال: نشأت السحابة عن ¬

_ (¬1) في النهاية (2/ 332): (اسم لما عَنْ يمين ...).

قبل العين، يريدون: من هذه الجهة. والعن أيضاً: مطر أيام لا يقلع، أراد: أنني لا أرى السحاب خارجة من جهة العين التي جديرة بالمطر فأكرهها. وإنما خص هذه الجهة: لأنها جهة البحر مما يلي المدينة، والسحاب إذا نشأت من جهة البحر كان أكثر لمائها في جارى العادة، فإنما كرهها لأنه كان يريد أن يدوم الجدب ليتأذى به أهل نجد، فإذا نشأت السحابة كانت خليقة أن تخصب فيزول الجدب بالغيث فكان يكره ذلك. "والموعد": مفعل من الوعد، والمراد به هاهنا: الزمان وقد يطلق على المكان والمصدر. "والاستسقاء": طلب السقيا وهو أن يطلب من الله تعالى أن يسقيه. وقد جمع في هذا الحديث بين اللغتين مطر وأمطر. "وأقلعت السماء": عبارة زوال (¬1) السحاب وانقشاع الغيم، يقال: أقلع فلان عما كان عليه، أو كف عنه وفارقه. قال الشافعي: وإذا استسقى فلم يمطر الناس، أحببت أن يعود ثم يعود حتى يمطر، وقال: إنما اخترت له العودة لأن الصلاة والجماعة في الأولى ليس بفرض، وإن رسول الله إذا استسقى سقي أولاً، فإذا سقوا أولاً لم يعد الإِمام يستسقي، ثم ذكر الحديث مستدلاً به على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى سقى أولاً. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل والسياق يحتاج حرف الجر (عن) ليتجانس المعنى فيكون (عبارة عن زوال ...).

الفرع الثاني في أحاديث تتعلق بالأنواء والمطر والرعد وغير ذلك

الفرع الثاني في أحاديث تتعلق بالأنواء والمطر والرعد وغير ذلك أخبرنا الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا مالك، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني قال: "صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالمدينة في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف وأقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم"؟. قالوا: الله ورسوله أعلم. قال (¬1): "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا أو نوء فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬2): فأخرجه إسنادًا ولفظًا إلا أنه قال: أتدرون. وقال: مؤمن بي وكافر بي، وقال: مؤمن بي وكافر بالكوكب. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن إسماعيل، عن مالك بالإسناد. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأمما أبو داود (¬5): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم، عن ¬

_ (¬1) جات مكررة في الأصل. (¬2) الموطأ (1/ 192) رقم 4). (¬3) البخاري (1038). (¬4) مسلم (71). (¬5) أبو داود (3906). (¬6) النسائي في الكبرى (10760، 10761) وفي المجتبى (3/ 164 - 165).

مالك. وعن قتيبة، عن سفيان، عن صالح. "إثر الشيء" -بكسر الهمزة وسكون الثاء- وأثر الشيء -بفتحها- سواء تقول: خرجت في إثر فلان وأثره إذا تبعته وقصدت قصده وسلكت طريقه، وهو من الأثر الباقي من رسم الشيء. والسماء في أصل اللغة: عبارة عن كل ما علاك فأظلك، ثم كثر استعمالها حتى صار خصيصًا بالعالم العلوي، فإذا أطلق لا يضاف إلا إليه، وقد سموا الغيث سماء: لأنه ينزل من السماء، وهو من سما يسمو إذا علا وارتفع. والتاء في "كانت" راجعة إلى السماء الذي هو كناية عن المطر، والسماء مؤنثة فألحق لها تاء التأنيث، ويجوز تذكيرها لأن تأنيثها غير حقيقي. قال الله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} (¬1). "وأصبح": يجوز أن تكون تامة، وأن تكون ناقصة، فإن جعلتها تامة كان المعنى: وجد من عبادي في هذا الصباح مؤمن وكافر. وإن جعلتها ناقصة: كان المؤمن اسم "ما" والجار والمجرور خبرها إلا أنه لما كان الاسم نكرة تأخر من عن الخبر، كقولك: كان في الدار رجل وأصبح في المنزل، وكونها تامة أولى. والمؤمن هاهنا: يجوز أن يراد به الإيمان الذي هو ضد الكفر، وأن يراد به الإيمان الذي هو التصديق، وكذلك الكافر يجوز أن يراد به ضد الكفر، وأن يراد له الجحود والتكذيب، ويدل عليه قوله: "فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" أي جاحد ومكذب لما يضاف إليه، ويجوز أن يكون من الكفر ضد الشكر يعني: أنه كفر نعمة الله حيث أضافها إلى غيره، ويعضد ذلك ما جاء في رواية النسائي: "فأصبحوا بها كافرين" أي غير شاكرين. وقد جاء في بعض النسخ "بالكواكب" على الجمع ويريد بها الأنواع، لأن ¬

_ (¬1) المزمل: [18].

الأنواء في أكثرها كواكب عدة كالثريا والإكليل والنعائم وغير ذلك. ومن قال: "بالكواكب" فإنما يريد به النوء ولأن في كثير من الأنواع في كل نوء كوكب واحد، كالقلب والسماك والدبران والصرفة. والنوء في الأصل: مصدر ناء ينوء نوءًا فهو ناء إذا نهض وطلع، هذا هو في أصل الوضع وجمع النوء: الأنواء وهي أسماء المنازل الثاني والعشرين التي ينزلها القمر كل ليلة، والنوء في هذا الموضع إنما هو كناية عن السقوط والغروب إلى الطلوع، فقيل: إنه من الأضداد. وقيل: إنما سمي الساقط نوء لأنه إذا سقط الساقط منها في المغرب مال الطالع منها في المشرق أي طلع. قال أبو عبيد: لم يسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع. والمنازل الثماني والعشرون أولها: السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرفة، والجبهة، والدبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والعقرب، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الرابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، والرشا. وهذه المنازل تطلع كل منزلة منها مع طلوع الفجر في المشرق، إلى انقضاء ثلاث عشرة ليلة، ويغيب في المغرب عند طلوع الفجر رقبته إلى ثلاث عشرة ليلة، وهكذا كل منزلة منها إلا الجبهة فإن لها أربع عشرة ليلة، ولا يزال كذلك حتى تفرغ المنازل جميعها ويكون ذلك عند إنقضاء السنة وذلك سنة شمسية، وهي ثلاثماثة وخمسة وستون يومًا وربع يوم بالتقريب، ثم تستأنف طالعة وغاربة لابتداء السنة الأخرى، ورقبت كل منزلة وما يقابلها فإنها ثمان وعشرون منزلة فإذا قسمت نصفين كانت أربع عشرة منزلة يقابلها أربع عشرة منزلة، والسرطان رقيبة العقرب، والبطين رقيبة الزباني والإكليل رقيبة الثريا، وكذلك إلى آخرها حتى يصير السماك رقيبة الرشا.

ومعنى طلوع المنازل وغروبها: طلوعها مع الفجر وغروبها مع طلوعه، لا طلوعها من الأفق وغروبها فيه، فإن ذلك موجود لها في كل يوم وليلة، ولكن المراد به: أن الشمس إذا قربت من كوكب من الكواكب الثابتة والسيارة؛ سترته وأخفته عن أعين الناظرين فصار يطع نهارًا ويغيب ليلاً, لأنه يغيب مع الشمس فلا يبين فكان ذلك غيبة له، ولا يزال كذلك إلى أن ترجع الشمس يبعد عنه بعدًا يكمن إذا طلع فيه أن يدرك بالأبصار ويرى، وذلك عند أول طلوع الفجر فإن ضوء الفجر حينئذ يكون ضعيفًا فلا يغلب ضوء الكوكب، فيُرى في الأفق الشرقي طالعًا وذلك عبارة عن ظهوره وطلوعه، ويغيب في ذلك الوقت رقيبته وهو عبارة عن غروبه واختفائه، وإنما غلظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر الأنواء وأعظمه؛ لأن العرب كانت تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقبتها، يكون مطر أو ريح أو برد وغير ذلك من أشباه هذا، فكان بعضهم يضيف ذلك إلى الساقط منها، وبعضهم يضيفه إلى الطالع منها، فيقولون: مطرنا بنوء كذا، فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك حتى نسب قائله إلى الكذب، حيث أضاف نعمة الله ورحمته إلى الكوكب. وقوله: "كافر بالكوكب" يريد النوء الذي الكوكب الخاص بهذه المنزلة، وإذا رجعنا إلى حقيقة علم الهيئة كانت هذه الكواكب التي تعرف بها المنازل قد تحركت عن أماكنها فإن لها مسيرًا خاصًّا، والموضع الذي كانت فيه عند التسمية هو المنزلة في الحقيقة لا الكوكب، وإن كان الكوكب هو الذي يعرف، ولولا خوف الإطالة والخروج عن موضوع هذا الكتاب، لذكرنا عدد كواكب المنازل وبينا كل منزلة منها كم فيها كوكب، وييَّنا أسماء تلك الكواكب إقرارها وحركاتها أو عروضها، واختلاف الناس في أقدارها، ومن أي البروج هي شمالها وجنوبها، وإن كان في ذكرها وشرحها من الفوائد الشرعية ما لا خفاء به من معرفة الأوقات الليلية في الصلاة والصيام والقيام والأوراد وغير ذلك،

فلنعد إلى بيان أحكام الأنواء فيما يتعلق بالحديث، فنقول: إنه لما علم الشارع -صلوات الله عليه وسلامه- من عادات العرب في إضافة الخير والشر إليها أكبر ذلك وأعظم، فإن النعم والنقم من الله تعالى القادر العلم اللطف الخبير، وأما من جعل هذه الأشياء من أفعال الله تعالى. وأراد بقوله: "مطرنا بنوء كذا" أي في وقت هذا النوء الذي يعرف به فإن ذلك جائز، فقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه أراد أن يستسقي فنادى العباس بن عبد المطلب: كم بقي من نوء الثريا؟. فقال: إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا بعد وقوعها. فما مضت تلك السبع حتى غيث الناس. وأراد عمر: كم بقي من الوقت الذي قد جرت العادة؛ أنه إذا كَمُل أتى الله فيه المطر. قال الشافعي (¬1) -رحمه الله- عقيب ذكره لهذا الحديث: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - -بأبي هو وأمي- عربي واسع اللسان يحتمل قوله هذا معاني، وإنما مطر بين ظهراني قوم أكثرهم مشركون, لأن هذا في غزوة الحديبية. قال: وأرى معنى قوله هذا -والله أعلم- أن من قال: "مطرنا بفضل الله ورحمته" فذلك إيمان بالله لا يعلم أنه لا يمطر ولا يعطي إلا الله -عز وجل-، وأما من قال: "مطرنا بنوء كذا" على ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا، فذلك كفر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النوء وقت والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً، ولا يمطر ولا يصنع شيئًا، فأما من قال: "مطرنا بنوء كذا" على معنى مطرنا في وقت نوء كذا؛ فإنما ذلك كقوله مطرنا في شهر كذا؛ فلا يكون هذا كفرًا، وغيره من الكلام أحب إلى منه، أحب أن يقول: مطرنا في وقت كذا. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 252).

قال: وبلغني أن [بعض] (¬1) أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أصبح وقد مطر الناس، قال: "مطرنا بنوء الفتح" ثم يقرأ: {مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} (¬2) (¬3). ثم ذكر قول عمر للعباس، ثم قال: وقول عمر هذا بين ما وصفت, لأنه إنما أراد كم بقي من وقت الثريا لمعرفتهم بأن الله تعالى قدَّر الإمطار في أوقات فيما جرّبوا، كما علموا أنه قدر الحر والبرد فيما جربوا في أوقات معروفة، ثم عِلْم النجوم مشهور وبعضه حسن مفيد لا بأس به، وإنما المنهي عنه من أنواعه وهو ما يدعيه المنجمون من علم الكائنات والحوادث التي لم تقع، وسيجيء في مستقبل الزمان وكمية أعمار الناس، وإضافة السعادة والشقاوة إليها، وأنهم يدركون ذلك بتسييرها واتصالات بعضها ببعض، وأن بعضها سعود وبعضها نحوس، فأما ما فيه من علم مسير الكواكب وطلوعها وغروبها في أوقاتها؛ واتصالها وافتراقها ومعرفة كسوفها وخسوفها؛ وكل ما يرجع إلى أمر حقيقي من حساب لا يمكن إنكاره ولا يجوز حجوده فذلك غير منهي عنه ولا مأمور باجتنابه، كيف وفيه من الاستدلال على أوقات الصلوات ومظان العبادات، ومعرفة القبلة والاهتداء بالطرقات وغير ذلك من المنافع والفوائد، ومن الاطلاع على كنه مقدورات الله -عز وجل- وعظم خلقه وسعة قدرته، فإنك إذا رأيت الشمس وهي في مرأى العين مقدار الترس، وقد قام الدليل الحسابي -الذي لا ينكر- أنها في قدر الأرض جميعها، بما فيها من الجبال، والأنهار، والبحار، والشجر، والعالم من الإنس والجن، والدواب مائة مرة وخمس وستون مرة تزايدت عظمة الله سبحانه عندك؛ وعلمت أنه القادر الذي لا يعجزه مقدور ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من الأم (1/ 252). (¬2) فاطر: [2]. (¬3) أخرجه مالك في الموطأ بلاغًا عن أبي هريرة به.

وتتدرج هذه الأشياء في مضمون قوله -عز وجل-: {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (¬1) الآية. وقد تقدم مثل ذلك في ذكر الكسوف. والله الموفق للصواب. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا من لا أتهم، قال: أخبرني خالد ابن رباح، عن المطلب بن حنطب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا برقت السماء أو رعدت عرف ذلك في وجهه فإذا أمطرت سري عنه". قال أبو العباس الأصم: سمعت الربيع يقول: كان الشافعي إذا قال: أخبرني من لا أتهم، يريد به إبراهيم بن أبي يحيى، وإذا قال: أخبرني الثقة، يريد به يحيى بن حسان. برقت السماء تبرق، وأبرقت تبرق، ورعدت وأرعدت، والأول أكثر والثاني حكاه ابن عمر وأبو عبيدة، والمراد بالسماء هاهنا: السحاب والغيم, لأن البرق والرعد إنما يكونان منه وفيه، وإن كان قد يعرض سنا البرق في الصحو في أطراف السماء قليلاً ولا أصل له، وإنما أراد في الحديث: البرق الذي يجيء في السحاب وهو نذير الرعد والمطر. وقوله: "عرف ذلك في وجهه" يريد ظهور أثر الخوف عليه، يدل على ذلك ما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن فيه المطر، وأراك إذا رأيت غيمًا عُرِف ذلك في وجهك الكراهية؟ قال: "يا عائشة، وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا" (¬2). وقوله: "سري عنه" أي كشف عنه الغم والخوف وأزيل وكذلك أسري عنه وأصله من سروت الثوب عني سروًا إذا ألقيته، وسريت لغة فيه وسروت عني ¬

_ (¬1) آل عمران (190). (¬2) أخرجه البخاري (4829)، ومسلم (899).

درعى بالواو لا غير، ويجوز أن تكون من السري وهو سير الليل، أي أنه أبعد عنه بأن جعل يسري ويفارقه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا من لا أتهم قال: قال المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أبصرنا شيئًا من السماء -يعني السحاب- ترك عمله واستقبله، قال: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه" فإن كشفه الله حمد الله، وإن مطرةت قال: "اللهم سقيًا نافعًا". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1): عن ابن بشار، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن المقدام. وقد أخرج البخاري ومسلم (¬2): حديثا في الريح والسحاب قريبًا من معناه. وأخرج البخاري (¬3) منه طرفًا: عن ابن مقاتل، عن عبد الله [عن] (¬4) عبيد الله، عن نافع، عن القاسم، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: "صيبًا نافعًا". وأخرج النسائي (¬5) هذا الطرف: عن [محمد] (¬6) بن منصور، عن سفيان عن مسعر، عن المقدام. ¬

_ (¬1) أبو داود (5099) ولفظه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى ناشئا في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة ثم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شرها، فإن مطر قال: اللهم صيبا هنيئًا"). (¬2) تقدم تخرجه قريبًا. (¬3) البخاري (1032). (¬4) في الأصل [بن]، وهو تصحيف، والتصويت من رواية البخاري. (¬5) النسائي (3/ 164). (¬6) في الأصل [عمر] وهو تصحيف والصواب هو المثبت، كذا في تحفة الأشراف (11/ 422) ومطبوعة النسائي.

"الناشئ والنشئ": أول ما يبدأ من السحاب، ونشأت السحابة ارتفعت وأنشأها الله. وقوله: "ترك عمله" من بداية ترك ما كان يلابسه من أعمال، وقد جاء في بعض طرق أبي داود: "وإن كان في صلاة" وإنما كان يترك ذلك: خوفًا من السحاب لئلا يكون فيه عذاب، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - على هذا القدر من الخوف لما كان عنده من اليقين بأيام الله وأخذه القرون الخالية، ويعضد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أشدكم لله خوفًا" (¬1) وقوله "أشدكم لله خوفًا أعرفكم به". ومعنى: "استقباله إياه" النظر إليه والاستعاذة منه ومن شره بالله، وعرف همته إلى الله ليكشفه ولذلك قال: "فإن كشفه الله حمد الله، وإن مطرت قال: سقيا نافعا". "والسقي" -بالفتح-: المصدر وقد ذكر، وأردفه بقوله: "نافعًا" لأن المطر ما يضر بكثرته في غير وقته. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه-[أخبرنا] (¬2) من لا يتهم قال: حدثني أبو حازم، عن ابن المسيب "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع حس الرعد عرف ذلك في وجهه، فإذا مطرت سري عنه، فسئل عن ذلك فقال: "إني لا أدري بما أرسلت بعذاب أم برحمة". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا من لا أتهم، حدثني العلاء بن راشد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيه وقال: " [اللهم] (¬3) اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه البخاري في صحيحه (6101)، بلفظ: "فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية". (¬2) سقط من الأصل والصواب إثباته، وانظر الأم (1/ 253). (¬3) بالأصل [الله] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وانظر الأم (1/ 253).

[رياحًا] (¬1) ولا تجعلها ريحًا". قال ابن عباس: في كتاب الله {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} (¬2) و {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (¬3) وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (¬4) و {أَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} وفي بعض النسخ (¬5) {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} (¬6). هذا حديث حسن مشهور، وقد أخرجه جماعة من الأئمة في كتبهم (¬7). "جثا يجثوا": إذا قعد على ركبتيه، وعطف ساقيه إلى تحته، وهو قعود المستوفز والخائف الذي إن اجتاح إلى النهوض نهض سريعًا، وهو أيضاً قعود الصغير بين يدي الكبير وفيه نوع أدب، كأنه لما هبت الريح وأراد أن يخاطب ربه -عز وجل- بالدعاء، قعد قعود المتواضع لربه الخائف من عذابه، المتأدب بي يديه ثم دعا. وأما قوله: "اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا" فقد فسر ذلك ابن عباس في سياق الحديث بورود الريح مفردة للعذاب، وورودها مجموعة للرحمة بما ذكر من الآيات، ومما يوضح ذلك أن الرياح المعروفة المشتهرة أربع: الجنوب، والشمال، والصبا، والدبور. ¬

_ (¬1) بالأصل [ريا] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب وانظر الأم (1/ 253). (¬2) القمر: (19). (¬3) الذاريات: (41). (¬4) الحجر: (22). (¬5) وهو الصواب، والآية من سورة الروم: [46]. (¬6) الروم: [46]. (¬7) أخرجه أبو يعلى (2450)، والطبراني في الكبير (11/ 213 رقم 11533)، وفي الدعاء (977): وعزاه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3396) إلى مسند مسدد. كلهم من طريق حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس بنحوه. قال الهيثمي في المجمع (10/ 136) فيه حسين بن قيس الملقب بحنش وهو متروك وقد وثقه حصين ابن نمير وبقية رجاله رجال الصحيح. قلت: حسين وهاه جمهور النقاد وراجع الميزان (1/ 546).

والوارد في أشعار العرب وأقوالهم أن الجنوب تجمع السحاب، والشمال تعصره فتأتي بالمطر، والصبا يسلي المكروب، فهذه الثلاث كلها تأتي بخير وهي المنشآت، والريح العقيم هي الدبور لأنها لا تلقح الشجر وتهدم البنيان وتقلع الأشجار، وهي مذمومة في القرآن العزيز، وفي الحديث "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور" (¬1) وغيرها من الرياح محمود فكل موضع ذكرت الريح مفردة فالمراد به الدبور. ومما يزيده بيانًا: أن الريح من الهواء، والهواء أحد العناصر الأربعة، التي بها قوام الحيوانات والنبات بتقدير الله وإجراء العادة بطبائعها، حتى لو قدر عدم الهواء لم يعش حيوان ولم ينبت نبات، ولا شبهة أن الريح عبارة عن اضطراب الهواء وتموجه في الجو، وأنه بحركته ومصادمته للأجسام ينميها أو يتخللها فيوصل إلى دواخلها من لطائفه ما يقوم بحاجتها إليه، فإذا كانت الريح واحدة جاءت من جهة واحدة، فصدمت الجسم الحيواني والنباتي من جانب واحد وبقي الجانب الآخر غير مصادم لنا وفي ذلك ضرر من وجهين: أحدهما: أن مصادمة الريح إذا دامت على جانب واحد أثرث فيه أثرًا أكثر من حاجته إليه، وكان ذلك داعيًا إلى آفة تنزل به وميل إلى الجانب الآخر المقابل لهب الريح. وذلك مخالف للاعتدال. والوجه الثاني: أن الجانب المقابل لعكس مهب الريح يفوته حظه من الهواء إذا لم يصادمه هواء كالجانب الآخر، فيكون داعيًا إلى فساد بعضه (¬2) عن نطره من الجانب المقابل لمهب الريح، وذلك بخلاف ما إذا كانت من جوانب الجسم الملاقى لها، فإن كل جانب يأخذ من الريح المصادمة له حظه ويمنع نزول آفة به ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1035)، ومسلم (900). (¬2) في الأصل [وبعضه] والظاهر أن الواو مقحمة.

ويدفع الليل عنه، فيحدث الاعتدال في مهبها إذا كانت رياحًا. "والريح الصرصر": الشديدة البرد، ويقول: إن أصلها صرر من الصر: البرد، فأبدلوا مكان الراء الوسطى صادًا، كقولهم: كبكبوا فيها أصله كببوا. "وتجفجف" الثوب: أصله تجفف. "والريح العقيم": هي التي لا تلقح الشجر ولا تنمي النبات ولا تؤلف السحاب كأنها لا تولد، من قولهم: امرأة عقيم ورجل عقيم، إذا كانا لا يلدان. "والربح اللاقح": التي تؤلف السحاب وتحمل المطر إليه، ولأنها تلقح الشجر بمرورها عليه. "ورياح لواقح"، ولا يقال: ملاقح وإن كان القياس, لأن الأصل فيه ملحقة من ألقح [الفحل] (¬1) الناقة إذا علاها وأحبلها، وإنما قيل للريح لاقح، لأنها لا تلقح إلا وهي في نفسها لاقح، لأنها بحمل الماء مكان الريح لقحت هي، فإذا نشأت سحابة وفيها خير وصل ذلك إليها. "والرياح المبشرات": التي تبشر بالغيث وتنذر بمجيئه فتحدث السرور في قلوب العالمين. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا من لا أتهم قال: أخبرني صفوان بن سليم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الريح وعوذوا بالله من شرها". هذا الحديث مرسل، صفوان بن سليم (¬2) تابعي روى عن أنس بن مالك ¬

_ (¬1) في الأصل [الفتح] وهو تصحيف. (¬2) قال الكتاني: قلت لأبي حاتم: هل رأى صفوان أنسًا؟ قال: لا, ولا يصح روايته عن أنس. وقال أبو داود السجستاني: لم ير أحدًا من الصحابة إلا أبا أمامة وعبد الله بن بسر. وانظر تهذيب التهذيب.

وغيره. إلا أن الترمذي (¬1) أخرج عن أبي بن كعب هذا المعنى من رواية [إسحاق] (¬2) ابن إبراهيم بن حبيب، عن محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ذر، عن سعيد بن الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب. "والسبُّ": الشتم سبَّه يسبُّه إذا شتمه. "وعوذوا": استعيذوا واطلبوا المعاذ وهو الملجأ والملاذ. وسيرد المعنى أوضح من هذا في حديث أبي هريرة الثاني له. وأخبرنا الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا الثقة، عن الزهري، عن ثابت بن قيس، عن أبي هريرة: "أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر حاج فاشتدت، فقال عمر لمن حوله: ما بلغكم في الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئًا، فلبغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح، فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت في مؤخر الناس، فقلت: يا أمير المؤمنين، أخبرت أنك سألت عن الريح، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الريح من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب، فلا تسبوها وسلوا الله خيرها وعوذوا به من شرها". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬3): عن أحمد بن محمد المروزي وسلمة بن شبيب، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري بالإسناد. وذكر المسند ولم يذكر قصة عمر. وقد رواه يونس بن يزيد والأوزاعي، عن الزهري أيضاً (¬4). ¬

_ (¬1) جامع الترمذي (2252) وقال: حسن صحيح. (¬2) بالأصل [النخعي] وهو تحريف والمثبت من تحفة الأشراف (1/ 30) وكذا مطبوعة الترمذي. (¬3) أبو داود (5097). (¬4) المعرفة (5/ 190).

قوله: "فلم يرجعوا إليه شيئاً" أي لم يردوا عليه جوابًا. و"رجع" فعل قاصر ومتعد، تقول: "رجعت إلى زيد" إذا عدت إليه، ورجعت فلاناً إلى زيد" أي رددته إليه. "والاستحثاث": استفعال من الحث وهو الإسراع والحض على الشيء، وسير حاث وحثيث أي سريع. و"الروح": الرحمة والراحة ونسيم الريح، والمراد في الحديث الأول أي أن الريح من رحمة الله. وقوله: "تأتي بالرحمة" هيد الغيث والراحة والنسيم وغير ذلك. وقوله: "بالعذاب" إتلاف النبات والشجر وإهلاك المواشي وهدم البناء وغير ذلك، فلا تسبوها لأنها مأمورة بإذن الله -تعالى- وإرادته فلا ذنب لها، ولكن اسألوا الله من خيرها الذي يأتي به واستعيذوا بالله من شرها المقدر في هبوبها. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرني عمي محمد بن عباس قال: شكا رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الفقر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعلك تسب الريح". قال الشافعي: ولا ينبغي لأحد أن يسب الريح فإنها خلق لله مطيع وجند من أجناده، فجعلها رحمة ونقمة إذا شاء. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا من لا أتهم، حدثني سليمان بن عبد الله (¬1) بن عويمر الأسلمي، عن عروة بن الزبير، قال: "إذا رأى أحدكم البرق أو الودق ¬

_ (¬1) بالأصل [عن ابن عويمر ...] وزيادة "عن" غير صحيحة وسليمان هو: ابن عبد الله بن عويمر مترجم له في التهذيب وغيره، والحديث جاء في الأم (1/ 253) على الجادة كما أثبتناه، وانظر المعرفة أيضاً (5/ 192).

فلا يشير إليه وليصف ولينعت". هذا أثر عن عروة بن الزبير بن العوام وكان من أكابر التابعين وزهادهم (¬1). "والبرق": معروف وقد تقدم ذكره. "والودق": المطر وقد ودق يدق ودقا إذا قطر. وقوله: "ولا يشير إليه" أي لا يومئ إليه بأصبعه. "وليصفه ولينعته": أي يصفه بالكثرة أو القلة أو بالقوة أو الضعف وما أعلم فيما يحضرني لنهيه عن الإشارة إليه وجهاً، وأرجو من الله -تعالى- أن يوفق لعرفانه، على أنه قد جاء في بعض النسخ أن الشافعي قال: لم أزل أسمع عددا من العرب يكره الإشارة إليه. وأخبرنا الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا من لا أتهم قال: أخبرنا عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن حنطب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من ساعة من ليل ولا نهار، إلا السماء تمطر فيها يصرفه الله حيث شاء". الضمير في قوله: "فيها" راجع إلى الساعة. و"من" الأولى زائدة تفيد تأكيد التقدير: ليس في ساعة من الساعات. و"من" الثانية للتبعيض لأن الساعة بعض الليل وبعض النهار، أو هي لتبيين الخبر أي: أن الساعة هي من الليل والنهار، والأول أوجه. ومعنى هذا الحديث -والله أعلم-: أن المطر لا يزال ينزله الله تعالى من السماء، لكن الله -بفضله وإرادته- يرسله إلى أين أراد من الأرض، فيخص به قومًا دون قوم. ويعضد هذا ما في أقاليم الأرض من الاختلاف في الحر والبرد، والصيف ¬

_ (¬1) قال الإمام الذهبي: الإمام، عالم المدينة أبو عبد الله القرشي الأسدي المدني الفقيه، أحد الفقهاء السبعة. اهـ انظر ترجمته من السير (4/ 421) وما بعده.

والشتاء فإن زمان الصيف في بعض البلاد هو زمان الشتاء في بلاد أخرى، فقلما تخلو أرض من مطر. والضمير في "يصرفه" راجع إلى ما في قوله: "تمطر فيها" تقديره: يصرف الله المطر حيث يشاء. وأخبرني الشافعي رضي الله عنه: أخبرني من لا أتهم، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه أن الناس مطروا ذات ليلة فلما أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - غدا عليهم، قال: "ما على الأرض بقعة إلا قد مطرت هذه الليلة". عبد الله بن أبي بكر: هو عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم (¬1)، والحديث مرسل. "والبقعة": الموضع المفرد من الأرض، والجمع: البقاع. وقوله: "ما على الأرض" إلى آخر الحديث جملة في موضع الحال من الضمير المستكن في قوله: "غدا عليهم" والعامل فيه "غدا" والتقدير: غدا عليهم قائلا كذا، أو يكون "غدا عليهم" في موضع الحال وقال كذا وكذا جواب لما، التقدير: لما غدا عليهم قال كذا وكذا، فيكون غدا عليهم بدلاً من "أصبح" التقدير: فلما غدا عليهم قال كذا وكذا. والكل حسن والآخر أحسنها. وهذه التقديرات إنما هي لمجيء "قال" بغير عاطف، فلو تقدمها "واو" أو "فاء" لم يحتج إلى شيء من ذلك. وهذا الحديث من إخباره - صلى الله عليه وسلم - عن المغيبات، حيث قال: إن جميع الأرض قد مطرت تلك الليلة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا من لا أتهم، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس السنة بأن لا ¬

_ (¬1) مترجم في التهذيب وغيره، قال الحافظ في التقريب: مقبول من الخامسة.

تمطروا, ولكن السنة أن تمطروا ثم تمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1): عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بالإسناد قال: ليس السنة (¬2) أن لا تمطروا, ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً. "السنة": الجدب وقد تقدم بيان ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافًا للعرب فيما كانوا يذهبون إليه من نسبة النبات والخصب إلى المطر، ليست السنة بانقطاع، فإن المطر قد يجيء مترادفًا مرة بعد مرة ولا تنبت الأرض شيئًا، فعدم النبات هو الجدب لا تأخر المطر وانقطاعه، وإن كان في مجرى العادة أن النبات بالمطر وأن المطر دليل على إنبات الأرض. والمراد بهذا الحديث: نسبة الأشياء إلى خالقها وموجدها المنعم بها، فهو المعطي والمانع والخالق والرازق، فالكل منه وإليه، فليس للمطر عمل في الإنبات، إنما الإنبات بأمر الله، تمطر ولا تنبت، وتنبت ولا تمطر، ومن هاهنا ضل خلق كثير من الناس حيث نسبوا الأشياء إلى الأسباب والوسائط، وقطعوا النظر عن المسبب الأول القادر المزيد المختار، وحتى تمادى لطريق منهم الضلال والعمى، فقالوا: إن النار تحرق بطبعها، والماء يروي بطبعه، والخبز يشبع بطبعه. والذي ذهب إليه أهل الحق والإيمان: أن هذه كلها وسائط وأسباب أجرى الله العادة عند مباشرتها أن تحدث هذه الأحوال، والله سبحانه بلطفه وقدرته يخلق الشبع عند أكل الخبز، والري عند شرب الماء، والإحراق عند ملاقاة النار، فلو لم يرد الله وجود هذه الأشياء لوقع الإضمان ولم توجد الآثار -تبارك الله عما يقول الظالمون- وأشبه شيء بهذا المعنى ما يحكى عن بني إسرائيل أنهم ¬

_ (¬1) مسلم (2904). (¬2) لفظه عند مسلم: (ليست السنة بأن ...).

قالوا لنبيهم: نريد -إن شاء الله تعالى- لتجعل أمر المطر إلينا ولا يجيء إلا في الوقت الذي نريده، فزجرهم عن ذلك فلم ينزجروا، وخوفهم فلم يرجعوا، فدعا الله سبحانه وتعالى لهم. ورد أمر المطر إليهم، فجعلوا يطلبونه في الأوقات التي يريد فيها فلا يكثرونه فيغرق الذرع ولا يبلونه فيهلك، فجاءت الغلات في تلك السنة كأحسن ما يكون من النبات وأعظمه وأكثره حملًا وديعًا، فقالوا له: أبصر لما دبرنا أمر المطر وجاء في أوقات الحاجة إليه، كيف جاءت الغلات. وأعجبوا بفعلهم، فلما أدركت واستحصدت، أوحى الله تعالى إلى نبيه: أن مرهم أن يحصدوا زرعهم ويقسموها قسمين مفردين ففعلوا، فأوحى الله تعالى (¬1): أن يدقوها ففعلوا، فأوحى الله إليه: أن يرموا النار في أحد القسمين. ففعلوا، فأمرهم أن يذروا القسم الآخر ففعلوا، فلم يخرج في القسم الذي ذروه حبًّا وصار كله نبتًا، فلما صار ذلك أوحي الله إليه أن يذروا القسم المحرق فذروا الرماد فخرج الحب من وسط الرماد أحسن ما يكون من الحنطة، فأوحى إليه: أن قل لهم: أنا الذي أنبت، وأخلي الزرع من الحب، وأخرج الحب من الرماد المحرق. أو كلام هذا معناه. والباء في قوله: "بأن لا تمطروا" زائدة في خبر ليس، دخلت مؤكدًا للنفي ويجوز حذفها، تقول: ليس زيد قائمًا, وليس زيد بقائم. وقد جاء في بعض النسخ "ولكن السنة بأن تمطروا" فأدخل الباء مع الإيجاب، وذلك شاذ في الاستعمال، فإن صحت الرواية بها فيكون قد حسن دخولها (¬2) لكن قد عطفت الجملة على الجملة الأولى، فأعاد الباء التي كانت في الأولى كما كانت، وحكى اللفظ الأول وهي فيه على أنها قد جاءت في ¬

_ (¬1) زاد بالأصل حرف الجر (إلى) قبل: [أن] ومع حذفها يستقيم السياق. (¬2) في الأصل جات [إن] قبل [لكن] مكررة والظاهر أن الثانية مضروب عليها وحذف الأولى أليق في السياق.

الموجب قليلاً وتأولوها معنى النفي، نحو قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). قال قوم: الباء زائدة للتأكيد. وقال المحققون: ليست زائدة وإنما أدخلت هاهنا والكلام موجب بدخول "أوَ لم" في أوله لأن تقدير الكلام: أليس الله بقادر، فكان دخول "أوَ لم" في أوله إفادة معنى النفي بالاستفهام فجاز دخولها -والله أعلم. وكذلك قد جاء في رواية "ولا تنبت" بالواو، وفي رواية "ثم لا تنبت" بثم، وإنما أدخل ثم لأن لون نزول المطر والإنبات زمانًا متراخيًا. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا من لا أتهم قال: حدثني إسحاق بن عبد الله، عن الأسود، عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المدينة بين عيني السماء عين بالشام وعين باليمن -وهي أقل الأرض مطرًا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا من لا أتهم قال: أخبرني زيد أو نوفل بن عبد الله الهاشمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أسكنت أقل الأرض مطرا بين عيني السماء- يعني: عين الشام وعين اليمن-". "العين": قد تقدم ذكر معناها وما قيل فيه، وأنها يراد بها هذه الجهة المشار إليها. ويراد بها أيضًا: المطر الذي لا يقلع أياماً، يعني: أن المدينة من هاتين الجهتين الشامية واليمانية فالمطر يكثر بها. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا من لا أتهم قال: أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن ¬

_ (¬1) الأحقاف: [33].

أبيه، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك أن تمطر المدينة مطرًا لا يكن أهلها البيوت، ولا يكنهم إلا مظال الشعر". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرني من لا أتهم قال: أخبرني صفوان بن سليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يصيب أهل المدينة مطر لا يكن أهلها بيت من مدر". "أوشك يوشِك" -بكسر الشين- إيشاكًا: أسرع في الأمر، ومنه قولك: يوشك أن يكون كذا، والعامة تفتح شينه، قال الجوهري: وهي لغة رديئة. "والكن": ما واراك من بيوت، وسترك من شجر أو ظله ونحو ذلك، والجمع: الأكنان، والأكنة الأغطية واحدها كنان تقول: كننت الشيء أكنه سترته وأكننته، أكنه في نفسي أخفيه، وقيل: كننت وأكننت سواء في الكن. "والمَظالّ" -بفتح الميم وتشديد اللام- جمع مظلة -بكسر الميم- وهي البيت الكبير من الشعر، ولو قيل: إنه جمع مظل أو مظلة -بفتح الميم- جاز وهي موضع الظل، والأول الوجه؛ لأن لفظ الحديث نص عليه بقوله: "مظال الشعر". "والمدر": جمع مدرة وهي طين مستحجر، هذا هو الأول ثم قيل للبيت المبني به: مدرة ومدر، والعرب تسمى القرية مدرة، ولهذا يقولون: أهل المدر وأهل الوبر، فأهل المدر أهل القرى والبنيان، وأهل الوبر أهل المضارب والأخبية. وإنما قال: "لا تكنهم البيوت ويكنهم مظال الشعر"؛ لأن بيوتهم يومئذٍ كانت مبنية بالطين، وإذا كثرت الأمطار وتوالت عليها هدمتها، وإن كفتها فجرت الأمطار عليهم من سقوفها فلا تكنهم من المطر، فالأخبية المتخذة من الشعر فإذا [كانت] (¬1) محكمة مطينة ثابتة الأوتاد، فإنها تثبت تحت المطر الدائم الدافق ولا تكف، وهذا ظاهر مشاهد. ¬

_ (¬1) في الأصل [كا] والمثبت هو مقتضى السياق.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا من لا أتهم قال: أخبرنا محمد بن زيد بن المهاجر، عن صالح بن عبد الله بن الزبير أن كعبًا قال له -وهو يعمل زندًا بمكة: "اشدد وأوثق فإنا نجد في الكتب أن السيول تستعظم في آخر الزمان". هذا كعب المشار إليه هو: كعب الأحبار فإنه كان عارفًا بالكتب الأولى. وقوله: "إنا نجد في الكتب" يريد التوراة والإنجيل، والكتب المتقدمة الناطقة بذكر الأمم الخالية وما أنذروا به فيها، فإن كعبًا كثيراً ما كان يخبر عن التوراة وغيرها من الأخبار السالفة، مما لم تكن العرب تعرفه ولا وقفت عليه. وأما الزند: فالذي جاء كتاب المسند -فيما وقفت عليه- بالزاى والنون (¬1)، والذي جاء في كتاب الحافظ أبي موسى المديني الأصفهاني رحمه الله الذي جمع فيه ما فات أبا عبيد الهروي من غريب القرآن والحديث، في كتاب "الجمع بين الغرييين" قال الحافظ أبو موسى في باب الراء المهملة والباء تحتها نقطة، في حديث صالح بن عبد الله بن الزبير أنه كان يعمل ربدًا بمكة، الربد: الطين والرباد: الطيان بلغة اليمن، وقيل: بالزاي والنون وهو بالراء والباء من الربد وهو الحبس لأنه يحبس الماء. تم كلام الحافظ أبي موسى رحمه الله. وقوله: "اشدد وأوثق" يأمره بالاحكام والإتقان خوفًا من كثرة السيول لئلا تهدمه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن جده قال: "جاء مكة مرة سيل طبق بين الجبلين". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2): عن علي بن عبد الله، عن سفيان بالإسناد قال: جاء سيل فكسا ما بين الجبلين، قال سفيان: ويقول إن هذا ¬

_ (¬1) وفي مطبوعة الأم (1/ 254) والمسند (650) بلفظ (وتدًا). (¬2) البخاري (3833).

الحديث (¬1) له شأن. قوله: "مرة" أي دفعة وهو منصوب على المصدر من غير لفظ الفعل أي جاء السيل جيئة واحدة ومجيئًا واحداً. وطبق: ملأ وغطى وهو من قولهم: طبق الغيم تطبيقًا: إذا أصاب بمطره جميع الأرض، أو من قولهم: أطبقت الشيء أي غطيته وجعلته مطبقًا. "والجبلان": جبلا مكة اللذان يحيطان بها من جانبيها. وقوله في رواية البخاري: "فكسا" مثل قوله: فطبق أي غطى لأن الكسوة للجسد. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا من لا أتهم قال حدثني يونس بن جبير (¬2)، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبيه قال: توشك المدينة أن يصيبها مطر أربعين ليلة لا يكن أهلها بيت مدر. هذا القول مثل حديث أبي هريرة المتقدم. وكان المطر قد كان بالمدينة قليلاً حتى كانوا يستعظمون دوامه واتصاله, وهذا يشهد له قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود عن المدينة "أنها أقل الأرض مطرًا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا من لا أتهم، حدثنا عبد الله بن عبيد، عن محمد ابن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نصرت بالصبا وكانت عذابا على من كان قبلي". ¬

_ (¬1) عند البخاري: (لحديث). (¬2) كذا في الأصل وأيضًا في مطبوعة المسند، وأما الأم (1/ 254) وعنه البيهقي في المعرفة فسماه: [موسى بن جبير]. والأشبه بالصواب هو ما أثبته في الأم، فموسى بن جبير ذكره المزي في التهذيب في الرواة عن أبي أمامة، أما يونس فليست له رواية عنه عنده. وكذلك فإن يونس متقدم في الطبقة عنه.

"الصبا": إحدى الرياح الأربع الصبا والدبور مقابلها، والشمال والجنوب مقابلها، ويقال للصبا: القبول أيضاً. قال الجوهري: مهب الصبا المستوي أن يهب من مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، وتقول منه: صبت تصبوا صبوا. "والشمال": الريح التي تهب من ناحية القطب يعني الجدي، لأنها تأتي من جهة الشمال، والجمع: شمالات -بالفتح- وشمائل على غير قياس. "والدبور": التي تقابل الصبا. "والجنوب": التي تقابله لأنها تأتي من جهة الجنوب. وقال القتبي: الشمال تأتي من ناحية الشام عن يمينك إذا استقبلت قبلة العراق وهي إذا كانت في الصيف حارة بارح والجمع بوارح والجنوب يقابلها. والصبا: تأتي من مطلع الشمس وهي القبول، والدبور تقابلها وكل ريح جاءت من مهبي ريحين فهي نكاء. وأما نصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبا: فيريد ما أنعم الله به في غزوة الخندق على المسلمين، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يومئذٍ في شدة وضيق، وتجمعت المشركون لقتاله وقائدهم يومئذ أبو سفيان بن حرب بن أمية، فبعث الله على المشركين ريحًا باردة في ليالٍ شاتية شديدة البرد وكانت ريح الصبا، فأطفأت النيران، وقلعت الأوتاد والأطناب، وألقت المضارب والأخبية، ألقى الله -عز وجل- في قلوبهم الرعب فانهزموا من غير قتالٍ ليلاً. وقد ثبت عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" (¬1). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرنا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

سليمان، عن المنهال بن عمرو [عن] (¬1) قيس بن سكن (¬2) عن عبد الله بن مسعود قال: "إن الله -عز وجل- يرسل الرياح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر في السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة ثم تمطروا". ورواه (¬3) أبو عوانة، عن سليمان الأعمش إلا أنه قال؛ فتمر في السحاب وزاد: ثم يبعث من السماء أمثال الغزالي، فتضربه الرياح فينزل متفرقًا، قال: ذلك في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} (¬4). "در السحاب" يدُر -بضم الدال-: إذا امتطر، وكذلك الضرع إذا جرى منه اللبن، واللبن يقال له: الدر أيضًا. "فاللقحة" -بكسر اللام وفتحها-: الناقة اللقوح وهي الحلوب. قال أبو عمرو: إذا أنتجت الناقة فهي لقوح شهرين أو ثلاثة. ثم هي لبون. والعرب تزعم أن الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثم تسوقه، فإذا علا كسفت عنه واستقبلته الصبا فجعلت بعضه على بعض حتى يصير كثيفًا، والجنوب يلحق روادفه به، والشمال يمرق السحاب، وهذا من أحاديث العرب المنقولة عنهم ولعل ذلك غير مطرد ولا مستمر. قال الشافعي: وبلغني أن قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما هبت جنوب إلا أسالت واديًا". قال الشافعي: يعني أن الله خلقها تهب بشرى بين يدي رحمته من المطر. وقد أخرج الشافعي قال: أخبرنا من لا أتهم قال: حدثني إسحاق بن عبد الله ¬

_ (¬1) بالأصل [بن]، والصواب هو المثبت كذا في الأم (1/ 254) ومطبوعة المسند أيضًا. (¬2) كذا جاء بغير تعريف والمشهور [قيس بن السكن] كذا جاء في الرواية ومن ترجم له ذكره كذلك وانظر التهذيب. (¬3) في الأصل [واه] والتصويب من المعرفة (5/ 200). (¬4) النبأ: [14].

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نشأت بحرية ثم استحالت شامية فهو أمطر لها".

الفصل الثالث في تحية المسجد

الفصل الثالث في تحية المسجد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: "دخل رجل يوم الجمعة المسجد والنبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال له: "أصليت"؟. قال: لا. قال: "فصل ركعتين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله وزاد في حديث جابر هو سليك الغطفاني. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الموطأ. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار [و] (¬2) عن علي بن عبد الله، عن سفيان. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن [أبي] (¬4) الربيع وقتيبة، عن حماد بن زيد، عن عمرو. وعن قتيبة، وإسحاق [بن إبراهيم] (¬5) عن سفيان. وعن قتيبة، ومحمد بن رمح، عن الليث، عن أبي الزبير. وسمى سليك الغطفاني. ¬

_ (¬1) البخاري (930، 931). (¬2) سقط من الأصل والصواب إثباته، وعلي بن عبد الله هو شيخ البخاري في الرواية الثانية. (¬3) مسلم (875). (¬4) سقط من الأصل والاستدراك من رواية مسلم وهو الصواب. (¬5) جاءت مكررة في الأصل.

وفي أخرى قال: "قم فصلى (¬1) ركعتين وتجوز فيها" ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين ويتجوز فيهما". وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن عمرو. وعن أحمد بن حنبل، عن محمد بن جعفر، عن سعيد، عن الوليد، عن طلحة، عن جابر. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة بن سعيد، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن شعبة، عن عمرو. وقد رواه المزني (¬5) عن الشافعي في رواية حرملة. هذا ثابت غاية الثبوت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "التجوز في الأمر": التساهل والتخفيف وأراد خفف صلاتك ولا تطلها فتكون قد جمعت بين قسمي السنة: أحدهما: الصلاة. والثاني: استماع الخطبة. فإنه إذا أطال الصلاة فاته من الخطبة حظه. والواو في قوله: "والنبي يخطب" واو الحال، والجملة التي دخلت الواو عليها في موضع الحال مجازًا، لأن الحال في الحقيقة وصف هيئة الفاعل أو المفعول به، وهذه إنما هي وصف هيئة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كانت الحال جملة ¬

_ (¬1) عند مسلم (فاركع). (¬2) أبو داود (1115، 1117). (¬3) الترمذي (510) وقال: حسن صحيح أصح شيء في هذا الباب. (¬4) النسائي (3/ 101). (¬5) السنن المأثورة (17، 18، 19).

اسمية خبرية لزمها الواو نائبًا عن العائد إلى ذي الحال، لأنه إذا عريت الجملة من العائد وما ينوب منابه صارت أجنبية، لا تعلق للمذكور بها فلا يستقيم الكلام. وهذه الصلاة (¬1) أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بها هي تحية المسجد، وهي سنة مؤكدة عند الشافعي يصليها الداخل إلى المسجد متى دخله، سواء كان الإمام يوم الجمعة قد خرج أو لم يخرج، كان خاطبًا أو ساكنًا، إلا أن يكون الإمام في فريضة فيتبعه فيها. وبه قال الحسن ومكحول، وأحمد، وإسحاق، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة ومالك: يكره. وبه قال الثوري، والليث. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن ابن عجلان، عن عياض ابن عبد الله بن أبي سرح قال: "رأيت أبا سعيد الخدري جاء ومروان يخطب فقام فصلى ركعتين، فجاء إليه الأحراس ليجلسوه فأبى أن يجلس حتى صلى ركعتين فلما قضينا الصلاة أتيناه فقلنا: يا أبا سعيد كاد هؤلاء أن يفعلوا بك. فقال: ما كنت لأدعها لشيء بعد شيء رأيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، جاء رجل وهو يخطب فدخل المسجد بهيئة بذة فقال: "أصليت"؟. قال: لا. قال: "فصل ركعتين" قال ثم حث الناس على الصدقة فألقوا ثيابًا، فأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها الرجل ثوبين، فلما كانت الجمعة الأخرى جاء الرجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصليت"؟. قال: لا. قال: "فصل ركعتين" ثم حث الناس على الصدقة فطرح أحد ثوبيه فصاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذه" فأخذه، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظروا إلى هذا جاء تلك الجمعة بهيئة بذة، فأمرت الناس بالصدقة فطرحوا ثيابًا فأعطته منها ثوبين، فلما جاءت الجمعة أمرت الناس بالصدقة فألقى أحد ثوبيه". ¬

_ (¬1) كذا بالأصل ولعله سقط من الجملة (التي).

هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. فأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن إسماعيل، عن سفيان بالإسناد أخصر من هذا. وأما النسائي (¬2) فأخرجه عن عمرو بن علي، عن يحيى عن ابن عجلان بالإسناد وذكر نحوه وقال في آخره: خذ ثوبك وانتهره. "الأحراس" والحرس والحراس جمع حرسي وهم المرتبون لحفظ السلطان، فكأنه قد صار اسم جنس فنسب إليه، ولا تقل حارس إلا أن تذهب به إلى معنى الحراسة دون الجنس. "وكاد": فعل يدل على المقاربة، تقول: كاد يفعل كذا يكاد كودًا ومكادة أي قارب ولم يفعل، وقد تدخل "أن" في خبرها تشبيهًا لها بعسى، تقول: كاد زيد يفعل كذا وكاد أن يفعل وهو قليل. ومعنى قوله: "أن يفعلوا بك" أي أن يضربوك ويؤذوك، وحذف المفعول لدلالة اللفظ والحال عليه. "والهيئة البذة": الحقيرة السيئة، وقد بذذت بعدي فأنت باذ الهيئة، وبذ الهيئة أي رث الهيئة بين البذاذة والبذوذة. وهذا الحديث مسوق لبيان تأكيد صلاة تحية المسجد حتى والإمام يخطب، وأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لم يكن مرة واحدة وإنما كان متكررًا منه مرة بعد مرة، وفي ذلك من الدليل على صحة ما ذهب إليه الشافعي ما لا يخفى. والله أعلم. ¬

_ (¬1) أبو داود (1675). (¬2) وهم المصنف -رحمه الله- في هذا العزو، فهذا الإسناد المذكور أخرجه النسائي في سننه (3/ 190) قال: أخبرنا عمرو بن علي: ثنا يحيى قال: حدثنا داود بن قيس، قال: حدثني عياض، عن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم العيد ... الحديث. وأما حديث الباب نقد أخرجه (3/ 106) عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان، عن ابن عجلان به.

فصل في تارك الصلاة وأحاديث تتعلق بالمسجد

فصل في تارك الصلاة وأحاديث تتعلق بالمسجد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن نوفل ابن معاوية الديلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". هذا حديث صحيح متفق على متنه أخرجه النسائي (¬1): عن سويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن نوفل بن معاوية ... الحديث. قال عراك: وأخبرني عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من فاتته صلاة العصر ... الحديث. قال النسائي (¬2): وخالفه يزيد بن أبي حبيب، أخبرنا عيسى بن حماد [زغبة] (¬3)، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك بلغه أن نوفل بن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من الصلاة صلاة من فاتته فكأنما وتر أهله وماله". قال ابن عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هي صلاة العصر". وفي أخرى (¬4): عن [عبيد الله بن سعد] (¬5) بن إبراهيم، عن عمه، [عن ¬

_ (¬1) النسائي (1/ 237 - 238). (¬2) النسائي (1/ 238). (¬3) في الأصل [عنه] والتصويب من رواية النسائي. (¬4) النسائي (1/ 238 - 239). (¬5) في الأصل [عبد الله بن سعيد] والصواب هو المثبت، وكذا في تحفة الأشراف (9/ 63)، وسنن النسائي وراجع ترجمته من التهذيب.

أبيه] (¬1) عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك قال: سمعت نوفل بن معاوية الحديث. وقد أخرج متن هذا الحديث البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، ومالك (¬4)، وأبو داود (¬5)، والترمذي (¬6)، والنسائي (¬7) أيضًا عن ابن عمر. "وترت" الرجل أتره وترًا وتره والوتر: هو الجناية التي يجنيها الرجل على الرجل من قبل حميمه وأخذ ماله، هذا هو الأصل، فشبه ما يلحق هذا الذي تفوته صلاة العصر بمن قَتَل حميمه وأخذ ماله. وقيل: وترت الرجل إذا نقصته وهو راجع إلى الأول، لأن من قتل حميمه وأخذ ماله فقد نقص. ويُروى "أهله وماله" بالنصب والرفع، فأما النصب فلأنه مفعول ثان لوتر وأضمر فيها مفعول لم يسم فاعله عائدًا إلى الذي فاتته العصر، والتقدير: فكأنما وتر أهله وماله. فأما الرفع: فإنه أقام الأهل والمال مقام المفعول الذي لم يسم فاعله، ولم يحتج أن يضمر فيه شيئًا لأن الأهل دائم المصابون والمال هو المأخوذ، وتقدير القول فيه: أن من رد النقص إلى الأهل والمال رفعهما، ومن رده إلى الرجل نصبهما. وقيل فيه: إن المعنى نقص وسلب فبقي وترًا أي فردًا بلا أهل ولا مال. وغرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك: التحذير من تركها وإهمالها وترك المحافظة ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من تحفة الأشراف (9/ 63) رواية النسائي. (¬2) البخاري (552). (¬3) مسلم (626). (¬4) الموطأ (1/ 11 - 12 رقم 21). (¬5) أبو داود (414). (¬6) الترمذي (175) وقال: حسن صحيح. (¬7) النسائي (1/ 238).

عليها لخصيصة فيها عرفها، وأنه ينبغي أن يحذر المصلي من فواتها حذره من ذهاب أهله. وهذا الحديث يتضمن الوعيد لمن فاتته صلاة العصر لمعنى لا شك فيها يخصها، وإلا فغيرها من الصلوات الباقية لا فرق بين وجوبها وافتراضها وبين هذه، وجميع أحكامها مطردة. وفوات الصلاة لا يخلو أن يكون عن عذر، أو جهل، أو تعمد. فأما العذر بالمرض وغيره من الأعذار، فإنه لا يسقط الصلاة بل يصلي على حسب حاله وطاقته. وأما الجهل بوجوبها: ولا يسمح منه إلا أن يكون مستجد الإسلام أو مسلمًا نشأ في بلاد الكفر البعيدة عن دار الإسلام، فيقبل منه ويُعرف وجوبها. وأما التعمد: فإن لم يعتقد وجوبها كفر لتكذيبه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإن اعتقد بوجوبها وتعمد تركها كفر عند الشافعي، على معنى أنه يستحق عقوبة الكافر في الدنيا وهو القتل وبه قال مالك، ثم يقال له: إما أن تتوب وتصلي وإلا قتلناك. وقد اختلف أصحاب الشافعي -رضي الله عنه- في وقت قتله وبترك كم صلاة يقتل؟. وفي كيفية قتله قال الغزالي: والصحيح أنه يقتل بصلاة واحدة إذا تركها عمدًا وأخرجها عن وقت ضرورة، ولا يقتل بصلاة الظهر إلا إذا غربت الشمس. وفي مهلة الاستتابة ثلاثة أيام خلاف، كما في استتابة المرتد، وقد قيل: إنه لا يقتل إلا إذا صار الترك له عادة. وقيل: إذا ترك صلاتين أو ثلاثًا. قال: وكل ذلك بحكم ثم يقتل بالسيف. وقيل: يضرب حتى يصلي أو يموت، ويصلى عليه كما يصلى على المسلمين.

وقال أحمد بن حنبل: يكفر بتركها وإن اعتقد وجوبها. وقال أبو حنيفة: لا يكفر ولا يقتل ويحبس حتى يصلي، وهذا لفظ الشافعي وقال (¬1): ومن ترك الصلاة المكتوبة ممن دخل في الإسلام فإن قال: أنا أطيقها وأحسنها ولكن لا أصلي وإن كانت عليَّ فرضًا. قيل له: الصلاة شيء لا يحمله عنك غيرك، فإن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك. فإن قال: الصلاة أعظم من الزكاة. وقال: الحجة فيها ما وصفت من أن أبا بكر قال: لو منعوني عناقا مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه، ولا يفرقوا بين ما جمع الله. قال: فذهب فيما أرى -والله أعلم- إلى قوله الله -عز وجل- {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬2). وبسط الكلام في وجه الاحتجاج بإجماع الصحابة في ذلك، قال: والقتال سبب القتل وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني والرييع (¬3): عن مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن زيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه حدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه بينا هو جالس بين ظهري الناس إذ جاءه رجل فساره، فلم ندر ما ساره [حتى] (¬4) جهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جهر: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"؟ فقال الرجل: بلى يا رسول الله ولا شهادة له. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أليس يصلي"؟. قال: بلى ولا صلاة له. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" ورواه ¬

_ (¬1) الأم (1/ 255). (¬2) البقرة: [43]. (¬3) انظر المعرفة (5/ 207). (¬4) سقط من الأصل والاستدراك من المعرفة (5/ 207).

معمر: عن الزهري، عن عطاء [عن] (¬1) عبيد الله [عن] (1) عبد الله بن عدي الأنصاري حدثه فذكره موصولاً وقال في آخره "أولئك الذين نهيت عن قتلهم". وأخبرني الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عثمان بن أبي سليمان أن مشركي قريش حين أتوا المدينة في فداء أسراهم، كانوا يبيتون في المسجد، منهم: جبير بن مطعم فقال جبير: فكنت أسمع [قراءة] (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخة "في فداء أسرائهم". "المشرك": من جعل لله شريكًا في ملكه، يقال: أشرك فلان بالله يشرك فهو مشرك، والشرك الاسم. والإشراك المصدر. "والفداء": ما يستخلص به الأسير من الأسر، تقول: فاديت الرجل إذا أعطيت في فكاكه أسيرًا بدله، وفديته: إذا أعطيت في إطلاقه مالاً، فالفداء مصدر فديته والمفاداة مصدر فاديته والاسم الفدية، ويجوز في الفداء كسر الفاء مع المد والقصر، ويجوز فيه فتح الفاء مع القصر. "والأسرى": جمع أسير وهو المأسور، فعيل بمعنى مفعول، ويجمع أيضًا على أسراء وهو الذي جاء في النسخة الأخرى فأما أسارى فجمع الجمع قاله الأزهري أصل هذه الكلمة من الإسار وهو القدِّ, لأنهم كانوا يشدون به الأسير، فسمى كل أخيذ أسيرًا. مجيء مشركي قريش في فداء أسرائهم عقيب غزوة بدر. والمراد من الاستدلال بهذا الحديث: جواز دخول المشرك المسجد، وجواز النوم فيه. وفيه دليل على الجهر بالقراءة في الصلاة والتلاوة، لأن جبيرًا كان يسمع ¬

_ (¬1) بالأصل [ابن] وهو تصحيف والتصويب من المعرفة (5/ 208). (¬2) بالأصل [قولة] وهو تصحيف والتصويب من مطبوعة المسند، وسيأتي في كلام المصنف ما يفسر اللفظ المثبت.

قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجوز أن يكون مصليًا أو تاليًا. وفيه دليل على جواز المفاداة. ومبيت المشرك في المساجد جائز عند الشافعي إلا في المسجد الحرام، لقوله تعالى {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬1). قال الشافعي: وإذا بات المشرك في المسجد غير المسجد الحرام -فكذلك المسلم، كان ابن عمر يبيت في المسجد زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك مساكين أهل الصفة والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه (¬2) - أخبرنا بعض أهل العلم عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي أسامة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وإذا خرجن فليخرجن تفلات". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬3) عن موسى بن إسماعيل، عن حماد [عن] (¬4) محمد بن عمرو بالإسناد قال: ولكن يخرجن وهن تفلات". "إماء الله": جمع أمة وأصلها أموة بالتحريك لأنه جمع على إم وأأم، بوزن أفعل في الأصل وفعلة ساكنة العين لا تجمع على أفعلة، والنسبة إليها أَموي -بالفتح- وتصغيرها أمية، فأما النسبة إلى أمية القبيلة فأموي -بالضم وربما فتح- ولم يرد بالإماء في هذا الحديث الجواري ضد الحرائر وإنما يريد النساء مطلقًا فأطلق لفظ "الأماء" على الحرائر, لأن النساء كلهن إماء الله، كما أن الرجال جميعهم -حرهم وعبدهم- عبيد الله. "والتفلات": جمع تفلة وهي المرأة إذا لم تكن متطيبة، الرجل تفل، ¬

_ (¬1) التوية [28]. (¬2) بالأصل ذكر الحديث السابق مرة أخرى قبل هذا الحديث فلعله وهم من الناسخ. (¬3) أبو داود (565). (¬4) بالأصل [بن] وهو تصحيف.

وتفلات في موضع نصب على الحال من قوله "فليخرجن". وللنساء أن يدخلن المساجد ويشهدن صلاة الجماعة ويقفن في آخر الصفوف، بإذن أزواجهن ولا يمنعن من ذلك. وقد استدل بعموم هذا الحديث بعض أهل العلم: على أنه ليس للزوج منع زوجته من الحج؛ لأن المسجد الحرام الذي يخرج إليه الناس أشهر المساجد وأعظمها حرمة. وقد اختلف في الرجل إذا كان له زوجة نصرانية، هل له أن يمنعها من الخروج إلى الكنيسة أم لا؟. فقال مالك: ليس له منعها. وقال الشافعي: له منعها، واختاره ابن المنذر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود. فأما مالك (¬1): فأخرجه بلاغًا عن عبد الله بن عمر. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري بالإسناد قال: "إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها". هكذا أخرجه ولم يذكر المسجد إلا أنه أخرجه في باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد. وله في أخرى (¬3): عن عبيد الله بن موسى، عن حنظلة، عن سالم، عن أبيه ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 197 رقم 12). (¬2) البخاري (873). (¬3) البخاري (865) قلت: أخرج البخاري لفظ حديث الباب تحت رقم (900) من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فذكره وفيه قصة.

قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المساجد (¬1) فأذنوا لهن". فأما مسلم (¬2): فأخرجه عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري بالإسناد وقال: "لا تمنعوا إماء الله المساجد وليخرجن تفلات". وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن سليمان بن حرب، عن حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا نساءكم مساجد الله -عز وجل-" وزاد في رواية أخرى (¬4): "وبيوتهن خير لهن". وقد روى المزني (¬5) عن الشافعي بهذا الإسناد المذكور أولاً قال: "إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها". وقد أخرج الشافعي رضي الله عنه -من رواية المزني (¬6) عنه-: عن سفيان، عن عاصم، عن مولى أبي رهم (¬7) قال: "لقي أبو هريرة امرأة فقال: أين تريدين؟. قالت: المسجد، قال: قد تطيبت؟، قالت: نعم. قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيما امرأة تطيبت ثم خرجت تريد المسجد، لم يقبل لها صلاة كذا وكذا ولا صيام، حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة". ¬

_ (¬1) عند البخاري (المسجد). (¬2) مسلم (442). (¬3) أبو داود (566). (¬4) قلت: هذا اللفظ بهذه الزيادة هو لفظ حديث واحد عنده جاء عقب الرواية المخرجة، أما لفظ الإسناد المذكور فهو: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) واللفظ المذكور جاء تحت رقم (567) وانظر السنن. (¬5) السنن المأثورة (رقم 188). (¬6) السنن المأثورة (189). (¬7) في السنن المأثورة ذكر الإسناد عن عاصم، عن مولى أبي قال أبو جعفر الطحاوي عقبه: هكذا قرأه علينا المزني وإنما هو عن أبي رهم.

وقد أخرج المزني (¬1) عن الشافعي: عن سفيان، عن الزهري، عن عباد بن تميم، عن عمه قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -يعني في المسجد- مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (191). (¬2) البخاري (475). (¬3) مسلم (2100).

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز وفيه إحدى عشر فصلاً الفصل الأول في مقدمات الموت قال أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم: أخبرنا الربيع بن سليمان قال: قرئ على الشافعي -رحمه الله تعالى- وأنا حاضر هذا كتاب كتبه محمد بن إدريس الشافعي في شعبان سنة ثلاث ومائتين، وأشهد الله عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وكفى بالله -جل ثناؤه- شهيداً ثم من سمعه، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يدين بذلك -وبه ندين حتى يتوفاه الله ويبعثه عليه -إن شاء الله- وأنه يوصي نفسه وجماعة من سمع وصيته، بإحلال ما أحل الله -تبارك وتعالى- في كتابه ثم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وتحريم ما حرم الله -تعالى- في الكتاب ثم في السنة، ولا يجاوزون من ذلك إلى غيره، فإن مجاوزته ترك فرض الله -عز وجل- والمحافظة على أداء فرائض الله في القول والعمل، والكف عن محارمه خوفا لله، وكثرة ذكر الوقوف بين يدي ربه -عز وجل- {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} وأن ينزل الدنيا حيث أنزلها الله، وأنه لم يجعلها دار مقام إلا مقام مدة عاجلة الانتفاع (¬1)، وإنما جعلها دار عمل، وجعل الآخرة دار قرار وجزاء بما عمل في الدنيا من خير أو شر، وإن لم يعفه (¬2) -جل ثناؤه-، وأن لا يخال ¬

_ (¬1) في المعرفة (5/ 211): [الانقطاع]. (¬2) في المعرفة (5/ 211): [يغفر].

أحدًا إلا إخوالة لله ممن يعقل الخلة في الله -تبارك وتعالى- وترجى منه إفادة علم في دين وحسن أدب في دنيا، وأن يعرف المرء زمانه ويرغب إلى الله -عز وجل- في الخلاص من شر نفسه، ويمسك عن الإسراف بقول أو فعل في أمر لا يلزمه، وأن يخلص النية لله فيما قال وعمل، فإن الله يكفي ممن سواه ولا يكفي منه شيء غيره، ثم ذكر وصيته، ثم قال في آخرها: ومحمد -يعني نفسه- يسأل الله القادر على ما يشاء أن يصلي على محمد عبده ورسوله، وأن يرحمه فإنه فقير إلى رحمته، وأن يجيره من النار فإنه غني عن عذابه، وأن يخلفه في جميع ما خلف بأفضل ما خلف به أحدًا من المؤمنين، وأن يكفيهم فقده وأن يقيهم معاصيه وإتيان ما يقبح بهم، والحاجة إلى أحد من خلقه بقدرته". أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم [عن] (¬1) ابن شهاب، أن قبيصة بن ذؤيب قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغمض أبا سلمة". هكذا جاء هذا الطرف فيما رواه الزهري مرسلاً، وهو طرف من حديث طويل قد أخرجه مسلم وأبو داود. فأما مسلم (¬2): فأخرجه عن زهير بن حرب، عن معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن خالد الحذاء. وعن محمد بن موسى القطان الواسطي، عن المثنى بن معاذ، عن أبيه، عن عبيد الله بن الحسن، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أم سلمة قالت: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والاستدراك من مطبوعة المسند والمعرفة أيضًا (5/ 215). (¬2) مسلم (920).

فأغمضه (¬1) ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" فضج ناس من أهله فقال: "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون" ثم قال: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره ونور له فيه". وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن عبد الملك بن حبيب، عن أبي إسحاق الفزاري، عن خالد الحذاء بإسناد مسلم ولفظه. قال الشافعي -رضي الله عنه- إذا مات الميت غُمض ويطبق فوه، وإن خيف استرخاء لحييه شد بعصابة، ورأيت من يثني مفاصله ويلينها (¬3) لتلين فلا تجسوا، ورأيت الناس يضعون الحديد السيف أو غيره من الحديد؛ والشيء من الطين المبلول على بطن الميت، كأنهم يدارون أن تربو بطنه وكلما صنعوا من ذلك مما أرجو وعرفوا أن فيه دفع مكروه، رجوت أن لا يكون به بأس -إن شاء الله- قال: ويفضي به إلى لوح أو سرير ويسجى ثوبًا يغطى به جميع جسده. قال الشافعي: وما يفعله الأعاجم من صب الراوق (¬4) في أذنه وأنفه، ووضع المرتك (¬5) على مفاصله والتابوت وغيره، لست أحب هذا ولا شيئًا منه، ولكن يصنع به ما يصنع بأهل الإسلام: الغسل، والكفن، والحنوط، والدفن فإنه صار إلى الله -تعالى-، والكرامة له برحمة الله وعمله الصالح. ¬

_ (¬1) بالأصل [وأغمضه] والمثبت من رواية مسلم. (¬2) أبو داود (378). (¬3) في المعرفة (5/ 216): [ويبسطها]. (¬4) الروق: الصافي من الماء وغيره. (¬5) كلمة فارسية، والمعنى: الرصاص أسوده أو أبيضه.

قال: وبلغني أنه قيل لسعد (¬1) بن أبي وقاص: ألا نتخذ لك شيئًا كأنه الصندوق من الخشب؟، فقال: اصنعوا بي كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصبوا على اللَّبِن وأهيلوا عليَّ التراب. ... ¬

_ (¬1) بالأصل [لشعبة] وهو تصحيف والتصويب من المعرفة (5/ 217).

الفصل الثاني في الغسل

الفصل الثاني في الغسل قال الشافعي -رضي الله عنه- حق على الناس غسل الميت والصلاة عليه ودفنه لا يسع عامتهم تركه، وإذا قام بذلك منهم من فيه كفاية أجزأ عنهم. وروى في القديم: عن سفيان، عن أيوب بن موسى -أو غيره- وعبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "صدر المسلمون فمروا بامرأة بالبيداء ميتة فأجنها (¬1) رجل يقال له كليب، فقام عمر على المنبر وتوعّد الناس وقال: لو أعلم أن أحداً مر بها فلم يجنها لفعلت به وفعلت، وسأل ابن عمر فقال: لم أرها ثم قال: لعل الله أن يرحم كليبًا فمن معه غداة طعن". ورواه في القديم عن القاسم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رجلاً مات بهذا المعنى. أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين، عن أم عطية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهن في غسل ابنته: "اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد واللفظ وزاد: "فإذا فرغتن فآذنني". قالت: فلما فرغنا آذناه، فأعطانا حِقْوه فقال: "أشعرنها إياه" يعني بحقوة إزاره. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن إسماعيل بن عبد الله، عن مالك مثله. ¬

_ (¬1) الجنن: هو القبر، وأجنها: كفنها. (¬2) الموطأ (1/ 222 رقم 2). (¬3) البخاري (1253).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن يزيد بن زريع، عن أيوب مثل ذلك. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن حماد ابن زيد، عن أيوب. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن هشيم، عن خالد ومنصور وهشام. وأما خالد وهشام فقالا: عن محمد وحفصة. وقال منصور: عن محمد، عن أم عطية. هذه بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - هي أم كلثوم زوجة عثمان بن عفان كذا جاء في حديث ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت بعض هذا الحديث (¬5). ¬

_ (¬1) مسلم (939). (¬2) أبو داود (3142). (¬3) النسائي (4/ 28 - 29). (¬4) الترمذي (990) وقال: حسن صحيح. (¬5) قال الحافظ في الفتح (3/ 153): المشهور أنها زينب زوج أبي العاص بن الربيع، وقد وردت مسماة في هذا عند مسلم من طريق عاصم الأحول، عن حفصة، عن أم عطية قالت: "لما ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلنها" فذكر الحديث ولم أرها في شيء من الطرق عن حفصة ولا عن محمد مسماة إلا في رواية عاصم هذه، وقد خولف في ذلك فحكى ابن التين عن الداودي الشارح أنه جزم بأن البنت المذكورة أم كلثوم زوج عثمان ولم يذكر مستنده، وتعقبه المنذري بأن أم كلثوم توفيت والنبي - صلى الله عليه وسلم - ببدر فلم يشهدها، وهو غلط منه فإن التي توفيت حينئذ رقية، وعزاه النووي تبعًا لعياض لبعض أهل السير وهو قصور شديد فقد أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب ولفظه: "دخل علينا ونحن نغسل ابنته أم كلثوم" وهذا الإسناد على شرط الشيخين .... وقد روى الدولابي في الذرية الطاهرة من طريق أبي الرجال، عن عمرة أن أم عطية كانت ممن غسّل أم كلثوم ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث، فيمكن دعوى ترجيح ذلك لمجيئه من طرق متعددة ويمكن الجمع بأن تكون حضرتهما جميعًا. اهـ بتصرف.

وقوله: "إن رأيتن" إن استوصيتن الزيادة على الخمس. وقد اختلف في غسل الميت لهذه الكلمة، فقيل: هل هو واجب أو سنة؟ وسبب الخلاف قوله: "إن رأيتن". قالوا: هل معناه: إن رأيتن الغسل، أو إن رأيتن الزيادة على الثلاث والخمس وهذا وأمثاله مما اختلف فيه أهل الأصول، وذلك أنهم مختلفون في التقييد والاستثناء والشروط إذا تعقبت الجمل، هل يرجع إلى جميعها -إلا ما أخرجه الدليل- أو إلى ما أقربها إليه. وقوله "كافورًا أو شيئًا من [كافور] (¬1) " يجوز أن يكون الشك من أحد الرواة في أي اللفظين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان اللفظ منه هكذا فيكون اللفظ قد قال أولاً "واجعلن في المرة الآخرة من الغسل كافورًا" أي في الماء، أي فلما أطلق الكافور ربما ظن النسوة بالإطلاق الكثير منه، فاستدرك بقوله: "أو شيئًا من كافور" أي قليلاً منه، والأول أشبه. قال الشافعي: وأقل غسل الميت فيما أحب ثلاث، وإن لم يبلغ الإنقاء فخمس، فإن لم يبلغ الإنقاء فسبع، فأما الواجب فمرة واحدة كما يجب في غسل الحي، والأفضل الثلاث ثم الخمس إن لم يحصل الإنقاء. وأما الوتر في الغسل فإنه معتبر في الثالث وفيما زاد عليها، عند الشافعي ومالك. وأبو حنيفة: لا يراه مستحبًا. واستحب وضع الكافور في الماء في كل مرة، وهو في الآخرة أحب للحديث، وفيه تعليله بقوله: "أو شيئًا من كافور" يعني لئلا يطرح فيه الكثير منه، فيغير ريحه أو طعمه فيذهب عنه وصف الطهورية، ولذلك قال: "أو شيئًا من كافور" وهذا أحسن ما قيل فيه. ¬

_ (¬1) بالأصل [كور] والمثبت هو لفظ الرواية المتقدمة وهو الصواب.

وأما "الحقو": فهو الإزار، والأصل في الحقو معقد الإزار وجمعه أحقٍّ وأحقا، ثم قيل للإزار نفسه حقو لأنه شد على الحقو. وأما "الإشعار": فهو التلفيف بالثوب، والشعار: الثوب الذي يلي الجسد وسمي به لأنه في شعر الجسد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا بعض أصحابنا، عن ابن جريج، عن أبي جعفر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غُسِّل ثلاثًا". هذا الحديث ذكره الشافعي ذهابًا منه إلى تقوية ما ذهب إليه من استحباب المرات الثلاث في غسل الميت؛ اقتداء بما فعله الصحابة ومن غسل منهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وعملًا بما جرى الأمر عليه في غسله. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا الثقة، عن عطاء قال: يجزئ في غسل الميت مرة، وقال عمر بن عبد العزيز: ليس فيه شيء مؤقت. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غُسل في قميص". هذا طرف من حديث طويل (¬1) وهو: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[توفي] (¬2) يوم الاثنين فلم يغسل إلى آخر يوم الثلاثاء، فغسل من بئر كانت لسعد بن خيثمة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب منها, ولي غسل سفلته علي، وغُسِّل وعليه قميص علي يغسل وأسامة -،وقيل: رجل من الأنصارَ- يصبّ الماء، والفضل محتضنه، ويغسل على سفلته والفضل يقول: أرحني أرحني قطعت وتيني (¬3)، أرى شيئًا ينزل عليِّ، ويكفن في ثلاثة أثواب: صحاريين (¬4) وبردة حبرة، ¬

_ (¬1) انظر في ذلك دلائل النبوة (7/ 242 - 245)، تاريخ الطبري (2/ 238 - 239)، والطبقات الكبرى لابن سعد (2/ 211 - 215). (¬2) سقط من الأصل وأثبته من الروايات المذكورة في المراجع المشار إليها. (¬3) الوتن: عرق يستبطن الصلب يجتمع إليه البطن، وإليه تضم العروق. اللسان مادة وتن. (¬4) صُحَار: قرية باليمن نسب الثوب إليها، وقيل: هو من الصُّحرة وهي حمرة خفية كالغبرة، يقال: شرب أصحر وصحاري. نهاية (3/ 12).

وصلى الناس عليه بغير إمام؛ تصلي زمرة وتخرج وهو في موضعه، ولما فرغوا نادى عمر بن الخطاب: خلوا الجبانة وأهلها، فكانت عائشة بعد تقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه". والحديث بطوله مرسل، وقد أخرج عن عائشة حديث يتضمن من غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكرت فيه حديث غسله في قميص يصبون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم. وكذلك روي عن ابن أبي بريدة عن أبيه موصولاً. ويستحب عند الشافعي: أن يغسل الميت في قميص بهذا الحديث وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: الأفضل تجريده من الثياب، فإن لم يفعل فأقل الواجب أن يستر عورته بخرقة من سرته إلى ركبته. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن هشام بن حسان، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية الأنصارية قالت: "ضفرنا شعر بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصيتها وقرنيها ثلاث قرون فألقيناها خلفها". هذا طرف من حديث أم عطية الذي يتضمن ذكر غسلها. "والناصية": شعر مقدم الرأس. "والقرون": شعر جنبي الرأس وهي الضفائر، وضفر الشعر لصونه من التفريق والتبديد وإن كان إليه مصيره. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عبد الله ابن أبي بكر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: "لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه".

هذا طرف من حديث قد أخرجه أبو داود (¬1): عن النفيلي، عن محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه عباد بن عبد الله ابن الزبير، عن عائشة وذكر حديثًا طويلاً وهذا الطرف في آخره. قولها: "لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا" الاستقبال: لقاء الشيء في أول الأمر، وإدراك الأمر من مبدئه، والوقوف على المصلحة فيه بادئ الأمر. "والاستدبار": ما جاء بعده وفي آخره. تريد: أنه لو عرفت في أول الأمر ما عرفته في آخره، لكان نساؤه تولوا غسله. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الرجل إذا مات كان لزوجته أن تغسله بلا خلاف، إلا ما روى عن أحمد في إحدى روايتيه لهذا الحديث عن عائشة، وأما إذا ماتت المرأة فإنه يجوز عنده للزوج أن يغسلها، وبه قال عطاء، وأبو الشعثاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وداود. وقال أبو حنيفة والثوري، والأوزاعي: لا يجوز ذلك. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عمارة، عن أم محمد بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب عن جدتها أسماء بنت عميس أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصت أن يغسلها إذا ماتت هي، وعلي، فغسّلتها هي وعلي". هذا الحديث أخرجه الشافعي: دليلاً على جواز غسل الرجل زوجته، وقد روى من وجوه عدة متفقة على أن عليًّا -كرم الله وجهه- غسلها (¬2)، وإنما اختلفت في أنها وصته وبعضهم لم يذكر الوصية في حديثه. ¬

_ (¬1) أبو داود (3141). (¬2) انظر المعرفة (5/ 231 - 232).

وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: أخبرنا عمرو بن الهيثم الثقة، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علي -كرم الله وجهه- قال: قلت: يا رسول الله، -بأبي أنت وأمي- إن أبي قد مات، قال: "اذهب فواره"، قلت: إنه مات مشركًا قال: "اذهب فواره" [فواريته] (¬1) " ثم أتيته قال: "اذهب فاغتسل" هذا الحديث أخرجه أبو داود النسائي. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن المثنى، عن محمد، عن شعبة، عن أبي إسحاق. قوله: "اذهب فواره" أي ادفنه، فلما أمره بذلك أراد أن يستثبته فقال: "إنه مات مشركًا" لكون إذنه مع علمه بموته على الشرك، فقال: "اذهب فواره" فأعاد الأمر بالمواراة، ثم أمره بالاغتسال من غسله. قال الشافعي: وأولى الغسل عندي أن يجب بعد غسل الجنابة من غسل الميت، ولا أحب تركه بحال، وإنما منعني من إيجاب الغسل من غسل الميت، أن في إسناده رجلاً (¬4) لم أقع من معرفة ثبت حديثه إلى يومي على ما يقنعني، ¬

_ (¬1) بالأصل [فو الله] وهو تصحيف والمثبت من مطبوعة المسند. (¬2) أبو داود (3214). (¬3) النسائي (1/ 110). (¬4) يقصد الشافعي: ناجية بن كعب الأسدي، وهو مختلف فيه، قال الحافظ في التهذيب: قال ابن معين: ناجية بن كعب صالح. وقال علي بن المديني: لا أعلم أحدًا روى عنه غير أبي إسحاق وهو مجهول. قلت (أحمد) ذكر الحافظ خمسة من الرواة عنه. وقال العجلي: كوفي ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. قلت: وذكره أيضاً في المجروحين (3/ 57) وضعفه. ومال الحافظ في التقريب إلى تقويته فقال في التقريب: ثقة من الثالثة. وقال في التلخيص (2/ 114): مدار كلام البيهقي على أنه ضعيف ولا يتبين وجه ضعفه =

فإن وجدت من يقنعني من معرفة ثبت حديثه أوجبته، وأوجبت الوضوء من مس الميت مفضيًا إليه فإنهما في حديث واحد. وقال أيضًا في موضع: وأحب لمن غسل الميت أن يغتسل، وليس بالواجب عندي. وقال: لا بأس أن يغسل المسلم ذا قرابته من المشركين ويتبع جنازته ويدفنه ولكن لا يصلى عليه. ... ¬

_ = وقد قال الرافعي: إنه حديث ثابت مشهور. والحديث صححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في الإرواء (717) فانظره هناك.

الفصل الثالث في الكفن

الفصل الثالث في الكفن أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن محمد بن مقاتل، عن عبد الله، عن هشام وقالت: ثلاثة أثواب يمانية. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وأبي كريب وأبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن هشام وزاد فيه: فقال لعائشة: إنهم يزعمون أنه قد كان كفن في بردة حبرة. قالت عائشة: "قد جاءوا ببرد حبرة ولم يكفنوه" (¬4). وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن حفص بن غياث، عن هشام. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن قتيبة، عن حفص بن غياث، عن هشام. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 223 رقم 5). (¬2) البخاري (1264). (¬3) مسلم (941). (¬4) لفظ الزيادة عند مسلم "أما الحُلة فإنما شبه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفن فيها فتركت الحلة، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنها حتى أكفن فيها نفسي ثم قال: لو رضيها الله -عز وجل- لنبيه لكفنه فيها فباعها وتصدق بثمنها. (¬5) أبو داود (3151). (¬6) الترمذي (996). وقال: حسن صحيح.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن إسحاق [عن] (¬2) عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة. "سَحول" -بفتح السين- قرية باليمن ينسب إليها الثياب. وقيل: السحولية: المقصورة كأنها نسبت إلى السحول وهو القصار, لأنه يسحلها أي يغسلها، وروى السحول -بضم السين- كأنه نسب إلى جمع سحل وهو الثوب الأبيض من القطن، وفي هذا النسب نظر من حيث إنه نسب إلى الجمع، وقد قيل: إن اسم القرية اليمانية بضم السين. والمذهب: أن المستحب أن يكون الكفن ثلاثة أثواب لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فإن كفن في خمسة أثواب فلا بأس به لأن ذلك من كمال لبس الحي، قميصان وسراويل وعمامة ورداء فإن زاد عليه كان شرفًا. قال الشافعي: وما كفن فيه الميت أجزأه -إن شاء الله تعالى- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن يوم أحد بعض القتلى بنمرة واحدة، فدل ذلك على أنه ليس فيه حد لا ينبغي أن يقصر عنه، وعلى أنه يجزئ ما وارى العورة. وأما المرأة: فالمستحب أن تكفن في خمسة أثواب خمار وإزار وثلاثة أثواب. قال المزني: وأحب أن تكون أحدها درعا، ثم المستحب أن تكون الثياب بيضاء غير مخيطة ولا قميص فيها ولا عمامة عملاً بهذا الحديث -يعني أن القميص والعمامة لم يكونا في كفن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحمله مالك على أن ذلك ليس بمعدود، بل يحتمل أن تكون الأثواب الثلاتة زيادة على القميص؛ فإن قمص أو عمم فلا بأس به. ¬

_ (¬1) النسائي (4/ 35). (¬2) بالأصل [بن] وهو تصحيف.

وقد أخرج الشافعي -في من حرملة- عن سفيان، عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: " [أتى] (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر عبد الله بن أبي بن سلول بعدما أدخل حفرته فأمر به فأخرج، فوضع (¬2) على ركبتيه وفخذيه فنفث عليه من ريقه وألبسه قميصه". وهو حديث صحيح أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري -وثبته معمر بن أبي الصعير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف على قتلى أُحد فقال: "شهدت على هؤلاء فزملوهم بدمائهم وكلومهم". هذا الحديث أخرجه النسائي (¬5): عن هناد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن [عبد الله بن] (¬6) ثعلبة -وهو ابن أبي الصُّعير (¬7) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "زملوهم بدمائهم، فإنه ليس من كلم يَكْلَم في الله إلا يأتي اليوم القيامة يدمى لونه لون الدم، وريحه ريح المسك". قال الشافعي: ولعل ترك الغسل والصلاة على من قتله جماعة مشركين إرادة أن يلقوا الله بكلومهم، لما جاء فيهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن ريح الكلم ريح المسك واللون لون الدم"، واستغنوا بكرامة الله لهم عن الصلاة عليهم مع التخفيف عمن بقي من المسلمين. "والتزميل": التغطية والتدثير، وزمله في ثيابه لغة فيه. "والكلوم": جمع كلم وهو الجرح، أي لفوهم في ثيابهم على ما هم فيه من ¬

_ (¬1) في الأصل [إن] والتصويب عن المعرفة (5/ 239). (¬2) في المعرفة (فوضعه). (¬3) البخاري (1270). (¬4) مسلم (4/ 2140 رقم 2773). (¬5) النسائي (4/ 78)، (6/ 29). (¬6) مكررة بالأصل. (¬7) كذا جاء معرفًا بـ (الـ). قال المزي في التهذيب: عبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر، ويقال: ابن أبي صُعَير العذري.

الجراحات والدماء ولا تغسلوهم. وهذه الباء في قوله: "بدمائهم" للملابسة والمخالطة كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬1) في إحدى القراءتين أي تنبت مختلطة وملتبسة بالدهن. وأخرج الشافعي -في من حرملة- عن سفيان بن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلى أحد يُردّوا إلى مضاجعهم". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر [أن عمر] (¬2) بن الخطاب: غُسل وكُفن وصُلّي عليه. قال الشافعي في رواية "وهو شهيد" -يعني عمر- ولكنه إنما صار إلى الشهادة في غير حرب. هذا الحديث مسوق لبيان أن القتيل في غير الحرب والمعركة يغسل ويكفن ويُصلى عليه. وتفصيل المذهب: أن المقتول من المسلمين في معترك المشركين لا يغسل ولا يكفن ولا يُصلى عليه، وبه قال مالك وأحمد، وإسحاق. وقال الثوري وأبو حنيفة: يغسل ويصلى عليه، واختاره المزني، وروي ذلك عن أحمد أيضاً، وعن الحسن البصري وابن المسيب. وأما من قتل في غير معترك المشركين فإنه يغسل ويصلى عليه، إلا أهل العدل إذا قتلهم البغاة ففيهم قولان:- أحدهما -وهو المشهور-: أنهم يغسلون ويصلون عليهم، وبه قال مالك. وقال في قتال أهل البغي: لا يغسلون ولا يصلى عليهم. وقال أبو حنيفة: لا يغسلون. ¬

_ (¬1) المؤمنون (20). (¬2) سقط من الأصل والمثبت من الأم (1/ 268)، والمعرفة أيضًا (5/ 260).

وكذلك أهل القافلة إذا قتلهم اللصوص، ففيهم وجهان بناء على القولين، ومن سوى هؤلاء فإنهم يغسلون ويصلى عليهم واحداً. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: من قتل ظلمًا بحديدة فإنه لا يغسل، فإن قتل بمثقل غسل. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان أن أبا عبيدة صلى على رءوس. قال: وبلغني أن طائرًا ألقى يدًا بمكة في وقعة الجمل، فعرفوها بالخاتم فغسلوها وصلوا عليها. ***

الفصل الرابع في حمل الجنازة

الفصل الرابع في حمل الجنازة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمه عيسى بن طلحة قال: "رأينا عثمان بن عفان يحمل بن عمودي سرير أمه، فلم يفارقه حتى وضعه". قال الشافعي: يستحب للذي يحمل الجنازة أن يضع السرير على كاهله بين العمودين المقدمين، ويحمل بالجوانب الأربع. قال: وقال قائل: لا يحمل بين العمودين هذا عندنا مستنكر، فلم يرض إن جهل ما كان ينبغي له أن يتعلمه حتى غاب قول من قال: يفعل هذا، قال: وقد رواه بعض أصحابنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حمل في جنازة سعد بن معاذ بين العمودين وروينا عن بعض أصحابنا أنهم فعلوا ذلك. وقال في القديم (¬1) فأشار إلى ثبوت ما روي في ذلك عن أصحابه دون ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -. وتفصيل المذهب: أن حمل الجنازة بين العمودين أولى من حملها من الجوانب الأربع. وقال أحمد: التربيع أفضل. وقال النخعي والحسن: يكره حملها بين العمودين. وإليه ذهب الثوري وأبو حنيفة. وقد أخرج الشافعي: عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده قال: رأيت سعد بن أبي وقاص في جنازة عبد الرحمن بن عوف قائمًا بين العمودين المقدمين، واضعًا السرير على كاهله. ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (5/ 264).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا بعض أصحابنا عن [ابن] (¬1) جريج، عن يوسف بن ماهك أنه رأى ابن عمر في جنازة رافع -يعني: ابن خديج- قائمًا بين قائمتي السرير. هذا الحديث أخرجه مؤكدًا لما قبله من الحديث في حمل الجنازة. أخبرنا الشافعي: أخبرنا بعض أصحابنا، عن عبد الله بن ثابت، عن أبيه قال: رأيت أبا هريرة يحمل بين عمودي سرير سعد بن أبي وقاص. وهذا أيضًا أخرجه عاضدًا لما أخرجه من الأحاديث. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا بعض أصحابنا، عن شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه قال: رأيت ابن الزبير يحمل بين عمودي سرير السور بن مخرمة. وهذا الحديث أخرجه محققًا لما سبق. وقد أخرج في القديم حديث ابن عمر عن حماد بن مدرك، عن ابن جريج ويذكر عن يحيى بن عبد الله بن بكير أن أسيد بن حضير مات -ويكنى أبا يحيى- وحمله عمر بين عمودي السرير حتى وضعه. ... ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والصواب إثباته وكذا في مطبوعة المسند.

الفصل الخامس في المشي مع الجنازة

الفصل الخامس في المشي مع الجنازة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد وغيره، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يمشون". وفي رواية: عن ابن عيينة، عن الزهري بالإسناد "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة". هذا الحديث أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن سفيان ولم يذكر عثمان. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، وأحمد بن منيع وإسحاق بن منصور ومحمود بن غيلان، عن سفيان ولم يذكر عثمان. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن أبيه، عن همام، عن سفيان ومنصور وزياد وبكر بن وائل كلهم عن الزهري وذكر عثمان، ولم يذكر بكر وحده. "أمام الشيء" -بفتح الهمزة- بين يديه وقدامه. "والجِنازة" -بكسر الجيم- قال الأزهري: هو السرير إذا سوّي عليه الميت مكفنًا وهيئ للدفن، ولا يقال له جنازة حتى يشد الميت مكفنًا عليه. فأما الجنازة -بالفتح- فالميت نفسه. وأصل التجهيز: تهيئة الميت وشده على السرير. ¬

_ (¬1) أبو داود (3179). (¬2) الترمذي (1007) وأعله بالإرسال وراجع كلامه هناك فإنه هام. (¬3) النسائي (4/ 56).

قال: وقال الأصمعي: بالكسر الميت، وبالفتح السرير مع الميت. وسميت الجنازة: لأن الثياب تجمع على الميت فوق السرير، ومنه جنز الرجل فهو مجنوز إذا جمع. وقال الجوهري: الجنازة واحدة الجنائز، والعامة تقول: الجنازة بالفتح وهو عبارة عن الميت على السرير، وإذا لم يكن عليه الميت فهو سرر ونعش. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المشي أمامها أفضل. وروي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسين بن علي، وابن الزبير، وأبي قتادة. وإليه ذهب القاسم بن محمد، وشريح، وسالم، والزهري، ومالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: المشي خلفها أفضل. وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وروي عن ابن جبير. وقال الثوري: الراكب خلفها والماشي حيث شاء. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن عبد الله الهدير أنه أخبره "أنه رأى عمر بن الخطاب يقدُمُ الناس أمام جنازة زينب بنت جحش". فتقدم عمر الناس أمام الجنازة، دليل على أنه سنة، وهو مؤكد لما سبق وقد أخرجه مالك في الموطأ (¬1) هكذا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبيد -مولى السائب- قال: "رأيت ابن عمر وعبيد بن عمير يمشيان أمام ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 225 رقم 9).

الجنازة فجلسا يتحدثان فلما جازت بهما قاما. وهذا أيضًا محقق للأحاديث قبله. قال الشافعي (¬1): وقال بعض الناس: المشي خلفها أفضل واحتج بابن عمر، وإنما قدم الناس لتضايق الطريق حتى كأنا [لم] (¬2) نحتج بغير ما روينا عن عمر، واحتج بأن عليًّا قال: المشي خلفها أفضل، واحتج بأن الجنازة متبوعة وليست بتابعة وبأن التفكر في أمرها إذا كان خلفها أكثر. والحجة في أن المشي أمام الجنازة أفضل، مشي النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أبو بكر رضي الله عنه وغيره من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمامها، والحجة فيه مشي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أثبت من أن يحتاج معها إلى غيرها، وإن كان في اجتماع أئمة الهدي بعده الحجة، ولسنا نعرف عن علي خلاف أصحابه. ... ¬

_ (¬1) الأم (1/ 271). (¬2) في الأصل [له] والتصويب من الأم (1/ 271).

الفصل السادس في القيام للجنازة

الفصل السادس في القيام للجنازة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم [أو] (¬1) توضع". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان بالإسناد واللفظ إلى قوله: "تخلفكم" وقال: زاد الحميدي "أو توضع". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب وابن نمير، عن سفيان بلفظ الشافعي. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن مسدد، عن سفيان. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع وعن سالم. وأما النسائي (¬6): فأخرجه مثل الترمذي. "خلّفت" الرجل -مشددًا-: إذا تركته وراءك، وخلفته -مخففًا- إذا بقيت بعده، وهي في الحديث مشددة أي حتى تتجاوزكم إلى القبر أو توضع -يعني عن رقاب الرجال. وفي رواية البخاري: "حتى تخلفها" وهي المخففة أي تصير خلفها وبعدها، أو"تخلّفه" -بالتشديد- وكذلك في رواية مسلم. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند. (¬2) البخاري (1307). (¬3) مسلم (958). (¬4) أبو داود (3172). (¬5) الترمذي (1042) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (4/ 44).

والذي ذهب إليه الشافعي: أن الإنسان إذا تبع جنازة جاز له الجلوس من قبل أن توضع. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة، وأحمد: يكره له ذلك ولا يجلس حتى توضع وإليه ذهب الشافعي والنخعى. فأما من لا يتبعها فلا يقوم لها، وهذا [لحديث] (¬1) علي -رضي الله عنه- الذي يجيء بعده ... وقال أحمد: إن شاء قام وإن شاء لم يقم. وحكي عن أبي مسعود البدري وغيره من الصحابة: وجوب القيام لها إذا مرت به، عملًا بحديث أبي سعيد الخدري وهو منسوخ، وحديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن واقد ابن عمرو بن سعد بن معاذ، عن نافع بن جبير، عن مسعود بن الحكم، عن علي ابن أبي طالب -كرم الله وجهه-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم في الجنازة ثم جلس" هكذا أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" (¬2) وعاد أخرجه بالإسناد واللفظ في كتاب "الجنائز" (¬3) وزاد في آخره. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- عن إبراهيم بن محمد [عن محمد] (¬4) بن عمرو بن علقمة بهذا الإسناد وشبيهه بهذا وقال: "قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمرنا بالقيام، ثم جلس وأمرنا بالجلوس". هذا حديث حسن صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري. ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل. (¬2) اختلاف الحديث (ص: 535) مع الأم. (¬3) الأم (1/ 279). (¬4) سقط من الأصل والمثبت من الأم.

فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد وقال في آخره: "ثم جلس بعد". وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن محمد بن المثنى وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر جميعًا عن الثقفي، عن يحيى بن سعيد. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى بن سعيد. وأما النسائي (¬5): فأخرجه بإسناد الترمذي. وأخرجه الشافعي -في سنن حرملة (¬6) - عن عبد العزيز بن محمد [عن محمد] (¬7) بن عمرو. قوله: "كان يقوم للجنائز" يريد أن قيامه للجنائز كان حالاً له يفعلها عند عبورها عليه. وقولى: "جلس" يريد أنه ترك تلك الحال فصار لا يقوم لها. وقوله: "ثم جلس" بمنزلة قوله: "وثم ترك القيام" يعني ثم استصحب حال الجلوس عند عبور الجنازة عليها. وقوله: "بعد" يريد بعد ذلك فحذف ذلك وبنى بعد لانقطاعها عن الإضافة. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 232 رقم 33). (¬2) مسلم (962/ 83). (¬3) أبو داود (3175). (¬4) الترمذي (1044) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (4/ 77 - 78). (¬6) انظر المعرفة (5/ 281). (¬7) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة.

الفصل السابع في صلاة الجنازة

الفصل السابع في صلاة الجنازة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: "نعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس النجاشي اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى وصف بهم وكبر أربع تكبيرات". هكذا أخرجه في كتاب "الجنائز" (¬1)، وفي كتاب "خلاف مالك" (¬2)، وأخرجه في كتاب "علي وعبد الله" (¬3) بالإسناد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على النجاشي أربعًا". وأخبرنا في سنن حرملة: أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر أنه قال: "لما مات النجاشي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه قد مات اليوم عبد صالح، فقوموا فصلوا على أصحمة". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬4): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬5): فأخرجه عن يحيى بن بكير، عن الليث. وعن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن معمر، جميعًا عن الزهري. وأما مسلم (¬6): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. ¬

_ (¬1) الأم (1/ 270). (¬2) الأم (7/ 210). (¬3) الأم (7/ 188). (¬4) الموطأ (1/ 226 - 227 رقم 14). (¬5) البخاري (1327)، (1318). (¬6) مسلم (951).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن معمر، عن الزهري. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن سويد بن نصر، عن عبد الله عن مالك، وعن قتيبة، عن مالك. "نعيت" إليه الميت أنعيه نَعْيًا ونَعِيًّا: إذا أخبرته بموته. والنعي أيضاً الناعي وهو الذي يأتي بخبر الميت. قال الأصمعي: كانت العرب إذا مات فيهم ميت له قدر كبير، ركب راكب فرسًا يسير في الناس ويقول: نعي فلانا، أي: أنعه وأظهر خبر وفاته وهي مبنية على الكسر مثل: نزل ودراك بمعنى أنزل وأدرك. ويكره النداء على الميت، ولا بأس أن يعرف به أصدقاؤه. وبه قال أحمد. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا بأس به. "والمصلى": موضع الصلاة، وهو اسم خصه الاستعمال بالأماكن المعينة للصلاة في ظاهر البلد، وفي الصحارى، والأماكن المنفردة، كما خص الاستعمال المساجد بالأماكن المبنية في المدن والقرى ونحو ذلك، وإنما كان الجميع مصلى ومسجدًا. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن تكبيرات صلاة الجنائز أربع. وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وأبو ثور، وداود، وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وزيد، وجابر، والحسن، ومحمد ¬

_ (¬1) الترمذي (1022) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (4/ 69 - 70، 72). قلت: ولم يعزه لأبي داود وهو عنده برقم (3204).

ابني علي، وأبي هريرة، والبراء بن عازب، وعقبة بن عامر، وعطاء بن أبي رباح. حكي عن محمد بن سيرين وأبي الشعثاء بأنهما قالا: هي خمس تكبيرات. وإليه ذهب الشيعة. وحكي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنائز تسعًا، وسبعًا، وخمسًا، وأربعًا، وكبروا ما كبر الإمام". وروي عن علي أنه كبر على أبي قتادة تسعًا، وعلى سهل بن حنيف ستًّا -وكانا بدريين-، وكان يكبر على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البدريين ستًّا، وعلى أهل غير بدر خمسًا، وعلى سائر الناس أربعًا. ويجوز عند الشافعي الصلاة على الميت الغائب، فيتوجه المصلي إلى القبلة وسواء كانت المسافة بينهما بعيدة أو قريبة. إلا أن يكون في البلد، ولا يصلى عليه حتى يحضره، وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن. وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يصلى على الغائب. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب أن أبا أمامة سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمرضها، قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود المرضى ويسأل عنهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ماتت فآذنوني" (¬1). فخرج بجنازتها ليلاً فكرهوا أن يوقظوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بالذي كان من شأنها، فقال: "ألم آمركم أن تؤذنوني بها"؟ فقالوا: يا رسول الله، كرهنا أن نوقظك، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى صف بالناس على قبرها فكبر أربع تكبيرات". ¬

_ (¬1) في مطبوعة المسند زاد (بها) وكذا في الأم (1/ 270).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- بالإسناد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر مسكينة توفيت من الليل". أخرج الرواية الأولى في كتاب "الجنائز" (¬1) والثانية في "خلاف مالك". (¬2) وقد أخرج مالك في الموطأ (¬3) الرواية الأولى. وأخرج النسائي (¬4): عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري عن أبي أمامة نحو الأولى. "المسكينة": تأنيث المسكين وقد اختلف فيه: فقال قوم: المسكين الذي له شيء من الدنيا، إلا أنه لا يقوم بما يحتاج إليه، قال الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} (¬5) فأثبت لهم ملكًا وسماهم مساكين. وإلى هذا ذهب الشافعي. وقال قوم: المسكين: الذي لا شيء له، والفقير: الذي له شيء لا يكفيه. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة. والإيذان: الإعلام والإيقاظ والإنباه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الصلاة على قبر الميت جائزة. وبه قال علي، وأبو موسى، وابن عمر، وعائشة وإليه ذهب الأوزاعي، وأحمد، والنخعي، ومالك، وأبو حنيفة: لا يجوز إلا أن يكون قد دفن قبل أن يصلى عليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن ¬

_ (¬1) الأم (1/ 270). (¬2) الأم (7/ 210). (¬3) الموطأ (1/ 227 رقم 15). (¬4) النسائي (4/ 40). (¬5) الكهف: [79].

عقيل، عن جابر بن عبد الله "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على الميت أربعًا، وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى". قوله: الفاتحة في صلاة الجنازة واجبة. وبه قال أحمد، وإسحاق، وداود، وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس، وابن الزبير، والحسن البصري. وقال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، لا يقرأ شيئًا من القرآن. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن طلحة بن عبد الله ابن عوف قال: "صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، فلما سلم سألته عن ذلك فقال: سنة وحق". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد قال: سمعت ابن عباس يجهر بفاتحة الكتاب (¬1) على الجنازة، ويقول: "إنما فعلت لتعلموا أنها سنة". هكذا حديث صحيح البخاري، وأبو داود، والترمذي والنسائي. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن غندر، [عن شعبة] (¬3) عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة وذكر الرواية الثانية. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن محمد [بن كثير] (¬5)، عن سفيان، عن سعد ابن إبراهيم، عن طلحة وذكر نحو الثانية. ¬

_ (¬1) في الأصل [الكتابة] وهو تصحيف. (¬2) البخاري (1235). (¬3) سقط من الأصل والمثبت من رواية البخاري. (¬4) أبو داود (31989). (¬5) تكررت في الأصل.

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن ابن مهدي [عن سفيان] (¬2) عن سعد بن إبراهيم، عن طلحة وقال: "إنه من السنة -أو تمام السنة". القوي والصحيح أنه موقوف. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن الهيثم بن أيوب، عن إبراهيم بن سعد بإسنادي الشافعي، وقال: بفاتحة الكتاب في سورة جهر حتى أسمعنا (¬4). وهذا الحديث أخرجه الشافعي مؤكد لما سبق من قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وكون ابن عباس يجهر بها، وعلل الجهر بالعلم بالسنة من أقوى الأدلة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله, لأن السنة إنما هي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلًا وقولاً فهذا كالمسند المرفوع. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن إسحاق بن عبد الله، عن موسى بن وردان، عن عبد الله بن عمرو بن العاص "أنه كان يقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى على الجنازة". هذا الحديث مما أخرجه الشافعي محققًا لما سبق. قال الشافعي: بلغنا ذلك عن أبي بكر الصديق، وسهل بن حنيف وغيرها من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي فيما بلغه عن هيثم، عن منصور، عن الحسن، عن رجل من هذيل أن ابن مسعود كان يقرأ على الجنائز. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مطرف بن مازن، عن معمر، عن ¬

_ (¬1) الترمذي (1027) وقال: حسن صحيح. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من رواية الترمذي. (¬3) النسائي (4/ 74 - 75). (¬4) عند النسائي: (وسورة وجهر حتى أسمعنا).

الزهري أخبرنا أبو أمامة بن سهيل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السنة في صلاة على الجنازة: أن يكبر الإمام ثم يقرأ فاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويخلص الدعاء -والدعاء للجنازة في التكبيرات لايقرأ في شيء منهن- ثم يسلم سرًّا في نفسه. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري قال: حدثني محمد الفهري، عن الضحاك بن قيس أنه قال مثل قول أبي أمامة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا بعض أصحابنا، عن ليث بن سعد، عن الزهري، عن أبي أمامة قال: السنة أن يقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب (¬1). قال الزهري: والناس يقتدون بإمامهم ويصنعون ما يصنع. قال الشافعي: وابن عباس والضحاك رجلان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يقولان: "السنة" إلا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -إن شاء الله-. وهذا الحديث أخرجه النسائي (¬2): عن قتيبة، عن الليث عن الزهري. وفي أخرى بالإسناد: عن محمد بن سويد الدمشقي الفهري، عن الضحاك ابن قيس بنحو ذلك. قوله: "ويخلص الدعاء للميت في التكبيرات" يريد ما عدا الأولى، وقد تقدم فيما مضى من الكتاب أن قول الراوي: السنة كذا، ومن السنة كذا، والسنة جارية بكذا، أن هذا كله مرفوع حكمه حكم الأحاديث المسندة المرفوعة. ومذهب الشافعي في صلاة الجنازة: أن يرفع يديه حذو منكبيه مع كل تكبيرة خلافًا لمالك وأبي حنيفة، فإنهما قالا: لا يرفعهما [إلا] (¬3) مع الأولى، ثم يقرأ ¬

_ (¬1) في الأصل [الكتابة] وهو تصحيف. (¬2) النسائي (4/ 75). (¬3) سقط من الأصل وإثباته لازم وهو المذهب عندهما قال ابن قدامة في المغني (2/ 373): أجمع أهل العلم على أن المصلي على الجنائز يرفع يديه في أول تكبيرة يكبرها، وكان ابن عمر يرفع يديه في كل تكبيرة وبه قال سالم وعمر بن عبد العزيز وعطاء وقيس بن أبي حازم والزهري =

بفاتحة الكتاب بعد الأولى، ثم يكبر الثانية ويحمد الله [ثم] (¬1) يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت ثم يكبر الرابعة ويسلم. وقال الشافعي في التكبيرة الرابعة -في موضع آخر-: يكبر ويقول: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. قال: ومما أستحب أن يقال في الدعاء: اللهم عبدك وابن عبدك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبها وأحبائه فيها، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرًا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له؛ اللهم فإن كان محسنًا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئًا فتجاوز عنه، وبلّغه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافتح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الأمن من عذابك، حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين. قال: وليس في الدعاء شيء مؤقت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن عمر -يعني الواقدي-، عن عبد الله ابن عمر بن حفص، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة". قال الشافعي: وبلغني عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير مثل ذلك، وعلى ذلك أدركت أهل العلم ببلدنا، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. وقال في القديم: وأخبرناه من سمع ابن وردان يذكر عن أنس بن مالك أنه ¬

_ = وإسحاق وابن المنذر والأوزاعي والشافعي، وقال مالك والثوري وأبو حنيفة لا يرفع يديه إلا في الأولى لأن كل تكبيرة مقام ركعة ولا ترفع الأيدي في جميع الركعات. (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (5/ 303).

كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة. وأخبرنا الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يسلم في الصلاة على الجنازة". هذا الحديث أخرجه في الموطأ (¬1) وزاد حتى يسمع من يليه. قال الشافعي: ويسلم تسليمة يسمع من يليه -أي من هو قريبًا ممن وراءه- وإن شاء تسليمتين. وروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وجابر، وأنس، وواثلة، وأبي أمامة، وسهل بن حنيف؛ تسليمه واحدة. وروى عن ابن أبي أوفى، وابن مسعود تسليمتان. وأخرج الشافعي في كتاب حرملة (¬2) قال: أخبرنا سفيان قال: أخبرنا إبراهيم الهجري أنه رأى عبد الله بن أبي أوفى في جنازة ابنته على بغلة تقاد، ويقول للقائد: أين أنا منها؟ فإذا قال له: أمامها، قال: احبس قال: ورأيته حين صلى عليها كبر عليها أربعًا، ثم قام ساعة فسبح به القوم فسلم، ثم قال: كنتم ترون أني أزيد على أربع، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر أربعًا. وسمع ابن أبي أوفى نساء يرثين فنهاهن، وقال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن المراثي. وأخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان قال: أخبرنا أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد -رضيع عائشة رضي الله عنهما- أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ميت يموت فيصلي عليه أمة من الناس، يبلغون أن يكونوا مائة فيشفعون إلا شفعوا فيه" (¬3). ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 230 رقم 25). (¬2) انظر المعرفة (5/ 305). (¬3) انظر المعرفة (5/ 306).

وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن أبي النضر -مولى عمر بن [عبيد] (¬1) الله- عن عائشة -أم المؤمنين- أنها قالت: [ما] (¬2) صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد. قال الربيع: فقلت للشافعي: فإنا نكره الصلاة على الميت في المسجد. فقال الشافعي: رويتم هذا ورويتم أنه صلى على عمر في المسجد، كيف كرهتم الأمر به؟!. أخبرنا الربيع -رضي الله عنه- قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله "-في الصلاة على الجنازة- لا وقت ولا عدد". يريد أنه ليس بشيء من الأوقات تكره فيه الصلاة على الميت، ولا عدد محصور في التكبيرات، ولا لها حد معين لا يجوز غيره. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن نافع أن ابن عمر كان لا يصلي على الجنازة إلا وهو متوضئ. وقد جاء في رواية يحيى بن بكير، عن مالك، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: "لا يصلي الرجل على الجنازة إلا وهو طاهر". ¬

_ (¬1) في الأصل [عبد] والصواب هو المثبت. واسم أبي النضر سالم بن أبي أمية مولى عمر بن عبيد الله التيمي المدني. والحديث أخرجه مالك في الموطأ (1/ 229 رقم 22). وهو في المعرفة أيضًا (5/ 316). (¬2) سقط من الأصل والصواب إثباته وأصله عند مسلم (973).

الصلاة على الشهيد

الصلاة على الشهيد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا بعض أصحابنا، عن الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد ولم يغسلهم". هذا طرف من حديث صحيح أخرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن الليث بالإسناد قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: "أيهم أكثر أخذًا للقرآن" فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم في دمائهم، فلم يغسلوا ولم يصل عليهم. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن قتيبة ويزيد بن خالد بن موهب، عن الليث. وأما الترمذي (¬3) والنسائي (¬4): فأخرجاه جميعًا عن قتيبة، عن الليث بالإسناد. قوله: "أيهم أكثر أخذا للقرآن" يريد أيهم أكثر حفظًا له من الآخر. واللحد في القبر معروف، ويريد بتقديمه فيه: تقديمه إلى جهة القبلة. وقوله: "أنا شهيد على هؤلاء" أي شاهد لهم بالقتل في سبيل الله. وأخبرنا الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا بعض أصحابنا، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أنس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد ولم يغسلهم". هذا الحديث رواه عبد الله بن وهب، عن أسامة بإسناده. هذا ورواه عثمان بن عمر وروح بن عبادة، عن أسامة واستثنى فيه حمزة، ¬

_ (¬1) البخاري (1343). (¬2) أبو داود (3138). (¬3) الترمذي (1036) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (4/ 62).

فقال: ولم يصل على أحدٍ من الشهداء غيره. قال الدارقطني: هذه اللفظة "ولم يصل على أحد من الشهداء غيره" [غير] (¬1) محفوظة. قال الترمذي: سألت البخاري عن حديث عبد الرحمن بن كعب، عن جابر؟ قال: حديث حسن، وحديث أسامة بن زيد غير محفوظ (¬2). قد تقدم في حديث عبد الله بن عمر في فضل الغسل، ذكر المذهب في الصلاة على الشهيد ما فيه كفاية، ونحن نزيده هاهنا بسط. قال الشافعي -رضي الله عنه- وإذا قتل المشركون المسلمين في المعترك؛ لم يغسل القتلى ولم يصل عليهم ودفنوا بكلومهم ودمائهم. وقال بعض الناس: يصلى عليهم ولا يغسلون، واحتج بأن الشعبي روى أن حمزة صُلّي عليه سبعون صلاة، فكان يؤتى بتسعة من القتلى حمزة عاشرهم فيصلى عليهم، ثم يرفعون وحمزة مكانه، ثم يؤتى بآخرين فيصلى عليهم وحمزة مكانه، حتى صلّي عليه سبعين صلاة. قال الشافعي: وشهداء أحد اثنان وسبعون شهيدًا، فإذا كانوا قد صلى عليهم عشرة، لا يكون أكثر من سبع صلوات أو ثمان، فنجعلهم على أكثرها على أنه صلى على اثنين وسبعين صلاة، وعلى حمزة صلاة فهذه تسع صلوات، فمن أين جاءت سبعون صلاة؟. وإن كان عني كبر سبعين تكبيرة، فنحن وهم نزعم أن التكبير على الجنائز أربع، فهي إذا كانت تسع صلوات: ست وثلاثون، فمن أين جاءت أربع وثلاثون تكبيرة أخرى، وقد كان ينبغي لمن روى هذا الحديث أن يستحي على نفسه، وقد كان ينبغي له أن لا يعارض به الأحاديث كأنها عيان، فقد جاءت من وجوه متواترة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل عليهم وقال: "زملوهم بكلومهم". ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (5/ 253). (¬2) علل الترمذي الكبير (145 - 146) وزاد في آخره: (غلط فيه أسامة بن زيد).

الفصل الثامن في الدفن

الفصل الثامن في الدفن أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد وغيره عن ابن جريج، عن عمران بن موسى: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سل من قبل رأسه". هذا حديث مرسل (¬1)، وقد ذكره الشافعي وذكر بعده حديث ابن عباس مسندًا مرفوعًا وسيجيء ذكره. وقوله: "سل من قبل رأسه" أي أُخذ من جهة رأسه وأُدخل في القبر. قال الشافعي: وسل الميت سلًا من قبل رأسه، وذلك أن يوضع رأس سريره عند رجل القبر ثم يسل سلاً، ويستر القبر بثوب حتى يُسَوى على الميت لحدُه. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: توضع الجنازة على جانب القبر مما يلي القبلة ثم يدخل معترضًا. قال الشافعي: وقال بعض [الناس] (¬2) يدخل معترضًا من قبل القبلة وروي عن حماد، عن إبراهيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل من قبل القبلة معترضًا. قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقات من أصحابنا، أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على يمين الداخل من البيت لاصق بالجدار، والجدار الذي اللحد لجنبه قبلة البيت فإن لحده تحت الجدار، فكيف يدخل معترضًا؟! واللحد لاصق بالجدار، ولا يقف عليه شيء ولا يمكن إلا أن يسل سلاً أو يدخل من خلاف القبلة، ¬

_ (¬1) قلت: وعمران موسى تفرد بالرواية عنه ابن جريج، وقال الحافظ: مقبول. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من الأم (1/ 273).

وأمور الموتى وإدخالهم من الأمور المشهورة عندنا لكثرة الموت وحضور الأئمة وأهل الفقه، وهي من الأمور العامة التي يُستغنى فيها [عن] (¬1) الحديث، ويكون الحديث فيها كالتكليف لعموم معرفة الناس بها (¬2) [و] (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار بين أظهرنا تنقل إلينا العامة (¬4) لا يختلفون في ذلك، فإن الميت يسل سلاً، ثم جاءنا آتٍ من غير بلدنا يعلمنا كيف يدخل الميت، ثم لم يرض حتى روي عن حماد، عن إبراهيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل معترضًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "سل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل رأسه". أكد الشافعي حديث عمران بن موسى المرسل بهذا الحديث المسند. وقد أخبرنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد وربيعة وأبي النضر لا اختلاف بينهم في ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سل من قبل رأسه، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا [إبراهيم] (¬5) ابن محمد، عن جعفر بن محمد [عن أبيه] (¬6) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعًا. هكذا روي هذا الحديث مرسلاً، وقد روي عن أبي المنذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حثى في قبر ثلاثاً. وروي من وجه آخر ضعيف مسندًا، وروي عن علي. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (1/ 273). (¬2) في الأم (لها). (¬3) سقط من الأصل والمثبت من الأم (1/ 273). (¬4) في الأم (1/ 273): [ينقل العامة عن العامة]. (¬5) الأصل [محمد] وهو تحريف والتصويب من مطبوعة المسند. (¬6) سقط من الأصل والمثبت من الأم (1/ 276 - 277) وكذا في مطبوعة المسند.

وابن عباس، وأبي أمامة (¬1). قال الشافعي: ويحثى من على شفير القبر بيديه من التراب ثلاث حثيات. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبر إبراهيم ابنه ووضع عليه حصباء". والحصباء لا تثبت إلا على قبر مسطح". قوله: "رش على قبر ابنه إبراهيم" يريد رش عليه ماءً ليتلبد ترابه. "والحصباء": الحصى الصغار. قوله: "والحصباء لا تثبت إلا على قبر مسطح" من كلام الشافعي. والذي ذهب إليه الشافعي: أن السنة عنده تسطيح القبور. وقال جماعة من متأخري القائلين بمذهبه: أن الأولى التسنيم لأن التسطيح صار من شعار الشيعة، وهذا ليس صحيحًا لأن السنة إذا ثبتت بشيء لزم اتباعه؛ ولا اعتبار لمن وافق وخالف، فكيف ترغب عن السنة بعمل بعض طوائف المسلمين بها. فقال مالك وأبو حنيفة والثوري، وأحمد: السنة التسنيم. قال الشافعي: ومقبرة المهاجرين والأنصار عندنا مسطح قبورها، وتشخص عن وجه الأرض نحوًا من شبر. ويجعل عليها البطحاء مرة، ومرة تطين، ولا أحسب هذا من الأمور التي ينبغي أن يدخل أحد علينا، وقد بلغنا عن القاسم بن محمد قال: رأيت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر مسطحة. قال: ويوضع عند رأسه صخرة أو علامة ما كانت. ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (5/ 329).

الفصل التاسع في التعزية وطعام العزاء

الفصل التاسع في التعزية وطعام العزاء أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: "لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءت التعزية سمعوا قائلاً يقول: إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه [فارجوا] (¬1)، فإن المصاب من حرم الثواب. وقد روي من وجه آخر أنه: "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، ويقال: إنه الخضر عليه السلام". "العزاء": الصبر، "والتعزية" فعل المعزي، تقول: عزيت أهل البيت أعزيهم تعزية، إذا قلت لهم ما يسليهم ويصبرهم ويسكن جزعهم. "والخلف": العوض. "والدرك": الإصابة والوصول إلى الشيء. "والمصاب": الذي نزلت به المصيبة. وقوله: "فإن المصاب من حرم الثواب" يعني أن الإنسان إذا جزع لما ينزل به من النوائب، وظهر منه ما يحبط أجره ويحرمه ثوابه، فإنه هو المصاب حقيقة بحرمان الثواب، لا من أصيب من أهله. قال الشافعي: وأحب تعزية أهل البيت رجاء الأجر في تعزيتهم، وأن يخص بالتعزية كبارهم وصبيانهم العاجزين عن احتمال المصيبة. ¬

_ (¬1) في الأصل [فارجعوا] والمثبت من الأم (1/ 2789)، ومطبوعة المسند (600)، والمعرفة (5/ 337).

قال: وقد عزى قوم من الصالحين بتعزية مختلفة، فأحب أن يقول قائل هذا ويترحم على الميت ويدعو له ولمن خلف. وتفصيل القول: أن التعزية سنة، وقد ورد فيها الأجر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عزّى مصابًا كان له مثل أجره" (¬1). فالشافعي قد تكلم فيها من ثلاثة أوجه: أحدها: في وقت التعزية: وهو من حين يموت إلى أن يدفن وعقيب الدفن. وقال الثوري: لا يعزى بعد الدفن. والثاني فيمن يعزى، قال: الكبير والصغير والرجل والمرأة إلا أن تكون شابة فلا أحب أن يعزيها إلا ذو رحم، ويخص بالتعزية صغارهم وخيارهم فإن الثواب في تعزيتهم أكثر. الثالث: في لفظ التعزية قال: أحب أن يقول مثل ما عزى به أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرناه بعضهم (¬2) أنه يقول: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد جاءهم أمر يشغلهم" -أو ما يشغلهم- شك سفيان. هكذا جاء هذا الحديث فيما رواه الأصم في المسند عن جعفر بن محمد، ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (1073)، وابن ماجه (1602)، والبيهقي في سننه (4/ 59) وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث علي ابن عاصم. وروى بعضهم عن محمد بن سوقة بهذا الإسناد مثله مرقوفًا ولم يرفعه، ويقال: أكثر ما ابتلي به علي بن عاصم بهذا الحديث، نقموا عليه. قلت: والحديث ضعفه الألباني -رحمه الله- في الإرواء (765) فانظره هناك. (¬2) كذا بالأصل.

وهو خطأ من الأصم فإن الشافعي قد رواه من غير رواية الأصم على الصحة (¬1)، لأن جعفرًا المذكور في الإسناد ليس جعفر بن محمد، إنما هو جعفر بن خالد المخزومي كذا رواه أبو داود والترمذي. فأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن سفيان، عن جعفر بن خالد، عن عبد الله بن جعفر. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن أحمد بن منيع وعلي بن حجر [عن سفيان] (¬4) عن جعفر بن خالد. و [النعي] (¬5): خبر الميت وقد تقدم ذكر ذلك. قال الشافعي: وأحب لقرابة اليت أن يعمل لأهل الميت في يومهم وليلتهم طعامًا يسعهم لهذا الحديث، ولأن ذلك من البر والتقرب إلى الأهل والجيران فكان ذلك مستحبًا، فأما إصلاح أهل الميت طعامًا وجمع الناس عليه فلم ينقل فيه شيء وهو بدعة غير مستحب. ... ¬

_ (¬1) كما في الأم (1/ 278) وانظر أيضًا المعرفة (5/ 338). (¬2) أبو داود (3132). (¬3) الترمذي (998) وقال: حسن صحيح. وجعفر بن خالد، وهو: ابن سارة وهو ثقة، روى عنه ابن جريج. (¬4) سقط من الأصل والصواب إثباته وكذا في رواية الترمذي. (¬5) تكررت في الأصل.

الفصل العاشر في البكاء على الميت

الفصل العاشر في البكاء على الميت أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر [بن] (¬1) عتيك، عن عتيك بن الحارث، أن عتيك أخبره عن عبد الله ابن عتيك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غُلب، فصاح به فلم يجب فاسترجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح [النسوة] (¬2) وبكين، فجعل ابن عتيك [يسكتهن] (¬3)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [دعهن] (¬4) فإذا وجب فلا تبكين [باكية] (¬5) ". قال: وما الوجوب يا رسول الله؟. قال: "إذا مات". هذا الحديث أخرجه الموطاً، وأبو داود، والنسائي. فأما الموطأ (¬6): فأخرجه بالإسناد إلا أنه قال: عن عتيك بن الحارث بن عتيك -وهو جد عبد الله بن عبد الله بن جابر أبو [أمه] (¬7) - أنه أخبره أن جابر بن عتيك أخبره وذكر الحديث وزاد فيه زيادة، فقالت ابنته: والله إن كنت لأرجو ¬

_ (¬1) في الأصل [عن] وهو تصحيف. (¬2) في الأصل [الصورة] وهو تصحيف والتصويب من الأم (1/ 280) والمعرفة (5/ 343) وكذا مطبوعة المسند (556). (¬3) في الأصل [يسكتن]، والتصويب من المراجع السابقة. (¬4) في الأصل [دعين] والصواب هو المثبت. (¬5) في الأصل [إليه]. (¬6) الموطأ (1/ 233 رقم 36). (¬7) في الأصل [أمامة] والمثبت من الموطأ.

أن تكون شهيدًا، فإنك كنت قد قضيت جهازك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته، وما تعدون الشهادة؟. قالوا: القتل في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله، المطعون شهيد، والغَرِق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، والحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة". وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن عتبة بن عبد الله بن عتبة كليهما عن مالك. والذي رواه الأصم عن عبد الله بن عتيك، وإنما هو جابر بن عتيك وهو الصواب إن شاء الله تعالى (¬3). قوله: "قد غلب" أي أغمي عليه ووقع في النزع. "والاسترجاع": قول المصاب: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقوله: "وجب" يريد به الموت، فكأنه وجبت الشمس إذا غربت. "والمطعون": الذي يصيبه الطاعون. "والمبطون": الاستسقى. وماتت المرأة بجمع: إِذا ماتت وولدها في جوفها. والذي ذهب إليه الشافعي: أن النياحة وشق الجيوب وضرب الخدود وتخميشها والصياح مكروه، لأن ذلك يشبه التظلم والاستغاثة، وما فعله الله عدل وحق, لأن النوح يجدد الحزن ويمنع الصبر فكره لذلك. وأما البكاء على الميت: فإنه مباح إلى أن تخرج الروح، فإذا خرج كره لهذا ¬

_ (¬1) أبو داود (31119). (¬2) النسائي (4/ 13). (¬3) وانظر تحفة الأشراف (2/ 402 - 403) وراجع ترجمة جابر بن عتيك من التهذيب.

الحديث. قال الشافعي: وأكره النياحة على الميت بعد موته، وأن تندبه الواحدة (¬1) على الانفراد ولكن يعزى بما أمر به من الصبر والاسترجاع، وأكره [المأتم] (¬2) -وهو الجماعة- وإن لم يكن لهن بكاء، فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة مع ما مضى فيه من الأثر. وفي كل ذلك مع غيره دلالة على جواز البكاء قبل الموت وبعده، بلا ندب ولا نياحة ولا مأتم، وحديث ابن عتيك محمول على كراهية اجتماعهن بعد الموت والبكاء. والله أعلم. وقد أخرج الشافعي -في كتاب حرملة- قال: أخبرنا سفيان، عن محمد ابن عجلان، عن وهب بن كيسان، عن أبي هريرة "سمع عمر بن الخطاب باكية فنهاها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعها يا أبا حفص، فإن العهد قريب والعين باكية، والنفس مصابة". هذا الحديث من هذا الوجه منقطع، وقد رواه هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان أن محمد بن عمر أخبره أن سلمة الأزرق قال: أشهد على أبي هريرة لسمعته يقول: "مُرّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة ونساء يبكين عليهن، فنهاهن عمر وانتهرهن، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعهن يا عمر، فإن العين دامعة والنفس مصابة والعهد قريب". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة أنها سمعت عائشة -رضي الله عنها- وذكر لها ¬

_ (¬1) في الأم: (النائحة). (¬2) في الأصل (المائية) والمثبت من الأم (1/ 279).

أن عبد الله بن عمر [يقول] (¬1) إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه فقالت عائشة: أما إنه لم يكذب، ولكنه [أخطأ] (1) أو نسي إنما مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية وهي يبكي عليها أهلها، فقال: "إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد واللفظ وزاد فيه وقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب. وذكر الحديث. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بالإسناد قالت: إنما مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية. وذكر باقي الحديث ولم يذكر أوله. وأما مسلم (¬4) والترمذي (¬5): فأخرجاه عن قتيبة، عن مالك. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن هناد، عن عبدة وأبي معاوية عن هشام، عن أبيه، عن ابن عمر. وأما النسائي (¬7): فأخرجه عن محمد بن آدم، عن عبدة، عن هشام بإسناد أبي داود وذكر نحوه. الواو في قوله: "وذكر لها" واو الحال وقد فيها مقدرة، تقديرها سمعت عائشة وقد ذكر لها قول ابن عمر. والخطأ: ضد الصواب. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند، والمعرفة (5/ 346). (¬2) الموطأ (1/ 234 رقم 37). (¬3) البخاري (1289). (¬4) مسلم (932). (¬5) الترمذي (1006) وقال: حسن صحيح. (¬6) أبو داود (3129). (¬7) النسائي (4/ 17).

"والنسيان": خلاف الذكر، أرادت أنه لم يتعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه صحابي مشهور بالصحبة والدين والعلم، ومثله لا ينسب إليه الكذب مطلقًا فكيف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ولكنه لا يخلو كلامه من أمرين: إما الخطأ وإما النسيان، ثم إنما عللت قولها وذكرت العذر لها وله ما حكته من شأن اليهودية وبكاء أهلها عليها. ومعنى قوله: "إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها" يريد أنها تعذب بكفرها في القبر وأهلها يبكون عليها لموتها. ومن ذهب إلى الصحيح قول ابن عمر قال: إن العرب كانوا يوصون بالبكاء عليهم وبالنياحة، وكذلك موجود في أشعارهم كقول بعضهم: إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يابنة معبد وكقول لبيد: ابكي الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر وقيل: إنهم كانوا يبكون عليهم ينوحون بتعديد أفعالهم، التي كانوا يفعلونها من القتل والنهب، فأراد أنهم يعذبون بما يبكون عليهم به، وذلك معصية منه ومنهم إذا فعلوا، فإن فعلوها بأمره كان عليهم معصية، كما لو أمر بطاعة فعملت بعده كانت طاعة، وكما يؤجر هو بما هو سبب له من الطاعة، فكذلك يعذب بما هو سبب له من المعصية. فالعمل بخبر عائشة أولى، لأن خبر ابن عمر مجمل وخبرها مفسر والمفسر يقضي على المجمل، لاسيما والحجة معها بالآية التي أوردتها، وسيجيء في الحديث الثاني لهذا الحديث.

وهي قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1). أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي مليكة قال: "توفيت ابنة لعثمان بن [عفان] (¬2) بمكة فجئنا نشهدها وحضرها ابن عباس وابن عمر، فقال: إني لجالس بينهما جلست إلى [أحدهما] (¬3) ثم جاء الآخر وجلس إليَّ، فقال ابن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء -فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت [ليعذب] (¬4) ببكاء أهله عليه" فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك ثم حدث ابن عباس فقال: صدرت مع عمر بن الخطاب من مكة حتى إذا كنا بالبيداء إذا بركب تحت ظل شجرة، قال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب، فذهبت فإذا صهيب، قال: ادعه، فرجعت إلى صهيب فقلت: ارتحل فالحق بأمير المؤمنين فلما أصيب عمر سمعت صهيبًا يبكي ويقول: واأخياه واصحباه، فقال عمر: يا صهيب، أتبكي علي وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" قال: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، [ولكن ¬

_ (¬1) قلت: ولا شك أن الجمع بين الرواتين أولى من الترجيح وإلى هذا جنح الكثير من أهل العلم. قال الإمام البخاري في صحيحه (3/ 180) فتح: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته لقول الله تعالى {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (كلكم راع ومسئول عن رعيته) فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة رضي الله عنها "لا تزر وازرة وزر أخرى" وهو كقوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ}، وما يرخص من البكاء من غير نوح وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها" وذلك لأنه أول من سنَّ القتل" اهـ. وقد ذكر الحافظ -رحمه الله- وجوهًا عديدة للجمع، انظرها في الفتح (3/ 184 - 185). (¬2) بالأصل [عثمان] والصواب هو المثبت. (¬3) بالأصل [هما] والصواب هو المثبت. (¬4) بالأصل [ليعذ] والتصويب من مطبوعة المسند.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه] (¬1) فقالت عائشة: حسبكم القرآن {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فقال ابن عباس عند ذلك والله (*) أضحك وأبكى، قال ابن أبي مليكة: فوالله ما قال ابن عمر من شيء. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. فأما البخاري (¬2) [فأخرجه عن عبدان، عن عبد الله، عن ابن جريج. وأما مسلم (¬3)] (¬4) فأخرجه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن سليمان بن منصور البلخي، عن عبد الجبار بن الورد، عن [ابن] (¬6) أبى مليكة وذكر نحوه، وفيه: أما والله ما تحدثون هذا الحديث عن كاذبين مكذبين، ولكن السمع يخطئ وإن لكم في القرآن لما يشفيكم {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬7) ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه". "البيداء": الصحراء وهي اسم موضع قريب من المدينة. وقوله: "واأخياه واصحباه" هذه واو حرف من حروف الندبة والهاء في آخر الاسم للوقف. وقوله: "حسبكم القرآن" أي القرآن كافيكم. والوزر: الحمل والإثم, وزر يزر وزرًا فهو وازر. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند. (*) في المسند [والله هو أضحك]. (¬2) البخاري (1286). (¬3) مسلم (928). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل وأثبته ليستقيم السياق ويسدَّ الخلل. (¬5) النسائي (4/ 18 - 19). (¬6) سقط من الأصل وأثبته من رواية النسائي وهو الصواب. (¬7) النجم: [38].

وقول ابن عباس: "والله أضحك وأبكى" يريد أن المضحك والمبكي هو الله، فإذا بكى هؤلاء على ميتهم فإن الله هو الذي أبكاهم، وكل ما يفعله العباد بقضاء وقدر. قال الشافعي: وما روت عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشبه أن يكون محفوظًا عنه بدلالة الكتاب ثم السنة، فإن قيل: وأين دلالة الكتاب؟، قيل: في قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1)، وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬2)، وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3). وقوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (¬4). قال: وعمرة أحفظ عن عائشة من ابن أبي مليكة، وحديثهما أشبه الحديثين أن يكون محفوظًا، فإن كان الحديث على غير ما روى ابن أبي مليكة من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها" فهو واضح لا يحتاج إلى تفسير, لأنها تعذب بالكفر وهؤلاء يبكون ولا يدرون ما هي فيه. وإن كان الحديث كما روى ابن أبي مليكة فهو صحيح؛ لأن على الكافر عذاباً أعلى منه فإن عُذّب بدونه وزِيد في عذابه فما استوجب وما نيل من كافر من عذاب أدنى من أعلى منه وما زيد عليه من العذاب فباستجابة لا بذنب غيره في بكائه عليه. فإن قيل: كيف يزيده عذاباً ببكاء أهله عليه؟ قال: يزيده بما استجيب عمله، ويكون بكاؤهم سببًا لا أنه يعذب ببكائهم. فإن قيل: أين دلالة السنة؟ قيل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: "هذا ابنك"؟. قال: نعم. قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه" (¬5). فأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أعلم الله من أن جناية كل امرئ عليه كما عمله لا لغيره ولا عليه. ¬

_ (¬1) الزمر: [7]. (¬2) النجم: [39]. (¬3) الزلزلة: [7]. (¬4) طه: [15]. (¬5) أخرجه أحمد (2/ 228,226) , وأبو داود (4491) والنسائي (8/ 140) والبيهقي في السنن الكبير (8/ 27)، والبغوي في شرح السنة (10/ 181) من طريق الشافعي كلهم من حديث أبي رمثة بنحوه، والحديث صححه الألباني -رحمه الله- في صحيح الجامع (1317)، وانظر التلخيص الحبير (4/ 36).

الفصل الحادي عشر في زيارة القبور

الفصل الحادي عشر في زيارة القبور أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرًا". هذا طرف من حديث طويل قد أخرجه مالك (¬1) هكذا مرسلاً، والإرسال بن ربيعة وأبي سعيد، وقد روى من وجه آخر متصلاً بأبي سعيد (¬2)، والحديث: أن أبا سعيد قدم من سفر ففدم إليه لحمًا، فقال: انظروا أن يكون هذا من لحوم الأضاحي؟. فقالوا: هو منها. فقال أبو سعيد: ألم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها؟. فقالوا: إنه كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدك أمر، فخرج أبو سعيد فسأل عن ذلك، فأخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وتصدقوا وادخروا، ونهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام، ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرًا". يعني: سوءًا وفحشًا من القول. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الرجال يستحب لهم زيارة القبور ويكره للنساء. قال الشافعي: ولا بأس بزيارة القبور ولكن لا يقال عندها هجرًا، وذلك مثل الدعاء بالويل والثبور والنياحة. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 485 رقم 8). (¬2) قال ابن عبد البر في التمهيد: (لم يسمع ربيعة من أبي سعيد الخدري، وهذا الحديث يتصل من غير حديث ربيعة، ويستند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق حسان من حديث علي بن أبي طالب، وأبي سعيد، وبريدة الأسلمي، وجابر، وأنس، وغيرهم وهو حديث صحيح.

وأما إذا زرتها فتستغفر للميت ويرق قلبك، وتذكر أمر الآخرة فهذا مما أُحِبّ ولا أكرهه. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن إبراهيم بن محمد، عن [أبيه] (¬1) عن جده قال: تبعت جنازة مع أبي هريرة فلما كنا دون القبر جلس أبو هريرة ثم قال: لأن أجلس على جمرة فتحرق ردائي ثم تفضي إلى جلدي أحب إلى من أن أجلس على قبر امرئ مسلم. هكذا رواه الشافعي موقوفًا، ورواه سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه حتى تصل إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر" (¬2). قال الشافعي -رضي الله عنه- وأخبرنا مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- في سنن حرملة عن سفيان قال: حدثنا حمزة بن المغيرة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قال الشافعي -رضي الله عنه- وأخبرنا مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. لا يبقين دينان بأرض العرب". قال الشافعي -رضي الله عنه- وأكره أن يبنى على القبر مسجد ويسوى عليه ثم يُصلى عليه أو يُصلَى إليه. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن ابن شهاب وعن سفيان ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (1/ 278). (¬2) أخرجه مسلم (971).

عن عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه أنه كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله -عز وجل- إلى جسده يوم يبعثه". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم [عن أبيه] (¬1) عن عمر بن أبي سلمة أظنه عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه". قوله: معلقة بدينه: يريد أنها تطالبه بما تخلف عليه من الدين ومؤاخذة به في الآخرة بعد الموت إلى أن يوفى ما عليه من الدين. أخرجه الشافعي في الابتداء بقضاء ديون الميت بعد الفراغ من تجهيزه ودفنه. انتهى الجزء الثاني من كتاب الشافي في شرح مسند الشافعي - رضي الله عنه - ويتلوه في الذي يليه كتاب الزكاة إن شاء الله -عز وجل-. وكان الفراغ منه يوم الثلاثاء لتسع بقين لذي القعدة عام ثلاثة وثلاثون وسبعمائة. ... ¬

_ (¬1) سقط من الأصل، والمثبت من الأم (1/ 279) ومطبوعة المسند.

الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ مَجْد الدِّين أبي السَّعادَاتْ: المباركْ بْن محمَّد بْن عَبْد الكريم الجزْريْ تحِقْيقْ أحمَدْ بْن سُليمان أبْي تميم يَاسر بْن إبْرَاهيم الجزْءُ الثَّالِثْ مَكتَبةَ الرُّشْدِ نَاشِرُونْ

جميْع الحقوقْ محفوظة الطَّبْعَةُ الأولى 1426هـ - 2005م مَكتَبةَ الرُّشْدِ نَاشِرُونْ المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 هاتف 4593451 فاكس 4572381 Email:[email protected] website:www.rushd.com * فرع طريق الملك فهد: الرياض - هاتف 2051500 فاكس 2052301. * فرع مكة المكرمة: هاتف 5585401 فاكس 5583506. * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - هاتف 8340600 فاكس 8383427. * فرع جدة: ميدان الطائرة - هاتف 6776331 فاكس 6776354. * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - هاتف 3242214 فاكس 3241358. * فرع أبها: شارع الملك فيصل - تلفاكس 2317307. * فرع الدمام: شارع الخزان - هاتف 8150566 فاكس 8418473. وكلاؤنا في الخارج القاهرة: مكتبة الرشد - ت 2744605. بيروت: دار ابن حزم هانف 701974. المغرب: الدار البيضاء - وراقة التوفيق - هاتف 303162 فاكس 303167. اليمن: صنعاء - دار الآثار - هاتف 603756. الأردن: عمان - الدار الأثرية 6584092. البحرين: مكتبة الغرباء - هاتف 957833 - 945733. الإمارات: مكتبة دبي للتوزيع هاتف 43339998 فاكس 43337800. سوريا: دار البشائر 231668. قطر: مكتبة ابن القيم - هاتف 4863533.

كتاب الزكاة

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كتاب الزكاة ويشتمل على ثلاثة عشر باباً الباب الأول في وجوبها وإثم تاركها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، سمعت جامع ابن أبي راشد وعبد الملك بن أعين، سمعا أبا وائل يخبر عن عبد الله بن مسعود يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا مُثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه، ثم قرأ رسول الله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1). هذا حديث صحيح أخرجه الترمذي والنسائي. فأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان بالإسناد. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن مجاهد بن موسى، عن سفيان -ولم يذكر عبد الملك بن أعين- وذكر الحديث وقال فيه: ثم قرأ مصداقه من كتاب الله. -عز وجل- {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1). "من" قوله (¬4): "من رجل" زائدة تفيد عموم النفي، وتحسين دخول "ما" على النكرة، فإنك لو قلت: ما رجل في الدار - على استكراهه- جاز أن ¬

_ (¬1) آل عمران: [180]. (¬2) الترمذي (3012). وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) النسائي (5/ 11). (¬4) كذا بالأصل ولعل الصواب "من في قوله" ... فسقط حرف الجر في، وبذلك يستقيم السياق.

يكون فوقه ولهذا قالوا: إن قولهم: لا رجل في الدار جوابُ قولهم: هل من رجل في الدار؟ لا جواب هل رجل في الدار؟ لأن موضوعه لاستغراق النفي فاقتضت استفهامًا مستغرقًا، وإذا قلت: هذا رجل في الدار؟ جاز أن تريد باستفهامك هل فيها رجل واحد أو أكثر منه؟ وأن تريد هل فيهما رجل أو امرأة؟ وليس كذلك هل من رجل في الدار؟. والزكاة: من النماء والزيادة، زكا المال يزكو إذا زاد ونما، وأزكاه الله وزكا الرجل ماله تزكية؛ إذا أدى ما يجب عليه فيه من الزكاة المفروضة. وقول الله عز وجل {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬1) أي تزيدهم وبتلك لم بها، وقيل: التزكية هاهنا المبالغة في التطهير. والزكاة (¬2): أركان الإسلام التي هي عليها الإسلام، ولا يجوز لمن وجبت عليه أن يمنعها، ومن منعها منكرًا وجوبها فقد كفر، إلا أن يكون حديثَ عهد بالإسلام ولم يعلم وجوبها, وليس في المال حقّ سوى الزكاة، إلا ما حُكي عن الشَّعْبي ومجاهد أنهما قالا: يجب عليه يوم حصاد السنبل وصرام النخل، أن يلقي للمساكين منه شيئًا ولا يُعتد به من الزكاة. وقوله: "مُثل له" أي جعل مثله، تقول: مثلت له كذا تمثيلاً إذا صورت له مثاله، يريد أن يجعل له الذي لم يُعِدّ زكاته أو الزكاة التي لم يؤدها، والأول أشبه بلفظ الحديث. مثل الشجاع الأقرع: وهو الحية التي قد قرُع رأسُها لطول عمرها وحِدَّة سمها، فهي أشد حثيًا وأنفسه سمًا. ومُثل: يتعدى إلى مفعولين، تقول: مثلت السمع فرسًا، فلما بني الفعل في الحديث ولم يُسَمَّ فاعله تعدى إلى مفعول واحد، فقال: مثل له -يعني ماله- شجاعًا. ¬

_ (¬1) [التوبة: 103]. (¬2) كذا بالأصل والظاهر أنه وقع سقط في العبارة، والسياق يستقيم إذا أضفنا مثلا "من، أو: أحد".

و (حتى) في قوله: "حتى يطوقه" متعلقة بقوله: "يتبعه" أي يتبعه إلى أن يطوقه. وقوله: "يطوقه" يجوز أن تكون الواو مكسورة والتقدير: حتى يطوقه الشجاع الأقرع، أي يصير له طوقًا، فالهاء عائدة إلى المطوَّق لا إلى المتطوق. ويجوز أن تكون الواو مفتوحة، يعني يطوقه الله في عنقه أي يجعل له طوقًا والهاء فيها كالأولى وهي المفعول الثاني لطوق، والمفعول الأول مضمر فيه وهو كناية عن الشجاع. والذي جاء في التفسير في قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا} أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق المعنق. وقيل: يجعلها ما بخلوا به من الزكاة حية تطوق في عنقه. وقيل: يجعل طوقًا من نار. وإنما قال: في عنقه" بعد قوله: "يطوقه" والطوق لا يكون إلا في العنق، على طريق التأكيد والبيان وإزالة الوهم لمظون في لفظة يطوق، حيث يدل الطوق على القدرة وإلإطاقة، وعلى هذا اللفظ جاء قول الله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} (¬1) وقوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (¬2) وأمثال ذلك مجازات العربية وتفننها في كلامها. قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا ِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (¬3) وذكر آيات كثيرة من القرآن تتضمن وجوب الزكاة، وفي بعضها: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬4) ثم قال: فأبان فرض الزكاة لأنه إنما عاقب على منع ما أوجب. ¬

_ (¬1) [الأنعام: 38]. (¬2) [النحل: 26]. (¬3) [البينة: 5]. (¬4) [آل عمران: 180].

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح السَّمان، عن أبي هريرة أنه كان يقول: "من كان له مال لم يؤد زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان، يطلبه حتى يمكنه يقول: أنا كنزك". هذا الحديث هكذا جاء في المسند موقوفًا على أبي هريرة، وكذلك أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، وهو حديث صحيح مرفوع أخرجه البخاري والنسائي. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن [هاشم] (¬3) بن القاسم، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه بالإسناد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مُثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بِلهْزِمته -يعني شِدْقيه- ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} (¬4) الآية". وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن الفضل بن سهل، عن حسن بن موسى الأشيب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار بالإسناد، ولفظ البخاري، ولم يقل يعني شدقيه. أدى يؤدي فهو مؤدٍ، والمال مؤدًى، والاسم الأداء إذا أعطى ما عليه وقضاه، وله في الشرع اختصاص: وهو ما يُعطى عند محله وفي وقته فإن خرج وقته سُمي قضاًء لا أدًاء، وهذا تخصيص شرعي وإلا فإذا هو القضاء في اللغة. والزبيبتان: هما الزبدتان، الشدقين، يقال: كلم فلان حتى تزببت شدقاه، أي حتى خرج الزبد عليهما، ومنه الحية ذات الزبيبتين. وقيل: هما الوكنتان السوداوان فوق عيني الحية. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 219) رقم (22). (¬2) "البخاري" (1403). (¬3) في الأصل "هشام" وهو تصحيف والمثبت من رواية البخاري. (¬4) آل عمران: [180]. (¬5) "النسائي" (5/ 39).

والكنز في اللغة: المال المدفون، فقال: كنز ماله يكنزه إذا دفنه، وهو من قولهم: أكنز الشيء إذا اجتمع وامتلأ فأما في الوضع الشرعي: فقد أطلقه على كل مال لم يؤد زكاته، وفيه مجاز مستعار لسبب جامع بين المستعار والمستعار منه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: الكنز هو الذي لا يؤدَّى زكاتُه مدفونا كان أو غير مدفون. وقد اعترضه بعض العلماء فقال: هذا خلاف اللغة. وليس لهذا الاعتراض مجال، لأن الكنز -وإن كان في اللغة كما ذكر- إلا أن الشارع -صلوات الله عليه وسلامه- نقله إلى مال مخصوص وهو الذي لا يؤدى زكاته، ويدل عليه لفظ البخاري والنسائي في هذا الحديث، وأنه سمى المال الذي لا يؤدي زكاته كنزًا وَبَالٌ عليه، ويشهد له قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1) ما أوعدهم العذاب على دفن المال، وإنما أوعدهم على ترك إنفاقه في سبيل الله، سواء أكان مدفونا أو ظاهرا، كيف ودفن المال مباح جائز لا لوم على فاعله، وقد سمى الله المال الذي لا يُنفق في سبيل الله كنزًا، وإنما عنى بالنفقة في سبيل الله ما أوجب عليه في ماله وهو الزكاة، ويشهد لهذا التأويل حديث أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله، إني ألبس أوضاحًا من ذهب أفكنز هي؟ قال: "ما بلغ أن تؤدَى زكاته فزُكِّى فليس بكنز" (¬2). ووجه المناسبة بن المستعار والمستعار منه: أن المال كما أنه قد وفره وسماه من النقص والتلف، ومنع الأيدي أن تسأله أو ينفقه في مهامه، كمانع الزكاة قد فعل مثله وشابهه بتوفر الزكاة على أصل المال، وامتنع من إنفاقها وإخراجها إلى أربابها ومستحقيها. ¬

_ (¬1) التوبة: [34]. (¬2) أخرجه أبو داود (1564).

واللِّهزِمتان -بكسر اللام والزاي: عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين، ويقال: هما مضغتان عَلِيَّتان تحتهما وقد فسرهما في الحديث بالشدقين وهو قريب منهما، وفي رواية البخاري "بلهزَميْه" فذكرهما والمعروف في اللغة التأنيث، وفي رواية الشافعي - رضي الله عنه-: "مثل له شجاع أقرع" بالرفع لأنه الذي أقيم مقام الفاعل الأول "لمثل"، أو أنه أخلى "مثل" من الضمير وجعل له مفعولاً واحدا ولا يكون. وشجاع: كناية عن المال الذي لم يؤد زكاته وإنما هو الحية كأنه يخلق له حية تفعل به ذلك، ويُعَضِّدُ ذلك أنه لم يذكر في روايته "ماله" ونصبه في رواية البخاري والنسائي لأنه المفعول الثاني، والذي أقيم مقام الفاعل و"ماله" لأنه قد ذُكر في لفظ الحديث. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن عجلان، عن نافع أن ابن عمر كان يقول: "كل مال تؤدَى زكاتُه فليس بكَنز وإن كان مدفونا، وكل مال لا تؤدى زكاته [فهو] (¬1) كنز، وإن لم يكن مدفونًا". وأخبرنا الشافعي: عن مالك، عن عبد الله بن دينار قال: سمعت عبد الله ابن عمر وهو يسأل عن الكنز فقال: "هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة". وهذا الحديث يعضِّد ما فسره الشافعي -رضي الله عنه- في الكنز، وهو حديث صحيح موقوف على ابن عمر، وهو ظاهر الدلالة واضح الاحتجاج، مصرح بأن الدفن وعدمه لا أثر له في الكنز الشرعي، إنما هو مقصود على إخراج الزكاة وتركها. قال الشافعي في كتاب "القديم": ومن أدى فرض الله فليس عليه أكثر منه إلا أن يتطوع. ¬

_ (¬1) في الأصل "وهو" والمثبت من الأم (2/ 3)، وكذا في مطبوعة المسند (1/ 612).

الباب الثاني في زكاة النعم

الباب الثاني في زكاة النَّعَمِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا القاسم بن عبد الله، عن المثنى بن أنس -أو ابن فلان بن أنس، الشافعي يشك- عن أنس قال: هذه الصدقة -ثم تركت الغنم وغيرها وكرهها الناس: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين التي أمر الله تعالى بها، فمَن سُئلها على وجهها من المؤمنين فليعطها، ومن سُئل فوقها فلا يعطه: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت (¬1) مخاض أنثى، فإن لم يكن فيها ابنة مخاض (أنثى) (¬2) فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها ابنة لبون أنثى، فإذا بلغت ستًا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستًا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة (¬3)، وأن بين أسنان الإبل في فريضة الصدقة، فمن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عند جذعة؛ وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة؛ فيجعل معها شاتين إن استيسر له (¬4) أو عشرين درهما، فإذا بلغت وحقة عليه وليست عنده حقة (¬5) ¬

_ (¬1) في الأم "ابنة". (¬2) سقطت من الأم (2/ 4) وكذا مطبوعة المسند. (¬3) زاد في مطبوعة المسند "وابن لبون" وهي غير ثابتة في الأم. (¬4) في الأم بلفظ: "عليه"، وكذا في مطبوعة المسند لكنه قال: "استيسرتا". (¬5) في الأم والمسند بلفظ: "فإذا بلغت عليه الحقة، وليست عنده [حقة] وعنده جزعة" وبين المعقوفتين سقط من المسند.

وعنده جذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهمًا وشاتين. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرني عدد ثقاة كلهم، عن حماد بن سلمة، عن ثُمامة بن عبد الله بن أنس، عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل معنى هذا لا يخالفه إلا أني أحفظ فيه "ألا يعطي شاتين أو عشرين درهما" لا أحفظ إن استيسر عليه، قال: وأحسب من حديث حماد عن أنس أنه قال: ادفع إلى أبي بكر كتاب الصدقة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر هذا المعنى كما وصفت. هذا طرف من حديث صحيح أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه مفرقًا في صحيحه في عدة مواضع من كتاب "الزكاة"، وفي كتاب "اللباس" وغيرهما بإسنادٍ واحد. وقد جمعها أبو [عبد] (¬2) الله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين (¬3) في كتابه حديثا واحدا متتابعًا حيث هي بإسناد واحد، وأورده في مسند أبي بكر -رضي الله عنه- وهذا لفظه؛ وإنما ذكرنا رواية الحميدي لأنها قد جمعت روايات البخاري. قال البخاري: حدثني محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أبيه، عن ثمامة ابن عبد الله بن أنس، عن أنس أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب [لما] (¬4) وجهه إلى البحرين، بسم الله الرحمن الرحيم. هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين والتي أمر الله -عز وجل- بها ورسوله، فمن ¬

_ (¬1) "البخاري" (1454). (¬2) في الأصل [عبيد] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب وانظر ترجمته من الأنساب (2/ 269). (¬3) الجمع بين الصحيحين (1/ 92 - 93). (¬4) في الأصل [إلى] والمثبت من رواية البخاري.

سُئِلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سُئِل فوقها فلا يعطه، وذكر الحديث إلى قوله: وفي كل خمسين حقة، ثم قال: ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسًا من الإبل ففيها شاة، ثم ذكر صدقة الغنم مفصلة ولم نحْتَجْ إلى ذكرها، لأن الشافعي لم يوردها في حديثه هذا، وكذلك ذكر أشياء أُخَر لم ترد في رواية الشافعي ولم نذكرها. ثم قال: ومن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدِّق عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا ابنة لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطى شاتين أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وليست عنده وعنده بنت مخاض فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطى معها شاتين أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون فإنها تُقبل منه ويُعطَى المصدَّق عشرين درهما أو شاتين، فإن لم تكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون فإنه يُقبل منه وليس معه شيء. وزاد البخاري فيه زيادة أخرى لا تتعلق بالزكاة وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن موسى بن إسماعيل، عن حماد قال: أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه مصدقا وكتبه فإذا فيه: هذه فريضة الصدقة، وذكر ما ذكره الشافعي إلى قوله: ويعطه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين، وزاد نحو زيادة البخاري مما بعد ذلك، ثم ذكر صدقة الغنم وغيرها. ¬

_ (¬1) "أبو داود" (1567).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن عبيد الله بن فضالة بن إبراهيم، عن سريج بن النعمان، عن حماد بالإسناد، وذكر نحو رواية أبي داود، وأول روايته أن أبا بكر كتب له أن هذه فرائض الصدقة وذكر الحديث. وقد روى عبد الله بن عمر العمري هذا الحديث عن المثنى بن أنس، وهو المثنى بن عبد الله بن أنس نُسب إلى جده. والشافعي -رحمه الله تعالى- أكد هذه الرواية برواية حماد بن سلمة، عن ثمامة [بن] (¬2) عبد الله بن أنس، عن أنس. وجعل اعتماده عليها وعلى ما بعدها. ورواه إسحاق بن راهَويْه، عن النضر بن شميل، عن حماد، عن ثمامة، عن أنس. الفريضة: فعيلة من الفرض وهو في الأصل الحز في الشيء والتأثير فيه، وقد نقله الشارع -صلوات الله عليه- إلى ما ألزم به الخلق من الأحكام والحدود، تقول: فرض الله علينا يفرض فرضًا، وافترض يفترض أي: أوجب، والاسم: الفريضة. وقد سمى في الفقه الفريضة ما أوجب في السائمة من الصدقة يقال: افتُرِضت الماشية أي: وجب فيها الفريضة، وذلك إذا بلغت نصابًا، والفريضتان: الجذعة من الغنم والحقة من الإبل، وقد يقال: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أي: سَنَّ. قال الأزهري: الفرض صدر كل شيء تفرضه فتوجبه على إنسان بقدر معلوم، والاسم الفريضة. وقال أيضاً: يقال ابنة مخاض: وهي التي تؤخذ من خمس وعشرين من الإبل فريضة، وابنة اللبون: وهي التي تؤخذ من ستة وثلاثين من الإبل فريضة، ¬

_ (¬1) "النسائي" (5/ 27). (¬2) في الأصل [بنت] وهو تصحيف وتقدت هذه الرواية قريبا على الصواب.

وللحقة: وهي التي تؤخذ من ستة وأربعين فريضة، وللجذعة: وهي التي تؤخذ من إحدى وستين فريضة، وإنما أدخلت الهاء فيها لأنها جعلت اسمًا لا وصفًا. وقوله: "التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" له وجوه من التأويل: الأول: أن يكون الفرض من الإيجاب. والثاني: أن يكون من الاستنان كما سبق. والثالث: أن يكون من البيان والإيضاح. فالأول تقديره: أن الله أوجبها وأمر بها في كتابه، ثم أُمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغها أمته، فأضاف الفرض إليه حيث هو مُبَلِّغُه ومُعَرِّفُه الناس، نسمي أمره ومبلغه: فرضها. وأما الثاني: فإنه يكون أراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سَنّها للناس وأمرهم بها عن الله تعالى، وليست مما نزل بها قرآن، وإنما جرى حكمها مجرى ما سنّه من الأحكام التي لم ينطق بها القرآن، فإن كل ما شرعه الرسول مما لم يرد به نص في كتاب الله تعالى له: سنة، ولهذا يقال: إن الأدلة الشرعية نص أو إجماع أو قياس، ثم يقال: النص ينقسم إلى: الكتاب والسنة، والسنة وان كانت ما أمر به الرسول -صلوات الله عليه- فلا خلاف أنها واردة بأمر الله تعالى. وأما الثالث: فهو البيان والتقدير، كقوله سبحانه وتعالى: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1) أي: بَيّن وقدَّر، ومن هذا قولُهم: فرض أرزاق الجند، وفرض نفقة الأزواج والأقارب، أي: قدّر وبين، فيكون المعنى: أن الحكم فيها لله تعالى وهو صادر عن أمره، وأن البيان والتقدير هو مما فرضه النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: سنه وقدره، فإن نص الكتاب في الزكاة هو قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬2)، وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬3) ¬

_ (¬1) [التحريم: 2]. (¬2) [التوبة: 103]. (¬3) في الأصل: (يأيها الذين آمنوا أقيموا ...) وهو خطأ. والآية الكريمة وردت في غير ما موضع من كتاب الله مثل: [سورة النور: 56]، و [المزمل: 20] وغير ذلك.

وغير ذلك من الآيات، فأوجب الزكاة مجملًا, ولم يُعرف تفصيلها وتقديرها إلا من السنة ولفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُعَضد التأويلين الأخيرين قولُه: "التي أُمر بها" بمعنى أن الله فرضها وأوجبها وأَمر بها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - سنها وبينها. وفي رواية الشافعي: "التي أمر بها" بغير واو، وعند الباقين "والتي أمر بها" قالوا: وهو معطوف على قوله: "التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يعني أن فريضة الصدقة هي الجامعة بين الأمرين: تقدير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستنانه، وأمْر الله وإيجابُه. وبحذف الواو تكون الجملة الثانية مبدلة من الجملة الأولى، كأنه قال ابتداًء: هذه فريضة الصدقة التي أمر الله بها، وذلك أنها لما قال أولاً: "هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" أوجب وَهْمًا، وهو: ظن من يظن أنها مما فرض النبي - صلى الله عليه وسلم - من نفسه، وأن التقدير ربما توقفت في قولنا، فقال قلنا "التي أمر الله بها" فإن أضافتها إلى الله أَثْبتُ في النفوس من إضافتها إلى الرسول، وفي كل واحدة من الروايتين معنًى حسنًا ليس في الأخرى. وقوله: "فمن سُئلها على وجهها" يريد بوجهها: ما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فرض مقاديرها وتعين كمياتها، والمقدار الواجب في كل جملة منها، وما لا يجب فيه حقيقة. وقوله: "على وجهها" أي على الحال التي قررت عليها، والجهة التي أضيفت إليها، فإن الوجه والجهة متقاربان. وقوله: "ومن سُئل فوقها فلا يعطه" يريد الزيادة على المقدار المعين، إذا طلب الساعي زيادة على الزكاة من رب المال فلا يعطه ذلك. وقيل: أراد الساعي إذا طلب الزيادة، فلا يعطى الزيادة ولا الزكاة أيضاً، لأنه بطلبه الزيادة متعدٍ، وإذا تعدى الساعي كان خائنًا فلا يجوز أن يدفع إليه شىء من الزكاة.

وقولى: "في أربع وعشرين فما دونها الغنم" كلام مستأنف يقتضي تفصيلاً, لأنه في الأول أجمل القول وعمم الحكم، ثم ابتدأ مفسرًا لما أجمله، ومخصصًا لما عممه، فقال: "في أربع وعشرين" وموضعه رفع لأنه خبر مقدم على مبتدئه وهو الغنم، وإنما قدم الخبر لأن الغرض من الحديث أمران: أحدهما: بيان الأقدار التي تجب فيها الزكاة. والثاني: بيان أقدار الزكاة الواجبة في الأموال، والزكاة إنما تجب وتتعين بعد وجوب الأموال الواجبة فيها، ثم يترتب وجود الزكاة على وجودها، فقدم في الذكر ما هو السابق في الوجود وأخر ما هو اللاحق. وكذلك استعمل هذا المعنى في جميع فرائض الزكاة، فقال: "ففيها بنت مخاض، وفيها بنت لبون، وفيها حقة، وفيها جذعة". وإنما أنَّث العدد لأنه أراد الإناث، أو لأن العدد إذا كان جملة جاز تأنيث عدده وتذكيره، تقول: عندي ثلاثة رجال، وثلاث رجال، إذا نظرتَ إلى الأفراد ذكرتَ، وإذا نظرت إلى الجمع أنَّثت. وقد ذكر في هذا الحديث من أسنان الإبل أربعة: وهي بنت مخاض، وبنت لبون، والحقة، والجذعة لأن الجذعة آخر الأسنان التي تجب فيه الزكاة ولم يذكر ما قبل ابنة مخاض ولا ما بعد الجذعة. وقد ذكر الشافعي -رحمه الله- من رواية حرملة بن يحيى قال: إذا وضعت الناقة قيل لولدها: ربع، والأنثى: ربعة، وهو في ذلك كله خوار فلا يزال خوارًا حولاً، ثم يُفصل، فإذا فُصِل عن أمه فهو: فَصِيل -والفِصال هو الفطام-، فإذا استكمل الحول ودخل في الثاني فهو ابن مخاض والأنثى ابنة مخاض، وإنما سمي ابن مخاض لأنه فُصل عن أمه ولحقت أمه بالمخاض وهي الحوامل، فهو ابن مخاض وإن لم تكن حاملًا, ولا يزال ابن مخاض السنة كلها، فإذا استكملها ودخل في الثالثة فه وابن لبون والأنثى ابنة لبون، وإنما

سمي ابن لبون لأن أمه وضعت غيره فصار [لها] (¬1) لبن، فهو ابن لبون وهي ابنة لبون ولا يزال كذلك السنة كلها، فإذا مضت السنة الثالثةُ ودخلت في الرابعة فهو حقٌّ والأنثى حقة، وإنما سمي حقا لأنه يستحق أن يُحمَل عليه ويُركب، فيقال: حقٌّ والأنثى حقة، ويقال أيضاً: بلغت الحقة أن ينزوها الفحل، ولذلك قيل: "طروقة الفحل"، ولا يزال كذلك حتى يستكمل أربع سنين ويدخل في الخامسة فهو حينئذ جذع والأنثى جذعة، فلا يزال كذلك حتى يمضي الخامسة فإذا دخلت السادسة فهو حينئذ ثنى والأنثى ثنية، وهو الذي يجوز في الضحايا من البُدْن والبقر، وأما الضأن فيجزئ منها الجذع، ولا يزال الثني ثنيًا حتى يجوز السنة السادسة، وإذا دخلت السنة السابعة فهو حينئذ رباع والأنثى رباعة -أو قال: رباعية- فلا يزال كذلك السنة السابعة، فإذا دخلت السنة الثامنة فهو حينئذ سدس وكذلك الأنثى، فلا يزال كذلك حتى تمضي السنة الثامنة، فاذا دخلت السنة التاسعة فهو حينئذ بازل وكذلك الأنثى بازل، ولا يزال كذلك حتى تمضي السنة التاسعة، فإذا مضت السنة التاسعة فهو حينئذ مختلف، ثم ليس له اسم ولكن يقال: بازل عام وبازل عامين، ومُخلف عام ومخلف عامين إلى ما زاد على ذلك، فإذا كبر فهو عود والأنثى عودة، فإذا هرم فهو قحم وأما الأنثى فهي الناب والشارف. هذا آخر كلام الشافعي (¬2) -رضي الله عنه-، ولنزده بيانا فنقول: المخاض: اسم النوق والحوامل ولا واحد له من لفظه وإنما واحدتها خلفة. واللبون من الإبل: ذات اللبن غزيرًا كان لبنها أو قليلاً، فإذا أرادوا الغزيرة اللبن قالوا: لبنة وقد لبنت لبنًا، ويقال: بنت لبون، وابن لبون فيضاف إلى ¬

_ (¬1) في الأصل [إلا] وهو تصحيف والمثبت من المعرفة (6/ 38)، وانظر أيضاً النهاية (4/ 228). (¬2) نقله بتمامه البيهقي في "المعرفة" (6/ 38 - 39).

نكرة ويضاف إلى معرفة، قال الشاعر: وابن اللبون إذا ما لُزَّ في قرن ... لم يستطع صولة البُزْل القناعِيس وطروقة الفحل: فعولة بمعنى مفعولة ولذلك دخلت عليها الهاء فإن فعولا إذا كان بمعنى فاعل فإنه يستوي فيه المذكر والمؤنث، تقول: رجل صبور، وامرأة صبور، ورجل شكور، وامرأة شكور. وقد ذكر الخطابي -رحمه الله- في قوله: "ابن لبون ذكر" ما معنى زيادة قوله: "ذكر": وابن لبون لا يكون إلا ذكرًا!! يعني أنا أحكيه عنه كما ذكره ولم يتعرض إلى قوله أيضاً: "بنت مخاض أنثى، وبنت لبون أنثى، والبنت لا تكون إلا أنثى وأنا أذكر ما عَنَّ لي في ذلك". وأما الخطابي فإنه قال في قوله: "ابن لبون ذكر" وجهين من التأويل: أحدهما: أنه ورد على طريقة أمثاله من الألفاظ المكررة والتثبيت في النفوس وهذا كثيرٌ فاشٍ فيِ العربية ولاسيما في كتاب الله العزيز، كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬1): وقد عُلم أن الثلاثة والسبعة: عشرة؛ وإنما ذكر ذلك تكيدًا، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رجبُ مُضَرٍ الذي بين جُمادى وشعبان" وقد علم أن رجبا لا يكون إلا بين هذين الشهرين. والوجه الثاني: أن يكون ذلك تنبيها لكل واحد من رب المال والساعي، فأما رب المال: فلتطبْ نفسه بالزيادة المأخوذة منه، إذا علم أنه قد شرع من الحق وأسقط عنه ما كان بإزائه من فضل الأنوثة في الفريضة الواجبة عليه. وأما الساعي: فليعلم أن سنن الذكورة مقبول من رب المال في هذا النوع، وهو أمر نادر خارج عن العرف في باب الصدقات لا يتكرر تكرار البيان والزيادة، وفيه مع الغرابة والندور وليتقرر أمره في النفوس انتهى كلام الخطابي. ¬

_ (¬1) [البقرة: 196].

أما الوجه الأول: وهو تكرار اللفظ للتأكيد والتثبيت فهو شريعة مطروقة، وعادة مألوفة من ألفاظ العرب ومعانيها, وليس مما يجري على وجه السهو والإهمال، ولا على قضية الشذوذ والاتفاق، بل هو عندهم لأمرمهم، وشأن مطلوب، وما أكثرهم في القرآن العزيز وأبلغه، وليس الغرض منه تأكيدا محضًا، ألا ترى أن الآية التي استدل بها الخطّابي فيها من الغرض ما لم يذكره، وهو أن السامع إذا طرق سمعه كلام فأصغى إليه، فإن كان مختصراً ربما لم ينتبه له، وإن كان مُشكلًا ربما لم يفهمه، أو كان السامع مشغولًا بأمر في فكره أو شيء ينظر إليه، فيقضي المتكلم كلامه ويفرغ منه، ولعل المخاطب يعلم انتهاءه وفراغه، فإذا راجع نفسه لم يدرك ما فاته، فجعل تكرار اللفظ مانعًا من هذه الحال، دافعًا ومنبهًا على هذا العارض، فإن السامع إذا رأى المتكلم مكررًا معيدًا ما نطق به تنبه له فأدرك ما فاته وعرف ما جهله، فقوله عز من قائل: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (¬1) لو اقتصر على ذلك ربما أن المخاطب سمع الثلاثة ولم يسمع السبعة أو بالعكس، فكان يفوتة أحد الأمرين، أو أنه سمع الأمرين معاً لكنه حق عليه تفريقهما والإقدام على السبب الموجب لهما، وربما كان السامع مع جماعة فسمع بعضهم دون بعض لذهوله عن الخطاب المختصر، فيقع النزاع بينهم، وذلك جميعه مع قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (1) منتفٍ ولأن الواو قد تقع للإباحة، تقول: جالست زيدًا وعمروًا، إلا أنه لو جالسهما معا مجتمعين ومتفرقين أو أحدهما كان ممتثلاً، وكذلك هذه لولا قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (1) لجاز أن يتوهم أنه مخير في صوم الثلاثة في الحج أو السبعة بعد الرجوع، وهذا النوع من الكلام يسمى "الفذلكة" أي فذلك كذا وكذا، وفائدة الفذلكة في الحساب: أن يُعلم العدد جُملةَ كما [عُلم] (¬2) تفصيلًا ليحاط من جهتين فيتأكد العلم، وهذا معنى مطرد ¬

_ (¬1) [البقرة: 196]. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من "تفسير الزمخشري" وهو مقتضى السياق.

في جميع ما كان من جنسه وجرى مجراه. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رجب مضر الذي بين جُمادى وشعبان" فيه زيادة معنى وباعث على القول غير التأكيد والتقرير، وذلك أن العرب كانت تنسئ الأشهر، فتؤخر الشهر من موضعه إلى شهر آخر، وذلك أنها كانت تقول: رجب شهر حرام، وكانوا لا يحاربون في الأشهر الحرم، وكانت أكثر معايشهم وأرزاقهم من الغارات؛ وكانوا يؤخرون الشهر الحرام إلى شهر بعده ليحاربوا في الشهر الحرام ويغيروا، فكان الشهر الحرام ينتقل عن موضعه ووقته الحقيقي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن شهر رجب هو الذي بين جمادى وشعبان، لا رجب الذي هو عندكم وقد أنسأتموه وأخرتموه، فلذلك جاء بهذه الزيادة لا لمجرد التأكيد، فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى قوله: "بنتُ مخاضٍ أنثى، وبنت لبون أنثى" فنقول: إنه لما قال: "بنت لبون، وبنت مخاض"، لم يسمع السامع لفظ يدل على الأنوثة إلا مجرد قوله: "بنت" وكان بإزاء بنت المخاض ابن لبون، فخشي أن المخاطب ربما يكون قد شذ عنه ما قد فرض عليه، فربما ظن أنه قال: ابن مخاض أو ابن لبون، وربما أنه جُبلت النفوس عليه من حب المال والرغبة في ادخاره وإيثار نفسه وبذل الدّون منه فيسمع نفسه ما يُحصِّل له غرضها لأن الأنثى من الإبل والغنم والبقر والخيل عندهم أعز من الذكر، لما فيها من منافع اللبن والنِتاج، فصرح الشارع -صلوات الله عليه وسلامه- بذكر الأنثى لتقرع أسماعهم، وتثبت في نفوسهم ويعلموا أنها الواجبة عليهم، فإذا سمعوها لم يبق للتأويل وجه ولا للخلاف مجال، وتسمح بها حينئذ نفوسهم ويزول اللبس المظنون، وينتهي هذا الوهم المتوقع وتتقرر الأنوثة في فريضة الصدقة، ولا يبقى لقائل أن يقول خلاف ما قاله الشارع، فإن اختلاف السامعين لا يؤمن وهو جَارٍ في العرف، وكذلك قوله: "ابن لبون ذكر" لما كان في جملة الفرائض بنت لبون، وجاء البدل والتسامح عند عدم الأنوثة بالذِّكْر جاء بالوصف الذي يبين، وإنما

عدل عن المعدوم إلى هذا النوع، لذلك الوصف الذي عدل من أجله إليه وهي الذكورة، ألا ترى أن بنت المخاض هي التي في السنة الثانية؟ وابن اللبون هو الذي في السنة الثانية؟ وابن اللبون هو الذي في السنة الثانية؟ فأقام الثلاثي مقام الثنائي، لأن وصف الأنوثة أنفع من وصف الذكورة في هذا المقام، ولم يجعل بنت عوض بنت المخاض ابن المخاض وإن كان في سنها لعدم فضيلة الأنوثة، ولأنه قال: "بنت مخاض أنثى" أراد أن يطابق لفظ البدل لفظ المبدل منه على طريقة الموازنة، فقال: "ابن لبون ذكر" وهذا الذي أشرنا إليه يندرج الوجه الثاني الذي أشار إليه من تنبيه رب المال بفضيلة الأنوثة، وتنبيه الساعي بجواز أخذ الذكور. والله أعلم. والتباين: الاختلاف، ومعنى قوله: "وإن تباينت أسنان الإبل في فريضة الصدقة" يريد: إذا وجب على إنسان في ماله صدقة واختلفت أسنان إبله، فلم يكن عنده شيء من جنس ما وجب عليه، فإنه يعدل في الواجب فيه إلى ما عنده منه موجود، ولا يخلو أن يكون الموجود عنده خيرًا مما يجب عليه أو دونه، وحينئذ يجب فيه الجبُران إما من رب المال أو الساعي، وهذا هو معنى قوله: "ومن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويعطى رب المال مكان التفاوت بن الحقة والجذعة شاتين؛ إن استيسرتا له أي: سهلتا لحوله كفتاه ووجدتا له، أو عشرين درهما، كأنه قَوّم النقص بين السنين بشاتين، وقوَّم الشاتين بعشرين درهما, وليست الدراهم بدلاً عن الشاتين ولكنهما مثلهما لأنه خيره بينهما، وذلك لأن الجذعة فريضة إحدى وستين إلى خمسة وسبعين، والحقة فريضة خمسة وأربعين إلى ستين، وبين أول الفريضتين خمسة عشر ذلك بينهما في أخذهما خمسة عشر، فكأن الشاتين أو العشرين درهمًا، وإن كانت قيمة التفاوت بين الجذعة والحقة هي فريضة الخمسة عشر، وليس لها قياس مطرد في القيمة، فإن فريضة الخمس من الإبل شاة، ولو كان القياس فيها مطرد لكانت فريضتها ثلاث شياه عند التفاوت، وإنما هي فريضتها

عند الانفراد وإنما هذا أمرٌ مرجعه إلى الشارع -صلوات الله عليه وسلامه- وهو المطّلع على الحكمة فيه، ألا تراه جعل في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ستٍ وثلاثين بنت لبون، فكان التفاوت بين المالين عشرة وبن الفريضتين سنة، وكذلك فعل في بنت اللبون والحقة، كان التفاوت بين المالين خمسة عشر وبين الفريضتين سنة، وهذا اختلاف لا مناسبة -في الظاهر- فيه، وإنما المناسبة فيه والحكمة موكولة إلى معرفة الشارع -صلوات الله عليه وسلامه-، وكذا نراه في باقي فرائض الصدقة في البقر والغنم أيضاً غير مطردة في المناسبة الظاهرة، ولله تعالى سر في أحكامه وفرائضه وسننه وتقييداته؛ لا يحيط العالمون بشيء من علمه إلا بما شاء. والمصَدّق -بتخفيف الصاد وتشديد الدال-: هو الساعي على الصدقة والعامل عليها الذي يقضيها من أربابها، تقول: صدقه يصدقه إذا أخذ صدقته الواجبة عليه في ماله. والذي جاء في رواية الشافعي؛ في سائر أسنان إبل الصدقة في أمرين: الجذعة والحقة؛ واكتفى بذكرهما عن ذكر غيرهما من باقي أنواع التباين، وقد ذكر ذلك البخاري، وأبو داود، والنسائي في روايتهم، والأمر فيما ذكروه مثل ما ذكر الشافعي ولا فرق. وهذا نوع من أنواع أصول الحديث، فإن الأئمة قد اختلفوا في رواية بعض الحديث دون البعض، وقد استقصينا ذلك في مقدمة كتابنا "جامع الأصول"، ومقدمة هذا الكتاب، ولنُشِرْ منه هاهنا إلى طرف، فنقول: هذا مبناه على رواية الحديث بالمعنى وهو مختلف فيه أيضاً، والأكثرون على جوازه فَمَنْ جوزه أجاز رواية بعض الحديث، إذا كان قد رواه مرة تامًّا في حال ما، وكان البعض المتروك غير مخل في المذكور بما يحتاج إليه، فأما إن كان محتاجا، أو لم يكن قد رُوي تامًا مرة فلا يجوز ذلك، وأما من منع من رواية الحديث بالمعنى فمنع أكثر القائلين به خوفًا من غفلةٍ عن أمر ما عساه يتعلق بالمتروك، العمل على

الأقل عند أكثر أهل العلم من الصحابة، والتابعين، والأئمة والمجتهدين، وأرباب الفعل والمحدثين، ومن وقف على صحيح البخاري الذي إليه المنتهى في صحاح الأحاديث النبوية؛ رأى فيه العجب من تفريق الأحاديث وفعل كل حكم منها بذلك الإسناد في باب من أبواب كتابه، وعلى ذلك درج السلف الصالحون واقتفى آثارهم العلماء -رحمة الله عليهم-. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: العمل بهذا الحديث لا مخالف له في أصل الفرائض، الصدقة وأسنانها ومقاديرها، فإنه نص قاطع لا خلاف فيه، وإنما الخلاف وقع في معانٍ وأحكام استنبطوها من هذا النص، وتفريعات التزموها لهذا الأصل، فذلك شيء مفرغ منه في كتب الفقه لا تتسع أمثال هذه الشروح لذكره، ولكن نذكر منها ما لا بد من ذكره مما لا يتوقف فهم لفظ الحديث عليه، وذلك أحكام: الأول: يتعلق بالأوقاص: وهي التي بين كل وَقْصين مثل العشرة التي بين الخمسة والأربعن والستين، وهو ساكن القاف وجمعه: أوقاص، وقد ذكره الجوهري بالفتح. وقال بعضهم: إن الوقص في البقر دون الإبل، والشنق (*) في الإبل خاصة وهو مثل الوقص. وقد اختلف الأئمة في أن الزكاة الواجبة في النصاب، هل هي متعلقة بالنصاب والوقص الفاصل بين النصابين؟ أو بالنصاب وحده دون الوقص؟. فذهب الشافعي في كتبه القديمة والجديدة: إلى أن الزكاة متعلقة بالنصاب دون الوقص، وأن الوقص لا زكاة فيه، وبه قال أبو حنيفة والمزني. وقال في الإملاء: إن الزكاة متعلقة بهما، وبه قال محمد بن الحسن. الثاني: إذا زدات الإبل على مائة وعشرين: فذهب الشافعي إلى أنه لا يستأنف الفريضة فيه. وبه قال أهل العلم وعليه

العمل. وبيان ذلك: أن الإبل إذا بلغت مائة وعشرين، وقد نص الشارع على أن الواجب فيها (¬1)، فإذا زادت واحدة فقد استقر الحساب في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وبه قال الأوزاعي، وأبو ثور، ورواه الخرقي عن أحمد. قال مالك في إحدى الروايتين: لا يتغير الفرض إلى مائة وثلاثين وفيها حقة وبنتا لبون. رُوي ذلك عن أحمد وإليه ذهب أبو عبيد. والرواية الثانية عن مالك: أنه إذا زادت واحدة يغير الفرض إلى تخيير الساعي بين الحقتين وبن ثلاث بنات لبون. وقال النخعي، والثوري، وأبو حنيفة: إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استوثقت الفريضة في كل خمس شاة، إلى أن ييلغ مائة وخمسة وأربعين، ففيها حقتان وبنت مخاض، وكذا فيما بعد كل زيادة لم يبلغ النصاب يستأنف لها الفريضة في كل خمس شاة إلى أن يبلغ مقدار ما تجب الزكاة في مثله. الحكم الثالث: الجبران المفروض عند عدم الأسنان الواجبة: قال الشافعي -رضي الله عنه-: بما دل الحديث عليه أنه إذا وجب عليه سن وليس في إبله ذلك السنن، أعطى الموجود عنده وجبر النقص إن كانت السنن ناقصة عن الواجب عليه، أو أخذ الزيادة من الساعي إن كانت زائدة عن الواجب وقد نص على الجبران بشاتين أو عشرين [درهمًا] (¬2) والخيار في الشاتين والدراهم إلى المعطي، ولا خيار للساعي إلا ما هو خير لأهل السهمين، والأولى لرب المال أن يُعطي ما هو الأنفع لأرباب الصدقة، وكل من الشاتين والدارهم أصل في نفسه وليس هو عوضًا عن الآخر. وبه قال النخعي وإسحاق. ¬

_ (¬1) كذا بالأصل والظاهر أنه سقط قوله: (حقتان). (¬2) سقط من الأصل وإثباته ضروري.

وقال الثوري: يعطي عشرة دراهم أو شاتين. وهو قول أبي عبيدة. وقال مالك: على رب المال أن يبتاع السن التي وجبت عليه. وقال أبو حنيفة: يأخذ الساعي قيمتها. وكل هذه الأقوال محكمات وعادلة عن صريح النص. الحكم الرابع: إخراج القيمة في الزكاة: وفي الحديث دليل على أنها لا تجوز. وهو قول أكثر أهل العلم، لأنه قال: إذا لم [يجد] (¬1) السن الواجبة يأخذ السن الموجودة، ويعطي قيمة التفاوت بينهما، ولو كانت القيمة جائزة لم يعدل عنها إلى أخذ سن أخرى وإعطاء تفاوتها. وقال أبو حنيفة: يجوز دفع القيمة في الزكاة وإن كانت السنن موجودة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج قال: قال لي ابن طاوس: عند أبي كتاب من العقول نزل به الوحي، وما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العقول أو الصدقة فإنما نزل به الوحي. إنما أراد الشافعي بهذا الحديث تأكيد حديث أنس المتقدم، وبيان ما قلناه. وفي تفسير قوله: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن (فَرَضه رسول الله) فإنما هو من قبل الوحي وأمْر الله لا من ذات نفسه ويصدق ذلك قول الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (¬2). والعقل: جمع عقل وهو الدية، وهو في الأصل: مصدر عقلت البعير أعقله عقلاً إذا شددته بعقال، وذلك أن أولياء القاتل كانوا يقودون الإبل التي يعطونها في الدية إلى فناء المقتول، فكانوا يعقلونها أي: يسلمونها إلى مستحقيها، فسميت الدية عقلاً، ثم كثر الاستعمال فنقل العقل إلى كل دية، سواء أكانت إبلًا أم بقرًا أم غنمًا أم ذهبًا أم فضة، فسموها وغلب الاسم عليها لكثرة الاستعمال. والوحي في العربية: الإشارة والرمز، والوحي: الكتاب، والكتابة، ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وأثبتها لضرورة السباق. (¬2) [النجم: 3].

والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك من قول تقول فيه وحيت إليه الكلام، وأوحيته، إذا كلمته كلامًا خفيًّا. قال الشافعي -لما ذكر هذا الحديث- وذلك -إن شاء الله [كما] (¬1) روى ابن طاوس وبين في قول أنس، قال: وحديث أنس ثابت من جهة حماد بن سلمة وغيره، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبه نأخذ. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا أنس بن عياض، عن موسى بن [عقبة] (¬2)، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: "أن هذا كتاب الصدقات فيه: في كل أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم؛ في كل خمس شاة وفيما فوق ذلك إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، وفيما فوق ذلك إلى خمس وأربعين بنت لبون، وفيما فوق ذلك إلى ستين حقة طروقة (¬3) الفحل، وفيما فوق ذلك إلى خمس وسبعين جذعة، وفيما فوق ذلك إلى تسعين ابنتا لبون، وفيما فوق ذلك إلى عشرين ومائة حقتان طروقتا الفحل، فما زاد على ذلك ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى أن تبلغ عشرين ومائة شاة، وفيما فوق ذلك إلى مائتين شاتان، وفيما ذلك إلى ثلاثمائة ثلاث شياه، فما زاد على ذلك ففي كل مائة شاة، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عور، ولا تيس (الغنم) (¬4)، إلا ما شاء المصَدّق، ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وفي الرقة ربع العشر إذا بلغت رقة أحدهم خمس أواقٍ". وهذه نسخة كتاب عمر بن الخطاب التي كان يأخذ عليها. ¬

_ (¬1) في الأصل [كلما] والمثبت من "المعرفة" (6/ 22). (¬2) في الأصل [عياض] وهو تحريف والتصويب من مطبوعة المسند والأم (2/ 5) وقد تكرر ذكر موسى ابن عقبة في الأصل. (¬3) في الأصل [وطروقة] والمثبت من المسند والمعرفة وفي الأم: [طروقه الحمل]. (¬4) سقط من الأم والمسند والمعرفة.

قال الشافعي: وبهذا كله نأخذ. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرني الثقة من أهل العلم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - -لا أدري أدخل ابن عمر بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر في حديث سفيان بن حسين أم لا-: "في صدقة الإبل" مثل هذا المعنى لا يخالفه ولا أعلمه، بل لا شك -إن شاء الله- إلا حدث بجميع [الحديث] (¬1) في صدقة الغنم والخلطاء والرقة هكذا، إلا أني لا أحفظ الإبل في حديثه. هذا حديث حسن صحيح، قد أخرجه أبو داود، والترمذي. أما أبو داود (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن محمد النفيلي، عن عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، وذكر نحوه بزيادة في ألفاظه ولم يذكر الرقة. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن زياد بن أيوب وإبراهيم بن [عبد الله] (¬4)، ومحمد بن كامل، عن عباد بإسناد أبي داود ونحو حديثه ورفعه أيضًا. وقد ذكر مالك في الموطأ (¬5) قال: فقرأت كتاب عمر بن الخطاب في الصدقة، فوجدت فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب الصدقة: في أربع وعشرين من الإبل فدونها الغنم. وذكر الحديث بلفظ الشافعي إلى قوله: "وفي الرقة ربع العشر". ¬

_ (¬1) من مطوعة المسند، وفي الأصل (حديث). (¬2) أبو داود (1568). (¬3) الترمذي (612) وقال: حديث ابن عمر حديث حسن. (¬4) سقط من الأصل والمثبت من الترمذي. (¬5) "الموطأ" (1/ 257).

ما في هذا الحديث من ألفاظ ومعان قد تقدم بيانها في حديث أنس، وما ليس في حديث أنس فنذكره. السائمة في الغنم: هي التي ترعى وليست معلومة، يقال: سامت الغنم والماشية تسوم سومًا، وأسمتها أنا إذا أخرجتها إلى المرعى، وهي صفة لواحدة تقول: شاة سائمة، وقد تقع على الجماعة على تقدير أن تكون صفة جماعة سائمة. وفي هذا اللفظ دليل على أن غير السائمة لا زكاة فيها، لأن الشيء إذا كان بقيوده ويتعاقب عليه وصفان لازمان، فعلق الحكم بأحد وصفيه كان ما عداه بخلافه. وقوله: "فإذا زادت على الثلاثمائة ففي كل مائة شاة" يدل على أن المائتين لما توالت أعدادها حتى بلغت ثلاثمائة، وعلقت الصدقة الواجبة فيها بمائة مائة؛ ثم قيل: فإذا زادت عرف أن هذه الزيادة اللاحقة بها أنها هي مائة لا ما دونها؛ لأنه قال: فإذا زادت على الثلاثمائة ففي كل مائة شاة ولم يقل ففيها شاة. والهرمة: الكبيرة المسنة. والعَوراء -بفتح العين-: العيب، وقد تضم. وهذا الحكم إذا كان ماله أو بعضه سليمًا من العيب، وإن كان ماله معيبًا فيؤخذ آخذ من أوسطه. وقال مالك: يُكلّف أن يأتي بصحيحة. وقوله: "ولا تيس الغنم" يريد الفحل إذا كانت ماشيته إناثًا أو بعضها، فلا يؤخذ الذكر إنما تؤخذ الأنثى، فإن كانت كلها ذكورا أخذ الذكر في الصدقة. وقوله: "إلا ما شاء المصدِّق" يريد إذا اختار الساعي، هكذا يرويه جماعة من الرواة والفقهاء، وكان أبو عبيد يرويه "المصدق" -بفتح الدال- يريد صاحب الماشية، وخالفه الناس.

وهذا الاسثناء الذي فرضه إلى العامل يدل على أن له الاجتهاد، لأن يده كَيدِ المساكين وهو بمنزلة الوكيل لهم. وقوله: "لا يجمع بين مفترق، ولا يفترق بين مجتمع، خشية الصدقة" معناه أن الجمع بين المتفرق فيه أمران: أحدهما: من جانب التكثير. والثاني: من جانب التقليل. أما جانب التكثير فهو: أن يكون لرجلين -مثلًا- ثمانون شاة، فليس عليهما فيها إلا شاة واحدة، فإن تميز نصيب كل واحد منهما وجب عليهما شاتان. وأما جانب التقليل فهو: أن يكون ثلاثة نفر -مثلًا- ويكون لكل واحد أربعون شاة، وقد وجب على كل واحد في غنمه شاة فإذا أتاهم المصدق جمعوها لئلا يكون عليهم فيها إلا شاة واحدة، فنهوا عن ذلك. وأما التفريق بين المجتمع: فهو الشريكين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا جاءهما المصدق فرقا غنمها فلم يكن على كل واحد منهما إلا شاة واحدة، فنُهوا عن ذلك. قال الشافعي -رضي الله عنه-: الخطاب في هذا للمصدق ورب المال، والخشية خشيتان: خشية الساعي أن، [تقل] (¬1)، وخشية رب المال أن يقل ماله، فأمر كل واحد أن لا يُحْدِث في المال شيئًا من الجمع أو التفريق. وانتصب خشية الصدقةة، لأنه مفعول له أي يجمع ويفرق خوفًا من الصدقة الواجبة على الحال. وقوله: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان" هذا إنما يصح في خلطة المجاورة لا خلطة المشاركة، وسنذكر الحكم في ذلك آخرًا، وهاهنا نذكر معنى ¬

_ (¬1) في الأصل [تقول] والمثبت من المعرفة (6/ 63). ولفظ هناك [... تقل الصدقة]

اللفظ ومدلوله وذلك أن يكون لأحد الشريكين -مثلًا- أربعون بقرة، والآخر ثلاثون ومالهما مشترك، فيأخذ الساعي عن الأربعن مسنة، وعن الثلاتين تبيعاً، فيرجع باذل المسنة بثلاثة أسباعها على شريكه، ويرجع باذل التَّبِيع على شريكه بأربعة أسباعه لأن كل واحد من السنين واجب على الشيوع كأن المال مِلك واحد. وفي قوله: "بالسَّوِية" دليل على أن الساعي إذا ظلم أحدهما فأخذ منه زيادة على فرضه؛ فإنه يرجع على شريكه وإنما يغرم له قيمة ما يخصه من الواجب دون الزيادة، ومن أنواع التراجع: أن يكون بين رجلين أربعون شاة لكل واحد منهما عشرون، ثم كل واحد منهما يعرف عي ماله، فيأخذ المصدّق من نصيب أحدهما شاة، وفي ذلك دليل على أن الشركة تصح مع تمييز أعيان الأموال عند من ذهب إلى صحة ذلك. والرقة: الفضة المضروبة دراهم وكذلك الوَرِق، والهاء في آخرها عوض من حذف واو الورق، وتجمع الرقة على رقين، ورِقون بكسر الراء فيهما. والأواقيّ -مشدد- جمع أوقية وقد تخفف الياء في الجمع، فيقال: أواقي ويحذف في الوصل لالتقائهما مع التنوين، فيقال: أواق، ومقدار الأوقية المعتبرة في الشرع: أربعون درهمًا، وكذلك كانت في صدر الإسلام ثم غيَّرها العرف الاصطلاحي بين أهل كل قطر وبلد، فيكون الخمس أواقي مائتي درهم، وهي النصاب الذي يوجب الزكاة من الفضة. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: العمل بصريح هذا الحديث من غير مخالفة. وإليه ذهب أكثر الفقهاء. وحُكي عن النخعي والحسن بن صالح أنهما قالا: إذا بلغت الغنم ثلاثمائة وشاة ففيها أربع إلى أربعمائة، فإذا زادت واحدة ففيها خمس شياه.

وأما المعلوفة: فلا زكاة فيها ولا في عوامل الإبل والبقر وبه قال أكثر أهل العلم. وقال مالك: تجب في العوامل والمعلوفة. وبه قال ربيعة ومكحول وقتادة. وأما الجمع والتفريق والتراجع فمبناه على الشركة والخُلطة وهي على ضربين: خُلطة في الأعيان والأوصاف، فهو أن تكون الماشية ملك الخلطاء وسهم كل واحد منهم مشاع. وأما خلطة الأوصاف: فأن يكون ملك كل واحد منهما متميزًا عن ملك الآخر، وإنما في المرعى والمسرح. وكلتا الخليطتين تزكيان تزكية واحدة ولا يفرق بينهما ولا يجمع. وبهذا قال الشافعي، وعطاء، والأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: تصح الخلطة إذا كان مال كل واحد منهما نصابًا تامًا. وقال أبو حنيفة والثوري: لا تأثير للخلطة في الزكاة، ويزكيان زكاة المنفرد. ولا فرق عند مالك والشافعي بين أن تتميز الأعيان، وبين أن لا تتميز، إلا أن مع التمييز تسمى خلطة المجاورة، ومع عدم التمييز تسمى خلطة المشاركة، واشترط الشافعي في خلطة المجاورة: أن يجتمعا في المراح والمسرح وموضع السعي والجلب والفحولة. وأما الخلطة في الذهب والفضة: ففيها للشافعي قولان، وفي الزرع: ثلاثة أقوال. وأما صدقة الورِق فستجيء مشروحة في موضعها إن شاء الله تعالى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمس ذُودٍ صدقة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أخبرني أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمسة ذود صدقة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه [قال] (¬1) سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة". هذا طرف من حديث صحيح متفق عليه قد أخرجه الجماعة بتمامه. أما مالك (¬2): فأخرج الرواية الأولى بإسنادها قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواقي من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود صدقة" (¬3). وأخرج الرواية الثالثة بإسنادها، وقال (¬4): "ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة [أوسق] (¬5) صدقة". وأما البخاري (¬6): فأخرج عن إسحاق بن يزيد، عن شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير أن عمرو بن يحيى بن عمارة أخبره عن أبيه يحيى بن عمارة، أنه سمع أبا سعيد الخدري. وذكر الثلاثة فبدأ بالأواقي، ثم ¬

_ (¬1) في "الأصل": [قد] وهو تصحيف، والمثبث من مطوعة المسند. (¬2) "الموطأ" (1/ 210) رقم (2). (¬3) في "الموطأ" زاد: [من الإبل]. (¬4) "الموطأ" (1/ 210) رقم (1). (¬5) سقط من الأصل، والمثبت من "الموطأ". (¬6) البخاري (1405).

بالذود، ثم بالأوسق. وفي أخرى (¬1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك إسناد الرواية [الثالثة] (¬2) ولفظ مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرج عن [عمرو] (¬4) بن محمد بن بكير الناقد، عن سفيان بإسناد الرواية الثانية، وذكر الثلاثة فبدأ بالأوسق، ثم بالذود، ثم بالأواقي. وله روايات أخرى. وأما أبو داود (¬5): فأخرج عن القعنبي، عن مالك بإسناد الرواية الثالثة ولفظ مالك. وأما الترمذي (¬6): فأخرج عن قتيبة، عن عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن يحيى بلفظ مالك. وفي أخرى (¬7): عن محمد بن بشار، عن ابن مهدي، عن سفيان وشعبة ومالك كلهم عن عمرو بن يحيى. وأما النسائي (¬8): فأخرج عن عبيد الله بن سعيد، عن سفيان، عن عمرو بن يحيى. وعن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، عن ابن مهدي، عن سفيان وشعبة ومالك، عن عمرو بن يحيى. هذا الحديث أصل في معرفة المقادير التي تجب فيها الزكاة، فمتى بلغتها تعين ¬

_ (¬1) البخاري (1447). (¬2) في الأصل (الثلاثة) والمثبت هو الصواب. (¬3) مسلم (979). (¬4) في الأصل [عمر] والمثبت من رواية مسلم. (¬5) أبو داود (1558). (¬6) الترمذي (626). (¬7) الترمذي (627) وقال: حسن صحيح. (¬8) النسائي (5/ 17).

فيها ما فرضه الله -عز وجل- على أربابها، وما نقص عنها فليس فيه حق لئلا يكون إجحافًا بهم. والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشرة، واللفظة مؤنثة ولا واحد لها من لفظها، وإنما يقال للواحد من الذود: بعير، كما يقال للواحدة من النساء: امرأة، والكثير: أذواد، وفي المثل: [الذود إلى الذود] (¬1) فإلى بمعنى "مع" أي إذا جمع القليل مع القليل صار كثيرًا. قال الأزهري: الذود: ما بين الثلاث إلى العشر ولا يكون إلا إناثًا, ولذلك أنَّثَ في الحديث فقال: "خمس ذود" ولم يقل: "خمسة" كما يقال للمذكر. وفي هذا نظر: فإنك تقول: خمس جمال، وخمسة جمال بناء على اللفظ والمعنى. قال الأزهري: قال أبو عبيدة: الذود ما بين الثنتين إلى التسع من الإناث دون الذكور، ويعضد أن أقل الذود ثنتان قولهم: "الذود إلى الذوذ إبل" وأقل الجمع ثلاثة ولا يجتمع الثلاثة إلا من واحد واثنتين، والواحد لا يسمى ذودًا، فنفى أن يكون اجتماعها من ثنتين وثنتين فيحصل وزيادة واحدة. وقيل: الذود ما بين ثلاث إلى خمسة عشر. والمعنى من الحديث: ليس فيما دون خمس من الإبل من صدقة، فإن من ملك أربعة أبعرة فلا صدقة عليه، فإذا صارت خمسة وجا فيها شاة. وقال قوم: معنى الحديث: ليس فيما دون خمسة وعشرين بعيرًا صدقة، فسر قوله: "خمس ذود" بخمس وعشرين إلا أن أول نصاب الإبل تجب فيه زكاة إبل وهو خمس وعشرون وفيها بنت مخاض. فأراد بقوله: "ليس فيها صدقة" يعني من جنسها وإنما تكون صدقتها من غير جنسها، يعني في كل خمس شاة فليس هذا التفسير محال، لأن ما كان من ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من اللسان مادة: ذود وسيأتي بعد هذا المثل على الصواب كما أثبتناه.

الأعداد دون العشرة، فإنه يضاف إلى لفظ الجمع، تقول: خمسة رجال، وخمس نساء، وعليه خمس ذود، والذي أوقع هذا القائل بوهمه أن قوله: "خمس ذود" يريد خمس جماعات من الإبل، وليت شعري لو سلم له هذا لم يصح له، لأن إبل الذود ثنتان أو ثلاث فعلى الأول: يكون الخمس عشر. أو على الثاني: يكون الخمس خمس عشرة. فكيف فسر الخمس بخمس وعشرين؟ وكان يلزمه أن يقول على هذا القياس أن خمسة دراهم هي خمسة وعشرون ولا قائل بهذا أصلاً. والإبل: اسم لجماعة البعران ذكورها وإناثها ولا واحد لها من لفظها، وهي مؤنثة لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدمي فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها دخلتها التاء المربوطة فقلت: أبيلة وغنيمة، وربما سكنوا الباء في الإبل تخفيفًا، وينسبون إليها بفتح الباء تخفيفًا أيضًا وهربًا من توالي الكسرات، فليس في العربية فعل بوزن إبل إلا صفتان، قالوا: امرأة بان ضخمة، وأتان أبد، وأمة أبد إذا كانت ولودًا (¬1)، وقالوا في الأسماء: أطل وهي الحاضرة. والمراد بالصدقة في هذا الحديث: الصدقة الواجبة التي هي زكاة الأموال. والأوسق: جمع الوسق -بفتح الواو- وهو ستون صاعًا، والصاع: مكيال يسع خمسة أرطال وثلث بالرطل العراقي، وهو صاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشهور عنه بالحرمين، وبه أخذ الشافعي، وهو عند أهل العراق ثمانية أرطال، وبه أخذ أبو حنيفة. والصاع: أربعة أمداد، والمد: رطل وثلث أو رطلان على اختلاف المذهبين. فيكون الوسق على مذهب الحجازين: ثلاثمائة وعشرين رطلاً، والخمسة أوسق ألف وستمائة رطل. ¬

_ (¬1) قال في اللسان: ليس في كلام العرب فعل إلا أَبِد وأَبِل وبِلح ونَكِح وخَطِب إلا أن يتكلف متكلف فيبني على هذه الأحرف ما لم يسمع عن العرب انظر مادة أبد.

وعلى مذهب العراقيين: أربعمائة وثمانين رطلًا وألفين وأربعمائة رطل. وهذا هو قدر النصاب من الحب والثمار الذي تجب فيه الزكاة، وما نقص عنه فلا زكاة فيه، وبه قال جميع الفقهاء إلا أبا حنيفة فإنه قال: يجب في القليل والكثير، ولم يعتبر النصاب قياسًا على نفي اعتبار الحول فيه إجماعًا، وخالفه صاحباه. والأواقي: قد ذكرت. والوَرِق -بفتح الواو وكسر الراء- الدراهم المضروبة من الفضة، وقد تسكن الراء مع فتح الواو وقد تكسر الواو أيضاً. وفي هذا الحديث: دليل على أن الفضة لا تجب الزكاة فيها إلا بوزنها دون قيمتها، وأن ما زاد على المائتين اللتين هما مجموع الخمس أواقي، زيادة لا تبلغ النصاب تجب فيه الزكاة بحسابه؛ لأن قوله: "ليس فيما دون خمس أواقي صدقة" يقتضي أن كل ما زاد على الخمس تجب فيه الصدقة، بالغًا ما بلغ قليلاً كان الزائد أو كثيراً. وتوجب زكاة الزيادة، [قاله] (¬1) علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-، وابن عمر، والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، والشافعي. وقال الحسن البصري، وعطاء، وطاوس، والشعبي، ومكحول، والزهري، وأبو حنيفة: لا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهمًا (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل [قال] والمثبت هو مقتضى السياق. (¬2) قال الحافظ في الفتح (3/ 365): لم يتعرض الحديث للقدر الزائد على المحدود، وقد أجمعوا في الأوساق على أنه لا وقص فيها، وأما الفضة فقال الجمهور: هو كذلك، وعن أبي حنيفة: =

وقد أخرج الشافعي (¬1) -رضي الله عنه- فيما بلغه عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي أنه قال: "إذا زادت الإبل على عشرين ومائة، ففي كل خمسين: حقة، وفي كل أربعين: بنت لبون". وعن عمرو بن الهيثم وعن غيره، عن شعبة، عن أبي إسحاق عن عاصم، عن علي مثله. قال الشافعي: فبهذا نقول وهو موافق للسنة، وهذا الحديث أورده الشافعي محتجًا على من خالفه، فيما رواه عن علي بن أبي طالب أنه قال في الإبل: إذا زادت على عشرين ومائة ترد الفرائض إلى أولها، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة. قال الشافعي: هذا مجهول عن علي، وأكثر الرواة على أن الذي روى هذا عن علي -عليه السلام- غلطِ عليه، وأن هذا ليس في حديثه، ثم ذكر هذه الرواية التي أخرجها، وقال: قال [عباد] (¬2) ومحمد بن يزيد (¬3)، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون". قال الشافعي: وقال أبو كامل: عن حماد بن سلمة، عن ثمامة، عن أنس، عن أبي بكر فذكر هذا. قال الشافعي: وهم لا يأخذون بهذا، يقولون: إذا زادت على عشرين ومائة استقبل بالفرائض أولها، فكان (¬4) في كل خمس شاة إلى أن يبلغ خمسين ¬

_ = لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى يبلغ النصاب وهو أربعون، فجعل لها وقصًا كالماشية، واحتج عليه الطبراني بالقياس على الثمار والحبوب، والجامع كون الذهب والفضة مستخرجين من الأرض بكلفة ومؤنة، وقد أجمعوا على ذلك في خمسة أوسق فما زاد. (¬1) الأم (7/ 17). (¬2) في الأصل [حماد] وهو تصحيف والمثبت من الأم (7/ 17)، و"المعرفة" (6/ 32). (¬3) في "الأم" [أخبرنا عباد بن محمد عن محمد بن يزيد]. والمثبت هو لفظه في "المعرفة" والمصنف غالبًا ينقل المعرفة "المعرفة". (¬4) في"المعرفة": "وكان".

ومائة، ففي كل خمسين حقة، وهذا قول متناقض؛ لا أثر ولا قياس، فيخالفون ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر والثابت على علي عندهم، إلى قول إبراهيم وشيء يغلط به عن علي -رضي الله عنه- تم كلام الشافعي. ثم أكثر الرواة والحفاظ أحالوا في حديث علي هذا بالغلط على عاصم بن ضمرة، قالوا (¬1): قد روى في هذا الحديث ثلاثة أحكام بخلاف ما رواه سائر الناس. منها: ما ذُكر في الإبل إذا زادت على عشرين ومائة رجعت الفريضة إلى أولها، وقد خولف فيه. ومنها: ما ذكر في المصدق إذا أخذ سنًا فوق من رد عليهم عشرة دراهم أو شاتين، وإذا أخذ سنًا دون سن ردوا عليه عشرة دراهم أو شاتين، وهذا بخلاف رواية الناس في العشرة. ومنها: ما ذكر في الإبل إذا كانت خمسًا وعشرين ففيها خمس شياه، وهذا بخلاف رواية الناس، وقد ذكر الشافعي هذا عنه وذكر يعضد. قال الشافعي فيما بلغه: عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق [عن] (¬2) عاصم بن ضمرة، عن علي قال: في خمس وعشرين من الإبل خمس من الغنم. قال: ولسنا ولا إياهم ولا أحدًا علمناه يأخذ بهذا، وقد قال يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري وقد ذكر قول علي بهذا -يعني في خمس وعشرين خمس شياه، فقال: كان علي أفقه من أن يقول هذا إنما هذا من قبل الرجال. والعجب أن سفيان رواه عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي، ثم قال فيه: ما رواه عنه يحيى بن آدم من هذا القول وترك من الحديث فلم يأخذ ¬

_ (¬1) وهذا القول للبيهقي في "المعرفة" (6/ 33). (¬2) في الأصل [بن]، وهو تصحيف والمثبت من "المعرفة" (6/ 33) وهو الصواب.

به وأخذ بالحكمين الآخرين، وقد خولف فيهما أيضًا كما خولف في هذا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس أن معاذا أتي بوقص البقر فقال: لم يأمرني [فيه] (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -[بشيء] (1). قال الشافعي: فالوقص: ما لم يبلغ الفريضة. قال البيهقي: كذا رواه الربيع "الوقس" بالسين، وفي كتاب البويطي بالصاد، والذي رأيته ورويته أنا في المسند الذي يرويه الربيع إنما هو بالصاد، وهو الصحيح والمشهور في اللغة. والوقص: قد تقدم بيانه وأن الجوهري رواه مفتوح القاف، وكذلك قال: إن الوقص بالبقر دون الإبل، وأن الشق يختص بالإبل. قال الشافعي عقيب هذا: ويشبه أن يكون معاذًا إنما أخذ الصدقة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روي عنه: أوتي بما دون ثلاين فقال: لم أسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيئًا. وعني الشافعي من هذا الحديث: أن البقر إذا لم يبلغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة فلا شيء فيها، كما وجب في كل خمس من الإبل شاة إلى أن يبلغ خمسًا وعشرين، فهذا هو الذي ذهب إليه الشافعي. وقد روي عن أبي هريرة، وابن المسيب، أن على كل خمس من البقر شاة قياسًا على الإبل. وليس للقياس في فرائض الزكاة مجال، فإنها كلها ثابتة بالنص فيتعين الوقوف عنده. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن حميد بن قيس. -وهو المكي-، عن طاوس اليماني أن معاذ بن جبل أخذ من ثلاثين بقرة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين سقط من الأصل والمثبت من "الأم" (2/ 8) ومطبوعة المسند (1 - رقم 649).

تبيعًا، ومن أربعين بقرة مسنة، وأتى بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئًا، وقال: لم أسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه شيئًا حتى ألقاه فأسأله. فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يقدم معاذ بن جبل. قال الشافعي (¬1): وطاوس عالم بأمر معاذ وإن كان لم يلقه على كثرة من لقيه ممن أدرك معاذًا من أهل اليمن. هذا الحديث أخرجه مالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما مالك (¬2): فأخرجه هكذا مرسلاً بالإسناد واللفظ: والحديث نفسه مسند مرفوع عن طاوس، عن ابن عباس، عن معاذ، وقد أخرجه الدارقطني في "سننه" كذلك (¬3). وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن النفيلي، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن معاذ "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وجَّهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعًا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن حالم -يعني محتلمًا- دينارًا أو عدله من المعافري -ثياب تكون باليمن". ¬

_ (¬1) "الأم" (2/ 9). (¬2) "الموطأ" (1/ 220) رقم (24). (¬3) "سنن الدارقطني" (1887). من طريق المسعودي، عن الحكم، عن طاوس عنه به. قلت: نعم هو موصول لكنه معلول. قال الحافظ في التلخيص (2/ 152): وهذا موصول لكن المسعودي اختلط، وتفرد بوصله عنه بقية بن الوليد، وقد رواه الحسن بن عمارة عن الحكم أيضاً لكن الحسن ضعيف، ويدل على ضعفه قوله فيه: إن معاذًا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن فسأله, ومعاذ لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد مات. ورواه مالك في الموطأ من حديث طاوس ... قال ابن عبد البر: ورواه قوم عن طاوس، عن ابن عباس، عن معاذ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه اهـ بتصرف يسير. (¬4) أبو داود (1576).

وفي أخرى (¬1) عن النفيلي وعثمان بن أبي شيبة، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن مسروق، عن معاذ. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن محمود بين غيلان، عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن الأعمش بإسناد أبي داود وحديثه. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن منصور الطوسي، عن يعقوب، عن أبيه، عن [ابن] (¬4) إسحاق، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن معاذ قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثني إلى اليمن أن لا آخذ من البقر شيئًا حتى يبلغ ثلاثين، فإذا بلغت ثلاثين ففيها عجل جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة". البقرة: واحدة البقر ويقع على الذكر والأنثى، فإنما دخلته الهاء لأنه واحد من جنس. والتبيع: ولد البقر إذا كان له سنة ودخل في الثانية، والأنثى تبيعة، والجمع تباع وتبايع، ويسمى جذعًا والأنثى جذعة. وإنما سمي تبيعًا: لأنه يتبع أمه ولم يكن قد فصل عنها. وقيل: لأن قرنه يتبع أذنه وليس بشيء. والمسن من البقر والمسنة: ما دخل في السنة الثالثة. ¬

_ (¬1) أبو داود (1577). (¬2) الترمذي (623). وقال: هذا حسن صحيح، وروى بعضهم هذا الحديث، سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا إلى اليمن فأمره أن يأخذ، وهذا أصح. (¬3) النسائي (5/ 26). (¬4) في الاَّصل [أبي] وهو تصحيف والصواب هو المثبت. وكذا في"تحفة الأشراف" (8/ 399)، ابن.

والحالم: المحتلم وهو الذي بلغ سن التكليف برؤية الماء، وقد يطلق على من بلغ سن التكليف بالسن المحدودة في الشرع، وهي خمس عشرة سنة للذكر. وعدل الشيء -بفتح العين- مثله في القيمة، وبكسرها مثله في الصورة، والأول هو المراد في الحديث. والمعافري: ثياب تكون باليمن منسوبة إلى معافر وهم حي من همدان، ولا ينصرف معرفة ولا نكرة، لأنه جاء على مثال الجمع الذي لا نظير له في الآحاد. وهذا العوض من المعافري هو الواجب في الجزية وليس من الزكاة في شيء. والعجل: ولد البقرة والأنثى عجلة. والذي ذهب إليه الشافعي في زكاة البقر: العمل بظاهر لفظ هذا الحديث، وليس عنده شيء في أوقاصها لا قبل الثلاثين، ولا بين الثلاثين والأربعين، ولا بين الأربعين والستين. وعلى هذا القياس في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة لا فرض في زكاة البقر سواهما. وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو حنيفة في إحدى الروايات عنه، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور. وروي عن الحسن بن زياد أنه قال: ما زاد على الأربعين فبحساب ذلك، في كل واحد ربع عشر مسنة. وروى عن الحسن بن زياد أنه قال: لا شيء فيها حتى تبلغ خمسين، فيكون فيها مسنة وربع مسنة. ولا يجوز أن يفعل في صدقة البقر ما فعل في صدقة الإبل، من عطاء الموجود عند عدم الفريضة، والجبران في الزيادة والنقصان، لأن ذلك منصوص عليه، وهذا لم يورد فيه نص، ولا يجوز العدول في الزكاة إلى القياس عند الشافعي

-رضي الله عنه- ولكن إذا وجب عليه تبيعًا فأعطى تبيعة أو مسنة؛ أو وجب مسنة فأعطى تبيعين جاز، لأن المعطى أفضل وأنفع، ولو وجب مسنة فأعطى مسنًا لم يجز لعدم الفضيلة. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: وأخبرني غير واحد من أهل اليمن عن عدد [مضوا] (¬1) منهم: أن معاذًا أخذ صدقة البقر منهم كما روى طاوس، قال: وأخبرنا بعض أهل العلم والأمانة عن يحيى بن سعيد، عن نعيم ابن سلامة أن عمر بن عبد العزيز دعا بصحيفة، فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب بها إلى معاذ بن جبل، فإذا فيها من كل ثلاثين تبيع، ومن كل أربعين مسنة. قال الشافعي: فهو ما لا أعلم فيه بين أحد لقيته من أهل العلم خلافًا؛ فبه نأخذ. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، حدثني بشر ابن عاصم، عن أبيه أن عمر استعمل أبا سفيان بن عبد الله على الطائف ومخالفيها، فخرج مصدقا فاعتد عليهم الغذاء (¬2) ولم يأخذه منهم، فقالوا له: إن كنت معتدًا علينا بالغذي فخذه منا، فأمسك حتى لقي عمر، فقال له: اعلم [أنهم] (¬3) يزعمون أنا نظلمهم نعتد عليهم بالغذي ولا ناخذه منهم، فقال له عمر: فاعتدى (¬4) عليهم بالغذي حتى بالسخلة، يروح بها الراعي على يده، وقيل لهم: لا آخذ منكم الرُّبى ولا الماخص، ولا ذات الدر، ولا الشاة الأكولة، ولا فحل الغنم، وخذ العناق والجذعة والثنية، فذلك عدل بين غذي المال ¬

_ (¬1) بياض بالأصل والمثبت من "المعرفة" (6/ 42). (¬2) كذا في الأصل وفي "الأم (2/ 10)، و"المسند" (1) رقم (651) بلفظ [بالغذى] وهو الصواب كما سيأتي في شرح المصنف. وفي المعرفة (6/ 47): [بالغذاء]. (¬3) في الأصل [أنه] والمثبت من "الأم" و"المسند "والمعرفة". (¬4) في"الأم" و"المسند" و"المعرفة": "فاعتد" بغير ياء.

وخياره. هذا الحديث أخرجه مالك (¬1): عن ثور بن زيد الديلي، عن ابنٍ لعبد الله بن سفيان الثقفي، عن جده سفيان بن عبد الله أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقًا، وكان يعد على الناس بالسخل، فقالوا: تعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه شيئًا، فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر ذلك، فقال عمر بن الخطاب: تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها منهم، ولا تأخذ الأكولة، ولا الرُّبى، ولا الماخص، ولا فحل الغنم، ولا تأخذ (¬2) الجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء المال وخياره. وقد أخرج الشافعية -رضي الله عنه- في القديم هذه الرواية عن مالك أيضاً، إلا أنه قال: بين أدنى المال وخياره. المخاليف لليمن كالرساتيق والكور (¬3) لغيرها من البلاد، والواحد مخلاف ولكل مخلاف منها اسم يعرف به، وقد سمي كور الطائف مخاليف كذلك. والاعتداد: افتعال من عدَّ الشيء يعده عدًّا، واعتده يعتده اعتدادًا. والغذي من الغنم: هو السخلة حملًا كان أو جديًا، والجمع الغذاء، وحقيقته أنه فعيل بمعنى مفعول، أي أن غذاه من لبن أمه. وقد جاء في رواية الشافعي في المسند بلفظ الواحد؛ في أول الحديث وآخره، وجاء في رواية مالك بلفظ الجمع، والذي جاء في كتاب البيهقي بلفظ الجمع. أما وروده في أول الحديث بلفظ الواحد فلا كلام فيه، لأن الحال كذا ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 223) رقم (26). (¬2) في "الموطأ": "وتأخذ". (¬3) قال المصنف في "النهاية" (2/ 70): المخلاف في اليمن كالرستاق في العراق وجمعه المخاليف.

يقتضي [فرد ذكره] (¬1) حيث قال: أعتد عليهم بالغذي ولم يأخذه منهم. فرد التخيير إليه مفردًا. وأما الذي جاء في آخر الحديث، فالأحسن أن يكون مجموعًا ليقابل قوله: "خياره" لأن الخيار ضد الأشرار وهو يقع على الجماعة، وإنما حسن ذلك إن كان كذي حاجز من وقوع كل واحد من الغذي والخيار على الواحد والجمع، كأنهما يستعملان استعمال الأجناس، تقول للراعي: اجمع الغذي من غنمك، ولا تريد به حملًا واحداً وإنما تريد كل ما يقع عليه اسم الغذي، فتوقعه على الجمع، وتقول: هذه الشاة خيار الغنم. فتوقعها على الواحد، فعلى ذلك جاء قوله: وذلك عدل بين غذي المال وخياره. والسخلة: اسم يقع على ولد الشاة ساعة ما تضعه، من الضأن والمعز ذكرًا أو أنثى، وجمعه: سجل وسخال. وقوله: يروح بها الراعي على يده: يريد وقت ما ترجع الغنم إلى مراحها، فهو يرجع معها والسخلة على يده، حملها لعجزها عن المشي وقرب ولادتها. والرُّبى: على فعلى بوزن حبلى، الشاة القريبة العهد بالولادة، والجمع: رباب -بالضم-، والمصدر: رباب -بالكسر- تقول العرب: الشاة في ربابها، كما تقول: المرأة في نفاسها، والضأن والمعز سواء. وقيل: هي من المعز خاصة فربما جاء في الإبل، قالوا: والشاة ربى إلى انقضاء شهرين. وقال قوم: الربى هي الشاة التي تكون في البيت لأجل اللبن. والماخض: الحامل إذا ضربها الطلق، تقول: مخضت الناقة -بالكسر- تمخض مخاضًا، وكل حامل ضربها الطلق فهي ماخض، والجمع مخض، ¬

_ (¬1) كذا بالأصل.

وليست من الماخض التي يجب منهما في الزكاة، فإن ذلك اسم يقع على الحوامل من النوق. والدر: اللبن، وذوات الدر: الشاة التي تكون [للبن] (¬1). والأكولة: الشاة التي أعدت للأكل لسمنها وامتلائها، فعولة بمعنى مفعولة. وفحل الغنم: الكبش من الضأن، والتيس من المعز المعدين للضراب. والعناق: الأنثى من ولد المعز، والجمع: أعنق وعنوق، وهي في الإناث كالجدي في الذكور. والجذعة من الغنم مختلف فيها: فقال قوم: هو من الضأن ما دخل في السنة الثانية. وقيل: إذا أتم ستة أشهر من السنة الأولى. وقيل: تسعة أشهر. وقيل: إذا كان الجذع من الضأن بين شاتين، فإنه يجذع لستة أشهر إلى سبعة أشهر، وإن كان بين هرمين فإنه يجذع لثمانية أشهر. وقال الأصمعي: الجذع من المعز لستة أشهر، ومن الضأن لثمانية أشهر أو تسعة. وأما الثنية: فهي من الضأن والمعز ما ألقى ثنيته، وذلك في السنة الثالثة. قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني -رحمه الله تعالى-: الذي عليه التعويل في الجذعة: أنها التي استكملت سنة ودخلت في الثانية. وهكذا رواه الرياشي (¬2) عن الشافعي، قال: ومن أصحابنا من قال: إذا استكملت ستة أشهر فهي جذعة. وهذا ضعيف نقلوه وزيفوه. ¬

_ (¬1) في الأصل [لبن] وأضيفت اللام لتمام المعنى بها. (¬2) هو عباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي شيخ الأدب، وقد روى عنه أبو داود في تفسير أسنان الإبل من كتاب "الزكاة" وهو من رجال التهذيب. وترجمه الذهبي في "السير" (12/ 372).

وقال في بعض التصانيف: أن الجذعة ما بين ثمانية أشهر إلى عشرة أشهر، قال: ولست أرى لهذا أصلاً، والتعويل على استكمال الجذعة. والجذعة من الضأن تحمل، ومن المعز لا تحمل، وإنما يحمل منها الثنية، ولذلك قابل بينهما. والعدل: الوسط وهو من الاعتدال التساوي والتوافق بين الأشياء، يريد أن هذه الأشياء المذكورة وسط بين الجيد والرديء، فلا يأخذ منهم الجيد فتؤذيهم، ولا الرديء فيؤذي مستحق الزكاة. وفي هذا الحديث: بيان عد السخال في أموال الزكاة، وبيان ما يؤخذ من أنواع الغنم في الزكاة، وبيان ما لا يؤخذ منها, ووجه سببي المنع والجواز. وأما عد السخال فإنها تضم إلى الأمهات بثلاث شرائط: إحداها: أن تكون متولدة منها. والثانية: أن تكون الأمهات نصابًا. والثالثة: أن يوجد معها في بعض الحول. وحكي عن الحسن البصري والنخعي أنهما قالا: لا تجب في السخال زكاة حتى يحول عليها الحول. وأما ما يؤخذ في زكاة الغنم: فهو الجذعة من الضأن والثنية من المعز. قاله أحمد. وقال أبو حنيفة: لا تجزئ إلا الثنية. وقال النخعي: وروى الحسن بن زياد عنه مثل الشافعي. وقال مالك: تجزئ الجذعة منهما. وبه قال أبو عبيد، وإسحاق، وأبو ثور. وأما سبب المنع: فإنما نهاه عن أخذ الربى فلأجل ولدها لتربيه.

وأما الماخض: فلأجل طلقها ولأنها تصير ربى. وأما ذات الدر: فلأن أهلها محتاجون إليها للبنها فيكون إضرارًا بهم. وأما الأكولة: فلسمنها وجودتها ونفاستها على أهلها. وأما فحل الغنم: فلأنه ليس في زكاة الغنم ذكر، ولا يجزئ فيها إلا الأنثى، إلا أن يكون كلها ذكورًا فيجوز أخذ الذكر فيها. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: يؤخذ منها الذكر وإن كانت كلها إناثا. وقيل: إنما لم يؤخذ فحل الغنم لحاجتهم إليه. وقيل: لنقص في لحمه وشحمه. فإن كانت الغنم كلها سخالًا أخذ منها سخلة، وسواء ضأنها ومعزها. وقال مالك: لا يؤخذ إلا جذعة أو ثنية. ولا شبهة أن حق الفقراء إنما هو في النمط الأوسط من المال، فإذا أخذ خيارها جحف بأربابها وإذا أخذ شراره بخس المستحقين وهذا بمعنى قوله: "فذلك عدل بين غذي المال وخياره". قال الشافعي -رضي الله عنه- إنما منعني أن آخذ أعلاها إذا كانت الغنم كلها أعلى منها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعثه مصدقا: "إياك وكرائم أموالهم" وكرائم الأمو فيما هو أعلى من كل ما يجوز ضحيه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد [عن] (¬1) إسماعيل بن أمية، عن عمرو بن أبي سفيان، عن رجل سماه ابن سعر -إن شاء الله- عن سعر أخي بني عدي قال: "جاءني رجلان فقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثنا نصدق أموال الناس قال: فأخرجت لهما شاة ماخضًا أفضل ما ¬

_ (¬1) في الأصل [ابن] وهو تصحيف والمثبت من المسند وغيره.

وجدت، فرداها عليَّ وقالا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نأخذ الشاة الحبلى قال: فأعطيتهما شاة من وسط الغنم فأخذاها". هذا الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي أطول من هذا اللفظ. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن الحسن بن علي، عن وكيع، عن زكريا بن إسحاق المكي، عن عمرو بن أبي سفيان الجمحي، عن مسلم بن ثفنة اليشكري، قال الحسن: وروح يقول: مسلم بن شعبة، قال: استعمل ابن علقمة (¬2) أبي على عرافة قومه، فأمره أن يصدقهم، قال: فبعثني أبي في طائفة منهم، فأتيت شيخاً كبيرًا يقال له: سعر، فقلت له: إن أبي بعثني إليك -يعني لأصدقك- قال ابن أخي وأي نحو تأخذون، قلت: نختار حتى أنا نتبين ضروع الغنم، قال ابن أخي فإني محدثك "إني كنت في شعب من هذه الشعاب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غنم لي، فجاءني رجلان على بعير فقالا: إنا رسولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليك لتؤدي صدقة غنمك فقلت: [ما علي] (¬3) فيها؟ فقالا: شاة، فأعمد إلى شاة قد عرفت مكانها ممتلئة محضًا [وشحمًا] (¬4) فأخرجتها إليهما، فقالا: هذه شاة الشافع، وقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نأخذ شافعًا، قلت: فأي شيء [تأخذان] (¬5) قالوا: عناقًا جذعة أو ثنية، قال: فأعمد إلى عناق معتاط - والمعتاط: التي لم تلد وقد حان ولادها- فأخرجتها إليهما، فقالا: ناولناها فجعلاها معهما على بعيرهما ثم انطلقا". قال أبو داود: وأبو عاصم رواه عن زكريا، وقال أيضاً: مسلم بن شعبة كما قال روح. ¬

_ (¬1) أبو داود (1581). (¬2) عند أبي داود: "نافع بن علقمة". (¬3) في الأصل [على ما] والمثبت من أبي داود. (¬4) في الأصل [وأشحما] والمثبت من أبي داود. (¬5) في الأصل [تأخذون] والمثبت من أبي داود.

وله في أخرى (¬1): عن محمد بن يونس النسائي، عن روح، عن زكريا بن إسحاق بإسناده بهذا الحديث، قال: مسلم بن شعبة، وقال فيه: والشافع [التي] (¬2) في بطها ولد. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن المبارك، عن وكيع، عن زكريا بإسناد أبي داود ولفظه، وزاد فيه فقال: هذه الشافع، والشافع: الحامل. وفي أخرى (¬4): عن هارون بن عبد الله، عن روح، عن زكريا بالإسناد، ولم يقل شعبة. قوله: "نصدق أموال الناس" أي نأخذ صدقاتها. "والماخض: الحامل، وقد تقدم ذكرها. ويدل على ذلك قوله: "نهانا أن نأخذ الشاة الحبلى". ووسط الشيء وأوسطه: ما ليس بخياره ولا رديئه، فقال: شيء وسط بين الجيد والرديء. ونحو الشيء: قصده وطريقته، والمراد بقوله: أي نحو تأربون. أي نوع يأخذون، وأي قصد تقصدون في أخذكم، وأي طريق تسلكون في صدقاتكم. "والعرافة": كالنقابة والرياسة وأمثال ذلك، من المراتب التي يتقدم فيها الإنسان على جماعة يكون حكمهم إليه، وهي دون الرياسة، تقول منها: ¬

_ (¬1) أبو داود (1582). (¬2) في الأصل [التحت] والمثبت من أبي داود. (¬3) النسائي (5/ 32). (¬4) النسائي (5/ 33).

عرف الرجل -بالضم- يعرف عرافة -بالفتح - أي صار عريفاً، والجمع: عرفاء، فإذا أردت أنه عمل ذلك قلت: عرف -بالفتح- علينا يعرف. -بالضم- عرافة -بالكسر- مثل: كتب يكتب كتابة. "والشعب في الجبل": هو الطريق الآخذ فيه كالوادي في جانبه، وعمدت إلى الشيء أعمد: إذا قصدت نحوه وتعمدت فعله. "والمحض": اللبن الخالص، وهو الذي لم يخالطه الماء حلوًا كان أو حامضًا، ولا يسمى اللبن محضًا إلا إذا كان كذلك. والشاة الشافع: هي التي معها ولدها كان ولدها قد جعلها شفعًا، أي زوجًا، أو شفعته هي. وقوله: "شاة الشافع" بالإضافة وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم: صلاة الأولى ومسجد الجامع، أي: الصلاة الأولى والمسجد الجامع. "والعناق": الأنثى من ولد المعز. "والمعتاط": قد جاء في لفظ الحديث أنها التي لم تلد وقد حان ولادها، والذي جاء في كتب اللغة قال الأزهري: إذا لم تحمل الناقة أول سنة يطرقها الفحل وهي عائط، فإذا لم تحمل السنة القابلة أيضاً فهي عيط وعوط وعوطط. "وتعوطت": إذا حمل عليها الفحل فلم تحمل، ويقال للناقة التي لم تحمل سنوات من غير اعتاطت، قال: وربما كان اعتياطها من قبل شحمها. وهذا بخلاف ما جاء تفسيره، اللهم إلا أن يقال: المراد بقوله: "التي لم تلد وقد حان ولادها" التي لم تحمل وقد حان أن تحمل، ويكون ذلك من قبل معرفة سنها، وأنها قد كانت صغيرة لا تحمل مثلها، وأنها قد قاربت السن التي لم تحمل مثلها فيها، فيكون قد سمي الحمل بالولادة، ويعضد هذا القول أنه قال: "وأعمد إلى عناق معتاط" والعناق: هي الصغيرة من أولاد المعز، والمعز لا

يحمل منها إلا ما دخل في السنة الثالثة وهي الثنية، يقال: إنها عناق، وأنها عناق، وأنها معتاط، وبهذا التأويل يصح تفسير الحديث، وكذلك العناق لا تجزئ في الزكاة إلا أن تكون الغنم كلها أعنقًا عند الشافعي، وإنما تجزئ في الذكورة الثنية من المعز -كما تقدم بيانه. وقد ثبت أن غنمه لم تكن كلها أعنقاً، لأنه قال: "أعطيتهم شاة شافعا" فدل ذلك على أنه أراد بقوله: "عناقاً معتاطًا" عنزًا قد قاربت سن العمل -كما تقدم بيانه- والله أعلم. والولاد، والولادة بمعنى، تقول: ولدت المرأة ولادة ولادًا وأولدت: حان ولادها. وقد جاء في رواية النسائي: "والشافع للحائل"، وليس بصحيح وإنما هو الحامل -بالميم-ة، لأن الحائل التي ليست حاملاً وسياق الحديث يدل على الحمل. وفقه هذا الحديث: أن الساعي لا يختار على أرباب المال خيار أموالهم ولا يأخذ الرديء منها، وقد تقدم بيان ذلك قبل هذا. وأخبرنا -رضي الله عنه-: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد ابن يحيى بن حبان قال: أخبرني رجلان من أشجع "أن محمد بن مسلمة كان يأتيهم مصدقًا، فيقول لرب المال: أخرج إلي صدقة مالك، فلا يقود إليه شاة فيها وفاء من حقه إلا قبلها". هذا حديث صحيح (¬1) أخرجه مالك (¬2) بالإسناد واللفظ، وقال: السنة عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم (¬3)، أنه لا يضيق على المسلمين في زكاتهم، وأن يقبل منهم ما دفعوا من أموالهم. ¬

_ (¬1) قلت: إسناده منقطع كما ترى. (¬2) "الموطأ" (1/ 225) رقم (28). (¬3) زاد في "الموطأ": "ببلدنا".

والوفاء: التمام، ومنه: وفىَّ دينه وأوفاه، أي: أعطاه تامًا وافيًا. وفي هذا الحديث: بيان أن ليس للساعي أن يختار على الناس أموالهم، وإنما له عليهم أن يعطوه ما يريدون من أموالهم، إذا كان ما يعطونه جائزًا في الصدقة طلبًا للرفق بهم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان، عن القاسم بن محمد، عن عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "مُرَّ [على] (¬1) عمر بن الخطاب بغنم من الصدقة، فرأى فيها شاة حافلًا ذات ضرع، فقال عمر: ما هذه الشاة؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر: ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حَزَرات المسلمين، نكبوا عن الطعام". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ بالإسناد واللفظ (¬2)، وقال: ذات ضرع عظيم. والحافل: هي الشاة التي قد امتلأ ضرعها لبنًا، هكذا فقال: بغير هاء. وقوله: "ذات ضرع" يريد ضرعًا ظاهرًا ممتلئًا لبنًا يراه كل من نظر إليه، ولم يرد به ثبوت مجرد الضرع لها، فإن ذلك لها سواء كانت حافلًا أو غير حافل، ويدل على ذلك رواية مالك: "ذات ضرع عظيها" فوصفه بالعظم لحفوله وامتلائه. قوله: "لا تفتنوا الناس" أي لا توقعوهم في الفتنة وهي البلاء، وذلك أن الساعي إذا كلف رب المال خير ماله وأجوده؛ أوقعه في الكراهة بإخراج الزكاة والتبرم بها، وأوقعه بذلك في الإثم، وربما دعاه إلى ما هو أكثر من الإثم. والحزرات -بفتح الحاء المهملة، وفتح الزاي، وبعدها راء-: جمع حزرة ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مطوعة المسند و"الموطأ". (¬2) "الموطأ" (1/ 225) رقم (28).

وهي خيار المال، ويقال: هذه حزرة نفسي أي خير ما عندي. ونكبت عن الشيء: إذا صدفت عنه وتركته. والطعام: يريد به اللبن الذي في ضرع هذه الشاة، فإنكم إذا أخذتموها فقد ضايقتم عليهم في مواشيهم بأخذ طعامهم، وذلك إضرار بهم وإجحاف، وقد تقدم بيان ما يأخذه المصدق من الزكاة، وأنه لا يأخذ الخير الفاضل ولا الدون الناقص، وإنما يأخذ وسط المال، إلا أن يكون فيه نصاب كله خيار، ونصاب كله رديء، فيأخذ من الجيد جيدًا، ومن الرديء رديئًا.

الباب الثالث في زكاة الثمار والزروع

الباب الثالث في زكاة الثمار والزروع أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه أنه قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن يحيى المازني يحدث عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". هذا طرف من حديث صحيح قد أخرجه بطوله الجماعة، وقد ذكرنا طرقه في الباب الثاني، وهو يتضمن ذكر الذود، والوسق والأواقي، ولما ذكر الشافعي هناك الذود ذكر هنا الأوسق، لأنه باب زكاة الثمار. ومذهب الشافعي: أن زكاة الثمار والزروع وما تخرجه الأرض، في خمسة أوسق من كل مقتات أنبتته الأرض مملوكة كانت أو مستأجرة، خراجية أو غير خراجية ولا زكاة -على الجديد- في الزيتون واللوز، والجوْز، والوَرْس، والزعفران، والعصفر، كما لا زكاة في الفواكه والخضروات. وتفصيل مذهبه في الفواكه: لا تجب الزكاة إلا في النخيل والكروم وبه قال مالك.

وقال أبو حنيفة: تجب في كل ما يقصد بزراعته بالأرض، فيجب في كل ما تنبته الأرض إلا الحطب والقصب (¬1) والحشيش. وقال أحمد: تجب في جميع الثمار التي تكال وتدخر، سواء استنبته الآدمي أو نبت بنفسه، وأوجبها في اللوْز وأسقطها عن الجوْز. قال الشافعي: ما جمع أن يزرعه الآدميون ويدخر ويقتات مأكولاً، خبزًا وسويقًا وطبيخًا؛ ففيه الصدقة. وقال: لا يؤخذ في شيء من الشجر غير النخيل والعنب، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الصدقة منهما وكانا قوتًا، وقد صح (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بعث أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن أن لا يأخذ هذه الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر. قال الشافعي في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬3) بعد حديث أبي سعيد هذا: فأخذنا نحن وأنتم بهذا وخالفنا فيه بعض الناس، فقال: قال الله -تبارك وتعالى- لنبيه عليه السلام-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬4) [و] (¬5) قال النبي [- صلى الله عليه وسلم -]، (¬6): "فيما سقت السماء العشر". لم يخصص الله مالاً دون مال، ولم يخصص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث مالاً دون مال، فأخذت بهذا الحديث الذي يوافق كتاب الله والقياس عليه، وقلت: لا يكون مال فيه صدقة ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [إلا] بعد [الحطب] وهي زيادة مقحمة، وكلام أبي حنيفة هذا مثبت في كتب الحنفية، وانظر "الفقه على المذاهب الأربعة" (1/ 470 - 471). (¬2) صححه الشيخ الألباني -رحمه الله- في "الإرواء" (3/ 277 - 279)، وانظر "التلخيص الحبير" (2/ 166). (¬3) "الأم" (7/ 194). (¬4) التوبة: [103] (¬5) من "الأم". (¬6) في الأصل [عليه السلام] والمثبت من "الأم"

ومال لا صدقة فيه، فكل ما أخرجته الأرض من شيء وإن حزمة بقل ففيه العشر. قال الشافعي: فكانت حجتنا عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله معنى ما أراد، أبان ما يؤخذ منه من الأموال دون ما لم يرد، وأن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فيما سقت السماء العشر" جملة والمفسر يدل على الجملة. قال: وقد سمعت من يحتج عنه، فيقول كلامًا يريد به قد قام بالأمر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وأخذوا الصدقات في البلدان أخذًا عامًا وزمانًا طويلاً، فما روي عنهم ولا عن واحد منهم أنه قال: ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ثم قال: وللنبي - صلى الله عليه وسلم - عهود ما هذا في واحد منها وما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أبو سعيد الخدري. قال الشافعي: وكانت حجتنا أن المحدث لما كان ثقة اكتفي بخبره ولم نرده بتأويل، ولا بأنه لم يروه غيره، ولا بأن لم يرو عن أحد من الأئمة مثله، اكتفاء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما دونها، وبأنها إذا كانت منصوصة بينة لم يدخل عليها تأويل كتاب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم بمعنى الكتاب، ولا تأويل حديث جملة يحتمل أن يوافق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المنصوص ويخالفه، وكان إذا احتمل أحد المعنيين أن يكون موافقًا له، ولا يكون مخالفًا فيه ولم يوهنه أن لم يروه إلا واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. تم كلامه. وقد روى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما رواه أبو سعيد الخدري، وقد روى سليمان بن داود الخولاني، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كتب إلى أهل اليمن كتابًا، فذكر فيه ما سقت السماء أو كانت سيحًا (¬1)، أو كان [بعلاً] (¬2) ففيه العشرة إذا بلغ خمسة أوسق، وما سقي بالرشاء والدالية، ففيه ¬

_ (¬1) السيح هو الماء الجاري المنبسط على وجه الأرض "النهاية" (2/ 432). (¬2) سقط من الأصل والمثبت من "المعرفة" (6/ 102) ومعنى البعل: هو ما شرب من النخيل بعروقه من الأرض من غير سقي السماء ولا غيرها."النهاية" (1/ 141).

نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: "صدقة الثمار والزروع ما كان نخلاً، أو كرمًا، أو زرعًا، أو شعيرًا، أو سلقًا، فما كان منه بعلًا أو سقيًا بنهر أو بالعين أو عثريا بالمطر؛ ففيه العشر من كل عشرة واحد، وما كان منه يسقى بالنضح، ففيه نصف العشر في عشرين واحداً". هذا حديث صحيح أخرجه الشافعي موقوفًا، وأخرجه البخاري، وأبو داود، والنسائي مرفوعًا. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن سعيد بن أبي مريم، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر". وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن أحمد بن الحسن، عن سعيد بن أبي مريم بإسناد البخاري مرفوعًا مثله. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن هارون بن سعيد [بن] (¬4) الهيثم الأيلي (¬5)، ¬

_ (¬1) البخاري (1483). وقال عقبه: هذا تفسير الأول، لأنه لم يوقت في الأول يعني حديث ابن عمر: "فيما سقت السماء العشر" وبين في هذا ووقت، والزيادة مقبولة والمفسر يقضي على المبهم إذا رواه أهل الثبت كما روى الفضل بن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في الكعبة، وقال بلال: قد صلى؛ فأخذ بقول بلال، وترك قول الفضل. (¬2) الترمذي (640). وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) أبو داود (1596). (¬4) في الأصل [عن] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب كذا عند أبي داود. (¬5) زاد في الأصل [بن] قبل [الأيلي] وهي زيادة مقحمة، وهارون هو: ابن سعيد بن الهيثم بن محمد بن الهيثم بن فيروز السعدي، أبو جعفر الأيلي. وانظر "التهذيب".

عن ابن وهب بإسناد البخاري مرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر" (¬1). وأما النسائي (¬2): فأخرجه برواية أبي داود مثله. وقد أخرج مالك المعنى مرسلًا (¬3) عن سليمان بن يسار وبسر بن سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه الشافعي في القديم (¬4) عن مالك أيضاً، وقال: بلغني أن هذا الحديث. -يعني حديث سليمان بن يسار- يوصل من حديث ابن أبي ذباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم مخالفًا (¬5). السُلت: -بالضم- شعير أبيض ليس فيه قشر كأنه حنطة. والبعل: ما يشرب من الشجر بعروقه من غير سقي من السماء ولا غيرها. قال الأزهري: فسره الأصمعي وأبو عبيد، وجاء القتيبي فغلَّط [أبا] (¬6) عبيد ¬

_ (¬1) في الأصل اضطراب وخلل في مواضع: أولها: قدم الترمذي على غير عادته على أبي داود، ثم أعاد فذكره مكررًا مرة ثانية عقب تخريجه لأبي داود وزاد: "إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فيما سقت السماء والأنهار والعيون، أو كان بعلًا العشر، وفيما سقى السواقي والنضح نصف العشر". ثانيا: أن هذه الزيادة المذكورة عقب رواية الترمذي هي لفظ أبي داود، كما في السنن, وأما اللفظ الذي عزاه لأبي داود فليس لفظه إنما هو متن حديث الترمذي. فكان هناك قلب في اللفظين فتنبه لهذا. (¬2) النسائي (5/ 41). (¬3) "الموطأ" (1/ 227) رقم (33). (¬4) نقله البيهقي عنه في المعرفة (6/ 127). (¬5) وقال ابن عبد البر في الاستذكار (9/ 235): هذا الحديث وإن كان في الموطأ منقطعًا وبلاغًا فإنه يتصل من وجوه صحاح ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر وجابر ومعاذ وأنس. (¬6) في الأصل [أبو] والمثبت هو الجادة.

-وهو بالغلط أولى (¬1) - قال: وهذا الصنف من النخيل رأيته بالبادية، وهو ينبت من النخل في الأرض تقرب ماؤها، فرسخت عروقها في الماء واستغنت عن ماء السماء والسيول وغيرها من الأنهار، يقال: قد استعبل النخل. وقال الجوهري: قال أبو عمرو: البعل والعدْي واحد، وهو ما سقته السماء. وقال الربيع: قال الشافعي: البعل الذي بلغت عروقه الماء. والعَثَرِي -بفتح العين، وفتح الثاء المثلثة، وكسر الراء، وتشديد الياء: العذي من المزروعات التي لا يسقيها إلا ماء المطر. والعشور: جمع عشر، والمراد: ففي كل ما بلغ النصاب العشر. والنضح: أراد به هاهنا: الاستقاء. والناضح: البعير الذي يستقي عليه، يقولون: فلان يسقي نخيله بالنضح، وهو مصدر نضحت أنضح نضحًا، وهو في الأصل الماء القليل، وهو الشرب دون الري هذا الأصل، فكان مما يسقى بالاستقاء يكون شربه قليلاً، خلاف ما يشرب من الأنهار والعيون. والسواني: جمع سانية وهو ما يستقى عليه من الإبل والبقر، تقول منه: سنا سنوا إذا استقى. وهذا الحديث: مسوق لبيان المقدار الذي تجب فيه الزكاة منها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد الله بن نافع، عن محمد ابن صالح التمار، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن عتاب بن أسيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في زكاة الكرم: "يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا، كما تؤدى زكاة النخل تمرًا". ¬

_ (¬1) راجع اللسان مادة: (بعل) ففيه بحث هام حول هذا المعنى.

ويإسناده: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم". هذا حديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. فأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن عبد العزيز بن السري، عن بشر بن منصور، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري بالإسناد، وعن محمد بن إسحاق المسيبي، عن عبد الله بن نافع بالإسناد قال "أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص من العنب كما يخرص النخل، فتؤخذ زكاته زبيبًا، كما كؤخذ صدقة النخل تمرًا". وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن أبي عمرو مسلم بن عمرو الحذاء المديني، عن عبد الله بن نافع بالإسناد واللفظ. وقد أخرج الترمذي أيضاً الرواية الثانية بهذا الإسناد، وقال الترمذي: وقد روى ابن جريج هذا الحديث عن ابن شهاب عن عروة، عن عائشة: قال: وسألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا الحديث؟ فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ، وحديث سعيد بن المسيب، عن عتاب بن أسيد أصح (¬3). وأما النسائي (¬4): فأخرجه، [] (¬5). الخرص والخرز: التقدير بخرز ما في رؤوس النخيل من الرطب كم يصح منه تمر، وكذا ما في الكرم من العنب كم يصح منه زبيب، تقول: خرصت النخلة أخرصها خرصًا، والاسم الخرص بالكسرة ... ¬

_ (¬1) أبو داود (1603/ 1604). (¬2) الترمذي (644) وقال: هذا حديث حسن غريب. (¬3) عند الترمذي: أثبت وأصح. (¬4) النسائي (5/ 109). (¬5) بالأصل بياض وأما بإسناد النسائي فقد أخرجه عن [عمرو بن علي، عن بشر ويزيد، قالا: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب به] مرسلًا.

فأما كيفية الخرص: فإنهم كانوا إذا أدركت الثمار من الرطب والعنب مما فيه الزكاة، بعث السلطان خارصًا فخرص عليهم، وهو أن ينظر من يبصر ذلك، فيقول: يخرج من هذا من التمر أو من الزبيب كذا، فيحصي عليهم وينظر مبلغ العشر من ذلك فيثبت عليهم، ثم يتخلى يينهم وبين الثمار فيصنعون بها ما أحبوا، فإذا أدركت الثمار أخذوا منها العشر، وكانوا إذا خرصوا تركوا بعض ما أدى إليه اجتهادهم مسامحة واحتياطًا، لئلا يكون قد جزفوا وزادوا في الخرز. والثمار: جمع: الثمر، والثمر: جمع ثمرة وحقيقته: أنه جنس لها، وما كان من هذا القبيل فإن أهل اللغة يسمونه جمعًا، [والنحويون] (¬1) يسمونه جنسًا، وجمع الثمار: ثمر، وقد جعل الاستعمال الشرعي والعرفي والفقهي الثمرة والثمار خاصاً بثمرة النخيل، وأكثر ما يطلقونه في كلامهم عليها, ولهذا قال في الحديث: "كان يبعث عليهم من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم" يريد بثمارهم: ثمرة نخيلهم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الصلاح إذا بدأ في الثمار، وابتداء الصلاح هو أن تدور فيه الحلاوة، فإذا استقر الخرص خيرَّ الخارص أربابها، فإن رضوا بها سلمها إليهم وصارت الزكاة في ذمتهم إلى وقت الإدراك، وإن لم يرضوا به كان في أيديهم أمانة، وليس لهم أن يتصرفوا فيه بشيء من أكل أو بيع أو غير ذلك. وبه قال أكثر أهل العلم، وعليه العمل بين الأئمة والفقهاء. وروى عن الشعبي أنه قال: الخرص بدعة. ولا يتابع عليه. قال الشافعي: وأحسب أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخرص النخل والعنب لشيئين: أحدهما: أن ليس لأهله منع الصدقة منه، وأنهم مالكون [لتسعة] (¬2) أعشاره وعشره لأهل السهمان، وكثير من منفعة أهله به إنما تكون إذا كان رطبًا وعنبًا، ¬

_ (¬1) في الأصل [النحيون]. (¬2) في الأصل [لقسمة] والمثبت من "الأم" (2/ 32) وأيضاً في "المعرفة" (6/ 109).

ولو منعوه ليؤخذ عشره أضر بهم، ولو ترك خرصه منع (¬1) حق أهل السهمان فيه بأنه يؤخذ ولا يحصى خرصه -والله أعلم- وخلى بينهم ويينه بالرفق بهم والاحتياط لأهل السهمان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ليهود خيبر -حين افتتح خيبر-: "أقركم ما أقركم الله على أن الثمر بيننا وبينكم" قال: فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليه، ثم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه. هذا الحديث صحيح وكذا رواه مالك (¬2) مرسلاً، إلا أنه قال: فيخرص يينه وبينهم. وأخرج البخاري (¬3) هذا المعنى في جملة حديث طويل من رواية عبيد الله بن عمرو، عن نافع، عن ابن عمر. قوله: "أقركم ما أقركم الله " يعني أنه يمكنهم من القرار والمقام ببلدهم مهما لم ينزل في إجلائهم وحي، أو يكون قد قدر الله انتزاحهم عن أوطانهم، وفي هذا إشارة إلى ما وفق له عمر بن الخطاب أيام خلافته، من إجلائه إياهم إلى أرض الشام، وبهذا الحديث أخذ عمر في إجلائهم. وقوله: "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي" هو تخيير لهم من الخارص لأنه يكون قد عدل في الخرص، وأنه على ثقة من فعله، وأنه لم يحف في خرصه وبذل فيه وسعه وما أدى إليه اجتهاده، فإنه إذا خيرهم، ما يتطرق إليه تهمة، ¬

_ (¬1) في "الأم" و"المعرفة": "ضيع". (¬2) "الموطأ" (2/ 703) رقم (1). (¬3) البخاري (2328).

ولهذا قد جاء في رواية البخاري (¬1) التي أشرنا إليها، أنهم كانوا يتضورون من خرص عبد الله ابن رواحة، حتى أنهم أرادوا أن يعطوه رشوة ليخفف عنهم، فقال لهم عبد الله: والله لقد جئتكم من أحب الناس إليَّ ولأنتم أبغض إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. والذي ذهب إليه الشافعي: أن هذه معاملة صحيحة وهي المساقاة، وعليها العمل عند الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة والمجتهدين، أن يعطى المالك أجيره بعض ثمرة ملكه في مقابلة عمله. وقال أبو حنيفة: هي معاملة فاسدة لا تصح. ولم يتابع عليه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبين اليهود. هذا الحديث صحيح أخرجه هكذا مالك (¬2) مرسلًا قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حُليًا من حلي نسائهم، فقالوا: هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة: يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سحت وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. ¬

_ (¬1) كذا عزاه للبخاري وهو وهم فليس عنده من الرواية المشار إليها، والحديث سوف يأتي قريبا من المسند؛ الحديث الآتي. (¬2) "الموطأ" (2/ 703 - 704) رقم (2).

وقد أخرج الشافعي في القديم هذه الرواية عن مالك أيضًا (¬1). الحلي والحلي للنساء: معروف، تقول: حليت المرأة أحليها حليًا وحلوتها: إذا جعلت لها حليًا، وحليتها تحلية شدد للكثرة، وحليت: إذا صارت ذات حلي. والتجاوز: التسامح والتساهل كأنه يتركه مكانه ويدعه بحاله. والقسم -بفتح القاف- مصدر قسمت الشيء أقسمه قسمًا، والقسم -بالكسر- النصيب. والحيف: العدوان ومجاوزة الحد. والظلم: الجور. والرشوة -بضم الراء وكسرها- البواطيل والجمع رشىً رشِىٍ ورشاه يرشوه رشوا، وارتشى: أخذ الرشوة. والسحت: الحرام، وقد تضم حاؤه. وقوله: "بهذا قامت السموات والأرض" أي ثبتت مكانها، يعنون: بالعدل والحق. وقد أخرج الشافعي في القديم (¬2) قال: وذكر معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للخراص (¬3): ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "المعرفة" (6/ 110) رقم (8174) عنه. وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (21/ 196). هكذا روى مالك في حديثه عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب مرسلًا وتابعه معمر، وأكثر أصحاب ابن شهاب على إرساله، وقد وصلته منهم طائفة منهم: صالح بن أبي الأخضر، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ...... (¬2) انظر "المعرفة" (6/ 112). (¬3) في الأصل [للخراصون] والمثبت من "المعرفة".

"لا تخرصوا العرايا". قال: وأخبرنا سعيد بن سالم القداح، عن ابن جريج، عن فطير (¬1) الأنصاري "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخرص العرايا ولا أبو بكر ولا عمر". قال: وأخبرنا رجل عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار: أن عمر بن الخطاب كان يبعث أبا خيثمة خارصًا يخرص النخل، فيأمره إذا وجد القوم في حائطهم أن يدع لهم قدر ما يأكلون ولا يخرصه. وقال في القديم (¬2): أخبرني هشام بن يوسف أن أهل حفاش (¬3) أخرجوا كتابًا من أبي بكر الصديق في قطعة أديم إليهم يأمرهم أن يؤدوا عشر الورْس (¬4). قال الشافعي: ولا أدري أثابت هذا وهو يعمل به في اليمن، فإن كان ثابتًا عشر قليله وكثيره. قال البيهقي (¬5): لم يثبت في هذا إسناد يقوم بمثله الحجَّة. وقد أخرج الشافعي (¬6): عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه -زاد في القديم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وسقط ذكر رسول الله من كتاب الجديد- قال: لا يخرج في الصدقة الجعرور، ولا مِعَى الفأرة، ولا عذق ابن حُبَيْق. وأخرج عن مالك (¬7)، عن زياد بن سعد، عن الزهري: لا يخرج في صدقة النخل الجعرور، ولا مصران الفأرة، ولا عذق ابن حبيق. ¬

_ (¬1) في الأصل [فطر] والمثبت من "المعرفة" (6/ 112). وفطير ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 139) وابن حبان في "الثقات" (5/ 299). (¬2) "المعرفة" (6/ 119). (¬3) جبل باليمن في بلاد حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. "معجم البلدان" (2/ 274) (¬4) نبت أصفر يصبغ به "النهاية" (5/ 173). (¬5) "المعرفة" (6/ 119). (¬6) "المعرفة" (6/ 106). (¬7) "الموطأ" (1/ 227) رقم (34).

قال الشافعي: وهذا ثمر رديء جدًا، أو يترك لصاحب الحائط جيد الثمر ويؤخذ وسط من الثمر. وهذا الحديث رواه سيفان بن حسين، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه أبو الوليد الطيالسي: عن سليمان بن كثير، عن الزهري (¬1). ... ¬

_ (¬1) كذا قال البيهقي في "المعرفة" (6/ 106 - 107) وانظر أيضًا "الاستذكار" لابن عبد البر (9/ 242 - 243).

الباب الرابع في زكاة النقدين والحلي

الباب الرابع في زكاة النقدين والحلي أخبرني الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أنه قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان قال: حدثني عمرو بن يحيى المازني بهذا الحديث. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن [أبي] (¬1) صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس فيما دون خمسة أواقي صدقة من الورق". هذا طرف من الحديث الصحيح الذي تقدم ذكره في الثاني، وقد تقدم ذكر طرقه واتفاق الجماعة عليه، والشافعي قد فرقه في ثلاثة أبواب في باب "زكاة الإبل"، وفي باب "زكاة الثمار والزرع"، وفي باب "صدقة الوَرِق" وهو هذا، وهذه الأطراف الثلاثة هي مجموع الحديث، وقد ذكرناه وأشبعنا القول في معناه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الفضة والدراهم وغيرها إذا بلغت مائتي درهم -وهو نصابها- وجب فيها ربع عشر قليلاً كان أو كثيراً. وروي ذلك عن علي، وبه قال ابن عمر، والنخعي، وابن أبي ليلى، ومالك، والثوري، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا شيء في الزيادة على المائتين حتى تبلغ أربعين درهما. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والصواب إثباته وقد تقدم.

وبه قال ابن المسيب، وعطاء بن [أبي] (¬1) رباح، والحسن البصري، وطاوس، والشعبي، ومكحول، وعمرو بن دينار، والزهري. قال الشافعي: فإذا بلغ الوَرِق خمس أواق، وذلك مائتا درهم بدراهم الإِسلام، وكل عشرة دراهم من دراهم الإِسلام سبعة مثاقيل، ذهب بمثاقيل الإِسلام، ففي الورق صدقة. واحتج في القديم في معنى الأوقية بحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: "سألت عائشة: كم كان صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: اثنى عشر أوقية ونش، وقالت: النش نصف أوقية، والأوقية أربعون درهما وذلك خمسمائة درهم" (¬2). وقال الشافعي: ولا أعلم خلافًا في أن ليس في الذهب صدقة حتى يبلغ عشرين مثقالاً، فإذا بلغ عشرين مثقالًا ففيها الزكاة. وقال في كتاب "الرسالة" (¬3): وأخذ المسلمون من الذهب صدقة إما بخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغنا، وإما قياسًا على أن الذهب والورق نَقْدُ الناس الذين اكتنزوا وأجازوه أثمانًا على ما [تبايعوا به] (¬4) في البلدان قبل الإِسلام. وبعده قلت: وقد ثبت في الحديث الصحيح (¬5) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره". ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والصواب إثباته. (¬2) أخرجه مسلم (1426). (¬3) "الرسالة" (192 - 194). (¬4) من الرسالة. (¬5) "صحيح مسلم" (987) مطولاً.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج منه الزكاة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة: "أن عائشة كانت تحلي بنات أخيها، وكانت لا تخرج زكاته". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬1) إسنادًا ولفظًا. الولاية على اليتيم: أن يكون ناظرًا في أمره وتربيته وحفظ ماله والنفقة عليه، واليتامى: جمع يتيم، ويجمع اليتيم أيضًا على أيتام، والأنثى يتيمة، واليتيم في الناس من قبل الأب، وفي البهائم من قبل الأم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الحلي على ضربين: مباح، ومحظور، فالمحظور: تجب فيه الزكاة كالخلخال، والسوار للرجال. وأما المباح: كحلي النساء فلا زكاة فيه. وقال ابن الصباغ: لا زكاة في المباح. في القديم وفي البويطي قال: وقال في الأم ما يدل أنه على قولين، فالمسألة عند الأصحاب على قولين: أحدهما: لا زكاة فيه. وروي ذلك عن ابن عمر، وجابر، وأنس، وعائشة، وإليه ذهب ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن سيرين، ومجاهد، والزهري وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد. والقول الثاني: تجب فيه الزكاة. وروي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن ¬

_ (¬1) "الموطأ" (214) رقم (10).

عباس، وابن عمرو بن العاص، وإليه ذهب الشافعي، والحسن البصري، والقاسم بن محمد، وبه قال أبو حنيفة والثوري. قال الشافعي في القديم: وروى هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر "أن أسماء بنت أبي بكر كانت تحليهن ولا ترى فيه زكاة". وقال: ويروى عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص "أن في الحلي زكاة". قال: وهذا مما أستخير الله -تعالى- فيه. قال: ومن قال: في الحلي صدقة، قال: هو وزن من فضة قد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل وزنه صدقة، ووزن من ذهب قد جعل المسلمون فيه صدقة. قال ابن المنذر: كان الشافعي يقول: إنه لا زكاة فيه إذ كان بالعراق، فلما صار بمصر وقف عنه، وقال: هذا مما أستخير الله فيه. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان [يحلي] (¬1) بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج منه الزكاة". هذا حديث صحيح أخرجه مالك إسنادًا ولفظًا (¬2)، وقال فيه: ثم لا يخرج من حليهن الزكاة، وهو مؤكد للحديث قبله مقرر للحكم فيه. والضمير في "منه" راجع إلى ما دل عليه قوله: "كان يحلي بناته" (¬3) التقدير: ثم لا يخرج مما كان يحليهن الزكاة، وكذلك جاء به في رواية مالك صريحًا، فقال: ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. ¬

_ (¬1) في الأصل [يلي]، وهو تصحيف والمثبت من "الأم" (2/ 41) ومطبوعة المسند (2/ 628). (¬2) "الموطأ" (1/ 214) رقم (11). (¬3) في الأصل [نهاية] وهو تصحيف، وقد تقدم في الرواية على الصواب.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال: سمعت رجلاً يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي أفيه الزكاة؟ قال جابر: لا. فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار؟ فقال جابر: كثير. قوله: "أفيه الزكاة" معناه أيجب فيه إخراج الزكاة. وقوله: "كثير" مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: ذلك كثير أو هذا كثير، والمراد به: أن الحلي إذا بلغ هذا المقدار، فقد كثر وتموج عن حد ما جرت به العادة من الحلي، فكأنه لكثرته وقف في نفي الزكاة عنه، وجعل الكثرة مؤثرة في القول بإسقاط زكاتها، لأنه يصير كالمال المكنوز الذي لا ينفق منه، بسبب صياغته وإرصاده للزينة. وإن من أسقط زكاة الحلي؛ فإنما أسقطها لقلتها في جاري العادة، ولحاجة النساء إليهن للتزين لبعولتهن، ولأنها ليست أموالًا مرصدة للتجارة، فيحصل من كسبها ما يحصل في الزكاة الخارجة منها. فأما إذا صارت بهذا المقدار، وبلغت هذه الرتبة من الكثرة، فكأنما جعلها صاحبها طريقًا إلى إسقاط زكاتها، بادخارها واصطناعها حليا ووسيلة إلى ذلك، على أن من قال: بإسقاط زكاة الحلي، لم يفرق بين كثيره وقليله حملا على أصل الباب، ويدل على ذلك ما رواه هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر "أنها كانت [تحلي] (¬1) بناتها الذهب، ولا تزكيه نحو من خمسين ألف" والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل [على] وهو تصحيف والتصويب من "المعرفة" (6/ 140).

الباب الخامس في زكاة التجارة

الباب الخامس في زكاة التجارة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا الثقة، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "ليس في العرض زكاة إلا أن يراد به التجارة". العرْض -ساكن الراء-: المتاع من الثياب وغيرها. العرَض -بفتح الراء-: عرض الدنيا ما كان من مال قل أو كثر. فأما زكاة ما يعد من الأموال للتجارة، فالذي ذهب إليه الشافعي: أن الزكاة تجب فيها. وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وابن عباس، وإليه ذهب الفقهاء السبعة: سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وخارجة بن زيد، والقاسم بن محمد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد. وقال داود: لا زكاة فيها. وحكى مثل ذلك عن ابن عباس، والذي حكاه ابن المنذر عن ابن عباس خلاف ذلك. والحول فيها معتبر، والنصاب في أول الحول وآخره دون الوسط على قول، وفي جميع الحول على قول، وفي آخر الحول فقط على قول. وقدر المخرج منه: هو ربع العشر مثل زكاة النقدين. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال: "مررت بعمر ابن الخطاب وعلى عاتقي آَدِمة أحملها، فقال عمر: ألا تؤدي زكاتك يا حماس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما لي غير هذه التي على ظهري وأهبة في

القرظ، فقال: ذاك مال فضع، فوضعتها بين يديه، فحسبها فوجدت قد وجب فيها الزكاة، فأخذ منها الزكاة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن أبي الزناد، عن أبي عمرو بن حماس، عن أبيه مثله. الآدمة -بالمد وكسر الدال-: جمع الأديم، يقال أديم، وأدمة مثل: رغيف وأرغفة. فأما الأدمة -بفتح الهمزة والدال والميم-: وهي باطن الجلد الذي يلي اللحم والبشرة ظاهره. والإهاب -بكسر الهمزة-: الجلد قبل أن يدبغ والجمع: أهب بوزن حمل على غير قياس، فأما أهبة: فيحتمل أنه أدخل الهاء لتأنيث اللفظة. فأما القرظ: فهو ورق السلم يدبغ به، وأديم مقروظ. وقوله: "ذلك مال" يريد أن الذي هو في القرظ أيضًا مال، وإن لم يكن قد تكامل دباغه فإنه. [بعرضية أنواع] (¬1) والصلاح والانتفاع. وقوله: "فحسبها فوجدت قد وجبت فيها الزكاة" يريد: أنه ثمَّنها وقوَّمها ذهبًا أو وَرِقًا وجمع قيمتها، فبلغت نصابًا تجب في مثله الزكاة. وهذا الحديث: يستدل به على أن الأموال المرصدة للتجارة تجب فيها الزكاة. قال الشافعي في القديم: اختلف أصحابنا في العرض للتجارة، فقال منهم قائل: لا زكاة فيه، وروى فيه عن ابن عباس وذكر حجته فيه. قال الشافعي: وقال بعض أصحابنا: إذا أريد بالعرض التجارة ففيه الزكاة، وكان هذا أحب الأقاويل إليَّ، لأن عبد الله بن عمر ذكر عن نافع، عن ابن ¬

_ (¬1) كذا بالأصل.

عمر أنه قال: ليس في العرض زكاة إلا أن يكون للتجارة. قال: وإسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف، فكان اتباع حديث ابن عمر لصحته، والاحتياط في الزكاة أحب إلي -والله أعلم. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن رزيق بن حكيم (¬1)، أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: أن انظر من مر بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم من التجارات من كل أربعين دينار دينارًا، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين ديناراً؛ فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئًا. هكذا رواه الشافعي في كتاب القديم والجديد مختصراً، ورواه في كتاب اختلافه مع مالك (¬2) بطوله عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن زريق بن حيان هذا، قال زريق بن حيان (¬3)، فكان زريق على جوار مصر زمان الوليد بن سليمان، وعمر بن عبد العزيز، فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: أن انظر من مر بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون التجارات من كل أربعين دينارٍ دينارًا، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارًا، فإن نقصت من عشرين دينارا ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئًا، ومن مر بك من أهل الذمة فخذ مما يديرون من التجارات من أموالهم، من كل عشرين دينار دينارًا، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير، فإن نقصت فدعها ¬

_ (¬1) في الأصل [حليم] والمثبت من "الأم" (2/ 64) و"مطبوعة المسند" (2/ 662). ورزيق بن حكيم هو أبو حكيم الأيلي والي أيلة لعمر بن عبد العزيز، وثقه النسائي وقال ابن ماكولا: كان عبدًا صالحاً، ووثقه الحافظ في "التقريب" وراجع ترجمته من "التهذيب". (¬2) وأخرجه مالك في "الموطأ، (1/) (20) وانظر "المعرفة" (6/ 149). (¬3) مختلف في ضبطه، قال الإِمام المزي في "تهذيب الكمال": هكذا ذكره البخاري، وغير واحد في باب الراء، وذكره آخرون فيمن اسمه رزيق بتقديم الزاي منهم أبو زرعة الدمشقي. قال: ورزيق لقب، واسمه: سعيد بن حيان ثم ذكر أنه روى عن عمر بن عبد العزيز وعنه يحيى ابن سعيد.

ولا تأخذ منها شيئًا، واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابًا إلى مثله من الحول. قال الشافعي (¬1): نوافقه في قوله: "فإن نقصت ثلث دينار فدعها، ويخالفه في أنها إذا نقصت عن عشرين دينارًا، أقل من حبة لم نأخذ منها شيئًا، لأن الصدقة إذا كانت محدودة بأن لا يؤخذ إلا من عشرين، فالعلم يحيط أنها لا تؤخذ من أقل من عشرين بشيء ما كان الشيء. قال: إذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" فهو كما قال: ولو نقصت حبة لم يكن فيها صدقة، لأن ذلك دون خمس أواق، قال: وبهذا كله نأخذ، وهو قول أكثر من حفظت وذكر لي عنه من أهل العلم بالبلدان. وفي هذا الحديث من الفقه: أن أموال التجارات من الأموال الظاهرة، فإن الإمام له أن يأخذ زكاتها من أربابها، وإن لم يدفعوها إليه من أنفسهم، وأن أموال التجارات تجب فيها الزكاة، وأن زكاتها زكاة النقدين، وأن ما زاد على النصاب ولم يبلغ نصابًا آخر تجب فيه الزكاة، وأن ما نقص من النصاب الأول وإن كان قليلاً يسقط الزكاة عنه، وأن نصاب الذهب (¬2) عشرون دينارًا. وأما كون أموال (¬3) التجارة من الأموال الظاهرة فظاهر، لأنها غير مخفاة بخلاف الذهب والفضة. وأما أخذ الإمام زكاتها قهرًا، فسيجيء مفصلًا في موضعه، وأما بيان وجوب الزكاة في أموال التجارات، فقد ذكرناه في حديث ابن عمر. وأما كون نصاب الذهب عشرين دينارًا فهو أمر مجمع عليه لا خلاف فيه، ¬

_ (¬1) "الأم" (2/ 46). (¬2) في الأصل [الذهاب] وهو تصحيف. (¬3) في الأصل [أحوال] وهو تصحيف وقد تقدم اللفظ قريبا على الصواب.

إلا ما حكي عن طاوس، ومجاهد، وأيوب السختياني أنهم قالوا: يعتبر بالفضة فيما كان قيمته مائتي درهم. وحكي عن الحسن البصري أنه قال: لا تجب فيه شيء حتى يبلغ أربعين دينارًا. وأما زكاة ما زاد على النصاب ولم يبلغ نصابًا ثانيًا فصاعدًا. قال الشافعي: أوجب فيه الزكاة. وروى ذلك عن علي، وابن عمر، وبه قال النخعي، وابن أبي ليلى، ومالك، والثوري، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأحمد، وداود، وأبو يوسف، وحماد. وقال أبو حنيفة: لا يجب فيه شيء حتى يبلغ أربعة دنانير. وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وطاوس، والشعبي، ومكحول، وعمرو بن دينار، والزهري. وإما نقص من النصاب الأول: فإنه يسقط الزكاة عنه ولو أنها حبة واحدة، وسواء كان الذهب جيدًا أو رديئًا، وجاء جواز الجيد، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: إذا نقص النصاب نقصانًا يسيرًا يجوز به جواز الموازنة، أي أنه توجد كما توجد الموازنة وجبت الزكاة فيها. وقال أحمد نحو قول مالك. ***

الباب السادس في زكاة العدن والركاز

الباب السادس في زكاة المعدن والركاز أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الركاز الخمس". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الركاز الخمس". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الركاز الخمس". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بإسناد الرواية الثالثة ولفظها، إلا أنه رفعها إلى أبي هريرة، والشافعي لم يرفعها وأرسلها في كتاب الزكاة، ورواها في كتاب "اختلاف الأحاديث" موصولاً بذكر أبي هريرة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بالإسناد وزاد في رواية: "العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" ولأجل هذه الزيادة التي في أوله قال الشافعي في روايته: "وفي الركاز الخمس". فأدخل واو العطف في, لأنها معطوفة على غيرها من هذه المعاني الثلاثة، الزئدة في رواية البخاري، وإنما أفرد الشافعي هذا الطريق لحاجته إليه. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 214) رقم (9). (¬2) البخاري (1499).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وقتيبة وابن رمح، عن الليث، عن الزهري بالإسناد ولفظ البخاري. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن سفيان، عن الزهري بلفظ البخاري. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن الزهري بلفظ البخاري. وعن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، عن الزهري. الركاز مختلف فيه بين الفقهاء وأهل اللغة: قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمعت أهل العلم: أن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ما لم يطلب بمال، ولا يتكلف فيه نفقة ولا كثير عمل ولا مؤنة، فأما ما يطلب بمال ويكلف كثير وعمل، فأصاب مرة وأخطأ مرة فليس بركاز. وإلى هذا ذهب أهل الحجاز، وبه قال الشافعي، وقال أهل العراق: إنه المعدن، وأصله من ركزت الشيء في الأرض أركزه ركزًا إذا أثبته. فعلى القول الأول: أن صاحبه والذي دفنه وركزه فيها. على القول الثاني: أن الله -سبحانه- ركزه فيها. ¬

_ (¬1) مسلم (1710). (¬2) أبو داود (4593). (¬3) الترمذي (1377). وقال حسن صحيح. (¬4) النسائي (5/ 44 - 45).

وأما أرباب اللغة: فإن الأزهري قال: أطلق الركاز على الأمرين. وقيل: إن الركاز قطع الفضة تخرج من المعدن. وقيل: ومن الذهب أيضًا، وإذا أصاب الرجل ذلك قيل هذا ركز. و"العجماء": هي البهيمة. و"الجبار": الهدر. و"المعدن": المكان من الأرض يخرج منه شيء من الجواهر والأجساد، كالذهب، والحديد، والنحاس، والرصاص، والكبريت وغير ذلك. و"البئر": معروفة. والمراد من هذه الأحكام: أن التالف بالبهيمة والمعدن والبئر إذا كان أجيرًا فإنه يذهب دمه هدرًا، وسيجيء هذا الحكم وتفصيله وذكر الخلاف فيه في موضعه من كتاب "الديات والقصاص" -إن شاء الله تعالى. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الركاز: وهو المال المدفون في الجاهلية مما لا اسم عليه لمالك معروف؛ إذا ملكه إنسان بظهوره على يده، وجب عليه فيه الخمس ولا يعتبر فيه الحول. وأما النصاب: فقال في القديم: لا يعتبر، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وأبو عبيد، وإسحاق، وأصح الروايتين عن مالك. وقال في الجديد: يعتبر فيه النصاب. وقال في القديم: جميع ما يؤخذ من الركاز يخمس. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وإحدى الروايتين عن مالك. وقال في الجديد: لا يخمس منه إلا الذهب والفضة. ومصرف خمس الركاز: مصرف مال الزكاة.

وقال أبو حنيفة: مصرفه مصرف الفيء. وبه قال أحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، والمزني. قال بعض العلماء: قد ظهر من جنس ترتيب الشرع التدريج في المأخوذ من المال الذي يزكى على حسب التعب فيه، فاعلًا ما يؤخذ الخمس مما يوجد من أموال الجاهلية ولا تعب في ذلك، ثم ما فيه من التعب من طرف واحد يؤخذ منه نصف وهو العشر فيما سقت السماء والعيون، وما سقي بالنضح فكان فيه التعب من طرفين يؤخذ منه ربع الخمس وهو النصف، وما فيه التعب في جميع الحول كالعين، يؤخذ منه ثمن الخمس وهو ربع العشر، فالمأخوذ إذًا الخمس، ونصفه، وربعه، وثمنه. قال الشافعي: والركاز الذي فيه الخمس دفن الجاهلية، ما وجد في غير ملك لأحد في الأرض التي من أحياها كانت له، فمن وجد دفنًا من دفن الجاهلية في موات، فأربعة أخماس له والخمس لأهل سهمان الصدقة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن داود بن شابور ويعقوب بن عطاء، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال -في كنز وجده (¬1) رجل في خربة جاهلية-: "إن وجدته في قرية مسكونة، أو سبيل ميتاء فعرفه، وإن وجدته في خربة جاهلية، أو في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس". هذا حديث أخرجه أبو داود والنسائي. أما أبو داود (¬2): فأخرجه بزيادة في أوله عن قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده وذكر حديثاً وقال في آخره ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [في] قبل [رجل] وهي زيادة مقحمة لم تثبت في الأصول كـ "الأم" و"المعرفة" و"المسند". (¬2) أبو داود (1710).

عن اللقطة فقال: "ما كان منها في طريق الميتاء والقرية الجامعة فعرفها سنة، فإن جاء طالبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فهي لك، وما كان في الخراب -يعني- ففيها وفي الركاز الخمس". وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن عبد الله بن الأخنس (¬2)، عن عمرو بن شعيب بإسناده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة؟ فقال: "ما كان في طريق مأتي أو قرية عامرة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فلك، وما لم يكن في طريق مأتي ولا فى قرية عامرة، ففيه وفي الركاز االخمس". الكنز: المال المدفون هذا هو الأصل، وقد جاء في بعض الحديث: "كل ما لم تؤد زكاته فهو كنز" وقد تقدم القول في ذلك، والمراد في هذا الحديث هو الأول. والسبيل: الطريق ويذكران فيؤنثان (¬3). والميتاء الطريق المسلوك الذي يأتيه الناس كثيراً، وهو مفعال بوزن مرباع من الاتيان. والقرية الجامعة: هي المسكونة التي فيها جماعة من رجال ونساء وأولاد، فكأنها قد جمعت أخلاطًا من الناس. وقوله: "ففيه وفي الركاز الخمس" ظاهره يدل على أن الركاز غير المال المدفون لأنه عطفه عليه، ومن ذهب إلى أن الركاز المال المدفون، فوجه الجمع بينهما: أنه لما كان الكلام جاريًا في معنى مال مدفون موجود في قرية خربة جاهلية، قال: ففي هذا الخاص المسئول عنه، وفي جميع الأموال الموصوفة بهذه ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 44). (¬2) في الأصل [أخنس] والمثبت من النسائي وكذا ترجمه المزي في تهذيبه وغيره. (¬3) كذا بالأصل ولعل ذكر الفاء مصحف من [الواو].

الصفة الخمس، وتلك الأموال هي الركاز، وهذا نوع فاش في العريية مقصود إليه، وعليه جاء قول الله -عز وجل-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬1)، وقوله تعالى: (¬2) {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬3) ولا شك أن إبراهيم من الأنبياء، وجبريل من الملائكة، إلا أن ذكر هؤلاء لبيان فضيلتهم على الأنبياء والملائكة، وهو بيان تخصيص. وقوله: "وفي الركاز" بيان تعميم وإعطاء حكم هذا الخاص جميع ما أطلق عليه اسم الركاز. ولما كان حكم هذا الموجود، قد يكون في بعض صوره لقطة لا ركازًا، قال: "ففيه وفي الركاز الخمس" حتى يتبين أن الحكم بجميع الأمرين إذا اشتركا في وصف واحد. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا [سفيان بن] (¬4) عيينة، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: "جاء رجل إلى علي -عليه السلام- فقال: إني وجدت ألفًا وخمسمائة درهم في خربة بالسواد، فقال علي: أما لأقضين فيها قضًاء بيِّنا: إن كنت وجدتها في قرية تؤدي خراجها قرية أخرى فهي لأهل تلك القرية، وإن كنت وجدتها في قرية ليس تؤدي خراجها قرية أخرى، فلك أربعة أخماسه ولنا الخمس ثم الخمس لك". قال الشافعي في غير هذه الرواية: وقد روي عن علي بإسناد موصول أنه قال: أربعة أخماسه لك واقسم الخمس في فقراء أهلك. وهذا الحديث أشبه ¬

_ (¬1) [النساء: 163]. (¬2) في الأصل [قل من ...] وهو خطأ. (¬3) [البقرة: 98]. (¬4) تكررت في الأصل.

بعلي (¬1) -رضي الله عنه-. السواد: يريد به أرض العراق وقرأها "وأرض السواد" في كتب الفقه عبارة عن الأماكن من العراق التي ضرب عليها عمر بن الخطاب الخراج وهي ما بين حديثة الموصل (¬2) إلى عبَّادان (¬3) طولاً، وما بين حلوان إلى الكوفة عرضًا. والقضاء البين: الواضح المكشوف فنقل من البيان الظهور. ويريد بالخراج: ما على أهل القرية من قرار [يؤدونه] (¬4) إلى بيت المال عن الأرض، وإنما جعل المال الموجود لمن يؤدي خراج القرية، لأنها في حكم إجارتهم. وإذا وجد المستأجر في الأرض ركازًا واختلف فيه هو والمالك، فالقول قول المستأجر عند الشافعي. وقال المزني: القول قول المالك. وإذا لم تكن الأرض في يد من يؤدي خراجها، كانت مشتركة بين المسلمين، وكان الركاز لمن وجده والخمس في الجميع واجب. ومعنى قوله: "ثم الخمس لك" يجوز أن يكون منحة من علي لأنه الإِمام، وللإِمام أن يعطي من يراه من بيت المال ما يراه. والله أعلم. وقد سبق القول أن الركاز: هو ما وجد في موات تملك بالأحياء سواء كان في دار الحرب أو دار الإِسلام، إذا لم يكن عليه علامة الإِسلام. ¬

_ (¬1) في الأصل [فعلى] والمثبت من "المعرفة" (6/ 175). (¬2) بليدة على دجلة بالجانب الشرقي، وقال حمزة بن الحميد: الحديثة تعريب نوكرد، وكانت مدينة قديمة فخربت وبقى آثارها فأعادها مروان بن محمد بن مروان إلى العمارة وسأل عن اسمها فأخبر بمعناه فقال: سموها الحديثة. انظر "معجم البلدان" (2/ 230 - 231). (¬3) هي موضع تحت البصرة قرب البحر الملح، فإن دجلة إذا قاربت البحر انفرقت فرقتين، وعبادان في هذه الجزيرة التي بين النهرين "معجم البلدان" (4/ 74 - 75). (¬4) تكررت في الأصل.

وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا كان في موات دار الحرب كان غنيمة لواجده ولا يخمس. وإن وكان عليه علامة الإِسلام كآية من القرآن واسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واسم أحد من خلفاء المسلمين، لم يكن ركازًا وكان لقطة يجب تعريفها. وإن كان عليه اسم أحد من الملوك الكفار أو صور وصلبان فهو ركاز، ولا أجبره على التعريف لأن الظاهر منه أنه ركاز. وإن وجد المال في أرض عليها الملك: فإن عرف مالكها لم يكن ركازًا، وإن كان مالكها حربيًا فهو غنيمة. وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف، وأبو ثور: يكون ركازًا. وأما إذا لم يعرف مالكه فهو ركاز. والله أعلم. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-: عن مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد من علمائهم: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع لبلال بن الحارث (¬1) المزني معادن القبيلة". وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم. قال الشافعي: وليس هذا مما يثبت عند أهل الحديث (¬2)، ولو أثبتوه لم يكن فيه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إقطاعه. وأما الزكاة في المعادن دون الخمس، فليست مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. قال الشافعي: وذهب بعض أهل ناحيتنا إلى أن في المعادن زكاة. ¬

_ (¬1) في الأصل [حارث] والمثبت من "الأم" (2/ 43) وكذا في "المعرفة" (6/ 162 - 163). وهذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 248) رقم (8) (¬2) قال ابن عبد البر في "التمهيد" (3/ 237 - 238): في "الموطأ" عند جميع الرواة مرسلًا, ولم يختلف فيه عن مالك، ثم ذكره من طرق موصولة وضعفها وانظر "التلخيص" (2/ 181).

وذهب غيرهم: إلى أن المعادن [ركاز] (¬1) فيها الخمس. وحكى أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي البغدادي عن الشافعي، أنه حكى عن أبي حنيفة أنه قال: المعادن كلها ركاز. وقال: واحتج بعض أصحابه بحديث رواه عن المقبري، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الركاز: الذهب خلقه الله يوم خلق الأرض". قال الشافعي: أما ما رويت عن أبي هريرة، فقد روى أبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد [وابن] (¬2) سيرين، ومحمد بن زياد وغيرهم عن أبي هريرة حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "في الركاز الخمس" لم يذكر أحد منهم شيئًا من الذي ذكره المقبري في حديثه، والذي روى ذلك شيخ ضعيف، إنما رواه عبد الله بن سعيد المقبري، وعبد الله قد اتقى الناس حديثه (¬3)، فلا يجعل خبر رجل قد اتقى الناس حديثه حجة، وقد زعم. أما مالك (¬4): فذكر حديث بلال بن الحارث، قال: وقد روى ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل بخمس أواق من معدن، فلم أخذ منها شيئًا. وهو حديث مرفوع عن أبي هريرة وفيه فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أصبت ¬

_ (¬1) في الأصل [وكان] وهو تصحيف والمثبت من "الأم" (2/ 43). (¬2) في الأصل [بن] وهو تصحيف والتصويب من "المعرفة" (6/ 164). (¬3) وقد وهاه جمهور لنقاد: قال أحمد: منكر الحديث، متروك الحديث. وقال ابن معين: ضعيف، وفي رواية: ليس بشيء. وقال البخاري: تركوه. وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، لا يوقف منه على شيء. وقال أبو حاتم: ضعيف. وقال النسانئ: ليس بثقة، تركه يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه الضعف عليه بين. وانظر "تهذيب الكمال" رقم (3293)، و"الميزان" (2/ 429). (¬4) في "المعرفة" (6/ 165): أن مالكًا.

هذا من معدن فخذ منه الزكاة، فقال: "لا شيء فيه ورده". قال الشافعي: وهذا خلاف رواية عبد الله بن سعيد، عن أبيه، عن جده. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ منها شيئًا, ولو كان فيها شيء لأخذه. فقد أجاب الشافعي عن قولهم: قد تقول العرب: أركز المعدن فإن قال: إنما تقول له ذلك إذا انقطع ما فيه، فلا تقول له وهو ينال منه، وأنت تزعم أنه في حال نيله مركز، والعرب لا تسميه في تلك الحال مركزًا. وقال في رواية الزعفراني، وإنما يقال: أركز المعدن عند البدرة تأتي منه، وهو يقول في الندرة وفي القليل؛ تأتي منه بخمس معًا كأن تقول: لا يخمس إلا إذا قيل: أركز المعدن، كان قد ذهب إلى ضعيف من القول أيضًا. وذلك أنه قد يقال: للرجل يوهب له الشيء، وللرجل يزكو زرعه، وللرجل يأتيه في تجارته أكثر مما كان يأتيه، ومن ثمره أكثر مما كان يأتيه، أركزت، فإن كان باسم الركاز اعتل، فهذا كله وأكثر منه يقع عليه اسم الركاز، وإن كان بالخبر، والخبر على دفن الجاهلية، واعتل بأن أسامة بن زيد أو هشام بن سعد أخبره عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: [كيف] (¬1) يرى في المتاع يوجد في الطريق الميتاء والقرية المسكونة؟ قال: "عرفه سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك به، وما كان في الطريق غير الميتاء، والقرية غير المسكونة ففيه وفي الركاز الخمس" قالوا: يا رسول الله، [كيف] (¬2) ترى في ضالة الإبل؟ قال: "مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها، تأكل الكلأ وترد الماء" قالوا: يا رسول الله، كيف ترى في ضالة الغنم؟ قال: "لك أو لأخيك أو للذئب، فاحبس على أخيك ضالته"، قالوا: يا ¬

_ (¬1) من "المعرفة" (6/ 167). (¬2) من "المعرفة" (6/ 168).

رسول الله، كيف ترى في حريسة الجبل (¬1)؟ قال: "فيها غرامتها ومثلها معها وجلدات نكال" وذكر الثمر المعلق بقريب من هذا المعنى. قال الشافعي: فإن كان حديث عمرو يكون حجة، فالذي يروي الحجة عليه في غير حكم، وإن كان حديث عمرو غير حجة فالحجة بغير حجة جهل، روى في حديث عمرو أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: غرامته ومثله معه وجلدت نكال، فإذا آواه الجرين ففيه القطع، وهو يقول: غرامته فقط وليس مثله معه، وتقول: لا يقطع فيه إذا آواه الجرين رطبًا. وروى في ضالة الإبل: "غرامتها ومثلها معها"، وتقول: غرامتها وحده (¬2) بقيمة واحدة لا مضاعفة. وروى في اللقطة: "يعرفها فإن جاء صاحبها وإلا فشأنه بها"، وهو يقول: إذا كان موسرًا لم يكن له أن يأكلها ويتصدق بها، فخالف حديث عمرو الذي رواه في أحكام [اللقطة] (¬3) واحتج منه بشيء واحد، إنما هو توهم، يشبه أن يكون أراد به ما يوجد من أموال الجاهلية، ظاهرًا فوق الأرض في الطريق غير الميتاء والقرية غير المسكونة، فقال: "فيه وفي الركاز الخمس". ... ¬

_ (¬1) قال المصنف في "النهاية" (1/ 367): يقال للشاة التي يدركها الليل قبل أن تصل إلى مراحها: حريسة. (¬2) في "المعرفة" [وحدها]. (¬3) من "المعرفة".

الباب السابع في زكاة العنبر والعسل

الباب السابع في زكاة العنبر والعسل أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أُذينة عن ابن عباس أنه قال: "ليس في العنبر زكاة، وإنما هو شيء دسره البحر". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس "أنه سئل عن العنبر فقال: إن كان فيه شيء ففيه الخمس". هذا الحديث ذكره البخاري (¬1) في ترجمة من أبواب كتابه الصحيح، قال: وقال ابن عباس: "ليس العنبر بركاز، هو شيء دسره البحر". الدسر: الدفع، ودسر يدسر دسرًا. والعنبر: هذا المعروف، وقد اختلف الناس في أصله ومعدنه، والذي تحقق منه: أنه يرى طافيًا على ماء البحر ولا يعلم من أين يظهر حقيقة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن جميع ما يخرج من البحر من اللؤلؤ والعنبر وغيرهما لا تجب فيه الزكاة ألا أن يكون للتجارة فتجب في ثمنه. وبه قال عامة الفقهاء. وحكى عن أبي يوسف: أن العنبر يجب فيه الخمس. وروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري. ¬

_ (¬1) كتاب الزكاة باب (65) ما يستخرج من البحر قبل حديث رقم (1498).

وقال عبد الله بن الحسن العنبري: تجب الزكاة في كل ما يخرج من البحر إلا السمك. وقول ابن عباس: إن كان فيه شيء ففيه الخمس، يريد أن تلحقه بالزكاة لقلة التعب في تحصيله، وهذا القول من ابن عباس إنما هو على سبيل الظن والاجتهاد، لأنه قال: "إن كان فيه شيء" وهذا ظن وشك. وقوله في الأولى: "إنما هو شيء دسره البحر" تعليل لنفي الزكاة فيه واستسلافًا أن ما أخرجه البحر لا زكاة فيه، ولولا ذلك لما جاز أن يعلل نفي الزكاة بأصل غير متفق عليه. والله أعلم. قال الشافعي في العنبر: لا شيء فيه ولا في مسك ولا غيرهما، خالف الزكاة والحرث والماشية والذهب والورق، وما أريد [به] (¬1) تجارة من العروض، أو خصه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن بعض أصحابه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا أنس بن عياض، عن الحارث ابن عبد الرحمن بن أبي ذباب، عن أبيه، عن سعد بن أبي ذباب قال: قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت، ثم قلت: يا رسول الله اجعل لقومي ما أسلموا عليه من أموالهم، ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستعملني عليهم، ثم استعملني أبو بكر، ثم عمر، قال: وكان سعد من أهل السراة، قال: فكلمت قومي في العسل، فقلت لهم: زكوه فإنه لا خير في ثمرة لاتزكى، فقالوا: كم؟ فقلت: العشر، فأخذت منهم العشر، وأتيت عمر بن الخطاب فأخبرته بما كان، فقبضه عمر فباعه ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين. هذا حديث حسن، وقد أخرج الترمذي في زكاة العسل حديثًا عن ابن ¬

_ (¬1) من "المعرفة" (6/ 146).

عمر (¬1)، وأخرج أبو داود (¬2) والنسائي (¬3) فيها حديثًا عن عمرو بن شعيب، وكلا الحديثين يتضمن أخذ العشر من العسل زكاة. قوله: "استعملني عليهم" جعلني عاملًا له على قومي، ورئيسًا فيهم ومقدمًا عليهم. وإنما سمى العسل ثمرة: لأنها شبيهة بالثمرة من حيث أن النحل يثمرها فسماها ثمرة مجازًا، كما يقال للولد: ثمرة الفؤاد ويقال: هذا ثمرة فعلك. ويجوز أن يكون سماه ثمرة: لأن النحل تجنيه من النبات، فشبهه بالثمرة التي تجتنى من الشجر. ¬

_ (¬1) الترمذي (629) ولفظ: "في العسل، في كل عشرة أزق زق". قال أبو عيسى: حديث ابن عمر في إسناده مقال ولا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء، وصدقة بن عبد الله ليس بحافظ وقد خولف صدقة بن عبد الله في رواية هذا الحديث عن نافع. ثم ساقه من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن المغيرة بن حكيم موقوفًا. وقال الحافظ في "التلخيص" (2/ 167). وقال النسائي: هذا حديث منكر، ورواه البيهقي وقال: تفرد به صدقة وهو ضعيف. وقد تابعه طلحة بن زيد عن موسى بن يسار، ذكره المروزي ونقل عن أحمد تضعيفه، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه فقال: هو عن نافع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل، ونقل الحاكم في تاريخ نيسابور عن ابن أبي حاتم عن أبيه قال: حدث محمد بن يحيى الذهلي بحديث كاد أن يهلك ... (¬2) أبو داود (1600). (¬3) النسائي (5/ 46) كلاهما من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشور نحل له، وكان سأله أن يحمي له واديًا يقال له: سلبة، فحمى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك الوادي، فلما ولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك، فكتب عمر -رضي الله عنه- "إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فاحم له سلبه، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء". وصحح إسناده إلى عمرو بن شعيب الشيخ الألباني -رحمه الله- في الإِرواء رقم (810) وانظر "التلخيص" (2/ 168).

قال الشافعي في القديم (¬1): الحديث في أن في العسل العشر ضعيف، وفي أن لا يؤخذ منه العشر ضعيف، إلا (¬2) عن عمر بن العزيز. وقال ابن المنذر: ليس في وجوب صدقة العسل حديث يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا إجماع ولا زكاة فيه. قال الشافعي: وسعد بن أبي ذباب يحكى ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[لم] (¬3) يأمره بأخذ الصدقة من العسل، وإنما هو شيء رآه فتطوع به أهله. وهذا الحديث قد رواه محمد بن عباد، عن أنس بن عياض كما رواه الشافعي، ورواه الصلت بن محمد، عن أنس بن عياض، عن الحارث بن أبي ذباب. وكذلك رواه صفوان بن عيسى، عن الحارث بن أبي ذباب (¬4). وتفصيل المذهب في زكاة العسل: أن الشافعي قال في القديم: محتمل أن يقال تجب، ويحتمل أن يقال: لا تجب وقطع في الجديد أنها لا تجب. وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، والثوري، والحسن بن صالح، وروى ذلك عن ابن عمر، وابن عبد العزيز. وقال أبو حنيفة: إن كان في غير أرض الخراج وجب فيه العشر قليلاً كان أو كيثرًا. وقال صاحباه: ليس فيما دون خمسة أوسق منه عشر. وقال أحمد: تجب بكل حال. وبه قال مكحول، وسليمان بن موسى، ¬

_ (¬1) "المعرفة" (6/ 120). (¬2) في "المعرفة": "ولا". (¬3) من "المعرفة" (2/ 156). (¬4) قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 156) -ترجمة سعد بن أبي ذياب- روى عنه حديث واحد في زكاة العسل بإسناد مجهول.

والأوزاعي، وإسحاق. وقد روى عبد الله بن محرر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن: أن يؤخذ من العسل العشر. قال البخاري: عبد الله بن محرر متروك الحديث، وليس في زكاة العسل شيء يصح (¬1). والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) وقال الموصلي في "المغني عن الحفظ والكتاب ... " (319). لا يصح عن النص - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كبير شيء وقال الشيخ بكر أبو زيد -حفظ الله- في رسالته "التحديث .. " معقباً على الموصلي: هذه الترجمة مما اضطربت فيه كلمة المحقق الواحد من العلماء فضلاً عنها فيما يينهم، فاختلفت فيها وجهة الشوكاني فذهب في نيل الأوطار إلى عدم الوجوب وأعل أحاديثها، وفي الدرر البهية وفي السيل الجرار قال: وأحاديث الباب يقوي بعضها بعضها.

الباب الثامن في زكاة الخيل والرقيق

الباب الثامن في زكاة الخيل والرقيق أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك بن أنس وسفيان بن عيينة، كلاهما عن عبد الله بن دينار، عن سليمان بن يسار، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن مكحول، عن سليمان بن يسار، عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن عراك، عن أبي هريرة مثله موقوفًا على أبي هريرة. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن آدم، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار بالإسناد قال: "ليس على المسلم في فرسه وغلامه صدقة". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وله في أخرى: عن أبي الطاهر وهارون بن سعيد، وأحمد بن عيسى، عن ابن وهب، عن مخرمة، عن أبيه، عن عراك بالإسناد، قال: "ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر". ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 232) رقم (37). (¬2) البخاري (1463). (¬3) مسلم (982).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وعن (¬2) محمد بن المثنى ومحمد بن يحيى بن فياض، عن عبد الوهاب عن عبيد الله، عن رجل، عن مكحول، عن عراك بالإسناد، قال: "ليس في الحيل والرقيق زكاة، إلا زكاة الفطر في الرقيق". وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن العلاء (¬4) ومحمود (¬5) بن غيلان عن وكيع، عن سفيان وشعبة، عن عبد الله بن دينار بالإسناد واللفظ. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك بالإسناد واللفظ. العبد: المملوك هاهنا وهو ضد الحر، ويجمع على: عبيد وأعبد وعباد، وأصله من الذل والخضوع. والفرس: معروف ويقع على الذكر والأنثى، ولا يقال: فرسة ويصغر على فرييس، وإن أريد به الأنثى خاصة قلت: فريسة. وقد جاء في بعض الروايات بدل "عبده": "غلامه"، ويريد به الغلام الذي هو عبد. والخيل: اسم يقع على جماعة الأفراس، لا واحد له من لفظه، ويقع على الذكر منها والإِناث ويجمع على خيول وقد تقع على الخيالة (¬7). ¬

_ (¬1) أبو داود (1595). (¬2) أبو داود (1594). (¬3) الترمذي (628). وقال: حسن صحيح. (¬4) في الأصل [الصلاح] والمثبت من الترمذي. (¬5) في الأصل [محمد] والمثبت من الترمذي. (¬6) النسائي (5/ 36). (¬7) قال في "اللسان" مادة خيل: وفي الحديث: يا خيل الله اركبي، قال ابن الأثير: هذا على حذف المضاف، أراد: يا فرسان خيل الله اركبي وهذا من أحسن المجازات وألطفها.

والرقيق: اسم جامع للعبيد والإِماء يقع على الواحد، وهو فعيل من الرق -الملك- والعبودية. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الخيل لا زكاة فيها. وروى ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وابن عبد العزيز، وعطاء، والنخعي، والشعبي، والحسن البصري، وبه قال مالك والأوزاعي، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن كانت ذكورًا أو إناثًا وجب فيها الزكاة، وإن كانت إناثًا كلها أو ذكورًا كلها فعنده فيها روايتان، وزكاتها عنده إلى خيار صاحبها، إن شاء أعطى من كل فرس دينارًا، وإن شاء قومها وأعطى ربع العشر قيمتها. وأما زكاة العبد: فيريد به زكاة الفطر وسيجيء بيانها، وإن أراد بها زكاة المال من حيث أن العبد مال، فلا قائل به إلا أن يكون معدًا للتجارة لا للخدمة، وحينئذ يكون حكمه حكم الأموال المرصدة للتجارة مجراها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار قال: سألت سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين، فقال: وهل في الخيل صدقة؟!. هذا الحديث ذكره الشافعي مؤكدًا للحديث الذي قبله. والبراذين: جمع برذون -بكسر الباء وفتح الذال- وهو كل فرس لم يكن من نتاج العرب، والأنثى برذونة. ومعنى قولى: "وهل في الخيل صدقة" جواب مسكت لأنه أخذ نفي الحكم مسلمًا، وأنه أمر مقرر عنده ثابت لديه أن الخيل لا زكاة فيها، وإن كنت أيها المخاطب تظن أن البراذين تنفصل عن حكم الخيل العربية فلا، وأن اسم الخيل يشمل الجميع. فكان هذا الجواب أحد وأبلغ من قوله -لو قال-: ليس

فيها صدقة، ولما فيه من التعريض إلى بيان السبب العام النافي لصدقة الخيل، وهو ما دل عليه قوله: "وهل في الخيل صدقة" واستبعاده لذلك فإنه استفهام واستبعاد وإنكار لسؤاله. والله أعلم. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال (¬1): أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار "أن أهل الشام قالوا لأبي عبيدة بن الجراح: خذ من خيلنا ومن رقيقنا صدقة، فأبى ثم كتب إلى عمر فأبى، ثم كلموه أيضًا فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر بن الخطاب: إن أحبوا فخذها منهم وارددها عليهم". قال مالك: يعني ردها على فقرائهم. ثم زاد فيه في القديم: وارزق رقيقهم. وأخرج أيضًا قال: وقد أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن السائب بن يزيد: "أن عمر أمر أن يؤخذ من الفرس شاتين، أو عشرة أو عشرين درهمًا". قال البيهقي (¬2): ففي الرواية الأولى عن عمر: دلالة على أمره بالأخذ منها كان لمسألتهم لا على الإيجاب. وقال الشافعي في كتاب حرملة: أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قد تجاوزت لكم عن صدقة الخيل والرقيق". وأما الذي رواه أبو يوسف، عن غورك بن الحضرم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "في الخيل السائمة في كل فرس دينارًا" فإن أبا الحسن الدارقطني قال: تفرد به غورك وهو ضعيف جدًا (¬3). ثم لو كان صحيحًا عند أبي يوسف لم نخالفه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) "المعرفة" (6/ 93). (¬2) "المعرفة" (6/ 94). (¬3) ترجمه الذهبي في "الميزان" (3/ 337)، والحافظ في "اللسان" (5/ 413).

الباب التاسع في زكاة مال الصبي والعبد والكاتب

الباب التاسع في زكاة مال الصبي والعبد والكاتب أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن يوسف بن ماهك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابتغوا في مال اليتيم -أو في مال اليتامى- لا تذهبها -أو لا تستهلكها- الصدقة". هذا حديث مرسل، يوسف بن ماهك تابعي كبير مشهور (¬1) سمع ابن عمر، وابن عباس، وابن عمرو بن العاص، وأم هانئ. والابتغاء: الطلب ويريد به التجارة. والاستهلاك: استفعال من الهلاك، وهو الفناء والعدم. وقد روى بالشك فقال: "مال اليتيم -أو مال اليتامى-" وهو إن أقرئ فإنما يريد به الجمع أن اتجروا في مال من يطلق عليه اسم اليتيم، ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى: "مال اليتامى". والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن مال الصبي تجب فيه الزكاة، وقد روى ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر، وجابر وعائشة، والحسن ابن علي، وعطاء، وجابر بن زيد، ومجاهد، وابن سيرين، وبه قال ربيعة، ومالك، والثوري، والحسن بن صالح، وابن عيينة، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وسليمان بن حرب. وقال الأوزاعي: في ماله زكاة ولكن لا يخرجها، بل يحصيها حتى يبلغ ويخرجها هو. وقال أبو حنيفة: لا تجب الزكاة في ماله وتجب في زرعه، وزكاة الفطر. وبه قال النخعي، وأبو وائل، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى. ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "التقريب": ثقة من الثالثة، مات سنة ست ومائة.

قال الشافعي (¬1) في قول الله -تعالى-: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬2): بين أن كل مالك تام الملك من حُرٍّ له مال فيه زكاة، سواء كان بالغًا أو صبيًا صحيحًا أو معتوهًا، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" الحديث، فدل على أنه إذا كان واحد منها لحر مسلم، ففيه الصدقة في المال نفسه لا في المالك. وقال: لو لم يكن لنا حجة إلا أن أصل مذهبنا ومذهبك، أن لا نخالف الواحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يخالفه غيره منهم كانت بهذا لنا حجة عليك، فأنتم تروون عن علي بن أبي طالب أنه ولى بني أبي رافع أيتامًا فكان يؤدي الزكاة عن أموالهم، ونحن نرويه عنه، وعن عمر بن الخطاب، وعائشة وابن عمر وغير هؤلاء، مع أن أكثر التابعين قبلنا يقولون به. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: "كانت عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- تليني [أنا] (¬3) وأخوين لي يتيمين في حجرها؛ فكانت تخرج من أموالنا الزكاة". هكذا أخرجه في كتاب الزكاة (¬4)، وعاد أخرجه في موضع آخر من المسند بهذا الإسناد قال: "كانت تليني وأخا لي في حجرها يتيمين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد وعبد الكريم بن أبي الخارق، وكلهم يخبره عن القاسم بن محمد قال: "كانت عائشة تزكي أموالنا، وإنه ليتجر بها في البحرين". هذا حديث صحيح قد أخرجه مالك في الموطأ (¬5) بالإسناد وذكر الرواية ¬

_ (¬1) "الأم" (2/ 27 - 28)، وانظر أيضًا "المعرفة" (6/ 67 - 68). (¬2) [التوبة: 103]. (¬3) من "الأم" (2/ 28)، و"مطبوعة المسند" (1) رقم (616). (¬4) "الأم" (2/ 28). (¬5) "الموطأ" (1/ 215) رقم (13).

الثانية. وليت الأمر إليه ولاية: إذا كنت المقيم به والناظر فيه، ومنه ولي اليتيم: وهو الذي يتولى أمره وحفظه وحفظ ماله وقد أعاد "أنا" وهو ضمير مرفوع متصل مؤكد للضمير في "تليني" وهو منصوب متصل. وكذلك جاء في رواية الشافعي الأولى "أخوين" وفي الثانية "أخا"، فعلى الأول يكون يتيمين منصوبًا لأنه صفة "أخوين" وعلى الثاني منصوبًا على الحال منه ومن "أخيه" والعامل فيه "تليني"، أي: تلينا في حال يتمنا. والحجر -بفتح الحاء وكسرها-: حجر الإنسان، وفلان في حجر فلان: أي في قبضته وتصرفه، تشبيهًا له كأنه في حجره يجرى عليه، ومنه قولهم: حجر عليه القاضي يحجر حجرًا: إذا منعه من التصرف في ماله، فكأن ولي اليتيم قد منع الصبي من التصرف في ماله. وقوله: "تخرج من أموالنا الزكاة" بتقديم الظرف على المفعول له معنى، وذلك أنه في هذا المقام مهتم بالحكم في مال اليتيم، وأن إخراج الزكاة هل تجب فيه أو لا؟ فقدمه لذلك، ولو قدم الزكاة لكان وجهًا، لأنه إنما يريد بيان الزكاة المتعلقة بمال اليتيم لا بيان غيرها، وكلاهما له معنى حسن. وقوله في الرواية الثالثة: "إنه ليتجر بها في البحرين" قد ينشأ من هذه الزيادة: جواز إخراج الزكاة في غير البلد الذي المال فيه. قال: "تزكي أموالنا" وعائشة إنما كانت تزكيها بالمدينة لأن مقامها بها. وقوله: "وإنه ليتجر فيها في البحرين" يعني: أن الأموال التي تخرج زكاتها كانت في بلد آخر، وهي تخرج زكاتها في هذا البلد، وهذا الحكم مبناه على جواز نقل الصدقة من بلد إلى بلد. وفيه للشافعي قولان:

أحدهما: لا يجوز. والثاني: يجوز. ومن الأصحاب من قال: لا يجوز قولًا واحداً، فإن نقلها ففي إجزائها قولان. فإذا قلنا: لا يجوز فيه، قال عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، وطاوس، والنخعي، ومالك، والثوري. وإذا قلنا يجوز فبه قال أبو حنيفة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار أن عمر بن الخطاب قال: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة". قوله: "اتجروا" أمر من التجارة تجر يتجر تجرًا وتجارة، وكذلك اتجر وهو افتعل منه، والرجل يتاجر، والجمع: تُجُر، مثل: صاحب وصحب، وتجار [وتجر] (¬1)، فإذا كسرت التاء خففت الجيم، وإذا ضممتها شددتها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يزكي مال اليتيم. هذا الحديث مؤكد لما سبق من الأحاديث؛ في إخراج زكاة مال الصبي. وقد أخرج الشافعي قال: أخبرنا عبد المجيد، عن معمر، عن أيوب [بن] (¬2) أبي تميمة، عن محمد بن سيرين أن عمر بن الخطاب قال لرجل: إن عندنا مال يتيم قد أسرعت فيه الزكاة. وزاد فيه في القديم: ثم ذكر أنه دفعه إليه ليتجر له فيه. ولم يذكر هذا في الجديد. ¬

_ (¬1) في الأصل [وتجار] والمثبت هو الموافق للسياق. (¬2) في الأصل [عن] وهو تصحيف والصواب هو المثبت وأيوب بن أبي تميمة واسمه كيسان السختياني أبو بكر البصري، يقبح أن يترجم لمثله فهو سيد شباب أهل البصرة.

وأخرج أيضًا: عن سفيان [عن] (¬1) ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة: أن علي بن أبي طالب كانت عنده أموال بني [أبي] (¬2) رافع فكان يزكيها كل عام. ورواه في القديم: عن رجل، عن معاوية بن عبد الله، عن عبيد الله بن أبي رافع: أن علي بن أبي طالب كان يلي مال بني أبي رافع أيتامًا، فكان يخرج الزكاة من أموالهم. وعاد أخرجه أيضًا فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن أبي رافع "أن عليًّا كان يزكي أموالهم وهم أيتام في حجره". قال الشافعي: وبهذا نأخذ وهم يخالفونه، فيقولون: ليس في مال اليتيم زكاة. وقال الشافعي فيما بلغه عن ابن علية، وابن أبي زائدة، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن مسعود: "أنه كان يقول لولي اليتيم: أحصي ما مر عليه من السنين، وإذا دفعت إليه ماله قلت له: قد أتى عليه كذا وكذا، فإن شاء زكى وإن شاء ترك". قال: ولو كان ابن مسعود لا يرى عليه زكاة لم يأمره بالإحصاء لأن من لم يجب عليه الزكاة لا يؤمر بإحصاء السنين، كما لا يؤمر الصبي بإحصاء سنه في صغره للصلاة، ولكن ابن مسعود كان يرى عليه الزكاة، وكان لا يرى أن يزكها الولي، وهم يقولون: ليس في مال الصبي زكاة (¬3). ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من "المعرفة" (6/ 68). (¬2) من "المعرفة" (6/ 68). (¬3) قال البيهقي في "المعرفة" (6/ 70) -عقب نقله قول الشافعي هذا-: وضعف الشافعي هذه الرواية في موضع آخر وقال: مع أنك تزعم أن هذا ليس بثابت عن ابن مسعود من وجهين: أحدهما: أنه منقطع، وأن الذي رواه ليس بحافظ وإنما قال ذلك، لأن مجاهدًا لم يلق ابن مسعود؛ فهو منقطع، ورواه ليث بن أبي سليم، وهو عند أهل العلم بالحديث غير حافظ كثير الخطأ.

وقد أخرج الشافعي قال (¬1): أخبرني من لا أتهم، عن عبيد الله -أو عبد الله-، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "في مال المكاتب زكاة". قال: وروي عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير أنهما قالا: "ليس في مال المكاتب زكاة". وقال في القديم: قال بعض أصحابنا: ليس في مال العبد زكاة، وروى فيه أثرًا عن عمر أنه قال: "ليس في مال العبد زكاة". قال: ولولا الاستدلال يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -بأبي هو وأمي-: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع". وإن قلنا في الخبر: أن مال العبد لمالك العبد دون العبد، لقلت بما روي عن ابن عمر، ثم قال: والمكاتب مخالف لأنه لم أر بين الناس اختلافًا في أن مال المكاتب ممنوع من سيده، وأن المكاتب ممنوع من فساد ماله فليس هو كمال عبده، فلا أرى في مال المكاتب زكاة هكذا أحفظ عن بعض من لقيت، فبهذا جاء الأثر عن ابن عمر. ... ¬

_ (¬1) "المعرفة" (6/ 71).

الباب العاشر في أحكام لمعلق بالزكاة

الباب العاشر في أحكام تتعلق بالزكاة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لا يجب في مال زكاة حتى يحول عليه الحول". هذا حديث صحيح أخرجه مالك في الموطأ موقوفًا (¬1)، هكذا قال: أن ابن عمر كان يقول: "لا يجب في مالٍ زكاة حتى يحول عليه الحول". وقد أخرجه الترمذي مرفوعًا (¬2): عن يحيى بن موسى، عن هارون بن صالح الطلحي، عن عبد الرحمن بن [زيد] (¬3) بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول". الحول: العام والسنة، وحال عليه الحول: أي مر، فيجوز أن يكون قوله: "يحول عليه الحول": فعلاً مستقبلاً مبنيًّا من لفظ الحول الذي هو السنه ويجوز ان يكون من قولهم: حال إلى مكان كذا: أي تحول. أو من قولهم: حال الشخص يحول: إذا تحول. أو من حال عن العهد: إذا انقلب، والكل متقارب. والاستفادة: استفعال من الفائدة وهي النفع، وفاد المال لفلان يفيد: إذا ثبت له، وأفدت المال: إذا استفدته وإذا أعطيته. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المال الذي تجب فيه الزكاة على ضربين: أحدهما: ما هو نماء في نفسه كالحبوب، والثمار إذا تكاملت وجبت فيه ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 211) رقم (6). (¬2) الترمذي (631). (¬3) في الأصل [يزيد]، وهو تصحيف والتصويب من الترمذي.

الزكاة ولا يعتبر فيه الحول. والثاني: ما يرصد للزيادة والنماء كالمواشي ترصد للدر والنسل، وكالذهب والفضة والعروض يرصد للتجارة وتحصيل الربح، ولا تجب في شيء من ذلك حتى ينقضي عليه الحول من حيث يتم نصابه في ملكه، وإلى هذا ذهب جماعة الفقهاء والأئمة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وحكى عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: "إذا استفاد مالاً زكاه في الحال ثم تكرر الزكاة بتكرر الحول". وللأئمة اختلاف في المستفاد في أثناء الحول، هل يضم إلى الأموال الأصلية أو يستأنف لها الحول؟ وفي ذلك تفصيل. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن عمر بن حسين، عن عائشة بنت قدامة، عن أبيها قال: "كنت إذا جئت عثمان بن عفان أقبض منه عطائي، يسألني هل عندك من مال وجبت فيه الزكاة؟ فإن قلت: نعم، أخذ من عطائي زكاة ذلك المال، وإن قلت: لا دفع إلي عطائي". هذا حديث حسن أخرجه مالك بالإسناد واللفظ (¬1)، وقال سألني. العطاء: هو القرار الذي كان للمسلمين في الديوان مثبتًا في بيت المال، وذلك أن عمر بن الخطاب كتب لكل واحد من المسلمين قرارًا يوصله إليه في كل سنة من بيت المال، فكان إذا حصل للمسلمين مال واجتمع في بيت المال أوصل إلى كل نفر ما استقر له وهو العطاء. وفرق بن "يسألني"، و"سألني" أن المستقبل حكايته حال حاضرة مصورة للسامع والرائي، والماضي حكاية انقضى ومضى. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 211) رقم (15).

وفقه هذا الحديث أن زكاة الأموال للسلطان أن يأخذها من أرباها، وفي ذلك خلاف فإن أموال الزكاة ظاهرة وباطنة، فالباطنة: كالذهب، والفضة، وأموال التجارات، ويجوز له بها تفريق زكاتها بنفسه ودفعها إلى الإِمام أو النائب عنه. وأما الظاهرة: فكالمواشي والثمار والحبوب. قال في القديم: لا يفرقها بنفسه وإنما يدفعها إلى الإِمام والنائب عنه. وبه قال أبو حنيفة، ومالك. وقال الشافعي في الجديد: يجوز أن يفرقه ابن فسه. وكان الحسن البصري، ومكحول، وابن جبير، والنخعي، والأعمش يقولون: إذا وضع رب المال زكاته مواضعها جاز له ذلك، ولم يفرقوا بين الباطنة والظاهرة. وقال أحمد: يفرق وهو أحب إليَّ. وقال أبو ثور: لا يجزئه ذلك بل يجب عليه دفعها إلى السلطان أو نائبه. وفي هذا الحديث من الفقه: أن النقود لا تتعين في دفع الزكاة، فإنه أعد من إعطائه زكاة مال عبده وجبت فيه زكاة. وفيه: أن زكاة النقود ورجع فيها إلى قول ربها؛ بخلاف الأموال الظاهرة فإنها تعد على أربابها. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مالك، عن ابن عيينة، عن القاسم بن محمد قال: لم يكن أبو بكر يأخذ من مالٍ زكاة حتى يحول عليه. ورواه في القديم: عن مالك، عن محمد بن عقبة -مولى الزبير- أنه سأل

القاسم بن محمد، عن مكاتب له قاطعه بمال عظيم هل عليه زكاة؟ فقال القاسم: إن أبا بكر لم [يكن] (¬1) يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول، قال القاسم: فكان أبو بكر إذا أعطى الناس عطياتهم يسأل الرجل: هل عندك من مال وجبت عليك فيه الزكاة؟ فإن قال: نعم أخذ من عطائه زكاة [ماله] (¬2) ذلك، وإن قال: لا، دفع إليه عطاءه ولم يأخذ منه شيئًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي رافع: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسلف من رجل بكرًا فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضيه إياه". هذا حديث صحيح أخرجه مالك، ومسلم، وأبو داود، والترمذي. فأما مالك (¬3): فأخرجه بالإسناد قال: استسلف رجل وذكر الحديث وزاد فيه: فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملًا خيارًا رباعيًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنهم قضاء". وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن مالك. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن عبد بن حميد، عن روح بن عبادة، عن مالك. ¬

_ (¬1) من "المعرفة" (6/ 74). (¬2) في الأصل [سأله] والتصويب من "المعرفة". (¬3) "الموطأ" (2/ 524) رقم (89). (¬4) مسلم (1600). (¬5) أبو داود (3346). (¬6) الترمذي (1318). وقال: حسن صحيح.

الاستسلاف: من أسلف يسلف وهو نوع من أنواع البيع، يعجل فيه الثمن ويؤخر السلعة إلى أمد معلوم، والسلم أيضًا منه. والبكر -بفتح الباء وسكون الكاف-: الفتى من الإبل، والأنثى بكرة والجمع بكار وبكارة. قال أبو عبيد: البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس، والبكرة كالفتاة. وقضيت الغريم أقضيه: إذا وفيته. والخيار: الجيد من كل شيء، ويقع على الواحد والجمع، وقد تقدم ذكره. والرباعي من الإبل: ما دخل في السنة السابعة إلى تمامها، والأنثى رباعية مخففة، وذلك لأن الرباعية بوزن الثمانية السنن التي بين الثنية والناب، فإذا ألقاها صاحبها قيل له: رباع بوزن ثمان، ويكون كذلك في الرفع والجر، تقول: عندي جمل رباع، ومررت بجمل رباع، فإذا صرت إلى النصب فتحت الباء وأتبعتها التنوين، فقلت: رأيت جملًا رباعيًا -مخفف الباء- والجمع: ربع -بضم الراء والباء- ويقال مثل: قذال وقذل وغزال وغزلان. وقد جاء في رواية الشافعي وأبي داود: فجاءته إبل من إبل الصدقة. والأول آكد وأثبت لأنه يكون قد أثبت الصدقة إبلًا جاء بعضها. وفي الثاني: يجوز أن لا تكون الصدقة إبل، وإنما جاءه إبل تصدق بها أو كان يستحق في الصدقة غير الإبل فجاءه عوضها إبل. هذا مدلول اللفظ وإن كان يدل أيضًا على ما يدل الأول عليه لكن دلالة مشتركة بين الأمرين، وعلى الأول ينتفي هذا التأويل. والفقه من هذا الحديث أمران: أحدهما: جواز تعجيل الزكاة، والثاني: جواز اقتراض الحيوان.

أما الشافعي: فإنما أورده في باب تعجيل الزكاة، ووجه الاستدلال أنه إنما سلف لأرباب الصدقة، لأنه قضاه من الصدقة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تحل له الصدقة فكيف كان يكون قد تسلف لنفسه ثم وفاه من الصدقة، إنه إنما تسلف لهم، وإذا جاز أن يتسلف من غير من عليه الصدقة، جاز أن يتسلف لهم ممن عليه الصدقة. قال المزني: يوضع مكان حديث العباس فإنما قال ذلك لأنه أوضح في الاستدلال. قلت: وحديث العباس هو ما رواه علي بن أبي طالب "أن العباس عم النبي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل الصدقة قبل أن تحل، فرخص له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك". فقد أخرج حديث العباس أبو داود (¬1) والترمذي (¬2). قال إمام الحرمين في تعجيل الزكاة: ذكر المزني في صدر الباب حديث أبي رافع، قال: والشافعي لم يستدل به في تعجيل الصدقة، وإنما احتج به في جواز استقراض الحيوان، ورد الحديث إلى تعجيل الصدقة تكلف، قال: ثم لما علم المزني أن ما ذكره لا حجة فيه في تعجيل الزكاة احتج بما هو حجة، وذكر ¬

_ (¬1) أبو داود (1624). (¬2) الترمذي (678) كلاهما من طريق إسماعيل بن زكريا عن الحجاج بن دينار عن الحكم، عن حجية عن علي به. قال أبو داود عقبه: روى هذا الحديث هشيم، عن منصور بن زاذان عن الحكم، عن الحسن ابن مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث هشيم أصح. وذكر الترمذي اختلافا في إسناده. وقال الحافظ في "التلخيص" (2/ 162 - 163). وذكر الدارقطني الاختلاف فيه على الحكم، ورجح رواية منصور، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم بن يناق، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. وكذا رجحه أبو داود. وانظر تخريج طرق هذا الحديث في "الإِرواء" (857).

حديث أبي هريرة الذي يتضمن ذكر خالد بن الوليد، وابن جميل، والعباس، وهو حديث مشهور لا نطيل بذكره. فكأن إمام الحرمين قد زيف الاستدلال بحديث أبي رافع في الاستسلاف، وصاحب الشامل وجهه، ويعضد ما ذهب إليه صاحب الشامل: أن الذي جاء في مسند الشافعي حديث أبي رافع لا حديث علي ولا حديث أبي هريرة، فكان ما ذكره أولى ولهذا قال الشافعي في هذا الباب أيضًا، مستدلًا على جواز استسلاف الزكاة، قال (¬1): ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - -ولا أدري أيثبت أم لا- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسلف صدقة العباس قبل [أن] (¬2) تحل، فلو لم يكن الشافعي أراد الاستدلال بحديث أبي رافع لما أورده في هذا الباب، وما قال عن حديث صدقة العباس، ما قال: هل يثبت أم لا. والذي ذهب الشافعي: أن تعجيل الزكاة جائز قبل عام الحول إذا كمل النصاب. وبه قال سعيد بن جبير، والزهري، والنخعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور. وقال الثوري: أحب إليَّ أن لا يعجلها. وكره مالك تعجيلها ومنع منه، وكذلك الليث بن سعد. وقال الحسن البصري: من زكى قبل الموت أعادها كالصلاة واختاره ابن المنذر. وأما استقراض الحيوان: فجوزه الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ¬

_ (¬1) "الأم" (2/ 22). (¬2) من "الأم".

السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تخلص أموالكم، فتؤدون منها الزكاة". وفي نسخة حتى تحصل. هذا حديث صحيح أخرجه مالك بالإسناد واللفظ (¬1). وقال: يحصل في هذا الحديث من الفقه: بيان أن الزكاة يستحب أن يُفرَد لها شهر تخرج فيه، وفائدته: أن يضبط الحول للأموال، ولأن أرباب الصدقة إذا عرفوا لإخراجها وقتًا معلومًا، اجتمعوا له وحضروا لقبض الزكاة. ويستحب أن يُختار لها شهر من الأشهر الحرم أو شهر رمضان. وقوله: "حتى تخلص" أي: حتى تصير خالصة لا حق فيها لغيركم إلا الزكاة، لأن من كان عليه دين وله مال، فإن بعض ماله هو مال صاحب الدين، وإن كانت الديون تتعلق بالذمم لا بأعيان الأموال، ولكن إذا رجعنا إلى المعنى فإنه لو مات مثلًا لقضى دينه من جملة ماله. وأما قوله: "حتى تحصل" فهو من الحصول، والحاصل وهو بقية الشيء فكان من عليه دين أدى وفي دينه بقي ما في يده من ماله فهو حاصل له أي بقيته، والمعنيان متقاربان. وقوله: "فيؤدون منها الزكاة" هكذا جاء في المسند بإثبات النون والإعراب بخلافه، لأن الوجه أن تحذف النون لأن الكلمة معطوفة على قوله: "حتى تخلص" وهو منصوب وعلامة نصبه حذف النون، والظاهر أنه خطأ من الكاتب. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 216) رقم (17).

والذي جاء في رواية مالك بحذف النون (¬1)، فإن صحت الروايات بإثبات النون فله تأويلان: أحدهما: أن لا يكون معطوفًا على "تخلص" وإنما هو مستأنف تقديره: فأنتم تؤدون منها الزكاة، أو فحينئذ تؤدون منها الزكاة. والثاني: أن يكون معطوفًا على قوله: "تخلص" لكن حتى تكون للحال ولا تكون ناصبة، ويكون التقدير: فمن كان عليه دين فليؤد دينه، وتخلص أموالكم فتؤدون منها الزكاة. والله أعلم. والذي سبق هذا الحديث له إنما هو لأجل زكاة المال الذي تتعلق ذمة صاحبه بدين، ولهذا أخرجه الشافعي في باب الدين مع الصدقة، قال في آخره (¬2): يشبه -والله أعلم- أن يكون إنما أمر بقضاء الدين قبل حلول الصدقة في المال. وقوله: "هذا شهر زكاتكم" [يجوز أن يقول هذا الشهر الذي إذا مضى حلت [زكاتكم] (¬3) كما [يقال] (¬4): هذا شهر ذي الحجة وإنما الحجة بعد مضي أيام منه. وقوله: فليؤد دينه حتى يخلص ماله له نظر من وجهين: أحدهما: إلى جانب المؤدي، والثاني: إلى جانب المؤدى إليه. ولكل واحد منهما حكم في الزكاة. فأما نظره إلى جانب المؤدي فيريد به: أن يؤدي ما عليه من الدين، حتى يبقى ماله الذي هو على الحقيقة ماله فيؤدي زكاته. وقد اختلف قول الشافعي فيمن له مال وعليه دين، فقال في الجديد: تجب ¬

_ (¬1) المثبت في النسخة المطبوعة من روايه يحيى بن يحيى بإثبات النون. (¬2) "الأم" (2/ 50). (¬3) من "الأم" (2/ 50). (¬4) في الأصل [قال] والمثبت من"الأم".

الزكاة في المال الذي في يده والدين لا يضعها، وبه قال حماد بن أبي سليمان، وربيعة، وابن أبي ليلى. قال في القديم: إذا لم يبق بعد قدر الدين نصاب لم تجب فيه الزكاة. وبه يقول الحسن البصري، والليث، والثوري، وأحمد وإسحاق، إلا عن أحمد في الأموال الظاهرة روايتان. وقال مالك: الدين يمنع من الزكاة في النقدين، دون غيرهما. وقال أبو حنيفة: الدين الذي تتوجه فيه المطالبة، يمنع من وجوب الزكاة في سائر الأموال إلا في الحبوب والثمار. وقد قال الشافعي في كتاب "اختلاف العراقيين" (¬1): إذا كانت في يدي رجل ألف درهم وعليه مثلها فلا زكاة عليه. وقد روى ذلك عن سليمان بن يسار، وعطاء، وطاوس، والحسن، وإبراهيم. وقال البيهقي (¬2): قد فرق الشافعي في القديم بين الأموال الظاهرة وبين الأموال الباطنة، فقال في المصدق: إذا قدم أخذ الصدقة بما ظهر من ماله مثل: الحرث، والمعدن، والماشية ولم يتركها لدين، ولكنه يتركها إذا أحاط الدين بما له من الرقة والتجارة التي إليه أن يؤديها. وأما نظره إلى جانب المؤدى إليه فيريد به: أن يؤدي إلى صاحب الدين ماله ليجتمع ماله عنده فيؤدي زكاته، ويكون هذا لفتًا لمن عليه الدين على القضاء والإبقاء، وفي ذلك من الفقه: أن من كان له مال في يده وله دين على غيره فإن الشافعي قال: ما كان من الديون على ملي يرجى أخذه؛ وكان الدين حالاً ¬

_ (¬1) "الأم" (7/ 143). (¬2) "المعرفة" (6/ 153).

فإن زكاته تجب لكل سنة عند استكمال الحول [وبه] (¬1) قال عثمان، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وطاوس، والنخعي، وجابر بن زيد، والزهري، والحسن البصري، وميمون بن مهران، وقتادة، وحماد، وإسحاق، وأبو عبيد. وقال أبو حنيفة: يزكيه إذا قبضه لما قضى عليه من السنين. وبه قال الثوري، وأحمد، وأبو ثور غير أنهم قالوا: تزكيه في السنة الثانية بعد إسقاط زكاة السنة الأولى. وقال مالك: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة. وبه قال عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، وعطاء الخراساني، وأبو الزناد. وروى عن ابن عمر، وعائشة، وعكرمة: أنه لا يزكيه إلا بعد أن يحول عليه الحول من يوم قبضه. قال إمام الحرمين: وقد حكى الزعفراني عن الشافعي في القديم: أن الزكاة لا تجب في الديون أصلاً، وهذا بعيد في حكم المرجوع عنه. قلت: الذي قاله الشافعي في القديم هذا لفظه، قال: لا أعرف في الزكاة في الدين أثرًا صحيحًا فآخذ به ولا أتركه، فأدى -والله أعلم- أن ليس فيه زكاة. فأما إذا كان الدين على مفلس أو جاحد ولا بينة عليه، ففيه ثلاثة أقوال: الوجوب، ونفي الوجوب، والثالث: إن عاد المال إليه بفوائده ونمائه وجبت الزكاة، وإن لم يعد فلا تجب. وأما المغصوب، والضال: فلا تلزمه زكاته حتى يرجع إليه، فإن رجع إليه من غير نماء ففيه قولان. وقد أخرج أيضًا من رواية المزني عنه (¬2)، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن ¬

_ (¬1) في الأصل [وبع] وهو تصحيف. (¬2) "السنن المأثورة" (381).

أبيه، عن عمر، "أنه أبصر فرسًا أن [يباع] (¬1) في السوق وكان تصدق بها، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أأشتريه؟، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تشتره ولا شيئًا من نتاجه". وأخرج أيضًا (¬2) من رواية المزني عنه، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: "حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أبتاعه وظننت أنه [باعه] (¬3) برخص، فسألت عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم واحد فلا (¬4) تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه". هذان الحديثان صحيحان أخرجهما البخاري ومسلم (¬5). وقد أخرج الشافعي أيضًا من حديث عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر تصدق بفرس له فذكر الحديث. قال الشافعي: وأكره لمن خرجت منه أن يشتريها من يد أهلها الذين قسمت عليهم، واحتج بحديث مالك، ولم يبين (¬6) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم شراء ما وصفت على الذي خرج من يديه، فقد تصدق رجل من الأنصار بصدقة على أبويه ثم ماتا، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأخذ ذلك، الميراث فبذلك أجزت أن يملك ما خرج من يديه بما يحل به الملك. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن ¬

_ (¬1) في الأصل أن [بياعا] وهو تصحيف والمثبت من "السنن المأثورة". (¬2) "السنن المأثورة" (383). (¬3) في الأصل [تابعه] والمثبت من السنن المأثورة. (¬4) في "السنن المأثورة": [ولا]. (¬5) البخاري (1490)، ومسلم (1620). (¬6) في "المعرفة" (6/ 160): [وبينٍّ].

أسلم، عن أبيه أنه قال لعمر بن الخطاب: إن في هذا [الظهر] (¬1) ناقة عمياء، فقال: أمن نعم الجزية أو من نعم الصدقة؟ قال أسلم: من نعم الجزية، وقال: إن عليها ميسم الجزية. هذا طرف من حديث طويل قد أخرجه مالك بطوله (¬2): "أن أسلم قال لعمر ابن الخطاب: إن في الظهر ناقة عمياء، فقال عمر: ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها، قال: فقلت: وهي عمياء؟ فقال: يقطرونها في الإبل، قال: فقلت: كيف تأكل من الأرض؟ فقال عمر: أمن نعم الجزية هي أم [من] (¬3) نعم الصدقة؟ فقلت: بل من نعم الجزية، فقال عمر: أردتم والله أكلها، فقلت: إن عليها وسم نعم [الجزية] (¬4)، فأمر بها عمر فنحرت وكان عنده [صحاف] (¬5) تسع، ولا تكون فاكهة ولا طريقة إلا جعل منها في تلك الصحاف، فبعث بها إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون الذي يبعث به إلى حفصة ابنته من آخر ذلك، ما كان فيه نقصان وكان في حظ حفصة، قال: فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك الجزور فبعث به إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر بما بقي من لحم تلك الجزور فصنع فدعا عليها المهاجرين والأنصار". الظهر من كل حيوان معروف، وقد أطلقه الاستعمال العرفي على المركوب من الإبل والبقر والخيل وغيرها، تقول: فلان قليل الظهر إذا قل مركوبه يكون على ظهر ما يركب من الحيوان، وأراد بالظهر في هذا الحديث: الإبل التي في بيت المال من إبل الزكاة وإبل الجزية مما يجتمع في بيت المال. ¬

_ (¬1) في الأصل [ا0لظاهر] وهو تصحيف والمثبت من المسند وغيره وسيأتي في الشرح على الصواب مما يدل على أنه خطأ من الناسخ. (¬2) "الموطأ" (1/ 233) رقم (44). (¬3) من "الموطأ" وسيأتي اللفظ في الشرح كما هو مثبت. (¬4) في الأصل [الجنة] والمثبت من "الموطأ". (¬5) من "الموطأ".

والنعم: اسم يقع على الإبل والبقر والغنم، وأكثر ما يقع في الاستعمال على الإبل، ويجمع النعم على الأنعام، قال الفراء: النعم يذكر ولا يؤنث، يقولون: هذا نعم كثير، فأما الأنعام فيذكر ويؤنث. والجزية: البراءة المأخوذة من أهل الذمة عند عقد الزمام لهم، وهي فعلة من الجزاء كأنه جزاء إقرارهم على دينهم، فهم يجزون المسلمين على ذلك ببذلها، ويجمع على جزاء مثل: لحية ولحى وقد يضم لام لحى. والميسم: الحديدة التي تكوى بها الدواب للعلام عليها تمييزًا لها عن غيرها، وهي مفعل من الوسم الكي، وسم يسم وسما وسمة، والهاء عوض من الواو. وقوله: "ميسم الجزية" أثر ميسم الجزية، لأن الميسم هو الحديدة التي تكوى بها، أو يكون عبر بالمؤثر عن الأثر، لأن الأثر الوسم والمؤثر الميسم وهذا قياس في العربية، يذكر الأثر ليدل على المؤثر ويذكر المؤثر ليدل على الأثر، وهو من المجازات المطردة في الاستعمال عندهم، وذلك التلازم الذي بين الأثر والمؤثر. والنحر للإبل كالذبح للغنم، إلا أن النحر لا يكون إلا في اللبة وهي تجاوز الصدر، والذبح لا يكون إلا في الحلق وهو ما تحت الذقن. والصحاف: جمع صحفة وهي إناء من خشب أو حجر أو خزف أو غير ذلك. وقيل: هي القصعة الوسطى لا بالكبيرة ولا بالصغيرة. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المكيلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. والطريفة: تأنيث الطريف وهو الشيء الذي يستطرف ويستحدث كالباكورة من الفاكهة ونحوها.

والجزور: اسم يقع على الذكر والأنثى من الإبل، إلا أن اللفظة مؤنثة. وإنما استفسره عمر -رضي الله عنه- فقال: "أمن نعم الجزية أم من نعم الصدقة؟ " لأن نعم الصدقة: إنما تدفع إلى مستحقيها من الأصناف الثمانية، ولا يجوز دفعها إلى غيرهم، فأما نعم الجزية: فحكمها حكم أموال الفيء والمسلمون فيها مشتركون فلذلك نحرها وفرقها وجمع عليها المهاجرين والأنصار. وينبغي أن يفرق بين وسم إبل الزكاة ووسم إبل الجزية والفيء، لئلا يختلط بعضها ببعض، فيكتب على وسم الزكاة لله، وعلى وسم الجزية والفيء صغار، كذا قال الفقهاء (¬1)، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "الفتح" (3/ 429): لم أقف على تصريح بما كان مكتوبا على ميسم النبي - صلى الله عليه وسلم -. إلا أن ابن الصباغ من الشافعية نقل إجماع الصحابة على أنه يكتب في ميسم الزكاة "زكاة" أو "صدقة".

الباب الحادي عشر فيما يتعلق بعامل الزكاة

الباب الحادي عشر فيما يتعلق بعامل الزكاة أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتاكم المصدق فلا يفارقكم إلا عن رضا". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن فضيل بن حسين أبي (¬2) كامل الجحدري، عن عبد الواحد بن زياد، عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن هلال [العبسي] (¬3)، عن جرير بن عبد الله قال: "جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن ناسًا من المصدقين يأتونا فيظلمونا قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أرضوا مصدقكم" قال جرير: ما صدر عني مصدق -منذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلا وهو عني راض". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه بإسناد مسلم ولفظه وزاد فيه فقال: "أرْضُوا مصدقكم (¬5) " قالوا: يا رسول الله، وإن ظلمونا؟ قال: "أرضوا مصدقيكم" زاد أحد رواته (¬6) "وإن ظلمتم". وأما الترمذي (¬7): فأخرجه عن علي بن حجر، عن محمد بن يزيد، عن ¬

_ (¬1) مسلم (989). (¬2) في الأصل [بن أبي] وزيادة ابن مقحمة. وعند مسلم "أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري". (¬3) في الأصل "القعنبي" وهو تصحيف والمثبت من صحيح مسلم، وانظر تحفة الأشراف (2/ 425) ". (¬4) أبو داود (1589). (¬5) عند أبي داود (مصدقيكم). (¬6) وهو عثمان بن أبي شيبة كما في السنن. (¬7) الترمذي (647 - 648) وقال: حديث داود عن الشعبي أصح من حديث مجالد. وقد ضعف مجالدًا بعض أهل العلم. وهو كثير الغلط.

مجالد، عن الشعبي، عن جرير بلفظ الشافعي. وفي أخرى: عن أبي عمار، عن سفيان بإسناد الشافعي ولفظه، وقال: هذا أصح من حديث مجالد، مجالد ضعيف كثير الغلط. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، عن يحيى، عن محمد بن إسماعيل بإسناد مسلم وزيادة أبي داود وقال: "وإن ظلم" مرتين. وفي أخرى عن زياد بن أيوب، عن إسماعيل بن علية، عن داود بن أبي هند [بإسناد] (¬2) الشافعي ولفظه. الرضا: مقصور مصدر: رضي يرضى فهو راض، وبالمد الاسم قاله الجوهري. ومعنى قوله: "عن" في "إلا عن رضا" المجاوزة أي لا يجاوزنكم المصدق إلاَّ وهو راض وأنتم راضون. وهذا باب حث أرباب المال على إعطاء الصدقة وافية وافرة جيدة، وعن رضي من أنفسهم وإيثار، فإن المصدق إذا صدر وهو راض عنهم فما يكون إلا بعد استيفائه ما عندهم من الزكاة، ورضاه مندوب إليه إن أردنا به أمرًا زائدًا على الواجب عليهم، وإن أردنا به الحد الواجب عليهم -وهو الصحيح-، فإن الرضا متعلق بأخذ القدر الواجب من غير زيادة ولا اختيار الجيد، وكما أنه قد (¬3) ندب المصدق إلى ترك الإجحاف بأرباب المال؛ في اختيار أموالهم وأخذ نفائسها تحصيلًا لرضاهم، فكذلك أمر أرباب المال برضى الساعي وإيصال حقه إليه، ومبنى الزكاة على التسهيل والتسامح، أما من جانب الساعي ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 31). (¬2) أثبتها لضرورة السياق وهذا هو اصطلاح المصنف كما في إسناد الترمذي السابق. (¬3) في الأصل [قدر] ورى أن الراء مقحمة والمثبت مناسب للسياق.

فللتخفيف عن أرباب المال، وأما من جانب أرباب المال فيكون طهرة لربها، فإذا لم يكن قلبه بها طيبًا، ولا نفسه بها سمحة سهلة، ولا ببذل الجيد فلم يحصل ولا انتفى عنه الوصف الذي شرعت الزكاة له، وهو البخل والشح من جانب رب المال، والنظر في حق الفقير من جانب الشارع -صلوات الله عليه وسلامه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة بن الزبير عن أبي حميد الساعدي، قال: "استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني الأسد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال هذا لكم، وهذ أهدي لي، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال: "ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول: هذا لكم، وهذا لي، فهلا جلس في بيته وبيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال "اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي حميد الساعدي قال: "أبصر عيني وسمع أذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واسألوا زيد بن ثابت" -يعني بمثله- وفي نسخة "بصر عيني". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن هشام. وعن عبد الله بن محمد وعلي بن عبد الله عن الزهري، عن عروة بالإسناد نحوه. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام ¬

_ (¬1) البخاري (925، 2597، 7174). (¬2) مسلم (1832).

بالإسناد، وقال في بعض طرقه: واسألوا (¬1) زيد بن ثابت فإنه كان معي حاضرًا. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن ابن السرح وابن أبي خلف، عن سفيان بالإسناد وقال فيه: قال ابن السرح: الأتبيه وقال فيه: أيهدى إليه أم لا؟. قوله: "اسعتمل رجلاً من الأسْد -بسكون السين" يريد الأزد فقلب الزاي سينًا. واللتبية -بضم اللام وفتح التاء فوقها نقطان، وكسر الباء الموحدة وتشديد الياء- ويروى الأتبية عوض اللام همزة (¬3)، والمراد باستعماله على الصدقة: جعله عاملًا لها [يستخرجها] (¬4) من جهاتها، وهو المراد في قول الله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (¬5). وقوله: "ما بال العامل" أي ما شأنه، وما أمره، وما حاله. والرغاء: صوت الإبل. والخوار: صوت البقر. واليعار: صوت الغنم. رغا الجمل يرغو، وخار الثور يخور، وتيعر الشاة تيعر بالكسر. وعفر إبطيه: بياضهما الذي تحت الكتف. وقوله: "واسألوا زيد بن ثابت" يريد أنه كان حاضرًا هذه المقالة التي ¬

_ (¬1) عند مسلم (وسلوا). (¬2) أبو داود (2946). (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (13/ 176). قال عياض: ضبطه الأصيلي بخطه في هذا الباب بضم اللام وسكون المثناة، وكذا قيده ابن السكن، قال: وهو الصواب وكذا قال ابن السمعاني: ابن اللتبية بضم اللام، وفتح المثناة ويقال بالهمز بدل اللام، وقد تقدم أن اسمه عبد الله واللتبية أمه. (¬4) في الأصل [يستوديها] والمثبت من "النهاية" (3/ 300). (¬5) التوبة: [60].

ذكرتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "أبصر عيني وسمع أذني" يجوز أن تكون العين والأذن فاعلين فيرتفعان، وأن يكونا مفعولين فينتصبان فأما كونهما فاعلين فالتقدير: أبصرت عيني وسمعت أذني فذكَّر الفعل لأن التأنيث غير حقيقي. وأما كونهما مفعولين: فكون أبصر فعلًا متعديًا بالهمزة من بصر به، التقدير: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر عيني أي جعلها تبصر، ويعضد ذلك ما جاء في النسخة الأخرى: بصر عيني وكذلك أسمع أذني يكون الفعل مشددًا، أي جعلها تسمع، ويكون اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأول منصوبًا، وعلى الثاني مرفوعًا. وقد جاء في رواية الشافعي: "يهدى إليه أم لا" بحذف همزة الاستفهام وهذا [لورود] (¬1) كثرة الاستعمال؛ يحذفونها تخفيفًا، لدلالة الحال عليه وهي مرادة لأن المعنى مستفهم عنه، ولابد للاستفهام من علامة تدل عليه إما ظاهرة أو مضمرة بنية الظهور. وفي هذا الحديث: بيان أن هدايا العمال سحت، وأنها ليس سبيلها سبيل سائر الهدايا المباحة، فإنه إنما يهدي إليه للمحاباة والتخفيف عن المهدي، وذلك منه خيانة وتحسين للحق الواجب عليه استيفاؤه لأهله. وقوله: "فهلا قعد في بيت أبيه أو أمه، فينظر أيهدى إليه أم لا"؟!! دليل على أن كل أمر يتوصل به إلى محظور فهو محظور. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا محمد بن عثمان بن صفوان الجمحي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تخالط الصدقة مالاً إلا أهلكته". قال الشافعي: -والله أعلم- أن خيانة الصدقة تتلف المال الخلوط بالخيانة ¬

_ (¬1) في الأصل [لرد] ولعل الأقرب للسياق هو المثبت.

من الصدقة. هذا حديث حسن رواته ثقاة. ويريد بالصدقة: الزكاة، ويدخل فيها كل الأموال التي هي للمصالح وأموال الوقف. ويريد بهلاكها: ذهابها وضياعها وتمزيقها على مالكها وتفرقها عن يده، وذهاب نمائها وعدم بركتها لسبب مخالطة مال الصدقة لها. ويجوز أن يريد بالهلاك في المعنى في أنها تفسد المال الذي تخالطه على صاحبه ولا ينتفع به، ولا يجوز له أن يتصرف فيه، وإن تصرف فيه أثم لمخالطته. مال الصدقة. فكأنه كعدمٍ لجواز الانتفاع به كالمال الذاهب الهالك. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبادة بن الصامت على صدقة، فقال: "اتق [الله] يا أبا الوليد لا تأتي -وفي نسخة- لا تأتي يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك [له] (¬1) رغاء، أو بقره لها خوار، وشاة لها ثؤاج" فقال: يا رسول الله، وإن ذا لكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إي والذي نفسي بيده، إلا من رحم الله"، فقال: والذي بعثك بالحق لا أعمل على اثنين أبدًا. هذا حديث مرسل، طاوس تابعي جليل القدر. وقوله: "اتق" من التقوى، وهي فعلى من الوقاية ما يتقى به ويستجن ويدفع الشر، والتقى والتقوى واحد، والمراد بقوله: "اتق يا أبا الوليد" احذر الله، فلم يذكر اسم الله لفهم المعنى ودلالة الحال عليه، لأنه إنما يريد أن يحذره من الله سبحانه ومن عذابه. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من "الأم" (2/ 57) ومسند الشافعي (667).

وقد جاء في رواية البيهقي: "اتق الله يا أبا الوليد". ويجوز أن يكون قد جعل قوله: "لا تجيء وألا تجيء" هو المحذور المنفي: اتق مجيئك يوم القيامة بكذا وكذا. والثؤاج -بضم الثاء المثلثة وبالهمزة-: صوت الغنم، والشاة ثائجة والجمع ثوائج. وقوله: "إن ذا لكذا" أي إن الحال على هذه الصفة من المجيء يوم القيامة، [فحمل] (¬1) هذه الحيوانات على الرقاب إذا كانت مأخوذة على سبيل الظلم والتعدي على أرباب الأموال، أو إذا كانت على سبيل الخيانة من الشغالة. وقوله: "لا أعمل على اثنين أبدا" أي لا ألي الحكم على اثنين ولا أتأمر على أحد، وهذا دليل على كراهية الإمارة والولايات التي كان الولاة فيها، مثل عبادة بن الصامت ومن جرى مجراه، ومن أكابر الصحابة، ومن أشراف الأنصار، وأجلهم قدرًا، فإنه كان شهد العقبات الثلاث وكان نقيبًا بدريًّا وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان الذي ولاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت هذه حاله، فما الظن بعد ذلك الطراز الأول والمنافسين في الولايات، والباذلين الأموال والرشى في تحصيل الأعمال السلطانية، وأخذ الجوائز عليها من أموال الضرائب والمظالم، عصمنا الله وإياكم من الزلل، وسدد كلًا منا ومنكم في القول والعمل به ولطفه. ¬

_ (¬1) في الأصل [محمد] وهو تصحيف والمثبت هو مقتضى السياق.

الباب الثاني عشر في زكاة الفطر

الباب الثاني عشر في زكاة الفطر أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر على الناس صاعًا من تمر، وصاعًا من شعير، على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد واللفظ وقال فيه: "أو عبد أو أنثى". وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، بالإسناد ولفظ مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن القعنبي وقتيبة ويحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو دواد (¬4): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن إسحاق بن موسى، عن معن، عن مالك. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 236) رقم (52). (¬2) البخاري (1504). (¬3) مسلم (984). (¬4) أبو داود (1611). (¬5) الترمذي (676) وقال: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح. (¬6) النسائي (5/ 48).

وعن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. قد تقدم في أول الزكاة معنى قوله: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والفطر: الاسم من قولك أفطر الصائم يفطر إفطارًا. وقوله: "على الناس"، اسم جامع لكل من هو من بني آدم، فلما كان هذا اللفظ عامًا ولم يرد العام، لا سيما وقد فصل فقال: "على كل حر وعبد وذكر وأثنى" قال بعقب ذلك: "من المسلمين" فخصص ذلك العام. على أن هذه الزيادة -التي هي من المسلمين- هي مما تفرد به مالك بن أنس؛ دون غيره ممن روى حديث زكاة الفطرة (¬1)، وسيرد بيان المذاهب في زكاة ¬

_ (¬1) قلت: بل توبع، تابعه عليها عمر بن نافع، والضحاك بن عثمان. قال الحافظ في الفتح (3/ 433): قال ابن عبد البر: لم تختلف الرواة عن مالك في هذه الزيادة، إلا أن قتيبة بن سعيد رواه عن مالك بدونها، وأطلق أبو قلابة الرقاشي ومحمد بن وضاح وابن الصلاح ومن تبعه أن مالكًا تفرد بها دون أصحاب نافع، وهو متعقب برواية عمر بن نافع المذكورة في الباب الذي قبله، وكذا أخرجه مسلم من طريق الضحاك بن عثمان، عن نافع بهذه الزيادة ...... وقال النووي في "شرح مسلم": رواه ثقتان غير مالك: عمر بن نافع والضحاك. وفي الجملة ليس فيمن روى هذه الزيادة أحد مثل مالك. اهـ. ولشهرة هذه الزيادة نرى أن جل من صنف في المصطلح أدرج هذه الزيادة تحت باب زيادة الثقة. قال الترمذي في كتاب "العلل" والذي شرحه ابن رجب ومنه نقلت (1/ 418 - 419): ورب حديث إنما استغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما يصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه مثل ماروى مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من رمضان على كل حر ... " فزاد مالك في هذا الحديث: "من المسلمين" ... إلى أن قال: وقد أخذ غير واحد من الأئمة بحديث مالك، واحتجوا به، منهم: الشافعي وأحمد بن حنبل قالا: إذا كان للرجل عبيد غير مسلمين لم يؤد زكاة الفطر عنهم، واحتجا بحديث مالك. فإذا زاد حافظ ممن يعتمد على حفظ قبل ذلك عنه. قال ابن رجب في الشرح: وهذا أيضًا ظاهر كلام الإمام أحمد، قال في رواية صالح: قد أنكر على مالك =

الفطر مفصلاً، وأن الشافعي ومن قال بقوله اعتمد على زيادة مالك هذه، والعلماء في قبول الزيادة التي تفرد بها أحد الرواة وردها خلاف. قالوا: إذا تفرد الثقة بزيادة في الحديث عن جميع النقلة، فإن زيادته مقبولة عند الأكثر، سواء كانت الزيادة من بعث اللفظ أو من حيث المعنى، لأنه لو انفرد عن جميع الحفاظ بنقل حديث قبل حديثه فكذلك الزيادة. وذهب طائفة -وهم الأقل: إلى المنع من قبولها. والعمل على الأول (¬1). ¬

_ = هذا الحديث -يعني زيادته من المسلمين ومالك إذا انفرد بحديث هو ثقة، وما قال أحد ممن قال بالرأي أثبت منه. فذكر أحمد أن مالكًا يقبل تفرده، وعلل بزيادته في المثبت على غيره، وبأنه قد توبع على هذه الزيادة ... وقد قال أحمد في رواية عنه: كنت أتهيب حديث مالك "من المسلمين" يعني حتى وجده من حديث العمريين، قيل له: أمحفوظ هو عندك "من المسلمين"؟ قال: نعم. وهذه الرواية تدل على توقفه في زيادة واحد من الثقات ولو كان مثل مالك حتى يتابع على تلك الزيادة، وتدل على أن متابعة مثل العمري لمالك ما يقوي رواية مالك ويزيل عن حديثه الشذوذ والإنكار أهـ. وانظر أيضاً "الباعث الحثيث" (ص: 70). (¬1) قلت: الحق الذي ينبغي المصير إليه، وهو تصرف أئمة الشأن أن الزيادة لا تقبل مطلقًا ولا ترد مطلقًا بل القبول والرد موقوف على القرائن التي تحتف بالزيادة. قال الحافظ في النكت على ابن الصلاح (1/ 687 - 690) عقب تقسيم ابن الصلاح الزيادة إلى ثلاثة أقسام: والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد، بل يرجحون بالقرائن ... ثم قال: على أن القسم الأول الذي حكم عليه المصنف بالرد مطلقًا، قد نوزع فيه، وجزم ابن حبان والحاكم وغيرهما بقبول زيادة الثقة مطلقًا في سائر الأحوال سواء اتحد المجلس أو تحدد سواء أكثر الساكتون أو تساووا وفيه نظر كثير لأنه يرد عليهم الحديث الذي يتحد مخرجه فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه ويرويه ثقة دونهم في الضبط والإتقان على وجه يشتمل على زيادة تخالف مارووه إما في المتن وإما في الإسناد فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم، ولا سيما إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتنى بمروياته كالزهري وأضرابه ... والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة ... إلى أن قال -رحمه الله-: فحاصل كلام هؤلاء الأئمة أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظًا متقنا حيث يستوي =

وقد جاء في رواية الشافعي وبعض روايات غيره: "حر وعبد ذكر وأنثى" بواو العطف، وعند غيره بأو، والمعنى فيهما سواء، إلا أن الواو أدخل في إثبات المعنى المعطوف من "أو", لأن الواجب على كل واحد من المذكورين لا على أحدهم دون الآخر، وقد ترد "أو" بمعنى "الواو" وعليه قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (¬1)، إنما أراد نهيه عن طاعة الآثم والكفور لا أحدهما. و"أو" لها في الكلام أربعة معان: للشك، والتخيير، والإباحة، والإيهام من العالم بالأمر، وهذا النوع يدخله النحويون في حيز التخيير تارة وفي حيز الإباحة أخرى. فأما "أو" في قوله: "صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير" فإنما هو للتخيير، لأنه غير بين الاثنين أيما شاء أخرج. والذي ذهب إليه الشافعي: أن زكاة الفطر واجبة على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد. وبه قال أئمة الأمصار والعلماء. وذهب قوم من أهل البصرة، والأصم، وابن علية: إلى أنها ليست واجبة. وعند الشافعي: أنها لا تجب إلا على المسلمين عملًا بهذا الحديث. وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور. وبيان ذلك فيما إذا كان له ولد كافر، أو زوجة كافرة، أو عبد كافر فلا يجب عليه أن يخرج الزكاة عنهم. وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يعطي عن العبد الذي ليس بمسلم. وبه قال ¬

_ = مع من زاد عليهم في ذلك، فإن كانوا أكثر عددًا منه أو كان فيهم من هو أحفظ منه أو كان غير حافظ، ولو كان في الأصل صدوقا، فإن زيادته لا تقبل. وهذا مغاير لقول من قال: زيادة الثقة مقبولة مطلقًا واحتج من قبل الزيادة من الثقة مطلقًا، بأن الراوي إذا كان ثقة وانفرد بالحديث من أهله كان مقبولًا فكذلك انفراده بالزيادة، وهو احتجاج مردود، لأنه كل حديث تفرد به أي ثقة كان يكون مقبولًا كما سبق بيانه في نوع الشاذ. اهـ. (¬1) [الإنسان: 24].

عطاء، ومجاهد، وابن جبير، والثوري، والنخعي، وأسحاق. وقال ابن المسيب، والحسن: لا يؤدي إلا عمن صلى وصام. فقال محمد بن الحسن: لا تجب في مال الصغير يتيمًا كان أو غير يتيم. قال الشافعي: في حديث نافع دلالة على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفرضها إلا على المسلمين، وذلك يوافق كتاب الله -عز وجل- فإنه جعل الزكاة للمسلمين طهورًا والطهور لا يكون إلا لمسلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر على الحر والعبد، والذكر والأنثى ممن يمونون". هذا الحديث رواه حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي قال: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كل صغير وكبير، حر أو عبد، ممن يمونون صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب عن كل إنسان". وهاتان الروايتان [منقطعتان] (¬1). وروي ذلك أيضًا عن علي بن موسى الرضا، عن أبيه، عن جده، عن آبائه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: في حديث جعفر دلالة على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضها على المرء في نفسه ومن يمون، وفي حديث نافع دلالة شبيهة بدلالة حديث جعفر إذ فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الحر والعبد، والعبد لا مال له فبين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما فرضها على سيده، وما لا خلاف فيه أن على السيد في عبده وأمته زكاة الفطر وهما ممن يمونون. ومعنى يمونون: أي يقومون بمؤنته وهي ما يحتاج إليه ممن تجب نفقته ¬

_ (¬1) في الأصل [مسلتان] والمثبت مستفاد من "المعرفة" للبيهقي (6/ 187) وعنه نقل المصنف.

كالعبد، والأمة والزوجة والأولاد الصغار والأب. وبيان المذهب: أن كل من وجبت نفقته على شخص وجب عليه زكاة فطره. وبه قال مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا تجب زكاة الوالد على ولده وإن وجبت عليه نفقته، وكذلك لا تجب زكاة الابن البالغ الزَّمِن (¬1) على أبيه وإن وجبت عليه نفقته، والصغير الموسر لا تجب زكاته على أبيه وإنما تجب في ماله، وبه قال أبو حنيفة. والزوجة تجب زكاتها على زوجها. وبه قال مالك، والليث وأحمد وإسحاق، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والثوري: تجب في مالها. وعبيده الحاضرون والغائبون يزكي عنهم، وكذلك رقيق رقيقه، والخدم منهم والمعدون للتجارة سواء. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر "أنه كان يخرج زكاة الفطر على غلمانه الذين بوادي القرى وخيبر". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن [عياض] (¬2) بن عبد الله بن سعد أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب". وأخبرنا الشافعي بالإسناد واللفظ وزاد: "أو صاعًا من أقط". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا أنس بن عياض، عن داود بن قيس، سمع عياض بن عبد الله بن سعد يقول: إن أبا سعيد الخدري قال: "كنا ¬

_ (¬1) الزمن: ذو الزمانة، والزمانة آفة في الحيوانات، ورجل زمن أي مبتلى بين الزمانة، لسان مادة زمن. (¬2) في الأصل [عبد الله] وهو تحريف والمثبت من "الأم" (2/ 62/ 63) و"مسند الشافعي" (679)، وكذا "المعرفة" (6/ 187).

نخرج في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من طعام، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير فلم نزل نخرجه كذلك حتى قدم معاوية حاجًا أو معتمرًا فخطب الناس، فكان فيما كلم الناس به أن قال: إني أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك". وقد عاد الشافعي أخرج هذا الحديث في كتاب "الأشربة" عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عياض بن عبد الله أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام، صاعًا من شعير، صاعًا من تمر، صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد ولفظ الرواية الثانية. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك ولفظ الثانية. وأخرج الرواية الثالثة (¬3): عن عبد الله بن منير، عن يزيد العدني عن سفيان، عن زيد بن أسلم بالإسناد. وأما مسلم (¬4): فأخرج الثانية عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأخرج الثالثة: عن القعنبي، عن داود بن قيس وزاد فيها قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبدًا ما عشت. وأما أبو داود (¬5): فأخرج (¬6) الثالثة بإسناد مسلم ولفظه. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 237) رقم (53). (¬2) البخاري (1506). (¬3) البخاري (1508). (¬4) مسلم (985). (¬5) أبو داود (1616). (¬6) زاد في الأصل: [أولاً] قبل: [فأخرج] ولا وجه لها.

وأما الترمذي (¬1): فأخرج الثالثة عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن زيد بن أسلم وذكر زيادة مسلم. وأما النسائي (¬2): فأخرج الثالثة عن هناد بن السري، عن وكيع، عن داود بن قيس. وأخرج الثانية: عن محمد بن عبد الله بن المبارك، عن وكيع، عن سفيان، عن زيد بن أسلم بالإسناد. الطعام يريد به في الحديث: الحنطة لأن الطعام يطلق بالعموم على ما يقتات به، فلما قال: "أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب" علم أنه أراد بالطعام الحنطة، وقد قالوا: إن الطعام كان يطلق عندهم على البر خاصة وهو شيء معروف بينهم، وعلى ذلك تعاضدت الروايات أكثر. وقد جاء في بعض الروايات: "صاعًا من طعام، صاعًا من شعير، صاعًا من تمر" بإسقاط "أو" قالوا: وهذه تدل على أنه أراد بالطعام مجموع هذه الأقوات المذكورة وغيرها، فذكرها جملة ثم فسرها تفصيلاً، فقال: صاعًا من كذا صاعًا من كذا، ولو كان أراد بالطعام الحنطة خاصة لكان أثبت "أو" فيها، وسيرد الكلام على هذا عند ذكر اختلاف المذاهب. والأقط: لبن جامد مستحجر وهو معروف، وأقرب الأشياء شبها به المصل وكشك اللبن الهش. والسمراء: الحنطة وأضافها إلى الشام لأن أكرها كانت تجلب إلى المدينة من الشام. ¬

_ (¬1) الترمذي (673). وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (5/ 51).

والمد والصاع: قد تقدم بيانهما. والذي أراده معاوية: أن نصف صاع من الحنطة يقوم مقام صاع من التمر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الواجب في إخراج الزكاة، وهو ما يقتات به أهل بلده ويغلب عليهم، أو يقتاته هو. والقوت: هو كل ما يجب فيه العشر، وفي الأقط قولان لمن ورد في رواية ولم يرد في أخرى، وأن المقدار الواجب: هو صاع من كل نوع من أنواع القوت برًا كان أو غيره. وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وإليه ذهب الحسن البصري وأبو الشعثاء، وأبو العالية. وقال أبو حنيفة: الواجب من البر نصف صاع. وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن (¬1). وعن أبي حنيفة: في الزبيب روايتان. وقال أحمد: لا يجوز أن يخرج إلا من الأقوات الخمسة المذكورة في الحديث. وفيه دليل: على أنه لا يجوز دفع القيم فيها، لأنه ذكر أشياء مختلفة القيم على سبيل التخيير، فدل على أنه أراد الأعيان لا قيمتها. وقال الشافعي: إذا فضل عن قوته وقوت من يقوته قدر زكاة الفطر وجبت عليه، ولا يعتبر أن يكون مالكًا للنصاب. وبه قال ابن سيرين، والشعبي، وعطاء، والزهري، وأبو العالية، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور، وابن المبارك. وقال أبو حنيفة: لا يجب على من لم يملك نصابًا أو قيمة نصاب فاضلًا عن مسكنه وأثاثه. ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [وعن عبد الرحمن] وقد ضرب على بعضها، وأراها مقحمة والصواب حذفها.

قال البيهقي (¬1): وأبو سعيد الخدري كان في المدينة أيام أبي بكر وعمر وعثمان، وكان يعطي زكاة فطره وأهل بيته إلى كل واحد منهم، ومن المحال أن يقع هذا التعديل من واحد منهم، ثم إذا فعله معاوية ينكره أبو سعيد هذا الإنكار وقد روى عبد بن عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام، عن عياض بن عبد الله قال: قال أبو سعيد -وذكر عنده زكاة الفطر- وقال: لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صاعًا من تمر، أو صاعًا من حنطة، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، فقال له رجل من القوم: أو مدين من القمح؟ فقال: لا، تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها. وقد ذكر جماعة من الحفاظ: زعموا أن المحفوظ صاعًا من طعام من كذا، صاعًا من كذا. يعنون بغير "أو" على طريقة التفسير، إلا أنه قد تواترت الروايات عن عياض بن عبد الله -وهو من الثقات الأثبات- عن أبي سعيد بأن التعديل إنما كان من معاوية، وأنه أنكر ما فعله من ذلك، فثبت بحديث أبي سعيد وحديث ابن عمر خطأ الروايات التي ذكر فيها: "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصف صاع من بر" وثبت بحديث أبي سعيد أن التعديل كان من معاوية، خلاف قول من زعم أن ذلك كان من جهة جماعة الصحابة، وكيف يجوز دعوى الإجماع فيه وأبو سعيد ينكره على معاوية؟. وقد أخرج المزني [عن الشافعي بإسناده إلى عقيل بن خالد القرشي] (¬2) وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر: عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر مدين من حنطة". قال الشافعي: حديث مدين خطأ وإنما قال ذلك لأن التعديل إنما وقع بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد متصل، وحديث ابن المسيب منقطع، فكان الأخذ بالمتصل أولى. ¬

_ (¬1) "المعرفة" (6/ 196). (¬2) سقط من الأصل والمثبت مستفاد من "المعرفة" (6/ 198).

قال الشافعي في القديم: وهو الاحتياط. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع (¬1) "أن عبد الله ابن عمر كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرًا". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2): عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر وذكر حديثا وقال فيه: "فكان ابن عمر يعطي التمر؛ فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرًا". وأخرجه أبو داود (¬3): عن مسدد وسليمان بن داود العتكي، عن حماد بن أيوب مثل البخاري. الاستثناء من الاستثناء: يدل على خلاف المستثنى الأول فإن كان الأول نفيًا كان الثاني إثباتًا، وإن كان إثباتًا كان نفيًا، تقول: جاء القوم إلا الشبان إلا زيدًا، فالحاصل من هذا الاستثناء: أن زيدًا جاء مع القوم وأنه من جملة الشبان، فإنك استثنيت الشبان من القوم وأخرجتهم من المجيء ونفيته منهم فدخل زيد فيهم، فلما قلت: إلا زيدًا، أخرج من مشاركة الشبان في نفي المجيء ودخل في جملة الجائين، وكذلك تقول: ما قام إلا الشيوخ إلا زيدًا، فقد أثبت القيام للشيوخ وحدهم دون غيرهم، ثم نفيته عن زيد إذ أخرجته من جملة الشيوخ، وكذلك هاهنا قال: "ما كان يخرج في الزكاة إلا التمر، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا"، فعمم بقوله: ما كان يخرج إلا التمر يعني في جميع المرات، فلما قال: إلا مرة واحدة نفى عنها إخراج التمر فيها، وهذا الاستثناء من الاستثناء مطرد حتى قال في الإقرارات: إذا قال له: عندي عشرة إلا تسعة إلا ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [عن مالك] وهو خطأ والصواب أن يحذف، كذا في المسند وغيره. (¬2) البخاري (1511). (¬3) أبو داود (1615).

ثمانية، فيكون له عنده تسعة كأنه قال له: عندي عشرة تنقص تسعة ناقصة ثمانية، والتسعة الناقصة ثمانية واحد فصار كأنه قال له: عندي عشرة إلا واحداً. وأعوز الشيء يعوز إعوازًا، فهو معوز: إذا لم يف بما يراد منه، وهو من أعوز الرجل: إذا افتقر، وأعوزه الشيء: إذا احتاج إليه فلم يقدر عليه، وعوز الشيء عوزًا: إذا لم يوجد. ومواظبة عبد الله بن عمر على إخراج التمر يحتمل أمرين: إما أنه كان أسهل عليه من إخراج غيره، لكثرته في المدينة وقلة غيره. أو لأن التمر كان أحب إلى الفقير من غيره وأنفع له، وهو الأوجه لأنه قال: لما أعوز أهل المدينة التمر انتقل إلى الشعير. قال الشافعي (¬1): وإذا كان الرجل يقتات حبوبا مختلفة، والاختيار له أن يخرج زكاة الفطر من الحنطة، ومن أيها أخرج أجزأه -إن شاء الله تعالى- فإن كان يقتات حنطة فأراد أن يخرج زبيبًا أو تمرًا أو شعيرًا كرهت له ذلك، وأحببت لو أخرجه أن يعيد فيخرج حنطة، لأن الأغلب من القوت كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - التمر وكان من يقتات الشعير قليلاً، ولعله لم يكن بها أحد يقتات حنطة، ولعل الحنطة كانت بها شبها بالطرفة، ففرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر من قوتهم، ولا أحب إذا اقتات رجل حنطة أن يخرج من غيرها، وأحب لو اقتات شعيرًا أن يخرج حنطة لأنها أفضل، ثم ذكر هذا الحديث عن ابن عمر، فهذا يدل على أن ابن عمر إنما كان يخرج التمر لأنه كان الغالب على قوته، وهو غير الوجهين المذكورين أولاً. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا أنس بن عياض، عن أسامة بن زيد الليثي أنه سأل سالم بن عبد الله عن الزكاة، فقال: أعطها أنت، فقلت: ¬

_ (¬1) "الأم" (2/ 69).

ألم يكن ابن عمر يقول: ادفعها إلى السلطان؟ قال: بلى، ولكني لا أرى أن تدفعها إلى السلطان. قد تقدم بيان الحكم في إخراج الزكاة، وما يجوز لرب المال أن يفرقه بنفسه وما لا يجوز له، وذكرنا المذاهب فيها فلا حاجة إلى إعادته. وحكم زكاة الفطر حكمها، إلا أنها من الأموال الباطنة فيجوز له أن يفرقها بنفسه، وهذا القول من سالم بن عبد الله مخالف لما كان يراه أبوه عبد الله بن عمر، والمسألة في محل الاجتهاد. قال الشافعي: أخبرنا عبد الله بن المؤمل قال: سمعت ابن أبي مليكة ورجل يقول له: إن عطاء أمرني أن أطرح زكاة الفطر في المسجد، فقال ابن أبي مليكة: أفتاك العلج بغير رأيه، فإنما يعطها ابن هشام أحراسه ومن شاء. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يبعث زكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري وأبو داود. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع. وذكر حديثاً وقال في آخره: نحو من هذا. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن النفيلي، عن زهير، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر؛ أن تؤدى قبل الفطر بيوم أو يومين" قال: وكان ابن عمر يؤديها قبل ذلك اليوم واليومين. في هذا الحديث من الفقه: بيان وقت إخراج زكاة الفطر، وبيان جواز تعجيلها عن وقتها، وبيان دفع ¬

_ (¬1) البخاري (1511). (¬2) أبو داود (1610).

الزكاة إلى الإِمام أو نائبه وإلى الوكيل. أما وقتها: فقد اختلف فيه قول الشافعي، قال في القديم: يجب بطلوع الفجر الثاني من يوم الفطر. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأبو ثور، وإحدى الروايتين عن مالك. وقال في الجديد: يجب بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. وبه قال أحمد، وإسحاق، والثوري، وإحدى الروايتين عن مالك. وأما تعجيلها: فقد تقدم حكم ذلك فيما مضى (¬1) مطلقًا، في كل زكاة ودخلت زكاة الفطر فيها، وقال: ثم يفرقها في وقتها لا أنه يفرقها قبل وقتها. وأما بيان دفع الزكاة إلى الإمام والوكيل: فقد تقدم أيضًا بيانه. والمستحب أن يخرجها قلب صلاة العيد للنص. قال الشافعي عقيب حديث ابن عمر: هذا حسن وأستحبه لمن فعله، والحجة فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسلف صدقة العباس قبل [أن] (¬2) تحل، فنقول يقول ابن عمر وغيره -والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في الأصل [معنى] وهو تصحيف والمثبت هو مقتضى السياق. (¬2) من "المعرفة" (6/ 204).

الباب الثالث عشر في صدقة التطوع

الباب الثالث عشر في صدقة التطوع أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "والذي نفسي بيده، ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا طيبا, ولا يصعد إلى السماء إلا الأطيب- إلا كأنما يضعها في يد الرحمن، فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه، حتى إن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم، ثم قرأ {أَنَّ اللهَ هُوَ (¬1) يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي. أما مالك (¬2): فأخرجه مرسلًا عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن يسار "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " ولم يذكر أبا هريرة وذكر الحديث أخصر من هذا، وقال: فلوه -أو فصيله. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن منير، عن أبي النضر، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي فلوه حتى تكون مثل ¬

_ (¬1) سقطت من الأصل والآية من سورة [التوبة:104]. (¬2) "الموطأ" (60/ 760) رقم (1) (¬3) البخاري (1410).

الجبل". وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب -ولا يقبل الله إلا الطيب- إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة، فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله". وأما الترمذي (¬2)، والنسائي (¬3): فأخرجاه بإسناد مسلم ولفظة "من" في قوله: "ما من عبد" زائدة تفيد استغراقًا فإن قولك: "ما من عبد" أعم من قولك: "ما عبد"، وقد تقدم هذا المعنى مبسوطًا. والطيب: يريد به المال الذي يعلم أصله وفرعه وجهة مكسبه وكيف تحصيله، وأن ذلك جار على الوجه الشرعي العاري من أنواع الحيل وصروف التحليلات، أو المشرب بالحرام أو المكروه، وأموال الشبه لا يقبلها الله، لأنها ليست مالاً لمن هي في يده على سبيل الغصب، ولذلك أراد بقوله: "ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب" لأن السماء محل القبول ومصعد الملائكة، ومظان الإجابة. ويريد بالصعود: صعود الملائكة بالصدقة التي يتصدق بها الإنسان، وهم الملائكة الكرام الكاتبون المرتبون لحفظ أعمال بني آدم. ويد الرحمن لا يجوز حملها على ظاهرها، فإن لفظ اليد موضوع بإزاء الجارحة المخصوصة، ويتعال ويتقدس عن التشبيه والتجسيم علوًا كبيرًا، فإنما يريد بيد بالرحمن هاهنا: لطفه ورأفته، فإن اليد وإن كانت في أصل الوضع بإزاء الجارحة فإن لها انتقالات ومجازات، وقد وردت هي وغيرها من الأسماء ¬

_ (¬1) مسلم (1014). (¬2) الترمذي (661). وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (5/ 57).

الموضوعة بإزاء الجوارح، كالعين والوجه والإصبع والساق، وكل شيء من ذلك فإنما يطلق على الله تعالى من طريق المجاز والاتساع (¬1)، والناس في أمثال هذه الأسماء على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أجروها على ظاهرها اللغوي، فأعطوها حكمها الوضعي فجعلوا لله عينًا ووجهًا ويدًا وقدمًا وساقًا، وكذلك كل ما جاء من هذا النمط في القرءان العزيز وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهؤلاء هم المجسمة والمشبهة أعاذنا الله من الزيغ والزلل ووفقنا لأحسن القول والعمل. القسم الثاني: أجروا هذه الأسماء على ما جاءت عليه من غير تعرض إلى ما يراد بها, ولأنهم لمعانيها التي أطلقت عليها ولا تأويل لألفاظها الواردة، بمقتضى ¬

_ (¬1) قلت: غفر الله للمصنف وعفا عنه فقد أبعد النجعة، ونأى عن سبيل أهل السنة والجماعة إلى طريق المعطلة الذين صرفوا اللفظ عن معناه الحقيقي إلى معنى لا يراد؛ فوقعوا في الإلحاد في أسماء الله وصفاته، وأهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. فأثبتوا الصفات لله تعالى ولم يكيفوا ماهيتها. قال الإِمام البيهقي في الاعتقاد (89): ذكر آيات وأخبار وردت في إثبات صفة الوجه واليدين والعين وهذه صفات طريق إثباتها السمع، فنثبتها لورود خبر الصادق بها, ولا نكيفها. قال الله تبارك وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]. فأضاف الوجه إلى الذات، وأضاف النعت إلى الوجه، فقال: {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ولو كان ذكر الوجه صفة، ولم يكن للذات صفة لقال: ذي الجلال والإكرام، فلما قال: ذو الجلال والإِكرام علمنا أنه نعت للوجه، وهو صفة للذات، وقال الله عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. بتشديد الياء من الإضافة وذلك تحقيق في التثنية، وفي ذلك منع من حملهما على النعمة أو القدرة لأه ليس لتخصيص التثنية في نعم الله ولا في قدرته معنى يصح، لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ولأه خرج مخرج التخصيص وتفضيل آدم عليه السلام على إبليس وحملهما على القدرة أو على النعمة يزيل معنى التفضيل لاشتراكهما فيها، ولا يجوز حملهما على الماء والطين، لأُه لو أراد ذلك لقال: لما خلقت من يدي كما يقال: ضغت هذا الكوز من الفضة أو من النحاس، فلما قال: بيدي علمنا أن المراد بهما غير ذلك. وقال الله عز وجل {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39]، وقال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].

ما يوجبه العقل ويقتضيه التوسع العربي، إلا أنهم لا يطلقونها إطلاق المجسمة والمشبهة، بل هم مع ترك تأويلها ينفون التجسيم والتشبيه، ويقولون: إن هذه الأسماء هي صفات الله -عز وجل- منها ما يسمى يدًا، ومنها ما يسمى وجهًا، ومنها ما يسمى عينا ونحو ذلك، وهؤلاء هم أكثر أهل الحديث وخلق كثير من السلف ومن قال بقولهم، حتى إن أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- لم يؤول من الأحاديث الواردة في هذا الفن إلا ثلاثة أحاديث: أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن". والثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن". والثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". وما لتخصيص هذه الأحاديث بالتأويل (¬1) معنى تنفرد به عن غيرها من أحاديث الصفات، على أن هذا طريق صالح حميد العاقبة مأمون الغائلة، وصاحبه غير مؤاخذ بجريمة ولا مطالب بعظيمة فإن الإقدام على الأشياء المشكلة مخطر، والجرأة على فتح باب التأويل مزلة قدم، إلا من وفقه الله للوقوف على حقائق الأشياء، وإدراك خفايا الألفاظ ومدلولاتها والإحاطة بأسرار الشريعة، وهم العلماء الأكياس الذين أتوا دار هذا العلم من بابها، وسلكوا محجته من مشارعها وجهاتها، فسهل الله سبحانه لهم نيل الأرب، وسنى لهم حصول الطلب، وهم الذين مدحهم الله ¬

_ (¬1) وفي هذا النقل عن الإِمام أحمد نظر، والمتواتر عنه في الأسماء والصفات يناقض هذا القول، بل لو قلنا أن عمدة أهل السنة والجماعة في مسائل الصفات، الإِمام أحمد لم نكن مبالغين، لذا قال شيخ الإِسلام في مجموع الفتاوى (5/ 398): والأكثرون من أصحاب أحمد لم يثبتوا عنه نزاعًا في التأويل لا في هذه الصفات ولا في غيرها، وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية: أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أشياء: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، "وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"، "وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن"، فهذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف؛ لا علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال. اهـ. وانظر أيضًا كلامه على هذه الأحاديث وبيانها في الفتاوى (6/ 397 - 398).

تعالى وأثنى عليهم، فقال عز من قائل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ} (¬1) فلو لم يكن له تأويل خفي على من لم يتصف بصفاتهم؛ لما مدحهم الله بمعرفته وعلمه، وهؤلاء هم. القسم الثالث: تدبروا ما جاء في هذه الآيات والأحاديث، مما لم يحله العقل والشرع ولا دل على خلافه دليل ثابت، أجروه على ما جاء عليه حيث لم يفض إلى مستحيل، ولا اقتضى شيئًا تنكره العقول، وما لم يكن بهذا الحال أولوه بضرب من التأويل يحتمله إطلاق اللغة والشرع معًا ولم يخرجوه عن مدلولها، فجمعوا بين دليلي العقل والشرع و [نرها] (¬2) في النظر والسمع، فلنرجع إلى تأويل هذا الحديث وهو اليد فنقول: اليد تطلق في اللغة: على الجارحة، والنعمة، والقوة، والقدرة، والملك، والسلطان، والطاعة، والجماعة، والغياث، ومنع الظلم، والقهر، والإحسان, والذلة، والاستسلام، والنقد ضد النسيئة، وهذه المعاني جميعها واردة في العربية كثيرة الإطلاق، ولولا الإطالة لذكرنا أمثلة صحيحة واستشهادات ثابتة من القرءان العزيز، والحديث، والشعر، والكلام الفصيح. فإذا تدبرنا قوله: "فكأنما يضعها في يد الرحمن" وعرضنا لفظ اليد على هذه المسميات المذكورة، رأينا أحسن ما يناسبها وأشبهها بها بعد امتناعها من إطلاقها على الجارحة، أن يضاف إلى يد القدرة والنعمة فيستعار للنعمة والقدرة، ويضاف وضع الصدقة إليها، أي كأنما يضعها في يد قدرته وسلطانه ونعمته ولطفه ورأفته، ألا ترى كيف أضاف اليد إلى الرحمن مرتين من بين أسمائه الحسنى على كثرتها، إيذانا باللطف والرأفة والرحمة، ولم يقل: في يد الجبار، ولا يد القهار، ولا غير ذلك من باقي الأسماء التي ليس فيها ما في الرحمن. ¬

_ (¬1) [آل عمران: 7]. (¬2) كذا بالأصل.

والسبب في هذا التأويل: أنه لما دل الدليل القطعي على أن الله -سبحانه وتعالى- لا يجوز أن يكون جسمًا ولا جوهرًا ولا عرضًا, ولا يجوز أن يجري عليه أحكام الأجسام والجواهر من الحلول والاستقرار، وغير ذلك مما أوجب العقل الصحيح والدليل الصريح نفيه عنه، وجاءت لفظة اليد احتجنا أن نحملها على وجه يجمع فيه بن الأمرين، وعلى ذلك جاء في الرواية الأخرى: "كما يضعها في كف الرحمن" يريد بالكف: ما أراد باليد لأن الكف بعض اليد (¬1). والله أعلم. ¬

_ (¬1) قلت: وهذا بعينه هو قول الجهمية، خالفوا به أهل السنة والجماعة. وقد رد ابن خزيمة في كتاب التوحيد على من أنكر صفة اليد أو أولها، وانظر التوحيد (1/ 118 - 187). ورد شيخ الإِسلام على من أول الصفات وصرفها عن مدلولها الحقيقي بتفصيل لا تراه لغيره. فقال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (6/ 362 - ...): ونحن نتكلم على صفة من الصفات ونجعل الكلام فيها أنموذجًا يحتذى عليه، ونعبر بصفة "اليد" وقد قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وقال تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}؛ وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، وقال: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}. وقد تواتر في السنة مجيء (اليد) في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -. فالمفهوم من هذا الكلام: أن لله تعالى يدين مختصتان به ذاتيتان له كما يليق بجلاله، وأنه سبحانه خلق قدم بيده دون الملائكة وإبليس، وأنه سبحانه يقبض الأرض ويطوي السموات بيده اليمنى، وأن (يداه مبسوطتان) ومعنى بسطهما بذل الجود وسعة العطاء، لأن الإعطاء والجود في الغالب يكون ببسط اليد ومدها؛ وتركه يكون ضمًا لليد إلى العنق، صار من الحقائق العرفية إذا قيل هو مبسوط اليد فهم منه يد حقيقة، وكان ظاهره الجود والبخل، كما قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} ويقولون: فلان جعد البنان وسبط البنان. قلت له: فالقائل: إن زعم أنه ليس له يد من جنس أيدي المخلوقين: وأن يده ليست جارحة، فهذا حق. لأنّ زعم أنه ليس له يد زائدة على الصفات السبع؛ فهو مبطل. فيحتاج إلى تلك المقامات الأربعة. أما "الأول" فيقول: إن اليد تكون بمعنى النعمة والعطية تسمية للشيء باسم مسببه، كما يسمى المطر والنبات سماء، ومنه قولهم لفلان: عنده أياد، وقول أبي طالب لما فقد النبي - صلى الله عليه وسلم -: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = يا رب! رد راكبي محمدًا ... رده علي واصطنع عندي يدًا وقول عروة بن مسعود لأبي بكر يوم الحديبية: لولا يدً لك عندي لم أجزك بها أجبتك. وقد تكون اليد بمعنى القدرة تسمية للشيء باسم مسببه؛ لأن القدرة هي التي تحرك اليد، يقولون: فلان له يد في كذا وكذا؛ ومنه قول زياد لمعاوية: إني قد أمسكت العراق بإحدى يدي، ويدي الأخرى فارغة، يريد نصف قدرتي ضبط أمر العراق. ومنه قوله: (بيده عقدة النكاح)، والنكاح كلام يقال، وإنما معناه أنه مقتدر عليه. وقد يجعلون إضافة الفعل إليها إضافة الفعل إلى الشخص نفسه، لأن غالب الأفعال لما كانت باليد جعل ذكر اليد إشارة إلى أنه فعل بنفسه، قال الله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} إلى قوله {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي: بما قدمتم؛ فإن بعض ما قدموه كلام تكلموا به وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} إلى قوله {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} والعرب تقول: يداك أوكتا، وفوك نفخ: توبيخا لكل من جر على نفسه جريرة؛ لأن أول ما قيل هذا لمن فعل بيديه وفمه. (قلت له): ونحن لا ننكر لغة العرب التي نزل بها القرآن في هذا كله والمتأولون للصفات الذين حرفوا الكلم عن مواضعه وألحدوا في أسمائه وآياته تأولوا قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} على هذا كله فقالوا: إن المراد نعمته، أي نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة، وقالوا بقدرته. وقالوا: اللفظ كناية عن نفس الجود؛ من غير أن يكون هناك يد حقيقة؛ بل هذه اللفظة قد صارت حقيقة في العطاء والجود. وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} في خلقته أنا، وإن لم يكن هناك يد حقيقية، قلت له فهذه تأويلاتهم؟ قال: نعم، قلت له: فننظر فيما قدمنا: (المقام الأول): أن لفظ "اليدين" بصيغة التنثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة، لأن من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع كقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}، ولفظ الجمع في الواحد كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ}، ولفظ لجمع الجمع في الاثنين كقوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أما استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد وهي نصوص في معناها لا يتجوز بها, ولا يجوز أن يقال: عندي رجل ويعني رجلين، ولا عندي رجلان ويعني به الجنس؛ لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس والجنس يحصل بحصول الواحد. فقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد. ولا يجوز أن يراد به النعمة لأن نعم الله لا تحصى؛ فلا يجوز أن يعبر عن النعم التي لا تحصى بصيغة التثنية. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ولا يجوز أن يكون (لما خلقت أنا) لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد. فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفعل، كقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}، {قَدَّمَتْ يَدَاكَ}. ومنه قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا}. أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدى الفعل إلى اليد بحرف الباء كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإنه نص في أنه فعل الفعل بيديه، ولهذا لا يجوز لمن تكلم أو مشى: أن يقال فعلت هذا بيديك ويقال: هذا فعلته يداك، لأن مجرد قوله: فعلت، كاف في الإضافة إلى الفاعل. فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة، ولست تجد في كلام العرب ولا العجم -إن شاء الله تعالى- أن فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي أو فلان فعل هذا بيديه. إلا ويكون فعله بيديه حقيقة. ولا يجوز أن يكون لا يد له أو أن يكون له يد والفعل وقع بغيرها. وبهذا الفرق المحقق نتبين مواضع المجاز ومواضع الحقيقة؛ ويتبين أن الآيات لا تقبل المجاز البتة من جهة نفس اللغة. قال لي: فقد أوقعوا الاثنين موقع الواحد في قوله: {أَلْقِيَا في جَهَنَّمَ} إنما هو خطاب للواحد. قلت له: هذا ممنوع؛ بل قوله: (ألقيا) قد قيل لتثنية الفعل، والمعنى ألق ألق. وقد قيل: إنه خطاب للسائق والشهيد. ومن قال: إنه خطاب للواحد قال: إن الإنسان يكون معه اثنان: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فيقول: خليلي! خليلي!. ثم إنه يوقع هذا الخطاب وإن لم يكونا موجودين كأنه يخاطب موجودين؛ فقوله: (ألقيا) عند هذا القائل إنما هو خطاب لاثنين يقدر وجودهما فلا حجة فيه البتة. قلت له: (المقام الثاني): أن يقال: هب أنه يجوز أن يعني باليد حقيقة اليد، وأن يعني بها القدرة أو النعمة، أو يجعل ذكرها كناية عن الفعل؛ لكن ما الموجب لصرفها عن الحقيقة؟. فإن قلت: لأن اليد هي الجارحة وذلك ممتنع على الله سبحانه. قلت لك: هذا ونحوه يوجب امتناع وصفه بأن له يدًا من جنس أيدي المخلوقين وهذا لا ريب فيه؛ لكن لم لا يجوز أن يكون له "يد" تناسب ذاته تستحق من صفات الكمال ما تستحق الذات؟ قال: ليس في العقل والسمع ما يحيل هذا؛ "قلت" فإذا كان هذا ممكنًا وهو حقيقة اللفظ فلم يصرف عنه اللفظ إلى مجازه؟ وكل ما يذكره الخصم من دليل يدل على امتناع وصفه بما يسمى به -وصحت الدلالة- سلم له أن المعنى الذي يستحقه المخلوق منتف عنه، وإنما حقيقة اللفظ وظاهره "يد" يستحقها الخالق كالحلم والقدرة بل كالذات والوجود. (المقام الثالث): قلت له: بلغك أن في كتاب الله أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن أحد من أئمة المسلمين: أنهم قالوا: المراد باليد خلاف ظاهره، أو الظاهر غير مراد، أو هل في كتاب الله آية تدل على انتفاء وصفه باليد دلالة ظاهرة؛ بل أو دلالة خفية؟ فإن أقصى ما يذكره المتكلف قوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وهؤلاء الآيات إنما يدللن على انتفاء التجسيم والتشبيه. أما انتفاء يد تليق بجلاله فليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه. وكذلك هل في العقل ما يدل دلالة ظاهرة على أن الباري لا "يدًا" له البتة؟ لا "يدا" تليق بجلاله ولا "يدا" تناسب المحدثات، وهل فيه ما يدل على ذلك أصلاً؛ ولو بوجه خفي؟ فإذا لم يكن في السمع ولا في العقل ما ينفي حقيقة اليد البتة؛ وإن فرض ما ينافيها، فإنما هو من الوجوه الخفية -عند من يدعيه- وإلا ففي الحقيقة إنما هو شبهة فاسدة. فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يداه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر: لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ "جهم بن صفوان" بعد انقراض عصر الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه "بشر بن غياث" ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق. وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى "الخراءة" ويقول: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به" "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه؟! وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جات مع أن معناها -المجازي هو المراد وهو شيء لا يفهمه العرب، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار!؟ (المقام الرابع): قلت له: أنا أذكر لك من الأدلة الجلية القاطعة والظاهرة يبين لك أن لله "يدين" حقيقة. فمن ذلك تفضيله لآدم: يستوجب سجود الملائكة، وامتناعهم عن التكبر عليه؛ فلو كان المراد أنه خلقه بقدرته أو بنعمته، أو بمجرد إضافة خلقه إليه، لشاركه في ذلك إبليس وجميع المخلوقات. قال لي: فقد يضاف الشيء إلى الله على سبيل التشريف، كقوله: ناقة الله، وبيت الله. قلت له: لا تكون الإضافة تشريفًا حتى يكون في المضاف معنى أفرده به عن غيره، فلو لم يكن في الناقة من الآيات البينات ما تمتاز به على جميع النوق والبيوت لما استحقا هذه الإضافة، والأمر هنا كذلك، فإضافة خلق آدم إليه أنه خلقه بيديه يوجب أن يكون خلقه بيديه أنه قد فعله بيديه، وخلق هؤلاء بقوله: كن فيكون، كما جات به الآثار. ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك، فهما شيئان: (أحدهما) إثبات اليد، والثاني إضافة الملك والعمل إليها، والثاني يقع فيه التجوز كثيراً، أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له "يد" حقيقة، ولا يقولون: "يد" الهوى ولا "يد" الماء، فهب أن قوله: =

والفَلُوّ -فتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو-: المهر إذا فصل عن أمه لأنه يفلي أي يفطم، وكذلك الفصيل إلا أنه في الإبل بمنزلة الفلو في الخيل، وقد يقال فيه: فلو -بكسر الفاء وسكون اللام وتخفيف الواو- ضرورة. وقوله ثم قرأ: {أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (¬1) يريد أن الأخذ إنما يكون باليد فلما قال: كأنما يضعها في يد الرحمن استدل بالآية: أنه يأخذ الصدقات وهذا في معرض التمثيل، وإلا فلا يد جارحة هناك ولا أخذ (¬2). ومعنى الحديث إعلام المتصدق أن الصدقة التي يعطيها الففير جارية بعلم الله وإرادته وإيثاره، وأنها عنده بمنزلة من وصلت إليه، وأنه هو الشاكر عليها والمجازي بها، وفي ذلك حث على الصدقة وإعلام بفضيلتها. وعدل الشيء: مثله. وقوله في رواية البخاري وغيره: بيمينه -موضع يده- فيه زيادة تخصيص، لأن الأخذ والإعطاء إنما يكون باليمين، وإلا فكلتا يد الرحمن يمين وكذا جاء في الحديث المشهور (¬3)، واليمين أيضًا في حكم التأويل كحكم اليد (¬4). ¬

_ = بيده الملك، قد علم منه أن المراد بقدرته، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة. والفرق بين قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} من وجهين: (أحدهما): أنه هنا أضاف الفعل إليه وبين أنه خلقه بيده، وهناك أضاف الفعل إلى الأيدي. (الثاني): أن من لغة العرب أنهم يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أي: يديهما، وقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي: قلباكما، فكذلك قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}. وأما السنة فكثيرة جدًا، ثم ذكر جملة من الأدلة انظرها هناك. (¬1) التوبة [104]. (¬2) تقدم بيان وجه الصواب في ذلك قبل أسطر. (¬3) وأخرجه مسلم في صحيحه (1827) عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن -عز وجل- وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا". (¬4) قال الإِمام النووي في "شرح مسلم" (6/ 455). قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عن يمين الرحمن" فهو من أحاديث الصفات، واختلف العلماء فيها، وأن منهم =

والربا: الزيادة، ربا الشيء يربو إذا زاد وكثر. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان -أو جنتان- من لدن ثديهما إلى تراقيهما"، فإذا أراد المنفق أن ينفق سبغت عليه الدرع -أو مرت-، حتى تجن بنانه وتعفو أثره، وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت ولزمت كل حلقة موضعها حتى تأخذ بعنقه. -أو ترقوته- "فهو يوسعها ولا تتسع". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاووس، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله إلا أنه قال: "فهو يوسعها ولا تتوسع". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن موسى، عن وهب، عن ابن طاوس، عن أبيه بإسناد الرواية الثانية. وعن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن إسناد الأولى. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن عمرو الناقد، عن سفيان بإسناد الأولى، وإسناد الثانية. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان بإسناد الثانية وقال: عن طاوس، ثم قال: حدثناه أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: ¬

_ = من قال: نؤمن بها ولا نتكلم في تأويله، ولا نعرف معناه، لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد، وأن لها معنى يليق بالله تعالى وهذا مذهب جماهير السلف وطوائف من المتكلمين. والثاني: أنها تؤل على ما يليق بها، وهذا قول أكثر المتكلمين أهـ. قلت: والحق هو سبيل المؤمنين أصحاب الحجج والبراهين. (¬1) البخاري (1443). (¬2) مسلم (1021). (¬3) النسائي (5/ 70).

وذكر الحديث وفي آخره يقول أبو هريرة: أشهد أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوسعها ولا تتسع. قال طاوس: سمعت أبا هريرة يشير بيده وهو يوسعها ولا تتوسع. مثل الشيء ومثله: سواء، مثل: شبه وشبهه، وهي كلمة تسوية بين الشيئين أو الأشياء. والمنفق: الكريم السخي وهو ضد الممسك، ولذلك جاء في مقابلته بالبخيل، وأراد بالإنفاق: الصدقة وإخراج المال في أبواب البر والخير، ولذلك جاء في الرواية الأخرى "المتصدق" بدل "المنفق" ولم يرد كل من أنفق ماله وتكرم في غير وجهه، فإن ذلك تبذير وإسراف وهو مذموم، وصاحبه مؤاخذ عليه في الآخرة محجور عليه في الدنيا. والجنة: الوقاية وما يدفع به الإنسان عنه الأذى، ويستره من مصادمة الحوادث، وهو من الجن الستر. والجبة -بالباء-: من اللباس معروفة. ولدن: كلمة ظرف مكان بمعنى "عند"، إلا أنها أقرب مكانًا من "عند"، و"عند" أكثر اتساعًا منها وإن كانا جميعًا غير متمكنين، تقول: هذا القول عندي صواب، ولا يجوز أن تقول: هذا القول لدني صواب، وتقول: المال عندي، وإن كان غائبا, ولا تقول: المال لدني، حتى يكون حاضراً فهي أكثر اختصاصًا بالحضرة من "عند". قال الأزهري: وقد تستعمل في الأزمان استعمالها في الأمكنة، تقول: انتظرتك من لدن كذا إلى المسجد، ونحو ذلك إذا اتصل ما بين الشيئين، ولم يدخلوا على لدن من حروف الجر إلا "من" وحدها مثل عند وهي مضافة كعند، وفيها ثلاث لغات:

لدن: مضمومة الدال ساكنة النون. ولدا: مفتوحة الدال وعوض النون ألف ساكنة. ولد: بحذف النون وضم الدال، وقد جعل حذف النون في هذه اللغة إلى أن قالوا: "لدن غدوةً" فنصبوا غدوة لأنهم توهموا أن هذه النون زائدة تقوم مقام التنوين فنصبوا، كما نصبوا في ضارب زيدًا، ولم ينصبوا بلدن إلا غدوة وحدها. والثدي: جمع ثدي والثدي يذكر ويؤنث من الرجل والمرأة. والتراقي: جمع ترقوة: وهي العظم الذي بن ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان من الجانبين، ووزنها: فعلوه بفتح الفاء. والثوب الواسع السابغ الذي يشمل البدن. والدرع: الزردية، وهو المراد في الحديث لا الثوب، لأنه قال: "جبتان" وقال: "لزمت كل حلقة موضعها"، ومن روى "جبتان" بالتاء فيجوز أن يكون أراد به الثوب فسمى الجبة درعًا. قوله: "أو مرت" نفى أنه إذا أراد أن يخرج يده لصدقة مرت من درعه لا يعيقها شيء لسعتها، أو مرت الدرع جارية على يده لسعتها سابغة لها، فسبغت دلالتها لفطة، ومرت دلالتها معنوية، لأن المرور دليل على السبوغ. والبنان: أطراف الأصابع واحدتها بنانة، أي أن الدرع واسعة سابغة تستر أنامله وتغطي رجليه من طولها، ويدل على ذلك قوله: "وتعفو أثره" أي تذهب أثر مشيه وأقدامه على الأرض بمرورها وراءه، تقول: عفى الأثر يعفو إذا درس، والفعل منه يتعدى ولا يتعدى، تقول: عفت الريح المنزل، إذا درسته، وعفاهم إذا درس. وقلص الثوب يقلص: إذا قصر واجتمع وكذلك العضو.

وقوله في رواية: "فلا تتسع"، وفي رواية "فلا تتوسع" بمعنى واحد إلا أن بين الناس فرقًا من جهة التركيب، لأن تتسع مضارع اتسع، وتتوسع مضارع توسع، وأصل الكلمة: وسع يسع سعة، والسعة: خلاف الضيق واتسع تفعيل منه. وفي إيراد الشافعي هذه اللفظة في الرواية الثانية: دليل على المنع من رواية الحديث بالمعنى، لأنه لا فرق بين تتسع وتتوسع إلا من حيث التركيب، ولما قال الشافعي في الرواية الثانية مثله إلا أنه قال: "يوسعها ولا تتوسع" دل ذلك على ما قلناه، وإن كان الشافعي يجيز رواية الحديث بالمعنى وعليه جماهير العلماء، وإنما ذكرنا هاهنا ما ذكره: محافظة على لفظ الحديث، ولا شك أنه الأولى عنده وعند كل من أجاز رواية الحديث بالمعنى، فإن رواية لفظ الحديث أجدر، والجائز شيء والأولى شيء آخر، وهذا مما يدلك كمال دين الشافعي -رحمه الله تعالى- وقوي علمه، وأنه لم يسامح نفسه بإهمال السين من الجائز حيث قال: "مثله"، وكان في الرواية الثانية ما يخالف لفظ الأولى وإن كان بمعناه، وعلى هذا القدم كان السلف الأول من العلماء؛ يحاسبون أنفسهم على ارتكاب الجائزات، واستعمال المباحات، ويؤاخذونها بها، ألهمنا الله وإياكم الاقتداء بهم، والسلوك في محجتهم بمنِّه وكرمه. وهذا الحديث: ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا للكريم المنفق والبخيل الممسك، فجعل مثل الكريم: مثل رجل لبس درعًا سابغة، فإنه أول ما يلبسها تقع على صدره وقدمه فتستمر لسعتها نازلة، حتى تستر جميع بدنه وتحصنه من الأذى بسترها جميع أعضائه، وأنها لطولها تنجر على الأرض فتعفو أثره. وجعل مثل البخيل: مثل رجل لبس درعًا ضيقة، لا تجول فيها يداه ولا يمكنه إدخالهما في كمي الدرع لضيقها, ولا تتسع لإدخال رأسه في جيبها لضيقه عنه، فهي أول ما تقع على رقبته وتلزم مكانها. وحقيقة المعنى: أن الكريم إذا هم بالنفقة اتسع لها صدره وطاوعته يداه،

فامتد بالعطاء والبذل. وأن البخيل تضيق بها صدره، وتنقبض يداه عن الإنفاق. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن أمه أسماء بنت أبي بكر "أتتني أمي راغمة في عهد قريش، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلها؟ قال: نعم". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة. وعن الحميدي، عن سفيان. وعن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل كلهم عن هشام. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الله بن إدريس. وعن أبي كريب محمد بن العلاء، عن أبي أسامة كلهم عن هشام، وقال في إحدى روايتيه: راغبة أو راهبة. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن [أحمد] (¬4) بن أبي شعيب الحراني [عن] (¬5) عيسى بن يونس، عن هشام، وقال: وهي راغمة مشركة. وقد روى المزني (¬6): عن الشافعي، عن أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة راغبة أفأصلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلي أمك". الهاء في "أمه" راجعة إلى عروة لا إلى هشام، لأن أسماء بنت أبي بكر هي ¬

_ (¬1) البخاري (2620، 3183، 5978). (¬2) مسلم (1003). (¬3) أبو داود (1668). (¬4) في الأصل [حميد] وهو تصحيف والمثبت من تحفة الأشراف (11/ 247)، ومطبوعة السنن. (¬5) سقط من الأصل والمثبت من التحفة وفي مطوعة السنن [ثنا]. (¬6) معرفة السنن والآثار (6/ 213).

الراوية وهي أم عروة بن الزبير. والراغب: الطالب. والعامل في قوله: "عهد قريش" أمي لا راغبة، لأن التقدير أتتني في عهد قريش وهي راغبة. وراغبة: منصوب على الحال. والعهد هاهنا: اليمين، والمعاهدة: المصالحة التي كانت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش، وكان بعضها سبب فتح مكة. والصلة: العطية، أرادت أن أمها لما جاءت تطلب صلتها كانت مشركة، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة عليها مع الشرك، ويدل على ذلك ما جاء في الرواية الأخرى: "وهي مشركة"، وفي رواية الشافعي "أصلها" بهمزة واحدة وألف ساكنة، والأصل في الكلمة همزتان إحداهما: أصلية، والثانية: للاستفهام، التقدير أصلها، فلما ثقلت الهمزتان حذف الهمزة التي هي من نفس الكلمة؛ وعوض منها ألفا ساكنة وأبقى همزة الاستفهام لأنها جاءت لمعنى، وفيما كان من هذا القبيل ثلاث لغات وكلها قرئ بها القرآن العزيز، كقوله تعالى: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (¬1) قرئ بإثبات الهمزتين فتحذف الثانية، والتعويض منها ألفا ساكنة ويحذف في النطق مرة، فمنهم من يطيلها ومنهم من يقصرها، وبإدخال ألف ساكنة بين الهمزتين، وعلى الثانية جاء لفظ هذا الحديث. وقوله: "راغمة" أي كارهة للإسلام ساخطة علي، وأنها لم تأت راغبة في الدين، كما كان يقدم الناس من مكة راغبين في الإِسلام ومهاجرين، إلا أنها مع ذلك محتاجة. ¬

_ (¬1) [البقرة: 6].

والرهب: الخوف، تريد أنها كانت راهبة من قريش، كيف أتتني تطلب مني صلة، أو خائفة أن أمنعها فلا أصلها، أو خائفة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن المسلمين حيث هي مشركة. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن صدقة التطوع يجوز دفعها إلى المشركين، وأهل الذمة، ومن ليس بمسلم. وأما صدقة الفرض: فلا يجوز دفعها إلى من ليس بمسلم من الأصناف الثمانية. وحكى عن الزهري، وابن شبرمة: أنه يجوز دفعها إلى أهل الذمة. وقال أبو حنيفة: يجوز دفع زكاة الفطر إلى الكافر دون غيرها. قال الشافعي: ولا بأس أن يتصدق على المشرك من النافلة، وليس له في الفريضة من الصدقة حق، وقد حمد الله [قوماً] (¬1) فقال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}. وقد أخرج في رواية حرملة (¬2): عن سفيان، عن بشير، عن مجاهد قال: "ذبح ابن عمر شاة، فقال لقيمه -أو لغلامه-: هل أديت لجارنا اليهودي شيئاً؟ قال: لا. قال: فاهد له، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". وأخرج أيضاً في كتاب حرملة (¬3): عن سفيان، عن عمرو بن سعيد، عن عباية بن رفاعة قال: قال عمر بن الخطاب لمحمد بن مسلمة: أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يشبع الرجل دون جاره". ¬

_ (¬1) في الأصل [قوم] وهو تصحيف والتصويب من "الأم" (2/ 61) وكذا "المعرفة" (6/ 214). (¬2) انظر "المعرفة" (6/ 214). (¬3) "المعرفة" (6/ 216).

وأخرج أيضاً في كتاب حرملة: عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن معاذ الأشهلي، عن جدته أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا نساء المؤمنات لا تحقرن إحداكن لجارتها, ولو كراع شاة محرق" (¬1). وقد أخرج الشافعي أيضًا من رواية المزني عنه: عن أنس بن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي هريرة سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خير الصدقة عن ظهر غنى، وليبدأ أحدكم بمن يعول". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2). وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ابن آدم، أنفق أنفق عليك". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬3) عن زهير، عن سفيان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا الثقة -أو سمعت- هارون بن معاوية، عن عبد الله بن عطاء المزني، عن ابن بريدة الأسلمي، عن أبيه أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني تصدقت على أمي بعبد وإنها ماتت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد وجبت صدقتك وهو لك بميراثك". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. أما مسلم (¬4): فأخرجه عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن عبد الله ابن عطاء بالإسناد، إلا أنه قال: "جارية" بدل "العبد" وزاد فيه شيئًا آخر. ¬

_ (¬1) وأخرجه عن مالك البخاري في "الأدب المفرد" رقم (122). وأصله في الصحيحين. (¬2) البخاري (1428). (¬3) مسلم (993). (¬4) مسلم (1149).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن يونس [عن زهير] (¬2)، عن عبد الله ابن عطاء، وقال: "وليدة" وزاد ما زاد مسلم. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن علي بن حجر، عن علي مسهر، عن عبد الله ابن عطاء وزاد فيه زيادة (¬4). قوله: "وجبت صدقتك" أي وجب أجرك عليها [وقت كل] (¬5). وقوله: "هو لك بمنزلتك" رجع إليك بسبب الميراث. وهذه الصدقة التي ذكرها هي التي ليست محرمة ولا وقفًا، إنما هي صدقة ينتفع بها المصدق عليها، فلذلك عاد العبد إليه بالميراث. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: عن عمي محمد بن علي بن شافع، أخبرني عبد الله بن حسين بن حسن، عن غير واحد من أهل ييته -وأحسبه (¬6) قال ابن علي-: "أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[تصدقت] (¬7) بمالها على بني هاشم وبني المطلب، وأن عليًّا تصدق عليهم وأدخل معهم غيرهم. المراد بالصدقة في هذا الحديث: يجوز أن يراد بها الوقف، ويجوز أن يراد بها صدقة التطوع، وكأنها بالوقف أشبه, لأن ذكرها في هذا المكان يسند ما تضمنه حديث عمر وصدقته، ولأن الصدقة على بني هاشم وبني المطلب لا ¬

_ (¬1) أبو داود (1656) وليس عنده زيادة مسلم. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من أبي داود. (¬3) الترمذي (667) وقال: حسن صحيح. (¬4) وهي [قالت: يا رسول الله! إنها كان عليها صوم أشهر، أفأصوم عنها؟ قال: صومي عنها. قالت: يا رسول الله! إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال نعم، حجي عنها] وكذا عند مسلم. (¬5) كذا في الأصل. لعل الصواب [وقت تصدقك] والله أعلم. (¬6) في الأصل قال كلمة لم تتضح لي ورسمها [يحد] وهي غير ثابتة في مطبوعة المسند ولعلها مقحمة ولم يضرب عليها. (¬7) من مطبوعة المسند.

تجوز في الزكاة، فكان صرفها إلى صدقة الوقف أولى، ولأن الشافعي قال في بيان عمر وصدقته: والصدقات المحرمات التي يعول لها بعض أصحابنا، الوقف عندنا بالمدينة ومكة من الأمور المشهورة العامة، التي لا يحتاج فيها نقل خبر الخاصة، وصدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمة عندنا، وصدقة الزبير قريب منها، وصدقة عمر بن الخطاب قائمة، وصدقة عثمان، وصدقة علي، وصدقة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصدقة من لا أحصي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وأراضيها. وقوله في الحديث: "وأدخل معهم غيرهم" يريد بني هاشم وبني المطلب في الصدقة. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنيه مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل فقربت إليه خبزاً [وأدم] (¬1) البيت، فقال: "ألم أر برمة لحم"؟ فقالت: ذلك شيء تصدق به على بريرة. فقال: "هو لها صدقة ولنا هدية". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم. أما مالك (¬2): فأخرجه بزيادة في أوله، قالت: كانت في بريرة ثلاث سنن: وذكرت العتق وتخييرها زوجها، وأن الولاء لمن أعتق، والبرمة. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن يونس وإسماعيل، عن مالك، وذكر الثلاث. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك. ¬

_ (¬1) في الأصل [ودم] والمثبت من "مطبوعة المسند". (¬2) "الموطأ" (2/ 441) رقم (25). (¬3) البخاري (5097، 5279). (¬4) مسلم (1075).

الأدم -بضم الهمزة-: ما يؤكل مع الخبز، والإدام بكسر الهمزة مثله. قوله: "أدم البيت" أي ما كان في البيت مما يؤتدم به غير ما في البرمة. والبرمة: القدر، وأضاف البرمة إلى اللحم إضافة تخصيص وملابسة كسرج الدابة. وبريرة: هي جارية عائشة، وإنما لم تطعمه منه لأنها كانت تعلم أن الصدقة عليه حرام، فذكرت علة المنع في الجواب وهو كون ما في القدر صدقة، تابعة لذلك عن ذكر الجواب. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هو لها صدقة ولنا هدية منها" فإنها قد ملكت اللحم بالتصدق به عليها, ولها حينئذ أن تتصرف فيه بحسب، إيثارها، فإذا أهدته قبلت هديتها وجاز أكله. وتفصيل القول في الصدقات: أن الصدقة المفروضة كانت حرامًا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي صدقة التطوع قولان، أما آل النبي - صلى الله عليه وسلم -: فتحرم عليهم صدقة الفريضة، وتحل لهم صدقة التطوع، وآله الذين تحرم عليهم صدقة الفريضة: هم بنو هاشم وبنو المطلب. وقال أبو حنيفة: لا تحرم إلا على ولد العباس، وعلي، وجعفر، وعقيل، والحارث بن عبد المطلب. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة المنيحة، تغدو بعس، وتروح بعس". هذا حديث صحيح أخرج مسلم (¬1) نحوه. والعس: القدح الضخم. ¬

_ (¬1) صحيح مسلم (1019).

كتاب الصوم

كتاب الصوم وفيه ثمانية أبواب الباب الأول: في وجوب الصوم بالرؤية والشهادة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له". وكان عبد الله يصوم قبل الهلال بيوم، قيل لإبراهيم: يتقدمه؟ قال: نعم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". وقد أخرج المزني عن الشافعي، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروا الهلال، فإن غم عليكم فاقدروا له". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي.

أما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد واللفظ للرواية الثانية، إلا أنه قال فيها: "فاقدروا له". وأخرج الأولى (¬2): عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له". فأما البخاري (¬3): فأخرج الأولى عن يحيى بن بكير، عن الليث عن عقيل، عن ابن شهاب بالإسناد. وأخرج الثانية (¬4): عن القعنبي، عن مالك بالإسناد واللفظ ولم يقل: "ولا تفطروا حتى تروه". وأما مسلم (¬5): فأخرج الأولى عن حرملة [عن] (¬6) ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. وأخرج الثانية: عن يحيى بن يحيى وقتيبة وابن حجر (¬7)، عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار. وأما أبو داود (¬8): فأخرج الأولى عن سليمان بن داود، عن حماد، عن أيوب، عن نافع الحديث وقال فيه: فكان ابن عمر (¬9) إذا كان شعبان تسعاً ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 239) رقم (2). (¬2) "الموطأ" (1/ 239) رقم (1). (¬3) البخاري (1900). (¬4) البخاري (1907). (¬5) مسلم (1080). (¬6) سقط من الأصل والمثبت من صحيح مسلم. (¬7) زاد في الأصل [عن ابن وهب] وهي زيادة مقحمة، وذكر مسلم مع هؤلاء الجماعة: يحيى بن أيوب. (¬8) أبو داود (2320). (¬9) قول ابن عمر في النسخ المطبوعة مختصرًا ومقتصرًا على قوله: "فكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب" ثم وقفت على نسخة حديثه من السنن تحقيق محمد عوامة فألفيتها نسخة جيدة مضبوطة على عدة نسخ خطية، وله فيها جهد مشكور فجزاه الله خيرًا وبالرجوع إليها وجدت قول ابن عمر بالتمام كما ذكره المصنف، وانظر رقم (2314) من هذه الطبعة.

وعشرين نظر له فإن رئي فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منتظره (¬1) سحاب ولا قترة أصبح مفطرًا، وإن حال دون منتظره (1) سحاب (¬2) وقترة أصبح صائمًا، قال: فكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب. وأخرج الرواية الثانية بهذا الإسناد الذي له أيضًا. وأما النسائي (¬3): فأخرج الرواية الأولى والثانية عن الربيع بن سليمان، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. يريد بالهلال أولاً: هلال رمضان، ويريد به ثانياً: هلال شوال، ولم يضف الهلال أولاً وآخرًا إلى شهر للعلم به، فإن الصوم والفطر متعلقان بهلال رمضان وشوال، فذكره للصوم والفطر قام مقام الإضافة. وغم الهلال على الناس غمًا فهو مغموم: إذا ستره عنهم- غيمًا وغيره، وكذلك أغمى الهلال وغمى، وإنما بني الفعل لما لم يسم فاعله: للعلم بالفاعل الذي يغمه وهو الله -سبحانه وتعالى- بما يحول بينه وبين أعين الناظرين. وأصل الكلمة: من الغم الستر والتغطية، تقول: غممته فانغم أي غطيته، ويقال: أمر غمه أي مبهم ملتبس. وقدرت الشيء أقدُره وأقدره -بالضم والكسر-: إذا نظرت فيه وقدرته. قال الأزهري: قدر يقدر: من القدرة ضد العجز، فأما قدرت الشيء أقدره فلم أسمعه إلا مكسورًا. وأما معنى الكلام: فإنه يريد قدروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يومًا، وهكذا قوله في الحديث الآخر: فأكملوا العدة، وقوله: فعدوا ثلاثين. وقال أبو العباس بن سريج: معنى قوله: "فاقدروا له" أي قدروا له منازل ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وفي "مطبوعة السنن": "منظره". (¬2) في الأصل [سحابا] والمثبت هو. الجادة وكذا في "مطبوعة السنن". (¬3) النسائي (4/ 134) بالرواية الأولى فقط.

القمر فإنها تبين لكم أن الشهر تسع وعشرون أو ثلاثون. قال: وهذا خطاب لعوام الناس الذين لا يحسنون تقدير المنازل، قال: وهذا نطر المسألة المشكلة، تنزل بالعالم الذي أعطي الاجتهاد في تبيين صوابها، فأمر باجتهاد رأيه، ونهي عن تقليد العلماء فيها حتى يتبين له الصواب كما يكون لهم، وأما عوام الناس الذين لم يؤتوا آلة الاجتهاد، فلهم تقليد أهل العلم. قال الأزهري: والقول الأول عندي أصح وأوضح، وأرجو أن يكون قول أبي العباس غير خطأ. والله أعلم. والهاء في قوله تعود إلى الهلال، أي فقدروا للهلال. وقت طلوعه وظهوره، بأن يستكملوا العدة التي يجوز أن يظهر فيها، وذلك باستكمال شعبان ثلاثين وهو منتهى الأمد الذي لا شبهة في ظهوره عند انقضائه، فإنه قد يظهر عند إنقضاء تسع وعشرين من شعبان، ولكن إذا غم في التاسع والعشرين قدر له الاستكمال. وقال عمر بن عبد العزيز: أحسن ما يقدر له أنا إذا رأينا هلال شعبان لكذا وكذا، فالصوم إن شاء الله لكذا وكذا، إلا ان يبدأ الهلال قبل ذلك. وعلى هذا تدل سائر الروايات عن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعائشة وغيرهم حين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عدم الرؤية بإكمال العدة. والقترة: الغبرة المرتفعة في الجو. وقوله: "الشهر تسع وعشرون" يريد أنه يكون تسعًا وعشرين ليلة، فالشهر: مبتدأ، والتسع وعشرون: خبره، وهذا اللفظ يدل على أن هذا الحكم مطرد في كل شهر، وليس الأمر على ذلك لأن بعض الشهور ثلاثون، وبعضها تسع وعشرون، وإنما يصح هذا الكلام إذا كانت الألف واللام في

الشهر لاستغراق الجنس، فإن كانت الخصوص يريد به الشهر المشار إليه فيصح المعنى، ولكن ما يريد ذلك إنما هو حكم عام في الأشهر، وحينئذ يكون التقدير ما قلناه أولاً وهو: أن الشهر قد يكون تسعًا وعشرين، ويعضد ذلك قوله: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وإنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول: بيان ما كان موهومًا أن يخفى عليهم, لأن الشهر في العرف وغالب العادة ثلاثون، فوجب أن يكون البيان فيه مصروفًا إلى ما يخالف الحال المألوفة وهو التسع والعشرون، فقال: "الشهر تسع وعشرون" وهذا الأمر وإن كان معتادًا عند العرب مألوفًا، إلا أنه في أول الإِسلام وتحديد أحكام الشريعة التي لم تكن مألوفة مشكل الأمر، فأراد أن يعرفهم أن الشهر وإن كان في بعض الأوقات يكون ناقصًا عن الثلاثين، فإنه في حكم التمام فكل ما هو منوط بالثلاثين وهو منوط بالتسع والعشرين، حتى لو نذر أن يصوم شهرًا بعينه فكان ذلك الشهر تسعًا وعشرين أجزأه. وفي رواية الشافعي: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا"، وفي رواية الموطأ "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه" ولفظ رواية الشافعي أحسن موقعًا في هذا المقام، وذلك أن الحديث مسوق لبيان فرض الصوم، والأمر أن ذلك مقترن بوقت مخصوص عن الصوم مترتب على وجود ذلك الوقت، فإذا شرع في الصوم فكان تقديم ذكر رؤية الهلال على ذكر الصوم أولى ليكون مطابقًا للوجود، ثم إذا كان الغرض الأمر بالصوم فذكره بلفظ الأمر مرتبًا على شرطه أولى من ذكره بلفظ النهي مقدمًا في الذكر على شرطه. فأما رواية الموطأ: فإنما تكون حسنة الموقع، لو وردت عقيب اختلاف جرى بين الصحابة في صوم يوم الشك، فإنهم كانوا يكونون قد سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم ذلك اليوم المشكوك فيه، فقال لهم: "لا تصوموا حتى لا تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه" وهذا التقدير لو وقع لم ينفرد به هذا اللفظ عن رواية

الشافعي، فإنها أيضاً تطابق هذا التقدير وتصلح أن تكون جوابًا لهذا السؤال المقدر، ولكن مع هذا التقدير يتمحض ذلك اللفظ في الاستحسان والإيراد، وإن كان الثاني يدل عليه أيضًا ولكن دون ذلك. وقوله في رواية أبي داود: "وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب يريد أنه كان يفعل هذا الفعل في شعبان احتياطًا للصوم، [ولا يأخذ] (¬1) بهذا الحساب في شهر رمضان، ولا يفطر مع الناس ولو صام واحدًا وثلاثين يومًا. وقول الشافعي في آخر الحديث: فكان ابن عمر يصوم قبل الشهر بيوم، يقيده قول أبي داود. والذي ذهب إليه الشافعي: أن صوم رمضان يجب برؤية الهلال، واستكمال عدة شعبان ثلاثين. وهو قول عامة الفقهاء. وحكى عن قوم أنهم قالوا: يجتهد في ذلك ويرجع إلى قول المنجمين. ولا تعويل عليه عند المحققين من العلماء. وأما تقديم الصوم على رمضان بيوم أو يومين فإنه مكروه، وسواء صامه عند رمضان أو شعبان فرضًا أو تطوعًا إلا أن يصادف صومًا يصومه. وبه قال الأوزاعي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يكره صومه من شعبان. واختلف فيه عن أحمد. فأما صومه على أنه من رمضان فقد روي عن عمر، وعلي، وحذيفة، وابن مسعود، وعمار، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وأبي وائل، وعكرمة، ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل.

وابن المسيب، والشعبي، والنخعي، وابن [جريج] (¬1)، والأوزاعي: أنه لا يجوز صومه على أنه من رمضان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان [عن] (¬2) عمرو بن دينار، عن محمد بن حنين (¬3)، عن ابن عباس قال: عجبت ممن يتقدم الشهر وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه". رواه المزني (¬4) عن الشافعي بهذا الإسناد، وقال: عجبت لمن تقدم، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". هذا حديث صحيح أخرجه مالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المجموع للنووي (6/ 403). (¬2) سقط من الأصل والمثبت من "مطبوعة المسند". (¬3) وقع اختلاف في تسميته، فعزاه المزي في "التحفة" (5/ 230 - 231) إلى النسائي من طريق محمد ابن جبير ثم قال: وكان في كتاب أبي القاسم: محمد بن حنين، عن ابن عباس وهو وهم. وقال الحافظ في النكت: وقال في "التهذيب": اعتمد أبو القاسم على ما وقع في بعض النسخ المتأخرة -وهو خطأ. والصواب: "محمد بن جبير" -وهو ابن مطعم- كذا هو في الأصول القديمة من س، وكذا هو في "مسند أحمد" (1/ ص: 221). واعترضه مغلطاي بأنه رآه في "مسند أحمد" (1/ ص:267): "محمد بن جبير" -غير منسوب. وفي نسخة قرئت على أبي الفرج: "محمد ابن حنين" بنون مجودة. وفي بعض نسخ س القديمة كذلك. وفي نسخة قرئت على المنذري من س الصغرى: "حنين", وكذا هو في موضعين من التمهيد في هذا الحديث، وكذا ذكره أبو العباس الطرقي، وكذا في "البيهقي" في النسخة التي قرئت على ابن الصلاح، وفي أخرى قديمة قيل: إنها بخط البيهقي. وكذا في "مسند البزار" في نسخة قرئت على السلفي. وفي "التلخيص" للخطيب: "محمد بن حنين" و"محمد بن جبير" -أما الأول بالحاء المهملة ونونين فهو مولى العباس، سمع عبد الله بن عباس. روى عنه عمرو بن دينار، ثم ساق هذا الحديث وقال بعده: هو أخو عبد الله وعبد أولاد حنين. وكذا قال الدارقطني، وابن ماكولا في "الإكمال" (2/ ص:27): "محمد بن حنين" بحاء مهملة ونونين، يروي عن ابن عباس. وعنه عمرو بن دينار. (¬4) "السنن المأثورة" (341).

فأما مالك (¬1): فأخرجه عن ثور بن زيد الديلي، عن ابن عباس وذكر زيادة الرواية الثانية. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه أتم من هذا عن الحسن بن علي، عن حسين، عن (¬3) زائدة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم، ولا تصوموا حتى تروه (¬4)، فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا، الشهر تسع وعشرون". وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وإن حالت دونه غيابة فأكملوا ثلاثين يومًا". وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان بالإسناد، وأخرج رواية المزني عن الشافعي. هذا الحديث مسوق لبيان ما ذهب إليه الشافعي، من كراهية تقدم رمضان بيوم، وأن ابن عباس أنكر ذلك بقوله: عجبت لمن يتقدم الشهر على من يصومه، واستدل بالحديث. والغياية -بيائين تحتهما نقطتان-: الظلمة والغبرة. قال أبو عمرو: والغياية: كل ما أظل الإنسان فوق رأسه من سحاب أو غيره ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 239) رقم (3). (¬2) أبو داود (2327). (¬3) في الأصل [بن] وهو تصحيف والمثبت من أبي داود. (¬4) زاد عند أبي داود: "ثم صوموا حتى تروه". (¬5) الترمذي (688) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (4/ 135).

أو ظلمة. وحال الشيء بين الشيء: إذا حصل فيما بينهما. وقوله في هذا الحديث: "لا تصوموا حتى تروه" هذا اللفظ يبين لك ما قلناه في حديث ابن عمر والترجيح بين لفظي الروايتين، وذلك أنه في هذا المقام لم يكن غرضه إلا جواب من أراد أن يتقدم رمضان بصوم يوم قبله، وذلك في قوله: عجبت لمن يتقدم الشهر، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصوموا حتى تروه" فكان هذا اللفظ الوارد على جهة النهي وتقديمه على شرطه، لإبقاء هذا الموضع حسنًا في هذا المقام كما أشرنا إليه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن [عمرو] (¬1)، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا يومين، إلا أن يوافق ذلك صومًا كان يصومه أحدكم، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن (¬2) أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقدموا بين يدي رمضان بيوم ولا يومين، إلا رجل يصوم صومًا فليصمه". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري (¬3): فأخرجه عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة. وذكر الرواية الثانية. ¬

_ (¬1) في الأصل [عروة] وهو تصحيف، والتصويب من "المسند" وكذا من مصادر التخريج الآتية. (¬2) في الأصل [وابن] والواو مقحمة والصواب حذفها كما في "المسند" ومصادر التخريج. (¬3) البخاري (1914).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب، عن وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير وذكر الثانية. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه بإسناد البخاري ولفظه. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن أبي كريب، عن عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو. وذكر الرواية الأولى وزاد: "ثم أفطروا". وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن عمران بن يزيد بن خالد، عن محمد بن شعيب، عن الأوزاعي بإسناد الثانية نحوها. قوله: "لا تقدموا" أي لا تتقدموا بحذف التاء الواحدة تخفيفًا، والمحذوفة هي تاء المضارعة ويدل عليه ظهورها في الرواية الثانية، وقد ذكرنا ذلك مستوفيًا قبل هذا. ومعنى قوله: "إلا أن يوافق ذلك صومًا يصومه أحدكم" يريد أن يكون عليه نذر صوم أيام الخميس مثلاً فكان يوم الشك يوم الخميس، أو كان من عادته أن يصوم يوم الاثنين مثلاً تطوعًا، فأبين أن يوم الشك كان يوم الاثنين، فإنه يصوم ذلك اليوم استصحابًا لعادته أو لنذره. ثم لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم في النهي عن صومه إلا لمن وافق صومه، قيد ذلك الحكم بقضية مطردة، فقال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" فكان ذلك زيادة في البيان وتأكيده. وقوله: "إلا رجل" استثناء من غير موجب والمستثنى منه هو الضمير في "يتقدموا"، التقدير: لا يتقدم إلا الرجل، فأبدل المفرد من الجمع لأن الضمير في ¬

_ (¬1) مسلم (11082). (¬2) أبو داود (2335). (¬3) الترمذي (684) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (4/ 149).

يتقدموا لجماعة، وساق هذا الحديث لبيان ما ذهب إليه الشافعي من كراهة صوم يوم الشك، إلا لمن وافق صوم كان يصومه، وقد ذكرناه. قال الشافعي: وبهذا كله (¬1) نأخذ، والظاهر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أن لا يصام حتى يرى الهلال ولا يفطر حتى يرى على معنى أن (¬2) ليس بواجب عليكم أن تصوموا حتى تروا الهلال وإن خفتم أن يكون قد رآه غيركم، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين، يعني هما قبل الصوم من شعبان ثم يكونون على يقين من أن لكم الفطر, لأنكم قد صمتم كمال الشهر، وابن عمر سمع الحديث كما وصفت، وكان يتقدم ابن عمر رمضان بيوم، وحديث الأوزاعي: "لا تصوموا إلا أن يوافق ذلك صومًا كان أحدكم" يحتمل ما ذهب ابن عمر إليه في صومه قبل رمضان، إلا أن تصوموه على ما كنتم تصومونه متطوعين، لا أن واجبًا أن تصوموه إذا لم تروا الهلال. ويحتمل خلافه من أن ينهى عن أن يوصل برمضان شيء من الصوم، إلا أن يكون رجل اعتاد صومه من أيام معلومة يوافق بعض ذلك الصوم يومًا يصل شهر رمضان. قال الشافعي: فأختار أن يفطر الرجل يوم الشك في هلال رمضان، إلا أن يكون يومًا كان يصومه فاختار صيامه، وأسأل الله التوفيق. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن أمه فاطمة بنت حسين "أن رجلاً شهد عند علي على رؤية هلال رمضان، فصام وأحسبه، قال: وأمر الناس أن يصوموا، وقال: أصومه يومًا من شعبان أحب إلى من أن أفطر يومًا من رمضان". قال الشافعي: لا يجوز عن رمضان إلا شاهدان. ¬

_ (¬1) في الأصل [كلمة] وهو تصحيف والتصويب من "المعرفة" (6/ 237). (¬2) في "المعرفة" [أنه].

وقد قلنا قبل هذا أن وجوب [صوم] (¬1) رمضان بأمرين: أحدهما: رؤية الهلال، والآخر: باستكمال شعبان ثلاثين. والرؤية إما أن تكون مشاهدة للصائم، أو مسموعة عمن حصلت له، وهذا الحديث يتضمن أحد قسمي الرؤية وهو الشهادة. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن شهر رمضان يثبت برؤية شاهدي عدل، سواء كانت مصحية أو مغيمة، فأما شهادة الواحد ففيها قولان: أحدهما: لا يقبل كشوال، والثاني: يقبل لأن فيه اختيارًا لأمر العبادة بخلاف شوال. قال صاحب الشامل: المنصوص عليه في الكتب القديمة والحديثة، أن الصوم يجب بشهادة واحد، وروي [عن] (¬2) البويطي أنه لا يجب إلا بشاهدين. ففي المسألة إذًا قولان: أحدهما: أنه يثبت بواحد. وبه قال أحمد في الصحيح عنه، وإليه ذهب ابن المبارك. والثاني: لا تقبل إلا بشهادة اثنين. وبه قال مالك، والليث، والأوزاعي، وإسحاق. وقال الثوري مرة: شهادة رجلين أحب إلي، وقال: تجوز شهادة رجل وامرأتين في الأهلة. وقال أبو حنيفة: في الصحو لا تقبل إلا الاستفاضة، وفي الغيم تقبل في هلال رمضان شهادة واحد، وفي غيره لا تقبل إلا شهادة اثنين. ¬

_ (¬1) في الأصل [صومه] والصواب هو المثبت. (¬2) في الأصل [أن] والمثبت هو الأحسن في السياق.

فأما شهادة الإفطار: فلا تثبت إلا بشاهدين قولًا واحداً وبه قال عامة الفقهاء. وقال أبو ثور: تقبل فيه شهادة الواحد قياسًا على الأخبار، وهو عنده إخبار عن مشاهدة فله أسوة أخبار الديانات. وهذا القول المحكي في آخر الحديث عن الشافعي؛ أنه قال: لا يجوز على رمضان إلا شاهدان، هو أحد قوليه اللذين ذكرناهما، ومستند هذا القول هو ما تقدم في هذا الحديث من قول علي -كرم الله وجهه-: أصوم يومًا من شعبان أحب إلى من أن أفطر يومًا من رمضان. فإن هذا القول يدل على أن عليًّا لم يكن معولًا على قول هذا الشاهد الواحد لانفراده بالرؤية، ولكنه لم يكذبه احتياطًا لباب العبادة. وقال: أكثر ما في الباب إن كان هذا كاذبًا أن أكون قد صمت يومًا من شعبان، وإن كان صادقًا وأفطرت بناءً على تكذيبه أكون قد أفطرت يومًا من رمضان، فلهذا الظن من علي يحتمل أن يكون قال الشافعي ما قاله، وفيه بعد. وقد استدل من ذهب إلى جواز صوم يوم الشك، بهذا القول من علي، فإن عليًّا لم يكن شاكًّا إلا على تقدير إبهامه للشاهد ولو كان عنده غيرهم لم يقل أصوم يومًا من شعبان أحب إلى من [أن] (¬1) أفطر يومًا من رمضان والله أعلم. والذي حكاه البيهقي عن الشافعي (¬2) -رضي الله عنهما- أنه قال: فإن لم تر العامة هلال شهر رمضان، ورآه رجل عدل رأيت أن أقبله للأثر والاحتياط، ثم ذكر هذا الحديث عن علي، ثم حكى البيهقي في آخره قال الربيع: قال الشافعي بعد: لا يجوز على شهر رمضان إلا شاهدان، قال الربيع: وفي موضع ¬

_ (¬1) أثبتها ليتجانس السياق وكذا في "الأم" (2/ 94). (¬2) "المعرفة" (6/ 243).

آخر (¬1) قال الشافعي: إن كان عليٌ أمر الناس بالصوم فعلى معنى المشورة لا معنى الإلزام. قال الربيع: قال الشافعي: وقال بعض أصحابنا لا أقبل عليه إلا شاهدان، وهذا القياس على كل معنى (¬2) استدل عليه ببينة. ... ¬

_ (¬1) "المعرفة" (6/ 244). (¬2) في "المعرفة" (6/ 246) "مغيب".

الباب الثاني في جائزاته وشروطه

الباب الثاني في جائزاته وشروطه أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر، عن أبي يونس -مولى عائشة-[عن عائشة] (¬1) - "أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - -وهي تسمع-: إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام؟، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أصبح جنبًا وأنا أريد الصيام، فأغتسل ثم أتم الصوم ذلك اليوم" فقال الرجل: إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم وأعلمكم بما أتقى". هذا حديث صحيح أخرجه مالك، ومسلم، وأبو داود، هكذا عن عائشة -رضي الله عنها. وقد أخرج البخاري (¬2): عن عائشة وأم سلمة معًا هذا المعنى، وكذلك أخرجه الترمذي (¬3) عنهما مختصرًا، وأخرجه النسائي (¬4) عن أم سلمة مختصرًا، والمعنى متفق عليه من الجماعة. وأما لفظ هذه الرواية فإن مالكًا أخرجه بالإسناد واللفظ، وقال فيه (¬5): إن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -وهو واقف على الباب. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من "الأم" (2/ 97)، وكذا في "مسند الشافعي"، و"المعرفة" (6/ 250). (¬2) البخاري (1925، 1926). (¬3) الترمذي (779) وقال: حسن صحيح. (¬4) "السنن الكبرى" (2/ 181) رقم (2942) وله طرق كثيرة هناك. (¬5) "الموطأ" (1/ 241) رقم (9).

وقد عاد الشافعي فأخرج هذه الرواية في كتاب "اختلاف الحديث". وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، عن إسماعيل ابن جعفر، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، وقال: أعلمكم بما أتبع. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام" فيه من الفائدة ما لا خفاء به، وذلك لما سأله عن حاله إذا أصبح جنبًا وهو صائم، أراد أن يجيبه بأبلغ ما يكون من الأجوبة التي تقرر في نفسه الجواب عن مسألته، وأخبره أنه تجري له هذه الحال التي سأل عنها، بأنه يصوم معها وأن لك فيَّ أسوة وفيَّ قدوة, لأنه مع كونه أكثر احتياطًا في أمر الدين من أمته، وأشد تحريًا وأكثر مؤاخذة إذا كان يباشر هذا الأمر، فما الظن بآحاد الأمة؟! ولأنه - صلى الله عليه وسلم - مشرع فإذا فعل فعلًا ولم يعتبر بمنع أمته من فعل مثله، كان ذلك الفعل إمًا واجبًا، أو مباحًا، أو مندوبًا، أو غير ذلك ولما كان السائل يعرف (¬3) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبنى الفرق بينه وبين آحاد الأمة اعترض عليه بما قال؛ ظنًا منه أن مغفرة الله تحمله على التسامح والتساهل في الأخذ بالعزيمة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما غضب: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" فصدَّر كلامه بالقسم تأكيدًا له ثم إنه يغض من نفسه ووضع من حقه، فقال: "إني لأرجو" ولم يقل: "إني أخشاكم وأعلمكم"، إنما جعل ذلك تعلقًا بالرجاء مستعملًا صالح الأدب في قوله وفعله مع الله -عز وجل-. وقوله: "وأعلمكم بما أتقي" أي بما أحذر وأحتاط فيه لنفسي. والذي ذهب إليه الشافعي: أن من أصبح جنبًا في شهر رمضان من جماع أو ¬

_ (¬1) مسلم (1110). (¬2) أبو داود (2389). (¬3) في الأصل [عروف] ولعل المثبت هو الصواب وبه المعنى مستقيم.

احتلام، لم يؤثر ذلك في صومه وإنما يلزمه الاغتسال للصلاة وروي ذلك عن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأبي ذر، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة، وأم سلمة، وإليه ذهب جميع الفقهاء. وقال الحسن: يصوم ويقضي. وروي ذلك عن أبي هريرة وسالم بن عبد الله. وقال طاوس وغيره: إن كان علم بجنابته ففرط في الاغتسال حتى أصبح لم يصح صومه، وإن لم يعلم حتى أصبح لم يجب عليه قضاؤه. وقال النخعي: يجزئه في التطوع ويقضي في الفرض. وقال الشافعي: من احتلم في نهار رمضان اغتسل ولم يقض, لأنه بغير اختياره كما إذا ذرعه القيء. والله أعلم بالصواب. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1) من المسند: عن مالك، عن سمي -مولى أبي بكر-، أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، فذكر له أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم، فقال مروان: أقسمت عليك يا (¬2) عبد الرحمن، لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فلتسألهما عن ذلك، قال أبو بكر: فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة، فسلم عليها عبد الرحمن وقال: يا أم المؤمنين إنا كنا عند مروان فذكر له أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبًا أفطر ذلك اليوم، قالت عائشة: ليس كما قال أبو هريرة يا عبد الرحمن، أترغب عما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله؟ قال عبد الرحمن: لا والله. فقالت عائشة: فأشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن كان ليصبح جنبًا من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم، قال: ثم خرجنا على أم ¬

_ (¬1) "اختلاف الحديث" (ص: 528 - 529) المطبوع من "الأم". (¬2) في الأصل [يا أبا] وزيادة [أبا] خطأ والصواب حذفها كما في اختلاف الحديث، و"مطبوعة المسند".

سلمة فسألها عن ذلك، فقالت مثلما قالت عائشة، فخرجنا حتى جئنا مروان، فقال له عبد الرحمن ما قالتا وأخبره، فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا محمد، لتركبن دابتي بالباب فلتأتين أبا هريرة فلتخبرنه بذلك، فركب عبد الرحمن وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة، فتحدث معه عبد الرحمن ساعة ثم ذكر ذلك له، فقال أبو هريرة: لا علم لي بذلك إنما أخبرنيه مخبر. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). وقد روى الشافعي أيضًا عن سفيان، عن سمي، عن عائشة أنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدركه الصبح وهو جنب فيغتسل ويصوم يومه. وأخرج أيضًا من رواية المزني عنه (¬3)، عن مالك، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن عائشة وأم سلمة أمي المؤمنين، قالتا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبًا من جماع غير احتلام في رمضان، ثم يصوم ذلك اليوم. وهذا أيضًا حديث أخرجه مسلم (¬4) والترمذي (¬5). قال الشافعي (¬6): فأخذنا بحديث عائشة وأم سلمة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون ما روى أبو هريرة عن رجل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعان منها: أنهما زوجتاه [وزوجتاه أعلم] (¬7) بهذا من رجل إنما يعرفه سماعًا أو خبرًا. ومنها: أن عائشة مقدمة في الحفظ، وأن أم سلمة حافظة، ورواية اثنين أكثر من راو واحد. ¬

_ (¬1) البخاري (1925، 1926). (¬2) مسلم (1109). (¬3) "السنن المأثورة" (303). (¬4) مسلم (1109/ 78). (¬5) الترمذي (779) وقال: حديث عائشة وأم سلمة حديث حسن صحيح. (¬6) "الأم" (2/ 107). (¬7) في الأصل [أم] وهو تصحيف والاستدراك من "الأم" (2/ 107)، وكذا "المعرفة" (6/ 253).

ومنها: أن الذي روتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المعروف في المعقول والأشبه بالسنن. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقبل بعض أزواجه وهو صائم. ثم تضحك". هذا حديث صحيح متفق عليه: أخرجه الجماعة إلا النسائي. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فعن القعنبي، عن مالك. وعن محمد بن المثنى، عن يحيى، عن هشام وقال: ثم ضحكت. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن علي بن حجر، عن سفيان، عن هشام، وقال: إحدى نسائه. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن مسدد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود وعلقمة، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملك لإربه. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن هناد وقتيبة، عن أبي الأحوص، عن زياد بن علاقة، عن عمرو بن ميمون، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل في شهر الصوم. وفي الباب عن [عمر بن الخطاب] (¬6) وحفصة، وأم سلمة، وأبي سعيد، ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 243) رقم (14). (¬2) البخاري (1928). (¬3) مسلم (1106). (¬4) أبو داود (2382). (¬5) الترمذي (727) وقال: حديث حسن صحيح. (¬6) في الأصل [عروة بن] وهو تصحيف والتصويب من جامع الترمذي.

وابن عباس، وأنس، وأبي هريرة. وقوله: "إن كان ليقبل" هذه "إن" فيها خلاف بين البصريين والكوفيين من النحاة: قال البصريون: هي المخففة من الثقيلة، ولذلك تلزم اللام خبرها ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} (¬1) التقدير: إنها كانت كبيرة. وقال الكوفيون: هي بمعنى "ما" النافية واللام بمعنى "إلا" التقدير: وما كانت إلا لكبيرة. ومذهب البصريين أولى فيما قالوا تأويلًا واحدًا: وهو تخفيف "أن"، وتخفيفها باب واسع مطرد. وفيما قاله الكوفيون تأويلان: أحدهما: جعل "أن" بمعنى "ما" وهو جائز مشهور. والثاني: جعل اللام بمعنى إلا وهو بعيد. والقبلة: معروفة. والمباشرة: وإلقاء البشرة إلى البشرة، هي مفاعلة من البشرة لظاهر جلد الإنسان. والإرب: الحاجة وهو بالكسر والفتح، والإرب -بالكسر أيضًا- العضو المخصوص، وقد يجوز أن يكون هو المراد في الحديث، فإن القبلة داعية إلى تحرك العضو وطلب الجماع، فهو - صلى الله عليه وسلم - كان قادرًا أن يرد نفسه ويقهرها، والأول هو المشروح في كتب الحديث والمراد به حاجة الجماعة. ¬

_ (¬1) [البقرة: 143].

وقوله: "ثم تضحك" تعرض أن بعض أزواجه كانت عائشة وكذلك "ضحكت", ولم تسم نفسها حيًاء -والله أعلم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن القبلة تختلف باختلاف [الأحوال] (¬1): فمن كانت القبلة تحرك شهوته ويخاف أن ينزل فإنها له مكروهة، وقد صرح بعض الأصحاب أن ذلك كراهية تحريم, لأن إنزال الماء مفسد للصوم، وإن كانت القبلة لا تحرك شهوة جازت له والأفضل تركها. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: تكره له القبلة بكل حال. وعن أحمد في ذلك روايتان. وقال الثوري: التنزه عنه أحب إلي. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، "أن ابن عباس سئل عن القبلة للصائم؟ فأرخص فيها للشيخ، وكرهها للشاب". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬2) بالإسناد واللفظ، وهو مؤكد لما ذهب إليه الشافعي في أمر القبلة، فإن الشيخ لا تحرك القبلة شهوته غالبًا بخلاف الشاب، والرخصة في الأمر خلاف العزيمة والتشديد. أرخصت له في كذا ورخصت: إذا لم يشدد عليه فيه، وهو من الرخص عند الغلاء. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك [بن] (¬3) أنس، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار "أن رجلاً قبل امرأته وهو صائم، فوجد من ذلك ¬

_ (¬1) كذا في الأصل ولعلها [الأحوال]. (¬2) "الموطأ" (1/ 244) رقم (19). (¬3) في الأصل [أن] وهو تصحيف والتصويب من مطبوعة المسند.

وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته تسأل عن ذلك، فدخلت على أم سلمة -أم المؤمنين- فأخبرتها، فقالت أم سلمة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم، فرجعت المرأة إلى زوجها فأخبرته، فزاده ذلك شرًا، وقال: لسنا مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحل الله لرسوله ما شاء، فرجعت المرأة إلى أم سلمة فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بال هذه المرأة"؟ فأخبرته أم سلمة، فقال: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك"؟ فقالت أم سلمة: قد أخبرتها، فذهبت إلى زوجها فأخبرته بذلك، فزاده ذلك شرًا؛ وقال: لسنا مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يحل الله له ما شاء، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بحدوده". هذا حديث صحيح هكذا أخرجه الموطأ بطوله مرسلاً (¬1)، وقد أخرجه مسلم في الصحيح (¬2) مسندًا مختصرًا عن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد ربه بن سعيد، عن عبد الله بن كعب الحميري، عن [عمر] (¬3) بن أبي سلمة: "أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [سل] (¬4) هذه -لأم سلمة- فأخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك، فقال: يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: "إني لأتقاكم لله وأخشاكم له". هذا الحديث إنما احتج به في جواز القبلة للصائم. وقال الشافعي (¬5): وسمعت من يصل هذا الحديث ولا يحضرني ذكر من ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 243) رقم (13). (¬2) مسلم (1108). (¬3) في الأصل [عمرو] وهو تصحيف والصواب هو المثبت كذا في مسلم و"تحفة الأشراف" (129/ 8). (¬4) في الأصل [مثل] والمثبت من "صحيح مسلم"، وكذا في التحفة. (¬5) "الرسالة" (404 - 405) رقم (1110،1109). قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في الحاشية: قال الزرقاني في شرح "الموطأ" (2/ 92) وصله عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن عطاء، عن رجل من الأنصار، وهو في مسند أحمد (5/ 434): حدثنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج، أخبرني =

وصله. وإنما يريد -والله أعلم- الرواية التي وصلها مسلم عن [عمر] (¬1) بن أبي سلمة، ويكون قوله: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه قد سأله هو ليوافق الرواية [الموصولة] (¬2) والرواية المرسلة. قال البيهقي: وفي ذلك نظر لأن الرواية الموصولة هي عن عمر بن أبي سلمة، وهو ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أم سلمة، وعمر لم يكن يومئذ من الرجال الذين يسألون عن قبلة الصائم، ولا كان له يومئذ زوجة فإنه كان صبيًا, لأن مولده كان في السنة الثانية من الهجرة وولد بأرض الحبشة، وقيل: إن عمره كان يوم قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين، وليس من أقدار الرجال المتأهلين، والرواية المرسلة يذكر فيها أنه أرسل امرأته تسأل، وما أرى الجمع بين الروايتين إلا فيه بعد، وحديث عمر بن أبي سلمة صحيح لا شك فيه، ولا حاجة إلى أن يجعل الحديثين واحدًا بل يجعلان حديثين والله أعلم. والوجد: الحزن، تقول: وجد يجد وجدًا. وقوله: "فزادة ذلك شرا" يريد غمًا وحزنًا لأنه كان يظن أن أمثال هذه الأشياء تحل للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمته، قياسًا على ما أحل الله -عز وجل- له من أشياء لم يحلها لأمته. وانظر إلى قول أم سلمة للمرأة في جواب سؤالها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ولم تقل لها إن ذلك جائز؛ ليكون جوابها آكد في قبولها له وأبت عندها، وأن للمسلمين في الاقتداء بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة، وفي ذلك من مزية الاستدلال وفضيلة الفهم والمعرفة ما لا خفاء به، ثم لما قالته للنبي - صلى الله عليه وسلم - كيف ¬

_ = زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن رجل من الأنصار أن الأنصاري أخبر عطاء، أنه قبل امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم فذكر الحديث بمعناه. (¬1) في الأصل: [أبي عمرو] وهو تحريف وتقدم ضبط الرواية المنقولة عن مسلم. (¬2) في الأصل: [المولة] وهو تصحيف والمثبت هو الموافق للسياق.

وافق جوابه جوابها، وقال لها ألا أخبرتيها أني أفعله. وفي ذلك من الاستدلال على فضل أم سلمة وعلمها، ومعرفتها بالفقه والأحكام، وسبقها إلى ما هو [الجواب] (¬1) المسكت الذي لا يعدل عند ما هو أصح لكل ذي فهم ظاهر عند كل لب. ثم لما أعاد الرجل قوله: "إن الله يحل لرسوله ما شاء" غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ، وقال: "إني أتقاكم لله وأعلمكم بحدوده" والغرض من ذكر ذلك -وإن كان معروفًا عند التعريض بل التصريح- أن ما أحل الله لي دونكم، وخصني به عنكم، لم يكن ميلاً بي إلى الرخص ولا رغبة عن العزائم، فإني أتقاكم لله وأعرفكم بحدوده، وإنما كان لمعنى آخر لله فيه أسرار خفيت عنكم أسبابها. وقد أخرج الشافعي من رواية المزني (¬2): عن يحيى بن حسان عن الليث، عن بكير، عن أبي بكر بن المنكدر، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم". وأخرج أيضًا بإسناد المزني (¬3) عنه: عن يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم". وأخرج المزني (¬4) عنه: عن يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن بكير، عن عبد الملك بن سعيد الأنصاري، عن جابر بن عبد الله، عن عمر بن الخطاب قال: "قبلت يومًا وأنا صائم، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أتيت (¬5) ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) "السنن المأثورة" (305). (¬3) "السنن المأثورة" (306). (¬4) "السنن المأثورة" (307). (¬5) في "السنن المأثورة": "فعلت".

اليوم أمرًا عظيمًا، قبلت وأنا صائم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت لو تمضمضت وأنت صائم"؟ فقلت: لا بأس بذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فصم". وأخرج المزني (¬1) عنه: عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن طلحة [بن] (¬2) عبد الله بن عثمان التيمي، عن عائشة قالت: أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبلني، فقلت: إني صائمة، فقال: "وأنا صائم" فقبلني. وأخرج المزني (¬3) عنه: عن سفيان قال: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أخبرك أبوك عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها وهو صائم؟ فطأطأ رأسه واستحيا وسكت قليلاً ثم قال: نعم". وأخرج المزني (¬4) عنه: عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وكان أملككم لإربه. وقد أخرج الربيع (¬5) قال: قال الشافعي فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبيد بن عمير أن عليًّا - كرم الله وجهه- سئل عن القبلة للصائم فقال: ما تريد إلى خلوف فيها. وعن رجل، عن شعبة [عن منصور] (¬6)، عن هلال بن يساف، عن عبد الله أنه كره القبلة للصائم. ¬

_ (¬1) "السنن المأثورة" (308). (¬2) في الأصل [عن] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت وكذا في "السنن المأثورة" وفي "تحفة الأشراف" (11/ 427) عزاه إلى أبي داود والنسائي من هذا الوجه. (¬3) "السنن المأثورة" (304). (¬4) "السنن المأثورة" (311). (¬5) "السنن المأثورة" (6/ 282). (¬6) سقط من الأصل والمثبت من "المعرفة" (6/ 282).

وهذا إنما أورده الشافعي على العراقيين إلزامًا لهم في خلاف علي وعبد الله، ويشبه أن يكونا ذهبا في ذلك ما ذهب إليه ابن عباس، وابن عمر، وعائشة. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه-: من تقيأ وهو صائم [وجب] (¬1) عليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وبهذا أخبرنا مالك، عن نافع، عن [ابن عمر] (¬2). هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬3) بالإسناد عن ابن عمر أنه كان يقول: من استقاء وهو صائم فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فليس عليه القضاء. القيء -مهموزًا-: قاء يقيء قيئًا: إذا جاءه القيء لنفسه من غير اقتضاء، واستقاء يستقيء وتقيئا يتقيأ: إذا استدعاه. وذرعه القيء -بذال معجمة- يذرعه: إذا غلبه وجاء دافقًا لنفسه. والذي ذهب إليه الشافعي: العمل بهذا الأثر وإيجاب القضاء على من استدعى القيء ولا كفارة عليه. وإليه ذهب عامة الفقهاء. وحكي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: لا يفطر. وكذلك حكي عن الحسن البصري: أن من ذرعه القيء يفطر. وقال عطاء: على المستقيء القضاء والكفارة. وحكى ذلك عن الأوزاعي، وهو قول أبي ثور. ويدخل فيمن ذرعه القيء: كل ما غلب الإنسان من دخول الذباب في فيه، ودخول الماء في جوفه إذا وقع في ماء غمره. ¬

_ (¬1) في الأصل [يوجب] والمثبت من مطبوعة المسند. (¬2) في الأصل [إبراهيم] والمثبت من مطبوعة المسند وهو الصواب. (¬3) "الموطأ" (1/ 252) رقم (47).

وقد روى هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يحتجم وهو صائم ثم ترك ذلك". هذا حديث صحيح أخرجه مالك إسنادًا (¬1)، وقال: إنه كان يحتجم وهو صائم، قال: ثم ترك [ذلك] (¬2) بعد وكان إذا صام لم يحتجم حتى يفطر. الحجامة: معروفة. وقوله: "ثم ترك ذلك" أي ترك الاحتجام وهو صائم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الصائم لا [يستحب] (¬3) له الحجامة, لأنها تضعفه وربما أفضت به إلى الفطر، فإن احتجم صح صومه ولم يفطر. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، وأبو ثور، وداود، وروي ذلك عن: ابن عباس، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم، وأم سلمة، وابن مسعود، والحسن بن علي، وقال به من التابعين: ابن المسيب، وابن جبير، وطاوس، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعروة بن الزبير، والشعبي، والنخعي، وجعفر بن محمد. وقال أحمد وإسحاق: يفطر الحاجم والمحجوم. وعن أحمد في الكفارة روايتان. وقد أخرج المزني (¬4): عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن يونس بن عبيد، ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 247) رقم (30). (¬2) من "الموطأ" وهي ثابتة في الشرح كما سيأتي. (¬3) في الأصل [يحسب] وهو تصحيف والمثبت هو مقتضى السياق. (¬4) "السنن المأثورة" (351).

عن الحسن، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". وقيل (¬1): عن الحسن، عن ثوبان، وقيل: عنه، عن معقل بن يسار، وقيل: عنه، عن علي -كرم الله وجهه-، وقيل: عن أسامة، وقيل: عنه عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكره البخاري بإسناده عن غير واحد مرفوعًا (¬2). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: [أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي] (¬3) عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - زمان الفتح، فرأى رجلاً يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان، قال -وهو آخذ بيدي-: "أفطر الحاجم والمحجوم". هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "اختلاف الأحاديث" (¬4). وقد أخرجه أبو داود (¬5): عن أحمد بن حنبل، عن حسن بن موسى، عن شيبان، عن يحيى، عن أبي قلابة، أن شداد بن أوس وذكره ولم يقل زمان الفتح. وفي أخرى (¬6): عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن أبي ¬

_ (¬1) انظر "المعرفة" (6/ 316). (¬2) قال الترمذي في "العلل الكبير" (123 - 125): سألت محمدًا عن أحاديث الحسن في هذا الباب؟ فقال: يروى عن الحسن قال: حدثني غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال محمد: ويحتمل أن يكون سمع من غير واحد. قلت له: حديث الحسن عن معقل بن يسار أصح، أو حديث معقل بن سنان؟ فقال: معقل بن يسار أصح، ولم يعرفه إلا من حديث عطاء بن السائب ولم يعرف حديث عاصم، عن الحسن، حدثنا عمرو بن علي، حدثني سلم بن قتيبة حدثنا شعبة قال: قلت ليونس بن عبيد: سمع الحسن من أبي هريرة؟ قال: لا ولا حرف. (¬3) سقط من الأصل والمثبت من "الأم" (2/ 108) وكذا في مطبوعة المسند و"المعرفة" (6/ 317). (¬4) اختلاف الحديث (529 - 530) مع الأم. (¬5) أبو داود (2368). (¬6) أبو داود (2369).

قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة" وذكر الحديث، قال أبو داود: [روى] (¬1) خالد الحذاء، عن أبي قلابة بإسناد أيوب مثله. وهذا الحديث -وإن كان الشافعي وأبو داود قد اتفقا على إخراجه عن شداد ابن أوس- فإن فيه اختلافًا, لأن الشافعي وقَّت الحديث بزمان الفتح في ثامن عشر رمضان، وفي هذا الوقت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، وفي رواية أبي داود قد قيده بالبقيع في هذا التاريخ أيضًا والبقيع بالمدينة، فكيف يكون في ثامن عشر الشهر بمكة والمدينة؟ إلا أن يقال: إن ذلك في سنتين مع رجلين، ويكون شداد روى الحادثتين -والله أعلم. وزمان الفتح منصوب على الظرف. وقوله: "وهو آخذ بيدي" زيادة في تأكيد صحة النقل، وأنني كنت منه المنزلة من القرب بحيث أسمع قوله وأحفظه وأفهمه. وقوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" فأما المحجوم: فعلى قول من ذهب إلى الحجامة تفطر، وقد تقدم ذكر المذاهب في ذلك وأما الحاجم: فلما عسى أن يسبق حلقه من دم الحجامة، فربما وصل إلى جوفه فأفطر به. وأما من لم ير الحجامة مفطرة: فإنه جعل هذا الحديث على تقدير: أنهما قد تعرضا للإفطار بمباشرة أسبابها: أما المحجوم: فلأنه ربما أضعفته الحجامة فأحوجته إلى الإفطار بمباشرة أسبابها. وأما الحاجم: فلما قلناه من المباشرة لما لا يؤمن معه الإفطار، وهذا كما يقال لمن يتعرض للهلاك: قد هلك فلان، وإن كان باقيًا سالمًا وإنما يراد به إشرافه على الهلاك. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من أبي داود.

وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بهذا المحجوم مساء، فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، كأنه عذرهما بهذا [القول] (¬1) إذ كان قد أمسيا ودخلا [في وقت] (¬2) الإفطار، كما يقال: أصبح الرجل وأمسى إذا دخل في وقت الصباح والمساء. وقال بعضهم: هذا على التغليظ لهما والدعاء عليهما، كقوله: من صام الدهر لا صام ولا أفطر، فيكون المعنى دعاء عليهما أي بطل آجر صومهما، فكأنما صارا مفطرين غير صائمين، ويكون سبب الدعاء تعرضهما لما يؤدي إلى الإفطار. وقيل معناه: جاز لهما أن يفطرا، كقولك: حصد (¬3) الزرع، أي حان له أن يحصد، ويكون ذلك عذرًا لهما في الإفطار، أما المحجوم: فحاجته إلى الحجامة، وأما الحاجم: فلأخذه ضواره (¬4) إلى أن يحجم أخاه المسلم ويدفع عنه الأذى. وهذه أقوال كما تراها وبحالها نقلناها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن [يزيد] (¬5) بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم محرمًا صائمًا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الموطأ. أما البخاري (¬6): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن عمرو، ¬

_ (¬1) من "معالم السنن" (2/ 95) وهو كلامه هناك. (¬2) تكررت في الأصل. (¬3) في الأصل [احصد] والمثبت من "معالم السنن" (2/ 95) وهو الأقرب. (¬4) هو بمعنى الضر وانظر اللسان مادة ضور. (¬5) في الأصل [زيد] وهو تصحيف والمثبت من "الأم" (2/ 108) وكذا مطبوعة المسند. (¬6) البخاري (1835).

[عن عطاء] (¬1) عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم. قال عمرو: ثم سمعته يقول: حدثني طاوس عن ابن عباس، فقلت: لعله سمعه منهما. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس وعطاء. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن سفيان بإسناد مسلم. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان مثل مسلم. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير، عن عطاء، عن ابن عباس. قوله: "محرمًا" يريد الإحرام بالحج، وهو وقوله: صائمًا منصوبان على الحال، والعامل فيهما احتجم. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" (¬6) عقيب حديث شداد بن أوس، ثم قال: وسماع ابن [أوس] (¬7) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، ولم يكن يومئذ محرمًا ولم يصحبه محرمًا قبل حجة الإِسلام، فذكر ابن عباس حجامة النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الإِسلام سنة عشر، وحديث "أفطر الحاجم والمحجوم" في الفتح سنة ثمان قبل حجة الإِسلام بسنتين، فإن كانا ثابتين فحديث ابن عباس ناسخ وحديث الحاجم والمحجوم منسوخ. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من البخاري وانظر "التحفة" (5/ 93). (¬2) مسلم (1202). (¬3) أبو داود (1835). (¬4) الترمذي (839) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (5/ 193). (¬6) اختلاف الحديث (529 - 530). (¬7) في الأصل [عباس] وهو تصحيف والتصويب من اختلاف الحديث.

قال: وإسناد الحديثين جميعًا مشتبه، وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادًا، فإن توقى رجل الحجامة كان أحب إليَّ احتياطًا, ولئلا يعرض صومه أن يضعف فيفطر، فإن احتجم فلا تفطره الحجامة. ومع حديث ابن عباس القياس، أن ليس الفطر من شيء يخرج من جسد، إلا أن يخرجه الصائم من جوفه متقيئًا. وقد حمل الشافعي قوله: "أفطر الحاجم والمحجوم" على سقوط أجر الصوم وجعل نظير ذلك أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمتكلم يوم الجمعة: لا جمعة لك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "صدق" ولم يأمره بإعادة فدل أن ذلك: لا أجر للجمعة لك والله أعلم. ***

الباب الثالث في الأيام المنهي عن صومها مما لم يرد في المسند منها شيء

الباب الثالث في الأيام المنهي عن صومها مما لم يرد في المسند منها شيء وإنما قد أخرج المزني: عن الشافعي، عن مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج، عن أبي هريرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). وأخرج المزني (¬3): عن الشافعي، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي عبيد -مولى ابن أزهر- سمعته يقول: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام هذين اليومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى، فأما يوم الفطر فيوم فطركم من صيامكم، وأما يوم الأضحى فكلوا فيه من لحم نسككم. وهذا حديث صحيح قد أخرجه البخاري (¬4)، ومسلم (¬5)، وقد أخرجه الشافعي أيضًا في المسند وقد تقدم ذكره في باب صلاة العيد. وأخرج المزني (¬6): عن الشافعي قال: سمعت عبد الوهاب الثقفي يحدث عن ¬

_ (¬1) البخاري (1993). من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن ميناء عنه بنحوه. (¬2) مسلم (1138). (¬3) "السنن المأثورة" (177). (¬4) البخاري (1990). (¬5) مسلم (1137). (¬6) "السنن المأثورة" (397).

خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن نبيشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا كنا ننهاكم عن لحومها فوق ثلاثة أيام حتى يسعكم، فكلوا وادخروا، ألا إن هذه الأيام أيام أكل وشرب". وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1). وقد أخرج الربيع (¬2): عن الشافعي، عن الدراوردي، عن يزيد بن عبد الله ابن الهاد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عمرو بن سليم، عن أمه قالت: "بينا نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل، يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن هذه أيام طعام وشراب فلا يصومن أحد". فاتبع الناس وهو على جمله يصرخ بذلك. وقد أخرج الربيع (¬3): عن الشافعي، عن مالك، عن يزيد بن الهاد، عن أبي مرة -مولى أم هانئ- "أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص، فقرب إليه طعامًا، فقال: كل، فقال: إني صائم، فقال عمرو: كل، فهذه الأيام التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بإفطارها وينهانا عن صيامها" قال مالك: وهي أيام التشريق. وقد أخرج الزعفراني (¬4): عن الشافعي، عن مالك، عن أبي النضر -مولى عمر بن عبيد الله- عن سليمان بن يسار: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام أيام مني". قال الشافعي في رواية حرملة (¬5): وقد ذهب بعض أهل العلم من أهل ناحيتنا ¬

_ (¬1) مسلم (1141) مختصرًا، وانظر "المعرفة" (6/ 363). (¬2) "المعرفة" (6/ 364). (¬3) "المعرفة" (6/ 364). (¬4) "المعرفة" (6/ 365). (¬5) "المعرفة" (6/ 365).

وغيرهم: أن لا يصوم المتمتع أيام منى للنهي عن صومها، فاحتج بأن ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أولى أن يصار إليه، فرأيته قد ذهب [إلى] (¬1) حجة لا مدفع لها -والله أعلم-، فقلت به. قال: وقد ذهب بعض أهل ناحيتنا إلى أن يصوم المتمتع أيام منى إذا لم يصم قبلها. قال: وقد روي فيه عن عائشة وابن عمر ما يوافق قوله وإلى هذا ذهب في القديم. وأخرج الشافعي (¬2): عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة في المتمتع إذا لم يجد هديًا ولم يصم قبل عرفة، فليصم أيام مني. وأخرج أيضًا بهذا الإسناد: عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه مثل ذلك. وقد أخرج البخاري (¬3) في الصحيح من حديث مالك، واستشهد برواية ابن سعد. ... ¬

_ (¬1) "المعرفة". (¬2) "المعرفة" (6/ 366). (¬3) البخاري (1999).

الباب الرابع في سنن الصوم

الباب الرابع في سنن الصوم أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك، والبخاري ومسلم، والترمذي. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن عبد [العزيز] (¬4) بن أبي حازم، عن أبيه. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن أبي مصعب، عن مالك. وعن بندار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي حازم. وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عباس، وعائشة، وأنس. قوله: "بخير" في موضع نصب لأنه خبر "يزال" التي هي من أخوات كان ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 241) رقم (6). (¬2) البخاري (1957). (¬3) مسلم (1098). (¬4) في الأصل [الله] والمثبت من مسلم. (¬5) الترمذي (699) وقال: حسن صحيح.

وصار، وهي تحتاج إلى اسم ترفعه وخبر تنصبه. وفي قوله: "ما عجلوا الفطر" هي الشرطية، نحو قولك: افعل إلا أن الجزاء هاهنا مقدم على الشرط، وليس جزاء إنما هو إخبار مستأنف الجزاء محذوف وقد دل المذكور أولاً. التقدير: ما عجل الناس الفطر لا يزالوا بخير، وقد زاد على "ما" أخرى مثلها ثم أبدلوا من الألف هاء، فقالوا: مهما، وأجروها في الشرط والجزاء مجراها، قاله الخليل ووافقه عليه سيبويه. وقال قوم من النحاة: بل "مهما" كلمة مرتحلة للشرط وليست مركبة من "ما" مكررة. وتعجيل الإفطار سنة متفق عليها. وقوله: "بخير" الظاهر أنه أشار إلى أن فساد الأمور يتعلق بتغير هذه السنة التي هي تعجيل الفطر، وأن تأخيره ومخالفة السنة في ذلك كالعَلَم على فساد الأمور. والمراد بالإفطار: الأكل والشرب، وان كان الإفطار يحصل بغروب الشمس حكمًا، وإنما يفطر مع تيقن غروب الشمس فأما مع الشك فلا. وقد جاء في حديث آخر "إذا أقبل الليل، وأدبر النهار، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم". فقوله: "فقد أفطر الصائم" إن حمل على أن المراد به: قد صار مفطرًا فلابد، فيكون ذلك دلالة على أن من الليل يستحيل الصوم فيه شرعًا. وقد قال بعضهم: أن الإمساك بعد الغروب لا يجوز كإمساك يوم العيد.

قد أخرج المزني (¬1): عن الشافعي، عن مالك، عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر، ولم يؤخروا تأخير أهل المشرق". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد [بن] (¬2) عبد الرحمن بن عوف أن عمر وعليًّا كانا يصليان المغرب حتى ينظرا إلى الليل الأسود، ثم يفطران بعد الصلاة وذلك في رمضان. هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬3) بالإسناد واللفظ، وزاد فيه: "قبل أن يفطران". وقوله: "ينظران إلى الليل الأسود" يريد به طلوعه إلى المشرق. قال الشافعي (¬4): كأنهما يريان تأخير ذلك واسعًا، لا أنهما يعمدان القصد (¬5) لتركه بعد أن أبيح لهما، فصارا مفطرين بغير أكل ولا شرب لأن الصوم لا يصلح في الليل. ولقائل أن يقول: إن تركهما الإفطار إلى بعد الصلاة تأخير له, لأن وقت الإفطار هو الوقت الذي يصح بدخوله صلاة المغرب، فإذا قدمت الصلاة على الفطر كان تأخيرًا له؟. والجواب: أن هذا صحيح، لكن لم ير بالتعجيل ما هذا حده؛ بحيث إن ¬

_ (¬1) "السنن المأثورة" (354). (¬2) في الأصل [عن] وهو تصحيف والتصويب من "الأم" (2/ 97)، وكذا مطبوعة المسند، وكذا (6/ 286). (¬3) "الموطأ" (1/ 241) رقم (8). (¬4) "الأم" (2/ 97). (¬5) كذا في الأصل وفي "الأم": "الفضل".

أخر عن الصلاة تكون تأخيرًا له عن التعجيل، إنما المراد بالتعجيل أن لا يمضي من الليل طائفة كبيرة وهو صائم، فأما قدر الصلاة فلا، على أن تقديمه على الصلاة أولى, لأن لفظ التعجيل يشمله. وحكمة تعجيل الفطر: هو أن لا يتبرم بالصوم، ولا أن يطول عليه زمانه، وأن يعطي النفس حقها من الأكل والشرب وكسر صورة الجوع الذي أثاره الصوم. والله أعلم. وقد أخرج الشافعي (¬1) من رواية حرملة عنه، عن سفيان بن عيينة، عن عاصم، عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب، عن عمها سلمان بن عامر الضبي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة، فإن لم يكن تمر فماء فإنه طهور". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3). وقد أخرج الشافعي من رواية المزني (¬4) عنه: عن مالك, عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال، فقل: إنك تواصل، فقال: "إني لست مثلكم، إني أطعم وأسقي". وقد أخرج أيضًا المزني (¬5) عنه عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والوصال" (¬6)، قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني". ¬

_ (¬1) "المعرفة" (6/ 287). (¬2) أبو داود (2355). (¬3) الترمذي (695). وقال: حسن صحيح. (¬4) "السنن المأثورة" (338). (¬5) "السنن المأثورة" (339). (¬6) في "السنن المأثورة" ثالها ثلاثا.

وأخرج المزني (¬1) أيضًا عنه عن عبد الوهاب الثقفي، عن حميد، عن أنس قال: واصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فواصلوا، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فقال] (¬2): "لو أن الشهر مد لي لواصلت وصالًا [يدع] (¬3) المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم إني يطعمني ربما ويسقين". أما حديث ابن عمر: [فأخرجه] (¬4) البخاري (¬5) ومسلم (¬6) وأبو داود (¬7). وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه البخاري (¬8) ومسلم (¬9). وأما حديث أنس: فأخرجه البخاري (¬10) ومسلم (¬11) والترمذي (¬12). وقد أخرج المزني (¬13) عن الشافعي، عن سفيان [عن] (¬14) ابن عجلان، عن سعيد, عن أبي هريرة, [و] (14) عن أبي الزناد, عن الأعرج, عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أصبح أحدكم يومًا صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ شاتمه فليقل: إني صائم". زاد أبو الزناد فيه: "وإذا دعي أحدكم إلى الطعام وهو صائم، فليقل: إني صائم". ¬

_ (¬1) "السنن المأثورة" (340). (¬2) من "السنن المأثورة". (¬3) في الأصل [يدل] والمثبت من "السنن المأثورة". (¬4) في الأصل [فأخبره] وهو تصحيف والمثبت هو مقتضى السياق. (¬5) البخاري (1962). (¬6) مسلم (1102). (¬7) أبو داود (2360). (¬8) البخاري (1966). (¬9) مسلم (1103). (¬10) البخاري (7241). (¬11) مسلم (1104). (¬12) الترمذي (778) وقال: حسن صحيح. (¬13) "السنن المأثورة" (295). (¬14) سقط من الأصل والمثبت من "السنن المأثورة" وهو الصواب.

هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4). وفي الباب عن ابن عمر. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1894). (¬2) مسلم (1151). (¬3) أبو داود (2461). (¬4) النسائي (4/ 163).

الباب الخامس في المبيح للإفطار

الباب الخامس في المبيح للإفطار وفيه فرعان: الفرع الأول السفر أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام في سفره إلى مكة عام الفتح في شهر رمضان، وأمر الناس أن يفطروا، فقيل له: إن الناس صاموا حين صمت، فدعا بإناء ماء فوضعه على يده وأمر من بين يديه أن يحبسوا، فلما حبسوا ولحقه من وراءه رفع إلى فيه فشرب". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة حتى كان بكراع الغميم وهو صائم، ثم رفع إناء فوضعه على يده وهو على الرحل، فحبس من بين يديه وأدركه من وراءه ثم شرب والناس ينظرون". وفي حديثهما أو حديث أحدهما: وذلك بعد العصر. وعاد الشافعي أخرج هذا الحديث في كتاب "اختلاف الأحاديث" (¬1) فقال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس معه، فقيل له: يا رسول الله، إن الناس ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث (ص: 493) مع الأم.

قد شق عليهم الصيام، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون إليه، فأفطر بعض الناس وصام بعض، فبلغه أن أناساً صاموا، فقال: أولئك العصاة". قال الشافعي: وفي حديث الثقة [غير] (¬1) الدراوردي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في رمضان إلى مكة، فصام وأمر الناس أن يفطروا، وقال: "تقووا لعدوكم"، فقيل له: إن الناس أبوا أن يفطروا حين صمت، فدعا بقدح من ماء فشربه. ثم ساق الحديث. هذا حديث صحيح أخرجه مسلم والترمذي والنسائي. فأما مسلم (¬2): فأخرجه عن محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن جعفر. وفي أخرى: عن قتيبة بن سعيد، عن عبد العزيز بالإسناد. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن عبد العزيز. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم [عن] (¬5) شعيب، عن الليث، عن ابن الهاد، عن جعفر بن محمد. العام: السنة، والجمع أعوام. والفتح: فتح مكة وكان في سنة ثمان من الهجرة. والحبس: المنع. وقوله: "أن يحبسوا" يجوز أن الفعل مسمى الفاعل وغير مسمى، فإن كان ¬

_ (¬1) في الأصل [عن] والمثبت من اختلاف الحديث، وكذا نقله عنه في "المعرفة" (6/ 293). (¬2) مسلم (1114). (¬3) الترمذي (710) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (4/ 177). (¬5) سقط من الأصل والمثبت من النسائي.

مسمى: فيكون مفتوح الأول مكسور الباء، والمعنى: أن يحبسوا الإبل التي تحتهم عن المسير يمنعونها. وإن لم يكن مسمى: فيكون مضموم الأول مفتوح الباء. والمعنى: أن يوقفوا ويمنعوا من السير ليجتمعوا، فيلحق الآخر الأول حتى يشترك كلهم في مشاهدته، وينظروا إلى إفطاره فيقتدوا به، فيكون إفطارهم عن مشاهدة وعيان؛ يوجب عليهم فعله ولا يسعهم خلافه؛ ولا يكون عن إخبار ربما يوهم منه قولاً، وذلك رفقاً منه بهم ولطفًا. وقوله: "وذلك بعد العصر" مبالغة في المسارعة إلى الإفطار في السفر، فإن من صام معظم نهاره حتى جاوز العصر، ولم يبق من النهار إلا أقله جاز له الإفطار وكان أولى به. وكراع الغميم -بضم الكاف وفتح الغين المعجمة-: موضع بين مكة والمدينة. والرحل: البعير، وهو شبيه بالقتب إلا أنه أصغر من القتب، والجمع: الرحال. وشق الأمر: إذا صعب واشتد. والعصاة: جمع عاص، مثل: داع ودعاه، وقاض وقضاه، يريد أنهم عصوا بمخالفة الأمر بالإفطار وإتمامهم الصوم. وقوله: "في حديثهما أو حديث أحدهما" يريد حديث عبد العزيز وسفيان. وقوله: "ثم رفع إناء فوضعه على يده" عطف رفع الإناء بثم للتراخي الواقع في القصة، وعطف وضع الإناء بالفاء لتعقبه الرفع، وأنه لا تراخ بين الرفع والوضع للإناء على يده، فحسن في دخول ثم في الأول ولم يحسن في الآخر

وليس الأمر كذلك في الرواية الأولى لأنه عطف استدعائه بالفاء، وذلك لأنه جاء به عقيب قوله: فقيل له: إن ناسًا صاموا حين صمت، فدعا بإناء. فكان استدعاؤه الإناء عقيب قولهم. وقوله: "من ماء" هذه "من" هي لتبيين الجنس إلا أن قوله: "بقدح من ماء" فيه اتساع ومجاز لأن القدح ليس من الماء، وإنما تقديره: بقدح فيه شيء من ماء، فحذف ذلك لدلالة الحال والخطاب عليه. والذي ذهب إليه الشافعي: جواز الأكل والشرب والجماع في السفر الطويل. وقد تقدم في كتاب الصلاة مقداره وهذا لا خلاف فيه، إلا أن أحمد قال: لا يجوز له الإفطار بالجماع فإن جامع وجبت عليه الكفارة. فإن صام في السفر جاز، وبه قال عامة الفقهاء. وقال قوم من أصحاب الظاهر: لا يجوز الصوم في السفر ولا يصح. ثم الصوم في السفر أفضل، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، ومالك، والنخعي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو ثور. وقال ابن المسيب، والشعبي، والأوزاعي، وإسحاق: الفطر أفضل. وقيل: إن أفضلهما أيسرهما على الإنسان. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وقتادة، واختاره ابن المنذر. وفي هذا الحديث من الفقه: جواز الصوم في السفر وجواز الإفطار، والأمر بالإفطار والانفراد بالصوم ونقض الصوم بعد النية وبعد انقضاء بعض النهار، وفضل الإفطار على الصوم. وفي قوله: "بعد العصر"، دليل على جواز الفطر بعد الزوال وينبني عليه: أن المقيم إذا نوى الصوم قبل الفجر ثم سافر بعد الفجر، فإن الشافعي قال: لا يفطر. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والأوزاعي، وأبو ثور، وهو قول النخعي،

ومكحول، والزهري. وقال أحمد في إحدى الروايتين: يجوز له الفطر. وبه قال إسحاق، وداود، والمزني، واختاره ابن المنذر. واحتج المزني بهذا الحديث، وقد رد عليه بأن بين كراع الغميم وبين المدينة مراحل، فلذلك جاز له الإفطار. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر فأفطر الناس معه، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم، والنسائي. أما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك وذكره إلى قوله: ومعه، وزاد: والكديد ما بين عسفان وقديد. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، ومحمد بن رمح، وقتيبة، عن الليث. وعن ابن شهاب. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن حاتم، عن سويد، عن عبد الله، عن شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في رمضان فصام حتى أتى قديد, ثم أتى بقدح من لبن فشرب، فأفطر هو ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1/ 244) رقم (21). (¬2) البخاري (1944). (¬3) مسلم (1113). (¬4) النسائي (4/ 183).

وأصحابه. الأحدث: الأفعل من الحدوث وهو التجدد، يريد أنهم كانوا يأخذون بآخر الأمرين من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "والأحدث" هاهنا هو الفطر بعد الصوم، فإنه صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر. وقوله: "فأفطر الناس معه" يريد أنهم أفطروا لما أفطر. وفيه دليل أنهم لم يتوقفوا ليستأذنوه في الإفطار، إنما أفطروا بمجرد إفطاره. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: يا رسول الله، أصوم في السفر -وكان كثير الصيام-؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". وقد أخرج المزني (¬1) عنه: عن سفيان، عن هشام بالإسناد كان حمزة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك وقال: أأصوم في السفر؟. ¬

_ (¬1) "السنن المأثورة" (313). (¬2) "الموطأ" (1/ 245) رقم (24). (¬3) البخاري (1943).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن ليث، عن هشام. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن سليمان بن حرب ومسدد، عن حماد، عن هشام، وقال: يا رسول الله! إني رجل أسرد الصوم، أفأصوم في السفر؟ ولمسلم مثله. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن هارون بن إسحاق الهمداني، عن عبدة بن سليمان، عن هشام نحو أبي داود. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن يحيى بن حبيب [بن] (¬5) عربي، عن حماد، عن هشام. قوله: "أفأصوم في السفر" بهمزة واحدة الأصل فيه أن يكون بهمزتين لأن الواحدة للاستفهام، وقد تقدم ذكر هذا مشروحًا، على أنهم قد حذفوا همزة الاستفهام وهم مستفهمون لكثرة الاستعمال، ودلالة الكلام عليه، ويدل على أن المراد في هذا الحديث الاستفهام أمران: أحدهما: المعنى الذي ساق الحديث له، فإنه إنما سأله عن الصوم في السفر ولم يكن مخيرًا. والثاني: وجود همزة الاستفهام في رواية البخاري وغيره. وقوله: "أسرد الصوم" أي أتابعه ولا أفصل بين الأيام بإفطار، ومنه سردت الحديث: إذا تابعت بعضه بعضًا. ¬

_ (¬1) مسلم (1121). (¬2) أبو داود (2402). (¬3) الترمذي (711). وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (4/ 207). (¬5) في الأصل [عن] وهو تصحيف والمثبت من النسائي، وكذا "تحفة الأشراف" (12/ 140) وهو الصواب.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: "سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان [فلم] (¬1) يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن حميد، عن أنس قال: "سافرنا مع رسول الله": فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود. فأما مالك (¬2): فأخرجه عن حميد، عن أنس. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن القعنبي وعبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة زهير بن حرب، عن حميد قال: سئل أنس عن صوم رمضان في السفر فقال: سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكره. ... ¬

_ (¬1) في الأصل [ولم] والمثبت من "الأم" (2/ 102)، وكذا مطبوعة المسند وهو الأقرب. (¬2) "الموطأ" (1/ 245) رقم (23). (¬3) البخاري (1947). عن القعنبي فقط، ولم أره عنده عن عبد الله بن يوسف وانظر "تحفة الأشراف" (1/ 201). (¬4) مسلم (1118).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن [يونس] (¬2)، عن زائدة، عن حميد. الحديث. في هذا الحديث: بيان التساوي بين الصوم والفطر في السفر، لقوله: فمنا الصائم ومنا المفطر، ولقوله: فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. والصائم: مرفوع بالابتداء، وإن كان مؤخرًا، و"منا" الخبر، وإنما أخر المبتدأ وقدم الخبر، لأنه قال: "سافرنا" وهذا إخبار عن جماعة بالسفر، فلما أراد أن يخبر عن حالتهم -وكانت مختلفة- احتاج إلى التفصيل والتقسيم، فجاء بمن التي هي للتبعيض ليفصل ما أجمله، فقال: منا كذا ومنا كذا، كما يقول لك: عندي عشرون دينارًا فمنها عشرة مصرية، وعشرة إمامية، فلو قدم المبتدأ لم تحصل هذه الفائدة حصولها مع التأخير، ألا تراه لو قال: سافرنا فالصائم منا والمفطر منا، كان الغرض والمفهوم من هذه الأخبار أن الصائم والمفطر منهم لا من غيرهم، بخلاف الأول فإنه أراد به أن بعضهم صائم وبعضهم مفطر. وإنما قدم الصائم على المفطر: لأن الأصل في رمضان الصوم والفطر طارئ عليه بالسفر، فلذلك قال: فمنا الصائم ومنا المفطر، وقال أيضًا: فلم يعب الصائم على المفطر، ولا الفطر على الصائم. ومساق الحديث هو أن الصوم والفطر في السفر جائزان، ولذلك قال: لم يعب أحد الفريقين على الآخر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن سمي -مولى أبي بكر- عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أن ¬

_ (¬1) أبو داود (2405). (¬2) في الأصل [يوسف] وهو تصحيف والتصويت من أبي داود، وتحفة الأشراف (1/ 187)

النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر، فقال: "تقووا لعدوكم"، وصام النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو بكر -يعني: ابن عبد الرحمن-: قال الذي حدثني: لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرج يصب فوق رأسه الماء من العطش-أو من الحر-، قلت: يا رسول الله، طائفة من الناس صاموا حين صمت، فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكديد دعا بقدح فشرب، فأفطر الناس". هذا حديث صحيح، هكذا أخرجه الشافعي في المسند عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويشبه أن يكون حديثًا قد أخرجه مسلم وأبو داود وسمَّيَّا الصحابي وهو أبو سعيد الخدري. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن محمد بن حاتم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد عن قزعة قال: أتيت أبا سعيد وهو مكثور (¬2) عليه، فلما تفرق الناس عنه قلت: إني لا أسألك عما يسألك هؤلاء عنه، وذكر نحو هذا الحديث. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن أحمد بن صالح ووهب بن بيان، عن ابن وهب، عن معاوية، عن ربيعة بإسناد مسلم نحوه. الباء في قوله: "بالفطر" متعلق بقوله: "أمر". واللام في قوله: "لعدوكم" لام أجل، أي: تقووا لأجل عدوكم. والباء في قوله: "بالعرج" بمعنى في أي العرج، كقولك: قام زيد بالبلد أي في البلد. وقوله: "مكثور عليه" أي ازدحم عليه الناس يسألونه. ¬

_ (¬1) مسلم (1120). (¬2) قال المصنف في النهاية (4/ 153): أراد أنه كان عنده جمع من الناس يسألونه عن أشياء فكأنهم كان لهم عليه حقوق فهم يطلبونها. (¬3) أبو داود (2406).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ (¬1) قال: قال جابر ابن عبد الله: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمان غزوة تبوك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير بعد أن أضحى، إذا هو بجماعة في ظل شجرة، فقال: "ما هذه الجماعة؟ فقالوا: رجل صائم أجهده الصوم -أو كلمة نحوها-، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من البر الصوم في السفر". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن آدم، عن شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن الأنصاري، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، عن جابر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى زحامًا ورجلًا قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا"؟ فقالوا: صائم، فقال: "ليس من البر الصوم في السفر". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار، عن محمد بن جعفر غندر، عن شعبة بإسناد البخاري ونحو لفظه، وقال: "ليس البر أن تصوموا في السفر". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن أبي داود الطيالسي، عن شعبة. ¬

_ (¬1) وقع اختلاف في تسميته: ففي المسند المطبوع مع الأم (392) (محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن سعد بن معاذ) وفي اختلاف الحديث (492) (محمد بن عبد الرحمن أن عبد الله بن سعد بن معاذ) وهو خطأ. وفي المعرفة (6/ 291): (محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن معاذ). قلت: وهو مختلف في تسميته على عدة أقوال ذكرها المزي في التهذيب (25/ 609 - 611) ورجَّح أنه: محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة. (¬2) البخاري (1946). (¬3) مسلم (1115). (¬4) أبو داود (2407).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن بكر، عن عمارة بن غزية. "إذا" في قوله: "إذا هو بجماعة" هي التي للمفاجأة، كقوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (¬2). وأجهده: أي أتعبه، من الجهد بالفتح المشقة. والبر: ضد الإثم وهو اسم لكل طاعة فعل صالح من الخير، وهذا الكلام نفي يتضمن نهيًا أو زجرًا، مع ذكر العلة التي من أجلها نفي ونهي، وذلك أن الصائم إنما يصوم اعتقادًا منه أنه يفعل فعلًا من أفعال الخير والبر، فيعرض في النهي إلى ذكر نفي البر الذي ظنه الصائم برًا، حتى يكون ذلك أدعى إلى قبول القول، وأسرع به إلى الإفطار وترك الصوم. ودخول من في الجملة أحسن من إسقاطها, لأن الصوم ليس البر إنما هو نوع من أنواعه. وفي رواية مسلم: "ليس البر أن تصوموا" في موضع الصوم لأن الصوم والصيام: مصدر صام يصوم، وأن الفعل بمعنى المصدر ومع حذف من يجوز نصب الصوم والبر، ورفعهما على جر ليس واسمها، إلا أن رفع الصوم ونصب البر أحسن لأمرين: أحدهما: أن الصوم في هذا المقام هو المخبر عنه بالبر. والثاني: دخول من في الرواية الأخرى وهي مع ما دخلت عليه الخبر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس [من] (¬3) البر الصيام في السفر". ¬

_ (¬1) النسائي (4/ 175). (¬2) الروم: [36]. (¬3) سقط من الأصل، والمثبت من اختلاف الحديث (صـ 492 - 493)

هذا الحديث أخرجه النسائي (¬1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان بالإسناد وقال: "ليس من البر الصيام في السفر". وقد أخرج المزني (¬2) عن الشافعي، عن عبد الوهاب [بن] (¬3) عبد المجيد، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: "كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا الصائم ومنا المفطر، ولا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ويرون أنه من وجد قوة فصام أن ذلك لحسن جميل، ومن وجد ضعفًا فأفطر أن ذلك لحسن جميل". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬4). وقد أخرج المزني (¬5) عن الشافعي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر، وإن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، فما منا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬6) ومسلم (¬7). قال الشافعي (¬8) فيما تكلم به على هذه الأخبار التي أوردوها في الصوم في السفر، قلت له: يعني لمن خاطبه في قول الله عز وجل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬9) إلى قوله: {أَيَّامٍ أُخَرَ} آية واحدة، وليس أحد من ¬

_ (¬1) النسائي (4/ 174 - 175). (¬2) السنن المأثورة (320). (¬3) من السنن المأثورة. (¬4) مسلم (1116). (¬5) السنن المأثورة (314). (¬6) البخاري (1945). (¬7) مسلم (1122). (¬8) انظر قوله هذا في المعرفة (6/ 297 - 299). (¬9) (البقرة:185).

أهل العلم بالقرءان يخالف في أن الآية الواحدة كلام واحد، وأن الكلام الواحد لا ينزل إلا مجتمعًا متتابعًا، لأن معنى الآية معنى قطع الكلام، قال: أجل. قلت: فإذا صام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان يعني في السفر وفرْض شهر رمضان إنما أنزل في الآية، أليس قد علمنا أن الآية بفطر المريض والمسافر رخصة؟ قال: بلى. قلت له: ولم يبق شيء يعرض في شك (¬1) إلا الأحاديث؟ قال: نعم، ولكن الآخر من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أليس الفطر؟ قلت له: الحديث يببن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفطر، بمعنى نسخ الصوم ولا اختيار الفطر على الصوم، ألا ترى أنه يأمر الناس بالفطر ويقول: "تقووا لعدوكم" ويصوم، ثم يخبر بأنهم أو بعضهم أبوا أن يفطروا إذ صام فأفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليفطر من تخلف عن الفطر لصومه بفطره، كما صنع عام الحديبية فإنه أمر الناس أن ينحروا ويحلقوا فأبطؤا، فنحر وحلق ففعلوا، فما قوله: ليس من البر الصيام في السفر؟ قلت: قد أتى به جابر مفسرًا فذكر أن رجلاً أجهده الصوم، فلما علم به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس من البر الصيام في السفر" فاحتمل: ليس من البر أن يبلغ رجل هذا بنفسه في فريضة صوم ولا نافلة، وقد أرخص الله له وهو صحيح أن يفطر. ويحتمل: ليس من البر المفروض الذي من خالفه أثم, قال: فكعب بن عاصم لم يقل هذا، قلت: كعب بن عاصم روى حرفًا واحدًا وجابر ساق الحديث، وفي صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - دلالة على ما وصفت لك، وكذلك في أمر حمزة بن عمرو: " [إن شاء صام و] (¬2) إن شاء أفطر"، وكذلك في قول أنس، قال: فقد قال سعيد بن المسيب: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خياركم الذين سافروا أفطروا وقصروا الصلاة" قلت: وهذا مثل ما وصفنا خياركم الذين يقبلون الرخصة لا يدعونها رغبة عنها, لأن قبول الرخصة حتم يأثم به من تركه ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وفي المعرفة: [نفسك]. (¬2) من المعرفة (6/ 298) وقد تقدم تخريج الحديث قريبًا بنحو هذا اللفظ.

قال: فما أمر عمر رجلاً صام في السفر أن يعيد؟ قلت: لا أعرفه عنه، فإن عرفته فالحجة ثابتة بما وصفت لك. وأصل ما يُذهب إليه أن ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحجة لازمة للخلق وعلى الخلق اتباعه. وقال الشافعي في كتاب الصيام -في قول من قال: قد سمى الذين صاموا العصاة-: قد يكون أن يكون قيل لهم ذلك، على أنهم تركوا قبول الرخصة ورغبوا عنها، وهذا مكروه عندنا، إنما نقول: يفطر أو يصوم وهو يعلم أن ذلك واسع له، فإذا كان ذلك فالصوم أحب إلينا لمن قوي عليه. والله أعلم بالصواب.

الفرع الثاني في *الحامل والمرضع والشيخ الكبير*

الفرع الثاني في الحامل والمرضع والشيخ الكبير أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "سئل عن المرأة الحامل: إذا خافت على ولدها؟ قال: تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينًا مدًا من حنطة". قال الشافعي: مالك وأهل العلم يرون عليها مع ذلك القضاء. هذا حديث الموطأ أخرجه هكذا (¬1) وزاد: بمد النبي - صلى الله عليه وسلم -. حملت المرأة تحمل حملًا -بفتح الحاء- فهي حامل وحاملة: إذا كانت حبلى، فمن قال: حامل، قال: هذا نعت لا يكون إلا للإناث، ومن قال: حاملة بناه على حملت فهي حاملة فإذا حملت شيئًا على ظهرها، فلا يقال: إلا حاملة للفرق يبن المذكر والمؤنث. وقوله: "مكان كل يوم" أي عوضه وبدله، فاستعار المكان للمعوض كأن العوض والمعوض منه يتعاقبان على مكان واحد وأنهما ليسا مما يجتمعان. والمد: رطل وثلث عند الشافعي، ومالك، وأهل الحجاز. وهو مد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعند أهل العراق وأبي حنيفة: رطلان. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المرأة الحامل والمرضع إذا خافت على نفسها؛ أفطرت ووجب عليها القضاء دون الكفارة، وإذا خافت على ولدها فأفطرت، فالمشهور من المذهب أن عليها القضاء والكفارة عن كل يوم تفطر فيه مد من طعام. وبه قال أحمد إلا أنه قال: مد من بر أو نصف صاع تمر أو شعير. وبه قال مجاهد. وروى البويطي عن الشافعي: أن الكفارة تجب على المرضع دون الحامل، ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 245 رقم (52)).

وهو إحدى الروايتين عن مالك، وبه قال الليث بن سعد. وقال أبو حنيفة: لا تجب عليها كفارة. وهو مذهب الحسن البصري، وعطاء، والزهري، وربيعة، والثوري، والأوزاعي، وأبي ثور، وأبي عبيد، وداود، واختاره المزني، وابن المنذر. وروي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: تجب عليهما الكفارة دون القضاء. وقد أخرج الربيع عن الشافعي، عن مالك، أن أنس بن مالك كبر حتى كان لا يقدر على الصيام، فكان يفتدي. قال الشافعي -وخالفه مالك، وقال: ليس عليه بواجب وقد رواه قتادة عن أنس أنه ضعف عامًا قبل موته، فأفطر وأمر أهله أن يطعموا مكان كل يوم مسكينًا. والله أعلم.

الباب السادس في القضاء والكفارة

الباب السادس في القضاء والكفارة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة أنه سمع عائشة تقول: "إن كان ليكون علي الصوم من رمضان، فما أستطع أن أصومه حتى شعبان". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد نحوه. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن يحيى بن سعيد وذكره قال يحيى: "الشغل من النبي أو بالنبي - صلى الله عليه وسلم -". وأما مسلم (¬3): فأخرجه بإسناد البخاري ولفظه. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن إسماعيل السدي، عن عبد الله البهي، عن عائشة قالت: "ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن عمرو بن علي، [عن يحيى] (¬7) عن يحيى بن ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 254 رقم (54)). (¬2) البخاري (1950). (¬3) مسلم (1146). (¬4) أبو داود (2399). (¬5) الترمذي (783) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (4/ 191). (¬7) سقط من الأصل والمثبت من النسائي، وكذا في التحفة (12/ 370) ونَسَبَه فقال: [عن يحيى بن سعيد القطان عنه -أي: عن يحيى بن سعيد- به].

سعيد. الحديث. هذه إن المخففة من الثقيلة، واللام الداخلة في الخبر هي الفارقة بين المخففة والشرطية، التقدير: أنه كان يكون علي الصوم. وقولها: "فما أستطيع أن أصومه" تريد أن أقضيه, لأن الحال تدل على ذلك، فإن من كان عليه صوم رمضان لا يقول فيه: لا أستطيع أن أصومه وقد خرج من رمضان, لأن محل الصوم قد انقضى وإنما يريد به القضاء، ويدل عليه ما جاء في رواية البخاري ومسلم بلفظ القضاء. وكذلك صرح به الترمذي. وأما قولها: والشغل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالنبي أنها كانت تشتغل به وبمهامه، أو بما عسى أن يعرض له إليها من نكاح. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الصائم إذا أفطر في رمضان بعذر، فإنما يجب عليه القضاء وحده متفرقًا, وله أن يؤخره إلى انسلاخ شعبان من قابل. فإن [أدركه] (¬1) رمضان آخر ولم يقض نظرت: فإن آخره لعذر من مرض أو سفر متصلين وإن زال عذره وأمكنه أن يقضي فلم يفعل حتى دخل رمضان آخر، فإنه يصوم إلا عن (¬2) رمضان الثاني ثم يقضي ويطعم عن كل يوم مدًا. وبه قال مالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة عليه. واختاره المزني، وهو قول الحسن البصري، والنخعي. وروى الأول عن: أبي هريرة، وابن عباس، وهو قول عطاء، والقاسم بن محمد، والزهري. وقال ابن عباس، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وقتادة: إن أدركه رمضان وقد دام عذره في تأخير القضاء، فإنه يصوم رمضان الثاني ويكفر عن الأول ولا قضاء عليه ¬

_ (¬1) في الأصل: [أدكه] وهو تصحيف والمثبت هو الموافق للسياق. (¬2) كذا في الأصل ولعلها [الاثنين] وراجع المجموع (6/ 366).

وقال الثوري: ويطعم عن كل يوم نصف صاع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد [بن] (¬1) عبد الرحمن، عن أبي هريرة: "أن رجلاً أفطر في شهر رمضان، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين [مسكينًا] (¬2) قال: إني لا أجد، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرق تمر، فقال: "خذ هذا فتصدق به"، فقال: يا رسول الله، ما أحد أحوج مني، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت ثناياه ثم قال: "كله". قال الشافعي: وكان فطره بجماع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب قال: أتى أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتف شعره ويضرب نحوه، ويقول: هلك الأبعد [فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قال: أصبت أهلي في رمضان وأنا صائم] (¬3) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تستطيع أن تعتق رقبة"؟ قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تهدي بدنة"؟ قال: لا. قال: "فاجلس" فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرق تمر، فقال: "خذ هذا فتصدق به". قال: ما أحد أحوج مني، قال: "فكله وصم يومًا مكان ما أصبت". قال عطاء فسألت سعيدًا: كم ذلك العرق؟ قال: ما بين خمسة عشر صاعًا إلى عشرين. وقد أخرج المزني (¬4) عن الشافعي، عن عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال: حدثني الزهري، عن حميد، عن أبي هريرة -وذكر الحديث ¬

_ (¬1) في الأصل [عن] وهو تصحيف والتصويب من الأم (2/ 98) وكذا في مطبوعة المسند. (¬2) في الأصل [مسكين] وهو خطأ والتصويب من الأم (2/ 98). (¬3) سقط من الأصل والمثبت من الأم وغيره. (¬4) السنن المأثورة (294).

مختصرًا- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أفطر في شهر رمضان بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينًا. وأخرج المزني (¬1) أيضًا عن الشافعي هذا الحديث بطوله أتم من هذا، عن سفيان، عن الزهري، عن حميد، عن أبي هريرة قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلكت، فقال "وما أهلكك"؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل تجد رقبة تعتقها"؟ قال: لا. قال: "فهل تستطيع صيام شهرين متتابعين"؟ قال: لا، قال: "فهل تستطيع إطعام ستين مسكينًا"؟ قال: لا أجده. قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجلس" فجلس فبينما هو جالس كذلك إذ أتي بعرق فيه تمر، -قال سفيان والعرق: المكتل- فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب فتصدق به". قال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: "اذهب فأطعمه عيالك". هذا حديث متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا النسائي. أما مالك (¬2): فأخرج الأولى وقال فيها: شهرين متتابعين وقال: "حتى بدت أنيابه"، وأخرج الثانية. وأما البخاري (¬3): فأخرج عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري بالإسناد، وذكر رواية المزني الآخرة بطولها. وأما مسلم (¬4): فأخرج عن يحيى بن يحيى، وأبي بكر بن أبي شيبة، وزهير ابن حرب، وابن نمير كلهم عن ابن عيينة، عن الزهري نحو البخاري، ولهما روايات كثيرة لهذا الحديث. وأما أبو داود (¬5): فأخرج الأولى عن القعنبي، عن مالك. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (292) (¬2) الموطأ (1/ 246 رقم (28)). (¬3) البخاري (1936). (¬4) مسلم (1111). (¬5) أبو داود (2392).

وأخرج (¬1) رواية البخاري ومسلم عن مسدد، ومحمد بن عيسى، عن سفيان، عن الزهري. وأما الترمذي (¬2): فأخرج نحو رواية البخاري، عن نصر بن علي، وأبي عمار، عن سفيان، عن الزهري. وفي الباب عن ابن عمر، وعائشة، وابن عمرو. والعَرق -بفتح الراء-: شيء منسوج من خوص النخل مطفور يعمل منه الزنبيل، فسمي الزنبيل عرقًا لأنه يعمل منه. وقد يروى بسكون الراء، كذلك رواه يحيى بن يحيى في الموطأ ساكن الراء. ورواه ابن وضاح فيه: بالفتح وهو المعروف في كتب اللغة. والأنياب من الأسنان معروفة: وهي التي بين الرباعيات والضواحك. وقوله: "يضرب نحره" يريد أعالي صدره، وذلك فعل الكئيب المحزون أو الخائف من أمر وقع فيه، فهو يلزم نفسه بذلك غير قانع بالقول حتى يتبع ذلك بالفعل. وقوله: "أصبت أهلي" يريد بالجماع. والبدنة: أكثر ما يطلق على الإبل، وقد يطلق على البقر، وقد جاء في بعض الروايات "ما أحد أحوج مني -بالحاء-" فإن لم يكن سهوا من الرواة فهو جائز، إلا أن المشهور بالجيم من الوجدان ويعضد ذلك ما جاء في رواية الموطأ "ما أجد أحدًا أحوج مني" فجمع بين الاثنين في اللفظ. واللابة: الحرة وهي الأرض ذات الحجارة السود يريد حرتي المدينة. ¬

_ (¬1) أبو داود (2390). (¬2) الترمذي (724) وقال: حسن صحيح.

والمكتل -بكسر الميم وفتح التاء-: الزنبيل العظيم. وفي هذا الحديث من الفقه: بيان وجوب القضاء والكفارة، وبيان الترتيب والتخيير فيها، وبيان وجوبها على الرجل والمرأة أو على الرجل دونها، وبيان التتابع، وبيان مقدار الطعام، وبيان تخصيص هذا السائل بأكل الكفارة. أما من أفطر في نهار متعمدًا فعليه القضاء، بأي نوع كان من أنواع الفطر. وأما الذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- في الكفارة: فإنها إنما تجب على من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام؛ أثم به لأجل الصوم، والناسي لا يكفر ولا الصائم في غير رمضان، ولا على من أكل أو شرب، أو استمنى، أو قبل فأنزل، فإنه جماع لكنه غير تام، ولا على من زنا ناسيًا, ولا على من أدركه الصبح مجامعًا أهله. هذا الحد ذكره الغزالي -رحمه الله تعالى- في الوسيط وهو كامل تام، فبوجوب الكفارة على المجامع قال أكثر الفقهاء. وقال النخعي، والشعبي، وسعيد بن جبير، وقتادة: لا كفارة عليه. وقال أبو حنيفة: إذا أفطر بالأكل والشرب وجبت عليه الكفارة، إلا أن يبلع حصاة أو فستقة بقشرها فلا كفارة فيها. وكأنه يعتبر في وجوب الكفارة ما يتغذى به أو يتداوى به. وقال مالك: تجب الكفارة بكل ما كان هاتكًا لحرمة الصوم إلا الردة. وبه قال أبو ثور. وقال عطاء، والحسن البصري، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق: الأكل والشرب كالجماع. وأما وجوبها على الرجل والمرأة: فإن الظاهر الآكد من مذهب الشافعي، أنها تجب على الرجل دون المرأة.

وقال في الإملاء: تجب عليهما كفارتان. وبالأول قال أحمد، وبالثاني قال مالك، وأبو حنيفة وأبو ثور، ووري أيضًا عن أحمد. وأما ترتيب الكفارة وتخييرها: فعند الشافعي أنها مرتبة، إن قدر على الرقبة أعتق ولا يجزئه غيرها، فإن لم يجد فيصوم ستين يومًا، فإن تعذر فيطعم ستين مسكينًا. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد. وقال مالك: هي على التخيير بين العتق والصوم والإطعام. وحكى عن الحسن: أنه مخير بين عتق رقبة، ونحر بدنة أخذًا برواية ابن المسيب، ولا قائل بذلك. فأما بيان التتابع: فإنه واجب وبه قال عامة الفقهاء. وقال ابن أبي ليلى: لا يجب التتابع. وأما مقدار الطعام: فخمسة عشر صاعًا لستين مسكينًا لكل مسكين مد واحد، مما يخرج منه زكاة الفطر لا فرق بين أنواعها كلها. وقال أبو حنيفة: لكل مسكين من البر نصف صاع. وأما تخصيص هذا السائل بأكل الكفارة وإطعامها أهله: فقد قال الشافعي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يملكه التمر وإنما أراد أن يتطوع عنه بالتكفير، فلما أخبره بحاجته صرفه إليه، أو أنه ملكه التمر ليتصدق به عن نفسه، فلما أخبره بفقره قدم حاجته على الكفارة، فيحتمل: أنه أمره بذلك وتبقى الكفارة في ذمته، ويحتمل: أنها سقطت عنه للعجز، ويحتمل: أن يكون صرف الكفارة إليه وإلى عياله لما كان هو المتطوع بها، أو يكون مصروفه إلى عياله.

قال الخطابي (¬1): ظاهر هذا الحديث يدل على أن قدر خمسة عشر صاعًا كاف في الكفارة عن شخص واحد لكل مسكين مد، وقد جعله الشافعي أصلاً لمذهبه في أكثر المواضع التي يجب فيها الإطعام، وقد روي في خبر سلمة بن صخر، وأوس بن الصامت في كفارة الظهار أنه [قال] (¬2) في أحدهما: "أطعم ستين مسكينًا وسقا". والوسق: ستون صاعًا، وفي الآخر قال: "أتى بعرق" والعرق ثلاثون صاعًا كذا فسره محمد بن إسحاق بن يسار، وإسناد الحديثين لا بأس به وإن كان حديث أبي هريرة أشهر منهما، فالاحتياط أن لا يقتصر على المد الواحد؛ لجواز أن يكون العرق الذي أتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - المقدر بخمسة عشر صاعًا، فصار في الحكم عن مبلغ تمام الواجب اتساعًا لوجوده. وفي هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مهد عذره في ترك الصيام بالغلبة المفرطة، وقد اختلف الأئمة في ذلك، والظاهر: أنه لا يرخص في العدول الإطعام وهو القياس. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أخيه خالد بن أسلم أن عمر بن الخطاب أفطر في رمضان في يوم ذي غيم، ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد طلعت الشمس، فقال عمر بن الخطاب: الخطب يسير. هذا الحديث أخرجه مالك (¬3) في الموطأ وزاد في آخره: وقد اجتهدنا. قال الشافعي: يعني فصام يوماً مكانه ولذلك قال: الخطب يسير أي: الشأن والأمر سهل. ¬

_ (¬1) معالم السنن (2/ 103). (¬2) من معالم السنن. (¬3) الموطأ (1/ 251 رقم (44)).

والذي ذهب إليه: أن الفطر متعمدًا في شهر رمضان بغير الجماع، كالأكل والشرب وغيرهما، أو من ظن دخول وقت فأفطر مثل ما جرى في هذا الحديث، فإنه يجب عليه القضاء وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء، وأما الكفارة فقد ذكرت. والقضاء عند الشافعي مكان كل يوم يوم. وبه قال عامة الفقهاء. وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: يجب مكان كل يوم اثنى عشر يومًا, لأن السنة اثنى عشر شهرًا وشهر رمضان يجزئ عنها. حكي عن سعيد بن المسيب أنه قال: يصوم عن كل يوم شهرًا. وقال النخعي: يقضي ثلاثة آلاف يوم. والحكم في مثل هذه الحادثة أنه لا عليه غير قضاء يوم. وبه قال ابن عباس، ومعاوية، وعطاء، وابن جبير، ومجاهد، والزهري، ومالك، والثوري، وأحمد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وكان الحسن البصري وإسحاق يقولان: لا قضاء عليه بمنزلة الناسي. وقد روي في طريق آخر عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا والله ما نبالي نقضي يومًا مكانه وهذا تفسير قوله في الرواية الأولى: الخطب يسير.

الباب السابع في صوم التطوع

الباب السابع في صوم التطوع وفيه ثلاثة فروع: الفرع الأول في الدخول فيه والخروج منه أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، عن عمته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنا خبأنا لك حيسًا، فقال: "أما إني كنت أريد الصوم ولكن قربيه". هكذا أخرجه الربيع في المسند (¬1)، وقد أخرجه المزني (¬2) عنه بهذا الإسناد، ¬

_ (¬1) المسند بترتيب السندي (رقم 706)، والأم (2/ 103). (¬2) مختصر المزني (صـ 59) وليس عنده الزيادة ولكن نقله بالزيادة البيهقي في المعرفة (6/ 335 - 336) وقال: قال المزني: سمعت الشافعي يقول: سمعت عامة مجالسته لا يذكر فيه: "سأصوم يومًا مكانه" ثم عرضته عليه قبل أن يموت بسنة فأجاب فيه: "سأصوم يومًا مكانه". وقال في السنن الكبير (4/ 275) عقب الحديث: هكذا رواه جماعة عن سفيان بن عيينة، وكذلك رواه جماعة عن طلحة بن يحيى لم يذكر أحد منهم القضاء في هذا الحديث ...... وكان أبو الحسن الدارقطني -رحمه الله تعالى- يحمل في هذا اللفظ على محمد بن عمرو بن العباس الباهلي هذا، ويزعم أنه لم يروه بهذا اللفظ غيره ولم يتابع عليه، وليس كذلك، فقد حدث به ابن عيينة في آخر عمره وهو عند أهل العلم بالحديث غير محفوظ .......... وروايته عامة دهره لهذا الحديث لا يذكر فيه هذا اللفظ مع رواية الجماعة عن طلحة بن يحيى لا يذكره منهم أحد: سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، وعبد الواحد بن زياد، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن سعيد القطان، ويعلى بن عبيد وغيرهم تدل على خطأ هذه اللفظة.

وزاد في آخره: "سأصوم يومًا مكانه". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن أبي كامل فضيل بن حسين، عن عبد الواحد بن زياد، عن طلحة بن يحيى بالإسناد قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ذات يوم: يا عائشة] (¬2): "هل عندكم شيء"؟ قالت: فقلت: يا رسول الله، ما عندنا شيء، قال: "فإني صائم" قالت: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهديت لنا هدية أو جاءنا زور وقد خبأت لك شيئاً. قال: "ما هو" قلت: حيس قال: "فهاته". فجئت به فأكل ثم قال: "كنت أصبحت صائمًا". قال طلحة: فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث فقال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان، وعن عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، جميعًا عن طلحة بن يحيى بالإسناد قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل علينا (¬4) قال: "هل عندكم طعام"؟ فإن قلنا: لا. قال: "إني صائم" زاد وكيع: فدخل علينا يومًا آخر فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس فحبسناه لك. فقال: "أدنيه" قال طلحة: فأصبح صائمًا وأفطر. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن هناد، عن وكيع، عن طلحة، وعن محمود ابن غيلان، عن بشر بن السري، عن سفيان بن طلحة وذكر نحو رواية أبي داود. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن طلحة بن ¬

_ (¬1) مسلم (1154). (¬2) من مسلم. (¬3) أبو داود (2455). (¬4) عند أبي داود (عليَّ). (¬5) الترمذي (733، 734). وقال هذا حديث حسن. (¬6) النسائي (4/ 195).

يحيى، عن عمته بنت طلحة نحو رواية أبي داود. هؤلاء كلهم رووه عن طلحة بن يحيى، ولم يذكروا فيه الزيادة التي زادها المزني في روايته، رواه عنه جماعة منهم: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وعبد الواحد بن زياد، ويحيى بن سعيد القطان، ويعلى بن عبيد ولم يذكروا فيه هذه الزيادة. تقول: "خبأت الشيء أخبؤه خبأ": إذا أعددته وادخرته. والحيس: طعام يتخذ من تمر وسمن وأقط ودقيق وفتيت ويخلط. والزور -بفتح الزاي- الزائر وهو في الأصل مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث كالضيف، تقول: زار يزور زورًا: فهو زائر وزور، وهما زور، وهم زور، وهن زور. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء أتم وإن شاء أفطر، ولا قضاء عليه ولكنه يستحب له. وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، والثوري، وإسحاق. وقال الثوري: أحب أن يقضي. وقال أبو حنيفة: يجب عليه إتمامه ولا يجوز له الإفطار إلا بعذر. وروي عن محمد أنه قال: إذا دخل على أخ له فحلف عليه أفطر وعليه القضاء. وقال مالك: يجب صومه بالدخول فيه ولا يخرج إلا بعذر، فإذا خرج بعذر فلا قضاء عليه. وبه قال أبو ثور. وكره الإفطار: الحسن البصري، ومكحول، والنخعي، وقالوا: يقضيه. وأما نية صوم التطوع: فذهب الشافعي: إلى أنها جائزة إلى الزوال. وبه قال أبو حنيفة وأحمد.

وقال مالك، والمزني وداود: لا تجوز إلا بنية من الليل كصوم الفرض. وقد حكى حرملة عن الشافعي: جواز نية التطوع بعد الزوال وعلى الحالين: فمتى نوى صار صائمًا جميع ذلك اليوم. وقال أبو إسحاق: يكون صائمًا من حين ما نوى. واحتجاج الشافعي من الحديث ومع خروجه - صلى الله عليه وسلم - من صوم يوم التطوع قبل تمامه، ومثله لا يجوز صوم واجب وهو مقيم. وقوله: "سأصوم يومًا مكانه" لو كان في الحديث يحتمل أنه أراد سأتطوع يومًا مكانه، وجعل مثاله حديث أم سلمة في قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين كان يصليهما بعد الظهر، فشغله عنهما الوفد؛ وقد ذكرنا هذا الحديث في كتاب الصلاة، واستشهد أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل"، وبما روى عن عمر بن الخطاب: من فاته شيء من صلاة الليل، فليصله إذا زالت الشمس، فإنه يعدل قيام الليل. ليس أنه يجب شيء من ذلك ولا قضاؤه، ولكن يقول: من أراد تحري فضله فليفعل (¬1)، ثم ذكر الشافعي حديث عمر بن الخطاب في الاعتكاف وسيجيء ذكره. قال الشافعي: وهو على هذا المعنى -والله أعلم- أنه أمره إن أراد أن يتبَّرر باعتكاف اعتكف به. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح أن ابن عباس "كان لا يرى بأسًا أن يفطر الإنسان في صيام التطوع، ويضرب لذلك أمثالاً: رجل طاف سبعًا ولم يوفه فله أجر ما احتسب. ¬

_ (¬1) في المعرفة (6/ 337) بلفظ "من أراد أن يصل فليفعل".

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسًا. البأس -مهموزًا-: الخوف والشدة، تقول: ما بهذا الأمر بأس أي: لا مشقة فيه ولا كراهية ولا لوم على فاعله، وأنه خفيف على مرتكبه لا يجد فيه عناء من جانب التعب الحسي والعتب الشرعي. وضرب الأمثال: وضعها واعتمادها، هو من قولك: ضربت اللبن. إذا صنعته. ورجل: مرفوع لأنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو رجل طاف. سبعًا: في موضع رفع لأنه صفة رجل. والطواف: هو السعي حول البيت الحرام. والسُبع -بضم السين-: اسم لسبع دورات حول البيت، كلما طاف حوله سبع مرات كان قد طاف سبعًا، ويسمى كل دورة منها شوطًا. وقوله: "ولم يوفه" أي لم يتم مطافه سبع مرات، فقوله: "طاف سبعًا" مجاز لأنه إنما يقال: طاف سبعًا إذا كملت له المرات، وإنما أراد به عزم على طواف السبع, لأن الطائف من أول ما شرع في الطواف يكون عازمًا وناويًا أن يطوف سبعًا كاملاً, لأن المشروع في الطواف هو ذلك. وقوله: "فله ما احتسب" أي ما ادخر واكتسب من العبادة. والاحتساب: افتعال من الحسبة الأجر. وفي هذا الحديث من الفقه: جواز الإفطار في صوم التطوع، وجواز الاقتصار على بعض أشواط الطواف، وجواز صلاة ركعة واحدة؛ وأن يكون قد نوى أكثر من ركعة؛ ثم اقتصر على ركعة.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبر مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسًا. هذا الحديث مؤكد لما قبله، والرؤية في هذه الأحاديث كلها من رؤية القلب والرأي هذا، قاله الشافعي: ومن الرواية التي لا يدفع عالم أنها غاية في الثبت روايتنا عن ابن عباس، ونحن وأنت نثبت روايتنا عن جابر بن عبد الله، فلو لم يكن في هذا دلالة من سنة ولم يكن فيه إلا الآثار، أما كان يلزمك على أصل مذهبك أن تقول قولنا فيه؟. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب: الحديث الذي رويت عن حفصة وعائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنهما أصبحتا صائمتين فأهدي لهما شيء فأفطرتا، فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صوما يومًا مكانه" قال ابن جريج: فقلت له: أسمعته من عروة بن الزبير؟ قال: لا. إنما أخبرنيه رجل بباب عبد الملك بن مروان، أو رجل من جلساء عبد الملك بن مروان. هذا الحديث أخرجه مالك، وأبو داود، والترمذي. أما مالك (¬1): فأخرجه عن ابن شهاب: "أن عائشة وحفصة -زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم- أصبحتا صائمتين متطوعتين، فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه، فدخل عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة: فقالت حفصة - وبدرتني بالكلام وكانت بنت أبيها-: يا رسول الله، إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين، فأهدي لنا طعام فأفطرنا عليه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقضيا مكانه يومًا آخر". ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 253 رقم (50)).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن حيوة ابن شريح، عن ابن الهاد، عن [زميل] (¬2) - مولى عروة- عن عروة، عن عائشة. الحديث. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة. قال الترمذي: وروى مالك بن أنس، ومعمر، وعبيد الله بن عمر، وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري، عن عائشة مرسلاً، ولم يذكروا فيه عن عروة، قال: وهذا أصح. وذكر قول ابن جريج وسؤاله الزهري كما جاء في حديث الشافعي، إلا أنه قال: في خلافة سليمان بن عبد الملك. قلت: هذا الحديث هكذا جاء في المسند، أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب -الحديث الذي رويت عن حفصة وعائشة-، وهذا كلام أبتر. وقوله: "رويت" يقتضي مخاطبًا، ومن لم يقف على كلام الشافعي في كتبه لا يعرف مساق هذا الحديث، ونحن نذكره ليتضح: وذلك أن الشافعي قال -في كتاب الصيام (¬4) في مساق كلامه على حديث ابن عباس وجابر، وغيرهما من أحاديث الصيام، قال: فخالفنا بعض الناس في هذا -يعني في قضاء صوم التطوع- وقال: يريد الذي يخالفه، أخبرنا الثقة، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين، فأهدي لهما شيء فأفطرتا، فذكرتا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صوما يومًا مكانه"، قال الشافعي: فقلت: فهل عندك حجة من رواية أو أثر لازم غير هذا؟ فقال: ما يحضرني الآن شيء غيره. قلت: فكيف قلت عن ابن شهاب مرسلاً في شيء، ولا تقبله ¬

_ (¬1) أبو داود (2457). (¬2) في الأصل [زميلة] وهو تصحيف والمثبت من أبي داود. (¬3) الترمذي (735). (¬4) الأم (1/ 285).

عنه ولا عن مثله ولا أكبر منه في شيء غيره؟ قال: فلعله لم يحمله إلا عن ثقة. قلت: وهكذا يقول لك من أخذ بمرسله في غير هذا أو بمرسل من هو أكبر منه؟ فيقول: كل من غاب عني كما يمكن فيه أن يحمله عن ثقة؛ وعن مجهول لم تقم علي به حجة؛ حتى أعرف من حمله عنه بالثقة وأنزلته منزلة الشهادات، ثم ساق الكلام إلى أن ذكر وهن الحديث عند ابن شهاب، قلت: نعم. أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب -الحديث الذي رويت عن حفصة وعائشة- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر هذا الحديث كما ورد في المسند، ثم قال الشافعي: أرأيت لو كنت ترى الحجة تقوم بالحديث المرسل ثم علمت أن ابن شهاب قال في هذا الحديث ما حكيت لك -يريد قول ابن جريج له وجوابه أتقبله؟ قال: لا. هذا يوهنه ما يخبر بأنه قبله عن رجل لا يسميه، ولو عرفه لسماه أو وثقه. تم كلام الشافعي. وقد ثبت عن سفيان بن عيينة: أنه قيل للزهري: هو عن عروة؟ قال: [لا فثبت] (¬1) بشهادة ابن جريج وابن عيينة، عن الزهري أنه لم يسمعه عن عروة، وفي ذلك دلالة على خطأ رواية جعفر بن برقان، وصالح بن أبي الأخضر وسفيان هذا الحديث عن الزهري (¬2)، عن عروة، عن عائشة. ثم في رواية الأكابر من أصحاب الزهري الحديث عنه مرسلاً، مثل مالك بن أنس، ويونس بن يزيد، ومعمر بن راشد، وابن جريج، ويحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وابن عيينة، ومحمد بن الوليد الزبيدي، وبكر بن وائل وغيرهم. وأما رواية ابن الهاد: عن زميل، عن عروة، عن عائشة فإنها لم تثبت، قال ¬

_ (¬1) في الأصل [ولا يثبت] والمثبت من المعرفة (6/ 343). (¬2) كذا في الأصل والعبارة غير مستقيمة، وفي المعرفة (6/ 343): وسفيان بن عيينة حسن الحديث عن الزهري ..........

البخاري: لا يعرف لزميل سماع من عروة، ولا لابن الهاد من زميل، ولا يقوم به الحجة. وقد اختلف في زميل فقيل: بفتح الزاي، وقيل: بضمها وهو مجهول. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي الدرداء "أنه كان يأتي أهله حين ينتصف النهار أو قبله، فيقول: هل من غداء؟ فيجده أو لا يجده، فيقول: لأصومن هذا اليوم، فيصومه وإن كان مفطرًا أو بلغ ذلك الحين وهو مفطر". قال ابن جريج: أخبرنا عطاء قال: وبلغنا أنه يفعل ذلك حتى يصبح مفطرًا حتى الضحى وبعده، ولعله يكون وجد هذا أو لم يجده. هذا الحديث استشهد به البخاري في الصحيح (¬1)، في كتاب "الصوم" في باب (إذا نوى بالنهار صومًا)، قال: وقالت أم الدرداء: كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا: لا. قال: فإني صائم يومي هذا. وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وحذيفة، وابن عباس. أهل الرجل: زوجته، هذا في الإطلاق العرفي والاصطلاح العادي، فأما في أصل الوضع اللغوي: فهم أقاربه وأنسابه وعشيرته. وقوله: "كان يأتي أهله" فيه دليل على تكرار ذلك منه، وأنها عادة مستمرة له وليست نادرة. وقوله: "فيجد أو لا يجد" يعني أنه على أي حال كان من وجود الغداء وعدمه. واللام في قوله: "لأصومن" جواب القسم المحذوف، تقديره: والله لأصومن. ¬

_ (¬1) الفتح (4/ 167) ووصله الحافظ هناك.

والشك في قوله: "وإن كان مفطرًا أو بلغ ذلك الحين وهو مفطر" يجوز أن يكون شكًا من أحد الرواة، فيما سمعه ممن سمعه منه عطاء فمن دونه. ويجوز أن لا يكون شكًا في اللفظ إنما هو شك في معنى اللفظين ومعناهما مختلفان. فأما قوله: "وإن كان مفطرًا" فإنه يريد به وإن كان قد بنى أمره ذلك على الإفطار من أوله، ولم يكن نوى صومه. وأما قوله: "أو بلغه ذلك الحين وهو مفطر" فإنه يريد: أن لم يكن متعرضًا للإفطار في ذلك اليوم، ولا عزم على طلب الغداء وعرض له أنه مفطر، وكلا الأمرين محتمل. وقوله: "حين يصبح مفطرًا" يؤكد ما قلناه أي أنه بنى أمره من أول النهار على أنه مفطر. وحتى في قوله: "حتى الضحى" بمعنى إلى، تقديره يصبح مفطرًا إلى الضحى أو بعده. والضحى: يجوز أن يكون بضم الضاد والقصر، وهو أول النهار. ويجوز أن يكون بفتح الضاد والمد وهو عند ارتفاع النهار، والضرب من الزوال وهو الأشبه. ودخول أن في خبر أهل غير مستعمل إلا قليلاً على إعطاء لعل معنى "عسى" لا تقول: لعل زيدًا أن يقوم. قال لي ناصح الدين أبو محمد سعيد بن المبارك بن علي الدهان النحوي -رحمه الله تعالى- وأنا أقرأ عليه كتاب "مجمل اللغة" لأحمد بن فارس -رحمه الله تعالى، وقد جاء فيه: لعله أن يكون كذا وكذا وهذا لا يجوز في النحو، ووجه ذلك أن أن والفعل بمعنى المصدر، تقول: أريد أن تقوم، المعنى:

أريد قيامك، فإذا أدخلتها في خبر لعل فقلت: لعل زيدًا أن يقوم، فكأنك قلت: لعل زيدًا قائم، وهذا غير جائز فإن قلت: فما تقول في قولهم: عسى زيد أن يقوم، قلت: جاز ذلك لما في عسى من معنى المقاربة فكأنك قلت: قارب قيام زيد، وليس كذلك لعل فإن معنى لعل التوقع والرجاء، فقل فيهما: أرجو قيام زيد وأتوقع قيام زيد، قلت: لعل مجمع على أنها حرف وعسى لم يقل أنها حرف من يعتد بقوله، والفعل يجوز لك فيه من التصرف ما لا يجوز في الحرف، فإن أقمت معنى عسى مقامها جاز لك بخلاف لعل. وقد أخرج الشافعي (رض الله عنه) في كتاب البويطي: حديث أم هانئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها، فناولته شرابًا فشرب، ثم ناولها فشربت، فقالت: يا رسول الله، كنت صائمة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصائم أمين -أو أمير- نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1)، والترمذي (¬2). ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2456). (¬2) الترمذي (732). وقال: حديث أم هانئ في إسناده مقال، والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الصائم المتطوع إذا أفطر فلا قضاء عليه إلا أن يحب أن يقضيه، وهو قول سفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق، والشافعي.

الفرع الثاني في صيام يوم عاشوراء وتاسوعاء

الفرع الثاني في صيام يوم عاشوراء وتاسوعاء أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم يوم عاشوراء ويأمر بصيامه". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "كان يوم عاشوراء [يومًا] (¬1) تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه في الجاهلية، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا النسائي. أما مالك (¬2): فأخرجه عن هشام بن عروة. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن [مسلمة] (¬4). [وأما] (¬5) مسلم (¬6): فأخرجه عن زهير بن حرب، عن جرير، عن هشام، عن أبيه. وأما أبو داود (¬7): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك بإسناده. وأما الترمذي (¬8): فأخرجه عن هارون بن إسحاق الهمداني، عن عبدة بن ¬

_ (¬1) في الأصل [يوم] كذا والمثبت من مختصر المزني (498)، وكذا مطبوعة المسند. (¬2) الموطأ (1/ 248 رقم 33). (¬3) البخاري (2002). (¬4) سقط من الأصل والمثبت من البخاري. (¬5) سقط من الأصل والسياق يقتضيها. (¬6) مسلم (1125). (¬7) أبو داود (2442). (¬8) الترمذي (753) وقال: والعمل عند أهل العلم على حديث عائشة وهو حديث صحيح.

سليمان، عن هشام. عاشوراء: فاعولاء من العشر يريد: عشر محرم، قال الجوهري: عاشوراء مثله وهذا اليوم العاشر من المحرم. وقد ذهب قوم: إلى أنه اليوم التاسع، وقد جاء في ذلك حديث ابن عباس قال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح اليوم التاسع صائمًا، ووجه ذلك: أنه مأخوذ من إوراد الإبل وهي الربع والخمس والعشر، فإن الربع عند العرب: هو شرب الإبل في اليوم الثالث، والخمس: شربها في اليوم الرابع، والعشر: شربها في اليوم التاسع. وهو في قوله: "كان هو الفريضة" راجع إلى رمضان لا إلى عاشوراء ويسمى الفصل والعماد، وفائدته تأكيد وتحقيق لما يسند الفعل إليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن حميد، [بن] (¬1) عبد الرحمن قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء -وهو على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخرج من كمه قصة من شعر يقول: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذه، ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذتها نساؤهم" ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا اليوم يقول: "إني صائم فمن شاء منكم فليصم". أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج وهو على المنبر، يقول: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لمثل هذا اليوم: "هذا يوم عاشوراء لم يكتب الله عليكم صيامه وأنا صائم، فمن شاء منكم فليصم، ومن شاء فليفطر". ¬

_ (¬1) في الأصل: [عن] وهو تصحيف والمثبت من مطبوعة المسند وكذا في مختصر المزني (498).

هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم والنسائي. أما مالك (¬1): فأخرج الرواية الثانية إسنادًا ولفظًا نحوه. وأما البخاري (¬2): فأخرج الثانية عن القعنبي، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرج الرواية الثانية عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري. وقد أخرج الجماعة كلهم حديث قصة الشعر التي في أول الحديث مفردة من حديث عاشوراء. القصة من الشعر: القطعة منه، ووجه النهي عنه: أنه أراد الوصل في الشعر وتزويره، وذلك أن تأخذ المرأة شعرًا مستعارًا فتصله في شعرها, ليظهر أن لها شعرًا كثيرًا تتحسن به عند من يراها، وقد جاء النص بلعن الواصلة والمستوصلة. وقد جاء في رواية الشافعي "لم يكتب عليكم صيامه" بغير واو، وفي رواية مالك "ولم يكتب" بواو، وحذف الواو أحسن لأن الواو هي واو العطف، وهي مؤذنة بانقطاع الكلام الأول الذي هو المعطوف عليه وتمامه؛ واستئناف المعطوف ليعطيه حكم ما قبله، فأما إذا لم يجئ بالواو فيكون الكلام متصلاً غير منقطع، كأن بعضه متوقف على البعض فلا يكون بينهما فاصل وهو أحسن. والكتابة هاهنا: عبارة عن الفرض، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (¬5)، و {كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ} (¬6) وأمثال ذلك كثير. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 248 رقم (34)). (¬2) البخاري (2003). (¬3) مسلم (1129). (¬4) النسائي (4/ 204). (¬5) البقرة: [183]. (¬6) البقرة: [178].

وفي رواية الشافعي "فمن شاء منكم فليصم"، وفي رواية غيره بإسقاطها، وإثباتها أحسن لرواج قوله: "عليكم"، ولأنه قال: لم يكتب عليكم فخصهم بذكر الكتبة فاحتاج أن يخصص أيضًا المشيئة، فقال: "منكم" فيكون الكلام متوافقًا في الإيراد. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا يحيى بن حسان، عن الليث -يعني ابن سعد-، عن نافع، عن ابن عمر قال: ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عاشوراء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يومًا يصومه أهل الجاهلية، فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدعه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن مسدد، عن إسماعيل، عن أيوب، عن نافع وذكر أطول من هذا. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن قتيبة وابن رمح، عن الليث بالإسناد. وعن (¬3) أبي كريب، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن نافع. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن مسدد، عن يحيى [عن عبيد] (¬5) الله، عن نافع. المكروه: ضد المحبوب، ألا تراه جاء بهما في هذا الحديث متقابلين فقال: "من أحب صيامه فليصمه، ومن كره فليدعه"، تقول: كرهت أكرهه كراهة وكراهية، فهو شيء كريه ومكروه. [وقد يرد] (¬6) المكروه في اصطلاح الفقهاء في بعض الأشياء على الحرام، ¬

_ (¬1) البخاري (1892). وراجع لفظ هناك. (¬2) مسلم (1125). (¬3) مسلم (1126/ 119). (¬4) أبو داود (2443). (¬5) في الأصل [بن عبد] وهو تصحيف، والصواب هو المثبت كذا في تحفة الأشراف (6/ 174)، ومطبوعة السنن. (¬6) في الأصل [وقدير] والمثبت هو الموافق للسياق وبه ينتظم المعنى.

وكثيرًا ما كان الجم الأول من الأئمة يطلقون ذلك في ألفاظهم، ويعلم مقصودهم من قرائن الأحوال، ومدار الكلام. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة أنه سمع عبيد الله بن أبي يزيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: "ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يومًا يتحرى صيامه على الأيام إلا هذا اليوم -يعني عاشوراء-". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبيد الله بن موسى، عن ابن عيينة بالإسناد وزاد في آخره "وهذا الشهر -يعني شهر رمضان". وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، عن سفيان وزاد زيادة البخاري، وقال في أول حديثه "أنه سمع ابن عباس وسئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكره. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان مثل مسلم. التحري: القصد، تحريت أتحرى تحريًا إذا طلبت ما هو أحرى بالاستعمال وأولى، وهذا لفضل يوم عاشوراء لأنه قد تحرى صومه دون غيره من الأيام، وقد ورد في فضل يوم عاشوراء وصومه أحاديث كثيرة. قال الشافعي -لما أورد هذه الأحاديث المذكورة في كتاب اختلاف الحديث (¬4) -: وليس من هذه الأحاديث شيء مختلف عندنا -والله أعلم- إلا شيئًا ذكره في حديث عائشة، وهو مما وصفت من الأحاديث التي يأتي منها المحدت ببعض دون بعض، فحديث ابن أبي ذئب عن عائشة لو انفرد كان ظاهره أن عاشوراء كان فرضاً؛ فذكر هشام، عن أبيه، عن عائشة أن النبي ¬

_ (¬1) البخاري (2006). (¬2) مسلم (1132). (¬3) النسائي (4/ 204). (¬4) اختلاف الحديث (صـ 498).

- صلى الله عليه وسلم - صامه في الجاهلية، وصامه بالمدينة وأمر بصيامه، فلما نزل رمضان كان الفريضة وترك عاشوراء. قال الشافعي: لا يحتمل قول عائشة ترك عاشوراء، معنى يصح إلا ترك إيجاب صومه، إذ علمنا أن كتاب الله بين لهم أن شهر رمضان المفروض صومه، وأبان ذلك لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو ترك استحباب صومه، وهو أولى الأمرين عندنا به لأن حديث ابن عمر ومعاوية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله لم يكتب صوم يوم عاشوراء على الناس، ولعل عائشة إن كانت تذهب إلى أنه واجب ثم نسخ، قالته لأنه يحتمل أن تكون رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صامه وأمر بصومه، كان صومه فرضًا ثم نسخه ترك أمره: من شاء أن يدع صومه. قال: ولا أحسبها ذهبت إلا إلى المذهب الأول، وأن الأول موافق للقرءان وأن الله فرض الصوم فأبان أنه شهر رمضان ودل حديث ابن عمر ومعاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على مثل معنى القرءان بأن لا فرض في الصوم إلا رمضان، وكذلك قول ابن عباس: ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يومًا يتحرى فضله بالتطوع يصومه. وجملة مذهب الشافعي في يوم عاشوراء اليوم: أنه مستحب مسنون، وقد اختلف فيه هل كان فرضًا أم لا؟ فظاهر المذهب أنه لم يكن فرضًا وإنما كان مستحبًا، وهذا الذي ذكرناه من كلام الشافعي يشهد لصحته. وقال بعض الأصحاب: أنه كان واجبًا. وبه يقول أصحاب أبي حنيفة. والله أعلم. وقد أخرج المزني (¬1) عن الشافعي، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن عبد الرحمن، عن [ابن] (¬2) أبي ذئب، عن القاسم بن عباس، عن عبد الله بن عمير، عن عبد الله بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لئن سلمت إلى قابل ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (333). (¬2) من السنن المأثورة وهو الصواب وابن أبي ذئب هو: محمد بن عبد الرحمن تقدم مراراً.

لأصومن اليوم التاسع". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1) والنسائي (¬2). وأخرج المزني (¬3) أيضًا عن الشافعي، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: "صوموا التاسع والعاشر ولا تشبهوا باليهود". قال الشافعي: من صام التاسع فله أجره على نيته، وقول ابن عباس: ولا تشبهوا باليهود لأنه كره موافقة اليهود في إفراده، وأحب وصله بغيره. وأما حديث التاسع: فيحتمل أنه يريد صومه احتياطًا، فربما نقص الهلال فيكون الغيم، فيكملون العدة ثلاثين فيكون التاسع في العدد هو العاشر في الهلال وأحب أن لا يفوته. ويحتمل ما قاله ابن عباس من مخالفة اليهود. ويحتمل أن يكون التاسع هو العاشر، والعامة تصوم يوم العاشر وهو بالحق أولى. وأمره بالتطوع ولو كان فرضًا ما اختلفوا في وقته. ومعنى قول الشافعي: أن يكون التاسع هو العاشر، هو ما قدمناه من حمله على أوراد الإبل -والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1134). (¬2) كذا عزاه للنسائي وهو وهم، وإنما أخرجه ابن ماجه (1736) كما في تحفة الأشراف (5/ 48). (¬3) السنن المأثورة (337).

الفرع الثالث في صوم يوم عرفة والجمعة وغيرهما

الفرع الثالث في صوم يوم عرفة والجمعة وغيرهما أخرج المزني عن الشافعي (¬1) (رضي الله عنهما)، عن داود بن شابور وغيره، عن أبي قزعة، عن أبي الخليل، عن أبي حرملة، عن أبي قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صيام يوم عرفة كفارة السنة والسنة التي تليها، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة". هذا الحديث أخرجه الترمذي (¬2) مفرقًا. قال الشافعي: وأحب صوم يوم عرفة لغير الحاج، فأما من حج فأحب أن يفطر ليقويه على الدعاء. واحتج بحديث أم الفضل بنت الحارث أنها أرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن، وهو واقف على بعير بعرفة فشرب. وأخرج الشافعي في رواية حرملة (¬3) عنه عن سفيان، عن أيوب، عن سعيد ابن جبير قال: "أتيت ابن عباس بعرفة فوجدته يأكل رمانًا، فقال لي: ادن فكل، لعلك صائم!! إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصم هذا اليوم". قال الشافعي في القديم: فلو كان رجل يعلم أن الصوم لا يضعفه فصام كان حسنًا. وأخرج المزني (¬4) عن الشافعي، عن سفيان [عن] (¬5) عبد [الحميد] (¬6) بن جبير ابن شيبة، عن محمد بن عباد بن جعفر قال: سألت [جابر] (¬7) بن عبد الله - ¬

_ (¬1) المعرفة (6/ 346). (¬2) الترمذي (749، 752). (¬3) المعرفة (6/ 348). (¬4) المعرفة (6/ 373). (¬5) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة. (¬6) في الأصل [المجيد] وهو تصحيف والتصويب من المعرفة وكذا البخاري ومسلم. (¬7) في الأصل "خالد" وهو تصحيف والتصويب من المعرفة.

وهو يطوف البيت- أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة؟ قال: نعم ورب هذا البيت. وأخرجه أيضًا عن عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن عبد [الحميد] (¬1) بن جبير، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3). وأخرج المزني (¬4) أيضًا عن الشافعي، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو القاري قال: سمعت أبا هريرة يقول: "ما أنا نهيت عن صيام يوم الجمعة، ولكن محمد - صلى الله عليه وسلم - ورب هذا البيت قاله". وقد أخرج الشافعي: عن رجل، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن مرة، عن الحارث، عن علي أنه كره صوم الجمعة. وإنما أورده الشافعي على طريق الإلزام في خلافهم عليًّا -كرم الله وجهه-. وأخرج المزني (¬5) عن الشافعي، عن مالك، عن أبي النضر -مولى عمرو بن عبد الله، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان. هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬6) باختلاف طرقهم. ¬

_ (¬1) انظر حاشية ص 221 رقم (6). (¬2) البخاري (1984). (¬3) مسلم (1143). (¬4) المعرفة (6/ 375). (¬5) السنن المأثورة (322). (¬6) الموطأ (1/ 552 رقم (56)).، البخاري (1969)، مسلم (1156)، أبو داود (2434) الترمذي (737)، النسائي (4/ 199، 200).

أخرج والمزني (¬1) عن الشافعي، عن سفيان، عن [ابن] (¬2) أبي لبيد [قال] (¬3): سمعت أبا سلمة يقول: دخلت على عائشة فقلت: أي أمه، أخبريني عن صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول: قد صام، ويفطر حتى نقول: قد أفطر، وما رأيته صام في شهر قط أكثر من صيامه في شعبان، ما كان يصومه كله بل كان يصومه إلا قليلاً. قال الشافعي: وإنما كرهته أن لا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب، وإن فعل فحسن قال: وأكره أن يحمل الرجل على نفسه من الصوم ما يمله، ويحول بينه وبين الصلاة، وليصم بقدر ما يقوى عليه. وأخرج الشافعي في القديم (¬4): عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، قال الله تعالى: إنما يذر طعامه وشرابه وشهواته من أجلي، فالصيام لي وأنا أجزي به، كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به". هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬5). وأخرج الشافعي: عن مالك، عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (321). (¬2) سقط من الأصل والمثبت من السنن المأثورة وهو الصواب، وابن أبي لبيد اسمه: عبد الله. وراجع ترجمته من التهذيب، وكذا أخرجه مسلم على الصواب برقم (1156). (¬3) في الأصل [قالت] وهو تصحيف والتصويب من السنن المأثورة. (¬4) المعرفة (6/ 376 - 377). (¬5) الموطأ (1/ 256 رقم (58))، البخاري (1894)، مسلم (1151)، أبو داود (2363)، الترمذي (764)، النسائي (4/ 163، 164).

هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬1) إلا أبا داود. وأخرج المزني (¬2) عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4) والترمذي (¬5) والنسائي (¬6). وأخرج الشافعي في القديم (¬7): عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عبيد بن عمير قال: "سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السائحين؟ فقال: "هم الصائمون". هكذا أخرجه مرسلاً، وقد أخرجه علي بن المديني، عن سفيان أيضًا مرسلًا. وأخرج المزني عن الشافعي عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، وكان جبريل -عليه السلام- يلقاه كل ليلة في رمضان فيعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرءان، فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة". ورواه الربيع عن الشافعي بالإسناد مثله. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 256 رقم (59))، البخاري (1898)، مسلم (1079)، الترمذي (682)،النسائي (4/ 126). (¬2) السنن المأثورة (167). (¬3) البخاري (1901). (¬4) مسلم (760). (¬5) الترمذي (683). (¬6) النسائي (4/ 157). (¬7) المعرفة (6/ 378).

هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). قال الشافعي: فأحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم. وأخرج المزني عن الشافعي، عن سعيد بن مسلمة الكلبي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "افعلوا المعروف إلى من هو أهله، وإلى من ليس من أهله، فإن أصبتم أهله فقد أصبتم أهله، وإن لم تصيبوا أهله فأنتم أهله". وقد روي عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ... ¬

_ (¬1) البخاري (1902). (¬2) مسلم (2308).

الباب الثامن في الاعتكاف وليلة القدر

الباب الثامن في الاعتكاف وليلة القدر أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: [عن سفيان] (¬1) عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر نذر أن يعتكف في الجاهلية، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يعتكف في الإِسلام". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام، فقال: أراه ليلة، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوف بنذرك". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن محمد بن أبي بكر وابن المثنى وزهير، عن يحيى القطان وعن الأشج، عن أبي أسامة. وعن محمد بن عمرو بن جبلة، عن غندر، عن شعبة كلهم عن عبيد الله، عن نافع. وأما أبو داود (4): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن إسحاق بن موسى، عن سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (1/ 287) وكذا في مطبوعة المسند وهو الصواب. (¬2) البخاري (2043). (¬3) مسلم (1656). (¬4) أبو داود (3325). (5) قال معد الكتاب للشاملة: هذا الهامش سقطت حاشيته من المطبوعة، وحقها الإحالة إلى النسائي (7/ 21) (3820).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن منصور، عن يحيى القطان، عن عبيد الله، عن نافع. وهذا الحديث: منهم من قال فيه عن ابن عمر، عن عمر. ومنهم من قال فيه: عن ابن عمر أن عمر. النذر: مصدر نذرت أنذر نذرًا، تقول: نذرت لله نذرًا، ونذرت على نفسي لله نذرًا. والاعتكاف: الاحتباس على الشيء برًا كان أو إثمًا وملازمته إياه. وهو في الشرع: عبارة عن المقام في المسجد على صفات مشروطه في الشرع، تقول: عكفه أي حبسه ووقفه يعكفه عكفًا واعتكف هو اعتكافًا، وكذلك عكف على الشيء عكوفًا إذا واظب عليه فهو عاكف. والجاهلية: عبارة عن أيام العرب وزمانهم قبل الإِسلام، وما كانوا عليه من الجهل والضلال. وحقيقة اللفظة: أنها منسوبة إلى جاهل بزيادة الهاء الدالة على تأنيث الجماعة أو تأنيث المدة، والأزمنة التي كانت لهم قبل الإِسلام، ثم غلبت هذه الصفة المنسوبة حتى صارت كأنها اسم مرتجل لذات مخصوصة. والوفاء: ضد الغدر، يقال وفي بعهده وأوفى لغتان. والمسجد الحرام: مسجد مكة وحرمه المحيط بالبيت. وفي هذا الحديث من الفقه: أن النذر في الجاهلية قديمًا معروفًا، وفيه أن الوفاء بالنذر متعين، وأن النذر من الكافر وأنه إذا أسلم يلزمه الوفاء به، وفيه جواز المبيت في المسجد وفيه أن الاعتكاف بالليل يصح. لم يرد في المسند في الاعتكاف إلا هذا الحديث، وقد روى فيه الشافعي. ¬

_ (¬1) الترمذي (1539).

-رحمه الله تعالى- أحاديث كثيرة فمنها:- ما أخرجه المزني (¬1) عنه، عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين -وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه- قال: "من كان اعتكف -يعني فليعتكف العشر الأواخر" وقال: "أرأيت هذه الليلة ثم أنسيتها"، وقال: "رأيتني أسجد في صبيحتها في طين وماء، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر" قال أبو سعيد: فأمطرت السماء في تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة (¬2) إلا الترمذي. قال الشافعي في القديم: وتطلب ليلة القدر في العشر الآخر (¬3) من شهر رمضان، وكأني رأيت -والله أعلم- أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين، وقد جاء في ليلة سبع عشرة، وليلة أربع وعشرين، وليلة تسع وعشرين، ثم ذكر حديث ابن أنيس، قال: أخبرنا مالك، عن أبي النضر -مولى عمر بن عبيد الله- أن عبد الله بن أنيس قال: يا رسول الله، إني شاسع الدار فمن لي (3) بليلة أنزلها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "انزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان". ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (356). (¬2) الموطأ (1/ 261 رقم (9))، البخاري (2027)، مسلم (1167)، أبو داود (1382)، النسائي (3/ 79, 80). (¬3) في المعرفة (6/ 384) بلفظ: [الأواخر].

هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2). وأخرج المزني (¬3) عن الشافعي، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تحروا ليلة القدر في العشر (¬4) الأواخر". وفي رواية أخرى (¬5): عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أن رجالاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أروا ليلة القدر في المنام في السبع الآخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر". وفي أخرى (¬6): عن سفيان، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه "أن رجلاً رأى ليلة القدر، فقال: رأيت أنها ليلة كذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرى رؤياكم قد تواطأت فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها -أو في السبع البواقي-" شك سفيان. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬7) ومسلم (¬8) وأبو داود (¬9). وأخرج المزني (¬10) عن الشافعي، عن مالك، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك أنه قال: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، فقال: "إني رأيت هذه الليلة فتلاحى رجلان فرفعت فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة". وأخرج المزني (¬11): عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن حميد، عن أنس، ¬

_ (¬1) مسلم (1168). (¬2) أبو داود (1380). (¬3) السنن المأثورة (327). (¬4) كذا في الأصل وفي السنن المأثورة: [السبع] وكذا في المعرفة (6/ 385). (¬5) السنن المأثورة (326). (¬6) السنن المأثورة (323). (¬7) البخاري (2015). (¬8) مسلم (1165). (¬9) أبو داود (1385). (¬10) السنن المأثورة (325). (¬11) السنن المأثورة (329).

عن عبادة بن الصامت "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إليهم وهو يريد أن يخبرهم بليلة القدر فتلاحى رجلان فقال: "إني خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان، ولعل ذلك يكون خيرًا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1). وأخرج المزني (¬2): عن الشافعي، عن سفيان، عن عاصم وعبدة، عن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب: إن أخاك ابن مسعود قال: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، لقد علم أنها في رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين، ولكن أراد أن لا يتكلوا، ثم حلف -أي لا يستثني- أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان، قلنا: يا أبا المنذر، بأي شيء تعلم ذلك؟ قال: بالآية التي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الشمس تطلع صبيحة ذلك اليوم لا شعاع لها. حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬3) وأبو داود (¬4) والترمذي (¬5). وأخرج المزني (¬6): عن الشافعي، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬7) ومسلم (¬8) وأبو داود (¬9). وأخرج المزني عن الشافعي [] (¬10) زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: كان رسول ¬

_ (¬1) البخاري (2023). (¬2) السنن المأثورة (324). (¬3) مسلم (2/ 828 رقم 762). (¬4) أبو داود (1378). (¬5) الترمذي (793) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) السنن المأثورة (328). (¬7) البخاري (2014). (¬8) مسلم (759). (¬9) أبو داود (1372). (¬10) بياض بالأصل قدر كلمتين، والحدث عند المزني في السنن المأثورة (357)، وإسناده هناك: [عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة ابنه عبد الرحمن، عن عائشة ...].

الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. وفي رواية أخرى (¬1): عن مالك وسفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معتكفًا في المسجد، فأخرج إليَّ رأسه فغسلته وأنا حائض. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وغيرهما. وقد أخرج المزني (¬4) عن الشافعي، عن الدراوردي، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في رمضان في العشر التي في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسي من عشرين ليلة تمضي ويستقبل إحدى وعشرين يرجع إلى مسكنه، ويرجع من كان يجاور معه، ثم قام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجح فيها، فخطب الناس وأمرهم بما شاء الله، ثم قال: "إني كنت أجاور هذه العشر، ثم قد بدا لي أن أجاور هذه العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليبت في معتكفه، وقد رأيت هذه الليلة، ثم أنسيتها، فابتغوها في العشر الآخر وابتغوها في كل وتر، وقد رأيتني في صبيحتها أسجد في طين وماء". وذكر قول أبي سعيد الذي ذكرناه في الحديث الأول، الذي هذه رواية من جملة رواياته. وقد أخرج الشافعي في القديم (¬5): عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (358) عن سفيان فقط، وانظر لزامًا المعرفة (6/ 392). (¬2) البخاري. (¬3) مسلم (228). (¬4) السنن المأثورة (360). (¬5) المعرفة (6/ 400).

عن عائشة أنها كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي ولا تقف. وقد رواه غيره عن عمرة، عن عائشة. وروى أيضًا عن عمرة وعروة، عن عائشة. وأخرج أيضًا في القديم (¬1): عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يعتكف فلما انصرف إلى المكان الذي أراد أن يعتكف فيه رأى أخبية: خباء عائشة، وخباء حفصة، وخباء زينب بنت جحش، فلما رآهن سأل عنهن، فقيل له: هذا خباء عائشة وحفصة وزينب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آلبر تقولون بهن" وانصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشرًا من شوال. قال الشافعي: فبهذا كرهت اعتكاف المرأة إلا في مسجد بيتها، وذلك أنها إذا صارت إلى ملازمة المسجد المأهول ليلاً ونهارًا كثر من يراها ومن تراه. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4) ونحوه. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) المعرفة (6/ 402). (¬2) البخاري (2034). (¬3) مسلم (1173). (¬4) أبو داود (2464).

كتاب الحج والعمرة

كتاب الحج والعمرة ويشتمل على ثلاثة عشر بابًا الباب الأول في وجوب الحج والعمرة وما يتعلق بهما وفيه أربعة فصول الفصل الأول الوجوب والاستطاعة قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لما نزلت: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬1) من الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون، فقال الله لنبيه -عليه السلام- فحجهم فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فحجوه قالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا قال الله -عز وجل-: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (¬2)، قال عكرمة: من كفر من أهل الملل فإن الله غني عن العالمين. قال الشافعي: وما أشبه ما قال عكرمة بما قال -والله أعلم- لأن هذا كفر بفرض الحج وقد أنزله الله تعالى والكفر بآية من كتاب الله كفر. وقد جاء في رواية أبي داود والنسائي (¬3): عن زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي سنان، عن ابن عباس "أن الأقرع بن حابس سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول ¬

_ (¬1) آل عمران: [85]. (¬2) أبو داود (1721). والنسائي (5/ 111). (¬3) آل عمران: [97].

الله! الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فقال: "بل مرة واحدة فمن زاد فتطوعٌ". وكذلك رواه سليمان بن كثير ومحمد بن أبي حفصة، عن الزهري. وقال الشافعي (¬1): قال الله -عز وجل-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬2). والاستطاعة في دلالة السنة والإجماع ثلاث: أن يكون الرجل يقدر على مركب وزاد يبلغه ذاهبًا وجائيًا وهو يقوى على المركب، ليس بزَمِن لا يثبت على مركب، ولا حائل بينه وبين ذلك. وإذا اجتمع هذا له فهو مستطيع، وأي هذا لم يكن فليس بمستطيع، وإن كان دونه حائل فليس بمستطيع وإن كان غير واجد للمال وهو قوي البدن فليس بمستطيع؛ وعليه الاستطاعة الثانية أن يكون له مال فيستأجر من يحج عنه، أو يكون له من إذا أمره أن يحج عنه [أطاعه] (¬3). وقال الشافعي (¬4): قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬5) فاختلف الناس في العمرة: فقال بعض المشرقيين: العمرة تطوع، وقاله سعيد بن سالم واحتج بأن سفيان الثوري أخبره عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحج جهاد، والعمرة تطوع" (¬6). قال الشافعي: فقلت له: أتثبت مثل هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هو منقطع، ثم ساق الكلام إلى أن قال: والذي هو أشبه بظاهر القرءان وأولى بأهل العلم عندي، وأسأل الله التوفيق -أن تكون العمرة واجبة بأن الله تعالى قرنها ¬

_ (¬1) ولفظه نقله من المعرفة (7/ 12)، وفي الأم (2/ 113) قال: الاستطاعة وجهان. ولم يذكر في المعرفة الوجه الثالث. (¬2) آل عمران: [97]. (¬3) في الأصل [الجماعة] وهو تصحيف والمثبت من المعرفة وكذا بنحوه في الأم. (¬4) الأم (2/ 132). (¬5) البقرة: [196]. (¬6) قال الألباني -رحمه الله- في الضعيفة (1/ 359): هذا سند ضعيف لإرساله، وسعيد بن سالم فيه ضعف. وراجع المزيد من التخريج والأقوال لهذا الحديث في الضعيفة برقم (200).

مع الحج، فقال: {وأَتُّمِوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1)، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر قبل أن يحج، وأن رسول الله سَنَّ إحرامها والخروج منها بطواف وسعي وحلاق وميقات وفي الحج زيادة على عمل العمرة، فظاهر القرءان أولى إذا لم يكن دلالة أنه باطن دون ظاهر ومع ذلك قول ابن عباس وغيره. قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس عن ابن عباس أنه قال: والذي نفسي بيده، إنها لقرينتها في كتاب الله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) قال الله -عز وجل-: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قرآن العمرة مع الحج هدْياً، ولو كان أصل العمرة تطوعًا أشبه أن لا يكون لأحد أن يقرن العمرة مع الحج, لأن أحدا لا يدْخِل في نافلة فرضًا حتى يخرج من أحدهما قبل الدخول في الآخر، وقد يدخل في أربع ركعات وأكثر نافلة، قيل يفصل بينهما بسلام وليس ذلك في مكتوبة ونافلة من الصلاة، وأشبه أن لا يلزمه بالتمتع والقران هدي إذا كان أصل العمرة تطوعًا بكل حال، لأن حكم ما لا يكون إلا تطوعًا بحال غير حكم ما يكون فرضًا في حال. قال الشافعي (رضي الله عنه): وأخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عبد الله ابن أبي بكر أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: "أن العمرة هي الحج الأصغر"، قال ابن جريج ولم يحدثني عبد الله بن أبي بكر عن كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم شيئًا، إلا قلت له: أفي شك أنتم أنه في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا. وبسط القول في هذا وأمثاله فلم نطل بذكره. وهذا الحديث الذي ذكره الشافعي عن سعيد بن سالم وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحج جهاد والعمرة تطوع" مع أنه منقطع غير ثابت فله محمل، فإن قوله: "الحج جهاد" يريد أنه شاق على الأنفس كالجهاد لما فيه من تكلف السفر البعيد، ¬

_ (¬1) البقرة: [196].

والإحرام الطويل، ومحظوراته والوقوف بعرفات، ومزدلفة، والمشعر الحرام، والنحر، والمبيت بمنى، وغير ذلك من الأعمال التي ليست في العمرة، فإن المعتمرين -ولا سيما الحجاج- لا يطول زمان إحرامهم أكثر من ساعة من نهار، ثم يكفيه الطواف والسعي والتقصير. وأما قوله: "والعمرة تطوع" فلا يريد بها أنها نافلة، وإنما يريد بالتطوع ما تنطاع له النفس وتنقاد إليه، ويسهل عليها مباشرته لخفة أعماله وقلة مشقتها. والذي ذهب إليه الشافعي في الجديد: أن العمرة واجبة كالحج. وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وإليه ذهب ابن المسيب، وابن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. وقال في القديم: ليست بواجبة. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأبو ثور، وروى ذلك عن ابن مسعود. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة قال: سمعت الزهري يحدث عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس أن امرأةً من خثعم سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن فريضة الله في الحج على عباده، أَدْرَكتْ أبي شيخًا كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على راحلته، فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". قال سفيان: هكذا حفظته من الزهري. وأخبرني عمرو بن دينار، عن الزهري، عن سليمان بن يسار (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله وزاد فيه: فقالت: يا رسول الله، فهل ينفعه ذلك؟. قال: "نعم. كما لو كان عليه دين فقضيته نفعه". ¬

_ (¬1) سقط ذكر ابن عباس من الأصل وهو ثابت في مطوعة المسند (992)، والأم (2/ 113) وقال البيهقي عقبه: لم يذكر أبو بكر، وأبو زكريا: ابن عباس في رواية عمرو بن دينار، وذكره أبو سعيد فيما قرأت عليه من "أمالي الحج"، وذكره الشافعي أيضًا في المبسوط وإنما سقط في النقل.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عباس قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟. قال: "نعم". وذلك في حجة الوداع. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: قال ابن شهاب: حدثني سليمان بن يسار، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس: أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول، إن أبي قد أدركته فريضة الله عليه في الحج وهو شيخ كبير، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال: "فحجي عنه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة كلهم، وقد اختلفوا فيه: فمنهم من رواه عن عبد الله بن عباس، ومنهم من رواه عنه، عن أخيه الفضل، والشافعي قد روى الطريقين. فأما مالك (¬1): فأخرج الرواية الثانية. وأما البخاري (¬2): فأخرج الثانية عن القعنبي، عن مالك. وأخرج الثالثة (¬3): عن أبي عاصم، عن ابن جريج. وعن موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، جميعًا عن ابن شهاب بإسنادها نحوها. وأما مسلم (¬4): فأخرج الثانية عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأخرج الثالثة: عن علي بن خشرم، عن عيسى [عن] (¬5) بن جريج. وأما أبو داود (¬6): فأخرج الثانية، عن القعنبي، عن مالك. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 290 رقم (97)). (¬2) البخاري (1855). (¬3) البخاري (1853، 1854). (¬4) مسلم (1334، 1335). (¬5) من مسلم. (¬6) أبو داود (1809).

وأما الترمذي (¬1): فأخرج الثالثة عن أحمد بن منيع، عن روح بن عبادة، عن ابن جريج بالإسناد. وأما النسائي (¬2): فأخرج الثانية عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. وله روايات أخرى وقد ذكر في بعضها أن المستفتي كان رجلاً لا امرأة. أدركت أبي: أي: لحقته، قيل معناه: أنه أسلم وهو شيخ كبير. والراحلة: البعير القوي على الأسفار والأحمال. وقوله: "فهل ترى" من الرأي لا من الرؤية. ورديف الإنسان: الذي يركب خلفه وهو الردف أيضًا، تقول: ردف يردف وأردفته أنا، وكل شيء تبع شيئًا فهو ردفه. والاستفتاء: طلب الفتوى والفتيا لغتان. وحجة الوداع: هي الحجة التي حجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر من الهجرة، ولم يحج بعد الهجرة غيرها، وإنما سميت حجة الوداع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات في حجته هذه؛ وعظ الناس وعرفهم مناسكهم، وقال: "هل بلغت"؟ فقالوا: نعم فقال: "اللهم اشهد". ثم ودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع. هذا الحديث قد ذكره الشافعي مستدلاً به على أن من لا يقدر على ركوب الراحلة لا يلزمه الحج بنفسه، وأنه غير مستطيع. وقد أتبعه أحاديث أخر مؤكدة له وستجيء في موضعها إن شاء الله. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، عن إبراهيم بن ¬

_ (¬1) الترمذي (928). وقال حسن صحيح. (¬2) النسائي (5/ 118).

يزيد، عن محمد بن عباد بن جعفر قال: قعدنا إلى عبد الله بن عمر فسمعته يقول: "سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما الحاج؟ قال: "الشعث التفل"، فقام آخر فقال: يا رسول الله، أي الحج أفضل؟ قال: "العج، والثج" فقام آخر فقال يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: "زادًا وراحلة". هذا الحديث أخرجه الترمذي (¬1): عن يوسف بن عيسى، عن وكيع، عن إبراهيم بن يزيد بالإسناد، وقال: من الحاج (¬2)؟ وقال: الزاد والراحلة. "ما" كلمة استفهام ثابت مناب حروف الاستفهام، وهي في أصل الوضع أن يستفهم بها عما لا يعقل وعن صفة من يعقل، تقول: إذا استفهمت عن بنية أو بهيمة أو شجرة ما هذه؟ وكذلك إذا سألت عن صفة رجل قلت: ما لون زيد، أو عن حقيقته قلت: ما زيد. فأما "من" فإنها موضوعة لمن يعقل من الذكر والأنثى، تقول: من زيد، ومن هند، فإذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل غلب من يعقل على ما لا يعقل، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬3) يريد بذلك جميع الموجودات، وقد جاء التنزيل أيضًا: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3) يريد به غير العقلاء، أو أنه لما اجتمع من يعقل وما لا يعقل وكان ما لا يعقل أكثر ممن يعقل غلب الأكثر على الأقل. فأما قوله: "ما الحاج" -إن صحت الرواية به- فهو القياس سؤال عن صفة من يحج, لأنه لم يرد أن يعرف ذات الحاج وحقيقته ولا واحدًا بعينه ممن يحج لهما، أراد أن صفة الحاج على من يطلق، فلذلك أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصفة التي إذا لابسها الإنسان سمي حاجًا، وهي "الشعث التفل"، وهذا الجواب وإن ¬

_ (¬1) الترمذي (813). (¬2) كذا لفظه في الأصل وعند الترمذي (يا رسول الله ما يوجب الحج؟). (¬3) الرعد: [15].

كان مجازًا في تعريف الحاج, لأن الشعث التفل ليسا من الأوصاف المقومة للحج كالإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك أن ملابس أمور الحج الذي يأتي بها؛ فإنما تكون كامل الحج إذا أكمل فرائضها وسننها, ولأن من قصد باب الله -تعالى- راغبًا في حط أوزاره، طامعًا في قرب مزاره وفضل جواره، فالأفضل به أن يكون خاضعًا مسكينًا فقيرًا إلى رحمته مسكينًا، مظهرًا للذلة والفاقة، هاجرًا للدعة والنعمة، مجانبًا لهيئة المترفين، أشعث أغبر فإن ذلك بتحصيل غرضه أولى وأجزم فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الشعث التفل". والشعث: هو البعيد العهد بالغسل وتسريح الشعر. والتفل -بالكسر-: هو الذي ليس بمتطيب، وبالفتح التطيب. فأما رواية الترمذي: فإن على القياس ينبغي أن يكون الجواب على قوله: "من الحاج عمرو أو زيدا؟ ونحو ذلك لأن "من" سؤال عمن يعقل تقول: من الرجل؟ فتقول: زيد، لكنه لما ارتفع من في الحديث على صفة من يعقل وهو الحج أجاب عنه بالصفة، كما تقول من المحسن إلى الناس؟ فتقول في الجواب: الجواد الكريم فيوقع الصفة العامة موقع الاسم لفهم المعنى، وإن كان السائل يريد بسؤاله ذات المسئول عنه، فلا يجزئه إلا زيد أو عمرو ونحو ذلك. والعج: رفع الصوت بالتلبية، عج يعج عجًا إذا رفع صوته وصاح. والثج: إراقة الدماء، دماء الهدي ودماء الأضاحي، تقول: ثججت الماء والدم أثجه ثجًا إذا أسلته. والسبيل: الطريق والسبب الموصلة، ويذكر ويؤنث وكل ما يتوصل به إلى الشيء فهو سبيل وسبب.

وفي رواية الشافعي: "زادًا وراحلة" منكرًا، وفي رواية الترمذي: "الزاد والراحلة" معرفًا. والتنكير في هذا المقام أبلغ من التعريف, لأنه يدل على أن من ملك أي زاد كان وأي راحلة كانت فقد وجد السبيل، ألا ترى أنه لم يقل زاد وبعير، ولا زاد وناقة، ولا زاد وجمل، فإنه كان يجب وجود أي بعير كان، سواء كان يبلغه البيت أو لا، فلما قال: "زاد وراحلة" والراحلة هي البعير القوي على الأسفار والأحمال، استغنى عن ذلك التقدير فنكرها حينئذ ليدل على أنه أي راحلة كانت نفيسة أو غير نفيسة، للعلم أن هذا الاسم إنما يطلق على البعير الذي يمكن التحميل والمسير عليه. وأما التعريف الذي فيهما فهو تعريف الجنس الذي يقال: زاد وراحلة وهذا الحديث قد أخرجه الشافعي في معرض الحكاية، فإنه قال: وأحب لمن قوي على المشي ممن لم يحج أن يمشي، وليس بواجب عليه لأنه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه قال: السبيل: الزاد والراحلة، وقد روى أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) تدل على أنه لا يجب المشي على أحد إلى الحج وان أطاقه، غير أن منها منقطعة ومنها ما يمتنع أهل العلم بالحديث من تثبيته، ثم ذكر هذا الحديث، وإنما يمتنع أهل العلم بالحديث [من تثبيت هذا لأنه من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي وقد ضعفه أهل العلم بالحديث] (1) يحيى بن معين وغيره. قال الشافعي: وروي عن شريك بن أبي نمر، عمن سمع أنسًا بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "السبيل: الزاد والراحلة". وقال أيضًا في القديم: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: سبيله: من وجد له سعة، ولم يُحَلْ بينه وبينه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج. وبه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (7/ 18،-19).

قال الحسن البصري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو حنيفة، وأحمد، والثوري، وإسحاق. وقال مالك: لا يجب، ومن قدر على الوصول إلى البيت ببدنة وجب عليه الحج. وبه قال عكرمة والضحاك. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، عن سفيان الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن أبي أوفى -صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: سألته عن الرجل لم يحج أيستقرض للحج؟ قال: "لا". هذا الحديث مسوق لبيان ما تقدم أن من لم يجد الزاد والراحلة لا يجب عليه، لأنه قال: أيستقرض للحج، يريد: أنه إذا لم يكن قد حج ولا له ما يحج به ويوصله إلى البيت، فهل يستقرض ما يستعين به على الحج من الزاد والراحلة؟ فقال: لا وهذا يحقق بطلان ما ذهب إليه مالك من وجوب الحج على إمكان البدن لا غير. ولقائل أن يقول من جانب مالك: لا دليل في هذا بل هو دليل له، وذلك أنه لما سأله عن الإقراض فقال: لا تقترض فإن الحج واجب عليك، وإن لم يجد فلأي سبب يقترض حتى يحج، بل حج بغير قرض أداء لما وجب عليك. والجواب عن ذلك: أن هذا السائل أمر خارج زائد عن صحة البدن، ولم يكن عالمًا أنه يلزمه أن يقترض للحج، فلذلك سأل عن الاقتراض ولولا ذلك لما سأله عما كان جاهلاً به والله أعلم.

الفصل الثاني في النيابة في الحج

الفصل الثاني في النيابة في الحج قد تقدم في الفصل أيضًا ما جاء فيه غير حديث ابن عباس. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عمرو بن أبي سلمة، عن عبد العزيز ابن محمد، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن زيد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وكل منى منحر" ثم جاءته امرأة من خثعم، فقالت: إن أبي شيخ قد أفند، وأدركته فريضة الله على عباده في الحج ولا يستطيع أداءها، فهل يجزئ عنه أن أؤديها عنه؟، فقال "نعم". هذا طرف من حديث صحيح أخرجه الترمذي (¬1): عن محمد بن بشار، عن أبي أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بالإسناد، وذكر حديثًا طويلًا يتضمن أمورًا كثيرة من أحكام الحج منها: الوقوف بعرفة [والإفاضة] (¬2) منها، وإتيان جمع والجمع بها، والوقوف بقزح والإفاضة منها، وإتيان المنحر لمنى، فقال: "هذا المنحر ومنى كلها منحر" وذكر المرأة الخثعمية وسؤالها في الحج عن أبيها، وذكر فيه أيضًا الحلق، والتقصير، والذبح، والرمي، والطواف بالبيت، وزمزم. ومنى: اسم المدينة المعروفة، وهو مقصور مذكر مصروف وإذا لم يصرف فعلى تأويل المدينة. والمنحر: الموضع الذي ينحر فيه الهدي والأضاحي، وليس شيء من فجاج منى مخصوصًا بالنحر دون غيره. ¬

_ (¬1) الترمذي (885) وقال: حسن صحيح. (¬2) في الأصل [الإضافة] وهو تصحيف.

والواو التي في "وكل منى منحر" هي عاطفة لهذه الجملة المقتطعة من الحديث على ما قبلها فإن قبلها: "أتى المنحر" فقال: "هذا المنحر ومنى كلها منحر" لأنه لما قال هذا المنحر إشارة إلى موضع معروف بمنى من عادة الحجيج أن ينحروا فيه عطف عليه، فقال: "وكل منى منحر" حتى لا يضيق على الناس بازدحامهم على موضع واحد فعرفهم أن جميع أراضي منى منحر. والفند: الضعف في الرأي، وأفند الرجل إذا خرف. قال الأزهري (¬1): الفند: إنكار العقل من الهرم، يقال: شيخ فند، ولا يقال: عجوز فندة (¬2) لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفنَّد في كبرها. قال: الفند: الضعيف الرأي وإن كان قوي الجسم، والمفند: الضعيف الرأي والجسم معا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن النيابة في الحج صحيحة جائزة بأجرة وبغير أجرة، ولذلك تفصيل: وهو أن يكون عاجزًا عن المباشرة بنفسه إما بزمانة لا يرجى زوالها؛ فلا يقدر أن يستمسك على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة، أو بلغ من الكبر بحيث لا يمكنه الاستمساك على الراحلة، أو يكون قد مات فيها ولا يجوز لهم أن يستنيبوا من يحج عنهم حجة الإِسلام، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: لا تجوز الاستنابة في الحج إلا بالموت وحده، وأما المريض فلا يخلو أن يكون ميؤساً منه أو غير ميؤسًا منه؛ فإن كان ميؤسًا فإنه يجوز الاستنابة وقيل, فيه قولان، وإن لم يكن ميؤسًا منه فإنه لا يجوز له أن يستنيب. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: يجوز. ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة (14/ 137 - 13). (¬2) في تهذيب اللغة: (يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة).

وفي النيابة في حج التطوع قولان: وبالجواز قال أبو حنيفة ومالك وأحمد. ولا خلاف في جواز حج الرجل عن المرأة، والمرأة عن الرجل. وقال الحسن بن صالح: يكره حج المرأة عن الرجل. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، عن حنظلة قال: سمعت طاوسًا يقول: أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة، فقالت: إن أمي ماتت وعليها [حج] (¬1)، فقال: "حجي عن أمك". هذا الحديث مرسل، طاوس تابعي كثير الرواية عن ابن عباس، ويشبه أن يكون هذا الحديث رواية عنه، ولفظ هذا الحديث لا يدل على أن المرأة سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جواز حجها عن أمها, لأنها لم تقل إلا أن أمها ماتت وعليها حج، فقال لها ابتداًء من نفسه: "حجي عن أمك" فأمرها بالحج عنها وإن كانت لم تسأله عن ذلك. وهذا حجة لمن قال: إن الميت يجوز أن يحج عنه وإن لم يوص. وهو مذهب الشافعي، وبه قال عطاء، وابن سيرين وأصحاب الرأي، وأبو ثور، وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة. وقال مالك: لا يحج عن الميت إلا أن يوصي. وبه قال النخعي. وقيل: إن مالكًا قال: إذا لم يوص فإن تطوع عنه بغير الحج كالصدقة، والعتق ونحوهما أحب إلى. وأخبرنا الشافعي قال: وذكر مالك -أو غيره-، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عباس أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي عجوز كبيرة لا تستطيع أن نركبها على البعير وإن ربطتها خفت أن تموت، أفأحج عنها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". هكذا أخرجه الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك (¬2)، وقد تقدم حديث ابن ¬

_ (¬1) سقطت من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند. (¬2) الأم (7/ 211).

عباس في الفصل الأول، فيجوز أن يكون هذا رواية من جملة رواياته لولا أنه قد عكس فيه القضية؛ فإنه قال: إن رجلاً سأل هل يحج عن أمه؟ وذاك امرأة سألت هل تحج عن أبيها، إلا أن النسائي أخرج في بعض طرقه مثل هذه الرواية, فيكون غير ذلك الحديث, ولهذه الشبهة أفردناه عن ذلك الحديث، وأشرنا إلى ما فيه من الاختلاف. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك -أو غيره- عن أيوب، عن ابن سيرين أن رجلاً جعل على نفسه أن لا يبلغ أحد من ولده الحلب، فيحلب ويشرب ويسقيه إلا حج وحج به معه، فبلغ رجل من ولده الذي قال الشيخ -وقد كبر الشيخ- فجاء ابنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره الخبر، فقال: إن أبي قد كبر ولا يستطيع أن يحج، أفأحج عنه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك (¬1)، مستدلًا به على مخالفته إياه. وقوله: جعل على نفسه يريد: النذر. والحلب -بفتح اللام-: حلب الإبل والبقر والغنم، تقول حلبت الناقة أحلبها حلبًا، والمراد: أنه نذر متى كبر له ولد حتى صار يمكنه أن يحلب فيشرب ويسقيه حج وحج معه. والذي في قوله: "فبلغ رجل من ولده الذي قال" في موضع نصب لأنه مفعول بلغ، تقديره: فبلغ بعض أولاده الأمر الذي قاله الشيخ، يعني: أنه بلغ أن يحلب فيشرب ويسقيه. وقد أخرج الشافعي في القديم (¬2): عن رجل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن علي بن أبي طالب قال لشيخ كبير لم يحج: إن شئت فجهز رجلاً يحج عنك. ¬

_ (¬1) الأم (7/ 211). (¬2) انظر المعرفة (7/ 16).

قال الشافعي: وقد ذهب عطاء مذهبًا يشبه أن يكون أراد أنه يجزئ عنه؛ أن يتطوع بكل نسك من حج أو عمرة أو عملهما، مطيقاً له وغير مطيق، وذلك أن ابن عيينة أخبرنا عن يزيد -مولى عطاء- قال: ربما أمرني عطاء أن أطوف عنه. قال الشافعي: وقولنا لا يعمل أحد عن أحد إلا والمعمول عنه غير مطيق العمل، بكبر أو مرض لا يرجى أن يطيق بحال أو بعد موته، وهذا أشبه بالسنة. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء: "سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: لبيك عن فلان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن كنت حججت فلب عنه، وإلا فاحجج عن نفسك ثم احجج عنه". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: "سمع ابن عباس رجلاً قال: لبيك عن شبرمة، فقال ابن عباس: ويحك، وما شبرمة، قال: فذكر قرابة له، فقال: أحججت عن نفسك؟. قال: لا، قال: فاحجج عن نفسك ثم احجج عن شبرمة". هذا الحديث هكذا جاء في المسند رواية مرسلة، عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرى عن ابن عباس موقوفًا عليه والحديث فيه اختلاف. وقد أخرجه أبو داود (¬1): عن إسحاق بن إسماعيل وهناد بن السري، عن عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة -هو ابن عبد الرحمن الخزاعي- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟. قال: أخ لي -أو قريب لي- قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فاحجج عن نفسك ثم حج عن شبرمة". ¬

_ (¬1) أبو داود (1811).

والرواية الأولى عن عطاء هكذا أخرجها الثوري، عن ابن جريج مرسلة. ورواها: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يلبي عن شبرمة -أو عن قريب له-، فقال له: "لبيت عن نفسك"؟ قال: لا. قال: "فلب عن نفسك ثم لب عن شبرمة". ورواه شريك بن عبد الله، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج الشافعي أيضًا: عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب بن أبي تميمة وخالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن ابن عباس. الحديث موقوف عليه. وأصح ما في الباب رواية أبي داود المرفوعة قاله البيهقي. وكذلك رواه القاضي أبو يوسف عن ابن أبي عروبة مرفوعًا. وكذلك روي عن محمد بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن بشر [عن] (¬1) ابن أبي عروبة مرفوعًا. ورواه: غندر، عن ابن أبي عروبة موقوفًا. فإن صح الحديث مرفوعًا من طريق ابن جبير ففيه الدلالة، ويكون بعض الرواة قد قصر به فلم يرفعه وإن لم يصح مرفوعًا وهو عن ابن عباس صحيح من رواية غندر وأبي قلابة وغيرهما، وإذا انضم إلى الموقوف حديث مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قويت به الحجة. لبيك: جواب النداء والأصل فيه من: ألب بالمكان إذا أتاه به وثبت فيه، وهو في تلبية الحج إجابة لدعاء الله -تعالى- الناس إلى الحج، في قوله عز من قائل: {وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬2). ومعنى هذه التلبية فيها أي: مرة بعد مرة كأنه قال: أنا مقيم على إجابتك مرة بعد مرة. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (7/ 29). (¬2) (الحج: 27).

والذي ذهب إليه الشافعي: أنه لا يجوز أن ينوب في الحج إلا من قد حج حجة الإِسلام. وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز أن يحج عن غيره وإن لم يكن حج عن نفسه. وبه قال الحسن البصري، وجعفر بن محمد، والنخعي، وعطاء. وقال الثوري: إن كان النائب يستطيع أن يحج عن نفسه حج عن نفسه، وإن لم يكن مستطيعًا حج عن غيره. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مسلم وسعيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن رجلاً سأله فقال: أؤاجر نفسي من هؤلاء القوم فأنسك معهم المناسك إلى أجر؟ فقال ابن عباس: نعم. {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬1). هذا الحديث هكذا أخرجه الشافعي في المسند، وقد أخرجه في الأمالي عن مسلم بن خالد وحده، إلا أنه قال: أيجزئ ذلك عني، بدل قوله: إلى أجر. وقد أخرج أبو داود (¬2) عن ابن عمر حديثًا مسندًا مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوًا من هذا. المؤاجرة: مفاعلة من الإجارة، أجرت نفسي أؤجرها إجارة ومؤآجرة وهو من الأجرة: وهي العوض المأخوذ في مقابلة العمل ومنه الأجر والثواب، لأنه في مقابلة الطاعة والعبادة. وقوله: "هؤلاء القوم". إشارة إلى قوم مخصوصين كان معهم أجيرًا. والنسك: العبادة، نسكت أنسك نسكًا. ¬

_ (¬1) البقرة: [202]. (¬2) أبو داود (1733).

والمناسك: جمع منسك، وهو إما موضع العبادة أو العبادة نفسها. وقوله: "إلى أجر" يريد: هل لي ثواب على ما أفعله من أفعال الحج مع كوني أجيرًا لقوم آخرين، ولم يرد أنه أجير على أحد يحج عنه، وإنما هو أجير في الخدمة ومعاناة الأحمال، ولذلك قال له: نعم، ثم استدل بقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬1). ... ¬

_ (¬1) البقرة: [202].

الفصل الثالث في حج الصبي والمملوك

الفصل الثالث في حج الصبي والمملوك أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب -مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قفل، فلما كان الروحاء لقي ركبًا فسلم عليهم، وقال: "من القوم"؟. فقالوا: المسلمون، فمن القوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رسول الله" فرفعت إليه امرأة صبيًا لها من محفة، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: "نعم. ولك أجر". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة وهي في محفتها، فقيل لها: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذت بعضدي صبي كان معها، فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم. ولك أجر". هذا حديث صحيح، أخرجه مالك ومسلم وأبو داود والنسائي. أما مالك (¬1): فأخرجه عن إبراهيم بن عقبة، فأخرج الرواية الثانية، وقال: "فأخذت بضبعي صبي كان معها". هكذا رواه الربيع مرفوعًا، وقد رواه الزعفراني في القديم ولم يذكر ابن عباس. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن أبي عمر، عن ابن عيينة وذكر نحو الأولى. وفي أخرى: عن محمد بن العلاء، عن أبي أسامة، عن سفيان، عن محمد ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 336 رقم (244)). (¬2) مسلم (1336).

ابن عقبة، عن كريب نحو الثانية. وأما أبو داود (¬1): فأخرج الأولى عن أحمد بن حنبل، عن سفيان. وأما النسائي (¬2): فأخرج الأولى عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن والحارث بن مسكين، عن سفيان. وأخرج الثانية (¬3): عن عمرو بن منصور، عن أبي نعيم، عن سفيان. قفل المسافر يقفل قفولاً: إذا رجع من سفره. والقافلة: الرفقة المسافرون إذا رجعوا طالبين بيوتهم، وإذا سافروا متوجهين قاله الأزهري، وأنكر على ابن قتيبة قوله: إن العامة تطلقه على الذاهبين، وقد تقدم فيما سبق شرح ذلك. والمراد بقوله: رجوعه من حجة الوداع إلى المدينة. والروحاء: موضع بين مكة والمدينة وهو إلى المدينة أقرب. والركب: القوم المسافرون على الإبل هذا هو الأصل، وهم العشرة فما فوقها, ولا يقال: راكب إلا لمن كان على بعير خاصة، وإذا كان على فرس قلت: فارس، وإن كان على حمار، قلت: حمار، قالوا: ويقال: مر بنا فارس على حمار. والمسلمون: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: نحن المسلمون. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أنا رسول الله. والقوم: لا يقع إلا على الرجال خاصة دون النساء، إلا أن يكون مع الرجال نساء فيدخلن في الإطلاق تغليبًا للذكر على الأنثى. والمحفة -بكسر الميم-: معروفة وهي مركب من مراكب النساء كالهودج، ¬

_ (¬1) أبو داود (1736). (¬2) النسائي (5/ 121). (¬3) النسائي (5/ 120).

إلا أنها لا تقبب كما يقبب الهودج، هذا كان قديمًا فأما اليوم فإنها تقبب وتستر. والعضد: ما بين المرفق والكتف من اليد. والضبع -ساكن الباء-: العضد والجمع أضباع. والذي ذهب إليه الشافعي: أن حج الصبي يصح وإن لم يجب عليه، فإذا بلغ أعاد ولم يسقط عنه حجة الإِسلام بحجه الأول في حال الصبيّ، وعلى هذا أطبق العلماء، إلا من لا اعتبار بخلافه من بعض أهل العراق. وللصبي بحجه أجر, لأنه باشر عبادة صحت منه وأتى بأركانها وسننها، والذي حمله على الحج أجر لأنه حمل على فعل صالح. قال الشافعي (¬1): إن الله -جل ثناؤه- بفضل نعمته أثاب الناس على الأعمال أضعافها، ومنَّ على المؤمنين بأن ألحق بهم ذرياتهم ووفر عليهم، فقال: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (¬2) فلما منَّ على الذراري بإدخالهم جنته بلا عمل، كان أن من عليهم بأن يكتب لهم عمل البر في الحج وإن لم يجب عليهم من ذلك المعنى, وقد جاءت الأحاديث في أطفال المسلمين، أنهم يدخلون الجنة والحجة فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر هذا الحديث. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، عن مالك بن مغول، عن أبي السفر قال: قال ابن عباس: "أيها الناس، أسمعوني ما تقولون وافهموا ما أقول لكم، أيما مملوك حج به أهله فمات قبل أن يعتق فقد قضى حجه، وإن أعتق قبل أن يموت فليحج، وأيما غلام حج به أهله فمات قبل أن يدرك فقد قضى حجته، وإن بلغ فليحج". ¬

_ (¬1) الأم (2/ 111). (¬2) الطور: [21].

رواه مطرف عن أبي السفر بمعناه، إلا أنه قال: لم يذكر الموت، فقال: ما دام صغيرًا ما دام عبدًا. ورُوي عن أبي ظبيان، عن ابن عباس موقوفًا. قد تقدم في الحديث الذي قبله حكم حج الفريضة، كما سبق في حكم الصبي، والخلاف فيه مثله، إلا أن أبا حنيفة ينعقد عنده إحرام العبد دون الصبي والمراد بقوله: "فقد قضى حجه" صحة الحج منه ووقوعه معتدًا به مثابًا عليه. وقوله: "وإن أعتق قبل أن يموت فليحج، أو أدرك قبل أن يموت فليحج" بيان لوجوب الحج عليهما بعد العتق والبلوغ، وإن كانا قد حجا قبل العتق والبلوغ.

الفصل الرابع في حج المرأة وسفرها

الفصل الرابع في حج المرأة وسفرها أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك، عن سعيد، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع محرم". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا النسائي. أما مالك (¬1): فأخرجه عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه (¬3) عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد. وأخرجه أيضًا (¬4): عن القعنبي والنفيلي، عن مالك. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن الحسن بن علي الخلّال، عن بشر بن عمر عن مالك. وقد جاء في بعض روايات البخاري ومسلم "إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها". قوله: "تؤمن بالله" في موضع جر لأنه صفة لامرأة، تقديره: لامرأة مؤمنة بالله، وفيه تعريض أنها إذا سافرت بغير محرم، فإنها تخالف شرط الإيمان بالله واليوم الآخر, لأن التعريض إلى وصفها بذلك إشارة إلى التزام الوقوف عند ما نهيت عنه، وأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي لها ذلك وقوله: "أن تسافر" ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 746 رقم (37)). (¬2) وقع سقط في هذه الفقرة في عدة مواضع. أولها: سقط إسناد البخاري من التخريج، وقد أخرجه في تقصير الصلاة (1088) من طريق آدم عن ابن أبي ذئب عن سعيد وقال عقبه: تابعه يحيى بن أبي كثير وسهيل ومالك، عن المقبري. (¬3) سقط العزو لمسلم وهذا الإسناد عنده تحت رقم (1339). (¬4) وسقط العزو لأبي داود والإسناد المذكور عنده في السنن برقم (1724). (¬5) الترمذي (1170) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

في موضع رفع لأنه فاعل، محل التقدير: لا يحل لها السفر. والهاء في "مسيرة يوم" للمرة الواحدة من المسير، التقدير: أن تسافر مرة واحدة مخصوصة بيوم وليلة، فإن الأصل فيه سار يسير سيرًا ومسيرًا فهو سائر، فالمصدر بغيرها. ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر". ومحرم المرأة: من لا يجوز له نكاحها من الأقارب كالأب والابن والأخ ومن يجري مجراهم، تقول: هو ذو رحم محرم، هي ذات رحم محرم. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: "لا يخلون رجل بامرأة، ولا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم" فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وإن امرأتي انطلقت حاجة، فقال: "انطلق فاحجج بامرأتك". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان. وعن أبي النعمان، عن حماد بن زيد كلاهما عن عمرو بن دينار. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، عن سفيان. خلا يخلو خلوًا فهو خالٍ، وخلوت به خلوة وخلاء، وخلوت إليه إذا اجتمعت معه منفردًا. والباء في قوله: "بامرأة" للتسبب أي صار منفردًا بها وبسببها. وقول: "اكتتبت" أي كُتب اسمي في جملة من يغزو، ومنه قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (¬3) أي فُرِض. ¬

_ (¬1) البخاري (3006، 1862). (¬2) مسلم (1341). (¬3) (البقرة: 216).

وقوله: "فاحجج بها" يريد أحجَّها، وهذا مثل قولك: أذهبته وذهبت به، فالباء للتسبب أيضًا أي: صِرْ حاجًّا بسببها، ويجوز أن تكون بمعنى "مع" والأول أولى. هذا الحديثان ذكرهما الشافعي في كتاب اختلاف الحديث (¬1) وذكر قبلهما حديثين مرفوعين:- أحدهما: عن أبي هريرة، والآخر: عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" وقد ذكرناهما في كتاب الصلاة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المرأة لا تسافر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها، أو تكون مع نساء ثقات ولو امرأة واحدة ثقة. قال بعض أصحابه: إذا كان الطريق آمنا جاز الخروج لها. وقد اختاره القاضي أبو الطيب. وقال بعض الأصحاب: إن الكرابيسي حكى هذا عن الشافعي وبه قال الأوزاعي. وقال مالك: إذا كانت صحبة مأمونة جاز لها الخروج. وقال بعض [] (¬2) أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز لها الخروج إلا بمحرم. وبه قال الحسن البصري وهو العمل بظاهر الحديث. قال الشافعي: قال الله -جل ثناؤه- {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬3). ورُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن السبيل الزاد والراحلة" فإذا كانت المرأة ممن تجد مركبًا وزادًا وتطيق السفر للحج، فهي ممن يجب عليه فرض الحج فلا يحل أن تُمنع فريضة الحج، كما لا تُمنع فريضة الصلاة والصيام وغيرهما من الفرائض. ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث (صـ513) مع الأم. (¬2) بياض بالأصل قدر كلمة ويبدو لي أن كلمة [بعض] مقحمة والصواب حذفها. (¬3) آل عمران: [97].

قال: وأنا نهيت عن السفر فيما لا يلزم، واستدل على ذلك بخروجها في كل سفر يلزمها، مثل: خروجها إلى الحاكم فيما يلزمها من الحدود والحقوق؛ وخروجها في سفر التغريب إذا زنت وهي بكر. قال: وأنا آمر المرأة أن لا تخرج إلا مع محرم، فإن لم يكن لها محرم أو كان فامتنع من الخروج معها لم تُحبس على الخروج، فإن كانت طريقها ما حوله آمنة وكانت [مع] (¬1) نساء ثقات، أو امرأة واحدة ثقة خرجت فحجت، قال: وقد بلغنا عن عائشة، وابن عمر، وشيبة (¬2) وعروة، مثل قولنا في أن تسافر المرأة للحج وإن لم يكن معها محرم قال: وبلغنا أن ابن عمر سافر بمولاة له ليس هو لها بمحرم ولا معها محرم. واستدل الشافعي (رضي الله عنه) في جواز منعها عن سائر المساجد غير المسجد الحرام لغير الفريضة، بأن الأسفار إلى المساجد نافلة غير السفر للحج، وللزوج منعها عن النافلة. قال: ومنع عمر بن الخطاب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي هذه الحجة ثم ظهور الحصر". قال: ولما لم تختلف العامة أن ليس على المرأة شهود صلاة الجماعة كما هي على الرجال؛ وأن لوليها حبسها، كان هذا اختيارًا لا فرضًا على الولي أن يأذن، للمرأة في ذلك، وقد روت عمرة بنت عبد الرحمن أنها كانت عند عائشة (رضي الله عنها) فأخبرت أن أبا سعيد الخدري يخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل للمراة أن تسافر ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم". فالتفتت إلينا عائشة فقالت: ما كلهن لها ذو محرم. ¬

_ (¬1) في الأصل [من] والمثبت من اختلاف الحديث (514)، والمعرفة (7/ 506). (¬2) سقط ذكر شيبة هذا من المعرفة وأظن أن ذكره وقع خطأ.

الباب الثاني في المواقيت

الباب الثاني في المواقيت وفيه فصلان الفصل الأول في الميقات الزماني وفيه فرعان الفرع الأول: في ميقات الحج أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مسلم، عن ابن جريج قال: قلت لنافع: أسمعت عبد الله بن عمر يسمي أشهر الحج؟ فقال: نعم. كان يسمي شوال، ذو القعدة، وذو الحجة، قال: قلت لنافع: فإن أهلَّ إنسان بالحج قبلهن؟ قال: لم أسمع منه في ذلك شيئَّا. الأشهر: جمع قلة لشهر وأقل الجمع ثلاثة عند الأكثرين، وأشهر الحج إنما هي: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، وإنما جاز أن يقول فيه أشهر وهو شهران وبعض الثالث لأن العادة في العربية جارية أن يطلق بعض الشيء على كله كضرب من المجاز، تقول: ما رأيت زيدًا منذ ثلاثة أيام، ويكون بينك وبين رؤيته يومان وبعض الثالث، وهذا فاشٍ في العربية. والذي ذهب إليه الشافعي (رضي الله عنه): أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وتسعة أيام من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. وبه قال أبو يوسف. وقال أصحاب أبي حنيفة: يوم النحر داخل فيها. وبه قال أحمد. وقال مالك: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة جميعه، تمسكًا بقوله: أشهر الحج.

وإذا عدنا إلى الفرض المطلوب من قول الله -عز وجل ثناؤه- {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬1) إنما يريد الحج يقع في هذه الأشهر الثلاثة دون غيرها من الشهور، وحقيقة وقوع الحج إنما هو في ذي الحجة، ولكن لما كان إنشاء الحج في هذه الأشهر جائزًا، ومُنْشِئُ الحج والمتلبس به يسمى حاجًّا، سميت الأشهر أشهر الحج، إذا ثبت هذا فلا يجوز لأحد أن يهلّ بالحج قبل أشهر الحج، فإن فعل كانت عمرة ولا ينعقد إحرامه بالحج. وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والثوري: يكره أن يحرم قبل أشهر الحج فإن أحرم انعقد إحرامه. وقوله في هذا الحديث: كان يسمى شوال، وذو القعدة، وذو الحجة ولم يعمل فيها بشيء لأنه جاء به على طريق الحكاية أي هي شوال وذو القعدة وذو الحجة. والقَعدة: بفتح القاف، والحجة بكسر الحاء. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه) أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن الرجل: أيُهِلُّ بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا. وقد روى الشافعي أيضًا عن جابر أنه قال: لا يُهِلّ أحد بالحج إلا في أشهر الحج. الإهلال: رفع الصوت بالتلبية، وهو قسمان:- إهلال بالحج، وإهلال بالعمرة. والباء في قوله: "بالحج" التسبب والمباشرة معًا كأن الحج كان سبب إهلاله، وأن إهلاله ملتبس بالحج، والأصل فيه الإلصاق أي [ألصق] (¬2) إهلاله بالحج. ¬

_ (¬1) البقرة: [197]. (¬2) في الأصل [ألق] وهو تصحيف والمثبت هو مقتضى السياق.

قال الشافعي: ولا يُهِلّ أحد بالحج في غير أشهر الحج، فإن فعل فحجه عمرة, لأن الله يقول: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ} (¬1). فذهب الشافعي إلى أن الله تعالى جعل للحج وقتًا، فإذا أهلّ به قبله كان كالمصلي قبل الوقت لا تكون صلاته مكتوبة وتكون نافلة, لأن ذلك الوقت وقت تصلح فيه النافلة، فكذلك كانت العمرة تصلح في كل وقت فجعل إحرامه ذلك عمرة. وقد روى مقسم عن ابن عباس أنه قال: لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج. ... ¬

_ (¬1) البقرة: [197].

الفرع الثاني في *ميقات العمرة*

الفرع الثاني في ميقات العمرة أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: "في كل شهر عمرة". قال الشافعي في الجديد: إن العمرة واجبة. وبه قال ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، وأبو بردة، ومسروق، وعبد الله بن شداد، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. ورُوي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر. وقال في القديم: ليست واجبة. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وأبو ثور، والنخعي، ورُوي عن ابن مسعود. قال الشافعي: يجوز أن يُهِلّ الرجل بالعمرة في السنة كلها، يوم عرفة وأيام منى وغيرها من السنة إذا لم يكن حاجًّا, ولم يطمع بإدراك الحج. وهذا الحديث مسوق لبيان جواز الاعتمار في السنة أكثر من مرة واحدة، وأن تكرارها غير مكروه. وقال مالك: يكره للإنسان أن يعتمر في السنة أكثر من مرة واحدة، وإن اعتمر غيرها لزمته بدخوله فيها. وقال ابن سيرين والحسن البصري: لا يعتمر إلا مرة واحدة. وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الشهر لا يعتمر فيه إلا مرة واحدة, لأنه قال: "في كل شهر عمرة" والمذهب بخلافه. قال الربيع: سألت الشافعي عن العمرة في أشهر الحج فقال: حسنة استحسنها وهي أحب إلي منها بعد الحج لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ

إِلَى الْحَجِّ} (¬1) وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه من لم يكن معه هدي أن يجعل إحرامه عمرة، ثم قال: هذا الحديث هو ما. أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه)، أخبرنا مالك، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر أنه قال: لأن أعتمر قبل الحج وأهدي، أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬2)، وقال في أوله: والله لأن أعتمر فجاء باسم الله. واللام التي في "لأن" هي جواب القسم المحذوف، وهي تقتضي وجوده وتستدعيه فسواء حذف القسم أو أظهر فإنه مراد. والهمزة التي بعدها مفتوحة، وهي "أن" الناصبة للفعل، وهي والفعل بمعنى المصدر، تقديره: والله لاعتماري قبل الحج والهدي أحب إلى من اعتماري بعده. في ذي الحجة: يريد: في باقي ذي الحجة بعد العيد ولا اعتماد بالزيادة، تقول: اعتمرت فلانًا إذا زادته، واعتمرته، إذا حملته على العمرة. والهدي: معروف، تقول: أهديت إلى البيت هديًا، وهديًا مخففًا ومثقلاً إذا سقت إليه إبلاً أو بقرًا أو غنمًا. وإنما جعل عمرته في أشهر الحج والهدي أحب إليه, لأن عمرته بوقوعها في أشهر الحج تكون أكثر ثوابًا، وإذا انقضى زمن الحج واعتمر كان أقل ثوابًا لفضيلة أشهر الحج على غيرها. وقال الربيع: فقلت للشافعي: فأكره (¬3) العمرة قبل الحج. قال الشافعي: فقد كرهتم ما رويتم عن ابن عمر أنه أحبه منها، وما رويتم ¬

_ (¬1) البقرة: [196]. (¬2) الموطأ (1/ 280 رقم 61). (¬3) كذا في الأصل وفي المعرفة (7/ 49): [فإنا نكره].

عن عائشة أنها قالت: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا من أهلّ بعمرة، ومنا من جمع الحج والعمرة، ومنا من أهلّ بحج" فَلِمَ كرهتم ما رُوي أنه فُعِل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وما ابن عمر استحسنه، وما أذن الله فيه من التمتع! إن هذا لسوء الاختيار. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب "أن عائشة اعتمرت في سنة مرتين مرة من ذي الحليفة، ومرة من الجحفة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن صدقة بن يسار، عن القاسم بن محمد "أن عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- اعتمرت في سنة مرتين، قال صدقة: فقلت: هل عاب ذلك عليها أحد؟ قال: سبحان الله! أم المؤمنين. فاستحييت". وبهذا الإسناد "أن عائشة اعتمرت في سنة مرتين- أو قال مرارًا- قال: قلت: أعاب ذلك عليها أحد"؟ وذكره. وقد روي هذا الحديث عن سفيان وفيه: ثلاث مرات، وفي هذا الحديث من الدلالة على جواز الاعتمار في كل شهر ما هو أوضح من حديث علي, لأن ذلك قال: في كل شهر مرة، وهذا أخبر أنها اعتمرت في سنة مرتين أو مرارًا. وقوله: "سبحان الله أم المؤمنين" تقديره: هي أم المؤمنين أي أنها بمكانة من الفقه والعلم، وأن فعلها مقتدى به حجة لمن يأتم بها، فكيف يعاب عليها، ولذلك قال: "فاستحييت" يعني من قوله: هل عاب ذلك عليها أحد. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع قال: "اعتمر عبد الله بن عمر أعوامًا في عهد ابن الزبير، عمرتين في كل عام". وهذا الحديث أيضًا مؤكِّد لما سبق، وفيه زيادة بيان بقوله: "أعوامًا" فإن تكرار العمرة في أعوام عدة دليل على جوازها، بخلاف حديث عائشة فإنها

اعتمرت في سنة مرتين، فإن ذلك ربما كان لسبب إذ الحكم الواحد الواقع مرة واحدة -وإن كان دالًا على- جوازه فإن وقوعه في أعوام مكررًا أدل وأوضح. وقوله: "في عهد ابن الزبير" يريد أيام خلافة عبد الله بن الزبير في زمان عبد الملك بن مروان. وقد أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي حسين، عن بعض ولد أنس بن مالك بمكة: فكان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر. حمم رأس الإنسان: إذا اسود بعد الحلق بطلوع الشعر، أي صار كالحممة وهي الفحمة، المراد بذلك: أنه إنما كان يعتمر إذا طلع شعره حتى إذا اعتمر أمكنه أن يحلق أو يقصر، فأما إذا كان قد حلق شعره ثم اعتمر عقيبه فاته الحلق أو التقصير اللذان هما من شعائر العمرة, لأن العمرة تتم بالطواف والسعي والحلق أو التقصير.

الفصل الثاني في الميقات المكاني

الفصل الثاني في الميقات المكاني وفيه فرعان الفرع الأول في ميقات الحج أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهلّ أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن" قال: ويزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويهل أهل اليمن من يلملم". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: "أُمِرَ أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن". قال ابن عمر: أما هؤلاء الثلاث فسمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويُهِلّ أهل اليمن من يلملم". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر قال: "قام رجل من أهل المدينة بالمدينة في المسجد فقال: يا رسول الله، من أين تأمرنا أن نُهِلّ؟ قال: "يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن". قال لي نافع: ويزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يهل أهل اليمن من يلملم". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة.

أما مالك (¬1): فأخرج الرواية الأولى عن نافع، عن ابن عمر. والثانية بإسنادها. وأما البخاري (¬2): فأخرج الرواية الأولى عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن نافع. وعن علي، عن سفيان وأخرج الثالثة أيضًا. وأما مسلم (¬3): فأخرج الأولى عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع. وعن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سالم. وأخرج الثالثة: عن يحيى بن يحيى ويحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار. وأما أبو داود (¬4): فأخرج الأولى عن القعنبي وأحمد بن يونس، عن مالك، عن نافع. وأما الترمذي (¬5): فأخرج الثالثة عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع. وأما النسائي (¬6): فأخرج الأولى عن قتيبة، عن الليث، عن نافع. الإهلال: قد ذكرناه وهو رفع الصوت بالتلبية، تقول: أَهَلّ يُهِلّ إهلالا، والموضع مُهَلّ -بضم الميم وفتح الهاء- وهذه الأماكن التي عينها هي مواقيت أهل كل قطر من الأقطار المذكورة، فذو الحليفة: على فرسخين أو دونهما من المدينة، والجحفة: على خمسين فرسخًا من مكة، وهي إليها أقرب من ذي الحليفة، وهي أيضًا ميقات لمن يجيء من المدينة إلى مكة عليها إذا لم يجتز ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 270 رقم (23،22)). (¬2) البخاري (1527،1525). (¬3) مسلم (1182). (¬4) أبو داود (1737). (¬5) الترمذي (831) وقال: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح. (¬6) النسائي (5/ 122).

بذي الحليفة، فإن ذا الحليفة ميقات لمن مرّ عليها. وعند الشافعي: أن من مر على ميقاته ولم يحرم منه وأحرم من غيره عليه؛ دم، كمن مرّ بذي الحليفة ولم يحرم منها وأحرم من الجحفة. ويلملم: على مرحلتين من مكة. وقرن: على مرحلتين من مكة. وذات عرق: على مرحلتين أيضًا. وقرن -بسكون الراء-: وهو قرن المنازل، وكثيرًا ما يجيء في ألفاظ الفقهاء وغيرهم بفتحها وليس بصحيح، فقد جاء في شعر ابن أبي ربيعة ساكن الراء. ويقال: يلملم وألملم يُبْدلون من الياء همزة. والمراد من ذكر هذه المواقيت: أن من أراد إنشاء الحج فليبدأ به من هذه الأماكن، فينوي الحج ويحرم ويلبي، وهي أيضًا مواقيت لمن أراد أن يعتمر ولا فرق بين الحج والعمرة. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مسلم وسعيد، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المُهلّ فقال: سمعته، ثم انتهى -أراه يريد النبي - صلى الله عليه وسلم-: يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر من الجحفة وأهل المغرب، ويهل أهل العراق من ذات عرق، ويهل أهل نجد من قرن، ويهل أهل اليمن من يلملم. هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1): عن محمد بن حاتم وعبد بن حميد، عن محمد بن بكر (¬2)، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل؟ فقال: سمعت -أحسبه رفع إلى ¬

_ (¬1) مسلم (1183). (¬2) في الأصل [محمد بن أبي بكر] وزيادة [أبي]، خطأ والصواب هو المثبت، وكذا عند مسلم وهو [ابن بكر بن عثمان البرساني] وانظر ترجمته في تهذيب الكمال (24/ 530).

النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مهل أهل المدينة من ذي الحليفة وذكر الحديث، ولم يذكر أهل المغرب. وفي أخرى عن إسحاق بن إبراهيم، عن روح بن عبادة، عن ابن جريج وذكر تمام إسناد الرواية إلى قوله: يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم يذكر لفظ الحديث. قوله: "فقال: سمعته" من كلام أبي الزبير، والهاء في "سمعته" راجعة إلى جابر. وقوله: "ثم انتهى" من كلام ابن جريج يريد أن أبا الزبير انتهى في الإسناد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك قوله: "أراه يريد النبي - صلى الله عليه وسلم -" والهاء عائدة إلى جابر، والقول لأبي الزبير، ويوضح ذلك ما جاء في رواية مسلم فإنه قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل، فقال: -يعني أبا الزبير- سمعت -أحسبه يعني جابرًا- رفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله في رواية الشافعي: "وأهل المغرب" معطوف على أهل المدينة، التقدير يهل أهل المدينة وأهل المغرب إذا مروا في الطريق الآخر من الجحفة. وهذه المواقيت منصوصة من قِبَل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما ذات عرق فقد اختلف فيه هل هو منصوص أو لا؟: فالذي ذهب إليه الشافعي: أنه غير منصوص. وقال جماعة من أصحابه: هو منصوص. هكذا حكاه ابن الصباغ وأبو إسحاق في الشامل والمهذب. وقال إمام الحرمين: الذي صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المواقيت: هو ذو الحليفة، والجحفة، وقرن، ويلملم، ولم يصحَّ عنه توصيف ميقات لأهل المشرق، حسب صحة سائر الموقيت. قال: وما يُروى في ذلك فليس بمعوّل عليه، وإنما التعويل على أن عمر بن الخطاب وقّته لأهل المشرق بالاجتهاد.

وهذه الأقوال فيها نظر: فإن الشافعي قد روى في هذا الحديث "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقّت ذات عرق لأهل العراق"، والحديث قد أخرجه مسلم في صحيحه، ثم الشافعي قد ذكر بعد هذا الحديث حديثين عن عطاء يتضمن ذلك، ثم قد روى فيه أحاديث، عن عائشة وابن عباس، والحارث بن عمرو السهمي، وأخرج هذه الأحاديث أبو داود في "السنن"، وفي حديث ابن عباس أنه وقت لأهل المشرق العقيق، والعقيق أبعد من ذات عرق (¬1). أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، أخبرني ابن جريج، أخبرني عطاء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل المغرب الجحفة، ولأهل المشرق ذات عرق، ولأهل نجد قرن، ومن سلك نجدًا من أهل اليمن وغيرهم قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم وسعيد [عن] (¬2) ابن جريج فراجعت عطاء فقلت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر لم يوقّت ذات عرق، ولم يكن أهل المشرق حينئذ، قال: كذلك سمعنا أنه وقّت ذات عرق -أو العقيق- لأهل المشرق، قال: ولم يكن يومئذ عراق ولكن لأهل المشرق، ولم يَعْزُه لأحد من الصحابة دون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه يأبى إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقّته. هذا الحديث، وإن كان مرسلاً، إلا أنه واضحٌ في البيان عن توقيت ذات ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (3/ 456): قال في الأم: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حد ذات عرق وإنما أجمع عليه الناس، وهذا كله يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصًا، وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم وكذا وقع في المدونة لمالك، وصحّح الحنفية والحنابلة وجمهور الشافعية والرافعي في الشرح الصغير والنووي في شرح المهذب أنه منصوص، وقد وقع ذلك في حديث جابر عند مسلم إلا أنه مشكوك في رفعه -ثم ذكر طرقه وشواهده- وقال: وهذا يدل على أن للحديث أصلاً. فلعل من قال إنه غير منصوص لم يبلغه أو رأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو عن مقال، ولهذا قال ابن خزيمة: رويت في ذات عرق أخبار لا يثبت شيء منها عند أهل الحديث وقال ابن المنذر: لم نجد في ذات عرق حديثًا ثابتًا. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند.

عرق لأهل المشرق، لأن ابن جريج راجع فيه عطاء وناظره عليه، وأن عطاء لما راجعه ابن جريج لم يرجع عن توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات عرق لأهل المشرق. وهو إن كان لم يَعْزُه إلى أحد من الصحابة دون النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي أنه لم يسنده، وأنه مع ذلك لم يرجع عن صحة توقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه، فهذا مما يوضح صحته. وقوله: "ومن سلك نجدًا من أهل اليمن" يريد أن من اجتاز على الميقات وجب عليه أن يحرم منه، سواء كان من أهل القطر أو غيره وقد تقدم ذلك. وأما قول ابن جريج: "أنه لم يكن يومئذ أهل مشرق ولا عراق" صحيح، ولكن إنما وقته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لعلمه أن الإِسلام يفشوا ويكثر حتى يصل إلى العراق ويصير له أهل مشرق فبين الحكم في المستقبل قال صاحب الشامل: إذا ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أولى بالتقديم، وإليه ذهب أحمد وأصحاب أبي حنيفة. ولأجل قول عطاء: "وقت ذات عرق أو العقيق" استحب الشافعي أن يحرم العراقي وأهل المشرق من العقيق، لأنه أبعد عن مكة من ذات عرق فيكون أحوط في العبادة، وكان مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي يرون الإحرام من ذات عرق. وعزوت الحديث أعزوه إلى فلان: إذا نسبته إليه ورويته عنه، وكذلك عزيته أعزيه لغة فيه. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: "لم يوقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل مشرق، فوقت الناس ذات عرق". قال الشافعي: ولا أحسبه إلا كما قال طاوس. والله أعلم. هذا الأثر ذكره الشافعي في إنكار توقيت ذات عرق بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم

قال: ولا أحسبه إلا كما قال طاوس، لأن تلك الأحاديث التي رواها عن جابر وعطاء، لم تثبت عنده ثبوتًا يركن إليه حتى يعول عليها. ومعنى "وقت" أي جعله له ميقاتًا وهو فعال من الوقت. ثم قال الشافعي: وأخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء أنه قال: "لم يوقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المشرق شيئًا، فاتخذ الناس بحيال قرن ذات عرق". فذكر هذا الأثر أيضًا من حديث أبي الشعثاء جابر بن زيد مسندًا كما ذكره طاوس. ومعنى قوله في الحديثين: "فوقت الناس ذات عرق، واتخذ الناس بحيال قرن" هو إشارة إلى ما جاء في الحديث الصحيح، الذي أخرجه البخاري (¬1) عن ابن عمر قال: "لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد لأهل نجد قرنًا وهو جور عن طريقنا، فإنا إن أردنا أن نأتي قرنا شق علينا، قال: فانظروا [حذوها] (¬2) من طريقكم. فحد لهم ذات عرق. لأجل هذا الحديث الصحيح قال الشافعي: ولا أحسبه إلا كما قال طاوس، ومال إلى أن ذات عرق ثابت بالاجتهاد. وحيال الشيء: ما يحاذيه. والمصران: هما الكوفة والبصرة. وقد أخرج الشافعي: عن الثقة، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن عمر بن الخطاب وقت ذات عرق لأهل الشرق. قال الشافعي: وهذا عن عمر مرسل، وذات عرق شبيه بعرق في القرب وألملم، فإن أحرم أهل المشرق رجوت أن يجزئهم قياسًا على قرن وألملم، ولو ¬

_ (¬1) البخاري (1531). (¬2) في الأصل: [وحدات] والمثبت من رواية البخاري.

أهلوا من العقيق كان أحب إلي. وأخرج أيضًا عن ابن عيينة، عن عبد الكريم الجزري قال: رأى سعيد بن جبير رجلاً يريد أن يحرم من ذات عرق، فأخذه بيده حتى خرج من البيوت وقطع به الوادي وأتى به المقابر، ثم قال: هذه ذات عرق الأولى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذات الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرنا, ولأهل اليمن يلملم، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذه المواقيت لأهلها, ولكل آت أتى عليها من غير أهلها ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان أهله من دون ذلك الميقات فليهل من حيث ينشئ حتى يأتي ذلك على أهل مكة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن معمر، عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المواقيت مثل معنى حديث سفيان في المواقيت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم، عن القاسم بن معن، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: "وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرنًا، ومن كان دون ذلك فمن حيث يبدأ". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس. وذكر الحديث إلى قوله: ويلملم، ثم قال: "هن لهم ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة يهلون". وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن آدم، عن ¬

_ (¬1) البخاري (1524). (¬2) مسلم (1181).

وهيب مثل البخاري. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن سليمان بن حرب، عن حماد، عن عمرو بن دينار، عن طاوس. وعن ابن طاوس، عن أبيه. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن الربيع بن سليمان المرادي، عن يحيى بن حسان، عن وهيب وحماد بن زيد، عن ابن طاوس. فقه هذا الحديث: أن المواقيت المضروبة هي لمن يجتاز بها من أهل أقطارها ومن غير أهل أقطارها. قال: ضابطه هو المرور عليها، فكل من مر بها وهو يريد الحج والعمرة، فإنه يجب عليه أن يحرم منها كالشامي إذا مر بذي الحليفة، واليمني إذا مر بالجحفة، والمدني إذا مر بقرن، فإن ميقاته الميقات الذي يجتاز به لا ميقات بلده. وقوله: "ومن كان أهله دون ذلك فليهل من حيث ينتهي" معناه أن من كان مسكنه دون الميقات، فميقاته موضعه الساكن فيه، فيجوز له الإحرام من آخر حد مسكنه الذي يلي الحرم، والمستحب أن يحرم من حده الذي هو من مكة أبعد ليقطعه بإحرام، وكذلك أهل مكة يحرمون منها إذا أرادوا الحج دون العمرة، فأما العمرة فإنما يحرمون بها من أدنى الحل. وقوله: "ممن كان يريد الحج والعمرة" وفيه دليل على أن من أراد الدخول إلى مكة لغير حج ولا عمرة لا يجب عليه الإحرام، فإن تجاوز الميقات وتجدت له نية الحج أو العمرة، فإنه يحرم من حيث تجددت نيته ولا يرجع إلى الميقات ولا شيء عليه، كما يجب على من نوى الحج أو العمرة من بيته ثم اجتاز الميقات ولم يحرم أحرم بعده، فإنه يجب عليه دم. ¬

_ (¬1) أبو داود (1738). (¬2) النسائي (5/ 123، 124).

وقال أحمد، وإسحاق، والأوزاعي: أن عليه دمًا إن لم يرجع إلى الميقات. ولفظ الحديث "أن لا دم عليه". وقد أخرج الشافعي آثارًا عن طاوس وعطاء تعضد ما ذهب إليه. وأخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه أهل من الفُرَع". قال الشافعي: وهذا عندنا -والله أعلم- أنه مر بميقاته ولم يرد حجًّا ولا عمرة، ثم بدا له من الفُرع وأهل منه، أو جاء الفرع من مكة أو غيرها ثم بدا له الإهلال، فأهل منها ولم يرجع إلى ذي الحليفة، وهو روى الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المواقيت والله أعلم. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء أنه رأى ابن عباس يرد من جاوز الميقات غير محرم. قد ذكرنا حكم من يريد الحج أو العمرة واجتاز بالمواقيت ولم يحرم وما يجب عليه، وأنه إن اجتاز بها ولم يحرم وجب عليه دم. وتفصيل القول في ذلك: أنه إن لم يحرم من الميقات فليرجع إليه ويحرم منه، وهذا الرجوع واجب عليه أم لا؟ فيه تفصيل: وذلك أنه كان يخاف فوت الحج أو به مرض شاق، جاز له أن يحرم من مكانه ويجب عليه الدم، وإن لم يكن له عذر وجب عليه الرجوع، فإذا لم يرجع أثم بذلك ووجب الدم. وقد استدل الشافعي على وجوب الدم بما رواه عن مالك، عن أيوب بن أبي [تميمة] (¬1) عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "من نسي من نسكه شيئًا أو تركه، فليهرق دمًا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وقَّت المواقيت قال: "ليستمتع المرء بأهله وثيابه حتى يأتي كذا وكذا -للمواقيت-". ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (7/ 100).

الاستمتاع: الانتفاع، تمتع واستمتع والاسم المتعة، ومنه متعة الطلاق والنكاح والحج لأنه انتفاع. والمعنى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حد المواقيت أذن لهم أن ينتفعوا بأهلهم وثيابهم نكاحًا ولباسًا، إلى أن يصلوا إلى المواقيت ثم يمتنعوا من النكاح ولبس الثياب. قال الشافعي: وأستحب أن لا يتجرد الرجل حتى يأتي ميقاته، مع أنه إذا كان يحتاج إلى الثياب كرهت له إذا كان واجدًا لها أن يدع لبسها، لأنه لا يرى التجرد حتى يصير إلى الإحرام. قال: ولا بأس أن يهل الرجل من بيته قبل أن يأتي الميقات، ثم ذكر حديث ابن عمر وهو ما يذكر الآن. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه أهل من بيت المقدس". هذا الحديث أخرجه مالك (¬1). يقال: البيت المقدس، وبيت المقدس بالتشديد فيهما، وبيت المقدس بالتخفيف. قال الشافعي: اجتمع رأي عمر وعلي على أن أتم العمرة أن يحرم الرجل من دويرة أهله، وقطع بعد ذلك في الإملاء بأن أفضل ذلك أن ينشئ من أهله، لأن ذلك أزيد في الإحرام. قال الربيع: سألت الشافعي عن الإهلال من وراء الميقات؟ فقال: حسن، فقلت: ما الحجة فيه؟ قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه أهل من إيلياء" قال: وإذا كان ابن عمر روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه لما وقت المواقيت قال: يستمتع الرجل من أهله وثيابه حتى يأتي ميقاته، يدل على أنه لم يحظر أن يحرم من ورائه، ولكنه أمر أن لا يجاوز حاج ولا معتمر إلا بإحرام. قال فقلت ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 270 رقم (26)).

للشافعي: وإنا نكره أن يهل أحد من وراء الميقات، قال الشافعي: فكيف كرهتم ما اختار ابن عمر لنفسه، وقاله مع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- لرجل من أهل العراق إتمام العمرة أن تحرم من دويرة أهلك. وأخرج عن وكيع، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي في هذه الآية: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬1) قال: أن يحرم الرجل من دويرة أهله. قال الشافعي: وهم يقولون: أحب إلينا أن يحرم من الميقات. وأخرج الشافعي: عن سفيان، عن عمرو بن دينار -قال: عمرو لم يسم القائل إلا أنا نراه عن ابن عباس-: الرجل يهل من أهله ومن بعد ما يجاوز إن شاء ولا يجاوز الميقات إلا محرمًا. ... ¬

_ (¬1) البقرة: [196].

الفرع الثاني في العمرة من التنعيم والجعرانة

الفرع الثاني في العمرة من التنعيم والجعرانة أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة أنه سمع عمرو بن دينار يقول: سمعت عمرو بن أوس يقول: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يردف عائشة فيعمرها من التنعيم". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان أنه سمع عمرو (¬1) بن دينار يقول: أخبرني ابن أوس الثقفي قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي بكر يقول: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أعمر عائشة، فأعمرتها من التنعيم، قال هو -أو غيره- في الحديث: ليلة الحصبة. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عبد الأعلى بن حماد، عن داود بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيها. وذكر نحوه أطول منه. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن يحيى بن موسى، وابن أبي عمر، عن سفيان. أردفت الراكب: إذا أركبته على الدابة التي أنت راكبها وراءك. والتنعيم: موضع بأراضي مكة وهو مما يلي الركن العراقي هو أقرب الحل إلى ¬

_ (¬1) في الأصل [بن عمرو] وزيادة ابن مقحمة والصواب حذفها. (¬2) البخاري (1784)، وأخرجه أيضًا مسلم (1212). وسقط ذكره من الأصل. (¬3) أبو داود (1995). (¬4) الترمذي (934) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

مكة، فإذا خرج الإنسان من مكة إليه يكون قد خرج من الحرم. وليلة الحصبة: هي ليلة الخروج إلى الأبطح من مكة، والحصبة: موضع فيه الحصباء. قال الشافعي: إذا اعتمر قبل الحج ثم أقام بمكة حتى ينشئ الحج أنشأه من مكة لا من الميقات. قال: والذي أختار أن يهل إذا توجه إلى منى، لأن جابرًا روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا توجهتم إلى منى رائحين فأهلوا". قال: وإن أفرد الحج فأراد العمرة بعد الحج خرج من الحرم ثم أهل من أين شاء. قال الشافعي: وقد كانت عائشة (رضي الله عنها) ممن حل بعمرة، فعائشة قد اعتمرت في تسع ليال من ذي الحجة مرتين، لأنها دخلت يوم رابع ذي الحجة؛ واعتمرت ليلة الحصباء ليلة أربع عشرة من ذي الحجة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة، عن إسماعيل بن أمية، عن مزاحم، عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد، عن محرش الكعبي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الجعرانة ليلاً فاعتمر وأصبح بها كبائت". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج هذا الحديث بهذا الإسناد، وقال ابن جريج: هو محرش. قال الشافعي: أصاب ابن جريج لأن ولده عندنا: بنو محرش. هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن قتيبة بن سعيد [عن] (¬2) بن مزاحم، عن أبيه بالإسناد قال: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - الجعرانة، فجاء إلى المسجد فركع ما شاء الله - ¬

_ (¬1) أبو داود (1996). (¬2) سقط من الأصل والصواب إثباته.

عز وجل- ثم أحرم، ثم استوى على راحلته فاستقبل بطن سَرف حتى لقي طريق مكة فأصبح بمكة. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن مزاحم بالإسناد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من الجعرانة ليلاً معتمرًا، فدخل مكة ليلاً فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد، خرج من بطن سرف حتى جاء مع الطريق طريق جمع ببطن سرف، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ولا نعرف لمحرش الكعبي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن هناد بن السري، عن سفيان يإسناد الشافعي ولفظه، وزاد فيه بعد قوله: ليلاً كأنه سبيكة فضة. وفي أخرى: عن عمران بن يزيد، عن شعيب، عن ابن جريج. وذكر نحو الترمذي. الجعرانة: موضع قريب من مكة وتخفف راؤه وتشدد، وهو خارج من الحرم وأبعد عنه من التنعيم. والبائت بالمكان: الذي ينقضي الليل عليه وهو فيه سواء كان نائمًا أو يقظان، يريد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قفل من غزوة حنين كان بالجعرانة فأحرم منها بعمرة في الليل، ومضى إلى مكة فطاف وسعى وقضى عمرته ثم عاد إلى الجعرانة، فكان بها في الليل وأصبح فيها كمن كان بائتًا بها، وقد أوضح الترمذي هذا في روايته مصرحًا به. وأما رواية أبي داود ففي لفظها تناقض لأنه قال: "فأصبح بمكة كبائت" وإنما ينبغي أن يكون فأصبح بالجعرانة كبائت، وقد رأيته في هذه نسخ كذلك ولعله ¬

_ (¬1) الترمذي (935). (¬2) النسائي (5/ 200، 199).

سهو من الكاتب الأول، لأنه لا خلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اعتمر من الجعرانة كان ليلاً وأنه عاد في الليل إلى الجعرانة، فكيف يقول: فأصبح بمكة كبائت. والله أعلم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن أفضل الاعتمار من الجعرانة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتمر فيها، فإن لم يقدر فمن التنعيم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعمر عائشة منها، فإن لم يقدر فمن الحديبية لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بها، ولأنه أراد أن يدخل إلى مكة في عمرته سنة الحديبية منها. قال الشافعي: وإذا تنحى عن هذين الموضعن -يريد الجعرانة والتنعيم- فأين (¬1) أبعد حتى يكون أكثر لسفره كان أحب إلي، وكان ابن عباس يستحب للمعتمر أن يجعل بينه وبين الحرم بطن واد، فإن أخطأه ذلك اعتمر من الحديبية. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. ... ¬

_ (¬1) في المعرفة (7/ 64): [وإن].

الباب الثالث في الإحرام والتلبية

الباب الثالث في الإحرام والتلبية وفيه فصلان: الفصل الأول في الإحرام وأحكامه وفيه أربعة فروع الفرع الأول في ما يحل للمحرم وما يحرم عليه وفيه أحد عشر نوعًا: النوع الأول اللباس أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال له: "لا يلبس القميص ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا الحفين إلا لمن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: "لا يلبس القمص، ولا السراويلات، ولا العمائم، ولا البرانس، ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يلبس المحرم ثوبًا مصبوغًا بزعفران أو ورس، قال: فمن لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين".

هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرجه عن نافع وذكر الرواية الثانية ولم يذكر العمائم، وزاد فيه: "ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسه الزعفران ولا الورس". وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بلفظه وذكر العمائم. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، وعمرو الناقد وزهير بن حرب كلهم عن ابن عيينة بإسناد الرواية الأولى، وزاد قبل ذكر الخفين: "ولا ثوب مسه ورس ولا زعفران". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن أحمد بن حنبل ومسدد، عن سفيان قال: "سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يترك المحرم من الثياب". وذكر الحديث وزاد زيادة مسلم. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر وذكر لفظ مالك وفيه العمائم، وزاد "لا تنتقب المرأة الحرام ولا تلبس القفازين". وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك بلفظ الشافعي وزاد: الورس والزعفران. والبرانس: جمع برنس وهو قلنسوة طويلة كان يلبسها النساك في صدر الإِسلام. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 266 رقم (8)). (¬2) البخاري (1542). (¬3) مسلم (1177). (¬4) أبو داود (1823). (¬5) الترمذي (833). وقال هذا حديث حسن صحيح. (¬6) النسائي (5/ 131، 132).

والورس: نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الغمرة للوجه ويصبغ به الثياب. والإحرام: مصدر أحرم يحرم إحرامًا فهو محرم وامرأة محرمة، ورجل حرام وامرأة حرام؛ إذا تلبَّس بأعمال الحج أو العمرة من الإهلال، والتلبية، وخلع المخيط، واجتناب الأشياء التي من الشرع منها: كالطيب والنكاح والصيد، والأصل فيه المنع فكأن المحرم ممتنع من هذه الأشياء. والقُفَّاز -بضم القاف وتشديد الفاء-: شيء يعمل لليدين يحشى بقطن ويعمل له أزرار يزر بها على الساعدين من البرد، تلبسه المرأة في يديها ويغطى به الكفان والأصابع. وقيل: هو ضرب من الحلي. والأول أوجه. وقوله: ما يلبس المحرم؟ سؤال عما يجوز له لبسه. وقوله في الجواب: "ولا يلبس كذا وكذا" جواب عما لا يلبسه وإنما عدل - صلى الله عليه وسلم - -والله أعلم- إلى ذكر ما لا يلبسه فإنما سأله عما يلبسه المحرم، كان محتاج لو أجابه عما يلبسه أن يأتي على جميع أنواع اللباس الجائز لبسه وفي ذلك مشقة، فأجابه بما لا يجوز له لبسه لقلته وبينها للسائل على أنه نزل السؤال عما يحتاج إليه من أقرب طرقه، وسلك أبعد الطريقين في حصول غرضه، وذلك أن المحرم إنما هو محتاج إلى أن يسأل عما يجتنبه، عما كان له مباحًا لأن الأصل بقاء الشيء على إباحته، فلما حدث سبب يوجب تغيرًا احتاج أن يسأل عما يقتضي ذلك الحادث من التغير، وحيث لم يسأل عما هو محتاج إلى معرفته، أجابه النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواب ما كان ينبغي له أن يسأل عنه. والذي جاء في رواية أبي داود وجاء على القياس، فإنه قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما يترك المحرم من الثياب؟، فطابق الجواب السؤال. وقال في الرواية الأولى: "لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل" فذكرها بلفظ الواحد وذلك مطابق لقوله: ما يلبس المحرم؟ حيث

كان السؤال عن الواحد أجاب بالواحد، ودخل في هذا الواحد الجميع لوقوع لفظ المحرم على كل محرم. وقال في الرواية الثانية: "لا يلبس القمص ولا السراويلات، ولا العمائم ولا البرانس" فجاء بلفظ الجمع لأنه لما سأله عن المحرم وهو عبارة عن الواحد، أجابه بما يلزم كل محرم اجتنابه لئلا يتوهم متوهم أن هذا حكم يخص محرمًا بعينه، فأزال هذا الوهم بقوله: "لا تلبسوا" ثم لما قال: لا تلبسوا، قال: "القمص والعمائم والسراويلات" فجمع الملابس كما جمع اللابسين. وقوله في الرواية الأولى: "ولا يلبس الخفين إلا لمن لم يجد نعلين" فاستثنى عامًّا من خاص، وكان ينبغي أن يعكس القضية وذلك أن قوله: "لا يلبس المحرم خفين" مستثنى منه وهو خاص، وقوله: "إلا لمن لم يجد نعلين" استثناء عام، والقياس أن يقول: إلا أن لا يجد نعلين، وإنما جوّز ذلك أن لفظة المحرم تقع -كما قلنا- على كل محرم لدلالته على الجنسية، كما تقول: لا يأكل المريض سمكًا، إلا من لم يجد غيره، وكان القياس: إلا أن لا يجد غيره، وإنما جاز ذلك لوقوع لفظ المريض على كل مريض، أي لا يأكل من يقع عليه اسم المرض سمكًا إلا من لم يجد غيره. والذي جاء في الرواية الثانية ظاهر لا يحتاج إلى تأويل. وقال في رواية "خفين" في حيث وجد الملابس وكل لابس فله خفان، وقال في رواية أخرى: "خفاف" فجمع حيث جمع اللابسين. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المحرم يحرم عليه من اللباس أمران:- أحدهما: ما يتعلق بالرأس، والثاني: بالبدن. فأما الرأس: فيحرم ستره بكل ما يسمى ساترًا معتادًا مخيطًا كان أو غير مخيط. والاستظلال بالسقف، وغطاء المحمل، والانغماس في الماء لا يحرم عليه. هذا الرجل، فأما المرأة: فيلزمها في وجهها ما لزم الرجل في رأسه.

وأما البدن: فلا يجوز للرجل أن يلبس مخيطًا كالقميص والسراويل (¬1)، فإن ارتدى بمخيط فلا بأس إلا أن يكون قباء فإن ذلك يعد لبسًا. وأما المرأة: فلا حجر عليها في بدنها. وقال مالك وأحمد، والأوزاعي في القباء مثل الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا لبسه ولم يدخل يديه في كميه فلا فدية عليه. وبه قال النخعي وأبو ثور. وأما الاستظلال بالمحمل فيه: قال أبو حنيفة وقال مالك وأحمد: لا يجوز، فإن فعل فعليه فدية. وللمحرم أن يغطي وجهه. وبه قال الفقهاء. وقال أبو حنيفة: لا يغطيه كما لا يغطي رأسه. وأما الثوب المصبوغ بالطيب: كالمسك والزعفران والورس وكل ما له رائحة طيبة، فلا يجوز للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه ولا الاضطجاع، لأنه طيب والطيب حرام عليه، وسواء كان رطبًا أو يابسًا ينفض لونه أو لم ينفض. وقال أبو حنيفة: إن كان رطبًا يلي بدنه أو يابسًا ينفض لزمته الفدية، وإن لم يلِ بدنه ولم ينفض فلا فدية عليه. وأما إذا صبغ بما ليس بطيب: كالمغرة والمعصفر وماء الفواكه فإن لبسه جائز، وروي ذلك عن عائشة، وأسماء، وعبد الله بن جعفر، وعقيل بن أبي طالب. وبه قال أحمد. وكان عمر بن الخطاب يكره لبس الثياب المصبغة. وكان عطاء لا يراه طيبًا. وكان الثوري وأبو ثور يقولان: لا يلبس المحرم المصبوغ بالعصفر. وكره مالك لبس المقدم بالعصفر للرجال والنساء. ¬

_ (¬1) في الأصل [والسريل] وهو تصحيف.

وأما القفاز: فحرام على الرجال لبسه، وفي المرأة قولان أصحهما: الجواز لأن لها ستر جميع جسدها ما عدا الوجه. وأما الخف: فإن الشافعي قال: من لم يجد النعلين فله أن يلبس الخفين بعد أن يقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يجوز له أن يلبسهما قبل القطع. وبه قال مالك، وأبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور، وإسحاق. وقال عطاء وأحمد: لا يقطعان فإن قطعهما إفساد للمال. وأما الإزار: فإن لم يجده فله أن يلبس السراويل ولا شيء عليه. وبه قال عطاء، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يلبس السراويل، فإن لبسه فعليه الفدية. ووجه الجواز: الحديث الذي يتلو هذا الحديث. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا ابن عيينة أنه سمع عمرو بن دينار يقول: سمعت أبا الشعثاء يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يقول: "إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين، وإذا لم يجد إزارًا لبس سراويل". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي الوليد وآدم، عن شعبة، عن عمرو بن دينار وقال: يخطب بعرفات. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وأبي الربيع الزهراني وقتيبة جميعًا عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار. وفي أخرى: عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن ¬

_ (¬1) البخاري (841، 1843). (¬2) مسلم (1178).

عمرو بن دينار وقال: بعرفات. قال مسلم: لم يذكر عرفات إلا شعبة وحده. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي، عن يزيد بن زريع، عن أيوب، عن عمرو. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن حماد، عن [عمرو] (¬4). قوله: "يخطب" فعل مستقبل في موضع الحال من سمعته. وقوله: "وهو يقول" جملة أخرى معطوفة على يخطب في موضع الحال. والنعل: معروفة. والإزار: الثوب الذي يشد على العورة. ورواية الشافعي أوضح لفظًا من غيرها، لأنه قال: إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خفين، وإذا لم يجد إزارًا لبس سراويل وغيره قال: "السراويل لمن لم يجد الإزار، والخف لمن لم يجد النعل" فلم يتعرضوا إلى ذكر اللبس لفهم المعنى منه، ولفظ رواية الشافعي أدل على الانتقال من الفعل إلى الخف، ومن الإزار إلى السراويل، وفي روايته أيضًا: "إزارًا" منكر، وفي رواية غيره معرف، والتنكير أولى لتزاوج قوله: "نعلين". قال الشافعي: فكما قلنا عن ابن عمر أن زاد في الخفين القطع ولم يذكره ابن عباس، ولذلك قلنا: عن ابن عباس أنه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص للمحرم ¬

_ (¬1) أبو داود (1829). (¬2) الترمذي (834) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) النسائي (5/ 123). (¬4) في الأصل [عروة] وهو تصحيف والمثبت من النسائي.

أن يلبس سراويل إذا لم يجد إزارًا، قال: وألا يقطع من السراويل شيئًا، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقطعه. وقد أخرج الشافعي: عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء قال: في كتاب علي: من لم يجد نعلين ووجد خفين فليلبسهما، قلت أيقين بأنه كتاب علي؟ قال: ما أشك أنه كتابه وليس فيه: وليقطعهما. قال الشافعي: وأرى أن يقطعهما لأن ذلك في حديث ابن عمر وإن لم يكن في حديث ابن عباس، وكلاهما صادق وحافظ، وليس زيادة أحدهما على الآخر شيئًا لم يؤده الآخر إما عزب عنه، وإما شك فيه فلم يزد، وإما سكت عنه، وإما أداه فلم يؤد عنه لبعض هذه المعاني اختلافًا. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي جعفر قال: "أبصر عمر بن الخطاب على عبد الله بن جعفر ثوبين [مضرجين] (¬1) وهو محرم، فقال: ما هذه الثياب؟ فقال علي بن أبي طالب: ما إخال أحدا يعلمنا السنة، فسكت عمر". هذا حديث مرسل، أبو جعفر هو محمد بن علي الباقر لم يدرك عمر ولا عليًّا. والمضرج: المصبوغ بالحمرة صبغا لبس بالمشبع وفوق المورد وأصله من قولهم: تضرج بالدم إذا تلطخ. وقوله: "ما هذه الثياب"؟ استفهام يتضمن إنكارًا أو توبيخًا، لأنه أنكر عليه لبس الثياب المصبوغة وهو محرم. وخال يخال إذا ظن، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين مثل: ظننت، ويقال فيه: أخال -بفتح الهمزة وكسرها- والكسر أفصح اللغتين، والفتح لبني أسد وهو القياس. ¬

_ (¬1) في الأصل [مضرجان] والمثبت هو الجادة كذا في الأم (2/ 147) وكذا المعرفة (7/ 166).

والسنة يريد بها: أحكام الشرع من جائزاته ومحظوراته. وأراد -علي بقوله هذا- ردًا على اعتراض عمر، وجاء به على نحوٍ من سؤال عمر، فضمنه إنكارًا وتوبيخًا أعظم مما تضمنه السؤال، كأنه قال: إن كنت استغربت لبس هذه الثياب المضرجة؛ فإننا أعرف بالسنة من غيرنا ما يحتاج أن يعرفنا ذلك أحد ولا يظن أن ذلك يقع، إلا أنه -كرم الله وجهه- لما كان غرضه هذا المعنى؛ وكان فيه من خشونة الخطاب ما لا خفاء به، وكان منزلة عمر (رضي الله عنه) عنده عظيمة يفترض تعظيمها؛ عدل عن كاف الخطاب إلى الغيبة ولم يواجه عمر بذلك، فقال: "ما أظن أحدا يعلمنا السنة"، ولذلك سكت عمر لما سمع كلامه فإنه كان وقافًا عند الحق (رضي الله عنه) ثم إنه قال: "ما إخال" بلفظ الواحد، "ويعلمنا" بلفظ الجمع وذلك أنه نسب الفعل إلى نفسه لأمرين:- أحدهما: أنه كان في هذا المقام دون أهله وجماعته، لا سيما مثل عبد الله ابن جعفر على صغره، فقال: "ما أظن أحدا" فله أن يقول ذلك لأنه بمكانة أن يقوله. والثاني: أنه إنما يخبر عن نفسه، وليس له أن يخبر عن غيره أنه لا يظن ما يظنه هو، فإن الإنسان قد يظن شيئًا وغيره لا يظنه. وأما قوله: "يعلمنا" فخرج على لفظ الجمع لأنه عارف بها من وجهين:- أحدهما: أنه من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، وأن علمهم علم لدني لا تعليمي (¬1). ¬

_ (¬1) العلم اللدني كلمة كثرت في عبارات الصوفية خلافًا لأهل السنة والجماعة ومعناها عندهم: أنها العلم الذي يقذفه الله في القلب إلهامًا بلا سبب من العبد ولهذا سمى لدنيًا، وقد رد على هذه الدعوى أهل العلم. قال ابن القيم -رحمه الله-: العلم اللدني: ما قام الدليل الصحيح عليه، أنه جاء من عند الله على لسان رسوله، وما عداه =

والثاني: أنه يكون هو قد علَّمه السنة وعرَّفه جائزها ومحظورها. ووجه علمه بذلك من عبد الله بن جعفر: أنه بمنزلة ولده وأمه كانت تحته وهي أسماء بنت عميس وكل هذه الأسباب داعية إلى ذلك. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر "أنها كانت تلبس المعصرفات المشبعات وهي محرمة ليس فيها زعفران". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أنه سمعه يقول: "لا تلبس المرأة ثياب الطيب، وتلبس ثياب المعصفر، لا أرى المعصفر طيبًا". المعصفر: المصبوغ بالعصفر. وقوله: "ثياب الطيب" يريد الثياب المختلطَ بالطيب المعروفة به، فلذلك أضافها إليه. وقوله: "ثياب المعصفر" يريد بيان اللون المعصفر، فحذف اختصارًا لدلالة الحال عليه وفهم الخاطب. وقوله: "لا أرى المعصفر طيبًا" إنما يريد لا أرى المعصفر طيبًا فاستعمل المسبب موضع السبب، وهذا شائع في العربية. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المعصفر ليس بطيب، فلا شيء عليه إذا لبس مصبوغًا بالعصفر. وبه قال أحمد. ¬

_ = فلدني من لدن نفس الإنسان منه بدأو إليه يعود، وقد انبثق سر العلم اللدني ورخص سعره حتى دعت كل طائفة أن علمهم لدني. قال العلامة بكر أبو زيد -حفظه الله- تعقيبًا على ذلك: وهذا الاصطلاح من مخترعات الصوفية ومواضعاتها، وإلا فإن العلم اللدني هو العلم العندي ... فما لم يكن العلم من عند الله على لسان رسول الله فلا يكون من لدنه والأمور مرهونة بحقائقها وانظر معجم المناهي اللفظية ص 397 - 398.

وقال أبو حنيفة: العصفر طيب وتجب فيه الفدية. قال الشافعي: ولو تركا ذلك -يعني الرجل والمرأة- ولبسا البياض، كان أحب إلي. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أنه كان يفتي النساء إذا أحرمن أن يقطعن الخفين، حتى أخبرته صفية عن عائشة أنها تفتي النساء أن لا يقطعن، فانتهى عنه". هذا الحديث مسوق: لبيان ما يجب على الرجل من قطع خفيه عند الإحرام غير واجب على النساء، وهو قول عامة الفقهاء: أن المرأة لا يجب عليها في الإحرام، إلا كشف وجهها لا غير. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: تدلي عليها من جلابيبها ولا تضرب به، قلت: وما لا تضرب به، فأشار لي كما تجلبب المرأة، ثم أشار إلى ما على خدها من الجلباب، فقال: لا تغطيه فتضرب به على وجهها، فذلك الذي لا ينبغي عليها ولكن تسدله على وجهها كما هو مسدولًا, ولا تقلبه ولا تضرب به ولا تعطفه. الجلباب: ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها. وقيل: هو الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل. وقيل: هو الملحفة. ومعنى قوله: "تدلي عليها من جلابيبها" أي ترسله على وجهها و"من" للتبعيض أي بعض جلابيبها، ويحتمل هذا اللفظ وجهين:- أحدهما: أن تتجلبب المرأة ببعض ما لها من الجلابيب، أي لا تكون المرأة مسدلة قانعة من الثياب بما دون الجلباب! والثاني: أن ترخي بعض جلبابها وتصله على وجهها تتقنع به.

وهذا هو تفسير قوله: "ولا تضرب به" يعني أنها تتقنع به وتلويه على وجهها من أحد جانبيه إلى الجانب الآخر، فإن ذلك يكون سترًا لوجهها الذي وجب عليها كشفه في الإحرام، فأما إرساله على وجهها إرسالاً من غير أن تضرب به عليها فلا. ولهذا قال الفقهاء: إن المرأة إذا أرسلت ثوبًا حذاء وجهها إرسالاً من غير أن تضرب عليه ويكون متجافيًا عنه، فلا بأس عليها وذلك جائز لها. وحقيقة قوله: "ولا تضرب به" يريد أنها لا تلصق جلبابها ببشرة وجهها، كأن الجلباب قد ضرب الوجه بمباشرته له، ومنه قول الله -عز وجل-: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (¬1) أي: ترسلها ساقطة على الجيوب. وقد أخرج الشافعي في القديم: عن مالك، عن نافع أن عبد الله ابن عمر كان يقول: "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين". هذا الحديث رواه مالك (¬2) وأيوب موقوفًا على ابن عمر. ورواه الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرجًا في حديث ما لا يلبس المحرم من الثياب. وتابعه على ذلك موسى بن عقبة [وإسماعيل بن إبراهيم] (¬3) بن عقبة، وجويرية بن أسماء، ومحمد بن إسحاق. وأخرجه البخاري في الصحيح (¬4)، ورواه الشافعي في رواية حرملة عنه، عن الثقة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعًا. وأخرج الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة "أنه رأى عثمان يغطي وجهه وهو محرم". ¬

_ (¬1) النور: [31]. (¬2) الموطأ (1/ 268 رقم (15)). (¬3) في الأصل انقلب اسمه فصار [إبراهيم بن إسماعيل] والمثبت من المعرفة (7/ 140) وصحيح البخاري ويأتي تخريجه. (¬4) البخاري (1838).

وأخرج عن سفيان بن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه "أن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم. وقال في موضع آخر: وهم محرمون". قال الربيع: قلت للشافعي: إنا نكره تخميرة الوجه للمحرم ويكرهه صاحبنا -يعني مالكًا-، وروى فيه عن ابن عمر أنه قال: "ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره التحريم". قال الشافعي: فكيف أخذت بقول ابن عمر دون قول عثمان، ومع عثمان زيد بن ثابت ومروان بن الحكم؟!. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سعيد، عن إسماعيل بن أمية، أن نافعًا أخبره أن ابن عمر لم يكن عقد الثوب عليه إنما غرز طرفه على إزاره. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سعيد (¬1)، عن سعيد، عن مسلم بن جندب قال: "جاء رجل يسأل ابن عمر وأنا معه، فقال: أخالف بين طرفي ثوبي من ورائي ثم أعقده وأنا محرم؟ فقال عبد الله بن عمر: لا تعقد شيئًا". يريد بقوله: "لم يكن عقد الثوب عليه" لم يكن يعقده، فاستعمل الماضي موضع المستقبل وكأنه قد كان يسأل عن حالته في إحرامه وهيئة إزاره وردائه، أو إن قائلًا قال: إن ابن عمر عقد ثوبه عليه، فقال نافع -منكرًا مقالته-: لم يكن عقده، فأعاد لفظه ماضيًا بحاله. والمخالفة بين طرفي الثوب: هو أن يأخذ الجانب الأيمن فيرده إلى الأيسر، والأيسر فيرده إلى الأيمن. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الإزار هو الذي تستر به العورة ويجوز عقده ليستمسك على عورته ويثبت عليها، فأما الرداء: وهو الذي يضعه على منكبيه وظهره، فلا يعقده بل يغرز طرفيه في إزاره. وحكى مثل ذلك عن ابن عمر، ¬

_ (¬1) تكرر في الأصل لكن قال في الثاني: [عن سعيد].

هكذا حكاه العراقيون عن الشافعي. وقال إمام الحرمين: ولو ارتدى برداء وعقد أحد طرفيه بالآخر فلا بأس، فإن هذا يخالف الستر المعتاد، والعقد الذي جرى استيثاق في التوشح وهو بمثابة عقد الإزار، وكذلك لو عقد طرف ردائه بإزاره فلا منع لما ذكرنا، وإن شد فوق الإزار خيطًا أو منديلًا جاز لأنه بمثابة عقده. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن هشام بن حجير، عن طاوس قال: "رأيت ابن عمر يسعى بالبيت وقد حزم على بطنه بثوب". يريد بالسعي: الطواف حول البيت، فأعطى سعيت معنى طفت فعداها بالباء. والحزم: اتخاذ الثوب كالحزم على بطن الدابة، وهذا يرجع إلى شد الإزار بحبل وقد ذكرناه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً محتزمًا بحبل [أبرق] (¬1) فقال: "انزع الحبل" مرتين". المحتزم: مفتعل من الحزام. والأبرق: حبل ذو لونين أسود وأبيض، وكل شيء اجتمع فيه سواد وبياض فهو أبرق. وهذا محبوب على جهة الاستحباب لا على جهة الوجوب. والله أعلم. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من خير ثيابكم البياض، فليلبسها أحياؤكم، وكفنوا فيها موتاكم". ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وهو ثابت في مطبوعة المسند، والظاهر أنها سقطت من الناسخ لثبوتها في الشرح.

هذا حديث صحيح، أخرجه أبو داود والترمذي. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن زهير بن عبد الله بن عثمان وذكر نحوه. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن بشر بن المفضل، عن عبد الله بن عثمان. قوله: "من خير ثيابكم" في موضع الخبر، والمبتدأ "البياض" وفي الكلام محذوف تقديره: الثوب ذو البياض من خير ثيابكم، لأن البياض عرض ولا تكون الجثة خبرًا عن الأحداث. دخول "من" للتبعيض أي هي من خير الثياب، فكأن خير الثياب يشتمل على البياض وغيره، وتخصيصها بالذكر إشارة إلى وصلها. وقد روى الشافعي هذا الحديث في "سنن حرملة"، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن سمرة بن جندب. والذي ذهب إليه الشافعي: أن [مئزر] (¬3) الإحرام يستحب أن يكون أبيض، قال: والجديد أحب إلي من المغسول، فإن لم يكن جديد لبس المغسول. قال الشافعي: وأحب أن يلبس ثوبين أبيضين جديدين أو غسيلين، وفسرهما قال: ويلبس الرجل الإزار والرداء أو ثوبًا يطرحه كما يطرح الرداء. ... ¬

_ (¬1) أبو داود (4061). (¬2) الترمذي (994). وقال: حسن صحيح. (¬3) في الأصل [مران] والمثبت هو المناسب للسياق.

النوع الثاني الطيب

النوع الثاني الطيب أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سالم قال: قالت عائشة -رضي الله عنها- "أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وقال في كتاب الإملاء: "لحله وإحرامه". قال سالم: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق [أن] (¬1) تتبع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت". وأخبرنا الشافعي: -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال سمعت عائشة -رضي الله عنها- وبسطت يديها تقول: "أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين لإحرامه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عثمان بن عروة قال: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه وحله. فقلت لها: بأي الطيب؟ فقالت: باطيب بالطيب". قال عثمان: ما روى هشام هذا الحديث إلا عني. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عطاء بن السائب، ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وهو ثابت في مطبوعة المسند وبه يستقيم السياق.

عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: "رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عمر بن عبد الله بن عروة، أنه سمع القاسم بن محمد وعروة يخبران عن عائشة أنها قالت: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي في حجة الوداع للحل والإحرام". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرج الرواية الثانية إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرج الثانية عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأخرج السادسة (¬3): عن محمد بن يوسف، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر يدهن بالزيت. فذكرته لإبراهيم، فقال: ما تصنع بقوله حدثني الأسود، عن عائشة وذكره. وأخرج السابعة (¬4): عن عثمان بن الهيثم أو محمد، عنه، عن ابن جريج. وأخرج الخامسة (¬5): عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن هشام، عن عثمان. وأما مسلم (¬6): فأخرج الثانية عن القعنبي، عن أفلح بن حميد، عن القاسم. وعن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأخرج الرابعة: عن محمد بن عباد، عن سفيان. ¬

_ (¬1) مالك (1/ 268 رقم (17)). (¬2) البخاري (1539). (¬3) البخاري (1537، 1538). (¬4) البخاري (5930). (¬5) البخاري (5928). (¬6) مسلم (1189).

وأخرج السادسة (¬1): عن يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وأبي الربيع وخلف بن هشام وقتيبة، عن حماد بن زيد، عن منصور عن إبراهيم، عن الأسود. ولم يقل بعد ثلاث. وأخرج السابعة (¬2): عن محمد بن حاتم وعبد بن حميد وعمرو (¬3) ومحمد بن بكر، عن ابن جريج. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه الثانية عن القعنبي وأحمد بن يونس، عن مالك. وأخرج السادسة (¬5): عن محمد بن الصباح، عن إسماعيل بن زكريا، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم. وأما الترمذي (¬6): فأخرج عن أحمد بن منيع، عن هشيم، عن منصور بن زاذان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عن عائشة قالت: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بطيب فيه مسك". وأما النسائي (¬7): فأخرج الأولى عن قتيبة، عن حماد، عن عمرو نحوها. وأخرج الثانية: عن قتيبة، عن مالك. والرابعة: عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان، عن الزهري. والخامسة: عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن عثمان. والسادسة: عن أحمد بن نصر، عن عبد الله بن الوليد، عن سفيان، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم. الحرم والحل، والإحرام والإحلال كله بمعنى وقد تقدم بيانه. والوبيص: البريق والبصيص. ¬

_ (¬1) مسلم (1190). (¬2) مسلم (1189). (¬3) لم يذكر مسلم: [عمرو] في روايته. (¬4) أبو داود (1746). (¬5) أبو داود (1746). (¬6) الترمذي (917). وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح. (¬7) النسائي (5/ 136، 137، 138).

والمفارق: جمع مفرق الشعر من الرأس. واللام في "لحله" هي اللام (¬1) والتي في قولهم: لعشر خلون ولخمس بقين، أي طيبته طيبًا مقترنًا بحله وحرمه، ويجوز أن تكون لام أجل، أي لأجل حله وحرمه، وكلا الأمرين حقيقة ومعناهما: التخصيص، كقولك: المسجد لعبد الله والسرج للدابة. وفي هذا الحديث من الفقه:- بيان جواز الطيب قبل الإحرام، وذلك أنه يستحب للمحرم أن يتطيب قبل إحرامه؛ بطيب يبقى أثره أو عينه بعد الإحرام كالمسك والغالية والعود؛ فإن بقاءه بعد الإحرام لا يضره ولا يوجب عليه فدية. وهو مذهب الشافعي، ومذهب أكثر الصحابة والفقهاء، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك ومحمد: يكره الطيب للمحرم بطيب تبقي رائحته بعد الإحرام. وفي هذا الحديث من الفقه:- جواز الطيب قبل الطواف وبعد الرمي والحلق، وقد اختلف أصحاب الشافعي:- فمنهم من قال: يحل له الطيب قولًا واحدًا أخذًا بهذا الحديث. ومنهم من قال: فيه قولان: وبالجواز قال ابن الزبير، وعائشة، وابن عباس، وعلقمة، وسالم بن عبد الله، وطاوس، والنخعي وخارجة بن زيد، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وقال عمر بن الخطاب وابنه: لا يحل له الطيب. واختلف فيه عن الحسن البصري. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن محمد بن عجلان ¬

_ (¬1) كذا في الأصل والعبارة غير مستقيمة وبها سقط ولعل الساقط قوله (المقترنة) لما يأتي بعد ذلك.

أنه سمع عائشة بنت سعد تقول: طيبت أبي عند إحرإمه بالمسك والذريرة. الذريرة: ضرب من الطيب مجموع، وقال الأزهري: هو فتات من قصب الطيب يجاء به من بلاد الهند. وفي هذا الحديث: زيادة تأكيد لجواز الطيب قبل الإحرام بما يبقى أثره بعد الإحرام، فإن المسك يبقى أثر لونه وريحه أكثر من غيره وكذلك الذريرة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن حسن بن زيد، عن أبيه قال: رأيت ابن عباس محرمًا وإن على رأسه مثل الرُّبِّ من الغالية. الرُّبّ: ماء العنب إذا عصر وأوقد تحته النار، ليذهب نصفه أو ثلثاه فنحى (¬1) ويمتنع من الفساد. والغالية: أخلاط من مسك وعنبر وعود ودهن، وهي فاعلة من غلا الشيء يغلو فهو غال، والأنثى غالية، يقال: إن أول من سماها بذلك سليمان بن عبد الملك بن مروان، وذلك أنه سأل عن أخلاطها، فقيل له، فقال: إن هذه غالية، فسميت بذلك حتى صارت من الأسماء الغالية وان كانت في الأصل صفة، وهذا الحديث عن تسمية سليمان فيه نظر، فإن ابن عباس قبل سليمان بن عبد الملك، اللهم إلا أن يكون هذا الاسم أحدثه له سليمان واشتهرت به، وقد كان لها قبله اسم آخر فغلب اسمه عليها، ويكون الراوي لما حكى ما رأى على ابن عباس ذكر الاسم الذي اشتهرت به. والله أعلم. واللام في قوله: "لمثل" لام تأكيد دخلت على اسم "إن" لما كان متأخرا عن الخبر فإنها لا تدخل عليه إلا إذا تأخر، فلا يقال: إن لزيدًا في الدار، ولكن إنَّ في الدار لزيدًا. ¬

_ (¬1) قال في اللسان مادة ربب: النحي إذا أصلح بالرب طابت رائحته، ومنع السمن من غير أن يفسد طعمه أو ريحه.

وهذا الحديث أقوى ما يقال في جواز الطيب قبل الإحرام بما له أثر، فإن الغالية قد ذكر أنه رآها فوق رأسه مثل الرب وذلك بقاء جرمها نفسه وهو محرم. قال الشافعي: فخالفنا بعض أهل ناحيتنا في التطيب قبل الإحرام، وبعد الرمي والحلاق وقبل طواف الزيارة، فقال: لا يتطيب بما يبقى ريحه عليه، وكان الذي ذكرناه احتج به [في ذلك أن] (¬1) عمر بن الخطاب أمر معاوية وأحرم معه فوجد منه طيبًا، فأمره أن يغسل الطيب، وأنه قال: من رمى الجمرة وحلق فقد حل له ما حرم عليه إلا النساء والطيب. قال الشافعي: وسالم بن عبد الله أفقه وأحمد مذهبًا من قائل هذا القول، ثم قال: هذا الحديث، عن سالم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله -وربما قال: عن أبيه، وربما لم يقله- قال عمر: "إذا رميتم الجمرة وذبحتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء حرم عليكم إلا النساء والطيب". قال سالم: وقالت عائشة: "أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله بعد أن رمى الجمرة وقبل أن يزور". قال سالم: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله "أن عمر بن الخطاب نهى عن الطيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة". قال سالم: فقالت عائشة: "طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي لإحرامه قبل أن يحرم، وحله قبل أن يطوف بالبيت" وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق. قال الشافعي: ولم أعلم له مذهبًا -يعني لمن خالفه- في جواز الطيب قبل الإحرام، إلا أن يكون شُبِّه عليه بحديث يعلى بن أمية، في أن يغسل المحرم ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (7/ 112).

الصفرة عنه، ثم ذكر حديثه وهو هذا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه قال: "كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة، فأتاه رجل وعليه مقطعة -يعني جبة- وهو متضمغ بالخلوق، فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بالعمرة وهذه على؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كنت تصنع في حجك"؟ قال: كنت أنزع هذه المقطعة وأغسل هذا الخلوق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كنت صانعه في حجك فاصنعه في عمرتك". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية "أن أعرابيًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -[وعليه] (¬1) -إما قال: قميص، وإما قال: جبة- وبه أثر صفرة، فقال: أحرمت وهذا عليَّ؟ فقال: "انزع -إما قميصك، وإما جبتك- واغسل هذه الصفرة عنك، وافعل في عمرتك ما تفعل في حجك". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬2): فأخرجه مرسلًا عن حميد بن قيس، عن عطاء "أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحنين" وذكره. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن أبي نعيم، عن همام، عن عطاء، عن صفوان، عن أبيه أتم من هذا. وفي أخرى: عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عطاء. ¬

_ (¬1) من مطبوعة المسند. (¬2) الموطأ (1/ 268 رقم (18)). (¬3) البخاري (1789، 1536).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن شيبان بن فروخ، عن همام، عن عطاء بالإسناد أتم من هذا. وعن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو، عن عطاء. ولهما روايات أخرى. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن محمد بن كثير، عن همام، عن عطاء. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة عن عبد الله بن إدريس، عن عبد الملك ابن [أبي] (¬4) سليمان، عن عطاء، عن يعلى بن أمية قال: "رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابيًا قد أحرم وعليه جبة، فأمره أن ينزعها". وفي أخرى (¬5): عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو عن عطاء، عن صفوان، عن أبيه. وقال: هذا أصح -يعني أنه عن صفوان، عن أبيه، من عطاء، عن يعلى (¬6) -وأما النسائي (¬7): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن عمرو بالإسناد. المقطعة وجمعها المقطعات، قال الأزهري: قال الكسائي: هي الثياب القصار، وسميت الأراجيز مقطعات لقصرها وقال: سمى المقطعات من ¬

_ (¬1) مسلم (180). (¬2) أبو داود (1819). (¬3) الترمذي (835). (¬4) سقط من الأصل والمثبت من الترمذي. (¬5) الترمذي (836). (¬6) ولفظ الترمذي في سننه: هكذا رواه قتادة والحجاج بن أرطاة وغير واحد عن عطاء، عن يعلى بن أمية، والصحيح ما روى عمرو بن دينار وابن جريج عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه عن النبي. (¬7) النسائي (5/ 142).

الثياب: كل ثوب يقطع من قميص وغيره، أراد أن من الثياب الأزدية والمطارف والأطيبة التي لم تقطع، وإنما يتعطف بها مرة ويتلفع بها أخرى، ومنها القمص والجباب والسراويلات التي تقطع تخاط، فهذه هي المقطعات. وقال ابن الأعرابي: المقطعات: برود عليها وشي مقطع. قال: ولا يقال للثياب القصار مقطعات. وقال أبو عمرو: مقطعات الثياب والشعر قصارها. والتضمخ بالطيب: التلطخ به، تضمخ يتضمخ تضمخًا. والخلوق -بفتح الخلوق-: ضرب من الطيب ذو لون أصفر أو أحمر، وقد خلقته به فتخلق أي: طيبته به فأطلى. وقوله: "ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك" يريد: أن أحكام الحج والعمرة في الإحرام واجتناب محظوراته: من المخيط والطيب سواء. وإنما سأله أولاً عما يصنع في حجه: ليأخذ ذلك منه معترفًا به مسلمًا له، فلما سأله وأجابه مقرًا بما كان يصنع في حجه، وعلم منه أنه عارف بما عليه في الحج من الإحرام والاجتناب، أنه قال له: اصنع في عمرتك كذا. ولا يخلو هذا السؤال من أحد أمرين:- إما أنه كان - صلى الله عليه وسلم - عارفًا منه أنه يعلم ما له وعليه في الحج، أو لم يكن عارفًا. فإن كان عارفًا أنه عارف: فيكون سؤاله تقريرًا أو تثبيتًا كما سبق. وإن لم يكن عارفًا بحاله: فلا يخلو أن يكون المسئول عالمًا أو جاهلاً، فإن كان عالمًا فحكمه حكم الأول، وإن كان جاهلاً احتاج أن يعرف أولاً حكم الحج الذي هو الأصل، ثم يتبعه حكم العمرة التي هي فرع على الحج، فإن السائل سأله عن العمرة، وإذا كان جاهلاً بالحج كان توقيف النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه على

أحكام الحج أهم عنده وأولى به. قال الشافعي: وهذا لا يخالف حديث عائشة، إنما أمره - صلى الله عليه وسلم - فيما نرى -والله أعلم- للصفرة عليه، لأنه نهى أن يتزعفر الرجل، وذكر حديث النهي عن التزعفر وسيجيء هذا الحديث. قال الخطابي: في هذا الحديث من الفقه: أن من أحرم وعليه ثياب مخيط، لم يجب عليه إلا نزعها من رأسه ولا يلزمه تمزيقها. وإلى هذا ذهب الفقهاء. وروي عن النخعي أنه قال: يشقه. وعن الشعبي أنه قال: يمزق ثيابه. وهذا خلاف السنة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بخلع الجبة، وخلعها إنما يكون من جهة الرأس. وفيه: أن المحرم إذا لبس ناسيًا فلا شيء عليه، لأن الناسي في المعنى كالجاهل، وهذا الرجل كان حديث العهد بالإِسلام جاهلاً بأحكامه، فعذره النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فلا يلزمه غرامة. قال: وقد يتوهم من لا ينعم النظر أن أمره إياه أن يغسل أثر الخلوق أو الصفرة، إنما كان من أجل أن المحرم لا يجوز له أن يتطيب قبل الإحرام بما يبقى أثره بعد الإحرام، وليس هذا من أجل تلك ولكن من قبل أن التضمخ بالزعفران حرام على الرجل في حال حرمه وحله. وقال القفال الشاشي: وكل ما لبسه الرجال من الثياب الطاهرة المصبوغة، من جلد وشعر، وصوف وقطن فهو مباح ما لم يكن حريرًا أو ديباجًا، أو ما يدخل في عامة ملابس النساء من الثياب المصبغة بالخلوق والعصفر ونحوهما، وكذلك المعصفر بما لا يلبسه إلا النساء، لما فيه من الشهرة ولما له من التزين والرونق والأخذ بالأبصار والقلوب.

قال القاضي أبو الطيب الطبري: لا يجوز له لبس المزعفر لعلتين: إحداهما لإحرامه، والثانية: أن المزعفر محرم على الرجال في حال الإحلال، والورس بمنزلة الزعفران. قال ابن الصباغ في كتاب "الشامل": أما المصبوغ بماء الورس والزعفران فلا يجوز للرجال لبسه لمعنيين: لأن ذلك طيب ولأن الرجل ممنوع من لبس المزعفر، وتمنع المرأة من لبسه لأنه طيب خاصة والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يلبس المحرم ثوبا مصبوغا بورس أو زعفران" وما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجال عن المزعفر، وإذا حرم عليه الزعفران والورس فما عداه من الطيب أولى. وقال المتولي -في تتمة الإبانة-: المصبوغ بالورس والزعفران إذا انقطعت رائحته لا يجوز للرجل لبسه، لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى الرجال عن المزعفر. وهذا يدل أنه أراد به انقطاع الرائحة، لأن في حال بقاء الرائحة لا يختص التحريم بالرجال. وقال القدوري -من أصحاب أبي حنيفة- في شرح مختصر الكرخي: أن المزعفر ممنوع من الرجال. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إسماعيل -الذي يعرف بابن علية- قال: أخبرني عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتزعفر الرجل". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن مسدد، عن عبد الوارث، عن عبد العزيز إسنادًا ولفظًا. ¬

_ (¬1) البخاري (5846).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وقتيبة وأبي الربيع، عن حماد، عن عبد العزيز. وعن أبي بكر والناقد وزهير بن حرب وابن نمير وأبي كريب، عن ابن علية، عن عبد العزيز إسنادًا ولفظًا. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن حماد بن زيد وإسماعيل بن إبراهيم، عن عبد العزيز. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن حماد بن زيد. وعن إسحاق بن منصور، عن [عبد الرحمن بن] (¬4) مهدي، عن حماد، عن عبد العزيز بن صهيب. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن إسماعيل، عن عبد العزيز. التزعفر: التلطخ بالزعفران، زعفرت الثوب إذا صبغته بالزعفران. واللام في "الرجل" لام الجنس، يريد أن التزعفر حرام على الرجال، ويعضده ما جاء في رواية أبي داود: نهى عن التزعفر للرجال. وفي قوله: "نهى أن يتزعفر" محذوف تقديره نهى أن يتزعفر بمعنى المصدر، التقدير: نهى الرجل عن التزعفر، لأنك إنما تقول: نهيته عن كذا لا نهيته كذا، وإنما حذف "عن" لكثرة الاستعمال وفهم الخطاب. وهذا هو الحديث الذي أشرنا أن الشافعي أخرجه عقيب الحديث الأول، وإنما ¬

_ (¬1) مسلم (2101). (¬2) أبو داود (4179). (¬3) الترمذي (2815). وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) سقط من الأصل والمثبت من رواية الترمذي وهو الصواب. (¬5) النسائي (5/ 141).

ذكره تقريرًا لما قاله: من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أمر الأعرابي بغسل الخلوق، لأنه عليه حرام سواء كان محرمًا أو محلًا. قال الشافعي: لا يجوز أن يكون أمر الأعرابي أن يغسل الصفرة إلا لما وصفت؛ لأنه لا ينهى عن الطيب في حال ما يتطيب فيها - صلى الله عليه وسلم - ولو كان [نهيه إياه] (¬1) لأنها طيب كان أمره إياه حين أمره بغسل الصفرة عام الجعرانة وهي سنة ثمان، وكان حجه حجة الإِسلام وهي سنة عشر، فكان تطيبه لإحرامه ولحله ناسخًا لأمره الأعرابي بغسل الصفرة، قال: والذي خالفنا يروى أن أم حبيبة طيبت معاوية. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر "أنه سئل أيشم المحرم الريحان والدهن والطيب؟ فقال: لا". شممت -بكسر الميم- أشم بفتح الشين. والريحان: هو النبات المعروف، ويقع على (¬2) غيرهن كل نبات له ريح طيبة كالورد والياسمين والبهار (¬3) ونحو ذلك. والذي ذهب إليه الشافعي: أن شم الريحان والتطيب به حرام على المحرم، لا يجوز له استعماله في حال إحرامه. وتفصيل القول في الطيب: أن كل ما يقصد رائحته وإن بعد منه غيَّره كالزعفران والورس، وأما الفواكه الطيبة الرائحة: كالسفرجل والتفاح والأترج، والأدوية كالقرنفل والدارصيني فليست طيبًا، وأما النبات ذو الرائحة الطيبة، فثلاثة أضرب:- ضرب يقصد شمه ويتخذ طيبًا: كالورد والنسرين واللينوفر وهذا طيب، ¬

_ (¬1) من المعرفة (7/ 115). (¬2) تكررت في الأصل. (¬3) نبت جعد له فقَّاحة صفراء ينبت أيام الربيع يقال له العرارة. لسان مادة "بهر".

وتجب الفدية بشمه ويجري مجرى الزعفران والورس والعود والكافور. وضرب يقصد شمه ولا يتخذ طيبًا: كالريحان والمزربخوس والمنثور, فقال الشافعي في القديم: ليس طيبًا، وقال في الجديد: هو طيب. وضرب لا يقصد شمه ولا يتخذ طيبًا: كالسفرجل والتفاح، والأدوية كالقرنفل والزنجبيل، فليس بطيب ويجوز شمه. وقال أبو حنيفة ومالك: لا تجب الفدية بشم شيء من ذلك. وأما الدهن فعلى ضرين:- ضرب ليس بطيب: كالشيرج والزيت والسمن ويجوز استعماله في بدنه دون رأسه. وقال أبو حنيفة: إذا استعمل الشيرج والزيت وجبت الفدية سواء استعمله في بدنه أو شعره، إلا أن يداوى به جميعاً ونحوه. وعن أحمد فيه روايتان. وقد أخرج الشافعي في القديم: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه يكره شم الريحان للمحرم". قال الشافعي: وهذا القول أحوط وبه نأخذ.

النوع الثالث الغسل والحمام

النوع الثالث الغسل والحمَّام أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الدراوردي وحاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: حدثنا جابر -وهو محدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "فلما كنا بذي الحليفة ولدت أسماء بنت عميس فأمرها بالغسل والإحرام". وقد روى المزني (¬1) عنه عن حاتم بن إسماعيل وإبراهيم بن يحيى، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: "لما كنا بالبيداء ولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مرها -أو مروها- فلتغتسل ثم لتهل". وررى المزني (¬2) أيضًا عنه عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه "أن أسماء بنت عميس ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "مرها فلتغتسل ثم لتهل". هذا الحرف من حديث طويل صحيح أخرجه مسلم وأبو داود، وأخرج النسائي منه طرفًا. أما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، وإبراهيم بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم بن إسماعيل. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي، وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن، عن حاتم بن إسماعيل. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (515). (¬2) السنن المأثورة (514). (¬3) مسلم (1218). (¬4) أبو داود (1905).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن جعفر بن محمد. وهذا الحديث مسوق لبيان الاغتسال قبل الإهلال، وفيه من الفقه. أن إحرام المحدث يصح، لأن أسماء لما ولدت كانت في نفاسها, ولا شبهة أن غسل النفساء والحائض لا يصح ولا يطهرها، ما لم تنقض أيام نفاسها وحيضها ثم تغتسل فتطهر، وإنما أمرها بالغسل تشبيها بالمحرمين واقتداء بأفعالهم، طمعًا في درك الفضيلة التي نالوها. وغسل الإحرام: غسل مسنون مستحب للرجل والصبي والمرأة والحائض والنفساء. قال الشافعي: فإن كان الوقت على الحائض والنفساء واسعًا، أحببت لكل واحد منهما أن يقيم حتى يطهر، ثم يغتسل ويحرم ليكون على أكمل حالهما، فإن ضاق الوقت اغتسلت حائضًا وأحرمت. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه أن ابن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، فقال المسور: لا يغسل المحرم رأسه، فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري، فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوب، قال: فسلَّمت، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد الله، أرسلني إليك ابن عباس أسألك. كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم؟ قال: فوضع أبو أيوب يديه على الثوب فطأطأه حتى بدا إليَّ رأسه، ثم قال لإنسان يصب عليه: اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، قال: هكذا رأيته (¬2) يفعل. ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 164). (¬2) في الأم (2/ 146): [هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ...].

هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. أما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما البخاري (¬2) فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن قتيبة وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير ابن حرب، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم. وعن قتيبة، عن مالك. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. الأبواء: موضع بين مكة والمدينة. والقرنان: هما قرنا البئر وهما عضادتاها المبنيتان من جانبيها لتعلق البكرة عليها. وهذا الحديث مسوق: لبيان جواز اغتسال المحرم للجنابة والتنظف والتبرد، وأن يغتسل بالسدر والخطمي. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز حتى إن اغتسل بهما وجبت عليه الفدية. قال الشافعي: إن كان يريد الاغتسال لتبرد أو تنظف لم يحرك شعره بيده وإن كان للجنابة أحببت أن يغسله ببطون أنامله ولا يحرك شعره بأظفاره، ويخلل الماء في أصول شعره تخليلاً رقيقًا، فإن حركه تحريكًا خفيفًا أو شديدًا ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 264 رقم 4). (¬2) البخاري (1840). (¬3) مسلم (1205). (¬4) أبو داود (1840). (¬5) النسائي (5/ 128).

فخرج في يده من الشعر شيء فالاختيار أن يفديه، ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قطعه أو نتفه، لأنه قد ينتف ويتعلق بين الشعر، فإذا مس أو حرك خرج وسقط، قال: وذلك هكذا في لحيته. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، أخبرني عطاء أن صفوان بن يعلى أخبره عن أبيه يعلى بن أمية قال: "بينما عمر بن الخطاب يغتسل إلى بعيره وأنا أستر عليه بثوب، إذ قال عمر بن الخطاب: يا يعلى، اصبب على رأسي. فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال عمر بن الخطاب: والله ما يزيد الماء الشعر إلا شعثًا فسمى الله، ثم أفاض على رأسه". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬1): عن حميد بن قيس، عن عطاء: "أن عمر بن الخطاب قال ليعلى بن منية -وهو يصب على عمر بن الخطاب وهو يغتسل-: "اصبب على رأسي، فقال له يعلى: أتريد أن تجعلها فيّ؟ إن أمرتني صببت، فقال له عمر بن الخطاب: اصبب فلن يزيد الماء إلا شعثا". وقد أخرج الشافعي هذه الرواية أيضًا في القديم (¬2)، عن مالك، عن حميد. وأخرجه أيضًا: عن مسلم بن خالد وغيره، عن ابن جريج. قوله: "اصبب على رأسي" يحتمل أن يكون أمرًا، وأن يكون استفهامًا، فأما يحيى بن يحيى الغساني فإنه رواها بالاستفهام وأما ابن وضاح فإنه رواه بالأمر، إلا أن رواية الشافعي الأظهر فيها أن يكون استفهامًا، لأنه قال يعلى في الجواب: أمير المؤمنين أعلم، ولو كان أمرًا لم يقل له ذلك، أو يجوز أن يكون قال له هذا القول على سبيل الاستظهار، وإقامة عذر نفسه عنده، فإنه لما استغرب أمره إياه بالصب عليه وحصل في نفسه منه شيء، قال له: أمير المؤمنين أعلم. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 265 رقم 5). (¬2) المعرفة (7/ 173).

وكذلك رواية مالك: فالاستفهام فيها أظهر، لأنه لما قال له: اصبب على رأسي، أراد أن يأخذ ما عنده في ذلك لتقوى عزيمته على الغسل، فقال له يعلى: أتريد أن تجعلها في، أي: أتريد أن تقلدني أمر ذلك وتجعلني الآثم، وهذا إنما يكون جواب الاستفهام لا جواب الأمر، لأنه إذا أمره وامتثل أمره لم يكن عليه معه في ذلك، فالتأنيث في قوله: أن تجعلها في "راجع إلى القضية والحالة". والشعث: تغير حالة الشعر عن الاستواء لبعد العهد بالتسريح والاغتسال، وهو من التفرق، يقال: لم الله شعثه، أي ضمه وجمعه. والماء: قال عمر: إن الماء لا يزيد الشعر إلا شعثا، لأن المحرم إذا أراد أن يغتسل لا يمكنه تسريح شعره، لأن المشط ينثره فيلزمه الفدية، فإذا قلب الماء عليه وهو على حالة شعث ولم يسرحه إذًا زاد بالماء شعثا، لأن التراب إذا وقع على النداوة لصق بها وثبت عليها. وقوله في رواية الشافعي: "يسمي الله وأفاض على رأسه" يجوز أن يكون المفيض عمر وأن يكون يعلى، على اختلاف التقدير في الأمر والاستفهام. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ربما قال لي عمر بن الخطاب: تعال أباقيك في الماء أينا أطول نفسا ونحن محرمون. أباقيك: من البقاء الثبات والدوام، المعنى يقال: نغوص في الماء ونبصر أينا يبقى في الماء أكثر، تقول: باقيته أباقيه مباقاة، وقد روي في هذا الأمر في بعض الكتب فقال: "أنافسك" بالفاء والسين من النفس، والذي جاء في المسند بالقاف والياء كما ذكرنا. وربما يجوز أن يكون بمعناها الحقيقي وهو التعليل، وأن يكون قصد معناها وهو التكثير، وكأنه فيها أحسن لأنه مستدل بوقوع هذا الفعل من عمر وكثرة

وقوعه أدل على جوازه. وقوله: "ونحن محرمون" وإنما أراد الناس كانوا محرمين في موسم الحج وهما في الجملة. وتعال: أمر بالمجيء مبني على الفتح للرجل والمرأة، إلا أنك تضف إليها ياء فتقول: تعالي، وللرجلين والمرأتين تعاليا, وللرجال: تعالوا, وللنساء: تعالين، بالفتح في الكل. وقد أخرج الشافعي (¬1): عن سفيان بن عيينة، عن أيوب عن نافع، عن أسلم -مولى عمر- قال: "تماقل عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وهما محرمان، وعمر ينظر". وأخرج أيضًا: عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء أنه بلغه "أن ناسًا تماقلوا بين يدي عمر بن الخطاب وهم بساحل من السواحل، وعمر بن الخطاب ينظر إليهم فلم ينكره عليهم". تماقلوا: تفاعلوا من المقل وهو الغمس في الماء، مقله في الماء مقلًا غمسه فيه، ومنه الحديث: "إذا وقع الذباب في الطعام فامقلوه -أي اغمسوه فيه- فإن في أحد جناحيه سمًا وفي الآخر الشفاء". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن أبي يحيى، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه دخل حمامًا وهو بالجحفة، وقال: ما يعبأ الله بأوساخنا شيئًا. هكذا جاء هذا الحديث في المسند في كتاب "الحج" من الأمالي، وقد روى عن الشافعي: عن ثقة -إما ابن عيينة، وإما عن غيره- عن أيوب وذكر إلى قوله: وهو محرم. ¬

_ (¬1) الأم (2/ 146).

وقوله "ما يعبأ الله" أي ما يكترث ولا يبالي ولا يريد منا أن نكون وسخين ولا يرغب فيه، كيف والطهارة والوضوء والنظافة من أهم آداب الشريعة، وأتم فرائضها وأحسن أوضاعها، وقد أوجب الشرع ذلك في مواضع وحث عليه. قال الشافعي: ولا بأس أن يدخل المحرم الحمام ويغتسل. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من احتلام". قال الشافعي: ونحن ومالك لا نرى بأسًا أن يغسل المحرم رأسه. قال: وقد يذهب على ابن عمر وغيره السنن، ولو علمها ما خالفها ولا رغب عنها إن شاء الله تعالى.

النوع الرابع الحجامة والتداوي والكحل

النوع الرابع في الحجامة والتداوي والكحل أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء وطاوس -أحدهما أو كليهما-، عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة (¬1) إلا الموطأ. وقد تقدم ذكره وذكر طرقه ومعناه في كتاب الصوم، إلا أن رواية الشافعي هناك رواها عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم محرمًا صائمًا" فذكرنا الحديث هناك لأجل قوله: صائمًا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الفصد والحجامة يجوزان للمحرم. وبه قال مسروق، وعطاء، وعبيد بن عمير، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: لا يحتجم إلا من ضرورة. وروي ذلك عن ابن عمر. وكان الحسن يرى على من احتجم دمًا. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه وهو محرم، وهو يومئذ بلحى جمل". وقد جاء هذا الحديث مسندًا في صحيح البخاري (¬2)، رواه خالد بن مخلد، عن سليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن عبد الرحمن الأعرج، عن ¬

_ (¬1) البخاري (1835)، مسلم (1202)، أبو داود (1835)، الترمذي (839)، النسائي (5/ 193). (¬2) البخاري (1836).

عبد الله بن بحينة قال: "احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلحى جمل -وهو محرم- وسط رأسه". وأخرج هذا الحديث مسلم (¬1) والنسائي (¬2). ولحى الجمل: موضع بطريق مكة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: "لا يحتجم المحرم إلا أن يضطر إليه مما لا بد منه". قال: وقال مالك مثل ذلك. هذا الحديث أخرجه الشافعي عقيب الحديث الذي قبله في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬3)، وقال: لعل ابن عمر كره ذلك ولم يحرمه، ولعله أن لا يكون قد سمع هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - -يعني أنه احتجم وهو محرم- ولو سمعه ما خالفه إن شاء الله تعالى. واضطر: افتعل من الضرورة وهي الحاجة، تقول: حملتني الضرورة على هذا الأمر، وقد اضطر فلان -بضم الطاء- إلى كذا، أي ألجئ إليه وأكره عليه، فلما اجتمعت التاء والضاد -في اجتماعهما ثقل في النطق واستكراه- قلبوا التاء طاء، لأن الطاء من مخرج التاء وهي قريبة من الضاد سهلة من النطق معها، والمصدر: الاضطرار. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان إذا رمد وهو محرم أقطر في عينيه الصبر إقطارًا"، وأنه قال: "يكتحل المحرم بأي كحل إذا رمد ما لم يكتحل بطيب ومن غير رمد" -ابن عمر القائل. الرمد: مرض يعرض للعين، رمد الرجل -بالكسر- يرمد -بالفتح- رمدًا ¬

_ (¬1) مسلم (1203). (¬2) النسائي (5/ 194). (¬3) الأم (7/ 212).

فهو رمد، والعين رمدة. وقطر الماء، والدمع يقطر قطرًا وقطرته يتعدى ولا يتعدى، وقطرت الشيء تقطيرًا أسلته قطرة، وأما أقطرته فإنه يجوز أن يكون قد عداه بالهمزة، تقول: قطر الماء وأقطرته. ويجوز أن تكون الهمزة همزة التعريض للشيء، كقولك: أبعت الدابة، أي عرضتها للبيع، والإقطار مصدر أقطرت. والصبر: دواء معروف وهو مكسور الباء. ومعنى قوله: "ابن عمر القائل" إيضاح وبيان لما في الحديث حتى [لا] (¬1) يظن أن القائل نافع أو غيره من الرواة، لأنه قال في أول الحديث: عن ابن عمر "أنه كان إذا رمد وهو محرم أقطر الصبر في عينيه" فهذا لفظ نافع حكاية عن فعل ابن عمر، ثم قال: وأنه كان يكتحل المحرم إلى آخر الحديث. فيجوز أن يكون هذا اللفظ منسوبًا إلى نافع أو إلى ابن عمر، فلما احتمل الأمرين خصص القول بمن هو له. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الكحل لا بأس به إلا أن يكون فيه طيب فلا يجوز الاكتحال به لأجل الطيب. وأومأ في "الأم" وصرح في "الإملاء" أنه يكره. قال: والكحل في المرأة أشد -يعني كراهة- هذا مع عدم الحاجة إليه، فأما مع الحاجة إليه فلا يكره. وخصص ورخص في الكحل: الثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، إلا أن أحمد وإسحاق قالا: لا يعجبنا ذلك للزينة. وقال مالك: لا بأس به. وكرهه للمرأة: الثوري وأحمد وإسحاق. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وأثبته لضرورة السياق.

النوع الخامس في نكاح الحرم وإنكاحه

النوع الخامس في نكاح المحرم وإنكاحه أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن نبيه بن وهب -زاد في نسخة يعني- أحد بني (¬1) عبد الدار، عن أبان بن عثمان، عن عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المحرم لا ينكح ولا يخطب". وأخبرنا الشافعي: عن مالك، عن نافع، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان عن عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكِح ولا يخطب". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع -مولى ابن عمر- عن نبيه بن وهب -أخي بني عبد الدار- أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة (¬2) بن جبير فأرسل إلى أبان بن عثمان ليحضره ذلك وهما محرمان، فأنكر ذلك عليه أبان وقال: سمعت عثمان يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكِح ولا يخطب". هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري. أما مالك (¬3): فأخرجه عن نافع، عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى أبان بن عثمان، وأبان يومئذ أمير الحج وهما محرمان -وذكر الرواية الثالثة. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك نحو روايته. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك نحو روايته. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل ابن علية، عن ¬

_ (¬1) في الأصل [حدثني] وهو تصحيف. (¬2) زاد في الأصل بعد (شيبة): [قتيبة] وهي مقحمة والصواب حذفها. (¬3) الموطأ (1/ 283 رقم 70). (¬4) مسلم (1409). (¬5) أبو داود (1841). (¬6) الترمذي (840) وقال: حسن صحيح.

أيوب، عن نافع، عن نبيه، وذكر نحو مالك ولم يقل: يخطب، إنما قال في آخره: أو كما قال. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، وذكر المسند فقط. وفي أخرى: عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان مثل الشافعي. النكاح في أصل اللغة: الوطء، ثم سمي به التزوج لأن التزويج سبب الوطء، ويجوز أن يسمى الشيء باسم سببه وأكثر ما جاء لفظ النكاح في كتاب الله -عز وجل- وكله على معنى التزويج دون الوطء، كقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬2)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬3)، وقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬4) وأمثال ذلك كثير. والمحرم: يريد به الذي تَلَبَّس بأعمال الحج وأحرم به، والمراد بالنكاح في هذا الحديث: العقد لا الوطء، بدليل ما جاء في رواية مالك وباقي الأئمة، ولو صرفه صارف إلى الوطء إلا أن القصة تخالفه. وقولى: "لا ينكح ولا ينكح" إحدى اللفظين مفتوحة الياء من نكح ينكح إذا كان الفعل له ويكون الفعل ثلاثيًا، والثانية مضمومة الياء من أنكح ينكح إذا زوج ابنته أو أخته، أو ابنه ومن هو وليه وعلى الاثنتين. قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}. والخِطبة بكسر الخاء، وفي النكاح: هي طلب التزويج، خطبت المرأة أخطبها خِطبة، وحقيقته أنه سأل المرأة حاجته في نفسها، وهو من قولهم: ما خطبك ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 192). (¬2) [النور: 32]. (¬3) [الأحزاب: 49]. (¬4) [البقرة: 221].

أي ما أمرك وما حاجتك، وقيل: الخطبة الذكر. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه لا يجوز للمحرم (¬1) أن يتزوج ولا يزوج (¬2)، ولا يكون وليًا في نكاح ولا وكيلًا وكذا المحرمة. وروى ذلك عن عمر، وعلي، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وابن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري. وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يتزوج ويزوج. وبه قال الحكم. وأما الخطبة: فإن الشافعي قال: وأحب أن لا يخطب فهذا لا يحرم الخطبة عنده. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن شهاب قال: أخبرني يزيد بن الأصم: "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - نكح وهو حلال" قال عمرو: وقلت لابن شهاب: أتجعل يزيد بن الأصم إلى ابن عباس. هذا حديث صحيح أخرجه الشافعي هكذا مرسلًا عن يزيد بن الأصم، وقد أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي مسندًا. أما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن آدم، عن جرير بن حازم، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال". قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن حبيب ابن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة قالت: "تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان بسرف". ¬

_ (¬1) في الأصل: [كالمحرم] والسياق غير مستقيم والمثبت هو الأقرب. (¬2) في الأصل: [يتزوج] وهو خطأ والمثبت هو الصواب. (¬3) مسلم (1411). (¬4) أبو داود (1843).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن منصور، عن وهب بن جرير، عن أبي فزارة، عن يزيد، عن ميمونة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال وبنى بها حلالاً، وماتت بسرف ودفناها في الظلة التي بني بها فيها". وقد روى هذا الحديث الحميدي عن سفيان وزاد فيه قال: نكح ميمونة وهو حلال -وهي خالته- قال: فقلت لابن شهاب: أتجعل أعرابيًّا بوالًا على عقبيه إلى ابن عباس؟! وهي خالة ابن عباس أيضًا. وقد ذكره الشافعي في رواية المزني عنه (¬2). الحلال: ضد الحرام ولا يرد به من ليس بحرم. وقوله: "أتجعل يزيد بن الأصم إلى ابن عباس" يريد: أن ابن عباس روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم، وقد تعاضدت الروايات على تخريج حديث ابن عباس وهو حديث صحيح. معنى أتجعل يزيد بن الأصم إلى ابن عباس أي: أتقيس ذا إلى ذا كأنه إنكار لأن يعارض حديث ابن عباس مع تقدمه في العلم واشتهاره في الصحابة والرواية بحديث يزيد بن الأصم مع نزوله عن مرتبة ابن عباس، فقال عمرو بن دينار هذا القول للزهري كالمنكر له، ويعضد ذلك ما جاء في الرواية "أتجعل أعرابيًّا بوالًا على عقبيه" وهذا الذي ذكره عمرو بن دينار لا يوجب طعنًا في رواية يزيد بن الأصم، فإنه لو كان ضعفًا أو مطعونا فيه لما احتج ابن شهاب به، وإذا قصد عمرو بما قال ترجيح حديث ابن عباس على حديث يزيد، فالتزويج يقع بما قال، لو كان يزيد روى الحديث مرسلًا كما رواه ابن عباس مرسلاً، لأن ابن عباس روى الحديث ولم يشهد وقت زواج ميمونة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها في عمرة القضاء وابن عباس لم يشهد عمرة القضاء، ويزيد وإن كان لم يشهد عمرة القضاء فإنما روى حديثه مرة مرسلاً؛ ومرة مسندًا عن خالته ميمونة وهي أخبر ¬

_ (¬1) الترمذي (845). وقال: هذا حديث غريب. (¬2) السنن المأثورة (492).

بشأن زواجها، والحديث إذا روي مرة مرسلًا ومرة مسندًا فإرساله لا يقدح في إسناده (¬1)، وقد أشبع الشافعي -رحمه الله تعالى- الكلام على هذا الحديث، ونحن نذكر قوله. قال الشافعي: وقد روى بعض قرابة ميمونة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة محرمًا" -يريد ابن عباس- قال: فكان أشبه الأحاديث أن يكون ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نكح ميمونة حلالاً، فإن قيل: ما يدل على أنه أثبتها؟ قيل: روى عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "النهي عن أن ينكح المحرم ولا ينكح" وعثمان متقدم الصحبة، ومن روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكحها محرمًا لم يصحبه إلا بعد السفر الذي نكح فيه ميمونة، وإنما نكحها قبل عمرة القضية، وقيل: إنه إذا اختلف الحديثان فالمتصل الذي لا شك فيه، أولى عندنا أن يثبت لو لم تكن الحجة إلا فيه نفسه، ومع حديث عثمان [ما] (¬2) يوافقه وإن لم يكن متصلًا اتصاله، فإن قيل لمن روى: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكحها محرمًا قرابة تعرف نكاحها؟ قيل: ولابن أختها يزيد بن الأصم ذلك المكان منها ولسليمان بن يسار منها مكان الولاية، شبيها به أن يعرف نكاحها، فإذا كان يزيد بن الأصم وسليمان بن يسار مع مكانهما يقولان: ينكحها حلالاً، وكان ابن المسيب يقول: نكحها حلالاً، ذهبت العلة في أن نثبت من قال: نكحها وهو محرم بسبب القرابة، وبأن حديث عثمان الإسناد المتصل لا شك في إيصاله أولى أن يثبت مع موافقة ما وصفت، فأي محرم نكح أو أنكح فنكاحه مفسوخ بما وصفت من نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المحرم. وقد روى الشافعي بإسناده عن عمر بن الخطاب: أنه رد نكاح المحرم. ورواه عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وروي عن علي بن أبي طالب، وهو قول ¬

_ (¬1) وليس هذا مطردًا، وكل حديث له قرائن والترجيح إنما يكون للحافظ على من دونه. (¬2) من المعرفة (7/ 186).

عثمان. فهؤلاء ثلاثة من الخلفاء الراشدين على رد نكاح المحرم، ومعهم إمامان آخران ابن عمر وزيد بن ثابت، وذلك أولى أن يعمل به. وقد رجح من لا يجيز نكاح المحرم: بأن النهي الذي ورد من النبي - صلى الله عليه وسلم - قول، والذي ذكر من حديث ميمونة فعل، والقول مقدم في الأخذ به على الفعل، لأنه يتعدى والفعل قد يكون مقصورًا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه قد خص في النكاح وغيره بخصائص. وقد روي حديث ميمونة أيضًا أنه تزوجها وهو حلال، وهذا مما يقوي تقديم القول على الفعل، لأن القول أولى بأن يقدم على فعل مختلف فيه، ويصح بناء الروايتين على القول، فيقال: من روى أنه تزوجها وهو حلال فهو الأصل، ومن روى أنه تزوجها وهو محرم فإنما يريد أنه في الحرم لا أنه متلبس بالإحرام، لأنه يقال لمن دخل الحرم: محرم، وإن لم يكن قد عقد الإحرام ونواه، فيمكن الجمع بين الروايتين بهذا التأويل ولا يتناقضان. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا رافع -مولاه- ورجلًا من الأنصار، فزوجاه ميمونة والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة". وأخبرنا بهذا الإسناد مثله وزاد فيه: فقالت ميمونة بنت الحارث قال: وهو بالمدينة لم يخرج. هكذا أخرجه في كتاب نكاح الشغار. هذا الحديث هكذا جاء في الموطأ مرسلًا (¬1)، وقد أخرجه الترمذي (¬2) مسندًا عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال: "تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما, قال: ولا نعلمه أسنده أحد غير حماد عن مطر الوراق. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 282 رقم 69). (¬2) الترمذي (841) وقال: هذا حديث حسن.

قوله: "والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة" جملة في موضع الحال والعامل فيها أحد فعلين: إما "بعث"، وإما "زوجاه"، فإن كان "بعث" فيكون التقدير: بعثهما وهو بالمدينة، وقوله: "فزوجاه" جملة معطوفة على بعث ولا تعلق لها بالجملة الحالة. وإن كان العامل "زوجاه" فيكون المعنى: زوجاه منها والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ بالمدينة. ولكلا التقديرين وجه. والشافعي إنما استدل بهذا الحديث: على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال. وإن جعلنا العامل "بعث" كان التقدير: بعثهما وهو بالمدينة وهو حلال؛ لأنه إنما يحرم من الميقات بعد خروجه من المدينة. وإن جعلنا العامل "زوجاه": كان أظهر لأنه إذا زوجاه وهو بالمدينة فهو حلال لا شك فيه. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن مسلمة، عن إسماعيل بن أمية، عن سعيد بن المسيب أنه قال: "وهل (¬1) فلان، ما نكح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة إلا وهو حلال". وأخبرنا الشافعي بالإسناد قال: أوهم الذي روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة وهو محرم، ما نكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وهو حلال. وهل إلى الشيء -بفتح الهاء- يهل -بالكسر- وهلاً: إذا ذهب وهمه إليه وهو يريد غيره، مثل: وهمت -بالفتح- ووهل في الشيء وعنه -بالكسر. وهذا فلان المكنى عنه هو: عبد الله بن عباس لأنه هو الذي روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن داود بن الحصين، ¬

_ (¬1) في مطبوعة المسند (وهم).

عن أبي غطفان بن طريف المري أنه أخبره أن أباه طريفًا تزوج امرأة وهو محرم، فرد عمر بن الخطاب نكاحه. هذا الحديث أخرجه في الموطأ (¬1)، وقد استدل به الشافعي على ما ذهب إليه وهو قوي في الدلالة، لأن رد عمر نكاحه صريح في إبطال نكاح المحرم؛ لأنه الإِمام وقد أبطل النكاح، والصحابة في زمانه متوافرون ولم ينكره أحد منهم. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك، عن نافع أن ابن عمر قال: "لا يَنْكِح المحرم ولا يُنْكِح، ولا يخطب على نفسه ولا على غيره". وهذا الحديث قد أخرجه في الموطأ (¬2). وقال ابن عمر: كان يقول: لا ينكح المحرم ... الحديث. وكل هذه الأحاديث أخرجها الشافعي -رحمه الله تعالى- مؤكدة لما ذهب إليه من المنع من نكاح المحرم وإنكاحه. ... ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 283 رقم 71). (¬2) الموطأ (1/ 283 رقم 72).

النوع الساددس في لبس الحلي وحمل السلاح

النوع السادس في لبس الحلي وحمل السلاح أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد [عن] (¬1) ابن جريج قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة أنها قالت: "كنت عند عائشة إذ جاءتها امرأة من نساء بني عبد الدار يقال لها: تملك، قالت: يا أم المؤمنين، إن ابنتي فلانة حلفت أن لا تلبس حليها في الموسم، فقالت عائشة: قولي لها إن أم المؤمنين تقسم عليك إلا لبست حليك كله". هذا الحديث مسوق لبيان: جواز لبس الحلي في الإحرام، وأنه ليس مما نهي عن لبسه. وفيه بيان جواز نقض اليمين إذا كانت على حلال، ولكن تجب فيها الكفارة. والموسم: أيام الحج، والجمع المواسم. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك، عن نافع "أن ابن عمر كان يكره لبس المنطقة للمحرم". قال الشافعي: من استجاز خلاف ابن عمر ولم يرد خلافه إلا عن ابن المسيب، لحقيق أن يخالف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول ابن عمر. والذي جاء في الموطأ (¬2): روى مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول -في المنطقة يلبسها المحرم تحت ثيابه- أن لا بأس بذلك، إذا جعل في طرفها جميعًا شبرين يعقد بعضها إلى بعض. قال مالك: وهذا أحب ما سمعته في المنطقة إلي. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى، عن عبد الله ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند. (¬2) الموطأ (1/ 267 رقم 13).

ابن أبي بكر أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدموا في عمرة القضية متقلدين للسيوف وهم محرمون. عمرة القضية وعمرة القضاء: هي التي اعتمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عوضًا عن العمرة التي كانوا أحرموا بها في سنة الحديبية، وصدهم المشركون عن الدخول إلى مكة ووقع الصلح بينهم: أن يعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من قابل، ويمكنوهم من الدخول إلى مكة والطواف بالبيت، واشترطوا أن لا يدخلها بسلاح إلا بالسيف في قرابه، والحديث مشهور صحيح متفق عليه، والتقلد بالسيف جائز أن يفعله المحرم. وقوله: "متقلدين" منصوب على الحال من قدموا، أي قدموا مكة وهم متقلدون السيوف في حالة الإحرام. وسنة الحديبية كانت سنة ست، وعمرة القضاء سنة سبع.

النوع السابع في الصيد

النوع السابع في الصيد وهو قسمان: الأول في أكل الصيد أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثَّامة "أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًّا وهو بالأبواء أو بودَّان، فرده عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[ما في وجهي] (¬1) قال: "إأنَّا لم نرده عليك إلا أنا حرم". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا أبا داود. أما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري وقال فيه: فلما رأى ما في وجهه من الكراهة. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. ومن الرواة من قال: عن ابن عباس أن الصعب أهدى فجعله من مسند ابن ¬

_ (¬1) سقط من الناسخ واللفظ ثابت في الشرح كما سيأتي بعد قليل. (¬2) الموطأ (1/ 286 رقم 83). (¬3) البخاري (1825). (¬4) مسلم (1193). (¬5) الترمذي (849). وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) النسائي (5/ 183، 184).

عباس، والأكثرون على أنه من مسند الصعب، فإن الصعب أخبر ابن عباس أنه أهدى، ويعضد ذلك قوله: فلما رأى ما في وجهي فهو المخبر عن نفسه، وكذا رواه عن الزهري: شعيب بن أبي حمزة، وصالح بن كيسان، والليث بن سعد، ومعمر بن راشد، وابن أبي ذئب، ومحمد بن إسحاق بن يسار، ومحمد بن عمرو بن علقمة. فقوله: "أهديت إليه" "وله" بمعنى، وحروف الجر يقوم بعضها مقام بعض، وإلا فأصل تعدى "أهدى" إنما أو بإلى لا باللام، ويجوز أن تكون اللام لام أجل أي أهدى لأجله، والأول الوجه. والأبواء وودان: موضعان بين مكة والمدينة. وقوله: "فلما رأى ما في وجهي" يريد من التغير بسبب رد هديته، وذلك أنه كره ردها عليه فبان أثر ذلك عليه، وقد صرح بذلك في رواية الترمذي. والحرم: جمع حرام وهو المحرم بالحج أو العمرة. وقوله: "إلا أنا حرم" يريد إلا لأنا حرم فحذف اللام وهي مرادة، لأنها لام التعليل والسبب في الرد. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن ما صاده المحرم لا يحل له أكله، وكذلك ما صاده له الحلال بأمره أو بغير أمره، إذا كان من المحرم فيه معونة أو استشارة. وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن فيه معونة أو أمر بصيده لم يحرم عليه أكله. قال ابن المنذر: كان عمر، والزبير، وأبو هريرة، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير يرون للمحرم أكل الصيد، وكان علي وابن عمر لا يريان أكله، ذكر ذلك جابر بن زيد، وطاوس، والثوري.

وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم، عن ابن جريج وأخبرني مالك، عن أبي النضر -مولى عمر بن عبيد الله التيمي- عن نافع -مولى أبي قتادة الأنصاري- أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان ببعض طريق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين -وهو غير محرم- فرأى حمارًا وحشيًا فاستوى على فرسه، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا، فسألهم رمحه فأبوا، فأخذ رمحه فشد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبى بعضهم، فلما أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن ذلك، فقال: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي قتادة في الحمار الوحشي مثل حديث أبي النضر، زاد في بعض النسخ إلا أن في حديث زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هل معكم من لحمه شيء". هذا الحديث والذي قبله أخرجه الشافعي في اختلاف الأحاديث، وهو حديث صحيح أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرجه بالإسنادين المذكورين. وأما البخاري (¬2): فأخرجه من طرق كثيرة منها: عن سعيد بن الربيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وقتيبة، عن مالك، عن أبي النضر وزيد بن أسلم. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، عن أبي النضر. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 284 رقم 76، 87). (¬2) البخاري (1822). (¬3) مسلم (1196). (¬4) أبو داود (1852).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن أبي [النضر] (¬2). وهذا الحديث هكذا جاء في المسند، وقد قدم على إسناد مالك الإسناد المذكور في أوله عن مسلم [و] (¬3) سعيد بن سالم، عن ابن جريج، وعن مالك، عن أبي النضر وزيد بن أسلم. هذا ظاهر اللفظ. ورأيت الإِمام أحمد البيهقي قد ذكر كلامًا في معنى هذا الإسناد هو أعلم بما قاله وأقوم به، وأنا أحكي قوله كما قاله (¬4) قال: ذكر هذا الإسناد إلى ابن جريج، ثم ذكر حديث مالك بإسناده عن أبي قتادة، فتوهم أبو عمرو بن مطر أو غيره ممن خرج المسند من المبسوط، أنه مضموم إليه في حديث أبي قتادة وليس كذلك، وإنما أراد الشافعي -والله أعلم- ما أخبرنا أبو الحسين بن الفضل قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر قال: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثني أبو عاصم، عن ابن جريج قال: حدثني محمد بن المنكدر، عن معاذ ابن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أبيه قال: كنا مع طلحة بن عبيد الله وهم حرم، فأهدي له لحم طير وطلحة راقد، فمنا من أكل ومنا من تورع، فلما استيقظ أخبر بذلك قال: فوفَّق من أكل، وقال: أكلناه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال البيهقي: وظاهر في كلام الشافعي بعد هذا أنه أراد بحديث ابن جريج هذا, ولكنه حين كان بمصر في آخر عمره كانت كتبه غائبة عنه، فربما كان يكتب من إسناد حديث بعضه ويترك البياض، أو يكتب كله دون متنه ويدع البياض ليتمه إذا رجع إلى كتابه، ويكتب بعده حديثًا آخر فأدركته المنية قبل ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 182). (¬2) في الأصل [بكر] وهو تصحيف والمثبت من النسائي. (¬3) في الأصل [عن] وهو تصحيف وقد تقدم إسناده على الصواب. (¬4) المعرفة (7/ 427).

إصلاحه، فتوهم من لم يعلم علم ذلك أنه مضموم إلى ما بعده، وقد بينت (¬1) في كتابة وهذا غيره ما تبلغه علمي من ذلك. وبالله التوفيق. تم كلام البيهقي. وقد قال الشافعي -رضي الله عنه- عقيب حديث أبي قتادة هذا المذكور- وليس يخالف -والله أعلم- حديث الصعب بن جثامة حديث طلحة بن عبيد الله وأبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك لا يخالفهم (¬2) حديث جابر بن عبد الله وبيان أنها ليست مختلفة يرد في حديث جابر. فهذا القول من الشافعي يدل على ما قاله البيهقي، لأن حديث طلحة بن عبيد الله لم يذكره الشافعي ولا ورد في المسند؛ ولا ذكر من خرج المسند وجمعه إلا بعض إسناده إلى ابن جريج، يصح ما بينه البيهقي من عرض الشافعي بذكر ذلك البعض من الإسناد. والله أعلم. وقوله في الحديث: "فسألهم رمحه فأبوا" سألهم أن يناولوه رمحه، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه فإنه قال: فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا. الإباء: الامتناع، أبى يأبى إباء فهو آب، وهذا البناء شاذ لأنه فعل يفعل بالفتح فيها وليس فيه حرف حلقي. وقوله: "فشد على الحمار" يريد حمل، والشد: العدو، تقول شد عليه في الحرب يشد شدًا، والشدة: الحملة الواحدة. والطعمة -بضم الطاء-: الأكلة وهي ما يؤكل، والطعمة أيضًا المأكلة، تقول: جعلت هذه الضيعة طعمة لفلان، والطعمة أيضًا وجه المكسب، تقول: فلان عفيف الطعمة، وخبيث طعمه، والأصل الأول، وأطعم فلان يتعدى إلى مفعولين: الأول منهما: الميم التي هي ضمير الخاطبين، والثاني: الهاء التي هي ضمير الطعمة. ¬

_ (¬1) في الأصل، [ثبت] والمثبت من المعرفة وهو الأقرب. (¬2) في المعرفة (7/ 429): [يخالفهما].

وقوله: "إنما هي" فيه رد لما ظنوه حرامًا بطريق الحصر المؤكد بإن، وفي ذلك بيان لأنها مقصورة على الإطعام، فالإطعام إنما هو حلال لهم لأن ما كان حرامًا عليهم فليس بطعمة لهم. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن حنطب، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لحم الصيد لكم في الإحرام حلال؛ ما لم تصيدوه أو يصاد لكم". وأخبرنا الشافعي أنه قال: أخبرنا من سمع سليمان بن بلال يحدث عن عمرو ابن أبي عمرو بهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن رجل من بني سلمة، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. هكذا قال الشافعي، وابن أبي يحيى أحفظ من الدراوردي (¬1)، وسليمان مع ابن أبي يحيى. هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. أما أبو داود (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن الاسكندري، عن عمرو، عن المطلب، عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم". وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة بإسناد أبي داود ولفظه وزاد فيه بعد قوله حلال: وأنتم حرم. وأما النسائي (¬4) فأخرجه بإسناد أبي داود ولفظه. ¬

_ (¬1) بل العكس هو الصواب، وابن أبي يحيى قال عنه الحافظ في التقريب: متروك، وأما الدراوردي فقال فيه: صدوق كان يحدث من كتب غيره فيخطئ. (¬2) أبو داود (1851). (¬3) الترمذي (846). (¬4) النسائي (5/ 187).

قال الترمذي: المطلب لا يعرف له سماع عن جابر. وقال النسائي: عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث وإن كان قد روى عنه مالك. اللام في لكم الأولى: لام الملك وهي متعلقة بمحذوف تقديره: ثبت أو أحل ونحو ذلك، وهو في موضع رفع لأنه خبر قوله حلال، وقد تقدم عليه لأن المبتدأ نكرة، وذلك كقولك: لك مال وعليك دين، ثم هذا المبتدأ وخبره جملة في موضع رفع لأنه خبر قولهم: لحم يصيد، ولا يجوز أن تكون اللام متعلقة بالصيد، لأنه كان يؤدي إلى أن يكون ما صيد لهم أي لأجلهم حلالاً، وذلك بخلاف ما سيق هذا الحديث له ودل عليه صريح لفظه، وهو قوله: "أو يصاد لكم". واللام في لكم الثانية لام أجل أي: يصاد لأجلكم، وفي رواية أبي داود والنسائي لم يتعرضا إلى ذكر الإحرام، وقد ذكره الشافعي والثوري، وفي ذلك بيان الوقت الذي يحل فيه الصيد ويحرم وهو وقت الإحرام. وفي قوله: "في الإحرام" متعلقة بقوله: حلال في الإحرام، وفي رواية الشافعي لحم الصيد مطلقًا وهذا يتناول صيد البر والبحر، وعند الباقين: صيد البحر مخصص بالذكر، وإنما جاز الإطلاق لأن الحديث مسوق لبيان حكم صيد البر، لأنه هو الذي يتعلق به حكم الإحرام، ولأن صيد البحر قد علم حله بقوله عز من قائل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬1) وكان هذا شيئًا معروفًا عندهم، فلما أطلق لفظ الصيد؛ علم المخاطب أنه منصرف إلى صيد البر خاصة دون صيد البحر. ومن أتى بلفظ البر كان الزيادة في البيان وإيضاح في الخطاب. ¬

_ (¬1) [المائدة: 96].

وقوله الشافعي في آخر الحديث: وابن أبي يحيى أحفظ من الدراوردي، وسليمان مع ابن أبي يحيى يريد بابن أبي يحيى: إبراهيم بن محمد الذي روى عنه هذا الحديث فإنه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى. وقوله: أحفظ من الدراوردي يريد أن ابن أبي يحيى روى هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب، عن جابر، والدراوردي رواه عن عمرو، عن رجل من بني سلمة ولم يسمه، والمطلب قرشي وليس سلميًا وإنما أراد أنه أحفظ منه، يعني في روايته عن المطلب عن جابر. وأن رواية الدراوردي، عن رجل من بني سلمة فيه نظر، ثم إنه قوى رواية ابن أبي يحيى بقوله: وسليمان مع بن أبي يحيى، يعني أن سليمان روى الحديث أيضًا عن عمرو، عن المطلب فاتفق هو وابن أبي يحيى على المطلب، وانفرد الدراوردي عنهما بروايته عن رجل من بني سلمة. قال الشافعي: فإن كان الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحمار حيًّا؛ فليس لمحرم ذبح حمار وحشي حي وإن كان له لحمًا، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صِيْد له فرده عليه، ومن سنته - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحل للمحرم ما صيد له. وقد أخرج الشافعي (رضي الله عنه) فيما بلغه عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن الحارث أن عثمان أهديت له حجل وهو محرم، فأكل القوم إلا عليًّا فإنه كره ذلك. قال الشافعي: ولسنا ولا إياهم نقول بهذا، أما نحن فنقول بحديث أبي قتادة، وأمرهم أن يأكلوا لحم الصيد وهم حرم. أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي قتادة قال: وقال سفيان، عن صالح بن كيسان، عن أبي محمد، عن أبي قتادة نحوه.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفان بالعرج في يوم صائف وهو محرم، وقد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أتي بلحم صيد، فقال لأصحابه: كلوا، قالوا: ألا تأكل أنت؟ قال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد من أجلي. هذا الحديث أخرجه مالك (¬1) في الموطأ بالإسناد واللفظ. وقد أخرجه الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك (¬2). يوم صائف: شديد الحر، تقول: صيف صائف اتباع له وتأكيد، كما يقال: ليل لائل ويوم صائف أي حار، وليلة صائفة وربما قالوا: يوم صاف بمعنى صائف، كما قال: يوم راح أي رائح. والقطيفة: كساء له حمل أو منديل والجمع القطائف. والأرجوان (¬3): الأحمر وهو معرب أرغوان: وهو شجر معروف له زهر أحمر حسن اللون طيب الريح. وقال الجوهري: هو صبغ أحمر شديد الحمرة. قال أبو عبيد: هو الذي يقال له: النشاسج، والنون فيه زائدة كذا قال الجوهري، لأنه أورده في باب رجا في المعتل. وقوله: "لست كهيئتكم" يريد مثلكم ولا حكمي حكمكم. والهيئة: الحالة والصفة التي عليها الإنسان. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 287 رقم 84). (¬2) الأم (7/ 241). (¬3) في الأصل [الأجوان] وهو تصحيف وتقدم في الرواية على الصواب.

محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن [عمير بن سلمة الضمري، عن البهزي] (¬1) قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصماح الروحاء إذا نحن بحمار وحشي عقر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا الرجل أصابه يوشك أن يأتيكم" فجاء رجل من بني سليم فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا حمار أصبته بالأمس فشأنكم به، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يقسمه في الرفاق، ثم خرجنا حتى إذا كنا بالأثابة إذا نحن بظبي حاقف، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يقف عنده حتى يجوز الناس. قال الشافعي: سفيان يخالف في هذا، يقولون: عيسى بن طلحة، عن عمرو بن سلمة، عن الزهري. وكذلك أخرجه مالك (¬2) والنسائي (¬3). ¬

_ (¬1) في الأصل [عن أبيه] وهو تحريف والمثبت من المعرفة (7/ 432) وكذا في الموطأ والنسائي، وسيأتي تخريجه. ولفظه في الأصل يختلف عن المعرفة والظاهر أنه تصرف فيه. (¬2) الموطأ (1/ 284 رقم 79). (¬3) النسائي (5/ 182 - 183).

القسم الثاني في جزاء الصيد

القسم الثاني في جزاء الصيد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد [عن] (¬1) ابن جريج قال: قلت لعطاء: قول الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (¬2) قال: قلت له: فمن قتله خطأ أيغرم؟ قال: نعم. يعظم بذلك حرمات الله، ومضت به السنن. الحرم: جمع حرام، وهو المحرم بالحج أو العمرة. والتعمد: القصد فتقول: قتله عمدًا أي قصد قتله وأراده وباشره، والخطأ ضده وذلك إذا لم يقصد قتله. والغرامة: إقامة العوض عما أتلفه، غرم يغرم غرامة، والغرم والمغرم بمعنى، وأغرمته وغرمته. والحرمات: جمع حرمة يريد تعظم بما يغرمه ما حرمه الله عليه من قتل الصيد باتباع فرائضه وتوخي سننه. والذي ذهب إليه الشافعي (رضي الله عنه): أن جزاء الصيد يجب على المتعمد والمخطئ والناسي. وبه قال عامة الفقهاء، إلا ما حكي عن مجاهد أنه قال: إذا قتله خطأ أو كان لا حراسة وجب عليه الجزاء، وإن كان عمدًا لم يجب. وعن داود أنه قال: إن كان عمدًا وجب الجزاء، وإن كان خطأ لم يجب. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد. وقال إمام الحرمين -وعليه الشافعي- ومذهبه القول بالمفهوم إشكال، ولكن الوجه أن الله لما أراد الجمع بين الضمان والمأثم والتعرض للعقوبة، خصص سياق الآية بالعائد أما الضمان فلائح، وأما استشعار العقوبة ففي قوله: {وَمَنْ عَادَ ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 183) ومطبوعة المسند. (¬2) المائدة [95].

فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} (¬1) ومما يوضح تفسير الآية: أن التعمد هو أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه، أو عالم أن ما يقتله حرام عليه قتله فإن قتله وهو ناس لإحرامه، أو رمى صيدًا وهو يظن أنه غير صيد فإذا هو صيد، أو قصد برميه غيره فعدل السهم فأصاب صيدًا فهو مخطئ، ومحظورات الحج يستوي فيه العمد والخطأ، وإنما ذكر التعمد لأن مورد الآية فيمن تعمد، كما فعل أبو اليسر فإنه روى أنهم بينا هم يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الحديبية -بين مكة والمدينة-، عرض لهم حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله، فقيل له: قتلت الصيد وأنت حرم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فنزلت هذه الآية، ولأن الأصل فعل والتعمد والخطأ لاحق به للتغليظ، ويدل عليه قوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (1) [عفا الله عما سلف] (¬2) ومن عاد فينتقم الله منه". وقيل: نزل الكتاب بالتعمد ووردت السنة بالخطأ. قال الشافعي: وإيجابه على قاتل الصيد عمدًا لا يخطر أن يوجب على قاتله خطأ، قياسًا على القرآن والسنة والإجماع، ثم ذكر إيجاب الله تعالى الكفارة في قتل النفس الممنوعة بالإِسلام أو العهد خطأ، فلما كان الصيد محرمًا كله في الإحرام، كان ذلك كله ممنوع من الصيد في الإحرام لا يتفرق، كما لم يتفرق المسلمون في الغرم الممنوع من الناس والأموال بين العمد والخطأ إلا المأثم في العمد. وقال الشافعي: وقد قاله من قبلنا غيري، ثم ذكر هذا الحديث عن ابن جريج وعطاء وقد ذكرناه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مسلم وسعيد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: رأيت الناس يغرمون في الخطأ. ¬

_ (¬1) المائدة: [95]. (¬2) سقط من الأصل والصواب إثباته.

هذا مؤكد لما ذهب إليه الشافعي ومن وافقه، على وجوب الجزاء على قاتل الصيد خطأ، فإن قول عمرو بن دينار -وهو تابعي جليل القدر من كبار التابعين-: "رأيت الناس" فإنما يريد من شاهده من الصحابة والتابعين قبله، فإطلاقه: رأيت الناس، من أقوى الأدلة على تغريم المخطئ. قال الشافعي: فإن قال قائل: فهل شيء أعلى من هذا؟ قيل: شيء يحتمل هذا المعنى ويحتمل خلافه، فإن قال: ما هو؟ قيل: أخبرنا مالك، عن عبد الملك بن قرير. وانقطع الحديث من الأصل. وإنما أراد ما أخرجه مالك في الموطأ: عن عبد الملك، عن ابن سيرين أن رجلاً قال: أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنًا ظبيا ونحن محرمان، فما ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال نحكم، قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلاً، فدعاه عمر، فقال: هل تقرأ المائدة؟ قال: لا، قال: فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم؟ قال: لا، قال: لو أخبرتني أنك تقرؤها لأوجعتك ضربًا، ثم قال: إن الله قال في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬1) وهذا عبد الرحمن بن عوف. قال الشافعي: فيحتمل أن يكون أوطآ الظبية مخطئين والله أعلم. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: كان مجاهد يقول: ومن قتله منكم متعمدًا غير ناسٍ لحرمة ولا مريدًا غيره فأخطأ به فقد أحل وليست له برخصة، ومن قتله ناسيًا لحرمه وأراد غيره فأخطأ به، فذلك العمد المكفر عليه النعم. هذا شرح ما ذكرنا من مذهب مجاهد وإيضاح له، فإنه يقول: إن قاتل ¬

_ (¬1) المائدة: 95.

الصيد إذا كان متعمدًا لقتله وليس ناسيًا لإحرامه، ولا أراد أن يرمي شيئًا فأخطأ فوقع في صيد؛ أنه لا شيء عليه من الجزاء، إنما يحل إحرامه ولا رخصة له من كفارة ولا غيرها، يعني أن عليه العقوبة التي دل عليها قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} (¬1) وإن كان قاتل الصيد قد تعمد قتله وهو ناس أنه محرم، أو أراد أن يرمي شيئًا غير الصيد فوقع في صيد فقتله، فإن هذا هو العمد الذي تكفره النعم ويجب فيه الجزاء، وبيان نظم لفظ هذا الحديث:- أما القسم الأول: فإن قوله: "غير ناسٍ" منصوبًا على الحال تقديره: قتله ذكرًا لإحرامه، وقوله: "ولا مريدًا" منصوب بالعطف على موضع غير ناسٍ كما ذكرناه، وقوله: "فأخطأ به"من جملة المعطوف، تقديره: ولا مريدًا غيره ولا مخطئًا به، أي: لم يكن مريدًا لغيره بالرمي. فحصل من مجموع هذا اللفظ أنه قتل ذاكرًا أو غير مخطئ به. وأما القسم الثاني: فتقديره: قتله ناسيًا أو مريدًا مخطئًا. وقوله: "المكفر عليه النعم" يريد الذي يجب فيه الجزاء، فسمى الجزاء كفارة، والنعم: الإبل، والبقر، والغنم. قال الشافعي: قوله: أحسبه ذهب إلى عقوبة الله قال: ومعناه في الصيد: أنه لا يكفر العمد الذي لا يخلطه ويكفر العمد الذي يخلطه الخطأ، يذهب إلى أنه إن عمد قتله ونسي إحرامه، أو عمد غيره فأصابه يعني كفر. وقد أخرج الشافعي (رضي الله عنه): عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} (1) قال: يعني متعمدًا لقتله ناسيًا لحرمه فذلك الذي يحكم عليه، ومن قتله متعمدًا لقتله ذاكرًا لحرمه لم يحكم عليه. قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا ¬

_ (¬1) المائدة: [95].

عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}. قال: من أجل أنه أصابه في حرم -يريد البيت- كفارة ذلك عند البيت. الجزاء: مصدر جزيته أجزيه جزاء، وهو مقابلة الصنع بما يماثله أو يكافئه، وهو من قوله: جزى عني هذا الأمر أي قضى. ومعنى الآية: ومن قتله منكم متعمدًا فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم، أي فعليه من النعم جزاء مثل المقتول من الصيد، ومن النعم تتعلق بجزاء تعلق الخبر بالمبتدأ لا بالمقتول، وقد قرئ: "فجزاء مثل ما قتل" الرفع فيهما وتنوين الجزاء، أي: فيلزمه جزاء مثله من النعم، التقدير: فعليه جزاء مثله، فيكون مثله صفة الجزاء، ويجوز أن يرفع الجزاء بالابتداء ومثل ما قتل خبر، فالمعنى: فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل، وعلى القراءة الأولى: يكون من النعم خبر المبتدأ الذي هو الجزاء، وهديًا: منصوب على الحال من الضمير في يحكم به، أو أنه تلك من محل مثل لأن موضعه النصب، التقدير: يجزئ مثل ما قتل. وبالغ الكعبة: وصف للهدي يريد أنه يبلغ بالهدي الكعبة ويذبحه عندها، ولذلك جاء في الجواب: من أجل أنه أصابه في حرم البيت، وذلك أن جزاء الصيد يجب بأمرين أحدهما: على المحرم، والثاني: على من قتله في الحرم وإن لم يكن محرمًا. ولذلك قال عطاء: إنما وجب بلوغه الكعبة لأنه قتله في الحرم. وكفارة عطف على قوله: فجزاء، أي فعليه هذا أو هذا. والذي ذهب إليه الشافعي (رضي الله عنه): أن الواجب في جزاء الصيد مثله من الإبل والبقر والغنم، وهو مخير أن يخرج المثل ويذبحه ويفرق لحمه، وبين أن يقومه بدراهم ويقوم الدراهم طعامًا ويتصدق بالطعام، وبين أن يصوم عن كل مد يومًا. وبه قال مالك إلا أنه قال: إذا قومَّ قوَّم الصيد وبذلك حكم عمر،

وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، وعن أحمد روايتان أحدهما مثل قول الشافعي، والأخرى: أنه على الترتيب فإن عدم المثل أخرج القيمة. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه قيمته، ويجوز أن يصرف القيمة في المثل من النعم. وأما بلوغه الكعبة: فإن الشافعي: يوجب ذبحه بالحرم ويتصدق به في الحرم. وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وأبو ثور، والنخعي. وقال أبو حنيفة: يذبحه أين شاء. قال الشافعي: أخبرني سعيد، عن ابن جريج، أن عطاء قال: يتصدق الذي يصيب بمكة، قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬1) قال: يتصدق بمكة. قال الشافعي (رضي الله عنه): يريد عطاء ما وصفت من أن الطعام والنعم كله هدي. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد [عن] (¬2) ابن جريج، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬3) له أيتهن شاء. وعن عمرو بن دينار قال: كل شئ في القرآءن "أو" له كيف شاء. قال ابن جريج: إلا قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} (¬4) فليس بمخير فيهما. قال الشافعي: كما قال ابن جريج وغيره في المحارب وغيره في هذه المسألة أقوال. هذا الحديث مسوق لبيان ما ذهب إليه الشافعي، من التخيير في كفارة جزاء ¬

_ (¬1) [المائدة: 95]. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 188). (¬3) البقرة: [196]. (¬4) [المائدة: 33].

الصيد، لأن عمرو بن دينار قال: له أيتهن شاء، وعم القول بقوله: كل شء في القرآن "أو" له أيه شاء، واستئنى ابن جريج آيه المحاربة، وهو قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬1) فجاء بـ "أو" وليست للتخيير، قال الشافعي: وبقول ابن جريج وغيره -يعني عمرو بن دينار- في المحارب وغيره أقول. وقوله: "في هذه المسألة" يريد جزاء الصيد. وفي آية المحاربة خلاف هل هو للتخيير أم لا؟ قال الربيع: قلت للشافعي: هل قال أحد ليس بالخيار؟ فقال: نعم. أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم قال: من أصاب ما يبلغ فيه شاة فذلك الذي قال الله {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬2) وأما {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي العصفور، يقتل فلا يكون فيه هدي، قال: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} قال: عدل النعامة وعدل العصفور. قال ابن جريج: فذكرت ذلك لعطاء، فقال عطاء: كل شئ في القرآن أو يختار منه صاحبه ما شاء. قال الشافعي: وأخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج أنه قال لعطاء: ما قوله: "أو عدل ذلك صيامًا". قال: إن أصاب ما عدل شاة فصاعدًا أقيمت الشاة طعامًا، ثم جعل مكان كل مد يومًا يصومه. قال الشافعي: وهذا -إن شاء الله- كما قال عطاء وبه أقول. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: في الضَّبع كبش. ¬

_ (¬1) المائدة: [33]. (¬2) المائدة: [95].

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن عكرمة -مولى ابن عباس- يقول: "أنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضبعًا كبشًا صيدًا وقضى فيها كبشًا". الضبع معروفة، ولا تقول: ضبعة لأن الذكر ضبعان وجمع الضبع: ضباع، ويقع هذا الجمع على الذكور والإناث. وكبش: مرفوع بالابتداء وخبره قوله: "في الضبع" وإنما أخره لأنه نكرة. وقوله: "أنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضبعا صيدا" أي حكم وفرض فيما حكم به، وافترضه أن الضبع صيد وأن فيه كبشا. قال الشافعي: وهذا حديث لا يثبت مثله لو انفرد. وإنما قال هذا لانقطاعه، وقد روي عن الوليد، عن ابن جريج، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس موصولاً مرفوعًا وليس بالقوي. قال الشافعي: وإنما ذكرنا أن مسلمًا أخبرنا عن ابن جريج وذكر الحديث وهو. أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عبد الله بن عمير، عن ابن أبي عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هي؟ قال: نعم. فقلت: أتؤكل؟ فقال: نعم. فقلت: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم. هذا حديث صحيح، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن محمد بن عبد الله الخزاعي، عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد (¬2)، عن عبد الرحمن بن أبي عمار، عن جابر ¬

_ (¬1) أبو داود (3801). (¬2) في الأصل [... عبيد الله] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب. كذا في السنن ومطبوعة المسند. وهو [عبد الله بن عبيد بن عمير بن قتادة ... أبو هاشم المكي]. وانظر تهذيب الكمال (15/ 259).

قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع؟ فقال: "هو صيد" وجعل فيه كبشًا إذا صاده المحرم. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن جريج بالإسناد قال: قلت لجابر: الضّبُع أصيدٌ هي؟ قال: نعم. قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن [محمد بن منصور، عن سفيان، عن ابن جريج بنحو رواية الترمذي] (¬3). قال الترمذي: سألت عنه البخاري، فقال: هو حديث صحيح. وإنما قال الشافعي في سياق حديث ابن عباس: وإنما ذكرناه لأجل هذا الحديث، لأن حديث ابن عباس قد تضمن أن الضبع صيد وإن صيد، وأن فيها كبشًا، فقال: إن مثل هذا الحديث لا يثبت لو انفرد، وإنما ذكرناه وإن كان منقطعًا لا يثبت مثله لأن جابرًا روى عنه من وجه صحيح مما يعضده، وذكر الحديث. قوله: "أصيد هي" جملة من مبتدأ وخبر فالمبتدأ "هي" والخبر "أصيد" مقدم عليه، والجملة في رواية الترمذي خبر المبتدأ الأول الذي هو الضبع. [وأنا أولى] (¬4) حرف الاستفهام للصيد لأنه عن الصيد أراد أن يسأل فأوقع الاستفهام على ما هو ألزم. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن من قتل ضبعًا وهو محرم أو كان في الحرم، فإن عليه أن يذبح كبشًا. وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن الزبير. ¬

_ (¬1) الترمذي (851) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) النسائي (5/ 191). (¬3) بالأصل بياض قدر سطر والمثبت من النسائي. (¬4) كذا بالأصل.

وأن الكبش من النعم بمنزلة الضبع من الصيد. قال الشافعي: الضبع يؤكل. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أكلها. وقال مالك: يكره أكلها. قال الشافعي: وفي الحديث بيان أنه إنما يفدي ما يؤكل من الصيد دون ما لا يؤكل. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك أن أبا الزبير حدثه عن جابر ابن عبد الله: "أن عمر بن الخطاب قضى في الضبع بكبش". ورواه أيضًا عن مالك وابن عيينة، عن أبي الزبير، ثم قال: وهذا قول من حفظت عنه من مفتينا المكيين. وقد أخرج الشافعي أيضًا في كتاب "اختلافه مع مالك" في جملة حديث هكذا قال: "إن عمر بن الخطاب قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة". وقد فرقه في كتاب الحج، وسيرد ذكره مفرقًا إن شاء الله تعالى. وقد أخرج -أيضًا- الشافعي: عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أن علي بن أبي طالب قال في الضبع: "صيد وفيها كبش إذا أصابها المحرم". كذا قال في كتاب المناسك (¬1) وفي القديم (¬2) قال الربيع: قال الشافعي، عن ابن علية، كذا قال في كتاب "علي وعبد الله" عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن علي في الضبع كبش. قال: وقال -فيما بلغه-: عن ابن أبان، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة، "أن عليًّا قضى في الضبع بكبش". ¬

_ (¬1) الأم (2/ 193). (¬2) المعرفة (7/ 407).

قال الشافعي: وبهذا نقول، وهو يوافق ما روي عن عمر وغيره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم يقولون: يغرم قيمتها لا يجعلون فيها شيئًا مؤقتًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك وسفيان، عن أبي الزبير، عن جابر أن عمر بن الخطاب قضى في الغزال بعنز. العنز: الأنثى من المعز، وإنما قضى في الغزال بعنز: لأن العنز بمنزلة الغزال في القدر. قال ابن المنذر: ثبت أن عمر بن الخطاب قال: "في الظبي شاة" وروي ذلك عن علي. وبه قال عطاء وعروة، وابن الزبير، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي. قال: ولا يحفظ فيه عن غيرهم خلافهم، وليس لاشتراط العنز في الغزال وجه، وإنما الواجب في الغزال شاة، والضابط في المثلية: أن يراعي الخلقة والقدر، والكبر والصغر، وما وجد للصحابة فيه قضية اتبعت وما لا يوجد فيه لهم قضية فعلى ما يناسبها ويقرب منها بعد الاجتهاد. وقد أخرج الشافعي: عن سعيد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس أنه قال: "في الظبي تيس أعفر أو شاة مسنة". قال: وأخبرنا سعيد، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة أن رجلاً بالطائف أصاب ظبيًا وهو محرم، فأتى عليًّا، فقال: اهد كبشًا، أو قال: شيئًا من الغنم". قال الشافعي: وبهذا نأخذ لما وصفت قبله مما يثبت. يريد حديث عمر، فأما هذا فلا يثبته أهل الحديث، وإنما قال ذلك لانقطاعه وأن عكرمة لم يدرك عليًّا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك وسفيان، عن أبي الزبير، عن جابر: أن عمر قضى في الأرنب بعناق، وأن عمر قضى في اليربوع بجفرة. وهذا أيضًا طرف من الحديث الذي أخرجه في كتاب "اختلافه مع مالك"

وقد أخرجه مالك في الموطأ بطوله (¬1). العناق: الأنثى من ولد المعز، والجمع: أعنق وعنوق. واليربوع: حيوان صغير معروف، والياء في أوله زائدة لأن ليس في كلام العرب فعلول، قاله الجوهري. والجفرة والجفر: من أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر إلا أنه دون العناق، لأن اليربوع دون الأرنب. وبهذين الجزاءين قال الشافعي. وقال ابن عباس: في الأرنب حَمَلَ. وقال عطاء: شاة. ولم يوقت فيه الحسن البصري شيئًا. وقال أبو حنيفة: فيه قيمته، دون الجذع من الضأن أو الثني من المعز ففيه صدقة أو صيام. وقال ابن مسعود في اليربوع مثل قول عمر، وبه قال عطاء، وأبو ثور. وقال مجاهد: مرة سخلة، ومرة شاة. وقال النخعي: فيه ثمنه. وقال مالك: قيمته طعام. وقال أبو حنيفة: قيمته. وقد أخرج الشافعي: عن سفيان، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن ابن عباس أنه قال: "في الأرنب شاة". قال: وأخبرني سعيد، عن ابن جريج أن مجاهدًا قال: في الأرنب شاة. قال البيهقي (¬2): كذا وجدته في ثلاث نسخ، والصواب عن ابن عباس في ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 331 رقم 230). (¬2) المعرفة (7/ 410).

الأرنب عناق، وسقطت رواية سعيد عن ابن جريج عن عطاء في الأرنب شاة، ودخل حديث عطاء في حديث ابن عباس. وكلامه يدل على صحة ما قلت. قال الشافعي: الصغيرة والكبيرة من الغنم يقع عليها شاة، فإن كان عطاء ومجاهد أرادا صغيرة فكذلك نقول، ولو كانا أرادا مسنة خالفناهما وقلنا قول عمر بن الخطاب، وما روي عن ابن عباس أن فيها عناقًا دون المسنة، وكان أشبه لمعنى كتاب الله -عز وجل-. رحم الله -تعالى- الشافعي ما كان أتقنه، ألا تراه قال: قلنا قول عمر بن الخطاب، لأنه عنه صحيح موصول، ثم قال: وما روي عن ابن عباس، لأن الضحاك بن مزاحم لا يثبت سماعه -عند أهل العلم بالحديث- من ابن عباس (¬1)، فلم يطلق القول بأنه قول ابن عباس، فكذلك ينبغي لأهل العلم أن يقتدوا به في الإتقان والتثبت في الرواية. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه: أنه قضى في اليربوع بجفر -أو جفرة. هذا الحديث مؤكد لحديث جابر بن عبد الله عن عمر بن الخطاب والحكم إذا تعاضدت على العمل به الأقوال ولا سيما من الصحابة، وخاصة عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وهما مما فباهيك به وثوقًا واتباعًا. وقد رواه الشافعي وأيضًا عن [] (¬2) ابن أبي نجيح، عن مجاهد أن ابن مسعود حكم في اليربوع بجفر أو جفرة. وأخرج أيضًا عن سعيد، عن الربيع بن صبيح، عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: في اليربوع جفرة. ¬

_ (¬1) وكذا قال يونس بن عبيد وعبد الملك بن ميسرة وروى شعبة أيضًا عن مشاش أنه قال سألت الضحاك لقيت ابن عباس؟ قال: لا وراجع جامع التحصيل (199 - 200). (¬2) بياض بالأصل قدره نصف سطر والسياق ليس به سقط، وراجع المعرفة (7/ 413).

قال الشافعي: وبهذا كله نأخذ. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، أخبرنا مخارق، عن طارق بن شهاب قال: "خرجنا حجاجًا فأوطأ رجل منا -يقال له: أربد- ضبًّا ففزر (¬1) ظهره، فقدمنا على عمر فسأله أربد، فقال عمر: احكم يا أربد فيه، فقال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم، فقال عمر: إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني، فقال أربد: أرى فيه جديًا قد جمع الماء والشجر، فقال عمر: فذاك فيه". تقول: وطئت الشيء أطؤه وطأ: إذا دسته، وأوطأت دابتي فلانًا: إذا جعلتها تطؤه، فكأنه أراد أنه أوطأ بعيره ضبًّا فشق ظهره. والفزر: القطع والشق. والتزكية: المدح والإطراء، والأصل فيه: التطهير والزيادة. وقوله: قد جمع الماء والشجر، يريد أنه قد أكل ورعى وشرب الماء وتجاوز حد الرضاع من أمه. وبهذا الحديث قال الشافعي. وقال جابر بن عبد الله وعطاء: فيه شاة. وقال مجاهد: حفنة من طعام. وقال قتادة: صاع من طعام. وقال مالك: فيه قيمته من الطعام. وقال أبو حنيفة -رحمه الله-: من (¬2) قيمته. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن مطرف بن طريف، عن أبي السفر: أن عثمان بن عفان قضى في أم حبين بحلان من الغنم. ¬

_ (¬1) في الأم (2/ 194): [ففقر]. (¬2) كذا بالأصل ولعل الصواب [مثل].

أم حُبين -بضم الحاء المهملة، وفتح الباء المعجمة بواحدة من تحتها، وبعدها ياء معجمة بنقطتين من تحتها، وبالنون-: دويبة معروفة عند العرب وهي معروفة مثل: ابن عرس، وابن آوى، إلا أنه تعريف جنس فربما أدخلوا عليها الألف واللام، قالوا: أم الحبين، لا تكون بحذف الألف واللام منها نكرة وهو شاذ، ويقال: حبيبة أيضًا: وهي دابة منتفخة البطن، وسميت أم حبين: لانتفاخ بطنها، ومنه الأحبن وهو المستسقي. والحلان -بضم الحاء المهملة، وتشديد اللام والنون -الجدي- يؤخذ من بطن أمه، وهو فعال لأنه مبدل من حلام وهما بمعنى، وإن جعلته من الحلال فهو فعلان والميم مبدلة منه. قال الأصمعي: الحلان والحلام -بالنون والميم-: صغار الغنم. قال الأزهري -وذكر هذا الحديث- فقال: وفسر في الحديث أنه الحمل، قال: وروي عن عمر: أنه قضى في الأرنب إذا قتله المحرم بحلان، وفسر في الحديث أنه جدي ذكر. قال: وقال الليث: الحلان: الجدي الذي يُبقر عن بطن أمه. وقال أبو عبيد، عن الأصمعي أنه قال: ولد المعز حُلَام وحلَّان. وقال أبو العباس: عن ابن الأعرابي: الحلام والحلان واحد وهو ما يولد من الغنم صغيرًا. وقال أبو سعيد: ذكر أن أهل الجاهلية كانوا إذا ولَّدوا شاة عمدوا إلى السخلة فشرطوا أذنها، وقالوا وهم يشرطون: حلان. أي حلال هذا الشرط أن يؤكل، فإن مات كان ذكاته عندهم ذلك الشرط الذي تقدم. قال: ويسمى حُلَانا إذا حُلّ من الرِّبق فأقبل وأدبر، وقال ابن شميل: الحلان: الحمل.

انتهى كلام الأزهري في باب "حل" (¬1) ولم يذكره في باب حلن، لأن النون عنده زائدة، ثم ذكره في باب "حلم". قال أبو عبيد: قال الأصمعي: ولد المعز حلام وحلان. والشافعي فسر الحلان بالحمل، وقال: فإن كانت العرب تأكلها -يعني أم حبين- فهذا كما روي عن عثمان، يقضي فيها بولد شاة حمل أو بمثله من المعز مما لا يقوته. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني: أن عمر، وعثمان، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وابن عباس، ومعاوية، قالوا: "في النعامة يقتلها المحرم بدنة من الإبل". قال الشافعي: غير ثابت عند أهل العلم بالحديث، وهو قول الأكثر ممن لقيت فبقولهم أن في النعامة بدنة، وبالقياس قلنا: في النعامة بدنة لا بهذا وإنما قال ذلك لأنه منقطع، فإن عطاء الخراساني ولد سنة خمسين فلم يدرك عمر ولا عثمان ولا عليًّا ولا زيدًا، وكان في زمان معاوية صبيًّا, ولم يثبت له سماع من ابن عباس، وقد كان يحتمل أنه سمع منه لأن ابن عباس توفي سنة ثمان وستين، وعطاء الخراساني مع انقطاع حديثه هذا قد تكلم فيه أهل العلم بالحديث. وأخرج الشافعي أيضًا: عن سعيد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال: "في بقرة الوحش بقرة، وفي الإبل بقرة". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن عمرو بن سعيد بن أبي حسين، عن عبد الله بن كثير الداري، عن طلحة بن أبي حفصة، ¬

_ (¬1) تهذيب اللغة (3/ 439 - 440).

عن نافع بن عبد الحارث قال: قدم عمر بن الخطاب مكة فدخل دار الندوة في يوم الجمعة وأراد أن يستقرب منها الرواح إلى المسجد، فألقى رداءه على واقف في البيت، فوقع عليه طير من هذا الحمام فأطاره، فانتهزته حية فقتلته، فلما صلى الجمعة دخلت عليه أنا وعثمان بن عفان، فقال احكما: عليَّ في شيء صنعته اليوم، إنى دخلت هذه الدار فوقع عليه طير من هذا الحمام، فخشيت أن يلطخه بسلحه فأطرته عنه، فوقع على هذا الواقف الآخر فانتهزته حية فقتلته، فوجدت في نفسي أن أطرته -وفي نسخة: أطردته- من منزل كان فيه حتفه، فقلت لعثمان كيف ترى في عنز ثنية عفراء نحكم بها على أمير المؤمنين؟ فقال: إني أرى ذلك، فأمر بها عمر بن الخطاب. مساق هذا الحديث: البيان حكم الواجب في جزاء الطير، وفيه: بيان حكم الجزاء إذا لم يكن فيه نص لا بد من حكم عدلين، لقول الله -تعالى-: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1). وفيه: بيان أن من كان سببًا في إتلاف الصيد وهو غير مباشر ولا قاصد ما عليه. ودار الندوة: كانت قديمًا في الجاهلية، وكانت مجتمعًا القرين يتشاورون فيها ويجتمعون بها، وأصل الكلمة: من الندى والنادي والمنتدى والندوة، فإن تفرق القوم فليس ندى، ومن ذلك سميت دار الندوة، وكان بناها قصي بن كلاب لأنهم كانوا يندون بها أي يجتمعون فيها للرأي والمشورة. والاستقراب: استفعال من القرب وكانت دار الندوة ملاصقة الحرم، ومنه باب الندوة وهو اليوم أحد أبواب الحرم، فإن دار الندوة إذًا دخلت في الحرم وهي معروفة إلى الآن. ¬

_ (¬1) المائدة: [95].

والواقف: [] (¬1). والطير: جمع طائر قال أبو عبيد وقطرب: ويقع على الواحد وهاهنا قد أطلق على الواحد. والانتهاز والاقراص: الاغتنام، تقول: انتهز الفرصة أي اغتنمها. وقوله: "فأطرته"، من الطيران، تقول: طار الطائر، وأطرته أنا وطيرته. وأما فأطردته فمعناه: أمرت بطرده، فإن الأصل طردته أطرد طردا. والثنية من المعز: هي التي دخلت في السنة الثالثة وذلك أنها تلقي ثنيتها فيها. والعفراء من الغنم: البيضاء التي يعلو بياضها حمرة. والأعفر: الأبيض الذي ليس بالشديد. والحتف: الموت وانتهاء العمر. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الطير أصناف: فالحمام منها شاة. وبه قال مالك، وأحمد، وروي عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وإليه ذهب ابن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير، وقتادة، وأبو ثور. وسواء عند الشافعي حمام مكة وغيرها إذا قتله المحرم. وبه قال ابن عباس، وابن المسيب، وعطاء، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: في حمام الحرم والحل قيمته. وقال الزهري والنخعي: مثله في حمام الحل. وقال مالك: في حمام الحل حكومة ولا يشبه حمام مكة. وقال قتادة: فيه درهم. ¬

_ (¬1) بالأصل بياض قدر كلمتين أو ثلاثة.

وأما بيان ما حكمت فيه الصحابة والتابعون وما لم تحكم فيه، فإن الشافعي قال: يجب اتباعهم فيما حكمت فيه، ولا يجوز الاجتهاد في مثله وتيقن ما حكموا به. وقال مالك: يجب التحكيم فيما حكمت وما لم تحكم، وأما إذا لم يحكموا فيه: يجتهد فيه ذوا عدل من المسلمين، يلحقانه بما هو أقرب إليه من النعم. قال الشافعي: وأحب أن يكونا فقيهين. وأما بيان من كان سببًا إلى إتلاف الصيد بزيادة، فإن الأسباب الموجبة للضمان لا تخفى، ويختص الصيد بزيادة في الأسباب، كما لو نفر صيدًا فمضى وسقط في نُفُورِه ضمن، وإن مات بآفة سماوية وقت النفور فوجهان، وكما لو أرسل كلبًا فاصطاد ضمن ما اصطاد، وينزل هذا الحديث منزلة من نفَّر الصيد بعرض له لا من المفر، لأن الحية لا تعلق المنفر بها وإنما كان سببًا بتنفيره من مكان إلى مكان. وقال صاحب الشامل: يجب عليه الضمان قولًا واحدًا. وقد أخرج الشافعي: عن سعيد، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: أمر عمر ابن الخطاب بحمامة فأطرت، فوقف بالمروة وأخذتها حية، فجعل فيها شاة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء أن عثمان بن عبيد بن حميد قتل ابن له حمامة، فجاء إلى ابن عباس فقال ذلك، فقال ابن عباس: يذبح شاة فيتصدق بها. قال ابن جريج: فقلت لعطاء: من حمام مكة؟ قال: نعم. هذا الحديث مسوق لبيان جزاء حمام مكة، وأن حكمه حكم جزاء حمام غير مكة على المحرم، وهو ما ذهب إليه الشافعي لأنه قال: فقلت: أمن حمام مكة؟ قال: نعم، فصرح بأنه من حمام مكة.

وقوله: "يذبح (¬1) شاة" يجوز أن يكون أمرًا، وقد حذف لام الأمر بكثرة الاستعمال، أراد: ليذبح شاة، لأن الأمر للغائب يحتاج إلى اللام، تقول: ليقم زيد، ويجوز أن يكون خبرًا، كأنه قال: إن ابني قتل حمامة فما عليه؟ قال له: يذبح شاة أي عليه ذبح شاة ويتصدق بها. قال الشافعي: وقد ذهب ذاهب: إلى أن في حمام مكة شاة وما سواه من حمام غير مكة من الطائر قيمته. وأظنه أراد. مالكًا. قال الشافعي: وما عب في الماء عبًّا من الطائر فهو حمام، وما شربه قطرة قطرة كشرب الدجاج فليس بحمام، وهكذا أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار "أن غلامًا من قريش قتل حمامة من حمام مكة، فأمر ابن عباس أن يفدى عنه بشاة". هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "الحج" (¬2) من الأمالي. وأخرج أيضًا عن سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس "أنه قضى في حمام مكة بشاة". قال الشافعي: وقال ذلك عمر، وعثمان، ونافع بن عبد الحارث وعبد الله ابن عمرو، وعاصم بن عمرو، وسعيد بن المسيب، وعطاء. قلت: وهذا الحديث يجوز أن يكون هو الحديث الذي قبله، إلا أنه سمى في الأولى قاتل الحمامة وهو ابن عثمان بن عبيد الله وهنا لم يسمه، إنما قال: غلام من قريش، ويجوز أن يكون الحديث غير الأول، وأن الغلام المذكور فيه غير ابن عثمان بن عبيد الله بن حميد. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل [ذبح] وقد تقدم في الرواية كما هو مثبت، ويأتي أيضًا في الشرح كذلك. (¬2) الأم (ص: 464 - 465) مختصر المزني.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن أبي عمار أخبره "أنه أقبل مع معاذ بن جبل وكعب الأحبار في أناس محرمين من بيت المقدس بعمرة، حتى إذا كنا ببعض الطريق وكعب على نار يصطلي، مرت به رجل من جراد فأخذ جرادتين فملهما ونسي إحرامه، ثم ذكر إحرامه فألقاهما، فلما قدمنا المدينة دخل القوم على عمر ودخلت معهم، فقص كعب قصة الجرادتين على عمر، فقال عمر بن الخطاب: ومن ذلك؟ لعلك بذلك كعب؟ ". قال: نعم إن حمير تحب الجراد، قال: ما جعلت في نفسك؟ قال: درهمين. قال: بخ درهمان خير من مائة جرادة، اجعل ما جعلت في نفسك. قوله: "محرمين" يجوز أن يكون حالًا من الراوي وممن كان معه من المذكورين، ويجوز أن يكون وصفًا لأناس. ومن في قوله: "من بيت المقدس" متعلقة بأقبل أو بمحرمين. وهو أولى. والباء في "بعمرة" متعلقه بمحرمين. وقوله: "حتى إذا كنا ببعض الطريق" رجوع من الغيبة إلى المتكلم، لأنه قال: أخبره أنه أقبل، فالكلام ليوسف بن ماهك، عن عبد الله بن أبي عمار، ثم قال: "إذا كنا" فالكلام لعبد الله بن أبي عمار، وهذا نوع من أنواع البلاغة والتصرف في الكلام، وهو في القرآءن العزيز كثير وله حسن في المجاورة وأوفق. والاصطلاء: التدفي بالنار وهو افتعال صلى يصلى فهو مصتل، فقلبت التاء طاء لقرب المخرج في التاء والطاء، ولمشاركة الطاء للصاد في الإطباق. والرجل -بكسر الراء وسكون الجيم-: الجماعة الكثيرة من الجراد خاصة،

وهو جمع على غير لفظ الواحد وذلك في كلامهم كثير، كقولهم لجماعة البقر: صوار، ولجماعة الحمير: عانة. وقوله: فملهم: أي سواهما بالملة وهي الرماد الحار، تقول: مللت الخبز أمله ملا وأمللته إذا عملته في الملة. وقوله: "ومن بذلك؟ " أي من المتلبس بهذا الفعل والمباشر له، وذلك كأن كعبًا حكى لعمر القضية ولم يعزها إلى نفسه، إنما قالها مطلقًا كالمخبر أو المستفتي، فقال له عمر: ومن الذي فعل ذلك؟ ولهذا قال له عمر بعد ذلك ولعلك أنت المتلبس به يا كعب إن حمير تحب الجراد؟! لأن كعبًا من حمير وأنك إنما جعلت تأخذ الجرادتين لأنك من حمير وحمير تحب الجراد، وأنه أراد أنك بأخذ الجرادتين وتسرعك إليهما، يدل على أن القوم الذين أنت منهم يحبون الجراد، وأن هذا الوصف فيك تالدٌ لا أن هذا شيء معروف بهم. وقوله: "ما فعلت في نفسك" يريد ما نويت أن تجرئ به الجرادتين. وقوله: "بخ" هذه كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ وهي ساكنة وتكرر للمبالغة، فيقال: بخ بخ، فإن [فصلت خففت فقلت ونونت بخ (¬1) بخ وربما شددت. وبخخت الرجل إذا قلت له ذلك. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الجراد يحب فيه الجزاء وروى عن عمر، وابن عباس، وأهل العلم. وقال أبو سعيد الخدري: لا جزاء فيه، لأنه زعم أن أقل ما خلق خروج من منخر حوت فهو يجزي وصيد البحر لا جزاء فيه. وروي ذلك عن عروة، وقد روي عن كعب أنه نترة حوت. وقال ابن عباس: قبضة من طعام. ¬

_ (¬1) في الأصل [وصلت جريرة الأولى فقلت] والعبارة غير مستقيمة والمثبت من اللسان مادة: بخخ.

وقال عطاء: قبضة أو لقمة. وقال الشافعي: ما كان من الطائر ليس بحمام ففيه قيمته في الموضع الذي يصاد فيه. وبه قال أبو ثور. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد [عن] (¬1) ابن جريج قال: أخبرني بكير بن عبد الله قال: سمعت القاسم يقول: "كنت جالسًا عند ابن عباس، فسأله رجل عن جرادة قتلها وهو محرم، فقال ابن عباس: قبضه من طعام، ولتأخذن بقبضة جرادات ولكن ولو". قال الشافعي قوله: ولتأخذن بقبضة جرادات إنما فيها القيمة. وقوله: [ولو] (¬2) يقول: تحتاط فنخرج أكثر مما عليك بعد أن أعلمتك أنه أكثر مما عليك. انتهى لفظ ابن عباس عند قوله ولو، وما بعده من كلام الشافعي شرح للفظ ابن عباس، لأنه قال: وفسر معنى قوله: لتأخذن بقبضة جرادات بالقيمة، لأنه جعل القبضة ثمنًا لعدة من الجراد. ومعنى قوله: "ولكن" يريد: ولكن أخرج القبضة وإن كانت أكثر من جرادة وجرادات أولى وأحوط. ومعنى قوله: "ولو" يريد: ولو أخرجت أكثر من ذلك كان الأجدر بك والأولى، وإليه أشار الشافعي في كلامه: تحتاط فتخرج أكثر مما عليك بعد أن أعلمك أنه أكثر مما عليك. [وأخرج] (¬3) الشافعي هذا الحديث في كتاب "الحج" الأكبر عن مسلم وسعيد، عن ابن جريج، عن بكير بالإسناد "أن رجلاً سأله عن محرم أصاب جرادة، فقال: تصدق بقبضة من طعام" وقال ابن عباس: وليأخذن بقبضة ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 198). (¬2) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 199). (¬3) في الأصل [وقوله] والسياق غير مستقيم ولم يضرب عليها والمثبت هو مقتضى السياق.

جرادات، ولكن على ذلك رأيي. معنى قوله: ولكن على ذلك رأيي أن الجرادة دون القيمة القبضة من الطعام وهي أكثر منها, ولكن أرى -من الرأي- أن يكون ذلك جزاءها وإن كان أكثر منها وأوفى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا [سعيد] (¬1) عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: "سئل ابن عباس عن صيد الجراد في الحرم فقال: لا. ونهى عنه. قال: أنا قلت له -أو رجل من القوم-: "فإن قومك يأخذونه وهم محتبون في المسجد؟ قال: لا يعلمون". وأخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مثله إلا أنه قال منحنون. قال الشافعي: ومسلم أصوبهما رواه الحفاظ عن ابن جريج: "منحنون". قوله: محتبون من الحبوة، لقول: احتبى يحتبي احتباءً إذا جمع ركبتيه إلى صدره وشدهما بمنديل أو حبل إلى ظهره، ليكون شبه المسند إلى شيء. والحبوة -بكسر حاؤها وتضم- وقد يحتبي الرجل بيديه. وأما منحنون: قاسم فاعل من الانحناء. وأراد بقوله: وهم محتبون وهم يأخذون الجراد ولا يحتاجون أن يقوموا أو سعوا في صيده، فيجمعون بين هتك حرمة الحرم والإحرام. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عبد الله بن الحصين، عن أبي موسى الأشعري أنه قال "في بيضة النعامة يصيبها المحرم: صوم يوم أو إطعام مسكين". صوم يوم مرفوع لأنه مبتدأ خبره متقدم عليه، وهو قوله: في بيضة النعامة، ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 198).

وإنما أخر المبتدأ لأنه نكرة والإطعام معطوف عليه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن ما كان من بيض طير يؤكل لحمه ففي بيضه قيمته. وروي ذلك في بيض النعام عن ابن مسعود، وابن عباس وبه قال الشافعي، والنخعي، والزهري، وأصحاب الرأي، وأبو ثور. وقال مالك: فيه عشر البدنة. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود مثله. هذا الحديث مؤكد لحديث أبي موسى. وقد رواه خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: فيه ثمنه أو قال: قيمته. قال ابن المنذر: وروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وروي عن ابن عباس: "أنه جعل في كل بيضتين من حمام الحرم درهمًا" وهذا يرجع إلى القيمة. قال الشافعي: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: "إن أصبت بيضة نعام وأنت لا تعلم؛ غرمتها تعظم بذلك حرمات الله". قال الشافعي: وبهذا نقول، فإن بيضة الصيد جزء منها لأنها تكون صيدًا. قال الربيع: فقلت للشافعي: هل تروي فيها شيئًا عاليًا؟ فقال: أما شيء يثبت مثله فلا، فقلت له: فما هو؟ قال: أخبرني الثقة عن أبي الزناد "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في بيضة النعامة يصيبها المحرم: قيمتها". ثم ذكر حديث أبي موسى وابن مسعود المقدم ذكرهما ولم يذكرهما ليستدل بهما على ما ذهب إليه. إنما حكى ذلك الربيع، وحديث أبي الزناد قد اختلف عليه في إسناده: فروي عن الوليد بن مسلم، عن ابن جريج، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صيام يوم. وأصح ما روي فيه: عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن زياد بن سعد، عن

أبي الزناد، عن رجل، عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "في بيض نعام كسره رجل: صيام يوم في كل بيضة". أخرجه أبو داود في المراسيل (¬1)، وقال: هذا هو الصحيح. قال الشافعي: فيما بلغه عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن علي "فيمن أصاب بيض نعام، قال: يضرب بقدرهن نوقا، قيل له: فإن أزلقت منهن ناقة؟ [قال] (¬2) فإن من البيض ما يكون مارقًا وإنما أو (¬3) ". هذا حكاية عمن استدل به على مذهبه، فإنه قال: وقال قوم: إذا كانت في النعامة بدنة فيحمل على البدنة، ورووا في هذا عن علي من وجه لا يثبت أهل العلم بالحديث مثله ولذلك تركناه، وبأن من وجب عليه شيء لم جزه بمغيب يكون أو لا يكون وإنما يجزئه بقائم، وذكر هذا الأثر عن علي ووهنه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة، عن حماد بن سلمة، عن زياد -مولى بني مخزوم وكان ثقة-: "أن قومًا حُرمًا أصابوا صيدًا، فقال لهم ابن عمر: عليكم جزاء، فقالوا: على كل واحد منا جزاء، أو على كلنا جزاء؟ فقال ابن عمر: إنكم لمغرر بكم بل عليكم كلكم جزاء واحد". إصابة الصيد: عبارة عن قتله. وقوله: "إنكم لمغرر بكم" أي إنكم مغرورون جاهلون بما يجب عليكم من الجزاء. وقد أخرج الشافعي هذا الحديث أيضًا عن الثقة، عن حماد بن سلمة، عن عمار -مولى بني هاشم- قال: "سئل ابن عباس: عن نفر أصابوا صيدًا؟ قال: ¬

_ (¬1) المراسيل (138) وقال: أسند هذا الحديث وهذا هو الصحيح. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (7/ 466)، وكذا السنن الكبير (5/ 208). (¬3) قوله [وإنما أو] غير مثبتة في المصدرين السابقين المشار إليهما وعنهما نقل المصنف فأراه وهم من الناسخ والله أعلم.

عليهم جزاء، قيل: على كل واحد منهم جزاء؟ قال: إنه لمغرر بكم، بل عليكم ذلكم جزاء واحد. قال البيهقي (¬1): كذا وجدته في كتاب "اختلاف الشافعي ومالك" وفي كلام الشافعي دلالة على أنه ابن عمر وأن الغلط وقع من الكاتب. قال: وقد رويناه من حديث يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن عمار -مولى بني هاشم- عن ابن عمر. ورواه ابن مهدي عن حماد، عن عمار، عن رباح، عن ابن عمر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الجماعة إذا اشتركوا في قتل صيد وجب عليهم جزاء واحد. وبه قال عمر، وابن عمر، وعبد الرحمن بن عوف، وبه قال الزهري، وعطاء، وحماد، وأحمد، وأبو ثور. وقال مالك وأبو حنيفة والثوري: يجب على كل واحد جزاء كامل. قال الشافعي -فيما ذهب إليه-: وهذا موافقه القرآن لأن الله -عز وجل- يقول: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬2) وهذا مثل، ومن قال: عليه مثلان فقد خالف موافقة معنى القرءان. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن عبد الملك بن قرير، عن ابن سيرين "أن عمر قضى هو ورجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - -قال مالك: هو عبد الرحمن بن عوف- عن رجلين وطئا ظبيًا فقتلاه؛ بشاة". قال المزني: سمعت الشافعي يقول: وهم مالك في ثلاثة أسامي، قال: عمر ابن عثمان وإنما هو عمرو بن عثمان، وقال: عمر بن الحكم وإنما هو معاوية بن الحكم، وقال: عبد الملك بن قرير، وإنما هو عبد العزيز بن قرير. ¬

_ (¬1) المعرفة (7/ 451). (¬2) المائدة: [95].

النوع الثامن فيما يجوز قتله من الحيوائات لغير مأكله

النوع الثامن فيما يجوز قتله من الحيوانات لغير مأكله أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي عمار قال: "رأيت ابن عمر يرمي غرابًا بالبيداء وهو محرمًا" (¬1). البيداء: موضع قريب من المدينة والميقات قبله، فإذا كان في البيداء يكون قد أحرم من ميقات المدينة وهو ذو الحليفة. والغراب من الفواسق التي يجوز قتلها في الحرم وغيره، وهي: الحدأة، والغراب، والحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور. وابن عمر لم يرد صيد الغراب، وإنما أراد دفعه عنه وطرده ليبعده عن أذاه، فلو أصابه برميه لنبله وفذلك جائز، ولهذا ذكره الشافعي مستدلًا به على جواز قتله لأنه صيد. قال الشافعي: قال الله -عز وجل ثناؤه-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬2). فلما أثبت الله -جل ثناؤه- إحلال صيد البحر، وحرم صيد البر ما كانوا حرمًا، دل على أن الصيد الذي حرم عليهم ما كانوا حرمًا؛ ما كان أكله حلالًا لهم قبل الإحرام. قال: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تدل على ما قلت، وإن كان بيَّنا في الآية. والله أعلم. قال الشافعي: وبهذا نأخذ وهذا عندنا جواب على المسألة وكل ما جمع من الوحش أن يكون غير مباح اللحم في الإحلال وأن يكون يضر، قتله المحرم، لأن ¬

_ (¬1) كذا في الأصل على النصب، وفي المسند بالرفع: (وهو محرم) وكذا في المعرفة (7/ 476). (¬2) المائدة: [96].

النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر بقتل الفأرة، والغراب، والحدأة مع ضعف ضرها إذا كانت مما لا يؤكل لحمه وضره أكثر من ضرها، أولى أن يكون قتله مباحًا. قال: وقد زعم مالك، عن ابن شهاب أن عمر أمر بقتل الحيات في الحرم. قال الشافعي: وأمر عمر بقتل الزنبور في الإحرام. وقد روى محمد بن هارون قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رجل: أصلحك الله! ما تقول في المحرم قتل زنبورًا؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬1) حدثني سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن خراش، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2): "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر". وحدثني سفيان، عن مسعر، عن قيس بن مسلم، عن [طارق بن] (¬3) شهاب، عن عمر أنه أمر بقتل الزنبور. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس من الدواب لا جناح عليَّ من قتلهن في الحل والحرم". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬4): فأخرجه بالإسناد واللفظ. ¬

_ (¬1) الحشر: [7]. (¬2) زاد في الأصل: [قال] وهي مقحمة. (¬3) في الأصل [طاوس عن] وهو تحريف والصواب هو المثبت. كذا في المعرفة (7/ 477)، والسنن الكبير (5/ 212). (¬4) الموطأ (1/ 288 رقم 88).

وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف. وأما مسلم (¬2): فعن يحيى بن يحيى. وأما النسائي (¬3): فعن قتيبة كلهم عن مالك. وأما أبو داود (¬4): فعن أحمد بن حنبل، عن سفيان. الجناح: الإثم والضيق، من جنح يجنح إذا مال. وقيل: الجناح: الحماية والحرم. والحدأة -بكسر الحاء وفتح الدال والهمزة-: معروفة وجمعها حدأ بحذف التاء. والعقور -بفتح العين-: الذي ينهش ويفترس وهو من أبنية المبالغة، ويدخل في حكم الكلب كل عقور من سبع كالأسد والنمر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الحيوان على ضربين:- أهلي، ووحشي. فالأهلي: يجوز للمحرم قتله بالذبح والنحر. وأما الوحشي: فعلى ضربين:- ما يؤكل لحمه: فيجوز له قتله كالحيوانات الخمس المذكورة وغيرها إلا أن يكون متولدًا بين ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه، كالحمار المتولد بين الأهلي والوحشي، والسبع المتولد بين الضبع والذئب. فأما قتل ما لا يؤكل لحمه فلا جزاء عليه. وبه قال الثوري، وأحمد، وإسحاق. ¬

_ (¬1) البخاري (1826). (¬2) مسلم (1199). (¬3) النسائي (5/ 187، 188). (¬4) أبو داود (1846).

وقال أبو حنيفة: يجب عليه الجزاء إلا الذئب والكلب. وقال مالك: ما لا يبتدي بالأذى كالبازي والصقر والثعلب مضمون. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت ميمون بن مهران قال: "كنت عند ابن عباس وسأله رجل، فقال: أخذت قملة فألقيتها، ثم طلبتها فلم أجدها، فقال ابن عباس: تلك ضالة لا تبتغى". هذا طرف من حديث قد أخرجه الشافعي أيضًا بطوله في كتاب الحج الأكبر (¬1) بهذا الإسناد، قال: "جلست إلى ابن عباس فجلس إليه رجل لم أجد رجلاً أطول شعرًا منه، فقال: أحرمت وعلي هذا الشعر؟، فقال ابن عباس: اشتمل على ما دون الأذنين منه، قال: قَبَّلتُ امرأة وليست بامرأتي؟ قال: زنا فوك، قال: رأيت قملة فطرحتها؟ قال: تلك الضالة لا تبتغى". الواو في قوله: "وسأله رجل" واو حال أي كنت عنده وقد سأله رجل. والضالة: الضائعة من ضل يضل إذا لم يهتد الطريق. والابيغاء: الطلب، وقوله: "لا تبتغى" في موضع رفع صفة لضالة أي مبتغاة، والصفة والموصوف في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ الذي هو "تلك". وقوله: "اشتمل على ما دون الأذنين منه" يريد اقطعه واترك منه ما دون الأذنين. قوله: "زنا فوك" يعني أن القبلة لا شيء فيها وإنما هي زنا الفم ولا حد فيه، ولكن عليك الإثم بتقبيلك غير امرأتك. والذي ذهب إليه الشافعي: أن القمل إن كان على ظاهر بدنه، أو ثوبه أماطه عنه، وإن كان في رأسه، فقال الشافعي: أكره أن يتفلى، فإن تفلى وقتل قملة ¬

_ (¬1) الأم (2/ 200 - 201)

تفتدى، وكل ما يفتدى به فهو خير منها وليس ذلك بواجب وكذلك البق والبعوض. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن [عبد الله] (¬1) بن الهدير "أنه رأى عمر بن الخطاب يقرِّد بعيرًا له في طين له بالسقيا وهو محرم. وقد أخرجه الشافعي في موضع آخر: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن ربيعة. وهذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ إسنادًا ولفظًا (¬2). وتقريد البعير: هو أخذ القراد من جسمه، والقراد: دويبة معروفة تلصق بأدبار الإبل، وجمعه القرادات، تقول: قرد بعيره ويقرد تقريدًا. والسقيا: موضع بين مكة والمدينة. قال الشافعي: قال ابن عباس: لا بأس بقتل القراد والحلمة. قال الربيع: فقلت للشافعي: قال صاحبنا -يعني مالكًا-: لا ينزع المحرم قرادًا ولا حلمة، ويحتج بأن ابن عمر كره أن ينزع المحرم قرادًا ولا حلمة، قال الشافعي: وكيف تركتم قول عمر وهو يوافق السنة لقول ابن عمر ومع عمر ابن عباس وغيره؟! وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): حدثنا [عبد الوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال " [صحبت] (¬3) عمر بن ¬

_ (¬1) في الأصل [عبد الرحمن] والصواب هو المثبت كذا في المسند، والمعرفة (7/ 478) والمسند المطبوع مع الأم (464) وكذا في الموطأ وسيأتي. وفي الأم (2/ 209): [ربيعة بن الهدير] وراجع ترجمته من تهذيب الكمال (9/ 120). (¬2) الموطأ (1/ 289 رقم 92). (¬3) سقط من الأصل، والمثبت من مطبوعة المسند، والمعرفة (7/ 193) وبه يستقيم السياق.

الخطاب في الحج فما رأيته مضطربًا فسطاطًا حتى رجع". قال الشافعي: وأظنه قال في حديثه -أو غيره-: كان ينزل تحت الشجرة ويستظل بنطع أو كساء. وقال: فأما قول ابن عمر "اضح لما خرجت له" فلعله (¬1) أراد ما أصاب في ذلك مما يشق عليه كان جزاء له، وما أمره في ذلك بفدية ولا ضيقه عليه، وقد جاء في الحديث الصحيح في ذكر حجة الوداع حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزلها؛ وفي الحديث الثابت عن أم الحصين قالت: "حججت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأيت أسامة وبلالًا وأحدهما آخذ خطام ناقته، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر "أنه نظر في المرآة وهو محرم". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬2): عن أيوب بن موسى، "أن [عبد الله ابن] (¬3) عمر نظر في المرآة لشكوى كانت بعينيه وهو محرم". وهذا جائز للمحرم أن يفعله لا حرج عليه فيه. ¬

_ (¬1) في المعرفة (7/ 194): [اضح لمن أحرمت له] وكذا لفظه في السنن (5/ 70). (¬2) الموطأ (1/ 290 رقم 94). (¬3) تكررت في الأصل.

النوع العاشر في إنشاد الشعر

النوع العاشر (*) في إنشاد الشعر أخبرنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن مروان بن الحكم، عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من الشعر حكمة". هكذا أخرجه الشافعي مرسلاً، وقد أخرجه البخاري وأبو داود موصولاً. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أبي بكر، عن مروان، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبي بن كعب. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري بالإسناد، عن أبي بن كعب قوله: "إن من الشعر لحكمة" أي بعض الشعر كلام جيد يمنع عن الجهل والسفه وينهى عنهما، وقد روى: "أن من الشعر حكمًا والحكم كالحكمة أيضًا". قال صعصعة بن صوحان: قوله: "إن من الشعر حكمة" معنى هذه المواعظ والأمثال التي يتعظ الناس بها. وقال غيره: هو ما لا ريب فيه فلا سفه وأنه على سبيل المدح، والشكر، والثناء، والدعاء وأشباه ذلك من أنواع الشعر. هذا الحديث أخرجه الشافعي مستدلًا به على ما يجوز أن يقوله المحرم ويتكلم به، فإنه قال: لا بأس أن يفتي في الطلاق والزنا والنكاح وكل ذكر للنساء، قد ¬

_ (¬1) البخاري (6145). (¬2) أبو داود (5010). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "النوع التاسع"، والله أعلم.

كان ابن عباس ينشد: وهن يمشينا بنا هميسا ... إن يصدق الطير تَيكْ لميسا (¬1) فقيل له: يا ابن عباس: أترفث؟ فقال: إنما الرفث ما روجع به النساء. قال الشافعي: وأحب للمحرم والحلال أن يكون قولهما بذكر الله، وفيما يعود عليهما منفعته في دين أو دنيا, وليس يضيق على واحد منهما أن يتكلم بما لا يأثم فيه، والشعر والكلام غير الشعر سواء لا فرق بينهما، وذكر حديث عبد الرحمن بن الأسود. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا إبراهيم، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشعر كلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه". هذا الحديث ذكره الشافعي في سياق الحديث الذي قبله، تبيينًا لما قاله وذهب إليه من كون الشعر لا فرق بينه وبين الكلام، غير الشعر فيما حسن من النثر وجاز للمحرم أن يقوله والحلال جاز لهما من الشعر مثله، وما قبح ولم يجز لهما قوله من النثر لم يجز مثله من الشعر. أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم الأزرقي، عن أبيه "أن عمر بن الخطاب ركب راحلة وهو محرم، فتدلت به فجعلت تقدم رجلاً وتؤخر أخرى". قال الربيع: قال عمر شعرًا:- كأن راكبها غصن بمروحة ... إذا تدلت به أو شارب ثمل ثم قال: الله أكبر، الله أكبر. ¬

_ (¬1) انظر البيت في المعرفة (7/ 188).

تدلت به: من قولهم: دلوت الإبل أدلوها دلوًا سقتها سوقًا رويدًا، وتدلت هي: إذا سارت ومشت تلك المشية. والمروحة: مجرى الريح، يقال: فلان بمروحة أي بموضع تمر به الريح. والثمل: الذي قد عمل فيه الشراب وسكر أول السكر، فهو يتمايل هذا الراكب على الراحلة التي قد تدلت به وتمايلت في مشيتها. وهذا معنى قوله: تقدم رجلا وتؤخر أخرى. وقد استدل الشافعي بهذا الحديث: على جواز إنشاد الشعر ثم إنه لما أنشد أتبعه بالتكبير، لأن المحرم يكبر ويذكر الله تعالى ويلبي. ***

النوع الحادي عشر في المحرم إذا مات

النوع الحادي عشر (*) في المحرم إذا مات أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: "كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فخر رجل عن بعيره فوقص فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه". قال سفيان: وزاد إبراهيم بن أبي حرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيبًا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي النعمان، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن ابن جبير. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن عمرو. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن عتبة بن عبد الله، عن يونس بن نافع، عن عمرو بن دينار. ¬

_ (¬1) البخاري (1267). (¬2) مسلم (1206). (¬3) أبو داود (3238). (¬4) الترمذي (951) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) النسائي (4/ 39). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "النوع العاشر"، والله أعلم.

خر يخر: إذا سقط من موضع عال. ووقص الرجل: لما لم يسم فاعله إذا وقع فاندقت عنقه، وأوقصته: إذا ألقته فأصابه ذلك. والسدر: ورق النبق وهو من الغسولات المعروفة. وخمرت الشيء: إذا غطيته وسترته. والتلبية في الحج معروفة، وقد جاء في بعض الروايات "يبعث ملبدًا" والتلبيد: هو أن يجعل في الشعر يمسك بعضه ببعض، كصمغ أو غراء، وكذا كل ما يفعله المحرم أولاً لئلا يتشعث شعره. قال أحمد بن حنبل: في هذا الحديث خمس سنن: "كفنوه في ثوبيه" أي يكفن الميت في ثوبين، و"اغسلوه بماء وسدر" أي في الغسلات كلها سدرًا، "ولا تخمروا رأسه، ولا تمسوه طيبًا" وأن الكفن من جميع المال. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن المحرم إذا مات يغسل كما يغسل غيره من الأموات، ويكفن في ثوبي إحرامه، ولا يغطى رأسه لأن إحرام المحرم في كشف رأسه دون وجهه، ولا يطيب لأن المحرم إذا مات لا يبطل إحرامه. وروي ذلك عن عثمان، وعلي، وابن عباس. وبه قال عطاء، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وداود لأنه قال: "يبعث يوم القيامة ملبيًا" فأثبت له حال المحرم من التلبية. وقال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: إحرام الرجل يتعلق برأسه ووجهه. وبه قال الأوزاعي. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب أن عثمان بن عفان صنع نحو ذلك. هذا ذكره مؤكد لحديث ابن عباس، قال: عثمان من الأئمة المهديين، وعلمه بالحديث حجة.

الفرع الثاني من الفصل الأول من الباب الثالث في النية عند الأحرام

الفرع الثاني من الفصل الأول من الباب الثالث في النية عند الإحرام أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد وغيره، عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله قال: "قدم علي بن أبي طالب من سعايته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بما أهللت يا علي"؟ قال: بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فاهد وامكث حرامًا كما أنت"، قال: وأهدى له علي هديًا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن مكي بن إبراهيم، عن ابن جريج. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج بالإسناد وذكر حديثًا طويلًا في آخره: فقدم من سعايته وذكر الحديث. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن عبد الوهاب الثقفي، عن حبيب المعلم، عن عطاء بالإسناد "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل هو وأصحابه بالحج وليس مع [أحد] (¬4) منهم يومئذٍ هدي، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة، وكان علي قدم من اليمن ومعه الهدي، فقال: أهللت بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ (¬1) البخاري (4352). (¬2) مسلم (1216). (¬3) أبو داود (1789). (¬4) سقط من الأصل والمثبت من أبي داود.

وأما النسائي (1): فأخرجه عن عمران بن يزيد، عن شعيب، عن ابن جريج، بالإسناد وذكره. سعى الرجل يسعى سعيًا: إذا غدا، وكذلك إذا عمل فكسب، وكل من ولي شيئًا على قوم فهو ساع عليهم، وأكثر ما يقال ذلك في ولاة الصدقة وأخذها من أربابها وهو الساعي، والسعاية فعلة منه: وهي الحالة والهيئة. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نفذ عليًّا إلى اليمن ساعيًا على صدقاتها، فجاء بها والنبى - صلى الله عليه وسلم - بمكة في حجة الوداع، وكان لما بلغ الميقات نوى في إهلاله بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -، طلبًا لموافقته لما لم يكن عالمًا بما أهل به على إهلاله على إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -. والإهلال: هو رفع الصوت بالتلبية، أهل يهل إهلالًا فهو مهل، والمهل: الميقات، وحقيقته: موضع الإهلال ومنه استهل الصبي: إذا صاح عند الولادة. والمراد بقوله: "بما أهللت"؟ بأي نوع من أنواع نية الحج أصاب حجك ونويته، هل مفردًا أو قارنًا أو متمتعًا؟ فإن وقت نية الحج هو عند الإحرام والتلبية. وفرق بين قوله: "بما أهللت"؟، وبين قوله: "بما أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -". فإن ما الأولى للاستفهام، أي بأي شيء استهللت، أما الثانية: فهي بمعنى الذي أي أهللت بالذي أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -. والهدي: ما يسوقه الحاج أو المعتمر إلى البيت من الإبل والبقر والغنم تقربًا إلى الله تعالى، تقول: أهديت إلى البيت هديًا، وهديًا مخففًا ومثقلاً، الواحدة هدية وهدية. والمكث: المقام واللبث على الحالة وفي المكان. والحرام: الذي يكون قد أحرم بالحج أو العمرة، فلا يحل له شيء من محظورات الحج حتى يقضي حجه أو عمرته ويحل له ما كان عليه حرامًا. قوله: "كما أنت" يريد الحالة التي وصل عليها. والضمير في "له" يجوز أن يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني أن عليًّا أهدى

_ (1) النسائي (5/ 157).

للنبي - صلى الله عليه وسلم - هديًا من اليمن، ويكون ذلك من نصيبه في سعايته، ويجوز أن يعود الضمير إلى علي، أي أنه لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اهد وامكث حرامًا" أهدى لنفسه هديًا حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معه هدي لنفسه، وكان علي قد نوى نية النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحتاج أن يكون معه هدي مثله. وفقه هذا الحديث:- جواز تعليق النية في الحج على نية الغير. وفيه: بيان أن من أهدى لا يحل يبلغ (¬1) الهدي محله. وأما الأول: فالذي ذهب إليه الشافعي أنه إن نوى حجة كان حاجًا، أو نوى عمرة كان معتمرًا، أو نوى قرانًا فهو قارن، أو نوى متعة فهو متمتع، أو نوى مطلقًا من غير تعيين صح إحرامه، ولو صرف النية إلى هذه الأنواع أراد، وإن نوى إحرامًا مبهما، كإهلال فلان مثلًا صح إحرامه وكان عليه ما على من علق نيته عليه. وهذا هو المراد من الحديث، فإن عليًّا أحرم إحرامًا مبهمًا كإحرام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن إحرامه انعقد لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه على ذلك. وأما حكم الهدي: فإنه يستحب لمن قصد مكة حاجًا أو معتمرًا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، ثم ينحره ويفرقه على المساكين، والهدي وإن كان متعلقًا بالإحرام وكان هدي إحصار فإنه للنحر في الحرم وهو محله. ووقت النحر: هو يوم الأضحى، وأفضل أماكنه بمنى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش أن جابر بن عبد الله قال: "ما سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجًا قط ولا عمرة". ¬

_ (¬1) كذا العبارة في الأصل وبها سقط ولعل الساقط قوله (حتى) ليستقيم المعنى.

هكذا أخرجه في كتاب المناسك، ووقع في موضع آخر عن إبراهيم، عن سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سمى إحرامه حجًا ولا عمرة. ولم يذكر جابرًا وقد جاء هذا أيضًا عن عائشة، وسيرد في موضعه إن شاء الله تعالى. معنى قوله: "ما سمى في تلبيته حجًا ولا عمرة" له تأويلان:- أحدهما: أنه لم ينو عند إحرامه شيئًا من هذين النسكين، إنما نوى إحرامًا مطلقًا من غير تعيين، وله بعد ذلك أن يصرفه إن شاء إلى الحج، وإن شاء إلى العمرة. والثاني: أنه لم يذكر في تلبيته لفظ الحج ولا لفظ العمرة، إنما كان التلبية عارية عن تسمية أحدهما، وإن كانت النية فيها متعينة وذلك لأن الاعتماد في نية الحج عند الإحرام؛ على ما يقصده المحرم لا على ما يتلفظ به، فإن التلبية ليست عند الشافعي شرطًا في النية، وسيرد بيان ذلك فيما بعد، والذي نذكره هاهنا أن المحرم لا يخلو أن يعين إحرامه أو يطلقه، والتعيين أولى وأفضل لأنه يكون عالمًا بما يلابسه من العبادة. هكذا قال في الأم (¬1). وقال في الإملاء: الإطلاق أفضل لأنه أحوط له إذ لا نأمن مانعًا من إحصار أو عدو يمنعه عن الحج، فيجعله عمرة ويتمكن من أدائها، إذا ثبت هذا فإن قلنا الإطلاق أفضل فلا كلام، وإن قلنا التعيين أفضل ثم عين فهل يستحب له أن يذكر ما عين في تلبيته أم لا؟ فالذي قاله في عامة كتبه: أن يجرد تلبيته ولا يذكر فيها نسكه أخذًا بهذا الحديث، فإنه قال: ويلبي المرء أو ينوي حجًا إن أراد أو عمرة أو هما, ولا أحب أن يسمي لأنه يروى عن جابر: "ما سمى ¬

_ (¬1) الأم (2/ 155).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلبيته قط حجا ولا عمرة" قال: ولو سمى المحرم ذلك [لم] (¬1) أكرهه له إلا أنه لو كان سنة سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده. قال: وأخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن [أبي] (¬2) نجيح، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه سمع بعض أهله يسمى حجًا وعمرة، فضرب في صدره، ثم قال: أتعلم الله بما في صدرك؟. ومن أصحابه من قال: أن الأولى أن يذكر ذلك في تلبيته. وبه قال أحمد. ... ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 155). (¬2) من المعرفة (7/ 125).

الفرع الثالث في فسخ الحج وإدخال العمرة عليه

الفرع الثالث في فسخ الحج وإدخال العمرة عليه أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، حدثني ابن طاوس وإبراهيم ابن ميسرة وهشام بن حجير (¬1) سمعوا طاوسًا يقول: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لا يسمي حجًا ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم أهل ولم يكن معه هديً أن يجعلها عمرة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولكن لبدت رأسي وسقت هديي، فليس لي محل دون محل هدي" فقام إليه سراقة بن مالك، فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم، أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: "بل للأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" ودخل علي بن أبي طالب من اليمن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بما أهللت"؟ فقال -: أحدهما عن طاوس- إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الآخر: لبيك حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. هذا حديث صحيح أخرجه الشافعي هكذا مرسلًا عن طاوس. وقد أخرج هذا المعنى البخاري ومسلم، من رواية طاوس في طرق عدة إلا أن كل طرقه تتضمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بالحج مفردًا, ولم يذكر واحد منهم أنه أهل إهلالًا مطلقًا كما ذكره الشافعي، فلعل طاوس قد روى هذا الحديث عن غير جابر، وقد تقدم بيان جواز الإحرام للوقوف، وهذا هو معنى قوله: "لا يسمي حجًا ولا عمرة، وإنما كان ينتظر القضاء وما ينزل به الوحي، وأنه لم ¬

_ (¬1) في الأصل [حجرة] وهو تصحيف والمثبت من الأم (2/ 127) وانظر ترجمته من تهذيب الكمال (30/ 179).

ينزل عليه الوحي إلا وهو بين الصفا والمروة في السعي، وذلك عند الفراغ من أعمال العمرة، فلما نزل الوحي أمرهم أن يجعلوها عمرة. قال الشافعي: ومن وصف انتظار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليه القضاء، طلبًا للاختيار فيما وسع الله عليه من الحج والعمرة، يشبه أن يكون أحفظ. وتلبيد الشعر: هو أن يسرح ثم يجعل فيه شيء من صمغ أو نحوه حتى يلتزق ولا يتشعث في الإحرام، وييبس فيسقط منه شيء فتجب فيه الفدية. والأبد: الدهر. وقوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" مختلف في تأويله:- فمن قال بوجوب العمرة، قال: معناه أن العمرة قد دخلت في أشهر الحج، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يعتمرون في أشهر الحج، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك [بقوله] (¬1) هذا. وقيل: معناه أن عمل العمرة قد دخل في عمل الحج، فلا يرى على القارن أكثر من إحرام واحد. ومن قال: إن العمرة سنة قال: معناه أن فرضها ساقط بالحج وهو معنى دخولها فيه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة لا نرى إلا الحج، فلما كنا بسرف -أو قريبًا منها- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة، فلما كان بمنى أتيت بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ قالوا: ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه. قال يحيى: فحدثت به القاسم بن محمد، فقال: جاءتك والله بالحديث ¬

_ (¬1) في الأصل [بقو] والمثبت هو مقتضى السياق.

على وجهه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى، عن عمرة والقاسم مثل حديث سفيان لا يخالف معناه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته لا نرى إلا الحج، حتى إذا كنا بسرف -أو قريبا منها- حضت فدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: "ما لك أنفست"؟ فقالت: نعم، فقال: "إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت". قالت: ثم ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر. هذا الحديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أخصر من هذا فيما يتعلق بحيضها وما أمرها به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما البخاري ومسلم: فأخرجا لهذا طرقًا كثيرة طويلة ومختصرة، فمن جملتها أن البخاري (¬2): أخرج عن عبد الله بن يوسف، عن مالك بإسناده. وفي أخرى (¬3): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة. وذكر الرواية الأولى. وأما مسلم (¬4): فأخرج الأولى عن عبد الله بن مسلمة، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة. وأخرج الثالثة: عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب جميعًا ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 328 رقم 223). (¬2) البخاري (1650). (¬3) البخاري (1709). (¬4) مسلم (1211 رقم 125، 119).

عن ابن عيينة. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أبي سلمة موسى، عن حماد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. وذكر نحو الثالثة أطول منها. وفي أخرى: عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة وذكر نحو الأولى ولم يذكر لحم البقر. وأما الترمذي (¬2): فأخرج منه طرفًا عن علي بن حجر، عن شريك، عن جابر ابن يزيد الجعفي، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: حضت فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت. وهذا الطرف لا تعلق له بهذا الباب، وإنما هو مختص بأحكام الطواف. وأما النسائي (¬3): فأخرج عن محمد بن عبد الله بن يزيد والحارث بن مسكين، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. وذكر نحو الثالثة ولم يذكر التضحية بالبقر. تقول: نفست المرأة -بالفتح- إذا حاضت وإذا ولدت، فأما بالضم فإنما الولادة دون الحيض. وقوله: "هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم" تسلية لها بالأمر المقضي الذي لا حيلة في دفعه. وفي هذا الحديث من الفقه، غير ما هو مسوق لأجله من فسخ الحج: بيان التضحية بالبقر وحكم طواف الحائض، وما يجوز لها من أعمال الحج، وسيرد ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم، عن ابن جريج عن ¬

_ (¬1) أبو داود (1783، 1782). (¬2) الترمذي (945). (¬3) النسائي (5/ 156).

منصور ابن عبد الرحمن، عن صفية بنت شيبة، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كان معه هدي [فليقم على إحرامه، ومن لم يكن معه هدي] (¬1) فليحلل" ولم يكن معي هدي فحللت، وكان مع الزبير هدي فلم يحلل. هذا حديث صحيح أخرجه مسلم والنسائي. فأما مسلم (¬2): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن محمد بن بكر، وعن زهير، عن روح جميعًا عن ابن جريج، عن منصور بالإسناد، قالت: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمين، [فلما] (¬3) قدمنا مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان معه هدي ... " وذكر الحديث وزاد في آخره، قالت: "فلبست ثيابي ثم خرجت فجلست إلى جنب الزبير، فقال لي: قومي، فقلت: أتخشى أن أثب عليك؟ ". وفي أخرى: عن عباس بن عبد العظيم، عن أبي هشام المخزومي، عن وهيب، عن منصور بالإسناد قال: قدمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج. وذكر الحديث. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن المبارك، عن أبي هشام بإسناد مسلم كروايته، وزاد فيه: فلبست ثيابي وتطيبت من طيبي، وهذا الحديث مؤكد لحديث قبله. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما شأن الناس حلو بعمرة، ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: "إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل، والمثبت من الأم (2/ 126) وكذا في مطبوعة المسند. (¬2) مسلم (1236). (¬3) في الأصل [فإنما] وهو تصحيف، والمثبت هو المناسب للسياق وهذه العبارة ليست في رواية مسلم. (¬4) النسائي (5/ 246).

أنحر". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الترمذي. أما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف، عن مالك. وعن مسدد (¬3)، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع. وعن إبراهيم (¬4) بن المنذر، عن أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وعن ابن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع. وعن ابن نمير، عن خالد بن مخلد، عن مالك. وعن أبي بكر، عن أبي أسامة، عن عبيد الله. وعن ابن أبي عمر، عن هشام بن سليمان وعبد المجيد، عن ابن جريج كلهم عن نافع. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما النسائي (¬7): فأخرجه عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك. تقليد الهدي: أن يجعل في رقابها قلادة من أي شيء كان ليكون علامة له ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 316 رقم 180). (¬2) البخاري (1566). (¬3) البخاري (1697). (¬4) البخاري (4398). (¬5) مسلم (1229). (¬6) أبو داود (1806). (¬7) النسائي (5/ 172).

أنه هدي، ومن فعل لا يحل حتى ينحر الهدي، وتلبيد الشعر قد ذكرناه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله وذكر حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره إياهم بالإحلال، وأنه قال لهم: "إذا توجهتم إلى منى رائحين فأهلوا". هذا طرف من حديث صحيح متفق عليه، قد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن ابن جريج. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج. ولهما روايات كثيرة عن أبي الزبير وغيره عن [] (¬3). ونحن نذكر بعض طرقهما ليعلم منها الحديث الذي هذا طرف منه، قال جرير (¬4) -من رواية أبي الزبير عنه-: "أقبلنا مهلين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: "الحل كله". فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة فوجدها تبكي، فقال: "ما شأنك" قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، ¬

_ (¬1) البخاري (2505، 2506). (¬2) مسلم (1214). (¬3) بياض بالأصل قدر سطر. (¬4) عند مسلم من رواية الليث بن سعد.

والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: "إن هذا أمر كتبه الله علي بنات آدم، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج". ففعلت ووقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعًا"، قالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم" وذلك ليلة الحصبة". وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزبير. وعن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير. وأما النسائي (¬2): فأخرجه بإسناد ولفظ أبي داود. عركت المرأة: إذا حاضت. ومواقعة النساء: كناية عن جماعهن. ويوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جابر -وهو يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -- قال: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أتى البيداء، فنظرت مد بصري من راكب وراحل بين يديه وعن يمينه، وعن شماله ومن [ورائه] (¬3)، كلهم يريد أن يأتم به يلتمس أن يقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا ينوي إلا الحج ولا يعرف غيره ولا يعرف العمرة، فلما طفنا فكنا عند المروة، قال: "يا أيها الناس، من لم يكن معه هدي فليحلل وليجعلها عمرة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت" فحل من لم يكن معه هدي". ¬

_ (¬1) أبو داود (1785، 1786). (¬2) النسائي (5/ 164). (¬3) في الأصل [الآية] وهو تصحيف والتصويب من مطبوعة المسند (958).

هذا طرف من حديث طويل صحيح، أخرجه مسلم، وأبو داود بطوله يتضمن ذكر حجة الوداع من أولها إلى آخرها. أخرجها مسلم (¬1): عن أبي بكر بن أبي شيبة وإبراهيم بن أبي شيبة وإسحاق ابن إبراهيم جميعًا عن حاتم بن إسماعيل المدني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه وسيرد الحديث وذكر فيه الطرف الذي ذكره الشافعي. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بطوله. وهذا الطرف هو نحو الطرف الذي قبله عن جابر أيضًا، إلا أنه لما كان ذلك الطرف هو حديث قد أخرجه البخاري ومسلم عن جابر وليس فيه ذكر حجة الوداع، وهذا الطرف هو من طريق حجة الوداع ولم يخرج البخاري حجة الوداع أفردناه لذلك. قوله: "وهو يحدث" الواو للحال، تقديره: أخبرنا بهذا الطرف الذي ذكرناه وهو يحدث بالحديث كله. والبيداء: موضع معروف قريب من المدينة على طريق ذي الحليفة يسلكها من يمضي إلى مكة، والبيداء في الأصل: المفازة من الأرض وهي الصحراء، والجمع: البيد. ومد البصر: كل ما ينتهي النظر إليه من الآفاق، كأن البصر قد امتد إلى منتهاه، وهو منصوب على الظرف، أي نظرت في مد بصري، أو على أنه مصدر من غير لفظ الفعل، كأنه قال: نظرت نظرًا ممتدًا. ¬

_ (¬1) مسلم (1218). (¬2) أبو داود (1905).

وقوله: "من بين راكب وراجل" يريد أن. يمد بصره كان ممتلئًا ركبانًا ورجالة، فجاء به بلفظ الواحد لأن العين لا تدرك الأشياء واحدا ثم ينتقل نظرها إلى ما يجاوز ذلك الواحد، فكأن بصره أول ما أدرك راكبًا أو راجلاً، ثم تعدى إلى جميع الركبان والرجالة. وقوله: "أن يقول كما يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" يريد به نية الحج والتلبية والأذكار التي يقولها في أعمال الحج جميعها. وقوله: "لا ينوي إلا الحج" جملة منصوبة على الحال وهي متعلقة بقوله: "خرجنا لا ننوي إلا الحج". والمروة: أحد أمدي المسعى، وهي في الأصل: حجر أبيض براق يقدح منه النار، والجمع: مرو. ومعنى قوله: "فليحلل وليجعلها عمرة" أنهم كانوا قد أحرموا بالحج فلما وصلوا إلى مكة وطافوا وسعوا بقي عليهم من أعمال الحج: الوقوف والرمي، والحلق وغير ذلك من باقي أعماله، فأمرهم أن ينقضوا فيه الحج ويجعلوا بدله عمرة ويحلوا، لأن العمرة تنقضي بالطواف والسعي والحلق أو التقصير. وقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اهديت" (¬1) يعني أن سنة من أهدى ونوى الحج أن لا يحل من حجه، ولا يجوز له فسخه وجعله عمرة حتى ينحر هديه يوم النحر، ومعناه: أني لو عنَّ لي لما اهديت، أي لما جعلت علي هديًا، فإن من لم يكن معه هدي لم يلتزم ذلك، وجاز له فسخ الحج. قال إمام الحرمين: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا محمول على أني سقت الهدي لاتطوع به، وهو الهدي في إطلاق الشرع، فلو تمتع صار ما ساقه كفارة وخرج عن كونه تطوعًا، فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبطل قصده في التطوع، وإنما أراد النبي ¬

_ (¬1) في الأصل [اهتديت] وهو تصحيف.

- صلى الله عليه وسلم - بهذا القول لأصحابه تطييبًا لقلوبهم، لأنهم كان يشق عليهم أن يحلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرم، فإنهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه، ولا يتركون الاقتداء به، فقال لهم ذلك تأنيسا وإعلامًا أن الأفضل ما أمرهم به ودعاهم إليه، وبهذا يستدل أن من قال أن التمتع أفضل من الإفراد والقران، وقيل: بل كان قوله هذا مع تطييب قلوبهم دلالة على الجواز لا الفضيلة، فإنه لولا الهدي لفعله. وقد اختلف الأئمة: في أمره لهم بالإحلال، فقيل: كان أمرًا مبهمًا موقوفًا على انتظار الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يحرم، فنزل الوحي أن يجعلوها عمرة ثم يحرموا بالحج. وقيل: بل كانوا محرمين بالحج مفردًا فأمرهم بفسخه إلى العمرة. ثم اختلفوا فقالت طائفة: إن هذا الفسخ كان خاصًا لهم. وقالت طائفة: بل الفسخ للناس كافة. وقد روى فسخ الحج: ابن عباس، وجابر، وعائشة وغيرهم. وقيل: إن الفسخ إنما وقع لأن العرب كانوا يحرِّمون العمرة في أشهر الحج، فأمرهم بذلك صرفًا لهم عن سنة الجاهلية. والذي ذهب إليه الشافعي: أن من أحرم بالحج لا يجوز له فسخه إلى العمرة. وبه قال عامة الفقهاء. وقال أحمد: يجوز له ذلك وإن لم يسق الهدي. وأن من أهل بالعمرة فله أن يدخل عليها الحج قبل أن يفسخ الطواف، ولا يجوز بعده إلا أن يتحلل منها بعد إتمام عملها ثم يحرم بالحج. فأما إدخال العمرة على الحج فلا يجوز على أصح القولين، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: يجوز ويكون قارنًا. ولا خلاف بين العلماء أن الإفراد، والقران، والتمتع معمول بها ثلاثتها، وإنما

اختلفوا في الأفضل منها. فأما ما دل عليه هذا الحديث: وهو فسخ الحج بعمرة واستئناف الحج فهو نوع من أنواع التمتع، وأصل التمتع: أن ينوي عمرة في أشهر الحج ثم يفرغ منها ويحرم بالحج من مكة، وهو أفضل من الإفراد والقران في إحدى قولي الشافعي، وبه قال أحمد. والظاهر من مذهب الشافعي وهو الأشهر والذي عليه أصحابه: أن الإفراد أفضل من القران والتمتع. وبه قال مالك وأبو ثور. وكان ابن عمر، وجابر، وعائشة يرونه أفضل. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، وإسحاق، وابن المنذر، والمزني: القران أفضل ثم التمتع إذا ساق الهدي؛ فلا يحل حتى يفرغ من العمرة والحج معًا، فإنه إذا أحرم بالحج بعد العمرة يكون قارنًا. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال الشافعي، ومالك: يحل بالفراغ من العمرة كمن لم يسق الهدي وأن الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - استحباب وسنة. وهذه الأحاديث التي ذكرناها في هذا، كلها دالة على جواز فسخ الحج بالعمرة، والشافعي لا يقول به وعامة الفقهاء معه، ويعتذر بأن هذا كان خاصًّا لهم ويستدل بحديث أبي ذر أنها كانت رخصة لهم. والله أعلم.

الفرع الرابع في الاشتراط والاستثناء في الحج

الفرع الرابع في الاشتراط والاستثناء في الحج أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بضباعة بنت الزبير فقال: "أما تريدين الحج"؟ فقالت: إني شاكية، فقال لها: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني". هذا حديث صحيح أخرجه الشافعي هكذا مرسلًا عن عروة بن الزبير، وقد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي مسندًا عن عائشة. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير، فقال لها: "لعلك أردت الحج"؟ قالت: والله ما أجدني إلا وجعة، فقال: "حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني" وكانت تحت المقداد بن الأسود. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني، عن أبي أسامة. وذكر الحديث. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وهشام بن عروة. قال النسائي: لا أعلم أحدًا أسند هذا الحديث عن الزهري غير معمر. شكى الإنسان يشكو شكاية: إذا كان يؤلمه شيء فأظهر التألم به، فهو شاك ¬

_ (¬1) البخاري (5089). (¬2) مسلم (1207). (¬3) النسائي (5/ 168).

والمرأة شاكية أو مريضة. والمَحِل -بفتح الميم وكسر الحاء-: موضع الحل ووقته أي يحل المحرم فيه ما كان عليه حرامًا بإحرامه. والحبس: المنع والصد. وقولها: "ما أجدني" من وجدت بمعنى رأيت ولهذا تعدى إلى مفعولين. والذي ذهب إليه الشافعي في الاشتراط قد اختلف فيه قوله، وذلك أنه إذا أحرم واشترط عند الإحرام أن يتحلل متى عرض له عارض من مرض، أو أخطأ الطريق، أو ذهاب نفقة فقطع؛ في القديم يُجوِّز ذلك، وعلق القول في الجديد، فقال: إن صح حديث ضباعة قلت به. فاختلف أصحابنا في معنى هذا القول:- فمنهم من قال: في القديم يجوز له ذلك قولًا واحداً، وقال في الجديد قولان. ومنهم من قال: يجوز قولًا واحدًا، وإنما علق القول في الجديد بصحة الحديث وقد صح. وبعدم الجواز قال مالك وأبو حنيفة. وأنكره طاوس، وابن جبير، والزهري. وبالجواز روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر. وبه قال الأسود بن يزيد، وعلقمة، وشريح، وابن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وعطاء بن يسار، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. قال الشافعي: لو ثبت حديث عروة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاستثناء لم أعده إلى غيره، لأنه لا يحل عندي خلاف ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن إبراهيم بن عبد الأعلى،

عن سويد بن غفلة قال: قال لي [عمر] (¬1): يا أبا أمية حج واشترط، فإن لك ما اشترطت ولله عليك ما اشترطت قال: وبعض أصحابنا يذهب إلى إبطال الشرط، وليس يذهب في إبطاله أي شيء حيال حفظه. أخبرنا مالك، عن ابن شهاب أنه سأله عن الاستثناء في الحج، فأنكره. إذا ثبت هذا فإنما التعليق بغرض صحيح، وعذر ظاهر مانع كما سابق، وإن اشترط التحلل لا من عذر لم يصح شرطه. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سفيان، عن هشام، عن أبيه قال: قالت لي عائشة: هل تستثني إذا حججت؟ قلت: فماذا أقول؟ فقالت: قل: اللهم الحج أردت وله عمدت وإن يسرته فهو الحج حججت، وإن حبسني حابس فهو عمرة. الاستثناء: عبارة عن الشرط الذي قالته. والعمد: القصد، عمدت إلى الشيء وللشيء أعمد عمدًا وتعمدته تعمدًا. والحج منصوب بأردت. والتيسير: التسهيل. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المحرم بالحج إذا أحصر ففاته الحج تحلل بأعمال العمرة. وهل يجب عليه قضاء الحج؟ قولان، وبوجوب القضاء قال عمر، وزيد بن ثابت، وابن عمر، والثوري، وإسحاق، وأبو ثور. وقال أصحاب الرأي: يحل بعمرة وعليه الحج من قابل. وهذا الحكم سواء اشترط الفراق أو لم يشترط. والله أعلم. ¬

_ (¬1) من المعرفة (7/ 499).

الفصل الثاني من الباب الثالث في التلبية وفيه فرعان

الفصل الثاني من الباب الثالث في التلبية وفيه فرعان الفرع الأول: في لفظها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك [لك] (¬1)، قال نافع: وكان ابن عمر يزيد فيها لبيك وسعديك، والخير في يديك (¬2)، لبيك والرغباء إليك والعمل". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬3): فأخرجه إسنادًا ولفظًا، وزاد فيه زيادة ابن عمر لبيك مرة أخرى. وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن يحيى بن يحيى التميمي، عن مالك. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 155). (¬2) في الأم (بيديك). (¬3) الموطأ (1/ 271 رقم 28). (¬4) البخاري (1549). (¬5) مسلم (1184). (¬6) أبو داود (1812).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم، عن أبي بشر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه. وفي الباب: عن جابر، وعائشة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة. التلبية: إجابة النداء، وهي آداب الخطاب دالة على تعظيم الداعي في إجابته، وللعلماء في معناها واشتقاقها خلاف، وهي مصدر مبني للكثير والمبالغة، ومعناه: إجابة بعد إجابة لزوما لطاعتك بعد لزوم، فتثنيته للتأكيد ولا تثنية حقيقة. ويونس بن حبيب -من نحاة البصرة- يثبت في "لبيك" إلى أنها اسم مفرد غير مثنى، وأن ألفها انقلبت ياء لاتصالها بالضم على حد لدي وعلي. ومذهب سيبويه: أنه مبني بدليل قلبها ياًء مع المظهر. وأكثر العلماء على [ما] (¬3) ذهب إليه سيبويه. قال ابن الأنباري: ثنو "لبيك" كما ثنو "حنانيك" أي: تحننا بعد تحنين، وأصل لبيك لبيك فاستثقلوا الجمع بين ثلاث ياءات فأبدلوا من الثالثة ياء، كما قالوا في تظنَّيت من الظن تظنيت، وأما اشتقاقها: فإنهم قالوا: هو من قولهم: داري تُلِبُ دارك، أي تواجهها فيكون المعنى: أن اتجاهي وقصدي إليك. وقيل: معناها مجيئي لك، مأخوذ من قولهم: امرأة لبت إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه. وقيل: معناها إخلاصي لك، من قولهم: حَسَبٌ لُباب إذا كان خالصًا ¬

_ (¬1) الترمذي (826) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) النسائي (5/ 160). (¬3) سقط من الأصل والسياق يقتضيه.

محضًا، ومنه لب الطعام ولبابة. وقيل: معناها ما ذكرنا أولاً مأخوذ من قولهم: ألب بالمكان إذا أقام فيه ولزمه. قال ابن الأنباري: وإلى هذا كان مذهب الخليل والأصم. والمراد بالتلبية في الحج: إجابة لدعاء الله -عز وجل- الناس إلى الحج، في قوله -عز وجل- لخليله إبراهيم (عليه السلام) - {وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬1). والحمد: نقيض الذم. والنعمة -بكسر النون-: "الإحسان والعطاء، يريد أن النعمة منك والحمد لك، فأنت مالك السبب والمسبب، فسبب الحمد النعمة، والحمد مسبب عنها، وإذا كان السبب لك فالمسبب أولى أن يكون لك. والرواية أن الحمد بكسر الهمزة على الابتداء وهو أشهر ويروى بالفتح على التعليل وهو أخص، وتقدير: لبيك لأن الحمد لك. والكسر أولى لأن التلبية هي جواب قوله تعالى: {وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ} فإذا كانت جوابا للنداء فكيف تكون متعلقة بالحمد والنعمة؟ لأنه إذا قال: لبيك لأن الحمد والنعمة لك، قطعها عن كونها جوابا للنداء المذكور. والله أعلم. وقوله: "والملك" بعد الحمد والنعمة، يريد تعميم أسباب الطاعة وإيضاح وجوه الانقياد والعبادة، فإن الملك الذي هو الحاوي جميع الموجودات لك، وبذلك يتمخض الإخلاص في العبودية والإجابة. ثم أتبعه بقوله: "لا شريك لك" ليزول الشبه عنه ويستقل بالملك والحمد والنعمة منفردًا. ¬

_ (¬1) [الحج: 27].

وسعديك: حكمها حكم لبيك، يريد إسعادًا بعد إسعاد. وقوله: "والخير في يديك" يريد خير الدنيا والآخرة ليس بشيء منه في يد غيرك، وفي بعض الروايات "بيديك" والباء فيه بمعنى في، أو هي للإلصاق أي أنه ملتصق بيديك، أو للتسبب إلى الخير مفعول بيديك، واليد هاهنا وفي أشباهه: عبارة عن يد العطاء والإنعام، من قولهم: لفلان عندي يد، وله إلي يد، وإلا فالله سبحانه وتعالى لا جارحة له، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا (¬1). والرغباء -بضم الراء والقصر، وبفتح الراء والمد لغتان- بمعنى الرغبة: رغبت إليه وفيه أرغب رغبة ورغبًا إذا طلبت منه وسألته، ورغبت عن الشيء إذا لم ترده. ويريد بقوله: "والرغباء إليك" أنه لما قدم في أول الحديث ذكر التلبية، التي هي دالة على الانقياد والطاعة، وقرر ثبوت النعمة له، واستحقاق الحمد عليها، وعمم بإثبات الملك له، قال: والطلب منك فالسؤال لك، لأن من كانت هذه الأشياء له تخصصت الرغبة إليه وتحقق العمل له. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المستحب أن يلبي تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي ما رواه في هذا الحديث بغير زيادة ابن عمر، ثم قال: ولا يضيق أن يزيد عليها، وأختار أن يفرد تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقصر عنها ولا يجاوزها، إلا أن يرى شيئًا يعجبه، فيقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة، فإنه لا يروى عنه من وجه يثبت أنه زاد غير هذا. وهكذا يروى عن أحمد أنه لا يزيد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أصحاب الرأي: السنة أن يأتي بتلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن زاد فهو ¬

_ (¬1) تقدم الاعتراض على هذا القول وبيان مذهب السلف في ذلك فيثبتون الصفة كما أثبتها الله لنفسه من غير تكييف أو تعطيل، ومن غير تمثيل أو تشبيه فليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

مستحب. وبه قال سفيان الثوري، وأبو ثور. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا بعض أهل العلم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلَّ بالتوحيد لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". قال الشافعي: وذكر عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، عن عبد الله بن الفضل، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: كان من تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيك إله الحق لبيك. هذا طرف من حديث طويل يتضمن حجة الوداع، وقد أخرجه مسلم وأبو داود، وقد ذكرنا إسنادهما في الطرف الذي أخرجه عن جابر في آخر الفرع الثالث من الفصل الأول قبل هذا، وزاد مسلم وأبو داود في هذا الطرف: "والناس يهلون بهذا الذي يهلون به، فلم يزد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا منه، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته". وأخرج أبو داود أيضًا (¬1): عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر قال: "أهلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... " فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر ولم يذكر لفظه، ثم قال: والناس يريدون المعراج ونحوه من الكلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع فلا يقول لهم شيئًا. وأما الطرف الذي ذكره عن أبي هريرة، فقد أخرجه النسائي (¬2) عن قتيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن عبد العزيز بن أبي سلمة بالإسناد واللفظ، ثم قال النسائي: لا أعلم أحدًا أسند هذا عن عبد الله بن الفضل إلا عبد العزيز، رواه إسماعيل بن أمية عنه مرسلًا. ¬

_ (¬1) أبو داود (1813). (¬2) النسائي (5/ 161).

التوحيد: تفعيل من الوحدة ويريد به أنه أهل بالحج مفردًا لم يكن قارنًا ولا متمتعًا، ويعضد ذلك ما جاء في روايات كثيرة لهذا الحديث عن جابر أنه أهل بالحج مفردًا، وفي أخرى: بالحج خالصًا، وفي أخرى: نحن نقول: لبيك بالحج، وفي أخرى: أقبلنا مهلين بالحج مفردًا، وفي أخرى: بالحج خالصًا وحده، وفي أخرى: لا يخالطه شيء. ولو قيل: إنه أراد بالتوحيد الإخلاص بالتلبية والتخصيص بها لله تعالى، أي أنه لباه وحده، لكان جائزًا ويعضده قوله: "لبيك لا شريك لك لبيك" أي لا شريك لك في هذه التلبية، والأول أوجه. وقوله: "إله الحق" يريد الإله الحق، فأضاف الموصوف إلى الصفة، كقولهم: صلاة الأولى ومسجد الجامع. والمدارج: المصاعد والدرج عرج يعرج عروجًا إذا ارتقى في الدرج. والمعراج: السلم، قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحد معرج -بالكسر- أو معرج -بالفتح- والمراد بالمعراج في صفة الله تعالى: مصاعد الملائكة إلى السماء. وقيل: المعارج السموات نفسها، وذو المعارج مالكها وصاحبها وربها. وقول جابر: "يهلون بما يهلون به ولا يرد عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا" يدل على جواز الزيادة في التلبية، والتلبية بما شاء الإنسان، إلا أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى ولا سيما وقد لزمها ولم يزد عليها. قال الشافعي: كما روى جابر وابن عمر كانت تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي التي أحب أن تكون تلبية المحرم، إلا أن يدخل ما روى أبو هريرة لأنه مثلها في المعنى، لأنه تلبية والتلبية إجابة فأبان أنه أجاب إله الحق بلبيك أولًا وآخرًا. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال:

أخبرني حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يظهر من التلبية لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، قال: حتى إذا كان ذات يوم والناس يُصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها: لبيك إن العيش عيش الآخرة، قال ابن جريج: وحسبت أن ذلك يوم عرفة. هذا حجة لما ذهب إليه الشافعي، أنه قال: أحب أن لا يتجاوز تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يرى شيئًا يعجبه فيقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة. قال الشافعي: وهذه تلبية كالتلبية التي رويت عنه، وأخبر أن العيش عيش الآخرة لا عيش الدنيا وما فيها. قال: ولا ضيق على أحد في مثل ما قال ابن عمر ولا غيره، من تعظيم الله ودعائه مع التلبية، غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التلبية. وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الزيادة -والله أعلم-: لأنه لما نظر إلى ازدحام الناس عليه وصرفهم عنه، كأنه سره ذلك وأعجبه، فقال -مستغفرًا من هذا الخاطر-: لبيك إن العيش عيش الآخرة لا هذا العيش الفاني الزائل، وأن هذا وأمثاله -وإن كان محبوبًا إلى النفوس قريبًا إلى القلوب، فإنه ظل زائل وسحابة صيف ليس يرجى دوامها، وإنما العيش هو الباقي الدائم الذي هو عيش الآخرة، فكأنه جمع في هذا القول بين فوائد:- أحدها: توهين ما أعجبته عند نفسه وتقليله ليتتركه [وتصد] (¬1) ويصدق عنه. والأخرى: إعلامها أن وراء هذا ما هو خير منه وأبقى إليه، ليميل إليه ويرغب ¬

_ (¬1) في الأصل [تصدق] والمثبت هو الأقرب للسياق.

فيه. والأخرى: الاعتذار إلى الله -تعالى- من هذا الخاطر الذي خطر له، والإقرار بالذنب والاعتراف بالخطأ فيه. والعيش: الحياة، عاش الرجل يعيش إذا حي معاشًا أو معيشًا، كل واحد منهما يصلح أن يكون مصدرًا وأن يكون اسمًا. والآخرة: صفة لدار القيامة لا أنها من الصفات العالية كالدنيا يريد الدار الدنيا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن القاسم بن معن، عن محمد بن عجلان، عن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال: سمع سعد بن أبي وقاص بعض بني أخيه يلبي: ياذا المعارج، فقال سعد: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "فقال سعد: المعارج": يريد به أن سعدًا لما سمع ياذا المعارج فأنكره، أخذ يجري اللفظ على لسانه، كمن يسمع شيئًا يستغربه فيعيده ليستبينه، واللفظة مرفوعة على أنها مبتدأ محذوف الخبر تقديره: المعارج نقول، وهذا القول من سعد يعضد ما ذهب إليه الشافعي، من لزوم تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك الزيادة عليها.

الفرع الثاني في • أحكام التلبية •

الفرع الثاني في أحكام التلبية أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، [عن] (¬1) عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، [عن خلاَّد] (¬2) بن السائب الأنصاري، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل (عليه السلام)، فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم (¬3) بالتلبية والإهلال" يريد أحدهما. هذا حديث صحيح أخرجه مالك، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. أما مالك (¬4): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، وقال فيه: ومن معي، وقدم الإهلال على التلبية. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر ولم يذكر: ومن معي. وأما النسائي (¬7): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان، عن عبد الله ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 156) وهو الصواب. (¬2) في الأصل [بن خالد] وهو تصحيف والتصويب من الأم (2/ 156) وكذا المعرفة (7/ 129). (¬3) في الأصل [أصواتكم] والمثبت هو لفظ في الأم (2/ 156) وغيره. (¬4) الموطأ (1/ 272 رقم 34). (¬5) أبو داود (1814). (¬6) الترمذي (829) وقال: حديث خلاد عن أبيه حديث صحيح. (¬7) النسائي (5/ 162).

ابن أبي بكر. الحديث نحوه. قوله: "أو من معي" بالشك بخلاف قوله: "ومن معي" بغير شك، فإنه مع عدم الشك يكون قد أمره أن يأمر أصحابه ومن معه، ويدل ذلك على أن أصحابه ليسوا كل من صحبه أي صحبة كانت، لأن الذين معه قد صحبوه بالجملة بكونهم معه، ومع ذلك فقال: أصحابي ومن معي فعطفهم على أصحابه، وذلك على أن اسم الصحابي لا يطلق إلا على من هو معروف بصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون من سمعه ورافقه وكان معه وقتًا ما, ولأنه لو قال: "أمرني أن آمر أصحابي" واقتصر على هذا ربما يظن الناس كافة أن الأمر لهؤلاء الذين صحبوه وعرفوا به، دون من كان قد حج معه ممن لم يكن صحبه، فقال: "أو من معي" ليشمل الجميع ويزول هذا الظن. والله أعلم. وأما قوله: "أو من معي" بالشك فالظاهر أنه شك من أحد الرواة، على أن أنه جائز أن يكون من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الشك في مثل هذا جائز إذ هو نوع من النسيان ولا يعصم منه البشر، ويكون هذا الشك في اللفظ ولا يفيد اختلافًا في المعنى كما أفادت الواو، لأن قوله: "أن آمر أصحابي" يطلق في أصل الوضع على كل من صحبه وقتًا. وقوله: "أن آمر من معي" يفيد ذلك المفاد أيضًا ولا تناقض بينهما فإن من معه هم أصحابه. وإن كان الشك من أحد الرواة: فالمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أحد اللفظين وكل منهما ساد مسد الآخر، ثم إن فرقنا بين القولين وميزنا بين مدلول اللفظين، وقلنا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرني أن آمر أصحابي: فتخصيصه الصحابة بالأمر لمزية فضيلة فيهم دون غيرهم ممن معهم، وزيادة اهتمام بشأنهم على من سواهم، وإن قلنا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرني أن آمر من معي" فتخصيصه الذين معه بالأمر دون الصحابة، لعلمه أن الصحابة عارفون بالسنة لطول

ملازمتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واطلاعهم على خفايا الشريعة، وأن الذين كانوا معه ممن لم يطلق عليه اسم الصحبة لقرب عهده بالإِسلام، أو بالهجرة، أو بالمجاورة وهم أخفى بتأكيد الوصية والتوقيف، والتعريف بالسنة، والاطلاع على أسرارها، والاعلام بأحكامها. وقوله: "بالتلبية أو بالإهلال" يريد أحدهما، أو التلبية فهي قوله: لبيك اللهم لبيك. وأما الإهلال: فهو إظهار الصوت بهذا الذكر. والتلبية في هذا المقام أولى من الإهلال، لأن التلبية تكون مخصوصة (¬1) ومرفوعة، والإهلال لا يكون إلا مرفوعًا، وإذا قلنا: أنه قال بالإهلال، فلأن الإهلال وإن كان رفع الصوت بالتلبية فإن ما من صوت إلا وفوقه ما هو أرفع منه وأظهر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن رفع الصوت بالتلبية مستحب لإظهار شعار الإِسلام، وليسمعه الجاهل فيقتدي. وقد قال في الأم: يرفع صوته جهده ما لم يبلغ به أن يقطع صوته. وقال مالك: لا يرفع صوته إلا في المسجد الحرام ومسجد منى، ويكره أن يرفعه في غيرهما من المساجد. وقد أخرج الشافعي قال: أخبرنا سعيد بن سالم ومسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن [سابط] (¬2) قال: كان سلفنا لا يدعون التلبية إلا عند أربع: عند انضمام الرفاق حين تنضم، وعند إشرافهم على الشيء وهبوطهم من بطون الأودية -أو عند هبوطهم من الشيء الذي يشرفون منه- وعند الصلاة إذا فرغوا منها. قال الشافعي: وما روى ابن [سابط] (2) موافق لما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) كتب في الأصل فوقها كلمة لم أتبينها. (¬2) في الأصل [سليط] والتصويب من الأم (2/ 156).

من أن جبريل أمره أن يأمرهم برفع الصوت بالتلبية. قال: ومن قال: لا يرفع صوته بها في مساجد الجماعات إلا مسجد مكة ومنى، فقوله يخالف الحديث، واحتج في "الإملاء" بحديث جبريل وقال: لم يخص موضعًا دون موضع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن محمد [بن] (¬1) أبي حميد، عن محمد بن المنكدر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من التلبية". هذا الحديث مسوق لبيان فضيلة التلبية، وأن الإكثار منها ولزومها على كل حال مستحب، ويعضد هذا الحديث الذي يليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يلبي راكبًا، ونازلاً، ومضطجعًا". هذه المنصوبات الثلاث على الحال، أي كان يلبي في هذه الأحوال. قال الشافعي: ويستحب للمحرم أن يلبي قائمًا، وقاعدًا، وراكبًا، ونازلًا، وجنبًا ومتطهرًا وعلى كل حال رافعًا صوته في جميع المساجد، مساجد الجماعة وغيرها، في كل موضع كل متجرد وعند اضطلام (¬2) الرفاق، وعند الإشراف والهبوط، وخلف الصلوات، وفي استقبال الليل والنهار وفي الأسحار. قال: وبلغني عن محمد بن الحنفية أنه سئل: أيلبي المحرم وهو جنب؟ فقال: نعم. قال الشافعي: وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة وعركت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت". قال: والتلبية مما يفعل الحاج. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا مالك، عن محمد بن أبي بكر ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 157). (¬2) كذا في الأم ووقفت على نسخة حديثه للأم بتحقيق الدكتور: أحمد بهاء الدين وأشار في الحاشية إلى أنه في نسخة أخرى بلفظ: (وإنضام).

الثقفي "أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة، كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كان يهل المهل من الميقات منا ولا ينكر عليه ويكبر المكبر منا ولا ينكر عليه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي. أما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وعن سريج بن يونس، عن عبد الله بن رجاء، عن موسى بن عقبة [عن] (¬4) محمد بن أبي بكر الثقفي. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن أبي نعيم، عن مالك. وعن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الله بن رجاء مثل مسلم. غدا يغدو: إذا سار في أول النهار، وهو من الغدو ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، وكثر استعماله حتى صار يطلق على كل من مضى متوجها إلى مصلى، كما أن راح من الرواح: وهو السير بعد الزوال والعود إلى المكان، ثم كثر استعماله حتى أطلق على كل من سار غاديًا كان أو رائحًا. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الملبِّي لا يزال يلبي إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر. وهو قول ابن مسعود، وابن عباس، وميمونة، وبه قال عطاء بن أبي رباح، وطاوس، وسعيد بن جبير، والنخعي، والثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد، وإسحاق. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 275 رقم "43"). (¬2) البخاري (1659). (¬3) مسلم (1285). (¬4) في الأصل [و] والتصويب من رواية مسلم. (¬5) النسائي (5/ 250، 251).

ثم اختلفوا في وقت قطعها من رمي جمرة العقبة:- فقال الشافعي، والثوري، وأصحاب الرأي: يقطعها مع أول حصاة يرمي بها. وقال غيرهم: يقطعها مع استكمال رمي الجمرة. وكان ابن عمر يقطع التلبية إذا رأى الحرم إلى أن يطوف ويسعى، ثم يعود إليها. وقال سعد بن أبي وقاص، وعائشة: يقطعها إذا راح إلى الموقف. وقال على، وأم سلمة: يلبي إلى أن تزول الشمس يوم عرفة. وكان مالك يرى قطع التلبية إذا راح إلى المسجد. وقال الحسن البصري: يلبي حتى يصلي الفجر من يوم عرفة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن عباس قال: أخبرني الفضل بن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردفه من جمع إلى منى، فلم يزل يلبي حتى رمى الجمرة". قال الشافعي: ورُوِيَ عن ابن مسعود مثله، قال: وأخبرنا سفيان، عن محمد بن أبي حرملة، عن كريب -مولى ابن عباس- عن ابن عباس عن الفضل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. أخرج الرواية الأولى في كتاب "الحج" من الأمالي، وعاد أخرجها مع الثانية في كتاب "مختصر الحج الأكبر" (¬1). وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الموطأ. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حرملة ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 205). (¬2) البخاري (1670).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن قتيبة ويحيى بن أيوب وابن حجر، عن إسماعيل ابن جعفر. ولهما روايات كثيرة لهذا الحديث. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن وكيع، عن ابن جريج. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن حميد بن مسعدة، عن سفيان بن حبيب، عن عبد الملك بن جريج وعبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء. وفي الباب: عن علي، وابن مسعود، وابن عباس. قوله: "حتى رمى الجمرة" يريد جمرة العقبة، وكذا جاءت في بعض روايات هذا الحديث مفسرة. قال الشافعي -بعد هذا الحديث-: ولبى عمر حتى رمى جمرة العقبة. وقال في القديم -في كتاب "العيدين": أخبرنا سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "سمعت عمر بن الخطاب يلبي عند الجمرة، فقلت: يا أمير المؤمنين، فَثَمَّ التلبية؟ فقال: وهل قضينا من نسكنا بَعْدُ؟ ". قال الشافعي: ولبى ابن مسعود حتى رمى جمرة العقبة وعطاء، وعكرمة، وطاوس، ومجاهد، وابن أبي مليكة وإنما يقطعها إذا شرع في رمي الجمرة؛ لأنه ¬

_ (¬1) مسلم (1281). (¬2) أبو داود (1815). (¬3) الترمذي (918). وقال: حديث الفضل حديث حسن صحيح. (¬4) النسائي (5/ 268).

قد شرع في التحلل، فإن شرع في التحلل بالطواف أو الحلاق -على أحد القولين- وقدَّمهما على الرمي قطعها أيضًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "يلبي المعتمر حتى يفتتح الطواف مشيًا أو غير مشي". هكذا أخرجه في كتاب الحج (¬1)، وأخرجه في كتاب الأمالي بهذا الإسناد، قال في المعتمر: يلبي حتى يستلم الركن. وأخرج فيه أيضًا: عن مسلم وسعيد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: "يلبي المعتمر حتى يفتتح الطواف مستلمًا أو غير مستلم". المعتمر والحاج إذا أحرما يستديم كل منهما التلبية، ولا يقطعها إلا إذا شرع في التحلل كما قلنا، لأن التلبية إجابة لله تعالى إلى العبادة، وإلى شعار الإقامة على الطاعة، فالأخذ في التحلل ينافيها. وحكى عن مالك: أنه إذا أحرم من الميقات قطع التلبية حتى يرى البيت إذا دخل الحرم، وإن كان أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حتى يرى البيت. وقوله: "مشيًا أو غير مشي" هكذا رواه الأصم، قال الإِمام البيهقي: والصواب مستلمًا أو غير مستلم. ولا فرق بين قوله: "حتى يستلم" وبين قوله: "حتى يفتتح الطواف" فاستلام الركن -وهو الركن الأسود- هو افتتاح الطواف؛ لأنه لا يطوف حتى يبتدئ باستلام الحجر الأسود. قال الشافعي: وروى ابن أبي ليلى، عن عطاء [عن] (¬2) ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبى في عمرة حتى استلم الركن". ولكنا هبنا روايته لأنا وجدنا حُفَّاظ المكين يقفونه على ابن عباس، وهو كما قال، فإن زهيرًا وهشيمًا وغيرهما رووه ¬

_ (¬1) الأم (2/ 205) لكن بلفظ: [..... مستلمًا أو غير مستلم]. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (7/ 268).

عن ابن أبي ليلي مرفوعًا ورفعه خطأ، كان ابن أبي ليلى كثير الوهم، وخاصة إذا روى عن عطاء فيخطئ كثيرًا, ولأجل ذلك ضعفوه في الرواية مع أن محله في الفقه. وقد أخرج الشافعي: عن ابن عيينة، عن منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله "أنه لبى على الصفا في عمرة بعد ما طاف بالبيت". قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا ولا أحد من الناس علِمْناه، إنما اختلف الناس عندنا:- فمنهم من يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم وهو قول ابن عمر. ومنهم من قال: إذا استلم الركن وهو قول ابن عباس وبهذا نقول ويقولون هم أيضًا. وأما بعد الطواف بالبيت فلا يلبي أحد، أورده إلزامًا للعراقيين فيما خالفوا فيه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- (¬1). وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن نافع، "أن ابن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم، حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة، فإذا غدا ترك التلبية، وكان يترك التلبية في العمرة إذا انتهى إلى الحرم". وقد رَغِبَ الشافعي عن قوله في العمرة، بما روى فيه عن ابن عباس وغيره، ورغب عن قوله في الحج بما مضى من حديث أنس بن مالك وحديث الفضل بن العباس. وقد أخرج الشافعي (رضي الله عنه): عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم قال: أخبرني الشيخ الذي كان يكثر الحج -يعني عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد- عن أبيه أنه صعد إلى ابن الزبير وهو على المنبر بعرفة فقال: ما يمنعك أن تلبي فإن ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (7/ 269).

عمر (رضي الله عنه) كان يلبي على المنبر؟ فلبى ابن الزبير. قال الشافعي: ويلبي الإِمام على المنبر يوم عرفة. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن صالح بن محمد بن زائدة، عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله تعالى رضوانه والجنة، واستعفاه برحمته من النار". الرضوان -بكسر الراء وضمها-: الرضى. والاستعفاء: طلب العفو عن الشيء فالإعفاء منه، تقول: اعفني من كذا أي دعني منه، واستعفاه من كذا أي طلب الإعفاء منه، ومنه العفو عن الذنب وهو أن يتركه فلا يعاقبه. والباء في "برحمته" متعلقة باستعفاه، أي سأله برحمته أن يعفيه من النار. قال الشافعي: وأخبرنا إبراهيم بن محمد، أن القاسم بن محمد كان يأمر إذا فرغ من التلبية أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: ومعقول أن الملبي وافد الله -تعالى- وأن منطقه بالتلبية منطقه بإجابة داعي الله، وإتمام الدعاء ورجاء إجابته أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يسأل في إثر إكمال ذلك بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة ويتعوذ من النار، فإن ذلك أعظم ما يسأل ويسأل بعدها ما أحب. والله أعلم.

الباب الرابع من كتاب الحج في الإفراد والقران والتمتع

الباب الرابع من كتاب الحج في الإفراد والقران والتمتع وفيه ثلاثة فصول:- الفصل الأول في الإفراد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقت الحج". أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج": هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري، وقد أخرجه البخاري في جملة حديث طويل من طرق كثيرة. أما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك. وعن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن أبي مصعب، عن مالك. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن عبد الله بن سعيد وإسحاق بن منصور، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 273 رقم 37). (¬2) مسلم (1211 رقم 122). (¬3) أبو داود (1777). (¬4) الترمذي (820) وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح. (¬5) النسائي (5/ 145).

عبد الرحمن، عن مالك. وأخرج الثانية: عن قتيبة، عن مالك، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة. وهذه الرواية الثانية هي طرف من حديث طويل قد أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) قالت: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل. قالت عائشة: وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج وأهل به ناس معه، وأهل ناس بالحج والعمرة، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بالعمرة". وهذا الحديث صريح الدلالة في إفراد الحج، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختاره لنفسه من بين الجائزات الثلاثة، وما اختار لنفسه إلا ما هو الأول عنده والأحب إليه، وخيَّر الناس في الثلاثة ليبين لهم جوازها وصحتها، وقد سبق فيما تقدم بيان اختيار الشافعي ومن وافقه من الأئمة وخالفه، فلا حاجة إلى إعادته. قال الشافعي: إذا أراد الرجل أن يحرم كان ممن حج أو لم يحج، فواسع له أن يهل بعمرة، وواسع له أن يهل بحج وعمرة، وواسع أن يفرد لأن الثابت عندنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد العزيز الدراوردي، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذَّن في الناس بالحج، فتدارك الناس بالمدينة ليخرجوا معه، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانطلقنا لا نعرف إلا الحج وله خرجنا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا ينزل عليه القرءآن وهو يعرف تأويله، وإنما يفعل ما أمر به، ¬

_ (¬1) البخاري (1562). (¬2) مسلم (1211) واللفظ له.

فقدمنا مكة فلما طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت وبالصفا والمروة قال: "من لم يكن معه هدي فليجعلها عمرة، فلو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة". وقد تقدم فيما سبق لهذا الحديث روايات أخرى، والحديث في نفسه حديث طويل وهو حديث حجة الوداع، وقد أخرجه بطوله مسلم وقد ذكرنا طرقها فيما مضى. وقد أخرج المزني (¬1): عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن حبيب المعلم، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه أهلَّ هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم يومئذ هدْي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة، وكان علي قدم من المدينة ومعه هدي، فقال: أهللت بما أهلَّ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة ويطوفوا، ثم يقصروا ويحلوا إلا مَن كان معه هدي، فقالوا: أننطلق إلى منى وذَكَرُ أحدنا يقطر، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت" وأن عائشة حاضت فَنَسَكَت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت فلما طهرت وأفاضت، قالت: يا رسول الله، أتنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بالحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، واعتمرت بعد الحج في ذي الحجة، وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة؟ فقال: "لا بل للأبد". وهو أيضًا مؤكد لبيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أهل بالحج مُفْرِدًا. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن علية، عن ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (7/ 68).

أبي حمزة ميمون، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله -يعني- أنه أمر بإفراد [الحج] (¬1). [قال] (¬2) قلت: كان أحب أن يكون لكل واحد منهما شعث وسفر، وهم يزعمون أن القِران أفضل وبه يُفتون من استفتاهم. وعبد الله كان يكره القران، هكذا جاء في المسند في كتاب اختلاف علي وعبد الله. والذي جاء في كتاب البيهقي (¬3) عن الشافعي بهذا الإسناد عن عبد الله قال: نُسُكان أحب أن يكون لكل واحد منهما شعث وسفر. قال الشافعي: وهم يزعمون أن القِران أفضل وذكرنا فيه. وقال الشافعي فيما بلغه عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله أنه قال: [الحج] (¬4) أشهر معلومات ليس فيها عمرة. ويشبه أن يكون ابن مسعود ذهب فيها مذهب الاختيار، لإفراد العمرة عن الحج ورواية الأسود عنه تدل على ذلك وإن ذهب مذهب الكراهة، وإليه ذهب جماعة من الصحابة وهو أحد ترجيحات مَنْ اختار الإفراد على القِران والتمتع، فلم ينقل عن أحد منهم أنه كره الإفراد. وهذا الأثر إنما أورده الشافعي مستدلًا به على ترجيح الإفراد. وقوله: "أحب أن يكون لكل واحد منهما" يعني الحج والعمرة يريد: إذا أفرد الحج وأفرد العمرة كان لكل واحد منهما إحرام وشعث وسفر يخصه، لأنه ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المسند (472) مع الأم. (¬2) في الأصل [فإن] وهو تصحيف والمثبت من المسند. (¬3) المعرفة (7/ 78). (¬4) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (7/ 78).

يريد أن يعود إلى الميقات ويحرم بالعمرة بعد الفراغ من الحج، فيكون كل واحدة من العبادتين مستقلة بنفسها، منفردة بأحكامها من إحرام، وطواف، وسعي، وحلق، وتقصير، وشعث، وبعد عهد بِغُسل وتسريح وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بها. وقوله: "وهم يزعمون -يعني العراقيين- يقولون: القِران أفضل من الإفراد والتمتع. وبه يفتون الناس وعبد الله بن مسعود يكرهه. وقد تقدم في الباب الثالث أحاديث لعائشة، وسنبسط القول بذكر ما قاله الشافعي -رحمه الله- عند الفراغ من الفصل الثالث في التمتع، إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني في القران

الفصل الثاني في القِران أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، أن ابن عمر حج في الفتنة فأهلَّ ثم نظر فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت مع الحج العمرة. هكذا أخرجه في كتاب اختلافه مع مالك (¬1)، وأخرجه في كتاب المناسك (¬2) بهذا الإسناد أنه خرج إلى مكة زمن الفتنة معتمرًا فقال: إن صُدِدْت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: أحللنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية. هذا طرف من حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي. فأما مالك (¬3): فأخرجه بالإسناد قال: حين خرج إلى مكة معتمرًا في الفتنة إن صُدِدْت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأهلَّ بعمرة من أجل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بعمرة عام الحديبية، ثم قال: إن عبد الله نظر في أمره، فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة، ثم نفذ حتى جاء البيت، فطاف طوافًا واحدًا ورأى ذلك مجزئًا عنه وأهدى. قال مالك: فهذا الأمر عندنا فيمن أُحصر بعدو كما أُحْصِر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ¬

_ (¬1) الأم (7/ 254). (¬2) الأم (2/ 161). (¬3) الموطأ (1/ 291 رقم 99).

وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع "أن ابن عمر أراد الحج" .. وذكر الحديث بطوله أتمَّ من حديث مالك. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك مثله. وأخرج رواية البخاري: من محمد بن رمح وقتيبة، عن الليث. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث بطوله. وقد أخرج الشافعي هذا الحديث بطوله مثل مالك من رواية الربيع عنه عن مالك. أوجبتُ الشيء: فرضتُه والتزمتُه، يريد أنه نوى الحج مع العمرة. والفتنة: يريد بها فتنة الحجاج بن يوسف الثقفي عامل عبد الملك بن مروان، مع عبد الله بن الزبير ومحاصرته له بمكة وكان ذلك عند الموسم. وقوله: "فأهلَّ" أراد أنه كان قد نوى العمرة. وقد فسر ذلك لفظ حديث الموطأ. ثم إنه نظر في أمره: أي فكر فيه فقال: ما أمرهما -يعني الحج والعمرة- إلا واحد، أي إن صُدِدْت عن مكة والطواف بالبيت والسعي، فسواء كنت حاجًّا أو معتمرًا إذ لا فرق بين الأمرين، فلذلك أضاف الحج إلى العمرة. والصدّ: المنع. قوله: "ثم نفذ" أي مضى لشأنه. وأجزأ هذا الأمر يجزئ: إذا كفي، والقارن بين الحج والعمرة يجزئه لهما طواف واحد وسعي. وبه قال مالك وإحدى الروايتين عن أحمد، وإليه ذهب إسحاق، ورُوي عن جابر، وبه قال الحسن البصري، وعطاء، وطاوس، ومجاهد وقال أبو حنيفة والثوري: يطوف طوافين ويسعى سعيين. ¬

_ (¬1) البخاري (1640). (¬2) مسلم (1230). (¬3) النسائي (5/ 158).

ورُوي ذلك عن علي وابن مسعود، والشعبي، والنخعي. ويكون الطواف الأول عقيب دخول مكة، والسعي الأول بعده للعمرة، والطواف الثاني يوم النحر، والسعي بعده للحج. قال الشافعي: ونحن لا نرى بهذا بأسًا. قال الربيع: فقلت للشافعي: أما تكره أن يُقْرن بين الحج والعمرة؟ فقال الشافعي: فكيف كرهتم غير مكروه، وخالفتم من لا ينبغي لكم خلافه. وأخرج الشافعي في رواية حرملة عنه قال: أخبرنا عبد الوهاب الثقفي عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل فقال: لبيك بعمرة وحج معًا". ***

الفصل الثالث في التمتع

الفصل الثالث في التمتع أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن محمد ابن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يتذاكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك: [لا يضع ذلك إلا عن جَهِل أمر الله تعالى، فقال سعد: بئسما قلت يا أخي، فقال الضحاك] (¬1): فإن عمر قد نهى عن ذلك، فقال سعد: قد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصنعناها معه. هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري وأبا داود. أما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد. وأما مسلم (¬3): فأخرج المسند منه فقط عن سعيد بن منصور وابن أبي عمر جميعًا عن الفزاري، عن مروان بن معاوية، عن سليمان التيمي، عن غنيم بن قيس قال: سألت سعد بن أبي وقاص عن المتعة؟ فقال: فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعُرُش -يعني بيوت مكة. وفي أخرى: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن سعيد، عن التيمي بهذا الإسناد وقال في روايته: يعني معاوية:- وأما الترمذي (¬4) والنسائي (¬5): فأخرجاه عن قتيبة، عن مالك. قوله: "يتذاكران التمتع" أي يخوضان في شأنه ويتحدثان في أمره، هل هو جائز أم لا. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند (962) وهو ثابت في الشرح. (¬2) الموطأ (1/ 279 رقم "60"). (¬3) مسلم (1225). (¬4) الترمذي (823). وقال: هذا حديث صحيح. (¬5) النسائي (5/ 153، 152).

والتمتع في الحج: هو أن يحرم بعمرة في أشهر الحج، فإذا وصل إلى مكة طاف بالبيت، وسعى بالصفا والمروة، وقصّر أو حلق، وحلّ من عمرته، وأقام إلى وقت الحج ثم أحرم من مكة بحجة فيكون قد تمتع بالعمرة، أي حلّ من الإحرام إلى وقت الحج، ولها شروط مستقصاة في كتب الفقه لم نطل بها للجواب. وقوله: "إلا من جهل أمر الله" يريد حكمه الذي حكم به في بيان الحج ظنًا به أن المتعة بالعمرة إلى الحج لا تجوز، لأن العمرة عنده لا تصح في أشهر الحج، فلما احتجّ عليه بفعل عمر احتجّ عليه سعد بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكت. وبئس: فعل ماض مبني على الفتح غير منصرف، وهو موضوع للذم بمنزلة نعم للمدح، والنحاة من أهل الكوفة يزعمون أنهما اسمان. فقدّم في الباب الثالث من كتاب الحج أحاديث تتعلق بالمتعة، اقتضت الحال ذكرها هناك لاشتمالها على فسخ الحج، وإدخال الحج على العمرة. قال الربيع: سألت الشافعي -رحمه الله تعالى- عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال: حسن غير مكروه، وقد فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنما اخترنا الإفراد لأنه ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أفرد غير كراهة التمتع، ولا يجوز إذا كان فعل المتمتع بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون مكروهًا. فقلت للشافعي: ما الحجة فيما ذكرت؟ فقال: الأحاديث الثابتة من غير وجه، ثم قد حدثنا مالك بعضها، ثم ذكر هذا الحديث عن سعد والضحاك بن قيس. قال الربيع: فقلت لشافعي: قد قال مالك: قول الضحاك أحب إليّ من قول سعد، وعمر أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الشافعي: عمر وسعد عالمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قال عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا يخالف ما قال سعد، وإنما رُوي عن مالك، عن عمر أنه قال: "افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج

أحدكم وعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج". ولم يروَ عنه أنه نهى عن العمرة في أشهر الحج. وقد أخرج الربيع، عن الشافِعِي -رضي الله عنه- عن مالك، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر أنه قال: "لأن أعتمر قبل الحج وأهدي، أحب إليّ من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة". قال الشافعي: فهذان الحديثان -يريد حديث عائشة وابن عمر عن حفصة، وقد تقدم ذكرهما في الباب الثالث من حديث عن مالك- موافقان ما قال سعد من أنه قد عمل بالعمرة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشهر الحج. قال الشافعي: وليس مما وصفت من الأحاديث المختلفة شيء أحرى أن لا يكون متوافقًا من وجه أو مختلفًا لا ينسب صاحبه إلى الغلط باختلاف فعله من حديث أنس، ومن قال: قرن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم حديث من قال: كان ابتداء إحرامه حجًا لا عمرة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة، ولم يُخْتَلف في شيء من السنن، والاختلاف أيسر من جهة أنه مباح، وإن كان الغلط فيه قبيحًا فيما حمل من الاختلاف، ومن فعل شيئًا مما قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله كان له واسعًا، لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا أعلم فيه خلافًا، يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وإفراد الحج والقران واسع كله. قال: وأشبه الرواية أن يكون محفوظًا رواية جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج لا يسمي حجًا ولا عمرة. وطاوس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج محرمًا ينتظر القضاء. لأن رواية يحيى بن سعيد، عن القاسم وعمرة، عن عائشة توافق روايته، وهؤلاء نقصوا الحديث، ومن قال: أفرد الحج يشبه -والله أعلم- أن يكون ما قاله علي ما يُعرف من أهل العلم الذين أدرك دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أحدًا لا يكون مقيمًا على حج إلا وقد ابتدأ إحرامه بحج وأحسب عروة حين حدّث أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم بحج، إنما ذهب إلى أن سمع عائشة قالت: ففعلتُ في عمرتي كذا، إلا أنه خالف خلافًا بينا في قوله عن عائشة: "ومنا من جمع بين العمرة والحج"، فإن قال قائل: قد قرن الصُبي بن معبد، فقال له عمر: هديتَ لسنة نبيك. قيل: حكى له أن رجلين قالا له: هذا أصل من حمل أهله، فقال: هديتَ لسنة نبيك أن من سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - أن القران والإفراد والعمرة هُدىً لا ضلال. قلت: وهذان الرجلان القائلان للصبي بن معبد هما: سلمان بن ربيعة، وزيد بن صوحان. قال الشافعي: فإن قال قائل: فما دل على هذا؟ قيل: أمر عمر أن يفصل بين الحج والعمرة، وهو لا يأمر إلا بما يسع ويجوز في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا ما يخالف سنته وإفراده الحج. فإن قيل: فما قول حفصة للنبى - صلى الله عليه وسلم - ما شأن الناس حلّوا ولم تحلل من عمرتك؟ قيل: أكثر الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن معه هدي وكانت حفصة معهم، فأُمِروا أن يجعلوا إحرامهم عمرة ويحلّوا، فقالت: لم تحلَّل الناس ولم تحلل من عمرتك؟ -يعني: إحرامك الذي ابتدأته وهم بنية واحدة -والله أعلم. فقال: "لبدت رأسي وقلدت هدي، ولا أحل حتى أنحر بدني" -يعني -والله أعلم- حتى يحل الحاج لأن [القضاء نزل] (¬1) أن يجعل من كان معه هدي إحرامه حجًا، وهذا من سعة لسان العرب الذي يعرف بالجواب فيه. فإن قال قائل: من أين ثبتَّ حديث عائشة، وجابر، وابن عمر، وطاوس، دون حديث من قال قرن؟ قيل: بتقدم صحبة جابر وحسن سياقه لابتداء الحديث وآخره، وقرب عائشة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضل حفظها عنه، وقرب ابن عمر منه، ولأن من يصف انتظار النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء إذ لم يحج من المدينة بعد ¬

_ (¬1) في الأصل [نزل القضاء] والمثبت من المعرفة (7/ 74).

نزول فرض الحج قبل حجته -حجة الإِسلام- طلبًا للاختيار فيما وسع في الحج والعمرة يشبه أن يكون حفظ عنه، لأنه قد أتى في المتلاعنين فانتظر القضاء وكذلك حفظ عنه في غيرهما. وقد رجح الشافعي اختيار (¬1) الإفراد على اختيار (1) القران، بما يكون ترجيحًا عند أهل العلم بالحديث، فإنه قد أنكر ابن عمر على أنس بن مالك روايته تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج والعمرة جميعًا. ورواه أبو قلابة عن أنس بن مالك قال: سمعتهم يصرخون بهما جميعًا، قال سليمان حرب: الصحيح رواية أبي قلابة، فقد جمع بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الحج والعمرة، وإنما سمع أنس بن مالك أولئك دون النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أو نحوه، فقد سمعه أنس بن مالك يعلم بعض أصحابه كيف الإهلال بالقران؟ فتوهم أنه يهل بهما عن نفسه، وهكذا القول في رواية غيره أنه قرن. وقد روي عن مطرف، عن عمران بن حصين قوله في المتعة دون القران، ومقصوده ومقصود غيره من رواية التمتع والقران: بيان جوازهما، فإن بعض أصحابه كان يكرهها فيروون فيه الأخبار التي تدل على جوازهما، وربما يضيف بعضهم الفعل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أراد -والله أعلم- إذنه فيهما. وقوله - صلى الله عليه وسلم - -في حديث عمر بن الخطاب-: "أتاني جبريل وأنا بالعقيق، وقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين". وقيل: "عمرة في حجة، فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". وقد روى فيه، وقال: "عمرة في حجة" والمراد به -والله أعلم-: إباحتهما والإذن فيهما في أشهر الحج، والذي يدل على ذلك أن رواية عمر بن الخطاب وهو ممن يختار الإفراد على التمتع والقران، وممن اختار الإفراد من أعلام الصحابة عبد الله بن مسعود. ¬

_ (¬1) في المعرفة (7/ 75): [أخبار].

قال الشافعي: وقد روى جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة". فذهب المكيون إلى اختيار التمتع، وهذا وجه لولا أنه يحتمل أنه قال هذا لكره الناس للإحلال حين أمرهم به؛ وأقام هو مفردًا - صلى الله عليه وسلم -، فلما احتمل هذا اخترت الإفراد لأنه الذي عزم له عليه، وهذان الوجهان معًا أحب إليَّ من القران. قال الخطابي (¬1): وقد ذهبت طائفة من أهل البدع والفساد في الاعتقاد والملاحدة ذوي العناد، إلى الطعن في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي أهل الرواية والنقل من أئمة الحديث المعدَّلين، فمن جملة ما قالوه في هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحج في الإِسلام إلا حجة واحدة، فكيف يجوز أن يكون في تلك الحجة مفردًا، وقارنًا، ومتمتعًا، وأفعال نسكها مختلفة وأحكامها غير متفقة، وأسانيد هذا الحديث كلها عند أهل النقل والرواية صحيحة؟ ثم قد وجد فيها هذا الاختلاف والتناقض. يريدون بذلك توهين الحديث، والإزراء على نقلته، وتضعيف أمرهم، ومستند هذا جميعه خذلان الله تعالى لهم وسد باب التوفيق عليهم، ولقد أنعم الشافعي في بيان هذا المعنى وذكره في كتاب اختلاف الحديث، وجود الكلام فيه واقتصاص طرقه على كمالها مبسوطا، ونحن نذكر خلاصة ما ذكره قال: إن من المعلوم في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الآمر به، كجواز إضافته إلى الفاعل له، تقول بنى فلان دارًا أمر ببنائها وضرب الأمير فلانًا، إذا أمر بضربه، ورجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا، وقطع سارق رداء صفوان، وإنما أمر برجمه هذا وقطع هذا ومثل ذلك كثير في الكلام وفي هذه الحجة، كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المفرد، ومنهم القارن، ومنهم المتمتع. وكل منهم يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه. قلت: ويشهد لذلك ما روته عائشة -في الصحيحين- قالت: خرجنا مع ¬

_ (¬1) معالم السنن (2/ 138).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل". قالت عائشة: فأهلّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحج، وأهل ناس جمعة بالعمرة والحج، وأهل ناس بعمرة، وكنت فيمن أهل بعمرة. وحيث كان كذلك فجاز أن يضاف بدء الثلاث كلها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، وكل من الرواة قال صدقًا وروى حقًا لا ينكره إلا من جهل وعاند. والله الموفق. قال -رحمه الله تعالى-: ويحتمل ذلك وجهًا آخر وهو أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قارنًا، ويكون بعضهم قد سمعه يقول: لبيك بحج، فحكم أنه أفرد وخفي عليه قوله: وعمرة فلم يحك إلا [ما] (¬1) سمع، وكذلك روت عائشة ووعى الزيادة غيرها فرواها، وكذلك روى أنس، والزيادة في الحديث مقبولة لا سيما من الثقة كما لا ينكر في الشهادات، وإنما كان يختلف ويتناقض لو كان الزائد نافيًا لقول صاحبه، فأما إذا كان مثبتًا وزائدًا عليه فليس فيه تناقض ولا تدافع. ويحتمل أيضًا: أن يكون الراوي سمع ذلك يقوله على سبيل التعليم لغيره، فيقول: لبيك بحجة وعمرة. فأما من روى أنه كان متمتعًا فإنه أثبت ما حكته عائشة من إحرامه بالحج، فأثبت ما رواه أنس أنه أحرم بالعمرة والحج، إلا أنه أفاد الزيادة في البيان والتمييز من الفعلين بإيقاعهما في زمانين، كما روت حفصة أنها قالت: "لبدت رأسي وقلدت هدي فلا أحل حتى أنحر" فثبت أنه كان هناك عمرة، إلا أنه أدخل عليها الحج فصار في حكم القارن، فهذه الروايات على اختلافها في الظاهر ليس فيها تكاذيب ولا تهاتر، ولا اختلاف في المعنى. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم -يعني ابن سعد- عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة "في المتمتع إذا لم يجد هديا" ولم يصم قبل ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والسياق يقتضيها.

عرفة، فليصم أيام منى". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬1): عن ابن شهاب بالإسناد أنها كانت تقول: الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج لمن لم يجد هديًا ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، فإن لم يصم صام أيام منى. المتمتع بالعمرة إلى الحج إذا لم يجد الهدي فعليه صوم عشرة أيام، ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من مكة. وقد اختلف العلماء في صوم الأيام الثلاثة في أيام منى -وهي أيام التشريق- ولا يجوز الصوم إلا بعد الإحرام بالحج. وقال أبو حنيفة: يجوز إذا أحرم بالعمرة، والمستحب أن يكون يوم التروية، فإن صام يوم عرفة أجزأه، فأما أيام التشريق فقال الشافعي في القديم: يجوز له صومها. وروى ذلك عن عائشة، وابن عمر. وبه قال مالك وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال في الجديد: لا يجوز. وروي ذلك عن علي. وبه قال أبو حنيفة. قال المزني: رجع الشافعي عن قوله القديم. فعلى الجديد يصوم بعد أيام التشريق، ويكون ذلك قضًاء خلافًا لأبي حنيفة، فإنه قال: يسقط الصوم ويبقى الهدي في ذمته. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه مثل ذلك. هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬2) عن ابن شهاب بالإسناد أن ابن عمر كان يقول في ذلك مثل قول عائشة أم المؤمنين. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 339 رقم (255). (¬2) الموطأ (1/ 339 رقم "255").

وهذا الحديث مؤكد لما ذهب إليه الشافعي في القول القديم. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: ما استيسر من الهدي بعير أو بقرة. قال الشافعي: ونحن نقول: ما استيسر من الهدي شاة، ويرويه عن ابن عباس، وكذلك يروى عن علي بن أبي طالب مثل قول ابن عباس. ***

الباب الخامس في الطواف والسعي ودخول مكة والحرم والبيت

الباب الخامس في الطواف والسعي ودخول مكة والحرم والبيت وفيه اثنا عشر فصلًا:- الفصل الأول في دخول مكة والحرم أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يغتسل لدخول مكة". هذا حديث صحيح أخرجه الترمذي (¬1)، قال: حدثني يحيى بن موسى، عن هارون بن صالح، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال: "اغتسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لدخول مكة بفخ". قال الترمذي: هذا حديث غير محفوظ والصحيح ما روي عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يغتسل لدخول مكة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث، ضعفه أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني وغيرهما, ولا يعرف هذا مرفوعًا إلا من حديثه. فخ -بالفاء والخاء المعجمة-: موضع بمكة من جهة الغرب قريبًا من طريق العمرة. ثم الاغتسال لدخول مكة مستحب عند الشافعي، وأغسال الحج المسنونة ثمانية: الإحرام، ولدخول مكة، والوقوف بعرفة، والمزدلفة، وثلاثة أيام التشريق، ولطواف الوداع. قاله في القديم. ¬

_ (¬1) الترمذي (852).

قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان إذا أحرم حاجًا أو معتمرًا، لم يدخل مكة حتى يغتسل ويأمر من معه فيغتسلوا". قال الشافعي: وأحب للمحرم أن يغتسل بذي طوى لدخول مكة. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: وروى عن إسحاق عبد الله بن أبي فروة، عن عثمان بن عروة، عن أبيه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بات بذي طوى حتى صلى الصبح، ثم اغتسل لها ودخل مكة". قال: وروى عن جعفر بن محمد، عن أبيه "أن علي بن أبي طالب كان يغتسل بمنزله بمكة حين يقدم قبل أن يدخل المسجد". قال: وروى عن صالح بن محمد بن أبي زائدة، عن أم ذرة "أن عائشة كانت تغتسل بذي طوى حين تقدم مكة". وقد أخرج في سنن حرملة، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل من أعلى مكة وخرج من أسفلها". أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: "اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا [وتكريمًا ومهابة وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا] (¬3) وبرًا". التشريف: مصدر شرف يشرف تشريفا. والشرف: العلو، وكذلك التعظيم مصدر عظم، والتكريم مصدر كرم. وقوله: "زد من شرفه" يريد به من حجه من الناس الذين يشرفونه ويعظمونه. ¬

_ (¬1) البخاري (1577). (¬2) مسلم (1258). (¬3) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 169).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه أنه كان حين نظر إلى البيت يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام. قوله: "حين نظر" مقتضى اللفظ أن يقول: حين ينظر، فيأتي بالمستقبل حتى يتناسق اللفظ، فإن صحت الرواية بقوله: "نظر" فإنه يكون قد أعطى لفظة حين معنى إذا لأنهما من أسماء الزمان. التقدير: أنه كان إذا نظر إلى البيت يقول. والسلام: اسم من أسماء الله تعالى، وقد تقدم معناه على اختلاف أقوال العلماء فيه. وقوله: "ومنك السلام" يريد السلامة والأمن. وقوله: "فحينا ربنا بالسلام" أي اجعل تحيتنا منك السلام، وهو قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (¬1). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج قال: حُدِّثت عن مقسم -مولى عبد الله بن الحارث- عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ترفع الأيدي في الصلاة، وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة، وبجمع عند الجمرتين، وعلى الميت". قوله: "ترفع الأيدي" إخبار يتضمن أمرًا أي لرفع الأيدي. وقد جاء مثل هذا في العربية كثير. والذي ذهب إليه الشافعي -فيما حكاه أبو حامد في الجامع-: أنه إذا رأى البيت يستحب أن يرفع يديه. والذي قاله الشافعي في الإملاء: لا أكرهه ولا أستحبه، ولكن إن رفع كان حسنًا. وحكى ذلك عن الثوري، وأحمد، وإسحاق، وابن المبارك. ¬

_ (¬1) الرعد: (24).

وحكى عن مالك: أنه لا يرى ذلك. وروى ذلك عن ابن عباس، وابن عمر. قال الشافعي: وإذا رأيت البيت قال. وذكر هذا الذي رواه عن ابن جريج وابن المسيب. قال: وقد كان بعض من مضى من أهل العلم، يتكلم بكلام عند رؤية البيت، وربما تكلم به على الصفا والمروة، ويقول: ما زلنا نحل عقدة ونشد أخرى، ونهبط واديًا ونعلو آخر حتى أتيناك، غير محجوب أنت دوننا، فيا من إليه بينة وحجتنا (¬1) ارحم ملقى رحالنا بفناء بيتك. وإنما قال الشافعي في رفع الأيدي ما قال في الإملاء، لأنه لم يعتمد على الحديث المذكور فيه لانقطاعه، فإنه قد رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. وعن نافع، عن ابن عمر، مرة مرفوعًا ومرة موقوفًا دون ذكر الميت. ... ¬

(¬1) كذا لفظه في الأصل وفي المعرفة (7/ 200): [حوائجنا ومنه حجنا].

الفصل الثاني في ابتداء الطواف وهيئته

الفصل الثاني في ابتداء الطواف وهيئته أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء قال: "لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة لم يلو ولم يعرج". وهكذا رواه في كتاب المناسك (¬1)، وقال في القديم (¬2): عن سعيد وسالم بالإسناد. وقال: "لما قدم مكة لم يعرج حتى طاف بالبيت". لوى الرجل رأسه وألوى به: إذا أماله وأعرض، وكذلك إذا عطف عليه. وعرج فلان على المنزل يعرج تعريجًا: إذا حبس ناقته عليه وأقام. والمراد بالحديث: أنه لما دخل مكة لم يمل إلى شيء، ولا اشتغل بشيء دون البيت والشروع في الطواف به. وكذا هو السنة لأن الطواف تحية البيت فاستحب الابتداء به كما أنه من دخل المسجد يستحب له أن يبتدئ بيمينه. فإن قيل: هلا ابتدأ بتحية المسجد، لأن دخوله إلى المسجد قبل وصوله إلى البيت؟ قيل: إنما دخل المسجد لأجل قصد البيت فقدم الأهم عنده، والداعي له إلى دخول المسجد، ولأن البيت أشرف بقعة في المسجد، فكان تقديم تحيته أولى من تحية المسجد. قال الشافعي (¬3): إن فعل فلا بأس لأنه عمل بغير وقت، وقد بلغنا عن علي ¬

_ (¬1) الأم (2/ 169). (¬2) المعرفة (7/ 212). (¬3) انظر المعرفة (7/ 212).

ابن أبي طالب أنه كان يأتي منزله قبل أن يطوف بالبيت، أخبر بذلك رجل عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود: أنه رآه بدأ فاستلم الحجر، ثم أخذ عن يمينه فرمل ثلاثة أطواف ومشى أربعة، ثم أتى المقام فصلى خلفه ركعتين. الاستلام: افتعال من السلام التحية، كما يقال: اقترأت من القراءة، وكذلك أهل اليمن يسمون الركن الأسود المُحيَّا، أي أن الناس يحيونه بالسلام ويشيرون إليه بأيديهم. وقيل: لأنهم يحيون أنفسهم عن الحجر الأسود، إذ ليس الحجر ممن يحييهم، كما يقال: اختدم إذا خدم نفسه. وحكي عن ابن الأعرابي أنه قال: هو مهموز وترك همزه تخفيفًا، يعني أنه من الملاءمة والموافقة، كما يقال: استلأم كذا استلآما إذا رآه موافقًا له وملائمًا. وقيل: الاستلام: افتعال من السِلام -بكسر السين- جمع سلمة وهي الحجر، تقول: استلمت الحجر إذا لمسته، كما يقال: اكتحلت من الكحل. هذا هو الأصل في الاستلام. والرمَل -بفتح الميم-: سرعة المشي والهرولة والحصير رمل يرمل رملًا ورملانًا. والأطواف: جمع طواف، والطواف مصدر طاف بالبيت يطوف طوافا وطوفانا، والمصدر لا يجوز جمعه إلا إذا اختلفت أجناسه أو تعددت مراته ولا أجناس للطواف حتى يجمع فينبغي أن يكون لتعدد المرات. والذي ذهب إِليه الشافعي (رضي الله عنه) أن الحاج أو المعتمر يستحب له أن يدخل من باب بني شيبة، ثم يقصد الركن الأسود فيستلم الحجر ويقبله، فإن

لم يتمكن من تقبيله استلمه بيده ثم قبل يده. وبه قال ابن عمر، وجابر، وأبو هريرة، والخدري، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعروة، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: يضعها على فيه ولا يقبلها، ثم يبتدئ بالطواف من محاذاة الحجر. ويستحب أن يرمل في الأشواط الأُوَّل ويمشي في الأربع الباقية، فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمر، وابن مسعود، وابن عمر، وبه قال ابن الزبير، وعروة، والنخعي، ومالك، والثوري، وأحمد، وأبو ثور، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وذهب طاوس، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله: إلى المشي بين الركنين اليمانيين (¬1). وأجمع أهل العلم: على [أنه لا] (¬2) رمل على النساء، ولا سعي بين الصفا والمروة، إنما يمشين حيث يرمل الرجال ويسعون. والمقام: هو مقام إبراهيم (الخليل عليه السلام) مقام باب الكعبة. والركعتان اللتان يصليهما خلف المقام فيهما قولان:- أحدهما: أنه سنة. وبه قال مالك، وأحمد، والثوري. والثاني: أنهما واجب. وبه قال أبو حنيفة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك وعبد العزيز، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه كان إذا طاف في الحج والعمرة أول ما يقدم، سعى ثلاثة أطواف بالبيت ومشى أربعة، ثم يصلي سجدتين، ثم يطوف بين الصفا والمروة". ¬

_ (¬1) يعني لا يرمل بينهما وانظر المجموع (8/ 41). (¬2) سقط من الأصل والسياق يقتضيه.

هذا الحديث قد رواه الشافعي عن جابر، وعن عبد الله بن عمر من طريقين، والحديث من هذين الطريقين مجمع عليه بين الأئمة -أئمة الحديث-. فأما رواية جابر: فأخرجها مالك ومسلم والترمذي والنسائي. وأما رواية ابن عمر: فأخرجها مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. أما مالك (¬1): فأخرج حديث جابر عن جعفر بن محمد. وأخرج (¬2) حديث ابن عمر: عن نافع. وأما البخاري (¬3): فأخرج حديث ابن عمر عن إبراهيم بن المنذر، عن أبي ضمرة أنس، عن موسى بن عقبة. وأما مسلم (¬4): فأخرج حديث جابر عن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن آدم، عن سفيان، عن جعفر بن محمد. وأخرج حديث ابن عمر (¬5): عن محمد بن عباد، عن حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة. وأما أبو داود (¬6): فأخرج حديث ابن عمر عن قتيبة، عن يعقوب، عن موسى ابن عقبة. وأما الترمذي (¬7): فأخرج حديث جابر عن محمود بن غيلان، عن يحيى بن آدم، عن سفيان، عن جعفر. وأما النسائي (¬8): فأخرج حديث جابر عن عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى، عن يحيى بن آدم، عن سفيان. وأخرج حديث ابن عمر (¬9): عن قتيبة، عن يعقوب، عن موسى بن عقبة. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 294) رقم (107). (¬2) الموطأ (1/ 294) رقم (108). (¬3) البخاري (1616). (¬4) مسلم (1218) رقم (150). (¬5) مسلم (1261) رقم (231). (¬6) أبو داود (1893). (¬7) الترمذي (856) وقال: حديث جابر حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم. (¬8) النسائي (5/ 228). (¬9) النسائي (5/ 229).

العامل في "أول" طاف، أي كان إذا طاف في أول قدومه. وسعى: متعلق بإذا طاف، أي كان إذا طاف وسعى ومشى وثم الكلام، ثم عطف على هذه الجملة المشتملة على الطواف، الجملة الثانية المشتملة على الصلاة، وإنما قلنا ذلك لينتظم المعطوف في سلك المعطوف عليه، لأن الجملة الثانية مصدرة بفعل مستقبل والأولى بفعل ماض، ولا يعطف المستقبل على الماضي إذا كانا مفردين. قال الشافعي: عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن مجاهد أنه كره أن تقول: شوط دور للطواف، ولكن ليقل طوافين. قال الشافعي: وأكره ما كره مجاهد لأن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1) فسماه طوافًا. ... ¬

_ (¬1) الحج: 29.

الفصل الثالث في تقبيل الحجر ومسح الأركان

الفصل الثالث في تقبيل الحجر ومسح الأركان أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن ابن جعفر قال: "رأيت ابن عباس يوم التروية مُسَبِّدًا رأسه، فقبَّل الركن ثم سجد عليه ثم قبَّله، ثم سجد عليه ثلاث مرات". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر قال: "رأيت ابن عباس أتى الركن الأسود مُسَبِّدًا، فقبله ثم سجد عليه ثم قبَّله، ثم سجد عليه ثم قبَّله، ثم سجد عليه". يوم التروية. هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون من الماء بعده، وذلك أن منى لا ماء بها فيرتوون من الماء ويأخذونه معهم؛ ويتوجهون إليها وقد تزودوا من الماء. يقال: رويت لأهلي وعلى أهلي إذا أتيتهم بالماء، ورويت أروي وارتويت وتروِّيت كله بمعنى. وقال ابن السكيت: رويت القوم أرويهم إذا استقيت لهم الماء فالتروية تفعلة من ذلك. والتسبيد في اللغة: هو استئصال شعر الرأس، والتسبيد أيضًا ترك الادِّهان. قال الجوهري: وفي الحديث قدم ابن عباس مكة مسبِّدًا رأسه هكذا، قال: فيدل أنه أراد به ترك الادهان. -والله أعلم- لأن الطائف إنما يطوف بالبيت قبل الحلق لا سيما طواف القدوم فإن أراد به طواف الإفاضة فذاك إنما يكون بعد الحلق، هذا في الحج فأما في العمرة فكلا الأمرين جائز. قال الأزهري: وذكر هذا الحديث عن ابن عباس، فقال: التسبيد ها هنا ترك الادهان والغسل، وأراد بالسجود عليه ترك وجهه على الحجر كما يضعه الساجد على الأرض، لا أنه صار على الحجر كهيئة الساجد فإن ذلك متعذر

عليه، لأن غاية ما يقدر عليه أن يضع وجهه على الحجر وهو قائم. وحكم وضع الجبهة عليه حكم التقبيل، وهو نوع من زيادة التكريم والتعظيم وكان يفعله عمر بن الخطاب، وابن عباس، وطاوس. وبه قال الشافعي، وأحمد. وأنكر مالك ذلك وقال: هو بدعة. قال الشافعي: ولا بأس إن خلا له الركن الأسود أن يقبله ثم يسجد عليه. قال: وإن ترك استلام الركن لم أحب ذلك ولا شيء عليه. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: قلنا لعطاء: هل رأيت أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استلموا قبلوا أيديهم؟ فقال: نعم رأيت جابر بن عبد الله، وابن عمر، وأبا سعيد الخدري، وأبا هريرة إذا استلموا قبلوا أيديهم. قلت: وابن عباس؟. قال: نعم حسبت كثيرًا. قلت: هل تدع أنت إذا استلمت أن تقبل يدك؟. قال: فلم استلمه إذا. قوله: "حسبت كثيرًا" يريد حسبت أنه قبلها كثيرًا. وقوله: "هل تدع أنت إذا استلمت أن تقبل يدك"؟ يريد: هل تدع تقبيل يدك إذا استلمت، وتكتفي باللمس دون تقبيل اليد. وقوله في الجواب: "فَلِمَ استلمه إذًا" اللام في مكسورة المعنى لأي معنى استلمه إذا لم أقبل يدي، ولو فتحت اللام لكان المعنى: إني إذا استلمت ولم أقبل يدي لم أكن إذًا قد استلمته، أي أن الاستلام لا يعد استلامًا كاملًا حتى تقبل اليد، لأن تقبيل اليد إنما هو عن تقبيل الحجر إذا لم يتقبل (¬1) من تقبيله. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل ولعل (يتمكن)، فصحفت.

وإذا: حرف مكافأة وجواب، فإن قدمتها على الفعل المستقبل نصبت بها، إذًا جعلت الفعل معتمدا عليها، كقولك: الليلة أزورك تقول: إذا أكرمك، فإن وسطتها وجعلت الفعل بعدها معتمدا على ما قبلها ألغيتها، تقول: أنا إذا أكرمك، وإن أخرتها ألغيت العمل فقلت: أكرمك إذا، فإن الفعل الذي بعدها فعل الحال لم تعمل، وإذا نطقت بها نطقت بالنون وإذا وقفت عليها وقفت بالألف. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، عن موسى بن عبيد، عن محمد بن كعب القرظي أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح الأركان كلها ويقول: لا ينبغي لبيت الله أن يكون شيء منه مهجورًا، وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. وأخبرنا الشافعي بهذا الإسناد أن ابن عباس كان يمسح الركن اليماني والحجر، وكان ابن الزبير يمسح الأركان كلها ويقول: لا ينبغي لبيت الله أن يكون شيء منه مهجورًا، وكان ابن عباس يقول: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. هذا حديث متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن عمرو ابن دينار، عن أبي الشعثاء أنه قال: ومن يتقي شيئا من البيت، وكان معاوية يستلم الأركان كلها، فقال له ابن عباس: إنه لا يُستلم هذان الركنان، يقال: ليس شيء من البيت مهجورًا، وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن قتادة، عن أبي الطفيل أنه سمع ابن عباس يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم غير هذين الركنين اليمانين. ¬

_ (¬1) البخاري (1608). (¬2) مسلم (1269).

مسح الأركان: هو لمسها باليد، تقول: مسحت الركن ومسحت به، وقد جاء في الشعر مشددًا قال: ولما قضينا من منى كل حاجة. ومسّح بالأركان من هو ماسح ... فجمع بين اللغتين التشديد والتخفيف وينبغي: مضارع بغى، تقول: بغيته فانبغى أي طلبته فواتاني، وبغيت فعل يتعدى إلى مفعول واحد وإلى مفعولين تقول: بغيت الشيء إذا طلبته، وبغيتك الشيء أي طلبته لك، وأبغيتك الشيء أي جعلتك طالبًا له، والمعنى: لا يتأتى ولا يجوز أن يهجر شيء من أركان البيت ولا يمسح. وقول ابن عباس: "لقد كان في رسول الله أسوة حسنة" إنكار على ابن الزبير حيث مسح الأركان، يعني أن الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى، فإنه لم يكن يمسح غير الركنين. والركنان اللذان يستلمان: هما الركن الأسود والركن اليماني، واللذان لا يستلمان: هما الركن العراقي والركن الشامي. وقوله: غير الركنين اليمانيين فسماهما معا يمانيين لأحد أمرين:- إما لأن الركن الأسود قريب من جهة اليمن. أو تغليبًا لأحد الاسمين على الثاني، كقولهم: القمران والعمران. والذي ذهب إليه الشافعي (رضي الله عنه): أن الطائف يستلم الركن اليماني وإذا مر به، ويقبل يده ولا يقبل الركن. قال إمام الحرمين: وذكر الأصحاب وجهين في كيفية ذلك:- أحدهما: أن يقبل يده ويمس الركن كالذي ينقل حديثه إليه. والثاني: أن يمس الركن ثم يقبل كالذي ينقل تيمنا إلى نفسه. وأما الركنان الباقيان فلا يستلمهما، وروي ذلك عن عمر، وابن عمر، وابن عباس. وبه قال أحمد، وإسحاق. وقال مالك: يستلم الركن اليماني ولا يقبل يده وإنما يضعها على فيه.

وقال أبو حنيفة: لا يستلم الركن اليماني. وروي عن جابر بن عبد الله، وابن الزبير، وأنس بن مالك، وعروة أنهم كانوا يستلمون الأركان كلها. وروي ذلك عن الحسن والحسين. وروى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يترك استلام الركنين الآخرين إلا لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم الخليل، فإن بعض الحجر من البيت. قال الشافعي -في قول معاوية ليس شيء من البيت مهجورًا-: أن من طاف بالبيت ما هجره فليس ترك الاستلام هجرًا، ألا ترى أن ما بين الركنين لا يستلم وليس ذلك هجران له. قال الشافعي: الذي فعله ابن عباس أحب إليَّ، لأنه كان يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد رواه ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر يدل على أن منهما مهجورًا، فكيف يهجر ما يطاف به؟ ولو كان ترك استلامهما هجرانًا لهما، لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرانًا لها. قال: والعلة في الركنين الآخرين فنرى أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم، فكان كسائر البيت إذا لم يكونا مستوظفًا لهما البيت، فإن مسحهما رجل كما مسح سائر البيت فحسن، إلا أني أحب أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج المزني (¬1) عن الشافعي، عن مالك، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: رأيتك تصنع أربعًا لم أر أحدًا من أصحابك يصنعها، قال: ما هن يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال؛ ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية. فقال ابن عمر: أما الأركان فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمس إلا اليمانين، وأما النعال السبتية: فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبس النعال التي ليس ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (503).

فيها شعر ويتوضأ فيها؛ فأنا أحب أن ألبسهما. وأما الصفرة: فإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها، وأما الإهلال: فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته. هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬1)، والبخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا وجدت على الركن زحامًا فانصرف ولا تقف. هذا طرف من حديث طويل قد أخرجه النسائي (¬5): عن عمرو بن عثمان، عن الوليد، عن حنظلة قال: رأيت طاوسًا يمر بالركن فإن وجد عليه زحامًا مر ولم يزاحم، وإن رآه خاليا قبله ثلاثا، ثم قال: رأيت ابن عباس فعل مثل ذلك، وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب فعل مثل ذلك، ثم قال: إنك حجر لا ضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك، ثم قال عمر: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ذلك. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الطائف إذا لم يقدر على تقبيل الحجر واستلامه لازدحام الناس عليه؛ أشار إليه بيده وانصرف. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد بن سالم، عن عمر بن سعيد ابن أبي حسين، عن منبوذ بن أبي سليمان، عن أمه أنها كانت عند عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- فدخلت عليها مولاة لها فقالت: يا أم المؤمنين، طفت بالبيت ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 272 رقم (31). (¬2) البخاري (166). (¬3) مسلم (1187). (¬4) أبو داود (1772). (¬5) النسائي (5/ 227).

سبعًا واستلمت الركن مرتين أو ثلاثًا؟ فقالت لها عائشة: لا آجرك الله، لا آجرك الله، تدافعين الرجال ألا كبرت ومررت. آجره الله يؤجره، وآجره يأجره وبأجره: أي أثابه وجازاه على طاعته، وكأن أصله من الأجرة أي أعطاه أجرته. وهذا الحديث مسوق لبيان: أن النساء يستحب لهن أن يطفن من وراء الرجال لئلا يزدحمن مع الرجال. وفيه: بيان أن من زحم عن البيت كفاه أن يطوف ويشير إلى الركن. وقد أخرج المزني (¬1) عن الشافعي: عن سفيان، عن أبي يعفور قال: سمعت رجلاً من خزاعة حين قتل ابن الزبير بمكة -وكان أميرًا على مكة- يقول: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - "يا أبا حفص، إنك رجل قوى ولا تزاحم على الركن فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إن وجدت خلوة فاستلم وإلا فكبر وامض". قال سفيان -وهو عبد الرحمن بن [نافع بن عبد] (¬2) الحارث-: كان حجاج استعمله [عليها منصرفه منها] (2) حين قتل ابن الزبير. وقد أخرج مالك في الموطأ (¬3): عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن: "كيف صنعت يا أبا محمد في استلام الركن؟ فقال: استلمت وتركت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أصبت". قال الشافعي: وأحسب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن: أصبت أنه وصف له أنه استلم في غير زحام وترك في زحام، لأنه أشبه أن يقول له: أصبت في فعل وترك، إلا إذا اختلف في الفعل والترك. ... ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (510). (¬2) من السنن المأثورة. (¬3) الموطأ (1/ 295) رقم (113).

الفصل الرابع في الأضطباع والرمل

الفصل الرابع في الاضطباع والرَمَل أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن [بن] (¬1) أبي مليكة "أن عمر بن الخطاب استلم الركن ليسعى ثم قال: لمن نبدي الآن مناكبنا ومن نرائي فقد أظهر الله الإِسلام، والله على ذلك لأسعين كما سعى". هذا الحديث قد أخرجه أبو داود (¬2): عن أحمد بن حنبل، عن عبد الملك بن عمرو، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب [يقول] (¬3): قيم الَرمَلان والكشف عن المناكب وقد أطَّأ الله -عز وجل- الإِسلام، ونفى الكفر واهله، لكن مع ذلك لا ندع شيئًا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". يريد بالسعى في هذا الحديث: الرمل في الطواف، لأن السعي فوق المشي ودون العدو. والإبداء: الإظهار، والكشف ضد الخفاء. والمناكب: جمع منكب وهو ما بين الكتفين. ويرائي: تفاعل من الرياء وهو أن يفعل الشيء ويقوله ظاهرًا وباطنه بخلافه، تقول منه راءى يرائي فهو مراءٍ، وقوم مراؤن والاسم الرياء، ويقال: فعل ذلك رياء وسمعة أي ليرى ويسمع فيحمد عليه لا لأنه يؤثره بباطنه. وقوله: "فقد أظهر الله الإِسلام" يريد أعزه وبسط كلمته ونشر دعوته في ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 174). (¬2) أبو داود (1887). (¬3) من أبي داود.

البلاد والعباد، بعد أن كان مخفيًا مغلوبًا. وقوله: "والله على ذلك" أي على هذه الحالة من إظهار الإِسلام، بعد الخفاء، لأسعين كما سعى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن السبب الموجب للسعي قد زال كما سنذكره. والرمَلان -بفتح الميم-: مصدر رمل يرمل رملًا ورملانًا. وقوله: "والكشف عن المناكب" يريد كشف الثياب عنها، تقول: كشف وجهي، وكشف عن وجهي. ففي الأول أوقعت الفعل على الوجه، وفي الثاني أوقعته على الثوب وحذفته من اللفظ، لأنه المفعول ولفهم المعنى، والمراد بكشف المناكب: الاضطباع عند الطواف. وأطَّأ: أثبت وأرسى ومهد، وإنما هو وطأ بواو والهمزة فيه مبدلة من الواو. وأما سبب هذا القول من عمر -رضي الله عنه- كما ورد في سبب الرمل في الطواف من وجوه عدة:- منها ما رواه ابن عباس فيما أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3)، والنسائي (¬4)، قال ابن عباس: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا بين الركنين ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. قال ابن عباس: ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا للإبقاء عليهم. وفي رواية: إنما سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت وبين الصفا والمروة ليرى ¬

_ (¬1) البخاري (1602). (¬2) مسلم (1266). (¬3) أبو داود (1886). (¬4) النسائي (5/ 230، 231).

المشركون قوته، فلذلك قال عمر -رضي الله عنه- لمن نبدي مناكبنا، ومن نرائي. لأنهم إنما فعلوا ذلك لأجل المشركين، فأما اليوم مع زوال السبب الموجب لم يفعله، ثم عاد قال: اتباع السنة أولى، ففعله. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- في الرمل قد ذكرناه قبل هذا، وذكرنا أقوال الأئمة فيه ونزيده ها هنا بسطًا: وهو أن الرمل والاضطباع إنما يستحبان في طواف القدوم لا في طواف الزيارة، إلا أن يكون قد تركه في طواف القدوم، فيأتي في طواف الزيارة قاله الشيخ أبو حامد. وقال غيره فيه وجهان، والمذهب أنه لا يأتي به. وأما هيئة الاضطباع: وهو أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن ويجمع طرفيه على عاتقه الأيسر، فيبدوا منكبه الأيمن ويغطي الأيسر. وسمى بذلك: لإبداء الضبعين وهما ما تحت الإبط من العضد، والضبع العضد. وهذا الاضطباع عند الشافعي يستحب استدامته إلى أن يفرغ من الطواف، فإذا صلى ركعتي الطواف تركه لأنه في الصلاة مكروه، ثم يعيده إذا خرج إلى السعي بين الصفا والمروة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان يرمل من الحجر، ثم يقول: هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وقد أخرجه في القديم (¬1) عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يرمل من الحجر الأسود ثلاثة أطواف ويمشي أربعة أطواف". ¬

_ (¬1) المعرفة (7/ 222).

هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي. فأما مالك (¬1): فأخرج الرواية الثانية. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن محمد عن سريج بن النعمان، عن فليح، عن نافع، عن ابن عمر قال: "سعى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أشواط، ومشى أربعة في الحج والعمرة". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي، عن ابن المبارك، عن عبيد الله بن عمر بالإسناد قال: "رمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر ثلاثًا ومشى أربعًا". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن أبي كامل الجحدري، عن [سليم] (¬5) بن أخضر، عن عبيد الله بن عمر بالإسناد مثل لفظ مسلم. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى عن عبيد الله ابن عمر بالإسناد "أنه كان يرمل الثلاثة ويمشي الأربع، ويزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك". هذا الحديث مسوق لبيان الرمل هو في الابتداء بالطواف، وأنه لا يبتدئ به في أثناء الطواف، لأنه قال: كان يرمل من الحجر إلى الحجر، والحجر من عنده يبتدأ بالطواف. وفيه: بيان أن الرمل يكون حول البيت جميعه، وليمر كما إليه من قال: أنه ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 294 رقم (108). (¬2) البخاري (1604). (¬3) مسلم (1262). (¬4) أبو داود (1891). (¬5) في الأصل [سليمان] وهو تصحيف والتصويب من أبي داود. (¬6) النسائي (5/ 229).

يمشي بين الركن اليماني والركن الأسود، لأن قوله: يرمل من الحجر إلى الحجر، يقتضي أن يستوعب مدار البيت جميعه رملًا. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم (¬1): عن مالك، عن نافع "أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى، قال: وكان لا يسعى إذا طاف حول البيت إذا أحرم من مكة". قال الشافعي: يعني الرمل. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعى في عُمَره كلهن الأربع بالبيت وبين الصفا والمروة، إلا أنهم ردوه في الأولى أو الرابعة من الحديبية". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل من سبعة ثلاثة أطواف خببًا ليس بينهن مشي". يريد بالسعي في العُمَر: الرمل الذي قدمنا ذكره في الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة. والعُمَر: جمع عمرة، والذي صح وتعاضدت به الأحاديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج من المدينة حجة واحدة، وأحرم بأربع عمر:- الأولى: عام الحديبية في سنة ست من الهجرة، وصده المشركون عن البيت وصالحوه على أن يعتمر من قابل، فنحر هديه بالحديبية وحلق وحل ثم عاد ولم يدخل مكة. والعمرة الثانية: في ذي القعدة من قابل سنة سبع، وتسمى عمرة القضاء ¬

_ (¬1) المعرفة (7/ 226).

وعمرة القضية لأنهم تقاضوا وجعلوا يينهم قضية في أن يعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قابل. والعمرة الثالثة: عمرة الجعرانة في سنة ثمان لما قسم غنائم حنين. والعمرة الرابعة: التي مع حجته سنة عشر. فقوله: "سعى في عمره الأربع" يقتضي أنه أثبت له عمرة الحديبية فلما عمم القول استثنى فقال: إلا أنهم ردوه في الأولى يعني عمرة الحديبية. وأما قوله: "الأولى الرابعة" فما أعرف معناه، وهكذا جاء في المسند وفي كتاب البيهقي أيضًا وقد ضبب (¬1) عليه، وجاء في نسخة أخرى للمسند مقروءة: "الأولى والرابعة" وهذا أيضًا مشكل فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يردَّ في عمرة الحديبية وحدها، وعمرته الرابعة هي التي مع حجته وتلك لم يرد فيها فإن مكة كانت له وذلك بعد الفتح بعامين. والسبع: واحد من سبعة والسبع، والمراد به ها هنا: اسم الأشواط السبعة، يقال: طاف سبعًا إذا طاف سبعة الأشواط ويقال له أيضًا: أسبوع. والخبب: ضرب من العدو، تقول: خب يخُب -بالضم- خبا وخببا وخبيبًا وهو منصوب على الحال، والعامل فيه قوله: رمل، والأحسن أن يكون منصوبًا على المصدر من غير لفظ الفعل لأن الرمل والخبب بمعنى. وقوله: "ليس بينهن مشي" يبطل قول من ذهب إلى أنه يمشي بين الركنين ولا يرمل. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء ¬

_ (¬1) التضبيب ويسمى أيضًا: التحريض وهي علامة كالصاد الممدودة [صـ] توضع فوق الكلمة إشارة إلى ما صح وروده من جهة النقل غير أنه فاسد لفظًا أو معنى. وراجع في ذلك تحقيق النصوص ونشرها للشيخ عبد السلام هارون، ومقدمة سنن الترمذي للعلامة أحمد شاكر -رحمه الله-.

قال: سعى أبو بكر في حجته عام حج إذ بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثم أبو بكر (¬1) وعمر وعثمان والخلفاء جرًّا يسعون كذلك. هذا الحديث مؤكد لما سبق من أحاديث الرمل والسعي في الطواف والسعي. وقوله: "جرا" من قوله لهم كان ذلك كل عام كذا وهلم جرا إلى اليوم، أي امتد ذلك إلى اليوم. والمعنى بالحديث: أن الخلفاء أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم إلى أن روي الحديث كانوا يسعون، إلا أنه أسقط هلم من اللفظ ولعله سقط في الكتابة -والله أعلم- فإنه لم يرد في اللغة الكلمتان إلا مجتمعتين. وأما جرا: فإنه منصوب عند نحاة البصرة على الحال، التقدير هلموا جارين أي: مقبلين. وعند نحاة الكوفة هو نصب على المصدر لأن هلم عندهم بمعنى جر وقال الميداني: [في] (¬2) المقصد: معنى هلم جرا تعالوا على هيئتكم كما يسهل عليكم وأصل ذلك من الجر في السوق وهو أن يترك الإبل والغنم ترعى في مسيرها، وأول من قال ذلك عائذ بن يزيد اليشكري يجيب أخاه جندله في أبيات أولها: أجندل كم قطعت إليك أرضا ... يموت فيها أبو الأشبال ذعرا يقول فيها وإن جاوزت معقرة ... رمت بي إلى أخرى كتلك هلم جرا وكانت حجة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أميرًا على ¬

_ (¬1) كذا في الأصل والصواب حذف [أبي بكر] كذا جاء في الأم (2/ 174) وغيره. (¬2) في الأصل [قال] وهو تصحيف والمثبت هو مقتضى السياق والميداني هو العلامة شيخ الأدب أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني تلميذ الواحدي وصاحب كتاب الأمثال وانظر ترجمته من السير (19/ 489).

الموسم في سنة تسع من الهجرة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "ليس على النساء سعي بالبيت ولا بين الصفا والمروة". المراد بالسعي في هذا الحديث: الرمَل. والباء في "البيت" للإلصاق والملابسة أي: ألصق سعيه بالبيت والتبس به، أو لأنه أعطى سعى معنى طاف وطاف يتعدى بالباء. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن النساء لا رمل عليهن ولا اضطباع ولا سعي بين الصفا والمروة، وإنما عليهن المشي موضع سعي الرجال، لأن معنى السعي معدوم فيهن، ولأن ذلك يقدح في سترهن، وهذا بإجماع أهل العلم. قال الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم قال [رجل] (¬1): قال مجاهد: قال: "رأت عائشة النساء يسعين بالبيت فقالت: مالكن فينا أسوة ليس عليكن سعى". وقد أخرج الشافعي في القديم (¬2): عن مالك بن أنس وعبد العزيز بن محمد ورجل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمل بين الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف". وأخرج المزني (¬3) عنه عن مالك وحده بالإسناد مثله. ... ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 176). (¬2) المعرفة (7/ 221 - 222). (¬3) السنن المأثورة (513).

الفصل الخامس في ترك الكلام وتقليله

الفصل الخامس في ترك الكلام وتقليله أخبرنا الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم، عن حنظلة، عن طاوس أنه سمعه يقول: سمعت ابن عمر يقول: "أقلوا الكلام في الطواف فإنما أنتم في صلاة". هذا حديث حسن أخرجه النسائي (¬1) عن محمد بن سليمان، عن الشيباني، عن حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس قال: قال عبد الله بن عمر "أقلوا الكلام في الطواف، فإنما أنتم في الصلاة". وفي رواية: عن يوسف بن سعيد، عن حجاج وعن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب كلاهما عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطواف بالبيت صلاة فأقلوا الكلام". وأقلوا: أمر بالتقليل، قل الشيء يقل قلة: إذا صار قليلاً، وأقله غيره يقله: أي جعله قليلاً وقلله كذلك. وفي رواية الشافعي: "فإنما أنتم في صلاة" منكَّرا، وفي رواية النسائي: "فإنما أنتم في الصلاة" معرفًا، والتنكير أولى لأن الطواف على الحقيقة ليس صلاة دائمًا، وإنما يشارك الصلاة في بعض شروطها كما سيأتي بيانه، فتنكيره يقتضي أنه مشبه بالصلاة وأنه نوع منها أو شيء يقرب منها، ومما يعضد ذلك الرواية الثانية التي للنساء، فإنه قال: "الطواف بالبيت صلاة" فجاء بها نكرة مثل رواية الشافعي. وأما التعريف: فيقتضي أن يكون الطواف هو الصلاة، لأنه بالألف واللام ومتى كان الخبر معروفة كالمبتدأ كان هو. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الطواف لا يجوز إلا بما يجوز به الصلاة من طهارة الحدث، وطهارة النجس, وستر العورة وغير ذلك من شرائط الصلاة إلا ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 222).

الكلام. وبه قال مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وقال أبو حنيفة: ليست شرطًا. واختلف أصحابه هل هي واجبة أم سنة. والكلام في الطواف جائز بالإجماع، إلا أن الأولى تركه إلا الدعاء والذكر. وقراء القرآن خلاف. قال الشافعي: وأستحب له أن يقرأ في طوافه. وبه قال عطاء بن أبي رباح، وابن المبارك، ومجاهد , والثوري، وأصحاب الرأي، وأبو ثور. وكره الحسن البصري، وعروة، ومالك: قراءة القرءان. وروي الأمران عن أحمد. قال الشافعي: وبلغنا أن مجاهدًا كان يقرأ عليه القرءان في الطواف. قال: وبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكلم في الطواف وكلم، فمن تكلم في الطواف فلا يقطع الكلام طوافه، وذكر الله أحب إلىَّ فيه من الحديث. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه) أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن عطاء قال: طفت خلف ابن عمر وابن عباس، فما سمعت واحدًا منهما متكلمًا حتى فرغ من طوافه. هذا الحديث هكذا رواه الشافعي، وقد رواه الترمذي (¬1): عن عطاء بن السائب، عن طاوس، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه. فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير". قال الترمذي: وقد روي عن ابن طاوس، وغيره عن طاوس، عن ابن عباس موقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن السائب. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) الترمذي (960).

الفصل السادس في الطواف راكبا

الفصل السادس في الطواف راكبًا أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه سمعه يقول: "طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة، ليراه الناس وليشرف لهم أن الناس غَشُوه". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن علي بن خشرم، عن عيسى، عن ابن جريج. [و] (¬2) عن عبد بن حميد، عن محمد بن بكر، عن [ابن] (2) جريج وزاد بعد قوله وليشرف: وليسألوه. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن يحيى، عن ابن جريج. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن عمران بن يزيد، عن شعيب، عن ابن جريج. أشرف على الشيء: شرف إشرافا إذا أطل عليه من فوقه. وغشوه: أي طافوا به وأحدقوا وكثروا عليه مزدحمين، حتى خفى عن أعين الناس من الغطاء والغطاء، والأصل في غشوه غشيوه بوزن سمعوه، فلما استثقلت الضمة على الياء وقبلها كسرة حذفت الياء، واجتمعت كسرة الشين وبعدها واو الجمع ولا يكون بعدها إلا ضمة، فحذفت الكسرة وعوضت منها ضمة فصارت غشوه. وقد جاء في رواية الشافعي: "أن الناس غشوه"، وفي رواية الباقين: "فإن ¬

_ (¬1) مسلم (1273). (¬2) سقط من الأصل والمثبت من مسلم. (¬3) أبو دواد (1880). (¬4) النسائي (5/ 241).

الناس غشوه" فحذف الناس أن وأثبتوها والمعنى سواء، وذلك أن قوله: "ليراه الناس" تعليل لركوبه، وقوله: "أن الناس غشوه" لقصد أن يراه الناس، كأن قائلًا قال: فِلمَ لم يره الناس؟ قال: لأن الناس غشوة، فإثبات الفاء يفيد الجمع بين العلة والمعلل فائدة للعطف، وحذفها يجعله تعليلًا مستأنفًا غير معطوف وهو أفصح اللفطن، وبيانه: أنه مع الفاء يكون قد ساق اللفظ غير منقطع إلى آخره، ومع حذفها يكون الكلام مقطوعًا عند قوله: "وليشرف لهم" إعتقادًا منه فهم السامع عند الإشراف، ثم لما سكت عاد مستدركًا لما توهمه من فهم السامع، فذكر العلة فكان رفعها في النفس أعظم، والتلبية لها والوقوف عليها أحسن، فإن العلة إذا جاءت بعد تطلبها ووقعت عند الحاجة إليها؛ تكون أحسن موقعًا وأجمل موضعًا. ولو قال قائل: أن مفتوحة الهمزة على تقدير: لأن الناس غشوه، لكان وجهًا إلا أن إثبات الفاء يأبى ذلك. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن المستحب لا يطوف إلا ماشيًا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر طوافه ماشيًا, ولأنه إذا طاف راكبًا ربما لوث المسجد وزحم الناس بمركوبه وآذاهم، فإن طاف راكبًا أجزأه ولا شيء عليه. وقال مالك وأبو حنيفة: إن طاف راكبًا لعذر فلا شيء عليه، وإن لم يكن لعذر فعليه دم. وحكي عن أحمد نحو ذلك. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سعيد، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن [ابن] (¬1) عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثله. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والصواب إثباته كما سيأتي تخريجه.

أما البخاري (¬1): فأخرجه عن أحمد بن صالح ويحيى بن [سليمان] (¬2)، عن ابن وهب، عن يونس [عن] (¬3) ابن شهاب بالإسناد. وفي أخرى (¬4): عن مسدد، عن خالد بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "طاف النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعيره كلما أتى الركن أشار إليه بشيء عنده وكبر". وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى، عن ابن وهب مثل البخاري. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه بإسناد البخاري الثاني: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته كلما أتى على الركن استلم الحجر بمحجنه، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين". وأما النسائي (¬7): فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى وسليمان بن داود، عن ابن وهب، عن يونس بإسناد البخاري. وأما الترمذي (¬8): فأخرجه عن بشر بن هلال، عن عبد الوارث وعبد الوهاب الثقفي، عن خالد بن عبد الله مثل البخاري. المحجن -بكسر الميم وتقديم الحاء على الجيم-: عصًا رأسها محقفًا كالصولجان ونحوه. وقوله: "بشيء عنده" يريد بشيء كان معه على البعير وهو راكب. وقوله: "وكبر" يريد قوله: الله أكبر، فإن التكبير مستحب عند الابتداء ¬

_ (¬1) البخاري (1607). (¬2) في الأصل [سليم] والتصويب من رواية البخاري. (¬3) من رواية البخاري. (¬4) البخاري (1613). (¬5) مسلم (1272). (¬6) أبو داود (1881). (¬7) النسائي (5/ 233). (¬8) الترمذي (865) وقال: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح.

بالطواف، وعند الابتداء بكل شوط من أشواط الطواف. وقوله: "يشتكي" يريد يتألم فلم يقدر على الطواف ماشيًا، وبهذا احتج من ذهب إلى أن الطائف إنما يطوف راكبًا لعذر، والذي جاء في رواية الشافعي أولى، لأن الطائف كلما طاف شوطًا واحدًا استلم مرة فالاستلام إنما يقع بعد الفراغ من الشوط، وبعد الفراغ من الطواف كله فاحتاج أن يعطفه بحرف ليجتمعا في المعنى، ويعضد ذلك أن روايات باقي الأئمة مثل رواية الشافعي، وأما رواية البخاري فإن يستلم في موضع الحال، أي طاف مستلمًا، فيكون الاستلام ممتزجًا بالطواف، ووجه ذلك: أن الأشواط يتلوا بعضها بعضًا لا يفصل بينها بغير الاستلام، فكأن الاستلام حالاً للطائف إلا أنها حال متجددة غير دائمة، لأن الاستلام تحدث شيئًا فشيئًا عند الفراغ من الأشواط. فالأول أشبه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت وبالصفا والمروة راكبًا، فقلت: ولم؟ قال: لا أدري، قال: ثم نزل فصلى ركعتي". هذا الحديث مسوق: لبيان ما سبق من جواز الطواف والسعي راكبًا، إلا أن هذا الحديث لم يعرف عطاء ركوبه لما سئل لِمَ ركب؟ فلذلك قال: لا أدري، لأنه لا ضرر عليه إذا ثبت له الحكم وجهل العلة؛ فإن الغرض إنما هو ثبوت الحكم: وهو جواز الركوب في الطواف والسعي. قال الشافعي: أما سعيه الذي طافه لمقدمه فعلى قدميه، لأن جابرًا المحكي عنه فيه أنه رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة، ولا يجوز أن يكون جابر يحكي عنه الطواف ماشيًا وراكبًا في سبع واحد، وقد حفظ أن سعيه الذي ركب فيه في طوافه يوم النحر، ثم ذكر الحديث التالي لهذا الحديث عن طاوس. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن

أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يُهجِّروا [بالإفاضة] (¬1)، وأفاض في نسائه ليلاً على راحلته يستلم الركن بمحجنه، أحسبه قال: ويقبل طرف المحجن. التهجير: المبادرة إلى الأمر في أول وقته، والتهجير: السير وقت الهاجرة وهي شدة الحر. والإفاضة: الدفع في كثرة ولا تكون إفاضة إلا مع كثرة، وهذه الإفاضة يريد بها: الإفاضة من شيء إلى مكة للطواف الواجب ويسمى هذا الطواف: طواف الإفاضة لذلك، ويسمى أيضًا: طواف الفرض لأنه الطواف الذي هو ركن من أركان الحج وما قبله وليس بفرض، وإنما سمي طواف الزيارة: لأن الحاج يجيء من منى إلى مكة يزور البيت ويطوف ويعود إلى منى يبيت بها. ووقت هذا الطواف: من ليلة النحر وليس لآخره حد. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: أول وقته من حين طلوع الفجر الثاني من يوم النحر؛ وآخره اليوم الثاني من أيام التشريق؛ فإن أخّره إلى اليوم الثالث وجب عليه دم. وأما قوله: "أمر أصحاب بالتهجير بالإفاضة" إن قلنا: إنه أراد بالتهجير: المبادرة إلى أول وقته فيكون في ليلة النحر وليس كذلك فعلوا، لأنهم نزلوا بمنى ورموا فحلقوا ونحروا ثم أفاضوا. وإن قلنا: إنه أراد وقت الهاجرة، فإنما يكون ذلك وقت الظهر والإفاضة من منى يوم النحر إنما تكون ضاحي النهار يوم النهار، وذلك وقت الفراغ من الرمي والحلق والنحر. فيبقى أن نقول: أنه أراد بالتهجير: المبادرة إلى أول وقت الفضيلة وهو وقت الضحى من يوم النحر. وإذا رجعنا إلى الحكمة من الغرض: فإنما يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأفضل والأولى؛ لا سيما وهو أسهل عليهم وأهون؛ لأنهم يقدمون مشقة الليل لو ¬

_ (¬1) في الأصل [الإضافة] وهو تصحيف والتصويب من الأم (2/ 174).

أفاضوا فيه، مشقة الحر لو أفاضوا فيه. وبهذا يتجه القول في لفظ الحديث. وقوله: "وأفاض في نسائه ليلاً" يريد: أنه قَدِمَ نساؤه إلى مكة ليلة النحر فأفاضوا. قال إمام الحرمين: والدليل على جواز الإيقاع في الليل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم ضعفة أهله من مزدلفة بليل، وذكر لهم أن يوافوه راجعين إلى منى، وكان - صلى الله عليه وسلم - وافى الرمي عند طلوع الشمس، ولا يتأتى موافاته في وقت وصوله إلا بإيقاع الطواف ليلاً. قال: فإن من منى إلى مكة مسافة لا تقع إلا لمن يتوجه منها بليل. ولكن يبقى في لفظ هذا الحديث إشكال: وذلك أنه قال: "وأفاض في نسائه ليلاً على راحلته يستلم الركن بمحجنه" وهذا يقتضي أن يكون قد أفاض مع أهله ليلة النحر، ولم يَرِد عنه أنه أفاض إلا يوم النحر نهارًا، بعد الرمل والحلق والنحر في وقت الفضيلة، ثم قلنا: إن قوله: "في نسائه" يريد بنسائه أي حملهم على الإفاضة بأن تَقَدّمهم إلى مكة، فما يصنع بقوله: على راحلته يستلم الركن بمحجنه. والله أعلم بصحة ذلك. ويمكن توجيه الحديث من طريق آخر: وهو أن يكون -والله أعلم- قد أخر الإفاضة إلى دخول الليل من الليلة الحادية عشرة، أو أفاض يوم النحر وعاد إلى منى، ثم إنه عاد إلى مكة ليلاً مع نسائه فأفاض راكبًا كما جاء في هذا الحديث، ثم إنه لما فرغ من طوافه وقضى أهله طوافهم؛ عادوا جميعًا إلى منى للمبيت بها ليلاً، فتكون الإفاضة من منى والطواف والعود إليها في تلك الليلة. ويعضّد هذا التأويل ما أخرجه الترمذي في كتابه (¬1)، قال: حدثنا محمد بن بشار، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن ابن عباس وعائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر طواف الزيارة إلى الليل". ¬

_ (¬1) الترمذي (920) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

قال الترمذي: هذا حديث حسن. فهذا التوجيه مع حديث الترمذي يطابق لفظ هذا الحديث، وإن كان المشهور والمعروف بخلافه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أفاض يوم النحر هذا هو الذي تعاضدت الروايات عليه، ويشهد بخلاف ذلك أيضًا: ما حكيته عن إمام الحرمين في إفاضة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مزدلفة إلى منى ومكة ليلة النحر وعودهم إلى منى والله أعلم. قال البيهقي (¬1): والذي روي عنه أنه طاف بين الصفا والمروة راكبًا فإنما أراد -والله أعلم- في سعيه بعد طواف القدوم، فأما بعد طواف الإفاضة فلم يحفظ عنه أنه طاف بينهما، والذي يدل عليه: ما ثبت من الآثار أنه طاف طواف القدوم ماشيًا، وسعى بين الصفا والمروة في بعض أعداده ماشيًا، فلما كثر عليه الناس ركب في باقيه، ثم لما طاف طواف الإفاضة طافه بالبيت راكبًا. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الأحوص بن حكيم قال: "رأيت أنس بن مالك يطوف بين الصفا والمروة على حمار". لما كانت الأحاديث المتقدمة مسوقة لبيان جواز الركوب في الطواف والسعي، وكان بعضها قد صُرِّحَ فيه بالمركوب فقال مرة: على بعير، ومرة: على راحلته، وكان بعضها لم يُصَرَّح بالركوب إنما قال: طاف راكبًا، وكان المعروف عند العرف أن الراكب لا يقال إلا لراكب البعير خاصة، كما يقال لراكب الفرس: فارس وربما ظن من سمع تلك الأحاديث أنه إنما يجوز الركوب في الطواف على الإبل خاصة، لما فيه من التصريح مرة والإجمال أخرى، جاء هذا الحديث الذي يتضمن ذكر الركوب على الحمار، ليعلم أن المركوب لا يختص ببعض المركوبات دون بعض. ¬

_ (¬1) المعرفة (7/ 260).

وقد أخرج المزني (¬1) -رحمه الله- عن الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- قالت: "شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني أشتكي، فقال: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة"، قالت: فطفت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ يصلي إلى جنب البيت، وهو يقول: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬2)، ومسلم (¬3)، وأبو داود (¬4) والنسائي (¬5). قال الشافعي في القديم (¬6): عن مالك، عن هشام بن عروة أن عروة بن الزبير كان إذا رآهم يطوفون على الدواب -وهو يطوف ونحن معه- ينهاهم أشد النهي، فيعتلّون له بالمرض حياء منه، فيقول له فيما بينه وبينه: لقد خاب هؤلاء وخسروا. قال الشافعي: تركوا موضع الفضل ولو كان لا يجزئهم قال لهم: لا يجزئكم. وقد طافت أم سلمة وأنس بن مالك ركوبًا. قال: والمشي والسعي أفضل. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (506). (¬2) البخاري (464). (¬3) مسلم (1276). (¬4) أبو داود (1882). (¬5) النسائي (5/ 223، 224). (¬6) المعرفة (7/ 261 - 262).

الفصل السابع في أن الحجر من البيت

الفصل السابع في أن الحِجْرَ من البيت أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله بن عمر، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر، أخبر عبد الله بن عمر، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم". فقلت: يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم، قال: "لولا حدثان قومك بالكفر لرددتها على ما كانت" فقال ابن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك استلام الركنيين اللذين يليان الحِجْرَ، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه (¬2) عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مخلد بن خالد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أنه أخبره يقول عائشة: أن الحجر بعضه من البيت، فقال ابن عمر: والله إني لأظن إن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني لأظن رسول الله لم يترك استلامهما، إلا أنهما ليسا على قواعد البيت، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين [عن] (¬5) ¬

_ (¬1) البخاري (1583، 3368، 4484)، وانظر الحاشية الآتية. (¬2) سقط إسناد البخاري من الأصل، وكذلك لم يعزه لمالك ومسلم وهذا الإسناد عندهما، وانظر الموطأ (1/ 293 رقم 104)، ومسلم (1333/ 399). (¬3) أبو داود (1875). (¬4) النسائي (5/ 214). (¬5) من النسائي.

ابن القاسم، عن مالك. كانت الكعبة مبنية من عهد إبراهيم الخليل -عليه السلام- على قواعدها التي أسسها إبراهيم لما بناها، فلما تغير بناؤها لطول العهد وكاد يهي، اجتمعت قريش على نقضها وبنائها في الجاهلية قبل الإِسلام بعشر سنين، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون سنة، واتفقوا يومئذ على أن يضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجر الأسود في موضعه، وكانوا يسمونه: محمد الأمين، فلما كشفوا أساسها وأرادوا بناءها عن ذلك لقلة النفقة عندهم، ومعنى قلة النفقة: ليس لأن أموالهم قلت عليهم ولم يتسع لبناء البيت أو لأنهم بخلوا به، ولكن كان للكعبة أموال طيبة من النذور والهدايا، فقالوا: لا ننفق على البيت من أموالنا التي جرى فيها الزنا، والنهب، والغارات. فقصر مال الكعبة عن بنائها، وذلك معنى قوله: اقتصروا عن قواعد إبراهيم لذلك فبنوا ما بنوا منها، وحذفوا من طولها مما يلي الحجر مقدار ستة أذرع زائدًا متناقضًا وبنوا الحائط دونها، وأخرجوا من عرض حائط الكعبة مقدار ذراع مما دونه، وبنوا باقي الحائط فصار ذلك الذراع في أسفل الحائط وهو الشاذروان، وذلك ظاهر حول الكعبة إلا عند الحجر فإنه يلحق بالأرض، فعلوا ذلك لأجل استلامه، فبقيت تلك القطعة المفردة من البيت في جملة الحِجْر، فلما كان الإِسلام وفتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة؛ قال لعائشة ما قال لها في هذا الحديث، وقد روى عائشة بأطول من هذا مستوفى، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على بناء الجاهلية وذلك قوله: "لولا حدثان قومك بالكفر" يريد: أن عهدهم بالجاهلية قريب فإذا رأوني قد هدمت الكعبة وغيرت بناءها الذي بنوه لم تقاومهم أنفسهم على تغييرها وربما نفروا من ذلك ولم تقبله طباعهم، لأن عهدهم بالكفر قريب ولم تطل المدة فنسوا ما كانوا قد ألفوه من أمور الجاهلية ولا ألفوا ما ألزمونه من أحكام الإِسلام، يقول: فأنا أتألفهم بتركها على حالها حفظا لقلوبهم وتحبيبا للإسلام بينهم لتطول مدتهم ويألفوه، ولذلك لما ولي عبد الله بن الزبير الحكم وحدثته عائشة بهذا الحديث، نقض الكعبة وبناها على قواعد إبراهيم وجعل لها

بابين كما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل وذلك في أيام خلافته، فلما قتل ابن الزبير ووُلِّي الحجاج بن يوسف من قِبَل عبد الملك بن مروان، أعاد البناء إلى ما كان عليه ونقض ما زاده ابن الزبير وجدده، وهو البناء الذي هو البيت عليه إلى يومنا هذا, ولذلك قال ابن عمر: ما أظن ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أنهما ليسا على قواعد إبراهيم، فإن قواعد إبراهيم من الجهة التي تلي الحجر داخلة يومنا هذا في جملة الحجر، فكان الاستلام لهذين الركنين العراقي والشامي لا يكون على القواعد الإبراهيمية. وحدثان الشيء -بكسر الحاء وسكون الدال- أوله، تقول: ذلك الأمر يحدثانه وحداثته: أي في أوله وطراوته. وقوله في رواية أبي داود: "ولا طاف من وراء الحجر إلا لذلك" يعني بعض البيت في الحجر وهو القدر الذي صرفته قريش منه لما بنوه. والطواف واحد أن يكون حول البيت جميعه، فلو طافوا داخل الحِجْر لأدى إلى أن يطوفوا داخل البيت، على تلك القطعة المحذوفة منه الداخلة في الحجر، ولذلك طافوا من وراء الحِجْرِ لتدخل تلك القطعة في الطواف. والذي ذهب إليه الشافعي (رضي الله عنه) أن الطائف يلزمه أن يطوف وراء الحجر، وليس له أن يدخل الحجر ويتخطى الأذرع الستة المتصلة بالبيت، لأنه لو فعل ذلك لكان داخلًا في البيت، ولا يصح طوافه ولا يعتد به، فلو تسوَّر جدار الحجر المبنى حوله وخلف مقدار الأذرع الست واستظهر بزيادة عليها، ثم نزل من جدار الحجر إليه وقطع الحجر إلى جانبه الآخر على هذا السمت، اعتَّد بطوافه وإن كان ما جاء به مكروهًا، فإن طاف في الحجر استأنف الطواف وقضى. وقال أبو حنيفة: إن كان بعد [الأصل] (¬1) مكة قضى من كل شوط بقدر ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وأثبته ليستقيم السياق.

مسافة الحجر التي سلكها، وإن كان قد خرج من مكة فعليه دم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن هشام، عن طاوس-فيما أحسب- أنه قال: عن ابن عباس أنه قال: الحجر من البيت، وقال الله -عز وجل-: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، وقد طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجر. هذا حديث صحيح قد أخرج البخاري معناه (¬1): عن عبد الله بن محمد الجعفي، عن سفيان، عن مطرف، عن أبي السفر:- سعيد بن يُحمد- قال: سمعت ابن عباس يقول: أيها الناس اسمعوا مني ما أقول وأسمعوني ما تقولون. ولا تذهبوا فتقولوا قال ابن عباس: من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر. قوله: "الحجر من البيت" فيه نظر، لأن الإجماع على أن بعض الحجر من البيت، وحسب القدر المفرد من البيت الداخل في الحجر يصل إلى أول جدار الحجر المرتفع، وهو الفرجة التي يدخل فيها الناس إلى الحجر من جانبيه، فيما بينه وبين الركنين العراقي والشامي، فكيف يُطْلِق ويقول: إن الحجر من البيت؟ اللهم إلا أن يريد تغليبًا أو مجازًا حيث بعضه من البيت، فأعطى الكل حكم البعض مجازًا واتساعًا، أو لأن الطواف لما كان خارجًا من الحجر جميعه والطواف لنا شرع بالبيت خاصة لهذا المعنى. وليطوَّفوا: فعل مبنى من طَوّف يُطَوِّف مشددًا للكسرة، إنما سُمِّي البيت عتيقًا لأنه قديم، والعرب تقول للقديم: عتيق، وقيل: لأن الله -تعالى- أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار. تقول من الأول: عَتُقَ -بالضم- يعتق عتاقة فهو عتيق إذا قدم عهده، وكذلك: عَتَقَ يَعْتِقُ فهو عاتق. ¬

_ (¬1) البخاري (1/ 384).

وتقول من الثاني: عَتَقَ -بالفتح- يَعْتِقُ -بالكسر- عتقًا فهو عتيق أي معتق. وقوله في رواية البخاري: "اسمعوا مني ما أقول لكم" إلى قوله: "قال ابن عباس" يريد بهذا القول الثاني والتثبت فيما يقولونه له من السؤال؛ ما لاستفهام وما يقوله لهم من الجواب والفتيا، بحيث يجتمعون هو وإياهم في التحقيق بين السؤال والجواز، فإن الجواب إنما يكون بحسب السؤال، فربما سألوه عن شيء ولا يوضحون له غرضهم؛ أو يجيبهم بشيء ولا يفهمونه فلا يحفظونه، فيحكونه عنه بخلاف ما قاله من زيادة أو نقصان وينسبونه إليه، فيقولون: قال ابن عباس، قال ابن عباس وهو منه بريء. وفي هذا: حَثٌّ على حسن الأدب، ومخاطبة العلماء ومراجعتهم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، حدثنا عبد الله بن أبي يزيد قال: أخبرني أبي قال: أرسل عمر إلى شيخ من بني زهرة، فجئت معه إلى عمر وهو في الحِجْر، فسأله عن وِلَاد من وِلَاد الجاهلية، فقال الشيخ: أما النطفة فمن فلان، وأما الولد فعلى فراش فلان. فقال عمر: صدقتَ. ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالولد للفراش، فلما ولَّى الشيخ دعاه عمر فقال: أخبرني عن بناء البيت فقال: إن قريشًا كانت تَقَوِّتْ لبناء البيت فعجزوا، فتركوا بعضها في الحجر. فقال له عمر: صدقت. الولاد: مصدر ولدت تقول: ولدت المرأة ولادا وولادة، وأولدت حان ولادها. والنطفة: القليل من الماء، ولهذا سمى به ماء الرجل. ومعنى هذا الكلام: أن الجاهلية كان لهم نكاح يسمونه نكاح الاستبضاع: كان الرجل يقول لامرأته -إذا طَهُرَت من طمثها-: أرسلي إلى فلان فاستبضعي، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي يُسْتَبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك: رغبة

في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمونه نكاح الاستبضاع، يعني أن امرأته بذلت فرجها لذلك الرجل، والبضع: النكاح. فهذا معنى قوله: "النطفة من فلان، والولد فعلى فراش فلان" يريد بالفراش الزوجة، يعني أنه ولد من زوجته، وإنما سمى الزوجة فراشا: لأن الرجل يفترشها ويطؤها, ولهذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الولد للفراش وألحقه بمن ولد على فراشه، وسيجيء هذا في كتاب النكاح. وقوله: "تقوَّت لبناء البيت" أي أنها حدثت أنفسها بالقوة على بنائه والقدرة عليه. وقوله: "بعضها" إنما أنَّث الضمير ردًا إلى الكعبة فإن البيت هو الكعبة. وهذا الحديث مسوق لبيان أن بعض الكعبة في الحجر. قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب قال: ما حُجِر الحجر فطاف الناس من ورائه إلا إرادة أن يستوعب الناس الطواف بالبيت. قال الشافعي: وسمعت عددًا من أهل العلم من قريش يذكرون أنه تُرِك من الكعبة في الحجر نحو من ستة أذرع. قال: وأما الشاذروان: فأحسبه مبنيًّا على أساس الكعبة ثم يقتصر بالبنيان على استيظافه. قال: وأما الحجر: فإن قريشًا حين بَنَتِ الكعبة استقصرت عن قواعد إبراهيم فتركت في الحجر أذرعًا من البيت، فهدمه ابن الزبير وابتناه على قواعد إبراهيم، فهدم الحجاج زيادة ابن الزبير التي استوظف بها القواعد، فَهَمَّ بعض الولاة بإعادته وكره ذلك بعض من أشار عليه، وقال: أخاف أن لا يأتي والٍ إلا أحبَّ أن يرى في البيت أثر يُنْسَب إليه، والبيت أجلّ من أن يُطمع فيه، وقد أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خلفاؤه من بعده.

الفصل الثامن في طواف الوداع

الفصل الثامن في طواف الوداع أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن سليمان الأحول، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينفرن أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت". أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه عن ابن عباس قال: أُمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه رخص للمرأة الحائض. وأخبرنا الشافعي: عن ابن عيينة، عن سليمان الأحول: وهو سليمان بن أبي مسلم -خال ابن أبي نجيح وكان ثقة-، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون لكل وجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن مُسَدّد، عن سفيان، عن ابن طاوس. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن سعيد بن منصور وزهير بن حرب، عن سفيان، عن سليمان قال: في كل وجه، قال: وقال زهير: ينصرفون (¬3) من كل وجه. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن نصر بن علي، عن سفيان، عن سليمان. وقال: حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت. قوله: "ينصرفون من كل وجه" يريد: يرحلون عن مكة من كل وجه ¬

_ (¬1) البخاري (1755). (¬2) مسلم (1327). (¬3) في مسلم [ينصرفرن كلَّ وجه]. (¬4) أبو داود (2002).

يكونون نازلين فيها. وقوله: "في كل وجه" يريد: يذهبون في كل جهة يختارون من الطرق، فأما حذفه فإنما حذفها وهي مرادة، تقول: ذهب كل مذهب، أي في كل مذهب. وقوله: "لا ينفرن" أي لا يرحل أحد عن مكة، ومنه: نفر عن منى، ويوم النفر الأول، ويوم النفر الثاني. وقوله: "حتى يكون آخر عهده بالبيت" أي حتى يودِّعه ويطوف طواف الوداع، وقد صرح به أبو داود في روايته والباء في قوله: "بالبيت" متعلقة بمحذوف تقديره: واقعة وما جرى مجراه حتى يكون الجار والمجرور وما عمل فيه خبر كان، واسمها قوله: "آخر عهده" ولا يجوز أن تكون متعلقة بعهده لأنه تبقى كان بغير خبر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن طواف الوداع إنما هو على [غير] (¬1) المكي إذا أراد الرجوع إلى أهله، لأن الوداع على من يفارق لا من يقيم. وهذا الطواف قد اختلف فيه قول الشافعي، فقال في القديم والأم: هو نُسُك يجب بتركه الدم. وبه قال أبو حنيفة وأحمد والفقهاء. وقال في الإملاء: لا يجب بتركه شيء. فلا يكون على هذا واجبًا مع الأمرين فإنه يسقط بالعذر، وقد نص عليه حيث قال: رخص فيه عن الحائض وخفّف عن الحائض، وحديث صفية -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- مشهور. وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن تبعهم. ورُوي عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وابن عمر أنهم أمروا بمقام المرأة الحائض لطواف الوداع. ¬

_ (¬1) أثبته لتمام المعنى والسياق.

قال ابن المنذر: وقد روينا عن ابن عمر وزيد بن ثابت أنهما رجعا عن ذلك. فإن حاضت قبل طواف الإفاضة، أقامت حتى تَطْهُر وتطوف، ثم إذا طاف المودِّع وخرج من غير لبث فقد حصل الوداع، فإن أقام بعد ذلك على زيارة صديق أو شرى متاع أو ما أشبه ذلك، فإنه يعود ولا يجزئه الأول، فإن قضى حاجة في طريقه لم يؤثر وداعه. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يُعتَّدُّ الوداع ولو أقام شهرًا أو شهرين أو أكثر. وقال مالك: لا بأس أن يشتري لفقد جهازه ومتاعه بعد الوداع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب أنه قال: "لا يصدرن أحد من الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت، فإن آخر النسك الطواف بالبيت". هذا حديث صحيح، أخرجه مالك بالإسناد واللفظ (¬1). صدر يصدر: إذا رجع، والاسم الصدر -بفتح الدال- من صدر عن الماء وعن الشيء والقول مصدر. النسك في الرجل العبادة، والناسك: العابد، قصد بالنسك ها هنا: جميع أفعال الحاج التي يبتغي الحاج بها ويتقرب إلى الله بعملها. وقوله: بأن آخر النسك الطواف بالبيت، فعليك بجعله آخر العهد بالبيت، لأنه يريد أن يجعل آخر عهده معطوفًا لآخر عبادته ومنتهى أعماله، فإن أول أعمال الحج الإحرام وآخرها طواف الوداع، وإذا فارق الحاج البيت والحرم وهو متلبس بعبادة؛ كان أبلغ في عبادته وأبهى في طاعته. وقد أخرج الشافعي هذا الحديث بهذه الطريق في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬2) وزاد قال مالك: وذلك فيما يرى -والله أعلم- لقول الله -عز ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 298 رقم "120"). (¬2) الأم (7/ 238) لكن وقف به إلى ابن عمر ولم يجاوزه.

وجل-: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1) فمحل الشعائر وانقضاؤها إلى البيت العتيق. والشعائر: جمع شعيرة، وهي معالم الحج وأفعاله ومناسكه. ومحلها: الموضع الذي تحل فيه وتنتهي إليه، بعد أن كانت حرامًا محبوسة عن غيره. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، "أن عمر بن الخطاب رد رجلاً من مرّ الظهران لم يكن ودّع البيت". قال الشافعي: وفي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -[الحائض] (¬2) أن تنفر قبل [أن] (¬3) تطوف طواف الوداع، دلالة على أن ترك طواف الوداع لا يفسد حجًّا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة أنها قالت: "حاضت صفية بعد ما أفاضت، فذكرت حيضتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحابستنا هي"؟ فقلت: يا رسول الله، إنها حاضت بعد ما أفاضت، قال: "فلا إذًا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم نحوه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن صفية حاضت يوم النحر، فذكرت حيضها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أحابستنا، فقلت: إنها قد كانت أفاضت ثم حاضت بعد ذلك، قال: "فلننفر إذًا". وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك قال: عن هشام، عن أبيه، عن عائشة "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر صفية بنت حيي، فقيل: إنها قد حاضت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعلها حابستنا" قيل: إنها قد أفاضت، قال: "فلا إذًا". ¬

_ (¬1) الحج: [33]. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من الأم (2/ 180). (¬3) من الأم (2/ 180).

قال مالك: قال هشام: قال عروة: قالت عائشة: ونحن نذكر ذلك فلم يقدم الناس نساءهم إن كان لا ينفعهم ذلك، ولو كان ذلك التي تقول: لأصبح بمنى أكثر من ستة آلاف امراة حائض. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرج الرواية الثانية التي لم يذكر الشافعي لفظها وهي نحو الأولى. وأخرج الرواية الرابعة بإسنادها ولفظها، وقال: إن كان ذلك لا ينفعهن ولو كان الذي يقولون: لأصبح بمنى أكثر من ستة آلاف امرأة حائض كلهن قد أفاضت. وأما البخاري فأخرج الثانية (¬2): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وعن (¬3) يحيى بن بكير، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة نحو الثالثة. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن قتيبة ومحمد بن رمح، عن الليث، عن الزهري، عن أبي سلمة وعروة، عن عائشة. وعن قتيبة، عن الليث، وزهير بن حرب، عن سفيان ومحمد بن المثنى، عن عبد الوهاب، عن أيوب كلهم عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. ولهما روايات كثيرة لهذا الحديث، ومن جملة ما فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 329 رقم "225")، (1/ 330 رقم "228"). (¬2) البخاري (1757)، (1733). (¬3) زاد في الأصل [وعن عبد الله] وهي زيادة مقمحة، الإسناد هكذا كما في البخاري والسياق مستقبم. (¬4) مسلم (1211) رقم (382)، (383).

"عقرى حلقى ما أراها إلا حابستنا". وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، عن هشام، عن عروة بإسناده ولفظه. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن عبد الرحمن بالإسناد. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة. قوله: "حاضت بعد ما أفاضت" تريد طواف الإفاضة وهو الطواف الواجب الذي هو أحد أركان الحج، وحاضت بعد ما أفاضت من أحسن الكلام وأرشقه: حيث اجتمع في الكلمتين الضاد والتاء بعد الألف. وقوله: "أحابستنا هي" يريد: هل يكون حيضها سببًا لمقامنا بمكة من أجلها؟، لأنها إذا كانت حائضًا فإنها لا تطوف طواف الإفاضة حتى تطهر، لأن الطهارة شرط في الطواف، فاستفهم عن حيضها هل هو مما يمتد إلى يوم الرحيل أم لا؟ ثم قال: "أحابستنا"؟ فقدم الحبس على ضميرها لأن غرضه السؤال عن الحبس نفسه [لا] (¬4) عن سببه فلذلك قدمه أهي حابستنا، فأولى حرف الاستفهام ما هو به أعنى، ولذلك جاء في بعض طرقه: "أحابستنا" ولم يقل "هي" اكتفاء بفهم المعنى، فلما عرفته عائشة أنها قد أفاضت وطافت طواف الفرض قال: "لا إذًا" أي لا تحبسنا ولا يضرها ذلك، وقد تقدم إذا وحكمها فيما سبق. وقولها: "فلم يقدّم الناس نساءهم إن كان لا ينفعهم ذلك" تريد أن ناسًا ¬

_ (¬1) أبو داود (2003). (¬2) الترمذي (943) وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح. (¬3) النسائي (1/ 194). (¬4) أثبته لتمام المعنى به.

قالوا: إن الحائض لا تنفر حتى تودّع البيت، فقالت عائشة -بعد أن ذكرت حديث صفية-: إن كان لا ينفعهم ذلك فلأي غرض يقدّم الناس نساءهم يوم النحر يفيضون، ثم قالت: لو كان ذلك الذي يقولون لأصبح بمنى أكثر من ستة آلاف امرأة حائض كلهن قد أفاضت. تريد: لولا الاكتفاء بطواف الإفاضة للنساء الحائض، لأقام كثير من النساء بعد الإفاضة؛ ينتظرن الطهر ليطفن طواف الوداع. وفي رواية الشافعي "ينفعهم" وفي إحدى روايات الموطأ "ينفعهن"، والشافعي: رد الضمير إلى الناس يقدّمون نساءهم، ومالك: رده إلى النساء. وأما قوله في بعض الروايات: "عقرى حلقى" فإن هاتين اللفظتين يروونها المحدثون هكذا بغير تنوين، وأهل اللغة لا يروونها إلا بتنوين، والمعنى: عقرها الله أي أصابها بالعقر، وحلقى: أصابها بوجع في حلقها، وقيل للمرأة: عقرى حلقى أي مشئومة موذية (¬1). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الرجال، عن أمه عمرة أنها أخبرته أن عائشة كانت إذا حجت معها نساء تخاف أن يحضن، قدّمتهن يوم النحر فأفضن، فإذا حِضْن بعد ذلك لم تنتظر بهن أن يطهرن، فتنفر بهن وهن حُيَّض. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن أيوب، عن القاسم بن محمد: أن عائشة كانت تأمر النساء أن يُعَجِّلن الإفاضة مخافة الحيض. هذا حديث صحيح يشرح حديث عائشة الذي تقدم قبله، وهو قولها: فلم يقدّم الناس نساءهم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، ¬

_ (¬1) قال الحافظ في الفتح (3/ 689). حكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض، فهذا أصل هاتين الكلمتين، ثم اتسع العرب في قولها بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا: قاتله الله، وتربت يداه ونحو ذلك.

عن الحسن بن مسلم، عن طاوس قال: "كنت مع ابن عباس إذ قال له زيد بن ثابت: أتفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟ قال: نعم قال: ولا تعد بذلك، فقال ابن عباس: أما لا، فسأل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فرجع زيد بن ثابت وهو يضحك، يقول: ما أراك إلا قد صدقت". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي النعمان، عن حماد، عن أيوب، عن عكرمة "أن أهل المدينة سألوا ابن عباس عن امرأة طافت ثم حاضت قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: فإذا قدمتم المدينة فسألوا، وكان فيمن سألوا أم سليم فذكرت حديث صفية". رواه خالد وقتادة، عن عكرمة. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج بالإسناد واللفظ. إذ: متعلقة بقوله: "كنت". أما لا: أصل هذه الكلمة أن مالاً، المعنى: أن لا يكن هذا فهذا، وما زائدة وقد أمالوا لا إمالة حقيقية والعامة تشبع الكسرة، التقدير: أن لا يلزم ذلك لأمر فافعل كذا، أي: إن لم تقبل فتياي فأسأل فلانة فإن عندها من هذا الحكم علمًا. ويضحك: في موضع الحال من رجع، أي: رجع ضاحكًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار وإبراهيم بن ميسرة، عن طاوس قال: "جلست إلى ابن عمر فسمعته يقول: لا ¬

_ (¬1) البخاري (1758، 1759). (¬2) مسلم (1328).

ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، فقلت له: ما له؟ أما سمع ما سمع أصحابه؟! ثم جلست إليه من العام المقبل فسمعته يقول: زعموا أنه رُخّص للمرأة الحائض". هذا الحديث هكذا رواه الشافعي، وقال (¬1): كأن ابن عمر -والله أعلم- سمع الأمر بالوداع ولم يسمع الرخصة للحائض فقال به على العام، فلما بلغه الرخصة للحائض ذكرها. وقد أخرج الترمذي معنى هذا الحديث (¬2): عن أبي عمار، عن عيسى بن يونس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: "من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت؛ إلا الحُيَّض رَخَّص لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". فالشافعي: جعل الرخصة من رواية ابن عمر عن غيره مطلقًا، لأنه قال: زعموا أنه رخص للمرأة الحائض. والترمذي: جعل الرخصة مسندة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "أما سمع ما سمع أصحابه" يريد: الرخصة، فإنه أطلق الوداع ولم يذكر الرخصة، فقال طاوس ذلك تعجبًا من سكوته عن ذكر الرخصة، يعني أن غيره من الصحابة سمع الرخصة ورواها. وزعمتُ أزعم زَعمًا وزُعْمًا: قلت: إلا أنه قول يشوبه ظن. ... ¬

_ (¬1) الأم (2/ 181). (¬2) الترمذي (94) وقال: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم.

الباب التاسع في الدعاء والذكر عند الطواف

الباب (¬1) التاسع في الدعاء والذكر عند الطواف أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم القداح، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد -مولى السائب-، عن أبيه، عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما بين ركني بني جُمَح والركن الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". هذا حديث أخرجه أبو داود (¬2): عن عيسى بن يونس، عن ابن جريج. ركن بني جمح: هو الركن اليماني، وبنوا جمح: بطن من قريش وهو جمح بن عمرو بن هيصص بن كعب بن لؤي بن غالب. والركن الأسود: وهو الذي فيه الحجر الأسود. وقنا: أمر بالوقاية، تقول: وَقَيْتُ فلانًا أقيه وقيًا ووقاية -بالكسر- أي: حفظته من سوء يناله، ووقاه الله: أي حفظه، والوقاء -بالكسر والفتح-: ما وقيت به شيئًا، ويقول في الأمر للمخاطب زيدًا. وهذا الدعاء مما يستحب أن يدعى بين هذين الركنين المذكورين لكل ركن دعاء مخصوص به مسنون له. قال الشافعي: وهذا أحب كلما حاذى به يعني الحجر الأسود أن يكبّر، وأن يقول في رمله: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا، ويقول في الأطواف الأربعة: اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. قال الشافعي: وإن قدر على استلام الحجر الأسود قال: اللهم إيمانًا بك، ¬

_ (¬1) كذا بالأصل ومن عادته أن يكتب: [الفصل]. (¬2) أبو داود (1892).

وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباع سنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال: وأخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج قال: أُخبرت أن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، كيف نقول إذا استلمنا؟ قال: "قولوا باسم الله، والله أكبر، إيمانًا بالله، وتصديقًا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: ويقول كلما حاذى الركن بعد -الله أكبر، ولا إله إلا الله- وما ذكر الله به وصلى على رسوله فحسن. وأخرج الشافعي في القديم قال: أخبرنا رجل وعبد العزيز بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ من الطواف بالبيت قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فصلى خلف المقام ركعتين والله أعلم". ***

الفعل العاشر في السعي بين الصفا والمروة

الفعل العاشر في السعي بين الصفا والمروة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد الله بن مؤمل العابدي، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، عن عطاء بن أبي رباح، عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة -إحدى نساء بني عبد الدار- قالت: "دخلت مع نسوة من قريش دار أبي حسين ننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مِئْزره ليدور من شدة السعي، حتى لأقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: "اسعوا، فإن الله -عزو جل- كتب عليكم السعي". روى هذا الحديث: ابن المبارك عن معروف بن مشكان، عن منصور بن عبد الرحمن، عن أمه صفية، عن نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. المئزر -بكسر الميم مهموز-: الثوب الذي يأتزر به الإنسان على أسافله. وقوله: "ليدور" تريد لينتقل على رجليه من شدة سعيه حتى تنكشف ساقاه، وربما رأت ركبتيه. واللام في "لأقول" لام تأكيد. والذي ذهب إليه الشافعي: أن السعي بين الصفا والمروة واجب، وهو ركن من أركان الحج والعمرة لا ينوب عنه الدم. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: هو واجب إلا أنه ليس بركن فينوب عنه الدم. وعن أحمد روايتان: أحدهما: مثل قول الشافعي، والأخرى: أنه مستحب وليس بواجب. ويستحب للحاج أنه إذا فرغ من الطواف: أن يخرج من باب الصفا رقى على الصفا حتى يرى الكعبة ثم يستقبلها، ويقول: الله أكبر، الحمد لله على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك

وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق [وعده] (¬1) ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، فإذا نزل من الصفا: مشى حتى إذا حاذى دون الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد نحوٍ من ستة أذرع، سعى سعيا شديدًا حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد ودار العباس، ثم يترك السعي ويمشي إلى المروة، فإذا بلغها رقى عليها وصنع عليها كما صنع على الصفا، والمستحب له: أن يكون التكبير والتهليل الذي ذكرناه ثلاثًا، ويحسب سعيه من الصفا إلى المروة مرة ومن المروة إلى الصفا مرة. قال الشافعي في القديم (¬2): أخبرنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا فقال: "نبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا. قال: وأخبرنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله" كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاتًا ويقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو، ويصنع على المروة مثل ذلك". قال: وأخبرنا مالك، عن نافع "أنه سمع ابن عمر وهو على الصفا يدعو ويقول: اللهم إنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬3) وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما هديتني إلى الإِسلام، أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه وأنا مسلم". وقال الشافعي: أخبرنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل من الصفا مشى، حتى إذا انصبت ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والسياق يقتضيها. (¬2) المعرفة (7/ 247). (¬3) غافر: [60].

قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه". وقال الشافعي: بلغنا أن النبي (- صلى الله عليه وسلم -) صعد على الصفا حتى بدا له البيت. وقال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه كان إذا طاف بين الصفا والمروة، وبدأ بالصفا فرقى عليه حتى يبدوا بالبيت، قال: وإن لم يظهر عليه ولم يكبر ولم يدع ولم يسعَ، فقد ترك فضلاً ولا إعادة عليه ولا فدية عليه. قال: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه قال: أخبرني من "رأى عثمان بن عفان يقوم في حوض في أسفل الصفا فلا يظهر عليه". وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن منصور، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عبد الله " أنه لبى على الصفا في عمرة بعد ما طاف بالبيت". هذا آخر حديث في مسند الشافعي، أخرجه في كتاب اختلاف علي وعبد الله (¬1) قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا ولا أحد من الناس علمناه، إنما اختلف الناس عندنا:- فمنهم من يقول: يقطع التلبية في العمرة إذا دخل الحرم وهو قول ابن عمر. ومنهم من قال: إذا استلم الركن. وهو قول ابن عباس. وبهذا يقول ويقولون هم أيضًا. فأما بعد الطواف بالبيت فلا يلب أحد. أورده إلزامًا للعراقيين فيما خالفوا فيه ابن مسعود. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) الأم (7/ 190).

الفصل الحادي عشر في طواف القارن وسعيه

الفصل الحادي عشر في طواف القارن وسعيه أخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وربما قال: سفيان، عن عطاء، عن عائشة. وربما قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة. هذا طرف من حديث طويل قد أخرجه مالك (¬1) والبخاري (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) مسندًا عن عائشة، وقد أخرج مسلم هذا الطرف أيضًا مفردًا (¬5): عن محمد بن حاتم، عن بهز، عن وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن عائشة: "أنها أهلّت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت، ونسكت المناسك كلها وأهلّت بالحج، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر (¬6): "أليس يسعك طوافك لحجك وعمرتك" فأبت، فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج". وقد أخرج المزني (¬7) عن الشافعي هذا الحديث بطوله: عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أنها قالت: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان معه ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 328 رقم (223). (¬2) البخاري (1561). (¬3) أبو داود (1781). (¬4) النسائي (5/ 165، 166). (¬5) مسلم (1211/ 132). (¬6) كذا في الأصل وعند مسلم (النفر). (¬7) انظر المعرفة (7/ 270).

هدي فليهلل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل [حتى يحل] (¬1) منها جميعًا" قالت: فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "انقضي رأسك وامتشطي، وأهلّي بالحج ودعي العمرة". قالت: ففعلت، فلما قضيت الحج أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم واعتمرت، قال: "هذه مكان عمرتك"، قالت: فطاف الذين أهلّوا بالعمرة بالبيت ويين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منى بحجتهم، وأما الذين أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا". قال الشافعي -في القديم-: فهذا يدل على أنه يكفي طواف واحد عن الحج والعمرة، ويدل على أن عائشة لم تخرج من عمرتها، وإنما أدخلت عليها الحج فصارت قارنة. وهذا الذي ذكره الشافعي مصرح في حديث جابر بن عبد الله وقد تقدم فيما سبق. قال الشافعي: فإن ذهب ذاهب إلى أن عائشة اعتمرت من التنعيم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانت عمرتها فائتة كان عليها أن تقضيها من حيث أهلت، بها من ذي الحُليفة لا من التنعيم، ولكنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -، حين قال لها: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة؛ يكفيك لحجك وعمرتك" إني أجد في نفسي أني لم أطف قبل عرفة، وطاف نساؤك. وأكثرت الترديد عليه، فأمر عبد الرحمن أخاها أن يُعْمِرَها من التنعيم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن القارن بين الحج والعمرة يكفيه طواف واحد وسعي واحد. وبه قال ابن عمر وجابر وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومجاهد وطاوس ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور. ¬

_ (¬1) من المعرفة.

وقال أبو حنيفة: عليه طوافان وسعيان. وبه قال الشعبي وجابر بن زيد وعبد الرحمن بن الأسود والثوري. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قرن فطاف بالبيت سبعًا وبين الصفا والمروة سبعًا لم يَزِدْ، ورأى أن ذلك يجزئ عنه. وقال الشافعي في القديم: أخبرنا رجل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب أنه قال في القارن: "يطوف طوافين ويسعى سعيًا". قال الشافعي: وهذا على معنى قولنا: يعني يطوف حين يقدم بالبيب وبالصفا والمروة ثم يطوف بالبيت للزيارة. قال: وقال بعض الناس في القارن: عليه طوافان وسعيان، واحتج فيه برواية ضعيفة عن علي -كرم الله وجهه- وجعفر يروي عن علي قولنا. والله أعلم.

الفصل الثاني عشر في في دخول البيت

الفصل الثاني عشر في دخول البيت أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ومعه بلال وأسامة وعثمان بن طلحة، قال ابن عمر: فسألت بلالًا ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: جعل عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، ثم صلى قال: وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة كلهم (¬1)، وقد تقدم ذكر طرقهم، إخراجه في كتاب الصلاة فلم نُعِدْها. قال البيهقي -في روايته لهذا الحديث-: جعل عمودًا عن يمينه وعمودين عن يساره ثم قال: هكذا قاله يحيى بن يحيى: عمودين عن يساره. والذي رواه الشافعي في كتاب الصلاة: عمودًا عن يساره وعمودًا عن يمينه كما ذكرناه، ولذلك قاله عبد الله بن يوسف وغيره. ورواه عبد الرحمن بن مهدي: عن مالك وقال: عمودين عن يمينه، وعمودًا عن يساره، وكذلك قاله ابن أبي أويس ويحيى بن بكير، واختلف فيه عن القعنبي. قال الشافعي: وأستحب دخوله إن [كان] (¬2) لا يؤدي أحدًا بدخوله لأنه يروي أن من دخله دخل في حسنة، وخرج من سيئة وخرج مغفورًا له، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخله. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 319 رقم (193)، البخاري (505)، مسلم (1329). أبو داود (2023)، النسائي (2/ 63). (¬2) من المعرفة (7/ 344).

الباب السادس في الوقوف بعرفة ومزدلفة والإفاضة منهما

الباب السادس في الوقوف بعرفة ومزدلفة والإفاضة منهما وفيه أربعة فصول:- الفصل الأول في الخروج إلى عرفات أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن أبي يحيى، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن الحسن بن مسلم بن يناق قال: "وافق يوم الجمعة يوم التروية في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء الكعبة، فأمر الناس أن يروحوا إلى منى، وراح فصلى بمنى الظهر". هذا الحديث مسوق لبيان: وقت خروج الخارج من مكة إلى عرفات للوقف بها. قال الشافعي: ويخطب الإِمام اليوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر بمكة، ويأمرهم بالغدو من الغد إلى منى ليوفق الظهر بها، فإذا أصبحوا اليوم الثامن -وهو يوم التروية- والتروية: تفعلة من الري وقد تقدم بيان ذلك -فحينئذ يسيرون إلى منى فيصلونها قبل الظهر، فيصلّون بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيتون بها يصلون الصبح من اليوم التاسع، ويقيمون حتى تطلع الشمس، والمبيت في هذه الليلة للاستراحة وليس بنسك ولا يجب بتركه شيء، فإن وافق يوم السابع يوم الجمعة خطب الجمعة وصلى ثم خطب بعد الصلاة لما ذكرناه، وإن وافق يومُ التروية يومَ الجمعة أمرهم أن يخرجوا قبل طلوع الفجر، لأن الفجر إذا طلع لم يَجُز الخروج إلى سفر حتى يصلى على أحد القولين. وقال الشافعي: ولا يصلّون الجمعة بمنى ولا بعرفات. إلا أن لفظ هذا الحديث موهِم، فإنه قال: وافق يومُ الجمعة يومَ التروية،

فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء الكعبة فأمر الناس أن يرحوا إلى منى وظاهر هذا اللفظ أن قوله: قد كان للناس في يوم التروية وهو الثامن، وعلى سياق ما حكيناه من المذهب يحتاج أن يكون القول لهم في السابع لا الثامن، وأن يكون مسيره إلى منى قبل طلوع الفجر، لأن اليوم الثامن كان يوم جمعة حتى يصحّ القول على ما ذكرناه. ووجه تصحيح ذلك: أن قوله: وافق الجمعة يوم التروية يريد: أن تلك السنة كان كذلك وهذا قد يعلم قبل اليوم الثامن، فإنه إذا عرف أول ذي الحجة عرف اليوم الثامن أيّ يوم هو، ويكون قوله: فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفناء الكعبة، وقوله للناس في اليوم السابع لا في اليوم الثامن، وتكون الفاء في قوله: "فوقف" فاء التعقيب لا على وجود موافقة التروية للجمعة، بل على تقدير وجودها ووقوعها، أي أنه لما كان قد عرف وعلم أن يوم التروية موافق يوم الجمعة، وقف بفناء الكعبة فأعلمهم ذلك ثم إنه راح فصلى بمنى الظهر [-] (¬1) يريد أنه لم يصلّ. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال: أخبرني من رأى ابن عباس يأتي يوم عرفة بسحر. قوله: "بسحر" يريد بسحر: اليوم التاسع. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الرواح من منى إلى عرفات عند طلوع الشمس، فكان ابن عباس يأتيها بسحر ذلك اليوم تقديمًا في الوقت، لأن زمان الوقوف مختلف في أوله كما سيجيء بيانه، فيكون ابن عباس قد احتاط بدخوله في أول الوقت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يغدو من منى إلى عرفات إذا طلعت الشمس. ¬

_ (¬1) بياض بالأصل قدر سطر.

هذا طرف من حديث طويل قد أخرجه الشافعي أيضاً بالإسناد أن ابن عمر كان يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، ثم يغدو من منى إذا طلعت الشمس إلى عرفة. قال الشافعي: وراح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم التروية بعد الزوال فأتى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح. ثم غدا إلى عرفة، فقائل يقول: حين طلعت الشمس على ثبير، وقائل يقول: حين أسفر. ***

الفصل الثاني في الوقوف بعرفة

الفصل الثاني في الوقوف بعرفة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن خالٍ له -إن شاء الله- يقال له: يزيد بن شيبان قال: "كنا في موقف لنا بعرفة يباعده عمرو من موقف الإِمام جدا، فأتانا ابن مربع الأنصاري، فقال له: إني رسول رسول الله إليكم، يأمركم أن تقفوا على مشاعركم، فإنكم على إرث أبيكم إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -". حديث حسن أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. فأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن ابن نفيل، عن سفيان، عن عمرو بن دينار. وأما الترمذي (¬2) والنسائي (¬3): فأخرجاه عن قتيبة، عن سفيان. وفي الباب: عن علي وعائشة وجبير بن مطعم والشريد بن سويد الثقفي. الموقف: يريد به مكانًا من أرض عرفة كان معروفًا بهم، وذلك أن كل قبيل من العرب كان لهم منزل بعرفة، وموضع يقفون فيه. وقوله: "يباعده عمرو" أي يذكر أنه بعيد من موقف الإِمام جدًا يعني كثيرًا وحقيقة في البعد ليس من قبيل المقاربة والمنزل. والمشاعر: جمع مَشْعَر وهو موضع النسك من مناسك الحج كالوقوف والطواف والحلق والرمي ونحو ذلك، وهي الشعائر أيضًا، واحدها: شعيرة، وقيل: شعارة، وكل ما جعل علمًا لطاعة الله. وقوله: "فإنكم علي إرث من إرث أبيكم إبراهيم" يريد أن هذه المشاعر ¬

_ (¬1) أبو داود (1919). (¬2) الترمذي (883)، وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (5/ 255).

ترثونها من أبيكم إبراهيم، وإنما قال: أبيكم إبراهيم لأمرين:- أحدهما: أن كثيرًا من الناس يزعمون أن إسماعيل بن إبراهيم أبو جميع العرب، فيكون هذا الخطاب على هذا القول صادرًا على جهة الصحة والتحقيق. والأمر الثاني: أنه لما كان العرب الذين بالحجاز ونجد وتهامة وما يليها من البلاد، وعلى الخصوص أهل الحرمين وقطان مكة من أولاد إسماعيل حقيقة، وكانوا أخص بخطابه من غيرهم، قال: "أبيكم إبراهيم" فخاطب من كان منهم من أبناء إسماعيل، واندرج غيرهم في الخطاب ضمنًا وتبعًا. ومساق هذا الحديث: هو لبيان أن الموقف بعرفة لا بعدها، وأن كل موضع منها موقف، وهو مما يسند القول الثاني وأن الخطاب كان لقريش ومن دان بدينها خاصة، ودخل غيرهم فيه عامًا، وذلك أن قريشا ومن دان بدينها من العرب كانوا يقفون بمزدلفة ولا يخرجون إلى عرفات، ويقولون: نحن قطين الله يعنون سكان بيته ولا نخرج من حرمه، وكانت العرب غيرهم يقفون بعرفات، فلما حج النبي - صلى الله عليه وسلم - ظنوا أنه يقف بمزدلفة جريًا على عادة قريش فجازها إلى عرفات، ثم قال للناس: قفوا على مشاعركم هذه، وأعلمهم أن إبراهيم (عليه السلام) كان يقف بها وأنكم ورّاثه لأنكم أبناؤه. وقد أخرج المزني: عن الشافعي، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: "ذهبت أطلب بعيرًا أي يوم عرفة، فخرجت فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة مع الناس، فقلت: إن هذا من الحمس فما له خرج من الحرم -يعني بالحمس: قريشًا- وكانت قريش تقف بالمزدلفة وتقول: نحن الحمس لا نجاوز الحرم".

هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) والنسائي (¬3). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "من أدرك ليلة النحر من الحاج فوقف بجبال عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك عرفة فيقف بها قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، فليأت البيت فليطف به سبعًا، ويطوف بين الصفا والمروة سبعًا ثم ليحلق أو ليقصر إن شاء، وإن كان معه هديه فلينحره قبل أن يحلق، وإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو ليقصر، ثم ليرجع إلى أهله، فإن أدرك الحج قابل فليحجج إن استطاع وليهد، فإن لم يجد هديًا: فليصم عنه ثلاثه أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله". وهذا حديث صحيح، أخرج مالك طرفًا (¬4) من أوله عن نافع "أن ابن عمر كان يقول: من لم يقف بعرفة من ليلة المزدلفة، من قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج، ومن وقف بعرفة من ليلة المزدلفة من قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج". قوله: "ليلة النحر" يريد به: ليلة اليوم الذي ينحر فيه الضحايا والهدايا وهو يوم العيد وعرفة فيه نظر. قال الجوهري: تقول: هذا يوم عرفة غير منون ولا يدخله الألف واللام، وعرفات: موضع معروف وهو اسم بلفظ الجمع ولا يجمع. قال الفراء: ولا واحد له بصحة، وقول الناس: نزلنا عرفة. شبيه بمولَّد وليس بعربي محض. وعرفات معرفة وإن كان جمعًا، لأن الأماكن لا تزول فصار كالشيء ¬

_ (¬1) البخاري (1664). (¬2) مسلم (1220). (¬3) النسائي (5/ 255). (¬4) الموطأ (1/ 313 رقم (169).

الواحد، خالف الزيدين، وإنما صرفت لأن التاء صارت بمنزلة الياء والواو والتي في مسلمين ومسلمون فصار التنوين بمنزلة النون، فلما سمي به فدل على حالة كما ترك مسلمون إذا سمي به على [حاله] (¬1). قال الزجاج: عرفات: اسم لمكان واحد ولفظه لفظ جمع، التعريف: الوقوف بعرفات، يقال: عرف الناس إذا شهدوا عرفات وهو المعرف للموقف. والذي قاله الجوهري: أن قول الناس: نزلنا عرفة. شبيه بالمولد وليس بعربي محض، فيه نظر. قال الشافعي: -قال في الحديث فيما رواه عن لفظ ابن عمر-: ويخالف ذلك لأنه قال: فوقف بجبال عرفة. وفي الحديث الصحيح: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة"، وقال: "كل عرفة موقف" وغير ذلك من الأحاديث. وقوله: "فقد أدرك الحج" يريد: أن الوقوف هو أعظم أعمال الحج وأشرفها، فمن أدركه فقد أدرك الحج أي معظمه، ولأن الوقوف بعرفة ضيق الوقت، فإذا فات الإنسان فقد فاته الحج في تلك السنة، بخلاف الطواف والسعي فإن وقتهما واسع. وقوله: "فليأت البيت وليطف به وبالصفا والمروة" يريد أنه يتحلل بعمرة، فإن كان معه هدي نحوه قبل الحلق والتقصير وإلا حلق أو قصر. ومزدلفة: موضع بين منى وعرفات وبه يبيت الحاج ليلة النحر، وهو بكسر اللام من الازدلاف والتقدم إلى الشيء، وهي اسم علم لموضع مخصوص وأسماء الأعلام لا يدخلها الألف واللام إلا على وجه مخصوص، وقد جاءت في رواية مالك بالألف واللام وفيه نظر. وقوله: "فليصم عنه" أي عن الهدي يريد بموضعه. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من اللسان راجع مادة عرف.

والذي ذهب إليه الشافعي: أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح إلا به، وهذا إجماع لا خلاف فيه بين المسلمين. وأما وقته: فهو من زوال الشمس في يوم التاسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من اليوم العاشر، هذا لا خلاف فيه بين العلماء، إلا أحمد قال: وقت من طلوع الفجر في اليوم التاسع إلى طلوع فجر اليوم العاشر. وقال مالك: من أفاض من عرفات قبل غروب الشمس من اليوم التاسع، فقد فاته الحج وعليه حج قابل وهدي. فأما إذا فاته الوقوف بانقضاء زمانه: فقد فاته الحج ويتحلل بأعمال العمرة: من طواف، وسعي وحلاقة، ويسقط عنه الرمي وعليه الهدي ولا ينقلب إحرامه عمرة. وروي ذلك عن عمر وابن عمر، وذهب إليه مالك، وبه قال أبو حنيفه ومحمد، إلا في الهدي فإنهما لم يوجباه. وقال أبو يوسف وأحمد: إحرامه عمره ويتحلل بها. وقال المزني: يأتي بجميع ما يدركه من أعمال الحج كالرمي والمبيت بمنى ولا يسقط منها شيء، وعليه الحج من قابل إن استطاع، ويجب عليه الهدي. وقد اختلف أصحاب الشافعي في الهدي الواجب بالفوات:- فمنهم من قال:- يجب في الأولى التي فاتته. ومنهم من قال:- يجب في سنة القضاء. فإن لم يجد هديًا صام بدله ثلاثة أيام في الحج -أي في مدة أيام الحج، وآخرها آخر التشريق- وسبعة إذا فرغ من أعمال الحج، والأول أوجه. قال الشافعي: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة على ناقته، فأحب لمن كان راكبًا أن يقف راكبًا، ولمن كان بالأرض أن يقف على الأرض قائمًا، ويروح إلى الموقف عند موقف الإِمام عند الصخرات، ثم يستقبل القبلة فيدعو حتى الليل،

وحيثما وقف الناس بعرفة أجزأهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا الموقف وكل عرفة موقف". قال: وترك صوم يوم عرفة للحاج أحب إليَّ من صومه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك صوم يوم عرفة، والخير في كل ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأن المفطر أقوى على الدعاء من الصائم، وأفضل الدعاء يوم عرفة. وأخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، أخبرني سليمان بن يسار أن أبا أيوب خرج حاجًّا إذ كان بالنازية -من طريق مكة- أضل رواحله، وأنه قدم على عمر بن الخطاب يوم النحر، فذكر ذلك له، فقال: اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت، فإذا أدركت الحج قابل حج واهد ما استيسر من الهدي. هذا حديث أخرجه مالك بالإسناد واللفظ (¬1). والنازية -بالنون والزاي والياء تحتها نقطان- موضع قريب من مكة. وضل شيء يضل ضلالا: ضاع وهلك، وضل عن القصد والطريق: إذا أخطأه فأضل غيره يضله، والضالة من البهائم: الشاردة عن صاحبها. والرواحل: جمع راحلة وهو البعير القوي على الأحمال والأسفار. وقد تقدم القول في حكم هذا الحديث، والمراد منه: الاستدلال على حكم من فاته الحج. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن سليمان ابن يسار أن هبار بن الأسود جاء وعمر ينحر بكرة. هذا طرف من حديث طويل قد أخرجه مالك بطوله (¬2): أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال يا أمير المؤمنين، أخطأنا العدة كنا نرى أن هذا اليوم يوم عرفة؟ فقال له عمر: اذهب إلى مكة وطف أنت ومن ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 308) رقم (153). (¬2) الموطأ (1/ 308) رقم (154).

معك وانحروا هديًا إن كان معك، ثم احلقوا أو قصروا وارجعوا، فإذا كان عامًا قابلًا فحجوا واهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. البكر من الإبل: الفتى، والأنثى بكرة، والجمع بكار. وقال أبو عبيد: البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس والبكرة بمنزلة الفتاة. وقوله: "أخطأنا العدة" يريد عدد الأيام حتى كانت الوقوف بعرفة. وهذا الحديث مسوق: لبيان أن من فاته الحج بالخطأ في العدد فحكمه حكم من أخطأ الطريق. قال الشافعي: وبهذا كله نأخذ، وفي حديث يحيى عن سليمان دلالة عن عمر أنه يعمل عمل معتمر لا أن إحرامه عمرة. قال الشافعي: وخالفنا بعض الناس فقال: لا هدي عليه وروى فيه حديثًا عن عمر أنه لم يذكر فيه أمره بالهدي، قال: وسألت زيد بن ثابت بعد ذلك بعشرين سنه فقال كما قال عمر. قال الشافعي: فقلت: روينا عن عمر مثل قولنا في أمره بالهدي، وحديثك يوافق حديثنا عن عمر وحديثنا يزيد على الهدي، والذي يزيد في الحديث أولى بالحفظ من الذي لم يأت بالزيادة. قال: وروينا عن ابن عمر كما قلناه متصلاً. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: والذي قلت بعرفة من أذان وإقامتين شيء آخر، أخبرنا ابن أبي يحيى عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا جاء المسند في كتاب "مختصر الحج الأكبر" ذكر الإسناد ولم يذكر المتن، وهو إشارة إلى طرف من حديث طويل يتضمن ذكر حجة الوداع، وذلك الطرف قد أخرجه الشافعي بهذا الإسناد في خطبة يوم عرفة. قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد وغيره، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله في حجة الإِسلام قال: فراح النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الموقف بعرفة فخطب الناس الخطبة الأولى، ثم أذن

بلال، ثم أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة الثانية، ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان ثم أقام بلال فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر. قال البيهقي: هذا التفصيل في ابتداء بلال في الأذان، وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الأذان، مما تفرد به ابن أبي يحيى، ومعناه موجود في الحديث الثابت عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر فإنه ذكر في حديثه ركوب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما زاغت الشمس وخطبته، قال: ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئًا. وقد أخرج الشافعي: عن داود بن عبد الرحمن العطار، عن ابن جريج أن ابن هشام جهر بالقراءة بعرفة، فسبح به سالم بن عبد الله فسكت. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في سنن حرملة (¬1): عن سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري قال: سمعت بكير بن عطاء الليثي يقول: سمعت عبد الرحمن بن يعمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحج عرفات، من أدرك عرفات قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج، أيام منى ثلاث من تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى". قال سفيان بن عيينة: قلت لسفيان الثوري: ليس عندكم بالكوفة حديث أشرف من هذا. قال الشافعي: ويجوز الحج إذا وقف بعرفة على الرؤية، وإن علموا بعد الوقوف بعرفة أن يوم عرفة هو النحر. أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج قال قلت لعطاء: رجل حج أول ما حج فأخطأ الناس بيوم عرفة، أيجزئ عنه؟ قال: نعم. إي لعمري إنها لتجزي عنه. ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (7/ 374).

قال الشافعي: وأحسبه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" وأراه قال: "وعرفة يوم تعرفون". قال البيهقي: قد رويناه عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً يوم عرفة اليوم الذي يعرف فيه الناس. وأما قوله: "فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" فقد تقدم مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتاب الصوم. ***

الفصل الثالث في الإفاضة منها

الفصل الثالث في الإفاضة منها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة، حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس، حتى تكون كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، وندفع من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، هدُينا مخالف لهدي الأوثان والشرك". قوله: "كأنها عمائم الرجال في وجوههم" وذلك أنهم إذا دفعوا من عرفة إلى مزدلفة آخر النهار قبل أن تغيب الشمس كانت حينئذ في وجوههم، لأنهم يتوجهون من عرفة إلى مزدلفة مغربين، وتشبيهه بعمائم الرجال لأن الشمس إذا دنت من الغروب احمرت لقربها من الأرض، فتبقى في وجوههم ظاهرة الاستدارة لقلة شعاعها كأنها عمامة مستديرة. ويجوز أن يكون أراد بتشبيه العمائم: أنها إذا طلعت وإذا غربت تكون على رؤس الجبال فتبين رؤس الجبال في حالتي الطلوع والغروب؛ كأنها عمائم الرجال، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لا ندفع إلا بعد الغروب من عرفة، وقبل الطلوع من مزدلفة، مخالفة لما كانت عليه الجاهلية. والهدي: السيرة والطريقة". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان، عن ابن طاوس، عن

أبيه قال: كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس، [ويقولون] (¬1): "أشرق ثبير كيما نغير، فأخر الله هذه وقدم هذه". هكذا أخرج هذا الحديث والذي قبله في كتاب الحج من الأمالي، وأخرجها في كتاب "الحج الأكبر" بهذين الإسنادين حديثًا واحدًا، وقال فيه: وزاد أحدهما على الآخر واجتمعا في المعنى، وذكر ما سبق وقال فيه: أبرق ثبير. وقوله: "أشرق ثبير" جبل بمنى ومزدلفة، وهو منادى قد حذف منه حرف النداء، التقدير: يا ثبير أشرق، أي ادخل في الشروق: وهو نور الشمس، لأنهم كانوا لا يفيضون منها إلا بعد طلوع الشمس على الجبال، يقال: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت وطلعت. وقوله في الرواية الأخرى: "أبرق ثبير" فهو من البرق. تقول: برق البرق وأبرق: إذا لمع نوره. وقوله: "كيما نغير" أي ندفع للنحر، يقال: أغار يغير إغارة: إذا أسرع ودفع في غدوه. وقوله: "فأخر الله هذه" يريد الدفع والإفاضة من عرفة آخره إلى أن تغيب الشمس. وقوله: "قدم هذه" يعني: الدفع والإفاضة من مزدلفة، قدمه قبل طلوع الشمس. وهذان الحديثان عن ابن خزيمة وطاوس مرسلان، وقد روى البخاري (¬2) هذا المعنى عن عمر بن الخطاب من رواية حجاج بن منهال، عن شعبة. ¬

_ (¬1) في الأصل [يقول] والمثبت من الأم (2/ 212). (¬2) البخاري (1684).

وفي أخرى: عن عمرو بن ميمون، عن عمر موقوفًا، ثم قال: وخالفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفاض قبل طلوع الشمس. وأخرج هذا المعني أيضًا: أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) والنسائي (¬3). وقد أخرج المزني (¬4): عن الشافعي، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه سأل أسامة بن زيد -وأنا جالس معه- "كيف كان يسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العَنَقَ فإذا وجد فجوة نص قال: والنص فوق العنق وهما ضربان سريعان من سير الإبل. وأخرجه أيضًا: عن الشافعي، عن سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن أسامة وكان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة حتى أتى مزدلفة وفيه "فرجة". بدل فجوة. قال الشافعي: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فلما افترقت له الطريقان: طريق ضب وطريق المأزمين، سلك طريق المأزمين وهي التي أحب أن يسلك الحاج وهي طريق الأئمة منذ كانوا. وقد أخرج المزني أيضًا: عن الشافعي، عن مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب -مولى ابن عباس- أنه سمع أسامة بن زيد يقول: "دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة. حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ثم توضأ فلم يسبغ وضوءه، فقلت له: الصلاة، فقال: "الصلاة أمامك" فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل أناس (¬5) بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئًا". هذان حديثان صحيحان أخرجهما البخاري (¬6) ومسلم (¬7). ¬

_ (¬1) أبو داود (1938). (¬2) الترمذي (896) وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (5/ 265). (¬4) انظر المعرفة (7/ 292). (¬5) في المعرفة (إنسان). (¬6) البخاري (1672). (¬7) مسلم (1280) / (2769).

الفصل الرابع في مزدلفة والإفاضة منها

الفصل الرابع في مزدلفة والإفاضة منها أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن مربوع، عن جويبر بن حويرث قال: "رأيت أبا بكر الصديق واقفا على قزح وهو يقول: أيها الناس اسفروا (¬1)، ثم دفع فكأني انظر فخذه مما يحرش بعيره بمحجنه". هذا الحديث ذكره الشافعي في كتاب "الحج" من الأمالي، وعاد ذكره في كتاب الحج الأكبر (¬2) عقيب إسناد حديث، وذلك أنه قال: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر. ولم يذكر لهذا إسناد متن حديث، ثم قال: وأخبرنا سفيان، عن محمد بن المنكدر. وذكر هذا الحديث. قال البيهقي: هكذا جمع بين هذين الإسنادين في المختصر الكبير، وذلك يوهم أن يكون جابر روى عن أبي بكر الصديق مثل ما روى ابن الحويرث عنه. قال: وعندي أنه ذكر إسناد حديث جابر، فلعله شك في شيء من متن حديثه وتركه وصار إلى حديث أبي بكر، على أن لجابر رواية في قصة دفع النبي - صلى الله عليه وسلم - من مزدلفة، حين أسفر جدًا قبل أن تطلع الشمس، ويشبه أن يكون حديث أبي الزبير عن جابر في إفاضة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعليه السكينة وأمره بها أن يرموا الجمار مثل حصى الخذف وإيضاعه في وادي محسر. والله أعلم. والإسفار: الإضاعة وانتشار ضوء النهار. قزح: جبل مزدلفة وهو المشعر الحرام. ¬

_ (¬1) في الأم (أصبحوا) (¬2) الأم (2/ 213)

والحرش: النخس والحرش، تقول: حرشه وخرشه -بالخاء والحاء- إذا خدشته. قال الأزهري: حرشت جرب البعير حرشا، وخرشته خرشًا إذا حككته حتى تنقشر الجلد الأعلى فيدمي ثم يطلى حينئذ بالهناء، فشبه نخس البعير بالمحجن بذلك. والمحجن: عصا أحد رأسيها كالصولجان. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الحاج يبيت بمزدلفة ويصلي الصبح يوم العيد بها في أول الوقت جدًّا، ثم يدخل ويقف على قزح حتى يسفر قبل أن تطلع الشمس، ثم يدفع إلى منى قبل طلوعها. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة فلم ترفع ناقته يدها واضعة حتى رمى الجمرة. قوله: "واضعة" اسم فاعل من وضعت الناقة تضع وضعا فهي واضعة: إذا سارت سيرًا سريعًا، والمعنى: أنه لما دفع من المزدلفة لم يزل السير على مهل؛ ولم يحرك ناقته ولا أوضعها إلى أن رمى الجمرة. وهذا الحديث عن طاوس وإن كان مرسلاً، فإنه ذهاب منه إلى إنكار الإيضاع في هذا المكان، وكذلك روي عن عبد الله والفضل ابني العباس، وعن عطاء، وكذلك قال الشافعي في الإملاء: ولا أكره للرجل أن يحرك راحلته في بطن محسر. وقال في المختصر الكبير: وأحب إلي أن يحرك في بطن محسر قدر رميه بحجر. والمذهب فيه أنه من مزدلفة بسكون وتؤدة، فإذا بلغ وادي محسر إن كان ماشيًا أسرع، وإن كان راكبًا حرك دابته. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة: ابن أبي يحيى أو سفيان أو

هما، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عمر كان يحرك في بطن محسر، ويقول: إليك تعدوا قلقًا وضينها ... مخالفًا دين النصارى دينها القلق: الذي لا يثبت ولا يستقر. والواضين: حزام الرحل. وهذا الحديث أخرجه الشافعي: مستدلًا به على الإيضاع في وادي محسِّر عند الإفاضة من مزدلفة إلى منى. قال الشافعي: وروي عن عائشة أنها كانت تأمر فيضرب بها وادي محسر، وقد روي ذلك عن عمر وعلي وجابر وابن عمر وابن مسعود والحسن بن علي -رضي الله عنه-. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، أنه سمع عبيد الله بن أبي يزيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: "كنت فيمن قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ضعفة أهله من المزدلفة إلى منى. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن علي، عن سفيان بالإسناد. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن [حماد] (¬4) بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) البخاري (1678). (¬2) مسلم (1293) (301). (¬3) الترمذي (892). (¬4) في الأصل [جابر] وهو تصحيف والمثبت من الترمذي.

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن سفيان. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن أشهب، عن داود بن عبد الرحمن، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. يريد بضعفة أهله: النساء والمرضى والمعذورين، لأن المبيت بمزدلفة ليلة العيد نسك من مناسك الحج وليس بركن. ويحكى عن الشعبي والنخعي أنهما قالا: هو ركن. فإن لم يبت بها أو دفع منها قبل نصف الليل ففي وجوب الدم قولان:- أحدهما: يجب. وبه قال مالك وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثاني: لا يجب. وهو الرواية الأخرى عن أحمد. وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن فيها بعد طلوع الفجر وجب عليه الدم، إلا أن يكون له عذر، وإذا كان فيها بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس فلا شيء عليه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- عن داود بن عبد الرحمن العطار وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: "دار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أم سلمة يوم النحر، فأمرها أن تعجل الإفاضة من جمع حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح وكان يومها وأحب أن توافقه". وفي رواية: "أن يوافيه" وأخبرنا الشافعي قال: أخبرني من أثق به من المشرقيين عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. هذا الحديث استدل به الشافعي: على جواز الإفاضة من جمع -وهي مزدلفة- بليل قبل طلوع الفجر. مؤكدًا لما سبق وتحقيقًا لما ذهب إليه، فإن ¬

_ (¬1) أبو داود (1939). (¬2) النسائي (5/ 266).

قوله: "حتى تأتي مكة فتصلي بها الصبح" صريح في جواز الإفاضة منها بليل. وقوله: "كان يومها" يريد: اليوم الذي يكون فيه عندها، وهذا معنى قوله -في أول الحديث-: "دار إلى أم سلمة" أي وصل في دوره على نسائه إليها. وفي رواية "حتى توافيه" من الموافاة والمصادفة، ويشبه أن يكون أمرها بذلك لتستتر في ظلمة الليل إلى مكة، فتصلي بها الصبح فلا يراها أحد. قال الشافعي: فدل على أن خروجها بعد نصف الليل وقبل الفجر، أن رميها كان قبل الفجر، لأنها لا تصلي الصبح بمكة إلا وقد رمت قبل الفجر بساعة. وقد أخرج المزني: عن الشافعي، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سالم ابن شوال، عن أم حبيبة قالت: "كنا نغلس من جمع إلى منى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ***

الباب السابع في رمي الجمار

الباب السابع في رمي الجمار أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر "أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمار مثل حصى الخذف". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي. أما مسلم (¬1): فأخرجه عن محمد بن حاتم وعبد بن حميد، عن محمد بن بكر (¬2)، عن ابن جريج. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن [ابن] (¬4) جريج. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن محمد بن آدم، عن عبد الرحيم، عن عبيد الله ابن عمر، عن أبي الزبير. وكلهم قالوا: بمثل حصى الخذف. وفي الباب عن عبد الله والفضل ابني العباس وعبد الرحمن بن عثمان التميمي وعبد الرحمن بن معاذ وأم جندب الأزدية. الجمار: جمع جمرة وهي الجمرات الثلاث التي بمنى يرميها الحاج. وقال الأزهري: الجمرة اجتماع القبيلة الواحدة على من ناوأها من سائر العرب. قال: ومن هذا قيل الموضع الجمار التي ترمى بمنى جمرات، لأن كل مجتمع ¬

_ (¬1) مسلم (1299). (¬2) في الأصل [محمد بن أبي بكر] وهو تصحيف والمثبت من مسلم وهو الصواب. (¬3) الترمذي (897) وقال: حديث حسن صحيح. (¬4) سقط من الأصل والمثبت من الترمذي. (¬5) النسائي (5/ 274).

حصى منها جمرة وهي ثلاث جمرات، وكانت العرب إذا اجتمع منها ثلثمائة فارس فهي جمرة. قال: وسئل ثعلب عن الجمار التي بمنى، فقال: أصلها من جَمَرْتُه ودَهَرْتُه إذا نحيَّته، والأصل في هذا أن الجمار: الحصى فسميت بذلك، ولهذا جاء في الحديث الآخر: "الاستجمار في الطهارة" وهو الاستنجاء بالأحجار واستعمالها في ذلك. والخذف -بالخاء والذال المعجمتن-: رمي الحصات مثل: حصى الخذف. وفي رواية الباقين: "بمثل حصى الحذف" فأما في رواية الشافعي فإنه أراد بالجمار الحصى، وأما بإثبات الباء فإنه يريد الموضع المرمية بالحصى التي تسمي جمارًا، وهي الأماكن الثلاثة بمنى. قال الشافعي: وحصى الخذف أصغر من الأنملة طولًا وعرضًا. ومنهم من قال: كقدر النواة. ومنهم من قال: مثل الباقلاء. وكل هذه المقادير متقاربة، لأن الخذف لا يكون إلا بالصغير، فإن رمى بحجر كبير أجزأه لوقوع الاسم عليه. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن حميد بن قيس، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن رجل من قومه من بني تيم يقال له: معاذًا أو ابن معاذ "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينزل الناس بمنى منازلهم وهو يقول: "ارموا بمثل حصى الخذف". هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن عبد الرحمن بن معاذ، ¬

_ (¬1) أبو داود (1951).

عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خطب النبي الناس بمنى، ونزَّلهم منازلهم فقال: "لينزل المهاجرون ها هنا" -وأشار إلى ميمنة القبلة- "والأنصار ها هنا " -وأشار إلى ميسرة القبلة-، ثم لينزل الناس حولهم". وفي أخرى: عن مسدد، عن عبد [الوارث] (¬1) عن حميد، عن محمد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن معاذ قال: "خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بمنى ففتحت أسماعنا؛ كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا؛ فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع إصبعه السبابتين ثم قال: "بحصى الخذف" ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك". وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن محمد بن حاتم بن نعيم، عن سويد، عن عبد الله بن عبد الوارث، عن حميد [الأعرج] (¬3) [عن] (¬4) محمد بن إبراهيم [عن] (4) عبد الرحمن بن معاذ. وذكر رواية أبي داود الثانية. وقد أخرج الشافعي في رواية حرملة (¬5): عن أنس بن عياض، عن عبد الله ابن عامر الأسلمي، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "كأني انظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة جمع وهو كاف ناقته، وهو يقول: "أيها الناس! عليكم بالسكينة" فلما جاء محسرًا قال: "عليكم بحصى الخذف". قال الشافعي: ومن حيث أخذه أجزأه إلا أني أكرهه من المسجد لئلا يخرج حصى مسجد منه، وأكرهه من الجمرة لأنه حصى غير متقبل، ولأنه قد رمى به مرة. ¬

_ (¬1) في الأصل [الوهاب] وهو تحريف والتصويب من أبي داود تحفة الأشراف (7/ 217). (¬2) النسائي (5/ 249). (¬3) من النسائي. (¬4) في الأصل [بن] وهو تصحيف والمثبت من النسائي وهو الصواب. (¬5) انظر المعرفة (7/ 300).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم القداح، عن أيمن ابن نابل، أخبرني قدامة بن عبد الله بن عمَّار الكلابي قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء، ليس ضرب ولا طرد وليس قيل إليك إليك". هذا حديث صحيح، أخرجه الترمذي والنسائي. أما الترمذي (¬1): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، عن أيمن بن نابل. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن أيمن. الجمرة: هي جمرة العقبة، لأنها هي التي ترمى يوم النحر. والصهبة في الألوان: الشقرة في الشعر، وهي في الإبل أن يخالط بياض البعير حمرة فيحمر الوبر ويبيض وسطه. وقوله: "ليس قيل" أي ليس يقال: إليك إليك بمعني تنح وأبعد والقيل والقول: مصدر قال يقول قولًا وقيل. والمستحب: أن يرمي جمرة العقبة راكبًا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل، ويرفع يديه حتى يرى بياض إِبطيه، ويرميها من بطن الوادي، ويكبر مع كل حصاة، ويكون مستدبر الكعبة مستقبلاً لمنى، وحيث وقف وكيف رمى أجزأه. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة (¬3): عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص الأزدي، عن أمه قالت: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - -وهو في بطن الوادي وهو يرمي الجمرة-، وهو يقول: "أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضًا، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف". وقد أخرج الشافعي أيضًا: عن سفيان، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، ¬

_ (¬1) الترمذي (903)، وقال حسن صحيح. (¬2) النسائي (5/ 270). (¬3) المعرفة (7/ 309).

عن أبي معبد، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ارفعوا عن بطن محسر، وعليكم بمثل حصى الخذف". قوله: "ارفعوا عن بطن محسر" يريد في المبيت. بمنى. وأخرج الشافعي في سنن حرملة: عن ابن عيينة (¬1)، عن مسعر والثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال: "حملنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات، ثم جعل يلطح أفخادنا ويقول: "أبيْني! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬2) والنسائي (¬3). وأغيلمة: تصغير غلمة على غير قياس. والجمرات: جمع جمر، والجمر: جمع جمار. واللطح -بالحاء المهملة-: ضرب لين ببطن الكف. والأبيني: تصغير الأبناء جمع ابن بوزن: أعمى وأعيمي، وليس جمعًا على اللفظ وإنما هو اسم موضوع للجمع، وجمعه اللفظي أبناء بالمد. قال الشافعي: ومن أوقاتها: أن ترمى بعد الفجر، وجائز فيها أن ترمى قبل الفجر وبعد نصف الليل. واستدل بحديث أم سلمة وقد ذكرناه في الإفاضة من مزدلفة، وذكرنا فيه كلام الشافعي (رضي الله عنه). ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وفي المعرفة (7/ 311): [عن ابن عبيد]. (¬2) أبو داود (1940). (¬3) النسائي (5/ 270، 271).

الباب الثامن في الحلق والتقصير

الباب الثامن في الحلق والتقصير أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن ابن أبي حسين، عن أبي علي الأزدي قال: سمعت ابن عمر يقول للحالق: يا غلام، أبلغ العظم، فإذا قصَّر أخذ من جانبه الأيمن قبل جانبه الأيسر. قوله: "أبلغ العظم" يريد المبالغة في الحلق واستقصاء أخذ الشعر. قال الشافعي: والعظم هو هذا الذي عند منقطع الصدغين. وقوله: "إذا قصر" أي إذا لم يحلق واقتصر على التقصير، فإن الأحب له أن يبدأ بالشق الأيمن قبل الأيسر وكذلك في الحلق، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حلق دعا بالحالق فأخذ شق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسمه بين من يليه الشعرة والشعرتين، ثم أخذ شق رأسه الأيسر فحلقه ثم دفعه إلى أبي طلحة. وأخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال: أخبرني حجام أنه قصر عن ابن عباس فقال: ابدأ بالشق الأيمن. قال الشافعي: وهكذا يحب إذا حلق أن يبدأ بالشق الأيمن، لأنه نسك اقتداًء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يحب التيامن في أمره كله. أخبرنا الشافعي (رضي الله عنه): عن مالك، عن نافع أن ابن عمر كان إذا حلق في حج أو عمرة، أخذ من لحيته وشاربه. أخرج هذا الحديث في الموطأ إسنادًا ولفظًا (¬1)، وأخرجه الشافعي في كتاب "اختلافه مع مالك"، أورده على طريق الإلزام فيما خالف فيه أصحاب ابن عمر، ورواه ابن جريج عن نافع وزاد فيه. وأظفاره. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 318 رقم (187).

قوله: "أخذ من لحيته وشاربه" يريد أنه كان يقتصر من لحيته ومن شاربه، فإنه كان يحلق شعر رأسه ويقصر من لحيته وشاربه. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الحلق أفضل من التقصير. قال: والأحب إليَّ لو أخذ من شعر لحيته وشاربه. قالوا: أراد الشافعي بهذا إذا لم يكن على رأسه شعر، فإنه يستحب أن يمر الموسى على أرض رأسه، ثم يأخذ من لحيته وشاربه لئلا يخلوا من أخذ الشعر. لفظ حديث ابن عمر هذا لا يقتضي ذلك، إنما ظاهره أنه كان يجمع بين الحلق وتقصير اللحية والشارب، وهذا ليس بلازم لأن النسك إنما هو في الرأس لا في الوجه، قال الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (¬1). وقد أخرج المزني عن الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: "والمقصرين" هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4). إنما خص المحلقين بالدعاء وقدمهم: لأنه كان أكثر من أحرم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ليس معه هدي، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ساق الهدي، ومن كان معه هدى فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه، فلما أمر من ليس معه هدى أن يحلق ويحل، وجدوا من ذلك في أنفسهم وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج، وكانت طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بهم، فلما لم يكن بد من الإحلال كان التقصير في نفوسهم أخف من الحلق فمالوا إلى التقصير، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أخرهم في الدعاء، وقدم عليهم من حلق وبادر إلى الطاعة ثم جمعهم بعد في الدعاء. ¬

_ (¬1) الفتح: [27]. (¬2) البخاري (1727). (¬3) مسلم (1301) (317). (¬4) أبو داود (1979).

وقد أخرج المزني: عن الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رمى جمرة العقبة ونحر نسكه، ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه ثم ناوله النبي أبا طلحة، [ثم] (¬1) ناول الحالق شقه الأيسر فحلقه، ثم أمر أبا طلحة أن يقسمه بين الناس". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4) والترمذي (¬5). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن [عيسى] (¬6) بن طلحة بن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ فقال: "اذبح ولا حرج". فجاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج" قال: فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: "افعل ولا حرج". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة [إلا] (¬7) النسائي. فأما مالك (¬8): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬9): فأخرجه عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف، عن مالك. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (7/ 320). (¬2) البخاري (1305) (326). (¬3) مسلم (1305) (326). (¬4) أبو داود (1981). (¬5) الترمذي (912) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) في الأصل [يحيى] وهو تصحيف والمثبت من الأم (2/ 215) وغيره. (¬7) سقط من الأصل وأثبتها ليستقيم السياق، (¬8) الموطأ (1/ 335 رقم 242). (¬9) البخاري (83، 1736).

وعن أبي نعيم (¬1)، عن عبد العزيز بن أبي سلمة. وعن سعيد بن يحيى بن سعيد (¬2)، عن أبيه، عن ابن جريج. وعن عثمان بن الهيثم (¬3)، عن ابن (¬4) جريج. وعن إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح. كلهم عن ابن شهاب. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وعن حرملة [عن] (¬6) ابن وهب، عن يونس. وعن الحلواني، عن يعقوب، عن أبيه، عن صالح. وعن ابن خشرم، عن عيسى بن يونس. وعن عبد بن حميد، وعن محمد بن بكر. وعن سعيد بن يحيى، عن أبيه. كلهم عن ابن جريج، عن ابن شهاب. وأما أبو داود (¬7): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬8): فأخرجه عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن شهاب. وفي الباب عن علي وجابر وابن عباس وابن عمر وأسامة بن شريك. شعرت أشعرت: بمعنى علمت إلا أنه من العلم بالمشاعر، ومشاعر الإنسان ¬

_ (¬1) البخاري (124). (¬2) البخاري (1737). (¬3) البخاري (6665). (¬4) في الأصل: [يحيى بن جريج] وهو تحريف والمثبت هو الصواب كذا في رواية البخاري. (¬5) مسلم (1306). (¬6) سقط من الأصل والمثبت من مسلم. (¬7) أبو داود (2014). (¬8) الترمذي (916) وقال: حديث عبد الله بن عمرو حديث حسن صحيح.

حواسه، فكأنه علم مستند الحاسة. والنحر: ما كان في اللبة، والذبح: ما كان في الحلق. والحرج: الإثم والضيق. والرمي: يريد به رمي الجمار. وفي رواية بعضهم "النحر" بدل "الذبح"، وذلك أن النحر: هو مخصوص بالإبل لطول رقابها حتى يكون موتها أسهل وأسرع. والذبح مختص بالغنم والبقر، فكأن الذي قال: نحرت، قد كان معه بعير فأخبره عن حالته، والذي قال: ذبحت، قد كان شاة فأخبر عن حالته. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الذي يفعله الحاج يوم النحر أربعة أشياء: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم طواف الإفاضة: وهو الطواف الواجب. وهذا الترتيب مستحب وليس واجبًا ولا شرطًا، فإن قدم بعضها على بعض فلا بأس، إلا الحلق إذا قدمه على الرمي فإن فيه قولين. إن قلنا إنه نسك فلا شيء عليه لأنه أحد ما يتحلل به، وإن قلنا إنه إطلاق محظور فقد حلق قبل أن يتحلل فلزمه دم. وقال أبو حنيفة: إذا تقدم الحلق على الذبح فلا شيء عليه، وإذا قدمه على الرمي وجب عليه دم. وقال أحمد: هذا الترتيب الذي ذكرناه واجب، فإن قدم بعضها على بعض ناسيًا أو جاهلا فلًا شيء عليه، وإن كان عامدًا ففي وجوب الدم روايتان. ***

الباب التاسع في الإحصار

الباب التاسع في الإحصار أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم ابن عبد الله، عن أبيه قال: "من حبس دون البيت بمرض؛ لا محل له حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة". وبالإسناد أيضًا: أنه قال: المحصر لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة. هذا حديث صحيح، أخرجه مالك والبخاري والنسائي. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد واللفظ. وزاد في الثانية: المحصر بمرض، وزاد في آخره: فإن اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء، صنع ذلك وافتدى. وقد أخرج الشافعي (رضي الله عنه) هذه الزيادة في المبسوط. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن أحمد بن محمد، عن عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن سالم قال: كان ابن عمر يقول: "أليس حسبكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاماً قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا". وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن أحمد بن عمرو بن السرح والحارث ابن ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 292 رقم (103). (¬2) البخاري (1810). (¬3) النسائي (5/ 169).

مسكين، عن ابن وهب، عن يونس [عن ابن شهاب] (¬1)، عن سالم قال: "كان ابن عمر ينكر الاشتراط، ويقول: أليس حسبكم سنة رسول الله" وذكر لفظ البخاري. والذي ذهب إليه الشافعي (رضي الله عنه): أن الإحصار لا يخلو أن يكون بعدو أو غيره، فإن كان المحصر عدوًا وسواء كان مشركًا أو غير مشرك جاز له التحلل، وإن كان المحصر مرضًا فلا يجوز له أن يتحلل لمرضه. وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق قالوا: لا حصر إلا حصر العدو. وقال قوم: الإحصار بكل حابس حبس الحاج من عدو ومرض وغير ذلك. وبه قال عطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي وأبو ثور. وروى عن ابن مسعود. قال الشافعي: قال الله -جل ثناؤه-: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬2) قال: فلم أسمع ممن حفظت عنه من أهل العلم بالتفسير مخالفًا في أن هذه الآية نزلت بالحديبية، حين أحصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحال المشركون بينه وبين البيت، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر بالحديبية وحلق ورجع حلالاً، ولم يصلِّ إلى البيت ولا أصحابه إلا عثمان بن عفان وحده. قال الشافعي (رضي الله عنه): ونحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحل، وقد قيل: نحر في الحرم، وإنما ذهبنا إلى أنه نحر في الحل وبعض الحديبية في الحل وبعضها في الحرم لأن الله -تعالى- يقول {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (¬3) والحرم كله محله عند أهل العلم فحيث ما ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من النسائي. (¬2) البقرة: 196. (¬3) الفتح:25.

أحصر ذبح شاة وحل. قال الشافعي: الآية نزلت في الإحصار بالعدو، فرأيت أن الآية تأمر بإتمام الحج والعمرة لله عامة في كل حج حاج ومعتمر إلا من استثنى، ثم سن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبين الحصر بالعدو. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن ابن عباس، وعن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: "لا حصر إلا حصر العدو. وزاد أحدهما: ذهب الحصر الآن. قال الشافعي: يعني أنه لا عدو يحول دون البيت، ويعني: أن الآية نزلت فيمن أحصره لا من حبس لمرض، وهكذا معنى قول عائشة وابن عمر: "لا يحل المريض دون البيت". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار أن ابن عمر ومروان وابن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي وأنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم أن يتداوى بما لا بد منه ويفتدي، فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه وكان عليه أن يحج عامًا قابلًا ويهدي. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ بالإسناد (¬1): أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم، فسأل [من يلي] (¬2) على ذلك الماء الذي كان عليه؟ فوجد [عبد] (¬3) الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم، فذكر لهم الذي عرض له فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد منه. وذكر الحديث. وقال: ويهدي ما استيسر من الهدى. صرع الرجل يصرع: إذا سقط عن دابته، أو من موضع عال فوقع على الأرض، وأصله من صرعت الرجل صرعًا: إذا رميته إلى الأرض. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 292 رقم (1039). (¬2) من الموطأ. (¬3) تكررت في الأصل.

والافتداء: افتعال من الفدية وهو في هذا المكان وأشباهه ما يجب على من أفسد حجه أو عمرته بمباشرة محظور من محظورات الحج أو عارض يطرأ عليه. والعام القابل: الذي يجيء بعد السنة التي أنت فيها، يقال: عام قابل، وليلة قابلة بمعنى مقبل ومقبلة، وقد يضاف العام إلى قابل من نحو إضافة الاسم إلى الصفة. واستيسر: استفعل من اليسر ضد العسر. وفي هذا الحديث من الفقه: أن المحرم له أن يتداوى بما لا بد منه مما ليس فيه طيب. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن عبد الكريم الجزري، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة "أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه، وقال: "صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان مسكين، أو انسك شاة، أي ذلك فعلت أجزأ عنك". قال الشافعي (¬1): غلط مالك في هذا الحديث، الحفاظ حفظوه عن عبد الكريم، عن مجاهد، عن عبد الرحمن. وهو أسقط مجاهدًا من الإسناد. وقد رواه المزني: عن الشافعي، عن ابن عيينة فذكر مجاهدًا وكذلك أخرجه الربيع عنه. قال الشافعي: حكم الله -تعالى- على أن كل نسيكة كانت في حج أو عمرة فمحلها إلى البيت العتيق، ومعقول في حكمه أنه أراد أن يكون في جيران البيت العتيق، من أهل الحاجة فما كانت فيه منفعة، فلا يكون إلا حيث الهدي وذلك الصدقة، وأما الصوم: فلا منفعة فيه لأحد فيصوم حيث شاء في الفدية، ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (7/ 367).

ولو صام في فوره ذلك كان أحب إلي. وهذا حديث كعب ابن عجرة حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬1). وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن أيوب السختياني، عن رجل من أهل البصرة -كان قديمًا- أنه قال: "خرجت إلى مكة حتى [إذا] (¬2) كنت بالطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس، فلم يرخص لي أحد في أن أحل، فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر، ثم حللت بعمرة". قال الشافعي: وأخبرنا إسماعيل بن علية، عن رجل -كان قديمًا- وأحسبه قد سماه، وذكر نسبه، وسمى الماء الذي أقام به الدثينة. وحدثنا شبيهًا بمعنى حديث مالك. وأخرج الشافعي: عن مالك، عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عائشة كانت تقول: "المحرم لا يحله إلا [الطواف] (¬3) بالبيت". وأخرج الشافعي: عن أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: "لا يحل محرم بحج ولا بعمرة حبسه بلاء حتى يطوف بالبيت، إلا من حبسه عدو فإنه يحل حيث حبس، ومن حبس في عمرة ببلاء مكث على حرمه حتى يطوف بالبيت العتيق ثم يحل من عمرته". قال الشافعي: وخالفنا بعضهم في المحبوس بالمرض، فقالوا: هو والمحصر بالعدو لا يفترقان، قالوا: يبعث المحصر بالهدي يواعده يومًا بذبحه فيه عنه. قال الشافعي في الجواب: إن الذين روينا عنهم مثل مذهبنا قولهم أشبه بالقرآن وأنهم عدد، فقولهم أولى لأن من قال: نبعث بالهدي ونواعده يومًا قد ¬

_ (¬1) مالك في الموطأ (1/ 332 - 333 رقم 237، 238)، والبخاري (1814)، ومسلم (1201)، وأبو داود (1856، 1857، 1860، 1861)، والترمذي (953)، والنسائي (5/ 194). (¬2) من المعرفة (7/ 492). (¬3) من المعرفة (7/ 493).

يحل وهو لا يدري، لعل الهدي لم يبلغ محله فيأمره بالخروج من شيء لزمه بالظن. وقال الشافعي فيمن أحصر بعدو: لا قضاء عليه، فإن كان لم يحج حجة الإِسلام؛ فعليه حجة الإِسلام من قبل قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1) ولم يذكر قضاء، وذلك أنا قد علمنا في متواطئ أحاديثهم، أن قد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية رجال معروفون بأسمائهم، ثم اعتمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرة القضية، وتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال علمته، ولو لزمهم القضاء لأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إن شاء الله- بأن لا يتخلفوا عنه. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) البقرة: [196].

الباب العاشر في الهدي

الباب العاشر في الهدي أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: "ما استيسر الهدى بعيرًا أو بقرة". هذا حديث الموطأ أخرجه إسنادًا ولفظًا (¬1). والهدي: ما يهدى إلى البيت من النعم لينحر في الحرم، تقول: أهديت إلى البيت هديًا وهديًّا -مخففًا ومثقلًا. وما: بمعنى الذي، تقديره: الذي استيسر من الهدى أي سهل بعير أو بقرة، وهي في موضع رفع بالابتداء، وبعيرًا وبقرة: خبره. وقوله: "كان يقول" فيه أن هذا كان تفسيرًا منه معتادًا، لا أنه إخبار عن حال ماضيه كان قالها ثم رجع عنها. قال الشافعي: من نذر هديًا فسمى شيئًا فعليه الذي سمى، ومن لم يسم شيئًا أو لزمه هدي ليس بجزاء من صيد فيكون عدله، فلا يجزئه من الإبل ولا البقر ولا المعز إلا ثَنىٌ فصاعدًا، ويجزئه الذكر والأنثى، ويجزئ من الضأن وحده الجزع، والوضع الذي يجب عليه فيه الحرم، ولا محل للهدي دونه إلا أن يسمي الرجل موضعًا من الأرض، أو يحصر رجل بعدو. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم القداح، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشعر في الشق الأيمن". ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 310 رقم "160").

هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن ابن المثنى وابن بشار، عن [ابن] (¬2) أبي عدي، عن شعبة. وعن ابن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه. كلاهما عن قتادة قال: " [صلى] (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن، وسلت الدم عنها، وقلدها نعلين ثم ركب راحلته، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج". وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن أبي الوليد الطيالسي وحفص بن عمر، عن شعبة. مثل مسلم. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن أبي كريب، عن وكيع، عن هشام الدستوائي، عن قتادة. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن مجاهد بن موسى، عن هشيم، عن شعبة، عن قتادة. الإشعار: الإعلام بعلامة يعرف بها، أشعرت الشيء وبالشيء: إذا علَّمت به أعلام حسن، لأنه من المشاعرة ومشاعر الإنسان حواسه، كانوا يعلِّمون بدن الهدي بعلامات يعرفونها بها أنها هدي، فكانوا يشقون أسنمة الهدي ويرسلونها والدم يسيل منها، فمن رآها لا يتعرض إليها. وقوله: "في الشق الأيمن" يريد في الجانب الأيمن من سنامها. وسلت: مسحته عنها. ¬

_ (¬1) مسلم (1243). (¬2) من مسلم. (¬3) أبو داود (1752). (¬4) الترمذي (906) وقال حسن صحيح. (¬5) النسائي (5/ 170).

وتقليدها النعلين: هو من العلامات التي كانوا يعلمونها، وقد كانوا يقلدونها فلا بد من صوف أو قطن أو قشر شجرة أو نحو ذلك. قال الشافعي -رضي الله عنه- والاختيار في الهدي أن يتركه صاحبه مستقبل القبلة، ويقلده النعلين ثم يشعره في الشق الأيمن. والإشعار: أن يضربه بحديدة في سنام البعير وسنام البقرة حتى يدمي، ويذكر اسم الله -تعالى- على الإشعار. وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف، إلا أن مالكًا وأبا يوسف قالا: يشعرها من الجانب الأيسر. وقال أبو حنيفة: الإشعار غير جائز. فإن كانت شاة: فقلدها عرى القرب ولا يشعرها. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يقلدها، فإن ترك التقليد والإشعار جاز. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن نافع عن ابن عمر "أنه كان لا يبالي في أي الشقين أشعر في الأيمن أو في الأيسر". هذا الحديث: بيان لأن الإشعار جائز في كلى الشقين، وإنما أخذ الشافعي بما رواه ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أشعر في الشق الأيمن، والعمل بحديث ابن عباس أولى، لأنه مرفوع وهذا موقوف، لأنه حديث صحيح مخرج في الصحاح وهذا قد ساوى فيه بين الشقين أيهما أشعر جاز له، والاقتداء بالسنة أولى. وقد اخرج الشافعي في القديم (¬1): عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن "أن زيادًا كتب إلى عائشة أن ابن عباس قال: من أهدى هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر، قالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) المعرفة (7/ 517).

بيده، ثم بعث بها مع أبي فلم يُحرَّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[شيء] (¬1) أحله الله له حتى نحو الهدي". هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬2). وقد أخرج المزني: عن الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: "اركبها" فقال: يا رسول الله، إنها بدنة، قال: "اركبها ويلك" في الثانية أو الثالثة". هذا حديث صحيح، أخرجه الجماعة إلا الترمذي (¬3). قال الشافعي: وإذا ساق الهدي فليس له أن يركبه إلا من ضرورة، وإذا اضطر إليه ركبه ركوبًا غير قادح، وليس له أن يشرب من لبنها إلا بعد ري فصيله. وهذا الحكم في ركوب الهدي قد أخرجه مسلم عن جابر (¬4). وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-: عن مالك، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر بعض هديه بيده، ونحر بعضه غيره". قال الشافعي: وينحر الإبل قيامًا غير معقولة، وأنا أحب عقل بعض قوائمها، وأحب أن يذبح النسيكة صاحبها أو يحضر الذبح، فإنه يرجى عند سفوح الدم المغفرة. وأخرج المزني: عن الشافعي، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي التياح، عن موسى بن سلمة، عن ابن عباس "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بثماني عشرة بدنة مع ¬

_ (¬1) من المعرفة. (¬2) الموطأ (1/ 277 رقم (51)، (البخاري (1700)، مسلم (1321) رقمه في الباب (369)، أبو داود (1758)، الترمذي (908)، النسائي (5/ 175). (¬3) الموطأ (1/ 304 رقم (139)، البخاري (1689)، مسلم (1322). أبو داود (1760)، النسائي (5/ 176). (¬4) مسلم (1324) ولفظ: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا".

رجل، فأمره فيها بأمر، فانطلق ثم رجع إليه، فقال: أرأيت إن أزحف علينا منها شيء؟، قال: "فانحرها ثم اصبغ نعليها في دمها، ثم اجعلها على صفحتها ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1) وأبو داود (¬2). وأخرج المزني (¬3): عن الشافعي، عن مالك، عن هشام، عن أبيه "أن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، كيف أصنع بما عطب من الهدي؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انحرها ثم الق قلادتها في دمها، ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها". وأخرجه أيضًا: عن سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن ناجية صاحب بدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث. قال الشافعي في الهدي الواجب: كل ما عطب منه دون الحرم فلم يبلغ مساكين الحرم فعليه بدله، وله أن يأكله ويبيعه لأنه قد خرج من أن يكون محرمًا فيما وجه له. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) مسلم (1325). (¬2) أبو داود (1763). (¬3) انظر المعرفة (7/ 530).

الباب الحادي عشر في الأضاحي

الباب الحادي عشر في الأضاحي أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان: أخبرنا عبد الرحمن بن حميد، عن سعيد بن المسَّيب، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره ولا من بشره شيئًا". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. أما مسلم (¬1): فأخرجه عن [ابن] (¬2) أبي عمر، عن سفيان بالإسناد واللفظ. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن محمد بن عمرو [عن عمرو] (¬4) بن مسلم الليثي، عن ابن المسيب، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي". وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن أحمد بن الحكم، عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن مالك بن أنس، عن عمرو أو عمر بن مسلم، عن ابن المسيب نحو أبي داود. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عن سفيان. ¬

_ (¬1) مسلم (1977). (¬2) من مسلم. (¬3) أبو داود (2791). (¬4) من أبي داود. (¬5) الترمذي (1523) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬6) النسائي (7/ 212).

العشر: هو عشر ذي الحجة، وإنما أنث اللفظ: لأنه أراد الليالي، تقول: هذه الليالي عشر ليالي وعشرة أيام، وتقول: عشر أوائل وعشر أواخر، وعشر أول وعشر أخر. فمن جمع الوصف: فلأن العشر جماعة من العدد، ومن وحد الوصف: فلأنه جعل الكلمة اسمًا لمدة من الزمان، كأنه جزأ الشهر ثلاثة أجزاء سمى كل جزأ منها عشرًا، وإنما جاء بالفاء في "فأراد"، وفي "فلا يمس": لأنه أراد التعقيب، كأن الإرادة كانت عقيب دخول العشر مقارنة لأول جزء منه، وكذلك فلا تمس لأن المنع من المس ينبغي أن يكون معقبًا للإرادة، فإنه مع اتصاف كونه مريدًا للتضحية، ينبغي أن لا يمس من شعره ولا بشره شيئًا, ولهذا المعنى دخلت الفاء في جواب الشرط. والبشر: جمع بشرة وهي ظاهر جلد الإنسان. اللمس والمس سواء في هذا المكان، وهو كناية عن حلق الشعر أو قصه، وقص الأظفار وهو المراد بالبشر فكنَّى عن ذلك بالمس، لأنه مس مخصوص بزيادة فعل. والذبح -بكسر الذال- المذبوح وهو المراد في هذا الحديث، وبالفتح الفعل. وفي رواية الشافعي لم يتعرض إلى انقضاء مدة المنع، إنما نهاه عن مس الشعر والبشر مطلقًا بعد دخول العشر. وفي رواية غيره أردفه بالأمد وتعيين مدة المنع، وهو قوله: "حتى يضحي" وذلك زيادة في البيان، والأول استغنى بدلالة اللفظ عليه، لأن تقديم ذكر التضحية وذكر دخول العشر يدل على أن الأمد: هو وقت التضحية وانقضاء العشر، ولأنه قال: "إذا دخل العشر" فكان حكم النهي مقترنًا بذكر العشر، وإذا تعلق حكم الشيء بأمد له منتهى؛ علم أن ذلك الحكم منتهاه منتهى ذلك الأمد، فلهذا، إن رواية الباقين لما كان الحكم فيها معلقًا بغير ذكر العشر مطلقًا

بهلال ذي الحجة، احتاج أن يصرح بقوله: "حتى يضحي" لأن أول وقت التضحية هو اليوم العاشر ثم إلى آخر أيام التشريق، فلو لم يتعرض إلى قوله: "حتى يضحي" لكان الوقت يمتد إلى آخر الشهر أو ما بعده. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن من دخل عليه عشر ذي الحجة فلا يحلق شعره ولا يقص ظفره حتى يضحي، فإن فعل ذلك كان مكروهًا. قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- لا يكره له ذلك. وقال أحمد (رضي الله عنه): يحرم عليه. قال الشافعي: فإن قال قائل: ما دل على أنه اختيار لا واجب؟ قيل له، روى عن مالك (¬1)، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة قالت: "أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحل الله له حتى نحر الهدي". قال: وفي هذا دلالة على ما وصفت، وعلى أن المراد لا يحرم بالبعثة بهديه، والبعثة بالهدى أكثر من إرادة التضحية. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن ابن عيينة، عن الأسود بن قيس قال: سمعت جندبًا البجلي يقول: "شهدت العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعلم أن ناسًا ذبحوا قبل الصلاة، فقال: "من كان منكم ذبح قبل الصلاة فليعد ذبحته، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) والنسائي (¬4). وأخرج الشافعي أيضاً: -من رواية المزني عنه:- عن مالك، عن يحيى بن ¬

_ (¬1) في المعرفة (14/ 22): [روى مالك]. (¬2) البخاري (5562). (¬3) مسلم (1960). (¬4) النسائي (7/ 214).

سعيد، عن عباد بن تميم أن عويمر بن أشقر ذبح ضحيته قبل أن يغدو يوم الأضحى، وأنه ذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يعود بضحية أخرى. وأخرج الشافعي أيضًا: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار "أن أبا بردة بن نيار ذبح قبل أن يذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى، فزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يعود بضحية أخرى، قال أبو بردة: لا أجد إلا جذعة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإن لم تجد إلا جذعًا فاذبحه". قال الشافعي: فاحتمل أن يكون إنما أمره أن يعود بضحية أن الضحية واجبة، واحتمل أن يكون أمره أن يعود إن أراد أن يضحي، لأن الضحية قبل الوقت ليست بضحية تجزئه، فيكون من عداد من ضحى، فوجدنا الدلالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الضحية ليست بواجبة لا يحل تركها، وهي سنة نحب لزومها ونكره تركها لا على إيجابها، فإن قيل: فأين السنة التي دلت على أن ليست بواجبة؟ قيل: أخبرنا سفيان، عن عبد الرحمن بن حميد. وذكر حديث أم سلمة المقدم ذكره، قال: وفي هذا الحديث: دلالة على أن الضحية ليست بواجبة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فأراد أحدكم أن يضحي"، ولو كانت ما الضحية واجبة أشبه أن يقول: ولا يمس من شعره حتى يضحي، قال: وبلغنا أن أبا بكر الصديق وعمر كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما فيظن من رآهما أنها واجبة، وعن ابن عباس "أنه جلس مع أصحابه ثم أرسل بدرهمين، فقال: اشتر بهما لحمًا، ثم قال: هذه أضحية ابن عباس". قال الشافعي: وقد كان قل ما يمر به يوم إلا نحر فيه أو ذبح بمكة، وإنما أريد بذلك مثل الذي روي عن أبي بكر وعمر ولا يعدو القول في الضحايا هذا أو أن تكون واجبة، فهي على كل أحد لا تجزئ غير شاة عن أحد. وهي عند الشافعي سنة مؤكدة مشروعة وليست بواجبة، وروي مثل ذلك عن أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وابن عباس وابن عمر وبلال. وإليه ذهب ابن المسيب وعطاء وعلقمة والأسود وأحمد وإسحاق وأبو ثور

واختاره المزني وابن المنذر. وقال ربيعة ومالك والثوري والأوزاعي والليث وأبو حنيفة؛ إنها واجبة. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين أملحين". وقد رواه المزني: عن الشافعي بهذا الإسناد أيضًا: قال أنس: وأنا أضحي بكبشين. وقد رواه المزني: عن الشافعي أيضًا. وذكر أملحين. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن آدم، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: "ضحى النبي بكبشين أملحين، فرأيته واضعًا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر، فذبحهما بيده". وقد أخرجه بهذا الإسناد عن عبد العزيز ولم يذكر أملحين. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن قتادة. وزاد: أقرنين. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام، عن قتادة مثل مسلم. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه مثل مسلم إسنادًا ولفظًا. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن شعبة، عن قتادة. ¬

_ (¬1) البخاري (558)، (5553). (¬2) مسلم (1966). (¬3) أبو داود (2794). (¬4) الترمذي (1494) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬5) النسائي (7/ 230).

ضحى يضحي تضحية: إذا ذبح شاة يوم النحر. والباء في "بكبشين" للإلصاق أي ألصق تضحيته بالكبشين. والأملح من الغنم: الذي في لونه سواد وبياض، وقيل: إذا كان بياضه أكثر من سواده، وقيل: هو النقي البياض، وقيل: الأبيض الذي ليس نقي البياض. والأقرن: الذي له قرن. والصفاح: جمع صفحة الخد أو العنق وهي جانبه. وقوله: "يسمي ويكبر" أي يقول: باسم الله، والله أكبر. والمستحب في ألوان الضحية: أن يكون أبيض، فإن لم يكن فأعفر: وهو الأغبر، فإن لم يكن فأبلق بسواد، فإن لم يكن فأسود. قال الشافعي: ومن ضحى فأقل ما يكفيه جذع الضأن أو ثني المعز أو الإبل والبقر، والإبل أحب إليَّ أن يضحى بها من البقر، والبقر أحب إليَّ أن يضحى بها من الغنم. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: الأفضل الجذع من الضأن ثم الثني من البقر. قال: وكل ما غلا من الغنم كان أحب مما رخص، وكل ما طاب لحمه كان أحب مما يخبث لحمه، فالضأن أحب إليَّ من المعز، والعفراء أحب إليَّ من السود، وإذا كانت الضحايا: إنما هو دم يتقرب به فخير الدماء أحب إليَّ. قال: فقد زعم بعض المفسرين أن قول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ} (¬1) استسمان الهدي، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الرقاب أفضل؟ قال: "أغلاها ثمنًا وأهلها". وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني (¬2) عنه-: عن عبد الوهاب، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن البراء بن عازب أن ¬

_ (¬1) الحج [32]. (¬2) انظر ما تقدم وما يأتي في المعرفة (14/ 27 - 28).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام يوم النحر خطيبًا فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: "لا يذبح أحد حتى يصلي" فقام خالي فقال: يا رسول الله، هذا يوم اللحم فيه مكروه وإني ذبحت نسكي وأطعمت أهلي وجيراني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد فعلت فأعد ذبحا" قال: عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم، فقال: "هي خير نسيك، لا يجزئ جذعة عن أحد بعدك". أخرجه الجماعة إلا مالكًا (¬1). قال: قوله: "هي خير نسيك" أنك ذبحتهما تنوي بهما نسكين فلما قدمت الأولى قبل وقت الذبح، كانت الآخرة هي النسيكة والأولى غير نسيكة وإن نويت بها النسيكة. وقوله: "لا تجزئ عن أحد بعدك" على أنها له خاصة. وقوله: "عناق لبن" يعني عناقًا تقتنى للبن لا لذبح. وقد أخرج المزني: عن الشافعي، أنس بن عياض، عن محمد بن أبي يحيى -مولى الأسلمين- عن أمه قالت: أخبرتني أم بلال بنت هلال، عن أبيها أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "يجزئ الجذع من الضأن". هكذا ذكره المزني عن (¬2) أبيها، وليس في الحديث ذكر أبيها، كذا رواه يحيى القطان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة". هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري. فأما مالك (¬3): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. ¬

_ (¬1) البخاري (5556)، مسلم (1961) أبو داود (2800)، الترمذي (1508) وقال: هذا حديث حسن صحيح، النسائي (7/ 222). (¬2) انظر المعرفة (14/ 28 - 29). (¬3) الموطأ (2/ 387 رقم (9).

وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن قتيبة ويحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن عبد الملك، عن عطاء، عن جابر قال: "كنا نتمتع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة عن سبعة ونشترك فيها". والبدنة من الإبل: ما تهدى إلى البيت أو يضحى به، وقد تقع البدنة على البقرة أيضًا. وقيل: بل هي اسم خاص للإبل. وهي من البدانة: السمن. وقوله: "نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" يريد أنهم نحروا وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أنهم كانوا شركاء في النحر، إنما أرادوا أنهم نحروا بدنهم ونحر النبي - صلى الله عليه وسلم - بدنه. قال الربيع: سألت الشافعي. هل يشتري السبعة جزورًا فينحرونها من هدي إحصار أو تمتع؟ قال: نعم. فقلت: وما الحجة في ذلك؟ فقال: أخبرنا مالك. وذكر هذا الحديث ثم قال: وإذا نحروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية بدنة عن سبعة وبقرة عن سبعة، فالعلم محيط أنهم من أهل بيوتات شتى لا من من أهل بيتٍ واحد، ثم قال الربيع (¬5): كان ينبغي أن يكون هذا العمل عندكم لا تخالفونه -يريد مالكًا وأصحابه- لأنه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وألف وأربعمائة من الصحابة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الجماعة يجوز لهم أن يشتركوا في البدنة والبقرة عن سبعة أنفس، وسواء كانوا متفرقين فرقًا مختلفة أو متفقة، وسواء كان بعضهم متقربًا وبعضهم زيد اللحم فإنه يجزى عن المتقرب، وبه قال أحمد. ¬

_ (¬1) مسلم (1318). (¬2) أبو داود (2809). (¬3) الترمذي (1502) وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬4) النسائي (7/ 222). (¬5) يعني عن الشافعي فالقول قوله وانظر المعرفة (7/ 518).

وقال مالك: لا يجوز الاشتراك في الهدى الواجب. وقال أبو حنيفة: إن كانوا متقربين صح اشتراكهم، وإن كانوا غير متقربين أو بعضهم متقرب لم يجز. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك أن أبا أيوب الأنصاري قال: "كان الرجل يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهله، ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة". أخرجه مالك في الموطأ (¬1): عن عمارة بن صياد، عن عطاء ابن يسار، عن أبي أيوب. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الزبير، عن جابر ابن عبد الله "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ثم قال لهم: كلوا وتزودوا وادخروا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي. أما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد وزاد فيه: وتصدقوا. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن جابر قال: "كنا نتزود لحوم الأضاحي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة. وقال غير مرة: من لحوم الهدي". وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك إسنادًا ولفظًا. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. الضحايا: جمع ضحية، بوزن قبيلة وفي الضحية ثلاث لغات: أضحية - ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 387 رقم (10). (¬2) الموطأ (2/ 385 رقم (6). (¬3) البخاري (5567). (¬4) مسلم (19729). (¬5) النسائي (7/ 233).

بضم الهمزة-، وإضحية -بكسرها- ويجمعان على أضاحي بتشديد الياء، وأضحاة وتجمع على أضحى بوزن أرضى وبها سمي يوم الأضحى. قال الفراء: الأضحى يذكر ويؤنث فمن ذكَّر أراد اليوم، ومن أنَّث ذهب إلى اللفظ. وقوله: "بعد ثلاث" يريد: ثلاث ليال من يوم التضحية. والتزود: تفعل من الزاد يتخذ للسفر والحضر جميعًا، وكل من انتقل معه بخير أو شر من عمل أو كسب فقد تزودوا، ومنه قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (¬1). والإدخار: افتعال من دخرت الشيء أدخره دخرا، وافتعلت منه هو: اذخرت فلما اجتمع الذال والتاء وهما متقاربان وفي النطق بهما كلفة ومشقة، فأرادوا أن يدغموا أحدهما في الآخر ليخف النطق بهما، فقلبوا الذال المعجمة دالاً مهملة فتصير دالاً مهملة مشددة وهو الأكثر. والثاني: أن يقلبوا المهملة معجمة فتصير ذالاً مشددة معجمة. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه يستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته. وذهب قوم: إلى أن الأكل واجب لقوله تعالى: "فَكُلُوا مِنْهَا" وهذا أمر. وهذا يرجع الكلام فيه إلى أن لفظ الأمر هل هو على الوجوب أم لا؟ وفي ذلك خلاف بين الأئمة مذكور في أصول الفقه. والكلام في الأكل في أمرين:- أحدهما: في الجائز: والثاني: في المستحب. أما الجواز: فله أن يأكل أكثرها ويتصدق بجزء منها وإن قل. قال ابن سريع وابن القاص: يجوز له أكل جميعها. وأما المستحب: فقال في القديم: يأكل النصف، ويتصدق بالنصف. وقال في الجديد: يأكل الثلث، ويتصدق بالثلث، ويهدي الثلث. ¬

_ (¬1) البقرة: 197.

وأما الإدخار: فإنه جائز، وهذا جميعه في الأضحية المسنونة. فأما إذا أوجب ضحية بنذر فهل يجوز له الأكل منها؟ فيه وجهان. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد بن عبد الله أنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث"، قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة، فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دف ناس من أهل البادية حضره الأضحى في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادخروا لثلاث وتصدقوا بما بقي". قالت: فلما كان بعد ذلك، قيل: يا رسول الله، لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم، يجملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ أو كما قال قالوا: يا رسول الله، نهيتنا عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت حضرة الأضحى، فكلوا وتصدقوا وادخروا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالأسناد. وزاد في آخره: يعني بالدافة: قومًا مساكين قدموا المدينة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن إسماعيل بن عبد الله، عن أخيه، عن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة. وفي أخرى (¬3): عن محمد بن يوسف، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن عابس، عن أبيه، عن عائشة. وذكر معناه. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 386 رقم (7). (¬2) البخاري (5570). (¬3) البخاري (5423).

أما مسلم (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، عن روح، عن مالك. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأول حديثه قالت عمرة: سمعت عائشة. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عابس بن ربيعة، عن عائشة بمعناه. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، عن مالك. والدف: الدبيب وهو السير اللين، يقال: دفت علينا من بني فلان دافة أي جماعة دبوا إلينا وقدموا علينا. والبادية: البدو خلاف الحضر، والبداوة: الإقامة في البادية. وحضره الشيء: قربه وفناؤه. وجملت الشحم أجمله جملًا واجتملته: إذا أذبته، وربما قالوا: أجملته، حكاه الجوهري عن أبي عبيد. والودك -بفتح الدال-: دسم اللحم. والأسقية: جمع سقاء وهو الظرف من الجلود يتخذ للماء واللبن، والجمع القليل: أسقية وأسقيات، والكثير: أساق وفي رواية الشافعي: ينتفعون من ضحاياهم، وفي رواية غيره: ينتفعون بها، ورواية الشافعي أوضح: لأن انتفاعهم الذي نهاهم عنه إنما كان للإدخار، وجمل الودك واتخاذ الأسقية هو من جملة الإدخار وذلك بعض الضحايا فكأن قوله: ينتفع من الضحايا صريحًا في المعنى، وأما قوله: ينتفع فظاهره أن انتفاعه بها لا منها، لأن قوله: "بها" يعم الانتفاع بجميعها، فكذلك قوله: نهيت عن أكل لحوم الأضاحي، والأول ¬

_ (¬1) مسلم (1971). (¬2) أبو داود (2812). (¬3) الترمذي (1511). (¬4) النسائي (7/ 235).

أولى لتصريحه بذكر الأكل. وهذا الحديث يخالف حديث جابر، لأن حديث جابر يدل على أنه نهاهم عنها نهيًا عامًّا، ثم أمرهم بأكلها وإدخارها فكان أمره ناسخًا لنهيه. وأما هذا الحديث: فإنه يدل على نهيه سنة واحدة لأجل الدافة لا أنه نهاهم عنها نهيًا مطلقًا، فلا يكون أمره بالنهي والإدخار ناسخًا إنما يكون مفسرًا لما كانوا أظهره نهيًا مطلقًا. قال الشافعي: الحديث التام المحفوظ أوله وآخره وسبب التحريم والإحلال فيه، حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى من علمه أن يصير إليه. قال: فالرخصة بعدها لواحد من المعنيين، أظنه إما لاختلاف الحالتين، فإذا دفت الدافة ثبت النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث وإذا لم تدف دافة فالرخصة ثابتة بالأكل والتزود والإدخار والصدقة. ويحتمل: أن يكون النهي عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، منسوخًا في كل حال فيمسك الإنسان من ضحيته ما شاء ويتصدق بما شاء. قال: ويشبه أن يكون نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إمساك لحوم الضحايا بعد ثلاث، إذا كانت الدافة على معنى الاختيار واحتج بقوله -عز وجل-: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} (¬1). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة قال: سمعت أنس بن مالك يقول: "إنا لندع ما شاء الله من ضحايانا، ثم نتزود من بقيتها إلى البصرة". قال: وأحب لمن أهدى نافلة أن يطعم البائس الفقير، لقول الله -عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (1)، ويقول الله: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (¬2) قال: والقانع: هو السائل، والمعتر: هو الزائر والمار بلا وقت. ¬

_ (¬1) الحج: 28. (¬2) الحج: (29).

قال: فإذا أطعم من هؤلاء [واحدًا] (¬1) أو أكثر كان من المطعمين، وأحب إلى [إلى] (¬2) ما أكثر وأن يطعم ثلثًا، ويهدي ثلثًا، يهبط به حيث يشاء، والضحايا في هذه السبيل، والله أعلم. وقوله: "ما شاء الله" يريد به: التكثير وأن ذلك معتاد عندنا وكثير لدينا وعادتنا به جارية، وهذا اللفظ يستعمل في اللفظ الذي يراد به المبالغة فيما يحكى عنه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي عبيد -مولى ابن أزهر- قال: "شهدت العيد مع علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- فسمعته يقول: لا يأكلن أحدكم من نسكه بعد ثلاث". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن معمر، عن الزهري، عن أبي عبيد، عن علي -عليه السلام- أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "لا يأكلن أحدكم من نسكه بعد ثلاث". هذا طرف من حديث طويل أخرجه مالك (¬3) عن ابن شهاب بطوله، يتضمن ذكر صوم يوم العيد وصلاته. وقد أخرجه البخاري (¬4) عن حبان بن موسى، عن عبد الله، عن يونس، عن الزهري. فذكر الحديث فقال في آخره: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاكم أن تأكلوا لحم نسككم فوق ثلاث". وأخرج أيضًا مسلم (¬5): عن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان بالإسناد الحديث، فقال في آخره: نهانا أن يأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث. وهذا الحديث ذكره الشافعي والذي قبله في كتاب "الرسالة" (¬6) وقد تقدم القول على هذا الحكم في حديث جابر وعائشة بما فيه كفاية. ¬

_ (¬1) من المعرفة (14/ 59). (¬2) تكررت في الأصل. (¬3) الموطأ (1/ 161) رقم (5). (¬4) البخاري (5571). (¬5) مسلم (1969). (¬6) الرسالة (رقم 659، 660).

وأخرج الشافعي -في كتاب حرملة (¬1) -: عن الثقفي، عن الجريري، عن أبي نضرة عن الخدري قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا أهل المدينة، لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث" قال: فشكوا إليه قالوا: عيالنا وأهلنا؟ قال: "فكلوا وأطعموا واحبسوا". وأخرج الشافعي -في سنن حرملة (¬2) -: عن مالك، عن عمرو بن الحارث، عن عبيد بن فيروز، عن البراء بن عازب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل ماذا يتقى من الضحايا، فأشار ييده وقال: "أربعًا" -وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم --: "العرجاء البين ظلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البينِّ مرضها، والعجفاء التي لا تُنْقى". ومما جرت العادة أن يذكر بعد التضحية العقيقة والفرع والعتيرة. وقد أخرج الشافعي فيها أحاديث فمن جملتها: ما أخرجه المزني (¬3): عن الشافعي (رضي الله عنهما)، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز قالت: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية أسأله عن لحوم الهدي، فسمعته [يقول] (¬4): عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة , لا يضركم ذكرانًا كن أو إناثًا", وسمعته يقول: "أقروا الطير في وكناتها" (¬5). وهكذا رواه الطحاوي عن المزني، وقد أخرجه المزني في المختصر عن الشافعي، عن ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن سباع بن وهب، عن أم كرز. قال البيهقي: في هذه الرواية خطأ من وجهين:- ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (14/ 55). (¬2) المعرفة (14/ 31 - 33). (¬3) السنن المأثورة (414). (¬4) في الأصل [يعق] والمثبت من السنن المأثورة، وكذا في المعرفة (14/ 66 - 67). (¬5) كذا لفظه في الأصل وفي المعرفة والسنن المأثورة (على مكناتها) وانظر تفسيره في السنن.

أحدهما: قوله: عن عبيد الله، عن سباع بن وهب، وابن عيينة إنما رواه عن عبيد الله، عن أبيه، عن سباع. والثاني: قوله: سباع بن وهب، وإنما هو سباع بن ثابت وكل أصحاب سفيان إنما رووه عنه مثل الرواية الأولى. وهذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1) والترمذي (¬2) والنسائي (¬3). وقد أخرج المزني (¬4) أيضًا: عن الشافعي، عن سفيان [عن] (¬5) عاصم، عن صفحة بنت سيرين، عن الرباب، عن سلمان بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬6) وأبو داود (¬7) والترمذي (¬8) والنسائي (¬9). قال الشافعي: وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه عق عن الحسن والحسين وحلق شعورهما، وتصدقتْ فاطمةُ بزنته فضة". قال: والعقيقة ذبح كان يذبح في الجاهلية عن المولود، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإِسلام وقد كره منه الاسم. وأخرج الشافعي (رضي الله عنه): عن مالك، عن يحيى بن سعيد قال: سمعت محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي يقول: "تستحب العقيقة ولو ¬

_ (¬1) أبو داود (2835). (¬2) الترمذي (1516)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬3) النسائي (7/ 165). (¬4) السنن المأثورة (595). (¬5) من السنن. (¬6) البخاري (5471). (¬7) أبو داود (2839). (¬8) الترمذي (1515)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. (¬9) النسائي (7/ 164).

بعصفور. قال مالك: ليس عليه العمل. وإنما أورده الشافعي إلزامًا لمالك فيما ترك من قول أهل المدينة. وقال الشافعي: في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقروا الطير على مكناتها" أن علم العرب كان في الطير والبوارج والخط والاعتياف، فكان أحدهم إذا غدا من منزله يريد أمرًا نظر أول طائر يراه فإن سبح عن يساره واختال عن يمينه قال: هذا طير الأيامن ومضى في حاجته ورأى أنه سيستنجحها، وإن سبح عن يمينه ومر عن يساره، قال: هذا طير الأشائم فرجع وقال: هذه مشؤومة، قال الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري: لا يزجر الطير سُنُحًا إن عرضن له ... ولا يفيض على قسم بأزلام يعني أنه سلك طريق الإِسلام في التوكل على الله، وترك زجر الطير. وقال بعض الشعراء العرب يمدح نفسه: ولا أنا يزج الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب قال: وكان العربي في الجاهلية إذا لم ير طير سانحًا، فرأى في وكره حرَّكه من وكره ليطير فينظر أسلك له طريق الأشائم أم طريق الأيامن، ويشبه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقروا الطير على مكناتها" أي لا تحركوها فإن تحريكها وما يعلمون به من الطير لا يصنع شيئًا، وإنما يصنع فيما يوجهون به قضاء الله -عز وجل- وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الطيرة، فقال: "إنما ذلكم شيء تجدونه في أنفسكم ولا يصدنكم". وأخرج الشافعي: عن عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح، عن نبيشة قال: "سأل رجل - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنا كنا نعتر عتيرة في رجب، فما تأمرنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذبحوا لله في أي شهر ما كان،

وبروا لله وأطعموا". إنا كنا نفرع فرعًا في الجاهلية، فما تأمرنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استجمل ذبحته وأطعمته، فإن ذلك هو خير". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1) والنسائي (¬2). وأخرج الشافعي -في كتاب حرملة (¬3) -: عن سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا فرعة ولا عتيرة". قال الزهري: الفرعة: أول النتاج، والعتيرة: شاة تذبح عن كل أهل بيت في رجب. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬4) ومسلم (¬5) وأبو داود (¬6) والترمذي (¬7) والنسائي (¬8). قال الشافعي -في تفسير الفرعة-: هو شيء كان أهل الجاهلية يطلبون به البركة في أموالهم، فكان أحدهم بكر ناقته يعني أول نتاج يأتي عليه لا يغذوه رجاء البركة، فيما يأتي بعده، فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "فرعوا إن شئتم" وكانوا يسألونه عما كانوا يصنعونه في الجاهلية خوفاً أن يكره في الإِسلام، فأعلمهم أنه لا مكره لهم فيه، وأمرهم أن يغذوه ثم يحملوا عليه في سبيل الله أو يذبحه ويطعمه. قالوا: والفرعة حق -يعني: أنها ليست بباطل- ولكنه كلام عربي يخرج ¬

_ (¬1) أبو داود (2830). (¬2) النسائي (7/ 169، 170). (¬3) المعرفة (14/ 73). (¬4) البخاري (5473، 5474). (¬5) مسلم (1976). (¬6) أبو داود (2831). (¬7) الترمذي (1512) وقال: حديث حسن صحيح. (¬8) النسائي (7/ 167).

على جواب السائل. وقوله: لا فرع ولا عتيرة ليست باختلاف من الرواة لهما، لا فرع ولا عتيرة واجبة، والحديث الآخر يدل على معنى هذا، أنه أباح الذبح واختار له أن يعطيه أرملة أو يحمل عليه في سبيل الله. والعتيرة: هي الرجبية وهي ذييحة كان أهل الجاهلية يتقربون بها يذبحونها في رجب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا عتيرة" على معنى لا عتيرة لازمة. وقوله حين سئل عن العتيرة: "اذبحوا لله في شهر ما كان وبروا وأطعموا" أي اذبحوا إن شئتم واجعلوا الذبح لله لا لغيره في أي شهر ما كان، إلا أنها في رجب دون ما سواه من الشهور. والله أعلم. ***

الباب الثاني عشر في أحاديث متفرقة تتعلق بالحج

الباب الثاني عشر في أحاديث متفرقة تتعلق بالحج أخبرنا الشافعي "رضي الله عنه": أخبرنا القداح، عن الثوري، عن زيد بن جبير قال: "إني لعند عبد الله بن عمر وسئل عن هذه فقال: هذه حجة الإِسلام، فليلتمس يقضي نذره". يعني فيمن كان عليه الحج ونذر حجًّا. هذا الحديث مسوق لمن كان نذر أن يحج ولم يكن قد قضى حجة الإِسلام، فإذا أجرم بالحج وإلى أي الأمرين ينصرف. والذي ذهب إليه الشافعي: أن حجة الإِسلام تقدم على النذر وعلى النافلة، فإن أحرم عن النذر [] (¬1) عن النفل انعقد إحرامه عن حجة الإِسلام. وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا أحرم بالنفل وعليه حجة الإِسلام وقع عن النفل. والواو في "سئل" واو الحال وقد [جاء] (¬2) بعدها مضمر تقديره: لعنده وقد سئل. وقوله: "وسئل عن هذه" ولم يبين في اللفظ إلى ما أشار بها اعتمادًا على فهم الحال الحاضرة، وقتئذ كان سائلاً سأله وقد أحرم بحجة، فقال الراوي: كنت عنده وقد سئل عن هذه أي: عن هذه الحجة، أو أن الراوي قد كان عند قوم وقد جرى حديث من عليه نذر حجة ولم يحج حجة الإِسلام، فإذا أحرم بحجة ما حكمه؟ فقال الراوي: كنت عند ابن عمر وسئل عن هذه، أي هذه القضية التي جرى السؤال عنها، فقال: كيت وكيت، وكذلك قال في آخر ¬

_ (¬1) بياض بالأصل قدر كلمة. (¬2) أثبتها ليستقيم السياق.

الحديث يعني فيمن كان عليه الحج ونذر حجًا. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي - رضي الله عنه- أخبرنا الدراوردي، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن [أمه قالت] (¬1): بينما نحن بمنى وإذا علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- على جمل يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن هذه أيام طعام وشراب، فلا يصومن أحد" فاتبع الناس وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك. متن هذا الحديث صحيح، أخرجه الجماعة إلا البخاري، عن جماعة من الصحابة غير علي منهم: عقبة بن عامر وعبد الله بن حذافة ونبيشة الهذلي وكعب بن مالك وبشر بن سحيم، نحو هذه الألفاظ باتفاق المعنى (¬2). قوله: "أيام طعام وشراب يريد أيام يطعم الناس فيها ويضربون، فأضاف الأيام إلى الطعام والشراب إضافة تخصيص. وقوله: "يصرخ فيهم بذلك" أي يناديهم رافعًا صوته بهذا الكلام. قوله: "فاتبع الناس" أي يتبعهم في أماكنهم وطاف عليهم. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن صوم أيام التشريق حرام في الحج وغيره وإن صامها لم يصح صومه، وإن نذر صومها لم ينعقد نذره. وقال أبو حنيفة: صومها حرام ولكن ينعقد النذر ويلزمه أن يصوم غيرها. وقال في القديم: يجوز للمتمتع صومها. وبه قال مالك. وقال في الجديد: لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لأهل السقاية من أهل ¬

_ (¬1) في الأصل [أبيه قال] وهو تصحيف والمثبت من المسند المطبوع مع الأم (423)، وكذا في المعرفة (6/ 364). (¬2) انظر الموطأ (1/ 302 - 303)، ومسلم (1141، 1142) وأبو داود (8/ 24، 2419)، والترمذي (773) والنسائي في الكبرى (2891 - 2903).

بيته أن يبيتوا بمكة ليالي منى. رواه أبو أسامة وابن نمير وأنس بن عياض، عن عبيد الله أن العباس استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالى منى من أجل سقايته فأذن له. وقد أخرج حديث العباس: البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3). السقاية -بكسر السين-: ما كان العباس بن عبد المطلب يسقيه الحاج من الأنبذة المتخذة من التمر والذبيب وغيرهما، وهي الحلال التي لا تسكر، وهي مصدر سقي يسقى سقاية. وقوله: "من أهل بيته" يريد العباس وأهله فإنهم كانوا أهل السقاية، وقد صرح بذلك في حديث العباس. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن أهل السقاية يجوز لهم ترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وحكمهم حكم الذين رخص لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ترك المبيت بها، فأما من له عذر من مرض بمكة ليشق عليه المبيت بمنى أو له مال بمكة يخاف عليه، ففي جواز ترك المبيت وجهان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم، عن ابن جريج عن عطاء مثله. وزاد عطاء: من أجل سقايتهم. هذا الحديث مرسل، أخرجه مؤكدًا الحديث قبله. وقوله: "من أجل سقايتهم" هي علة جواز ترك المبيت فإن قوله: "رخص لأهل السقاية أن يبيتوا بمكة" لا يفهم منه أن علة الجواز هي السقاية، إلا على نوع من الاستنباط يفهم من قوله: "لأهل السقاية". ¬

_ (¬1) البخاري (1743). (¬2) مسلم (1315). (¬3) أبو داود (1959).

ولقائل أن يقول: إن هذه الإضافة إلى السقاية، إنما ذكرها ليعرف الذين رخص لهم لا يتبين أن الرخصة لأجلها، كما لو قال: رخص لآل فلان أن يبيتوا بمكة ليالي منى، فيكون قد عرف من لفظه من هو المرخص له لا سبب الرخصة. وأما قوله: "من أجل سقايتهم" فإنه صريح في تعريف علة الرخصة. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر "كان يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمحصب، ثم يدخل مكة من الليل فيطوف بالبيت". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). وكان ابن عمر يرى المحصب سنة، قال نافع: "قد حصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء بعده". وأخرج الشافعي -في سنن حرملة-: عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: "إنما كان منزلاً نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أسمح لخروجه". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4) وأبو داود (¬5). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان، عن صالح بن كيسان سمع سليمان بن يسار يحدث عن أبي رافع -مولي النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا ضربت قبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل -يعني بالأبطح -وهو المحصب". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬6) وأبو داود (¬7). المحصب: ها هنا عبارة عن الأبطح وليس المحصب الذي بمنى. والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري (1764). (¬2) مسلم (1310) (¬3) البخاري (1765). (¬4) مسلم (1311). (¬5) أبو داود (2008). (¬6) مسلم (1313). (¬7) أبو داود (2009).

الباب الثالث عشر في ذكر المحرمين

الباب الثالث عشر في ذكر المحرمين قال الشافعي -رضي الله عنه- قال الله -تبارك وتعالى-: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬1). قال: المثابة في كلام العرب: الموضع الذي يثوب الناس إليه ويئوبون أي يعودون إليه بعد الذهاب عنه، وقد يقال: ثاب إليه: اجتمع إليه. والمثابة: الاجتماع، ويثوبون: يجتمعون إليه راجعين بعد ذهابهم عنه ومبتدئين، قال ورقة بن نوفل وذكر البيت: مثاب الأفناء القبائل كلها ... تُخبّ إليه اليعملات الذوامل قال خداش بن زهير: فما برحت بنو بكر تثوب وتدعي ... ويلحق منهم أولون وآخر قال الشافعي: وقال الله تعالى-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (¬2). يعني -والله أعلم-: آمنا من صار إليه لا يتخطف اختطاف من حولهم. وقال الله تعالى -لإبراهيم -خليله عليه السلام-: {وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (¬3). ¬

_ (¬1) البقرة: 125. (¬2) العنكبوت: 67. (¬3) الحج: 27.

قال وسمعت من أرضى من أهل العلم يذكر أن الله -تبارك وتعالى-، لما أمر بهذا إبراهيم -عليه السلام- وقف على المقام فصاح صيحة: عباد الله أجيبوا داعي الله، فاستجاب له حتى من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فمن حج البيت بعد دعوته فهو ممن أجاب دعوته ووافاه من وافاه، يقول: لبيك داعي ربنا لبيك. قال الله -جل ثناؤه-: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1). فكان دلالة كتاب الله فينا وفي الأمم على الناس مندبون إلى إتيان البيت الحرام. قال الله -تعالى-: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (¬2)، وقال: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}. قال: فكان مما ندبوا به إلى إتيان الحرم بالإحرام وروي عن ابن أبي لبيد، عن أبي سلمة قال: لما أهبط الله آدم -عليه السلام- من الجنة [طأطأه، فشكى الوحشة إلى أصوات الملائكة] (¬3)، فقال: يا رب، مالي لا أسمع حس الملائكة؟ قال: "خطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فإن لي بيتًا بمكة فأته، فافعل حوله نحو ما رأيت الملائكة يفعلون حول عرشي"، فأقبل يتخطى موضع كل قدم قرية وما بينهما مفازة، فلقيته الملائكة بالردم، فقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال الشافعي: ويحكى أن النبين (صلوات الله عليهم أجمعين) كانوا يحجون، فإذا جاءوا الحرم مشوا إعظامًا له ومشوا حفاة، ولم يحك لنا عن أحد ¬

_ (¬1) آل عمران: 97. (¬2) البقرة: 125. (¬3) من الأم (2/ 141).

من النبيين والأمم الخاليين، أنه جاء البيت أحد قط إلا حرامًا, ولم يدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة- علمناه إلا حرامًا، إلا في حرب الفتح، فبهذا قلنا أن سنة [الله] (¬1) في عباده ألا يدخلوا الحرم إلا حرامًا، إلا أن من أصحابنا من أرخص للحطابين ومن مدخله إياها لمنافع أهلها. ثم علق القول فيهم وقطع في الإملاء بالرخصة لهم. قال: وأكره لكل من دخل مكة من الحل -من أهلها وغير أهلها- أن يدخلها إلا محرما وإن كثر اختلافه، إلا للذين يدخلونها في كل يوم من خدم أهلها الحطابين وغيرهم، فإني أرخص لأولئك أن يدخلوها بغير إحرام، ويحرمون في بعض السنة إحرامًا واحداً، ولو أحرموا أكثر منه كان أحب إلي. قال: ومن المدنيين من قال: لا بأس أن يدخلوا بغير إحرام واحتج بأن عمر دخل مكة غير محرم، قال: وابن عباس يخالفه. وأخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي الشعثاء أنه رأى ابن عباس يرد من جاوز الميقات غير محرم. قال: ومن دخل مكة خائفًا لحرب فلا بأس. أي هذا يدخلها بغير إحرام. وأخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اقتلوه". قال مالك: ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ محرمًا. قال الشافعي -رضي الله عنه- حرم الله -تعالى- مكة، ثم أبان رسول ¬

_ (¬1) من الأم (2/ 141).

الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله -تبارك وتعالي-، أنه حرم ما كان منها من صيد وشجر، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يعضد شجرها ولا يختلي خلاها, ولا ينفر صيدها" قال: وأي صيد قتله حلال في بلد بعد مكة أو شجر قطعه فلا جزاء عليه، ويكره أن يقتله أو يقطع الشجر بالمدينة وكذلك يكره بوج من الطائف. قال في كتاب حرملة (¬1): أخبرنا سفيان قال: حدثنا زياد بن سعد، عن شرحبيل بن سعد قال: دخل علينا زيد بن ثابت حائطًا ونحن غلمان ننصب فخاخًا للطير فطردنا، وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم صيدها. قال: ولا بأس أن يرعى من نبات الحرم شجره ومرعاه، ولا خير في أن تحتش منه شيء لأن الذي حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة أن يختلي خلاها إلا الإذخر، والاختلاء والاحتشاش نتفًا وقطعًا، وحرم أن يعضد شجرها ولم يحرم أن يرعى. قال: ولا خير في أن يخرج منها شيء إلى الحل لأن له حرمة مباين بها ما سواها من البلدان، فلا أرى -والله أعلم- أن جائزًا لأحد أن يزيله من الموضع الذي باين به البلدان إلى أن يصيره بغيره. وبلغنا عن ابن أبي ليلى، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس وابن عمر أنهما كرها أن يخرج من تراب الحرم وحجارته إلى الحل شيء. قال الشافعي -رضي الله عنه- وأخبرنا عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم الأزرقي، عن أبيه، عن عبد الأعلى، عن عبد الله بن عامر قال: قدمت مع ¬

_ (¬1) المعرفة (7/ 439).

أمي -أو قال جدتي- مكة فأتتها صفية بنت شيبة فأكرمتها وفعلت لها، فقالت صفية: ما أدري ما أكافئها به، فأرسلت إليها بقطعه من الركن فخرجنا بها، فنزلنا أول منزل -فذكر من مرضهم وعلتهم جميعًا- قال: فقالت أمي -أو جدتي-: ما أرانا أتينا إلا أنَّا أخرجنا هذه القطعة من الحرم، فقالت لي -وكنت أمثلهم-: انطلق بهذه القطعة إلى صفية فردها وقل لها: إن الله قد وضع في حرمه شيئًا فلا ينبغي أن يخرج منه. قال عبد الأعلى: فقالوا لي: فما هو إلا أن تحينا دخولك الحرم، فكأنما أنشطنا من عقل. قال الشافعي (رضي الله عنه) في كتاب النذور: وأحب إليَّ لو نذر المشي إلى مسجد المدينة أن يمشي، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: إلي مسجدي هذا، والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس". قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي قباء راكبًا وماشيًا. وقد أخرج الشافعي (رضي الله عنه) في سنن حرملة: عن سفيان، عن صالح بن كيسان، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قفل من حج أو عمرة أو غزو فأوفى على فدفد من الأرض، قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون -إن شاء الله تعالى- عابدون لربنا حامدون، وصدق الله وحده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". وأخبرنا سفيان، عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر. يعني بذلك ولم يقل: إن شاء الله.

قال الشافعي: وهكذا نحب لكل من قدم من سفر ما كان اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. تم كتاب الحج وهو آخر الثالث وآخر ربع العبادات من كتاب الشافي في شرح مسند الإِمام الشافعي رضوان الله عليه غفر الله لمؤلفه، وشارحه، وكاتبه وصاحبه، وجميع المسلمين وكان الفراغ من نسخه ليوم الأحد تمام شوال سنة أربع وثلاثين وسبعمائة والحمد لله وحده ويتلوه في الرابع كتاب البيوع إن شاء الله ***

الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ مَجْد الدِّيْن أبي السَّعادَاتْ: المبارَكْ بْن محمَّد بْن عَبْد الكريم الجزْريْ تحقيقْ أحمَدْ بْن سُليمان أبي تميم يَاسر بْن إبْراَهيَّم الجزْءُ الرَابْع مَكتَبةَ الرُّشْدِ نَاشِروُنْ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشَّافِي فيْ شَرْح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثِيرْ مَجْد الدِّيْن أبي السَّعادَاتْ: المبارَكْ بْن محمَّد بْن عَبْد الكريم الجزْريْ

جميْع الحقوقْ محفوظة الطَّبْعَةُ الأولى 1426هـ - 2005مـ مَكتَبةَ الرُّشْدِ نَاشِروُنْ المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 هاتف 4593451 فاكس 4573381 Email:[email protected] Website:www.rushd.com * فرع طريق الملك فهد: الرياض - هاتف 2051500 فاكس 2052301. * فرع مكة المكرمة: هاتف 5585401 فاكس 5583506. * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - هاتف 8340600 فاكس 8383427. * فرع جدة: ميدان الطائرة - هاتف 6776331 فاكس 6776354. * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - هاتف 3242214 فاكس 3241358. * فرع أبها: شارع الملك فيصل - تلفاكس 2317307. * فرع الدمام: شارع الخزان - هاتف 8150566 فاكس 8418473. وكلاؤنا في الخارج القاهرة: مكتبة الرشد - ت 2744605. بيروت: دار ابن حزم هانف 701974. المغرب: الدار البيضاء - وراقة التوفيق - هاتف 303162 فاكس 303167. اليمن: صنعاء - دار الآثار - هاتف 603756. الأردن: عمان - الدار الأثرية 6584092. البحرين: مكتبة الغرباء - هاتف 957833 - 945733. الإمارات: مكتبة دبي للتوزيع هاتف 43339998 فاكس 43337800. سوريا: دار البشائر 231668. قطر: مكتبة ابن القيم - هاتف 4863533.

كتاب البيع

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كتاب البيع ويشتمل على ستة أبواب الباب الأول فيما لا يجوز بيعه وما لا يصح وفيه ستة فصول الفصل الأول في بيع الثمار قبل أن [يبدو] (¬1) صلاحها أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها؛ نهى البائع والمشتري". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عبيد الله بن دينار، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " يعني بنحوه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن عثمان بن عبد الله بن سراقة، عن عبد الله بن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، قال عثمان: فقلت لعبد الله: متى ذلك؟ قال: طلوع الثريا". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة، أما مالك (¬2) فأخرج الرواية الثانية إسنادًا ولفظًا. ¬

_ (¬1) في "الأصل": يبدوا، والصواب حذف الألف من آخره. (¬2) الموطأ (1281).

وأما البخاري (¬1) فأخرج الثانية عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬2) فأخرج الثانية عن يحيى بن يحيى، عن مالك، وأخرج الثالثة عن يحيى بن أيوب، ويحيى بن يحيى، وقتيبة، وابن حُجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الثمر حتى [يبدو صلاحه] " (¬3). زاد في رواية: "فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟ قال تذهب عاهته". وأما أبو داود (¬4) فأخرج الثانية عن القعنبي عن مالك. وأما الترمذي (¬5) فأخرج عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخل حتى يزهو". وأما النسائي (¬6) فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، وأخرجه أيضًا (¬7) عن قتيبة، عن الليث، عن نافع، عن ابن عمر. "يبدو": يظهر، بدا يبدو بُدُوًّا مثل قعَد يقعد قعودًا، وصلاح الثمار: نضجها وبلوغها؛ وقد جاء في الرواية الرابعة من روايات الشافعي موضع ظهور الصلاح: ذهاب العاهة، وفسرها في رواية مسلم بظهور الصلاح، وذلك مناسب؛ فإن الصلاح ضد الفساد، والعاهة نوع من الفساد فإذا [ذهبت] (¬8) ¬

_ (¬1) البخاري (2194). (¬2) مسلم (1534). (¬3) في "الأصل": (يبدوا صلاحها) والألف زائدة في كلتا الكلمتين والمثبت من صحيح مسلم. (¬4) أبو داود (3367). (¬5) الترمذي (1226). (¬6) النسائي (7/ 262 رقم 4520). (¬7) النسائي (7/ 262 رقم 4519). (¬8) في "الأصل": ذهب على التذكير.

عاهة الثمر وأمنت من الفساد، ولم يعرض [لها] (¬1) ما يمنعها من النضج والبلوغ فقد صلحت. "وزها" الثمر يزهو إذا ظهرت به أمارة النضج، يقال: إذا ظهرت الحمرة والصفرة في ثمر النخل فقد ظهر فيه الزهو، ويطلقون الزهو على البسْر الملوّن، وأهل الحجاز يقولون: الزُّهْو بضم الزاي، وقد زها النخل زهوًا، وأزها لغة، وهو من الزهو: المنظر الحسن؛ كأن [الثمرة] (¬2) قد ظهر حسنها وجميل منظرها. وقوله: "طلوع الثريَّا" تعليق لبدو الصلاح بطلوع الثريا، وهو وقت مخصوص جريًا على عادة العرب. قال الأزهري: قال طبيب العرب: اضمنُوا لي ما بينْ غروب الثريَّا إلى طلوعها؛ أضمن لكم سائر السنة. وفي تفسير ابن عمر بذلك نظر؛ فإن طلوع الثريا وإن كانت في وقت واحد من السنة إلا أن البلاد تختلف ويختلف حكم نضج ثمارها بسبب الحر والبرد، فكلما كانت البلاد في جهة الجنوب أدخل كان نضج ثمارها أبطأ، ومع ذلك فطلوع الثريا لا يعتبر وليس المراد بطلوعها مجرد ظهورها من الأفق [فإنها] (¬3) تطلع في كل يوم وليلة تظهر للأبصار في جميع السنة إلا في مرة مخصوصة من السنة وهي إذا قربت الشمس منها فإنها تستتر وتختفي بضوء الشمس بقدر ما تجوزها الشمس وتبعد عنها من جهة الشرق، هذا يمكن معه ظهورها فتطلع في الشرق قبل الشمس فَتُرَى عند طلوع الفجر، وذلك في أواخر العشر الأوسط من آيار، وتكون الشمس في أوائل برج الجوزاء، وهذا الوقت، وإن كان بمكة والمدينة وما يليهما من البلاد يبدو النضج في الثمار وخاصة ثمر النخل في هذا ¬

_ (¬1) في "الأصل": له، على التذكير أيضًا. (¬2) في "الأصل": الثمر، على الجمع. (¬3) تكررت في الأصل.

الوقت فإن غيرها من البلاد الشمالية لا يبدو النضج فيها في هذا الأوان، فكان تقدير بدو النضج بالاحمرار والاصفرار اللذين لا يلازمان وقتًا مخصوصًا أولى، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الزهو قال: "أن يحمرّ أو يصفر" وسيرد ذلك في حديث أنس بن مالك (¬1)، ثم الغرض من بلوغ الثمار: زوال الغرر، وذلك يحصل ببدو صلاحها لا بطلوع الثريا. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الثمرة إذا باعها ربها قبل بدو صلاحها بشرط القطع جاز، وإن باعها بشرط الإبقاء، أو مطلقًا [لم] (¬2) يجز، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا باعها مطلقًا جاز، وعنده أن المطلق يقتضي القطع في الحال؛ فهو بمنزلة اشتراط القطع. وعند الشافعي يقتضي الإبقاء، فهو بمنزلة اشتراط الإبقاء، فأما إذا باعها بعد بدو صلاحها فإنه يجوز بشرط القطع، ومطلقًا، وبشرط الإبقاء إلى حال أخذها في العادة، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز بشرط الإبقاء. إلا أن محمدًا قال: إذا تناهى عظمها يجوز فيها شرط الإبقاء، فأما بيان بدو الصلاح فإن كانت الثمرة مما يصفر أو يحمر أو يسود فبدو الصلاح في الأصل فيها هذه الألوان، فإن كانت مما يبيض فبدو صلاحها أن تبدو فيه الحلاوة ويصفو لونه، فإن كان مما [لا] (¬3) يتلون فبأن يطيب أكله. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن حميد الطويل، عن أنس ابن مالك: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، فقيل: يا رسول الله: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم إذا منع الله الثمرة فبمَ يأخذ أحدكم مال ¬

_ (¬1) هو الحديث الآتي إن شاء الله. (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) ليست في "الأصل" والسياق يقتضيها.

أخيه؟! ". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا القعنبي، عن حميد، عن أنس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ثمرة النخل حتى تزهو، قيل: وما يزهو؟ قال: تحمر". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي. فأما مالك (¬1) فأخرج الأولى بالإسناد واللفظ، وقال "حين تحمر". وأما البخاري (¬2) فأخرج الأولى عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، وفي أخرى (¬3) عن علي بن الهيثم، عن معلى، عن هشيم عن حميد، عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها؛ وعن النخل حتى يزهو، قيل: وما يزهو؟ قال: يحمار أو يصفار". وأما مسلم (¬4) فأخرج عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك، وعن يحيى ابن أيوب وقتيبة وابن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد. وأما النسائي (¬5) فأخرجه عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. وقد اختلف على حميد في آخر الحديث، فرواه جماعة عن مالك كما رواه الشافعي، ورواه إسماعيل بن جعفر، عن حميد فلم يسند آخره، وكذلك سفيان الثوري رواه عن حميد فجعله من قول أنس بن مالك، وأسنده محمد بن عباد عن الدراوردي، عن حميد كما أسنده مالك والله أعلم. وهذا الحديث مسوق لتأكيد الحديث الذي قبله، وقد جمع في الزهو بين ¬

_ (¬1) الموطأ (1281). (¬2) البخاري (2198). (¬3) البخاري (2197). (¬4) مسلم (1555). (¬5) النسائي (4526).

اللغتين زها يزهو، وأزهى يزهي وغال فيه بذكر سبب النهي، وهو ما يحدثه الله للثمرة من الآفات، فإذا باع الثمرة قبل بدو صلاحها وعرضت له آفة كان إضرارًا بالمشتري. فأما إذا بدا صلاحها وشرعت في النضج فما يكون إلا وقد بعدت من الآفة غالبًا. وأما نهيه للبائع فمن وجهين: أحدهما: احتياطًا له بأن يدعها حتى يتبين صلاحها فتزداد قيمتها ويكثر نفعه منها. والثاني: أن يكون مناصحة لأخيه المسلم، واحتياطًا لمال المشتري لئلا تنالها الآفة فيذهب ماله، أو يطالبه بأصل الثمن من أجل الجائحة فيكون بينهما في ذلك شرٌّ وخلاف، فقد لا يطيب للبائع مال أخيه من جهة الورع؛ إذ لا قيمة له في الحال فيصير كأنه نوع من أكل المال بالباطل. وأما نهيه المشتري فمن أجل المخاطرة والتغرير بماله؛ لأنها ربما تلفت بما [ينالها] (¬1) من الآفة؛ فيذهب ماله غرامة، أخرج الكلام مخرج السؤال والاستفسار حتى يكون ذلك أقوى في باب الاحتجاج، لأنه إذا سمع السؤال وأجاب عنه بما يكون حجة عليه كان كلامه أشد في باب الإلزام بالحكم؛ لاعترافه به. وقد جاء في رواية الشافعي وغيره: "حتى تحمر"، وفي الموطأ: "حين تحمر" فإن صحت الرواية ولم يكن تغييرًا من الكُتَّاب؛ فالفرق بينهما أن قوله "حين تحمر" جملة في موضع البدل من الجملة الأولى التي هي "حتى يزهي". كأنه قال: ابتداءً نهى: عن بيع الثمار حتى تحمر، وأما "حين تحمر" فإنه ¬

_ (¬1) في "الأصل": يناله.

تفسير لزمان الزهو كأنه قال: نهى عن بيع الثمار إلى حين احمرارها. والأول أفصح وأصح؛ لأن الزهو ليس هو وقت الاحمرار وإنما هو الاحمرار نفسه أو الاصفرار. وقوله: "أرأيتم" بمعنى أخبروني، هكذا استعمله العرب، وقد يضيفون إليها كاف الخطاب فيقولون: أرأيتكم، وأرأيتك، ومنه قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ} (¬1) و {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} (¬2) و {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (¬3). ويحمار ويصفار لغة في يحمر ويصفر بزيادة الألف تقول: احمر البسر واحمار، واصفر واصفار إذا كانت العمرة والصفرة فيه غير ثابتة إنما تميل إليه مرة بعد أخرى، فإذا أرادوا بها ثابتة لازمة؛ قالوا: أحمر وأصفر. وقال في رواية البخاري: "نهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها". هذا إطلاق عام لجميع الفواكه، ولما كان الصلاح متنوعًا ومختلفًا في اللون والطعم وغير ذلك وكان القول مطلقًا في جميع الثمار؛ قال: حتى يبدو صلاحها مطلقًا, ولما خصص ذكر النخل بالنهي، خصص الصلاح بالحمرة والصفرة؛ لأنهما الغالب على ألوان البسر؛ وإنما يسود منه ما اسود ويرطب بعد الاحمرار والاصفرار. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر -إن شاء الله-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه". قال ابن جريج: "فقلت: أخص جابر النخل أو الثمرة؟ فقال: بل النخل، ¬

_ (¬1) سورة الأنعام: (40). (¬2) سورة الإسراء: (62). (¬3) سورة الفرقان: (43).

ولا نرى كل ثمرة إلا مثله". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي؛ أما البخاري (¬1) فأخرجه عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن [سليم] (¬2) بن حيان، عن سعيد بن ميناء عن جابر بمعناه. وأما مسلم فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر. وأما أبو داود (2) فأخرجه عن أبي بكر محمد بن خلاد، عن يحيى بن سعيد، عن [سليم] (¬3) بن حيان مثل البخاري. وأما النسائي (¬4) فأخرجه عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن هشام، عن أبي الزبير، عن جابر. وهكذا (¬5) الحديث مسوق لأمرين: أحدهما بيان تأكيد ما تقدم من الأحاديث في بيع الثمار. والثاني: لبيان اشتراك جميع الثمار في الحكم، نخيلاً كان أو غيره من الأشجار، وكذلك البطيخ والقثاء وغيرهما مما كان في معناهما. وقوله: "إن شاء الله" لا يجوز أن يكون من الشافعي لأنه قد روى في تمام الحديث: "فقلت أخص جابر النخل" ولو كان الشك منه لم يقل ذلك وهكذا ¬

_ (¬1) البخاري (2196). (¬2) في "الأصل": سليمان، وهو تحريف والمثبت من صحيح البخاري، وتهذيب الكمال (11/ 348) وهو بفتح السين وكسر اللام كما في إكمال ابن ماكولا (4/ 329)، وهو غير سليمان بن حيان المترجم في تهذيب الكمال (11/ 394). (¬3) في "الأصل": سليمان، وهو تحريف تقد والتنبيه عليه قريبًا. (¬4) النسائي (4525) بلفظ: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يطعم". (¬5) كذا في "الأصل" ولعل الصواب: وهذا.

باقي الرواة؛ وإنما يصح أن يكون من عطاء فإنه لما شك قال: إن شاء الله، وحيث شك وذكر جابرًا؛ قال له ابن جريج ما قال. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو عن؛ طاوس سمع ابن عمر يقول: "لا يباع الثمر حتى يبدو صلاحه" وسمعنا عن ابن عباس يقول: "لا يباع الثمر حتى يطعم". "طعم الثمر": إذا صار مما يؤكل، بأن، يظهر فيه أمارات النضج. وقوله: "لا يباع" خبر يراد به النهي، وكأنه بالخبرية آكد؛ لأنه منع ابتياعه، "لا" النافية قد جعله غير صالح لأن يجري عليه البيع، وهذا تأكيد لما سبق من الأحاديث. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الرجال، عن عمرة: "أن رسول الله [صلى الله] (¬1) عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬2) مرسلًا بهذا الإسناد واللفظ. ونجاة الثمار من العاهة إنما يكون بعد بدو الصلاح في الغالب؛ لأنها ما تصلح وتنضج إلا وهي مستقيمة في أصلها ونموها, ولو عرضت لها العاهة قبل النضج ما نضجت، فأما بعد النضج فإذا عرضت العاهة فإنه قليل غير معتاد. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي معبد -أظنه- عن ابن عباس: "أنه كان يبيع الثمر من غلامه قبل أن يطعم، وكان لا يرى بينه وبين غلامه ربًا" قال الشافعي: في سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلالته منها: أن بدو صلاح الثمر ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) الموطأ (1282).

الذي أحل بيعه: أن يحمر أو يصفر ودلالة إِذْ قال: "إذا منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه" [أنه] (¬1) إنما نهى عن بيع الثمرة التي تترك حتى تبلغ غاية إبَّانها, لا أنه نهى عما يقطع منها؛ وذلك أن ما يقطع منها لا آفة تأتي عليه تمنعه، إنما [منع] (¬2) ما يترك مدة تكون فيها الآفة، والبلح [وكل] (1) ما دون البسر يحل بيعه ليقطع مكانه؛ لأنه خارج [عما] (¬3) نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيوع، داخل فيما أحل الله من البيع، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل" والمثبت من كتاب "الأم" (3/ 48). (¬2) في "الأصل": تمنعه، والمثبت من المصدر والسابق. (¬3) في "الأصل": بما، والمثبت من "الأم".

الفصل الثاني في المزابنة والعرايا

الفصل الثاني في المزابنة والعرايا أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، وعن بيع الثمر بالتمر". قال عبد الله حدثني زيد بن ثابت: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العرايا". وأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن إسماعيل الشيباني -أو غيره- قال: "بعت ما في رءوس نخلي بمائة وسق؛ إن زاد فلهم وإن نقص فعليهم، فسألت ابن عمر، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع هذا إلا أنه رخص في بيع العرايا". هكذا رواه الربيع وقد رواه الزعفراني والمزني عن الشافعي، و [قالا] (¬1) عن إسماعيل الشيباني ولم يشكَّا فيه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله [عن] (¬2) زيد بن ثابت: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة". و"المزابنة": بيع الثمر بالتمر كيلاً، وبيع الكرم بالزبيب كيلاً. صدر الرواية الأولى من هذا الحديث قد تقدم في الفصل الأول، وقد أتبعه ها هنا ابن عمر بزيادة من روايته وهو: "بيع الثمر بالثمر"، وبروايته عن زيد ¬

_ (¬1) في "الأصل": قال، وما بعده يؤكد ما أثبتناه، وانظر معرفة السنن والآثار (8/ 100). (¬2) في "الأصل": بن، وما أثبتناه هو الصواب وعبد الله هو ابن عمر بن الخطاب.

الرخصة في بيع العرايا، وهاتان الزيادتان مع أول الحديث قد أخرجهما البخاري ومسلم؛ أما البخاري (¬1) فأخرجهما عن يحيى بن بكير، عن ليث، عن عقيل، عن الزهري ... وقال فيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره". وأما مسلم (¬2) فأخرجه عن يحيى بن يحيى وابن نمير وزهير، عن سفيان بالإسناد واللفظ. وأما مالك فإنه أخرج الزيادتين في حديثين، أحدهما الرواية الأخيرة (¬3)، والثانية (¬4) في رواية ابن عمر عن زيد بن ثابت. وأخرج البخاري (¬5) ومسلم (¬6) حديث زيد بن ثابت أيضًا مفردًا، عن عبد الله بن يوسف، ويحيى بن يحيى عن مالك. وأما أبو داود (¬7) فأخرج عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن أبي زائدة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وأخرج الرواية الآخرة (¬8) وزاد فيها "وعن بيع الزرع بالحنطة كيلًا". وأما الترمذي (¬9) فإنه أخرج "بيع الثمر بالتمر" بلفظ المزابنة ولم يفسرها. وأخرج حديث العرية (¬10) عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ¬

_ (¬1) البخاري (2183، 2184). (¬2) مسلم (1534). (¬3) الموطأ (1294). (¬4) الموطأ (1284). (¬5) البخاري (2185). (¬6) مسلم (1539). (¬7) أبو داود (3361). (¬8) هو نفس الحديث السابق بنفس الإسناد. (¬9) الترمذي (1303) من حديث رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة. (¬10) الترمذي (1302).

نافع، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت. وأما النسائي (¬1) فلم يخرج منه إلا النهي عن المزابنة. "الثمر": يريد به ها هنا الرطب؛ وإن كان اسمًا عامًّا لكل ثمرة. "والعرايا" جمع عرية، وقد اختلف العلماء في معناها، قالوا: كان من لا نخل له من ذوي الحاجة يفضل له من قوته تمر، فيدركه ولا نقد في يده، فيشتري به الرطب لعياله ولا نخل له، فيجيء إلى صاحب النخل فيقول له: بِعني ثمرة نخلةٍ أو نخلتين -مثلًا- بخرصهما تمرًا، يعني بمقدار ما يحصل من رطبهما تمرًا، فيعطيه ذلك الفضل الذي فضل له من التمر بثمر تلك النخلات ليصب رطبها مع الناس، فرخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيعها لذلك (¬2)، فهي فعيلة بمعنى مفعولة من عَرَاهُ يَعْرُوه إذا قصدها في بيعها لذلك وغشيه. أو فعيلة بمعنى فاعلة من عَرِيَ يَعْري [إذا خلع ثوبه] (¬3) كأنها عريت من جملة التحريم، فعريت أي انفردت وخرجت. وقيل: العرية النخلة يعريها الرجل الرجل محتاجًا، أي يحل له ثمرتها، ورخص للمعرى أن يبتاع ثمرتها من المعري بتمر؛ لموضع حاجته وسميت عرية؛ لأنه إذْ وهب ثمرتها فكأنه جردها من الثمرة وعراها منها. وأما "المزابنة": فهو بيع الثمر في رءوس الشجر إن كان نخلًا فبتمر كيلاً، وإن كان كرمًا فبزبيب كيلاً، وأصلها من الزبن: الدفع، كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه. والخرص [الحزر] (¬4) خرص يخرص فهو خارص، وذلك أن يحزر ثمر ¬

_ (¬1) انظر سنن النسائي (4536، 4537، 4538، 4539) وانظر أيضًا (4549). (¬2) انظر النهاية في غريب الحديث (3/ 224). (¬3) ليست في "الأصل" والمثبت من النهاية. (¬4) في "الأصل": الخرز، بخاء معجمة بعدها راء ثم زاي وهو تحريف. والحزر: هو التقدير بالظن والتخمين، انظر النهاية (2/ 22، 23).

الشجرة بوزن معلوم أو كيل معلوم تخمينًا وتقريبًا. وقوله: في رواية إسماعيل: الشيباني: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا" يريد به بيع الثمر بالتمر، ويجوز أن يريد به قوله: "إن زاد فلهم وإن نقص فعليهم" فإنه قد حُكي عن مالك أنه قال في تفسير المزابنة: أن يقول أحد المتبايعين لصاحبه في صبرة مشاهدة: ضمنت لك صبرتك هذه بمائة قفيز، فيقول المالك: هي أقل من ذلك فيقول لمالكها: تكال الآن فإن نقصت فعليّ التمام وإن زادت فالفضل لي قال الشافعي -رضي الله عنه-: ليس هذا عقدًا وإنما قمار، والقصد بالنهي عن عقدٍ. وقد ذكر الخطابي في "معالم السنن" كلامًا مستوفى في معنى العرايا قال: العرية فسرها محمد بن إسحاق بن يسار فقال: هي أن يهب الرجلُ الرجلَ النخلات فيشق عليه أن يقوم عليها فيبيعها بمثل خرصها. قال: وروى الشافعي عمن قال لمحمود بن لبيد -أو قال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إما زيد بن ثابت وإما غيره- "ما عراياكم هذه التي تحلونها؟ فقال: [فلان وفلان] (¬1) وسَمَّى رجالًا محتاجين من الأنصار شكوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به [رطبًا] (¬2) يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي هو في أيديهم يأكلونها رطبًا. قال: وأما أصلها في اللغة؛ فإنهم ذكروا في معنى اشتقاقها قولين: أحدهما: أنها مأخوذة من قول القائل: أعريت الرجل النخلة. أي أعطيته ثمرتها يعروها متى شاء، أي يأتيها فيأكل ثمرتها، يقال: عروت الرجل أعروه ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (3/ 54). (¬2) في "الأصل": رطب، والمثبت من "الأم".

إذا أتيته تطلب معروفه، وعراني فأعريته كما تقول: طلب إلى فأطلبته، وسألني فأسألته. والقول الثاني: أنها إنما سميت عريَّة لأن الرجل يعريها من جملة نخله، أي يستثنيها لا يبيعها مع النخل، فربما أكلها وربما وهبها لغيره أو فعل بها ما يشاء. قال: والعرايا ما كانت من هذه الوجوه فإنها مستثناة من جملة النهي عن المزابنة، ألا تراه يقول: رخص في بيع العرايا؛ والرخصة إنما تقع بعد الحظر، وورود الخصوص على العموم لا ينكر في أصول الدين، وسبيل الحديثين إذا اختلفا في الظاهر وأمكن الجمع بينهما، وترتيب أحدهما على الآخر ألا يحملا على المنافاة بل يستعمل كل منهما في موضعه، وذلك أنه إنما جاء النهي عن المزابنة وهو بيع الرطب بالتمر على رءوس النخل، واستثنى منها العرايا للحاجة التي ذكرناها. وبه قال الأئمة والفقهاء، وهو مذهب الشافعي والأوزاعي ومالك وأحمد، وإسحاق وأبي عبيد، وامتنع أصحاب الرأي من القول به، فسروا العرية تفسيرًا لا يليق بمعنى الحديث؛ قالوا: العرية أن يعري الرجلُ الرجلَ من حائطه نخلاتٍ ثم يبدو له فيها فيبطلها ويعطيه مكانها تمرًا. فجعلوا العرية هبة، والحديث إنما جاء بالرخصة في البيع، فإنه قد صرح به في حديث زيد بن ثابت، وسهل بن أبي حثمة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر بالتمر: ورخص في العرية أن تباع بخرصها تمرًا فيأكلها أهلها رطبًا" فهذا يبين لنا أنه قد استثنى العرية من جملة ما اقتضاه تحريم النهي عن بيع الثمر بالتمر والظاهر أن المستثنى إنما هو من جنس المستثنى منه، والرخصة إنما تلغى المحظور، والمحظور ها هنا البيع المنهي عنه، ولو كان الأمر على ما تأوَّلوه من الهبة؛ ما كان للخرص ولا للرخصة معنى، ولا وجه لبيع ملكه من نفسه؛ لأن الهبة تتعلق صحتها بالإقباض، والإقباض لم يقع، فلم يَزُل الملك.

والاسم ما وُجد له مساغ في الحقيقة لم يجز حمله على المجاز، ومما يدل على أن معنى الرخصة في العرية ما جاء في حديث أبي هريرة: "أنه رخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق" ولولا ذلك لم يكن لتحديدها بالأوسق معنى، ولا حظر في شيء مما ذهبوا إليه في تفسيرها فيحتاج إلى الرخصة، والله أعلم. انتهى كلام الخطابي. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن بيع الرطب بالتمر لا يصح، والأصل فيه أنه لا يجوز بيع جنس يجري فيه الربا رطبه بيابسه مثل بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب والتين الرطب باليابس، وبه قال سعد بن أبي وقاص وسعيد بن المسيب ومالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يجوز. وقال الشافعي: لا يجوز بيع الرطب بالرطب -وقال مالك وأبو حنيفة وصاحباه وأحمد والمزني: يجوز، والذي ذهب إليه الشافعي أن العرايا من النخل والعنب، فأما ما عدا ذلك من الثمار التي تجفف مثل المشمش والخوخ والأجاص ففي بيعه طريًّا بخرصه قولان: أحدهما: يجوز؛ حملًا على النخل والكرم. والثاني: لا؛ لأن الخرص لم يسن فيها كما سن في النخل والكرم، ويتعزر خرصها؛ لاستتار ثمرتها بورقها، وكيفية بيع العرية: أن الرجلين إذا تبايعا العرية وجب أن يُنْظَر إلى الثمرة على النخل ويحذر ذلك رطبًا وكم يجيء منه ثمرًا فيتبايعان بمثل ذلك تمرًا، ويشاهد الثمر، ولا يتفرقا إلا بعد القبض. وقد اختلف قول الشافعي فيمن يجوز له شراء العرية فقال في "الأم": يجوز للفقير والغني، وقال في "الإملاء" و"اختلاف الحديث": لا يجوز للفقير. واختاره المزني وبه قال أحمد، ولا يجوز بيع رطب العرية بخرصه تمرًا إلا إذا كان على رأس النخل، فأما إذا كان مقطوفًا من النخل لم يجز.

قال الشافعي: ويجوز أن يبيع جميع نخله عرايا في عقود مختلفة بكل عرية في عقد من مشتر واحد أو مشتريين مختلفين، وإن أتى على جميع نخيله، وقال أحمد: لا يجوز أن يبيع أكثر من عرية واحدة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق، أو في خمسة أوسق" شك داود قال: خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا النسائي. فأما مالك فأخرجه بالإسناد واللفظ (¬1). وأما البخاري (¬2) فأخرجه عن عبد الله بن عبد الوهاب قال: سمعت مالكًا، و [سأله] (¬3) عبيد الله بن الربيع أحدثك داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في بيع العريا في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق؟ قال: نعم". وأما مسلم (¬4) فأخرجه عن القعنبي ويحيى بن يحيى، عن مالك، مثل البخاري، وزاد: "قال: شك داود قال: خمسية أوسق أو دون خمسة أوسق". وأما أبو داود (¬5) فأخرجه عن القعنبي عن مالك ... الحديث إلى قوله: "شك داود". وأما الترمذي (¬6) فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. "الوسق" قد تقدم بيانه، وهو ستون صاعًا، والصاع خمسة أرطال وثلث، ¬

_ (¬1) الموطأ (1285). (¬2) البخاري (2190). (¬3) في "الأصل": سألت، وهو تحريف والمثبت من صحيح البخاري. (¬4) مسلم (1541). (¬5) أبو داود (3364). (¬6) الترمذي (1301).

أو ثمانية أرطال على اختلاف المذهبين؛ فالأوساق الخمسة ثلاثمائة صاع وهي ألف وستمائة رطل، أو ألفان وأربعمائة رطل. والمذهب في بيع العرايا: أن بيع الرطب على رءوس النخل بمقداره من التمر إذا كان دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق قولان، ولا يجوز فيما زاد على ذلك، وبه قال أحمد، إلا أن في إحدى الروايتين عنه بخرصه رطبًا ويبيعه بمثله. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك بحال، وقال مالك يجوز في موضع مخصوص، وهو أن يكون قد وهب لرجل ثمرة نخله [ثم] (¬1) يشق عليه دخوله إلى (قراحه) (¬2) فيشتريها منه بخرصها من التمر فيعجله له، هكذا في حق المُعْرِي إذا باعه من المَعْرِي، فأما إذا باعها من غير المَعْرِي فيجوز بالدراهم والدنانير والعروض. قال ابن المنذر: الرخصة في خمسة أوسق مشكوك فيها من قبل داود بن الحصين، والمزابنة النهي عنها ثابت، فالواجب أن لا يباح منها إلا القدر المتيقن إباحته وهو ما دون خمسة أوسق، وقد رواه جابر فانتهى به إلى أربعة أوسق فهو المباح وما زاد عليه فهو محظور. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بُشير بن يسار قال: سمعت سهل بن أبي حَثْمة يقول: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها تمرًا يأكلها أهلها رطبًا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي ¬

_ (¬1) في "الأصل": ثمر، وهو تحريف. (¬2) القراح من الأرضين: كل قطعة على حيالها من منابت النخل أو غير ذلك. وقيل القراح: المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر، انظر لسان العرب "مادة: قرح".

فأما البخاري (¬1) فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان. وأما مسلم (¬2) فأخرجه عن عمرو الناقد وابن نمير، عن سفيان. وأما أبو داود (¬3) فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن سفيان. وأما الترمذي (¬4) فأخرجه عن الحسن بن علي الحلواني، عن أبي أسامة، عن الوليد بن كثير، عن بُشير بن يسار أن رافع بن خديج، وسهل بن أبي حَثمة حدثاه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع المزابنة الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا؛ فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمرة بخرصها". وقد أخرج مسلم (¬5) هذه الرواية أيضًا. قوله: "تمرًا ورطبًا" منصوبان على التمييز الذي هو التفسير، وهو من باب قولهم: هذا وأخوه حلا، وعلى الثمرة مثلها زيدًا، أي من حل ومن زيد، وكذلك الحديث: "بخرصها من التمر ومن الرطب"، وقد صرح في حديث الترمذي بأن جميع الثمار حكمها حكم النخل (¬6). قال الشافعي: فأثبتنا بهذه الأحاديث التحريم عامًّا في كل شيء من صنفٍ واحدٍ مأكول، بعضه جزاف وبعضه مكيل؛ للمزابنة، وأحللنا العرايا خاصة بإحلاله من الجملة التي حرم، ولم يبطل أحد الخبرين بالآخر، ولم يجعله قياسًا عليه. ¬

_ (¬1) البخاري (2191). (¬2) مسلم (1540). (¬3) أبو داود (3363). (¬4) الترمذي (1303). (¬5) مسلم (1540). (¬6) وذلك في قوله: "وعن كل ثمر بخرصه".

قال [ويحتمل] (¬1) ذلك وجهين: أولاهما به عندي -والله أعلم- أن يكون ما نهى عنه جملة أراد به ما سوى العرايا. ويحتمل أن يكون رخص فيها بعد دخولها في جملة النهي، وأيهما كان؛ فعلينا طاعته بإحلال ما أحل وتحريم ما حرم. قال الشافعي: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يأكلها أهلها رطبًا" خبر، أي مبتاع العرية يبتاعها ليأكلها، وذلك [يدل] (¬2) على أن لا رطب له في موضعها يأكله غيرها، ولو كان صاحب الحائط هو المرخص له أن يبتاع العرية ليأكلها كان له حائطه معها أكثر من العرايا يأكل من حائطه ولم يكن عليه ضرر إلى أن يبتاع العرية التي هي داخلة في معنى ما وصفت من النهي. قال: ونَهْيُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تباع العرايا: إلا في خمسة أوسق أو دونها؛ دلالة على ما وصفت من أنه إنما رخص فيها لمن لا تحل له و [ذلك أنه] (¬3) لو كان كالبيوع غيره؛ كان بيع خمسة ودونها وأكثر منها سواء، ولو كان صاحب الحائط المرخص له خاصة لأذى الداخل عليه الذي أعراه [وكان إنما أرخص له لتنحية الأذى] (¬4) كان أذى الداخل عليه بأكثر من خمسة أوسق مثل أو أكثر من أذاه فيما دون خمسة أوسق. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة، والمزابنة بيع الثمر بالتمر، إلا أنه [أرخص] (¬5) في العرايا". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من معرفة السنن والآثار للبيهقي (8/ 102). (¬2) ليست في "الأصل" والمثبت من الأم (3/ 45)، ومعرفة السنن والآثار (8/ 102). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من الأم (3/ 54). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من الأم (3/ 54). (¬5) ليست في "الأصل"، والمثبت من معرفة السنن والآثار (8/ 101) ومصادر تخريج الحديث الآتية.

هذا طرف من حديث صحيح يتضمن منهيات قد أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والترمذي (¬4) فمن جملة طرفه: أنه نهى عن المحاقلة والمخابرة والمزابنة وعن بيع الثمرة حتى تطيب ويبدو صلاحها ولا تباع بعد أن يبدو صلاحها إلا بالدينار والدرهم إلا العرايا فإنها تباع بخرصها تمرًا". وباقي الروايات نحو من هذا, ولم ينفرد واحد منهم بذكر المزابنة واستثنى العرايا في حديثه حتى كنا نذكر طرق رواياتهم والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) البخاري (2189). (¬2) مسلم (1536). (¬3) أبو داود (3373، 3404، 3405). (¬4) الترمذي (1313).

الفصل الثالث المحاقلة والمخابرة

الفصل الثالث المحاقلة والمخابرة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة والمحاقلة والمزابنة" "والمحاقلة": أن يبيع الرجلُ الرجلَ الزرعَ بمائة فرق [حنطة] (¬1)، والمخابرة: كراء الأرض بالثلث والربع. هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري (¬2) فأخرجه عن [عبد الله بن] (¬3) محمد [عن] (3) ابن عيينة. وأما مسلم (¬4) فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير، وزهير، عن سفيان. وأما أبو داود (¬5) فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن إسماعيل. وعن مسدد، عن حماد، وعبد الوارث، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر. وأما الترمذي (¬6) فأخرجه عن [زياد] (¬7) بن أيوب البغدادي، عن عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، يونس بن عبيد، عن عطاء، وزاد: "والثنيا إلا أن تعلم". وأما النسائي (¬8) فأخرجه عن زياد بن أيوب، عن عباد بن العوام، عن سفيان ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من معرفة السنن والآثار (8/ 95). (¬2) البخاري (2381). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من صحيح البخاري. (¬4) مسلم (1536). (¬5) أبو داود (3404). (¬6) الترمذي (1290). (¬7) في "الأصل": زيد، وهو تحريف، والمثبت من جامع الترمذي، وتهذيب الكمال (9/ 432) وهو زياد ابن أيوب بن زياد البغدادي المعروف بَدلُّويه. (¬8) النسائي (3880).

ابن حسين، عن يونس، عن عطاء. ولو لم يذكر تفسير المزابنة والمخابرة. أما "المحاقلة" فهي مفاعلة من الحقل وهو الأرض المعدة للزراعة، ويسميه العراقيون القراح، وقد اختلف في معناها شرعًا، فقيل: هو بيع الزرع في سنبله بمقدار من الغلة معلوم، وهو الذي فسره في هذا الحديث، وقيل: هو المزارعة بالثلث والربع ونحو ذلك، فيكون هو المخابرة، وهذا فاسد؛ لأنه جمع في النهي بين المخابرة والمحاقلة في حديث واحدٍ، وقيل هو كراء الأرض بالحنطة، وقيل: الحقل الزرع إذا تشعب قبل أن يغلظ سوقه (¬1)، فإن كانت المحاقلة من هذا فهو بيع الزرع قبل إدراكه. قال الشافعي: والمحاقلة في الزرع كالمزابنة في التمر. أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج: أنه قال لعطاء: "وما المحاقلة؟ قال: المحاقلة في الحرث كهيئة المزابنة في التمر، سواء بيع الزرع بالقمح، قال ابن جريج: فقلت لعطاء: أفسر لكم جابر في المحاقلة كما أخبرتني؟ قال: نعم". قال الشافعي: وتفسير المحاقلة والمزابنة في الأحاديث يحتمل أن يكون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منصوصًا والله أعلم، ويحتمل أن يكون عن رواية من هو دونه والله أعلم (¬2). وأما "المخابرة" فليس هذا موضع ذكرها، إلا أنها جاءت في جملة الحديث، وهي المزارعة على نصيب معين، من الخبار: الأرض اللينة، فهي مفاعلة من ذلك، وقيل: إن أصلها مشتق من خيبر، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر خيبر في يد أهلها لماَّ فتحها على أن لهم النصف من ثمارهم وزروعهم [مقابل] (¬3) العمل، فقيل: قد خابرهم أي [عاملهم] (¬4) في خيبر، فهذا معنى قوله في تفسير المخابرة ¬

_ (¬1) انظر "النهاية في غريب الحديث" (1/ 416). (¬2) انظر "الأم" (3/ 63)، ومعرفة السنن والآثار (8/ 96). (¬3) ليست في "الأصل". (¬4) في "الأصل": عملهم، والمثبت من "النهاية" (2/ 7).

أنها كراء الأرض بالثلث والربع ولم يرد بالثلث والربع تخصيصهم من جملة الأقسام كالنصف والخمس والسدس وغير ذلك؛ إنما أراد بهما ضرب المثال، وكذلك ليس لتخصيصه بمائة فرق في المحاقلة والمزابنة حدًّا؛ إنما يريد به ضرب المثال، والفَرق بسكون الراء معروف بالمدينة يسع ستة عشر رطلًا وقد يحرك، ويجمعان على فرقان، بَطْن وبَطْنَان، وحمل وحملان، وقال الشيخ أبو نصر بن الصباغ: والفرق -بالفتح- مكيال يسع ستة عشر رطلاً، فأما بالسكون فإنه يسع مائة وعشرون رطلًا. وهذا لا يعرفه أصحاب اللغة. "والثُّنْيَا": أن يستثني من المبيع شيء مجهول فيفسد الجميع، ولهذا قال: "إلا [أن يعلم] (¬1) مقدارها" وهي فُعلى من الاستثناء، وقيل: هو أن يبيع الشيء جزافًا", ولا يجوز أن يستثني منه شيئًا قَلُّ أم كَثُر، وتكون الثُّنْيَا في الزراعة أن يستثني بعد النصف أو الثلث شيئًا معلومًا، والذي ذهب إليه الشافعي في المحاقلة: أنها بيع الحنطة في سنبلها بحنطة كما جاء في هذا الحديث، وقال مالك هي إكراء الأرض للزرع بالحب، ولا يجوز عند الشافعي بيع الحنطة في سنبلها بالحنطة؛ لأنه يكون قد باع حنطة بحنطة مع الجهالة بالتساوي، وباعها بها نسيئة وذلك لا يجوز؛ لأن المساواة والتقابض شرط في بيع الحنطة بالحنطة وهذا مجهول، وفيه النسيئة. قال الربيع: قلنا للشافعي: إن علي بن معبد أخبرنا بإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أجاز بيع القمح في سنبله إذا ابيض" قال: أما هو فغرر؛ لأنه يحول دونه لا يرى فإن ثبت الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا به، وكان هذا خاصًّا مستخرجًا من عام؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر وأجاز هذا، وكذلك أجاز بيع الشقص من الدًّار، فجعل فيه الشفعة لصاحب الشفعة وإن كان فيه غرر، وكان خاصًّا مخرجًا [من] (¬2) عام. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) ليست في "الأصل" والمثبت من "معرفة السنن والآثار" (8/ 80).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد، عن أبي، سعيد الخدري أو عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة والمحاقلة؛ والمزابنة اشتراء الثمرة بالتمر في رءوس النخل، والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة". هكذا رواه الربيع عن الشافعي بالشك، وقد رواه الزعفراني عن الشافعي، عن أبي سعيد لم يشك فيه، وكذلك رواه أحمد بن حنبل، عن الشافعي من غير شك. والحديث صحيح متفق عليه عن أبي سعيد، وعن أبي هريرة. أما حديث أبي سعيد فأخرجه البخاري (¬1)، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬2) فأخرجه عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك. وأخرجه النسائي (¬3) عن محمد بن عبد الله بن المبارك، عن يحيى بن آدم، عن عبد الرحيم، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم (¬4)، عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة. وأخرجه الترمذي (¬5) بإسناد مسلم. وأخرجه النسائي (¬6) عن عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن ¬

_ (¬1) البخاري (2186). (¬2) مسلم (1546). (¬3) النسائي (3885). (¬4) مسلم (1545). (¬5) الترمذي (1224). (¬6) النسائي (3884).

[سَعْد] (¬1) بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة. وهذا الحديث مؤكد للحديث الذي قبله، وقد سبق القول في معناه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة والمحاقلة والمزابنة اشتراء الثمر بالتمر، والمحاقلة اشتراء الزرع بالحنطة. قال ابن شهاب: فسألته عن استكراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس بذلك. هكذا أخرجه الشافعي مرسلاً، وقد أخرجه مسلم بزيادة في آخره ولم يذكر قول ابن شهاب، وأخرجه النسائي مختصرًا. فأما مسلم فأخرجه (¬2) عن محمد بن رافع، عن حجين، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزابنة، والمحاقلة والمزابنة: أن يباع تمر النخل بالتمر، والمحاقلة: أن يباع الزرع بالقمح، واستكراء الأرض بالقمح. وأما النسائي (¬3) فأخرجه عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. " مرسلًا. هذا الحديث قد تقدم بيانه، وكل هذه الأحاديث مؤكدة لما ذهب إليه الشافعي في تفسير المحاقلة والمزابنة والحكم فيهما، وقد فسر مسلم في هذا الحديث المحاقلة بالأمرين المذكورين وهما بيع الزرع بالحنطة، وكراء الأرض بالحنطة وهي القمح، وقد تقدم القول فيما سلف. ¬

_ (¬1) في "الأصل": سعيد، وهو تحريف، والمثبت من سنن النسائي، وهو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف. انظر ترجمته في تهذيب الكمال (10/ 240). (¬2) مسلم (1539). (¬3) النسائي (3893).

الفصل الرابع في بيع ما لم يقبض

الفصل الرابع في بيع ما لم يقبض أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى [يستوفيه". أخبرنا الشافعي، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى] (¬1) يقبضه". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود. فأما مالك (¬2) فأخرج الروايتين إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬3) فأخرجه عن مالك، عن نافع. وأما مسلم (¬4) فأخرج الأولى [عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع وأخرج الثانية] (¬5) عن يحيى بن يحيى وعلي بن حجر، عن إسماعيل، عن ابن دينار. وأما أبو داود (¬6) فأخرجه عن القعنبي، عن مالك، عن نافع. "ابتاع" افتعل من البيع، وهو بمعنى اشترى. و"الطعام" كل ما يقتات ويؤكل. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين ليست في "الأصل" والمثبت من مسند الشافعي (1/ 189) وما بعده يدل على أن المؤلف يتكلم على روايتين والعزو يؤكد هذا. (¬2) الموطأ (1310، 1311). (¬3) البخاري (2136) من طريق عبد الله بن مسلمة، عن مالك. (¬4) مسلم (1526). (¬5) في "الأصل": وأخرج الثانية عن يحيى بن يحيى عن نافع عن ابن عمر، وهو انتقال نظر من الناسخ ثم أعاده على الصواب كما أثبتناه. (¬6) أبو داود (3492).

و"الاسْتيفاء" استفعال من وفى، وقال في الرواية الأخرى: "حتى يقبضه" والاستيفاء والقبض ها هنا بمعنى واحد. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أَنه لا يجوز بيع جميع المبيعات قبل القبض، ولا فرق بين الطعام وغيره، وبه قال ابن عباس ومحمد بن الحسن، وإنما خص الطعام بالذكر؛ لأن الحاجة إليه أكثر والبيع له يتكرر. وقال مالك: كل مبيع يجوز بيعه قبل القبض سوى الطعام والشراب. وقال أحمد والأوزاعي وإسحاق: ما ليس يكيل ولا يوزن ولا معدود؛ يجوز بيعه قبل القبض، وبه قال الحسن البصري، وابن المسيب، وحماد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ما لا ينقل ويحول؛ يجوز بيعه قبل القبض. وأما حقيقة القبض في المنقولات: فإنه تحويلها من مكانها؛ فإذا باع طعامًا جزافًا فَقَبْضُه تحويله، وإن كان مكيلاً فَقَبْضُه كيله، وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخليته من يد البائع، وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: التخلية في كل ذلك قبض؛ لأنه خَلَّى بينه وبين المبيع [من غير] (¬1) مانع، وأما إذا ابتاع طعاماً مكيلاً معلومًا ثم أراد أن يبيعه بالكيل الأول لم يجز حتى يكيله على المشتري ثانيًا، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق [وهو] (¬2) قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي. وقال مالك: إذا باعه نسيئة فهو المكروه، وإذا باعه نقدًا فلا بأس أن يبيعه بالكيل الأول. وروي عن عطاء أنه أجاز بيعه نسيئة ونقدًا. وأخبرنا الشافعي أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها.

عباس قال: "أما الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع حتى يستوفى" وقال ابن عباس برأيه، ولا أحسب كل شيء إلا مثله. هكذا أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" وعاد فأخرجه في كتاب اختلافه مع مالك مثله، وقال فيه: "حتى يقبض" هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. أما البخاري (¬1) فأخرجه عن [علي بن عبد الله] (¬2)، عن سفيان. وأما مسلم (¬3) فأخرجه عن يحيى بن يحيى وأبي الربيع العتكي وقتيبة جميعًا عن حماد بن زيد، عن عمرو. وأما أبو داود (¬4) فأخرجه عن أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان. وأما الترمذي (¬5) فأخرجه عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن عمرو. وهذا الحديث مؤكد بحديث ابن عمر، وفي لفظه زيادة تأكيد وهو قوله: "أما الذي نهى عنه" فجاء بلفظ حاصر جامع حتى كأنه قد حصر النهي على هذا خاصة. وقول ابن عباس: "ولا أحسب كل شيء إلا مثله" قياس ظاهر؛ لأنه عرف أن علة المنع من بيع الطعام قبل القبض هي أن ضمان العين المبيعة على البائع حتى يقبضها المشتري، فإن وجدت هذه العلة في غير الطعام كان محمولًا عليه وله حكمه، وذلك أن المبيع لو تلف بآفة سماوية مثلا قبل القبض انفسخ البيع، ¬

_ (¬1) البخاري (2135). (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) مسلم (1525). (¬4) أبو داود (3496). (¬5) الترمذي (1291).

واسترد المشتري الثمن إذا كان المبيع جزافًا لا مقدَّرًا. قال الشافعي: وبهذا نقول، فمن ابتاع شيئًا كائنًا ما كان فليس له أن يبيعه حتى يقبضه، وذلك أن [من] (¬1) باع ما لم يقبض؛ فقد دخل في المعنى الذي يروي بعض الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ذلك لعتاب بن أسيد حين وَجَّهه إلى مكة: "انههم عن بيع ما لم يقبضوا، وربح ما لم يضمنوا". قال الشافعي: فهذا بيع ما لم يُقبض وربح ما لم يُضمن. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم القداح، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن موهب، عن عبد الله بن محمد ابن صيفي، عن حكيم بن حزام أنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم أنبأ -أو ألم يبلغني، أو كما شاء الله من ذلك- أنك تبيع الطعام؟ قال حكيم: بلى يا رسول الله، قال: لا تبيعن طعامًا حتى تشتريه وتستوفيه". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج، عن عطاء -ذلك أيضًا- عن عبد الله بن عصمة، عن حكيم بن حزام أنه سمعه منه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج المزني عن الشافعي -رضي الله عنه- عن عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن عطاء، عن حكيم قال: "كنا نشتري الطعام، فنهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أبيع طعامًا حتى أقبضه". هذا حديث حسن. قوله: "ألم أنبَّأْ أنك تبيع" استفهام تقرير وتثبيت، بخلاف قولك لو قلت: أتبيع، فإن الأول يتضمن أنك عارف أنه يبيع، وأنه يعلم أنك لم ترد باستفهامه زيادة معرفة وعلم ببيعه، إنما تريد به تقريره وتثبيته على ما عُرف من حاله. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من الأم (3/ 69، 70)، ومعرفة السنن والآثار (8/ 107).

وأما قوله: "أو ألم يبلغني" فقد جاء في بعض النسخ بإثبات الهمزة بعد الواو، وفي بعضها بحذفها، فأما مع إثباتها فلا كلام فيه، ويكون الراوي قد شك في أن اللفظين استفهام النبي - صلى الله عليه وسلم - إما "ألم أنبّأ" وإما "ألم يبلغني" وأما مع حذفها فلا تخلو الواو أن تكون متحركة أو ساكنة؛ فإن كانت متحركة -وهو الصواب إن شاء الله تعالى- فتكون واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام، فائدتها عطف الجملة الثانية على الجملة الأولى، فيجتمع من الهمزة والواو معنى آخر وهو التقرير والتثبيت كما في الأولى. وإن كانت الواو ساكنة فتكون هي [و] (¬1) الهمزة قبلها كلمة واحدة، وهي "أو" التي للشك، وحينئذ تحتاج إلى همزة الاستفهام بعد الواو وقبل "لم" الثانية حتى يكون المراد معلومًا مستفهمًا عنه، ولكنه حذفه استغناءً عنها بالهمزة التي في أول الكلام، وليفهم السامع أن الكلام استفهام لا خبر، وقد حذفوا حرف الاستفهام في كثير من الكلام اعتمادًا على فهم المخاطب، وتخفيفًا، والأول أفصح وأحسن. وقوله: "أو كما شاء الله من ذلك" هو شك في الرواية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أي اللفظين قال؛ "ألم أنبأ" أو"أو ألم يبلغني" أو"ما شاء الله من القول". وقوله: "أنك تبيع الطعام" لا يخلو إما أنه أراد بيع الطعام مطلقًا، أو بيعه بيعًا مخصوصًا، فإن كان مطلقًا فيكون عرضه - صلى الله عليه وسلم - توقيفه على ما يلزمه في البيع من أحكامه التي يجهلها، وإن كان أراد بيعًا مخصوصًا أي بلغه عنه أنه كان يبيع ما لم يقبض أو ما ليس [عنده] (¬2) وهو الأشبه؛ لأنه قد جاء في رواية أخرى عن حكيم بن حزام مثل ذلك، وسيرد ذكره. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها. (¬2) في "الأصل": "عند".

القاسم قال: "سمعت ابن عباس ورجل يسأله عن رجل سلف في سبائِب -قال الربيع سبائك- فأراد أن يبيعها قبل أن يقبضها، قال ابن عباس: تلك الورق بالورق وكره ذلك". قال مالك: وذلك فيما نرى -والله أعلم- لأنه أراد أن يبيعها من صاحبها الذي اشتراها منه بأكثر من الثمن الذي ابتاعها به، ولو باعها من غير الذي اشتراها منه لم يكن ببيعه بأس. هذا حديث الموطأ (¬1) أخرجه بالإسناد، وقال: "سبائت" بدل "سبائك"، والذي جاء في نسخ المسند في الموضعين "سبائك". والذي رواه البيهقي في السنن والآثار (¬2): "سبائب" وقال: قال الربيع "سبائك". "والسبائب" جمع سبيبة وهي شقة كتان رقيقة، وقيل: هي المقانع، وأما السبائك فلا يخلو أن يكون الشافعي قالها ونقلها عنه الربيع، أو يكون الشافعي قال "السبائب" كما قال مالك وتوهم الربيع أنها السبائك فقالها، وقول أبي العباس الأصم في الحديث: قال: الربيع: "سبائك" يحتمل الأمرين، ولكن لما كان الأصم قد عرف أن مالكًا إنما روى في الموطأ "السبائب" وروى عنه الربيع "السبائك" قال: قال الربيع: "السبائك" حتى لا يُظَن أنه هو الذي قالها، وإنْ كان الشافعي هو الذي قالها فيكون قد رواها عن مالك من طريقه "السبائك" ورواه غيره عن مالك "السبائب". "والسبائك" يريد بها الدقيق الحواري الأبيض، ومنه حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لو شئنا لملأنا الرحاب صلائق وسبائك" أي ما سبك من الدقيق ونخل فأخذ خالصه. ¬

_ (¬1) الموطأ (1340). (¬2) معرفة السنن والآثار (8/ 137).

وأما "الصلائق" فإنها الخبز الرقاق. قال الشافعي عقيب هذا الحديث بعدما حكى قول مالك في تفسير الحديث: ليس هذا قول ابن عباس ولا تأويل حديثه، يعني قوله: "أنه أراد أن يبيعها من صاحبها الذي اشتراها منه بأكثر من الثمن الذي ابتاعها منه" ثم روى حديث ابن عباس برأيه: "ولا أحسب كل شيء إلا مثله" ثم قال: وبقول ابن عباس نأخذ؛ لأنه إذا باع شيئًا اشتراه قبل أن يقبضه فقد باع مضمونًا له على غيره بأصل البيع، وأكل ربح ما لم يضمن، وخالفتموه فأجزتم بيع ما لم يقبض سوى الطعام من غير صاحبه الذي ابتيع منه، ولا أعلم بين صاحبه الذي ابتيع منه وبين غيره فرقًا. وقد أخرج الشافعي من رواية المزني عنه، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "كنا نبتاع الطعام في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه منه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3). وأخرج الشافعي، عن مالك، عن نافع: "أن حكيم بن حزام ابتاع طعامًا أمر به عمر بن الخطاب للناس، فباع حكيم الطعام قبل أن يقبضه، فقال عمر: لا تبع طعامًا ابتعته قبل أن تقبضه" (¬4). قال الشافعي: فنهى عمر حكيمًا عن أنْ يبتاع الطعام بالمدينة من الذين أمر لهم وهو بعينه؛ إلا أنهم إنما باعوه بصفة ولم يقبضوه، إذْ كانوا ملكوه بلا بيع، والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري (2123). (¬2) مسلم (1527). (¬3) أبو داود (3493). (¬4) أخرجه مالك في الموطأ (1313) والبيهقي في السنن الكبرى (5/ 315).

الفصل الخامس في بيع النجاسات

الفصل الخامس في بيْع النجاسَاتِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن ابن وعلة المصري: "أنه سأل ابن عباس عما يعصر من العنب، فقال ابن عباس: أهدى رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -[راوية] (¬1) خمر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما علمت أن الله قد حرمها؟ فقال: لا، فسارّ إنسانًا إلى جنبه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: بما ساررته؟ فقال: أمرته أن يبيعها، فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، ففتح المزادتين حتى ذهب ما فيهما". هذا حديث صحيح أخرجه مالك ومسلم. أما مالك (¬2) فأخرجه بالإسناد واللفظ. وأما [مسلم] (¬3) فأخرجه (¬4) عن سويد بن سعيد، عن حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم. "الراوية": المزادة، وهي معروفة، وهذا الاسم هو في الأصل الدابة يستقى عليها، وقد استعير للمزادة فسميت به على سبيل المجاز، وهو في الأصل أيضًا مجاز لأن الراوية التي رويت من الماء وعلى الحقيقة، فسواء سميت به الدابة أو المزادة إنما هي مروية لا راوية؛ لأنها تروي غيرها, ولو قيل: إنما سميت راوية لأنها قد رويت في نفسها، أما الدابة؛ فلأنها لملازمتها الماء وقربها منه لا تكاد تظمأ، وأما المزادة؛ فلأن الماء لا يزال فيها، والكل مجاز واتساع. ¬

_ (¬1) في "الأصل"، رواية" بتقديم الواو على الألف، وهو تحريف، والمبثت من مصادر التخريج، وانظر الشرح. (¬2) الموطأ (1543). (¬3) في "الأصل" مالك، وهو سبق قلم أو انتقال نظر من الناسخ. (¬4) مسلم (1579) وأخرجه من طريق ابن وهب، عن مالك به.

والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن بيع الخمر حرام ولا يصح؛ لأنها نجسة وكذلك سائر الأنبذة المسكرة. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع جميعها إلا الخمر. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بيع نقيع التمر والزبيب، ويجوز بيع الباقي منها. وقال أبو حنيفة: يجوز للمسلم أن يوكل ذميًّا في بيع الخمر وشرابها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس قال: "بلغ عمر بن الخطاب أن رجلاً باع خمرًا، فقال: قاتل الله فلانًا؛ باع الخمر، أما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قاتل الله يهودًا؛ حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها". هكذا رواه الربيع، وقد رواه المزني عنه بهذا الإسناد قال: "بلغ عمر أن سمرة باع خمرًا فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم أن يأكلوها فباعوها". وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. أما البخاري (¬1) فأخرجه عن الحميدي، عن سفيان. وأما مسلم (¬2) فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وإسحاق ابن إبراهيم، عن سفيان. وأما النسائي فأخرجه [] (¬3). ¬

_ (¬1) البخاري (2223). (¬2) مسلم (1582). (¬3) بَيَّضَ له المؤلف ولم يذكر الإسناد، والحديث أخرجه النسائي (4257) من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان.

قوله: "قاتل الله فلانًا" أي قتله، وهو في أصل الوضع فَاعَلَ من القتل، ويستعمل في الدعاء على الإنسان، وفي التعجب منه، وقيل معناه: عاداه الله، والأصل الأول. "وجَمَّلْتُ" الشحم، وأجملته: إذا أذبته، وجملته أفصح اللغتين وأكثر. وهذا الحديث مؤكد للنهي عن بيع الخمر وتعليل لما سبق في الحديث قبله من قوله: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" وعمر استدل على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "قاتل الله اليهود؛ حُرِّمت عليهم الشحوم ... " الحديث وذلك أنهم لما حرم عليهم أكلها أفتوا أنفسهم فَأَذابوها فباعوها وانتفعوا بثمنها، فقاس عمر فعل سمرة على فعل اليهود لما حرمت عليه الخمر وتعذر عليه الانتفاع بها؛ باعها لينتفع بثمنها. وقد أخرج المزني، عن الشافعي، عن عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن بركة أبي الوليد، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا خلف المقام، فرفع رأسه إلى السماء، فنظر ساعة ثم ضحك، ثم قال: قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم، فباعوها فأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه". أخرجه أبو داود (¬1). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رجالًا من أهل العراق قالوا له: إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب، فنعصره خمرًا فنبيعها، فقال عبد الله: إني أُشْهِدُ الله عليكم وملائكته ومن يسمع من الجن والإنس أني لا آمركم أن تبيعوها ولا تبتاعوها [ولا تعصروها] (¬2) ولا ¬

_ (¬1) أبو داود (3488). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "مسند الشافعي"، "والأم" (6/ 80)، والسنن الكبرى للبيهقي (8/ 286).

تسقوها؛ فإنها رجس من عمل الشيطان". هذا حديث مؤكد لما سبق من حديث المنع عن بيع الخمر والنهي عنه لما فيه من التغليظ. "والرجس": النجس والقذر، وفيه بيان لإطلاق اسم الخمر على ما يعصر من غير العنب؛ لقوله: "إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فنعصره خمرًا" ولولا ما تقرر في نفوسهم من جواز ذلك لما سماها خمرًا. وقوله: "رجس من عمل الشيطان" يريد قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} (¬1) الآية، على أنه مأمور باجتنابها، وبيان مستند الاجتناب. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي مسعود الأنصاري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. فأما [مالك] (¬2) فأخرجه إسنادًا ولفظها. وأما البخاري (¬3) فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬4) فأخرجه، عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬5) فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، عن ابن شهاب. وأما الترمذي فأخرجه (¬6) عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية (90). (¬2) ليست في "الأصل" ولعلها سقطت من الناسخ، والحديث في الموطأ (1338). (¬3) البخاري (2238). (¬4) مسلم (1567). (¬5) أبو داود (3428). (¬6) الترمذي (1276).

وغير واحد، كلهم عن سفيان، عن ابن شهاب. وعن قتيبة، عن [سفيان] (¬1) عن ابن شهاب. وأما النسائي (¬2) فأخرجه عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، عن ابن شهاب. "البغي": المرأة الزانية، بغت تبغي بغيًا فهي بغي، والجمع البغايا، ويقال للأمة: بغي ولا يراد به الزنا؛ وذلك أن الأصل كان في الإماء أنهن يزنين، ثم كثر ذلك فيهن فغلب عليهن، فأطلق الاسم على الأمة وإن لم تكن زانية. ومهر البغي هو ما تعطى [الزانية] (¬3) من الأجرة، شَبَّهَهُ بالمهر الذي هو الصداق؛ لأنه في مقابل النكاح. "والكاهن" معروف، والجمع الكهان والكهنة تقول: كهن يكهن كِهَانة -بالكسر- إذا تكهن، وإذا أردت أنه صار كاهنًا. قلت: كَهُنَ بالضم، كَهَانَة بالفتح، فالكاهن هو الذي كان يخبر الناس عن أشياء يجبونها له، وعن أشياء يسألونه عنها من المغيبات والمتوقعات بزعم أن الشيطان يطلعه عليها، وكان ذلك قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأبطله الله ببعثته والفرقان الذي أنزله عليه، وحلوانه ما يُعطى من الهدية ليخبرهم عما يسأُلونه عنه مما يجهلونه ويعتقدون أنه عارف به، تقول: حلوت فلانًا على كذا فاُنا أحلوه حلوانًا إذا وهبته شيئًا في مقابلة شيء فعله لك. والفرق بين الكاهن والعراف عند العرب: أن الكاهن إنما يتعاطى الخبر عن الكائن في مستقبل الزمان، ويدعي معرفة الأسرار، والعراف هو الذي يتعاطى معرفة الشيء المسروق ومكان الضوال ونحو ذلك من الاُمور، فالكاهن أعلى رتبة من العراف وهذه الأشياء الثلاثة حرام. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل" ولعله سبق قلم أو انتقال نظر من الناسخ وإنما رواه الترمذي (1133، 1276، 2071) عن قتيبة بن سعيد، عن الليث عن ابن شهاب وانظر تحفة الأشراف (10010). (¬2) النسائي (4292). (¬3) في "الأصل": الزنانية، وهو تحريف.

أما الكلب فلأفه نجس الذات حرام الثمن، والزنا حرام فالعوض المأخوذ عنه أيضًا حرام، والتكهن باطل لا أصل له، وقد نهى الشرع عنه؛ فالأجر عليه حرام، فبيع الكلب لا يصح سواء كان مُعَلّمًا أو غير مُعَلَّم، وبه قال الحسن البصري وربيعة وحماد وأحمد وداود. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه، وعنه في الكلب العقور رواية أنه لا يجوز بيعه. واختلف أصحاب مالك، فمنهم من قال: يجوز بيعه، ومنهم من قال: المأذون في إمساكه يكره بيعه ويصح. ومعنى هذا النهي في الحديث أنه عام في أكلها واقتنائها واكتسابها وقبولها، وعن جميع التصرفات الجارية في غيرها من الأشياء المباحة. وروى الربيع، عن الشافعي، عن بعض من كان يناظره، قال: أخبرني بعض أصحابنا، عن محمد بن إسحاق، عن عمران بن أبي أنس: "أن عثمان أغرم رجلاً ثمن كلب قتله عشرين بعيرًا". قاله الشافعي: فقلت له: أرأيت لو ثبت هذا عن عثمان، كنت لم تصنع شيئاً في احتجاجك على شيء ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والثابت عن عثمان خلافه؟ قال: فاذكره، قلت: أخبرنا الثقة، عن يونس، عن الحسن قال: "سمعت عثمان يخطب وهو يأمر بقتل الكلاب". قال الشافعي: فكيف يأمر بقتل ما يُغَرِّم من قتله قيمته. قال البيهقي: هذا الذي روي عن عثمان في إغرام ثمن الكلب منقطع، وهذا الحديث في معنى الكلب والبغي والكاهن أخرجه الشافعي في كتاب البيوع، وعاد فأخرجه في كتاب اختلافه مع مالك، ثم زاد في آخره: قال مالك: وإنما كره بيع الكلاب الضواري وغير الضواري بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب.

"والضواري" جمع ضارٍ، وهو من الكلاب المعلَّم المعوَّد، تقول: ضرى الكلب بالصيد ضراوة، وكلب ضارٍ، وأضره صاحبه أي عوده وأضراه به أي أغراه، وقول مالك: الضواري وغير الضواري يريد جنس الكلاب. ووجه استدلال الشافعي -رضي الله عنه- من هذا الحديث: أن النهي عن ثمن الكلب يدل على فساد بيعه؛ لأن العقد إذا صح على سقوط وجوبه وإذا بطل الثمن بطل البيع؛ لأن البيع إنما هو عقد على شيء بثمن معلوم، وإذا بطل الثمن بطل المثمن، وهذا مثل ما سبق من تحريم ثمن الخمر بتحريم شربها. ***

الفصل السادس في أشياء متفرقة

الفصل السادس في أشياء متفرقة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن حميْد بن قيس، عن سليمان بن عتيق، عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنين". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وأخبرنا الشافعي، أبنا سفيان، عن عمرو، عن جابر قال: "نهيت ابن الزبير عن [بيع] (¬1) النخل معاومة". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود. فأما مسلم (¬2) فأخرجه عن سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير، عن ابن عيينة بالإسناد الأول، عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنين". وأما أبو داود فأخرجه (¬3) عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، عن سفيان بالإسناد الأول، وزاد: "ووضع الجوائح". وأخرج الرواية الثالثة (¬4) مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسدد، عن حماد، عن أيوب، عن أبي الزبير وسعيد بن ميناء، عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المعاومة"، وقال أحدهما: "بيع السنين". "بيع السنين": هو أن تبيع الثمرة لأكثر من سنة واحدة في عقد واحدٍ، ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من المسند (1/ 333). (¬2) مسلم (1536). (¬3) أبو داود (3374). (¬4) أبو داود (3375).

وهذا فاسد؛ لأنه بيع غرر، فإنه بيع ما لم يخلق بعد، والنهي قد تقدم عن بيع ما لم يَبْدُ صلاحه، فكان بيع ما لم يُخلق آكد في باب النهي. والذي جاء في الرواية الأخرى: "نهى عن المعاومة"، وهي مفاعلة من العام: السنة، وهو بيع السنين، وبيع السنين إنما هو ما كان بلفظ البيع واقعًا على بيع الأعيان، فأما في بيع الصفات فهو جائز مثل أن يسلف في الشيء إلى ثلاث سنين أو أكثر بإثبات الصفات، وهو السلم، وسيأتي ذكره في موضعه. وأما الجوائح فهي جمع جائحة، وسيأتي بيانها في موضعها إن شاء الله. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-، عن مالك، عن أبي حازم بن دينار، عن سعيد بن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغرر". وهكذا أخرجه المزني عنه مرسلاً، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، والنسائي (¬4) مرفوعًا عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أخرج الشافعي في "سنن حرملة"، عن إسماعيل بن عُلية، عن علي بن الحكم، عن نافع، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل" وهو حديث صحيح أخرجه البخاري (¬5) وأبو داود (¬6) والترمذي (¬7). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سعيد سالم عن شيبة بن عبد الله البجلي من أهل البصرة، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الفحل". ¬

_ (¬1) مسلم (1513). (¬2) أبو داود (3376). (¬3) الترمذي (1230). (¬4) النسائي (4518). (¬5) البخاري (2284). (¬6) أبو داود (3429) (¬7) الترمذي (1273).

هذا الحديث [أخرجه] (¬1) الترمذي (¬2). قال الشافعي أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل معناه. إنما قال الشافعي مثل معناه لأن مسلمًا أخرج في الصحيح (¬3) من حديث روح بن عبادة، عن ابن جريج بالإسناد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ضراب الجمل". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن موسى بن عبيدة، عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس: "أنه كان يكره بيع الصوف على ظهر الغنم، واللبن في ضروع الغنم؛ إلا بكيل". هكذا رواه الشافعي -رضي الله عنه- موقوفًا، ورواه أبو إسحاق، عن عكرمة، عن ابن عباس كذلك، ورواه عمر، عن فروخ، عن حبيب بن الزبير، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا، وروي عنه مرسلاً، والصحيح أنه موقوف. "والضروع" جمع ضرع، وهو للشاة كالثدي للمرأة. وقوله: "إلا بكيل" يريد كيل اللبن ليُعلم مقداره. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم، وبه قال أبو حنيفة لأنه متصل بالحيوان، فلا يجوز إفراده بالعقد كأعضائه ولأنه لا يمكن تعيين مكان القطع من أصل الصوف فيصير مجهولاً، وكذلك في اللبن؛ لأنه مجهول المقدار والصفة، وقال مالك والليث: يجوز. قال الشافعي فيما حكاه عن بعض العراقيين أنه قال: بلغنا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "لا يُشترى السمك في الماء؛ فإنه غرر" قال: وكذلك بلغنا عن عمر بن الخطاب، وإبراهيم النخعي. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) الترمذي (1274) بنحوه بغير هذا الإسناد. (¬3) مسلم (1565).

وقد روي حديث ابن مسعود مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقد أخرج المزني عن الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن حبل الحبلة وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية؛ كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها". وأخرج المزني أيضًا عن الشافعي، عن سفيان، عن أيوب السختياني، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عمر ... الحديث، ولم يذكر التفسير. هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬2) إلا النسائي. قال الشافعي في تفسير حبل الحبلة: هو أن يبيع الرجل شيئًا بثمن مؤجل إلى أن تنتج الناقة وينتج نتاجها عملاً بما جاء من تفسيرها في الحديث، ونحن نزيده بيانًا وذلك أن الحبل مصدر سمي به المحمول كما سمي بالحمل، وإنما أدخلت عليه التاء للإشعار بمعنى الأنوثة، وذلك أن معناه أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أنه يكون أنثى، وإنما نهى عنه لأنه غرر، فالحبل الأول يراد به ما في بطون النوق، والثاني حبل الذي في بطون النوق. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا الثقة، عن أيوب، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام قال: "نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندي". هذا حديث حسن أخرجه أبو داود والترمذي (¬3)، فأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن مسدد، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف، عن حكيم قال: "يا رسول الله، يأتيني الرجل ويريد مني البيع ليس عندي أفأبتاعه له من السوق؟ فقال: لا تبع ما ليس عندك". وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، وعن ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (3676) مرفوعًا؛ والطبراني في الكبير (9/ 321) موقوفًا. (¬2) أخرجه مالك في الموطأ (1333)، والبخاري (2143)، ومسلم (1514)، وأبو داود (3380)، والترمذي (1229). (¬3) وأخرجه النسائي أيضًا (4613) من طريق زياد عن أيوب. (¬4) أبو داود (3503). (¬5) الترمذي (1232، 1233).

قتيبة، عن هشيم، عن أبي بشر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن بيع ما ليس عند البائع لا يجوز، وصورته أن يجيء المبتاع إليك فيطلب منك سلعة وليست عندك وهي عند غيرك فتبيعهما من طالبها ثم تشتريها من الذي هي عنده ثم تسلمها إلى الطالب بالبيع الأول وذلك بيع غرر؛ لأن صاحبها قد لا يبيعها، وأنت غير مالك لها عند العقد، ولا قادر على تسليمها، ومن صور بيع ما ليس عنده أن يبيعه عَبْدَه الآبق، وجَمَلَه الشارد، ويدخل فيه بيع الرجل مال غيره موقوفًا على إجازة المالك. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير أنه أخبره، عن جابر بن عبد الله أنه سمعه يقول: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر" وفي نسخة: "مكيلتها". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1) عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن ابن جريج. "الصبرة": المقدار المجتمع من التمر أو الطعام ونحو ذلك إذا كان بعضه فوق بعض سواء كان مجهول القدر أو معلومه. "المكيل" والمكيلة مصدر كلت الشيء كيلًا ومكيلًا ومكيلة، واسم المفعول أيضًا مكيل. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- العمل بهذا الحديث وهو أن لا تباع صبرة بصبرة من طعام ولا يُعلم مكيلتها أو مكيلة إحداهما. قال في "الأم": وإذا باع صبرة بصبرة نظرت فإن كانتا من جنس واحد فإن ¬

_ (¬1) مسلم (1530).

أطلق البيع لم يجز؛ لأن التساوي شرط والجهل به كالعلم بالتفاضل، فيكون البيع باطلاً، فإن كانتا من جنسين وأطلقا صح البيع والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك وابن عيينة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: ["أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء وعن هبته. وأخبرنا محمد بن الحسن عن يعقوب بن إبراهيم. عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر] (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا تباع ولا توهب". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا النسائي. فأما مالك فأخرجه (¬2) بالإسناد واللفظ. وأما البخاري فأخرجه (¬3) عن أبي الوليد، عن شعبة، عن عبد الله بن دينار. وأما مسلم فأخرجه (¬4) عن ابن المثنى، عن غندر، عن شعبة. وأما أبو داود فأخرجه (¬5) عن حفص بن عمر، عن شعبة. وأما الترمذي (¬6) فأخرجه عن محمد بن بشار، عن ابن مهدي، عن سفيان وشعبة، عن عبد الله بن دينار: وذكر الرواية الأولى. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من مسند الشافعي (1/ 338) والشرح مبني على هذا النسق حيث ذكر المؤلف طريق الترمذي ثم قال: وذكر الرواية الأولى وكذا عَزْوه للأحاديث إنما يعزو للمتن الذي سقط من "الأصل". (¬2) الموطأ (1480). (¬3) البخاري (2535). (¬4) مسلم (1506). (¬5) أبو داود (2919). (¬6) الترمذي (1236).

"الولاء": ولاء المُعْتَق، وهو ما يُبْقي المُعتِق يستحقه على مُعْتَقه، وذلك أنه إذا مات المُعْتَق ولا وارث له، يرثه المُعْتِق، قال ابن الأعرابي: كانت العرب تبيع ولاء مواليها وتأخذ عليه المال وأنشد في ذلك: فباعوه مملوكًا وباعوه معتقًا ... فليس له حتى الممات خلاص فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. "واللُّحْمة" في القرابة والنسب بضم اللام، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الولاء بمنزلة القرابة والنسب، لا يمكن الانفصال منه كما لا يمكن الانفصال من النسب، وكما أن القرابة والنسب لا تباع ولا توهب فكذا الولاء. والرواية الثانية التي فيها ذكر اللحمة كذا رواها الشافعي، عن محمد بن الحسن الفقيه الشيباني، عن أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحبي أبي حنيفة فترك في الإسناد عبيد الله بن عمر. وقد رواه محمد بن الحسن في كتاب الولاء عن أبي يوسف، عن عبيد الله ابن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر .. الحديث، هذا اللفظ بهذا الإسناد غير محفوظ، ورواية الجماعة: عن ابن دينار عن ابن عمر هي الرواية الأولى، كذا رواه عبيد الله بن عمر في رواية عبد الله الثقفي وغيره، وكذا رواه مالك والثوري وشعبة والضحاك بن عثمان وسفيان بن عيينة وسليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر، وغيرهم ورواه أبو عمير بن النحاس، عن ضمرة، عن الثوري على اللفظ الذي رواه أبو يوسف، وقد اجتمع أصحاب الثوري على خلافه، وروى عن يحيى بن سليمان، عن عبيد الله، عن نافع عن ابن عمر وهو واهمٌ على عبيد الله في الإسناد والمتن جميعًا. وروي من أوجه ضعيفة، وأصح ما روي فيه حديث هشام بن حسان، عن

الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وهذا مرسل، وسنذكر كلام الشافعي على هذا الحديث في كتاب العتق إن شاء الله تعالى. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الولاء لا يجوز بيعه ولا هبته، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر، وبه قال ابن المسيب وطاوس وإياس بن معاوية والزهري ومالك وأبو حنيفة وصاحباه. وروي عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها وهبت ولاء مواليها لبني العباس، وأن عروة ابتاع ولاء طهمان لورثة مصعب بن الزبير. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في "سنن حرملة"، عن سفيان، عن عمرو ابن دينار، عن أبي المنهال، عن إياس بن عبدٍ أنه قال: "لا تبيعوا الماء؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الماء، لا يدري عمرو أي ماء هو". هذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب "التاريخ" (¬1)، وقال: "نهى عن بيع فضل الماء". قال الشافعي: معنى الحديث -والله أعلم- أن يباع الماء في الموضع الذي خلقه الله عز وجل فيه، وذلك أن يأتي بالبادية الرجل له البئر ليسقي بها ماشيته ويكون في مائها فضل عن ماشيته، فَنُهي عن منعه؛ لأن في منعه أن يسقي ماشيته منعًا للكلأ لا بملك (¬2). ¬

_ (¬1) التاريخ الكبير (1/ 440)، والحديث أخرجه أيضًا الترمذي (1271) من طريق داود بن عبد الرحمن العطار عن عمرو بن دينار به وقال: حديث إياس حديث حسن صحيح والعمل على هذا. وكذا أخرجه النسائي (4661) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار به. والحديث أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله (1565). (¬2) انظر معرفة السنن (8/ 180).

وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن [ابن علية] (¬1) عن حماد [عن] (¬2) إبراهيم، عن علقمة بن عبد الله: "أنه كره شراء المصاحف وبيعها". قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا، لا يرون بأسًا ببيعها. قال البيهقي: وروينا عن زياد مولى سعد، أنه سأل ابن عباس عن بيع المصاحف لتجارة فيها، فقال: "لا نرى أن نجعله متجرًا, ولكن ما عملت بيدك فلا بأس به" فكأنهم إنما كرهوا ذلك على وجه التنزيه تعظيمًا للمصحف عن أن يبتذل للبيع أو يجعل متجرًا والله أعلم (¬3). ... ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من "الأم" (7/ 176)، ومعرفة السنن (8/ 181)، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 16). (¬2) في "الأصل": بن، وهو تحريف والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) معرفة السنن (8/ 181).

الباب الثاني فيما لا يجوز فعله في البيع

الباب الثاني فيما لا يجوز فعله في البيع وفيه ثمانية فصول الفصل الأول في الخداع أخرج المزني عن الشافعي قال: حدثني سفيان، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ برجل يبيع طعامًا فأعجبه، فأدخل يده فيه، فإذا هو طعام مبلول، فقال: ليس منا من غشنا". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1)، وأبو داود (¬2)، والترمذي (¬3)، ورواية مسلم أتم من هذا. وأخرج المزني أيضًا عن الشافعي، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: "أن رجلاً ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يُخدَع في البيع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بايعت فقل: لا خلابة فكان الرجل إذا بايع يقوله: لا خلابة". هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬4) إلا النسائي (¬5). "والخلابة": الخداع، ومنه قال: خَلَبَت المرأة قلب الرجل إذا خدعته بألطف وجه. ¬

_ (¬1) مسلم (102). (¬2) أبو داود (3452). (¬3) الترمذي (1315). (¬4) البخاري (2117) عن طريق مالك به، ومسلم (1533) من طرق عن عبد الله بن دينار، وأبو داود (3500) من طريق مالك، والنسائي (4484) من طريق مالك أيضًا، ومالك في الموطأ (1368). (¬5) كذا في "الأصل" ولعله سبق قلم، والصواب إلا الترمذي كما في تخريج الحديث.

الفصل الثاني في النجش

الفصل الثاني في النجش أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النجش". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي. فأما مالك فأخرجه بالإسناد واللفظ (¬1) ثم زاد: "قال: والنجش أن تعطيه بسلعة أكثر من ثمنها وليس في نفسك اشتراؤها، فيقتدى بك غيرك". قال الشافعي: "والنجش" أن يَحْضُر الرجل السلعة تباع فيعطي بها الشيء وهو يريد الشراء ليقتدي به السُوَّام فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعوا سومه. وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن عبد الله بن مسلمة، عن مالك. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن يحيى، عن مالك. وأما النسائي فأخرجه (¬4) عن قتيبة، عن مالك، ولم يذكروا زيادة مالك. والأصل في النجش: المدح والإطراء، والمراد أنه لا يمدح السلعة ويزيد فيها وهو لا يريدها، وذلك خداع محرّم، وقيل: هو تنفير الناس عن الشيء إلى غيره، والأصل فيه تنفير الوحش من مكان إلى مكان، والأول هو الصحيح، وهو تأويل الفقهاء وأهل العلم. قال الشافعي: فمن نجش فهو عاصٍ بالنجش إن كان عالماً بنهي رسول ¬

_ (¬1) الموطأ (1367). (¬2) البخاري (2142). (¬3) مسلم (1516). (¬4) النسائي (4505).

الله - صلى الله عليه وسلم -، والبيع جائز لا تفسده معصية رجل نجش عليه. وقال مالك: البيع مفسوخ لأجل النهى؛ لأنه تغرير بالمشتري، وله الخيار إذا علم، والزيادة حرام على البائع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تناجشوا". [وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك وسفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله] (¬1). وأخبرنا الشافعي، عن سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم في جملة حديث طويل، وأخرجه أبو داود والترمذي. فأما البخاري فأخرجه (¬2) عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن يحيى بن يحيى، عن مالك، كلاهما عن أبي الزناد. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن سفيان، عن الزهري. وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن قتيبة وابن منيع، عن سفيان، عن الزهري. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) البخاري (2150). (¬3) مسلم (1515). (¬4) أبو داود (3438). (¬5) الترمذي (1304).

[وهذا] (¬1) الحديث آكد في بيان النهي من حديث ابن عمر لأنه ذكر فيه لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن عمر ذكر لفظ نفسه، وقد تقدم بيان مثل هذا فيما تقدم من الكتاب مستقصى. وأما لفظ "تناجشوا" فإن الأصل فيها تتناجشوا لأنها تتفاعلوا من النجش، وهي فعل مستقبل لا بد له من تاء المخاطبة التي في الفعل المضارع، وحذفت في اللفظ تخفيفًا وهي مرادة، وهذا مطرد في الاستعمال، والداعي إلى ذلك أنه لما اجتمع في أول الفعل تاء التفاعل فإن أصل الكلمة ناجش للواحد وناجشوا للجمع وتناجشوا تفاعلوا والفعل حينئذ ماضٍ فإذا جعلته مضارعًا أدخلت عليه تاء المخاطب فقلت: تتناجشوا، فاجتمع تاءان فثقل النطق بهما فحذفوا الأولى تخفيفًا، وإنما حذفوا تاء المضارعة لأن لفظ الفعل يدل عليها والمعنى، وذلك أن النهي إنما يقع عن فعل لم يوجد ولا يكون إلا مستقبلاً، والمفاعلة تكون من اثنين فصاعدًا، وقد جاءت من واحد كقولهم: طارقت الفعل، وعافاك الله، ونحو ذلك. ... ¬

_ (¬1) في "الأصل": وهو.

الفصل الثالث في الملامسة والمنابزة

الفصل الثالث في الملامسة والمنابذة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان، وعن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الملامسة والمنابذة". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا أبا داود. فأما مالك فأخرجه (¬1) إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2) فأخرجه عن إسماعيل. وأما مسلم (¬3) فأخرجه عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك. وأما [الترمذي] (¬4) فأخرجه عن أبي كريب ومحمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان، عن أبي الزناد. وأما النسائي فأخرجه (¬5) عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. وفي الباب عن أبي سعيد الخدري (¬6) وابن عمر (6). "الملامسة": هو أن يقول البائع للمشتري: إذا لمست ثوبي أو لمسْت ثوبك فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يلمس المبيع من وراء ثوب ولا ينظر إليه ثم يقع ¬

_ (¬1) الموطأ (1346). (¬2) البخاري (5821). (¬3) مسلم (1511). (¬4) في "الأصل": مالك، وهو سبق قلم، والمثبت هو الصواب، والحديث أخرجه الترمذي من هذا الطريق (1310). (¬5) النسائي (4509). (¬6) يأتي ذكرها بعد قليل.

عليه، وقيل: هو أن يجعل اللمس بالليل في الظلمة قطعًا للخيار، وهذا كله بيع غرر ومجهول. وأما "المنابذة" فهي أن يقول أحد المتبايعين للآخر: إذا نبذت إلى الثوب أو نبذته إليك فقد وجب البيع. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن بيع الملامسة باطل؛ لأنه تعليق على اللمس أو عدول عن الصيغة الشرعية، وكذا بيع المنابذة باطل أيضًا كما قلنا في الملامسة، أو لأن المعاطاة لا يصح البيع بها عند الشافعي. وقد أخرج المزني، عن الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين وعن لبستين، فأما البيعتان فالملامسة والمنابذة، وأما اللبستان فاشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي (¬4) وقد جاء في بعض طرقهم عن أبي سعيد تفسير هذه الأشياء (¬5). قال: "الملامسة في البيع لمس الرجل ثوب الآخر بيده بالليل أو بالنهار لا يقلبه، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر بثوبه إليه ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تراض، واشتمال الصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب، واللبسة الأخرى احتباؤه بثوبه ليس على فرجه منه شيءٌ". ¬

_ (¬1) البخاري (6284). (¬2) مسلم (1512). (¬3) أبو داود (3377). (¬4) النسائي (5341). (¬5) البخاري (5820).

الفصل الرابع البيع على بيع أخيه

الفصل الرابع في البَيْع على بَيع أخِيه أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبع بعضكم على بيع بعض". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1) فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن إسماعيل بن أبي أويس. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن القعنبي، كلهم عن مالك. وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن قتيبة، عن الليث، عن نافع. وأخرجه النسائي (¬6) مثل الترمذي. قد تعاضد كثير من الروايات لهذا الحديث فيما قرأناه من نسخ هذه الكتب "لا يبيع" بإثبات الياء والفعل غَير مجزوم، وذلك لحن؛ لأن "لا" للنهي وعلامة الجزم في الفعل المعتل هي حذف حرف العلة، تقول في: هو يقوم، ويبيع، وينام: لا تقل، ولا تبع، ولا تنم، فتحذف الواو والياء والألف، وحذفها علامة ¬

_ (¬1) الموطأ (1365). (¬2) البخاري (2139) بلفظ: "على بيع أخيه". (¬3) مسلم (1154). (¬4) أبو داود (3436). (¬5) الترمذي (1292). (¬6) النسائي (4503).

الجزم، وقد تقدم بيان مثل هذا فيما سبق، وإن صحت الرواية ولم يكن تحْريفًا من النساخ؛ فتكون "لا" نافية وقد أعطاها معنى النهي لأنه إذا نفى أن يوجد هذا البيع فكأنه قد استمر عدمه، والمراد من النهي عن الفعل إنما هو طلب إعدامه أو استبقاء عدمه فكان النفي الوارد من الواجب صرفه يفيد ما يراد من النهي، وهذا معنى لطيف، وإنما حَمَلَنَا عليه القصد إلى تصحيح ما اتفقت عليه كتب العلماء ورواياتهم والله أعلم. ورأيت الإِمام أبا نصر بن الصباغ قد ذكر في "الشامل" لماَّ أورد هذه المسألة وهذا الحديث قال: والمراد به النهي وإن كان لفظة لفظ الخبر، وهذا يعضد ما قلناه من ورود الروايات بلفظ النفي لا النهي. وفي قوله: "على بيع أخيه" زيادة تقبيح لمخالفة النهي وتحريض على الوقوف عنده واتباعه، والمراد بالأخوة ها هنا أخوة الإِسلام لا أخوة النسب. ولمعنى هذا النهي تأويلان: أحدهما: أن يشتري الرجل السلعة، ويتم البيع ولم يفترق المتبايعان عن مقامها ذلك، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض رجل آخر سلعة أخرى على ذلك المشتري [تشبه] (¬1) السلعة التي اشتراها ليبتاعها منه، لما في ذلك من الإفساد على البائع الأول؛ إذ لعله يرد المشتري السلعة التي اشتراها أولاً ويميل إلى هذه، وهو وإن كان لهما الخيار ما لم يفترقا فهو نوع من الإفساد. والقول الثاني: أن يكون المتبايعان [يتساومان] (¬2) في السلعة ويتقارب العقد بينهما ويقع التراضي، ولم يبق إلا اشتراط النقد أو نحوه، فيجيء رجل آخر يريد أن يشتري تلك السلعة ويخرجها من يد المشتري الأول، وذلك ممنوع عند المقاربة؛ لما فيه من الإفساد ومباح أول العرض والمساومة. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "لشبه"، وهو تحريف. (¬2) في "الأصل": يتساويان، وهو تحريف أيضًا.

وقال الفقهاء: إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد، فطلب طالب السلعة بأكثر من الثمن ليرغب البائع في فسخ العقد، فهذا هو البيع على بيع أخيه وهو محرم؛ لأنه إضرار بالغير، لكنه منعقد لأن نفس البيع غير مقصود بالنهي؛ فإنه لا خلل فيه. وكذلك إذا رغب المشتري في الفسخ [لعرض] (¬1) سلعة أجود منها بمثل ثمنها، أو مثلها بدون ذلك الثمن فإنه مثله في النهي. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فبهذا نأخذ، فينتهي الرجل إذا اشترى من رجل سلعة فلم يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه أن يبيع المشتري سلعة تشبهها؛ لأنه لعله يَرُدَّ التي اشترى أولاً؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل للمتبايعين الخيار ما لم يتفرقا، فيكون البائع الآخر قد أفسد على البائع الأول بيعه، ثم لعل البائع الآخر يختار نقض البيع؛ فيفسد على البائع والمبتاع بيعه، قال: ولو كان البيع إذا عقداه لزمهما ما ضَرَّ البائع أن يبيعه رجل سلعة كسلعته، فإذا باع على بيع أخيه في هذه الحال فقد عصى الله -إذا كان عالماً بالحديث فيه- والبيع لازم لا يفسد، بدلالة الحديث نفسه. قال الشافعي: وقد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يسوم أحدكم على سوم أخيه" فإن كان ثابتًا -ولست أحفظه ثابتًا- فهو مثل "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ولا يسوم على سومه" (¬2) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع فيمن يزيد، وبيع من يزيد سوم رجل على سوم أخيه؛ ولكن البائع لم يرض السوم الأول وطلب الزيادة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بيع بعضكم على بيع بعض". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري عن ابن ¬

_ (¬1) في "الأصل": تعرض، وهو تحريف. (¬2) زاد في معرفة السنن والآثار (8/ 162): إذا رضي البائع وأَذِنَ بأن يباع قبل البيع حتى لو بيع لزمه.

المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا بيع الرجل على بيع أخيه". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه،- أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. هذا طرف من حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك فأخرجه (¬1) عن أبي الزناد في جملة حديث. وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن الزهري. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن القعنبي. وأما النسائي فأخرجه (¬5) عن قتيبة، جميعًا عن مالك. وأما الترمذي فأخرجه (¬6) عن أحمد بن منيع وقتيبة، عن سفيان، عن الزهزي. قد تقدم شرح هذا الحديث في حديث ابن عمر. وقوله في الرواية الثانية: "لا يبيع الرجل" يريد به جنس الرجال لا رجل بعينه، وهذا النهي لا يخص الرجال دون النساء وإن كان اللفظ يقتضيه، وإنما ذكر اللفظ "الرجال" تغليبًا؛ لأمرين: أحدهما: أن الذكر يقدم على الأنثى في الذِّكرِ وتدخل الأُنثى تحته، وكثير ما يجيء مثل ذلك في القرآن العزيز. والثاني: أن البيع أكثر ما يقع من الرجال دون النساء، فإن البيع والشراء والكسب والمعاش [ومعظم] (¬7) الأشغال والأعمال من وظيفة الرِجال لا النساء. ¬

_ (¬1) الموطأ (1366). (¬2) البخاري (2140). (¬3) مسلم (1515). (¬4) أبو داود (3443). (¬5) النسائي (4496). (¬6) الترمذي (1134). (¬7) في "الأصل": وتعظم.

الفصل الخامس في تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي

الفصل الخامس في تلقي السلع وبيع الحاضر للبادي أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تلقوا السلع". وقد أخرجه المزني عن الشافعي بهذا الإسناد وقال: "لا تلقوا الركبان للبيع". وأخرجه المزني أيضًا عنه، عن سفيان، عن أبي الزناد ... بالإسناد قال: "لا تلقوا الركبان". قال الشافعي: قد سمعت في [غير] (¬1) هذا الحديث: "فمن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار بعد أن يقدم السوق". قال: وبهذا نأخذ إن كان ثابتًا. هذا حديث صحيح قد أخرج معناه الجماعة. أما البخاري فأخرجه (¬2) عن محمد بن بشار، عن عبد الوهاب، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التلقي وأن يبيع حاضر لبادٍ". وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "نهى [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] (¬4) أن يتلقى الجلب". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل" والمثبت من معرفة السنن والآثار (8/ 167). (¬2) البخاري (2162). (¬3) مسلم (1519). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من صحيح مسلم.

وأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن الربيع [بن] (¬2) نافع، عن عبيد الله -يعني ابن عمرو الرقي- عن أيوب، عن ابن سيرين مثل مسلم وزاد زيادة الشافعي. وأما الترمذي فأخرجه (¬3) عن سلمة بن شبيب، عن عبد الله بن جعفر الرقي [عن] (¬4) عبيْد الله الرقي بإسناد أبي داود ولفظه. وأما النسائي فأخرجه (¬5) عن إبراهيم بن الحسن [عن] (¬6) حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن هشام بن حسان بإسناد مسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تلقوا الجلب ... " وزاد زيادة الشافعي. "الركبان" جمع راكب، وهو الذي يركب الإبل خاصة، هذا هو الأصل، ثم اتسع فيه حتى صار يقال لكل من يركب دابة: راكب مجازًا وإن لم يكن معروفًا. "والسلع" جمع سلعة، وهي العين المجلوبة للبيع. "والجلب" مصدر بمعنى المجلوب، والمراد به في الحديث: الذين يجلبون الأرزاق وغيرها من المتاجر والبضائع للبيع. وصورة المنهي عنه في التلقي: أن يستقبل الركبان ويكذب في سعر البلد ويشتري منه بأقل من ثمن المثل؛ فإنهم كانوا إذا سمعوا على الجلب خرجوا المرحلة والمرحلتين فيتلقون الركبان ويخبرونهم أن المتاع الذي معهم كثير في البلد ¬

_ (¬1) أبو داود (3437). (¬2) في "الأصل": عن، وهو تحريف، والمثبت من سنن أبي داود، والربيع بن نافع هو أبو توبة، أحد شيوخ أبي داود المشهورين، انظر تهذيب الكمال (9/ 103). (¬3) الترمذي (1221). (¬4) سقط من الأصل، والمثبت من جامع الترمذي وفيه: "حدثنا". (¬5) النسائي (4501). (¬6) في "الأصل": بن، والمثبت من سنن النسائي، وهو الصواب.

ويخبرونهم بسعر كذبًا دون ما يساوي وذلك تغرير محرم، وفيه إضرار بأهل البلد أيضاً، ولكن الشراء منعقد، ثم إن كذب فظهر الغبن، ثبت الخيار للبائع، وإن صدق ففيه وجهان على مذهب الشافعي. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبيع حاضر لباد". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) عن عبد الله بن صباح، عن أبي علي عبد المجيد الحنفي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيع حاضر لباد" قال: وبه قال ابن عباس. وهذا الحديث من أفراد الربيع عن الشافعي عن مالك قال البيهقي (¬2): وقد أخرجه عبد الله بن مسلمة، عن مالك بهذا الإسناد، قال: ولمالك بن أنس مسانيد لم يودعها الموطأ رواها عنه كبار أصحابه، فيشبه أن يكون هذا منها والله أعلم. "الحاضر": ساكن المدن والقرى، "والبادي": ساكن البادية، والمنهي عنه هو أن يأتي البلدة ومعه قوت يبتعي التسارع إلى بيعه رخيصًا فيقول له: اتركه لأغالي في بيعه، فهذا الصنيع محرم لما فيه من الإضرار بالغير، والبيع إذا جرى بيع المغالاة منعقد؛ وهذا إذا كانت السلعة مما تعم الحاجة إليها، فإن كانت سلعة لا تعم الحاجة إِليها أو كثر القوت واستغني عنه ففي التحريم تردد [يكون] (¬3) في أحدهما على عموم ظاهر النهي وحسم باب الضرر، وفي الثاني على معنى ¬

_ (¬1) البخاري (2159). (¬2) انظر المعرفة (8/ 164). (¬3) في "الأصل": يقول.

الضرر، وقد جاء في الحديث الصحيح (¬1) عن ابن عباس: أنه سُئل عن معنى لا يبيع حاضر لباد قال: لا يكون له سمسارًا. قال صاحب "الشامل": إنما يحرم هذا بأربع شرائط؛ أن يكون البدوي يريد البيع، وأن يريد بيعه في الحال وأن يكون بالناس إليه حاجة وهم في ضيق، وأن يكون الحاضر استدعى منه ذلك، فإن لم توجد هذه الشرائط أو شرط منها جاز لأنه [إن] (¬2) لم يكن (بأهل) (¬3) البلد حاجة فلا ضرر في تأخير بيع ذلك، وكذلك إذا لم يود بيعه في الحال؛ فإنه يجوز للحضري أن يتولاه له؛ لأنه لم يكن الإضرار من جهته، ولو منع من ذلك أضر بصاحب المتاع، وربما أدى ذلك إلى انقطاع الجلب حيث يمنع من اختياره، وكذلك إذا ابتدأ البدوي وسأل الحضري أن يتولى له البيع جاز، وحينئذٍ يخرج قول ابن عباس: "لا يكون له سمسارًا" على هذا التقدير، والمشروط فيه الشرائط الأربع، وقد كره بيع الحاضر للبادي أكثر أهل العلم، فكان مجاهد يقول: لا بأس به في هذا الزمان؛ فإنما النهي كان وقع عنه في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحسن البصري، وابن سيرين يقولان: لا يبيع للبدوي ولا يشتري له، وأطلق البيع على البيع والشراء، تقول: بعت الشيء بمعنى اشترتيه، وشريت الشيء بمعنى بعته. قال الشافعي: أهل البادية يَقْدمون جاهلين بالأسواق، وحاجة الناس إلى ما قدموا به، ومستقلين المقام، فيكون أدنى من أن يرتخص المشتري سلعهم وإذا تولى أهل القرية البيع ذهب هذا المعنى. فأي حاضر باع لبادٍ فهو عاصٍ - إذا علم الحديث- والبيع لازم غير مفسوخ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2158)، ومسلم (1521). (¬2) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها. (¬3) تكررت في "الأصل".

بدلالة الحديث نفسه؛ لأن البيع لو كان مفسوخًا لم يكن في بيع الحاضر للباد معنى يخاف يمنع منه أن يرزق بعض الناس من بعض. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-[أخبرنا] (¬1) سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبيع حاضر لباد، ودعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. فأما مسلم فأخرجه (¬2) عن يحيى بن يحيى وأحمد بن يونس، عن أبي خيثمة، عن أبي الزبير. وأما أبو داود فأخرجه (¬3) عن النفيلي، عن زهير أبي خيثمة، عن أبي الزبير. وأما الترمذي فأخرجه (¬4) عن نصر بن علي وأحمد بن منيع، عن سفيان. وأما النسائي فأخرجه (¬5) عن إبراهيم بن الحسن، عن حجاج بن محمد [عن] (¬6) ابن جريج، عن أبي الزبير. ومعنى قوله: "دعوا الناس يرزق [الله] (¬7) بعضهم من بعض" أن البدوي إذا باع متاعه بنفسه ربما باع رخيصًا لجهله بسعر البلد فانتفع به المشتري، وإذا تولى له الحضري ربما غالى في ثمنه؛ فانتفى نفع البعض من البعض. ¬

_ (¬1) في "الأصل": أخبر، والمثبت من المعرفة (8/ 164). (¬2) مسلم (1522). (¬3) أبو داود (3442). (¬4) الترمذي (1223). (¬5) النسائي (4495). (¬6) ليست في "الأصل"، والمثبت من سنن النسائي. (¬7) سقط لفظ الجلالة من الأصل.

إثبات الياء في قوله: لا [يبيع] (¬1) في هذا الحديث والذي قبله قد تقدم بيانه فيما سبق. وقد أخرج الربيع، عن الشافعي -رضي الله عنه-، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن بيع حاضر لباد". وأخرجه المزني عن الشافعي بهذا الإسناد وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبع حاضر لباد". [و] (¬2) أخرجه المزني عنه، عن سفيان، عن أبي جعفر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مثله. هذا حديث صحيح قد أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4) وأبو داود (¬5) والترمذي (¬6) والنسائي (¬7) من عدة طرق والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في "الأصل" ينتفع، والمثبت هو الصواب. (¬2) ليست في "الأصل". (¬3) البخاري (2160). (¬4) مسلم (1515). (¬5) أبو داود (3437) بمعناه. (¬6) الترمذي (1222). (¬7) النسائي (4496).

الفصل السادس في المصراة

الفصل السادس في المصراة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصروا الإبل والغنم، وإن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين ... " وذكر الحديث. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، إلا أنه قال: "ردها وصاعًا من تمر لا سمراء". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك فأخرجه (¬1) بالإسناد في ضمن حديث. وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن ابن بكير، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن ابن أبي عمر، عن سفيان عن أيوب وذكر الرواية الآخرة. ¬

_ (¬1) الموطأ (1366). (¬2) البخاري (2148). (¬3) مسلم (1524).

وفي أخرى عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر". وأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي فأخرجه (¬2) عن أبي كريب، عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة. وأما النسائي فأخرجه (¬3) عن محمد بن منصور، عن سفيان، عن أبي الزناد. قد اختلف في تفسير المصراة على قولين؛ أحدهما: أنه من صَرَى يصرِي، وصَرَى يُصَرِّي بالتخفيف والتشديد، إذا جمع، والصَّرْي: الحقن والجمع، ومنه صرى الدمع إذا احتقن ولم يجر. والقول الثاني: أنه من صَرَّ الشيء يَصُرُّه: إذا سنده وربطه. قال أبو عبيد: المصراة بالتشديد الناقة أو البقرة أو الشاة التي قد صري اللبن في ضرعها أي حقن وجمع أيامًا فلم تحلب، وأصل التصرية حبس الماء وجمعه، قال: ولو كان من الربط والشد لكان مصرورة أو مصررة. يعني بهذا القول الرد على ما ذهب إليه الشافعي في تفسير المصراة، وذلك أنه قال: التصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة وتترك من الحلب اليومين أو الثلاثة حتى يجتمع لها لبن فيراه مشتريها كثيرًا ويزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها؛ فإذا حلبها بعد تلك الحلبة حلبةً أو اثنتين عرف أن ذلك ليس بلبنها، وهذا غرر للمشتري. وقول أبي عبيد قول حسن وهو ظاهر اللغة، والاشتقاق الظاهر يشهد له؛ ¬

_ (¬1) أبو داود (3443). (¬2) الترمذي (1251). (¬3) النسائي (4487).

إلا أن قول الشافعي غير مدفوع ولا مدخول؛ فإن من عادة العرب أنهم كانوا يصرون ضروع الحلوبَات إذا أرسلوها تسرح، ويسمون ذلك الرباط صرارًا، فإذا راحت حلت الأصرّة وحلبت. ومن هذا حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحل صرار ناقة بغير إذن صاحبها، فإنها خاتم أهلها عليها" (¬1) فحينئذ يكون التقدير فيما فسره الشافعي المصررة من صَرَّ يَصُرَّ كما قال، إلا أنه اجتمع في الكلمة ثلاث راءات قلبت إحداهما ياءً كما قالوا في تظننت: تظنيت، وهو من ظن يظن، فأبدلوا من إحدى النونات ياء استثقالاً؛ لاجتماع ثلاث نونات [ومثله] (¬2) في تقضض الباذي تقضى البازي، لما اجتمعت الضادان واستثقلوها أبدلوا [إحداها] (¬3) ياء، ومن هذا الباب قول الله تعالى {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬4) أي دسسها فأبدل إحدى السينات ياءً، أو معنى "دساها" ضد "زكاها" لأنه قال: "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسيها" (¬5) هذا هو المراد به في الآية والله أعلم. ومثل هذا في الكلام كثير، فعلى كل التقديرين في المصراة إن كانت من الصري الجمع فتكون الهاء فيها أصلية، ويكون قوله: لا تُصَروا مضمومة التاء مفتوحة الصاد، وإن كانت من الصَّرِّ الربط فتكون التاء مفتوحة والصاد مضمومة. وقوله: "وإن ابتاعها بعد ذلك" فيه محذوف تقديره: وإن ابتاعها أحد أو مبتاع، فحذف لأن الكلام يقتضيه. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 469). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من النهاية في غريب الحديث (3/ 27). (¬3) تكررت في "الأصل". (¬4) سورة الشمس: (10). (¬5) انظر تفسير القرطبي (20/ 69).

وأما الرواية الأخرى فإنه جاء بلفظة "من" الدالة على المبتاع بلفظ العموم؛ لأنها تقع على الواحد والاثنين والجمع. وقوله: "بخير النظرين" أي بخير الرأيين لنفسه، وأي الأمرين كان في نظره خيرًا والأمران هما: الإمساك والرد، و"الباء" في "بخير" متعلقة بمحذوف تقديره: فهو عامل [بخير] (¬1) النظرين بعد الحلب، والظرف الذي هو "بعد" متعلق بخير النظرين أي هو مُخَيَّرٌ بعد الحلب، والرضا والسخط حالتان متضادتان. "والصاع" مكيال يسع خمسة أرطال وثلث، أو ثمانية أرطال على اختلاف المذهبين، وقد تقدم القول في ذلك، "وصاعًا" منصوب على العطف على الضمير في "رَدَّها" أي ورد صاعًا. و"السمراء" الحنطة كذا يسميها أهل الشام، وهو اسم لها مشهور عندهم ومعروف عند العرب. وقوله في رواية الترمذي: "صاعًا من طعام" [و] (¬2) ها هنا "التمر" لتعاضد الروايات بالتصريح بلفظ التمر، وإن كان الطعام في الأصل يقع على كل ما يقتات ويؤكل، ويدخل فيه الحنطة والشعير والتمر ونحو ذلك من المطعومات، ولأن الغالب كان على أطعمتهم التمر. وأما "المحفلة" فهي المصَرَّرة في المعنى، تقول: حفلت الناقة والشاة وأحفلها فهي مُحَفَّلة، وضرع حافل أي ممتلئ لبنًا. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن التصرية والتحفيل لا يجوز فعله؛ فإن فعله فاعل ودلس فباع ثم وقف المشتري عليه كان ذلك عيبًا فيها، وثبت له الخيار في الرد والإمساك، ورُوي مثل ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وأنس، وبه قال مالك والليث وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق وأبو ¬

_ (¬1) في "الأصل": بخيرين. (¬2) ليست في "الأصل" والسياق يقتضيها.

يوسف وزفر. وقال أبو حنيفة: ليس ذلك بعيب، ولا يثبت به الخيار. وأما الصاع المردود معها فإنه مقابل وبدل عن اللبن الذي كان في الضرع عند العقد، وإنما لم يجب رد اللبن أو مثله أو قيمته لأن عين اللبن لا تبقى غالبًا، وإن بقيت فيمتزج بلبن آخر اجتمع في الضرع بعد العقد إلى تمام الحلب. وأما المثلية فلأن القَدْر إذا لم يكن معلومًا بمعيار الشرع كانت المقابلة من باب الربا، وإنما قُدِّر من التمر [لأنه] (¬1) من جنس لفقد النقد عندهم غالبًا, ولأن التمر يشارك اللبن في المالية وكونه قوتًا وهو قريب منه؛ إذْ كانوا يأكلونه معه في بلادهم، يؤكد فهم هذا المعنى نص الشافعي رحمه الله تعالى على أنه لو رد الشاة المصراة بعيب آخر سوى التصرية رد صاعًا من التمر لأجل اللبن، وقد تردد الفقهاء فيما إذا أعطى بدل التمر قوتًا آخر، فمنهم من تبع التوقيف، ومنهم من رآه في [معنى] (¬2) إجرائه مجرى صدقة الفطر، وأما أبو حنيفة فإنه قال: لا يردها ولا يرد صاعًا، وإنما يرجع على البائع بالأرش، واحتج بأن هذا مخالف للأصول، لأن فيه تقويم المتلف بغير النقود، وفيه إبطال رد المثل فيما له مثل، وفيه تقويم القليل والكثير بقيمة واحدة وبمقدار واحدٍ. والأصل أن الحديث إذا ثبت صحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب العمل به، وصار أصلاً في نفسه، وهذا حديث صحيح متفق عليه، لا شبهة في طرقه وصحته، ولا هو منسوخ، ولا ضرورة تدعو إلى تأويله أو ترك العمل به، والأصول إنما صارت أصولًا بورودها من جهة الشارع، وهذا الخبر قد جاء كما جاءت الأصول، فوجب العمل به؛ لا سيما مع انتفاء المانع، وعلى أن تقويم المتلف بغير النقود موجود في بعض الأصول، كالدية، فإنها مقومة بالإبل، والغرة في ¬

_ (¬1) في "الأصل": لأن. (¬2) في "الأصل": معناه.

الجنين وكذلك تقويم القليل والكثير بقيمة واحدة كان من الموضحة فإنها ربما أخذت أكثر مساحة الرأس فيكون فيها خمس من الإبل، وربما كانت قدر الأنملة وفيها الخمس أيضًا، وديات الأصابع سواء على اختلاف مقاديرها، وكذلك جعل على صاحب الزكاة إذا لم يجد السنن الواجبة عليه أن يعطي عوضها مما هو موجود في إبله، وشاتين أو عشرين درهمًا جبرانًا لنقص ما بين السِّنَّينْ، ومعلوم أن ذلك لا يعتدل في التقويم في كل مكان وكل زمان، فإذا صح مثل هذا؛ فكيف ينكر العمل بخبر المصراة وإن خالف أصلاً آخر. ومن العجب أن يقول بخبر الوضوء بالنبيذ وخبر القهقهة في الصلاة ونقضها الوضوء مع مخالفتهما الأصول وهما خبران ضعيفان [عند] (¬1) كل من عرف الحديث، كيف يمنع من العمل بهذا الحديث المتفق على صحته؟! ثم التقويم على ضربين، أحدهما تقويم تعديل، والآخر تقويم توقيف، فتقويم التعديل يرتفع وينخفض على قدر ارتفاع الشيء وانخفاضه (وقيمة) (¬2) التوقيف هو ما جعل بإزاء الشيء الذي لا يكاد يضبط بمقدارٍ معلوم، واللبن غير معلوم المقدار فإنه قد يقل ويكثر كما ذكرناه، ويخلط بلبن آخر يحدث في ملك المشتري، وحيث كان مجهولاً لا يمكن ضبطه ولا يؤمن التنازع فيه بين البائع والمشتري، وردت الشريعة فيه بتوقيف معلوم يفصل بين المتبايعين، ويقطع مادة النزاع. وأما مدة الخيار وذكْرُ الثلاث فإنها ذكر بالتقدير معرفة التصرية؛ فإنه لا يكاد يعرف ذلك قبل مضيها إذْ ربما كان اللبن غزيرًا مجموعًا، فلا يظهو نقصه في أقل من ثلاث فإذا مضت الثلاث واستبان له النقص؛ ثبت له الخيار. وقيل: إذا عرف التصرية قبل انقضاء الثالث واستبان له النقص ثبت له ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) كذا في "الأصل"، ولعل الصواب: وتقويم.

الخيار على الفور، وكان له ذلك إلى تمام انقضائها اتباعًا للسنة، وقد نص الشافعي عليه في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغه عن هشيم، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود قال: "من ابتاع مصراة فهو بالخيار إن شاء ردها وصاعًا من طعام". قال الشافعي (¬1): وهكذا نقول وبهذا مضت السنة وهم يزعمون أنه إذا حلبها فليس له ردها لأنه قد أخذ منها شيئًا. قال [لبن] (¬2) التصرية مبيع [مع] (2) الشاة وكان في ملك البائع، فإذا حلبه ثم أراد ردها بعيب التصرية؛ ردها وصاعًا من تمر، كثر اللبن أو قلَّ؛ لأن ذلك شيء وقته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن جمع فيه بين الإبل والغنم، والعلم يحيط أن ألبانها مختلفة، واللبن بعده حادث في ملك المشتري لم تقع عليه صفقة البيع كما حدث الخراج في ملكه، وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الخراج بالضمان. قال البيهقي (¬3): وقد زعم من ترك الحديث أن ذلك كان حين كانت العقوبات في الذنوب يؤخذ بها الأموال، ثم نسخت العقوبات بالأموال فصار هذا منسوخًا، وهذا توهم منه، وسعر اللبن في القديم والحديث أرخص من سعر التمر، والتصرية وجدت من البائع لا من المشتري، فلو كان ذلك على وجه العقوبة لأشبه أن يجعله للمشتري بلا شيء، أو بما ينقص عن قيمة اللبن بكل حال لا بما قد يكون قيمته مثل قيمة اللبن أو أكثر؛ لأنه إنما يلزمه ردُّ ما كان موجودًا حال البيع دون ما حدث بعده، وهلّا جعله شبيهًا بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة عبد أو أمة حين لم يوقف على حدِّه فقضى فيه بأمر ينتهي إليه، ¬

_ (¬1) انظر "الأم" (7/ 176). (¬2) ليست في "الأصل" والمثبت من معرفة السنن والآثار (8/ 118). (¬3) انظر "المعرفة" (8/ 119).

وكذلك لبن التصرية اختلط بالحادث بعده، ولا يوقف على حده، فقضى فيه بأمر ينتهي إليه، ثم من أخبره أن قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في المصراة كان قبل نسخ العقوبات في الأموال حتى يجعله منسوخًا معها، وأبو هريرة من أواخر من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحمل خبر التصرية، عنه في آخر عمره، وعبد الله بن مسعود أفتى به بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مخالف له في ذلك من الصحابة، فلو صار إلى قول عبد الله، ومعه ما ذكرنا من السنة الثابتة التي لا معارض لها؛ كان أولى به من دعوى النسخ في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأعجب من هذا أن من يدعي تسوية الأخبار على مذهبه، يحكي ما ذكرناه عن بعض أصحابه، ثم يدعي نسخ خبر المصراة، بأن المشتري ملك لبنًا دينًا بصاع تمرٍ دينًا فقد حل ذلك محل بيع الدين بالدين، وروى حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" فصار ذلك منسوخًا به، وهذا من الضرب [الذي] (¬1) تغني حكايته عن (¬2) جوابه، أَيُّ بيع جرى بينهما على اللبن بالتمر حتى يكون ذلك بيع الدين بالدين؟! ومن أَتْلَفَ على غيره شيئًا فالُمتْلَف غير حاضرِ، والذي يلزمه من الضمان غير حاضر، أفنجعل ذلك دينًا بدين حتى لا يوجب الضمان، ويعدل عن إيجاب الضمان إلى حكم آخر؟! وقد يكون ما حلب من اللبن حاضرًا عنده في آنيته، [أفيحل ذلك] (¬3) محل الدين بالدين (¬4)؟ والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "الأصل": التي، والمثبت من "المعرفة" (8/ 119). (¬2) في "الأصل": على، والمثبت من "المعرفة". (¬3) في "الأصل": أفنجعل، والمثبت من المعرفة (8/ 120). (¬4) زاد في "المعرفة" (8/ 120): أو يكون خارجًا من حديث موسى بن عبيدة، لو كان يصرح بنسخ حديث المصراة لم يكن فيه حجة عند أهل العلم بالحديث فكيف وليس في حديثه مما توهمه قائل هذا الشيء والله المستعان.

الفصل السابع في الشرط في البيع

الفصل السابع في الشرط في البيع أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: "جاءتني بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقالت لها عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عَدَدْتُها ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عند أهلها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون [الولاء] (¬1) لهم، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته عائشة -رضي الله عنها-، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذيها واشترطي الولاء لهم، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟! ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرطه أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة مثله. هذا حديث صحيح متفق عليه بين الجماعة. أما مالك فأخرجه (¬2) بالإسناد واللفظ. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من مسند الشافعي (1/ 174). (¬2) الموطأ (1477).

وأما البخاري فأخرجه (¬1) عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم فأخرجه (¬2) عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام. وأما أبو داود فأخرجه (¬3) عن قتيبة والقعنبي، عن الليث، عن الزهري، عن عروة. وأما النسائي فأخرجه (¬4) عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري، عن عروة. وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن ابن بشار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة مختصرًا. ولهذا الحديث طرق كثيرة طويلة وقصيرة. "كاتبت" فاعلت من الكتابة، وهو أن يقول الرجل لعبدهِ: كاتبتك على ألف درهم -مثلاً- إلى أجل، فإذا أديتها عُتِقْتَ، ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تُعتق مني إذ أوفيت المال وكتبت لي عليك المال، فهي مفاعلة من كتب يكتب، كأن كل واحد منهما كتب له على الآخر كتابًا، وأرادت بأهلها: مواليها. "والأواقي" جمع أُوقِيَّة -بضم الهمزة وتشديد الياء- وكانت يومئذ أربعون دِرْهمًا فجمع على أواقيِّ -[مشددة] (¬6) الياء- مثل أُثْفِيَّة و [أَثَافِيّ] (¬7)، ويجوز تخفيفها. وقوله: "كتاب الله" يريد ما كتبه الله وفرضه في كتابه أو على لسان نبيه، ¬

_ (¬1) البخاري (2168). (¬2) مسلم (1504). (¬3) أبو داود (3929). (¬4) النسائي (4655). (¬5) الترمذي (2125). (¬6) في "الأصل": مشدة، وهو تحريف. (¬7) في "الأصل" أثافية، وهو تحريف، والمثبت من النهاية (1/ 80).

ولا يريد به أنه في نص القرآن ولفظه، وأن جعل الولاء للمعتِق مما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكتبه على أمته، وما سنه النبي وفرضه فهو مما سنه الله وفرضه، فلهذا الكلام إذن محملان: أحدهما: أن يريد بكتاب الله القرآن، فيكون قد أضاف ما فرضه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنه إلى كتاب الله؛ لأنه بأمره ووحيه، وما ينطق عن الهوى، فتكون إضافته إلى كتاب الله تعالى على هذا التقدير. والثاني: أنه يريد بكتاب الله فرضه، وما كتبه كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ} (¬1) {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (¬2). وقوله: "ما بال رجال" أي ما شأنهم وأمرهم وحالهم. وقوله: "قضاءُ الله أحق" أي فرضه وما قضى به على العباد ألزم وأوجب. و"أحق" أفعل، من حقَّ الشيء يَحِقُّ إذا صار حقًّا لازمًا. وقوله: "وشرطه أوثق" أي ما اشترط من أحكامه في كتابه وعلى لسان نبيه أحكم وأثبت، وهو من الوثاق؛ الشَد. وفي هذا الحديث أحكام؛ منها: جواز الكتابة، وتنجيمها, وبيع المكاتب، وبيع نجومه، والشرط في البيع، ونقض شرط لا يلزم، وأن الولاء للمعتق وأما الكتابة وأحكامها فسترد في بابها. فإن قيل: كيف أمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تشترط لهم الولاء وهو شرط فاسد؟ فالجواب: أنه أمرهأ بالشرط قبل العقد أو بعده لا في حال العقد، وذلك لا يقدح في العقد، وفي ذلك من المثوبة بتحصيل العتق للأمة ما يحمل على أمثاله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة (183). (¬2) سورة البقرة (178).

قال الشافعي -رضي الله عنه-: اشتراط الولاء. رواه هشام بن عروة، عن أبيه، وانفرد به دون غيره من رواة هذا الحديث وغيره من رواية أثبت من هشام. وقال جماعة من العلماء: إن هذه الزيادة غير محفوظة في الحديث، ولو صحت لكانت متأولة على معنى: أن لا تبالي بما يقولون ولاتعبئي بشرطهم، فإن الولاء لا يكون إلا للمعتق وليس ذلك على أن يشترط لهم قولان، فيكون خلفًا بموعد شرط، وإنما هو على معنى أنهم يحلون وشرطهم لا يلتفت إليه؛ إذْ كان ذلك لغوًا من الكلام وخلفاً من القول. وقال المزني: أراد بقوله: "واشترطي لهم الولاء" أي عليهم، كقوله تعالى {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} (¬1) أي عليهم، وقيل: أراد أن يرد شرط الولاء ردًّا ظاهرًا على الملأ؛ ليعلم الناس كافة؛ فإنه لو منعها من ذلك لامتنعت، ولكان ذلك غير منتشر ولا ظاهر للكافة كما فعل في فسخ الحج والعمرة، فقوله: "إنما الولاء لمن أعتق" دليل على أنه لا ولاء لغير المعتق، وأن من أسلم على يد رجل لم يكن له ولاؤه كما ذهب إليه قوم من العلماء؛ لأن إنما موضوعه لقصر الذات على الحكم أو قصر الحكم على الذات. وقد توهم قوم أن قوله: "اشترطي لهم الولاء وأعتقي" خلف وغرور بهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بالغرور، وليس كذلك؛ فإن القوم كانوا قد رغبوا في بيعها بعد الكتابة، فأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذن لعائشة -رضي الله عنها- أن تشتريها، وكانوا جاهلين بحكم الشرع في أن الولاء لا يكون إلا للمعتق، وطمعوا في أن يكون الولاء لهم بلا عتق، فلما عقدوا البيع وزال ملكهم عنها، ثبت ملك رقبتها لعائشة أعتقتها، صار الولاء لها؛ لأن الولاء من حقوق العتق وتوابعه، فلما تنازعوا قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبين أن الولاء في قضية الشرع إنما هو لمن أعتق، وأن من شرط شرطًا لا يوافق حكم الله فهو باطل. ¬

_ (¬1) سورة الرعد (25).

قال الشافعي في كتاب "اختلاف العراقيين": وإذ باع الرجلُ الرجلَ العبدَ على أن لا يبيعه أو على أن يبيعه من فلان أو على أن لا يستخدمه؛ فالبيع فاسد، ولا يجوز الشرط في هذا إلا في موضع واحد، وهو العتق اتباعًا للسنة ولفراق العتق لما سواه. قال: ولا يجوز أن يبيع الرجل الشاة ويستثني منها شيئًا؛ جلدًا ولا غيره، في سفر ولا في حضر، ولو كان الحديث يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر أجزناه في السفر والحضر، فإن تبايعا على هذا فالبيع باطل. وقال في مختصر البويطي والربيع: وكل شرط في بيع على أن لا يقبض [اليوم] (¬1) فلا يجوز إلا أن يصح حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) يريد حديثه في بيع الجمل واشتراط ظهره. والشروط في العقد على أربعة أضرب: ضرب منها يوافق مقتضى العقد ويؤكده، مثل أن يشترط التسليم أو خيار المجلس وما أشبه ذلك، فهذا لا يؤثر في العقد. والضرب الثاني: شرط تتعلق به مصلحة المتعاقدين كالأجل والرهن والضمان وذلك جائز. والضرب الثالث: لا تتعلق به مصلحة العقد، ولكنه فيما بني على التغليب مثل شرط العتق، فإنه جائز. والضرب الرابع: شرط لم يبن علي التغليب مثل أن يشترط أن لا يسلمه أو لا ينتفع بالمبيع فلا تتعلق به مصلحة العقد، وهذا شرط باطل، والبيع فاسد، وبه قال أبو حنيفة، وقال ابن أبي ليلى: البيع جائز والشرط فاسد، وبه قال النخعي ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) انظر "المعرفة".

والحسن البصري وأحمد بن حنبل، واستدل بحديث بريرة، وقال ابن شبرمة: البيع جائز والشرط، واستدل بحديث جابر في بيع الجمل. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري، عن نسير بن ذعلوق، عن عمرو بن راشد الأشجعي: "أن رجلاً باع نجيبة -أو قال: بختية، وأنا أشك- واشترط ثنياها، فرغب فيها، فاختصما إلى عمر، فقال: اذهبا بها إلى علي، فقال علي: اذهبا بها إلى السوق، فإذا بلغت أقصى ثمنها، فأعطوه حساب ثنياها من ثمنها". قال الشافعي: وليْسوا يقولون بهذا، أورِدَ على طريق الإلزام فيما خالفوا فيه عليًّا -رضي الله عنه- (¬1). ... ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، ونص كلام الشافعي رحمه الله كما جاء في "المعرفة" (8/ 143): وليسوا يقولون بهذا وهم يثبتونه عن علي، وهذا أورده على طريق الإلزام فيما خالفوا عليًّا، وثنياها: قوائمها ورأسها.

الفصل الثامن في بيعتين في بيعة

الفصل الثامن في بيعتيْن في بيعة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا عبد العزيز الدراوردي، عن محمد ابن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة". هذا حديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، وأبو داود (¬2) والترمذي (¬3)، وفي ألفاظهم اختلاف. قال الشافعي -رضي الله عنه-: له تأويلان: أحدهما: أن يقول: بعتك بألفين نسيئة وبألف نقدًا فأيهما شئت أخذت به، فأخذ بأحدهما، وهذا بيع فاسد لأنه إبهام وتعليق. والآخر: أن يقول: بعتك عبدي على أن تبيعني فرسك، وهو أيضًا فاسد؛ لأنه شرط لا يلزم، ويتفاوت بعدمه مقصود العقد، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا عن بيع وشرط، وعن بيع وسلف. ومعناه أن يشترط فيه قرضًا، وقد جعله الشافعي من بيوع الغرر (وقد أخرج -رضي الله عنه- قال) (¬4): قال الشافعي -رضي الله عنه- والسلف الذي ينهى عنه هو أن ينعقد العقد على بيع وسلف، وذلك أن يقول: أبيعك هذا بكذا على أن تسلفني كذا، وحكم السلف أنه حالٌّ، فيكون البيع وقع بثمن معلوم ومجهول، والبيع لا يجوز إلا أن يكون بثمن معلوم. ¬

_ (¬1) الموطأ (1342) بلاغًا. (¬2) أبو داود (3461). (¬3) الترمذي (1231)، وأخرجه النسائي أيضًا (4632). (¬4) كذا في "الأصل" ولعل ها هنا سقطًا.

الباب الثالث في الربا وما يتعلق به

البابُ الثالث في الربا وما يتعلق به أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس بن الحدثان: "أنه التمس صرفًا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب، فقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتي خازني -أو تأتي خازنتي- من الغابة -قال الشافعي أنا شككت- وعمر [يسمع] (¬1) فقال عمر بن الخطاب والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب [بالذهب ربا إلاهاء وهاء، والورق] (1) بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبُّر بالبُّرِّ ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء هاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء". قال الشافعي -رضي الله عنه-: قرأته على مالك صحيحًا لا شك فيه، ثم طال عليّ الزمان ولم أحفظه حفظّا فشككت في خازنتي أو خازني، وغيري يقول عنه: "خازني". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معنى مالك وقال: "حتى يأتي خازني" قال: فحفظته لا شك فيه. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا النسائي. فأما مالك فأخرجه (¬2) بالإسناد وقال فيه: "خازني". وأما البخاري فأخرجه (¬3) عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "مسند الشافعي" (1/ 138) و"المعرفة" (8/ 32). (¬2) الموطأ (1308). (¬3) البخاري (2174).

وأما مسلم فأخرجه (¬1) عن قتيبة وابن رمح، عن الليث، عن ابن شهاب، وذكر نحوه. وأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن القعنبي، عن مالك، وذكر المسند منه فقط. وأما الترمذي فأخرجه (¬3) عن قتيبة، عن الليث مثل مسلم. "الصرف" بيع الذهب بالذهب، والورق بالورق، وأحدهما بالآخر، تقول صرفت الدراهم بالدنانير، وبين الدرهمين صرف أي فضل لجودة فضة أحدهما على الآخر. "والمراوضة" هي أن تواصف الرجل بالسلعة التي ليست عندك، وهي بيع المواصفة، وقيل: هي المجاذبة التي تجري بين المتابيعين في الزيادة والنقصان إلى أن يستقر الأمر بينهما أو لا يستقر، كأنه من الرياضة ومُعاناة المُهْر في أول ركوبه لتتهذب أخلاقه ويطيع راكبه. "واصطرف" افتعل من الصرف، والأصل اصترف، بتاء، فلما اجتمعت التاء والصاد وثقل النطق بهما قلبت التاءُ طاءً لتجانس الصاد فإنهما حرفا إطباق، وإنما أنث ضمير الذهب لأن منهم من يُؤَنِّثه. قال الجوهوي: الذهب معروف وربما أنث. و"الغابة" في الأصل: الأجمة والغيضة، وهي ها هنا اسم لمكان معروف كان بالمدينة. و"الربا": الزيادة، رَبَا الشيء يَربو رَبْوًا إذا زاد، والربا في البيع الزيادة فيه على رأس المال من غير بيع، وقد أربى الرجل يربي، وَتُثَنِّيه: ربوان وربيان. ¬

_ (¬1) مسلم (1586). (¬2) أبو داود (3348). (¬3) الترمذي (1243).

وقوله: "هاء وهاء" ومعناه أن يقول كل واحد من المتبايعين: ها فيعطيه ما في يده، وقيل: معناه هاك وهات أي خُذ وأعط، وهذا مثل قوله: "يدًا بيد". قال الخطابي: أصحاب الحديث يرووه "ها" ساكنة الألف مقصورة، والصواب بالفتح والمد؛ لأن أصلها هاك أي خذ، فحذفت الكاف وعوضت عنها الهمزة، يقال للواحد: هاء، وللاثنين: هاؤما، والجمع: هاؤم، قال الله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (¬1). "والورق": الدراهم المضروبة [وكذا الرقة] (¬2) وفيها ثلاث لغات: فتح الواو وكسر الراء، وفتح الواو وسكون الراء (¬3)، والرقة الورق والهاء عوض من حذف الواو، وتجمع على رِقَينْ. "والربا" يقع في التبايع بمعنيين: أحدهما الزيادة، والآخر النسيئة؛ فالزيادة لا تكون إلا في الجنس الواحد كالذهب بالذهب متفاضلا، والورق بالورق متفاضلاً. والنسيئة تكون في الجنس الواحد، وفي الجنسين كالذهب بالذهب نسيئة، والذهب بالورق نسيئة، وهذان الأمران حرام عند الشافعي، وبه قال عامة الصحابة والتابيعين والفقهاء المجتهدين. وقال أبو حنيفة كذلك في النقدين، وقال فيما عداهما: يجوز التفرق قبل القبض، وأجاز فيها النسيئة. ¬

_ (¬1) سورة الحاقة (19). (¬2) في "الأصل": من النقرة، وهو تحريف، والمثبت من "الصحاح" (1/ 299) ومنه نقل المصنف. (¬3) سقط الوجه الثالث فقد ذكر المصنف أن فيه ثلاث لغات ذكر منها اثنين الوَرِق، والوَرْق، والثالث الوِرْق بكسر الواو، وسكون الراء كما في الصحاح (1/ 299).

وذهب جماعة من الصحابة إلى أن الربا إنما هو في النسيئة خاصة، فأما التفاضل فجائز إذا كان يدًا بيدٍ، وحُكي ذلك عن ابن عباس، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن الزبير، وأسامة بن زيد، والبراء بن عازب. وهذا الحديث يدل على تحريم النسيئة في المال الربوي؛ لأنه لما أراد مالك بن أوس أن يصرف الذهب بالورق وطلب طلحة أن يؤخر قبض الورق عن عقد التبايع إلى أن يجيء خازنة منعه عمر؛ لأجل النسيئة، ثم إذا تصارفا فلا بأس أن يطول مقامهما في مجلسهما, ولا بأس أن يصطحبا من مجلسهما إلى غيره لِيُقْبِضه العوض؛ لأنهما لم يتفرقا، فأما إن تعذر عليهما التقابض في المجلس، وأرادا أن يتفرقا؛ فإنه يلزمهما أن يتفاسخا العقد بينهما، وإلا كان ربا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن نافع، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل يدًا بيد، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه مالك والبخاري ومسلم والترمذي. فأما مالك فأخرجه (¬1) بالإسناد واللفظ وأسقط "يدًا بيدا". وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن عبد الله، عن مالك. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن قتيبة ومحمد بن رمح، عن الليث، عن نافع نحوه. وأما الترمذي فأخرجه (¬4) عن أحمد بن منيع، عن حسين بن محمد، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (1299). (¬2) البخاري (2177). (¬3) مسلم (1584). (¬4) الترمذي (1241).

شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع نحوه. وفي الباب عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي هريرة، وهشام بن عامر، والبراء، وزيد بن أرقم، وفضالة بن عبيد، وأبي بكرة، وابن عمر، وأبي الدراء وبلال (¬1). "الشف": النقصان، شَفَّ يَشِفُّ شَفًّا، وهو الزيادة أيضاً فهو من الأضداد، وأشفه يشفه إذا نقصه وإذا زاده، والمراد في الحديث الأمران أي لا تزيدوا بعضها على بعض، ولا تنقصوا بعضها عن بعض، والزيادة أولى لأنه عدَّاه بعلى؛ و"على" مختصة بالزيادة، و"عن" مختصة بالنقصان تقول: زاد عليه، ونقص عنه. قال الأزهري: يقال: الشَّفُّ، والشِّفُّ، والمعروف: الكشف. ومعنى قوله: "يدًا بيدٍ" أي مقابضة، وفقد الأنسئة فيه، وهو منصوب على الحال التي هي غير مشفة، ومثله: كَلَّفتُه فَاهُ إلى فِيَّ، أي مشافهة، وبينت له حسابه بابًا بابًا، أي مفصلاً. قال سيبويه: واعلم أن هذه الأسماء التي في هذا الباب لا يفرد منها شيء دون شيء، فلا تقل: بعته يدًا حتى تقول: بيدٍ، وكذلك الباقي، ومن العرب من يرفع هذا النحو. و"الناجز": المعجل الحاضر، يريد النهي عن بيع شيء من الذهب والفضة نسيئة وأن التقابض فيهما شرط، وفي رواية مسلم: "ولا تبيعوا غائبًا بناجز إلا يدًا بيد" هذه "إلا" منقطعة لأن التقدير: لا تبيعوا شيئًا منها إلا مقابضة ونقدًا، ولو كانت متصلة لأدى إلى محال؛ فإنه يكون قد جمع البيع بين صفتي النسيئة والمقابضة، وذلك أن قوله: "لا تبيعوا منها غابئا بناجز" معناه: لا تبيعوا منها نسيئة ومعنى "إلا يدًا بيد" أي مقابضة، فكأنه قال: لا تبيعوها نسيئة إلا يدًا بيد، ¬

_ (¬1) هذا نص كلام الترمذي، ذكره عقب حديث أبي سعيد هذا.

وهذا متناقض، وإنما يصح إذا كانت "إلا" بمعنى لكن؛ أي لا تبيعوها نسيئة لكن بيعوها يدًا بيدٍ. وأما رواية الشافعي فإن "إلا" تكون فيها متصلة؛ لأنه قال: "لا تبيعوا إلا مثلا بمثل يدًا بيد" فقد جمع بين الوصفين اللذين هما شرط في صحة بيع الربويات، وهما المماثلة والمقابضة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن مسلم بن يسار ورجل آخر، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيْنًا بعين، يدًا بيدٍ، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح والملح بالتمر، يدًا بيدٍ كيف شئتم"، قال: ونقص أحدهما الملح والتمر. قال أبو العباس بن الأصم: في كتابي: أيوب عن ابن سيرين، ثم ضرب عليه، ينظر في كتاب الشيخ -يعني الربيع. هكذا أخرجه في كتاب البيوع، وأخرجه في كتاب اختلاف الحديث عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن مسلم بن يسار ورَجل آخر، عن عبادة بن الصامت، وزاد أحدهما: "من زاد أو ازداد فقد أربى" وقد أخرجه المزني، عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث قال: "كنا في غزاة علينا معاوية، فأصبنا ذهبًا وفضة، فأمر معاوية [رجلاً] (¬1) أن يبيعها الناس في أعطياتهم، فتسارع الناس فيها، فقام عبادة بن الصامت فنهاهم فردوها، فأتى الرجل معاوية فشكا إليه فقام معاوية خطيبًا فقال: [ما بال] (¬2) رجال يحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث يكذبون عليه ¬

_ (¬1) في "الأصل": رجلٌ، والمثبت من المعرفة (8/ 35) وهو الصواب. (¬2) في "الأصل": "مال"، وهو تحريف.

فيها ولم نسمعها؟! فقام عبادة فقال: والله لنحدثن عن رسول الله وإن كره معاوية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:لا تبيعوا الذهب بالذهب (¬1) ولا الفضة بالفضة، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح؛ إلا مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدا بيدٍ، عينًا بعين". وأخرجه المزني أيضًا عنه عن عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة عن أبي الأشعت: أنه قدم أناس في إمارة معاوية يبيعون آنية الذهب والفضة إلى العطاء، فقام عبادة بن الصامت فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح؛ إلا مثلًا بمثل، سواء بسواء، فمن زاد [أو] (¬2) ازداد فقد أربى". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. أما مسلم (¬3) فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعت، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح [بالملح] (¬4) مثلًا بمثل، سواء بسواء، يدًا بيدٍ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم [إذا كان يدًا بيد] (4) وله في رواية أخرى "فمن زاد أو ازداد فقد أربى"، وأخرج أيضًا رواية المزني بطولها (3). ¬

_ (¬1) في "الأصل": بالفضة، وهو خطأ أو سبق قلم، والمثبت من "المعرفة" (8/ 35). (¬2) في "الأصل": والصواب ما أثبتناه، وانظر الشرح. (¬3) مسلم (1587). (¬4) سقطت من "الأصل"، والمثبت من صحيح مسلم.

وأما أبو داود فقد أخرجه (¬1) عن الحسن بن علي، عن بشر [بن] (¬2) عمر، عن همام، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن مسلم المكي، عن أبي الأشعث، عن عبادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر نحوه مع اختلاف لفظه. وأما الترمذي (¬3) فأخرجه عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن سفيان، عن خالد الحذاء ... بإسناد مسلم، وذكر نحوه روايته. وهذا الحديث هكذا جاء في المسند فيما قرأنا ووقفنا عليه مع اختلاف النسخ، لم يذكر في الأجناس المسماة التمر. وقوله في آخر الحديث "ونقص أحدهما التمر أو الملح" يدل على أن الرواية هكذا رواها خمسة أجناس، والحديث لم يروه الفقهاء والأئمة وأصحاب الحديث إلا بإضافة التمر وذكر الأجناس الستة، ثم قوله في "والتمر بالملح أو الملح بالتمر" شاهد بأن التمر مذكور في جملة الستة، والظاهر أنه قد سقط ذكر التمر من كتاب أبي العباس الأصم والله أعلم. قال البيهقي: الرجل الذي لم بسمه الشافعي -رضي الله عنه- يقال هو عبيد الله ابن عبيد قاله سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين عنهما، وزعموا أن مسلم ابن يسار لم يسمعه من عبادة نفسه وإنما سمعه من أبي الأشعث الصنعاني، عن عبادة، وكذا جاء في رواية مسلم وأبي داود والترمذي. قوله: "سواءً بسواء" التساوي: المماثلة في المقادير، فما كان موزونًا فبأن يتحاذيا في الوزن لا في غيره، وما كان مكيلاً فأن يتساويا في الكيل لا في غيره؛ ألا ترى أن البُرّ مكيل فالتساوي فيه معتبر بالكيل لا بالوزن؛ لأنه لو اعتبر ¬

_ (¬1) أبو داود (3349). (¬2) سقطت من "الأصل"، والمثبت من سنن أبي داود. (¬3) الترمذي (1240).

فيه الوزن لاختلفا في الكيل، فإن بعض الحنطة أثقل من بعض، فَرُبّ قفيز من حنطة يوازي ثلثي قفيز من حنطة أخرى، وهذا إلا يجوز في الشرع، فإن الاعتبار بمعيار الشرع وهو ما كان في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروفًا به كيل أو وزن، إلا أن التمر لا يبتاع به إلا موزونًا في أكثر البلاد وهو من المكيلات وإلى يومنا هذا يكال في مدينة الرسول صلوات الله عليه وسلامه بالأمداد والصيعان، وسببه أن الغالب على تمور المدينة العجوة واللينة والصيحاني وهي ما يجري فيه الكيل، وعلى الخصوص الكيل معتبر في الأجناس الأربعة المنصوص عليها، والوزن في الجنسين المنصوص عليهما. فأما ما عداها فالاعتبار فيه بعرف الحجاز في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأما ما لا يعرف أصله في الحجاز أو لم يكن بالحجاز أصلاً فقيل: يُرَدُّ إلى أقرب الأشياء منه بالحجاز وأشبهها به، وقيل: يعتبر فيه عادة البلاد، وإن اختلف؛ حُكِمَ بالغالب عليه. وقال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: المكيلات المنصوص عليها لا تكون موزونات أبدًا، وما لم يُنَصُّ عليه فالمرجع فيه إلى عادة الناس. وقوله: "عينًا بعين" يريد ذاتًا بذاتٍ، فإن عين الشيء ذاته ونفسه، وهو منصوب على الحال. وقوله: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيدٍ" جملة تفصيلها ما ذكره الشافعي في روايته في قوله: "ولكن بيعوا الذهب بالورق والورق بالذهب". وقوله: "يدًا بيدٍ" احترازًا من النسيئة. وقوله: "فمن زاد أو ازداد فقد أربى" بيان أن الحرام يعم البائع والمشتري؛ لأن قوله: "زاد" إنما يكون من أحد المتبايعين، وقوله: [أو ازداد] (¬1) من البائع الآخر. ¬

_ (¬1) في "الأصل": أو زاد، وهو تحريف.

وقوله: "فقد أربى" أي فعل الربا، أربى يربي ربا، والربا الاسم، وقد جاء في رواية الشافعي: "لا تبيعوا الذهب بالذهب" وفي رواية الباقين: "الذهب بالذهب" ولم يذكروا "ولا تبيعوا" وإن كانت مرادة في المعنى، وإنما حذفت اكتفاءً باقتضاء "الباء" التي في قوله: "بالذهب" لها؛ لأنها تريد فعلًا تتعلق به، فيكون التقدير: بيعوا الذهب بالذهب، فإثباته أولى لتدل على نفس المطلوب منها دلالة صحيحة، وحذفها من باب الاختصار والإضمار، وهو كثير في العربية ولا سيما في القرآن العزيز، وقد اختلف العلماء في علة الربا، وإنما طلبوا العلة ليقيسوا عليها غير هذه الأشياء الستة المنصوص عليها من جهة الشارع، على أن داود ومن قال بالظاهر ومن ذهب إلى إبطال القياس قال: لا ربا إلا في هذه الأشياء الستة. وروى مثل ذلك عن طاوس، فذهب الشافعي إلى أن علة الذهب والفضة كونهما جنس الأثمان غالبًا في جنس واحد، وقيل: لأنهما مجرى الأثمان، وقيل جنس القيم في جنس واحد، فيعدى عنده إلى الحلي وكل ما يتخذ منهما، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وأحمد: العلة فيهما أنهما موزون جنسين، فضبط فيهما الوزن والجنسية. وأما علة الأشياء الأربعة فقال الشافعي في القديم: أنها مأكولة مكيلة أو موزونة في جنس واحد. قال الشيخ ابن الصباغ: الأولى أن يقال مطعوم جنس مكيل أو موزون يشتمل على كل ما يؤكل ويضرب وروى هذا عن ابن المسيب. وقال الغزالي: المروي عن ابن المسيب أنه الطعم في الجنس والتقدير، فأخرج منه المطعومات التي لا تقدر كالبطيخ والسفرجل. وقال الشافعي في الجديد: العلة الطعم والجنس.

وقال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: علتها الكيل والجنس فهي ذات وصفين. وقال مالك -رحمه الله تعالى-: العلة القوت وما يصلح للقوت من المدخرات. وقال ربيعة: كل ما وجبت فيه الزكاة جرى فيه الربا. وقال ابن سيرين: الجنس الواحد هو العلة. وقال سعيد بن جبير: كل ثنتين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر، فلا يجوز بيع التمر بالزبيب والحنطة بالشعير. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن موسى بن أبي تميم، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1) عن القعنبي، عن سليمان بن بلال، عن موسى بن أبي تميم ... بالإسناد قال: "الدينار بالدينار ولا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما". وقد أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل (¬2) عن أبيه هذا الحديث عن الشافعي. قوله: "لا فضل بينهما" يقتضي إطلاق ظاهر على أنه لا فضل بينهما في كل وصف؛ لأنه نفاه بـ "لا" المستغرقة للنفي، وهو إنما أراد به في التبايع لا غير، وإلا فالدينار [الجيد] (¬3) يفضل الدينار الرديء، والدرهم الجيد يفضل الدرهم الرديء على الحقيقة فضلة الجودة على الرداءة، وإنما الحكم الشرعي سوَّى بينهما، وقد لا يباع دينار جيد بأكثر من دينار رديء صحيحًا كان أو قراضة كما يفعل الناس اليوم بالعراق وما يجري مجراها من البلاد، وهو من الربا. ¬

_ (¬1) مسلم (1588). (¬2) مسند أحمد (2/ 379). (¬3) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، أنه بلغه عن جده مالك بن أبي عامر، عن عثمان بن عفان -كرم الله وجهه- (¬1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين". هذا حديث صحيح أخرجه مالك ومسلم. أما مالك فأخرجه (¬2) بالإسناد وقال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن أبي الطاهر وهارون بن سعيد وأحمد بن عيسى، عن ابن وهب، عن مخرمة، عن أبيه، عن سليمان بن يسار، عن مالك بن أبي عامر. إطلاق هذا اللفظ يقتضي أن التحريم إنما وقع على تحريم الدينار بدينارين، والدرهم بدرهمين لا غير، وليس كذلك إنما هو مَثَلٌ في الزيادة المطلقة، وأن المحرم هو من هذا النوع، وهو زيادة الدينار على الدينار، والدرهم على الدرهم. أَيُّ زيادة كانت، وضَرَبَ الضعف لذلك مثالاً. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن حميد بن قيس، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال: "الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلينا وعهدنا إليكم". هكذا أخرجه الربيع في المسند، وقد أخرجه المزني عن الشافعي بهذا الإسناد قال مجاهد: "كنت مع ابن عمر فجاء صائغ فقال يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب، ثم أبيع شيئًا من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة، وعبد الله بن عمر ينهاه حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابته يريد أن ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل". (¬2) الموطأ (1301). (¬3) مسلم (1585).

يركبها، ثم قال عبد الله: الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم". وهكذا أخرج مالك هذا الحديث في الموطأ (¬1) بطوله. وقال الشافعي: هذا خطأ. أخبرنا ابن عيينة، عن وردان الرومي، أنه سأل ابن عمر فقال: "إني رجل أصوغ الحلي ثم أبيعه وأستفضل فيه قدر أجرتي وعمل يدي، فقال ابن عمر: الذهب بالذهب لا فضل بينهما؛ وهذا عهد صاحبنا إلينا وعهدنا إليكم". قال الشافعي: يعني بصاحبنا عمر بن الخطاب. قال البيهقي: وهو كما قال، فالأخبار دالة على [أن] (¬2) ابن عمر بن الخطاب لم يسمع في ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، ثم يجوز أن يقول: هذا عهد نبينا وهو يريد إلى أصحابه، بعد ما أثبت له ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد وغيره. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الأشياء المصوغة من الذهب والفضة لا يجوز بيع شيء منها بشيء من جنسه متفاضلًا فإنه ربًا، وإنما يشتريه بما يماثله وزنًا ولا أثر للصنعة في المصوغات عند التبايع إلا إذا اختلفت الأجناس؛ فإن باع مصوغات من ذهب بفضة قيمتها أكثر من المصوغ عينًا فذلك جائز. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن زيد -هو ابن أسلم- عن عطاء بن يسار: "أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب -أو ورق- بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذا فقال معاوية: ما أرى بهذا بأسًا فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية، أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخبرني عن رأيه؟! لا أساكنك بأرض". ¬

_ (¬1) الموطأ (1300). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (8/ 38).

وقد أخرجه المزني عن الشافعي بهذا الإسناد وزاد فيه: "فقال: ينهى عن مثل هذا إِلا مثلا بمثل" وقال: "لا أساكنك بأرض أنت فيها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية ألّا تبيع ذلك إلا مثلًا بمثل". وهكذا أخرجه مالك في "الموطأ" (¬1) بطوله، وزاد: "وزنًا بوزن". السقاية مشربة يشرب بها الماء من أي الجواهر كانت، وهي فِعَالة من السقي. وقوله: "من يعذرني من معاوية" أي من يقوم بعذري ومن يصرف لومه عني إذا رآني أفعل أمرًا ينكر مثله على فاعله، وذلك أنه لما قال معاوية: "ما أرى بهذا بأسًا" وردّ على أبي الدرداء ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من النهي عن مثل ذلك؛ كأنه أراد أن ينكر على معاوية إكبارًا لقوله، فقال: من يعذرني فيما أقوله أو أفعله مع معاوية، ثم ذكر العلة التي طلب من أجلها من يعذره فقال: "أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويخبرني عن رأيه؟!. وهذا وارد على جهة الاستدلال والتعليل. وقوله: "لا أساكنك بأرض" يريد: لا نقيم أنا وأنت بأرض واحدة "المساكنة" مُفَاعَلة من السكني. وفي هذا الحديث دليل على أن القياس لا يصادم النص الثابت المحكم، وهذا الحديث ذكره الشافعي في كتاب "الرسالة" واستدل به على (أن الحديث الواحد منه) (¬2) ولم يعلم أن أحدهما ناسخ للآخر، ولا أحدهما أشبه بالكتاب العزيز ولا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما سواهما، كان الحديث الكثير الطرق والرواية أولى بالعمل وأجدر أن يعمل به، ويترك العمل بالحديث الآخر. ¬

_ (¬1) الموطأ (1302). (¬2) كذا في "الأصل"، ولعله قد وقع سقط في السياق، والذي في الرسالة (1/ 279 - 281) استدل الشافعي في هذا الباب على أن حديث الاثنين أولى -في الظاهر- بالحفظ وبأن ينفى عنه الغلط من حديث الواحد وأن حديث الخمسة أولى بالحفظ من حديث الواحد. وانظر نص كلامه هناك وانظر أيضًا (1/ 284 - 286).

ووجه الاستدلال بهذا الحديث: أن النهي عن بيع الذهب بالذهب والورق بالورق متفاضلاً قد تعاضدت عليه الروايات الكثيرة، ورواه جماعة من الصحابة منهم: عمر، وعثمان، وعبادة بن الصامت، وأبو سعيد، وابن عمر، وأبو الدرداء، وغيرهم. وحديث أسامة بن زيد الذي قال فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الربا في النسيئة" حديث انفرد به أسامة دون الصحابة، ولم يتابع عليه، فكان الأخذ بحديث أبي الدرداء أولى؛ لكثرة رواة أمثاله واتفاقهم على معناه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فإن كان حديث أسامة يضاد هذه الأحاديث فهذه الأحاديث أكثر، وأولى أن تكون أبعد من الغلط من حديث أسامة؛ فلذلك أخذنا بها دونه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان، أنه سمع عبيد الله بن أبي يزيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: أخبرني أسامة بن زيد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الربا في النسيئة". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. فأما البخاري فأخرجه (¬1) عن علي بن عبد الله، عن الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات أخبره، أنه سمع أبا سعيد الخدري قال: "الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد: سَأَلْته فَقُلْت: سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني، ولكنني أخبرني أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ربا إلا في النسيئة". ¬

_ (¬1) البخاري (2178، 2179).

وأما مسلم فأخرجه (¬1) عن محمد بن عباد ومحمد بن حاتم وابن أبي عمر جميعًا عن ابن عيينة، عن عمرو، عن أبي صالح ... نحو البخاري. قال الشافعي -رضي الله عنه-: كان ابن عباس لا يرى في [دينار] (¬2) بدينارين، ودرهم بدرهمين يدًا بيدًا بأسًا ويَراه في النسيئة، وكذلك عامة أصحابه، وكان يروى مثل قول ابن عباس عن سعيد وعروة بن الزبير رأيًا منهما، لا يحفظ عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر نحو ما حكينا عنه في الحديث قبله. وقد قال الشافعي فيما بلغه عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: "لا بأس بالدرهم والدرهمين". قال الشافعي: ولسنا ولا إياهم نقول بهذا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض". هذا طرف من حديث قد أخرجه مالك في الموطأ (¬3) بالإسناد، وهو مؤكد لما سبق من الأحاديث في الربا، وقد جاء مثله في حديث أبي سعيد الخدري؛ إلا أن ذاك مرفوع وهذا موقوف. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني عنه قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة قال: "بينا أنا جالس ¬

_ (¬1) مسلم (1596). (¬2) في "الأصل": دينارين، وهو تحريف، والمثبت من المعرفة (8/ 42)، وهو الأولى بالسياق. (¬3) الموطأ (1303).

عند أبي سعيد الخدري إذ [غمزني] (¬1) رجل من خلفي، فقال: سله عن الفضة [بالفضة] (¬2) بفضل، فقلت إن هذا يأمرني أن أسألك عن الفضة بالفضة، فقال أبو سعيد: وهو ربا، فقال: سله برأيه يقول أم سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أحدثكم، جاءه صاحب نخله بصاع من تمر طيب، فقال له: كأن هذا أجود من تمرنا فقال: إني أعطيت صاعين من تمرنا وأخذت صاعًا من هذا التمر، فقال: أربيت، فقال: يا رسول الله، إن سعر هذا في السوق كذا وكذا، وسعر هذا كذا وكذا فقال: فبعه بسلعة، ثم بع سلعتك بأي ثمن شئت. قال أبو سعيد: التمر أحق أن يكون فيه الربا أم الفضة؟! ". وأخرج المزني عن الشافعي -رضي الله عنه-، عن مالك، عن عبد المجيد بن سهيل، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة أو عن أحدهما عن الآخر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا تفعل؛ بع الجميع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا". هكذا رواه الشافعي بالشك، وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬3) عن أبي سعيد وأبي هريرة من غير شك (¬4). "الجنيب": نوع جيد من التمر. ¬

_ (¬1) في "الأصل": غزني بسقوط الميم، والمثبت من "السنن المأثورة" (1/ 169) و"معرفة السنن" (8/ 53). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "السنن المأثورة" و"معرفة السنن". (¬3) مسلم (1593). (¬4) وكذا أخرجه مالك في الموطأ (1292)، ومن طريقه البخاري (2201، 2202)، والنسائي (4553) كلهم من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري من غير شك.

وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم [عن] (¬1) مالك، عن زيد بن أسْلم، عن عطاء بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التمر بالتمر مثلًا بمثل، فقيل: يا رسول الله، إن عاملك على خيبر يأخذ الصاع بالصاعين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادعوه لي [فدعي له] (¬2) فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتأخذ الصاع بالصاعين؟ فقال: يا رسول الله، لا يبيعوني الجنيب بالجمع صاعًا بصاع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بع الجميع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم الجنيب". "الجمع": تمر مختلط من أنواع متفرقة من التمور وليس مرغوبًا فيه، وقيل: كل لون من النخل لا يعرف اسمه فهو جمع. قال الشافعي -رضي الله عنه- (¬3): وفي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامله على خيبر أن يبيع الجمع بالدراهم، ثم يشتري بالدراهم جنيبًا؛ ما دَلَّ -والله أعلم- على أن لا يجوز أن يباع صاع تمر رديء فيجمع مع صاع تمر فائق ثم يُشترى بهما [صاع] (¬4) تمر وسط (¬5). ولو كان يجوز أن يجمع الرديء مع الجيد الغاية، أمره -فيما نرى والله أعلم- أن يضع الرديء إلى الجيد، ثم يشتري به وسطًا، وكان ذلك موجودًا (¬6). قال: ولا يباع ذهب بذهب ومع أحد الذهبين شيء (من) (¬7) الذهب. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن عبد الله بن [يزيد] (¬8) مولى الأسود بن سفيان، أن زيدًا أبا عياش أخبره: "أنه سأل سعد بن أبي وقاص ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من الموطأ (1291). (¬3) زاد البيهقي في "معرفة السنن" (8/ 56): في القديم. (¬4) في "الأصل": صاعًا، وهو خطأ، والمثبت من المعرفة. (¬5) زاد البيهقي في "المعرفة": ثم بسط الكلام في بيان ذلك إلى أن قال. (¬6) زاد البيهقي في "المعرفة": في الجديد: في رواية أبي سعيد. (¬7) كذا في "الأصل"، وفي "المعرفة": غير. (¬8) في "الأصل": زيد، وهو تحريف، والمثبت من مصادر التخريج.

عن البيضاء بالسلت، فقال له سعد: أيهما أفضل؟ قال: البيضاء، فنهى عن ذلك وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن شراء التمر بالرطب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم. فنهى عن ذلك". هذا حديث صحيح أخرجه مالك وأبو داود والترمذي. أما مالك فأخرجه (¬1) بالإسناد واللفظ. وأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬3) فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. وقد أخرجه المزني عن الشافعي، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي عياش، عن سعد: "أنه سئل عن رجلن تبايعا بالسلت والشعير، فقال سعد: تبايع رجلان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر ورطب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم. فنهى عنه" وكذلك رواه الحميدي، عن سفيان: "بسلت وشعير". "البيضاء": يريد بها الحنطة، ويسمونها السمراء أيضًا وقيل: أراد بالبيضاء نوعًا مخصوصًا من الحنطة وهو أن أبيض اللون وفيه رخاوة ويكون ببلاد مصر، وقال بعضهم: البيضاء هي الرطب من السلت والأول أعرف؛ إلا أن هذا القول أشبه بمعنى الحديث؛ لأنه يطابق تشبيه الرطب بالتمر. و"السلت": نوع من الشعير له قشر كأنه حنطة، ويكون بالغور، وأهل الحجاز يتزودون بسويقه. ¬

_ (¬1) الموطأ (1293). (¬2) أبو داود (3359). (¬3) الترمذي (1225).

وقوله: "أينقص الرطب إذا يبس؟ " لفظه لفظ الاستفهام ومعناه التقرير والتنبيه والتوقيف على حقيقة الحكم وعلته؛ ليعتبرها السائل، ويستعملها في نظائرها؛ لأنه لا يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب إذا يبس ينقص وزنه؛ وإنما سأل عنه لتبيين علة المنع من صحة البيع والنهي عنه، وهذا النوع كثير يرد في العربية والقرآن العزيز كقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬1) وقول الشاعر: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وقول سعد لما سئل عن البيضاء بالسلت: "أيهما أفضل؟ " هذه الأفضلية تقتضي أن تكون في القيمة وفي الوزن. فأما في الكيل فلا لأنه مقدار لا يسع من كل جنس إلا ما يملأه. وأما في القيمة فلأن الأجناس تتفاوت قيمتها بحسب تفاوت رغبات الناس فيها، أو لقلتها، أو لغير ذلك من المقتضيات. وأما الوزن فلأن مكوك من البيضاء -إذا قلنا: إنها الحنطة- أفضل وزنًا من مكوك سلت، والتفاضل في القيمة والوزن لا أثر له في المال الربوي من المكيلات، والبيضاء والسلت مكيل، وإذا كان كذلك فليس في قوله: "أيهما أفضل؟ " فائدة ثم هذان نوعان مختلفان أحدهما حنطة والآخر شعير، وبيع بعضهما ببعض متفاضلاً جائز، إلا عند مالك ومن قال بقوله، وكيف يقاس إذا يبس، وليس هذه العلة بموجودة في البيضاء بالسلت حتى يقاس بها، إلا عند من ذهب إلى أن البيضاء هو الرطب من السلت، وحينئذ يصح الجمع بينهما والقياس فيهما. ويبقى شيء آخر وهو أن تعليل المنع من بيع الرطب بالتمر إنما هو النقص ¬

_ (¬1) سورة الأعراف (172).

المتوقع في الرطب إذا يبس؛ فيكون الرطب أنقص من التمر، وإذا قلنا: إن البيضاء في رطب السلت فإنها إذا يبست تنقص، ولفظ الحديث أنه قال: "أيهما أفضل؟ فقالوا: البيضاء" وهذا نقض لقول من ذهب إلى أن البيضاء رطب السلت فإنها تكون مفضولة لا فاضلة. قال الشافعي في هذا الحديث: رأى سعيد نفسه أنه كره البيضاء بالسلت؛ فإن كرهها نسيئة فذلك موافق لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبه نأخذ، ولعله إن شاء الله كرها لذلك، وإن كان كرهها متفاضلاً فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجاز بيع البر بالشعير [متفاضلاً] (¬1) وليس في قول أحد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة. قال: وفي حديثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلائل منها: أنه سأل أهل العلم بالرطب عن نقصانه، فينبغي للإمام إذا حضره أهل العلم بما يرد عليه أن يسألهم عنه. ومنها: أنه - صلى الله عليه وسلم - نظر في معقب، الرطب فلما كان ينقص لم يجز بيعه بالتمر، وقد حَرَّم أن يكون التمر بالتمر إلا مثلا بمثل. وكذلك دَلَّ أن لا يجوز رطب [برطب] (¬2) لأن الصفقة وقعت ولا يعرف كيف يكونان في المتعقب. ... ¬

_ (¬1) في "الأصل": متفالاً، وهو تحريف، والمثبت من "المعرفة" (8/ 62). (¬2) في "الأصل": برطل، وهو تحريف، والمثبت من "المعرفة".

الباب الرابع في أمور متفرقة

البابُ الرَّابعُ في أمُور متفَرقةٍ وفيه خمسة فصول الفَصْل الأول: في بيْع الحيَوان مُتفَاضِلاً أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة، عن ليث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "جاء عبد فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة، ولم يسع أنه عبد، فجاء سيده يريده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بعه، فاشتراه بعبدين أسودين، ولم يبايع أحدًا بعده حتى يسأله أعبد هو أم حر". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. فأما مسلم فأخرجه (¬1) عن يحيى بن يحيى التميمي ومحمد بن رمح وقتيبة، عن الليث وفيه: "ولم يشعر أنه عبد" وقال: "بعنيه" بدل "بعه". وأما أبو داود فأخرجه (¬2) مختصرًا عن يزيد بن خالد الهمداني وقتيبة بن سعيد، عن ليث ... "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى عبدًا بعبدين". وأما الترمذي فأخرجه (¬3) عن قتيبة، عن الليث. وأما النسائي [......] (¬4). "بايع": فَاعَلَ من البيعة العهد واليمين، وكأنهما في الأصل المرة الواحدة من ¬

_ (¬1) مسلم (1602). (¬2) أبو داود (3358). (¬3) الترمذي (1239). (¬4) بَيَّضَ له المصنف ولم بذكر عزوه. وهو عند النسائي (4184).

المبايعة: المعاهدة ولا يقال فيهما إلا بايع. و"الهجرة" الاسم من الهجر؛ هذا هو الأصل ثم نقل إلى من خرج من بلده إلى بلد آخر تاركًا للأول راغبًا في الثاني، والمُهَاجَرَة مُفَاعَلة منه. فمعنى قوله "بايعه على الهجرة" أي على أن يهاجر إليه مع مهاجري المسلمين و"الشعور" علم حاسة؛ لأن مشاعر الإنسان حواسه؛ تقول شَعَرْتُ بالشيء -بالفتح- أي أشعر أني فطنت له. و"السيد" المولى، وأصله سيود ووزنه فَيْعَيل عند البصريين، فلما اجتمعت الياء ساكنة وبعدها واو مكسورة قلبت الواو ياءً، وأدغمت الياء في الياء. وقال أهل الكوفة: وزنه فعِيل بوزن كريم. و"بعه" و"بعنيه" أمر بالبيع، وقد عداه إلى مفعولين، أحدهما الياء التي هي ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثاني الهاء التي [هي] (¬1) ضمير العبد. وفي رواية الشافعي: "أعَبْد هو أم حر" وفي باقي الروايات: "أَعَبْدٌ هو" ولم يذكر "أو حُرُّ" والمعنى من الروايتين واحد، إلا أن رواية الشافعي أظهر بيانًا؛ وذلك أن المسئول عنهما يُفْهَم من الجواب مصرحًا به، فإن جواب ذلك أن يقول: عَبْدٌ، أو حُرّ. وأما جواب الرواية الثانية فإنه يُفْهَم من أحد جوابيها ضمنًا لا صريحًا؛ لأن أحد جوابيها: لا، والآخر: نعم، فإذا نفى عنه أحد الحكمين علم الآخر ضمنًا. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: جواز بيع الحيوان بحيوانين إلى أجل. [وكره] (¬2) عطاء بن أبي رباح بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، (ومنه) (¬3) سفيان الثوري، وهو مذهب أهل الرأي. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) في "الأصل": ذكره، وهو تحريف، وانظر المعرفة (8/ 51). (¬3) كذا "بالأصل"، ولعل الصواب: وبه قال أو: ومثله والله أعلم.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عبد الكريم الجزري، أخبره أن زياد بن أبي مريم مولى عثمان أخبره: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مصدقًا له، فجاءه بظهر مسنات، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هلكت وأهلكت فقال: يا رسول الله، إني كنت أبيع البكرين والثلاثة بالبعير المسن يدًا بيدٍ، وعلمت من حاجة النبي إلى الظهر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فذاك إذًا". "المُصُدِّق": بتخفيف الصاد وتشديد الدال المكسورة عامل الصدقة. و"الظهر": الإبل، سميت بذلك مجازًا؛ لأن الانتفاع منها بظهورها. و"المسنات" من الإبل خلاف الفتيات، وهي الكبار منها، أسنت فهي مسنة، وتجمع على مسان أيضًا. وقوله: "هلكت وأهلكت" يريد به أنه لما رأى الإبل التي جاءت معه مسنات ظن أنه قد أخذها من أربابها هكذا، فقال له: هلكت بتعديك في الصدقة؛ حيث أخذت هذه المسنات من أربابها، وذلك فوق الواجب عليهم، وأهلكت أربابها بأخذك نفائس أموالهم وكرائمها عليهم، والبكر من الإبل: الفَتِيُّ منها. وقوله: "يدًا بيدٍ" يدل على صحة قول من منع من النسيئة في الحيوان بالحيوان؛ لأنه لما قال له: "يدًا بيدٍ" أقره على فعله بقوله: "فذاك إذًا" أي حيث الأمر كما ذكرت؛ فلا لوم عليك. ومعنى قوله: "وعلمت من حاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الظهر" يريد به ما يعطيه أهل الصدقة في سبيل الله، ويعطي ابن السبيل منهم وغيرهم من أهل السهمان، فأعطيت البكرين والثلاثة من الإبل التي لا تُركب ولا تَحْمِل، وأخذت المُسِنَّ الذي ينتفع المسلمون به ركوبًا وتحميلًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: "أنه سئل عن بعير ببعيرين، فقال: قد يكون البعير

خيرًا من البعيرين". وهذا الحديث مسوق لجواز بيع البعير بالبعيربن، ذكر علة الجواز وهو أن البعير الواحد قد يكون نفيسًا ثخينًا جيدًا في نوعه فيكون خيرًا في القيمة والانتفاع به من بعيرين، فذكر علة الجواز، ولم يتعرض لذكر الجواز اكتفاءً بالعلة، وهذا من باب الفصاحة، والبلاغة أن يذكر الشيء فيدل على ما وضع له وعلى غيره، ألا ترى أنه لو صح؛ قال في الجواب يجوز: ذلك. لحصل الغرض ولم تكن علة الجواز معلومة، وبقوله ما قال في الجواب؛ عرف الأمران. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك بن أنس، عن صالح بن كيسان، عن الحسن بن محمد، عن علي بن طالب: "أنه باع جملًا [له] (¬1) يدْعَى عصيفيرًا بعشرين [بعيرًا] (¬2) إلى أجل". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬3) إسنادًا ولفظًا، وهو مسوق لتأكيد ما سبق من الحكم بجواز بيع الحيوان بأكثر منه من جنسه نسيئة. وفيه بيان أن الذكورة والأنوثة لا أثر لهما في ذلك؛ لأنه قال: "باع جملًا له" والجمل لا يكون إلا ذكرًا، فإنه في الإبل بمنزلة الرجل في الأناسي، وقال في العرض: "بعشرين بعيرًا"، والبعير يقع على الذكر والأنثى من الإبل. وهذا الحديث مرسل، [لأن] (¬4) الحسن بن محمد لم يلق جده علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأما تسمية الجمل بعصيفير تصغير عصفور، أو عصفير، إما أن يكون اسمًا مرتجلًا له، أو لمعنى. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من مسند الشافعي. (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) الموطأ (1330). (¬4) في "الأصل": لابن، وهو تحريف.

وقد قال الأزهري: يقال للجمل ذي السنامين عصفوري، وعصافير النعمان ابن المنذر: إبل كانت له نجائب. فيجوز أن يكون واحدها عصفورًا أو عصفيرًا؛ فسمي بتصغيره الجمل. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه اشترى راحلة بأربعة أبعرة مضمونة عليه يوفيها صاحبها بالربذة". هذا حديث صحيح أخرجه مالك (¬1) إسنادًا ولفظًا، وهو مسوق لتأكيد ما سبق من الأحاديث. "والراحلة": البعير القوي على الأسفار والأحمال، "والأبعرة" جمع قلة لبعير، "والربذة" موضع قريب من المدينة، وهذا بيع واحد بأكثر منه نسيئة. قال الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب أنه قال: "لا ربا في الحيوان، وإنما نهى من الحيوان عن الثلاث: عن المضامين والملاقيح وحبل الحبلة". "والمضامين" ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الجمال، وحبل الحبلة بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه؛ كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم ينتج ما في بطها". هكذا ذكره الشافعي -رضي الله عنه-، عن مالك -رضي الله عنه-، وأدرج تفسير المضامين والملاقيح في الحديث، والذي رواه المزني، عن الشافعي أنه قال: المضامين: ما في ظهور الجمال، والملاقيح: ما في بطون الإناث. قال المزني: وأعلمت بقوله عبد الملك بن هشام فأنشدني شاهدًا له من العرب، وهذا التفسير هو الصحيح في اللغة والمشهور عند أهلها، والأول كذا جاء في الموطأ (¬2) والله أعلم. ¬

_ (¬1) الموطأ (1331). (¬2) الموطأ (1334).

الفصل الثاني في بيع اللحم بالحيوان

الفصل الثاني في بَيْع اللحْم بالحيوَانِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أَخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزَّة قال: "قدمت المدينة فوجدت جزورًا قد جزرت، وجزئت أجزاء، كل جزء منها بعناق، فأردت أن أبتاع منها جزءًا؛ فقال لي رجل من أهل المدينة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يباع حي بميت، قال: فسألت عن ذلك الرجل؛ فأخبرت عنه خيرًا". هكذا رواه في كتاب الصرف من المسند. وقد أخرجه في "القديم" عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج بمعناه. "الجزور" من الإبل يقع على الذكر والأنثى؛ إلا أن اللفظ مؤنث والجمع الجُزُور، والجَزَّار الذي يذبح الجزور، والتجزئة: التقطيع، جزأت الشاة وغيرها أجزاءً. و"العناق" الأنثى من ولد المعز، وقد سمي الذبيح ميتًا على سبيل المجاز، وإن كان في الأصل حقيقة قبل إطلاق الشرع عليه لفظ الموت؛ لأنه لا فرق بين الميتة والذكية، والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن بيع اللحم بالحيوان لا يجوز، وبه قال الفقهاء السبعة، ومالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف والمزني: يجوز، وقال محمد بن الحسن: يجوز على اعتبار اللحم في الحيوان فإن كان دون اللحم الذي في مقابلته جاز. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا ابن أبي يحيى، عن صالح مولى التوءمة، عن ابن عباس، عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- "أنه كره بيع اللحم بالحيوان" هكذا أخرجه في كتاب الصرف من المسند وقد رواه في القديم،

عن رجل، عن صالح، عن ابن عباس: "أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر، فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءًا [بهذه] (¬1) العناق، فقال أبو بكر الصديق: لا يصلح هذا". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن سعيد بن المسيب "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان". هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬2). قال الشافعي -رضي الله عنه- وأخبرنا سعيد بن سالم، عن أبي الزناد، عن أبيه: عن القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن، أنهم كانوا يحرمون بيع اللحم الموضوع بالحيوان عاجلًا وآجلاً، يعظمون ذلك ولا يرخصون فيه". قال: [لو] (¬3) لم يرو في هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ؛ كان قول أبي بكر الصديق فيه مما ليس لنا خلافه؛ لأنا لا نعلم أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بخلافه، وإرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في الأصل: بهذا، والمثبت من "معرفة السنن (8/ 66) والعناق هي الأنثى من أولاد الماعز ما لم يتم له سنة، انظر "النهاية" (3/ 311). (¬2) الموطأ (1335). (¬3) سقطت من "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 66).

الفصل الثالث في مال العبد والشجر المثمر

الفَصْل الثالث في مَالِ العَبْدِ والشَّجرِ المُثمرِ أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع". هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري (¬1). أما مالك فأخرجه (¬2) عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قال: "من باع عبدًا ... " الحديث فجعله موقوفًا على عمر. وأما مسلم فأخرجه (¬3) في جملة حديث عن يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح وقتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب ... بالإسناد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المتاع، ومن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع". وأما أبو داود فأخرجه (¬4): عن أحمد بن حنبل، عن سفيان ... بالإسناد، وذكر المعنيين عن القعنبي (¬5)، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر بقصة العبد، وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصة النخل. وأما الترمذي فأخرجه (¬6) عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري وذكر المعنيين، وروى قصة العبد عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر. ¬

_ (¬1) بل أخرجه البخاري (2379) من طريق الليث، عن ابن شهاب به كما في رواية مسلم الآتية. (¬2) الموطأ (1272). (¬3) مسلم (1543). (¬4) أبو داود (3433). (¬5) أبو داود (3434). (¬6) الترمذي (1244).

وأما النسائي فأخرجه (¬1) عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان [عن] (¬2) الزهري ... وذكر المعنيين. وكان مسلم والنسائي في جماعة من الحفاظ يقول: القول ما قال نافع؛ وإن كان سالم أحفظ منه. وكان البخاري يراهما جميعًا صحيح. وفي الباب عن جابر. "اللام" في له "لام" الملك، وقد أضافها إلى ضمير العبد، وذلك يملك، ومن لم ير ذلك فاللام "لام" تخصيص، لا "لام" تملك، فكان المال الذي يكون في يد العبد وإن كان مال سيده فإنه خاص بالعبد من بين سائر أموال السيد؛ لأن يده عليه، وتصرفه فيه دون ما في أموال سيده. "والاشتراط": أن يقول المبتاع قبل عقد البيع أن المال الذي في يد العبد داخل في البيع. "والتأبير": التلقيح، وهو أن يؤخذ طلع فحال النخل فيلقى منه شيء في طلع النخل، أو ما شُقَّ، فيكون ذلك لقاحًا بإذن الله تعالى، تقول: أَبرْت النخلة -مخففًا- فأنا أَبُرُّها -بالضم- أبرًا، وهي نخلة مأبورة. والتأبير مثله، ونخلة مؤبرة، ولا تؤبر النخلة إلا بعد ظهور ثمرتها وانشقاق كوافيرها عن عضيضها. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن العبد لا يملك شيئًا إذا لم يُمَلِّكه سيده، قولاً واحداً. وإن مَلَّكه سيده ففيه قولان: ¬

_ (¬1) النسائي (4636). (¬2) سقطت من "الأصل".

قال في القديم: يملك، وبه قال مالك؛ إلا أنه قال: يملك مطلقًا ملكًا ضعيفًا لا يساوي الحرفية؛ لأن لسيده انتزاعه منه، وإليه ذهب أبو داود، وأهل الظاهر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وقال في الجديد: لا يملك، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وإسحاق، والرواية الأخرى عن أحمد. ولفظ هذا الحديث يشهد بصحة القول الجديد؛ لأنه قال: "فماله للبائع" ولو كان له لمَاَ مَلَّكُه لسيده. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرها للبائع إلا أن يشترط المبتاع". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا النسائي. فأما مالك فأخرج الثانية إسنادًا ولفظًا (¬1). وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن عبد الله بن يوسف وأما مسلم (¬3) فأخرجه عن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن القعنبي جميعًا عن مالك. وأخرج أبو داود الأولى (¬5) عن أحمد بن حنبل، عن سفيان. وأما الترمذي فأخرجه (¬6) عن قتيبة، عن الليث عن الزهري، وزاد قصة العبد. ¬

_ (¬1) الموطأ (1279). (¬2) البخاري (2204). (¬3) مسلم (1543). (¬4) أبو داود (3434). (¬5) أبو داود (3433). (¬6) الترمذي (1244).

"التأبير" قد ذكرناه في الحديث قبله. قال الشافعي -رضي الله عنه-: هذا الحديث ثابت عندنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبه نأخذ، وفيه دلالة على [أن] (¬1) الحائط إذا بيع ولم يؤبر نخله فثمرته للمشتري، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حَدَّ فقال: "إذا أبر فثمره للبائع"، فقد أخبرنا أن حكمه إذا لم يؤبر غير حكمه إذا أُبِّر، ولا يكون ما فيه إلا للبائع أو للمشتري. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أنه إذا باع نخلة عليها ثمرة بيعًا مطلقًا لم يشترط فيه الثمرة، فإن كانت الثمرة قد ظهرت من قشرها فهي للبائع إلا أن يشترط المبتاع، وإن كانت لعلها مستترة في جوف الطلعة فهي للمشتري، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: للبائع بكل حال أَبَّر أو لم يؤبِّر؛ إلا أن يشترط المبتاع. وقال ابن أبي ليلى: الثمر للمشتري أبر أو لم يؤبر، اشترط أو لم يشترط؛ لأن الثمر من النخل. وقد شبه الشافعي -رضي الله عنه- ذلك بالولادة في الإماء يُبَعْن حاملات، وواضعات أحمالهن، وإذا باعها مالكها حاملًا تبعها ولدها, وإن ولدته قبل البيع كان الولد للبائع إلا أن يشترط المبتاع. وروي عن النخعي والحسن أنهما قالا فيمن باع وليدة قد زنيت: إن ما تحمله للمشتري إلا أن يشترط البائع. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، أن عطاء أخبره: "أن رجلاً باع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطًا مثمرًا ولم يشترط المبتاع الثمرة، ولم يستثن البائع الثمرة، ولم يذكراه، فلما ثبت البيع اختلفا في الثمر واحتكما فيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقضى بالثمر الذي لَقَّح النخل" والله أعلم. ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل" والمثبت من المعرفة (8/ 69).

الفصل الرابع في وضع الجائحة

الفَصْل الرَّابع في وَضْع الجَائِحَة أخبرنا سفيان، عن حميد بن قيس، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنين, وأمر بوضع الجوائح". قال الشافعي -رضي الله عنه- سمعت سفيان يحدث بهذا الحديث كثيرًا في طول مجالستي له ما لا أحصي ما سمعته يحدثه من كثرته لا يذكر فيه: "أمر بوضع الجوائح" لا يزيد على: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السنين" ثم زاد بعد ذلك: "وأمر بوضع الجوائح". قال سفيان: فكان حميد يذكر بعد بيع السنين كلامًا قبل وضع الجوائح لا أحفظه، فكنت أكف عن ذكر وضع الجوائح لأني لا أدري كيف كان، وفي الحديث أمرٌ بوضع الجوائح. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. هذا حديث صحيح أخرج مسلم منه بيع السنين. وقد تقدم في الفصل السادس من الباب الأول من البيع. وأخرج أبو داود (¬1) بيع السنين والجوائح عن أحمد بن حنبل ويحيى بن [معين] (¬2)، عن سفيان. ¬

_ (¬1) أبو داود (3374). (¬2) في "الأصل": سعيد، وهو تحريف، والمثبت من سنن أبي داود.

و"الجوائح": جمع جائحة، وهي الآفة التي تصيب الثمار والغلات فتهلكها، جحت الشيء أجيحه وجاحتهم الجائحة واجتاحتهم وجاح الله ما له وأجاحه بمعنى أي أهلكه بالجائحة، ووضعها إسقاطها من الثمن بقدرها. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أنه إذا اشترى ثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع فأصابتها جائحة قبل القطع، أو كانت بعد بدو الصلاح فتلفت قبل أن يأخذها، نظرت؛ فإن كان ذلك قبل القبض انفسخ العقد وكانت من ضمان البائع، وإن كان ذلك بعد القبض، وهو التخلية بين المشتري وبينها، فاختلف فيه قول الشافعي، فقال في القديم: هي من ضمان البائع، وإن تلفت كلها انفسخ العقد وإن تلفت بعضها انفسخ فيه، وهل ينفسخ في الباقي؟ مبني على القولين في تفريق الصفة. وقال في الجديد: يكون ذلك من ضمان المشتري ولا يسقطه شيء من الثمن بذلك. وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح عند أصحاب الشافعي، ولا فرق بين القولين في أن يكون التلف بأمر سماوي مثل الثلج والربح والبرد، أو أمر أرضي كنهب أو سرقة أو غير ذلك. وقال مالك: إن كان التالف أقل من الثلث كان من ضمان المشتري، وإن كان [قدر الثلث] (¬1) كان من ضمان البائع. وقال أحمد: إن تلف ذلك بأمر سماوي كان من ضمان البائع، وإن كان بأرضي كان من ضمان المشتري والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن أبي الرجال، عن أمه عمرة. أنه سمعها تقول: "ابتاع رجل ثمر حائط في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل.

فعالجه وأقام عليه حتى تَبيَّنَ له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع، فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تأَلى أن لا يفعل خيرًا؟! فسمع بذلك رب المال فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، هو له". هكذا أخرج الشافعي هذا الحديث مرسلاً عن عمرة، وقد جاء مسندًا عن عائشة فيما أخرجه البخاري ومسلم. أما البخاري فأخرجه (¬1) عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان، عن يحيى بن سعيد، عن أبي الرجال، عن أمه، عن عائشة قالت: "سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صوت خصيم بالباب عالية أصواتهما، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرج عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟! فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب". وأما مسلم فأخرج (¬2) عن غير واحد، عن إسماعيل بن أبي أويس بإسناد البخاري. و"الحائط": يريد به البستان، وهو في الأصل الذي يكون عليه حائط محدق به، ثم سُمّي البستان بذلك اتساعًا. و"معالجته": ملابسته والنظر في حاله، وإصلاحه، وتلقيحه، وحرثه، وسقيه، وما جرت به العادة في عمارة البساتين. و"الوضع": يريد به إسقاط بعض الثمن، لأجل الجائحة. و (تَأَلَّى) يَتَأَلَّي تَأَلّيًا، آلَى يُولي إيلاًء: إذا حلف، والأَلِيَّة: اليمين. ¬

_ (¬1) البخاري (2705). (¬2) مسلم (1557).

و"الاسترفاق": طلب الرفق [في] (¬1) الاقتضاء والطلب. و"المعروف": كلمة جامعة لصنائع الخير، وهي من الصفات العالية، يريد الخير المألوف بين الناس، المعروف عند الأخيار، هذا هو الأصل، ثم نقل واستعمل استعمال الأسماء، فصار كله موضوع بإزائه. وقوله: "فله أَيُّ ذلك أحب، يريد أي الأمرين من خفض الثمن أو الإقالة، أو أي الأمرين من الوضع أو الرفق. قال الشافعي -رضي الله عنه-: حديث عمرة مرسل، وأهل الحديث ونحن لا نثبت المرسل، ولو ثبت حديث عمرة كانت فيه -والله أعلم- دلالة على أن لا توضع الجائحة، لقولها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تألى أن لا يفعل خيرًا" ولو كان الحكم عليه أن يضع الجائحة لكان أشبه أن يقول: ذلك لازم له، حلف أو لم يحلف. قال الشافعي: قال سفيان في حديثه عن جابر في وضع الجوائح ما حكيت، فقد يجوز أن يكون الكلام الذي لم يحفظ سفيان من حديث حميد يدل على أن أمره بوضعها على مثل أمره بالصلح على النصف، وعلى مثل أمره بالصدقة تطوّعا؛ حضُّا على الخير لا حتمًا وما أشبه ذلك (¬2). فلما احتمل الحديث المعنيين معًا ولم يكن فيه دلالة على أيهما أولى به؛ لم يجز عندنا -والله أعلم- أن يحكم على الناس في أموالهم بوضع ما وجب لهم [بلا خبر] (¬3) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضعه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "الأصل": به. (¬2) زاد في "الأم" (3/ 57)، والمعرفة (8/ 89): "ويجوز غيره". (¬3) في "الأصل": بالأجر، وهو تحريف والمثبت من "الأم" و"المعرفة".

الفصل الخامس في الخراج بالضمان والرد بالعيب

الفصْل الخامِسُ في الخرَاج بالضَّمان وَالرَّدّ بِالعَيْبِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- خَبرنا سعيد بن سالم، عن ابن أبي ذئب، عن مخلد بن خفاف، عن عروة، عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن الخراج بالضمان". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "الخراج بالضمان". هكذا أخرجه في كتاب "اختلاف الأحاديث"، وقد عاد وأخرجه في كتاب "الرسالة" (¬1) قال: أخبرنا من لا أتهم، عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مخلد بن خفاف قال: "ابتعت غلامًا فاستغللته، ثم ظَهَرْتُ منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، فقضى لي برده وقضى عليَّ برد غلته، فأتيت عروة فأخبرته فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر فأخبرته ما أخبرني عُرْوة، عن عائشة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: فما أيسر عليَّ من قضاءٍ قضيته الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله، فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له". هذا حديث صحيح حسن غريب أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. أما أبو داود فأخرجه (¬2) عن أحمد بن يونس، عن ابن أبي ذئب. ¬

_ (¬1) الرساله (1/ 448). (¬2) أبو داود (3508).

وفي أخرى له (¬1) عن إبراهيم بن مروان، عن أبيه، عن مسلم بن خالد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة "أن رجلاً ابتاع غلامًا، فأقام عنده ما شاء الله عز وجل أن يقيم، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استعمل غلامي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الخراج بالضمان". وأما الترمذي فأخرجه (¬2) عن محمد بن المثنى، عن عثمان بن عمرو أبي عامر العقدي، عن ابن أبي ذئب. وعن أبي سلمة يحيى بن خلف (2)، عن عمر بن علي، عن هشام، وقد استغرب البخاري هذا الحديث من رواية عمر بن علي هذه التي رواها الترمذي. وأما النسائي فأخرجه (¬3) عن إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس ووكيع، [عن] (¬4) ابن أبي ذئب. "قضى" بمعنى حكم وأمر. و"الخراج" القرار الذي يكون على إنسان يؤديه في كل وقتٍ أو على مِلكٍ، والخَرْجُ مثله، وقيل: الخَرْجُ ما تبرعت به، والخراج ما لزمك أداؤه، هذا هو الأصل. والمراد بالخراج في هذا الحديث: غلَّة العبد التي يحصلها لمولاه، والمنفعة التي تحصل منه، وكذلك هو الخراج الذي وظَّفَهُ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على أرض السَّواد إنما هو عبارة عن غلتها؛ لأنه أمر بمساحة السَّواد ودفع الأراضي إلى الفلاحين الذين كانوا فيها؛ على غلة يؤدونها كل سنة، فلذلك سُمِّي خراجًا، ¬

_ (¬1) أبو داود (3510). (¬2) الترمذي (1285). (¬3) النسائي (4490). (¬4) سقطت من "الأصل".

ثم قيل بعد ذلك للبلاد التي افتتحت صُلْحًا ووظف ما صولحوا عليه على أراضيهم: خراجية؛ لأن تلك الوظيفة أشبهت الخراج الذي لزم الفلاحي وهو الغلة، كذلك قيل للجزية الواجبة على أهل الذمة: خراجٌ؛ لأنها كالغلة الواجبة عليهم. و"استغل غلامي" واستغللته أي أخذت غلته ومحصوله وكسبه. ومعنى قوله: "الخراج بالضمان" فيما قاله أهل العلم: هو أن يشتري الرجل مثلًا عبدًا فيستغله ثم يعثر منه على عيب دلسه البائع ولم يُطْلِعْه عليه، فله رد العبد على البائع والرجوع عليه بالثمن جميعه، والغَلَّة التي استغلها المشتري من العبد موفرة عليه؛ لأنه كان في ضمانه، ولو مات العبد مات من مال المشتري. ومعنى هذه الباء في قوله: "بالضمان": أن الخراج مستحق بضمان الأصل، وهذا من فصيح الكلام ووجيز البلاغة. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الخراج في المبيعات التي يكون لها كسب ومنفعة؛ لا يخلو أن يكون كسبًا للعبد أو نماء فيه، أما الكسب فإنه يكون للمشتري كما ذكرنا ويردُّ العبد بالعيب، وعلى هذا قول جميع الأئمة من العلماء، وأما النماء: فكالولد، والثمر، واللبن، والصوف ونحو ذلك؛ فإن الشافعي يجعله بمنزلة الكسب، ويكون ذلك جميعه للمشتري، ويرد الأصل بالعيب، وبه قال أحمد. وقال مالك: إن كان النماءُ ولدًا، رُدَّ مع الأصل، وإن كان ثمرة أو صوفًا أو شعرًا؛ فإنه للمشتري ويرد الأصل وحده. وأما أبو حنيفة فقال: النماء يمنع من الرد بالعيب ويستحق الأرش على البائع. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فاستدللنا إذا كانت الغلة لم تقع عليها الصفقة،

فيكون لها حصة من الثمن، وكانت من ملك المشتري في الوقت الذي [لو] (¬1) مات فيه العبد مات من [مال] (¬2) المشتري، أنه إنما جعلها له لأنها حادثة في ملكه وضمانه، فقلنا كذلك في ثمر النخل، ولبن الماشية، وصوفها، وأولادها، وولد الجارية، وكل ما حدث في ملك المشتري وضمانه، وكذلك وطء الأمة الثيب وخدمتها. والرواية الآخرة التي فيها ذكر عمر بن عبد العزيز استدل بها الشافعي في كتاب "الرسالة" على لزوم قبول خبر الواحد، وأن عمر بن عبد العزيز لما قضى بقضية بلغه بعدها حديث يخالفها ورواه له عروة، عن عائشة نقض قضاءه وعمل به ولم يتوقف. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة: "أن عبد الرحمن بن عوف اشترى من عاصم بن عدي جارية، فَأُخْبِر أن لها زوجًا؛ فردها". هذا الحديث ذكره الشافعي في كتاب "الرد بالعيب" تبيينا لما ذهب [إليه] (¬3) وذلك أن الجارية إذا كان لها زوج واشتراها رجل ولم يعلم أن لها زوجًا، فله الخيار في إمساكها أو ردها، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل"، والمثبت من المعرفة (8/ 124). (¬2) في "الأصل": ملك، والمثبت من "المعرفة". (¬3) ليست في "الأصل".

الباب الخامس في الخيار

البابُ الخامِسُ في الخِيَار أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبْد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتبايعان بالخيار، كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا؛ إلا بيع [الخيار] " (¬1). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: وأخبرنا عن ابن جريج قال: أملى عليّ نافع مولى ابن عمر: أن ابن عمر أخبره، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تبايع المتبايعان البيع فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار". قال نافع: وكان ابن عمر إذا ابتاع البيع فأراد أن يوجب البيع؛ مشى قليلاً ثم رجع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. هكذا جاء في المسند ولم يذكر المتن. وقد أخرج المزني عن الشافعي بهذا الإسناد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار فقد وجب". وقد أخرج المزني رواية ابن جريج عن الشافعي، عن سفيان، وأخرج أيضًا عنه عن يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعًا، أو يُخَيِّر أحدهما الآخر، فإذا خَيِّرَ أحدهما الآخر وتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 13).

وجب البيع". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك فأخرج الأولى (¬1) إسْنادًا ولفظًا. وأما البخاري فأخرج الأولى (¬2) عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وعن (¬3) محمد بن يوسف، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وأما مسلم فأخرجه (¬4) عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وعن قتيبة (4) وابن رمح، عن الليث. وأما أبو داود فأخرج الأولى (¬5) عن القعنبي، عن مالك. وعن (¬6) موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن أيوب، عن نافع. وأما الترمذي فأخرجه (¬7) عن واصل بن عبد الأعلى، عن محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر. وأما النسائي فأخرجه (¬8) وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وحكيم بن ¬

_ (¬1) الموطأ (1349). (¬2) البخاري (2111). (¬3) البخاري (2113). (¬4) مسلم (1531). (¬5) أبو داود (3454). (¬6) أبو داود (3455). (¬7) الترمذي (1245). (¬8) بيض له المصنف، وقد أخرجه النسائي (4465) من طريق ابن القاسم عن مالك به. و (4466) من طريق يحيى. عن عبيد الله، عن نافع به.

حزام [وأبي هريرة] (¬1) وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسمرة بن جندب (¬2). "البيع" معروف، ويقع على البيع والشراء، والبائع فاعله، ويقال للبائع والمشتري: بَيِّعَان، وتباعان، ومتبايعان. فالمتبايعان متفاعلان من البيع؛ لأن كل واحد منهما قد باع عين ماله للآخر بعين مال الآخر، فنقل ما عنده إليه وأخذ ما عنده عوضه. "والخيار" الاسم من الاختيار، وخيرته بين الشيئين أي فوضت إليه الخيار، وهو طلب خير الأمرين عنده. وقوله: "كل واحد منهما على صاحبه" تفصيل لما أجمله. قوله: "البيعان بالخيار" فإنه في الأول لم يبين الخيار على من هو، وفي الثاني بينه أنه لكل واحد من البيِّعين على صاحبه، وأعاد ذكر الخيار زيادة في البيان؛ لأن قوله: "البيعان بالخيار" يوهم أن الخيار لهما إذا اتفقا على الخيار لا إذا انفرد أحدهما بطلبه وامتنع الآخر، فإذا قال كل واحد منهما على صاحبه بالخيار زال هذا الوهم؛ لتخصيص كل واحد منهما بوجوب الخيار له منفردًا وإن امتنع الثاني، وفي رواية الشافعي: "على صاحبه بالخيار" وفي رواية غيره: "بالخيار على صاحبه" ولكل منهما معنى ينفرد به. أما رواية الشافعي فإنه إنما ذكر القول الثاني زيادة في البيان الذي أجمله القول الأول كما قلناه، فإن لم يكن له ميل إلا إلى ما يدل على هذا الغرض الذي اجتلب القول الثاني لأجله وهو تبيين المخصوص بمن يجب له وعليه الخيار، وحيث كان هذا هو الغرض المطلوب الذي سيق الكلام لأجله، قدم ما هو الأهم في التقديم الذي يدل على الغرض المسوق له، فقال: "كل واحدٍ منهما على صاحبه بالخيار". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) انظر جامع الترمذي.

وأما الرواية الأخرى التي قدم فيها بالخيار على صاحبه فإنما قدمه لأن الأصل في سياق هذا الحديث إنما هو بيان شرع الخيار للمتبايعين مطلقًا، وحيث كان هذا هو الأصل في سياق هذا الحديث قدم الخيار، لأنه المطلوب، ولأن الفائدة التي سيق اللفظ الثاني لأجلها تفهم مع تأخير لفظة "صاحبه" وتقديم "الخيار"، فعلى هذا يكون لفظ رواية الشافعي أولى لما ذكرناه، ولأنه يكون قد جمع بين المعنيين، فإن الحديث وإن كان مشروعًا لبيان الخيار؛ فإن هذا الغرض قد حصل في القول الأول، وهو قوله: "المتبايعان بالخيار" وهذا هو أحد المعنيين، والمعنى الثاني بيان المخصوص بالخيار، ولا يحصل المعنيان على وجه الكمال إلا بتقديم لفظة "صاحبه" على "الخيار" و"الباء" في قوله: "بالخيار" متعلقة بمحذوف تقديره: متعاملان بالخيار، ونحو ذلك، ولا يجوز أن تكون متعلقة بقوله: "المتبايعان" لأَنَّا لو علقناها بما في المتبايعين من معنى الفعل؛ لكان الخيار مشروطًا بينهما في عقد البيع، وليس الغرض ذلك، بدليل قوله في آخر الحديث: "إلا بيع الخيار" وإنما الغرض إذا تعاقدا البيع؛ كان لهما الخيار، فالباء للملابسة، و"المتبايعان" مرفوع بالابتداء، وخبره "بالخيار" مع ما تعلقت به الباء، وكل واحد منهما مبتدأ في موضع البدل من "المتبايعين" وخبره "بالخيار" الثانية و"على" متعلق بالخيار، أي: له أن يختار عليه، ولو علقنا الباء بالمتبايعين لاحتجنا إلى الخبر. وقوله: "ما لم يتفرقا" اختلف العلماء في معنى التفرق والافتراق ونحن نذكر ما قالوه: قال الأزهري: سئل أحمد بن يحيى ثعلب عن الفرق بين التفرق والافتراق، فقال: أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال: يقال: فَرَقْتُ بين الغلامين -مخففًا- فافترقا، وفَرَّقْتُ بين اثنين -مشددًا- فتفرقا. فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان، فالتفرق الذي يلزم البيع بوجوده هو التفرق بالأبدان، وإليه ذهب علي، وابن عباس رضوان الله عليهما،

وعثمان، وجرير بن عبد الله، وابن عمر، وأبو برزة الأسلمي، وبه قال شريح، وابن المسيب، والحسن، والشعبي، وطاوس، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، وهو قول الشعبي، وابن أبي ذئب، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، قالوا جميعهم: أن المتبايعين أذا تبايعا وتعاقدا كان [لكل] (¬1) واحد منهما الخيار في فسخه ما داما في المجلس الذي عقدا فيه البيع، ولا يلزم العقد بمجرده. وقالت طائفة: يلزم العقد بالإيجاب والقبول، ولا يثبت خيار المجلس، وبه قال النخعي وأصحاب الرأي ومالك، فالتفرق هو نفس الإيجاب والقبول، يعنون التفرق بالكلام، كأنهما بذلك قد تفرقا أي حصل [كل] (¬2) واحد منهما بما عقده عليه البيع، وهذا هو الافتراق لا التفرق. وظاهر الحديث يشهد لصحة الأول، وعلى ذلك فسره ابن عمر وهو راوي الحديث: "أن ابن عمر كان إِذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع"، وكذلك تأويله أبو برزة الأسلمي في شأن الفرس الذي باعه الرجل من صاحبه، وسيرد ذكره بعد هذا الحديث. فلو كان تأويل الحديث على ما ذهبوا إِليه؛ لخلا الحديث عن الفائدة، وذلك أن من المعلوم أن المشتري ما لم يوجد منه قبول البيع فهو بالخيار، وكذلك البائع خياره ثابت في ملكه ما لم يعقد البيع وهذا من العلم العام الذي قد استقر بيانه، فإن الناس يُخَلَّون وأملاكهم، لا يكرهون على إخراجها من أيديهم، ولا تملك عليهم إلا بطيب أنفسهم، والخبر الخاص يروى في الحكم الخاص فَيُثْبِتُ أن المتبايعين هم المتعاقدان. والبيع من الأشياء المشتقة من أفعال الفاعلين، باع يبيع بيعًا فهو بائع وبَيِّع، ¬

_ (¬1) في "الأصل": كل، وما أثبتناه أليق بالسياق. (¬2) ليست في "الأصل".

ولا يقع حقيقة إلا بعد حصول الفعل منه، كقولك: قائم أو قاعد وآكل وشارب، وإذا كان كذلك فقد صح أن المتبايعين هما المتعاقدان، وليس بعد العقد تفرق إلا التمييز بالأبدان. قال الشافعي -رضي الله عنه- على قول من قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرق الكلام: هو محال لا يجوز في اللسان إنما يكونان قبل التساوم غير متساومين، ثم يكونان بعد متساومين قبل التبايع، ثم يكونان بعد التبايع متبايعين، ولا يقع عليهما اسم المتبايعين حتى يتبايعا ويتفرقا بالكلام على التبايع، واستدل بقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الربا: "هاء وهاء" إنه إنما لا يفترقان حتى يتقابضا. فقد تقدم هذا الحديث فيما سبق، ثم قال: أرأيت لو احتمل اللسان ما قلت وما قال من خالفك؛ أما أن يكون من قال بقول الرجل الذي سمع الحديث أولى أن يصار إلى قوله؛ لأنه الذي سمع الحديث فله فضل السماع والعلم بما سمع وباللسان؟ قال: بلى، قلت: فلم لم تعط هذا ابن عمر وهو سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" وكان إذا اشترى شيئًا يعجبه أن يجب له فارق صاحبه فمشى قليلاً ثم رجع. أخبرنا بذلك سفيان، عن ابن جريج، عن نافع عن ابن عمر، ولم تعط هذا أبا برزة؛ فهو سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار" وقضى به، وقد تصادقا أنهما تبايعا ثم كانا معًا لم يتفرقا في ليلتهما، ثم غدوا إليه، [فقضى] (¬1) أن لكل واحد منهما الخيار في بيعه. ويشهد لهذا التأويل قوله: "إلا بيع الخيار" ومعناه تخيره قبل التفرق وهما بعد في المجلس، فيقول له: اختر، وبيان ذلك في رواية أبي داود، وهو قوله: "إلا أن يقول لصاحبه اختر". ¬

_ (¬1) في "الأصل": يقتضي، والمثبت من "المعرفة" (8/ 20).

قال الشافعي: ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا بيع الخيار" معنيان أظهرهما عند أهل العلم باللسان، وأولاهما بمعنى السنة والاستدلال بها والقياس: أن يُخَيِّرَ أحدهما صاحبه بعد البيع، كما أن التفرق بعد البيع، وإذا كان وجوب البيع بالتفرق أو بالتخيير، وكان موجودًا في اللسان والقياس إذا كان البيع يجب بشيء بعد البيع هو الفراق؛ يجب بالثاني بعد البيع، فيكون إذا خَيَّرَ أحدهما صاحبه بعد البيع، كان الاختيار تجديد شيء يوجبه كما كان التفرق تجديد شيء يوجبه، ولم ترد فيه سنة بينة بمثل ما ذهبت إليه كان ما وصفنا أولى المعنيين أن يؤخذ به؛ لما وصفت من القياس. مع أن سفيان بن عيينة أخبرنا، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال: "خَيَّرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً بعد البيع، فقال الرجل: عَمْرَكَ الله؛ ممن أنت؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: امرؤ من قريش، قال: فكان أبي يحلف ما الخيار إلا بعد البيع". قال الشافعي: وبهذا نقول (¬1). وأما المعنى الآخر فهو أن يتخايرا في عقد البيع، وهو أن يشترط في العقد أن لا يكون بينهما خيار المجلس. قال الشافعي: وقد قال بعض أصحابنا: يجب البيع بالتفرق بعد الصفقة، ويجب بأن يعقد الصفقة على خيار، وذلك أن يقول الرجل: لك بسلعتك كذا بيعًا خيارًا، فيقول: قد اخترت البيع. قال: و [لسنا] (¬2) نأخذ بهذا، وقولنا الأول أن لا يجب البيع إلا بتفرقهما أو يخير أحدهما صاحبه بعد البيع فيختاره. قال الخطابي -رحمه الله تعالى-: وقد تأول بعضهم "إلا بيع الخيار" على ¬

_ (¬1) انظر "الأم" (3/ 4)، و"المعرفة" (8/ 22). (¬2) في "الأصل": ليس، والمثبت من "المعرفة" (8/ 23).

معنى خيار الشرط، وهذا تأويل فاسد وذلك أن الاستثناء من الإثبات نفيٌ، ومن النفي إثبات، والأول إثبات الخيار، فلا يجوز أن يكون ما استثنى منه إثباتًا مثله، على أن قوله: "إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر" يفسد ما قاله هذا التأويل ويهدمه، واحتج بعض من ذهب إلى أن التفرق هو تفرق الأبدان بأن المتبايعين إنما يجتمعان بالإيجاب والقبول؛ لأنهما كانا قبل ذلك متفرقين، ولا يجوز أن يَحْصُلا متفرقين بنفس الشيء الذي به وقع اجتماعهما. وأما مالك فإن أصحابه يحتجون في رد هذا الحديث يقول مالك: ليس العمل عليه عندنا فليس للمتفرق حد محدود يعلم. وقول مالك ليس حجة على غيره. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: مالكًا لست أدري من اتهم في إسناد هذا الحديث؟! اتهم نفسه أو نافعًا، وأُعظِم أن أقول اتهم ابن عمر، وأما قوله: فليس للتفرق حد يعلم -فليس الأمر على ما توهمه؛ إذ الأصل في هذا أو نظائره أن يرجع فيه إلى عادة الناس وعرفهم، وذلك يختلف باختلاف الأمكنة التي يجتمع فيها المتبايعان، فإذا كانا في بيت؛ فإن التفرق إنما يقع بخروج أحدهما منه، وإن كانا في دار واسعة؛ فبأن ينتقل أحدهما من مجلسه إلى صفة أخرى أو بيت من بيوت الدار، وإن كانا في سوق على حانوت فهو بأن يولي عن صاحبه ويخطو خطوات، وهذا كالعرف الجاري بين الناس، الذي لا ينكر، وكان ابن أبي ذئب يستعظم هذا الصنيع من مالك. وهذا كلام شديد وبيان حسن حققه الإمام أبو سليمان الخطابي، والإمام أحمد البيهقي، وليس فيه طعْنٌ لطاعن؛ إلا أنا وجدنا فيه مساغًا لقائل في موضع واحدٍ وهو في تفسير قوله: "إلا بيع الخيار" والمنع من تفسيره بخيار الشرط، ونحن نذكر ما عندنا في ذلك، فنقول: الخيار في البيع عند الشافعي على ثلاثة أقسام:

خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار النقيصة. أما خيار المجلس: فهو هذا الخيار الذي يقتضيه هذا الحديث. وأما خيار الشرط: فهو أن يشترط المتبايعان الخيار مدة ولا تزيد على ثلاثة أيام عند الشافعي، وأول المدة من حال العقد، وقيل: من حال التفرق. وقد أخرج المزني، عن الشافعي -رضي الله عنهما- عن سفيان، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: "أن حَبَّان بن منقذ كان [سفع] (¬1) في رأسه مأمومة، فثقل لسانه، فكان يُخدع في البيع، فجعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ابتاع من شيء [فهو] (¬2) فيه بالخيار ثلاثًا، وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل: لا خلابة. قال ابن عمر: فسمعته يقول: لا خلابة، لا خلابة". قال الربيع: قال الشافعي: وأصل البيع على الخيار، لولا الخبر كان ينبغي أن يكون فاسدًا، فلما شرط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المصراة خيار ثلاث بعد البيع، وروي عنه أنه جعل لحبان بن منقذ خيار ثلاثٍ؛ انتهينا إلى ما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخيار، ولم نجاوزه. "النقيصة": فمثلًا أن يظهر بالمبيع عيب يوجب الرد، أو يلتزم البائع فيه شرطًا لم يكن فيه، ونحو ذلك وهذا مستوفى في كتب الفقه. أما خيار المجلس فقد تقدم ذكر أقوال الأئمة فيه، والذي يحتاج إلى زيادة البيان هو قوله: "إلا بيع الخيار" فإن الشافعي قال: يحتمل معنيين، وقد ذكرناهما، وهذا الكلام من الشافعي يحتاج إلى إيضاح، فنقول: معنى قوله: "أن يخير أحدهما صاحبه بعد البيع" هو أن يتعاقد المتبايعان، فإذا أوجب أحدهما وقبل الآخر، يقول أحدهما للآخر: ¬

_ (¬1) في "الأصل": صقع، والمثبت من "المعرفة" (8/ 24)، ومستدرك الحاكم (2/ 26)، وسنن البيهقي (5/ 273) وغير ذلك. (¬2) في "الأصل": وهو، والمثبت من "المعرفة".

اختر. قبل أن يتفرقا، فإذا قال له: [اخترت] (¬1)؛ لم يبق لخيار المجلس حكم، وبقي الحكم لهذا التخيير، وإما أن يختار المخير الإمضاء أو الفسخ، فإن لم يختر أحدهما؛ بقي خَيار المجلس في حق المخير على ما كان عليه، وأما المخير ففيه وجهان: أظهرهما سقوط خياره فيكون معنى قوله: "إلا بيع الخيار" إلا البيع الذي قال فيه أحدهما للآخر: [اختر] (¬2) فإنه يكون لأحدهما دون الآخر، ولا يكون لكل واحد منهما على صاحبه، هذا بيان أحد معنيي قول الشافعي -رضي الله عنه-. وأما بيان المعنى الثاني وهو قوله: أن يتخايرا في عقد البيع فإنه يريد: إن شرطا فيه ترك الخيار فعقد التبايع على أن لا يكون بينهما خيار المجلس، وهذا القول هو الذي قال الشافعي فيه: ولا أقول بهذا: قيل: إنه حكاه عن مسلم بن خالد الزنجي فكأنه ليضعفه، وبعده قال: لا أقول به. قال قوم: إنما أراد ببيع الخيار: البيع الذي شرط فيه خيار الثلاث، فكأنه قال: ما لم يتفرقا؛ إلا بيع شرط فيه خيار الثلاث، فلا يتعلق الخيار فيه بالتفرق، والذي ذكره الخطابي وأنكر من هذا الوجه لا وجه له؛ فإنه قال: هو استثناء من إثبات فينبغي أن يكون نفيًا. وهذا وإن كان أصلاً صحيحًا فإنه قد غفل عن المعنى، وبيانه من وجهين أحدهما أنه يلزمه فيما ذهب إليه ما أنكره ها هنا؛ لأن معنى قوله الذي اختاره ونصره أن البيعين لهما خيار المجلس ما لم يتفرقا؛ إلا أن يكون أحدهما قد خَيرَ الآخر، ومعنى الوجه الذي أنكره أن البيعين لهما خيار المجلس إذا لم يتفرقا؛ إلا أن يكونا قد اشترطا خيار الثلاث، فهذا الاستثناء في صورته ذلك الاستثناء، ولا فرق بينهما إلا من جهة اختلاف معنى الاستثناءين. ¬

_ (¬1) في "الأصل": اختر. (¬2) ليست في "الأصل" والسياق يقتضيها.

وأما الوجه الثاني: فإن الخيار لما كان يشتمل على خيار المجلس وخيار الشرط، وكان إذا أطلق لفظ الخيار احتملهما على السواء، ويبقى التخصيص إلى القرائن ودلالة الحال؛ فلما قال: "البيعان بالخيار" عَمَّ الأمرين؛ فاستثنى منه أحد لخيارين، وهو أحد مدلولي اللفظ؛ لأنه لم يُرِدْ أن يوجب له إلا أحدهما، نعم قد استدل من ذهب إلى المعنى الثاني من المعنيين اللذين حكاهما الشافعي بالاستثناء، فقال: الاستثناء من الموجب نفي ومن النفي إيجاب، فلما كان هذا استثناء من إثبات وجب أن يكون نفيًا فكان معنى قوله: "إلا بيع": إلا بيعًا اشترط فيه نفي الخيار. وقول الشافعي في الرواية الثانية: أو يكون بيعهما عن خيار تتجاذبه التأويلات الثلاثة على قوة قويّها وضعف ضعيفها، وأوضح منه ما جاء في رواية البخاري ومسلم: "كل بَيِّعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار" فبيع الخيار إما أن يكون بيع التخيير، أو بيع شُرِطَ فيه الخيار، فنفى وجود البيع قبل التفرق وأثبته بعد التفرق سوى بيع الخيار، فإنه لا يثبت بالتفرق ولا يؤثر فيه شيئًا والله أعلم. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا الثقة، عن حماد بن زيد، عن جميل ابن مرة, عن أبي الوضيء قال: "كنا في غزاة، فباع صاحب لنا فرسًا من رجل، فلما أردنا الرحيل خاصمه إلى أبي برزة، فقال أبو برزة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" هذا حديث صحيح. أخرجه أبو داود (¬1)، عن مسدد، عن حماد ... بالإسناد، قال: "غزونا غزاة لنا، فنزلنا [منزلاً] (¬2) فباع صاحب لنا فرسًا بغلام [ثم أقاما] (¬3) بقية يومهما وليلتهما، فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل؛ فقام الرجل إلى فرسه [يسرجه فندم] (¬4) فأتى الرجل فأخذه بالبيع، فأبى الرجل أن يدفعه إليه، فقال: بيني ¬

_ (¬1) أبو داود (3457). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من سنن أبي داود. (¬3) في "الأصل": ثمرًا فأما وهو تحريف، والمثبت من سنن أبي داود. (¬4) في "الأصل": بسرجه فيلزم، والمثبت من سنن أبي داود.

وبينك أبو برزة صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر، فقالا له هذه القصة، فقال: أترتضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". قال هشام بن حسان: [حَدَّثَ] (¬1) جميل أنه قال: "ما أراكما افترقتما". تقول: بعت الثوب من فلان أذا بعته إياه، وإنما عداها بـ"مِنْ" حملًا لها على اشتريت، وهذا فاشٍ في العربية، فإنهم يحملون الشيء على نقيضه كما يحملونه على نطيره، والبَيَّاع فَعَّال من البيع، وهذا البناء موضوع للتكثير، أي لمنْ يكثر منه البيع. ومساق هذا الحديث لبيان المتبايعين إذا تعاقدا على البيع، وأقاما في مكانهما أيامًا لا يفترقان فالخيار لهما، وكذلك لو تماشيا مدة دام الخيار لهما، وقال قوم: إنه لا تزيد الأيام على ثلاثة؛ لأنها منتهى الأمد الثابت شرعًا في الخيار، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناط اللزوم بالتفرق؛ بناء على الغالب، بأن يجري على قرب، فقد يحتمل ترك العسكر لهذين المتبايعين بمنزلة مكان واحد لم يفارقاه، وإن أقاما فيه إلى الغد، ويجوز أن يزيد أن المتبايعين المذكورين تبايعا وهما في الصحراء، ومنزل العسكر واسع، وكل واحد من العسكر به له بقعة تخصه، وقد دام أمر البيع من الصباح إلى الغد، وفي مثل هذا المكان وهذا الزمان يكونان قد تفرقا وسقط الخيار. والوجه الأول؛ لأن قول أبي داود في آخر الحديث عن هشام بن حسان يشهد لذلك، وقد ذهب الخطابي في "معالم السنن" إلى أن غرض أبي داود من الحديث المعنى الثاني، وكلام هشام بن حسان يأبى ذلك. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا الثقة، عن حماد بن سلمة، عن ¬

_ (¬1) في "الأصل": حديث، والمثبت من سنن أبي داود.

قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الله بن الحارث، عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبَيَّنَا وجبت البركة في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت البركة من بيعهما". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري فأخرجه (¬1) عن إسحاق بن منصور، عن [حَبَّان] (¬2)، عن شعبة، عن قتادة. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن ابن المثنى، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة [و] (¬4) عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد وابن مهدي، عن شعبة، عن قتادة. وأما أبو داود فأخرجه (¬5) عن الطيالسي، عن شعبة، عن قتادة. وأما الترمذي فأخرجه (¬6) عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة. وأما النسائي فأخرجه عن [...] (¬7). "الصدق" يريد به في القيمة وأصل الثمن والعطية ونحو ذلك من الأسباب المتعلقة بالمبيع. "والبيان": الظهور، يريد إظهار حال المبيع والاطلاع على ما عساه يكون فيه من عيب أو نقص يعلمه البائع ولا يعلمه المشتري. "والبركة": النماء والزيادة. ¬

_ (¬1) البخاري (2110). (¬2) في "الأصل": حسان، وهو تحريف، والمثبت من صحيح البخاري وحبان هو ابن هلال. (¬3) مسلم (1532). (¬4) سقطت من "الأصل" والمثبت من صحيح مسلم. (¬5) أبو داود (3459). (¬6) الترمذي (1246). (¬7) بَيَّض له المؤلف، وقد أخرجه النسائي (4457) عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن شعبة، عن قتادة به.

"والمحق": الإبطال والمحو، ومحقه الله: أذهب بَرَكَتَهُ، "وأمحقه" لغة فيه رديئة. "والوجوب": الثبوت، وفي رواية الشافعي: "وجبت البركة في بيعهما" وفي رواية غيره: "بورك لهما في بيعهما" فالأول جعل الفعل للبركة كأنها هي التي تجب بالصدق والبيان، والثاني جعل البركة مفعولة، ولما قال: "وجبت البركة في بيعهما" قال: "محقت بركة بيعهما" للازدواج أيضًا، فالأول أطلق البركة والثاني أضافها. وأخبرنا ابن عيينة، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال: "خَيَّرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً بعد البيع، فقال الرجل: عَمْرَكَ الله، ممن أنت؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: امرؤ من قريش" قال: "فكان أبي يحلف: ما الخيار إلا بعد البيع". هذا الحديث هكذا أخرجه الشافعي -رضي الله عنه- مرسلاً، وقد جاء بعضه في الترمذي (¬1) مسندًا عن جابر من طريق أخرى: عن [عمرو] (¬2) بن حفص، عن ابن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير أعرابيًّا بعد البيع". "عمْرَك الله" ترد في الكلام ويراد بها القسم، والعَمْر -بفتح العين- هو العُمر، ولا يستعمل في الدعاء والقسم إلا مفتوحًا، تقول في الدعاء: عَمْرَك الله، فالعَمْرَ واللهَ منصوبان، تقديره أسأل الله تعميرك، وأن يطيل عمرك. قال عمر بن أبي ربيعة: أَيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا ... عَمْرَكَ اللهَ كيف يلتقيان ¬

_ (¬1) الترمذي (1249). (¬2) في "الأصل": "عمر" والمثبت من جامع الترمذي، وهو عمرو بن حفص الشيباني.

هِيَ شَامِيَّة إذا ما اسْتَهَلَّتْ ... وسُهَيْلٌ إذا ما اسْتَهَلَّ يَمَانِ فيجوز أن يكون هذا دعاء كما قلنا، ويجوز أن يكون قسمًا، أي: بإقرارك له بالبقاء، والدوام لله، ويجوز أن يرفع اسم الله على أنه فاعل المصدر، فتقول: عَمْرَكَ اللهُ أي أسأل الله بتعميرك الله، وتقول في القسم: عَمْرَ اللهِ، فتنصب الرّاء نصب المصادر الجارية على غير فعلها عَمْرَك، وتَجُر اسم الله بالإضافة، معناه أحلف ببقاء الله ودوامه، وقد تدخل عليها "لام" التأكيد فتقول: لعَمْرُ اللهِ ولَعَمْرك لكنك ترفع العَمْر وتجر اسم الله تعالى، وإنما دخلت اللام لتأكيد المبتدأ الذي هو لعمرك، والخبر محذوف تقديره لعمرك فسمي ولعمرك ما أقسم به. ومعنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله ممن أنت: "امرؤ من قريش" لأنه لم يرد أن يعرفه أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ خوفًا أن يعرفه الأعرابي، فيميل إلى رضاه ويدع له رضا نفسه، وإن لم يكن مُؤْثرًا لذلك، وقول ابن طاوس: "وكان أبي يحلف أن الخيار بعد البيع" يريد أن الخيار لا يكون مقترنًا بالعقد، ولا يكون إلا بعد البيع. وهذا الحديث غاية ما يدل [عليه] (¬1) أنه خَيَّرَهُ بعد البيع، ولا يدل على أن الخيار في نفس العقد لا يجوز؛ فإن ذلك يكون معلومًا بدليل آخر. ¬

_ (¬1) في "الأصل": على.

الباب السادس في أمور تلحق كتاب البيع وفيه

الْبَابُ السادِس في أمور تلحق كتاب البيْع وَفِيه ثَلاثَةُ فصُول الفَصْلُ الأوَّلُ في اخْتلافِ المُتبَايعيْن أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اختلف البيعان؛ فالقول ما قال البائع، والمبتاع بالخيار". قال الشافعي -رضي الله عنه- في القديم: هذا حديث منقطع، ولا أعلم أحدًا وصله عن ابن مسعود، وقد جاء من غير وجه. وأخرج الربيع عن الشافعي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الملك بن عمير قال: "حضرت أبا عبيدة بن عبد الله ابن مسعود وأتاه رجلان تبايعا سلعة، فقال أحدهما: أخذت بكذا وكذا، وقال الآخر: بعت بكذا وكذا، فقال أبو عبيدة أتي عبد الله بن مسعود في مثل هذا فقال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا فأمر البائع أن يُسْتَحلَف، ثم يُخَيَّر المبتاع؛ أن شاء أخذ، وإن شاء ترك". وقد أخرج هذا الحديث أحمد بن حنبل (¬1)، عن الشافعي. وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئًا، وقد رواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليْلى، عن القاسم ابن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) مسند أحمد (1/ 466).

"إذا اختلف البيعان والمبيع قائم بعينه، وليس بينهما يينة، فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع" ورواه أبو عميس، ومعن بن عبد الرحمن المسعودي، وأبان بن تغلب: كلهم عن القاسم، عن عبد الله مطلقًا, وليس فيه: "والمبيع قائم بعينه" وابن أبي ليلى كان كثير الوهم في الإسناد والمتن، وأهل العلم بالحديث لا يقبلون منه ما يتفرد به؛ لكثرة أوهامه. والذي ذهب إليه الشافعي أن المتبايعين إذا اختلفا؛ فإنهما يتحالفان، وسواء كانت السلعة قائمة أو تالفة، وبه قال محمد، وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كانت السلعة قائمة تحالفا، وإن كانت تالفة لم يتحالفا، وهي الرواية الأخرى عن أحمد. وعن مالك ثلاثة روايات: إحداها مثل قول الشافعي، والأخرى مثل قول أبي حنيفة، والثالثة: إن كان قبل القبض تحالفا, وإن كان بعده فالقول قول المشتري. وقال زفر وأبو ثور: القول قول المشتري مع يمينه بكل حال. ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن القول قول البائع، والمبتاع بالخيار" أن القول قوله مع يمينه، والمبتاع بالخيار إن شاء أخذ بما قال، وإن شاء حلف وترك, وإنما ذكر البائع لأنه يبرأ بيمينه والله أعلم. ***

الفصل الثاني في التسعير

الفصل الثاني في التسْعِير أخرج المزني عن الشافعي -رضي الله عنه- عن الدراوردي، عن داود بن صالح التمار، عن القاسم بن محمد، عن عمر: "أنه مَرَّ بحاطبٍ بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرهما، فَسَعَّر له مُدَّيْن لكل درْهم، فقال له عمر: قد حُدِّثْتُ بِعيرٍ مقبلة من الطائف تحمل زبيبًا، وهم يعتبرون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت، فتبيعه كيف شئت فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطبًا في داره، فقال له: إن الذي قلت ليس بعزمة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع، وكيف شئت فبع". وقد أخرج بعض هذا المعنى مالك في الموطأ (¬1): "أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق، فقال له عمر: إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا". قال الشافعي: وهذا الحديث الذي روينا ليس بخلاف لما روى مالك، ولكنه يروي بعض الحديث، أو رواه من روى عنه، وهذا أتى بأول الحديث وآخره، وبه أقول. وجملة الأمر أن ليس [للناظر] (¬2) في أمور المسلمين أن يُسَعِّر على أهل الأسواق أمتعتهم من طعام وغيره، سواء كان في حال الرخص أو الغلاء. قال الشافعي: ولأن الناس مسلطون على أملاكهم، فلا يجوز أن يؤخذ منهم إلا برضاهم ما لم تكن حالة الضرورة وسواء اختلفوا فيما يبيعون أو اتفقوا. ¬

_ (¬1) الموطأ (1328). (¬2) في "الأصل": المناظر.

وحكي عن مالك أنه قال: إذا خالف واحدٌ أهل السوق بزيادة أو نقصان، قيل له: إما أن تبيع بسعر أهل السوق وإما تنعزل. ***

الفصل الثالث في بيع رباع مكة وكرائها

الفصل الثالث فيِ بيْع رباع مَكة وَكرَائِها قال الحافظ أبو عبد الله الحاكم النيْسابُوري -رضي الله عنه-: حدثني أبو الوليد الفقيه قال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي العمري، قال: حدثني أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل، قال: حدثني إبراهيم بن محمد الكوفي -وكان من الإِسلام بمكان- قال: "رأيت الشافعي بمكة يفتي الناس، ورأيت إسحاق بن إبراهيم -هو ابن راهويه- وأحمد بن حنبل حاضرين، قال أحمد بن حنبل لإسحاق: يا أبا يعقوب، تعال حتى أريك رجلاً لم تر عيناك مثله، فقال له إسحاق: لم تر عيناي مثله؟! قال: نعم، فجاء به فوقفه [على] (¬1) الشافعي ... ". فذكر القصة إلى أن قال: ثم تقدم إسحاق إلى مجلس الشافعي وهو مع خاصته جالس، فسأله عن سكنى بيوت مكة -أراد الكراء- فقال له الشافعي: عندنا جائز؛ قال رسول الله: "هل ترك لنا عقيل من دار؟ فقال له إسحاق بن إبراهيم: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: تكلم، فقال: حدثني يزيد ابن هارون، عن هشام، عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وعطاء وطاوس لم يكونا يريان ذلك، فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ فقال: هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بن راهويه الخراساني. قال له الشافعي: أنت [الذي] (¬2) يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟! قال إسحاق: هكذا يزعمون، قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك؛ فكنت آمر بِعَرْكِ أذنيه؛ أنا أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنت تقول-: عطاء وطاوس وإبراهيم والحسن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 212). (¬2) سقطت من "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 213).

هؤلاء لا يرون ذلك؛ هل لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة؟ " فذكر قصة إلى أن قال: "فقال الشافعي: قال الله عز وجل {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} (¬1) فنسب الديار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟ قال إسحاق: إلى المالكين، فقال له الشافعي: قول الله أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دخل دار أبي سفيان فهو آمن نسب الدار إلى مالك أو إلى غير مالك؟ قال إسحاق: إلى مالك. قال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دَار الحجامين فأسكنها -وذكر له جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- فقال له إسحاق: قال الله تعالى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬2) فقال له الشافعي: اقرأ أول الآية: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} ولو كان هذا كما تزعم لكان لا يجوز لأحد أن ينشد فيها ضالة ولا ينحر فيها البدن، ولكن هذا المسجد خاصة، قال: فسكت إسحاق ولم يتكلم". فبيع بيوت مكة وإجارتها وأجَارتها تصح عند الشافعي -رضي الله عنه-. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز. و [عن] (¬3) أحمد روايتان. واحتجوا بما رواه أبو حنيفة، عن [عبيد] (¬4) الله بن أبي زياد، عن أبي نجيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجرة بيوتها" ومثل هذا الحكم لا يثبت عند أبي حنيفة بخبر ¬

_ (¬1) سورة الحشر: (8). (¬2) سورة الحج: (25). (¬3) في "الأصل": عند. (¬4) في "الأصل": عبد، وهو تحريف والمثبت من مستدرك الحاكم (2/ 61) وسنن البيهقي الكبرى (6/ 35) وسنن الدارقطني (3/ 57).

الواحد؛ لأنه مما تعم به البلوى ويكثر عنه السؤال، وقد اشترى عمر بن الخطاب من صفوان بن أمية دارًا بأربعة آلاف درهم، وأوصت عائشة -رضي الله عنها- لعبد الله بن الزبير بحجرتها، واشترى حجرة سودة، واشترى معاوية بن حكيم بن حزام دار الندوة بمائة ألف، وكل هذا يدل على جواز بيع دورها، والله أعلم. ***

كتاب السلم والقراض

كتاب السَّلمَ وَالقِراض أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن [قتادة عن أبي حسان] (¬1) الأعرج، عن ابن عباس قال: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬2). قال الشافعي: فإن [كان] (¬3) كما قال ابن عباس أنه في السلف، قلنا به في كل دين قياسًا عليه؛ لأنه في معناه، والسلف جائز في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والآثار" وما لا يختلف فيه أهل العلم علمته. "السَّلف" والسَّلَم معْروف، وهو نوع من البيوع إلى أجل معلوم، فتضبط السلعة بالوصف تقول: أسلفت وأسلمت في كذا، أو أسلمت في كذا وسلفت في كذا، ويجوز وسَلَّمت إلا أن الفقهاء لا يسلمونه، واستسلف منه دراهم، وتسلفت فأسلفني. و"المضمون": المتكفل به، الذي يكون في عهدةِ من استسلفه. وقوله: "إلى أجل معلوم" متعلق بالسلف، ويجوز أن يتعلق بالمضمون، واستدل بالآية على صحة إحلاله والإذن فيه، وقد يقع السلف على القرض، والقرض يكون حالًّا ومؤجلًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين -وربما قال: السنتين والثلاث- فقال: من سَلَّفَ فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم". ¬

_ (¬1) في "الأصل" أبي قتادة عن حسان، وهو تحريف. (¬2) سورة البقرة: (282). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة.

قال الشافعي: حفظته كما وصفت من سفيان مرارًا، وأخبرني من أصدق عن سفيان أنه قال كما قلت، وقال في الأجل: "إلى أجل معلوم". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. فأما البخاري فأخرجه (¬1) عن عمرو بن زرارة، عن إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح .... بالإسناد. وفي أخرى (¬2) عن صدقة، عن ابن عيينة. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن يحيى بن يحيى وعمرو الناقد، عن سفيان. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن عبد الله بن محمد النفيلي، عن سفيان. وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن أحمد بن منيع، عن سفيان. والذي ذهب إليه الشافعي: أن السلم جائز حالاًّ ومؤجلاً، وموجودًا ومعدومًا، يابسًا ورطبًا. أما المعدوم فيشترط أن يكون مأمون الانقطاع في محله، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا يجوز حتى يكون جنسه موجودًا حال العقد إلى حال المحل. وأما الحال فيه. قال عطاء وأبو ثور، واختاره ابن المنذر، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز، وقال الأوزاعي: أقل الأجل ثلاثة أيام. وأما الرطب فلأنه أجاز سلف السنين والثلاث، والثمر يكون رطبًا. قال الشافعي: وإذا أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التمر السنين بكيل ووزن وأجل ¬

_ (¬1) البخاري (2239). (¬2) البخاري (2240). (¬3) مسلم (1604). (¬4) أبو داود (3463). (¬5) الترمذي (1311).

معلوم كله، والتمر قد يكون رطبًا؛ فقد أجاز أن يكون الرطب سلفًا مضمونًا في غير حينه الذي يطيب فيه؛ لأنه إذا أسلف سنتين كان بعضها في غير حينه. قال: والسلف قد يكون بيع ما ليس عند البائع، فلما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده وأذن في السلم؛ استدللنا على أنه لا ينهى عما أمر به، وعلمنا أنه إنما نهى حكيمًا عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضمونًا عليه، وذلك بيع الأعيان (¬1). ولابد في السلم من ضبط المسلم فيه بالأوصاف التي تميزه عن أشباهه من جنسه، ولابد من ذكر المكيل والوزن فيما يكال ويوزن، ويجوز ضبط الكيل بالوزن وضبط الوزن بالكيل؛ لأن الغرض يحصل بكل منهما؛ بخلاف الربويات فإن الاعتبار فيها بالعادات، ومبناه على التعبد بالشرع. ومعنى قوله: "إلى أجل معلوم" أن يكون مقيدًا بوقت مخصوص لا يتقدم ولا يتأخر، كما لو أجله بالحصاد، والقطاف، وبقدوم زيد، ونحو ذلك مما يختلف وقته. وقال الشافعي: وقوله: "في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم أو إلى أجل معلوم" أظنه أنه أراد لما ذكر الوزن مع الكيل؛ دلَّ أنه أراد إِنْ أسلف في كيل أن يسلف في كيل معلوم، وإذا أسلف في وزن أن يسلف في وزن معلوم وإذا سمى أجلًا أن يسمي أجلًا معلومًا. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان لا يرى بأسًا أن يبيع الرجل شيئًا إلى أجل ليس عنده أصله". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن نافع، ¬

_ (¬1) انتهى كلام الشافعي هنا كما في "الأم" (3/ 94)، "والمعرفة" (8/ 187).

عن عبد الله بن عمر ... مثله. هذا الحديث مسوق لجواز السلم في شيء ليس موجودًا عند المستسلم منه شيء، مثل أن يستسلف في حنطة وليس عنده حنطة وقت السلف، وقد تقدم بيان المذهب في ذلك والخلاف فيه. قال الشافعي: وإذ أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيع الطعام بصفة إلى أجل؛ كان والله [أعلم] (¬1) بيع الطعام بصفة حالاً أجوز وأخرج من معنى الغرر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: "لا تبيعوا إلى العطاء، ولا إلى الأندر، ولا إلى الدياس". "الأَندر" بفتح الهمزة هو البيدر بلغة أهل الشام والجمع الأنادر. و"الدياس" دوس الغلة بالدواب لتخرج من قشرها وتبنها، تقول داس الطعام يدوسه دياسة ودياسًا. و"العطاء" هو القرار الذي كان يكتب للجند، ويوصل إليهم في أوقات مخصوصة من السنة، وربما تأخر العطاء والدياس عن وقتهما فيكون مجهولًا. والغرض من هذا الحديث بيان أن تعيين الأجل المسلم إليه واجب، وأن يكون إلى أمد لا يتغير كهذه الأشياء التي ذكرها في هذا الحديث. قال الشافعي: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إلى أجل معلوم" يدل على أن الآجال لا تحل إلا أن تكون معلومة، وكذلك قال الله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (¬2). وقال الشافعي: بلغه عن هشيم وحفص، عن الحجاج، عن ابن عمرو بن حريث، عن أبيه: "أنه باع عليًّا -رضي الله عنه- درعًا منسوجة بذهب بأربعة ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 187). (¬2) سورة البقرة: (282).

آلاف درهم إلى العطاء". قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا. أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف علي كرم الله وجهه وإسناده ليس بالقوي. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن [أبي] (¬1) رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "استسلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكرًا، فجاءته إبل الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقضي الرجل بِكْرَهُ، فقلت: يا رسول الله، إني لم أجد في الإبل إلا جملًا خيارًا رباعيًّا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطه إياه؛ فإن خيار الناس أحسنهم قضاءً". هذا حديث صحيح، أخرجه مالك (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4)، والنسائي (¬5). وقد أخرجه الشافعي أيضًا أحسن من هذا (¬6)، وقد تقدم ذكر ما أخرجه هو والجماعة المذكورون في كتاب الزكاة فلم نفرد، وقد ذكرنا هناك غرض الشافعي من إخراجه في كتاب الزكاة. وأما غرضه من إخراجه ها هنا فهو جواز اقتراض الحيوان والسلف فيه. و"البكر": الفَتِيُّ من الإبل. وقضيت الغريم أقضيه: إذا وفيته. و"الخيار": الجيد من كل شيء، ويقع على الواحد والجمع. ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل"، والمثبت من مصادر تخريج الحديث الآتية. (¬2) "الموطأ (1359). (¬3) مسلم (1600). (¬4) أبو داود (3346). (¬5) النسائي (4617). (¬6) وأخرجه الترمذي أيضًا من نفس الطريق (1318).

و"الرباعي": من الإبل ما دخل في السنة السابعة إلى تمامها، والأنثى رباعية مخفقة الياء، وقد بسطنا القول في معناها في كتاب الزكاة، وكذلك في معنى الحديث. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن كل ما يصح السلم فيه يصح استقراضه والحيوان يصح كله إلا الإماء ففيهن قولان؛ قال الغزالي: وقال ابن الصباغ: يجوز لذوي المحارم دون الأجانب. وقال المزني: يجوز مطلقًا. وقال أبو حنيفة: لا يصح القرض إلا في مال له مثل كالمكيل والموزون، وأما إعادة العوض فإن كان من ذوات الأمثال كالحيوان ففيه وجهان: أحدهما أن يرد قيمته، والثاني أن يرد قدره من جنسه وإن لم يكن مثله في جميع الصفات. قال الغزالي: وهو أشبه بالحديث، ولا تجوز الزيادة على العوض، وسواء الزيادة في القدر أو في الصفة، وكذلك إن دفع إلى رجل دراهم على أن يعيطه بدلها في بلد آخر؛ ليأمن من خوف الطريق ومؤنة الحمل، فأما إن أقرضه مطلقًا فقضاه خيرًا من ذلك نظرت؛ فإن كان ذلك لعادة منه معروفة كره في أحد الوجهين ولم يحرم؛ لعدم الشرط. وإن لم يكن ثمَّ شرط ولا عادة للمقرض فقضاه أكثر جاز ذلك ولم يكره. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا الثقة، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل معناه. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. أما البخاري فأخرجه (¬1) عن عبد الله بن عثمان بن جبلة، عن أبيه، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل ... بالإسناد قال: "كان لرجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دين فتقاضاه فأغلظ له، فهمَّ [به] (¬2) أصحابه فقال: دعوه؛ فإن لصاحب الحق ¬

_ (¬1) البخاري (2606). (¬2) سقطت من "الأصل"، والمثبت من صحيح البخاري.

مقالًا وقال: اشتروا له سنًّا فأعطوها إياه، فقالوا: إنا لا نجد سنًّا إلا سنًّا هي أفضل من سنه قال: فاشتروها فأعطوها إياه؛ فإن من خيركم -أو خيركم- أحسنكم قضاءً". وأما مسلم فأخرجه (¬1) عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سلمة. وأما الترمذي فأخرجه (¬2) عن محمد بن المثنى، عن وهب بن جرير، عن شعبة ... مثل البخاري. قوله: "فَهَمّ أصحابه" يريد أنهم عزموا على ردعه وزجره حيث أغلظ في تقاضيه. قوله: "فإن لصاحب الحق مقالاً" يعني سعة في القول وتمكينًا من الكلام وبسطة في الإدلال. و"المقال" مصدر قال يقول مقالاً. و"السن" عبارة عن فريضة من فرائض الإبل، إما ابن مخاض أو ابن لبون، أو حق أو جذع أو ثني، وكل واحد من هذه الأسماء يقال لها: سن. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فهذا الحديث الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبه آخذ، وفيه أن النبي ضمن بعيرًا بالصفة، وفي هذا ما دل على أنه يجوز أن يضمن الحيوان كله [بصفة] (¬3) في السلف وغيره. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان، عن سلمة بن موسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "ذلك المعروف؛ أن يأخذ بعضه طعامًا ¬

_ (¬1) مسلم (1601). (¬2) الترمذي (1317). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 192).

وبعضه دنانير". هكذا جاء في الحديث المسند، وإنما استدل به الشافعي على الإقالة في السلم. قال: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج: "أن عطاء كان لا يرى بأسًا أن يقبل رأس ماله منه، أو يُنْظره، أو يأخذ بعض السلعة وينظره بما بقي". والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الإقالة مندوب إليها، وهي عنده فسخ للعقد الأول وليست ببيع، وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف: هي بيع بعد القبض وفسخ قبله إلا في العقار؛ فإنها بيع فيه قبل القبض وبعده. وقال مالك: الإقالة بيع فيه قبل القبض وبعده. وقال: والإقالة تصح في بعض المسلم فيه. وبه قال عطاء وطاوس وعمرو بن دينار، وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري، وهو مذهب ابن عباس فيما رواه عنه الشافعي. وقال مالك وربيعة والليث وابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك. وكرهه أحمد وإسحاق. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-، عن ابن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين: "أنه سئل عن الرهن في السلف، فقال: إذا كان البيع حلالاً؛ فإن الرهن مما أمر به". وروى عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن ابن دينار: "أنه كان لا يرى بأسًا بالرهن والحميل". وكذلك رواه عن عطاء قال: "ويجمع الرهن والحميل، ويتوثق ما قدر عليه من حقه".

كتاب الرهن

كِتَاب الرَّهْن أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي رجل من بني ظفر". هذا الحديث أخرجه الشافعي مرسلاً، وأخرجه أيضًا عن الدراوردي، عن جعفر، وعاد وأخرجه عن إبراهيم بن محمد وغيره، عن جعفر. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه مرهونة". وحديث عائشة حديث صحيح. أخرجه البخاري (¬1) عن محمد بن محبوب، عن عبد الواحد، عن الأعمش ... بالإسناد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل معلوم: وارتهن منه درعًا من حديد". وأخرجه مسلم (¬2) عن يحيى بن يحيى وأبي بكر وأبي كريب، عن أبي معاوية عن الأعمش. و"الدرع" يريد بها الزردية، تقول: رهنت الشيء عند فلان، ورهنته الشيء بمعنى، وذهب قوم إلى أنه يجوز أرهنته، وارتهنت من فلان إذا أخذت منه رهنًا، ويجمع الرهن على رهون ورهان ورُهُن وقيل: هو جمع الجمع. والرَّهْن في الشرع: هو جعل المال وثيقة على الدين؛ ليستوفى منه إذا تعذر استيفاؤه ممن عليه، وليس بواجب، ويجوز في الحضر والسفر، وحكي عن مجاهد وداود أنهما قالا: لا يجوز إلا في السفر. ¬

_ (¬1) البخاري (2252). (¬2) مسلم (1603).

قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1) وقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬2) قال: فكان بَيِّنًا في الآية الأمر بالكتاب في الحضر والسفر، وذكر الله الرهن إذا كانوا مسافرين ولم يجدوا كاتبًا، فكان معقولاً -والله أعلم- فيها أنهم أمروا بالكتاب والرهن احتياطًا لمالك الحق بالوثيقة، والمملوك عليه بأن لا ينسى ويذكر، لا [أنه] (¬3) فرض عليهم أن يكتبوا ولا يأخذوا رهنًا؛ لقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬4) فكان معقولاً لأن الوثيقة في الحق في السفر والإعواز غير محرمة والله أعلم في الحضر وغير الإعواز. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه؛ له غنمه وعليه غرمه". قال الشافعي -رضي الله عنه-: غنمه: زيادته، وغرمه: هلاكه ونقصه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن شهاب عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... مثله أو مثل معناه لا يخالفه. هكذا أخرجه في كتاب الرهن، وعاد وأخرجه في كتاب الإجارات وقال: وقد أخبرني غير واحد من أهل العلم، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث ابن أبي ذئب. هذا الحديث [أخرج] (¬5) مالك أوله عن ابن شهاب، عن ابن المسيب مرسلاً، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: (282). (¬2) سورة البقرة: (283). (¬3) في "الأصل": أنهم، والمثبت من "الأم" (3/ 138)، و"المعرفة" (8/ 220). (¬4) سورة البقرة: [283]. (¬5) في "الأصل": أخرجه.

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يغلق الرهن" (¬1) وقد رواه إسماعيل بن عياش، عن ابن أبي ذئب موصولاً، ورواه سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة موصولاً. يقال: غَلِقَ الرهن -بكسر اللام- تغلق غَلَقًا -بالفتح- إذا استحقه المرتهن، وذلك إذا لم يفتك في الوقت المشروط. قال زهيرٌ: وفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لا فِكَاكَ لَهُ ... يوم الوَدَاعِ فأَمْسَى الرَّهْن قد غَلِقا (¬2) قال الشافعي -رضي الله عنه-: معنى قوله: "لا يُغْلق الرهن": لا يغلق بشيء، أي إن ذهب لا يذهب بشيء، وإن أراد صاحبه افتكاكه فلا يغلق في يَدَيِ الذي هو في يديه، والرهن للراهن أبدًا حتى يخرجه (بملكه لوجه) (¬3) يصح إخراجه له، والدليل على هذا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرهن من صاحبه الذي رهنه" ثم بينه ووكده فقال: "له غنمه وعليه غرمه". قال الشافعي -رضي الله عنه-: وغنمه: سلامته وزيادته، وغرمه: عطيه ونقصه. قال: ولو كان إذا رهن رهنًا بدرهم وهو يسوى درهمًا، فهلك ذهب الدرهم فلم يلزم الراهن كان إنما هلك من مال المرتهن لا من مال الراهن فهو حينئذ من المرتهن لا من الراهن، وهذا خلاف ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) الموطأ (1411). (¬2) انظر لسان العرب (مادة: غلق). (¬3) كذا في "الأصل" وفي "المعرفة" (8/ 233): "من ملكه بوجه".

وقد شرح مالك في الموطأ (¬1) تفسير "لا يغلق الرهن" قال: وتفسير ذلك فيما نرى -والله أعلم- أن يرهن الرجل الرهن عند الرجل بالشيء، وفي الرهن فضل عما رهن به، فيقول الراهن للمرتهن: إن جئت بحقك إلى أجل -يسميه له- وإلا فالرهن لك بما فيه، قال: فهذا لا يصح ولا يحل، وهو الذي نهى عنه، وان جاء صاحبه بالذي رهن به بعد الأجل فهو له، وأرى هذا الشرط منفسخًا. هذا تفسير الشافعي ومالك، وحقيقة هذه اللفظة في اللغة: الوقوع في الشيء والنشب فيه، يقال لكل شيء نشب في شيء فلزمه: قد غَلقَ فيه، وتقول: غَلِقَ في الباطل، وغَلِق في البيع، وغلق بيعه، وأغلقت الرهن أي أوجبته فغلق للمرتهن، أي: وجب له. قال أبو عبيد: غَلِقَ: إذا استحقه المرتهن، فقوله: "لا يغلق الرهن" أي لا يستحقه المرتهن إذا لم يرد الراهن ما [رهنه] (¬2) فيه، وكان هذا من فعل الجاهلية فأبطله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لا يغلق الرهن". وقوله: "لا يغلق" يجوز أن تكون [لا] (¬3) ناهية ونافية فإن كانت ناهية كسرت القاف؛ لالتقاء الساكنين. وإن كانت نافية رفعتها، والأحسن أن تكون نافية. وقوله: "الرهن من صاحبه" يعني أنه من حق صاحبه، و"من" للتبعيض المجازي؛ لأنا لو حملناها على الظفر كانت بعض الراهن، وليس الرهن بعضه، وإنما هو حيث ماله وملكه كان كأنه بعضه، وإنما إذا قدرنا في الكلام محذوفًا كان التبعيض حقيقة، أي: الرهن من حق الراهن. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 728). (¬2) في "الأصل": رهنته: والمثبت من لسان العرب (مادة: غلق). (¬3) ليست في "الأصل".

"والغُنم" -بالضم- مصدر غنم القوم يغنمون غنمًا. "والغرم": الغرامة وما يلزم الإنسان أداؤه. والمراد بهما في الحديث: أن زيادة الرهن ومنفعته للراهن وما يحتاج الرهن إن كان حيوانًا فعلى الراهن مأكله ومشربه، وإن أنفق عليه المرتهن شيئًا استحقه على الراهن؛ فكان هلاكه ونقصه من يدي الراهن. والذي ذهب إليه الشافعي أن الرهن أمانة في يد المرتهن لا ضمان عليه، وبه قال علي بن أبي طالب، وعطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، وأحمد، وأبو يوسف، وأبو عبيد، واختاره ابن المنذر. وذهب أبو حنيفة والثوري إلى أن الرهن مضمون بأقل الأمرين من قيمته أو الدين، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وقال مالك: يضمن من الرهن ما يخفى هلاكه كالذهب والفضة والعروض، ولا يضمن ما ظهر هلاكه كالحيوان والعقار. وقال النخعي والحسن البصري والشعبي وشريح: الرهن مضمون بجميع الدين، وإن كان أكثر من قيمته. وأما غنم الراهن فإن الشافعي ذهب إلى أن منفعتة للراهن، وليس للمرتهن منعه من الانتفاع بالرهن، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: ليس للراهن ولا للمرتهن الانتفاع بالرهن. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-، عن سفيان بن عيينة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: "الرهن مركوب ومحلوب". قال الشافعي: يشبه قول أبي هريرة -والله أعلم- أن من رهن ذات درٍّ وظَهْرٍ، لم يُمنع الراهن من دَرِّها وظهرها؛ لأنه له رقبتها؛ فهي محلوبة ومركوبة

كما كانت قبل الرهن (¬1). وقد رواه المزني بغير إسناد مرفوعًا, ولم يذكره الشافعي إلا موقوفاً وهو الصحيح، على أنه قد أخرج البخاري (¬2) وأبو داود (¬3) والترمذي (¬4) مرفوعًا عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الظهر يركب إذا كان مرهونًا ولبن الدر يشرب إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب نفقته". وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-، عن مطرف بن مازن، عن معمر، عن [ابن] (¬5) طاوس، عن أبيه: "أن [معاذ] (¬6) بن جبل قضى فيمن ارتهن نخلاً مثمرًا فليحسب المرتهن ثمرتها من رأس المال" قال: وذكر سفيان بن عيينة شبيهًا به. قال الشافعي: وأحسب مطرفًا قال في الحديث: "من عامِ حَجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". قال الشافعي: وكانهم كانوا يقضون بأن الثمرة للمرتهن قبل حج النبي - صلى الله عليه وسلم - وظهور حكمه، فردهم إلى أن لا يكون للمرتهن. قال: وأظهر معانيه أن يكون الراهن والمرتهن تراضيًا أن تكون الثمرة رهنًا ويكون الراهن سلط المرتهن على بيع الثمرة وأخذها من رأس ماله. قال: ولولا حديث معاذ ما رأيته يشبه أن يكون عند أحدٍ جائزًا. وحديث معاذ منقطع وقد رواه الثوري، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن معاذ، وهو منقطع أيضًا. ¬

_ (¬1) انظر "الأم": (3/ 164). (¬2) البخاري (2512). (¬3) أبو داود (3526). (¬4) الترمذي (1254). (¬5) في "الأصل": أبي، وهو تحريف. (¬6) في "الأصل": معاذًا، وهو خلاف الجادة.

كتاب الحجر والتفليس

كتابُ الحجر وَالتفْلِيس أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا محمد بن الحسن أو غيره من أهل الصدق في الحديث أو هما، عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشام ابن عروة، عن أبيه قال: "ابتاع عبد الله بن جعفر بيعًا فقال عليٌ: لآتين عثمان فلأحجرن عليك، فأعلم ذلك ابنُ جعفر [الزبير] (¬1) فقال: أنا شريك في بيعك. فأتى عليٌّ عثمان فقال: احجر على هذا، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: أحجر على رجل شريكه الزبير؟!. "الحَجْر" في اللغة: المنع والتضييق، وهو في حق من يحجر عليه من التصرف في ماله؛ لأنه منع له عن ذلك، وهو على ضربين: حجر للغير، وحجر لنفسه. فالحجر للغير: كالمفلس في حق الغرماء، والمريض لورثته، والمكاتب لسيده. وأما الحجر لنفسه: فهو الحجر على المجنون، والسفيه، والصغير. قال الشافعي -رضي الله عنه-، والحجر على البالغين في آيتين من كتاب الله -تعالى- وهما: قول الله تعالى: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (¬2) فأثبت الولاية على السفيه والضعيف والذي لا يستطيع أن يمل، وأمر وليه بالإملاء عليه؛ لأنه أقامه فيما لا غنى به عنه من ماله مقامه. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "والزبير" بزيادة حرف واوٍ، وهو خطأ، والمثبت من المعرفة (8/ 272). (¬2) سورة البقرة (282).

قال: وقد قيل: والذي لا يستطيع أن يمل يحتمل [أن يكون] (¬1) المغلوب على عقله، وهو أشبه معانيه والله أعلم. قال: والآية الأخرى: قول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬2) فأمر أن يدفعوا إليهم أموالهم إذا جمعوا بلوغًا ورشدًا. ثم قال لبعض من [خالفه] (¬3): وجدنا صاحبكم يروي الحجر عن ثلاثة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخالفهم ومعهم القرآن، قال: فأي صاحب؟ قلت: أخبرنا محمد بن الحسن أو غيره من أهل الصدق ... وذكر حديث علي وابن جعفر، [فعليٌّ] (¬4) لا يطلب الحجر إلا [و] (¬5) هو يراه، والزبير لو كان يرى الحجر باطلاً قال: لا يحجر على بالغ [حرّ] (5) وكذلك عثمان، بل كلهم يعرف الحجر في حديث صاحبك. قال الشافعي: ولا يدفع ماله إليه إلا بأمرين؛ أحدهما: البلوغ، والآخر: الرشد بأن يكون حافظًا لماله عدلاً في دينه، وقال مالك وأبو حنيفة: إذا بلغ [وكان] (¬6) مصلحًا لماله دفع إليه، وإن كان مفسدًا لدينه، فإن دفع إليه ماله ثم صار مبذرًا مضيعًا لماله في غير وجهه؛ حجر عليه، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق والأوزاعي وأبو ثور وأبو عبيد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة وزفر: لا يحجر عليه، وتصرفه نافذ في ماله. وروي ذلك عن النخعي وابن سيرين. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (3/ 218). (¬2) سورة النساء: (6). (¬3) في "الأصل": خلفه، وهو تحريف, والمثبت من "المعرفة" (8/ 272). (¬4) في "الأصل": فعلى هذا، والصواب ما أثبتناه، وانظر "الأم" (3/ 220) "والمعرفة" (8/ 272). (¬5) ليست في "الأصل" والمثبت من المصادر السابقة. (¬6) ليست في "الأصل".

وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن أخبرته: "أن حبيبة بنت سهل الأنصارية كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى صلاة الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من هذه؟ فقالت: أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله، فقال: ما شأنك؟ فقالت: لا أنا [ولا] (¬1) ثابت بن قيس -لزوجها- فلما جاء ثابت بن قيس، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[لثابت] (1): خذ منها، فأخذ، وجلست في أهلها". قال: وأخبرنا مالك، عن نافع: "أن مولاة لصفية بنت أبي عبيد أنها اختلعت من زوجها بكل شيء [لها] (¬2) فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر". احتج الشافعي بذلك على جواز تصرف المرأة البالغة في مالها. قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬3) قال: فدلت هذه الآية على أن الحجر ثابت على اليتامى حتى يجمعوا خصلتين: البلوغ والرشد؛ فالبلوغ استكمال خمس عشرة سنة، الذكر والأنثى في ذلك سواء؛ إلا أن يحتلم الرجل، أو تحيض المرأة قبل خمس عشرة سنة فيكون ذلك البلوغ. والرشد -والله أعلم الصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة. وإصلاح المال: بأن يختبر اليتيم. ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل"، والمثبت من سنن أبي داود (2227) وسنن النسائي (3462). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من موطأ مالك (1175) والمعرفة (8/ 267). (¬3) سورة النساء (6).

واحتج بما رواه المزني، عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: "عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه وأنا ابن خمسة عشرة فأجازني يوم الخندق". وقد أخرج الشافعي هذا الحديث في كتاب قسم الفيء، وسيرد هناك بطرقه إن شاء الله تعالى. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم، عن الحارث بن عبد العزيز، عن أبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل أفلس، فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به". وأخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، أنه سمع يحيى ابن سعيد يقول: أخبرني أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عمر بن عبد العزيز حدثه، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام حدثه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب قال: حدثني أبو المعتمر بن عمرو بن رافع، عن أبي خلدة الزرقي - وكان قاضي المدينة- أنه قال: "جئنا أبا هريرة في صاحبٍ لنا قد أفلس، فقال: [هذا] (¬1) الذي قضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه". هكذا جاء: عمرو بن رافع، وفي بعض الروايات: عمرو بن نافع وهو أصح، وأبو خلدة هو عمر بن خلدة، وقيل: عمرو، وعمر أصح. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 247).

هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا النسائي. أما مالك فأخرج الأولى إسنادًا ولفظًا (¬1). وفي أخرى عن عبد الرحمن بن أبي بكر ولم يذكر أبا هريرة (¬2). وأما البخاري فأخرجه (¬3) عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن يحيى بن سعيد. وأما مسلم فأخرجه (¬4) عن يحيى بن يحيى، عن هشيم. وعن قتيبة وابن رمح، عن الليث. وعن أبي الربيع ويحيى بن حبيب، عن حماد بن زيد، وعن أبي الربيع بن أبي شيبة، عن ابن عيينة. وعن ابن المثنى، عن عبد الوهاب ويحيى بن سعيد القطان وحفص بن غياث كل هؤلاء عن يحيى بن سعيد، عن أبي بكر. وأما أبو داود فأخرجه (¬5) عن القعنبي، عن مالك. وعن النفيلي (5)، عن زهير، عن يحيى بن سعيد. وأما الترمذي فأخرجه (¬6) عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى بن سعيد. "الإفلاس": أن لا يبقى للرجل مال، قالوا: أصله من أفلس الرجل إذا صارت دراهمه فلوسًا وزيوفًا، ويجوز أن يكون قد صار إلى حالٍ يقال له: ليس معه [فلبس] (¬7). ¬

_ (¬1) الموطأ (1358). (¬2) الموطأ (1357). (¬3) البخاري (2402). (¬4) مسلم (1559). (¬5) أبو داود (3519). (¬6) الترمذي (1262). (¬7) في "الأصل": فليس، والمثبت من "النهاية في غريب الحديث" (3/ 470).

وقوله: "أيما رجل" أَيْ: أَيُّ رجل كائنا من كان. وقوله: "فأدرك الرجل" ظاهر هذا اللفظ فيما جرت به عادة العربية أن الاسم إذا قيل نكرة ثم أعيد الاسم مَعْرِفَةً بالألف واللام؛ كان الثاني هو الأول وتكون اللام فيه لام العهد، تقول: قام رجل ثم تقول: فقال الرجل: كيت وكيت، فالرجل الثاني هو هو الأول، وهذا الرجل المذكور في الحديث ليس هو الرجل المبدوء بذكره؛ لأن الأول هو الذي أفلس، والثاني هو صاحب المتاع الذي أخذه منه المفلس. وقوله: "أدرك ماله بعينه" يريد أنه باق بحاله؛ فهو أحق به من غيره. والمفلس في الشرع اسم لمن عليه ديون لا يفي ماله بها, ولمن يُمنع من التصرف في ماله لهذا السبب إلا من الشيء القليل الذي يضطر إليه. قال الشافعي: وبحديث مالك وعبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، وحديث ابن أبي ذئب عن أبي المعتمر في التفليس نأخذ. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن المفلس تتعلق به أحكام: الأول: تعلق المدين بعين ماله. والثاني: أن يُمنع من التصرف في ماله، وإذا تصرف لم يُنفذ تصرفه. والثالث: أن كل من وجد من غرمائه عين ماله عنده كان أحق به من غرمائه. وإن مات هذا المفلس قبل أن يحجر الحاكم عليه؛ ثبتت هذه الأحكام الثلاثة، وبه قال علي وعثمان وأبو هريرة وعروة بن الزبير وأحمد وإسحاق ومالك، إلا أنه خالف في الميت. وقال أبو حنيفة: ليس للحاكم أن يحجر عليه، فإن أدى اجتهاده إلى الحجر عليه ثبت الحجر وليس له التصرف في ماله، إلا أن المبيع الذي في يده يكون أسوة الغرماء، وليس للبائع الرجوع فيه.

قال الربيع: قلت للشافعي: وإنا نوافقك في مال المفلس إذا كان حيًّا ونخالفك فيه إذا مات، وحجتنا فيه حديث ابن شهاب الذي قد سمعته يريد ما رواه ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل باع متاعًا، فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئًا، فوجده بعينه فهو أحق به، فإن مات المشتري فصاحب السلعة أسوة الغرماء" فلِمَ لم تأخذ بهذا؟ قال الشافعي: الذي أخذت به أولى من قِبل أن ما أخذت به موصول فجمع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الموت والإفلاس، وحديث ابن شهاب منقطع، ولم يخالفه غيره لم يكن مما (يُثْبِتُ) (¬1) أهل الحديث، فلو لم يكن في تركه حجة [إلا هذا] (¬2) ابْتُغي لمن عرف الحديث تركه من الوجهين المذكورين والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل" وفي "المعرفة" (8/ 249): يثبته. (¬2) في "الأصل": لا، والمثبت من المعرفة.

كتاب الصلح وازدحام الشركاء وفي الأبنية

كِتَاب الصُّلح وازْدِحام الشُّركَاءِ وفي الأبنية أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أن مالكًا أخبره، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ضرر ولا ضرار". هذا الحديث هكذا أخرجه مالك في "الموطأ" (¬1) وزاد فيه: قال: وروى "ولا إضرار" (¬2). الضَّرَر والضُّر لغتان، فإذا جمعت بين الضر والنفع فتحت الضاد، وإذا أفردت الضر ضممت إن لم تجعله مصدرًا، وقيل: الضُّر ضد النفع، والضر: الهزال وسوء الحال، والضَّرر: النقصان، يقال: دخل عليه ضرر في ماله، وقيل: كل ما كان من ضد النفع فهو ضُرّ. قال الأزهري: قوله: "لا ضرر [ولا ضرار] (¬3) " لكل واحدة من اللفظتين معنى غير الآخر، فمعنى قوله: "لا ضرر" أي: لا يضر الرجل أخاه فينقص شيئًا من حقه ولا ملكه، وهو ضد النفع. وقوله: "ولا ضرار" أي لا يضار الرجل أخاه وجاره مجازاة، فينقصه ويُدخل عليه الضرر في شيء فيجازيه بمثله، فالضرار منهما معًا والضرر فعل واحد. فمعنى نهيه عن الضرار أي لا يدخل الضرر -وهو النقصان- على الذي ضره، ولكن يعفو عنه؛ لقول الله تعالى: ¬

_ (¬1) الموطأ (1429). (¬2) هذه الزيادة لم أجدها في "الموطأ" من نسختي. (¬3) تكررت في "الأصل".

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ [أَحْسَنُ] (¬1) فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} والإضرار مصدر أَضَرَّ به إضرارًا، والمعنى قريب من الأول. وقيل لمالك بن أنس رحمه الله تعالى: ما الضرر والضرار؟ قال: ما أضر بالناس في طريق أو بيع أو غير ذلك، قال: ومثل هؤلاء الذين يطلبون العلم فيضر بعضهم بعضًا حتى يمنعني ذلك أن أجيبهم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره". قال: ثم يقول أبو هريرة: "ما لي أراكم عنها معرضين؟ والله لأرمين بها بين أكتافكم". وقد رواه المزني عنه بالإسناد وقال: "خَشَبَهُ" من غير تنوين. قال أبو جعفر الطحاوي: هكذا قرأه المزني علينا "خشبه" وهو الصواب. وقال يونس بن عبد الأعلى: عن ابن وهب، عن مالك: "خشبةً" بالتنوين. وأخرج المزني -أيضًا- عن الشافعي، عن سفيان، عن الزهري بالإسناد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2): "إذا استأذن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره لا يمنعه. فلما حدثهم أبو هريرة نكسوا رءوسهم، فقال: أراكم عنها معرضين، وأما والله لأرمين بها بين أكتافكم". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا النسائي. ¬

_ (¬1) زاد في "الأصل" بعدها: السيئة، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، والآية من سورة فصلت رقم (34). وأما الآية الأخرى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} فهي من سورة المؤمنون رقم (96). (¬2) سقطت من "الأصل".

أما مالك فأخرجه إسنادًا ولفظًا (¬1). وأما البخاري (¬2) فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن يحيى بن يحيى، عن مالك. [و] (¬4) عن زهير [عن] (4) ابن عيينة. [و] (4) عن أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس. وعن [عبد بن حميد عن] (¬5) عبد الرزاق، عن معمر، كلهم عن [الزهري] (4). وأما أبو داود فأخرجه (¬6) عن مسدد وابن أبي خلف، عن سفيان، عن الزهري. وأما الترمذي فأخرجه (¬7) عن سعيد بن عبد الرحمن، عن سفيان، عن الزهري. قال الشافعي -رضي الله عنه-: هذا حديث ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتصاله ومعرفة رجاله، وهو يلزم لزوم كل حديث من طريق الانفراد، ويقول: -والله أعلم- إنما أمر به لمعنى ضرورة الجدر مثل معنى ما أمر به من أن لا يمنع فضل الماء ليمنع له الكلأ. ¬

_ (¬1) الموطأ (1430). (¬2) البخاري (2463). (¬3) مسلم (1609). (¬4) ليست في "الأصل" والمثبت من صحيح مسلم. (¬5) في "الأصل": (عبد الرحمن بن) وهو تحريف، والمثبت من صحيح مسلم. (¬6) أبو داود (3634). (¬7) الترمذي (1353).

قوله: "ما لي أراكم عنها معرضين" يعني عن سماع ذلك وقبوله، كأنهم كرهوا ما قال، ولذلك قال لهم: "والله لأرمين بها بين أكتافكم" روي بالتاء والنون، أما بالنون فهو جمع كنف وهو الجانب والناحية، يعني أنه يجعلها فيما بينهم، فكلما مر بأفنيتهم رأوها فلا يقدرون أن ينسوها. وأما الثاني: فجمع كتف، يريد أنه يضعها على أكتافهم حتى يحملوا نقلها بين أكنافهم؛ وذلك لأنه رآهم قد استثقلوا ذلك وكرهوه، فإذا كانت بين أكتافهم لم يقدروا أن يعرضوا عنها. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الحائط إذا كان مشتركًا بين اثنين، فليس لأحد منهما أن يتصرف فيه إلا بإذن شريكه. وبه قال أبو حنيفة، وحكاه أصحاب مالك عنه. فأما ما ليس بمشترك فبطريق الأولى. وقال الشافعي في القديم: له أن يضع على حائط جاره خشبة لا تضر بالحائط إذا كان محتاجًا إلى وضعها، بأن لا يكون ما يسقف عليه إلا حائط جاره أو المشترك بينهما. وبه قال أحمد أخذًا بحديث أبي هريرة هذا، وأكثر العلماء [على] (¬1) خلافه؛ ذهبوا إلى أن هذا الحديث على طريق الاستحباب والمعروف. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه: "أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة، فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب، فدعى محمد بن مسلمة، فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد بن مسلمة لا فقال عمر: لِمَ تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع، تشرب به أولاً وآخرًا ولا ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل".

يضرك؟ فقال محمد بن مسلمة: لا، فقال عمر: ليمرن به ولو على بطنك". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1) بالإسناد، واللفظ نحوه. "الخليج": النهر الصغير المستخرج من النهر الكبير. و"العُرَيْض" -بضم العين وفتح الراء والضاد المعجمة- اسم موضع من نواحي المدينة. وقوله: "يخلي سبيله" أي يتركه وما أراد من إجراء الشهر. و"السبيل": الطريق وهي مؤنثة. وقوله: "تشرب به أولاً وآخرًا" يريد في أول جري الماء وآخره، فلا يزال الماء يجري في الأرض وهي تشرب به، أي منه، والباء في "به" مثلها في قول الله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ} (¬2) أي: منها، والذي ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى: [................] (¬3) وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- بهذا الإسناد عن عمرو بن يحيى، عن [أبيه] (¬4): "أنه كان في حائط جده ربيع لعبد الرحمن بن عوف، فأراد عبد الرحمن أن يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى أرضه، فمنعه صاحب الحائط، فكلم عبد الرحمن عُمَرَ، فقضى عمر أن يَمُرُّ به، فَمَرَّ به". قال الشافعي -رضي الله عنه- في القديم: وأحسب قضاء عمر في امرأة المفقود من بعض هذه الوجوه التي منع فيها الضرر وأشباهها, لهذا الحكم، أسأل الله التوفيق، إذا جاءت الضرورات فحكمها مخالف حكم غير الضرورات. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب حرملة، عن عبد الله بن نافع، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (1431). (¬2) سورة الإنسان: (6). (¬3) بياض بـ"الأصل". (¬4) سقط من "الأصل"، والمثبت من "الأم" (7/ 231).

كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالاً أو أحل حرامًا". قال الشافعي: أصل الصلح أنه بمنزلة البيع، فما جاز في البيع جاز في الصلح، وما لم يجز في البيع لم يجز في الصلح. قال: وقد روي عن عمر: "الصلح جائز بين المسلمين الأصلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً". قال: ومن الحرام الذي يقع في الصلح: أن يقع عندي على المجهول الذي لو كان بيعًا كان حرامًا. وأخرج الشافعي -رضي الله [عنه]- (¬1)، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: "أُتي عليٌّ في بعض الأمر، فقال: ما أراه إلا جورًا, ولولا أنه صلح لرددته" قال الشافعي: وهم يخالفون هذا، فيزعمون أنه إذا كان جورًا فهو مردود، ونحن نروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن من اصطلح على شيء غير جائز فهو رَدُّ. فقال البيهقي: لعله أراد حديث [أبي هريرة] (¬2) عمرو بن عوف المذكور، أو حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد". ... ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (8/ 278 - 279).

كتاب الشفعة

كِتَابُ الشُّفعَةِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن [ابن] (¬1) المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". هذا حديث صحيح أخرجه الشافعي هكذا مرسلاً في الجامع وأخرجه في "الإملاء" مسْندًا عنهما عن أبي هريرة. وأخرجه مالك بالإسناد (¬2) مرة مرسلاً ومرة مسْندًا. وأخرجه أبو داود (¬3) عن محمد بن يحيى بن فارس، عن حسن بن الربيع، عن ابن إدريس، عن ابن جريج، عن الزهري، عن أبي سلمة أو عن سعيد بن المسيب أو عنهما جميعًا عن أبي هريرة. قال الأزهري: قال المنذري: سمعت أبا العباس يعني ثعلبًا وسئل عن اشتقاق الشفعة في اللغة، فقال: الشفعة: الزيادة، وهو أن يُشَفِّعَكَ فيما تَطْلُب حتى تضمه إلى ما عندك فتزيده، ويَشْفَعه بها يعني أنه كان وترًا فضم إليه ما جعله شفعًا. قال الأزهري: قال القتيبي: كان الرجل في الجاهلية إذا أراد بيع منزل أتاه [جاره] (¬4) فيشفع إليه فيما باع، فيشفعه ويجعله أولى [بالمبيع] (¬5) ممن بَعُدَ سَبَبُه، فَسُمِّيت شفعة، وسُمِّي طالبها شفيعًا. قال الأزهري: جعل القتيبي "شفع إليه" بمعنى "طلب إليه" وأصل الشفعة ما فسره أبو الهيثم وأبو العباس، يعني الأول. وقوله: "فيما لم يقسم" يريد ما كان شائعًا مشتركًا غير [مميز] (¬6) نصيب ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (8/ 308). (¬2) الموطأ (1395). (¬3) أبو داود (3515). (¬4) في "الأصل": جراه، وهو تحريف، وفي لسان العرب (مادة: شفع): رجل. (¬5) في "الأصل": البيع، والمثبت من لسان العرب. (¬6) في "الأصل": مقيز، وهو تحريف.

كل واحد من الشركاء. و"الحدود" جمع حدّ، وهو الفاصل بين الشيئين، يريد أنه إذا قسم الملك فصار لكل واحد من الشركاء نصيب مفرد، له حَدٌّ فاصل بين نصيب الشريك الآخر، فلا شفعة فيما كان هذا سبيله، وفي هذا بيان أن الشفعة تبطل بنفس القسمة والتمييز بين الحصص بوقوع الحدود. قال الخطابي: [يشبه] (¬1) أن يكون المعنى الموجب للشفعة: دفع الضرر بسوء المشاركة والدخول في ملك الشريك، وهذا المعنى يرتفع بالشفعة. وأملاك الناس لا يجوز الاعتراض عليها بغير حجة، والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الشفعة لا تثبت إلا للشريك دون الجار، وبه قال عمر وعلي وعثمان وابن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز ويحيى الأنصاري وربيعة ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والثوري وابن شبرمة وابن أبي ليلى: إن الشفعة تثبت بالشركة في الملك، ثم بالشركة في الطريق، ثم بالجوار. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة، عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله أو مثل معْناه لا يخالفه. هكذا قال الشافعي عقيب حديث ابن المسيب يعني: "مثله أو مثل معناه". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... أنه قال: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. ¬

_ (¬1) في "الأصل": يشهد.

أما البخاري فأخرجه (¬1) عن مسدد، عن عبد الواحد، عن معمر بالإسناد. وأما مسلم فأخرجه (¬2) عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وإسحاق بن إبراهيم، عن عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن أبي الزبير عن جابر. وأما أبو داود فأخرجه (¬3) عن أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق، عن معمر. وأما الترمذي (¬4) فأخرجه عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن عمر. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وبهذا نأخذ، فنقول: لا شفعة فيما قُسِّم؛ اتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: فإن سفيان أخبر عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، عن أبي رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجار أحق بصقبه". وهذا هو الحديث الثاني الذي أشار إليه الشافعي -رضي الله عنه-. و"الجار" في اللغة يقع على معان؛ منها: الجار: الذي يلاصق منزلك، والجار: الشريك؛ لأنه يجاور شريكه ويساكنه في الدار المشتركة، ومنه سمي الرجل جار زوجته والمرأة جارة زوجها. و"الصقب": القرب، ويروى بالسين والصاد. وقوله: "منجمة" يريد به أن يوصلها إليه في أوقات معينة يقع تراضيهما عليها، يوصل في كل وقت منها شيئًا معلومًا من جملة الثمن، وكذلك قوله: "أو مقطعة" يريد مفرقة. ¬

_ (¬1) البخاري (2257). (¬2) مسلم (1608). (¬3) أبو داود (3514). (¬4) الترمذي (1370).

قال الشافعي: أبو رافع فيما روي عنه متطوع بما صنع، وحديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة، وقولنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منصوص لا يحتمل التأويل، وقوله: "الجار أحق بصقبه" لا يحتمل إلا معتيين لا ثالث لهما: أن يكون أراد [أن] (¬1) الشفعة لكل جار، أو أراد بعض الجيران دون بعض، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن لا شفعة فيما قسم" فدل على أن الشفعة للجار الذي لم يقاسم دون الجار المقاسم. وقال الأزهري: لما كان الجار في كلام العرب محتملاً لم يجز أن يفسر قوله: "الجار أحق بصقبه" أنه الجار الملاصق إلا بدلالة تدل عليه، فوجب طلب الدلالة على ما أريد به، فقامت الدلالة في سُنَّةٍ أخرى مفسرة أن المراد بالجار: الشريك الذي لم يقاسم، وإذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة بوجه من وجوه الإمكان؛ كان أولى من تناقضها, ولا سيما إذا ترجح أحد الحديثين على الآخر بوجه من وجوه الصحة. وهذا الحديث قد تُحدث في إسناده واضطراب الرواية فيه، فقال بعضهم: عمرو بن الشريد عن أبي رافع. وقال بعضهم عن أبيه عن أبي رافع. وأرسله بعضهم وقال فيه: قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن الشريد. والأحاديث التي جاءت في أن لا شفعة إلا للشريك أسانيدها جيدة ليس في شيء منها اضطراب، فيحمل قوله: "الجار أحق بصقبه" على أنه أراد الشريك؛ لهذا المعنى. قال الشافعي: وروى غيرنا [عن] (¬2) عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجار أحق بشفعته يُنْتَظَرُ بِهَا ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (8/ 313). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (8/ 314).

وإن كان غائبًا؛ إن كانت الطريق واحدة". قال: سمعنا بعض أهل العلم بالحديث يقول: نخاف أن لا يكون هذا الحديث محفوظًا. قيل له: ومن أين قلت؟ قال: إنما رواه عن جابر بن عبد الله، وقد روى أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر مفسرًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشفعة فيما يقسم، وإذا وقعت الحدود فلا شفعة" وأبو سلمة من الحفاظ، وروى أبو الزبير - وهو من الحفاظ- عن جابر ما يوافق قول أبي سلمة ويخالف ما روى عبد الملك ابن أبي سليمان، وفيه من الفرق بين الشريك وبين القاسم، فكان أولى الأحاديث أن يؤخذ به عندنا -والله أعلم- لأنه أثبتها إسنْادًا، وأبينها لفظًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعرفها في الفرق بين المقاسم وغير المقاسم. قال البيهقي: فقد ترك جماعة من الأئمة حديث عبد الملك بن أبي سليمان، وسئل أحمد بن حنبل عن حديثه في الشفعة فقال: حديث منكر. وقال الترمذي: سألت البخاري عن هذا الحديث فقال: لا أعلم أحدًا رواه عن عطاء غير عبد الملك تفرد به، والمروي عن جابر خلاف هذا. وقال الترمذي: إنما ترك شعبة الحديث عن عبد الملك لحال هذا الحديث. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم عن مالك، عن محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عثمان بن عفان قال: "إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة". قال: وذكر عبد الله بن إدريس، عن محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد، عن أبان بن عثمان مثله. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا الثقة، عن ابن إدريس، عن

محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد، عن أبان بن عثمان، أن عثمان بن عفان قال: "لا شفعة في بئر". قال الشافعي: لا شفعة في بئر إلا أن تكون فيها بياض يحتمل القسم [أو] (¬1) أن تكون واسعة محتملة للقسم. وقد اختلف العلماء في علة الشفعة بعد اتفاقهم على أن أصلها موضوع لرفع الضرر، فمنهم من قال: إن العلة ضرر الخلطة، عداها إلى الجار، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل العراق، ومنهم من قال: إنها لضرر الشركة وذلك فيما يلزم من مؤنة القسمة وتضييق المرافق، ولذلك لم تثبت للجار وقد حكي عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني أنه قال: الأخذ بالشفعة غير معلل؛ لأنه فسخ قوي يترتب على عقد اختياري أذن الشرع فيه، وهذا ما لا نظير له في الشريعة، وإنما شرعه الله تعالى بما علم من الحكمة لا بعلة نصبها عَلمًا. وقد رَدَّ عليه هذا القول بعض من سمعه، فقال: هذا الذي أشار إليه إمام الحرمين لا يصح عند كافة العلماء؛ لأن الحكم إذا ورد في الشريعة وظهر تعليله، وعلمت فائدته، وجب البناء عليها والعمل بها، وقد ظهرت علة الضرر في الشفعة ظهورًا جليًّا، ووافقنا على التفريع عليها، فلو كان الأخذ بالشفعة تعبدًا ما فرع عليها، وقد كانت الأموال الربوية على مذهب الجويني في التوقف عن تعليلها والاقتصار على الأعيان الأربعة الوارد ذلك فيها أولى، ثم اقتحمنا فيها التعليل مع أن تعليل الشفعة أظهر فكان أولى والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل" والمثبت من "المعرفة" (8/ 319).

كتاب الحوالة

كتابُ الحِوَالة أخبرنا المزني، عن الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن أبي الزناد، بن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم، وإذا أُتْبعَ أحدكم على مليء فليتبعْ". هذا حديث صحيح أخرجه الجماعة (¬1) إلا النسائي. و"المليء": القادر على وفاء الدين. وقوله: "وإذا أتبع أحدكم" معناه إذا أحيل أحدكم بالدَّين على قادر على وفائه فليحتل. قال الخطابي: أصحابي الحديث يروون "اتَّبع" بتشديد التاء وهو غلط، وصوابه "أُتْبع" ساكنة التاء بوزن أكرم يقال: تبعت الرجل أتبعه تباعة إذا طالبته فأنا تبيعه، وليس هذا على الوجوب، بل هو على الندب والرفق بمن عليه الدين، ثم الحوالة مشتقة من تحويل الشيء، ولهذا قال الشافعي: وإذا أحال الرجل على الرجل بالحق، فأفلس المحال عليه أو مات ولا شيء له لم يكن للمحتال أن يرجع على المحيل من قبل؛ لأن الحوالة تحول حق من موضعه إلى غيره، وما يحول لم يعد. ... ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1254) والبخاري في صحيحه (2287)، ومسلم (1564)، وأبو داود (3345) والترمذي (1308)، وأخرجه النسائي في سننه (4688) من الطريق سفيان عن أبي الزناد و (4691) ومن طريق مالك مثل رواية الجماعة.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان، عن الزهري، عن عائشة: "أن عبد بن زمعة وسعدًا اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة، فقال سعد: يا رسول الله، أوصاني أخي إذا قدمت مكة أن انظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه؛ فإنه ابني. فقال عبد بن زمعة: أخي، وابن أمة أبي، ولد على فراش أبي, فرأى شبهًا "بَيِّنًا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) وأبو داود (¬3). قال الشافعي: فألحقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعوة الأخ وأمر سودة أن تحتجب منه؛ لمِاَ رأى من شبهه بعتبة؛ فكان في هذا دليل على أنها لم تدفعه، وأنها قد ادعت منه ما ادعى أخوها. وهذا استدل به الشافعي على إقرار الوارث بوارث آخر، وسعد هو سعد بن [أبي] (¬4) وقاص الزهري، وعتبة هو أخوه، جاهلي، وهو الذي كسر رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد. وعبد بن زمعة هو أخو سودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان عتبة قد عاهر من أمة زمعة فولدت ولدًا، فكان عتبة يدعي أنه ولده، وعهد إلى أخيه سعد أن يأخذه إليه، فخاصمه عبد بن زمعة فيه، فقضى له النبي - صلى الله عليه وسلم - به؛ لأنه ولد على فرايق أبيه، وحكم الإِسلام أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، فألحقه بزمعة دون ¬

_ (¬1) البخاري (2421) من طريق سفيان، عن الزهري به. (¬2) مسلم (1457) من طرق عن سفيان به. (¬3) أبو داود (2273) من طريق سفيان أيضًا. (¬4) ليست في "الأصل".

عتبة، وأبطل حكم الجاهلية؛ لأنهم كانوا يُلْحقون الأولاد بالزناة إذا غلب على ظنهم أن الولد من ماء الزاني، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسودة: "احتجبي" على سبيل الاستحباب والتنزيه؛ لما رأى من شبهه بعتبة، وأنه ربما كان مخلوقًا من ماء عتبة والله أعلم. ***

كتاب الغصب

كِتابُ الغَصبِ أخرج المزني عن الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن ظلم من أرْضٍ شبرًا طوَّقَه الله من سبع أرضين". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) أتم من هذا وفيه قصة. و"التطويق" هو أن يجعل له مثل الطوق في العنق. وقوله: "من سبع أرضين" أي: يخسف به الأرضون السبع، فتصير البقعة المغصوبة منها في عنقه كالطوق إلى السافلين، وقيل هو: من طوق التكليف لا طوق التقليد، وذلك أن يكلف حملها يوم القيامة، يقال: طوقتك الشيء إذا كلفتك حمله. قال الشافعي -رضي الله عنه-: ولو اغتصب أرضًا فغرسها نخلاً [أو] (¬3) أصولاً [أو] (3) بني فيه بناءً؛ كان عليه كراء مثل الأرض بالحال التي اغتصبه إياها، وكان على الباني والغارس أن يقلع بناءه وغراسه، و [ضمان] (¬4) ما نقص القلعُ الأرضَ، لا يكون له أن يُثْبِتَ فيها عرقًا ظالماً، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق". قال الشافعي: فإن تأول متأول قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" فهذا الكلام مجمل، لا يحتمل لرجل شيئًا إلا احتمل عليه خلافه، ووجهه الذي يصح به: أن الإضرار في أن لا يحمل على رجل في ماله ما ليس بواجب عليه، ولا ضرار في أن يمنع رجل من ماله ضرارًا و [لكل] (¬5) ما له وعليه والله أعلم. ¬

_ (¬1) البخاري (2452) بزيادة عبد الرحمن بن عمرو بن سهل بين طلحة وسعيد. (¬2) مسلم (1610) من طريق عن سعيد بن زيد. (¬3) في "الأصل": و، والمثبت من "المعرفة" (8/ 304). (¬4) في "الأصل": عثمان، وهو تحريف، والمثبت من "المعرفة". (¬5) تكررت في "الأصل".

كتاب القراض

كِتَابُ القِراضِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: "أن عبد الله وعبيْد الله ابني عمر خَرَجا في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرّا [على] (¬1) عامل لعمر، فَرَحَّبَ بهما وسَهَّل، وهو أمير البصرة، وقال: لو أقدر لكما على أمرٍ أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بل ها هنا مال من مال الله أريد أن أشا به إلى أمير المؤمنين، فَأُسْلِفُكُمَاهُ فتبتاعان به متاعًا من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، فيكون لكما الربح [فقالا] (¬2): وددنا ففعل، وكتب لهما إلى عمر -رضي الله عنه- أن يأخذ منهما المال، فلما قدما بالمدينة، باعا فربحا، فلما دفعا المال إلى عمر قال لهما: أكل الجيش قد أسلفه كما أسلفكما؟ فقالا: لا، فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فَأَسْلَفَكُما، أديا المال وربحه، فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك هذا يا أمير المؤمنين؛ لو هلك المال أو نقص لَضَمِنَّاهْ فقال: أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح ذلك المال". وحكى الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "اختلاف العراقيين" عن بعض أهل العراق، عن حميد بن عبد [الله] (¬3) بن عبيد الأنصاري، عن أبيه، عن جده: "أن عمر بن الخطاب أعطى مال يتيم مضاربة، وكان يعمل به في العراق، ولا يدري كيف قاطعه على الربح". وعن عبد الله بن علي، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه: ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 322). (¬2) في "الأصل": فقال، والمثبت من "المعرفة" (8/ 322). (¬3) سقط لفظ الجلالة من "الأصل"، والمثبت من "الأم" (7/ 108)، و"المعرفة" (8/ 323).

"أن عثمان بن عفان أعطى مالاً مقارضة" يعني مضاربة. وعن حماد [عن] (¬1) إبراهيم: "أن ابن مسعود أعطى زيد بن خليدة مالاً مقارضة". هذا حديث صحيح أخرجه مالك بالإسناد (¬2) إلا أنه قال: "فلما قفلا مرّا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة ... وذكر الحديث بطوله. "القفول": الرجوع من السفر، قَفَلَ يَقْفِلُ قُفُولاً، والقافلة: الجماعة المسافرون إذا رجعوا من سفرهم. و"رحّب بهما وسهّل" أي قال لهما: مرحبًا وسهلًا. "والرحب": السعة، "والسهل": ضد الصعب، وهما منصوبان بإضمار الفعل الناصب، التقدير: وجدت رحبًا وسعة وسهلًا من الأمر، ورَحَّبَ وسَهَّل فعلان ماضيان قد بينا من هذا القول. وقوله: "مال من مال الله" يريد به الفيء وما يحصل من جهات بيت المال، فإن الأموال كلها وإن كانت لله تعالى فإن هذا المال ليس له مالك مخصوص من الناس، فجعله لله تعالى لذلك. "والسلف" يريد به: القرض، أي يقرضهما إياه، ويجعله دينًا لبيت المال في ذمتهما. و"المتاع" اسم يقع على كل ما يبتاع من السلع، وكل ما ينتفع به: متاع. وقوله: "فقالا، وَدِدْنَا" أي أحببنا ذلك، فحذف المفعول؛ لدلالة الحال عليه، وما أكثر ما حذفوا المفعول في كلامهم عند فهم المخاطَب به، وأشيع ذلك في كلامهم وفشا. ¬

_ (¬1) في "الأصل": بن، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" (7/ 108) و"المعرفة" (8/ 323). (¬2) الموطأ (1372).

وقول عمر -رضي الله عنه- "أبناء أمير المؤمنين فأسلفكما" فيه محذوف تقديره: أنتما أبناء أمير المؤمنين فلذلك أسلفكما لكونكما ابني أمير المؤمنين، ولولا هذا التقدير لكان الكلام غير منتظم؛ لأنه يبقى الخبر غير مخبر عنه. وقوله: "ما ينبغي لك هذا" الابتغاء مطاوع (¬1) بغيته، تقول بغيته فانبغى، وهذا ينبغي لك أن تفعله: أي يمكنك ويطيعك ويواتيك، وأصله من الطلب تقول: بغيت الشيء إذا طلبته، فقوله: "لا ينبغي لك" أي لا يصح لك ولا يطلب لك إذا طلبته، أي هو بحيث إذا أردت طلبه وابتغاءه يأت لك. و"القراض" مصدر قارضته قراضًا ومقارضةً، وهو والمضاربة بمعنى واحدٍ، وذلك أن يدفع رجل إلى رجلٍ مالاً ليتجر له فيه، وما حصل فيه من الربح كان بينهما على حسب ما اشترطاه، وأهل الحجاز يسمونه قراضًا، وأهل العراق يسمونه مضاربة، فعلى هذا أصل القراض من القرض: القطع، كأن رب المال قطع من ماله قطعه سلمها إلى العامل، وقطع له قطعة من الربح. وقيل: هو من المساواة، يقال: قارض فلان فلانًا إذا ساواه. وأما "المضاربة" فأصلها من الضرب في المال، وهو تقليبه والتصرف فيه. وقيل: هو من الضرب في الأرض، وهو السير فيها. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن القراض جائز، وهو عقد كان في الجاهلية، وأقره الإِسلام، وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل المبعث؛ قارضته خديجة فقبل منها وخرج بمالها إلى الشام، وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره في الإِسلام، ولا يجوز القراض إلا بالدراهم والدنانير، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: يجوز القراض بكل مال، والله أعلم. ¬

_ (¬1) انظر لسان العرب (14/ 76) (مادة: بغا).

كتاب المساقاة

كِتَابُ الْمُسَاقَاة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لليهود حين افتتح خيبر: أقركم ما أقركم الله، على أن الثمر بيننا وبينكم، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث ابن رواحة فيخرص بينه وبينهم، تم يقول: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي". قال الشافعي -رضي الله عنه-: معنى قوله: "إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي" أن يخرص النخل كأنه خرصها مائة وسق وعشرة أوسق فقال: إذا صارت تمرًا نقصت عشرة أوسق، فصحت منها مائة وسق تمرًا، فيقول: إن شئتم دفعت إليكم النصف الذي ليس لكم [الذي أنا قيم بحق أهله] (¬1) على أن تضمنوا لي خمسين وسقًا تمرًا, ولكم أن تأكلوها [وتبيعوها] (1) رطبًا كيف شئتم، وإن شئتم [فلي] (¬2)، أكون هكذا في نصيبكم، [فأسلم و] (1) تسلمون [لي] (¬3) أنصبائكم، وأضمن لكم هذه المكيلة. قال الشافعي: أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المساقاة؛ فأجزناها بإجازته، وحرم كراء الأرض البيضاء ببعض ما يخرج منها؛ فحرمناها بتحريمه. ثم فرق بينهما بما يفترقان [به] (¬4) ثم أجاز ذلك في البياض إذا كان بين أضعاف النخل. ثم قال: ولولا الخبر فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دفع إلى أهل خيبر النخل على أن لهم النصف من النخل والزرع وله النصف، فكان الزرع كما وصفت بين ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 11) والمعرفة (8/ 330). (¬2) في "الأصل": قيل، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" و"المعرفة". (¬3) في "الأصل": في، والمثبت من "المعرفة". (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (8/ 332).

ظهراني النخل؛ لم يجز. وهذا الحديث هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬1) مرسلاً، وقد أخرج البخاري عن ابن عمر نحوه (¬2) بمعناه والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) الموطأ (1387). (¬2) البخاري (2329).

كتاب الإجارة والزارعة

كتاب الإجارة والمزارعة أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن حنظلة ابن قيس: "أنه سئل رافع بن خديج عن كراء الأرض، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كراء الأرض، فقال: بالذهب والورق؟ فقال: أما بالذهب والورق فلا بأس به". هذا حديث صحيح متفق عليه، قد أخرجه الجماعة (¬1) من طرق كثيرة زائدة طويلًا وقصيرًا، باتفاق الألفاظ واختلافها، كلها دالة على أن رافع بن خديج روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن المخابرة"، وهي كراء الأرض بما يخرج منها. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "الرسالة" (¬2) عن سفيان، عن عمرو، عن ابن عمر، قال: "كنا نخابر، فلا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك". قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬3) فأجاز الإجارة على الرضاع، والرضاع يختلف، وهي إذا جازت عليه جازت على مثله وما هو في مثل معناه، وأحرى أن يكون أبين منه، وقد ذكر الله تبارك وتعالى الإجارة في كتابه وعمل بها بعض أنبيائه، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (¬4) قال: فذكر الله تعالى أن نبيًّا من أنبيائه أَجَّر [نفسه] (¬5) حججًا ¬

_ (¬1) البخاري (2722)، ومسلم (1547) وأبو داود (3392) والنسائي (3900). (¬2) الرسالة (1/ 445). (¬3) سورة الطلاق: (6). (¬4) سورة القصص (26). (¬5) في "الأصل": نفسًا، والمثبت من "المعرفة" (8/ 333).

مسماة ملك بها بضع امرأة؛ فدل على تجويز الإجارة، وأن لا بأس بها على الحجج إن كان على الحجج استأجره، وقد قيل استأجره على أن يرعى له، والله أعلم. قال: فمضت بها السنة، وعمل بها غير واحدٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يختلف أهل العلم ببلدنا -علمته- في إجازتها، وعوام فقهاء الأمصار. ثم قال: أخبرنا مالك ... وذكر هذا الحديث عن رافع. وأما الحديث الذي أورده في كتاب "الرسالة" فإنه استدل به على قبول خبر الواحد قال: فابن عمر ترك منفعة له لم يكن يرى بها بأسًا؛ لخبر رجل واحدٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يتوسع إذ بلغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبر واحد لا يتهمه أن يخابر، ورأيه كان قبل الخبر لا بأس به. و"المخابرة" المزارعة على نصيب معين، من الخبار، وهي الأرض اللينة، فهي مفاعلة من ذلك، وقيل: إن أصلها من خيبر؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر خيبر في يد أهلها على أن لهم النصف من ثمارهم، أي عاملهم في خيبر، فهذا معنى قولهم في تفسير المخابرة: إنها كراء الأرض بالثلث، والربع، وغيرهما من الأنصباء. وظاهر لفظ الشافعي -رضي الله عنه-: أنه فرق بينْ المخابرة والمزارعة، فإنه قال: وَدَلَّت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نهيه عن المخابرة على أن لا تجوز المزارعة على الثلث والربع. قال أصحابه: المخابرة أن تكون من رب الأرض وحدها، ومن الأكاّر البذر والعمل، والمزارعة أن تكون الأرض والبذر من واحد، والعمل من الآخر. ومن الأصحاب من قال: هما عبارة عن عقد واحد وهو الأكثر والأشهر، فإن تعاقدا على أن يكون لصاحب الأرض أو للعامل زرع بعينه يشترط على ما

على السواقي والجداول؛ فإن ذلك فاسد بالإجماع. وأما إذا شرط جزءًا لأحدهما مثل النصف والثلث والربع ونحو ذلك فإن العقد عند الشافعي فاسد، وروي مثل ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة. وقالت طائفة: إن ذلك جائز، وروي عن علي وابن مسعود وعمار بن ياسر، وإليه ذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وقال أحمد: يجوز ذلك إذا كان البذر من رب الأرض، وقد ذكر الفقهاء طريقًا في تصحيح المزارعة. قال الشافعي: يعير الأكَّار نصف أرضه مثلًا ويكون البذر بينهما، ويعمل الأكار على الزرع، فتكون الغلة، بينهما ولا يستحق رب الأرض على الأكار أجرة نصف الأرض، ولا يستحق العامل أجرة نصف عمله؛ لأن كل واحدٍ منهما متطوع بما بذله. وقال المزني: يكون البذر بينهما، ويكري صاحب الأرض للأكار نصف أرضه بألف -مثلاً- ويكترى عمله على نصيبه وعمل عوامله بألف، ويتقاصان بذلك، وتكون الغلة بينهما. وقال الأصحاب: يكريه نصف أرضه بعمله وعمل عوامله على نصيبه. فإن أراد أن يكون بينهما بالثلث أو الثلثين، أَجَّرَه ثلث الأرض بثلثي غلته. وإن أراد أن يكون البذر من أحدهما فإن كان من رب الأرض؛ استأجر منه نصف عمله وعمل عوامله وآلته بنصف الأرض وبنصف البذر. وإن كان البذر من الأكار؛ استأجر منه نصف الأرض بنصف عمله وعمل آلته بنصف البذر، وتفتقر هذه الإجارة إلى تقدير المدة، وروية الأرض، والعوامل، والآلة.

فأما كراء الأرض بالذهب والفضة وغيرهما من العروض فجائز لا خلاف فيه؛ إلا ما حكي عن الحسن وطاوس أنهما قال: لا يجوز كراؤها رأسًا (¬1)، وقال مالك: لا يجوز كراؤها بالطعام سواء كان مما ينبت فيها أو في غيرها, ولا بشيء من المأكولات، فإن أكراها بحنطة مشاهدة فقد اختلف أصحاب الشافعي فيها، فمنهم من قال: يجوز قولاً واحدًا، ومنهم من قال: فيه قولان. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن سعيد بن المسيب: "أنه سأله عن استكراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه شبيهًا به. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم ... بمثله. هذا طرف من حديث صحيح قد أخرج أوله مسلم والنسائي، وقد تقدم ذكره في كتاب البيع. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك: أنه بلغه "أن عبد الرحمن بن عوف [تكارى] (¬2) أرضًا فلم تزل بيده حتى هلك، قال ابنه: فما كنت أراها إلا أنها له؛ من طول ما مكثت بيده، حتى ذكرها عند موته، وأمرنا بقضاء شيء كان بقي عليه من كرائها من ذهب أو ورق". وقال ابن شهاب لسالم: إنه سأله عن كراء الأرض، فقال: لا بأس به، قال: فقلت له: أرأيت الحديث الذي يذكر عن رافع؟ فقال: أكثر رافع، ولو ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، وانظر "الإجماع" لابن المنذر (ص 100). (¬2) في "الأصل": يكاري، والمثبت من "الأم" (4/ 25) و"المعرفة" (8/ 335).

كانت لي أرض أكريتها". قال الشافعي: فرافع سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أعلم بمعنى ما سمع، وإنما حكى رافع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كرائها بالثلث والربع، وكذلك كانت تكرى، وقد يكون سالم سمع من رافع بالخبر جملة؛ فرأى أنه حدث عن الكراء بالذهب والورق، وقد بينه غير مالك بن أنس عن رافع: "أنه نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن أبي يحيى، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: "أنه كان يشترط على الذي يكريه أرضه أن لا يعرها، وذلك قبل أن يدع عبد الله الكراء". "العرة" البعر، والسرجين، وسلح الطير، والعذرة، تقول منه: أَعَرْت الدرا، وعُرَّ المنزل؛ إذا ألقي فيه العذرة. والمراد من الحديث: أنه كان يشترط على الذي يكتري منه أرضه أن لا يلقي فيها عذرة، وقد روي عن سعد بن أبي وقاص الرخصة في ذلك، فإنه كان يلقيها في أرضه ويقول: مكتل عرة ومكتل بر، والله أعلم. ***

كتاب إحياء الموات والإقطاع

كِتَابُ إِحْيَاء الْمَوَاتِ وَالإقْطَاعِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرقٍ ظالم حق". هكذا أخرجه في كتاب اختلافه مع مالك، وأخرجه في كتاب "الطعام والشراب" بهذا الإسناد واللفظ، إلا أنه قال: "أرضًا مواتًا". وقد أخرج الحديث في "الموطأ"، وأخرجه أبو داود والترمذي هكذا مرسلاً، وأخرجه أيضًا أبو داود والترمذي مُسْندًا ونحن نذكر الطريقين. أما "الموطأ" (¬1) فإنما أخرجه مرسلًا بهذا الإسناد. وأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن هناد بن السري، عن [عبدة] (¬3) عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه .. وذكر الحديث. ثم قال أبو داود: ولقد حدثني الذي حدثني هذا الحديث: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ غرس أحدهما نخلاً في أرض الآخر، [فقضى] (¬4) لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها. قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفئوس، وإنها لنخل عم حتى أخرجت منها". ¬

_ (¬1) الموطأ (1424). (¬2) أبو داود (3074). (¬3) في "الأصل"، عبيدة، وهو تحريف، والمثبت من سنن أبي داود، وعبدة هو ابن سليمان الكلابي أبو محمد الكوفي راجع ترجمته في "تهذيب الكمال". (¬4) تكررت في "الأصل".

قال أبو داود: حدثني أحمد بن سعيد [الدارمي] (¬1) قال: حدثني وهب، عن أبيه، عن ابن إسحاق ... بإسناده ومعْناه إلا أنه قال عند قوله مكان الذي حدثني [هذا] (¬2): "فقال الرجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - -وأكثر ظني أنه أبو سعيد الخدري-: فأنا رأيت رجلاً (¬3) يضرب في أصول النخل". هذا القول يدّل على أن عرْوة قد أخرج الحديث عن أبي سعيد الخدري، والله أعلم. وأخرجه (¬4) أبو داود، عن محمد بن المثُنى، عن عبْد الوهاب، عن أيوب، عن هشام، عن أبيه، عن سعيد بن زيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن محمد بن بشار، عن عبد الوهاب، مثل أبي داود مسندًا. وقال: ورواه بعضهم عن هشام، عن أبيه مرسلًا. وفي الباب عن جابر، وعمرو بن عوف المزني، وسمرة. أحيا الأرض يحييها إحياءً: إذا أنشأ فيها أثرًا يدل على أنه قد اختص بها تشبيها للعمارة في الأرض الموات بإحياء الميت من الحيوان. والأرض الميتة والموات هي التي لا عمارة فيها ولا أثر عمارة، فهي على أصل الخلقة وليست ملكًا لأحد، وإحياؤها: إلحاقها بالأراضي العامرة المملوكة. ¬

_ (¬1) في "الأصل": الرازي، وهو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود"، و"تهذيب الكمال"، و"تحفة الأشراف". (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) في "الأصل": الرجل، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬4) أبو داود (3073). (¬5) الترمذي (1378).

و"العرق الظالم" هو أن يغرس الرجل في غير أرضه بغير إذن صاحبها، فلا حق له في ذلك الغرس، وبقائه في الأرض، بل يُلْزَم بقلعه؛ إلا أن يرضى المالك، وكذلك ما أحدثه في ملك غيره بغير إذنه من بناءٍ أو حفرٍ أو غير ذلك. والعرق يجوز أن يكون مضافًا إلى الظالم، وأن يكون مقطوعًا عن الإضافة. فالأول: يكون قد أضافه إلى الظالم، وهو صفة لموصوف محذوف تقديره: لعرق رجل ظالم حق، والعرق أحد عروق الشجر، أي: ليس لعرق من عروق هذه الغروس التي يغرسها الرجل الظالم حق في الأرض التي غرست فيها. والثاني: يكون قد جعل الظالم صفة للعرق نفسه على سبيل الاتساع في الكلام، كأن العرق بانغراسه في هذه الأرض قد صار ظالمًا، حتى كأن الفعل له، وأنه هو الذي انغرس في هذه الأرض لا بغرس غارس. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن البلاد والأرضين على ضربين: عامر، وغامر. فأما العامر فلأهله، لا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذن مالكه، وسواء فيه المسلم وغيره. وأما الغامر وهو الخالي من العمارة فلا يخلو أن يكون جرى عليه ملك مالك، أو لم يجر عليه، فالذي لم يجر عليه ملك مالك يجوز إحياؤه، والذي جرى عليه الملك لا يخلو أن يكون مالكه معينًا معروفًا، أو لم يكن مُعيّنًا، فالمعين لا يجوز إحياؤه، وغير المعين فيه وجهان: أحدهما: يجوز، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: لا يجوز. وقال مالك: لو كان مُعَيَّنًا فتركها حتى دثرت، ثم أحياها غيره، كان الثاني أحق بها منه. والعامر من بلاد الشرك كأنما يملك بالقهر والغلبة.

ولا يفتقر الإحياء إلى إذن الإمام، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يفتقر إلى إذنه. وقال مالك: إن كان قريبًا إلى العمران في موضع يتشاحٌ الناس فيه افتقر، وإلا فلا. والإحياء لم يرد في السنة مُبَيَّنًا؛ فوجب الرجوع فيه إلى العُرف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلق حكمًا إلا على ما إليه طريق، [فلما] (¬1) لم يبينه؛ دَلَّ على أن طريقه العرف إذا لم يكن له طريق غيره، ويختلف ذلك باختلاف الغرض واختلاف المقاصد من إحياء الأرضين. قال الربيع: سألت الشافعي عمن أحيا أرضًا مواتًا، فقال: إذا لم يكن للموات ملك فمن أحياه من أهل الإسلام فهو له دون غيره، ولا أبالي أعطاه السلطان إياه أو لم يعطه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه، وعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتم لمن أعطاه من عطاء السلطان. قلت: وما الحجة فيما قلت؟ قال: ما رواه مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن بعض أصحابه، وذكر حديث عروة، وحديثه مرسل، وهو مسند كما ذكرناه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، أن عمر قال: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له". هذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) إسنادًا ولفظًا وهو مؤكد لحديث عروة المتقدم، وهو الذي أشار الشافعي إليه في كلام الربيع أن مالكًا أخرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن بعض أصحابه، يعني عمر. وقال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة وغيره بإسناد غير هذا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه. قال البيهقي (¬3): أما ابن عيينة فإنه إنما رواه عن هشام بن عروة، عن أبيه - ¬

_ (¬1) في "الأصل": فكما. (¬2) "الموطأ" (1425). (¬3) المعرفة (4/ 521).

يرفعه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه غيره عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيه من الزيادة: "في غير حق مسلم". قال الشافعي: ولا يترك ذمي يحييه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعلها لمن أحياها من المسلمين. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن طاوس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحيا مَواتًا من الأرض فهو له، وعادي الأرض لله ولرسوله ثم لكم مني". هكذا جاء في المسند، وقد رواه في القديم عن سفيان، عن هشام بن حجير، عن طاوس. ورواه أيضًا ابن طاوس، عن أبيه. قوله: "عادي الأرض" يريد بها الأرض غير المملوكة الآن، وإن كان قد تقدم ملكها ومضت عليه الأزمان، فليس ذلك مختصًّا بقوم عادٍ، وإذا كان مثل ذلك فلا يُعْلم المالك. وقوله: "لله ولرسوله" أي: إن الأرض مختصة بالله وبرسوله. وقوله: "ثم هي لكم مني" أي إن إذني لكم في تمليكها بالإحياء بمنزلة العطية مني، فأنا الذي أعطيتكم إياها. قال الشافعي: ففي هذين الحديثين وغيرهما الدلالة على أن الموات ليس ملكًا لأحدٍ بعينه، وأن من أحيا مواتًا من المسلمين فهي له، وأن الإحياء ليس هو بالنزول ولا ما أشبهه، وأن الإحياء الذي يعرفه الناس هو العمارة، ثم ذكر هذا الحديث وهو: أخبرنا الربيع، قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة قال: "لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أقطع الناس

الدور، فقال حيٌّ من بني زهرة -يقال لهم: بنو عبد بن زهرة-: نكب عنا ابن أم عبد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فَلِمَ ابتعثني الله إذن؟ [إن الله] (¬1) لا يقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيهم حقه". نكّب عن الشيء يتنكّبه: إذا عَدَل عنه، ونَكَّبَهُ تنكيبًا: أي عدل عنه واعتزله، وتنكبه: أي تجنبه. والابتعاث: افتعال من البعث، يريد: فلأي شيء أرسلني الله حينئذٍ؟ والتقديس: التطهير، أي: إن الله لا يطهر قومًا لا يُؤخذ للضعيف فيهم حقه من القوي. ومعنى "نكِّب عنا ابن أم عبد" أي اصرفه عنا وجنبه منا، وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود، كأنهم كرهوا قربه منهم ومجاورته لهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يقدس أمة ... " الحديث. أي إن خفتم شره وأذى مجاورته؛ فإنني آخذ للضعيف من القوي حقه. والله أعلم. ويجوز أن يكون التقدير: نَكّب عنا يَا ابْنَ أم عبد، كأنهم قد أمروه باجتنابهم والبعد عنهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يقدس قومًا لا يؤخذ فيهم للضعيف حقه" يريد أن ابن مسعود هو الضعيف وهذا حقه فَلِمَ تأمرونه أن ينكب عنكم؟ فيكون قوله: "نكّب" على التقدير الأول سؤالاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني أمرًا لابن مسعود، ويكون ابن أم عبد على الأول مفعولاً لنكب، وعلى الثاني منادى محذوف منه حرف النداء، والله أعلم. ثم أردف الشافعي هذا الحديث بحديث رواه عن عروة وهو: أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل.

هشام، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير أرضًا، وأن عمر بن الخطاب أقطع العقيق أجمع، وقال: أين المستقطعون؟ والعقيق قريب من المدينة". هكذا جاء في المسند، وفي كتاب البيهقي (¬1): "أين المستقطعون منذ اليوم؟ ". قال الشافعي: والمدينة ما بين لابتين، ينسب إلى أهلها صف معمور والآخر خارج من ذلك، فأقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخارج من ذلك من الصحراء، فاستدللنا على أن الصحراء وإن كانت منسوبة إلى حيٍّ بأعيانهم ليست ملكًا لهم كملك ما أحيوا. قال: ومما يُببن ذلك أن مالكًا أخبرنا، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: "كان الناس يتحجرون على عهد عمر بن الخطاب، فقال عمر: من أحيا أرضًا مواتًا فهي له". قال الشافعي في كتاب "الإحياء والإقطاع": وسواء كان إلى جنب قريةٍ عامرة، أو نهرٍ، أو حيث كان؛ فقد أقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدور. وتفصيل هذا القول: أنه يجوز إحياء ما قَرُب من العامر وما بَعُد إذا لم يكن ذلك في مرافق العامر. وحكى عن مالك أنه قال: لا يجوز فيما قرُب من العامر. وأما إقطاع الدور فقيل: معْناه أنه أقطعهم أرضين يعمرونها دورًا، فسماها بما تئول إليه، وقيل: كانت ديار عادٍ فسماها بذلك. ومعنى قوله: "ديار عاد" لا يريد أنها كانت لقوم عاد السالفين في الأمم، وإنما أراد به ما تقدم ملكه ومضت عليه الأزمان ولم يعلم له الآن مالك، وإن ¬

_ (¬1) "المعرفة" (4/ 522).

أقطع السلطان رجلاً أرضًا ليحييها صار أحق بها من غيره، وكذلك إذا تحجرها، كأنه أَثَّر فيها أثرًا لم يبلغ به الإحياء. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم الأزرقي، عن أبيه علقمة بن نضلة: "أن أبا سفيان بن حرب قام بفناء داره، فضرب برجله وقال: سنام الأرض إن لها سنامًا، زعم ابن فرقد الأسلمي أني لا أعرف حقي من حقه، لي بياض المروة وله سوادها, ولي ما بين كذا إلى كذا. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فقال: ليس لأحد إلا ما أحاطت عليه جدرانه؛ إن إحياء الموات ما يكون: زرعًا، أو حفرًا، أو يحاط بالجدران. وهو مثل إبطاله التحجر بغير ما يعمر به مثل ما يحجر". هكذا جاء الحديث في المسند متصل الكلام على آخره، وإنما آخره هو قوله: "إلا ما أحاطت به جدرانه"، وقوله: "إن إحياء الموات ... " إلى آخر الحديث من كلام الشافعي كالبيان لقول عمر. وقد رواه المزني عن الشافعي بهذا الإسْناد نحوه إلى قوله: "جدرانه". "فناء الدار" ناحيتها وجانبها، وسنام كل شيء أعلاه تشبيهًا بسنام البعير. قوله: "أني لا أعرف حقي من حقه" يريد بذلك إما الجهل بإنكار العرفان، أو التجاهل على سبيل التعدي والظلم. و"المروة" الحجر الأبيض الرقيق، و"الجدار" قد جاء في نسخة بالنون، وفي نسخة بالتاء، فبالنون هو جمع جدار جمع تكسير للتكثير، وبالتاء جمع جُدُر. وقول الشافعي: "إن إحياء الموات ما يكون زرعًا .. " إلى آخر الكلام، بيانه أنه قال: "والإحياء ما عرفه الناس إحياء، والإحياء إنما يكون دارًا للسكني، أو حظيرة للماشية وغيرها، أو مزرعة، ولكل واحد من هذه الأشياء تفصيل في إحيائه، هو مستقصى في كتب الفقه، فلم نُطول بذكرها.

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنة- عن مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية -وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم". وهذا قد تقدم في كتاب الزكاة. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حمى إلا لله ورسوله". هذا حديث صحيح قد أخرجه البخاري وأبو داود (¬1)، وذكر الحديث وقال: "بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى النقيع، وأن عمر حمى شرف والربذة". وأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن أبي السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. وقال: قال ابن شهاب: "بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمى النقيع"، وفي رواية (¬3): "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمى النقيع وقال: لا حمى إلا لله ولرسوله". "الحمى" المكان المحرم وطؤه الذي لا يُرعى عُشْبه ولا يُقطع. قال الليث: الحمى: موضع فيه كلأ يُمنع الناس أن يرعوه فيصير حمى. وقال الأصمعي: يقال: حَمَى فلان الأرض يحميها، إذا منعها من أن تُقرب، ويقال: أحْمَاها إحماءً إذا جعلها حِمًى لا يُقرب. ¬

_ (¬1) وقع هنا سقط من "الأصل"، ولعل موضعه: "فأما البخاري فأخرجه عن يحيى بن بكير عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب الزهري"، والحديث أخرجه البخاري (2370). (¬2) أبو داود (3083). (¬3) أبو داود (3084).

و"النقيع" بالنون: موضع قريب من المدينة. قال الشافعي: كان الشريف من العرب في الجاهلية إذا نزل بلدًا في عشيرته استعوى كلبًا، فيحمي لخاصته مدى عواء ذلك الكلب، فلم يرعه معه أحد، وكان شريك القوم في سائر المراتع حوله؛ فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُحمى على الناس حمًى كما كانوا في الجاهلية يحمون. قال: وقوله: "إلا لله ورسوله" معْناه إلا ما يُحمى لخيل المسلمين وركابهم الموصدة لجهاد المشركين والحمل عليها في سبيل الله، كما حمى عمر النقيع لنعم الصدقة والخيل المُعدّة في سبيل الله. تفصيل المذهب: أن الحمى كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه وللمسلمين، وأما آحاد الناس فليس لهم أن يحموا لأنفسهم، ولا لغيرهم، وإنما قصد به النبي - صلى الله عليه وسلم - منع العامة من الحمى لما فيه من التضييق على الناس، أما الأئمة فهل لهم الحمى أم لا؟ ففيه نظرٌ؛ إن كان الإمام يريد أن يحمي لنفسه لم يكن له ذلك، وإن أراد الحمى للمسلمين ففيه قولان؛ أحدهما: ليس له ذلك، والثاني: له ذلك، وهو الصحيح وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لأن ما كان لمصالح المسلمين قامت الأئمة فيه مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخبرنا الريبع، قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يقال له هني على الحمى، فقال له: يا هني، ضع جناحك للناس، واتق دعوة المظلوم، فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان ونعم ابن عوف؛ فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة يأتي بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك؟! فالماء والكلأ أهون عليّ من الدنانير والدراهم، وايم الله لعلى ذلك إنهم ليرون أني قد ظلمتهم، إنها لبلادهم، قاتلوا عليها في الجاهلية،

وأسلموا عليها في الإسلام، ولولا الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عن المسلمين من بلادهم شِبْرًا". هذا حديث صحيح أخرجه مالك والبخاري. أما مالك فأخرجه (¬1) عن زيد بن أسلم نحوه. وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن إسماعيل، عن مالك بإسناده. قوله: "استعمله على الحمى" أي ولاّه إياه وردّ أمره والنظر فيه إليه. وقوله: "ضع جناحك للناس" يريد أَلِن جانبك لهم وأحسن مصاحبتهم، فإن الطائر إذا ضم جناحه سكن وإذا نشره تحرك، فاستعار الجناح للإنسان كما قال الله تعالى: {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} (¬3) وقال عز من قائل: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (¬4) ويد الإنسان جناحه فإذا ضمه كفها عن الناس. وقوله: "واتق دعوة المظلوم" أي دعوة من تظلمه، وهذا النوع من الكلام يُسمّى تغليفًا، وهو نوع من البلاغة شريف بليغ في النهي عن الظلم بألطف لفظ وأفصح عبارة؛ لأنه إذا اتقى دعوة المظلوم لم يظلم، فكان هذا أحسن من قوله: لا تظلم، ثم بينّ وَجْه النهي عن دعوة المظلوم بقوله: "فإنها مجابة". و"الصريمة" تصغير الصِّرمة وهي [القطيع] (¬5) من الإبل يبلغ الثلاثين، وربها صاحبها، والغنيمة تصغير الغنم، وإدخال الهاء في التصغير علامة التأنيث؛ لأن لفظ الغنم مؤنث. ¬

_ (¬1) الموطأ (1822). (¬2) البخاري (3059). (¬3) سورة طه، آية (22). (¬4) سورة الإسراء، آية (24). (¬5) في "الأصل": القطعة، والمثبت من "النهاية" (3/ 27).

وقوله: "وإياك ونعم ابن عفان ونعم ابن عوف" أي دعني من نعمهما لأنها كانت كثيرة وكانا غنيين، وفي رواية مالك: "إياي" أي دعها والْه عنها ولتكن همتك مصروفة إلى غيرها. وهذه "إياي" و"إياك" في هذا الموضع وأمثاله موضوعة للتحذير، مثل إليك زيدًا وعليك زيدًا أي احذره ودعه، وليست مثل الضمير المنصوب في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬1) وإياك أردت. ويجوز أن يكون تقديره: دعنى ونعمهما أي اتركني واترك نعمهما ورد أمرهما إليّ، فأنا أتولى الجواب عنها أو أنا أكفيكها، والأول الوجه. وقوله: "يرجعان" فيه نظر لأنها جواب الشرط الذي هو "إن تهلك ماشيتهما" ومن حق الجواب أن يكون مجزومًا، وجزمه بحذف النون، وإنما جاءت في المسند مثبتة، وهو خطأ، ولاشك أنه من النساخ، والذي جاء في كتاب "الموطأ" بحذفها، وهو الصواب. وقوله: "إلى نخل وزرع" أي إن هلكت ماشيتهما فإن لهما غير الماشية من نخل وزرع [ما] (¬2) يغنيهما ويقوم بأمرهما. وقوله: "لا أبا لك" من ألفاظ الدعاء التي كثر استعمالها وجريانها على عادة، وهم لا يريدون بها الدعاء، كقولهم قاتلهم الله، ولا أم لك، وهي في الحقيقة دعاء عليه يعدم أبيه. "والكلأ": العشب وسواء رطبه ويابسه. وقوله: "فالماء والكلأ أهْون عليّ من الدنانير والدراهم" يريد أن المراعي إذا لم ينلها رب الصريمة ورب الغنيمة فهلكت ماشيته؛ احتاج أن يجيء إلى بيت ¬

_ (¬1) سورة الفاتحة، آية (5). (¬2) ليست في الأصل.

المال يأخذ منه ما يحتاج إليه، فتمكينه من الرعي وورد الماء أهون عليّ من أخذ الذهب والفضة من بيت المال. وقوله: "وايم الله" من ألفاظ القسم وهمزتها همزة وصل. وقوله: "إنهم ليرون أني قد ظلمتهم" بمنعهم من الرعي، ثم بيّن وجه قسمه وظلمه إياهم بقوله: "إنها لبلادهم" ثم بين سبب كونها بلادهم بقوله: "قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام". وقوله: "لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله" يريد به الخيل والإبل التي يحمل عليها المجاهدين في سبيل الله، والنفقة التي يساعدهم بها، والزاد ونحو ذلك. وهذا الحديث أخرجه الشافعي مستدلًّا به على جواز أن يحمي الإمام للمسلمين، فإنه قال عقيب حديث الصعب بن جثامة: وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حمى إلا لله ولرسوله" يحتمل أن لا يكون لأحد أن يحمي للمسلمين غير ما حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن لا حمى إلا لله ولرسوله أي إلا على مثل ما حمى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما فيه من صلاح المسلمين، ثم قال: وقد حمى من حمى على هذا المعنى، وأمر أن يدخل الحمى ماشية من ضعف عن النجعة ممن حول الحمى، وقد حمى بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر -رضي الله عنه- أرضًا لم يُعلَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حماها، وأمر فيها بنحوٍ مما وصفت، ثم ذكر حديث عمر هذا، ثم قال: في معنى قول عمر: "إنهم يرون أني قد ظلمتهم" إنهم يقولون: إن منعت لأحدٍ من أحد فمن قاتل عليها وأسلم أولى أن يُمنع له، وهذا كما قالوا لو كانت تُمنع لخاصة، فلما كانت لعامة لم يكن في هذا -إن شاء الله- مظلمة، ولم يظلمهم عمر -رضي الله عنه- وإن رأوا ذلك، بل حمى على معنى ما حمى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون أهل الغنى، وإنما نسب الحمى إلى المال الذي يحمل عليه في سبيل الله لأنه كما من أكثر ما عنده مما يحتاج إلى الحمى،

وقد أدخل الحمى خيل الغزاة في سبيل الله وإبل الضوال، وما فضل عن سهمان أهل الصدقة، ومن ضعف عن النجعة ممن قلّ ماله، وكل هذا وجه عام النفع للمسلمين، ثم ذكر ما أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرني محمد بن علي بن شافع، عن الثقة -أحسبه محمد بن علي بن حسين أو غيره- عن مولى لعثمان بن عفان قال: "بينا أنا مع عثمان في ماله بالعالية في يوم صائف؛ إذ رأى رجلاً يسوق بكرين وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح؟! ثم دنا الرجل، فقال: انظر من هذا؟ فقلت: أرى رجلاً معمرًا بردائه يسوق بكرين، ثم دنا الرجل فنظرتُ فإذا عمر بن الخطاب، فقلت: هذا أمير المؤمنين. فقام عثمان، فأخرج رأسه من الباب فآذاه لفح السموم، فأعاد رأسه حتى حاذاه، فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟! فقال: بكران من إبل الصدقة تخلفا وقد مُضي بإبل الصدقة، فأردت أن ألحقهما بالحمى، وخشيت أن يضيعا فيسألني الله عنهما. فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، هلم إلى الماء والظل ونكفيك. فقال: عُد إلى ظلك. فقلت: عندنا من يكفيك. فقال: عُد إلى ظلك. فمضى، فقال عثمان: من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا. فعاد إلينا فألقى نفسه". "العالية": موضع بأعالي أراضي المدينة، وجمعه العوالي، وفيها أموال ونخيل لأهل المدينة، وقريب منها على عدة أميال. و"اليوم الصائف": الشديد الحر. و"البكر": الفَتِيُّ من الإبل. و"الفراش" معروف، ويصف شدة الحر حتى يتبين للناظر فراشًا يتطاير على

الأرض من شدة الحر. و"لفح السموم": لذع الهواء الحار للبدن من شدته. استدل به الشافعي على جواز الحمى، والله أعلم. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه-، عن ابن عيينة، عن معمر، عن رجل من أهل مأرب، عن أبيه: "أن الأبيض بن حمال سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُقطعه ملح مأرب، فأراد أن يُقطعه -أو قال: أقطعه إياه- فقيل له: إنه كالماء العد. فقال له: فلا إذن". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1) والترمذي (¬2). و"مأرب" مدينة بالمدينة. و"العِدّ" الماء الدائم الذي لا انقطاع لمادته وكثرته. قال الشافعي: ما كان ظاهرًا كالملح الذي يكون في الجبال ينتابه الناس فهذا لا يصلح لأحد أن يُقْطِعَهُ [أحدًا] (¬3) بحال، والناس فيه شرع، وهكذا النهر والماء الظاهر، وهذا كالنبات فيما لا يملكه أحد وكالماء فيما لا يملكه أحد. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا النسائي. ¬

_ (¬1) أبو داود (3064). (¬2) الترمذي (1380). (¬3) ليست في "الأصل" والمثبت من "الأم" (4/ 42)، و"المعرفة" (4/ 531).

أما مالك فأخرجه بالإسناد (¬1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ". وأما البخاري، فأخرجه عن ابن يوسف (¬2) وإسماعيل (¬3)، عن مالك، (عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ... الحديث) (¬4). وأما الترمذي (¬5) وأما أبو داود فأخرجه (¬6) عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير. وأما مسلم فأخرجه (¬7) عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأخرجه عن قتيبة (7)، عن الليث، عن أبي الزناد، عن الأعرج. وكل هؤلاء قالوا لفظ مالك ولم يذكروا: "منعه الله فضل رحمته يوم القيامة". وقد أخرج المزني، عن الشافعي، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج ... وذكر لفظ مالك. وأخرج أيضًا المزني، عن سفيان، عن أبي الزناد مثله، وهو الصحيح، وكذا رواه الحسن بن محمد الزعفراني في كتاب القديم عن الشافعي، عن مالك. قال البيهقي: وهذا الذي جاء في المسند من طريق الأصم والربيع خطأ، فإن ¬

_ (¬1) الموطأ (1427). (¬2) البخاري (2353) بمثل إسناد الشافعي. (¬3) البخاري (6962) ولكن من طريق إسماعيل من عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة مثل إسناد الشافعي والموطأ. فلعل الذي في "الأصل" وهم أو انتقال نظر من المؤلف، والله أعلم. (¬4) كذا بالأصل وانظر التعليق السابق. (¬5) بيض له المصنف، وقد أخرجه الترمذي (1272) عن قتيبة، عن الليث، عن أبي الزنادبة وقال الترمذي: هذا الحديث حسن صحيح. (¬6) أبو داود (3473). (¬7) مسلم (1566).

هذا الكتاب -يعني كتاب "الطعام والشراب" (¬1) - الذي أخرج فيه هذا الحديث -مما لم يقرأ على الشافعي، ولهذا يقول فيه الأصم: قال الربيع: قال الشافعي. ولو قُرِئ عليه لغَيَّره إن شاء الله تعالى. ثم حمله الربيع [عن الكتاب] (¬2) على الوهم. وهذا اللفظ ليس في حديث مالك، إنما هو في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروي من وجه آخر ضعيف عن أبي هريرة. ومن وجهٍ آخر عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا. فيشبه أن يكون الشافعي ذكره ببعض هذه الأسانيد، فأدخل الكاتب حديثًا في حديث، هذا هو الأظهر، والله أعلم. ومعنى هذا الحديث: هو أن يحفر الرجل البئر في الأرض الموات فيملكها بالإحياء، وحول البئر أو بقربها موات فيه كلأ ولا يمكن الناس أن يرعوه إلا بأن يبذل لهم ماءه وأن لا يمنعهم أن يسقوا ماشيتهم منه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يمنع فضل مائه؛ لأنه إذا فعل ذلك وحال بينه وبينهم فقد منعهم الكلأ؛ لأنهم لا يمكنهم رعيه والمقام فيه مع منع الماء. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وفي هذا الحديث دلالة على أن مالك الماء أولى أن يشرب به ويسقي، فإنه إنما يعطى فضله عما يحتاج إليه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من منع فضل الماء [ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته" ¬

_ (¬1) في "المعرفة" (4/ 535): كتاب إحياء الموات. (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصدر السابق.

وفضل الماء الفضل] (¬1) عن حاجة مالك الماء. وهذا أوضح حديث رُوي في الماء، وأبينه معنى؛ لأن مالكًا روى عن أبي الرجال، عن عمرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمنع نقع البئر" (¬2). قال الشافعي: فكل ماء ببادية، في عين أو بئر أو غيل أو نهر بلغ مالكه منه حاجته لنفسه وماشيته وزَرَعَ -إن كان له- فليس له منع فضله عن حاجته من أحد يشرب به، أو يسقي ذا روح خاصة دون الزرع والشجر. زاد في سنن حرملة: "والبناء": إلا أن يتطوع بذلك مالك الماء. قال الخطابي: وإلى بيان ما قلناه من تفسير الماء والكلأ؛ ذهب مالك والأوزاعي والليث، وهو معنى قول الشافعي، والنهي في هذا عنده على التحريم. وقال قوم: ليس النهي فيه على التحريم لكنه من باب المعروف، فإن شح رجل على مائه لم ينتزع من يده، والماء في هذا كغيره من صنوف الأموال لا يحل إلا بطيب نفس مالكه. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز له منع الماء ولكنه تجب له القيمة على أصحاب المواشي، وشبهوه بمن يضطر إلى طعام رجل؛ فإن له أكله وعليه أداء قيمته، ولو لزمه بدل الماء بلا قيمة للزمه بدل الكلأ إذا كان في أرضه بلا قيمة، وللزمه كذلك أن لا يمنع الماء زرع غيره، فأما من تأول الحديث على معنى الاستحباب دون الإيجاب فإنه يحتاج إلى دليل يجوز معه ترك الظاهر، وأصل النهي على التحريم، فمنع فضل الماء محظور على ما ورد به الظاهر، وأما من أوجب فيه ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 49). (¬2) الموطأ (1428) وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 152) هكذا عن عمرة مرسلًا وقد روي موصولًا أيضًا من طرق أخرى عن عمرة، عن عائشة، راجع سنن البيهقي.

القيمة فقد صار إلى المنع أيضًا، وهو خلاف ظاهر الخبر، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء. والله أعلم. "الغَيل" -بفتح الغين- الذي يجري على وجه الأرض. ***

كتاب الوقف

كِتَابُ الْوقْفِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب ملك مائة سهم من خيبر اشتراها، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أصبت مالاً لم أصب مثله قط، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله عز وجل فقال: حَبِّس الأصل و [سَبِّل] (¬1) الثمرة". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن حبيب القاضي -وهو عمر بن حبيب- عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر قال: "يا رسول الله، إني أصبت من خيبر مالاً لم أصب مالاً قط أعجب إليّ وأعظم عندي منه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن شئت حبست أصله و [سَبَّلْتَ] (¬2) ثمرته، فتصدق به عمر بن الخطاب، ثم حكى صدقته به". وقد رواه الشافعي في القديم، عن رجل، عن ابن عون قال: "فتصدق بها عمر أن لا يباع أصلها, ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي الغرباء، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقًا، غير متمول منه، قال ابن عوف: فحدثت به ابن سيرين، فقال: غير متأثل مالاً". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري فأخرجه (¬3) عن قتيبة، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، عن ابن عون. ¬

_ (¬1) في "الأصل": سلم وهو تحريف، والمثبت من "مسند الشافعي" (1/ 308)، و"الأم" (4/ 53)، وسنن البيهقي الكبرى (6/ 162) وسيأتي في الشرح على الصواب. (¬2) في "الأصل": سلمت، وهو تحريف أيضًا، وانظر المصادر السابقة. (¬3) البخاري (2737).

وعن مسدد (¬1)، عن يزيد بن زريع، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر. وأما مسلم فأخرجه (¬2) عن يحيى بن يحيى، عن سليم بن أخضر، وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن [ابن] (¬3) أبي زائدة وعن إسحاق [عن] (¬4) أزهر. وعن (¬5) ابن عمر عن عمر. وأما أبو داود فأخرجه (¬6) عن مسدد، عن يزيد بن زريع وبشر بن المفضل، وعن يحيى [عن] (¬7) ابن عون. وأما الترمذي فأخرجه (¬8) عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن إبراهيم. [وأما النسائي فأخرجه (¬9) عن إسحاق بن إبراهيم] (¬10) عن أبي داود الحفري عمر بن سعد، عن الثوري، عن ابن عون. وفي بعض طرقه عن ابن عمر، عن عمر. قوله: "مائة سهم" يريد مائة نصيب من الأنصباء التي قسمت عليها خيبر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح خيبر قسمها على الغارمين يومئذ، فأصاب كل إنسان منهم سهمًا يخصه، فكان عمر قد حصل له مائة سهم من تلك السهام بالقسمة والابتياع، والمال يقع على الإبل، والبقر، والخيل، والغنم، والمِلْك، والشجر، والأرضين، وعلى الذهب، والفضة، فهو يطلق على الجميع. وقوله: "حَبِّس الأصل" أي اجعله حَبْسًا ووقفًا؛ بحيث يكون ذلك باقية ¬

_ (¬1) البخاري (2772). (¬2) مسلم (1632). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من صحيح مسلم. (¬4) في "الأصل": ابن، وهو تحريف، والمثبت من صحيح مسلم، وأزهر هو السمان. (¬5) مسلم (1633). (¬6) أبو داود (2878). (¬7) ليست في "الأصل"، والمثبت من "سنن أبي داود". (¬8) الترمذي (1375). (¬9) النسائي (3597). (¬10) سقط من "الأصل" والمثبت من المجتبى.

خالدة لا يتطرق إليها طريق من طرق التصرفات التي تنقل الملك كالبيع، والإقرار، والهبة، وغير ذلك من الأنواع. وأصل الحبس: المنع الذي هو ضد النحلة. والحُبْس -بالضم- الوقف، وحَبِّس شدَّدَ للتكثير. وقوله: "وسَبِّل الثمرة" أي اجعلها في سبيل الله، والسبيل: الطريق، يُذَكَّرُ ويؤنث. وقوله: "ثم حكى صدقته به" يريد كيفية صدقته بهذا المال، وهو ما رواه في القديم. وقد أخرجه أبو داود في السنن (¬1) مبسوطًا، عن سليمان بن داود المهري، عن ابن وهب، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، قال: "نسخ [لي] (¬2) عبد الحميد ابن [عبد] (¬3) الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب صدقة عمر بن الخطاب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به عبد اللهِ عُمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث: إن ثمغًا، وصرمة بن الأكوع، والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة (¬4) التي أطعمه فيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بالواد؛ تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهلها، أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى في السائل والمحروم، وذي القربى، ولا حرج على وليه إن أكل أو آكل أو اشترى رقيقًا منه". وقد روى عبد العزيز بن المطلب (¬5)، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر في هذه القصة قال: "فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: تصدق بثمره واحبس أصله ¬

_ (¬1) أبو داود (2879). (¬2) في "الأصل": أبو، وهو تحريف، وفي سنن أبي داود: نسخها لي عبد الحميد .... إلخ. (¬3) في "الأصل": عبيد، وهو تحريف، والمثبت من سنن أبي داود، وسنن البيهقي الكبرى (6/ 160). (¬4) في سنن البيهقي: يعني الوسق. (¬5) انظر سنن البيهقي الكبرى (6/ 160).

لا يباع ولا يورث ولكن ينفق ثمره فتصدق به عمر". وفي هذا دلالة على أنه إنما شرطه عمر في كتاب صدقته لَمَّا أخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية أبي داود ألفاظ تحتاج إلى بيان: "القربى" القرابة من النسب والصهر. و"الرقاب" المكاتبون الذين يشترون أنفسهم من مواليهم ليعتقوا. و"في سبيل الله" هو الجهاد. و"ابن السبيل" المنقطع به من المسافرين. و"المتأثل" الذي يأخذ أصل المال، من التأثيل الفاضل، يريد: غير آخذ أصل هذا المال إنما ينتفع بثمرته. و"ثَمْغ" بفتح الثاء المثلثة وسكون الميم وبالغين المعجمة: اسم لذلك المال الموقوف. وقوله: "فما عما منه" أي ما حصل من ثمره، من العفو: الزيادة؛ لأن الثمرة زيادة على الأصل. و"المحروم" الذي لا يسأل تعففًا، وقيل: من يُظَنُّ أنه غني فيحرم الصدقة، وقيل: الذي يكاد يكسب، وقيل: الذي لا سهم له في الغنيمة، وقيل: المصاب بثمره أو زرعه. و"الحرج" الإثم أو الضيق. و"وليه" الذي يتولاه ويتصرف فيه. وقوله: "إن أكل آكل" أي أكل بنفسه أو أطعم غيره فغذاه بالثمرة. و"الرقيق" العبيد. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن ملك الواقف يزول عن الملك

الموقوف. وحكي عن ابن شريج أنه خرَّج فيه قولاً آخر: أنه لا يزول ملكه عن الواقف. وإليه ذهب مالك؛ لحديث عمر فإنه قال: "حَبِّس الأصل وسَبِّل الثمرة"، وليس حجة؛ فإن حبس الأصل إنما هو وقفه، والمنع من التصرفات فيه إلا بطريق الوقف كما قلنا، وقد اختلف أصحاب الشافعي -رضي الله عنه- فيمن ينتقل الملك إليه إذا وقفه الواقف، فقال قوم: ينتقل إلى الله تعالى قولاً واحداً؛ لأنه لا مالك له، وإنما منفعته لمن وقف عليه قولاً واحداً، وقال قوم: فيه قولان: يعنون هذين القولين؛ لأن كلام الشافعي في موضعين من كتبه يدل على القولين، وليس من شرط الوقف القبض، ولا حكم الحاكم به، وبذلك قال عامة الفقهاء. وقال أبو حنيفة: الوقف لا يلزم [بمجرده] (¬1) وللواقف الرجوع فيه، وإذا مات رجع فيه ورثته؛ إلا أن يوصي به أو يحكم به حاكم فيلزم. وحكي عن علي وابن مسعود وابن عباس مثل قوله. وقال الشافعي -رضي الله عنه-: والصدقات المحرمات التي يقول لها بعض الناس: توقف عند [....] (¬2) بالمدينة ومكة من الأمور المشهورة العامة التي لا يُحتاج فيها إلى نقل خبر الخاصة، وصدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -بأبي وأمي- قائمة، وصدقة عثمان والزبير قريب منها، وصدقه عمر بن الخطاب قائمة، وصدقة عثمان، وصدقة علي وصدقة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وأعراضها، وصدقة الأرقم بن أبي الأرقم والمسور بن مخرمة بمكة، وصدقة جبير ابن مطعم وصدقة عمرو بن العاص بالرهط من ناحية الطائف، وما لا أحصي من الصدقات المحرمات لا تبعن ولا توهبن بمكة والمدينة، وقد بلغني أن أكثر من ¬

_ (¬1) في "الأصل": المجردة، والمثبت من المغنى (5/ 348) وانظر المبدع (5/ 353). (¬2) بياض في "الأصل"، ولعل موضعها: الحرمين.

ثمانين رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمات موقوفات، وقد وَرِثَ كل من سميناه ورثةٌ فيهم: المرأة العربية الحريصة على أخذ حقها من تلك الأموال، وعلى بعض ورثتهم الديون التي يطلب أهلها أموالَ من عليه ديونهم ليبلغ له في حقه، وفيهم من يحب بيع ماله في الحاجة، ويحب بيعه لينفرد بمال لنفسه، ويحب قسمه، فأنفذ الحاكم ما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، ومنعوا من طلب قسم أصولها أو بيعها من ذلك بكل وجه. وقال الشافعي: لما سأل عمرُ بن الخطاب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ماله، فأمره أن يحبس أصله ويُسَبِّل ثمره؛ دل ذلك على إجازة الحبس، وعلى أن عمر كان يلي حبس صدقته، ويصدق ثمرها، بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يليها غيره، قال: أفيحتمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حبس أصلها وسبل الثمرة" اشتراط ذلك؟ [قلت: نعم] (¬1) والمعنى الأول أظهرهما، وعليه من الخبر دلالة أخرى، وهي: إذا كان عمر لا يعرف وجه الحبس؛ أَفَيُعَلِّمه: "حَبِّس الأصل وسَبِّل الثمرة" ويدع أن يعلمه أن يخرجها من يديه إلى من يليها عليه ولمن حبسها عليه؟ لأنها لو كانت لا تتم إلا بذلك كان هذا أولى أن يعلمه إياه. قال الشافعي: ولم يزل عمر بن الخطاب [المتصدق] (¬2) بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلي -فيما بلغنا- صدقته حتى قبضه الله، ولم يزل علي بن أبي طالب يلي صدقته بينبع حتى لقي الله، ولم تزل فاطمة تلي صدقتها حتى لقيت الله تعالى، وأخبرنا بذلك أهل العلم من ولد علي وفاطمة وعمر -رضي الله عنهم- ومواليهم، ولقد حفظت الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين والأنصار، ولقد حُكي لي عن عدد كثير من أولادهم وأهليهم أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا، ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 53). (¬2) في "الأصل": المصدق، والمثبت من "الأم" (4/ 53).

ينقل ذلك العامة منهم عن العامة لا يختلفون فيه، وأن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لكما وصفت، وإِنَّ نقل الحديث فيها [لتكلف] (¬1) وإن (قد) (¬2) كنا قد ذكرنا بعضه، والذي روي عن ابن شهاب: أن عمر بن الخطاب قال: "لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - -ونحو هذا- لرددتها" فهو منقطع لا تثبت به حجة، ومشكوك في متنه لا يدري كيف قاله، والظاهر منه مع ما روينا فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: "لولا ذكري إياها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره إياي بتحبيس أصلها، وقوله: لا تباع ولا توهب ولا تورث؛ لرددتها, لكنه لما شرعَ في [الوقف] (¬3) -بسبب سؤالي- ما شَرَّعَ فلا سبيل إلى ردها، والأشبه نعم -إن كان هذا صحيحًا- أنه لَعَلَّه أرادَ رَدَّها إلى سبيل آخر من سُبل الخير، فقال: لولا أني ذكرتها له وأمرني بما شرطت فيها لرددتها إلى سبيل آخر؛ إذْ لم تتحدد له ضرورة إلى ردها إلى مكة، ولا زهادة في الخير، بل كان يزداد على ممر الأيام حرصًا على الخيرات، ورغبة في الصدقات، وزهادة في الدنيا، فلا يصح مثل هذا عن عمر على الوجه الذي عارض به من يدعي تسوية الأخبار عن مذهبه ما أشرنا إليه من الأخبار الثابتة التي انقاد لها أبو يوسف القاضي وترك بها قول من خالفها، وتبعها أيضًا محمد بن الحسن، إلا أنه شرط في لزومها القبض، وقد عاد الشافعي -رضي الله عنه-[و] (¬4) أخرج هذا الحديث في كتاب "البحيرة" عن سفيان، عن عبيد الله بن عمر بالإسناد الأول، وسبب تخريجه إياه في كتاب "البحيرة" أنه قال: قال لي قائل: إنما رددنا الصدقات الموقوفات بأمور. قلت له: وما هي؟ فقال: قال شريح: جاء - صلى الله عليه وسلم - بإطلاق الحبس. فقلت له: الحبس الذي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بإطلاقها هي غير ما ذهبت ¬

_ (¬1) في "الأصل" التكليف، وهو تحريف، وفي "الأم" (4/ 53): كالتكلف. (¬2) كذا في "الأصل" وليست في "الأم", ولعلها زائدة. (¬3) في "الأصل": الوقت. (¬4) ليست في "الأصل".

إليه، وهي بينة في كتاب الله عز وجل {مَا جَعَلَ الله مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (¬1) فهذه الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها، فأبطل الله شروطهم فيها، وأبطلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإبطال الله جَلَّ ثناؤه -إياها، وهي أن الرجل كان يقول -إذا نتج فحل إبله ثم ألقح ما نتج منه-: [هو] (¬2) حام، أي قد حمي ظهره، فيحرم ركوبه ويجعل ذلك شبيهًا بالعتق له، ويقول في البحيرة والوصيلة على معنى يوافق بعض هذا، ويقول لعبده: أنت حُرٌّ سائبة لا يكون لي ولاؤك ولا عليّ عقلك. وقيل أيضًا إنه في البهائم: قد سيبتك. [فلما] (¬3) كان العتق لا يقع على البهائم؛ رَدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملك البحيرة والوصيلة والحام إلى مالكها، وأثبت العتق وجعل الولاء لمن أعتق السائبة، ولم يحبس أهل الجاهلية -علمته- دارًا ولا أرضًا تبررًا بحبسها، وإنما حبس أهل الإِسلام. ثم ذكر الشافعي -رضي الله عنه- حديث ابن عمر في التحبيس، وبين بذلك أن الحبس الذي أطلق عليه غير الحبس الذي أمر بتحبيسه. ثم قال: وقول شريح: "لا حبس عن فرائض الله" لا حجة فيه؛ لأن قوله على الانفراد لا يكون حجة، ولو كان حجة لم يكن في هذا حبس عن فرائض الله، أرأيت لو وهبها لأجنبي أو باعه إياها [فحاباه] (¬4) أيجوز؟ فإن قال: نعم. قيل: أفهذا فرار من فرائض الله؟ [فإن] (4) قال: لا؛ لأنه أعطاه وهو يملك وقبل وقوع فرائض الله، قيل: وهكذا الصدقة تصدق بها صحيحًا وقبل وقوع فرائض الله؛ لأن الفرائض في الميراث إنما تكون بعد موت المالك، وفي المرض. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، آية (103). (¬2) في "الأصل": فهو، والمثبت من "الأم" (4/ 52). (¬3) في "الأصل": فإنما، وهو تحريف، والمثبت من "الأم". (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 58).

كتاب الهبة

كِتَابُ الْهِبَةِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان أو مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، وعن محمد بن النعمان بن بشير، يحدثانه، عن النعمان ابن بشير: "أن أباه أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل ولدك نحلت مثل هذا؟ فقال: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فارجعه". قال أبو العباس الأصم: وكان عند أصحابنا كلهم مالك؛ فلذلك جعلته بالشك. وأما البيهقي فإنه رواه مرة عن مالك (¬1) وقال في رواية أخرى: عن سفيان أو مالك (1)، وقال في رواية أخرى: عن سفيان عن ابن شهاب. ورواه المزني، عن الشافعي، عن كل واحد منهما، وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما البخاري فأخرجه (¬2) عن عبد الله بن يوسف. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن أحمد بن حنبل، عن [هشيم عن] (¬5) سيار بن أبي سيار ومغيرة بن مقسم وداود بن أبي هند ومجالد وإسماعيل بن سالم، كلهم عن الشعبي، عن النعمان بن بشير. ¬

_ (¬1) "المعرفة" (5/ 13). (¬2) البخاري (2586). (¬3) مسلم (1623). (¬4) أبو داود (3542). (¬5) في "الأصل": هشام بن، وهو تحريف، والمثبت من "سنن أبي داود".

وأما الترمذي فأخرجه (¬1) عن نصر بن علي وسعيد بن عبد الرحمن المخزومي، عن سفيان، عن ابن شهاب. وأما النسائي فأخرجه (¬2) عن قتيبة ومحمد بن منصور، عن سفيان، عن الزهري. وفي أخرى (2) عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. قال الشافعي -رضي الله عنه- وسمعت في هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فارجعه". نَحَلْتُه أَنْحَلُه نُحْلًا -بالضم- ونِحْلةً؛ إذا أعطيته شيئًا ووهبته إياه. وقوله: "نَحَلتُ"؛ والعائد محذوف؛ لدلالة الكلام وطوله عليه، ومثله قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬3) ومن نصب فعلى المفعول من قوله: نحلت كقوله تعالى: {[وَمِمَّنْ] (¬4) هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} (¬5). والولد يقع على الواحد والجمع، وجمع الولد: الوُلْد. وقوله: "فارجعه" أي اردده ولا تعطه، تقول: رجعت الشيء أُرجعه ورجعت أنا أرجع، يتعدى ولا يتعدى. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الهبة مندوب إليها، وهي مع الأقارب أحب؛ لأن فيها صلة الرحم. قال الشافعي في "النحل": الهبة والصدقة غير المحرمة وغير المسبلة، فهذه العطية تتم بأمرين: إشهاد مَنْ أعطاها، وقبضها بأمر من أعطى، أو قبض غيره ¬

_ (¬1) الترمذي (1397). (¬2) المجتبى (3672)، (3673). (¬3) سورة الشورى، آية (43). (¬4) في "الأصل": وكلا، وهو خطأ. (¬5) سورة مريم، آية (58).

له ممن قبضه له قبض، وإذا وهب الإنسان أولاده فليسوِّ بينهم، ذكرهم وأنثاهم، فإن خص بعضهم؛ انعقدت الهبة مع تركه الأحب. وبه قال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف، وقال أحمد وإسحاق وطاوس: لا يجوز التفضيل بين الذكور، وأما الأنثى فتعطى نصف ما يعطى الذكر، وحكم الهبة إذا صحت زوال الملك ولزومه؛ إلا فيما يهب [الوالد ولده] (¬1) وإن سفل فإنه يجوز الرجوع فيه، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال مالك: يجوز مع ابن الصلب إذا لم ينتفع به. وقال أبو حنيفة والثوري: ليس له الرجوع في ذلك ولا إذا وهب أحدًا من ذوي رحم محرم من النسب. قال الشافعي: حديث النعمان بن بشير حديث ثابت وبه نأخذ. وفيه دلالة على أمور منها: حسن الأدب في أن لا يفضل رجل أحدًا من ولده على بعض في نحل؛ فيعرض في قلب المفضل عليه شيء يمنعه من بره؛ لأن كثيرًا من قلوب الآدميين جبل على الإقصار عن بعض البر إذا أوثر عليه. وفيه دلالة على أن نَحْلَ الوالد بعض ولده دون [بعض] (¬2) جائز من قبل أنه لو كان لا يجوز كان أن يقال: إعطاؤك إياه وتركه سواء لأنه غير جائز، وهو على أصل ملكك الأول؛ أشبه من أن يقال: ارجعه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فارجعه" دليل على أن للوالد رد ما أعطى الولد؛ فإنه لا يُحَرَّج بارتجاعه فيه. قال: وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أشهد غيري" وهذا يدل على أنه اختيار. ¬

_ (¬1) في "الأصل": الولد وولده. (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 15).

قال: وقد فضل أبو بكر عائشة بنحل، وفضل عمر عاصم بن عمر بشيء أعطاه إياه، وفضل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسْلم، عن طاوس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد من ولده". هكذا جاء هذا الحديث في المسند مرسلاً، وقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي مسندًا مرفوعًا عن ابن عباس وابن عمر. فأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن طاوس، عن ابن عباس وابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لرجل [أن] (¬2) يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها؛ إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومَثَلُ الذي يعطي العطية فيرجع فيها كمثل الكلب يأكل، فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه". وأما النسائي فأخرجه (¬3) عن محمد بن المثنى، عن [ابن] (¬4) أبي عدي، عن حسين المعلم (¬5). الواهب اسم فاعل من وَهَبَ يَهَبُ وهْبًا وَوَهَبًا -بالفتح- وهِبَةً، و"لا" في قوله: "لا يحل" نافية، وفيها معنى النهي، والوالد مستثنى من غير موجب. و"من" في قوله: "من ولده" متعلقة بوهب لأن التقدير: إلا الوالد فيما ¬

_ (¬1) أبو داود (3539). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من سنن أبي داود. (¬3) النسائي (3690). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من سنن النسائي. (¬5) كذا لم يذكر المصنف طريق الترمذي وقد عزاه له، وهو في جامع الترمذي (1299) من طريق محمد بن بشار، عن ابن أبي عدي، عن حسين المعلم، وكذا في (2132).

وهب من ولده، تقول: وهبته ووهبت منه، كما تقول بعته وبعت منه. وقوله: "ثم عاد في قيئه" أي أنه عاد فأكل قيئه، ووجه المشابهة بين الرجوع في الهبة والرجوع في القيء: أن الرجوع في أكل القيء حرام وهذا مثله حرام لا يجوز، [ويفسر] (¬1) ذلك ما جاء في حديث آخر "العائد في هبته كالعائد في قيئه" قال قتادة: ولا نعلم القيء إلا حرامًا فيضره بالحرمة، وإنما شبهه بالقيء ولم يشبهه بغيره من المحرمات؛ تقبيحًا لشأنه، وتقطعًا لأمره، وأن النفس كما تكره الرجوع في القيء وتأنف منه وتستقذره فهكذا ينبغي أن تنفر من الرجوع في الهبة وتكرهه؛ ولأن القيء كما أنه كان طعامًا وشرابًا حصل في جوفه لينتفع [به] (¬2) جسمه فأخرجه عنه بالاستقاء فيكره له رده؛ فكذلك الهبة كانت في حكمه وقبضه ينتفع بها في مصالحه، فإذا أخرجها بالعطاء فيكره له ردها وأخذها، فلهذه المناسبات الجامعة بينهما شبهه بها. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن داود بن الحصين، عن أبي غطفان بن طريف المري، عن مروان بن الحكم، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "من وهب هبة لصلة رحم أو على وجه صدقة فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد الثواب فهو على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها" (¬3). وقد رواه سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر: "من وهب هبة لوجه الله فذلك له، ومن وهب هبة يريد بها ثوابًا فإنه يرجع فيها إن لم يرض منها" (¬4). وقد استدل أبو حنيفة بهذا الحديث على أنه يجوز الرجوع في هبة الأجنبي دون ذوي القربى، وحديث ابن عباس وابن عمر المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شكله، وهو أصح منه. ¬

_ (¬1) في "الأصل": ويقصد، وهو تحريف. (¬2) تكررت في "الأصل". (¬3) وأخرجه مالك (1440)، وعنه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 182). (¬4) وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 181).

كتاب العمرى والرقبى

كِتَابُ العمْرى وَالرقبى أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه [فإنها للذي] (¬1) يعطاها؛ لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت [فيه] (¬2) المواريث". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك فأخرجه (¬3) إسنادًا ولفظًا، وزاد بعد قوله: "لا ترجع إلى الذي أعطاها": "أبدًا". وأما البخاري فأخرجه (¬4) عن أبي نعيم، عن شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر قال: "قضى النبي - صلى الله عليه وسلم -[بالعمرى] (¬5) أنها لمن [وهبت] (¬6) له". وأما مسلم فأخرجه (¬7) عن يحيى بن يحيى، عن مالك، وله روايات كثيرة نحوه. وأما أبو داود فأخرجه (¬8) عن محمد بن يحيى ومحمد بن المثنى، عن بشر بن عمر، عن مالك. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "فإنه الذي"، وهو تحريف. والمثبت من مصادر التخريج. (¬2) ليست في الأصل والمثبت من مصادر التخريج. (¬3) الموطأ (1441). (¬4) البخاري (2625). (¬5) في "الأصل" بالعمى، وهو تحريف، والمثبت من صحيح البخاري. (¬6) في "الأصل": وهب، والمثبت من صحيح البخاري. (¬7) مسلم (1625). (¬8) أبو داود (3553).

وأما الترمذي فأخرجه (¬1) عن الأنصاري، عن معن، عن مالك. وأما النسائي فأخرجه (¬2) عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. وقد أخرجه الشافعي -رضي الله عنه- في "كتاب حرملة": عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تكون العمرى حتى يقول: لك ولعقبك، وإذا قال: هي له ولعقبه؛ فقد قطع حقه فيها". ورواه الشافعي أيضًا، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه، فهي له لا يجوز للمعطي فيها شرط ولا ثنيا" (¬3). فقد جعل بعض من روى هذا الحديث قوله: "لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" من قول أبي سلمة، ومن رواية من لم يذكره أصلاً، ومنهم من صرح به أنه [عن] (¬4) النبي - صلى الله عليه وسلم -. "العمرى": أن يقول الرجل للرجل: داري هذه لك عمرك، أو يقول: داري هذه لك عمري. أي مدة عمرك أو مدة عمري، فإذا قال ذلك وسلمها إليه، كانت للمُعْمَر ولم ترجع إلى المُعْمِر إن مات. تقول: أعمرته دارًا أو بستانًا أو نحو ذلك، والاسم "العمرى" والألف في آخرها للتأنيث فلا ينون. ¬

_ (¬1) الترمذي (1350). (¬2) النسائي (3745). (¬3) وأخرجه مسلم (1625) عن ابن أبي فديك. (¬4) في "الأصل": على.

و"أعمر" فعل لم يسم فاعله، و"الهاء" في "له" راجعة إلى المُعْمَر -بالفتح- وهو الضمير المستتر في أعمر. و"العقب" أولاد الرجل، ذكرهم وأنثاهم. وقوله: "وقعت فيه المواريث" أي استحقها الورثة وصارت بمنزلة ماله، يرثه من يرثه. والذي ذهب [إليه] (¬1) الشافعي -رضي الله عنه- أن العمرى نوع من أنواع الهبات وتفتقر إلى إيجاب وقبول وقبض، وهي عقد جائز. وحكي عن الزهري أنه قال: لم يكن الخلفاء يعطون بها. وقال بعض العلماء: لا تجوز العمرى. والمذهب الأول. ولا يخلو المُعْمِر من أحوال ثلاث؛ إما أن يقول: هي لك عمرك ولعقبك من بعدك. أو يقول: هي لك عمري أو عمرك، فإذا من رجعت إليّ. أو يطلق القول، والأول جائز ويكون الملك له ولورثته من بعده، لا يرجع إلى الذي أعطاها، ويرثها ورثته كما ترث جميع أملاكه. وأما [الثاني: فعلى الجديد] (¬2): أن الشرط يسقط وتكون للمُعْمَر ولا أثر للشرط، وعلى القديم فإنها تصح وترجع إليه عند موت المُعْمَر ويعتبر فيها الشرط، وقد روي في القديم أيضًا أن هذا فاسد. وأما الثالث: فقد اختلف فيه قول الشافعي -رضي الله عنه-؛ قال في الجديد: هي جائزة، وتكون للمُعْمَر ولورثته بعده، وبه قال أبو حنيفة. وقال في القديم: إنها جائزة، وتكون للمُعْمَر مدة حياته، فإذا مات عادت إلى المُعْمِرِ، وقيل: إن قوله في القديم: إنها فاسدة، ولا يجوز أن تكون للمُعْمِرِ، ولا تنتقل إلى ورثته. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) في "الأصل": الذي فعل للجديد.

وقال مالك: تكون للمُعْمَر السُّكنى، فإذا مات عادت إلى المُعْمِر، ولذلك إذا قال: هي له ولعقبه كانت أيضًا سكناها لهم، فإذا انقرضوا عادت إلى المُعْمِرِ أو إلى ورثته، وعنده أن التملك إنما هو للمنفعة لا لعين الملك. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تعمروا ولا ترقبوا، فمن أعمر شيئًا أو أرقبه فهو سبيل الميراث". هذا الحديث رواية من حديث جابر الذي قبله، ولولا زيادة ذكر الرقبى فيه لأضفناه إليه، وهذه الرواية قد أخرجها [أبو داود والنسائي. فأما أبو داود فأخرجها] (¬1) عن إسحاق بن إسماعيل، عن سفيان، عن ابن جريج. وأما النسائي فأخرجها (¬2) عن محمد بن عبد الله بن [يزيد] (¬3)، عن سفيان، عن ابن جريج. و"الرقبي" من أرقبت كالعمرى من أعمرت، ومعنى أرقبته إذا أعطته ملكًا على أن يكون للباقي منكما، إن مت قبله كانت له، وإن مات قبلك عادت إليك، وهو من المراقبة، كأن كل واحدٍ منهما يرقب موت صاحبه، أي ينتظره، ولا فرق بين أن يقول أرقبتك هذه الدار أو يقول: هي لك رقبى، فإذا قال ذلك، وقبلها وتسلمها ملكها -على قول الشافعي الجديد في العمرى- ويسقط الشرط وتكون لورثته بعده. وعلى القول القديم حكمها حكم العمرى أيضًا، وبه قال أبو يوسف. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل" والحديث في سنن أبي داود (3556) عن إسحاق بن إسماعيل به. (¬2) النسائي (3723). (¬3) في "الأصل" زيد، وهو تحريف، والمثبت من سنن النسائي، وتهذيب الكمال (25/ 570).

وقال أبو حنيفة ومحمد: الرقبى لا يملك بها، وتكون عارية في يده تعود إلى المرقب بموته. وقوله: "فهو في الميراث" أي حكمه حكم الميراث، وفي بعض النسخ "فهو في سبيل الموت" أي أن الملك جار في مجرى الميراث. وقوله: "أعمر" و"أرقب" جاز أن [يكونا] (¬1) مفتوحي الهمزتين ومضموميهما، فأما [الضم] (¬2) فيكون الفعْل راجعًا إلى المُعْمَر والمُرْقَب وهما المفعولان، وإذا قلنا، بالفتح كان الكلام جاريًا على سَنَنٍ واحد داخلًا في حكم الخطاب للفاعلين؛ لأنه قال: "لا تعمروا ولا ترقبوا" فنهاهم، ثم قال: "فمن أعمر أو أرقب" فجعل اللفظ داخلًا في حكم الفاعل حتى يتبين لهم ما يلزم من خالف النهي، وإن قلنا: بالضم، فيكون لما نهاهم عن الإعمار والإرقاب ذكر المعنى الذي لأجله نهاهم، يحثهم به على اتباع النهي والوقوف عنده، وأنكم متى أعمرتم أو أرقبتم انتقل الملك إلى غيركم ممن أعمرتموه وأرقبتموه، فعدل عن ذكر الفاعل إلى ذكر المفعول لأنه الذي ينتقل الملك إليه ويستقل به دون الفاعل، فينتبه الذهن إلى المعنى الباعث على ترك الإعمار والإرقاب بما تميل النفوس إليه من حبها المال وكراهية انتقاله إلى غيرها، فكان ذلك أدعى إلى الانتهاء والارتداع، والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عمر، عن [طاوس] (¬3) عن حجر المدري، عن زيد بن ثابت "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العمرى للوارث". هذا حديث حسن، أخرجه أبو داود والنسائي. ¬

_ (¬1) في "الأصل": يكون. (¬2) في "الأصل": الفتح، وهو خطأ، ويدل عليه ما بعده. (¬3) في "الأصل": عطاء، وهو تحريف أو انتقال نظر، والمثبت من مسند الشافعي (1/ 219) ومصادر التخريج.

فأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن عبد الله بن محمد النفيلى عن معقل، عن عمرو ابن دينار، عن طاوس، عن زيد، وذكر معناه. وأما النسائي فأخرجه (¬2) عن محمد بن عبد الله بن يزيد عن سفيان بالإسناد مثله. قوله: "للوارث" يريد لوارث المُعْمَر، وأنها جارية مجرى ما يخلفه من الملاكة، وهذا الحديث مؤكد لقوله الجديد، وأن العمرى لا ترجع إلى المُعْمِر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن سليمان بن يسار: "أن طارقًا قضى بالمدينة بالعمرى عن قول جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم مختصرًا هكذا ومطولاً؛ فأما المختصر فأخرجه (¬3) عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، عن سفيان بالإسناد. وأما المطوله فأخرجها (3) عن محمد بن رافع وإسحاق بن منصور، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر قال: "أعمرت امرأة بالمدينة حائطًا لها ابنًا لها، ثم توفى، وتوفيت بعده، وترك ولدًا وله إخوة بنون [للمُعْمِرَة] (¬4) فقال ولد المُعْمِرَة: رجع الحائط إلينا؛ وقال بنو المُعْمَرِ: بل كان لأبينا حياته ومماته. فاختصموا إلى طارق مولى عثمان، فدعى جابرًا فشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق، ثم كتب إلى عبد الملك ¬

_ (¬1) أبو داود (3559). (¬2) النسائي (3716). (¬3) مسلم (1625). (¬4) في "الأصل": المعتمرة، وهو تحريف، والمثبت من صحيح مسلم.

فأخبره ذلك طارق .... فإن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم، وهذا الحديث [استدل] (¬1) به الشافعي على ما رواه عنه المزني من جواز العمري لمن وُهبت له، وأنها تكون له في حياته، ولورثته إذا مات، وإن لم يقل: "ولعقبه" إذا قبضها المعتمر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار وحميد الأعرج، عن حبيب بن [أبي] (¬2) ثابت قال: "كنت عند ابن عمر، فجاءه رجل من أهل البادية، فقال: إني وهبت لابني ناقة [حياته] (¬3)، وإنها تناتجت إبلاً، فقال ابن عمر: هي له حياته وموته. فقال: إني تصدقت عليه بها، فقال: ذلك أبعد لك منها". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن حبيب بن أبي ثابت ... مثله إلا أنه قال: "أضنت واضطربت". "تناتجت" تفاعلت من النتاج: الولادة، و"إبلًا" منصوب على التمييز، ويريد به الكثرة أي أن نتاجها صار إبلاً، و"الإبل": الجماعة من البعران، ومنه المثل المضروب: "الذود إلى الذود إبل" فكأنه لما رأى نتاجها قد كثر حتى صار إبلًا أراد الرجوع فيه، فقال له ابن عمر: هي له في حياته ومماته، وذلك أنه جعلها بمنزله العمرى لأنها هبة، فأعطاها حكمها، فلما سمع قول ابن عمر، قال: "إني تصدقت بها عليه" ظنًّا منه أنها تعود إليه، فقال له: "ذلك أبعد لك منها" لأن الصدقة في باب العطاء وانقطاع الملك من الهبة. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها. (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من مسند الشافعي ومصادر ترجمته. (¬3) في "الأصل": حياتها، والمثبت من مسند الشافعي و"الأم" (4/ 64).

قوله: "أَضْنت واضطربت" (¬1). قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: "حضرت شريحًا فقضى لأعمى بالعمرى، فقال له الأعمى: يا أبا أمية بم قضيت لي؟ فقال شريح: لست أنا قضيت لك، ولكن محمد - صلى الله عليه وسلم - قضى لك منذ [أربعين] (¬2) سنة؛ قال: من أعمر شيئًا حياته فهو لورثته إذا مات". قال (¬3): قلت للشافعي: فإنا نخالف هذا -يعني مالكًا وأصحابه- وحجتنا فيه أن مالكًا قال: أخبرني يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم: "أنه سمع مكحولاً الدمشقي يسأل القاسم بن محمد عن العمرى وما يقول الناس فيها، فقال له القاسم: ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا". فقال الشافعي -رضي الله عنه- ما أجابه القاسم في العمرى بشيء، وما أخبره إلا أن الناس على شروطهم، ولم يقل له: إن العمرى من تلك الشروط التي أدرك الناس عليها. وقد يجوز أن لا يكون القاسم سمع الحديث, ولو سمعه ما خالفه -إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) بيض له المصنف، وقد ذكره في كتابه النهاية في غريب الحديث (3/ 104) ونقل عن الهروي والخطابي قولهما: هكذا يروى، والصواب: ضنت، أي كثر أولادها. يقال: امرأة ماشية وضانية، وقد مَشَت وضَنَت: أي كثر أولادها. ثم قال: وقال غيرهما: يقال: ضَنَت المرأةُ، تَضْنِي، وأَضْنَت، وضَنَأَت، وأَضْنَأَت: إذا كثر أولادها. (¬2) في "الأصل": أربعون، والمثبت من الأم (4/ 64) وسنن البيهقي الكبرى (6/ 175) وهو المشهور من العربية. (¬3) القائل هو الربيع بن سليمان كما في "الأم" (4/ 63)، (7/ 216).

وقال: ولا يشك عالم أن ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يقال به مما قاله ناس بعده قد يمكن أن لا يكونوا سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بلغهم عنه شيء؛ وإنهم لناس لا نعرفهم. ***

كتاب اللقطة

كِتَابُ اللُّقَطَةِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن يزيد موْلى المنبعث، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عِفَاصَها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها". هكذا جاء في المسند، وقد أخرجه المزني عن الشافعي -رضي الله عنهما- بهذا الإسناد واللفظ، ثم قال: "فَضَالَّة الغنم؟ قال: لك أو لأخيك أو للذئب، قال: فَضَالَّة الإبل؟ قال: فمالك ولها؟! معها سقاؤها و [حذاؤها] (¬1) تَرِدُ الماءَ، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها". هذا حديث صحيح متفق عليه، وأخرجه الجماعة إلا النسائي. أما مالك فأخرجه (¬2) بتمامه مثل المزني. وأما البخاري فأخرجه (¬3) عن عبد الله بن يوسف. وأما مسلم فأخرجه (¬4) عن يحيى بن يحيى، كلاهما عن مالك بطوله. وأما أبو داود فأخرجه (¬5) عن قتيبة، عن إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة مثل المزني. وأما الترمذي فأخرجه (¬6) عن قتيبة مثل أبي داود. ¬

_ (¬1) في "الأصل": "وسقاؤها" كالتي قبلها، وهو سبق قلم أو انتقال نظر من الناسخ، والمثبت من مصادر التخريج الآتية. (¬2) الموطأ (1444). (¬3) البخاري (2429). (¬4) مسلم (1722). (¬5) أبو داود (1704). (¬6) الترمذي (1372).

وللبخاري ومسلم روايات كثيرة نحو ذلك، وفي الباب [عن] (¬1) عبد الله بن عمرو، والجارود بن المعلى، وعياض بن حمار، وجرير بن عبد الله، وقد روى هذا الحديث جماعة عن ربيعة، فمنهم من ذكره هكذا، ومنهم من قدم ذكر التعريف عن [معرفه] (¬2) "وكائها وعفاصها" منهم سفيان الثوري وإسماعيل بن جعفر. "اللُّقَطة" -بضم اللام، وفتح القاف وبسكونها: ما يُلتقط من الأرض مما تجده ملقًى عليها. قال الأزهري: قال الليث: اللُّقْطة -بسكون القاف- اسم الشيء الذي تجده ملقى فتأخذه، وكذلك المنبوذ من الصبيان لُقْطَة، وأما اللُّقَطَة -بالتحريك- فهو الرجل اللَّقَّاط الذي يتتبع اللُّقاطَات يَلْتَقطُها. قال الأزهري: قلت: وكلام العرب على غير ما قال الليث، وإن كان ما قاله قياسًا، روى أبو عبيْد عن الأصمعي والأحمر أنهما قالا: هي اللَّقَطَة و [القُصعة] (¬3) والنُّفَقَة مثقلات كلها لما يُلتقط من الشيء الساقط. وهكذا رواه المحدثون، وأما الصبي المنبوذ فهو اللقيط عند العرب، فعيل بمعنى مفعول، والذي يأخذ اللقيط أو الشيء الساقط يقال له: الملتقط. انتهى كلام الأزهري. قلت: القُصْعَة: هي القاصعاء، والنُّفْقَة: النافقاء، وهما من جحرة ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) في "الأصل": معوية، وهو تحريف، والمعنى أنه قال: عرفها سنة ثم احفظ عفاصها ووكاءها .. إلخ كما في صحيح البخاري (2427) من طريق سفيان عن ربيعة. فقدم التعريف قبل إن المعرف وهو الوكاء والعفاص. (¬3) في "الأصل": القطعة، وهو تحريف، والمثبت من لسان العرب (7/ 392) وسيأتي في كلام المصنف على الصواب قريبًا.

اليربوع (¬1). و"العِفَاص" بكسر العين المهملة وبالفاء والصاد المهملة: الوعاء الذي تكون فيه النُّفقَة جلدًا كان أو خرقة أو غير ذلك. "والوكاء" الخيط الذي يُشدُّ به رأس الوعاء، وإنما أمره بحفظ عفاصها ووكائها ومعرفتها لوجوه من المصالح منها: أن العادة جارية بإلقاء الوعاء والوكاء إذا فرغ من النفقة؛ فأمره بمعرفته وهو حفظه لذلك. ومنها أنه نبهه على حفظ ما في الوعاء؛ لأنه إذا أَمَرَهُ بحفظ الوعاء والوكاء كان أَمْرُه بحفظ ما فيه أولى. ومنها أنه إذا جاء صاحبها بغتة، فربما غلب على ظنه صدقه، فيجوز له الدفع إليه. ومنها أنه إذا عرف ذلك أمكنه التعريف لها والإشهاد عليه. وقوله: "ثم عرفها سنة" أي عرفها للناس وعَرِّضْهَا لتعرف؛ بأن يُشهر خبرها ويُنادي عليها، ويُظهر أنه وجد شيئًا؛ لعل صاحبه يسمع ذلك، فيجيء إليه فيعطيه علامته. وقوله: "فَشَأْنُك بها" الشأن الحال، والأمر، أي فلك أن تتصرف فيها، أي لا حجر عليك في أمرك وشأنك كما لا حجر عليك في مالك، ويكون مرفوعًا بالابتداء وخبره قوله: "بها" أي شَأْنُك بها متعلق بها. و"الضالة": الضائعة التي تضل عن صاحبها، ضَلَّ الشيء يَضِلُّ ضلالة فهو ضَالٌّ: إذا ضاع، وإذا هلك. ¬

_ (¬1) القُصْعَة، والقَاصِعَاء، والقُصْعَاء: جحر يحفره اليربوع، فإذا فرغ ودخل فيه سَدَّ فمه لئلا تدخل عليه حية أو دابة، وقيل: هي باب جحره. انظر لسان العرب (8/ 275)، والنفقة والنافقاء مثله انظر لسان العرب (10/ 358).

والضالة اسم فاعله في الأصل، ثم استعمل الضالة في الحيوان الضائع، وكثر إطلاق ذلك عليه حتى صار كالمقصور عليه، وحتى صار إطلاقه على غيره كالمجاز المنقول عن أصله، وحتى إذا أطلق أيضًا على المعاني فإنه قد جاء في الحديث: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن" (¬1) ثم جعلت اللقطة للذكر والأنثى سواء، فيقال في الجمل ضالة كما يقال في الناقة، وفي الكبش كما يقال في النعجة، وعلى هذا القياس تقول: أضللت بعيري إذا ضَلَّ عنك فلم تَدْرِ أين ذهب، وضللت بعيري إذا كان في موضع فلم تهتد إلى موضعه. وقوله: "لك أو لأخيك أو للذئب" يعني أنها لك أي أنت تتنزل منزلة مالكها فكأنها لك، وهذا إذن منه في أخذها حيث جعلها له. وقوله: "أو لأخيك" أي لأحدٍ آخر يراها كما رأيتها، فهي له كما هي لك. وقوله: "أو للذئب" يعني أنك إن لم ترها أنت ولا غيرك، أو رأيتها فلم تأخذها؛ فإن الذئب يراها فيأخذها فيأكلها. وفي قوله: "أو للذئب" حث له وتحريض على أخذها؛ لأنه إذا علم أنه إذا لم يأخذها بقيت للذئب كان ذلك أدعى له وأبعث على أخذها. وقوله في ضالة الإبل: "مالك ولها" استفهام وردع وزجر وإنكار، وهذا من أفصح الأقوال وأبلغ الخطاب أن يستفهم عن شيء وهو أمر بفعله أو تركه مع إنكارٍ وزجرٍ، ثم عَلَّل إنكاره بأن معها سقاءها يريد جوفها؛ لأنها تأخذ الماء كثير السعة في جوفها فيبقى معها، فتحيا إلى أن ترد الماء مرة أخرى، والمراد "بحذائها" إحفاؤها أي أنها تقوى على قطع الأرض. ثم بين ما أراد بقوله: "معها سقاؤها وحذاؤها" فقال: "ترد الماء وتأكل ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2687) من حديث أبي هريرة وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه إبراهيم بن الفضل المدني المخزومي يضعف في الحديث من قِبَل حفظه. ورواه ابن ماجه (4169) من نفس الطريق.

الشجر إلى أن يلقاها ربها" وفي بيان المذهب في اللقطة وتفصيلها وأحكامها طول قد استقصي في كتب الفقه، فلم نطل بذكره ها هنا، إلا أنَّا نورد كلامًا للشافعي مجملاً، قال الربيع: قال الشافعي في اللقطة مثل حديث مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء يعرفها سنة ثم يأكلها -موسرًا كان أو معسرًا- إن شاء الله تعالى. قال الشافعي: إلا أني لا أرى أن يخلطها بماله، ولا أن يأكلها حتى يُشهد على عددها ووزنها وطرفها وعفاصها ووكائها، فمتى جاء صاحبها غرمها له، وإن مات كانت دينًا في ماله، ولا يكون عليه في الشاة يجدها بالمهلكة تعريف، إن أحب أن يأكلها فهي له، ومتى لقي صاحبها غرمها له، وليس ذلك في ضالة الإبل ولا البقر؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما، وضالة الغنم والمال لا يدفعان عن أنفسهما. قال: ويأكل اللقطة الغني والفقير، ومن تحل له الصدقة ومن لا تحل له، قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي بن كعب وهو أيسر أهل الدينة -أو كأيسرهم- وجد سرة فيها مائة أو ثمانون دينارًا أن يأكلها, وليس -فيما زعمتم- لأحد أن يعطي موسرًا من الصدقة، ولا يعطي معسرًا عشرين دينارًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أيوب بن موسى، عن معاوية بن عبد الله بن بدر، أن أباه أخبره: "أنه نزل منزلاً بطريق الشام، فوجد [صرة] (¬1) فيها ثمانون دينارًا، فذكر ذلك لعمر بن الخطاب، فقال له عمر: عرفها على أبواب [المساجد] (¬2) واذكرها لمن يقدم [من] (¬3) الشام، فإذا مضت ¬

_ (¬1) في "الأصل": سرة -بالسين المهملة- وهو تحريف، والمثبت من مسند الشافعي، والموطأ وغيرهما. (¬2) في "الأصل": المسجد، وهو خطأ، والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من مسند الشافعي، والأم (4/ 69)، والموطأ.

السنة فشأنك بها". هذا حديث الموطأ أخرجه فيه إسنادًا ولفظًا (¬1) وفيه شرح لبعض أحكام اللقطة؛ فإنه يستفاد منه: أن الالتقاط كان في الصحراء، وقد اختلف في اللقطة إذا كانت في الصحراء وفي المدن ينبغي أن يكون [التعريف] (¬2) بالمساجد وعلى أبوابها، ويتبع ذلك ما كان في معناها كالأسواق ومواضع العامة والقوافل. وفيه تحديد مدة التعريف بسنة. وهذا الحديث هكذا أخرجه مالك موقوفًا على عمر، وقد روي عن عمر في قصة أخرى مرفوعًا (¬3). وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن الدراوردي، عن شريك بن عبد الله ابن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن علي بن أبي طالب: "أنه وجد دينارًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمره أن يعرفه، فلم يعرف، فأمره أن يأكله، ثم جاء صاحبه فأمره أن يغرمه". قال الشافعي: وعلي بن أبي طالب ممن تحرم عليه الصدقة؛ لأنه من صلبية بني هاشم. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- فيما بلغه عن رجل- عن شعبة، عن أبي قيس، قال: سمعت هذيلًا يقول: "رأيت عبد الله بن مسعود أتاه رجل بسرة مختومة، فقال: قد [عرفتها فلم أجد من يعرفها، فقال استمتع بها". قال الشافعي: وهذا قولنا، إذا] (¬4) عرفها فلم يجد من يعرفها فله أن يستمتع ¬

_ (¬1) الموطأ (1445). (¬2) ليست في الأصل والسياق يقتضيها. (¬3) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/ 187) ولفظه: "أن سفيان بن عبد الله وجد عيبة، فأتى بها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، فقال: عرفها سنة إلخ. (¬4) سقط من "الأصل"، والمثبت من الأم (4/ 70).

بها، وهكذا السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد خالفوا هذا كله ورووا حديثًا عن عامر، عن أبيه، عن عبد الله: "أنه اشترى جارية، فذهب صاحبها، فتصدق بثمنها، وقال: اللهم عن صاحبها، فإن كره فلي وعليّ الغرم، ثم قال: وهكذا نفعل باللقطة" فخالفوا (فيه) (¬1) السنة في اللقطة وخالفوا حديث عبد الله بن مسعود الذي يوافق السنة، وهو عندهم ثابت، واحتجوا بهذا الحديث الذي عن عامر وهم يخالفونه فيما هو فيه بعينه، ويقولون: إن ذهب البائع فليس للمشتري أن يتصدق بثمنها, ولكنه يحبس حتى يأتي صاحبها متى جاء. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع: "أن رجلاً وجد لقطة فجاء إلى عبد الله بن [عمر] (¬2) فقال: إني وجدت لقطة [فماذا] (¬3) ترى؟ فقال ابن عمر: عرفها، قال: قد فعلت. قال: زد. قال: قد فعلت. قال: لا آمرك أن تأكلها, ولو شئت لم تأخذها". هذا حديث الموطأ أخرجه بالإسناد واللفظ (¬4). قوله: "عرفها" مطلقًا لم يقيده بمدة، ولكن الظاهر أنه إنما أمره أمرًا مطلقًا، لأنه قد كان يعلم منه أنه عارف مدة التعريف، فلم يَحْتَجْ أن يُعَرِّفه مقدار مدته. وقوله: "زد" أي في التعريف، والأشبه أنه أراد الزيادة على السنة للاحتياط والتورع عن أكلها واستهلاكها، ويعضد ذلك قوله في الجواب: "لا آمرك أن تأكلها". قوله: "ولو شئت لم تأخذها" يؤكد ذلك؛ لأن من أحب التورع والتنزه ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، وليست في "الأم" ولا "معرفة السنن". (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من السنن الكبرى للبيهقي (6/ 188) و"معرفة السنن" والموطأ (1446). (¬3) في "الأصل": فيما، والمثبت من المصادر السابقة. (¬4) الموطأ (1446).

عن الشُّبه فإنه يتجنبها. والذي ذهب إليه الشافعي: أَنَّ واجد اللقطة إذا عرف من نفسه الأمانة فإنه يستحب له أخذها، وقال في موضع آخر: ولا يحل ترك اللقطة لمن وجدها إذا كان أمينًا، فقال بعض أصحابه: هي على اختلاف حالين: فالأول: إنما أراد به إذا وجدها في قرية أو محلة يُعرف أهلها بالثقة والأمانة؛ فالظاهر سلامتها فلم يجب عليه أخذها, ولكن يستحب له. والثاني: أراد به إذا وجدها في موضع لا يعرف أهله بالثقه أو كانت في موضع يطرقه الناس فإن الظاهر هلاكها؛ فيجب عليه أخذها. وقال بعض الأصحاب: فيه قولان: أحدهما: يستحب. والثاني: يجب. وحُكي عن مالك وأحمد أنهما كرها الالتقاط، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وهو مذهب عطاء وجابر بن زيد، هذا إذا كان الواحد أمينًا، وإن كان غير أمين فلا يأخذها؛ لأنه يعرضها للتلف. قال الشافعي -رضي الله عنه- إذا وجد الرجل بعيرًا فأراد ردّه على صاحبه فلا بأس بأخذه؛ وإن كان إنما يأخذه ليأخذه فلا وهو ظالم. قال: وإن كان للسلطان حمى ولم يكن على صاحب الضوال مؤنة تلزمه في رقاب الضوال؛ صنع كما صنع عمر بن الخطاب تركها في الحمى حتى يأتي صاحبها وما تناتجت فهو لمالكها، وإن لم يكن للسلطان حمى وكان يستأجر

عليها وكانت الأجرة تعلق في رقابها رأيت أن يصنع كما صنع عثمان بن عفان، إلا في كل ما عُرِفَ أن صاحبه قريب فيحبسه اليومين والثلاثة ونحو ذلك، وقد روى ابن شهاب: "أنه كانت ضوال الإبل في زمان عمر بن الخطاب إبلاً مؤبلة تناتج لا يمسها، حتى إذا كان زمان عثمان بن عفان أمر بمعرفتها وتعريفها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها". ***

كتاب اللقيط

كِتَابُ اللَّقِيطِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سنين [أبي] (¬1) جميلة -رجل من بني سليم- "أنه وجد منبوذًا في زمان عمر بن الخطاب، فجاء به إلى عمر، فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ قال: وجدتها ضائعة فأخذتها. فقال له عريفي: يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح. فقال: أكذلك؟ قال: نعم. قال عمر: اذهب فهو حرٌّ، فلك ولاؤه وعلينا نفقته". هذا الحديث هكذا أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) بالإسناد. وقد أخرجه البخاري في ترجمة باب من كتابه استشهادًا بغير إسناد (¬3). "المنبوذ" مفعول من نبذت الشيء أنبذه نبذًا فأنا نابذٌ، وهو منبوذ، هذا هو الأصل، ثم كثر استعماله في "اللقيط" وهو الطفل يُلقى بالأرض لا يعرف له أب ولا أم ولا قبيلة، بل يوجد مرميًّا على الطريق وبالأسواق ونحو ذلك. فجعله كثرة استعماله كأنه خاص به، وهو المراد في الحديث. و"النسمة" الروح، وقيل: كل حيوان، وقيل: الإنسان خاصة، والجمع: النسم. وقوله: "وجدتها ضائعة" فنسب الفعل إليها مجازًا وإلا فهي مُضَيَّعَة؛ لأن أهلها أضاعوها, ولم تضع هي منهم، وإن كان ذلك جائزًا أن يضيع الطفل من أهله، ولكن العادة جارية أن من ضاع له ولد فإنه يطلبه ويسأل عنه، ومن هو من هذا القبيل فإن أهله ألقوه ورموه ليلتقطه الناس. ¬

_ (1) في الأصل: بن، وهو تحريف والمثبت من مصادر التخريج وتهذيب الكمال (12/ 165) والاستيعاب (2/ 689) والإصابة (3/ 193) ومصادر ترجمته. (2) الموطأ (1417). (3) البخاري كتاب الشهادات، باب إذا زكى رجل رجلاً كفاه، قبل الحديث (2519).

و"العريف" المتقدم على القوم يتولى أمرهم مثل النقيب، وهو دون الرئيس والجمع: عرفاء، تقول منه: عَرُفَ -بالضم- عَرَافَةً -بالفتح- أي صار عريفًا. وإذا أردت أنه عَمِلَ ذلك قلت: عَرَفَ -بالفتح-[يَعْرُف] (¬1) بالضم. (أن) (¬2) اللقيط يكون عبدًا لملتقطه فقال له عمر: "اذهب به فإنه حر" وليس على ما كنتم عليه من استرقاق اللقيط، ولما قال له: "إنه حر" قال: "ولك ولاؤه" لأنك أولى به من غيرك؛ حيث كنت أنت الواجد له، "وعلينا نفقته" يعني في بيت المال. وإنما قال له عمر: "ما حملك على أخذه؟ " لأنه اتهمه في أمره؛ فإن ذلك ربما كان لزنية منه، أو ريبة فعلها، فلما شهد له عريفه بالصلاح أقره عليه ولم يحقق معه الإنكار. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن التقاط المنبوذ واجب على الكفاية، ولو تركه الكل أثموا، وعلى الملتقط كفالته وتربيته، ونفقته في بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال شيء وجبت على المسلمين فإن كان عند المنبوذ شيء من مال وغيره فإنه ماله ويملكه كما يملك غيره، فحينئذ تكون النفقة من مالهِ هذا بالمعروف. وأما الولاء فمذهب الأئمة أن لا وَلاء عليه للملتقط وإنما يرثه بيت المال، وحكي عن بعض الناس أنه قال: ولاؤه للملتقط فيرثه؛ أخذًا يقول عمر، وإنما أراد عمر بقوله: "ولاؤه" ولاء الحضانة والتربية أو الحفظ، وإنما حملوه على ذلك للحديث الصحيح الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله: "إنما الولاء لمن أعتق" و"وإنما" للحصر، فكان هذا محمولاً على ما قلناه. قال الشافعي -في رواية المزني عنه-: وقد روي عن عمر أنه قال: "لئن أصاب الناس سَنَةٌ، لأنفقن عليهم من مال الله حتى لا أجد درهمًا، فإذا لم أجد درهمًا ألزمت كل رجلٍ رجلاً". ¬

_ (¬1) في "الأصل": "معرف" -أوله ميم، والمثبت من لسان العرب (9/ 238، 239). (¬2) كذا في "الأصل" ولعله قد وقع هنا سقط أو يكون الصواب: كان.

كتاب الفرائض

كِتَابُ الفَرَائِض أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا النسائي. أما مالك فأخرجه (¬1) عن الزهري بالإسناد، وقال: عمر بن عثمان. وهو وهم؛ فإنما هو عمرو بن عثمان، وقد روى بعضهم عن مالك فقال: عمرو بن عثمان، وأكثر أصحابه إنما رووا: عمر بن عثمان، وهو وَهْم (¬2). وأما البخاري فأخرجه (¬3) عن يحيى بن يحيى وأبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق ابن إبراهيم، عن ابن عيينة. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن مسدد، عن سفيان. وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وغير واحد، عن سفيان، وفي الباب عن جابر [وعبد الله] (¬6) بن عمرو بن العاص. ¬

_ (¬1) الموطأ (1082). (¬2) ونقل ابن أبي حاتم في الجرح (6/ 248) عن أبي زرعة قال: الرواة يقولون عمرو، وكان مالك يقول عمر بن عثمان، ونقل عن يحيى القطان قال: قلت لمالك: إنما هو عمرو بن عثمان، فأبى أن يرجع وقال: قد كان لعثمان ابن يقال له عمر هذه داره. ونقل عن إسماعيل بن أبي أويس قال: أخطأ مالك بن أنس في اسم عمرو بن عثمان فقال: عمر ابن عثمان، وإنما هو عمرو ... إلخ. وانظر كلام الترمذي في جامعه بعد الحديث رقم (2107). (¬3) كذا بالأصل وقد حدث سقط، فالبخاري إنما أخرجه، عن أبي عاصم، عن ابن جريج عن، الزهري كما في الفتح (6764) وأما طريق يحيى بن يحيى هذا فإنما أخرجه مسلم في صحيحه (1614) وانظر تحفة الأشراف (1/ 55، 56 رقم 113). (¬4) أبو داود (2909). (¬5) الترمذي (2107). (¬6) سقط من "الأصل" والمثبت من جامع الترمذي.

"لا" في قوله: "لا يرث المسلم الكافر" نافية قد تضمنت معنى النهي وورودها بلفظ النفي أبلغ في الخطاب من النهي؛ لأن النهي يتضمن أن الحكم قد كان قارًّا قبل وروده، والنفي يتضمن الإخبار عن حالته وأنها كانت منفية لم تكن ثابتة قبل ذلك. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن لا توارث بين المسلم والكافر بحال. وروي ذلك عن عمر، وعلي، وجابر، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وابن عباس، وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وغيرهم [من] (¬1) الفقهاء والأئمة، وروى معاذ بن جبل ومعاوية: "أن المسلم يرث الكافر، ولا يرث الكافر المسلم كما يجري بينهما أمر النكاح" وبه قال محمد بن الحنفية ومحمد بن علي ابن الحسين، وابن المسيب، ومسروق، والنخعي، وإسحاق. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن حسين قال: "إنما ورث أبا طالب عقيل وطالب، ولم يرثه علي ولا جعفر. قال: فلذلك تركنا نصيبنا من الشعب". هذا الحديث هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬2) مرسلاً، وقد جاء هذا المعنى عن أسامة (¬3) أنه قال: "يا رسول الله أين تنزل غدًا؛ في دارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟ وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب، ولم يرثه علي ولا جعفر؛ لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين". قال الشافعي: فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما وصفت من أن الدينين إذا اختلفا بالشرك والإسلام لم يتوارث من سُميت له فريضة. و"الشعب" هو شعب بني هاشم الذي كانت بيوتهم فيه بمكة، وهو الذي ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) الموطأ (1083). (¬3) أخرجه البخاري (1588)، ومسلم (1351).

أقاموا فيه لما تحالفت عليهم قريش أن لا يبايعوهم. وأخرج الشافعي (¬1) -رضي الله عنه- حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من باع عبدًا له [مال] (¬2) فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع". ثم قال: فلما كان بَيِّنًا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن العبد لا يملك مالاً، وأن ما يملك العبد فإنما يملكه لسيده، فإن كان للعبد أب أو غيره ممن سُميت له فريضة [وكان لو] (¬3) أعطيها ملكها سيده عليه، ولم يكن السيد بأب للميت ولا وارث سميت له فريضة، لكنا لو أعطينا العبد بأنه أب إنما أعطينا السيد الذي لا فريضة له، فوَرَّثْنا غير من وَرَّث الله، فلم نورث عبدًا لما وصفت، ولا واحدًا لم تجتمع فيه الحرية والإسلام والبراءة من القتل حتى لا يكون قاتلًا، وذلك أنه أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس لقاتل شيء" هذا مرسل وقد رواه محمد بن راشد (¬4)، عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي -رضي الله عنه-: ولم أسمع اختلافًا في أن قاتل الرجل عمدًا لا يرث من قتل من دية ولا مال شيئًا، ثم افترق الناس في القاتل خطأ فقال بعض أصحابنا: يرث من المال ولا يرث من الدية، وروي ذلك عن بعض أصحابنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث لا [يثبته] (¬5) أهل العلم بالحديث، وقال غيرهم: لا يرث قاتل الخطأ من دية ولا مال، وهو كقاتل العمد، وإذا لم يثبت الحديث فلا يرث عمدًا ولا خطأً شيئًا [أشبه] (¬6) بعموم أن لا يرث قاتلٌ مَنْ قتل. ¬

_ (¬1) الأم (4/ 72). (¬2) سقط من "الأصل" والمثبت من الأم (4/ 72). (¬3) في "الأصل": ولو كان، والمثبت من المعرفة. (¬4) انظر المعرفة (5/ 43). (¬5) في "الأصل": يثبت، والمثبت من المعرفة (5/ 44). (¬6) في "الأصل": أثبته، وهو تصحيف، والمثبت من السنن الكبرى (6/ 221)، والمعرفة (5/ 45).

وقد أخرج الشافعي (¬1) -رضي الله عنه- فيما بلغه عن سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم: "أن عبد الله سئل عن رجل مات وترك أباه مملوكًا ولم يدع وارثًا، فقال: يُشترى من ماله فيعتق، ويدفع إليه ما ترك". قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا. أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف عبد الله. قال: ونقول نحن: ماله في بيت المال وكذلك يقولون هم إن لم يوصِ به. وقال الشافعي -رضي الله عنه- في باب ميراث الجد: وهذا قول زيد بن ثابت، وعنه قبلنا أكثر الفرائض، وإلى الحجة ذهبنا في قول زيد بن ثابت. وأخرج الشافعي (¬2) -رضي الله عنه- عن رجل، عن الثوري، عن معمر بن خالد الجهني، عن مسروق، عن عبد الله في "ابنتين وبنات ابن وابني ابن: للابنتين الثلثان، وما بقي فلابني الابن دون البنات، وكذلك قال في الأخوات والإخوة للأب مع الأخوات للأم وللأب". قال الشافعي: ولسنا نقول بهذا، وإنما نقول: للبنات أو الأخوات الثلثان، وما بقي فلابني الابن وبنات الابن أو للإخوة والأخوات من الأب، للذكر مثل حظ الأنثيين. أورده إلزامًا فيما خالف العراقيون فيه عبد الله بن مسعود. وأخرج الشافعي (2) -رضي الله عنه- عن رجل، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي: "أنه كان يشرك بين الجد والإخوة حتى يكون سادسًا". قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا، أما صاحبهم فيقول: الجدٌّ أَبٌ، فيطرح ¬

_ (¬1) انظر "الأم" (7/ 180) والمعرفة (5/ 45). (¬2) الأم (7/ 179).

الإخوة، وأما هم ونحن فنقول بقول زيد: يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة خيرًا له ولا ينقص من [الثلث] (¬1) من رأس المال. وأخرج الشافعي (¬2) -رضي الله عنه- فيما بلغه، عن أبي معاوية، عن الأعمعش، عن إبراهيم قال: "كان عبد الله يشرك الجد مع الإخوة، فإذا كثروا أوفاه السدس". وقال: هذا ما قال في قول علي عليه السلام. وأخرج الشافعي (2) -رضي الله عنه- فيما بلغه، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: "كان عبد الله يجعل الأكدرية من ثمانية أسهم، للأم سهم، وللجد سهم، وللأخت ثلاثة أسهم، وللزوج ثلاثة أسهم". قال الشافعي -رضي الله عنه- وليسوا يقولون بهذا؛ ولكنهم يقولون بما روي عن زيد بن ثابت فجعلها من تسعة أسهم، للأم سهمان، وللجد سهم، وللأخت ثلاثة أسهم، وللزوج ثلاثة أسهم، ثم يقاسم الجد الأخت فيجعل بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال أخبرنا ابن أبي رواد ومسلم بن خالد، عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة: "أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يطلق امرأته فيبتها، ثم يموت وهي في عدتها؟ فقال عبد الله بن الزبير: طلق عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ الكلبية فبتها، ثم مات وهي في عدتها، فَوَرَّثَها عثمان، قال ابن الزبير: وأما أنا فلا أرى أن ترث مبتوتة". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن طلحة بن عبد الله بن عوف -قال: وكان أعلمهم بذلك- وعن أبي سلمة بن ¬

_ (¬1) في "الأصل" السدس، والمثبت من "الأم" والمعرفة (5/ 65). (¬2) الأم (7/ 179) والمعرفة (5/ 64، 65).

عبد الرحمن: "أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته البتة وهو مريض، فَوَرَّثَها عثمان منه بعد انقضاء عدتها" (¬1). أخرج الموطأ (¬2) الرواية الثانية عن ابن شهاب. قوله: "فيبتها" أي يقطعها من نكاحه، وهو من البَتِّ: القطع، يريد أنه طلقها طلاقًا بائنًا لارجعة له عليها، يقال: بَتَّ وأَبَتَّ. و"العدة" للمرأة معروفة، وهي ما تعُدُّه من أيام أقرائها أو أشهرها أو الحمل. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن المريض إذا طلق امرأته وقع طلاقه إجماعًا، فإن مات قبل انقضاء العدة وكان الطلاق واحدة أو اثنتين فهو رجعي وترثه، وتنتقل إلى عدة الوفاة، وإن كان الطلاق ثلاثًا أو تمام الثلاث ففي الميراث قولان: أحدهما: أنها لا ترثه، وروي ذلك عن عبد الرحمن بن عوف وابن الزبير، وبه قال أبو ثور والمزني. والقول الثاني: أنها ترثه، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وعامة الفقهاء. وقال الشافعي -رضي الله عنه- لما ذكر هذا الحديث: فذهب بعض أصحابنا إلى أن يُورِّث المرأة وإن لم يكن له عليها رجعة إذا طلقها الزوج وهو مريض، وإن انقضت عدتها منه قبل موته. وقال بعضهم: وإن نكحت زوجًا غيره. وقال غيرهم: ترثه ما امتنعت من الأزواج. وقال بعضهم: ترثه ما دامت في العدة، فإذا انقضت العدة لم ترثه بعد ¬

_ (¬1) انظر "الأم" (5/ 254). (¬2) الموطأ (1183).

انقضاء العدة؛ لأن حديث ابن الزبير متصل، يعني الرواية الأولى، وهو يقول: "وَرَّثَها عثمان في العدة" وحديث ابن شهاب مقطوع يعني الرواية الثانية. وأجاب الشافعي في الإملاء بأن عثمان بن عفان ورّث امرأة عبد الرحمن بن عوف وقد طلقها ثلاثًا بعد انقضاء العدة، قال: وهو فيما يخيل إليّ أثبت الحديثين ثم قال: [وقيل] (¬1) في العدة. وروى يونس عن ابن شهاب، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر عن السائب ابن يزيد بن أخت نمر "أنه شهد على قضاء عثمان في تماضر بنت الأصبغ، وَرَّثَها من عبد الرحمن بن عوف بعدما حلت، وعلى قضائه في أم حكيم، وَرَّثَهَا من عبد الله بن مكمل بعدما حلت" وهذا إسْناد موصول. قال الربيع: قد استخار الله فيه يعني الشافعي فقال: لا ترث المبتوتة. قال الربيع: وهو قول ابن الزبير، وعبد الرحمن بن عوف طلقها على أنها لا ترثه، والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقتسمن ورثتي دينارًا ولا درهمًا ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا، ابن عيينة [عن أبي الزناد] (¬2) عن الأعرج، عن أبي هريرة بمثل معناه. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود. أما مالك فأخرجه إسنادًا ولفظًا (¬3). ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 502). (¬2) سقط من الأصل، والمثبت من مسند الشافعي، والأم (4/ 140). (¬3) الموطأ (1803).

وأما البخاري فأخرجه (¬1) عن ابن يوسف. وأما مسلم فعن يحيى بن يحيى (¬2). وأما أبو داود فعن قتيبة (¬3)، جميعًا عن مالك. وأخرجه مسلم (¬4) أيضًا عن أبي عمر، عن سفيان. قوله: "لا يقتسمن" هذه "لا" ناهية؛ لأجل دخول النون التي للتأكيد، ولا تدخل مع النفي عند الأكثرين، وقد ذهب قوم إلى جواز دخولها مع النهي. يدل الكلام على أنه خَلَّف شيئًا ثم نهاهم أن يقسموه بعده، ويدل عليه قوله: "ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة" وإذا كانت نافية دل على أنه لا يخلف شيئًا؛ لأنه يكون قد نفى وقوع القسمة بعده، ويجوز أن يكون قد خلف ثم أخبر أنهم لا يقتسمونه إما لأنهم يمنعون من ذلك؛ أو لأنهم لا يجوز لهم أن يقتسموه، والأولى في "لا" أن تكون ناهية لا نافية، وأن ما خَلَّفهُ من غلة أو تمر أو غير ذلك، وأن ما يفضل عنهم هو صدقة. ولا خلاف بين العلماء أن ما خَلَّفَهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يورث؛ لقوله: "ما تركناه صدقة" ولأنه صرح في هذا الحديث بقوله: "ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة" ولم يخرق الإجماع في ذلك إلا الشيعة؛ فإنهم قالوا: يورث - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) البخاري (6729). (¬2) مسلم (1760). (¬3) أبو داود (2973). (¬4) مسلم (1760).

كتاب الوصية

كِتَابُ الْوَصِيَّةِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة عن سليمان الأحول، عن مجاهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا وصية لوارث". هذا الحديث هكذا أخرجه الشافعي -رضي الله عنه- مرسلًا في كتاب "الرسالة" (¬1)، وقد أخرجه أبو داود (¬2) والترمذي (¬3)، عن أبي أمامة الباهلي. "الوصية" من أوصى يوصي إيصاءً ووصية، فالاسم منه الوَصَاةُ -بالفتح- وأوصيت به إذا عهدت بأمره إلى الوَصِيِّ، وأوصيت إليه إذا جعلته وَصِيَّكَ، والوَصيُّ الذي يعهد إليه، قالوا: إن أصل هذه الكلمة من وصيت الشيء أصيه إذا وَصَّلته؛ سمي بذلك لأن الميت إذا أوصى فقد وصل ما كان فيه من أمر حياته بإيصاء إليه من أمر مماته. وكونه نفى الوصية نفي استغراق يدل على حَسْمِ الباب فيها، وسد أمرها سدًّا كليًّا لا رجعة فيه ولا جواز، وهو نفي أريد به النهي ليكون أبلغ في الخطاب. والوارث من يستحق التركة أو بعضها من ذوي الفروض والعصبات. قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (¬4) وقال: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (¬5). ¬

_ (¬1) الرسالة (1/ 140). (¬2) أبو داود (2875). (¬3) الترمذي (2120). (¬4) سورة البقرة، الآية رقم (180). (¬5) سورة البقرة، الآية رقم (240).

قال: وأنزل الله تعالى ميراث الوالدين، ومن ورث بعدهما ومعهما من الأقربين، وميراث الزوج من زوجته، والزوجة من زوجها، ثم ذكر احتمال ثبوت الوصية مع الميراث، واحتمال أن تكون المواريث ناسخة للوصايا. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فوجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: "لا وصية لوارث، ولا يُقْتَل مؤمنٌ بكافر" وما يروونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم بالمغازي، فكان نقل هذا عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مجتمعين. قال: وروى بعض الشاميين حديثًا ليس مما يثبته أهل الحديث في أن بعض رجاله مجهولون يعني حديث إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة ثم ذكر حديث مجاهد الذي ذكرناه، وقال: فاستدللنا بما وصفت من عامة نقل أهل المغازي على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المنقطع وإجماع العامة على القول به. وقد ذهب طاوس والزهري والضحاك وأبو مجلز إلى أن آية الميراث نسخت الوصية للوارثين، وأما القرابة عن الوارثين فإن الوصية ثابتة لهم واجبة، وإليه ذهب داود ومحمد بن جرير الطبري. قال الشافعي: فلمَّا احتملت الآية ما ذهب إليه طاوس؛ وجب عندنا على أهل العلم طلب الدلالة على خلاف ما قال طاوس أو موافقته، فوجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم عند الموت، فَجَزَّأَهم عليه ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرق أربعة. أخبرنا بذلك عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قال الشافعي: فكانت دلالة السنة في حديث عمران بَيِّنَة؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنزل عتقهم في المرض وصية، والذي أعتقهم رجل من العرب، والعربي إنما يملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم الوصية، فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد المعتقين. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان، عن هشام [ابن حجير] (¬1)، عن طاوس، عن ابن عباس، "أنه قيل له: كيف تأمر بالعمرة [قبل الحج, والله يقول {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬2)] (¬3) فقال: كيف تقرءون: الدين قبل الوصية أو الوصية قبل الدين؟ قالوا: الوصية قبل الدين. قال: فبأيهما تبدءون؟ قالوا: بالدين. قال: فهو ذلك". قال الشافعي: يعني أن التقديم جائز. قال: وقال الله عز وجل في غير آية من قسم المواريث {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬4) و {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فكان ظاهر الآية المعقول فيهما: من بعد وصية يوصين بها أو دين إن كان عليهم دين. قال: فلما لم يكن بين أهل العلم خلاف علمته في أن ذا الدين أحق بمال الرجل في حياته منه حتى يستوفي دينه، وكان أهل الميراث إنما يملكون عن الميت ما كان الميت أملك به، وكان بَيّنًا والله أعلم في حكم الله بما لم أعلم أهل العلم اختلفوا فيه أن الدين مُبَدّى على الوصايا والميراث. ¬

_ (¬1) في "الأصل": عن حجر، وهو تحريف، والمثبت من السنن الكبرى (6/ 268)، ومسند الشافعي، والمعرفة. (¬2) سورة البقرة، الآية رقم (196). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من مسند الشافعي (1/ 384) والمعرفة (5/ 89). (¬4) سورة النساء، الآية رقم (12).

قال: وقد روي في تبدية الدين قبل الوصية حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُثْبِتُ أهل الحديث مثله. قال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن إسحاق، عن الحارث، عن علي: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدين قبل الوصية". إنما امتنعوا من تثبيت هذا الحديث؛ لانفراد الحارث الأعور بروايته عن علي، وقد طعنوا في روايته، ثم ذكر الشافعي حديث ابن عباس المذكور. وقد أخرج المزني عن الشافعي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: "جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتَدَّ بي، فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ ولايرثني إلا ابنة لي؛ أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال: لا. فقلت: فالشطر؟ قال: لا. الثلث والثلث كثيرٌ -أو كبير- إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعله فِي فِي امرأتك. فقلت: يا رسول الله، أَأُخَلَّفُ بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تُخَلَّفَ فتعمل عملًا صالحًا إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تُخَلَّف حتى ينتفع بك أقوام ويضرَّ آخرون، اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). وأخرجه المزني أيضًا (¬3) عن الشافعي، عن سفيان، عن الزهري بالإسناد، وقال فيه: "مرضت عام الفتح مرضًا أشرفت منه على الموت" وخالف فيه سفيان جميع الرواة فقال: "عام الفتح" وإنما هو حجة الوداع. ¬

_ (¬1) البخاري (4409). (¬2) مسلم (1628). (¬3) انظر المعرفة (5/ 91).

قال الشافعي -رضي الله عنه- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد أغنى عما قال مَنْ بَعْدَه في الوصايا، وذلك أن بَيِّنًا في كلامه أنه إنما قصد اختيار أن يترك الموصي ورثته أغنياء، فإن تركهم أغنياء أجزت له أن يستوعب الثلث، وإذا لم يدعهم أغنياء كرهت له أن يستوعب الثلث. قال: وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الثلث والثلث كثير -أو كبير- يحتمل الثلث غير قليل، وهو أولى معانيه؛ لأنه لو كرهه لسعد لقال له غض عنه. وقد أخرج المزني، عن الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه؛ يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة". وفي رواية عن سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حق امرئ مسلم يوصي الوصية وله مال يوصي فيه؛ يأتي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). قال الشافعي: ويجب هذا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله تبارك وتعالى جعل أمره - صلى الله عليه وسلم - الرشيد المبارك المحمود المبدأ والعاقبة. وقال الربيع: قال الشافعي -رضي الله عنه- فيما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية: أن قوله: "ما حق امرئ" يحتمل: ما لامرئ أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده. ويحتمل: ما المعروف في الأخلاق إلا هذا، لا من وجه الفرض. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم، عن مالك، عن هشام ¬

_ (¬1) البخاري (2738). (¬2) مسلم (1627).

بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: "أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: [إن أمي] (¬1) افْتُلِتَتْ نَفْسُها، وأراها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فتصدق عنها". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) وأبو داود (¬4) والنسائي (¬5). وقوله: "افْتُلِتَتْ نَفْسُها" كناية عن موت الفجأة كأن روحها أخذت فلتة. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم عن سعيد بن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جده قال: "خرج سعد بن عبادة في بعض مغازيه وحضرت أمه الوفاة بالمدينة، فقيل لها: أوصي. قالت: فيمَ أوصي؟ إنما المال مال سعد. فتوفيت قبل أن يقدم سعد، فلما قدم سعد ذُكر ذلك له، فقال سعد: يا رسول الله، هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم. فقال سعد: حائط كذا وكذا صدقة عنها، لحائط سماه". هذا الحديث أخرجه الموطأ (¬6) والنسائي (¬7). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم، عن مالك، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، أنه حدثه: "أن أمه أرادت أن توصي، ثم أخرت ذلك إلى أن تصح، ثم هلكت، وقد كانت همت بأن تعتق، قال عبد الرحمن: فقلت للقاسم بن محمد: أينفعها أن أعتق عنها فقال القاسم: [إن سعد بن] (¬8) عبادة ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 103) ومصادر التخريج. (¬2) البخاري (2760). (¬3) مسلم (1004). (¬4) أبو داود (2881). (¬5) النسائي (3649). (¬6) الموطأ (1450). (¬7) النسائي (3650). (¬8) في "الأصل": بن لأبي سفيان إن. وهو تحريف، والمثبت من المعرفة (5/ 105).

قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي هلكت، فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [نعم] (¬1) ". قال الشافعي: وبهذا نأخذ، وقد أعتقت عائشة -رضي الله عنها- عن أخيها ومات عن غير وصية. قال الشافعي -رضي الله عنه- أرجو أن يوصل الله تعالى إلى الميت خير العتق والأجر، ولا يُنْقِص حظ الحي، والعتق ليس كغيره؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الولاء لمن أعتق"، والحي هو المُعْتِق بلا أمر من الميت. قال الشافعي: يلحق الميت من فعل غيره عنه وعمله ثلاث: حج يؤدى عنه، ومال يتصدق به عنه أو يقضى، ودعاء. ... ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" و"الموطأ".

كتاب قسم الفئ والغنيمة

كِتَابُ قسْم الْفَيْء وَالْغَنِيمَةِ أخبرنا الشافعي -رحمه الله- قال: سمعت ابن عيينة، عن الزهري، أنه سمع مالك ابن أوس بن [الحدثان] (¬1) يقول: "سمعت عمر بن الخطاب والعباس وعلي يختصمان إليه في أموال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون المسلمين، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق منها على أهله نفقةَ سَنَةٍ، فما فضل جعله في الكراع والسلاح عُدة في سبيل الله، ثم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوليها أبو بكر بمثل ما وليها رسول الله، ثم وليتها بمثل ما وليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق، ثم سألتماني أن أوليكماها فوليتكماها على أن تعملا فيها بمثل ما وليها [به] (¬2) رسول الله ثم وليها به أبو بكر ثم وليتها به فجئتماني تختصمان؟! أتريدان أن أدفع إلى كل واحد منكما نصفًا؟ أتريدان مني قضاء غير ما قضيت به بينكما أولاً؟ فلا والذي بإذنه تقوم السموات والأرض لا أقضي بينكما قضاء غير ذلك، فإن عجزتما عنها فادفعاها إليَّ أكفكماها". قال الشافعي: فقال لي سفيان: لم أسمعه من الزهري ولكن أخبرنيه عمرو ابن دينار، عن الزهري. قلت: كما قصصت؟ قال: نعم. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة، وأخرجوه أطول من هذا وأتم، وفيه زيادة تتضمن ذكر ما جرى بين عليّ والعباس من المنازعة والخطاب عند عمر. ¬

_ (¬1) في "الأصل": الحارث، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" (4/ 139) والمعرفة (5/ 112) ومصادر التخريج. (¬2) في "الأصل": فيه، والمثبت من المصادر السابقة.

فأما البخاري فأخرجه (¬1) عن إسحاق بن محمد الفروي، عن مالك. وأما مسلم فأخرجه (¬2) عن قتيبة ومحمد بن عباد وأبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري. ولهما روايات لهذا الحديث طويلة وقصيرة. وأما أبو داود فأخرجه (¬3) عن الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك بن أنس، عن الزهري. وأما الترمذي فأخرجه (¬4) عن الحسن بن علي، عن بشر بن عمر، عن مالك، عن الزهري، وذكر طرفًا من أول الحديث، ثم قال: في قصة طويلة. وأما النسائي فأخرجه (¬5) عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس بن الحدثان. وقد أخرج مالك في الموطأ طرفًا إلى قوله: "عدة في سبيل الله". "الواو" في قوله: "والعباس" "واو" الحال والجملة من الكلام مبتدأ وخبر. وقوله: "في أموال النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد الأموال التي خلفها من القرى والنخل مما أفاء الله عليه من بني النضير وخيبر وفَدَك، ولم يرد به الذهب والفضة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلف دينارًا ولا درهمًا، وكل ما يغني ويتمول يسمى مالاً في الغالب. والفيء هو ما وصل إلى المسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا قتال، ¬

_ (¬1) البخاري (3094). (¬2) مسلم (1757). (¬3) أبو داود (2963). (¬4) الترمذي (1610). (¬5) النسائي (4148).

وقد فسره بقوله: "مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب". و"الإيجاف" ضرب من السير، تقول: وَجَفَ البعير والفرس يَجِفُ وَجفًا وَوَجيفًا، وأوجفته أنا إيجافًا: أي حملته على السير. قال الله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} (¬1) يريد ما أعملتم على تحصيله خيلًا ولا إبلًا. و"الكراع" اسم لجماعة الخيل، قال الأزهري: قال الليث: الكراع اسم لجميع الخيل، والكراع الخيل نفسها. و"الباء" في قوله: "بمثل" يحتمل أن تكون "باء" التشبيه، أي وليتها بالأمر الذي وليها، وهو الإمارة والحكم على المسلمين، ويحتمل أن يكون التقدير: ثم وليتها عاملًا بما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر. وقوله: "بإذنه تقوم السموات والأرض"، استقامتها وثباتها واستقرارها على حالتها. قال الشافعي -رضي الله عنه-: ومعنى قوله: "فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة" يريد به ما كان يكون للموجفين؛ وذلك أربعة أخماس الغنيمة. قال: وقد مضى من كان ينفق عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم أعلم أن أحدًا من أهل العلم قال: لورثتهم تلك النفقة التي كانت لهم، ولا يخالف في أن يجعل تلك النفقات حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجعل فضول غلات تلك الأموال مما فيه صلاح الإسلام وأهله. ¬

_ (¬1) سورة الحشر، آية رقم (6).

وقال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬1). وقال: {مَا أَفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬2). قال الشافعي -رضي الله عنه- فالغنيمة والفيء يجتمعان في أن فيهما معًا الخمس من جميعهما، لمن سماه الله تعالى له في الآيتين معًا، ثم (يفرق) (¬3) الحكم في الأربعة الأخماس بما بين الله تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفي فعله؛ فإنه قسم أربعة (أقسام) (¬4) الغنيمة. والغنيمة: [هي] (¬5) الموجف عليها بالخيل والركاب لمن حضر من غني وفقير. والفيء: هو ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القرى التي أفاء الله عليه: أن أربعة أخماسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون المسلمين، يضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أراه الله عز وجل. وتفصيل المذهب: أن الفيء يقسم خمسة أقسام، فقسم منها يقسم خمسة أقسام للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة أقسام لرسول الله خاصة فيكون له من الفيء أربعة أخماس وخمس خمس، وهو أحد وعشرون سهمًا من خمسة وعشرين سهمًا، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتقل السهم الذي كان له من الخمس إلى المصالح، وأما الأربعة الأخماس ففيها ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، آية رقم (41). (¬2) سورة الحشر، آية رقم (6). (¬3) كذا في "الأصل"، وفي "الأم" (4/ 139): يتعرف. (¬4) كذا في "الأصل"، وفي "الأم" (4/ 139): أخماس. (¬5) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" والمعرفة (5/ 111).

قولان: أحدهما: أنها انتقلت إلى الغزاة المرصدين للجهاد. والثاني: أن ترصد لمصالح المسلمين كخمس الخمس، وذلك بأن تصرف إلى الغزاة والقضاة وأهل العلم وبناء المساجد والقناطر والسقايات ونحو ذلك. قال أبو حنيفة: الفيء لا يخمس ويصرف جميعه مصرف الخمس. وقد قال الشافعي أيضًا: وجملة الفيء ما رَدَّ الله على المسلمين، من المشركين بغير قتال، مثل ما انجلوا عنه فزعًا من المسلمين، ومثل الجزية والخراج والعشور من تجاراتهم، وجميع ذلك يخمس. وقال في القديم: لا يخمس إلا ما انجلوا عنه فزعًا من المسلمين، ولا يخمس الخراج والجزية، وأما ما كان من الفيء مما لا ينقل ويحول كالدور والأراضي فقد نص الشافعي -رضي الله عنه- أنه يصير وقفًا على من تقدم ذكره من المستحقين، وفي سهم ذوي القربى وجه أنه لا يكون وقفًا عليهم بل هو ملكهم يتصرفون فيه وكما يختارون، وأما قسمة الغنائم فَسَتَرِدُ في موضعها؛ فإن مساق هذا الحديث هو لقسمة الفيء. ثم أخرج الشافعي -رضي الله عنه- مؤكدًا لذلك عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نورث , ما تركنا فهو صدقة" قال: "وسمعت عمر بن الخطاب ينشد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير فقال: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السموات والأرض أسمعتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما نورث، ما تركناه صدقة؟ قالوا: نعم". وأخرج هذا المعنى أيضًا من حديث أبي هريرة، وقد تقدم ذكره في كتاب الفرائض، والله أعلم.

وأخبرنا الشافعي - رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو جاءني مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يأته، فجاء أبو بكر، فأعطاني حين جاءه". قال الربيع: بقية الحديث: حدثني غير الشافعي من قوله، قال: "لو جاءني". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم. أما البخاري (¬1) فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان وعن عمرو ابن دينار عن محمد بن علي، عن جابر، ولفظهما أتم. ونحن نذكر بعض روايات مسلم (¬2): قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو جاء مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا، فلم يجئ مال البحرين حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر: فنادى من كان له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عدة أو دين فليأتنا، فأتيته فقلت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لي: كذا وكذا. فحثا لي حثية فعددتها فإذا هي خمسمائة فقال: خذ مثلها". زاد في رواية: "أن جابرًا قال مرة: فأتيت أبا بكر فسألته فلم يعطني، ثم أتيته فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة فقلت: سألتك فلم تعطني، فإما أن تعطيني وإما أن تبخل عني. قال: [قلت: تبخل على؟!] (¬3) ما منعتك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك. قال ابن المنكدر: وأي داء أدوى من البخل". ¬

_ (¬1) البخاري (4383). (¬2) مسلم (2314) والألفاظ المذكورة ليست ألفاظ مسلم، وإنها هي ألفاظ روايات البخاري. (¬3) سقط من "الأصل"، والمثبت من صحيح البخاري (3137).

قوله: "هكذا وهكذا" يريد ملء كفيه مرتين، كأنه قد أشار إليه بكفيه جميعًا مرتين أو ثلاثًا، وأراد الشافعي من هذا الحديث أن الفيء لرسول الله خالصًا, ولذلك وعد جابرًا منه بما وعد خاصًّا دون غيره، حيث كان له خالصًا يتصدق منه كما يريد، ويؤثر منه واحدًا دون واحدٍ. وقول الربيع:- "بقية الحديث حدثني غير الشافعي" [أي أن الشافعي] (¬1) أخرج بعضه، "وتمامه سمعته من غيره"، وكأنه يريد ببقيته: تمام ما ذكرناه من رواية مسلم (¬2) والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، عن مالك بن أوس، أن عمر بن الخطاب قال: "ما أحد إلا وله في هذا المال حق، أُعْطِيَهُ أو مُنِعَهُ إلا ما ملكت أيمانكم". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، [عن محمد] (¬3) ابن المنكدر، عن مالك بن أوس، عن عمر بن الخطاب نحوه وقال: "فلئن عشت ليأتين الراعي بسر وحمير حقه". قوله: "أعطيه أو منعه" يريد أن المسلمين جميعهم لهم فيما أفاء الله عليهم حق ونصيب، سواء أعطاه متولي المال فإنه يكون قد أعطاه حقه، وإن منعه المتولي [فإنه يكون قد منعه حقه] (¬4) ثم استثنى الأرقاء. وقوله: "ليأتين الراعي بسر وحمير حقه" ذكر ذلك مبالغة في عدله وإنصافه، وإيصاله كل ذي حق إلى مستحقه وإن بعدت المسافة فيما بينه وبينه، وإن كان ذو الحق قويًّا أو ضعيفًا، أو شريفًا أو دنيئًا، فلذلك قال: "الراعي" ¬

_ (¬1) ليست في الأصل. (¬2) قد ذكرنا قريبًا أن هذه الألفاظ من رواية البخاري لا مسلم والله أعلم. (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من مسند الشافعي (1/ 325)، و"المعرفة" (5/ 162). (¬4) ليست في "الأصل".

مبالغة. قال الشافعي: يحتمل هذا الحديث معاني، منها: أن يقول: ليس لأحد أن يُعطى -بمعنى حاجة من أهل الصدقة أو بمعنى أنه من أهل الفيء الذين يغزون- إلا وله حق في مال الفيء أو الصدقة، وهذا كأنه أولى معانيه. واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة: "لا حَظَّ فيها لغني ولا لذي مرة مكتسب". وقيل: أراد به الفقراء والمحتاجين، كأنه قال: ما من أحد محتاج. وقيل: أراد به أن مال بيت المال يكون فيه حق لجماعة المسلمين، فمنهم من يستحق الصدقة، ومنهم من يستحق الفيء، ومنهم من يستحق الخمس، فصرف إليه في مصالحه، قيل: أراد به العموم، فكأنه ما يُعْطَى المجاهدون فهو حق لهم ولغيرهم ممن يسقط عنه الفرض بجهادهم ويكفى شر العدو بهم، والصدقة تصرف إلى الفقراء فيكون فيها نفع الأغنياء لأنهم يكتفون بها عن الاضطرار إلى أموالهم. قال: والذي أحفظ عن أهل العلم: أن الأعراب لا يعطون من الفيء، وأهل الفيء كانوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعزل عن الصدقة، وأهل الصدقة كانوا بمعزل عن الفيء. ورواه المزني عن ابن عباس. وتفصيل المذهب: أن الأربعة الأخماس من الفيء تقسم على مستحقيها من الرجال البالغين الأحرار المقاتلة؛ لأن من ليس ببالغ ليس من أهل القتال، فيحضر فرسانهم ورجالتهم فيفرق ذلك عليهم بقدر كفايتهم، ويختلفون في مبلغ العطاء لاختلاف أسعار البلاد، ولا بأس أن يعطي الرجل منهم أكثر من كفايته.

وأما المماليك فليس لهم فيه، وقد اختلفت الصحابة -رضي الله عنهم- فكان أبو بكر الصديق يسوي في العطاء، ويدخل فيه العبيد، حتى قال له عمر: يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا ديارهم كمن إنما دخلوا في الإسلام كرهًا؟ قال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ وخير البلاغ أَوْسَعُهُ. فلما [ولي] (¬1) عمر فاضل بينهم وأخرج العبيد، [فلما ولي علي سوى بينهم وأخرج العبيد] (1) واختار الشافعي مذهب علي. وأما الأعراب الذين هم أهل الصدقات فليس لهم فيه سهم، يريد بذلك من لم يكن أعد نفسه للجهاد، وإنما ينفر ما إذا نشط لذلك ثم يعود إلى شغله وموضعه فإن هؤلاء لا يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات، ولا حق لهم في الفيء. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر قال: "عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فَرَدَّني، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني". قال نافع: فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز، فقال: "هذا فرق بين المقاتلة والذَّرِّيَّة وكتب أن يفرض لابن خمس عشرة في المقاتلة، و [من] (¬2) لم يبلغها في الذرية". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري فأخرجه عن عبيد الله بن إسماعيل (¬3)، عن أبي أسامة. وعن يعقوب الدورقي (¬4)، عن يحيى، عن عبيد الله بن عمر. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المغني (6/ 320). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 163). (¬3) البخاري (2664) وفيه عبيد الله بن سعيد بدلاً من عبيد الله بن إسماعيل، ونبه الحافظ في الفتح على هذا الخلاف، ورجح أن الصواب هو عبيد الله بن إسماعيل أبو قدامة السرخسي. (¬4) البخاري (4097).

وأما مسلم فأخرجه (¬1)، عن ابن [نمير] (¬2)، عن أبيه، وعن أبي بكر [عن عبد الله] (¬3) بن إدريس وعبد الرحيم بن سليمان وعن ابن المثنى، عن عبد الوهاب، كلهم عن عبيد الله. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن أحمد بن حنبل، عن يحيى، عن عبيد الله ولم يذكر قول نافع لعمر بن عبد العزيز. وأما الترمذي [عن محمد بن الوزير الواسطي، عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن عبيد الله بن عمر. وأما النسائي] (¬5) فأخرجه (¬6) عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، عن عبيد الله ابن عمر. والشافعي استدل بهذا الحديث على أن العطاء الواجب لا يكون إلا للبالغ العاقل الحر الذي [يطيق]، (¬7) مثله القتال، فأما من عدا هؤلاء فلا يفرض لهم في المجاهدين؛ لأنهم ليسوا من أهل الجهاد، ولهذا لا يستحقون السهم مع المجاهدين إذا حضروا في القتال، وهذا الحديث هو فصل ما بين الصغير والكبير. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر محمد بن علي: "أن عمر بن الخطاب لما دون الدواوين قال: بمن ترون أن أبدأ؟ فقيل له: ابدأ بالأقرب فالأقرب بك. قال: بل أبدأ بالأقرب فالأقرب برسول الله - صلى الله عليه وسلم -". ¬

_ (¬1) مسلم (1868). (¬2) في "الأصل": عمير وهو تحريف، والمثبت من صحيح مسلم. (¬3) وليست في "الأصل" والمثبت من صحيح مسلم. (¬4) أبو داود (2957)، (4406). (¬5) سقط من الأصل والمثبت من جامع الترمذي (1361، 1711) وانظر الأطراف للمزي (8153). (¬6) النسائي (3431). (¬7) في "الأصل": لا يطيق. وهو خطأ والصواب حذف "لا".

قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرني غير واحدٍ من أهل العلم من قبائل قريش: "أن عمر بن الخطاب لما كثر المال في زمانه أجمع على أن يُدَوِّن الدواوين، فاستشار فقال: بمن ترون أبدأ؟ فقال له رجل: [ابدأ بالأقرب فالأقرب بك، فقال: [ذكرتموني] (¬1) [بل] (¬2) أبدأ بالأقرب فالأقرب برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبدأ ببني هاشم". قال: وأخبرني غير واحد من أهل العلم والصدق من أهل المدينة ومكة من قبائل قريش وغيرهم، وكان بعضهم أحسن اقتصاصًا للحديث من بعض، وقد زاد بعضهم على بعض في الحديث: "أن عمر -رضي الله عنه- لما دَوّن الدواوين قال: أبدأ ببني هاشم، ثم قال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطيهم، وبني المطلب، فإذا كانت السن في الهاشمي قدمه على المطلبي، وإذا كانت في المطلبي قدمه على الهاشمي، فوضع الديوان على ذلك، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة، ثم استوت له [بنو عبد] (¬3) شمس ونوفل في جذم النسب، فقال: عبد شمس أخوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه وأمه دون نوفل فقدمهم، ثم دعا بني نوفل يتلونهم، ثم استوت له عبد العزي [وعبد الدار فقال: في بني أسد ابن عبد العزى] (¬4) أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيهم أنهم من المطيبين". وقال بعضهم: [وهم من] (4) حلف من الفضول (ومنهما) (¬5) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد قيل: ذكر سابقة فقدمهم على بني عبد الدار [ثم دعا بني عبد الدار] (¬6) يتلونهم ثم انفردت له زهرة فدعاها تتلو عبد الدار، ثم استوت له [بنو] (6) تيم ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) سقط من الأصل، والمثبت من "المعرفة" (5/ 169). (¬3) في "الأصل": عند، والمثبت من "الأم" (4/ 158)، وفي "المعرفة" (5/ 170): عبد. (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" و"المعرفة". (¬5) كذا في "الأصل"، وفي "الأم": وفيهم، وفي "المعرفة": فيهما. (¬6) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم".

ومخزوم، فقال في بني تيم: إنهم من حلف الفضول ومن المطيبين، (ومنهما) (¬1) كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: ذكر سابقة. وقيل: ذكر صهرًا فقدمهم على مخزوم، ثم دعا مخزومًا يتلونهم. ثم استوت له سهمٌ وجمعٌ وعدي بن كعب، فقيل: ابدأ بعدي، فقال: بل أقر نفسى حيث كنت؛ فإن الإسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد، ولكن انظروا بني جمح وسهم، فقيل: قدم بني جمح. ثم دعا بني سهم وكان ديوان سهم وعدي مختلطًا كالدعوة الواحدة، فلما خلصت إليه دعوته كبر تكبيرة عالية، ثم قال: الحمد لله الذي أوصل إلي حظي من رسوله، ثم دعى بني عامر بن لؤي، فقال بعضهم: إن أبا عبيدة بن عبد الله ابن الجراح لما رأى من تَقَدَّم عليه قال: أكل هؤلاء تدعو أمامي؟! فقال: يا أبا عبيدة اصبر كما صبرت أو كلم قومك، فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك -إن أحببت- على أنفسنا. وشجر بين بني سهم وعدي في زمان المهدي فافترقوا، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح؛ للسابقة فيهم. قال الشافعي: وإذا فرغ من قريش قدمت الأنصار على قبائل العرب كلها؛ لمكانها من الإسلام، فإن الناس عباد الله فأولاهم أن يكون مقدمًا أقربهم بخيرة الله لرسالاته، ومستودع [أمانته] (¬2) وخاتم النبيين وخير خلق [رب] (¬3) العالمين محمد - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل", وفي "الأم": وفيهما. (¬2) في "الأصل": إمامته، والمثبت من "الأم"، و"المعرفة". (¬3) سقط من الأصل، والمثبت من "الأم" و"المعرفة".

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مطرف بن مازن، عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: "لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[سهم] (¬1) ذوي القربى بين بني هاشم و [بني] (¬2) المطلب، أتيته أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله [به] (1) منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب؟ أعطيتهم وتركتنا -أو منعتنا- وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا، وشَبَّكَ بين أصابعه". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا -أحسبه قال-: داود بن عبد الرحمن العطار، عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن جبير بن مطعم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن [ابن] (¬3) المسيب، عن جبير بن مطعم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل معناه. قال الشافعي: فذكرت ذلك لمطرف بن مازن [أن يونس ومحمد بن إسحاق رويا حديث ابن شهاب عن [ابن] (¬4) المسيب قال: حدثني معمر كما وصفت، فلعل ابن شهاب رواه عنهما معًا. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن جبير ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 146)، و"المعرفة" (5/ 147). (¬2) في "الأصل": بين، والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) سقط من "الأصل" والمثبت من المصادر السابقة. (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من الأم (4/ 147)، والمعرفة (5/ 148).

ابن مطعم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى بين بني هاشم و [بني]، (¬1) المطلب، ولم يعط أحدًا من بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئًا". هذا حديث صحيح أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. فأما البخاري (¬2) فأخرجه (¬3) عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن جبير. وعن ابن بكير (¬4)، عن الليث، عن يونس، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن جبير. وأما أبو داود فأخرجه (¬5) عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة، عن عبد الرحمن ابن مهدي، عن عبد الله بن المبارك. عن يونس، عن الزهري، عن ابن المسيب. وأما النسائي (¬6) فأخرجه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، عن سعيد بن يحيى، عن نافع بن يزيد، عن يونس، عن الزهري، عن ابن المسيب. قوله: "إنما قرابتنا وقرابتهم واحدة" يريد أنهم بنو أب واحدٍ وفي درجة [واحدة] (¬7) لأن عبد مناف أولد هاشمًا والمطلب وعبد شمس ونوفل، فجعل ¬

_ (¬1) في "الأصل": بين، والمثبت من المصادر السابقة. (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من الأم (4/ 147)، والمعرفة (5/ 148). (¬3) البخاري (3140). (¬4) البخاري (4229). (¬5) أبو داود (2978). (¬6) النسائي (4136). (¬7) ليست في "الأصل".

النبي - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى لبني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل، فلذلك قالوا له: إن هاشمًا شرفوا بمكانك منهم والمطلب، ونحن ندلي إليك بنسب واحد ودرجة واحدة فبمَ فضلتهم علينا؟ فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب واحد وشبك بين أصابعه"؛ تأكيدًا لامتزاج بعضهم ببعض، وقال: "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام" وقال: "ربونا صغارًا وحملونا كبارًا". قالوا: إنما قال ذلك؛ لأن هاشم بن عبد مناف تزوج بالمدينة سلمى بنت عمرو بن لبيد بن حرام من بني النجار، فولدت له شيبة الحمد جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واسمه عامر، ثم توفي هاشم [وهو معها] (¬1) فلما أيفع وترعرع خرج عليه عمه المطلب بن عبد مناف، فأخذه من أمه فقدم به مكة وهو يردفه على راحلته، فقيل: هذا عبد مَلكَه المطلب، فغلب عليه ذلك الاسم فقيل عبد المطلب، ولما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آذاه قومه وهموا به، فقامت بنو هاشم وبنو المطلب مسلمهم وكافرهم دونه، وأَبَوْا أن يسلموه، فلما عرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - معهم؛ اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم علي بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، وعمد أبو طالب فأدخلهم الشعب، وأقامت قريش على ذلك ثلاث سنين حتى جهد بنو هاشم وبنو المطلب جهدًا شديدًا، ثم إن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرضة فلم تدع فيها اسمًا لله إلا أكلته، وبَقِيَ فيها الظلم والقطيعة والبهتان، وأخبر الله بذلك رسوله، فأخبر به عمه أبا طالب، فقام هشام بن عمرو بن ربيعة في جماعة بنقض ما في الصحيفة وشقها، فلهذا السبب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد؛ لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام". وكان يحيى بن معين يرويه: "إنما هاشم وبنو المطلب سِيِّئ واحد" بسين مهملة ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من السنن الكبرى للبيهقي (6/ 365).

مكسورة، وياء مشددة، والسيء المثل، يقال هذا سيء هذا أي مثله وشبهه والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن خمس الفيء والغنيمة يقسم على خمسة: سهم للنبى - صلى الله عليه وسلم -[وسهم] (¬1) لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. وحكي عن أبي العالية الرياحي أنه يقسم على ستة؛ لقول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2) فجعل لله نصيبًا، وقال: يُصرف في رتاج الكعبة. وقال مالك فيما حكي عنه: إن الخمس للإمام يصرفه حيث رأى. وقال أبو حنيفة: الفيء الخمس، ويصرف جميعه مصرف الخمس، وأما خمس الغنيمة فإن سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقط بموته، وأما سهم ذوي القربى فمن أصحابه من قال: سقط بموت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم استحقوه لنصرته. ومنهم من قال: يستحقه فقراء ذوي القربى، فعلى مذهب الشافعي أن الخمس يقسم خمسة أقسام فسهم ذي القربى يشترك فيه الغنى منهم والفقير، والذكر والأنثى، والكبير والصغير, ويفضل الذكر على الأنثى كالميراث، وقال المزني وأبو ثور: لا يفضل. وأما باقي أقسام الخمس فسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تقدم ذكر مصرفه بعد موته، والأسهم الثلاثة الباقية تصرف إلى مستحقيها وهم اليتامى، واليتيم من لم يبلغ الحلم ولا أب له ولا مال، هذا هو المشهور. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) سورة الأنفال، الآية رقم (41).

وحكي أن فيه قولًا آخر، وهو: يقسم على الفقراء والأغنياء، والمساكين يدخل معهم الفقراء وابن السبيل المسافر، وسواء كان مستديمًا للسفر أو مبتدئًا به. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن علي بن الحسين، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[مثله] (¬1) وزاد: "لعن الله من فرق بين بني هاشم وبني المطلب". قوله: "مثله" يعني مثل حديث معمر، عن ابن شهاب، عن ابن جبير بن مطعم، وقد تقدم قبل هذا. وقد روى الشافعي لهذا الحديث رواية أخرى أبسط من هذا، عن عمه محمد ابن علي، قال: سمعت زيد بن علي بن حسين يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا [لم يفارقونا] (¬2) في جاهلية ولا إسلام، وأعطاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[سهم] (¬3) ذي القربى دون بني عبد شمس وبني نوفل. قال الشافعي: فلما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني هاشم وبني المطلب سهم ذوي القربى؛ دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن ذوي القربى الذين جعل الله لهم سهمًا من الخمس: بنو هاشم وبنو المطلب، دون غيرهم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن مطر الوراق ورَجل لم يسمه، كليهما عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: "لقيت عليًّا (كرم الله وجهه) (¬4) عند أحجار الزيت، فقلت له: ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 150) والأم (4/ 147). (¬2) في "الأصل": لما يفارقوا، والمثبت من المعرفة (5/ 150). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬4) ليست في "الأم"، ولا "المعرفة".

بأبي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس؟ فقال علي: أما أبو بكر رحمه الله فلم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد وافاناه. وأما عمر -رضي الله عنه- فلم يزل يعطيناه حتى جاءه مال السوس والأهواز أو قال: الأهواز -أو قال: فارس أنا أشك يعني الشافعي فقال في حديث مطر أو حديث الأغر- فقال: في المسلمين خلة، فإن أحببتم تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم منه؟ فقال العباس لعلي بن أبي طالب: لا تُطْمِعْه في حقنا. فقلت له: يا أبا الفضل، ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خلة المسلمين؟ فتوفي عمر بن الخطاب قبل أن يأتيه مال [فيقضيناه] (¬1) ". وقال الحكم في حديث مطر الوراق والآخر: إن عمر بن الخطاب قال: "لكم حق ولا يبلغ علمي إذْ كثر أن يكون لكم كله فإن شئتم أعطيتكم بقدر ما أرى لكم، فأبينا عليه إلا كله، فأبى أن يعطينا كله". "أحجار الزيت" موضع معروف بالمدينة يومئذ. و"أهل البيت" منصوب على النداء، تقديره: يا أهل البيت. فحذف حرف النداء. وقوله: "حقكم" يريد ما تستحقونه من الخمس وما هو حق لكم ثابت. وقوله: "لم يكن في زمان أبى بكر أخماس" يريد أنه لم يكن في زمان أبي بكر غنائم ولا فتح بلاد والذي كان في زمانه منها قد أوصل إلينا نصيبنا. و"الخلة" بفتح الخاء: الحاجة والفقر، فلذلك قال لهم: "إن أحببتم تركتم حقكم" فأورد هذا اللفظ في معنى الفرض عليهم والمشورة ورده إلى رأيهم وإيثارهم، ثم لم يَكْفِ أنه رده إلى رأيهم ومحبتهم حتى جاء بلفظه: "حقكم" ¬

_ (¬1) في "الأصل": فقضيناه، والمثبت من "الأم" (4/ 148)، والمعرفة (5/ 153).

فاعترف لهم أنه حقهم وأنهم إنما يتركون حقهم إن أحبوا رعاية للمسلمين وتكرمًا عليهم وإحسانًا إليهم وإيثارًا لهم بحقهم على أنفسهم، وهذا من محاسن الخطاب وألطف الطرق في تحصيل المفاسد والأغراض. وقوله: "حتى يأتينا مال" متعلق بقوله: "فإن أحببتم أن تتركوا حقكم" التقدير: تتركوه إلى أن يجيئنا مال، وهو متعلق بقوله: "فجعلناه في خلة المسلمين إلى أن يجيئنا مال" والأول أحسن. وقوله: "ولا لا يبلغ علمي إذْ كثر أن يكون لكم كله" كأن عمر ظن أن الخمس إنما جعله الله تعالى لهم لحاجتهم وفقرهم. وقد اختلف الناس في علة جعله لهم، فقال قوم: للفقر والحاجة. وقال قوم: لما منعوا الزكاة وحرمت عليهم جعل لهم الخمس عوضًا عنه. وقال قوم: إنما جعل لهم خاصة؛ لقربهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتشريفًا لهم على غيرهم. فعمر غلب على ظنه أنما أعطاهم للحاجة، ولما كثرت الفتوح والغنائم والفيء صار نصيبهم من الخمس كثيرًا أكثر مما يحتاجون إليه، فغلب على ظنه أنهم لا يستحقونه كله، وإنما يستحقون منه بقدر حاجتهم وكفايتهم. وهذا فيه بعد؛ لأن الذي جعل لهم النصيب كان عالمًا حيث جعله لهم بالسبب المقتضي لجعله لهم، وكان عالمًا أنه سيكثر ويتضاعف، ولم يزل عالمًا كما كان عالمًا بما كان وما يكون، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فلو أن السبب كان الحاجة والفقر؛ كان مقدَّرًا مخصوصًا مُعَيَّنًا، وإنما عمر -رضي الله عنه- اجتهد، فغلب على ظنه ذلك، فقال: "ولا يبلغ [علمي] (¬1) إذ كثر أن يكون لكم كله" وعليٌّ وجماعة مستحقي النصيب كانوا ¬

_ (¬1) في "الأصل": علي على، وهو تحريف.

على يقين من استحقاقهم جميع النصيب بالغًا ما بلغ؛ فلذلك قال: "فأبينا عليه إلا كله، فأبى أن يعطينا كله". وهذا الحديث أورده الشافعي في معرض المعارضة على بعض من كلمه في هذه المسألة، ونحن نحكي مختصرًا من كلامه: قال الشافعي -رضي الله عنه- وقال بعض الناس: ليس لذي القربى من الخمس شيء؛ فإن ابن عيينة روى عن محمد بن إسحاق قال: "سألت أبا جعفر محمد بن علي، ما صنع علي في الخمس؟ قال: سلك به طريق أبى بكر وعمر، وكان يكره أن يؤخذ عليه خلافهما". فكان هذا القول يدل على أنه كان يرى فيه رأيًا خلاف رأيهما، فاتبعهما. قال الشافعي: فقلت له: هل علمت أبا بكر قسم على العبد والحُرِّ وسوى بين الناس، وقسم عمر فلم يجعل للعبيد شيئًا وسوى بين الناس؟ قال: نعم. قلت: أفتعلمه خالفهما؟ قال: نعم. قلت: أو تعلم [أن] (¬1) عمر قال: لا تباع أمهات الأولاد و [خالفه] (¬2) علي؟ قال: نعم. قلت: أو تعلم [أن] (1) عليًّا خالف أبا بكر في الجد؟ قال: نعم. قلت: فكيف جاز [لك] (¬3) أن يكون هذا الحديث عندك على ما وصفت من أن عليًّا رأى غير رأيهما وتبعهما وبَيِّنٌ عندك أنه قد يخالفهما فيما وصفنا وفي غيره؟ قال: فما قوله: أسلك به (في طريق) (¬4) أبى بكر وعمر؟ قلنا: هذا الكلام جملة يحتمل معانِيَ. قال: فإن قلت: كيف صنع فيه علي؟ فذلك يدلني على ما صنع فيه أبو بكر وعمر. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 148)، و"المعرفة" (5/ 151). (¬2) في "الأصل": خلفه، والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) في "الأصل": ذلك، والمثبت من المصادر السابقة. (¬4) كذا في "الأصل"، و"المعرفة"، وحرف "في" ليس في "الأم" ولا في صدر هذا الحديث هنا.

قال الشافعي -رضي الله عنه-: أُخْبِرْنا [عن] (¬1) جعفر بن محمد، عن أبيه: "أن حسنًا وحسينًا وابن عباس وعبد الله بن جعفر سألوا عليًّا نصيبهم من الخمس، فقال: هو لكم حق، ولكني محارب معاوية، فإن شئتم تركتم حقكم فيه". في القديم: عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر. وقال في الجديد: فَأَخْبَرْتُ بهذا الحديث عبد العزيز بن محمد، فقال: صدق، هكذا كان جعفر يحدثه، أفما حدثكه عن أبيه عن جده؟ قلت: لا. قال: ما أحسبه إلا عن جده. قال الشافعي: فقلت له: أجعفر أوثق وأعرف بحديث أبيه أو ابن إسحاق؟ قال: بل جعفر، ثم قال: فإن الكوفيين قد رووا فيه عن أبي بكر وعمر شيئًا، أفعلمته؟ قال الشافعي: قلت: نعم، ورووا عن أبي بكر وعمر مثل قولنا. قال: وما ذاك؟ فذكر حديث ابن أبي ليلى هذا المذكور. ثم قال الشافعي: فكيف يقسم سهم ذي القربى وليست الرواية فيه عن أبي بكر وعمر [متواطئة] (¬2)؟ قال الشافعي: فقلت: [هذا] (¬3) قول من لا علم له؛ هذا الحديث يثبت عن أبي بكر أنه أعطاهموه وعمر حتى كثر المال، ثم اختلف عنه في الكثرة. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬2) في "الأصل": متطوية، والمثبت من "الأم" (4/ 148)، واعتمد محقق "المعرفة" على "الأم" أيضًا. وزاد في "الأم": وكيف يجوز أن يكون حقًّا لقوم ولا يثبت عنهما من كل وجه أنهما أعطياه عطاء بيِّنًا مشهورًا؟ (¬3) في "الأصل": هذا من. وحرف "من" ليس في المصادر السابقة.

وقلت: أرأيت مذهب أهل العلم في القديم والحديث إذا كان الشيء منصوصًا في كتاب الله مُبَيَّنًا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعله؛ أليس يستغنى به عن أن يسأل عما بعده؟ ويعلم أن فرض الله على أهل العلم اتباعه؟ قال: بلى. قلت: أفتجد سهم ذي القربى مفروضًا في آيتين من كتاب الله تعالى مبينًا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبفعله بأثبت ما يكون من أخبار الناس من وجهين: أحدهما: ثقة المخبرين. واتصاله وأنهم كلهم أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزهري من أخواله، وابن المسيب من أخوال أبيه، وجبير بن مطعم ابن عمه وكلهم قريب به في جذم النسب، وهم يخبرونك مع قرابتهم وشرفهم أنهم مخرجون منه وأن غيرهم مخصوص به، ويخبرك جبير أنه طلبه هو وعثمان فمنعاه، فمتى تجد سنة أثبت بفرض الكتاب وصحة للخبر وهذه الدلالات من هذه السنة التي لم يعارضها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معارض بخلافها؟ ثم أجرى في خلال كلامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى أبا الفضل العباس بن عبد المطلب وهو في كثرة المال يعول عامة بني طالب ويتفضل على غيرهم. قال الشافعي: ويفرق ثلاثة أخماس: الخمس على من سمى الله تعالى على اليتامى والمساكين وابن السبيل في بلاد الإسلام كلها, لكل صنف منهم سهمه. قال: وقد مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي [ماضيًا] (¬1) وصلى الله وملائكته عليه -واختلف أهل العلم عندنا في سهمه، فمنهم من قال: يرد على السِّهْمان التي ذكرها الله معه. ومنهم من قال: يضعه الإمام حيث رأى على الاجتهاد للإسلام وأهله. ومنهم من قال: يضعه في الكراع والسّلاح. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من الأم (4/ 147)، والمعرفة (5/ 157).

قال الشافعي -رضي الله عنه- والذي أختار: أن يضعه الإمام في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر، أو إعداد كراع أو سلاح، أو إعطائه أهل النبلاء في الإسلام وأهله، [نفلًا] (¬1) على ما صنع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى المؤلفة ونفل في الحرب وأعطى عام [خيبر] (¬2) نفرًا من أصحابه من المهاجرين والأنصار أهل حاجة وفضل، وأكثرهم أهل فاقة، نرى ذلك -والله أعلم- كله من سهمه. قال الشافعي في القديم: وقال قوم: سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لوالي الأمر من بعده، يقوم فيه مقامه، ورووا في ذلك رواية عن أبي بكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن فاطمة أتت أبا بكر تسأله ميراثها، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا أطعم الله نبيًّا طعمة فهي لوالي الأمر من بعده" وإنما اعتذر أبو بكر -رضي الله عنه- بما جاء في الأحاديث الثابتة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نورث، ما تركناه صدقة" وبه احتج الشافعي حيث جعل سهم الرسول للمسلمين، فإن كان ما رووه صحيحًا فيشبه أن يكون أراد به: كان ولايتها وأمرها للذي من بعده، يصرفها في مصالح المسلمين، والله أعلم. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم عن عبد العزيز بن محمد، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ شعرة من بعير فقال: ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس [والخمس] (¬3) مردود فيكم ولا مثل هذه الوبرة". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال -أخبرنا غير واحد من أهل العلم بأنه: ¬

_ (¬1) ليست في "لأصل"، والمثبت من الأم (4/ 147)، والمعرفة (5/ 157). (¬2) في "الأصل": حنين، والمثبت من "الأم"، و"المعرفة". (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من سنن البيهقي الكبرى (6/ 303) والمعرفة (5/ 144).

"لما قُدم [على] (¬1) عمر بن الخطاب بما أصيب بالعراق، قال له صاحب بيت المال: أنا أدخله بيت المال. قال: لا ورب الكعبة، لا يُؤوى تحت سقف بيت حتى أقسمه، فأمر به فوضع في المسجد، ووضعت عليه الأنطاع، وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار، فلما أصبح غدا معه العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن ابن عوف أخذ بيد أحدهما -أو أحدهما أخذ ييده- فلما رأوه كشطوا الأنطاع عن الأموال (فرأوا منظرًا لم يروا) (¬2) مثله، رأى الذهب فيه والياقوت والزبرجد واللؤلؤ يتلألأ فبكى، فقال له أحدهما: إنه والله ما هو بيوم بكاء، ولكنه يوم شكر وسرور فقال: إني والله ما ذهبت حيث ذهبت، ولكنه والله ما كثر هذا في قوم قط إلا وقع بَأْسُهُم بينهم، ثم أقبل على القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا؛ فإنى سمعتك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيثُ لا يَعْلَمُونَ} (¬3) ثم قال: أين سراقة بن جعشم؟ فأتي به، أشعر الذراعين رقيقهما، فأعطاه سواري كسرى فقال: البسهما، ففعل، فقال: قل الله أكبر. قال: الله أكبر. قال قل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابيَّا من بني مدلج، وجعل يقلب بعض ذلك بعضًا, فقال: إن الذي أدى هذا لأمين, فقال له رجل: أنا أخبرك، أنت أمين الله وهم يؤدون إليك ما أديت إلى الله، فإذا رتعت رتعوا، قال: صدقت. ثم فرقه". قال الشافع: إنما ألبسهما سراقة بن مالك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسراقة ونظر إلى ذراعيه: "كأني بك وقد لبست سواري كسرى" قال: ولم يجعل له إلا سوارين. وقال الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرني الثقة من أهل المدينة قال: "أنفق عمر ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 157)، و"المعرفة" (5/ 165). (¬2) في "الأم"، و"المعرفة": فرأى منظرًا لم ير. على الإفراد. (¬3) سورة القلم، آية (44).

ابن الخطاب على أهل الرمادة حتى وقع مطر (فرحلوا) (¬1) فخرج إليهم عمر راكبًا فرسًا ينظر إليهم وهم يترحلون بظعائنهم فدمعت عيناه، فقال رجل من بني محارب بن خصفة: أشهد أنها انحسرت عنك ولست بابن أمة، فقال له عمر: ويلك، ذلك لو كنت أنففت عليهم من مالي أو مال الخطاب؛ إنما أنفقت عليهم من مال الله عز وجل". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن إسحاق الأزرق، عن [عبيد] (¬2) الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب للفرس بسهمين وللفارس بسهم" وذكر في القديم [رواية] (¬3) أبي معاوية، عن [عبيد] (2) الله بن عمر بهذا الإسناد: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسهم للفارس ثلاثة أسهم؛ سهم له، وسهمان للفرس". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري، ومسلم وأبو داود، والترمذي. أما البخاري فأخرجه (¬4) عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله ابن عمر. وأما مسلم فأخرجه (¬5) عن يحيى بن يحيى وأبي كامل، عن سليم بن أخضر، عن عبيد الله بن عمر. وأما أبو داود فأخرجه (¬6) عن أحمد بن حنبل، عن أبي معاوية، [عن] (¬7) عبيد الله. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، وفي "الأم" (4/ 157) والمعرفة (5/ 167)، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 357): فترحلوا. (¬2) في "الأصل": عبد، والمثبت من "الأم" (1/ 144) و"المعرفة" (5/ 134). (¬3) تكررت في "الأصل". (¬4) البخاري (2862). (¬5) مسلم (1762). (¬6) أبو داود (2734). (¬7) سقط من "الأصل".

وأما الترمذي (¬1) فأخرجه عن أحمد بن [عبدة] (¬2) الضبي وحميد بن مسعدة، عن [سليم بن] (¬3) أخضر عن عبيد الله. وقوله: "ضرب للفرس بسهمين" أي جعل. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: "اضربوا لي معكم بسهم" أي اجعلوا، وافرزوا لي نصيبًا، وكأنه من ضرب اللِّبِن، أي اعملوا واصنعوا. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الفرس يقسم له من الغنيمة مثل قسمي صاحبه، وسواء كان الفرس عربيًّا أو برذونًا أو هجينًا أو مُقْرِفًا. فالعربي: ما كان أبواه عربيين. والبرذون: ما كان أبواه عجميين. والمُقْرِف: ما كانت أمه عربية وأبوه عجميًّا. والهجين: ما كانت أمه عجمية وأبوه عربيًّا. وقيل في المقرف والهجين بالعكس مما قيل فيهما وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال الأوزاعي: لا يسهم للبرذون، ويسهم للباقية. وقال أحمد: يسهم عدا عد العربي بسهم واحد. وعن أبي يوسف روايتان: إحداهما مثل الشافعي، والأخرى مثل أحمد. ولا يسهم إلا للخيل دون غيرها من الدواب. قال الشافعي -رضي الله عنه- وقد روى عبد الله بن عمر العمري -وهو أخو عبيد الله- عن نافع عن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم يوم خيبر للفارس ¬

_ (¬1) الترمذي (1554). (¬2) في "الأصل": عروة، وهو تحريف والمثبت من جامع الترمذي. (¬3) في "الأصل": سليمان، وهو تحريف والمثبت من جامع الترمذي.

سهمين وللراجل سهمًا [كأنه سمع نافعًا يقول: للفرس سهمين وللراجل سهمًا] (¬1) فقال: للفارس سهمين وللراجل سهمًا" قال: وليس يشك أحد من أهل العلم في تقدمة عبيد الله بن عمر على أخيه في الحفظ. وروى مجمع بن [جارية] (¬2): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم سهم خيبر على ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمسمائة منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين والراجل سهمًا" (¬3). قال الشافعي: مجمع بن يعقوب يعني راوي هذا الحديث عن أبيه، عن عمه، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عمه مجمع بن جارية شيخ لا يعرف، فأخذنا في ذلك بحديث عبيد الله، ولم نر له خبرًا مثله يعارضه، ولا يجوز رد خبر إلا بخبر مثله. قال أبو داود صاحب السنن (¬4): حديث أبى معاوية أصح والعمل عليه [وأرى] (¬5) الوهم في حديث مجمع، أنه قال: ثلاثمائة فارس، وإنما كانوا مائتي فارس. وذكر الشافعي حديث شاذان، عن زهير، عن أبي إسحاق قال: "غزوت مع سعيد بن عثمان، فأسهم لفرسي سهمين ولي سهمًا". قال أبو إسحاق: وبذلك حدثني هانئ بن هانئ عن علي -عليه السلام-، وكذلك حدثني حارثة بن مضرب عن عمر -رضي الله عنه- (¬6). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن هشام بن عروة، ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 135) و"السنن الكبرى للبيهقي" (6/ 325). (¬2) في "الأصل": حارثة، وهو تصحيف، والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) أخرجه أبو داود (2736). (¬4) بعد الحديث السابق. (¬5) في "الأصل": ورأى، والمثبت من سنن أبي داود. (¬6) انظر "السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 327).

عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير: "أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم: سهمًا له، وسهمين لفرسه، وسهمًا في ذي القربى". قال الشافعي: يعني -والله أعلم- بسهم ذي القربى: سهم صفية أمه، وقد شك سفيان أحفظه عن هشام عن يحيى سماعًا , ولم يشك سفيان أنه من حديث هشام عن يحيى هو ولا غيره ممن حفظ عن هشام. هكذا أخرجه الشافعي مرسلاً، وقد رواه محاضر بن المورع وسعيد بن عبد الرحمن عن هشام عن يحيى، عن عبد الله بن الزبير موصولاً. وأخرجه النسائي (¬1) عن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام، عن يحيى بن عباد، عن جده عبد الله ابن الزبير. قوله: "بأربعة أسهم سهمًا" بالنصب على البدل من موضع أربعة أسهم أو يعطى أربعة أسهم. وصفية هي أمه، عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -, ولها سهم ذي القربى. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وحديث مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل: "أن الزبير حضر خيبر بفرسين، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة أسهم: سهمًا له، وأربعة أسهم لفرسيه". ولو كان كما حدث مكحول كان ولده أعرف بحديثه وأحرص على ما فيه زيادتهم من غيرهم إن شاء الله تعالى. وقد ذكر عبد الوهاب الخفاف، عن العمري، عن أخيه: "أن الزبير وافى بأفراس يوم خيبر فلم يسهم له إلا لفرس واحد". والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أنه لا يسهم إلا لفرس واحدٍ لكل فارس، وبه قال مالك وأبو حنيفة. ¬

_ (¬1) النسائي (3593).

وقال الأوزاعي وأحمد: يسهم لفرسين؛ لحديث مكحول والله أعلم. وقد أخرج المزني، عن الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" (¬1). وأخرج أيضًا عنه، عن سفيان قال: سمعت [شبيب بن غرقدة] (¬2) يقول: سمعت عروة بن أبي الجعد البارقي يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". قال شبيب: فرأيت في دار عروة سبعين فرسًا مربوطة. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4) والذي قبله (¬5). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن يزيد بن هرمز: "أن نجدة كتب إلى ابن عباس: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ فقال: قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء فيداوين الجرحى، ولم يكن يضرب لهن بسهم ولكن يحذين من الغنيمة". هذا طرف من حديث صحيح قد أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. أما مسلم فأخرجه (¬6) عن القعنبي، عن سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد [عن أبيه عن يزيد بن هرمز] (¬7): "أن نجدة -هو ابن عامر الحروري- كتب إلى ابن عباس يسأله عن خمس خلال، فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علمًا ما كتبت [إليه، كتب] (7) إلى نجدة؛ أما بعد فأخبرني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري (2849)، ومسلم (1871). (¬2) في "الأصل": شعيب بن غرقد، وهو تحريف، والمثبت من مصادر التخريج وترجمة شبيب. (¬3) البخاري (3643). (¬4) مسلم (1873). (¬5) تقدم. (¬6) مسلم (1812). (¬7) ليست في الأصل، والمثبت من صحيح مسلم.

الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل الصبيان، فلا تقتل الصبيان. وكتبت تسألني: متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري إن الرجل لتنبت لحيته، وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها، وإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم. وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك". وأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن محبوب بن موسى أبي صالح، عن أبي إسحاق الفزاري، عن زائدة، عن الأعمش، عن المختار بن صيفي، عن يزيد بن هرمز، نحوه. وأما الترمذي فأخرجه (¬2) عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد ..... وذكر نحو مسْلم في غزو النساء. يريد بالسهم: نصيبًا معلومًا كما يقسم للرجال الغانمين. وأحذيت الرجل أحذيه من الغنيمة: إذا أعطيته منها، الاسم: الحُذْيَا بالضم. و"الخلال" جمع خلة، وهي الخصلة. ¬

_ (¬1) أبو داود (2727). (¬2) الترمذي (1556).

والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن المرأة لا تدخل في فرض الجهاد، ولا العبد، ولا الصبي، ولا المعذور، فإن حضر الجهاد نساءٌ أو صبيان أو عبيد؛ لم يُسهم لهم، وإنما (يرضح) (¬1) لهم. وحُكي عن الأوزاعي أنه قال: يسهم لهم ولا يبلغ بالرضح مقدار سهم الرجل. قال الشافعي -رضي الله عنه- وإنما ذهب الأوزاعي إلى حديث رجل ثقة -وهو منقطع- روى: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غزا بيهود ونساء من نساء المسلمين، فضرب لليهود وللنساء مثل سهمان الرجال". والحديث المنقطع لا يكون عندنا حجة، وإنما اعتمدنا على حديث ابن عباس؛ لأنه متصل، وقد رأيت أهل العلم بالمغازي قبلنا يوافقون ابن عباس فيه (¬2). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة، عن [ابن] (¬3) أبى خالد، عن قيس، عن جرير، [قال] (¬4): "كانت بجيلة ربع الناس، فقسم لهم عمر ربع السواد، فاستغلوه ثلاث سنين أو أربع سنين -أنا شككت- ثم قدمت على محمد بن الخطاب ومعي فلانة بنت فلان -امرأة منهم قد سماها لا بحضرتي ذكر اسمها- قال عمر بن الخطاب: لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم، ولكني أرى أن تردوا على الناس". هكذا جاء [في] (¬5) المسند، وقد أخرجهما الإمام البيهقي في كتاب "السنن ¬

_ (¬1) الرضح: القليل من العطية، انظر لسان العرب (2/ 451). (¬2) انظر "الأم" (7/ 342). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 279)، "والمعرفة" (7/ 87) وهو إسماعيل بن أبي خالد. (¬4) في "الأصل": قالت، وهو خطأ. (¬5) ليست في "الأصل".

والآثار" (¬1) أوضح من هذا، قال قيس: "كانت بجيلة ربع الناس يوم القادسية، فجعل لهم عمر ربع السواد، فأخذوه سنتين أو ثلاثًا، فوفد عمار إلى عمر ومعه جرير فقال عمر لجرير: لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما جعل لكم، وإن الناس قد كثروا فأرى أن تردوا عليهم، ففعل جرير وأجازه عمر بثمانين دينارًا. قال: وكانت امرأة من بجيلة يقال لها: أم كرز، فقالت لعمر: يا أمير المؤمنين، إن أبي هلك وسهمه ثابت في السواد، وإني لم أسلم. فقال لها: يا أم كرز، أن قومك قد صنعوا ما علمت. قالت: إن كانوا صنعوا ما صنعوا فإني لست أسلم حتى تحملني على ناقة وعليها قطيفة حمراء وتملأ كفي ذهبًا. ففعل ذلك، فكانت الدنانير نحوًا من ثمانين دينارًا". وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم، وفيه من الزيادة: "قال جرير: فأنا ضامن لك بجيلة. فأجابته بجيلة إلا امرأة يقال لها أم كرز، فإنها قالت: مات أبي وسهمه ثابت في السواد فلا أسلم، فلم يزل بها عمر حتى رضيت وملأ كفها، فقالت: رضيت". وقد روي هذا الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد، وعبد الله بن المبارك، وهشيم، ويحيى بن زائدة، وعبد السلام بن حرب وغيرهم، إلا أن بعضهم لم يذكر قصة المرأة. قوله: "كانت بجيلة ربع الناس" يريد ربع المهاجرين، قاتلوا الفرس بالفارسية وفتحوا العراق وأرض السواد. وقوله: "فقسم لهم ربع السواد" أي ربع ما فتحوا من أرض السواد. وقوله: "فاستغلوا ثلاث سنين" أي أنهم أخذوا غلتها لأنفسهم هذه [المدة] (¬2). ¬

_ (¬1) "معرفة السنن والآثار" (4/ 279). (¬2) في "الأصل": المرأة، وهو تحريف.

وقوله: "لولا أني قاسم مسؤل" أي يسألني الله عما أقسمه بينكم لتركتكم على أن تأخذوا ربع السواد، ولكني أرى أن تردوا الربع الذي يخصكم على الناس حتى أجعل جميع السواد بين المسلمين كلهم وأنتم شركاء. قال الشافعي -رضي الله عنه- ولا أعرف ما أقول في أرض السواد إلا ظنًّا مقرونًا إلى علم، وذلك أفي وجدت أصح حديث يرويه الكوفيون عندهم في السواد ليس فيه بيان، ووجدت أحاديث من أحاديثهم مخالفة، منها: أنهم يقولون: السواد صلح. ويقولون: السواد عنوة. ويقولون: بعض السواد صلح وبعضه عنوة. ويقولون إن جريرًا البجلي ... فذكر الحديث، ثم قال: وهذا أثبت حديث عندهم فيه. قال: وفي هذا الحديث دلالة إذْ أعطى جريرًا عوضًا من سهمه والمرأة عوضًا من سهم أبيها أنه استطاب أنفس الذين أوجفوا عليه، فتركوا حقوقهم منه، فجعله وقفًا للمسلمين، فلم يكن عمر ليستطيب أنفس بجيلة ويأخذ من غيرهم بغير طيب نفس؛ لأن بجيلة ومن سواهم سواء، وهذا حلال للإمام لو افتتح اليوم أرضًا عنوة، فأحصى من افتتحها وطابوا نفسًا عن حقوقهم منها أن يجعلها الإمام وقفًا، وحقوقهم منه الأربعة الأخماس، ويوفي أهل الخمس حقهم؛ إلا أن يدع البالغون منهم حقهم فيكون ذلك لهم، والحكم في الأرض كالحكم في المال، وقد سبى النبي - صلى الله عليه وسلم - هوازن، وقسم أربعة أخماسها بين الموجفين، ثم جاءته وفود هوازن مسلمين، فسألوه أن يمن عليهم بأن يرد عليهم ما أُخِذَ منهم، فخيرهم بين الأموال والسبي، فقالوا: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا فنختار أحسابنا، فترك لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقه وحق أهل بيته، وسمع بذلك المهاجرون فتركوا له حقوقهم، وسمع بذلك الأنصار فتركوا حقوقهم،

وبقي قوم من المهاجرين الآخرين والفتحيين فأمر فَعَرَّفَ على كل عشرة واحد، ثم قال: ائتوني بطيب أنفس من، بقي فمن كره فله كذا وكذا من الإبل إلى وقت ذكره، فجاءوه بطيب أنفسهم إلا الأقرع بن حابس وعتبة [ابن] (¬1) بدر، فإنهما أَبَيَا، فلم يكرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك حتى كانا هما تركا، وسلم [لهم] (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق من طابت نفسه عن حقه. وهذا أولى الأمور بعمر بن الخطاب عندنا في السَّواد وفتوحه إن كانت عنوة فهو عندنا كما وصفت ظن، عليه دلالة يقين، وإنما منعنا أن نجعله يقينًا بالدلالة أن الحديث الذي فيه متناقض، فلا ينبغي أن يكون قسم إلا عن أمر عمر ولو تفوت فيه عليه ما ابتغى أن يغيب عنه قسمة ثلاث سنين، ولو كان القسم ليس لمن قسم ما كان لهم منه عوض، ولكن عليهم أن يؤخذ منهم الغلة، والله أعلم كيف كان، ولم أجد فيه حديثًا يثبت، إنما أجدها متناقضة، والذي هو أولى بعمر عندي هو الذي وصفته. قال البيهقي (¬3): والأشبه بما انتهى إلينا من أخبار عمر في الأراضي المغنومة: أنه كان يرى قسمتها بين الغانمين كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، ثم رأى من المصلحة أن يجعلها وقفًا ليكون لمن بعدهم أيضًا، فكان يحب أن يكون ذلك برضا الغانمين، فجعل يستطيب قلوبهم، وقد روى ابن عمر قال: "أصاب الناس فتيء بالشام وفيهم بلال -وأظنه ذكر معاذ بن جبل- فكتبوا إلى عمر: إن هذا الفيء الذي أصبنا لك خمسه ولنا ما بقي، ليس لأحد منه شيء كما صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر. فكتب عمر: إنه ليس على ما قلتم ولكني أقفها للمسلمين -فراجعوه ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل" والمثبت من "الأم"، و"المعرفة". (¬2) في "الأصل": له، والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) المعرفة (7/ 90).

بالكتاب وراجعهم، يأبون ويأبى، فلما أبوا قام عمر فدعا عليهم فقال: اللهم اكفني بلالًا وأصحاب بلال -فما حال الحول عليهم حتى ماتوا جميعًا". وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم هذا الحديث مختصرًا من حديث [زيد] (¬1) بن الحباب، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، وعن زيد ابن أسلم، عن أبيه "أن بلالًا وأصحابه افتتحوا فتوحًا بالشام فقالوا لعمر: اقسم بيننا ما غنمنا. فقال عمر: اللهم أرحني من بلال وأصحابه". وقول عمر ليس كما قلتم، لا يريد إنكار ما احتجوا به من قسمة خيبر، فإنه قد روي عن عمر أنه قال: " [لولا] (¬2) آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر". وإنما أراد عمر -والله أعلم-: ليست المصلحة فيما قلتم وإنما المصلحة في أن أقفها للمسلمين، فلما أَبَوْا عليه وأبى عليهم، لما كان لهم من الحق ولما رآه من المصلحة، لم يقطع عليهم الحكم بإخراجها من أيديهم ووقفها, ولكن دعا عليهم حيث خالفوه فيما رآه من المصلحة، وهم لو وافقوه وافقه الناس. وتفصيل المذهب: في أرض السواد وحدّها: في العرض: من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية، والمتصل بالعُذَيْب من أرض العرب. وفي الطول: من تخوم الموصل إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة، فأما الغرلي الذي يلي البصرة فإنما هو إسلامي مثل شط عثمان، كانت سباخًا ومواتًا فأحياها عثمان بن أبي العاص، وإنما سميت هذه الأرض سوادًا؛ لأن المسلمين لما خرجوا من البادية ورأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سموها ¬

_ (¬1) في "الأصل": يزيد، وهو تحريف. (¬2) في الأصل: لو، والمثبت من سنن البيهقي (6/ 317) وفيه: "لولا أن ترك آخر الناس لا شيء لهم .. " إلخ. والحديث أخرجه البخاري (2334).

السواد لذلك (¬1). ومذهب الشافعي ظاهر؛ لأن عمر وقفها على المسلمين بعد أن أسترجعها منهم وما يؤخذ منهم يكون أجره، وعلى قول أبي العباس بن شريح وأبي إسحاق المروزي أنه باعها منهم وما يأخذه من الثمن، وقال سفيان الثوري: جعل عمر أرض السواد وقفًا على المسلمين ما تناسلوا. وقال ابن شبرمة: ولا أجيز بيع أرض السواد ولا هبتها ولا وقفها. وقد اختلف أصحاب الشافعي -رضي الله عنهم- في معنى قوله: "ولا أعرف ما أقول في أرض السواد إلا بظن مقرون إلى علم". فمنهم من قال: أراد أن فتح السواد خبره حصل من جهة العلم لكثرة نقله، وأن ما فعله عمر من قسمتها أو وقفها ظن مقترن إلى ذلك، وكل واحد منهما يتعلق بما يتعلق به الآخر. وقال أبو إسحاق: أراد أنه ظن مستند إلى علم؛ لأن الظن المستند إلى علم يجوز العمل به؛ لأن الفروع المظنونة ترجع إلى أصول معلومة. وقال الشيخ أبو حامد: إن قوله: "ظن". أي غالب الظن، وقوله: "علم". معناه الخبر المقبول، وإن حسن الخبر يوجب العلم، فكأنه قال: فتحت عنوة بدليلين: أحدهما: غالب ظن، وهو أنه قسمها بين الغانمين. والثاني: العلم بالخبر أنه فتحها عنوة. قال القاضي أبو الطيب: هذا غلط؛ لأنه إذا كان فيه طريق يوجب العلم لا يجوز فيه الظن ولا يثبت به. وحكي عن ابن أبي هريرة أنه قال: أراد بالظن ما حصل له من الظن بخبر الواحد، والعلم إنما أراد به الخبر والله وأعلم. ¬

_ (¬1) انظر معجم البلدان (3/ 309).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فيها عبد الله بن عمر، قِبَلَ نجدٍ فغنموا إبلًا كثيرة، فكانت سهمانهم اثنى عشر بعيرًا أو أحد عشر بعيرًا". وقد رواه المزني، عنه، عن سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن [ابن] (¬1) عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثنا في سرية إلى نجد، فأصاب سهم كل رجل منا اثنى عشر بعيرًا، ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرًا بعيرًا". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. أما البخاري فأخرجه (¬2) عن أبي النعمان، عن حماد بن أيوب، عن نافع. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن أبي الربيع وأبي كامل، عن حماد، عن أيوب، وعن يحيى بن يحيى، عن مالك، وزاد في رواية أخرى: "فلم يغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن هناد، عن عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع. وقال في حديثه: "فنفلنا أميرنا بعيرًا بعيرًا لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل ثلاثة عشر بعيرًا". قوله: "في سرية" السرية: طائفة من الجيش ينفذون في الغزو على غزة، وأنما سميت سرية؛ لأنها تسري بالليل حتى لا يظهر أمرها فيحترز منها. و"النفل" بفتح الفاء وبسكونها ما يعطى الغازي زيادة على نصيبه، وهو من الزيادة. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من مصادر التخريج. (¬2) البخاري (4338). (¬3) مسلم (1749). (¬4) أبو داود (2743).

والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن النفل من خمس الخمس، وإنما يجوز أن شرط الإمام للغزاة النفل عند الحاجة إلى ذلك، وهو أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة ولهم شوكة، فيشترط لهم ذلك تحريضًا على القتال، فأما إذا كانوا مستظهرين فلا حاجة بهم إلى ذلك، قال: وأكثر مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيها أنفال، فعلم أنه إنما فعل ذلك عند الحاجة؛ ولأنه من سهم المصالح، فلا يدفع إلا عند المصلحة، ويكون تقدير ذلك إلى ما يراه الإمام كما كان شرطه إلى رأيه. قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، أنه سمع سعيد ابن المسيب يقول: "كان الناس يعطون النفل من الخمس". وقول ابن المسيب: يعطون النفل من الخمس كما قال -إن شاء الله- وذلك من خمس النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه قال الشافعي وأبو عبيد. وقال غيره: إنما كان ينفلهم من الغنيمة التي يغنمونها كما ينفل القاتل السلب من جملة الغنيمة قبل أخذ الشخص، ويجوز أن يكون قد أسقط الخمس ونفلهم، وفي رواية الشافعي: "نُفِلوا" لما لم يسم فاعله، فيحتمل أن يكون المُنْفِل أميرهم، أو أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صرح مسلم في بعض رواياته، وكذلك أبو داود في رواية أخرى له (¬1): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفلهم، والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن كثير بن أفلح، عن أبي محمد مولى أبي قتادة الأنصاري، عن أبي قتادة الأنصاري قالة: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، فلما التقينا كان للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، قال: فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربة، فأقبل عليّ ¬

_ (¬1) أبو داود [2745].

فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت له: ما بال الناس؟ قال: أمر الله. ثم إن الناس رجعوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه. فقمت، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فقالها الثانية، فقمت، فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فقالها الثالثة. فقمت في الثالثة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مالك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [وسلب] (¬1) ذلك القتيل عندي، فَأَرْضِه عني. قال أبو بكر: لاها الله إذن لا يَعْمِدُ إلى أَسَدٍ من أُسْد الله يقاتل عن الله يعطيك سلبه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدق، فأعطه إياه. قال أبو قتادة: فأعطانيه، فبعت الدرع فابتعت به مخرفًا في بني سلمة؛ فإنه لأول مال تأثلته في الإِسلام". قال مالك: المخرف النخل. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود. أما البخاري فأخرجه عن القعنبي (¬2) وعبد الله بن يوسف (¬3)، عن مالك. وعن قتيبة (¬4)، عن الليث، عن يحيى بن سعيد. وأما مسلم فأخرجه (¬5) عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك، وعن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 117) ومصادر تخريج الحديث الآتية. (¬2) البخاري (3142). (¬3) البخاري (4321). (¬4) البخاري (7170). (¬5) مسلم (1751).

يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن يحيى بن سعيد. وأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن القعنبي، عن مالك، وأما مالك فأخرج (¬2) إسنادًا ولفظًا. "الجولة" المرة الواحدة، تقول: جال في الحرب يجول جولًا وجولانًا إذا حمل على خصمه، وأصْله من الحركة. وقوله: "قد علا رجلاً من المسلمين" أي ركبه وتمكن منه واستولى عليه. و"حبل العاتق" عصبه. وقوله: "وجدت منها ريح الموت" وهذا من الاستعارات الحسنة أن يجعل للموت ريحًا فيشمها؛ لأن ريح الشيء يصل إلى الإنسان قبل أن يصل الشيء إليه. و"السَّلَب" الشيء المسلوب المنهوب، تقول: سَلَبْتُ [الشيء] (¬3) أسلُبه سَلْبًا، وسَلَبًا أيضًا فَعَلٌ بمعنى مفعول. وقوله: "من يشهد لي" إنما هذا القول منه لنفسه، أي أنه لما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه" قام ثم قال لنفسه: من يشهد لي؟ لأنه كان الناس في حالة قتله إياه مشغولين عنه بما دهمهم من الهزيمة، فما كان يظن أن أحدًا قد رآه ذلك الوقت حتى يشهد له، ويجوز أن يكون قال ذلك القول ظاهرًا للحاضرين من المسلمين أي: من يشهد لي منكم، ويعضد الأولى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: "مالك يا أبا قتادة؟ " فلو كان قاله ظاهرًا لما سأله عن حاله. وقوله: "فأرضه عني" أي أعطه ما يرضيه عني إما من عندك أو ببعض ¬

_ (¬1) أبو داود (2717). (¬2) مالك (973). (¬3) ليست في "الأصل".

السلب ليتوفر السلب عليه. وقوله: "لاها الله إذًا" هذا من ألفاظ القسم, والأصل فيه: لا والله. فأبدلوا من الواو هاءً والصواب فيما قاله أئمة العربية أن يقال: لاها الله ذا. أي والله لا يكون ذا؛ إلا أن الذي جاء في لفظ الحديث على اختلاف طرقه: لاها الله إذًا. وكذا يرويه المحدثون على ما سمعوه. وعمدت إلى الشيء أعمد إذا قصدت نحوه. وقوله: "أسَدٍ من أُسْدِ الله" شبهه لقوته وشجاعته بالأسد, وقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزة عمه: أَسَد الله. و"المخرف" بفتح الميم: البستان الذي تُخترف ثماره، أي تجتنى وتقطف, وأراد به ها هنا: حائط نخل، وكذلك فسره مالك في آخر الحديث؛ وأما "المْخِرف" فهو الظرف الذي تجنى فيه الثمار. و"التأثل": الادخار والجمع، وأثل كل شيء أصله، ويقال: تأثل مُلْك فلان إذا كثر. والذي ذهب إليه الشعافى -رضي الله عنه-: أن السلب للقاتل وحده دون غيره، سواء شرط له الإمام ذلك أو لم يشرط. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يستحق ذلك إلا بشرط الإمام. قال الشافعي -رضي الله عنه- هذا حديث ثابت عندنا، وفيه ما دَلَّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل قتيلًا فله سلبه" يوم حنين بعد ما قتل أبو قتادة الرجل، والقاتل الذي يستحق السلب هو أن يكون ممن له سهم في الغنيمة، فإن لم يكن له سهم كالمرأة والصبي والعبد ففيه قولان، وأما السلب فهو كل ما كان

متصلًا بالقتيل مما يحتاج إليه في الحرب من اللباس والسلاح والمركوب، و [أما] (¬1) ما لا يحتاج إليه مما عليه كالتاج والسوارين والطوق والمَنْطقة وهميان النفقة ففيه قولان، وقد جعل الأوزاعي وأحمد المَنْطقة من السلب. قال الشافعي -رضي الله عنه-: ولا يخمس السلب، فعارضنا معارض فذكر أن عمر بن الخطاب قال: "إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ شيئًا كثيرًا ولا أراني إلا خامسه" وذكر عن ابن عباس أنه قال: "السلب من الغنيمة وفيه الخمس". قال الشافعي: وإذا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي شيء لم يجز تركه، ولم يستثن رسول الله قليل السلب ولا كثيرة [وهذه الرواية في خمس السلب عمن ليست من روايتنا] (¬1). قال: وله رواية عن سعد بن أبي وقاص في زمان عمر [تخالفها] (1). أخرجهما الشافعي عن ابن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن رجل من قومه يسمى بشر بن علقمة قال: "بارزت رجلاً يوم القادسية فقتلته، فبلغ سلبه أثنى عشر ألفًا فنفلنيه سعد". قال الشافعي -رضي الله عنه- واثنى عشر ألفًا كثير. واحتج الشافعي أيضًا بحديث الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمر، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك: "أن مدديًّا قتل رجلاً من الروم في غزوة مؤتة، فأراد خالد بن الوليد أن يخمس السلب، فقلت: قد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (4/ 143) والمعرفة (5/ 122).

كتاب قسم الصدقات

كِتَابُ قسْم الصّدقاتِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا (الثقة) (¬1) -أو ثقة غيره، أو هما- عن زكريا بن إسحاق، عن يحيى بن عبد الله بن صيفي، عن أبي معبد، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعثه: فإن أجابوك، فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" هكذا جاء الحديث في (المسند) (¬2) وقد جاء في نسخة أخرى: أخبرنا الثقة عن زكريا ولم يقل: أو ثقة غيره. وأخرجه البيهقي في كتابه (¬3): أخبرنا وكيع بن الجراح -أو ثقة غيره أو هما- عن زكريا. قال: وقد رواه الشافعي -رضي الله عنه- في موضع آخر، عن وكيع ولم يشك فيه. وهذا طرف من حديث قد أخرجه بطوله الجماعة إلا الموطأ. أما البخاري فأخرجه (¬4) عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد عن زكريا بن إسحاق ... "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا إلى اليمن فقال: ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم". وأما مسلم فأخرجه (¬5) عن ابن [أبي] (¬6) عمر، عن بشر بن السري، وعن أبي ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، وفي "المعرفة" (5/ 184)، و"الأم" (2/ 71): وكيع بن الجراح. (¬2) في "الأصل": المسجد، وهو تحريف. (¬3) معرفة السنن (5/ 184). (¬4) البخاري (1395). (¬5) مسلم (19). (¬6) ليست في "الأصل"، والمثبت من صحيح مسلم.

بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحاق بن راهويه، عن وكيع. وعن عبد بن حميد، عن أبي عاصم، كلهم عن زكريا بن إسحاق. وأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن أحمد بن حنبل، عن وكيع، عن زكريا ... وذكر الحديث مثل البخاري، وزاد: "فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب". وأما الترمذي فأخرجه (¬2) عن أبي كريب، عن وكيع، عن زكريا بن إسحاق ... وذكر مثل أبي داود. وأما النسائي فأخرجه (¬3) عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، عن المعافى، عن زكريا بن إسحاق ... وذكر مثل أبي داود. قال الشافعي -رضي الله عنه- قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (¬4) فأحكم الله تبارك وتعالى فرض الصدقات في كتابه، ثم أكدها فقال: {فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ} (4) فليس لأحد أن يقسمها على غير ما قسمها الله عليه ما كانت الأصناف موجودة!! وقال في كتاب البويطي: وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث الصدائي: "إن الله لم يرض فيها بقسم ملك مقرب، ولا نبي مرسل، حتى قسمها". قال: ولا [تخرج] (¬5) صدقة قوم من بلدهم وفي بلدهم من يستحقها. وأخرج هذا الحديث، قال: واحتج محتج في نقل الصدقة بأن طاوسًا روى: "أن معاذ بن جبل قال لبعض أهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذها منكم مكان ¬

_ (¬1) أبو داود (1584). (¬2) الترمذي (625). (¬3) النسائي (2435). (¬4) سورة التوبة، الآية (60). (¬5) في "الأصل": بقسم، وهو انتقال نظر من الناسخ، والمثبت من "المعرفة" (5/ 184).

الشعير والحنطة؛ فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة". قال الشافعي -رضي الله عنه- صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل ذمة اليمن على دينار على كل واحد كل سنة، وكان في سنته أن يُؤخذ دينار أو قيمته من (المعافر) (¬1)، فلعل معاذًا لو (أُعْسِرَ) (¬2) بالدينار أخذ منهم الشعير والحنطة؛ لأنه أكثر ما عندهم، وإذا جاز أن يترك الدينار لعرض؛ فلعله جاز عنده أن يأخذ منهم طعامًا فيقول: الثياب خير للمهاجرين بالمدينة وأهون عليكم؛ لأنه لا مؤنة كثيرة في المحمل للثياب إلى المدينة، والثياب بها أغلى منها باليمن، واستدل على هذا بما روي من قضايا معاذ في العُشْرِ والصدقة. قال: ومعاذ إذا حكم بهذا كان من أن ينقل صدقة المسلمين من أهل اليمن الذين هم أهل الصدقة [إلى أهل المدينة] (¬3) الذين أكثرهم أهل الفيء أبعد. قال الشافعي: وطاوس لو ثبت عن معاذ شيئًا لم يخالفه إن شاء الله تعالى، وطاوس يحلف ما يحل بيع الصدقات قبل أن تقبض ولا بعد أن تقبض. ولو كان ما ذهب إليه من احتج علينا بأن معاذًا باع الحنطة والشعير الذي يؤخذ من المسلمين بالثياب كان بيع الصدقة قبل أن تقبض، ولكنه عندنا على ما ذكرنا. قال: فإن قال قائل: كان عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بصدقات، والزبرقان بن بدر، فهما وإن جاءا بما فضل عن أهلها إلى المدينة فيحتمل أن يكون أهل المدينة أقرب الناس نسبًا ودارًا ممن يحتاج إلى سعة من مضر وطيء من اليمن، ويحتمل أن يكون [من حولهم] (¬4) ارتد فلم يكن لهم حق في الصدقة، ¬

_ (¬1) المعافر: بُرْدٌ أو ثياب منسوبة إلى مَعافِر قبيله من اليمن. ثم صار اسمًا لها بغير نسبة، انظر لسان العرب (4/ 590). (¬2) كذا في "الأصل"، وفي "الأم" (2/ 91)، و"المعرفة" (5/ 185): أعسروا. (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬4) سقط من "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة.

ويكون بالمدينة أهل حق هم أقرب من غيرهم، ويحتمل أن يؤتى بها أبو بكر الصديق ثم يأمر بردها إلى غير أهل المدينة، وليس في ذلك خبر عن أبي بكر نصير إليه. فإن قال قائل: فإن عمر كان يحمل على إبل كثيرة إلى الشام والعراق. قلت: ليست من نعم الصدقة؛ لأنه إنما يحمل على ما يحتمل من الإبل، وأكثر فرائض الإبل لا تحمل أحدًا. ثم قال: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم -أظنه عن أبيه-: "أن عمر بن الخطاب كان يؤتى بنعم كثيرة من نعم الجزية". قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن محمد بن عبد الله بن (مالك) (¬1)، عن يحيى بن عبد الله بن (مالك) (1)، عن أبيه: "أنه سأله: أرأيت الإبل التي كان يحمل عليها عمر الغزاة وعثمان بعده؟ قال: أخبرني أبي: أنها إبل الجزية التي كان يبعث بها معاوية وعمرو بن العاص. قلت: وممن كانت تؤخذ؟ قال: من جزية أهل الذمة، وتؤخذ من صدقات بني تغلب، فرائض على وجهها فتبعث ويبتاع بها إبل جلة، فيبعث بها إلى عمر فيحمل عليها". وقد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن الكفار غير مخاطبين بشرائع الدين، وإنما خوطبوا بالشهادة، فإذا أقاموا توجهت عليهم بعد ذلك الشرائع والعبادات؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد وجهها مرتبة، وقدم فيها الشهادة، ثم تلاها بالصلاة، ثم بالزكاة. وفي هذا الحديث دليل على أنه لا يجوز دفع شيء من صدقات أموال المسلمين إلى غير أهل دينهم؛ لأنه قال: "وتردٌّ على فقرائهم" وهو قول الفقهاء. وفيه دليل على أنه سنة الصدقة أن تدفع إلى أهل البلد الذي تؤخذ منه، ولا ¬

_ (¬1) في "الأم"، و"المعرفة": مالك الدار.

تنتقل من بلد إلى بلد، وقد كره ذلك أكثر الفقهاء، فإن نقلت جاز. وفيه دليل لمن ذهب إلى إسقاط الزكاة عمن في يده نصاب وعليه مثله دين؛ لأن له أخذ الصدقة، وذلك من حكم الفقراء. وقد استدل به من يذهب إلى وجوب الزكاة في مال الأيتام. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة -وهو يحيى بن حسان- عن الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن شريك بن أبي نمير، عن أنس بن مالك: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، نشدتك بالله، آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا وتردها على فقرائنا؟ فقال: اللهم نعم". هذا طرف من حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الموطأ. أما البخاري فأخرجه (¬1) عن ابن يوسف، عن الليث ... بالإسناد أنه سمع أنس ابن مالك يقول: "بينما نحن جلوس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد، ثم (علفه) (¬2) ثم قال لهم: أيكم محمد؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال: يابن عبد المطلب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أجبتك. فقال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة؛ فلا تجد عليّ في نفسك. فقال: سل ما بدا لك. فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرْسَلك إلى الناس كلهم؟ فقال: اللهم نعم. فقال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ ¬

_ (¬1) البخاري (63). (¬2) كذا في "الأصل"، وفي صحيح البخاري: عَقَلَه.

قال: اللهم نعم. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم نعم. فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول مَنْ ورائي من قومي، وأنا ضمام بن [ثعلبة] (¬1) أخو بني سعد بن بكر". وأما مسلم فأخرجه (¬2) عن عمرو بن محمد بن بكير الناقد، عن هاشم بن القاسم أبي النضر، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس ... وذكر الحديث بطوله أتم منه. وأما أبو داود فأخرج منه طرفًا (¬3) من أول رواية البخاري إلى قوله: "إني سائلك" ثم قال ... وساق الحديث ولم يذكر لفظه. وأما الترمذي فأخرجه (¬4) عن محمد بن إسماعيل، عن علي بن عبد الحميد الكوفي، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس .. مثل مسلم. وأما النسائي فأخرجه (¬5) عن محمد بن معمر، عن أبي عامر العقدي، عن سليمان بن المغيرة ... بإسناد مسلم وحديثه. "نشدتك بالله" أي سألتك وأقسمت عليك به. وقوله: "آلله أمرك" استفهام منه عما أبلغه رسوله. وقوله: "فلا تجد عليّ" أي لا تغضب. ¬

_ (¬1) في "الأصل": صقلية، وهو تحريف، والمثبت من صحيح البخاري. (¬2) مسلم (12). (¬3) أبو داود (486). (¬4) الترمذي (619). (¬5) النسائي (2091)

أخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مطرف بن مازن، عن معمر، [عن] (¬1) ابن طاوس، عن أبيه: "أن معاذ بن جبل قضى أنه أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته، فعشيرته وصدقته إلى مخلاف عشيرته". احتج بذلك على نقل الصدقة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن هشام -يعني ابن عروة- عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، أن رجلين أخبراه: "أنهما أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألاه [من] (¬2) الصدقة، فَصَعَّد فيهما وصوب، فقال: إن شئتما, ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب". هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. فأما أبو داود فأخرجه (¬3) عن مسدد، عن عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة ... وذكر الحديث نحوه، وقال: "أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة". وأما النسائي (¬4) فأخرجه عن عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، عن يحيى، عن هشام ... نحوه. قوله: "فصعّد فيهما وصوب" أي نظر إليهما، فوضع بصره إلى أعاليهما ثم رد إلى أسافلهما؛ ليتحقق أمرهما، فينظر خلعتهما حتى يعلم هل هما مستحقان للصدقة أم لا، فلما رآهما جلدين قويين على الاكتساب قال: "إن شئتما" أي أردتما أن أعطكما من الصدقة، ولكن اعلما أنه لا حظ في الصدقة لغني ولا ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (2/ 91)، و"المعرفة" (5/ 185)، والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 9, 10). (¬2) في الأصل: عن، والمثبت من "الأم" (2/ 84) و"المعرفة" (5/ 189). (¬3) أبو داود (1633). (¬4) النسائي (2598).

لذي قوة مكتسب. قال الشافعي -رضي الله عنه- رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحة وجلدًا [يشبه الاكتساب] (¬1) فأعلمهما أنه لا تصلح لهما مع الاكتساب الذي يستغنيان به أن يأخذا منها, ولا يعلم أمكتسبين أم لا؟ فقال: إن شئتما -بعد أن أعلمتكما أنه لا حظ فيها لغني ولا مكتسب- فعلت. وذلك أنهما يقولان: أعطنا فإنا ذوا حظ؛ لأنا لسنا غنيين ولا مكتسبين كسبًا يغني. والمراد بالقوة في قوله: "ولا لذي قوة مكتسب" القوة على الكسب لا غيره. قال الشافعي: وإذا كان فقيرًا أو مسكينًا فأغناه وعياله كسبه أو حرفته فلا يعطى في واحد من وجهين شيئًا لأنه غني وجد. وبيان المذهب هو: أن الرجل إذا كان له حرفة يكتسب منها ما يغني نفسه وعياله؛ لم يحل له أن يأخذ شيئًا من الزكاة، وبه قال ابن عمر، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إذا لم يملك نصابًا جاز له أن يأخذ، وكذلك إن كان له بضاعة يتجر بها أو ضيعة يستغلها، فإن كفاه الغلة له ولعياله لا يحل له أن يأخذ شيئًا من الزكاة، وان كان ذلك لا يكفيه وعياله جاز له أن يأخذ من الزكاة ما تتم به كفايته. قال أبو حنيفة: إذا كان يملك نصابًا من الأثمان لم يجز له أن يأخذ شيئًا، وإن كان يملك ما قيمته نصابًا فإن كان فاضلًا عن مسكنه وخادمه لم يجز له أيضًا. وقال أحمد: إذا ملك خمسين درهمًا لم يجز له أن يأخذ شيئًا. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن إبراهيم بن [سعد] (¬2) بن إبراهيم، عن أبيه، عن [ريحان] (¬3) بن يزيد قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬2) في "الأصل": سعيد، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" (2/ 84)، و"المعرفة" (5/ 190) ومصادر ترجمته. (¬3) في "الأصل": أبي ريحان، وهو خطأ.

يقول: "لا تصلح الصدقة [لغني] (¬1) ولا لذي مرة سوي". قال الشافعي: قد رفع هذا الحديث عن سعد غير أبيه، رفعه سفيان وشعبة عن سعد. هذا الحديث أخرجه الترمذي (¬2) وأبو داود (¬3)، وقالا: "لذي مرة سوي". و"المرة" القوة، والمراد بهذه القوة قوة الاكتساب أيضًا. و"السوي" الصحيح السليم من الآفات. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن هارون بن رئاب، عن كنانة بن نعيم، عن قبيصة بن المخارق الهلالي قال: "تحملت حمالة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألته، فقال: نؤديها ... " وذكر الحديث. هكذا جاء في المسند، وهو طرف من حديث صحيح طويل قد أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. أما مسلم فأخرجه (¬4) عن يحيى بن يحيى، وقتيبة عن، حماد بن زيد، عن هارون ابن رئاب ... بالإسناد، قال: "تحملت حمالة، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل حمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقةٌ من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة ومصادر التخريج. (¬2) الترمذي (652). (¬3) أبو داود (1634). (¬4) مسلم (1044).

وأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن مسدد، عن حماد بن زيد، عن هارون بن رئاب ... بالإسناد مثل مسلم. وأما النسائي فأخرجه (¬2) عن هشام بن عمار، عن يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي، عن هارون ... وذكر الحديث أخصر منهما. "الحَمالة" بفتح الحاء: أن تقع حرب بين فريقين، فيقتل بينهم قتلى، فيلتزم رجل أن يؤدي ديات القتلى من عنده، طلبًا للصلح، وإطفاء للفتنة. "الجائحة": الآفة التي تعرض للإنسان فتستأصل ماله وتدعه محتاجًا إلى الناس. و"القِوَام" بكسر القاف: ما يقوم به أمر الإنسان من مالٍ ونحوه. و"السِّداد" بكسر السين: ما يكفي لمعوز المقل، تقول في هذا: سِدَادٌ من عوز. و"الفاقة" الفقر. و"الحجا" العقل. و"السحت" الحرام؛ يسمى به لأنه يسحت البركة أي يذهبها، أو لأنه يهلك آكله. وهذا الحديث موافق للذي قبله في أن الصدقة لا تصلح لمن له كسب يقوم بكفايته، وينفرد هذا [بأنها تصلح] (¬3) لمن تحمل حمالة في دم، أو لزمه غرم في مال. ¬

_ (¬1) أبو داود (1640). (¬2) النسائي (2591). (¬3) في "الأصل": بأن المصلحة، والمثبت من "المعرفة" (5/ 193).

وهو إنما أباح له المسألة عند تحقق الفاقة، وإنما تتحقق فاقته إذا لم [يكن له] (¬1) مال يغنيه ويغني عياله، أو كسب يقوم بكفايته وكفاية عياله، فإذا كان له أحدهما فلا تتحقق فاقته. وأباح له المسألة في الجائحة تصيب ماله فتجتاحه، حتى يصيب قوامًا من عيش، أو سِدَادًا من عيش فبين بذلك أن المَعْنِيَّ فيه: كفايته وكفاية عياله، فإذا كان له كسب يقوم بكفايته وكفاية عياله فقد أصاب قوامًا من عيش، فلم يجز له أخذ الصدقة بالفاقة، وإذا كان له كسب ضعيف لا يقوم بكفايته وكفاية عياله فله أخذ الصدقة من غير تقدير حتى يصيب قوامًا من عيش أو سِدَادًا من عيش. قال الشافعي -رضي الله عنه- والغارمون صنفان: صنف دانوا في مصلحتهم أو معروف وغير معصية، ثم عجزوا عن أداء ذلك في العَرَضِ والنَّقْدِ، فيعطون في غرمهم لعجزهم. وصنف دانوا في حَمَالاتٍ وصلاح ذات بين ومعروف، ولهم عَرُوض تحمل حمالاتهم أو عامتها، وإن بيعت أَضَرَّ ذلك بهم وإن لم يفتقروا، فيُعْطى هؤلاء وتوفر عروضهم، كما يعطى أهل الحاجة من الغارمين حتى يقضوا غرمهم. ثم أخرج حديث قبيصة هذا وقال: بهذا الحديث نأخذ، و [هو] (¬2) معنى ما قلت في الغارمين، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحل المسألة في الفاقة والحاجة" يعني -والله أعلم- من سهم الفقراء والمساكين لا الغارمين. وقوله: "حتى يصيب سدادًا من عيش" يعني -والله أعلم- أقل اسم الغني. بذلك نقول، وذلك حين يخرج من الفقر والمسكنة. ¬

_ (¬1) في "الأصل": يلزمه، والمثبت من المصدر السابق. (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (2/ 72)، و"المعرفة" (5/ 203).

وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "حرملة" عن سفيان، عن عمار ابن زريق، عن حكيم، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من أحد له خمسون درهمًا أو عدله من الذهب تحل له الصدقة". وهذا الحديث [إن صح] (¬1) لم يخالف ما قلناه؛ لأنه اعتبر في الابتداء ما يغنيه، فدخل فيه الكسب والمال؛ لوقوع الغنى بكل واحدٍ منهما، ثم حين سئل عن الغنى فسره بخمسين درهمًا، وإنما أراد من لا كسب له أن يقوم بكفايته حتى يكون معه خمسون درهمًا، ألا تراه قال في حديث آخر: "من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافًا" (¬2). والأوقية أربعون درهمًا، وفي حديث آخر: "قيل: وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: أن يكون له شبع يوم وليلة" (¬3) وكل ذلك متفق في المعنى، وهو أنه اعتبر الغنى وهي الكفاية. ثم إنها تختلف باختلاف الناس، فمنهم من [يغنيه] (¬4) خمسون، ومنهم من [يغنيه] (4) أربعون، ومنهم من له كسب يدر عليه كل يوم ما يغذيه ويعشيه ولا عيال له فهو مستغن به ولا يكون له أخذ الصدقة، وفي مثل هذا المعنى ورد قوله: "للسائل حق وإن جاء على فرس" (¬5) فقد يكون كثير العيال ولا كسب ¬

_ (¬1) في "الأصل": واضح، والمثبت من "المعرفة" (5/ 194) وفي إسناده حكيم بن جبير، قال أحمد: ضعيف منكر الحديث. وقال البخاري: كان شعبة يتكلم فيه، وقال الدارقطني: متروك، وقال الجوزجاني: كذاب. وقال ابن معين: حديثه منكر. انظر "الميزان" (2/ 351). (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 36). (¬3) أخرجه أبو داود (1629)، وابن خزيمة في صحيحه (2391). (¬4) في "الأصل": يعتبر، والمثبت من المعرفة (5/ 195). (¬5) أخرجه أبو داود (1665).

له يقوم بكفايتهم، فيجوز إعطاؤه حتى يصيب قوامًا من العيش، وهو أقل ما يكفيه ويكفي عياله، وفي مثل هذا المعنى ورد عن علي بن أبي طالب أنه قال: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم". فاعتبر الكفاية، والاعتبار بها في حالتي الإعطاء والمنع وبالله التوفيق. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عمر: "أنه شرب لبنًا [فأعجبه] (¬1) فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء -قد سماه- فإذا نَعَمٌ من نَعَمِ الصدقة وهم يسقون، فحلبوا لي من ألبانها، فجعلته في سقائي، فهو هذا، فأدخل عمر إصبعه فاستقاءه". قال الشافعي: والعامل عليها يأخذ من الصدقة بقدر غنائه لا يزاد عليه وإن كان العامل موسرًا، إنما يأخذه على معنى الإجارة. والله أعلم. وأخرج الشافعي، أنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحل الصدقة لغني؛ إلا لخمسة: غازٍ في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني". هذا الحديث أخرجه الموطأ (¬2) وأبو داود (¬3). وقد رواه عبد الرزاق (¬4)، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري موصولاً. وأخبرنا الشافعي قال: أخبرني من لا أتهم ابن أبي يحيى، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى المؤلفة قلوبهم يوم حنين من الخمس. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 196). (¬2) الموطأ (604). (¬3) أبو داود (1635). (¬4) مصنف عبد الرزاق (7151).

قال الشافعي: وهم عيينة والأقرع وأصحابهما, ولم يعط النبي - صلى الله عليه وسلم - عباس [بن مرداس] (¬1) وقد كان شريفًا عظيم الغناء، حتى استعتب فأعطاه. وقال في كتاب حرملة: أخبرنا سفيان قال: حدثني عمر بن سعيد، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين: أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، مائة مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك. ثم أردفه الشافعي في كتاب حرملة بأن قال: أخبرنا سفيان، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عامر بن سعد، [عن أبيه] (¬2) قال: "قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمًا، فقلت: يا رسول الله، أعط فلانًا فإنه مؤمن. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَوَمُسْلِمٌ. فقلت: يا رسول الله أعط فلانًا فإنه مؤمن. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَوَمُسْلِمٌ، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليّ منه؛ مخافة أن يكبه الله في النار". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬3). ثم أردفه الشافعي بحديث رواه عن سفيان، عن مصعب بن سليم، عن أنس ابن مالك، قال: "أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمر، فجعل النبي يقسمه وهو محتفز يأكل منه أكلًا ذريعًا". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬4) وأبو داود (¬5). و"المحتفز" المستوفز المستعجل الذي كأنه يريد أن يقوم. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) سقط من "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 199)، وصحيح مسلم (150). (¬3) مسلم (150). (¬4) مسلم (2044). (¬5) أبو داود (3771). بنحوه.

و"الذريع" السريع. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: "أنه قال لعمر بن الخطاب: إن في أظهر ناقة عمياء، فقال: من نعم الجزية أم من نعم الصدقة؟ فقال أسلم: من نعم الجزية، وقال: إن عليها ميسم الجزية". قال الشافعي: وهذا يدل على أن عمر كان يسم وسمين: وسم جزية، ووسم صدقة، وبهذا نقول. وقد رواه في كتاب فرض الزكاة بطوله، وقال الشافعي: بلغني عن حميد الطويل أنه ذكر عن أنس بن مالك: "أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسم إبل الصدقة". وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). قال الشافعي: ولم يزل السُّعاة يبلغني عنهم أنهم يسمون كما وصفت، ولا أعلم في الميسم علة إلا أن يكون ما أخذ من الصدقة معلومًا فلا يشتريه الذي أعطاه؛ لأنه شيء خرج منه لله عز وجل، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب في فرس حمل عليه في سبيل الله فرآه يباع أن لا يشتريه، وكما ترك المهاجرون نزول منازلهم بمكة لأنهم تركوها لله عز وجل، وقد روى المزني، عن الشافعي، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن عمر بن الخطاب حمل على فرس في سبيل الله، فوجده يباع، فأراد أن يبتاعه، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك [فقال: لا] (¬3) تبتعه ولا تعد في صدقتك". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري (1502). (¬2) مسلم (2119). (¬3) في "الأصل": قال: فلا. والمثبت من مصادر التخريج الآتية. (¬4) أخرجه البخاري (1489)، ومسلم (1621)، وأبو داود (1593)، والترمذي (668)، والنسائي (2617)، والموطأ (624).

هَذا آخر كِتَاب البيْع مِنْ كِتَاب الشَّافِي فِي شرْح مُسْند الشَّافِعي رضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لِمصَنِّفِه. وَالحمْد لِلَّه وَحْدَهُ وصَلواتُه على سَيِّدنَا مُحُمَّد وآلهِ وصحْبه أجْمَعِين.

كتاب النكاح

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم كِتَابُ النِّكَاحِ وَيشْتَمِل عَلَى بَابين: الباب الأول في المقدمات وفيه ثلاثة فصُول: الفصل الأول فيمَا يَتعلَّق برسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأزْواجه قال الربيع: قال الشافعي -رضي الله عنه- إن الله تبارك وتعالى لما خص به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من وحيه، وأبان من فضله من المباينة بينه وبين خلقه بالفرض على خلقه طاعته، في غير آية من كتابه فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1) الآية وأمثالها، وافترض الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أشياء خففها على خلقه [ليزيده بها -إن شاء الله- قربة إليه وكرامة، وأباح له أشياء حظرها على خلقه] (¬2) زيادة في كرامته. قال: فمن ذلك: أن من ملك زوجة سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن عليه أن يخيرها في المقام معه أو فراقه، وله حبسها إذا أدى ما يجب عليه لها وإن كرهته، وأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخير نساءه فقال: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية (80). (¬2) ليست في "الأصل" ولعله انتقال نظر من الناسخ، والمثبت من "الأم" (5/ 140)، و"المعرفة" (5/ 211).

تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ...} (¬1) الآيات. فخيرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاخترنه، فلم يكن الخيار إذا اخترنه طلاقًا, ولم يجب عليه أن يحدث لهن طلاقًا [وكان تخيير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إن شاء الله- كما أمر الله، إن أردن الحياة الدنيا وزينتها ولم يخترنه، وأحدث لهن طلاقًا لا يجعل الطلاق إليهن، لقول الله عز وجل: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} (¬2) أحدث لكن إذا اخترتن الحياة الدنيا وزينتها متاعًا وسراحًا] (¬3) فلما اخترنه لم يوجب ذلك عليه أن يحدث لهن طلاقًا ولا متاعًا. فأما قول عائشة -رضي الله عنها- "قد خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترناه، أفكان ذلك طلاقًا؟ " يعني -والله أعلم-: لم يوجب ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحدث لنا طلاقًا. وإذا فُرِضَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - إن اخترن الحياة الدنيا؛ أن يُمَتَّعْنَ، فاخترن الله ورسوله، فلم يطلق واحدة منهن، فكل من خير امرأته فلم تختر الطلاق فلا طلاق عليها، وكذلك كل من خير نساءه فليس الخيار بطلاق حتى تطلق المخيرة نفسها. قال الشافعي -رضي الله عنه- حدثني الثقة، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: "قد خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أفكان طلاقًا؟! ". وقال الشافعي: وأنزل الله تبارك وتعالى عليه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (¬4) الآية. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية (28) وما بعدها. (¬2) سورة الأحزاب، الآية (28). (¬3) ليس في "الأصل"، والمثبت من "الأم"، و"المعرفة". (¬4) سورة الأحزاب، الآية (52).

وقال بعض أهل العلم: نزلت عليه: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (¬1) بعد تخييره أزواجه. قال: وأخبرنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن عائشة -رضي الله عنها-، أنها قالت: "ما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أُحل له النساء". قال الشافعي [كأنها] (¬2) تعني اللاتي حُظِرْنَ عليه في قوله: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} (¬3) وأحسب قول عائشة: "أُحِلَّ له النساء" لقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ...} (¬4) إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) فذكر الله ما أحل له، فذكر أزواجه اللاتي آتى أجورهن، وذكر بنات عمه، وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي؛ فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أنه أحل له مع أزواجه من ليس بزوج يوم أحل له، وذلك أنه لم يكن عنده من بنات عمه ولا بنات خاله ولا بنات خالاته امرأة، وكان عنده عدة نسوة، وعلى أنه أباح له من العدد ما حظر على غيره، وهو أن يتهب بغير مهر ما حُظِرَ على غيره، ثم جعل له في اللاتي يهبن أنفسهن له أن يتهب ويترك، فقال: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} (¬5) فمن اتُّهب منهن فهي زوجه لا تحل لأحد بعده، ومن لم يتهب فلم يقع عليها اسم زوجه وهي تحل لغيره. قال: أخبرنا مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد: "أن امرأة وهبت نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقامت قيامًا طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. فذكر أنه زوجها إياه". ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية (52). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" و"المعرفة". (¬3) سورة الأحزاب، آية (52). (¬4) سورة الأحزاب، آية (50). (¬5) سورة الأحزاب، آية (51).

وقال الشافعي -رضي الله عنه- فكان مما خص الله تعالى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - قوله: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬1). وقال: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} (¬2) فحرم نكاح نسائه من بعده على العالمين وليس هكذا نساء أحد غيره. وقال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} (¬3) فأثابهن به من نساء العالمين. وقوله: {وأَزْوَاجُهُ أُمهَاتُهُمْ} (1) مثل [ما وصفت من اتساع لسان العرب، وأن الكلمة الواحدة تجمع معاني مختلفة، ومما وصفت من أن الله أحكم كثيرًا من فرائضه بوحيه، وسَنَّ شرائع واختلافها على لسان نبيه وفي فعله، فقوله: {أُمهَاتُهُمْ}] (¬4) يعني هن أمهاتهم في معنى دون معنى؛ وذلك أنه لا يحل لهم نكاحهن بحال، ولا يحرم عليهم نكاح بنات لو كن لهن كما يحرم عليهم نكاح بنات أمهاتهم اللاتي ولدنهم وأرضعنهم، والدليل عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوج ابنته وهو أبو المؤمنين وهي بنت خديجة أم المؤمنين عليًّا، وزوج رقية وأم كلثوم عثمان، وأن زينب بنت أم سلمة تزوجت، وأن الزبير بن العوام تزوج بنت أبي بكر الصديق وأن طلحة تزوج بنته الأخرى وهما أختا أم المؤمنين، وعبد الرحمن بن عوف [تزوج] (¬5) حمنة بنت جحش وهي أخت زينب أم المؤمنين. ولا يرثن المؤمنين ولا يرثوهن كما يرثون أمهاتهم ويرثنهم، ويشبهن أن [يكن] (¬6) أمهات؛ لعظم [الحق] (¬7) عليهم مع تحريم نكاحهن. ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، آية (6). (¬2) سورة الأحزاب، آية (53). (¬3) سورة الأحزاب، آية (32). (¬4) سقط من "الأصل"، والمثبت من "الأم" (5/ 141)، و"المعرفة" (5/ 216). (¬5) سقط من "الأصل"، والمثبت من "الأم"، و"المعرفة". (¬6) في "الأصل": يكون، وهو تحريف، والمثبت من المصادر السابقة. (¬7) في "الأصل": الخلق، وهو تحريف، والمثبت من المصادر السابقة.

قال الشافعي -رضي الله عنه- فأما ما سوى ما وصفنا من [أن] (¬1) للنبي - صلى الله عليه وسلم - من عدد النساء أكثر مما للناس، ومن أن يتهب بغير مهر، ومن أن أزواجه أمهاتهم لا يحللن لأحد بعده، وما في معناه من الحكم بين الأزواج فيما يحل منهن ويحرم بالحادث، فلا نعلم حلال الناس يخالف حلال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك. فمن ذلك أنه كان يقسم لنسائه فإذا أراد سفرًا أقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها خرج بها، فهذا لكل من له أزواج من الناس. قال: أخبرني محمد بن علي، أنه سمع ابن شهاب يحدث، عن عبيد الله، عن عائشة -رضي الله عنهما-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها". قال الشافعي: ومن ذلك أنه أراد فراق سودة، فقالت: "لا تفارقني ودعني حتى يحشرني الله في أزواجك، وأنا أهب يومي وليلتي لأختي عائشة". قال: وقد فعلت ابنة محمد بن مسلمة شبيهًا بهذا حين أراد زوجها طلاقها ونزل فيما ذكر: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} الآية (¬2). أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب، يعني بقصة محمد بن مسلمة. من عادة الفقهاء أن يذكروا في أول كتاب النكاح طرفًا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحصرون أصلها في واجبات ومحرمات ومباحات لم تشاركه أمته فيها. فالواجبات: كالوتر، وصلاة الليل، وتخيير نسائه. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬2) سورة النساء، آية (128).

والمحرمات: كالزكاة، وأكل الثوم، والبصل. والمباحات: كالانفراد بالخمس والفيء من المغنم والزيادة على أربع نسوة، وأشياء كثيرة لم نطل بذكرها؛ لأن الفقهاء يستقصونها والله أعلم. ***

الفصل الثاني في الحث على النكاح

الفصل الثاني في الحثِّ على النِّكَاح أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- عن عمرو بن دينار: "أن ابن عمر أراد أن لا ينكح، فقالت له حفصة: تزوج، فإن وُلِدَ لك وَلَدٌ فعاشَ من بعدك دعوا لك". هذا الحديث أورده الشافعي في باب الترغيب في النكاح، وقد جاء في المسند في كتاب أحكام القرآن للشافعي فيما جاء منه في الحث على النكاح، وقد جاء في لفظ الحديث "دعوا لك" بلفظ الجمع فإن لم يكن سهوًا من الكتاب وإلا فهو بعيد الاتجاه؛ لأنها قالت: "فإن ولد لك ولدٌ فعاش" بلفظ الواحد، فكان ينبغي أن تقول "دعى لك"، لا دعوا، فإن قلت: إنما أرادت فإن ولد لك "وُلْدٌ" بضم الواو أي جماعة من الولد؛ قلت: كان ينبغي أن تقول: "فعاشوا" بالجمع أيضًا، اللهم إلا أن يقال: إن الولد يقع على الواحد والجمع، فلما قالت: فعاش ردته إلى اللفظ، لأن الأغلب وقوعه على الواحد، ولما قالت: دعوا لك ردته إلى الجماعة. ولقائل أن يقول: إن الضمير في "دعوا" ليس راجعًا إلى الولد إنما هو راجع إلى الناس وإن لمن يتقدم لهم ذكر، أي إن وُلِدَ لك وَلَدٌ فرآه الناس ذكروك به ودعوا لك. ويجوز أن يكون له وجه آخر، وهو أن هذه اللفظة جاءت في المسند على اختلاف نسخه، وفي كتاب البيهقي مكتوبة هكذا "دعوا" بألف بعد الواو، ومن عادة الكتاب أن يكتبوا بعد واو الجمع في أواخر الأفعال ألفًا نحو: "ضربوا" و"رموا" و"سعوا" و"قتلوا" فإن لم تكن الواو التي في دعوا واو الجمع فإنما هي الواو التي من نفس الكلمة انقلبت عن الألف التي في دعا، وذلك أن تكون الألف التي بعد الواو ألف التثنية، نحو "ضربا" و"قتلا" و"دَعَوَا" و"غَزَوَا" ويريد

بالتثنية الولد والزوجة لأنهما مذكوران. وهذه الوجوه إنما أوردناها لأن اللفظ يحتملها، وإلا فإحالة السهو إلى الكُتَّاب أولى، والله أعلم. قال الشافعي -رضي الله عنه- في الترغيب في النكاح لمن تاقت نفسه إليه: أحب له ذلك؛ لأن الله تعالى أمر به، ورضيه، وندب إليه، وجعل فيه أسباب منافع، فقال: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (¬1). وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} (¬2) فقيل: إن الحفدة الأصهار. وقال: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} (¬3). قال الشافعي: وبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تناكحوا تكثروا؛ فإني أباهي بكم الأمم، حتى بالسقط" (¬4). وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح" (¬5). وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات له ثلاثة من الولد لم تمسه النار" (¬6). ويقال: "إن الرجل ليُرفع بدعاء ولده من بعده" (¬7). وقال عمر بن الخطاب: "ما رأيت مثل من ترك النكاح بعد هذه الآية {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬8) " وقد جاء في الحث على النكاح ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية (189). (¬2) سورة النحل، آية (72). (¬3) سورة الفرقان، آية (54). (¬4) انظر "الأم" (5/ 144) وتلخيص الحبير (3/ 116). (¬5) انظر "الأم"، و"المعرفة" (5/ 220). (¬6) أخرجه البخاري (1381)، ومسلم (2632) من حديث أبي هريرة. (¬7) انظر "الأم" (5/ 144)، وسنن البيهقي الكبرى (7/ 78) و"المعرفة" (5/ 220). (¬8) سورة النور، آية (32).

أحاديث كثيرة وآثار. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم من رواية الزعفراني، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: "لَتَنْكِحَنَّ أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي [الزوائد] (¬1) قال له: ما يمنعك [من] (¬2) النكاح إلا عجز أو فجور". قال الشافعي: ومن لم تَتُقْ نفسه إلى النكاح لا أرى بأسًا أن يدع النكاح؛ بل أحب ذلك، وأن يتخلى لعبادة الله، وقد ذكر الله تعالى القواعد فلم ينههن عن القعود [ولم] (¬3) يندبهن إلى النكاح، وذكر عبدًا أكرمه فقال: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (¬4) والحصور: الذي لا يأتي النساء، ولم يندبه إلى النكاح. و"حصور" فعول بمعنى فاعل من الحصر: المنع، أي يمنع نفسه النكاح، وليس بمعنى "محصور" كما ذهب إليه قوم، ومما يدل على ذلك أن فعولًا بناء يقع على ما كان عادة عن اختيار، نحو أكول وشروب. ... ¬

_ (¬1) في: "الأصل": الوليد، وهو تحريف، والمثبت من "المعرفة" (5/ 223) و"مصنف عبد الرزاق" (6/ 170)، و"حلية الأولياء" (4/ 6)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 48). (¬2) في "الأصل": عن، والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) في "الأصل": فلم. والمثبت من "الأم"، و"المعرفة". (¬4) سورة آل عمران، آية (39).

الفصل الثالث في [الخطبة]

الفصل الثالث في [الخطبة] (¬1) أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن [ابن] (1) عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه". هكذا أخرجه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث"، وعاد أخرجه في "أحكام القرآن" إسنادًا ولفظًا، وأخرجه في كتاب "التعريض بالخطبة" عن محمد ابن إسماعيل، عن ابن أبي ذئب، عن مسلم الخياط، عن ابن عمر (¬2): "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خِطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب". وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن زهير بن حرب ومحمد بن مثنى، عن يحيى القطان، عن نافع، عن ابن عمر ... وذكر البيع والخطبة. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن الحسن بن علي، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ... وذكر الخطبة وبعدها البيع. وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن قتيبة، عن الليث، عن نافع ... وذكر البيع والخطبة. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) وقع هنا سقط، فلفظ حديث مسلم الخياط عن ابن عمر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" هكذا في "الأم" (5/ 39)، و"المعرفة" (5/ 311). وأما المتن المذكور فقد أخرجه البخاري (5142) عن مكي بن إبراهيم عن ابن جريج عن نافع، ومن عادة المصنف أن يقول في مثل هذا الموضع: هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة فأما البخاري فأخرجه ... إلخ ويدل عليه ما بعده وهو قوله: وأما مسلم .. (¬3) مسلم (1412). (¬4) أبو داود (2081). (¬5) الترمذي (1292).

وأما النسائي فأخرجه (¬1) بإسناد الترمذي، وذكر الخطبة وحدها. فهؤلاء قد ذكروا الحديث مقرونًا بذكر البيع وقد تقدم ذكره في كتاب البيع، فيجوز أن ذكر النكاح طرفًا من الحديث، ويجوز أن يكون منفردًا قد قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقام آخر، فإن كان طرفًا من الحديث فيكون ذلك على مذهب من أجاز رواية بعض الحديث دون بعض وهم الأكثرون. و"الخِطبة" في النكاح بكسر الخاء، "والأخوة" ها هنا هي أخوة الإسلام لا أخوة النسب خاصة؛ فإن أخوة النسب تدخل فيها, ولو كان مقصورًا على أخوة النسب لكان خاصًّا، بل هو عام في الجميع. والذي ذهب [إليه] (¬2) الشافعي: أن الرجل إذا خطب امرأة، فصرحت له بالإجابة إن كانت ثيبًا، أو أذنت لوليها أن يزوجها منه، أو تكون ممن يجبرها وليها فيصرح الولي بالإجابة، فهذه لا يجوز لغيره أن يخطبها؛ لأنه إفساد على الخاطب الأول. فإن كان الولي ممن يُخَيِّر كالأخ والعم وغيرهما، فإذا أجاب لم تحرم بذلك خطبتها، فإن خطبها فردته أو لم تجبه أو لم يؤخذ منها ركون إلى إجابته؛ فإن هذه لا تحرم خطبتها. وهذا النهي نهي تأديب لا نهي تحريم؛ فإنه لو وقع انعقد النكاح، وبه قال أكثر العلماء، وقال مالك وداود: لا يصح النكاح. وروي عن مالك: أنه إن أملكها الثاني فُرِّقَ بينهما؛ إلا أن يكون قد دخل بها، والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " مثله وقد زاد بعض المحدثين: ¬

_ (¬1) النسائي (3238). (¬2) ليست في "الأصل".

"حتى يأذن أو يترك". هكذا أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" وعاد أخرجه في كتاب "التعريض بالخطبة" عن سفيان، عن الزهري قال: أخبرني ابن المسيب، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه". هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة، وقد تقدم ذكر طرقهم في كتاب [البيع] (¬1) عند قوله: "لا يَبعْ بعضكم على بيع بعض" فلم نعد ذكرها. وقوله: وقد زاد بعض المحدثين: "حتى يأذن أو يترك" يريد به الخاطب الأول، وقد جاء مثل ذلك مصرحًا به في روايات كثيرة عن ابن عمر وأبي هريرة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة -هي بنت قيس-: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها في عدتها من طلاق زوجها: فإذا حللت فآذنيني: [قالت] (¬2): فلما حللتُ أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة. قالت: فكرهته، فقال: انكحي أسامة. فنكحته فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت به". هكذا أخرجه في كتاب اختلاف الحديث وعاد أخرجه في كتاب أحكام القرآن بالإسناد واللفظ، وهو حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا البخاري. أما مالك فأخرجه (¬3) بالإسناد في جملة حديث هذا آخره، وأوله: "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام، فأرسل إليها بشعير، فسخطته، ¬

_ (¬1) في "الأصل": الربيع، وهو تحريف. (¬2) في "الأصل": قال. (¬3) الموطأ (1210).

فقال: والله مالك علينا من شيء. فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال لها: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند عبد الله بن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك [عنده] (¬1) فإذا حللت فآذنيني ... " وذكر باقي الحديث. وأما مسلم فأخرجه (¬2) عن يحيى بن يحيى، عن مالك ... الحديث بتمامه. وأما أبو داود فأخرجه (¬3) عن القعنبي، عن مالك ... بتمامه. وأما الترمذي فأخرجه (¬4) عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة، عن أبي بكر بن أبي الجهم قال: "دخلت أنا وأبو سلمة بن عبد الرحمن على فاطمة بنت قيس، فحدثت أن زوجها طلقها ثلاثًا ... " وذكر الحديث بطوله. وأما النسائي فأخرجه (¬5) عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن القاسم، عن مالك ... بتمامه. ولهذا الحديث طرق كثيرة أخرجها الجماعة فأكثروا، وقد ذكرنا أكثرها في كتاب جامع الأصول. وهذه "الفاء" التي في رواية الشافعي في قوله: "فإذا حللت" هي عاطفة وقد بأن أمرها في رواية مالك؛ فإن لفظ الشافعي هي قطعة من الحديث، ومن لم يقف على أول الحديث لم يتضح له دخول هذه "الفاء"؛ لأنها تقتضي كلامًا قبلها. "والإيذان": الإعلام. وقولها: "فلما حللت" قيد انقضاء عدتها، وأنها حلت للأزواج؛ لأنها ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الموطأ". (¬2) مسلم (1480). (¬3) أبو داود (2284). (¬4) الترمذي (1135). (¬5) النسائي (3245).

تكون في العدة حرامًا على الأزواج. وقوله: "لا يضع عصاه عن عاتقه" له تأويلان: أحدهما أنه يريد به أنه كثير السفر لا يقيم عند أهله؛ فإن مِنْ شأن المسافر أن يحمل عصاه على عاتقه كما يقال للمقيم ألق عصاك. قال الشاعر: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا (واستقرت) (¬1) بها النَّوَى ... كما قَرَّ عينَّا بالإِيابِ المُسافِرُ فكنى بحمل العصى عن السفر الذي هو مظنته، كما كنى بهذا عن الإقامة، وهذا مما يُنَفِّر النساء؛ فإن الزوج إذا كان كثير الأسفار كرهته المرأة. والثاني أنه يريد أنه كثير الضرب لامرأته، فكأنه يلازم حمل العصا على عاتقه للضرب، وهذا أيضًا مما يُنَفِّر النساء. و"الغبطة" السرور والفرح، وهو من حسن الحال، والأصل فيه أن يتمنى لنفسه مثل حال محمودة لغيره من غير أن يتمنى زوالها عنه، وليس بحسد، وفي رواية الشافعي ومالك "فاغتبطت به" وفي رواية الباقين بحذف "به" وزيادتها زيادة في البيان، وإيضاح وتخصيص أن الغبطة كانت به لا بغيره؛ فإن هذا الوهم حاصل مع حذفها، وإن كانت الحال تنافيه إلا أن فيه جواز إيهام. وفي هذا الحديث جواز التعريض بالخطبة في العِدَّة. وفيه: أن المال معتبر في بعض أنواع الكفاءة. وفيه: دليل على جواز تأديب الرجل امرأته. وفيه: دليل على أن المستشار إذا ذكر الخاطب عند المخطوبة ببعض ما فيه من ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل"، والغريب للخطابي (1/ 97)، والغريب لابن سلام (1/ 344). ووقع في لسان العرب (15/ 65)، (15/ 347)، والغريب لابن سلام (4/ 29): (واستقر). وذكر ابن منظور الخلاف في اسم قائل هذا البيت (15/ 65).

العيوب على وجه النصيحة لها، والإرشاد إلى ما فيه حظها؛ لم يكن ذلك غيبة يأثم فيها. وهذا الحديث مسوق لبيان جواز الخطبة على خطبة الغير إذا لم يكن قد حصل من المرأة إجابة، أو من وليها كما ذكرنا في حديث ابن عمر. قال الشافعي: فكان [بَيِّنًا] (¬1) أن الحال التي خطب فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة على أسامة غير الحال التي نهى عن الخطبة فيها, ولم يكن للمخطوبة حالان (مختلفا) (¬2) الحكم، إلا أن تأذن المخطوبة بإنكاح رجل بعينه، فيكون الولي إن زوَّجها جاز النكاح عليها, ولا يكون لأحد أن يخطبها في هذه الحال حتى يأذن الخاطب أو يترك خطبتها، وهذا بَيِّهنٌ في حديث ابن أبي ذئب. قال: وقد أعلمت [رسول الله صلى الله] (¬3) عليه وسلم أن أبا جهم ومعاوية خطباها، ولا [أشك] (¬4) إن شاء الله أن خطبة أحدهما بعد خطبة الآخر؛ فلم ينههما ولا واحد منهما, ولم تعلمه أنها أذنت في واحد منهما؛ فخطبها على أسامة. قال: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" على جواب السائل والله أعلم، فيكون سئل عن رجل خطب امرأة فرضيته وأذنت في إنكاحه، [فخطبها أرجح عندها منه، فرجعت عن الأول الذي أذنت في إنكاحه، فنهى عن خطبة المرأة إذا كانت بهذه الحالة، وقد يكون أن ترجع عمن أذنت في إنكاحه] (¬5) ولا ينكحها من رجعت إليه، فيكون هذا إفسادًا عليها وعلى خاطبها الذي أذنت في إنكاحه. ¬

_ (¬1) في "الأصل": هنا، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" (5/ 39)، و"المعرفة" (5/ 313). (¬2) في "الأم"، و"المعرفة": مختلفي. (¬3) تكررت في "الأصل". (¬4) في "الأصل": إشكال، وهو تحريف، والمثبت من المصادر السابقة. (¬5) سقط من "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 313).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه: "أنه كان يقول في قول الله عز وجل: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (¬1) أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها: إنك عليَّ لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن الله لسائق إليك خيرًا ورزقًا، ونحو هذا من القول". هذا الحديث أخرجه الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "أحكام القرآن" في بيان حكم التعريض بالخطبة. و"الجناح" الإثم. و"التعريض": خلاف التصريح، وأصل التعريض: التلويح، من عَرْض الشيء وهو جانبه، والفرق بينه وبين الكناية أن الكناية أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن يذكر شيئًا يدل به على شيء لم يذكره. "من خطبة النساء" مصدر خطب، ومعناه: سألها حاجته في نفسها، من قولهم: ما خطبك؟ أي ما أمرك وما حاجتك؟ وقيل: الخطبة الذكر. قال الشافعي -رضي الله عنه- والتعريض الذي أباح الله تعالى: ما عدا التصريح من قول، وذلك أن يقول: رُبَّ متطلع إليك، وراغب فيك، وحريص عليك، وإنك لبحيث تحبين، وما عليك أيمة، وما كان في هذا المعنى مما خالف التصريح. والتصريح أن يقول: تزوجيني إذا حللت، أو أنا أتزوجك إذا حللت، وما أشبه هذا مما جاوز التعريض وكان بيانًا أنه خطبة لا أنه يحتمل غير الخطبة. قال: والعدة التي أذن الله تعالى بالتعريض بالخطبة فيها: العدة من وفاة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (235).

الزوج، ولا أحب ذلك في العدة من الطلاق الذي لا يملك فيه المطلق الرجعة احتياطًا، فأما المرأة يملك زوجها رجعتها فلا يجوز لأحد أن يعرض لها بالخطبة في العدة. قال: و"السِّرُّ" هو الجماع، والجماع هو التصريح بما لا يحل له في حاله تلك. قال: و"بلوغ الكتاب أجله": أن تنقضي عدتها، ثم يعقد عليها -إن شاء الله تعالى- ولا يفسخه إساءة تقدمت منه بالتصريح بالخطبة في العدة؛ لأن الخطبة غير العقد. وتفصيل المذهب: أن المعتدة المطلقة إن كانت بائنًا بالثلاث أو باللعان فهي بمنزلة المعتدة من الوفاة، وإن كانت بائنًا بخلع أو فسخ فإن الزوج يجوز له التعريض والتصريح، وأما غيره ففيه قولان: قال في "البويطي" يجوز، وعلق القول في كتاب "التعريض بالخطبة" والله أعلم. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن [ابن] (¬1) أبى مليكة: "أن ابن عمر كان إذا أنكح قال: أنكحتك على أمر الله تعالى، على إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". قال الشافعي: وأُحِبُّ إلى أن يقدم المرء بين يدي خطبته وكل أمرٍ طلبه سوى الخطبة: حمد الله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والوصية بتقوى الله، ثم يخطب. وأحب للولي أن يفعل ذلك ثم يُزَوِّج، ويزيد: أنكحتك على [ما] (¬2) أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال: فإن لم يزد على عقد النكاح، جاز النكاح. والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (5/ 39)، ومصنف ابن أبي شيبة (3/ 463)، و"المعرفة" (5/ 267). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 267).

الباب الثانى في أحكام النكاح

البَابُ الثّاني في أَحْكَام النِّكَاحِ وَفِيهِ ثلاثة عشر فَصْلاً: الفصْل الأوَّل: في الأَوْليَاءِ وَمَا يتعَلّقُ بهمْ وَفِيهِ أربعَة فروعٍ: الفرْعُ الأوّل: في الأوْليَاءِ مُطْلقًا أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل. ثلاثًا" هكذا أخرجه في كتاب اختلافه مع مالك، وأخرجه في كتاب "أحكام القرآن" عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج بالإسناد وزاد: "فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي. أما أبو داود (¬1) فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن ابن جريج ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2083).

وقال: "فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل" (¬1) وذكر الزيادة التي في الرواية الثانية، وكذلك أبو داود. وقد روى هذا الحديث جماعة من الأئمة، منهم الحجاج بن أرطاة وجعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن عروة. ورواه هشام بن عروة، عن أبيه. ورواه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري وكلهم ثقة حافظ. قال الدارمي: قلت ليحيى بن معين: ما حال سليمان بن موسى في الزهري؟ فقال: ثقة. والعجب أن بعض من يسوي الأخبار على مذهبه يحكي أن ابن جريج سأل ابن شهاب عن هذا الحديث فأنكره، ثم يرويه عن [ابن] (¬2) أبي عمر، عن يحيى بن معين، عن ابن علية، عن ابن جريج، وقد اختصر الحكاية عن ابن معين فلم يبن الغرض منها، والحكاية: أن ابن معين كان يوهن رواية ابن علية عن ابن جريج، عن الزهري، وأنه أنكر معرفة سليمان بن موسى، وقال: لم يذكره عن ابن جريج غير ابن علية، وإنما سمع ابن علية من ابن جريج سماعًا ليس بذاك؛ إنما صحح كتبه على كتب عبد المجيد بن عبد العزيز، وضعف يحيى بن معين رواية ابن علية عن ابن جريج جدًّا. قال عباس الدوري عن يحيى بن معين: ليس يصح في هذا شيء إلا حديث سليمان بن موسى. وقال في رواية مِنْدَل عن هشام بن عروة عن أبيه: هذا ليس بشيء. فيحيى بن معين إنما ضعف رواية مِنْدل، وصحح رواية سليمان بن موسى، ¬

_ (¬1) هذا لفظ الترمذي (1102) فقد رواه عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن ابن جريج به، ولعله قد وقع سقط في الأصل، حيث لم يذكر المؤلف طريق الترمذي، ويدل عليه قوله: وكذلك أبو داود وأما لفظ أبي داود فمثل لفظ المسند: "فنكاحها باطل ثلاث مرات ... "، ثم ذكر الزيادة. (¬2) ليست في "الأصل" والمثبت من المصدر السابق.

وضعف أحمد بن حنبل حكاية ابن علية هذه عن ابن جريج. وقال: ابن جريج له كتب مدونة وليس هذا في كتبه، فهذان إمامان في الحديث وَهَّنَا هذه الحكاية ولم يثبتاها [مع ما] (¬1) في مذاهب أهل الحديث من وجوب قبول خبر الصادق وإن نسيه من أخبر عنه. والمحتج بحكاية ابن علية في رد هذه السنة يحتج في مسألة الوقف برواية ابن لهيعة وحده وفي غير موضع برواية الحجاج بن أرطاة وحده، ثم يرد في هذه المسألة رواية ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن عروة عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل رواية [موسى] (¬2) بن سليمان، ويرد رواية الحجاج ابن أرطأة عن الزهري مثل ذلك، فيقبل رواية كل واحد منهما منفردة إذا وافقت مذهبه، ولا يقبل روايتهما مجتمعة إذا خالفت مذهبه، ومعهما رواية فقيه من فقهاء الشام ثقة تشهد لروايتهما في هذه المسألة بالصحة. هذا كلام البيهقي (¬3). قوله: "أيما امرأة" "أيُّ" هي التي تنوب في الشرط مناب حروفه، وهي اسم، تقول: أي الرجال يقم أقم معه، وأيهمْ يكرمني أكرمه، وهي فيه معرفة للإضافة وقد تترك الإضافة وفيه معناها. وأما التي زيدت إليها "ما" المبهمة وفائدتها التكثير لكل امرأة نكحت، وذلك كقولك: شيء ما، أي: أي شيء كان قليلاً أو كثيرًا، أكثر ما يطلق على القليل، وهي كلمة استيفاء واستيعاب. وفيه: إثبات الولاية على النساء كلهن البكر والثيب، والشريفة والوضيعة. و"النكاح" في الأصل الوطء، وقد أطلق على العقد دون الوطء، تقول: نكحت المرأة، ونكحت هي. ¬

_ (¬1) في "الأصل": معهما، والمثبت من "المعرفة" (5/ 232). (¬2) في "الأصل": سليمان، وهو انتقال نظر من الناسخ أو سبق قلمه. (¬3) انظر "المعرفة" (5/ 230 - 232) بتصرف واختصار.

والمعنى: أيما امرأة زوجت نفسها، فيكون المراد به في هذا الحديث العقد دون الوطء؛ لأن الكلام في صحة النكاح وانعقاده. وفي تكرار اللفظ تأكيد لفسخ النكاح من أصله. وفيه: إبطال الخيار. ومعنى قوله: "بغير إذن وليها" هو أن تتزوج بلا إذنه، فإما أن يلي العقد بنفسه، أو يوكل غيره فيأذن له في العقد عليها. وزعم أبو [ثور] (¬1) أن الولي إذا أذن للمرأة في أن تعقد على نفسها صح عقدها. وقوله: "فلها المهر بما استحل من فرجها" يدل على أن المهر إنما يجب بالإصابة، وأن الدخول كناية عنها. و"التشاجر": التخاصم، والمراد به خصام الولي والمرأة، وإذا طلبت منه النكاح فمنعها، فلم تشاجر الأولياء في السبق إلى العقد لأنهم مع وجودهم لا ولاية للسلطان، إنما يلي السلطان إذا غاب الولي أو عضل المرأة ومنعها من النكاح، فأما إذا تشاجر الأولياء في السبق وكانوا في مرتبة واحدة، فالعقد عقد السابق منهم إذا كان فَعَلَهُ مصلحةً لها ونظر في أمرها. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها ولا غيرها, ولا يملك زواجها إلا وليها إما من نسب أو ولاء أو حاكم وبه قال عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة، وابن المسيب، والحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، وقتادة، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد. قال أبو حنيفة: يجوز للمرأة أن تزوج نفسها وغيرها وتوكل في النكاح. وبه قال الشعبيّ، والزهري. ¬

_ (¬1) في "الأصل": غور، وهو تحريف، وانظر سبل السلام (3/ 118).

وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز لها بغير إذن الولي، فإن فعلت ذلك كان موقوفًا على إجازته. وقال أبو داود: إن كانت بكرًا زوجها الولي، وإن كانت ثيبًا زوجت نفسها. وقال مالك: إن كانت عالية القدر لا تزوج نفسها، وإن كانت دنيئة القدر زوجت نفسها. قال الشافعي: زعم بعض أهل العلم بالقرآن: أن معقل بن يسار كان زَوَّجَ أختًا له ابن عم له فطلقها، ثم أراد التزوج وأرادت نكاحه بعد مضي عدتها، فأبى معقل وقال: زوجتك وآثرتك على غيرك فطلقتها؛ لا أزوجكها أبدًا فنزل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} يعني الأزواج {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} فانقضت عددهن {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} يعني أولياؤهن {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬1) إذا طلقوهن ولم يبتوا طلاقهن. قال الشافعي: وما أشبه معنى ما قالوا من هذا بما قالوا؛ لأنه إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة من له سبب العضل بأن يكون يتم به نكاحها من الأولياء. قال: وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي مع المرأة في نفسها حقًّا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح بالمعروف. قال الشافعي: وجاءت السنة بمثل معنى كتاب الله عز وجل ... وذَكَرَ حديث عائشة. وهذا المعنى الذي ذكره الشافعي في معنى الآية قد أخرجه البخاري (¬2) من حديث أبي عامر العقدي، عن عباد بن راشد، عن الحسن، عن معقل بن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (232). (¬2) البخاري (4529) مختصرًا، وأطرافه في (5130, 5330، 5331).

يسار ... وذكر قصته مع أخته وزوجها، وعضله إياها، وأنه حلف بالله أنه لا يزوجها منه أبدًا، فلما نزلت الآية فيه قال معقل: فقلت: "سمعًا وطاعة، فزوجتها إياه وكفرت عن يميني". وفي ذلك دليل [واضح] (¬1) على حاجة المرأة إلى الولي الذي هو غيرها في تزويجها، ومن حمل عضل معقل على أنه كان يزهدها في المراجعة فمنع من ذلك، كان ظالمًا لنفسه في حمل كتاب الله عز وجل على غير وجهه؛ فلا عضل في التزهيد، إذا كان لها التزويج دون الولي، ولا فائدة في يمينه لو كان لها التزويج دونه، ولا حاجة به إلى الحنث والتكفير، ولها أن تتزوج به دون تزويجه والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل". هكذا أخرج الشافعي هذا الحديث في كتاب اختلافه مع مالك، وأخرجه في كتاب عشرة النساء عن مسلم وسعيد، عن ابن جريج، عن عبد الله بن عثمان ابن خثيم، عن ابن جبير ومجاهد، عن ابن عباس قال: "لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد". وأحسب مسلمًا قد سمعه من ابن خثيم. والحديث قد أخرجه الشافعي موقوفًا على ابن عباس، وقد روي من وجه آخر مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي أيضًا مرفوعًا عن أبي موسى، وعمران بن حصين، وغيرهما من الصحابة. "المرشد": اسم فاعل من أرشد يرشد إذا دل على الرشاد وهدى إليه، والرشاد خلاف الغَيّ. وقد أضاف الشاهدين إلى "العدل" وهي من باب إضافة الموصوف إِلى ¬

_ (¬1) "الأصل": واحتج، وهو تحريف، وانظر "المعرفة" (5/ 229).

الصفة؛ لأن العدل من صفة الشاهد، تقول: هذا شاهد عدل، وشاهدان عدلان، وشهود عدول، ثم يضيفه إليها اتساعًا, ولما استعمل الإضافة أفرد المضاف إليه. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- في الأولياء قد اختلف فيه أصحابه فقال بعضهم: إذا كان الولي فاسقًا محجورًا عليه؛ لم يجز أن يزوج، فأما غير المحجور عليه فيجوز. وقال بعضهم: لا يجوز للفاسق أن يزوج بالإجبار، فأما بالإذن منها فنعم؛ لأنه كالنائب عنها. وقال أكثر أصحابنا: لا يجوز أن يكون الفاسق وليًّا بحال، وهو إحدى روايتي أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز، سواء كان مُجْبِرًا أو غَيْرَ مُجْبِر. وأما شهود النكاح فلا يصح إلا بشاهدين عدلين ذكرين، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس، وإليه ذهب الشعبي والنخعي، وبه قال الأوزاعي والثوري وأحمد. وذهبت طائفة إلى أنه لا يفتقر إلى الشهادة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن الزبير، وإليه ذهب ابن مهدي، ويزيد بن هارون، وبه قال مالك وأهل الظاهر؛ إلا أن مالكًا يقول: من شرط النكاح ترك التواصي بالكتمان. وقال أبو حنيفة: ينعقد بشاهدين وإن كانا فاسقين، وبشاهد وامرأتين، ويثبت عند الحاكم بشاهد وامرأتين. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: قال عمرو بن دينار: "نكحت امرأة من بني بكر بن كنانة يقال لها: ابنة أبي ثمامة عمرو بن عبد الله بن مضرس، فكتب علقمة بن علقمة العتواري إلى عمر بن عبد العزيز -إذ هو والٍ بالمدينة-: إني وليها، وإنها نكحت بغير

أمري. فرده عمر وقد أصابها". قال: فأي امرأة نكحت بغير إذن وليها فلا نكاح لها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نكاحها باطل، وإن أصابها فلها صداق مثلها بما أصاب منها بما قضى لها به النبي - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). قوله: "وقد أصابها" يريد وطئها، وفي هذا مبالغة؛ لأنه رد النكاح بعد الوطء. وقوله: "فأي امرأة نكحت بغير إذن وليها ... " إلى آخر الحديث من كلام الشافعي لا من كلام عمر بن عبد العزيز، وقد أدرجه في الكلام، وقد تقدم في حديث عائشة معنى هذا الحديث. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم وسعيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة بن خالد قال: "جَمَعَت الطريق رفقة فيهم امرأة ثيب، فَوَلَّت رجلاً منهم أمرها، فزوجها رجلاً، فجلد عمر الناكح والمُنْكح ورد نكاحهما". هكذا أخرجه الربيع في المسند، وقد رواه الزعفراني عنه في القديم، فقال: عن ابن جريج، عن عبد الحميد، عن عكرمة بن خالد وهو أصح، وكذا رواه روح بن عبادة، عن ابن جريج. قوله: "امرأة ثيب" يريد أنها ليست ببكر، وأصله من ثَابَ يثوب إذا رجع، كأنها رجعت إلى بيت أبيها. وقوله: "فَوَلَّت أمرها رجلاً لزوجها" والمذهب أن المرأة إذا نكحت نفسها، أو زَوَّجَها غير وليها بإذنها، فإن النكاح فاسد، فإن لم يدخل بها الزوج فلا شيء عليه، وإن وطئها نُظِر، فإن كان يعتقد إباحة ذلك عن اعتقاد أو تقليد مجتهد أو ظن منه؛ فلا حد عليه؛ لشبهة اعتقاده، وإن كان يعتقد التحريم فقال بعضهم: عليه الحد. ¬

_ (¬1) انظر "الأم" (5/ 13)، و"المعرفة" (5/ 238).

وإنما المذهب لا حد عليه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرءوا الحدود بالشبهات" وأما عمر ابن الخطاب فإنما جلدهما تأديبًا لا حدًّا، لا يجب على المنكح حَدٌّ ولا على الناكح إلا بعد الوطء، ولم يُنقل الوطء، ولهذا قال: فجلد الناكح والمنكح ولم يقل: فَحَدَّ. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن معبد بن عمير: "أن عُمر رَدَّ نكاح امرأة نُكِحَت بغير ولي". هذا الحديث مؤكد لحديث قبله، وأن كل نكاح لا يتولاه ولي مرشد ثابت الولاية؛ فَاسِدٌ، وهذه المرأة يجوز أن تكون هي المذكورة في الحديث الأول ويجوز أن تكون غيرها. وقد أخرج الشافعي، عن مالك، أنه بلغه أن ابن المسيب كان يقول: قال عمر بن الخطاب: "لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها، أو ذي الرأي من أهلها، أو السلطان". وهذا قد رواه عمرو بن الحارث، عن [بكير] (¬1) بن الأشج، عن ابن المسيب. وقال الشافعي -فيما بلغه- عن وكيع، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن معاوية بن سويد بن مقرن، أنه وجد في كتاب أبيه، عن علي: "أن لا نكاح إلا بولي، فإذا بلغ الحقائق النص فالعصبة أحق". قال الشافعي: وبهذا نقول لأنه يوافق ما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا ابن قتيبة عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: "لا تُنكح المرأةُ المرأةَ؛ فإن البغي إنما تنكح نفسها". هكذا رواه ابن عيينة، عن هشام بن حسان موقوفًا. ¬

_ (¬1) في "الأصل": بكر، والمثبت من "المعرفة" (5/ 236)، والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 111).

ورواه عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد السلام بن حرب، عن هشام ابن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنكح المرأةُ المرأةَ، ولا تُنكح المرأة نفسها". وكان يقول: "التي تنكح نفسها زانية" وقد أخرج الزهري، عن ابن عباس هذا المعنى مرفوعًا وموقوفًا. قوله: "لا تُنكح" بضم التاء أي لا تتولى عقد النكاح، والمرأة الأولى مرفوعة؛ لأنها فاعلة، والثانية منصوبة؛ لأنها المفعولة، ويجوز أن تكون "لا" ناهية ونافية، والنهي أعم، وقد تقدم لها نظائر، فإن جعلتها نافية رفعت "تُنكح" وإن جعلتها ناهية كسرتها. و"البغي" الزانية. وقوله: "فإن البغى إنما تنكح نفسها" كلام هو تعليل لنفي الإنكاح أو نهيه، ولا يريد أن يجمع بين حكم البغي ولن تزويج المرأةِ المرأةَ، وأن يجعل النكاحين زنا، فقال: إن الزانية هي التي تتولى نكاح نفسها، ويريد بالنكاح ها هنا الوطء؛ لأنه ليس بين الزانية والزاني عقد نكاح، إنما هو تمكين من نفسها، وابتغاء في تحصيل الجماع لا غير. وهذا الحديث مؤكد لما تقدم من كون المرأة لا تلي عقد النكاح. و [قال الشافعي] (¬1) أخبرنا الثقة، عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: "كانت عائشة -رضي الله عنها- تُخطب إليها المرأة من أهلها، فَتَشَهَّدُ، فإذا بقيت عقدة النكاح، قالت لبعض أهلها: زوج؛ فإن المرأة لا تلي عقد النكاح". روى هذا الحديث عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن عبد الرحمن بن القاسم، وقال: لا أعلم إلا عن أبيه ... وذكره. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، وانظر "الأم" (5/ 19)، و"المعرفة" (5/ 233).

قوله: "فَتَشَهَّدُ" يريد الخُطبة؛ لأنه لما كانت الخُطبة تشتمل على حمد الله تعالى والثناء عليه، والتشهد، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ سميت الخُطبة تشهدًا، تسمية للشيء ببعضه، كما قيل للتحيات: التشهد؛ لأن فيها تشهدًا، وقد جاء في بعض النسخ "فتشهد" بتاء واحدة، وفي بعضها بتاءين وهو الأصل، والحذف على التخفيف مع إرادة المحذوف. و"عقدة النكاح" هي الإيجاب والقبول، تشبيهًا بالعُقدة في الحبل ونحوه؛ لأن بالإيجاب والقبول يلتئم الزوج مع الزوجة، فيجتمعان فيصيران كأنهما منعقدان أحدهما بالآخر. وقد احتج بعض من نصر مذهبه بتزويج عمر بن أبي سلمة أمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير، وفي ذلك دلالة على سقوط احتجاجهم به في ولاية الابن، وليس فيه حجة على من اشترط الولي في النكاح؛ لأنه لو كان يجوز النكاح بغير ولي؛ لأشبهه أن توجب العقد هي، ولا تأمر به غيرها، فلما أمرت به غيرها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إياها بذلك على ما رري في بعض الروايات؛ دَلَّ أنها لا تلي عقد النكاح. وقول من زعم أنه كان صغيرًا دعوى، ولم يثبت صغره بإسناد صحيح. وقول من زعم أنه زوجها بالبنوة مقابل لقول من قال بل زوجها بأنه كان من بني أعمامها, ولم يكن لها [ولي] (¬1) هو أقرب منه إليها؛ وذلك لأنه هو عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. فتزويجها كان بولي مع قول من زعم أن نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يفتقر إلى الولي. وفي قصة تزويج زينب بنت جحش ونزول الآية فيها دلالة على صحة ذلك، والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 238)، وهذا الكلام من أول قوله: وقد احتج بعض من نصر مذهبه ... إلى آخر هذا الفصل من كلام الحافظ البيهقي -رحمه الله-.

الفرع الثاني: في ولاية الأباء

الْفَرْعُ الثَّاني: فِي ولَايةِ الآبَاءِ وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابنة سبع، وبنى بي وأنا ابنة تسع، وكنت ألعب بالبنات، وكن جواري يأتينني، فإذا رأين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقمعن منه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسربهن إليّ". وأخبرنا الشافعي، عن سفيان ... بهذا الإسناد أنها قالت: "تزوجني وأنا بنت سبع سنين، وبنى بي وأنا ابنة تسع سنين" هكذا جاء في المسند "وأنا ابنة سبع". وأخرجه من طريق أخرى فقال: "وأنا ابنة ست أو سبع" بالشك. وهو حديث صحيح متفق عليه قد أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي مفرقًا في موضعين. فأما البخاري فأخرج (¬1) عن محمد بن يوسف، عن سفيان ... "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي ابنة [ست] (¬2) وأُدْخِلَت عليه وهي ابنة تسع سنين ومكث عندها تسعًا". وأخرج (¬3) عن محمد عن أبي معاوية، [عن فليح] (¬4)، عن هشام ... قالت: "كنت ألعب بالبنات ... " الحديث. وأما مسلم فأخرجه (¬5) عن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية، عن هشام ¬

_ (¬1) البخاري (5133). (¬2) في "الأصل": ستة، والمثبت من صحيح البخاري. (¬3) البخاري (6130). (¬4) كذا في "الأصل"، وليس في صحيح البخاري ولا مسلم. وأبو معاوية يروي عن هشام بن عروة بلا واسطة، وراجع تحفة الأشراف للحافظ المزي. (¬5) مسلم (1422).

وذكر الفصل الأول وقال في رواية: "ست" وفي أخرى: "سبع". وأخرج عن أبي كريب (¬1)، عن أبي معاوية مثل البخاري. وأخرج أبو داود (¬2) الفصل الأول: عن سليمان بن حرب وأبي كامل، عن حماد بن زيد، عن هشام ... وقال: "وأنا ابنة سبع" وقال سليمان: "أو ست". وأخرج (¬3) الفصل الثاني: عن مسدد، عن حماد، عن هشام نحوه. وأخرج النسائي (¬4) الفصل الأول عن إسحاق بن إبراهيم عن معاوية ... وقال: "ست"، وفي أخرى (¬5): "سبع" ولم يخرج الفصل الثاني، يريد بالست والسبع: سنين وكذلك حذف تاء التأنيث؛ لأن السَّنَة مؤنثة. و"بنى" بامرأته إذا دخل بها، قال الجوهري: يقال: بنيت على امرأتي ولا يقال: بنيت بها، والعامة تقوله، قال: لأن الأصل في ذلك أن الرجل إذا كان عَرَّس بزوجته بنى عليها قبة، وحكى الأزهري عن ابن السكيت مثله، وقال: إنه ليس من كلام العرب، وقد جاء هذا اللفظ كثيرًا في الحديث وغيره. و"البنات" جمع بنت، وتريد به اللعب التي تلعب بها الصبايا، تتخذ من عظم أو خشب ونحو ذلك ويلبسن الثياب. و"الجواري" جمع جارية، وهي الصبية من النساء ها هنا. و"الانقماع" الاختباء والتستر، تشبيهًا بدخول الثمرة في قمعها، وقيل: انقمعن إذا انقهرن وذلك من قوله: قمعته فانقمع، أي قهرته فانقهر. و"سربهن" أي ردهن إليها، من قوله: سرب على الإبل إذا أرسلها عليه قطعة ¬

_ (¬1) مسلم (1422). (¬2) أبو داود (2121). (¬3) أبو داود (4931). (¬4) النسائي (3255). (¬5) النسائي (3256).

قطعة، وسرب عليه الخيل أي بعثها سرية بعد سرية. وقيل: هو من السرب: جماعة النساء. وقيل: من السارب: الظاهر. وفي كونه - صلى الله عليه وسلم - رأى عائشة تلعب بالبنات ورده الجواري إليها لدليل جواز أمثال ذلك من اللعب مما لم يرد فيه نهي، أو لأن عائشة قد كانت هي والجواري يومئذ صغائر ولم يجر عليهن القلم؛ فأجاز ذلك لهن، والله أعلم. وهذا الحديث قد استدل به الشافعي -رضي الله عنه- في إنكاح الأب، فقال في كلام طويل: دَلَّ إنكاح أبى بكر عائشةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنة سبع سنين وبناؤه [بها] (¬1) ابنة تسع على أن الأب أحق بالبكر من نفسها ولو كانت إذا بلغت بكرًا كانت أحق بنفسها منه أشبه أن لا يجوز له عليها حتى تبلغ فيكون ذلك بأمرها، كما قلنا في المولود يُقْتَل أبوه، يحبس قاتله حتى يبلغ الولد فيعفو ويصالح أو يَقْتُل؛ لأن ذلك لا يكون إلا بأمره، وهو صغير لا أمر [له] (1). قال: وقد زوج عَليٌّ عمرَ أم كلثوم بغير أمرها، وزوج الزبير [ابنته] (¬2) صبية. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الأب والجد لهما إجبار البكر الصغيرة والكبيرة على النكاح بغير إذنها، سليمة كانت أو معتوهة، وليس ذلك لغيرهما, ولا يجوز لهما إجبار الثيب صغيرة كانت أو كبيرة. وقال مالك وأحمد: يجوز ذلك لهما في الكبيرة، والأب خاصة في الصغيرة. وقال أبو حنيفة: الكبيرة لا تجبر أصلاً، والصغيرة يجبرها الأب والجد وجميع عصباتها، كالأخ والعم والحاكم، إلا أنه إذا زوجها غير الأب والجدِّ؛ ثبت لها الخيار في فسخ النكاح إذا بلغت. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (5/ 17)، و"المعرفة" (5/ 239). (¬2) في الأصل: امرأته، وهو تحريف والمثبت من المعرفة (5/ 240)، وسنن البيهقي الكبرى (7/ 114).

وعنده أن الثيب الصغيرة في حكم البكر الصغيرة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عبد الرحمن ومجمع ابني يزيد بن حارثة، عن خنساء بنت خدام: "أن أباها زوجها وهي ثيب، فكرهت ذلك، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرد نكاحها". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. أما البخاري فأخرجه (¬1) عن إسماعيل، عن مالك. [وأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن القعنبي، عن مالك] (¬3) وأما النسائي فأخرجه (¬4) عن هارون بن عبد الله، عن معن. وعن محمد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، جميعًا عن مالك. هذا الحديث دليل على أن الثيب لا يجوز إجبارها على النكاح؛ لأنه لو جاز ذلك لما رَدَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاحها. ¬

_ (¬1) البخاري (5138). (¬2) أبو داود (2101). (¬3) تكررت في "الأصل". (¬4) النسائي (3268).

الفرع الثالث: الأستئذان

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: فِي الاسْتِئْذَان أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها". هذا أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" وعاد أخرجه إسنادًا ولفظًا في كتاب "خلاف مالك" وأخرجه في القديم عن سفيان بن عيينة، وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. أما مسلم فأخرجه (¬1) عن سعيد بن منصور وقتيبة ويحيى بن يحيى. وأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن أحمد بن يونس والقعنبي. وأما الترمذي (¬3) والنسائي (¬4) فأخرجاه عن قتيبة. كل هؤلاء عن مالك. "الأيم" المرأة التي لا زوج لها، والزوج الذي لا امرأة له، بكرين كانا أو ثَيِّبَيْنِ، تزوجا أو لم يتزوجا، وقد آمتِ المرأةُ من زوجها أَيْمًا وأيُومًا، وتأيمت المرأة وتأيم الرجل إذا مكثا زمانًا لا يتزوجان. قال بعض أهل العلم: لأهل اللغة في الأيم قولان: أحدهما: المرأة قد تكون أَيِّمًا إذا لم يكن لها زوج، وإن لم تكن نكحت قط. والثاني: أنها لا تكون أَيِّمًا إلا وقد نكحت، ثم خلت بموت أو طلاق، بكرًا ¬

_ (¬1) مسلم (1421). (¬2) أبو داود (2098). (¬3) الترمذي (1108). (¬4) النسائي (3260).

كانت أو ثَيِّبًا، بَنَى عليها الأزواج أو لم يَبن. يقال: تأيمت المرأة إذا لم تنكح بعد موت زوجها. وقد ذهب فقهاء العراق في الأيم إلى ظاهر اللغة، فجعلوا الأيم عامًّا في الشيب والبكر، وجعلوا اللفظة الثانية وهي البكر مفردة بحكم، وداخلة مع الأولى في حكمها، وأبى الشافعي [وغيره] (¬1) من الفقهاء ذلك، وذهبوا إلى أن المراد بالأيم الثيب، وليس يحفظ عن الشافعي ولا يوجد في شيء من كتبه أن الأيم والثيب في اللغة عبارتان عن معنى واحد، فيجد العائب طريقًا إلى عَيْبِه، ولكنه ألطف الفكر، وتوصل إلى استخراج ما غمض على غيره، وذلك [أنه] (¬2) رأى الخبر تضمن الأيم والبكر، ووجد البكر معطوفًا على الأيم، وكان ظاهر الخطاب وحقيقة اللغة يقتضي تغاير المعطوف والمعطوف عليه، ومن الظاهر عند أهل اللسان أن الشيء لا يعطف على نفسه، هذا هو الأصل المُطَّرد، فإن وجد في الكلام ما يخرج عنه وأصيب فيه ما يخالف هذه القضية؛ فزائل عن الظاهر، تابع لدليله، كما يوجد عموم يُخَصّ، وأمر يُحْمَل على الندب، وخبر يراد به الأمر، فلا تترك له موضوعات الأصول، ولا يُعترض به على حقائق اللغة، وكما لا يعطف بالشيء على نفسه فكذلك لايعطف به على جملة هو بعضها؛ لأنه يكون معطوفًا به على نفسه، وعلى شيء آخر معه، ولو قال قائل من أهل اللغة ممن يوثق بسداده: جاءني عمرو وأكرمني أبو زيد؛ لوجب أن يكون أحدهما غير الآخر في مقتضى الظاهر. وكذلك لو قال: وجدت عبد الله عاقلًا وأبا محمد فاضلاً؛ لكان المعقول منه تغايرهما، وإن أمكن أن يكون المسمَّى هو المكنَّى. فلما تقرر عند الشافعي هذا الأصل، ووجد الأدلة تقوده إليه؛ فصل بين المعطوف والمعطوف عليه، فجعل الأَيِّمَ غير البكر، وليس غير البكر إلا الثيب، ¬

_ (¬1) في "الأصل": غيرها. (¬2) ليست في "الأصل".

ولا يعترض هذا قول من يزعم أنه إقرار بالعدول عن الظاهر، ومفارقة الحقيقة، فقد سلما للمخالف، ووقعت المنازعة في هذه الدلالة؛ لأنا نقول إن في الخبر ظاهرين متقابلين: أحدهما: حقيقة الأيم، وهو وقوعها على كل خالية من حرمة نكاح. والثاني: ظاهر العطف، ووجوب تمييز المعطوف من المعطوف عليه. فلما تقابل هذان الظاهران، ولم يكن من نقض أحدهما بُدٌّ؛ أَتبع التعارف واستسلم عادة الخطاب وعادة استعمال في اللغات مقدمة على حقيقتها، هي أولى بالظواهر من أصولنا، فاستعمل الشافعي -رحمه الله تعالى- ذلك وذهب إلى أن المراد بالأيم في هذا الحديث: الثيب؛ لأنه قابله بالبكر، فيكون قد أطلق اللفظ العام على أحد مدلوليه، واستعمله استعمالًا خاصًّا، ثم إنه أزال الاشتراك والاشتباه بقوله: "والبكر تستأذن". وقد جاء هذا الحديث من طرق أخرى عن ابن عباس وغيره وقال فيه: "الثيب أحق بنفسها" بدل "الأيم" فدل على أن المراد بالأيم: الثيب، والله أعلم. و"الولي" الذي يتولى أمر المرأة، كالأب، والجدِّ، والأخ، والعمِّ، ومن يجري مجراهم من العصبات، وهو [من] (¬1) الولاية؛ لأنه يلي أمر المرأة، هو من الوليِّ القرب؛ لأنه أقرب إليها من غيره. و"البكر" خلاف الثيب، والذكر والأنثى فيه سواء. و"أحق" أفعل من الحقِّ، بمعنى هي ألزم بنفسها وأولى بشأنها. و"الصُّمات" بالضم السكوت، صَمَتَ يَصْمت صمتًا وصُمَاتًا وصموتًا. وفي هذا الحديث نظر وله تأويل، وذلك أن قوله: "الأيم أحق بنفسها" يدل ظاهره وصريحه على أن لها أن تزوج نفسها؛ لأنه قال: "أحق بنفسها من وليها" ومن ذهب إلى أنها لا يصح زواجها نفسها قال: معنى قوله: "أحق بنفسها" في ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل".

التعيين واختيار الزوج لا في عقد النكاح؛ لأن ولي الثيب ليس له أن يزوجها بغير إذنها، سواء كانت صغيرة أو كبيرة؛ إلا أن تكون معتوهة فللأب والجد إجبارها على النكاح، فالحديث مسوق لبيان الاستئذان لا لجواز النكاح بغير إذن الولي ولا بإذنه، فكان حمل هذا اللفظ على ما قلنا أولى من حمله على جواز التزويج، ويدل على ذلك أنها لو زوجت نفسها من غير كفؤ؛ كان لوليها ردّ النكاح بغير خلاف، وقد استدل أصحاب الشافعي بقوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها" على أن ولي البكر أحق بها من نفسها من طريق دلالة المفهوم؛ لأن الشيء إذا قيد بأخص أوصافه دل على أن ما عداه بخلافه، فقوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها قد جمع نصًّا ودلالة، والعمل واجب بالدلالة كوجوبه بالنص، ودلالته أن غير الثيب وهي البكر حكمها خلاف حكم الثيب في كونها أحق بنفسها. وأما استثمار البكر فإنما شرع تطييبًا لنفسها دون الوجوب، بدليل أنه جعل صماتها إذنها، والصمات لا يكون إذنها بل هو إلى الامتناع أقرب به وأولى؛ لأن الإذن له عبارة تدل عليه فإنه إيجاد وإنشاء، والامتناع عدم، فالسكوت من أقوى أدلته، ولكن لما اعتبر الشارع صلوات الله عليه أن البكر الغالب عليها الحياء وأنها لذلك لا تنطق بالإذن؛ جعل السكوت أمارة على الإذن والرضا, ولأنه قد يستدل بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجماع وسبب لا يصلح معه النكاح مما لا يعلمه غيرها. قال الشافعي -رضي الله عنه- ويشبه في دلالة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[إِذْ فرق] (¬1) بين البكر والثيب، فجعل الثيب أحق بنفسها من وليها، وجعل البكر تستأذن من نفسها؛ أن الولي الذي عَنى -والله أعلم- الأب خاصة، فجعل ¬

_ (¬1) في "الأصل"؛ أن يفرق، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" (5/ 18) و"المعرفة" (5/ 241).

الأيم أحق بنفسها منه، فدل ذلك على أن أمره أن تستأذن البكر في نفسها أمر اختيار لا فرض؛ لأنها لو كانت إذا كرهت لم يمكن [له] (¬1) تزويجها كانت كالثيب، وكان يشبه أن يكون الكلام فيها: أن كل امرأة أحق بنفسها من وليها فإذن الثيب الكلام والبكر الصمت، ويشبه أمره أن تستأذن البكر في نفسها أن يكون على استطابة نفسها؛ لأنه يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وأمروا النساء في بناتهن" (¬2). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر نعيمًا أن يؤامر أم ابنته فيها". وهذا الحديث مرسل، وهكذا أخرجه الشافعي في كتاب "أحكام القرآن" مؤكدًا لما سبق من قوله: إن استئمار البكر على سبيل استطابة نفسها. قال: ولا يختلف الناس أن ليس لأمها فيها أمر، ولكن على معنى الاستطابة. و"المؤامرة" مفاعلة من الأمر، أن يأخذ أمرها ويستأذنها. وقوله: "أم ابنته" ولم يقل زوجته؛ لأن أم ابنته قد لا تكون يومئذ زوجته، ولأن الزوجة قد لا تكون أم ابنته، ولأن لفظ الحديث كذا جاء، وقد أخرجه البيهقي (¬3) بإسناده، عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن عمر: "أنه خطب ابنة نعيم ابن النحام ... " وذكر الحديث في ذهابه إليه مع زيد بن الخطاب، قال: فقال: "إن عندي ابن أخ لي يتيم ولم أكن لأنقص لحوم الناس وأترب لحمي. قال: فقالت أمها من ناحية البيت: والله لا يكون هذا حتى يقضي به علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحبس أمر بني عدي على ابن أخيك سفيه -أو قال: ضعيف- ثم خرجت حتى أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته الخبر، فدعا نعيمًا، فقص عليه كما قال لعبد الله بن عمر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنعيم: صل رحمك وارض ابنتك وأمها؛ فإن لهما في أمرهما نصيبًا". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬2) أخرجه أبو داود (2095)، وأحمد في مسنده (2/ 34)، والبيهقي في الكبرى (7/ 115) من حديث ابن عمر -رضي الله عنه-. (¬3) أخرجه في "المعرفة" (5/ 242).

الفرع الرابع: في أحاديث متفرقة

الفرْعُ الرابعُ: فِي أحَادِيثَ متفرقة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن الزبير، قال: "أُتي عمر بن الخطاب بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة، فقال: هذا نكاح السِّرِّ ولا أجيزه، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت". هكذا أخرجه الشافعي في كتاب "عشرة النساء"، وقد أخرجه مالك في الموطأ (¬1) إسنادًا ولفظًا. وكذا أخرجه البيهقي (¬2). قوله: "نكاح السر" يريد به ترك إظهاره والإعلان به، فإن أعلان النكاح مستحب. وقوله "لا أجيزه" أي لا أمضيه وأقره. وقوله: "لو كنت تقدمت فيه لرجمت" يريد النهي عنه والتحذير منه، أي لو كنت نهيت عنه وفعل لرجمت فاعله. وقد تقدم في الفرع الأول في حديث ابن عباس تفصيل المذهب في شهود النكاح؛ فلم نذكره ها هنا اختصارًا. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن علية، عن ابن أبي [عروبة] (¬3)، عن قتادة، عن الحسن، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أنكح الوليان، فالأول أحق". وأخبرنا الشافعي بهذا الإسناد عن الحسن، عن رجل من أصحاب ¬

_ (¬1) الموطأ (1130). (¬2) المعرفة. (¬3) في "الأصل": عروة، وهو تحريف.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي قال: "إذا أنكح الوليان فالأول أحق، فإذا باع المجيزان فالأول أحق". أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب "عِشرة النساء"، وأخرج الثانية في كتاب "أحكام القرآن" ولم يسمَّ الرجل الصحابي لأن ابن أبي عروبة كان يشك فيه، فتارة يرويه عن عقبة بن عامر، وتارة عن سمرة بن جندب، وتارة عن أحدهما [بالشك] (¬1) وقد رواه الشافعي أيضًا بالإسناد المذكور في "تحريم الجمع بن النساء" ولم يذكر البيع، وفي كتاب "الإيلاء" وذكر البيع، وسمى الرجل فيهما عقبة بن عامر. والصحيح في إسناد هذا الحديث: رواية هشام وهمام وأشعث وحماد بن سلمة وغيرهم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخرج حديث سمرة أبو داود (¬2) والترمذي (¬3) في كتابيهما. و"الوليان" تثنية الولي، وهو الذي يتولى نكاح المرأة. و"المجيزان" تثنية المجيز، قال الأزهري: هو الولي، والوصي باليتيم، والقَيِّمُ بأمر اليتيم، والعبد المأذون [له] (¬4) في التجارة، فهذا اسم فاعل من أجاز الشيء، يجيزه: إذا أمضاه، فكأن كل واحد من المتبايعين مجيز لما باعه. قوله: "فالأول أحق" أي أثبت حقًّا وأولى من الثاني. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن المرأة إذا أذنت لكل واحد من ولييها أن يزوجها من رجل لا بعينه؛ وزوجها كل واحد رجلاً، فإن عُلم أن النكاحين وقعا معًا دفعة واحدة، أو لم يعلم هل اتفقا, أو سبق أحدهما الآخر، أو علم أن أحدهما سبق الآخر لا بعينه؛ فإن في هذه المسائل الثلاث ينفسخ ¬

_ (¬1) من "المعرفة" (5/ 263)، وانظر السنن الكبرى (7/ 141). (¬2) أبو داود (2088). (¬3) الترمذي (1110). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من "النهاية" (1/ 315).

النكاحان؛ لأنه لا يمكن إمضاؤهما, ولا أحدهما أولى من الآخر، فإن علم أن أحدهما سبق الآخر بعينه، فإن نكاح الولي الأول [أولى إلا] (¬1) أن يشك بعد العلم؛ فإنه يتوقف ليتبين. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: الأول أولى، إلا أن يدخل بها الثاني فيكون الثاني أولى والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) في "الأصل": إلى.

الفصل الثاني: في الجمع بين الأقارب

الفصْل الثاني: فِي الجمْع بيْن الأقارب أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها, ولا بين المرأة وخالتها". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. وأخرجه مالك في الموطأ (¬1) إسنادًا ولفظًا. فأما البخاري فأخرجه (¬2) عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن محمد بن المثنى [و] (¬4) ابن [بشار] (¬5) وأبي بكر بن نافع، عن ابن [أبي] (¬6) عدي، عن شعبة، عن عمرو بن دينار، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة (¬7). وأما أبو داود فأخرجه (¬8) عن عبد الله بن محمد النفيلي، عن زهير، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن أبي هريرة. وأما الترمذي فأخرجه (¬9) عن نصر بن علي، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، ¬

_ (¬1) الموطأ (1123). (¬2) البخاري (5109). (¬3) مسلم (1408). (¬4) في "الأصل": عن، وهو تحريف، والمثبت من صحيح مسلم، وتحفة الأشراف (10/ 471). (¬5) في "الأصل": يسار، والمثبت من المصادر السابقة. (¬6) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬7) وأخرجه مسلم أيضًا من طريق القعنبي عن مالك بنفس إسناد الشافعي ومتنه. (¬8) أبو داود (2065). (¬9) الترمذي (1125).

عن هشام، عن زهير، عن [.......................] (¬1) قوله: "لا يجمع الرجل" يجوز أن يكون نهيًا ونفيًا، فإن نهيت كسرت العين، وإن نفيت ضممت العين، والنفي أحسن؛ لأنه أعم، كأن هذا أمر لا يقع وليس من شأنه أن يوجد. قال الشافعي: وبهذا نأخذ، وهو قول من لقيت من المفتين لا اختلاف بينهم فيما علمته، ولم يُرو من وجه يثبته أهل الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن أبي هريرة. وقد روي من وجه لا يثبته أهل الحديث من وجه آخر. وفي هذا حجة على من رد الحديث، وعلى من أخذ بالحديث مرة وتركه أخرى. والذي عنى الشافعي أنه روي عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبي سعيد، وأنس، وعائشة، كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن شيئًا من هذه الأحاديث ليس من شرط الصحة، وإنما اتفق حفاظ الحديث على حديث أبي هريرة (¬2). والجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها حرام بالسنة. وحكي عن الخوارج والشيعة أنهم قالوا: لا يحرم الجمع وإنهما. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن أبي يحيى، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي وهب الجيشاني، عن أبي خراش، عن الديلمي -أو عن ابن الديلمي- قال: "أسلمت وتحتي أختان، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرني أن أمسك أيتهما شئت وأفارق الأخرى". ¬

_ (¬1) بياض بـ "الأصل"، ولعله أراد ذكر طريق النسائي، وهو عند النسائي (3288) من طريق هارون بن عبد الله، عن معن، عن مالك مثل رواية الشافعي. (¬2) انظر "المعرفة" (5/ 293).

هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي. فأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي وهب الجيشاني، عن الضحاك بن فيروز، عن أبيه. وأما الترمذي فأخرجه (¬2) عن قتيبة، عن ابن لهيعة، عن أبي وهب الجيشاني ... وقال: هذا حديث حسن غريب (¬3). الذي ذهب إليه الشافعي: أن الجمع بين الأختين لا يجوز. قال الشافعي: لا يحل الجمع بين الأختين بحال من نكاح ولا ملك يمين؛ لأن الله جل ثناؤه أنزله مطلقًا، فلا يحرم من الحرائر شيء إلا حرم من الإماء بالملك مثله، إلا العدد. والقول الجامع في ذلك أن كل شخصين لا يجوز لأحدهما أن يتزوج بالآخر لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى لأجل القرابة فلا يجوز الجمع بينهما، والمعنى في ذلك أنه يؤدي إلى قطع الرحم الدنية لما في الطباع من التنافس والغيرة بين الضرائر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن قبيصة ابن ذئيب: "أن رجلاً سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية؛ فأما أنا فلا أحب أن أصنع هذا. قال: فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدًا فعل ذلك؛ لجعلته نكالًا". ¬

_ (¬1) أبو داود (2243). (¬2) الترمذي (1129). (¬3) هذا القول أنما قاله الترمذي على الحديث الذي يلي هذا، رقم (1130) ليس على هذا الإسناد.

زاد في نسخة: قال مالك: قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب. قال مالك: وبلغني عن الزبير بن العوام مثله، هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬1). "أحلتهما آية" يريد قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬2) فأطلق ملك اليمين. وقوله: "وحرمتهما آية" يريد قول الله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬3) فلما تعارضت الآيتان عند عثمان قال: "وأما أنا فلا أحب أن أصنع هذا" يعني الجمع بينهما؛ اجتنابًا للشك، واستظهارًا. و"النكال": العقوبة، وهو اسم لما أوقعته بإنسان عبْرة لغيره؛ حتى إذا رآه خاف أن يَعمل مثل عمله. ونكلت بفلان إذا عاقبته في جرم أو جريمة عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله، وكذلك قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} (¬4) أي جعلنا هذه الفعلة عبرة تنكل أن يفعل مثلها فاعل فيناله مثل الذي نال هؤلاء. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الجمع بين الأختين في مِلك اليمين لغير الاستمتاع بهما معًا جائز، فأمَّا الجمع بينهما في الاستمتاع فلا يجوز. وروي ذلك عن علي وعثمان، وإليه ذهب عامة الفقهاء. وقال داود وأهل الظاهر: لا يحرم الجمع بين الأختين بملك اليمين. واستدلوا بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬5). ¬

_ (¬1) الموطأ (1122). (¬2) سورة المؤمنون، آية (5، 6)، وسورة المعارج، آية (29، 30). (¬3) سورة النساء، آية (23). (¬4) سورة البقرة، آية (66). (¬5) سورة المؤمنون، آية (6)، والمعارج، آية (30).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وابنتها من ملك اليمين هل توطأ إحداهما بعد الأخرى؟ فقال عمر: ما أحب أن أَخْبُرَهُمَا جميعًا". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه قال: "سئل عمر بن الخطاب عن الأم وابنتها من ملك اليمين، فقال: ما أحب أن أَخْبُرَهُما جميعًا". قال عبيد الله: قال أبي: "فوددت أن عمر كان أشد في ذلك مما هو". هذا أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، وذكر الرواية الأولى وزاد فيها: "ونهاه عن ذلك". قوله: "ما أحب أن أَخْبُرَهُما" أي أن يطأهما معًا؛ لأنه إذا وطئ الواحدة فقد خبرها، فلذلك قال: "ما أحب أن أَخْبُرَهُما جميعًا" أي أجمع في الاختبار بينهما, ولذلك قال عبيد الله بن عبد الله: قال أبي: "فوددت أن عمر كان أشد في ذلك مما هو" أي أكثر احتياطًا، أي لو أنه كان يحرم الجمع بينهما قطعًا لا أنه يتوقف ويقول: "ما أحب أن أخبرهما جميعًا". والمذهب: أن الرجل إذا وطئ أمته لا تحل له أمها ولا بنتها أبدًا؛ لأن هذا وطء له حرمة، يتعلق به لحوق النسب فتعلق به تحريم بنتها، كوطء الزوجة، وأما الأم فتحرم بعقد النكاح لأنها تصير به فراشًا، والوطء آكد في ذلك من العقد؛ ولأنه إذا حرمت البنت بالأم فالأم أولى؛ لأن البنت أوسع في الإباحة من الأم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: سمعت ابن أبي مليكة يخبر أن معاذَ بن عبيد الله بن معمر جاء عائشة فقال لها: "إن لي سرية أصبتها، وإنها قد بلغت لها ابنة جارية لي، أفأستسر ¬

_ (¬1) الموطأ (1121).

ابنتها؟ فقالت: لا. فقال: فإني والله لا أدعها إلا أن تقولي: حرمها الله. فقالت: لا يفعله أحد من أهلي، ولا أحدٌ أطاعني". هذا الحديث مؤكد لحديث عمر في الجمع بين الأم وابنتها من ملك اليمين. و"السُّرِّيَّة" الجارية التي يطؤها مولاها، قال الأزهري: أختلفوا في السرية من الإماء لم سميت سرية؟ فقال بعضهم: نسبت إلى السِّرِّ: وهو الجماع، فضمت السين؛ فرقًا بين الحُرَّة، والأمة التي تكون للوطء، فيقال للحرة إذا نكحت سرًّا سِرِّية بالكسر وللأمة يَتَسَرَّاها مالكها سُرِّيَّة بالضم، وقال قوم: السُّرُّ بالضم: السرور فسميت الجارية سُرِّيَّة لأنها موضع سرور الرجل، وهذا أحسن القولين. وقال الليث: السُّرِّيَّة: فعيلة من قولك تسررت، قال: ومن قال: تَسَرَّيْتُ فقد غلط، وقال الأزهري: "ليس بغلط" (¬1) ولكنه لما توالت ثلاث راءات في تسررت قلبت إحداهن ياء، كما قالوا: قَصَّيْتُ أظفاري، والأصل: قصصت. وقال بعضهم: يقال: استسر الرجل جارية إذا تسراها. ولما استفتى هذا الرجل عائشة عن بنت سريته، فقالت: "لا" فكأنه لم يقنع بفتواها من نفسها، وأراد أن تنقل له الحكم فيها نقلاً ورواية لا أجتهادًا وقياسًا، أو أراد أن تصرح بالتحريم؛ فإن قولها له: "لا" قد يجوز أن يكون [ليس] (¬2) حرامًا وإنمآ أرادت أن تنهاه عنها ورعًا واحتياطًا، فلما قال لها ما قال، قالت: "لا يفعله أحمد من أهلي ولا أحد أطاعني". وهذا القول يُجَوِّز أن تكون أرادت بالنهي الاحتياط والورع؛ لأن عدولها عن إجابته بما طلبه منها من التصريح بالتحريم إلى هذا القول فيه نظر و [إيهام] (¬3) أن ذلك ربما كان لهذا السبب. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان بن عيينة، عن مطرف، ¬

_ (¬1) في لسان العرب (4/ 358): هو الصواب. (¬2) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها. (¬3) في "الأصل": إياهم، وهو تحريف.

عن أبي الجهم، عن أبي الأخضر، عن عمار: "أنه كره من الإماء ما كرهه من الحرائر إلا العدد". وأخرج الشافعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان وأيوب , عن أبن سيرين قال: قال ابن مسعود: "يكره من الإماء ما يكره من الحرائر إلا العدد". قال الشافعي: هذا من قَول عمار -إن شاء الله- في معنى القرآن، وبه نأخذ. يريد بذلك الجمع بين الأختين من ملك اليمين. وأخرج الشافعي قال: أخبرنا ابن عيينة , عن عمرو بن دينار، أنه سمع الحسن ابن محمد يقول: "جمع ابن عم لي بين ابنتي عم له، فأصبح النساء لا يدرين أين يذهبن" قال البيهقي (¬1): يريد بين ابنتي عمين له. قال الشافعي: وأخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار: أن عبد الله بن جعفر جمع بين امرأة علي وابنته" هذه المرأة هي ليلى بنت مسعود النهشلية امرأة علي ابن أبي طالب، وابنته أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) المعرفة (5/ 294).

الفصل الثالث في نكاح المتعة

الفصْل الثالثُ في نِكَاحِ المتْعَة أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت ابن مسعود يقول: "كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس معنا نساء، فأردنا أن نختصي، فنهانا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم رخص لنا أن ننكح المرأة إلى أجل بالشيء". هكذا أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" ثم عاد أخرجه بالإسناد واللفظ في كتاب "اختلاف علي وابن مسعود". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. فأما البخاري فأخرجه (¬1) عن قتيبة، عن جرير، عن إسماعيل بن أبي خالد بالإسناد نحوه. وأما مسلم فأخرجه (¬2) عن محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني، عن أبيه ووكيع وابن بشر، عن إسماعيل ... بالإسناد. "الاختصاء" الافتعال من خَصَيُتهُ أُخْصِيه خِصَاءً -ممدود- إذا أسللت خُصيته، والرجل خَصِيّ والجمع خِصْياَنٌ وخِصْيةٌ. وقوله: "بالشيء" يريد كل ما يقع عليه اسم الموجود لا يخص شيئًا بعينه، وقد اختلف العلماء في الشيء هل يطلق على المعدوم أم لا؟ فذهبت المعتزلة إلى أنه يطلق عليه، وقال أهل السنة والجماعة: لا يقع إلا على الموجود خاصة. ¬

_ (¬1) البخاري (5075). (¬2) مسلم (1404).

وهذه مسألة عظيمة من مسائل الكلام، حتى إن بعض المتكلمين قد كَفَّر القائلين: إن المعدوم شيء، وفي رواية الشافعي: "وليس معنا نساء" وفي رواية البخاري ومسلم: "وليس لنا نساء" ورواية الشافعي أولى؛ لأن قوله: "ليس معنا" يفيد أن لهم نساء ولكنهن لسن معهم في الغزو؛ فيحتاجون إلى النكاح المألوف عندهم لبعدهم عن أزواجهم. وأما قوله: "وليس لنا" فإنه يفيد أنهم لَمَّا يملكوا عصمة النساء، وليسوا ذوي زوجات لا في الحضر ولا في الغزو، فإن الغزو ليس له زيادة في تحريك شهوة الجماع بخلاف المقام، ولكنهم لما كانوا بسبب الغزو يغيبون عن نسائهم، وتطول مدة عهدهم بالنكاح المباح لهم؛ قالوا: "وليس معنا نساء" فالاختصاء حرام لا يجوز للإنسان فعله لا بنفسه ولا بغيره. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي -قال: وكان الحسن أرضاهما- عن أبيهما، أن عليًّا قال لابن عباس: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية". أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب "اختلاف الحديث"، وعاد أخرجها بالإسناد في كتاب "الشغار" أيضًا. وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

فأما البخاري فأخرجه (¬1) عن مالك بن إسماعيل، عن ابن عيينة ... وزاد فيه: "زمن خيبر". وأما مسلم فأخرجه (¬2) عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب جميعًا، عن ابن عيينه. وعن (2) أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. وأما الترمذي فأخرجه (¬3) عن ابن أبي عمر، عن سفيان .. وذكر "يوم خيبر". وأما النسائي فأخرجه (¬4) عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم. وأخرج مالك في الموطأ (¬5) الإسناد بالرواية الثانية. "المتعة" المنفعة، تقول: تمتعت بكذا واستمتعت به، فأنا مستمتع، وتقع المتعة في استعمال الشرع في النكاح والطلاق والحج؛ لأن كلاًّ منها به انتفاع، ونكاح المتعة في الشرع هو النكاح إلى أجل، فتقول: زوجني ابنتك -مثلًا- إلى شهرٍ, أو سنة، أي مدة كانت معلومة كهذه، أو مجهولة: إلى يوم يقدم فلان. وفي الرواية الأولى: "نهى عن نكاح المتعة" وفي غيرها: "نهى عن متعة النساء" والمعنى سواء؛ إلا أن قوله: "نكاح المتعة" أوضح وأبين من متعة النساء؛ لأنه صرح في الأولى بذكر النكاح ولم يذكره في الثانية، واحتاج حينئذ أن يأتي بلفظ آخر يدل على الغرض وينفي عنه الاشتراك، فقال: "متعة النساء" ولم يقل: عن المتعة؛ لئلا يُظَن أنها متعة الحج والطلاق. ¬

_ (¬1) البخاري (5115). (¬2) مسلم (1407). (¬3) الترمذي (1121). (¬4) النسائي (3366). (¬5) الموطأ (1129).

و"الأهلية" منسوبة إلى الأهل، يعني أنها مملوكة، وأن لها أهلًا ترجع إليهم ويرجعون إليها، بخلاف حمر البرِّ؛ فإنها لا أهل لها. و"الإنسية" منسوبة إلى الإنس، وهم بنو آدم. وقوله: "عن لحوم الحمر" يريد عن أكلها، فحذف المضاف تخفيفًا للمعلم به، وقد جاء في بعض الروايات تعيين يوم التحريم، وبعضها لم يرد فيه، وفي بعضها [قرن] (¬1) الوقت بالمتعة، وبعضها قرنه بالحمر فبخلاف ذلك؛ لأن الوقت يعم الأمرين معًا؛ لأنه يذكر حكمين أحدهما معطوف على الآخر، ثم جاء بالوقت بعد الفراغ من ذكرهما، فكان إسناده إليهما بخلاف ما إذا فصل بين الأمرين بذكر الوقت فإنه يكون بالأول أخص. والذي ذهب إليه الشافعي: أن نكاح المتعة حرام فاسد لا ينعقد، وإليه ذهب جميع الصحابة والتابعين والفقهاء؛ إلا ما يحكى عن ابن عباس أنه أجازه ثم رجع عنه، وحكي عن ابن جريج جوازه، وذهبت الشيعة إلى أنه جائز، وأنه لا تتعلق به أحكام النكاح من طلاق، وظهار، ولعان، وميراث. وقال الشافعي: يُدْرَأْ به الحدُّ؛ لأنه شبهة ولكن يُعَزَّر. وأما الحمر الأهلية فإنها حرام، وبه قالت الجماعة، وحكي عن ابن عباس أنه حلال عنده. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة". هكذا أخرجه الشافعي في كتاب "الشغار" وعاد أخرجه في كتاب "اختلاف علي وابن مسعود" إسنادًا ولفظًا. هذا طرف من حديث طويل يتضمن قصة، وقد أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. ¬

_ (¬1) في "الأصل": قول، وهو تحريف، ويدل عليه ما بعده.

فأما مسلم فأخرجه (¬1) عن قتيبة، عن الليث، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه أنه قال: "أذن [لنا] (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتعة فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بَكْرةٌ عيْطاء، فعرضنا عليها أنفسنا، فقالت: ما تعطي؟ قلت: ردائي. قال: وقال صاحبي ردائي وكان رداء صاحبي أجود من ردائي، وكنت أشَبَّ منه، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها، وإذا نظرت إلي أعجبتها، ثم قالت: أنت ورداؤك تكفيني، فمكثت معها ثلاثًا. ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان عنده من هذه النساء التي يتمتع بها فَلْيُخْلِ سبيلها". وأخرجه أيضًا (¬3) عن عمرو الناقد وابن نمير، عن سفيان ... بإسناد الشافعي ولفظه. وأخرجه (3) من طرق كثيرة مطولة ومختصرة وذكر في بعضها: "أنه كان عام الفتح وأنه حرمها". وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن محمد بن يحيى بن فارس، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن الربيع بن سبرة، عن أبيه ... مثل حديث الشافعي. وأما النسائي فأخرجه (¬5) بإسناد مسلم ولفظه. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: ذكر ابن مسعود الإرخاص في نكاح المتعة، ولم يوقت شيئًا يدل أهو قبل خيبر أو بعدها؟ فأشبه حديث علي بن أبي طالب الذي يقول فيه: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن متعة النساء يوم خيبر" أن يكون -والله ¬

_ (¬1) مسلم (1406). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من صحيح مسلم. (¬3) مسلم (1406). (¬4) أبو داود (2073). (¬5) النسائي (3368).

أعلم- ناسخًا, ولا يجوز نكاح المتعة بحال. ويؤيد ذلك: أن ابن مسعود قال في بعض روايات حديثه من رواية وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عنه أنه قال: "كنا ونحن شباب" فأخبر أنهم كانوا يفعلون ذلك وهم شباب، وابن مسعود مات سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة، وكان يوم مات ابن بضع وستين سنة، وكان فتح خيبر في سنة سبع، وفتح مكة سنة ثمان، فعبد الله بن مسعود كان زمان الفتح ابن أربعين سنة والشباب قبل ذلك فأشبه [حديث] (¬1) علي أن يكون ناسخًا، كيف وما حكاه ابن مسعود كان أمرًا شائعًا لا يشبه على مثل علي بن أبي طالب عليه السلام؟! وقد أنكر على ابن عباس قوله في الرخصة، وأخبر بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فدل على أنه علم النسخ حتى أنكر قوله في الرخصة. قال البيهقي: كان ابن عيينة يزعم أن تاريخ خيبر في حديث علي إنما هو في النهي عن لحوم الحمر الأهلية لا في نكاح المتعة، وهو يشبه أن يكون كما قال؛ فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص فيه بعد ذلك ثم نهى عنه، فيكون احتجاج عليٍّ بنهيه عنه آخرًا حتى تقوم به الحجة على ابن عباس. وهذا الذي حكاه البيهقي عن ابن عيينة وترجيحه لما ذهب إليه ابن عيينة فلأنه لم يوقت في روايته التي رواها الشافعي عنه، وأما البيهقي فَيُنْتَقَض ترجيحه عليه بما رواه الشافعي عن مالك في المسند وقد ذكرناه: "أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأهلية" فخصص التوقيت بالمتعة حيث ذكره بعدها وقيل: الحمر، وقد أشرنا في حديث عليّ إلى اختلاف ألفاظ الرواة في ذلك. قال الشافعي: وإن كان حديث الربيع بن سبرة يَثْبُت؛ فهو بَينِّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحل نكاح المتعة، ثم قال: "هي حرام إلى يوم القيامة". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل" والمثبت من "المعرفة" (5/ 342) فهذا نص كلام البيهقي فيه.

وذكر الشافعي في أحكام القرآن الآيات التي وردت في أحكام النكاح، ثم قال: [فكان] (¬1) بَيِّنًا -والله أعلم- أن يكون نكاح المتعة منسوخًا بالقرآن والسنة في النهي عنه؛ لأن نكاح المتعة أن ينكح إلى مدة ثم ينفسخ نكاحه بلا إحداث طلاق، وفي نكاح المتعة إبطال ما وصفت مما جعل الله إلى الأزواج من الإمساك والطلاق، وإبطال المواريث بين الزوجين، وأحكم النكاح التي حكم الله بها في الظهار، والإيلاء، واللعان، إذا انقضت المدة قبل إحداث الطلاق. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عمرو: "أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت: إن ربيعة بن أمية اسْتمتع [بامرأة] (¬2) مولدة فحملت منه، فخرج عمر يَجُرُّ رداءه فزعًا وقال: هذه المتعة، ولو كنت تقدمت فيها لرجمت". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬3). "المولدة" يريد بها (¬4)، وهي الوليدة أيضًا، كأن المولدة هي من بنات الإماء إذا وطئهن الأحرار من العرب. وقوله: "فزعًا" يجوز أن يكون بكسر الزاي فيكون اسم فاعل من فَزَعَ يَفْزَعُ فهو فَزِعٌ، ويكون منصوبًا على الحال. وأن يكون بفتح الزاي فيكون مصدرًا ويكون منصوبًا لأنه مفعول له، أي يَجُرُّ رداءه لأجل الفزع. و"الرداء" ما يطرحه الرجل على كتفه من ثوب، وهو الآن يسمى الطيْلسَان، ¬

_ (¬1) في "الأصل": فقد, والمثبت من "المعرفة" (5/ 344). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 345)، وسنن البيهقي الكبرى (7/ 206). (¬3) الموطأ (1130). (¬4) كذا با "الأصل" ولعله قد وقع سقط هنا وفي لسان العرب (3/ 469): المولدة: الجارية التي تولد بين العرب وتنشأ مع أولادهم ويغذونها غذاء الولد ويعلمونها من الأدب ما يعلمون أولادهم.

فتارة يكون على الرأس وتارة على الأكتاف. وأما قوله: "ولو كنت تقدمت لرجمت" أي لو كنت نهيت عنها ثم فعلها لرجمت فاعلها. وأما ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنهى عنهما وأعاقب [عليهما] (¬1): إحداهما: متعة النساء؛ فلا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل ألا غيبته في الحجارة. والأخرى: متعة الحج؛ افصلوا حجكم من عمرتكم؛ فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم. فَبَيِّنٌ في قول عمر أن نهيه عن متعة الحج على الاختيار لإفراد الحج عن العمرة، لا على التحريم. وأما متعة النكاح فإنما نهى عنها، وأوعد العقوبة عليها؛ لأنه علم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها بعد الإذن فيها، وبذلك احتج في بعض ما روي عنه، فلا يجوز أن يظن به غير ذلك، وهو يترك رأيه ويرد قضاء نفسه بخبر يرويه غيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك فيما انتشر عنه من دية الجنين، وميراث المرأة من دية زوجها وغير ذلك، فكيف يستجيز خلاف ما يرويه بنفسه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير ثبوت ما نسخه عنده، وهو كقول علي لابن عباس: "أنت امرؤٌ تائه؛ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نكاح المتعة" إلا أن رأوي حديث علي ذكر ما احتج به عليه، وراوي حديث عمر لم يذكره في أكثر الروايات عنه، وقد ذكره بعضهم والله أعلم. ¬

_ (¬1) في "الأصل": عنها، والمثبت من "المعرفة" (5/ 345)، وسنن البيهقي الكبرى (7/ 206).

الفصل الرابع في الشغار

الفَصْلُ الرَّابعُ في الشِّغَار أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار". "والشغار" أن يزوج الرجل (أخته) (¬1) على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر. ومسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر. كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنه نهى عن الشغار" وزاد مالك في حديثه: "الشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته". قال الشافعي: ولا أدري تفسير الشغار في الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من ابن عمر أو نافع أو مالك". أخرج الشافعي الرواية الأولى في كتاب "الشغار" وأخرج الثانية في كتاب "النكاح" من الإملاء. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وأخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) إسنادًا ولفظًا. فأما البخاري فأخرجه (¬3) عن عبد الله بن يوسف. وأما مسلم فأخرجه (¬4) عن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود فأخرجه (¬5) عن القعنبي. ¬

_ (¬1) كذا في "الأصل": وفي مصادر تخريج الحديث: ابنته. (¬2) الموطأ (1112). (¬3) البخاري (1512). (¬4) مسلم (1415). (¬5) أبو داود (2074).

وأما الترمذي فأخرجه (¬1) عن إسحاق بن موسى، عن معن. وأما النسائي فأخرجه (¬2) عن هارون بن عبد الله، عن معن، كل هؤلاء عن مالك. وأخرجه مسلم (¬3) عن زهير بن حرب ومحمد بن مثنى وعبيد الله بن سعيد، عن يحيى بن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر بمثله غير أن في حديث عبيد الله قال: "قلت لنافع: ما الشغار؟ " فذكر التشغير المقدم ذكره، وهذه الرواية قد صرحت بأن تفسير الشغار لنافع. "الشِّغَار"، بكسر الشين،: نكاح كان في الجاهلية وهو أن يقول الرجل لآخر: زوجني ابنتك أو أختك أو من تلي أمرها على أن أزوجك ابنتي أو أختي أو من يلي أمرها على أن صداق [كل واحدة] (¬4) منهما بضع الأخرى، كأنهما رفعًا الأمر وأخليا البضع عنه. وقالوا: أصل الشغار في اللغة: الرفع، من قولهم شغر الكلب برجله: إذا رفعها ليبول، فَسُمِّيَ هذا النكاح شغارًا؛ لأن المتناكحين رفعًا المهر بينهما. وقيل: بل سُمِّيَ شغرًا؛ لأنه رفع للعقد من أصله، فارتفع النكاح والعقد معًا، وقد علل بعض العلماء النهي عن نكاح الشغار بأنه يُصيرّ المعقود عليه معقودًا به؛ لأن الفرجين كل واحد منهما معقود به ومعقود عليه، فعلى هذا يكون فساده راجعًا إلى عقده، ويفسح قبل الدخول وبعده. والذي ذهب إليه الشافعي: أن هذا العقد فاسد، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور؛ أخذًا بظاهر الحديث. قال الشافعي: فإذا أنكح الرجل ابنته الرجل -أو المرأة يلي أمرها من كانت- ¬

_ (¬1) الترمذي (1124). (¬2) النسائي (3337). (¬3) مسلم (1415). (¬4) تكررت في "الأصل".

على أن ينكحه ابنته -أو المرأة يلي أمرها من كانت- على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى، أو على أن ينكحه الأخرى ولم يُسَم لواحدة منهما صداق، فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحل هذا النكاح وهو منسوخ. هذا نص الشافعي في كتاب "الشغار". وقال الزهري وأبو حنيفة: العقد صحيح، والمهر فاسد؛ لأنه لو قال: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك وسكتا، صح العقد، فإذا زاد فيه مهرًا فاسدًا لم يفسد العقد. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، أخبرنا أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار". هكذا أخرجه في كتاب الشغار، وقد أخرجه في كتاب نكاح الإملاء عن مسلم ابن خالد، عن ابن جريج. وعن إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وقد ذكر الشافعي في حديث ابن عمر المقترن بحديث جابر زيادة مالك وهي قوله: "والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته" ثم قال الشافعي: كأنه يقول: صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى. قال البيهقي (¬1): والظاهر أن هذا تأويل من جهة الشافعي للتفسير الذي رواه في حديث مالك، وقد رُوي عن نافع بن يزيد، عن ابن جريج بإسناده ومتنه، وفيه من الزيادة: "والشغار أن ينكح هذه بهذه بغير صداق؛ بضع هذه صداق هذه [وبضع هذه صداق هذه] " (¬2) فيشبه إن كانت هذه الرواية صحيحة أن ¬

_ (¬1) "المعرفة" (5/ 339). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة".

يكون هذا التفسير من قول ابن جريج [أو ممن فوقه] (¬1) والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا شغار في الإسلام". هكذا أخرج الشافعي هذا الحديث في كتاب "الشغار" مرسلًا. وقد أخرج مسلم (¬2)، عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا شعار في الإسلام". "لا" هذه هي النافية التي تبني ما بعدها على النصب، وهي لاستغراق النفي وتعميمه، كقولك: لا رجل في الدار، ولذلك قال النحويون: هي جواب: هل من رجل في الدار؟ فإذا قال: لا رجل في الدار. كان قد استغرق النفي، ولم يجز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه، بخلاف ما لو قلت: لا رجل في الدار، ولا في الدار رجل لجاز أن يكون فيها أكثر من رجل، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا شغار في الإسلام" جاء بالنفي المستغرق ليكون أدل على نفيه والمنع منه، وفيه طرف من النهي؛ لاشتراك النفي والنهي في "لا" فهذا نفي أريد به النهي وجاء به بلفظ [النفي] (¬3) ليكون أعم، أي ليس الشغار من شِعَارِ الإسلام وليس مما من شأنه أن يؤخذ في الإسلام، فكأن الإسلام ينافيه ولا يجامعه. وقوله: "في الإسلام" يريد في حكم الإسلام وسنته. ¬

_ (¬1) في "الأصل": أو من قول -ثم ترك بياضًا، والمثبت من "المعرفة". (¬2) مسلم (1415). (¬3) في "الأصل": النهي، ولعله تحريف أو سبق قلم.

الفصل الخامس في نكاح المحلل والزناة

الْفصْل الخامِسُ في نِكاحِ المحَلل وَالزُّناة قال الشافعي -رضي الله عنه- ونكاح المحلل الذي يروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنه عندنا -والله أعلم- ضَرْب من نكاح المتعة؛ لأنه غير مطلق إذا شرط أن ينكحها حتى تكون الإصابة. فإن عقد النكاح مطلقًا لا شرط فيه فالنكاح [ثابت] (¬1) ولا تُفْسِد النية من النكاح شيئًا؛ لأن النية حديث نفس، وقد وُضع عن الناس ما حَدثوا به أنفسهم. قال الشافعي: وقد أخبرنا مسلم بن خالد، [عن] (¬2) ابن جريج، [عن] (¬3) سيف ابن سليمان، عن مجاهد قال: "طلق رجل من قريش امرأة فَبَتَّها، فَمرَّ بشيخ وابن له من الأعراب في السوق وقدما بتجارة لهما، فقال للفتي: هل فيك من خير؟ ثم مضى عنه ثم كَرَّ عليه فكمثلها، ثم مضى عنه، ثم كر عليه فكمثلها، قال: نعم. [قال] (3) فأرني يدك، فإنطلق به فأخبره الخبر وأمره بنكاحها، فبات معها فَلَمَّا أصبح استأذن، فأذن له فإذا هو قد ولاه الدبر، فقالت: والله لئن طلقني لا أنكحك أبدًا فَذُكر ذلك لعمر، فدعاه فقال: لو نكحتها لفعلت بك كذا وكذا، وتواعده، ودعا زوجها فقال: الزمها". ورواه في "الإملاء" بهذا المعنى وزاد فيه: "وقال: إن عرض لك أحد بشيء فأخبرني به". قال: وحدثني سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن عمر مثله. ¬

_ (¬1) في "الأصل": فاسد، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" (5/ 80)، والمعرفة (5/ 347). (¬2) في "الأصل": بن، وهو تحريف، والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة.

قال: وأخبرنا سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرت عن ابن سيرين: "أن امرأة طلقها زوجها ثلاثًا، وكان مسكين أعرابي يقعد بباب المسجد، فجاءته امرأة فقالت: هل لك في امرأة تنكحها فتبيت معها ليلة وتصبح فتفارقها؟ فقال: نعم [فكان ذلك، فقالت له امرأته: إذا أصبحت فإنهم سيقولون لك فارقها] (¬1) فلا تفعل؛ فإني مقيمة لك ما ترى، واذهب إلى عمر. فلما أصبحت أتوه وأتوها، فقالت: كلموه فأنتم جئتم به. فكلموه فَأَبَى، فانطلق إلى عمر، فقال: [الزم] (¬2) امرأتك، فإن رابوك بريب فأتني، فأرسل إلى المرأة التي مشت لذلك فنكل بها، ثم كان يغدو على عمر ويروح في حلة فيقول: الحمد لله الذي كساك يا ذا الرقعتين حلة تغدو فيها وتروح". قال الشافعي: وسمعت هذا الحديث مسندًا إسنادًا موصولاً عن ابن سيرين بمعناه عن عمر. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن يحيى -يعني ابن سعيد- عن سعيد بن المسيب: "أنه قال هي منسوخة {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (¬3) فهي من أيامى المسلمين، يعني قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} (¬4) الآية". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن بعض أهل العلم: "أنه قال في هذه الآية: هو حكم بينهما". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن مجاهد: "أن هذه الآية نزلت في بغايا من بغايا الجاهلية كانت على منازلهن رايات". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) في "الأصل": ألزمك. والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) سورة النور، آية (32). (¬4) سورة النور، آية (3).

وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب: "في قوله: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} (¬1) الآية قال: هي منسوخة نسختها {وأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ} (¬2) وهي من أيامى المسلمين". وأخرج الروايات الأوائل في كتاب "أحكام القرآن", وأخرج الرواية الآخرة في كتاب "عشرة النساء". هذه الآثار الثلاثة هكذا جاءت في كتاب "أحكام القرآن" من المسند، وهي غير متسقة الإيراد، فلا يكاد يفهمها من لم يقف على أصل لفظ الشافعي في كتاب أحكام القرآن، فإنه أراد بإيرادها بيان معنى القرآن في الآيات المتعلقة بهذا الحكم، فإن الزناة يجوز نكاح بعضهم لبعض ولغيرهم. قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال: واختلف في تفسير هذه الآية، فقيل: فنزلت في بغايا كانت لهن رايات وكن غير محصنات، فأراد بعض المسلمين نكاحهن فنزلت هذه الآية بتحريم أن ينكحهن إلا من أعلن بمثل ما أعلنَّ به، أو مشرك. وقيل: كن زوان مشركات، فنزل أن لا ينكحهن إلا زانٍ مثلهن مشرك، أو مشرك وإن لم يكن زانيًا، وحرم ذلك على المؤمنين. وقيل: أراد الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلا زانٍ أو مشرك فأراد [بالنكاح] (¬3) الوطء. وقوله: [وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنينَ] (¬4) [أي] (¬5) حرم الزنا على المؤمنين، ¬

(¬1) سورة النور، آية (3). (¬2) سورة النور، آية (32). (¬3) في "الأصل": الزنا، وهو تحريف، وانظر "السنن الكبرى" البيهقي (7/ 154)، و"المعرفة": (5/ 274) (¬4) سورة النور، آية (3). (¬5) في "الأصل": أو، وهو تحريف، والمثبت من سنن البيهقي الكبرى.

وقيل: هي عامة ولكنها نسخت، وذكر حديث مجاهد. وقوله: "بعض أهل العلم" قيل: وابن عباس؛ فإنه رواه سعيد بن منصور وغيره، عن سفيان، عن عبيد الله، عن ابن عباس، فكأن الشافعي شك فيه فترك اسمه. قال الشافعي: والذي يشبه والله أعلم ما قال ابن المسيب. وذكر الحديث الأول بهذا اللفظ: "أنه قال في قول الله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (¬1): إنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬2) فهي من أيامى المسلمين: يعني أنه يجوز نكاحها، والأيامى جمع أيم ويقع على الرجل والمرأة إذا لم يتزوجا، بكرين كانا أو ثَيِّبينَ، وقد تقدم شرح ذلك. ومعنى الآية: زوجوا الأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح من عبادكم وإمائكم، أي عبيدكم وجواريكم. و"البغايا" الزواني، جمع بَغيّ، بغت المرأة تبغي بغاءً فهي بغي، إذا زنت. وقوله: "كانت على منازلهن رايات" يريد أمارات وعلامات يُعرفن بها، فمتى رُئيت تلك الراية منصوبة على منزل؛ عُلم أنه منزل زانية. قال الشافعي: وقد أَتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ماعز بن مالك فأقر عنده بالزنا مرارًا لم يأمره في واحدة منها أن يجتنب زوجة إن كانت له، ولا زوجته أن تجتنبه، وقد ذكر له رجل أن امرأة رجل زنت وزوجها حاضر، فلم يأمر -فيما علمنا- زوجها باجتنابها، وأمر أنيسًا أن يغدو عليها، فإن أعترفت رجمها. ¬

_ (¬1) سورة النور، آية (32). (¬2) سورة النور، آية (32).

وقد [جلد ابن] (¬1) الأعرابي في الزنا مائة، وغربه عامًا, ولم ينهه -علمنا- أن ينكح ولا واحدًا أن ينكحه إلا زانية. وقد رفع الرجل الذي قذف امرأته إليه أمر امرأته وقذفها برجل وانتفى من حملها، فلم يأمره باجتنابها حتى لاعن بينهما. وقد روي عنه أن رجلاً شكى إليه أن امرأته لا تدفع يد لامس، فأمره بفراقها فقال له: إني أحبها. فأمره أن يستمتع بها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا سفيان، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: "أتى رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، إن لي امرأة لا ترد يد لامس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فطلقها. فقال: إني أحبها. قال: فأمسكها إذن". هذا حديث أخرجه أبو داود والنسائي. فأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن الحسين بن حريث المروزي، عن الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن ابن عباس ... وذكر نحوه. وأما النسائي (¬3) فأخرجه عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن يزيد، عن حماد بن سلمة وغيره، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير. وعن عبد الكريم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس -عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس وهارون لم يرفعه- قالا: "جاء رجل .. " فذكر ¬

_ (¬1) في "الأصل": جلدت، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" (5/ 12)، والمعرفة (5/ 276). (¬2) أبو داود (2049). (¬3) النسائي (3229).

نحوه. قال النسائي: عبد الكريم ليس بالقوي، هارون بن رئاب أثبت منه، وقد أرسل الحديث، وهو ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. وكذلك أخرجه الشافعي. وقد أخرج الشافعي من رواية البيهقي عنه بإسناده (¬1) قال: أخبرنا رجل يقال له: أبو عبد الله الخراساني، قال: أخبرنا الفضل بن موسى ... وذكره إسناد أبي داود، وقال في آخره: "فذكر وَجْدَهُ بها، قال: استمتع بها". قوله: "لا ترد يد لامس" يريد الزنية، وأنه يتهمها أنها مطاوعة لمن أرادها، ولا ترد يده، وتنقاد معه. وقوله: "فأمسكها إِذَا" إِذْنُ له منه بأن يرضى بما يرتاب منها، ويصبر عليه؛ لأنه لم يتحقق ذلك فيها ولا ثبت عنده. وقوله: "فاستمتع بها" أي تمسكها بقدر ما تقضي متعة النفس من وطرها، فالاستمتاع بالشيء: الانتفاع به إلى مدة ما، ومنه نكاح المتعة، وقد تقدم ذكر ذلك. وقد استدل الشافعي بهذا الحديث على أن الرجل إذا اتهم زوجته وقذفها، أو ظهر له منها ريبة، لا يؤمر بفراقها، وأن الزنا لا يفسخ النكاح، ولا يغير حالاً بين الزوج والزوجة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، قال: حدثني عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه: "أن رجلاً تزوج امرأة لها ابنة من غيره، وله ابن من غيرها، ففجر الغلام بالجارية، فظهر بها حبل، فلما قدم عمر بن الخطاب مكة رفع ذلك إليه، فسألهما فاعترفا، فجلدهما عمر الحدَّ، وحرص أن يجمع ¬

_ (¬1) المعرفة (5/ 276, 277).

بينهما، فأبى الغلام". هذا أخرجه الشافعي في كتاب "عشرة النساء" مؤكدًا لما تقدم من الأحاديث في هذا المعنى. و"الفجور": الزنا، وقد روي (¬1) عن ابن عباس: "أنه سئل عن رجل فجر بامرأة، أينكحها؟ قال: نعم ذلك حين أصاب الحلال". وقال ابن عباس (1): "أوله سفاح وآخره نكاح لا بأس به". وروي عن أبي بكر الصديق (¬2) -رضي الله عنه- في جواز ذلك. وعن جابر بن عبد الله (2) وأبي هريرة (2). ووجه الاستدلال من هذا الحديث: حرص عمر على الجمع بينهما، فلو لم يكن جائزًا حرص عليه. وقد أخرج الشافعي، عن عمرو بن الهيثم، عن شعبة، عن الحكم، عن سالم ابن أبي الجعد، عن أبيه، عن ابن مسعود: "في الرجل يزني بامرأة ثم يتزوجها، قال: لا يزالان زانيين". قال الشافعي: ولسنا ولا إياهم نقول بهذا، هما آثمان حين زنيا، ومصيبان الحلال [حين] (¬3) تناكحا غير زانيين، وقد قال عمر وابن عباس نحو هذا. وقد أخرج الشافعي -فيما بلغه- عن هشيم، عن منصور، عن ابن مسعود: "كان يكره أن يطأ الرجل أمته إذا فجرت، أو يطأها وهي مشركة". وقال الشافعي: قال وكيع، عن سفيان، عن سماك، عن حنش: "أن رجلاً تزوج امرأة فزنا [بها] (¬4) قبل أن يدخل بها، فرفع إلى عليّ ففرق بينهما وجلده ¬

_ (¬1) انظر "المعرفة" (5/ 277)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 155). (¬2) المصادر السابقة. (¬3) في "الأصل": حتى، وهو تحريف، والمثبت من "المعرفة" (5/ 278)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 156). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة.

الحد، وأعطاها نصف الصداق". قال الشافعي: ولسنا ولا إياهم [ولا] (¬1) أحد علمته يقول بهذا، وإنما [أورد] (¬2) هذا إلزامًا للعراقيين في خلاف علي وابن مسعود. قال: ولم يختلف الناس -فيما علمت- في أن الزانية المسلمة لا تحل لمشرك وَثَنِّي ولا كتابي، وأن المشركة الزانية لا تحل لمسلم زان ولا غيره، فإجماعهم على هذا المعنى في كتاب الله؛ حجة على من قال: هو حكم بينهما، والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬2) في "الأصل": أراد، والمثبت من المصادر السابقة.

الفصل السادس في نكاح المشرك

الْفصْل السَّادِسُ في نِكَاحِ المشْركِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا الثقة -أحسبه إسماعيل بن إبراهيم بن علية- عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة، فقال [له] (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمسك أربعًا وفارق سائرهن". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من ثقيف -أسلم وعنده عشر نسوة-: أمسك أربعًا وفارق سائرهن". أخرج الرواية الأولى والثانية في كتاب "أحكام القرآن"، وأخرج الرواية (الثالثة) (¬2) في كتاب "التعريض بالخطبة". هذا الحديث أخرجه الترمذي (¬3) عن هناد، عن عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن معمر، عن الزهري ... بالإسناد، وذكر الحديث إلى قوله: "أربعًا" وقال: هكذا رواه معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه. قال: وسمعت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- يقول: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى شعيب بن أبي حمزة وغيره، عن الزهري قال: حُدثت عن محمد بن سويد الثقفي: "أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة". قال محمد: وإنما حديث الزهري، عن سالم، عن أبيه: "أن رجلاً من ثقيف ¬

_ (¬1) ليست في الأصل، والمثبت من "المعرفة" (5/ 314). (¬2) كذا في الأصل، وكتب بالحاشية: لعلها الثانية. (¬3) الترمذي (1128).

طلق نساءه، فقال له عمر: "لتراجعن نساءك؛ أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال" انتهى كلام الترمذي. وهذا الحديث قد رواه جماعة كثيرة من البصريين والكوفيين وغيرهم منهم: ابن أبي عروبة، وابن علية، ومحمد بن جعفر غندر، ويزيد بن زريع وغيرهم موصولاً، وقالوا في الحديث: "فأمره أن يختار منهن أربعًا" أو ما يكون [هذا معناه وهؤلاء بصريون، وكذلك رواه أبو عبيد، عن يحيى بن سعيد] (¬1) وعن سفيان، عن معمر موصولاً، وكذلك روي عن عبد الرحمن بن محمد المحاربي، وعيسى بن يونس، عن معمر وهؤلاء كوفيون. وروي عن الفضل بن موسى -وهو خراساني- عن معمر موصولاً. ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرْسلاً. وكذلك رواه مالك بن أنس، عن الزهري مرسلاً. وكذلك رواه ابن عيينة، عن الزهري. ورواه يونس بن يزيد، عن الزهري، عن محمد بن [أبي] (¬2) سويد. ورواه عقيل، عن الزهري قال: بلغنا عن عثمان بن محمد بن سويد. [و] (2) رواه ابن وهب، عن يونس [عن الزهري] (2) عن عثمان بن محمد بن [أبي] (2) سويد. وقد روي من غير [جهة] (¬3) الزهري، عن نافع وسالم [عن] (2) ابن عمر: "أن غيلان ..... " الحديث. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 315). (¬3) في "الأصل": وجه عن، وهو تحريف، والمثبت من "المعرفة" (5/ 315).

"النسوة" جمع امرأة من غير لفظها, ولا واحد للنسوة من لفظها. "وسائر" الشيء باقيه، من السؤر: بقية الشراب، وكثير من الناس يطلقون سائر الشيء على كله وهو غلط؛ وإنما السائر: الباقي. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الكافر إذا أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه أو كن كتابيات؛ كان عليه أن يختار منهن أربعًا ويفارق الباقي، سواء اختار الأوائل في نكاحه أو الأواخر، وبه قال مالك وأحمد ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى: إن كان تزوجهن في عقد واحد فارق جميعهن، وإن كان ذلك في عقود لزمته الأربع الأوائل وفارق البواقي؛ فإن العقد إذا تناول أكثر من أربع يحرم من طريق الجمع، ولا يكون مخيرًا فيه بعد الإسلام. وهذا بخلاف صريح الحديث. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا بعض أصحابنا، عن أبي الزناد، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، عن عوف [بن] (¬1) الحارث، عن نوفل [بن] (1) معاوية قال: "أسلمت وتحتي خمس نسوة، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فارق واحدة وأمسك أربعًا، فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها". هكذا جاء الحديث في "المسند" عن بعض أصحابنا، وقد جاء في كتاب "السنن" (¬2) للبيهقي قال: أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول: أخبرني عبد المجيد ... وذكر الحديث، وقال في آخره: "فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسك أربعًا؛ أيتهن شئت وفارق الأخرى، فعمدت إلى أقدمهن صحبة، عجوز عاقر معي منذ ستين سنة ففارقتها". ¬

_ (¬1) في "الأصل": عن، وهو تحريف، وانظر "المعرفة" (5/ 316) و"السنن الكبرى" (7/ 184). (¬2) السنن الكبرى للبيهقي (7/ 184).

"العاقر": المرأة التي لا تلد، وقد تقدم في رواية المسند مفارقة الواحدة على إمساك الأربع، وعكس ذلك في رواية السنن, أما وجه رواية المسند فلأن اهتمام الشرع ببيان الحلال والحرام أشد من غيره، ثم تعجيل تعريف الحرام ليجتنب أهم من تقديم تعريف الحلال ليستعمل، فكان تقديمه في الذكر أولى؛ لئلا يقع في حرام، وأيتهن قَرُبَ منها وهنَّ خمس حرام عليه. وأما وجه رواية السنن وتقديم الإمساك على المفارقة؛ فلأن رعايته لمصلحة الزوج وإعلامه بما يجوز له وما لا يجوز مهم، مع علمه: أن من يكون قد جمع بين خمس نساء فما هو إلا لشدة ميله إلى النساء ورغبته فيهن، فبدأ بتعريفه من يمسكه منهن ويصح له الجمع بينه؛ رعاية لمصلحتة، ووقوفًا عند غرضه، وتعريفه بأن شأنك مع نسائك عندنا مهم، وهذه معان تستنبط من بناء الألفاظ وترتيبها في الخطاب تقديمًا وتأخيرًا، وتخفى على كثير من الناس لغفولهم عن النظر فيها. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب: "أن صفوان بن أمية هرب من الإسلام، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهد حنينًا والطائف مشركًا وامرأته مسلمة، واستقرا على النكاح". قال ابن شهاب: وكان بين إسلام صفوان وامرأته نحو من شهر. هكذا أخرجه الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك، وقد أخرجه في القديم بالإسناد أنه بلغه: "أن نساءكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلمن بأرضهن غير مهاجرات، وأزواجهن حين أسلمن كفار، ومنهن ابنة الوليد بن المغيرة وكانت تحت صفوان بن أمية [فأسلمت يوم الفتح] (¬1) وشهد الطائف وحنينًا وهو كافر وامرأته مسلمة، فلم يفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين امرأته حين أسلم، واستقرت امرأته عنده بذلك النكاح". ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 319).

هذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه مالك في الموطأ (¬1) عن ابن شهاب، وكان من حديث صفوان بن أمية: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خافه صفوان فهرب، فأرسل له النبي - صلى الله عليه وسلم - أمانًا إلى شهرين، وكانت زوجته بنت الوليد بن المغيرة قد أسلمت قبله، فلما وصله الأمان عاد وأقام مشركًا، وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حنينًا والطائف، ثم أسلم؛ فأقرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النكاح". والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن أنكحة المشركين صحيحة، وطلاقهم واقع، وأهل الشرك يقرون على أنكحتهم إذا أسلموا، وإذا أسلمت المرأة وتخلف زوجها عن الإسلام -مشركًا كان أو كتابيًّا- فإن كان قبل الدخول بها انفسخ النكاح في الحال، وإن كان بعد الدخول وقف الفسخ على انقضاء العدة، فإن أسلم قبل الانقضاء كانا على النكاح، وإن انقضت قبل أن يسلم انفسخ النكاح -اتفقت الدار أو اختلفت بينهما- وبه قال أحمد في إحدى الروايتين عنه، وقال في الأخرى: ينفسخ النكاح في الحال. وكذلك حكم الزوج إذا أسلم قبلها. وقال مالك: إن كان هو المسلم قبلها عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت وإلا انفسخ نكاحها. وقال أبو حنيفة: إن كانا في دار الإسلام؛ عُرض الإسلام على الكافر منهما، فإن أبى فرق بينهما، وإن كانا في دار الحرب وقف على انقضاء العدة، فإذا مضت ولم يجتمعا فرق بينهما، وإن أسلم أحدهما ودخل إلى دار الإسلام وقعت الفرقة؛ لاختلاف الدارين. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن ابن شهاب: "أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل فأسلمت، ¬

_ (¬1) الموطأ (1132).

وهرب من الإسلام، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعه، فثبتا على النكاح". قال الشافعي: أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران وهي دار خزاعة، وخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الإسلام، ثم رجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام، فأخذت بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال. ثم أسلمت بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام يومئذ، وزوجها مسلم في دار الإسلام [ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الإسلام] (¬1) وهي في دار الحرب، ثم صارت مكة دار الإسلام وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت قبل انقضاء العدة فاستقرا على النكاح؛ لأن عدتها لم تنقض حتى أسلمت، وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه. وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دار إسلام، وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب، وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب، ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام وشهد حنينًا وهو كافر، ثم أسلم فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول، ورجع عكرمة بن أبي جهل، فأسلم واستقرت عنده امرأته بالنكاح الأول؛ وذلك أن عدتها لم تنقض. قال الشافعي: وما وصفت من أمر أبي سفيان وحكيم وأزواجهما، وأمر صفوان وعكرمة وأزواجهما، أمر معروف عند أهل العلم بالمغازي والله أعلم. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 318)، و"الأم" (5/ 44).

الفصل السابع في نكاح المريض

الفصل السابع في نكاح المريض أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مسلم بن خالد وسعيد، عن ابن جريج، عن عكرمة بن خالد: "أن ابن أم الحكم سأل امرأة له أن يخرجها من ميراثها منه في مرضه فأبت، فقال: لأدخلن عليك فيه من يُنْقِص حقك أو يضرُّ به -وفي نسخة أو يَضُرُّ بِكِ- فنكح ثلاثًا في مرضه، فأصدق كل واحدة منهن ألف دينار، فأجاز ذلك عبد الملك بن مروان". فقال سعيد بن سالم: إن كان ذلك صداق مثلهن جاز، وإن كان أكثر ردت الزيادة، وقال في "المحاباة" كما قلت أنا أيضًا في كتاب "الوصايا" الذي لم يسمع منه، ويقول: قال الشافعي: أخبرنا سعيد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة بن خالد يقول: "أراد عبد الرحمن بن أم الحكم في شكواه أن يخرج امرأته من ميراثها فأبت، فنكح عليها ثلاث نسوة، وأصدقهن ألف دينار كل امرأة منهن، فأجاز ذلك عبد الملك بن مروان، وشرك بينهن في الثمن". قال الربيع: هذا قول الشافعي، قال: أرى ذلك صداق مثلهن، ولو كان أكثر من صداق مثلهن [جاز النكاح وبطل ما زاد على صداق مثلهن] (¬1) إن مات في مرضه ذلك. لأنه في حكم الوصية والوصية لا تجوز لوارث. هكذا أخرج هذا الحديث في كتاب النكاح من الإملاء. ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من "المسند" للشافعي (1/ 277).

قوله: "لأدخلن عليك فيه من ينقص حقك أو يضرُّ به أو بك" يريد أنه لما امتنعت من أن تخرج نفسها من ميراثها قال لها: لأفعلن ما ينقص ميراثك مني أو يضر بحقك أَوْ بِكِ -على اختلاف النسختين- والذي هددها بفعله هو الزواج عليها؛ فإنه إذا أدخل معها في الميراث زوجة أخرى، شاركتها في نصيبها من ميراثه، فهو الربع أو الثمن، [فلو كان] (¬1) لها الربع فيصير لها نصفه، أو الثمن فيصير لها نصفه هذا إذا كانت زوجة واحدة، فكيف وقد أدخل ثلاثًا وكان نصيبها الثمن فصار ربع الثمن، وأي نقص أبلغ من هذا وأي إضرار بها أو بحقها أكمل منه؛ لأنه غاية ما كان قدر عليه من النقص والإضرار؛ حيث لا يقدر أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة. و"المحاباة" المسامحة ببعض الحق وترك ذلك حياءً منه وإفضالاً. والذي ذهب الشافعي: أن نكاح المريض يصح في مرضه، فإذا أصدقها مهر المثل كان من رأس ماله، وإن كان أكثر من مهر المثل كان ذلك محاباة، فإن كانت وارثة لم يثبت لها ذلك إلا باختيار الورثة، وإن لم تكن وارثة مثل أن تكون كتابية أو أَمَة، نظرت فإن خرج ذلك من الثلث جاز، وإن لم يخرج من الثلث وقف على إجازة الورثة. وقال الزهري: يصح النكاح ولا ترثه، وقال ربيعة: يكون مهرها من الثلث. وحكي عن مالك أنه قال: لا يصح. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع مولى ابن عمر، أنه قال: "كانت بنت حفص بن المغيرة عند عبد الله بن أبي ربيعة فطلقها تطليقة، ثم إن عمر بن الخطاب تزوجها، فَحُدَّثَ أنها عاقر لا تلد، فطلقها قبل أن يجامعها، فمكثت ¬

_ (¬1) في "الأصل": فيكون.

حياة عمر وبعض خلافة عثمان، ثم تزوجها عبد الله بن أبي ربيعة وهو مريض؛ لتشرك نساءه في الميراث، وكانت بينها وبينه قرابة". قال: وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن نافع: "أن ابن أبي ربيعة نكح وهو مريض، فجاز ذلك". هذا الحديث مُؤَكِّد للحديث الذي قبله. و"العاقر" المرأة التي لا تحبل، وهذا أولى من قولنا: لا تلد؛ لأن قولنا: لا تلد فيه تعذر الولادة عليها بعد الحبل، وليس المراد بالعاقر هذا، فالمراد امتناعها من الحبل. وقوله: "كانت بينه وبينها قرابة" ذكر السبب الذي من أجله تزوجها في مرضه, لأنه أراد نفعها بما ترثه من ماله بخلاف ما أراد عبد الرحمن ابن أم الحكم في زواجه، فإنه أراد الإضرار بزوجته. قال الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم: "أن شريحًا قضى في نكاح رجل [نكح] (¬1) عند موته، فجعل الميراث والصداق في ماله". قال: وبلغنا: "أن معاذَ بن جبل قال في مرضه الذي مات فيه: زوجوني؛ لا ألقى الله وأنا عزب". وقد روي في إباحة نكاح المريض عن الزبير بن العوام وقدامة بن مظعون (¬2). ... ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 101). (¬2) راجع "الأم" (4/ 103)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 276)، و"المعرفة" (5/ 101).

الفصل الثامن في نكاح المعتدة

الْفصْلُ الثَّامنُ في نِكاحِ الْمُعْتَدَّةِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وسليمان بن يسار: "أن طليحة كانت تحت رُشيد الثقفي فطلقها البتة [فنكحت في عدتها] (¬1) فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات، وفرق بينهما، ثم قال عمر بن الخطاب: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها؛ فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خَاطبًا من الخُطَّاب، وإن كان دخل بها؛ فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر، ثم لم ينكحها أبدًا". وقال سعيد: ولها مهرها بما استحل منها. هذا الحديث هكذا أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) وقال: "لا يجتمعون أبدًا". قوله: "وطلقها البتة" يريد طلاقًا لا رجعة له فيه، بأن يكون طلاقًا بائنًا أو ثلاثًا. "والمخفقة" الدرة، والخفق: الضرب والصفع. وقوله: "فضربها عمر وضرب زوجها بالمخفقة" يجوز أن يشتركا في الضرب بها؛ لأن حرف العطف جمع بينهما، ويجوز أن ينفرد الزوج بها ويكون قد ضربها بغير المخفقة، وهذا كأنه أشبه؛ لأن الضرب بالدرة ليس من تأديب النساء. ¬

_ (¬1) سقطت من "الأصل"، والمثبت من "الأم" (5/ 233)، و"المعرفة" (6/ 63)، و"سنن البيهقي الكبرى" (7/ 441)، ومسند الشافعي (1/ 301). (¬2) الموطأ (1115).

"وضَرَبات" جمع قِلَّة، وهذا يعضد قول من قال: لا يتجاوز بالتعزيز عشر ضربات. وقوله: "كان خاطبًا من الخطاب" يريد أنه لما لم يدخل بها كان من كالأجانب منها الذين يخطبونها ويرغبون في زواجها. وقوله: "بما استحل منها" أي بما وطئها. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المعتدة لا يجوز لها أن تتزوج وهي معتدة، فإن تزوجت كان النكاح فاسدًا، ويجب التفرقة بينهما، فإن لم يدخل بها فعدتها من زوجها الأول بحالها تتمها, لكنها تَسْقُط نفقتها وسكناها لذلك، وإن كان الثاني دخل بها وكانا عالمين بالتحريم، أو كان الزوج عالمًا به، أو كان عالمًا أنها معتدة؛ فالوطء زنًا, ولا تنقطع به العدة. وإن كانا جاهلين بالتحريم، أو كان جاهلاً أنها معتدة؛ فإن الوطء يقطع العدة. وقال أبو حنيفة وأحمد -رضي الله عنهما- لا تنقطع العدة، ثم إذا فُرِّقَ بينهما استكملت عدة الأول، ثم اعتدت عن الثاني عدة كاملة؛ لأن العدتين لا يتداخلان، وعن مالك فيه روايتان. وأما الحكم في قوله: "ثم لا ينكحها أبدًا" فقال في القديم: لا يجتمعان أبداً؛ أخذًا يقول عمر بن الخطاب في هذا الحديث، وبه قال مالك. وقال في الحديث: يكون خاطبًا من الخطاب يجوز له نكاحها، وقد روي عن عمر أنه رجع عنه، وبه قال علي بن أبي طالب، وعلى قول علي اعتمد الشافعي في أن العدة لا تنقطع. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا يحيى بن حسان، عن جرير، عن عطاء بن السائب، عن أبي عمر، عن علي: "أنه قضى في التي تتزوج في

عدتها: [أنه] (¬1) يفرق بينهما, ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر". هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه الشافعي في كون العدة لا تنقطع على ما فصلناه وبيناه في حديث عمر. وقوله: "ما أفسدت من عدة الأول" يريد أنها أفسدتها بنكاح الزوج الثاني في عدة الأول حيث لم تستكملها. ... ¬

_ (¬1) في "الأصل": أنها، والمثبت من "الأم" (5/ 233)، و"المعرفة" (6/ 64).

الفصل التاسع في نكاح الإماء وأهل الكتاب

الْفصْلُ التَّاسِعُ فِي نِكَاح الإمَاءِ وَأَهْل الكِتَابِ أخبرنا الشافعي، عن عبد المجيد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "من وجد صداق حرة فلا ينكح أَمَةً". أخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، أنه بلغه: "أن ابن عباس وابن عمر سُئلا عن رجل [كانت] (¬1) تحته امرأة حرة، فأراد أن ينكح عليها أمة؛ فكرها أن يجمع بينهما". قال الشافعي: فأحل الله حرائر المؤمنات، واستنثنى في الإماء المؤمنات أن تحللن بأن يجمع ناكحهن أن لا يجد طولاً لحرة، وأن يخاف العنت في ترك نكاحهن، "والعنت": الزنا، فزعمنا أنه لا يحل نكاح أمة مسلمة حتى يجمع نكاحها الشرطين. قال الشافعي: والكتاب كافٍ -إن شاء الله- فيه من قول غيري. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن عبد المجيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير: "أنه سمع جابر بن عبد الله سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية، فقال: توزجناهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرًا، فلما رجعنا طلقناهن، وقال: ولا يرثن مسلمًا ولا يرثهن، ونساؤهم لنا حل" (¬2). وروي في إباحة ذلك عن عمر، وعثمان، وطلحة، وحذيفة، وابن عباس، إلا أن عمر كرهها. ¬

_ (¬1) في "الأصل": كان، والمثبت من المعرفة (5/ 308)، والموطأ (1128). (¬2) زاد في "الأم" (5/ 7)، "والمعرفة" (5/ 303): "ونساؤنا حرام عليهم".

قال الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "الجزية": فمن كان من بني إسرائيل يدين بدين اليهود والنصارى نُكح نساؤه وأكلت ذبيحته، ومن دان دين بني إسرائيل من غيرهم -من العرب أو العجم- لم تنكح نساؤه ولم تؤكل ذبيحته. وأخرج عن إبراهيم بن محمد، عن عبد الله بن دينار، عن سعد مولى عمر -أو أبي عبد الله بن سعد- عن عمر أنه قال: "ما نصارى العرب بأهل [كتاب] (¬1) وما تحل لنا ذبائحهم، وما أنا بتاركهم حتى يسلموا أو أضرب أعناقهم". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: "سألت عَبيدة عن ذبائح نصارى بني تغلب فقال: لا تأكل ذبائحهم؛ فإنهم لم يتمسكوا من نصرايتهم إلا بشرب الخمر". قال الشافعي -رضي الله عنه- وهكذا أحفظه، ولا أحسبه أو غيره إلا وقد بلغ [بهذا الإسناد] (¬2) علي بن أبي طالب. ¬

_ (¬1) في "الأصل": الكتاب، والمثبت من "الأم" (5/ 7)، والمعرفة (5/ 305). (¬2) في "الأصل": هذا بإسناد، وهو تحريف، والمثبت من المعرفة.

الفصل العاشر في الأمة تعتق وزوجها عبد

الْفصْلُ العَاشِرُ في الأَمةِ تُعْتقُ وَزوْجُها عبْد أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ربيعة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "كانت في [بريرة] (¬1) ثلاث سنن, وكانت في إحدى السنن: أنها أعتقت، فخيرت في زوجها". هذا طرف من حديث طويل صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة بأسرهم طويلًا ومختصرًا (¬2)، وقد سبق بذكر طرقه، وهذا القدر منه. أخرجه الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "أحكام القرآن". والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الأمة إذا كانت زوجة ثم بيعت لا يكون بيعها طلاقها، ويكون حكم المشتري فيها مع الزوج حكم البائع، وروي مثل ذلك عن عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وإليه ذهب عامة الفقهاء، وروي عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وأنس بن مالك، وابن عباس أنهم قالوا: بيعها طلاقًا. إذا ثبت هذا فإن أعتقها المشتري ثبت لها الخيار إن كان زوجها عبدًا بالإجماع، فإن كان حرًّا لم يكن لها الخيار، وإليه ذهب ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وابن المسيب، والحسن، وسليمان بن يسار، وربيعة، ومالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق، وقال النخعي، والشعبي، وأبو حنيفة، وأصحابه: لها الخيار. والمعنى في التخيير أنها [إن] (¬3) اختارت فسخ النكاح كان لها، وإن اختارت ¬

_ (¬1) في "الأصل": برذة، وهو تحريف، وهي بريرة مولاة عائشة. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ليست في الأصل.

البقاء معه فإن لها ذلك. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أنه ذكر عنده زوج بريرة ذلك فقال: كان ذلك مغيث عبد بني فلان، كأني انظر إليه يتبعها في الطريق وهو يبكي". هذا طرف من حديث بريرة المقدم ذكره، إلا أن ذلك الطرف كان عن عائشة، وهذا الطرف عن ابن عباس، وقد أخرج حديث ابن عباس البخاري، وأبو داود والترمذي، والنسائي. أما البخاري فأخرجه (¬1) عن عبد الأعلى بن حماد، عن وهيب. وعن قتيبة (¬2)، عن عبد الوهاب، كلاهما عن أيوب، عن عكرمة. وعن أبي الوليد (¬3)، عن شعبة وهمام، عن قتادة، عن عكرمة. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن الحذاء، عن عكرمة. وأما الترمذي فأخرجه (¬5) عن هناد، عن عبدة، عن سعيد، عن أيوب وقتادة، عن عكرمة، وسعيد هذا وابن أبي عروبة. وأما النسائي فأخرجه (¬6) عن ابن بشار، عن عبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس. وهذا الحديث وإن كان حجة لما ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- من ¬

_ (¬1) البخاري (5281). (¬2) البخاري (5282). (¬3) البخاري (5280). (¬4) أبو داود (2231). (¬5) الترمذي (1156). (¬6) النسائي (5417).

كون زوج بريرة عبدًا؛ فإنه لم يذكر هذا الحديث ولا الحديث الذي يجيء بعده عن ابن عمر في وجه الاستدلال بهما على أن زوجها [كان] عبدًا، وإنما ذكره عقيب كلامٍ أورده في بعض كتبه، ونحن نحكي القصة لتبيين سبب ذكره. قال الشافعي: خالفنا بعض الناس في خيار الأمة، فقال: تخير تحت الحر كما تخير تحت العبد، وقالوا: روينا عن عائشة أن زوج بريرة كان حرًّا. قال الشافعي -رضي الله عنه- فقلت له: روى عروة والقاسم عن عائشة -رضي الله عنها-: أن زوج بريرة كان عبدًا، وهما أعلم بحديث عائشة ممن رويت هذا عنه. قال: فهل تروون عن غير عائشة أنه كان عبدًا؟ فقلت: هي المعتقة، وهي أعلم به من غيرها، وقد روي من وجهين قد تُثبت أنت ما هو أضعف منهما، ونحن إنما نثبت ما هو أقوى منهما. قال: فاذكرهما. فذكر الشافعي -رضي الله عنه- هذا الحديث عن ابن عباس والحديث الذي يذكره بعد هذا عن ابن عمر، وإنما قال الشافعي بحديث ابن عباس وابن عمر: ونحن إنما نثبت ما هو أقوى [منهما] (¬1) لأن الحفاظ اختلفوا في عكرمة مولى ابن عباس، فمنهم من لم يحتج بحديثه -منهم مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح- ومنهم من يحتج بحديثه -وهؤلاء الأكثر- وعكرمة هو راوي هذا الحديث عن ابن عباس. وأما حديث ابن عمر؛ فلأن في رواة حديثه القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري شيخ الشافعي، وهو ضعيف عند أهل العلم بالحديث، فلم [ير] (¬2) الشافعي -رضي الله عنه- الاحتجاج بما رواه عنه، فلهاتين العلتين قال الشافعي ما قاله لمخاطبه، ولأجل ذلك أخرج هذين الحديثين. ¬

_ (¬1) في "الأصل": بينهما، وهو تحريف. (¬2) ليست في "الأصل"، وانظر المعرفة (5/ 361).

وأما قوله في الحديث: "كأني انظر إليه يتبعها في الطريق وهو يبكي" لأنه كان يحبها ولا يؤثر فراقها، وهي له كارهة، مختارة لفراقه. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: "أن زوج بريرة كان عبدًا". هذا هو الحديث الذي أشرنا إليه، وهو وإن كان القاسم بن عبد الله ضعيفًا فقد روي عن ابن عمر من طرق أخرى أن زوجها كان عبدًا. وأخبرنا الشافعي -رحمه الله- أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه كان يقول في الأمة تكون تحت العبد فتعتق: إن لها الخيار ما لم يمسها، فإن مسها فلا خيار لها". يريد بالمس ها هنا الوطء؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬1) أي من قبل الوطء. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن خيار الأمة إذا أعتقت، فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه على الفور، فإن أخرت الخيار عن حالة الإمكان؛ بطل، كخيار الرد بالعيب. والثاني: أن لها الخيار إلى ثلاثة أيام. والثالث: أنه على التراخي إلى أن يمسها باختيارها أو تصرح بما يبطله وهذا مذهب ابن عمر وحفصة، وهو ظاهر السنة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - خَيَّر بريرة بعد أن مضى زمان الإمكان، والحاجة داعية إليه، ويعضد ذلك قول الشافعي عقيب حديث حفصة الذي ذكره آنفًا: ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (237).

ولا أعلم في توقيت الخيار شيئًا يتبع إلا قول حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما لم يمسها" وفي تركها إياه أن يمسها كالدلالة على ترك الخيار، فإن أصابها، أو تراخى زمان الإمكان واعتذرت بالجهالة ففيه قولان: أحدهما: تحلف ويكون [لها] (¬1) الخيار، وهو أحب إلينا. والثاني: لا خيار لها. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير: "أن مولاة لبني عدي بن كعب -يقال لها: زبراء- أخبرته أنها كانت تحت عبدٍ وهي أمة يومئذ فعتقت، قالت: فأرسلت إلى حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعتني، فقالت: إني مخبرتك خبرًا ولا أحب أن تصنعي شيئًا؛ إن أمرك بيدك ما لم يمسك زوجك. قالت: ففارقته ثلاثًا". هكذا أخرجه في كتاب "أحكام القرآن" وعاد أخرجه فيه مرة أخرى بالإسناد واللفظ، وقال في آخره: "ولم تقل لها حفصة: لا يجوز أن تطلقي ثلاثًا". فأورده في الأول في خيار الأمة إذا أعتقت، وأورده ثانيًا لجواز جمع الطلاق الثلاث وايقاعه. هذا حديث صحيح، قد أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) بالإسناد، وفي آخره: "فقلت: هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق، ففارقته ثلاثًا". قوله: "وهي أمة يومئذ" لما كانت تحت العبد. وقوله: "فعتقت" الفعل لها، وهو مفتوح العين والتاء، وكثير ممن لا علم عنده يقول: عُتِق العبد وعُتِقت الأمة بضم العين وكسر التاء، وإنما هو أعتق وأعتقت. وقولها: "ولا أحب أن تصنعي شيئًا" تريد ترك السرعة والعجلة فيما تجيبها ¬

_ (¬1) سقط من "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 362). (¬2) الموطأ (1172).

به؛ فإن حفصة لم ترد أن تحملها على الفراق ولا على إبقاء النكاح؛ إنما أرادت أن تعرفها مالها وعليها في الأمر، فقالت: "ما أحب أن تصنعي شيئًا" أي في أمر الفراق والاجتماع. وقوله: "ففارقته ثلاثًا" يفسره ما جاء في رواية "الموطأ": "هو الطلاق ثم الطلاق". وهذا هو الحديث الذي أشار إليه الشافعي -رضي الله عنه-: ولا أعلم في توقيت الخيار شيئًا يتبع إلا قول حفصة. وقد ذكرناه في حديث ابن عمر. ***

الفصل الحادي عشر في أحكام متفرقة

الْفصْل الحادِي عَشَر في أحْكَامِ مُتفَرّقةٍ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب أنه قال: قال عمر بن الخطاب: "أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص [فمسها] (¬1) فلها صداقها، وذلك لزوجها غُرم على وَلِيِّها". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن الشعبي، عن علي: "في رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص قال: إذا لم يدخل بها فرق بينهما، وإن كان دخل بها [فهي] (¬2) امرأته إن شاء طلق وإن شاء أمسك". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه فيما بلغه- عن يحيى بن عباد، عن حماد بن سلمة، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الوضيء: "أن أخوين تزوجا أختين، فأهديت كل واحدة منهما إلى أخي زوجها فأصابها، فقضى علي -عليه السلام- على كل واحد منهما بصداق، وجعله يرجع به على الذي غره". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن عمر: "أنه جعل أجل العِنِّين سنة". هكذا رواه المزني عنه، ورواه الزعفراني عنه في القديم بالإسناد: "أن عمر قال: يؤجل العِنِّين سنة فإن جامع وإلا فرق بينهما". ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (5/ 84)، و"المعرفة" (5/ 352)، و"سنن البيهقي" (7/ 214). (¬2) في "الأصل: وهي، والمثبت من "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 215)، و"المعرفة" (5/ 253).

وروي ذلك عن عمر، وعبد الله بن مسعود، والمغيرة بن شعبة. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "كانت اليهود تقول: من أتي امرأته في قبلها من دبرها جاء ولده أحول، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1). وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع، قال: أخبرني عبد الله بن علي بن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الحلاج -أو عن عمرو بن فلان بن أحيحة، قال الشافعي: أنا شككت- عن خزيمة بن ثابت: "أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إتيان النساء في أدبارهن -أو إتيان الرجل امرأته في دبرها- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [حلال] (¬2) فلما ولى الرجل، دعاه أو أمر به فدعي، فقال: كيف قلت؟ في أي الخُربتين -أو في أي الخُرْزتين أو في أي الخُصْفتين؟ - أمن دبرها في قبلها؟ فنعم، أم من دبرها في دبرها؟ فلا، إن الله لا يستحيى من الحق؛ لا تأتوا النساء في أدبارهن". قال الشافعي -رضي الله عنه-: عمي ثقة، وعبد الله بن علي ثقة، وقال: وقد أخبرني محمد بن علي الأنصاري [المحدث] (¬3) به أنه أثنى عليه خيرًا، وخزيمة ممن لا يشك عالم في ثقته، فلست أرخص فيه بل أنهى عنه. هذا الحديث ذكره الشافعي في كتاب "أحكام القرآن" في قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬4) وقال: فاحتملت الآية معنيين أحدهما أن تؤتى المرأة من حيث شاء زوجها؛ لأن معنى {أَنَّى شِئْتُمْ} ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (223). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 334)، وفي "الأم" (5/ 173): "إي حلال". (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من المصادر السابقة. (¬4) سورة البقرة، آية (223).

من أين شئتم، لا محظور منها كما لا محظور من الحرث، واحتملت أن الحرث إنما يراد به النبات، وموضع الحرث الذي يطلب به الولد الفرج دون ما سواه، ولا سبيل لطلب الولد غيره، فاختلف أصحابنا في إتيان النساء في أدبارهن، فذهب ذاهبون إلى إحلاله وآخرون إلى تحريمه، وأحسب كلا الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية على موافقة كل واحد منهم؛ فطلبنا الدلالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدنا حديثين أحدهما ثابت، وهو حديث سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "كانت اليهود تقول: من أتى امرأته في قبلها من دبرها جاء ولده أحول؛ فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1) الآية. ثم قال في موضع آخر: وبَيَّنٌ أن موضع الحرث موضع الولد، وأن الله أباح الإتيان فيه إلا وقت المحيض، قال: وإباحة الإتيان في موضع يشبه أن يكون تحريم غيره، فالإتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الإتيان في القبل يحرم بدلالة الكتاب ثم السنة، وذكر حديث عمه محمد بن علي بن شافع. "الخربة" كل ثقب مستدير مثل ثقب الأذن، وجمعها خُرَب، وأراد بالتثنية: الدبر والقبل، وقد جاء في كتاب "السنن": الخُرْتين تثنية الخرت وجمعه خُروت، وهو ثقب الإبرة والفأس ونحوه، وهو مثل الخُربة. وأما "الخُرْزَتَان" فتثنية الخرزة، وهي كل ثقب الخرز. وأما "الخُصْفتان": فتثنية الخُصفة، وهي المرة الواحدة من خصف النعل إذا خرزها. وقوله: "نعم" في جواب سؤال نفسه من فصيح الكلام واختصاره؛ لأن التقدير: إن كنت تريد من دبرها فلا. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (223).

ثم قال: "إن الله لا يستحيي من الحق" حين صرح بهذا اللفظ حيث ذكر القبل والدبر، والوطء فيهما, ولم يكن التصريح بأمثال هذه الألفاظ من عادته إلا في موضع الحاجة إلى البيان والإيضاح، كما قال لماعز في استفساره عن زناه في المرة الثالثة أو الرابعة: "أنكتها". ثم عقب كلامه بصريح النهي فقال: "لا تأتوا النساء في أدبارهن". وتفصيل المذهب: أن المزني حكى عن الشافعي -رضي الله عنه- في القديم أنه قال: ذهب بعض أصحابنا في إتيان النساء في أدبارهن إلى إحلاله وآخرون إلى تحريمه، ثم قال في آخر الباب: وقال الشافعي: ولا أرخص فيه بل أنهى عنه وحكى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال: ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريمه ولا تحليله شيء والقياس أنه حلال. قال الربيع: كذب والذي لا إله إلا هو، وقد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب، وروي تحريمه عن علي، وعبد الله، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي الدرداء، ومجاهد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وروي عن زيد ابن أسلم، ونافع، إباحته، واختلف أصحاب مالك، فروي [عنه] (¬1) أنه قال: ما أدركت أحدًا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال، ويقال: إنه نص عليه في كتاب السر، وأهل العراق من أصحابه ينكرون ذلك. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم ابن عبد الله، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال: "ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلون؛ لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد أَلَمُّ بها؛ إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد أو اتركوا". ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن عمر: "في إرسال الولائد يوطئن ... " مثل معنى حديث ابن شهاب [عن سالم] (¬1). أخرج هذا الحديث مالك في الموطأ (¬2)، وقال في الثانية: "ثم يدعونهن يخرجن، لا تأتيني وليدة ... " وذكر الحديث، وقال في آخره: "فأرسلوهن" وهذه الزيادة قد أخرجها الشافعي -رضي الله عنه- في القديم. "ما بال فلان" أي ما شأنه. و"الولائد": جمع وليدة، وهي ها هنا الأمة، فإن الوليد والوليدة يقعان على الصبي والصبية أيضًا، وهي فعلية بمعنى مفعولة أي مولودة. "والعزل": أن يجامع الرجل المرأة ولا ينزل معها إنما ينزل خارجًا عن فرجها. "والإلمام" بالشيء المقاربة فكنى به عن الجماع. وقوله: "إلا ألحقت به ولدها" يريد أنها إن جاءت بولد؛ فإني أُلحقه بسيدها، سواء عزل عنها أو لم يعزل؛ فإن الولد للفراش. وقوله: "في إرسال الولائد يوطئن" هو ما كانوا عليه من عادة العرب في الإماء كن يخرجن، فربما عرض لهن بعض الزناة فوطئهن، فكن يحملن، وكان مواليهن لا يلحقن بهم أولادهن؛ لأنهم كانوا يعزلون عنهن، فقال عمر: إن عزلتم أو لم تعزلوا فمن جاءت وليدته بولد وكان قد وطئها مرة؛ فإنني ألحق به ولدها. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن العزل يجوز مع الأمة، وأما الحرة ففي العزل عنها بغير إذنها وجهان، فأما إن كانت الزوجة أمة فله العزل عنها بإذنها وغير إذنها؛ كراهة أن يُسْتَرقّ ولده. ¬

_ (¬1) في "الأصل": عالم، وهو تحريف، والمثبت من "الموطأ". (¬2) الموطأ (1422).

قال الشافعي -رضي الله عنه- وروي عن سليمان التيمي، عن أبي عمرو الشيباني، عن ابن مسعود -في العزل- قال: "هو الوأد الخفي". قال: وعن عمرو بن الهيثم، عن شعبة، عن عاصم، عن زر، عن علي: "أنه كره العزل". قال الشافعي: وليسوا يأخذون بهذا, ولا يرون بالعزل بأسًا. أورده فيما خالف العراقيون عليًّا وعبد الله، قال: ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنهم رخصوا في ذلك ولم يرو به بأسًا. قال: ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) أنه سئل عن ذلك فلم يذكر فيه نهي، ثم ذكر حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا نعزل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا والقرآن ينزل". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "حرملة": عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد اللّْه بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العزل، فقال: لا عليكم أن [لا] (¬2) تفعلوا؛ فإنه ليس من نسمة يقضى أن تكون إلا وهي كائنة" والله أعلم. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 366). (¬2) سقط من "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 368).

الفصل الثاني عشر في الوليمة وآداب الأكل

الْفصْل الثَاني عَشَر فِي الوَلِيمةِ وآدَابِ الأكْلِ أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن محمد بن سيرين: "أن أباه دعى نفرًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -يعني إلى الوليمة- فأتاه فيهم أُبَي بن كعب -وأحسبه قال-: فبارك وانصرف". الوليمة تقع على كل طعام يتخذ لحادث سرور، إلا أنها بالعرس أخص؛ لكثرة الاستعمال، وقد خصت العرب أسماء الأطعمة ببعضها، فسموا طعام الولادة: الخُرْس، وطعام الختان: العذيرة والإِعْذَار، وطعام القدوم: النقيعة، وطعام البناء: الوكيرة، وطعام حلق رأس المولود في اليوم السابع: العقيقة، وطعام حذق الصبي (¬1): الحذاق، وطعام العرس: الوليمة، وقد أطلقت الوليمة على كل طعام يدعى إليه، ويسمى كل طعام أيضًا مأدبة، فأقل الوليمة لمن قدر عليها شاة، فإن لم يستطع اقتصر على ما يقدر عليه. والإجابة إليها واجبة، وقيل: مستحبة، ومن حضرها إن كان مفطرًا فهل يلزمه الأكل؟ فيه خلاف، وإن كان صائمًا صومًا واجبًا حضر ولا يفطر، ويدعوا لصاحب الوليمة، ويبارك عليه ويعود. ومعنى قوله: "فبارك وانصرف" أي دعا له بالبركة، وإن كان صومه تطوعًا فيستحب له أن يفطر؛ لأن الصائم المتطوع أمير نفسه، وإدخال السرور على قلب أخيه المسلم بأكل طعامه أولى من تطوعه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وإن كان المدعو صائمًا أجاب وبارك ¬

_ (¬1) الحِذْق والحذاقة: المهارة، وحذق الغلام القرآن: أي مهر فيه، ويقال لليوم الذي يختم فيه الصبي القرآن: هذا يوم حِذَاقِه. انظر لسان العرب (مادة: حذق).

وانصرف، ولم أحتم عليه أن يأكل، وأحب لي لو فعل إن كان صومه غير واجب؛ إلا أن يأذن له رب الوليمة. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج -قال الشافعي: ولا أدري عن عطاء أو غيره- قال: "جاء رسول ابن صفوان [إلى] (¬1) ابن عباس وهو يعالج زمزم يدعوه وأصحابه، فأمرهم فقاموا، واستعفاه وقال: إن لم يعفني جئته". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى أبا طلحة وجماعة معه فأكلوا عنده، وكان ذلك في غير وليمة". قوله: "وكان ذلك في غير وليمة" من قول الشافعي -رحمة الله عليه- وهذا طرف من حديث طويل صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3) والترمذي (¬4)، ونحن نشير إلى طريق من جملة طرقهم. قال أنس بن مالك: قال أبو طلحة لأم سليم: "قد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصًا من شعير، ثم أخذت خمارًا لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم. فقال: للطعام؟ فقلت: نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه: قوموا بنا. ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) البخاري (3578). (¬3) مسلم (2040). (¬4) الترمذي (3630).

فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه حتى دخلا، فقال رسول الله: هلمي ما عندك يا أم سليم. فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَفُتَّ، وعصرت عليه أم سليم عُكَّةً لها فَأَدَمَتْهُ، ثم قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائْذَن لعشرة. فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائْذَن لعشرة. فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: ائْذن لعشرة. حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون". قوله: "ردتني ببعضه" أي جعلته لي رداء. و"هلمي" أحضري. و"العكة" وعاء السمن وهي معروفة. و"أَدَمَتْه" أي جعلت فيه إدمًا، وهو ما يؤكل مع الخبز. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن ما عدا الوليمة من الأطعمة فإن الإجابة إليها مستحبة، وقال أحمد: لا يستحب. قال الشافعي: إتيان دعوة الوليمة حق، والوليمة التي نعرف: وليمة العرس، قال: وكل دعوة دعى لها رجل قاسم الوليمة يقع عليها، فلا أرخص لأحد في تركها. قال: ولو تركها لم يَبِنْ لي أنه عاصٍ في تركها كما يَبين لي في وليمة العرس؛ لأني لا أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الوليمة على عرس، ولم أعلمه أَوْلَمَ على غيره. قال: وأحب للرجلِ إذا دعا الرجلَ إلى طعام أن يجيبه.

بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أهدي إليَّ ذراع لقبلت، ولو دعيت إلى كراع لأجبت". قال الشافعي: وإن دعي إلى الوليمة وفيها المعصية نهاهم، فإن نحَّوا ذلك عنه وإلا لم أحب له أن يجلس. وأخرج في كتاب "حرملة": أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفر وقد سترت على بابها دُرْنُوكًا (¬1) فيه الخيل أولات الأجنحة، فأمرها فنزعته". وأخرج في كتاب "حرملة": أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صَوّر صُورة، عُذِّب وكلف أن ينفخ فيها؛ وليس بنافخٍ" (¬2). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يأكل الرجل بشماله" (¬3). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان قال: أخبرنا زكريا ومسعر، عن علي بن الأقمر، عن أبي جحيفة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا آكل متكئًا" (¬4). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، قال: أخبرنا عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه" (¬5). ¬

_ (¬1) الدرنوك: ضرب من الثياب أو البُسْط، له خمل قصير كخمل المناديل وبه يشبه فروة البعير والأسد. انظر اللسان (مادة: درنك). (¬2) أخرجه البخاري (5963) ومسلم (2110) من طرق عن ابن عباس. (¬3) أخرجه مسلم (2099) من طريق مالك به. (¬4) أخرجه البخاري (5398) من طريق مسعر، عن علي بن الأقمر به. (¬5) أخرجه الحميدي في مسنده (525) عن عبد الكريم الجزري به.

وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا سفيان، قال: أخبرنا عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بدلو من ماء زمزم فنزع له، فشرب وهو قائم" (¬1). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "حرملة" بإسناده، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن جدة له -يقال لها: كبشة-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها، فرأى عندها قربة معلقة، فشرب من فيها وهو قائم، فقطعت فم القربة وكان عندها" (¬2). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن محمد بن إسماعيل، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اختناث الأسقية؛ أن يشرب من أفواهها" (¬3) ورواه المزني عنه بالإسناد وقال: "أن تكسر ويشرب من أفواهما". وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن سفيان، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: "كان أحب الشراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحلو البارد" (¬4). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن حكيم بن جابر، عن أبيه قال: "دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1637)، ومسلم (2027) من طريق عاصم به. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 434)، والبيهقي في الشعب (5/ 118). (¬3) أخرجه البخاري (5625)، ومسلم (2023) من طرق عن ابن شهاب به. (¬4) أخرجه أحمد في مسنده (6/ 38)، والترمذي (1895)، وقال الترمذي: هكذا رواه غير واحد عن ابن عيينة -مثل هذا- عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، والصحيح ما روي عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.

فرأيت عنده الدباء، فقلت: ما هذا يا رسول الله؟ قال: نكثر به طعامًا" (¬1). وأخرج الشافعي -رضي الله عنه- عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأكل المسلم في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 352)، وابن ماجه (2/ 1098 رقم 3304) من طريق إسماعيل بن أبي خالد به. (¬2) أخرجه البخاري (5392) من طريق مالك به، وأخرجه مسلم (2063) من طريق مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة وفيه قصة.

الفصل الثالث عشر في القسم

الْفَصْل الثَالث عَشَر في القسَم أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تزوج أم سلمة وأصبحت عنده قال لها: ليس بك على أهلك هوان؛ إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت؟ قالت: ثلَّث". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن حبيب بن أبي ثابت، أن عبد الحميد بن عبد الله بن أبي عمرو والقاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أخبراه أنهما سمعا أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يحدث، عن أم سلمة، أنها أخبرته: "أنها لما قدمت المدينة أخبرتهم: أنها ابنة أبي أمية بن المغيرة، فكذبوها، وقالوا: ما أكذب الغرائب، حتى أنشأ إنسان منهم الحج، فقالوا: أتكتبين إلى أهلك؟ فكتبت معهم، فرجعوا إلى المدينة، قالت: فصدقوني وازددت عليهم كرامة، فلما حللت جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبني، فقلت له: ما مثلي نكح؛ أما أنا فلا ولد لي، وأنا غيور ذات عيال. قال: أنا أكبر منك، وأما المغيرة فيذهبها الله، وأما العيال فإلى الله ورسوله. فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل يأتيها ويقول: أين زناب؟ حتى جاء عمار بن ياسر فاختلجها، قال: وهذه تمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكانت ترضعها، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين زناب؟ فقالت قريبة بنت أبي أمية ووافقها عندها أخذها عمار بن ياسر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني آتيكم الليلة. فقالت: فقمت فوضعت ثفالي، وأخرجت حبات من شعير كانت في جرّ، وأخرجت شحمًا فعصدته -أو صعدته- قال: فبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وأصبح، فقال حين أصبح: إن لك على أهلك كرامة؛ فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك أسبع لنسائي". وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا ابن أبي رواد، عن ابن جريج، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أم سلمة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبها، فساق نكاحها وبناءه بها وقوله لها: إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن". وأخرج الروايتين الأولتين في كتاب "الخلع والنشوز" وأخرج الرواية الثالثة في كتاب "أحكام القرآن"، وهو صحيح أخرجه مالك في "الموطأ" ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ولم يخرج أحد منهم القصة المذكورة في الحديث. فأما مالك فأخرجه (¬1) عن عبد الله بن أبي بكر [عن عبد الملك بن أبي بكر] (¬2) عن أبيه. وأما مسلم فأخرجه (¬3) عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن حاتم ويعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن محمد بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبيه، عن أم سلمة، ولم يذكر الثلاث. وأخرجها (3) أيضًا عن يحيى بن يحيى، عن مالك مثل الشافعي. وأما أبو داود فأخرجه (¬4) عن زهير بن حرب، عن يحيى، عن سفيان، مثل مسلم. وأما النسائي فأخرجه عن (¬5) ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1102). (¬2) سقط من "الأصل"، والمثبت من الموطأ. (¬3) مسلم (1460). (¬4) أبو داود (2122). (¬5) بيض له المؤلف، والحديث أخرجه النسائي في الكبرى (5/ 293 رقم 8925) من طريق يحيى عن سفيان به، وأخرج الرواية الثانية وفيها القصة (5/ 293 رقم 8926) من طريق حجاج عن ابن جريج به.

فقوله: "ليس بك على أهلك هوان" من الكلام الذي يقدم من القائل بين كلامه؛ توطئة لما يريد أن يقوله، وتأنيسًا للمخاطب، وتمهيدًا لعذره عما يريد أن يبديه إليه، وهذا النوع في الخطاب كثير، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لنا مثل السوء كذا وكذا, ولغيرنا مثل السوء كذا وكذا" وكقوله: "نحن الآخرون السابقون. كيت وكيت" وكقول الناس في محاوراتهم لمن يخاطبونهم: أنت تعرف محلك من قلبي، ومنزلتك عندي، وكرامتك علي، وأشباه ذلك، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يعلم أم سلمة حكم السنة في القسم بين النساء والمقام عندهن، وخاف أنه إذا أقام عندها ثلاثًا وانتقل عنها ربما ظنت أن ذلك لسبب أوجب انتقاله من ملل أو إيثار غيرها عليها، أو ميل إلى سواها، فقدم هذا اللفظ بين يدي قوله؛ ليعلمها أن حكم العدل بين النساء يقتضي له أن ينتقل عنها إذا وفَّاها حقها، وأن ذلك ليس لهوان بها، أو ملل منها وميل إلى غيرها، فما ألطف خطابه وأحسن آدابه - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "سبعت" أي أقمت عندك سبعًا، وكذلك "ثلثت" تقول: سبعت الشيء تسبيعًا إذا جعلته سبعة، وثلثته إذا جعلته ثلاثة، وكذلك إلى العشرة. و"الغرائب" جمع غريبة وهذا الجمع [مخصص] (¬1) بالمؤنث نحو طريفة وطرائف، ولا يقال: صديق وصدائق، ولا شديد وشدائد. فأما قولهم في المذكر: خليفة وخلائف؛ فلأجل دخول تاء التأنيث في الاسم. وإنما أنكر أهل المدينة أم سلمة لأنها من المهاجرات الأُول، وذلك أن أول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد، ومنع بنو المغيرة بن عبد الله بن مخزوم أم سلمة أن تهاجر مع زوجها، فأقامت مكرهة على ذلك قريبًا من سنة، ثم أذنوا لها في اللحاق بزوجها، فتوجهت إليه مهاجرة، فوصلت المدينة وكان أبو سلمة ¬

_ (¬1) في "الأصل": مخفض، وهو تحريف.

نازلاً بها ولم يكن أهل المدينة يعرفونها؛ فلذلك أنكروها لا انتسبت لهم. وقولها: "فلما حللت" كلام فيه اختصار لأنها تريد فلما مات زوجي أبو سلمة بعد ذلك وحللت -تعني: انقضاء العدة- خطبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقولها: "ما مثلي نكح" قد جاء تفسيره في قولها: "فلا ولد لي، وإني امرأة غيور، وذات عيال". وأما قولها: "أما أنا فلا ولد لي" تريد أنها كبيرة لا يولد لها، يدل على صحة ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لها: "أنا أكبر منك" ويشهد لذلك: ما جاء في "مسند أحمد بن حنبل" (¬1) في بعض روايات هذا الحديث قولها: "فقالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن في ثلاث خصال؛ أنا امرأة كبيرة، فقال: "أنا أكبر منك". وجاء في رواية أخرى (¬2) "فقالت: ما مثلي نكح أما أنا فلا ولد في" أي لا يرجى أن يجيء مني ولد؛ لكبري. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أكبر منك". فقولها في هذه الرواية: "لا ولد في" يدل على أنها أرادت بقولها: "لا ولد لي" أي لا يرجى لي أن ألد، هذا إن صحت الرواية بقولها: "لا ولد لي". وأما "زناب" فهو لفظ مبني من اسم زينب، وليس تصغيرًا لها, ولكنه تغيير للاسم حيث هى صغيرة، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل على أم سلمة حين تزوجها يرى بنتها زينب -وكانت صغيرة- في حجرها، فيكره أن يفرق بينهما رفقًا بهما فيسأل عنها لذلك، فلما جاء عمار بن ياسر وعرف ذلك من لطف أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اختلجها" أي استلبها بسرعة وأخذها من حجرها؛ لعلمه بما يريده رسول الله من ذلك، ولذلك قال عمار: "هذه تمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ¬

_ (¬1) المسند (6/ 320). (¬2) المسند (6/ 321).

وإنما فعل عمار ذلك؛ لأنه كان أخا أم سلمة من الرضاعة، وقد صرح به في "مسند أحمد" (¬1) قال: "فعلم بذلك عمار وكان أخاها من الرضاعة فأتاها فقال: أين هذه المشقوحة المقبوحة التي قد آذيت بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأخذها وذهب بها". وجاء في رواية أخرى (¬2) قال: "فبلغ ذلك عمار بن ياسر، فأتاها فقال: حلت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين حاجته، هلمي الصبية. فأخذها واسترضع لها". و"الثفال" الجلد الذي يبسط تحت رحا اليد لنقي الدقيق من التراب، وهذا يدل على أنها لما أخرجت الشعير من الجرّ طحنته ثم عصدته أو صعدته، والصعد في الأصل: اللَّيُّ، تقول: عصده عصدًا إذا لواه، ومنه سميت العصيدة لأنك تعصدها بالمِسواط، أي تلويها فتنقلب ولا يبقى في الإناء منها شيء إلا انقلب. وأما قوله: "أو صعدته" فإنه هكذا جاء في المسند بالشك، ولم أجده مشروحًا في موضع، فإن صحت الرواية فمعناه والله أعلم: أن ما يكون من المقلوب مثل: جذب وجبذ بمعنى واحد. وإما أن يكون من قولهم: [خل] (¬3) مصعد، وشراب مصعد إذا عولج بالنار، والتصعيد الإذابة، حكى ذلك الأزهري. قال الخطابي: وقوله: "إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي" ليس فيه دليل على سقوط حقها الواجب لها وهو الثلاث إذا لم يسبع، ولو كان ذلك حقها الواجب لها إذا لم يسبع بمعنى التبدئة ثم يحتسب عليها لم يكن للتخيير معْنى؛ لأن الإنسان لا يُخَيَّر بين جميع الحق وبين بعضه، فدل على ¬

_ (¬1) مسند أحمد (6/ 295). (¬2) مسند أحمد (6/ 320) , (6/ 321). (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من لسان العرب (3/ 255).

أنه بمعنى التخصيص والله أعلم. قال: ويشبه أن يكون هذا من الأمر بالمعروف الذي أمر الله به في قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1) وذلك لأن البكر لما فيها من الحنوِّ والحياء تحتاج إلى فضل إمهال وصبر، وحسن عشرة ورفق؛ ليتوصل الزوج إلى الإرب منها. والثيب قد جربت الأزواج وخبرت الرجال وارتاضت بصحبتهم؛ فالحاجة إلى ذلك في أمرها أقل، إلا أنها تخص بثلاث؛ تكرمة لها وتأنيسًا للألف فيما بينه وبينها، والله أعلم. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الرجل إذا كان تحته امرأتان مثلاً ثم تزوج أخرى، فإنه يقطع الدور الذي كان للاثنتين الأولتين ويقيم عند الأخرى إن كانت بكرًا سبعًا، وإن كانت ثيِّبًا ثلاثًا, ولا يقضي للاثنتين الأولتين ما فاتهما، وإن شاءت المستجدة إذا كانت ثيِّبًا أن يقيم عندها سبعًا ويقضي للاثنتين فعل، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد والشعبي والنخعي، وقال أبو حنيفة: يقضي لها بكل حال. قال الشافعي -رضي الله عنه- في حكاية قول من خالفه في هذه المسألة: أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت عندك ودرت"؟ قلت: نعم. قال: فلم يعطها في السبع شيئًا إلا أعلمها أنه يعطي غيرها مثله. قال: فقلت له: إنها كانت ثيِّبًا فلم يكن لها إلا ثلاث، فقال لها: إن أردت حق البكر وهو أعلى حقوق النساء وأشرفه عندهن (فعفوت) (¬2) حقك إذ لم ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية: (19). (¬2) العفو ها هنا بمعنى: التكثير، قال أبو عبيد: يقال منه عما الشعر وغيره إذا كثر، قال الله تبارك وتعالى {حَتَّى عَفَوْا} يعني كثروا. انظر غريب الحديث لأبي عبيد (1/ 147).

تكوني بكرًا، فيكون لك سبع فعلت، وإن لم تريدي عفوه وأردت حقك فهو ثلاث. قال: فهل له وجه غيره؟ قلت: لا، إنما يخير من له حق يشركه فيه غيره، في أن يترك من حقه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن حميد، عن أنس أنه قال: "للبكر سبع وللثيب ثلاث". وقد رواه المزني، عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن حميد، عن أنس أنه قال: "للبكر سبع وللثيب ثلاث، فَتِلْكُم السنة". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا النسائي. فأما مالك فأخرجه في "الموطأ" (¬1) إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن مسدد، عن بشر -وابن المفضل- عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس -ولو شئت أن أقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقلت ولكن- قال: "السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا". وله في أخرى (¬3) عن يوسف بن راشد، عن أبي أسامة، عن سفيان، عن أيوب وخالد، عن أبي قلابة، عن أنس قال: "من السنة .... " وذكر الحديث. قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت إن أنسًا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما مسلم فأخرجه (¬4) عن يحيى بن يحيى، عن هشيم، عن خالد، عن أبي قلابة ... وذكر نحو البخاري، وقال فيها: قال خالد: لو قلت: إنه رفعه ... فيه أن القائل خالد، وهو خالد الحذاء. ¬

_ (¬1) الموطأ (1103). (¬2) البخاري (5213). (¬3) البخاري (5214). (¬4) مسلم (1461).

وأما أبو داود فأخرجه (¬1) عن عثمان بن أبي شيبة، عن هشيم وإسماعيل، عن خالد. وأما الترمذي فأخرجه (¬2)، عن أبي سلمة يحيى بن خلف، عن بشر بن المفضل، عن خالد ... وذكر نحو البخاري. وإنما ذكر الشافعي هذا الحديث؛ تأكيدًا وتحقيقًا لما ذهب إليه مما شرحناه في حديث أم سلمة. وقوله: "للبكر سبع وللثيب ثلاث" بلام التمليك، وأنه فصل بين البكر والثيب بالعدد يدل على ثبوت ما قاله الشافعي، ولو كان ذلك على جهة القضاء كما ذهب إليه من ذهب لم يكن ذلك لها, ولا للفصل بينهما معنى في ذلك، ولما اختارت أم سلمة حقها حيث قالت: "ثلاث"، ولكان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في التثليث كقوله في التسبيع، فلما قال في التسبيع: "سبعت عندهن" وقال في التثليث: "ثم درت" فاختارت التثليث حق لها؛ إلا على وجه القضاء والله أعلم. أخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي عن تسع نسوة، وكان يقسم لثمان". وأخرجه بالإسناد: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض عن تسع نسوة، وكان يقسم بينهن لثمان". أخرج الأولى في كتاب "الخلع" والثانية في كتاب "أحكام القرآن" وهو طرف من حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. أما البخاري فأخرجه (¬3) عن إبراهيم بن موسى، عن هشام بن يوسف، عن ¬

_ (¬1) أبو داود (2124). (¬2) الترمذي (1139). (¬3) البخاري (5067).

ابن جريج، عن عطاء قال: "حضرنا مع ابن عباس جنازة ميمونة بسرف، فقال ابن عباس: هذه زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوها ولا تزلزلوها وارفقوا؛ فإنه كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع فكان يقسم لثمان ولا يقسم لواحدة". وأما مسلم فأخرجه (¬1) عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن حاتم، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج ... وذكر مثل البخاري. قال عطاء: "التي لا يقسم لها صفية بنت حيي بن أخطب". قال مسلم (1): وحدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وفي أخرى (¬2) عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبي مريم، عن سفيان [عن عمرو ابن دنيار] (¬3) عن عطاء، عن ابن عباس قال: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده تسع نسوة يصيبهن إلا سودة إنما وهبت يومها وليلتها لعائشة". في هذا الحديث جواز ترك النساء حقها، وأن تؤثر به غيرها، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن جائرًا في قسمته، ولا حائفًا في عدله، وبيان ذلك في رواية النسائي أنها وهبت يومها وليلتها لعائشة، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد طلاقها، فقالت له: لا تطلقني وأنا أجعل نصيبي لعائشة، أريد أن أحشر في جملة أزواجك، فكان يقسم لثمان. وأما ما جاء في رواية مسلم من قول عطاء: إنها صفية. فليس بمحفوظ، وإنما المحفوظ أنها سودة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) مسلم (1465). (¬2) لعل هنا سقط، فهذا الطريق ليس عند مسلم وإنما هذا طريق النسائي (3197) الذي أشار إليه المؤلف ولم يذكره ها هنا، ويدل عليه ما في الشرح الآتي. (¬3) ليست في "الأصل"، والمثبت من سنن النسائي.

قال الشافعي: فيجوز للرجل حبس المرأة على ترك بعض القسم لها أو كله ما طابت به نفسًا، فإذا رجعت فيه لم يحل له إلا العدل أو فراقها. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن هشام، عن أبيه: "أن سودة وهبت يومها لعائشة". أخرج الأولى في كتاب "الخلع والنشوز" وأخرج الثانية في كتاب "أحكام القرآن"، وأخرج في "الإملاء" الرواية الأولى وزاد فيها: "فخرج سهمها في غزوة بني المصطلق، فخرج بها". وهو حديث صحيح أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. فأما البخاري فأخرجه (¬1) عن محمد بن مقاتل، عن عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة ... وذكر الحديث، وزاد في آخره: "وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها [وليلتها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها] (¬2) وليلتها لعائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تبتغي بذلك رضا رسول - صلى الله عليه وسلم -". وأما النسائي فأخرجه (¬3) القرعة معروفة، تقول: تقارع القوم، واقترعوا بمعنىً واقترعت، والاسم القرعة. ¬

_ (¬1) البخاري (2688). (¬2) سقط من "الأصل"، والمثبت من صحيح البخاري. (¬3) بيض له المصنف في "الأصل" وسقط العزو لأبي داود، فأما أبو داود فأخرجه (2138) من طريق ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة مثل البخاري وفيه الزيادة. وأما النسائي فأخرجه في عشرة النساء من الكبرى (5/ 292) مثل طريق أبي داود والبخاري.

والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- أن الرجل إذا كان له زوجات فأراد أن يسافر وحده دونهن أو أراد إخراجهن كلهن معه كان ذلك له، فأما إن أراد أن يخرج بعضهن معه فليس له ذلك إلا بالقرعة، فأيتهن خرج سهمها سافر بها إن اختار ذلك, لأن القرعة لا توجب عليه السفر بإحداهن، وإنما توجب تقدمها على غيرها وأن لا يتركها ويسافر بغيرها، والتي يسافر بها [لا] (¬1) تحسب عليها مدة السفر للباقيات من النساء، ولا يقضي لهن ما فاتهن في أيام السفر، وقال داود: عليه القضاء لهن. قال الشافعي: ولو كان المسافر يقسم لمن خلف عدة ما غاب لم يكن للقرعة معنى، إنما معناها أن تصير لمن خرج [سهمها] (¬2) هذه الأيام خالصة دون غيرها؛ لأنه موضع ضرورة، والله أعلم. ¬

_ (¬1) تكررت بالأصل. (¬2) في "الأصل" سهمه.

كتاب الصداق وفيه فصلان

كتاب الصداق وفيه فصلان فيما يصح أن يكون صداقًا ومقداره أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي: "أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله, إني قد وهبت نفسي لك. فقامت قيامًا طويلاً، فقام رجل فقال: يا رسول الله، زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا. قال: لا أجد شيئًا. قال: فالتمس ولو خاتمًا من حديد. فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا -لسور سماها- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زوجتكها بما معك من القرآن". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك ... بالإسناد: "أن رجلاً خطب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة قائمة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - في صداقها، فقال: التمس ولو خاتم من حديد". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك ... بالإسناد: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوج امرأة بسورة من القرآن". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك فأخرجه (¬1) في "الموطأ" بالإسناد والرواية الأولى. وأما البخاري فأخرجه (¬2) عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن. وعن قتيبة (¬3) والقعنبي (¬4)، عن عبد العزيز بن أبي حازم. ¬

_ (¬1) الموطأ (1096). (¬2) البخاري (5030). (¬3) البخاري (5087). (¬4) البخاري (5871).

وعن علي بن عبد الله، عن سفيان (¬1). وعن أبي النعمان، عن حماد بن زيد (¬2)، كلهم عن أبي حازم ... وذكر نحوه بطوله. وأخرج (¬3) الرواية المختصرة عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم فأخرجه (¬4) عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن وعبد العزيز بن أبي حازم. وعن خلف، عن حماد بن زيد. وعن زهير، عن ابن عيينة (4). وعن إسحاق بن إبراهيم، عن الدراوردي (4). وعن أبي بكر، عن الحسين بن علي، عن زائدة (4). كلهم عن أبي حازم، يزيد بعضهم على بعض. وأما أبو داود فأخرجه (¬5) عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي فأخرجه (¬6) عن الحسن بن علي الخلال، عن إسحاق بن عيسى وعبد الله بن نافع، عن مالك. وأما النسائي فأخرجه (¬7) عن هارون بن عبد الله، عن معن، عن مالك. وعن قتيبة، عن يعقوب، عن أبي حازم (¬8). ¬

_ (¬1) البخاري (5149). (¬2) البخاري (5141). (¬3) البخاري (5135). (¬4) مسلم (1425). (¬5) أبو داود (2111). (¬6) الترمذي (1114). (¬7) النسائي (3359). (¬8) النسائي (3339).

ذكر الشافعي الرواية الأولى في كتاب "الصداق" والثانية في كتاب "اختلافه مع مالك" والثالثة في كتاب "المناسك". قوله: "تصدقها إياه" أي تجعله لها صداقًا، تقول: أصدقت المرأة. إذا سميت لها صداقًا، والصداق -بفتح الصاد وكسرها- مهر المرأة وكذلك الصَدُقة -بفتح الصاد وضم الدال- وقد ضموا الصاد وسكنوا الدال. وقد جاء في الرواية الأولى: "ولو خاتمًا من حديد" بالنصب على أنه مفعول قوله: "التمس" وجاء في الرواية الثانية بالرفع، وهو بعيد، فإن صحت الرواية فيكون معطوفًا على "التمس" كأنه قال: فالتمس أي اطلب شيئًا ما، ثم استأنف فقال: "ولو خاتم من حديد"، أي ولو أن الملتَمَس خاتم من حديد، و"لو" ها هنا وما يجري هذا المجرى معناها التمني، لا التي يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، فالتمني كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (¬1) و {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). والأخرى كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬3) و"لو" في هذا الحديث وأشباهه تفيد معنى التمني الذي هو [في] (¬4) الأصل يعني التقليل والمبالغة فيه أي ولو أن شيئًا كان والباقي قوله: "بما معك من القرآن" بالتعريض كقولك: بعتك هذا الثوب بدينار، والمراد: زوجتكها بتعليمك إياها ما معك من القرآن، وقد تأوَّله بعضهم فقال: إنما زوجه إياها بحفظه تلك السور من القرآن تفضيلاً له، ولو كان كذلك لكانت المرأة موهوبة له بلا مهر، وهذا خاصة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليست لغيره، ولولا أنه أراد معنى المهر لم يكن لسؤاله إياه: "هل معك من القرآن شيء" معنى؛ لأن التزويج ممن لا يحسن القرآن جائز جوازه ¬

_ (¬1) سورة القلم، آية (9). (¬2) سورة الشعراء، آية (102). (¬3) سورة الزمر، آية (57). (¬4) ليست في "الأصل".

ممن يحسنه، وليس في الحديث ما يدل على أنه جعل مهرها دَينًا عليه إلى أجل، فكان الظاهر أنه جعل تعليمه القرآن إياها مهرًا لها، كيف وقد صرح زائدة في روايته عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: "انطلق فقد زوجتكها بما تعلمها من القرآن". وفيه من الفقه أن المنافع يجوز أن تكون صداقًا كأعيان الأموال، وتدخل فيه الإجارات وما كان في معناها من خياطة ثوب، ونقل متاع، ونحو ذلك، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يكون هذا. وفيه دليل على [جواز أخذ] (¬1) الأجرة على تعليم القرآن. وفيه دليل على أنه لا حَدَّ لأقل المهر. وفيه أنه لم يسألها هل أنت في عدة من تزوج أو على شبهة ونحو ذلك أم لا، وهذا شيء يفعله الحكام احتياطًا، فلو تركه تارك وجعل الأمر على ظاهر الحال وصدقها على قولها كان ذلك جائزًا ما لم يعلم خلافه. والذي ذهب إليه الشافعي أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد عنده، وبه قال ابن المسيب وعطاء والزهري وربيعة وأحمد، ولا ينعقد إلا بلفظ التزويج والإنكاح. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينعقد به وبلفظ البيع والتمليك والصدقة، وفي لفظ الإجارة عنه روايتان. وقال مالك: ينعقد بذلك إذا ذكر المهر. وأما للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - ففي انعقاده بلفظ الهبة وجهان، ومع الانعقاد فإنه كان خالصًا له بقوله عز وجل: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬2). ¬

_ (¬1) في الأصل: أخد جواز، وهو خطأ. (¬2) سورة الأحزاب، آية (50).

وأما تسمية الصداق وذكره في العقد فليس بشرط ولا واجب ولكنه مستحب، فإذا ترك ذكره انعقد النكاح، وإذا عقد النكاح بمجهول أو حرام ثبت العقد ولها مهر مثلها، وبه قال عامة الفقهاء إلا ما يحكي عن مالك -في إحدى الروايتين- وعن أحمد: أن النكاح يفسد، ولا تحديد للمهر فيجوز أن يكون قليلاً وكثيرًا، وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور. قال أبو حنيفة ومالك: أقله مقدر بما قطع به السارق، فأبو حنيفة يقدره بعشرة دراهم، ومالك بربع دينار. وقال النخعي: أقله أربعون درهمًا. وقال ابن جبير: خمسون درهمًا. وقال ابن شبرمة: أقله خمسة دراهم. ومع ذلك فالمستحب تخفيف الصداق. وأما النكاح بتعليم القرآن فيجوز، وبه قال مالك إلا أنه قال: يكره. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وعن أحمد روايتان، فإن طلقها قبل الدخول ففيه قولان: أحدهما أن لها مثل نصف مهر المثل، والثاني: أن لها نصف أجرة التعليم، والله أعلم. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة أسهم الناس المنازل، فطار سهم عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع، فقال له سعد: تعال حتى أقاسمك مالي، وأنزل لك عن أي امرأتي شئت -وفي نسخة: وأترك لك أي امرأتي شئت- وأكفيك العمل. فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فخرج إليه، فأصاب شيئًا، فخطب امرأة فتزوجها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على كم تزوجتها يا عبد الرحمن؟ فقال: على ثقل نواة من ذهب. قال: أولم ولو بشاة".

وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، قال: أخبرنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك: "أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه أثر صفرة، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كم سقت إليها؟ قال: زنة نواة من ذهب. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أولم ولو بشاة". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن حميد، عن أنس: "أن عبد الرحمن تزوج امرأة على نواة من ذهب". أخرج الروايتين الأولتين في كتاب "الصداق" وأخرج الثالثة في كتاب "أحكام القرآن" وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك فأخرج (¬1) الرواية الثانية بالإسناد. وأما البخاري فأخرج (¬2) نحو الأولى عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن حميد. وأخرج (¬3) الثانية عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم فأخرج (¬4) عن يحيى بن يحيى وسليمان بن داود العتكي وقتيبة، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس. وعن محمد بن عبيد الله العنبري، عن أبي عوانة، عن قتادة، عن أنس. وعن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن شعبة، عن قتادة وحميد. ولهما روايات أخرى. ¬

_ (¬1) الموطأ (1135). (¬2) البخاري (5072). (¬3) البخاري (5153). (¬4) مسلم (1427).

وأما أبو داود فأخرج (¬1) الرواية الثانية عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن ثابت. وأما الترمذي فأخرج (¬2) الثانية عن قتيبة، عن حماد، عن ثابت. وأخرج الأولى (¬3) عن ابن منيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن حميد. وأما النسائي فأخرج (¬4) الثانية عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. قوله: "أسهم الناس المنازل" أي أقرع بينهم، تقول ساهمت فلانًا أي قارعته، وسهمته أَسْهَمُه -بالفتح- إذا قرعته، وتساهم القوم: تقارعوا، واستهموا: اقترعوا، فكان معنى "أسهم الناس" أي حملهم على المساهمة وجعل لهم في المنازل سهمًا، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة وهاجر المسلمون إليه لم يكن لهم بها منازل يسكنونها ويأوون إليها، فاستهم الأنصار فيما بينهم أن يسكنوهم في منازلهم معهم، فاقترعوا على المهاجرين، فوقع كل واحد من المهاجرين عند أنصاري، فكان عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين في سهم سعد بن الربيع الأنصاري، فيكون "الناس" على هذا التقدير منصوبًا؛ لأنه مفعول به، و"المنازل" منصوبة على الظرف، ويجوز أن يكون "الناس" مرفوعًا؛ لأنه فاعل أسهم، ويريد بهم الأنصار لأنهم أسهموا المهاجرين في منازلهم، والمفعول محذوف لدلالة الحال عليه، والوجه: الأول. ¬

_ (¬1) أبو داود (2109). (¬2) الترمذي (1094). (¬3) الترمذي (1933). (¬4) النسائي (3351).

ومعنى قوله: "فطار سهم عبد الرحمن" أي خرج؛ تقول: اقتسموا دارًا فطار سهم فلان كيت وكيت، أي خرج وجرى فيها سهمه، قال الأزهري: العرب تقول: أطرت المال، وطيرته بين القوم، فطار لكل منهم سهم. أي صار له وخرج بسهمه. وقوله: "أنزل لك عن أي امرأتيَّ شئت" أي أطلقها لأجلك فتنكحها، فكني عن الطلاق بالنزول؛ لأنه بعقد نكاحها مسْتعل عليها متمكن منها، فإذا طلقها فقد نزل عنها بزوال سبب الاستعلاء. وقوله: "دلوني على السوق" يريد ليخرج إليها ويكسب فيها ويبيع ويشتري. وقوله: "فأصاب شيئًا" أي ربح وجعل له كسب. و"النواة" قد اختلف فيها، فقيل: هو اسم لما وزنه خمسة دراهم، كما سموا الأربعين: أوقية، والعشرين: نشَّا. وقيل: أراد على وزن نواة من ذهب، كأنه حاذى النواة بذهب، وهذا مختلف المقدار لاختلاف وزن النوى بعضها عن بعض في الثقل والخفة. وقيل: أراد به زُوِّجها على ذهب قيمته خمسة دراهم، وأن ذلك الذهب كان مقدار نواة. والأول الوجه، تقول: وزنت الشيء أزنه وزنًا وزنة بمعنى. وقوله: "به أثر صفرة" يريد خلوق العرس. وقوله: "أولم" من الوليمة يقال أولم الرجل على زوجته إذا صنع للعرس طعامًا. وقوله: "ولو بشاة" يدل على التقليل بدخول "لو" والله أعلم.

وأخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة قال: "سألت عائشة: كم كان صداق النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتا عشرة أوقية ونش، قالت: أتدري ما النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. أما مسلم فأخرجه (¬1) عن إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر. وأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن عبد الله بن محمد النفيلي. وأما النسائي (¬3) فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، كلهم عن عبد العزيز بن محمد، وزاد النسائي: "وذلك خمس مائة درهم". "الأوقية" بضم الهمزة وتشديد الياء جزء من الرطل يُقَدّر من الاصطلاح العرفي، والذي جاء في الحديث على اختلاف أماكنه فإنما يراد بها أربعون درهمًا، وكذلك كان الاصطلاح عندهم، والذي يرد في كتب الطب في اصطلاح أرباب المقادير والموازين في البلاد فإنما يريدون بالأوقية جزءًا من اثنى عشر جزءًا من الرطل على اختلاف الأرطال في البلاد، فتكون الأوقية من الرطل العراقي عشرة دراهم وخمسة أسباع درهم؛ لأن الرطل العراقي تسعون دينارًا، والتسعون مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، وتجمع الأوقية على الأواقيّ بالتشديد مثل أثفية وأثافي، وقد تخفف الياء في الجمع ويقال في لغة ليست بالعالية: وَقِيَّة بوزن عَطِيَّة، وقد جمع في هذا الحديث بين اللغتين. ¬

_ (¬1) مسلم (1426). (¬2) أبو داود (2105). (¬3) النسائي (3347).

و"النَّش" -بفتح النون-: عشرون درهما، وهو نصف أوقية. قال الأزهري: قال ابن الأعرابي: النَّشُّ: النصف من كل شيء، نَش الدرهم نصفه، ونَش الرغيف نصفه، وقد جاء في رواية الشافعي في أكثر النسخ اثنى عشر أوقية ونش بالرفع وتذكير الأوقية وإنما الرواية بالنصب والتأنيث، أما النصب فلأنه خبر كان، واسمها "صداق أزواجه"، وأما التأنيث فلأن الأوقية مؤنثة، ولا شك أنه تغيير وتحريف من النساخ، وهذا وأمثاله كثير مما يجيء في كتب الحديث؛ لكثرة من يقرؤها ويكتبها من غير أهلها، وقد ذكرنا في حديث سهل بن سعد اختلاف الأئمة في مقادير الصَّدُقَات، وما يصح أن يكون صداقًا، ما فيه كفاية، ونحن نشير ها هنا إلى طرف من ذلك يزيده بيانًا، فنقول: لا حد لكثرة الصداق، وقد جعل الله عز وجل في الصداق قنطارًا في قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (¬1) والقنطار: سبعون ألف دينار، وقيل: مائة رطل -وهو الأشبه- وقيل: ملء جلد ثور ذهبًا. وروي أن عمر بن الخطاب قال: "لا تغالوا في صدقات النساء، فلا يبلغني أحدًا ساق أكثر مما ساقه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا جعلت الفضل في بيت المال، فاعترضته امرأة وقالت: كتاب الله أحق أن يتبع، أيعطنا الله ويمنعنا ابن الخطاب؟ فقال: أين؟ فقالت: قال الله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (1) فقال: كل الناس أفقه من عمر، فرجع عن ذلك" (¬2) وروي عنه أنه أمهر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب أربعين ألف درهم، ومع ذلك فإن المستحب تخفيف الصداق، والأفضل منه الاقتداء بما أمهر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساؤه، وهو ما تضمنه هذا الحديث وهو خمس مائة درهم فضة. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية (20). (¬2) أخرجه البيهقي في الكبرى (7/ 233) وقال: منقطع. قلت: وفيه مجالد بن سعيد وفيه ضعف.

الفصل الثاني في أحكام الصداق

الْفصْلُ الثَّانِي فِي أحْكَامِ الصَّدَاق أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: "لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها الصداق ولم يدخل بها، فحسبها نصف المهر". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: "لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها الصداق ولم تمس، فحسبها ما فرض لها". أخرج الرواية الأولى في كتاب "اليمين مع الشاهد" وأخرج الثانية في كتاب "الطلاق" وهذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (¬1) إلا أنه قال: "فحسبها نصف ما فرض لها" وهو الصواب إن شاء الله ويعضده ما جاء في الرواية الأولى. والذي جاء في نسخ المسند التي قرأتها فرأيتها على اختلافها: "فحسبها ما فرض لها" والظاهر أنه سهو من النسّاخ، ويمكن أن يخرج له وجه وذلك أنه يريد بما فرض لها نصف الصداق؛ لأن فرض التي لم تمس هو نصف المهر لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬2) فلما كان قد علم أن فرض غير المدخول بها نصف المهر أطلق القول وقال: حسبها ما فرض لها, ولم يرد به جميع الصداق الذي فرض لها عند عقد النكاح. "المتعة" المنفعة، وقد تقدم ذكرها في كتاب النكاح و"فرض الصداق" تسمية وتعيينه. ¬

_ (¬1) الموطأ (1188). (¬2) سورة البقرة، آية (237).

و"حسبها" بمعنى كافيها وقانعها، وكذلك المتوفى عنها زوجها لا متعة لها إجماعًا. وأما المطلقة فإن كانت قبل الدخول ولم يفرض لها فلها المتعة، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك وابن أبي ليلى والليث بن سعد: المتعة مستحبة وليست واجبة، وإن كان قد فرض لها مهرًا عند العقد فلها نصف المهر ولا متعة لها، وإن كان بعد العقد وقبل الطلاق فلها نصف المهر، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: يسقط وتجب المتعة؛ لأنه فرضه بعد العقد، فأما إن كانت مدخولاً بها ففي المتعة قولان سواء كان فرض لها أولم يفرض، قال في القديم: لا متعة لها. وبه قال أبو حنيفة وإحدى روايتي أحمد. وقال في الجديد: لها المتعة. وهي الرواية الثانية عن أحمد، وروي ذلك عن علي والحسن بن علي. وقد اختلفوا في مقدارها، فقالوا: الواجب ما يقع عليه الاسم قليلاً كان أو كثيرًا، وقال قوم: الواجب مفوض إلى الحاكم على قدر مال الزوج أو حال المرأة. وقال أبو حنيفة: المتعة ثلاثة أثواب؛ درع وخمار وملحفة إلا أن يكون نصف مهر مثلها أقل من ذلك فينقصها ما لم ينقص عن خمسة دراهم، وإنما تجب المتعة إذا كان الفراق من جهة الزوج لا من جهتها مثل أن يطلق، أو يخالع، أو يملَّك، أو يرتد وهي مسلمة، أو يسلم وهي كافرة، فلها المتعة. وإن كان من قبلها فلا متعة ولا مهر، كما إذا ارتدت وهو مسلم، أو أسلمت وهو كافر، أو أعتقت وهو عبد. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع: "أن ابنة عبيد الله بن عمر -

وأمها بنت زيد بن الخطاب- كانت تحت ابن لعبد الله بن عمر، فمات ولم يدخل بها ولم يسم لها صداقًا، فابتغت أمها صداقها فقال ابن عمر: ليس لها صداق، ولو كان لها صداق لم نمنعكموه ولم نظلمها. فأبت أن تقبل ذلك، فجعلوا بينهم زيد بن ثابت، فقضى أن لا صداق لها, ولها الميراث". هذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (¬1) وهو حديث حسن. و"الابتغاء" الطلب. وقوله: "فجعلوا بينهم زيد بن ثابت" أي جعلوه حكمًا يرضون بقوله. و"تسمية الصداق" تعيينه. و"الدخول بها" يريد به الوطء. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المفوضة وهي التي لم يفرض لها إذا ماتت أو مات الزوج هل يثبت لها مهر؟ فيه قولان: أحدهما: لها مهر مثلها. وإليه ذهب ابن مسعود، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، وإسحاق. إلا أن أبا حنيفة يقول: يجب لها المهر بالعقد. والقول الثاني: لا يجب لها المهر. وإليه ذهب علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، والزهري، وربيعة، ومالك. قال الشافعي: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - -بأبي هو وأمي-: "أنه قضى في بروع بنت واشق ونكحت بغير مهر، فمات زوجها، فقضى لها بمهر نسائها وقضى لها بالميراث". فإن كان يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو أولى الأمور بنا, ولا حجة في قول أحد دون النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كثروا, ولا في قياس، ولا في شيء في قوله إلا طاعة الله بالتسليم له. ¬

_ (¬1) الموطأ (1098).

وإن كان لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لأحد أن يثبت عنه ما لم يثبت, ولم أحفظه بعد من وجه يثبت مثله، مرة يقال: عن معقل بن يسار، ومرة عن معقل ابن سنان، ومرة عن بعض أشجع ولا يسمي، فإذا مات أو ماتت فلا مهر لها. قلت: حديث بروع قد جاء في سنن أبي داود (¬1) والنسائي (¬2) وكتاب الترمذي (¬3) إلا أن أبا داود والترمذي سميا معقل بن سنان، والنسائي لم يسمه وقال: "رجل من أشجع". وقال البيهقي: رواه جماعة عن سفيان فقال بعضهم: معقل بن يسار وهو وهم ورواه الجماعة عن مسروق وعلقمة، فقالوا فيه: "ناس من أشجع" و"رهط من أشجع". وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن عبد خير، عن علي -كرم الله وجه-: "في الرجل يتزوج المرأة ثم يموت ولم يدخل بها, ولم يفرض لها صداقًا؛ أن لها الميراث، وعليها العدة، ولا صداق لها". هكذا أخرجه في كتاب اختلاف " [علي] (¬4) وابن مسعود" بغير شك عن علي. وقد رواه في موضع آخر عن سفيان، عن عطاء قال: "سألت عبد خير عن رجل فوض إليه، فمات ولم يفرض، فقال: ليس لها إلا الميراث، ولا نشك أنه قول علي". قال سفيان: قوله: "ولا نشك أنه قول علي" لا أدري من قول عطاء أو عبد خير. قال الشافعي: وبهذا نقول؛ إلا أن يثبت حديث بروع، قال: ورويناه عن ¬

_ (¬1) أبو داود (2114). (¬2) النسائي (3354). (¬3) الترمذي (1145). (¬4) سقط من "الأصل".

ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وهم يخالفونه. وأخرج الشافعي، عن عبد المجيد، عن ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: "سمعت ابن عباس يُسأل عن المرأة يموت عنها زوجها وقد فرض لها صداقًا. قال: لها الصداق والميراث". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس، عن ابن عباس: "أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلوا بها ولا يمسها ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬1). هكذا أخرجه في كتاب "العدد" وأخرجه في كتاب "اليمين مع الشاهد" بهذا الإسناد عن طاوس، عن ابن عباس: "ليس لها إلا نصف المهر، ولا عدة عليها" يعني إن قال الله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1) وقول الله عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬2). قوله في الرواية الثانية: "ليس لها إلا نصف المهر" فذكر ضمير من لم يجر في الحديث له ذكر، وإنما جاز ذلك لأنه جواب كلام سابق، كأنه سئل عن [امرأة] (¬3) طلقت قبل المسيس، فقال: ليس لها إلا نصف المهر. وقد جاء ذلك مفسرًا في كتاب "العدة" من لفظ الشافعي، وهو في موضعه. و"المهر" الصداق، تقول مهرت المرأة وأمهرتها، ويسمي الصداق أيضًا: الفريضة، والأجر، والنِّحلة. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (237). (¬2) سورة الأحزاب، آية (49). (¬3) ليست في "الأصل".

و"المس" ها هنا الجماع، و"العدة" الزمان الذي تعد أيامه المرأة التي فارقت زوجها لتحل للأزواج غيره ويكون بالأقراء، والحمل، والشهور، وستجيء مشروحة في كتاب "العدة". و"الخلوة" بالمرأة معروفة. والذي ذهب إليه الشافعي: العمل بهذا الحديث، وتفصيل المذهب: أن الرجل إذا طلق المرأة بعد الدخول فلها جميع المهر، وإن لم يكن دخل بها من غير خلوة فلها نصف الصداق، وإن كان خلا بها ففيه قولان: قال في القديم: إنه يجب المهر كاملاً بالخلوة. وبه قال عمر، وعلي، والزهري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد. وقال زرارة بن أوفى: قضى الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون: أن من أغلق بابًا وأرخى سترًا فقد وجب المهر. وقال في الجديد: لها نصف المهر وإن خلا بها. وبه قال ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال شريح، والشعبي، وطاوس، وابن سيرين، ومالك، وأبو ثور، إلا أن مالكًا قال: إذا خلا بها وادَّعت الدخول؛ كان القول قولها. وقد حكي مثله في القديم عن الشافعي أن دعواها عليه بالدخول بها مرجح على دعواه. وقد أخرج الشافعي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب: "أن عمر بن الخطاب قضى في المرأة يتزوجها الرجل أنها إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق". وقد أخرج الشافعي، عن مالك، عن ابن شهاب، أن زيد بن ثابت قال: "إذا دخل بامرأته فأرخيت عليهما الستور؛ فقد وجب الصداق". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن أبي فديك وسعيد بن سالم، عن عبد الله بن

جعفر بن المسور، عن واصل بن أبي سعيد، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه: "أنه تزوج امرأة ولم يدخل بها حتى طلقها، فأرسل إليها بالصداق تامًّا، فقيل له في ذلك، فقال: أنا أولى بالفضل". قوله: "ولم يدخل بها حتى طلقها" يجوز أن تكون "حتى" بمعنى: "إلى أن" وأن تكون العاطفة، والعاطفة أحسن؛ لأنه يكون التقدير: ولم يدخل بها وطلقها، وإذا جعلتها بمعنى "إلى أن" كان التقدير: ولم يدخل بها إلى أن طلقها فمفهوم اللفظ يعطي معنى أنه دخل بها بعد الطلاق أو عند عزمه على الطلاق، وإن كان الظاهر بخلافه ولكنه يوهم ذلك، ألا ترى أنك إذا قلت: ما أكلت شيئًا حتى حضر زيد. يفهم من قولك هذا أكلك بعد حضوره؟ وإن كان هذا المفهوم منتفيًا في الدخول بعد الطلاق من جهة الحكم الشرعي، وهذا المعنى مع تقديرها عاطفة منتف. وقوله: "أنا أولى بالفضل" هو من قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (¬1) أي أنا أولى منها بالكرم والسخاء في أن أعطيها ما لا تستحقه علي لأن غير المدخول بها إذا طلقت لها نصف المهر، وقد أعطاها المهر تامًّا؛ فكان أولى بالفضل. قال الشافعي: أُخبرنا: "أن جبير بن مطعم دخل على سعد يعوده، فَبُشِّر سعد بجارية، فعرضها على جبير فقبلها، فزوجه إياها، فطلقها، وأرسل إليه صداقها تامًّا، فقيل له: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: عرض عليَّ ابنته فكرهت أن أردها، وكانت صبية فطلقتها. قيل: فإنما عليك نصف المهر. قال: فأين قول الله عز وجل {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (1)؟ فأنا أحق بالفضل". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: "الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج". ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (237).

وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن أبي مليكة، عن سعيد بن جبير أنه قال: "الذي بيده عقدة النكاح الزوج". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا سعيد، عن ابن جريج أنه بلغه عن ابن المسيب أنه قال: "هو الزوج". هذه الآثار هكذا جاءت في المسند وقد رفع في "الإملاء" حديث ابن سيرين إلى شريح ولم يرفعه في كتاب "الصداق" وهو عن شريح مشهور. قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬1) فجعل الله للمرأة فيما أوجب لها من نصف المهر أن تعفو، أي تهب بعض ما تستحقه، وجعل للذي بيده عقدة النكاح أن يعفو عن ذلك، أي يتمم لها الصداق، وبَيِّنٌ عندي أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج؛ وذلك أنه إنما يعفو من له يعفوه، فالعفو في الآية له معنيان, لأنه قد جاء في حق النساء وحق الرجال؛ فأما حق النساء فهو قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} (1) هو بمعنى: إلا أن يتركن، تقول عفوت لفلان عما لي عليه إذا تركته، ويعفون فعل جماعة النساء، وهو في اللفظ مثل فعل جماعة الرجال، ولكن بتقديرين مختلفين. وأما حق الرجال فهو من الزيادة والإفضال، تقول: عفوت لفلان عما لي إذا أفضلت له وأعطيته، والمعنى دائر في الأمرين على معنى الإفضال؛ لأن كل واحد من الزوجين عافٍ أي مفضل، أما إفضال المرأة فبأن تترك للزوج ما وجب لها عليه أو بعضه، وأما إفضال الزوج فبأن يتمم لها المهر، أو يزيدها على النصف الذي وجب لها عليه. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (237).

والذي ذهب إليه الشافعي: أن الذي بيده عقدة النكاح هو ولي الصغيرة كالأب والجد، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال الحسن البصري والزهري وطاوس وربيعة ومالك وأحمد؛ لأن الزوج بعد الطلاق لا تبقى بيده عقدة النكاح، والعفو إنما هو بعد وقوع الطلاق. وقال في الجديد: إنه الزوج، وهو قول عليّ وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد والشعبي والثوري وأبي حنيفة وإسحاق؛ لأن الولي ليس بيده عقدة نكاح، وبعد العقد لا يبقى له حكم في النكاح، وإنما يسمى الزوج: "الذي بيده عقدة النكاح" استصحابًا للحال قبل الطلاق، ولأن الحكم مسوق لبيان حكم الزوجين في الصداق المفروض إذا وقع الطلاق قبل الدخول، فلا فرق بين أن يقول: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح. وبين أن يقول: أو يعفو الزوج، ولا شبهة أنه بعد الطلاق ليس بزوج وإنما سُمي زوجًا استصحابًا للحال. وأخرج الشافعي قال: أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب بن أبي تميمة، عن محمد بن سيرين: "أن الأشعث بن قيس صحب رجلاً، فرأى امرأته فأعجبته، فتوفي في الطريق، فخطبها الأشعت بن قيس، فأبت أن تتزوجه إلا على حكمها، فتزوجها على حكمها ثم طلقها قبل أن تحكم، فقال: احكمي. فقالت: أحكم فلانًا وفلانًا -رقيقًا كانوا لأبيه من تلاده- فقال: احكمي غير هؤلاء. فأبت، فأتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، عجزت ثلاث مرات، فقال: ما هن؟ فقال: عشقت امرأة. قال: هذا ما لم تملك. قال: ثم تزوجتها على حكمها، ثم طلقتها قبل أن تحكم. فقال عمر: امرأة من المسلمين". قال الشافعي: يعني عمر: لها مهر امرأة من نسائها ما لا أعلم فيه اختلافًا، وهو يشبه أن يكون الذي أراد عمر. والله أعلم.

كتاب الخلع والنشوز

كِتَابُ الخلْع وَالنشُوزِ وَفيهِ فَصْلان الْفَصْل الأولُ: فِي النشُوزِ أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب: "أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرًا إما كبرًا أو غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني وأمسكني واقسم لي ما بدا لك؛ فأنزل الله عز وجل {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا} (¬1) الآية". وأخبرنا الشافعي بهذا الإسناد قال: "كانت بنت محمد بن مسلمة عند رافع بن خديج، فكره منها شيئًا إما تكبرًا وإما غيره، فأراد أن يطلقها، فقالت: لا تطلقني وأنا أحل لك؛ فنزل في ذلك {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (1) الآية". قال: فمضت بذلك السنة. أخرج الأولى في كتاب "الخلع" والثانية في كتاب "النكاح" من الإملاء. هذا حديث مرسل، ومراسيل ابن المسيب -فيما قيل- عند الشافعي مقبولة بخلاف ما ذهبنا إليه، قالوا: لأنه قال: تتبعت مراسيل ابن المسب فوجدتها كلها مسندة. فقد أخرج مالك هذا الحديث في "الموطأ" عن الزهري ولم يرفعه إلى ابن المسيب. و"النشوز" يكون من الرجل ومن المرأة، فهو من الرجل: البغض والإعراض والضرب والجفاء، ومن المرأة: البغض والاستعصاء عليه، تقول: نشزت المرأة تَنْشِز وتَنْشُز نشوزًا، وكذلك الرجل، واشتقاقه من النشز وهو ما ارتفع من الأرض. ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية (128).

وقوله: "اقسم لي ما بدا لك" أي ما عنَّ لك، وأرادت: فلا ألزمك بقسم معين، وهو من قولهم: بدا له في هذا الأمر بداءً -ممدودًا- أي نشأ له فيه رأي. قال الشافعي: فيحل للرجل حبس المرأة على ترك بعض القسم لها أو كله ما طابت به نفسًا، فإذا رجعت فيه لم يحل له إلا العدل أو فراقها. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تضربوا إماء الله. قال: فأتاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، ذئر النساء على أزواجهن؛ فأذن في ضربهن. فأطاف بآل محمد نساء كثير كلهن يشكون أزواجهن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد أطاف بآل محمد سبعون امرأة كلهن تشكين أزواجهن، ولا تجدون أولئك خياركم". هذا الحديث قد أخرجه أبو داود (¬1) عن ابن أبي خلف وأحمد بن عمرو بن السرح، عن سفيان ... بالإسناد، وقال: قال ابن السرح: عبيد اللٌّه بن عبد الله وذكر الحديث بنحوه. وإياس بن عبد الله قد اختلف في صحبته، وكلهم قد أثبته في معارف الصحابة. وقال البخاري: لا صحبة له. "الإماء" جمع أمة، وهي الجارية، والمراد بها ها هنا المرأة نفسها كانت حرة أو أمة؛ لأن النساء كلهن إماء الله كما أن الرجال كلهم [عباد الله] (¬2). وقوله: "ذئر النساء" يقال: ذَئِرت المرأة -بفتح الذال المعجمة، وكسر الهمزة، وفتح الراء- على زوجها تَذْأَر: إذا نشزت ونفرت واجترأت عليه، ¬

_ (¬1) أبو داود (2146). (¬2) ليست في "الأصل"، والسياق يقتضيها.

فهي ذائر بغيرها، والرجل ذائر أيضًا، الذكر والأنثى فيه سواء، قال الأزهري: منه امرأة ذئر على مثال فعل. وقال: قال ابن الأعرابي: الذائر: العصيان والنفور والأنف. وقال: قال أبو عبيد: على فاعلت فهي مذائر إذا ساء خلقها وكذلك المرأة إذا نشزت. و"أطاف بالشيء" أحاط به والكاف في "خياركم" راجعة إلى الأزواج أي لا تجدون الأزواج الذين يضربون نساءهم خياركم أيها الأزواج. وفي هذا حث على احتمال سوء أخلاقهن ونفورهن، وأن لا يُضربن ولا يؤذين. قال الشافعي: [يشبه] (¬1) أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه على اختيار النهي، وأذن فيه بأن يكون مباحًا لهم الضرب في خوف النشوز، واختار لهم أن لا يضربوا بقوله: "ولا تجدون أولئك خياركم". قال: ويحتمل أن يكون النهي قبل نزول الآية بضربهن، ثم أذن بعد نزولها بضربهن. وفي قوله: "ولا تجدون أولئك خياركم" دلالة على أن ضربهن مباح لا واجب، ونختار له من ذلك ما اختار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشافعي: لا يبلغ بالضرب حدًّا, ولا ضربًا مبرحًا ولا مدميًا، ويتقي الوجه. وفي معناه: الأماكن المخوفة من الجسد، والموالاة على موضع واحد. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة: "أنه قال في هذه الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬2) قال: جاء رجل وامرأة إلى علي ومع كل واحد منهما ¬

_ (¬1) في "الأصل": يشبهن، وهو تحريف، والمثبت من "المعرفة" (5/ 434). (¬2) سورة النساء، آية (35).

فئام من الناس، فأمرهما علي فبعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرِّقا أن تفرِّقا. قال: قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي. فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت، والله حتى تقر بمثل ما أقرت به". أخرج مالك هذا الحديث في "الموطأ" (¬1) مجملاً قال: إنه بلغه أن علي بن أبي طالب قال في الحكمين اللذين قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (¬2) أن إليهما الفرقة بينهما والاجتماع". قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت من أهل العلم أن الحكمين يجوز قولهما بين الرجل والمرأة في الفرقة والاجتماع. "الشقاق" الخلاف والنزاع، والمراد به: ما يقع بين الرجل وزوجته من الخلاف والنزاع في الأمور الخاصة بهما، وقوله تعالى: {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (2) أصله شقاقًا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع، والضمير في "بينهما" راجع إلى الزوج والزوجة، ولم يجر لهما في الآية ذكر حيث جرى ما يدل عليهما قبلها من ذكر الرجال والنساء. و"الحَكَم" الحاكم، وإنما جعل الحكمين من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن أحوالهما من الأجانب, ولأن كل واحد من الزوجين يظهر إلى حكمه ما في نفسه من الحب والبغض ما لا يظهر إلى الأجانب. و"الفئام" بالهمز الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه. وقوله: "تدريان ما عليكما" بغير همزة استفهام جاز على الاتساع وكثرة ¬

_ (¬1) الموطأ (1214). (¬2) النساء، آية (35).

الاستعمال، وقد جاء ذلك في العربية كثيرًا. و"عليكما" الثانية متعلقة بقوله: "إن رأيتما أن تجمعًا" كأنه قال: أتدريان ما عليكما. أي: ما الذي يجب عليكما, ما يؤدي إليه اجتهادكما من الجمع والفرقة، والجمع: هو الإصلاح بين الزوجين، والفرقة: هي الطلاق والخلع. وقوله: "كذبت والله" ليس تكذيبًا لقول الزوج "أما الفرقة فلا" لأن التكذيب إنما يتعلق بالأخبار. وقوله: "أما الفرقة فلا" ليس خبرًا محضًا إنما هو حكم من الزوج، كأنه قال: الجمع إليكما دون الفرقة، فهو أمر منه للحكمين بما فوض إليهما, ولكنه لما قال ذلك، قال له علي: "كذبت والله" أي: أخطأت الصواب، وقلت ما لا يجوز لك قوله، ومن عادة العرب بأن تضع الكذب موضع الخطأ، فتقول: كذب سمعي وبصري. أي أخطأ. قال الشافعي: الله أعلم بمعنى ما أراد من الآية؛ فأما ظاهرها فإن خوف الشقاق بين الزوجين: أن يدعي كل واحد منهما على صاحبه منع الحق، ولا يطيب واحد منهما لصاحبه بإعطاء ما يرضى به، ولا ينقطع ما بينهما بفرقة ولا صلح ولا ترك الشقاق. وتفصيل المذهب: أن الشقاق وإن كان من الزوجة فهو نشوز، وقد ذكرنا حكمه، وإن كان من الزوج فإن الحاكم يضع من يمنعه عن الإضرار بها، فإن كان منهما وضع الحاكم أيضًا من يسعى في إزالة ما بينهما، فإن لم يحصل من ذلك غرض وادعى كل واحد منهما أنه مظلوم من صاحبه؛ بعث الحاكم حكمين من أهله وأهلها، وأمرهما أن يفعلان معهما ما هو الأصلح لهما، وهل هما حاكمان مستقلان أو وكيلان لهما؟ فيه قولان: أحدهما: أنهما وكيلان. وقد نص عليه الشافعي في أكثر كتبه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وحكي عن عطاء والحسن.

والثاني: أنهما حاكمان. نص عليه في كتاب "أحكام القرآن" وبه قال مالك والأوزاعي، واختاره ابن المنذر قال: إنهما وكيلان فلا يفعلان شيئًا حتى يأذن الرجل لأحدهما بما يراه من طلاق أو صلح، وحتى تأذن المرأة للآخر بما تراه من خلع أو صلح، وإن قلنا: إنهما حاكمان؛ فإنهما يمضيان ما يرياه من طلاق وخلع وصلح، وينفذ ذلك عليهما رضيا أو لم يرضيا, ولا يكون الحكمان إلا حُرَّين، بالغين، عاقلين، ذكرين، عدلين. قال الشافعي: حديث علي -رضي الله عنه- ثابت عندنا، وهو إن شاء الله كما قلنا. وقال: ولو جاز للحاكم أن يبعث حكمين بفرقة بلا وكالة الزوج ما احتاج علي أن يقول لهما: ابعثوا. ولبعث هو ولقال للرجل: إن رأيا الفراق أمضيا ذلك عليه وإن لم يأذن به. قال: ويشبه أن يكون الحديث عن عثمان كالحديث عن علي -يريد بحديث عثمان الذي نذكره الآن- ثم قال: ولو قال قائل: يخيرهما السلطان على الحكمين كان مذهبًا. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن [ابن] (¬1) أبي مليكة، سمعته يقول: "تزوج عقيل بن أبي طالب فاطمة بنت عتبة وقالت: اصبر لي وأنفق عليك، فكان إذا دخل عليها [تقول له: أين عتبة وشيبة؟ فيسكت عنها، فدخل يومًا برمًا] (¬2) فقالت: أين عتبة بن ربيعة، وأين شيبة بن ربيعة؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت. فشدت عليها ثيابها، فجاءت عثمان بن عفان، فذكرت له ذلك، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقن ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل". (¬2) سقط من "الأصل"، والمثبت من مسند الشافعي (1/ 262) وانظر "الأم" (5/ 116)، و (5/ 195).

بينهما. وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. قال: فأتياهما فوجداهما قد شدا عليهما [أثوابهما] (¬1) وأصلحا أمرهما". قولها: "اصبر لي" أي اصبر على عشرتي واحتملني، كأنها قد كانت لكبرها تظن أنه يملّها ولا يصبر عليها ولذلك أرضته بالإنفاق عليه. وقولها: "أين عتبة أين شيبة" وهما أبوها وعمها، وهو تعريض منها برئاستهما في الجاهلية وتقديمهما وما قد آل إليه أمرها من كونها تتقرب بمالها إلى من يصبر عليها ويرضى بها. و"البرم": الضجور، تقول: بَرِمَ به -بالكسر- يبرم بَرَمًا -بالفتح- فهو بَرِم. وقوله: "بين شيخين" يريد عقيلا وزوجته فاطمة، والعجوز تسمى شيخة. ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (5/ 195)، والمعرفة (5/ 437)، والسنن الكبرى (7/ 306).

الفصل الثاني في الخلع

الْفَصْلُ الثَانِي فِي الخُلعِ أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، أن حبيبة بنت سهل أخبرتها: "أنها كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى صلاة الصبح، فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله. فقال: ما شأنك؟ قالت: لا أنا ولا ثابت. لزوجها فلما جاء ثابت بن قيس، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذه حبيبة بنت سهل، قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر، فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذ منها، فأخذ منها، وجلست في أهلها". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن حبيبة بنت سهل: "أنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغلس وهي تشكوا شيئًا ببدنها، وهي تقول: لا أنا ولا ثابت بن قيس. قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ثابت، خذ منها -فأخذ منها، وجلست". هكذا الحديث في كتاب "الخلع والنشوز" يعني قوله: "أن حبيبة بنت سهل أخبرتها" وقد رواه في كتاب "الحجر" عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن [أنها] (¬1) أخبرته: "أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس". قال: وهو الصحيح، وقوله: "أخبرتها" في هذه الرواية خطأ من الكاتب، وإنما أخبرته في إخبار عمرة يحيى بن سعيد، كذلك رواه عامة أصحاب مالك. ¬

_ (¬1) في "الأصل": أن، وهو تحريف.

قلت: والذي رأيته ورويته في "الموطأ" (¬1): عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصاري: "أنها كانت تحت ثابت" هذا اللفظ يقتضي صريحه أن رواية عمرة إنما هي عن حبيبة لأنه قال: إنها أخبرته عن حبيبة، وهذا صريح في الإسناد، وقد يجوز أن نتأول لفظة "عن" ويقال فيها: إنما أرادت عمرة أنها أخبرت يحيى بن سعيد عن شأن حبيبة، وأمرها كانت كذا وكذا، وهذا على خلاف الظاهر وإن كان اللفظ له محتملاً، وفائدة هذا القول من البيهقي (¬2) -رحمه الله- أن الحديث لم تروه عمرة، عن حبيبة، وإنما روته عن غيرها, ولذلك قال: وقد قيل: عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة: "أن حبيبة ... " فيكون الحديث على قول البيهقي مرسلاً، وعلى ما قلناه مسندًا عن حبيبة نفسها، ويشهد لصحة ذلك: الرواية التي أخرجها الشافعي، عن ابن عيينة ... وذكرها مسندة إلى حبيبة، وكذلك أخرجه أبو داود والنسائي. أما أبو داود (¬3) فعن القعنبي، عن مالك ... "أنها أخبرته عن حبيبة". وأما النسائي (¬4) فأخرجه عن محمد بن سلمة، عن القاسم، عن مالك ... "أنها أخبرته عن حبيبة". وقد أخرج أبو داود (¬5) هذا الحديث أيضًا عن عمرة، عن عائشة: "أن حبيبة" كما قاله البيهقي والله أعلم. "الغلس" ظلمة آخر الليل، و"الشأن" الحال والأمر. ¬

_ (¬1) "الموطأ" (1174). (¬2) انظر المعرفة (5/ 441). (¬3) أبو داود (2227). (¬4) النسائي (3462). (¬5) أبو داود (2228).

وقولها: "لا أنا ولا ثابت" تريد لا نجتمع ولا نصطحب، فنفت نفسها ونفسه نفيًا مستغرقًا، أي لا بقاء ولا ثبات ولا وجود لي وله معًا. وقوله: "تشكوا شيئًا ببدنها" تريد أثرًا من ضرب. و"الخلع" معروف، تقول: خلعت المرأة خُلعًا -بالضم- وخَالعتها فأنا خَالِع، والمرأة خالع، وقد تخالعا واختلعت فهي مختلعة، والاسم: الخُلعة، وإنما سمي بهذا الفعل؛ لأن الرجل والمرأة بعضهما لباس لبعض؛ قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (¬1) فكأن كلا منهما عند التخالع قد خلع لبسه من صاحبه. ومنه محظور ومباح، فالمحظور ضربها لتخالعه وتسقط حقها، وأما المباح فهو أن تكون المرأة كارهة للرجل بسبب ما من خُلق أو خَلق أو دين، فتخاف أن لا توفيه حقه لما في نفسها منه، فتبذل له فدية ليطلقها, ولو لم تكرهه فخالعته صح الخلع، وبه قال الثوري والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد. وقال داود: لا يصح الخلع إلا عند التخاصم، وحكي ذلك عن عطاء والنخعي والزهري؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ} (¬2) دليل الجماعة قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬3) وإنما شرط الخوف في الجواز في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (¬4) لأن العادة جارية أن الخلع لا يكون إلا مع الشقاق، وفيه تنبيه على جوازه في غير ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (187). (¬2) سورة البقرة، آية (229). (¬3) سورة النساء، آية (4). (¬4) سورة النساء، آية (128).

حال الشقاق، ولأنه إذا جاز مع كونها محتاجة إليه بسبب من جهة الزوج فجوازه وهي مختارة أولى. والذي ذهب إليه الشافعي في الخلع: أنه فسخ وهو قوله القديم، والمنصور في الخلاف، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر. وقال في الجديد: إنه طلاق. وهو قول علي وعثمان وابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي ومالك. وفائدة الخلاف: أنه في الطلاق ينقص به العدد، فإذا تزوجها بعد ذلك كانت معه على طلقتين. وإذا قلنا: إنه فسخ وأعادها كانت معه بثلاث وكانت صريحًا فيه. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن مولاة لصفية بنت أبي عبيد: "أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر". هذا الحديث ذكره الشافعي في جواز الاختلاع على أكثر مما أعطى الزوج وقال: فإذا حل له أن يأكل مما طابت به نفسًا على غير فراق؛ حل أن يأكل ما طابت به نفسًا عوضًا بالفراق. والذي يروى عن عطاء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها فإنه يذكر عن ابن جريج أنه أنكره، وليس لما يخالع عليه حدٌّ، فيجوز أن يكون أكثر من المهر، وأقل، وبه قال عامة الفقهاء، وحكي عن طاوس وعطاء والزهري والشعبي وعمرو بن شعيب أنهم قالوا: لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها، وكره ذلك أحمد وإسحاق وأبو عبيد، والأول القول؛ لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه} (¬1). ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (229).

وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن جمهان مولى الأسْلميين، عن أم بكرة الأسلمية: "أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن أسيد، ثم أتيا عثمان في ذلك، فقال: هي تطليقة إلا أن تكون سميت شيئًا فهو ما سميت". هذا الحديث ذكره الشافعي في الحديث على أن الخلع طلاق، وقال: لا أعرف جمهان ولا أم بكرة بشيء يثبت به خبرهما ولا يرده، وبقول عثمان نأخذ، وكان في القديم يقول: إنه فسخ، وحمل قول عثمان: "إلا أن تكون سميت شيئًا فهو ما سميت" على العدد. قال أبو داود السجستاني: قلت لأحمد بن حنبل: حديث عثمان: "الخلع تطليقة" لا يصح؟ قال: ما أدري جمهان ولا أعرفه. وقال ابن المنذر: وروي عن عثمان وعلي وابن مسعود: "الخلع تطليقة بائنة". وضعف أحمد بن حنبل حديث عثمان، وحديث علي وابن مسعود في إسنادهما [مقال] (¬1): وليس في الباب أصح من حديث ابن عباس. يريد حديثًا رواه عنه طاوس. واستدل الشافعي في القديم على أنه فسخ لا طلاق وهو هذا. قال الشافعي: واختلف أصحابنا في الخلع، فأخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس: "في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد، قال: يتزوجها إن شاء الله تعالى؛ يقول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} وقرأ إلى {أَنْ يَتَرَاجَعَا} (¬2). قال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة قال: "كل شيء ¬

_ (¬1) في "الأصل": قال، وهو تحريف، والمثبت من "المعرفة" (5/ 444). (¬2) سورة البقرة، آية (229 - 230).

أجازه المال فليس بطلاق". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس وابن الزبير: "أنهما قالا في المختلعة يطلقها زوجها، قالا: [لا] (¬1) يلزمهما الطلاق؛ لأنه طلق ما لا يملك". وأخبرنا الشافعي بالإسناد المذكور أنهما قالا: "لا يلحق المختلعة الطلاق في العدة؛ لأنه طلق ما لا يملكه". أخرج الرواية الأولى في كتاب "أحكام القرآن"، والثانية في كتاب "اليمين مع الشاهد". "المختلعة" مفتعلة من الخلع، وقد تقدم بيان أصل الخلع. وقوله: "لا يلزمها طلاق" أي لا يقع عليها الطلاق؛ وعلل ذلك بقوله: "لأنه طلق ما لا يملك" يريد أنه بعد أن خالعها انقطعت وبقة النكاح بينهما فإذا أوقع عليها طلاقًا لم يقع، وهذا معنى قوله: "طلق ما لا يملك". فإنه تعليل لامتناع وقوع الطلاق؛ فإن المختلعة تَبِين من زوجها بالخلع، والبائنة لا يقع عليها طلاق. قال الشافعي: وإذا خالعها ثم طلقها في العدة لم يقع عليها الطلاق؛ لأنها ليست بزوجة ولا في معاني الأزواج، واحتج بانقطاع الرجعة والإيلاء والظهار واللعان والميراث بين الزوجين، ولأنه لو مات الزوج لم تنتقل إلى عدة الوفاة، فقد أطلق في الرواية الأولى انتفاء وقوع الطلاق، وقيده في الثانية بالعدة، والحكم فيهما سواء، فلا يلحقها طلاق بكل حال، سواء كانت في العدة أو لم تكن، وإنما تعرض لذلك العدة لأنه قضاء بالأخص على الأعم، فإذا لم يقع الطلاق عليها في العدة وهي مظنة ذلك فبالأولى أن لا يقع عليها بعد انقضاء ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 444).

العدة. وبقول الشافعي قال الشعبي وعكرمة وأبو الشعساء ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: يلحقها الطلاق باللفظ الصريح دون الكناية، ولا يلحقها المرسل، مثل أن يقول: كل امرأة لي طالق. وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء، وإليه ذهب ابن المسيب والنخعي، وحكي عن الحسن أنه قال: إن طلقها في المجلس لحقها وإن كان بعده لم يلحق. والله أعلم. ***

كتاب الطلاق

كِتَابُ الطَّلاقِ وَفيِه سِتّة فصُولٍ الفصل الأول: في طَلاقِ السُّنةِ وَالبدعةِ أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عمر: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال: مُره فليراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فإن شاء أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يمس [فتلك] (¬1) العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع [عبد الرحمن] (¬2) بن أيمن مولى عزة يسأل عبد الله بن عمر -وأبو الزبير يسمع- فقال: "كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال ابن عمر: طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مُره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك. قال ابن عمر: وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} (¬3) في قِبل عدتهن أو لقبل عدتهن"، الشافعي يشك. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن مجاهد: "أنه كان يقرأها كذلك". ¬

_ (¬1) في "الأصل": وذلك، وهو تحريف، والمثبت من "الأم" (5/ 180) والمعرفة (5/ 449). (¬2) في "الأصل": عبد الله، وهو تحريف، والمثبت من المصادر السابقة. (¬3) سورة الطلاق، الآية (1).

وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقرأ: "إذا طلقتم النساء فطلقوهن لقبل عدتهن". هذه الروايات أخرجها في كتاب "إباحة الطلاق" وعاد أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" عن عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع عبد الله بن أيمن يسئل ابن عمر -وأبو الزبير يسمع-: "كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ فقال: طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مره فليراجعها. فردها عليّ ولم يرها شيئًا، فقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك". وأخرج الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" أيضًا عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله: مُره فليراجعها، فردها عليّ ولم يرها شيئًا". وأخرج في كتاب "اختلاف الحديث" أيضًا الرواية الأولى بطولها. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك فأخرج (¬1) الرواية الأولى. وأما البخاري فأخرج (¬2) الأولى عن إسماعيل بن عبد الله، عن مالك. وعن (¬3) حجاج بن منهال، عن قتادة، عن يونس بن جبير قال: قلت لابن عمر: "رجل طلق امرأته وهي حائض [فقال: تعرف ابن عمر؟ إن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض] (¬4) فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر [ذلك] (4) له، فأمره أن ¬

_ (¬1) الموطأ (1196). (¬2) البخاري (5251). (¬3) البخاري (5258). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من صحيح البخاري.

يراجعها، فإذا طهرت فأراد أن يطلقها فليطلقها. قلت: فهل عَدَّ ذلك طلاقًا؟ قال: أرأيت إن عجز واستحمق". وأما مسلم فأخرجه (¬1) عن يحيى بن يحيى التميمي، عن مالك. وذكر الأولى (1) عن يحيى بن يحيى وقتيبة وابن رمح، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن عبد الله: "أنه طلق امرأته وهي حائض". وعن هارون بن عبد الله (1)، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج ... وذكر الرواية الثانية، وقال: "في قبل عدتهن" ولم يشك. وأما أبو داود فأخرج الأولى (¬2) عن القعنبي، عن مالك. وعن القعنبي (¬3)، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين مثل رواية البخاري. وأما الترمذي فأخرجه (¬4) عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين مثل البخاري. وأما النسائي فأخرج الأولى (¬5) عن عبيد الله بن سعيد السرخسي، عن القطان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. وأخرج [الثانية] (¬6) عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وعبد الله بن محمد بن تميم، عن حجاج، عن ابن جريج، عن أبي الزبير. هؤلاء جميعهم لم يخرج منهم ذكر القراءة إلا مالك فإنه أخرج الرواية الآخرة ¬

_ (¬1) مسلم (1471). (¬2) أبو داود (2179). (¬3) أبو داود (2184). (¬4) الترمذي (1175). (¬5) النسائي (3389). (¬6) في "الأصل" الشافعي، وهو تحريف، والمثبت هو الصواب والحديث عند النسائي برقم (3392).

إسنادًا ولفظًا، وقال مالك: يعني بذلك أن يطلق في كل طهر مرة. "الحيض" معروف، وامرأة حائض إذا رأت الدم المعتاد، حاضت المرأة تحيض فهي حائض، وحائضة أيضًا وليس بالكثير، وقد تقدم بيان ذلك فيما سبق مستوفى. و"الطلاق" مصدر، طَلَقت المرأة -بالفتح- تطلق طَلاَقًا فهي طَالِق، قال الأخفش: لا يقال: طَلُقت بالضم، وطَلَّقتها تَطْلِيقًا، شدد للكثرة، ورجل مِطْلاق كثير الطلاق للنساء. ومعنى "الطلاق" التخلية، ومنه أطلقت الأسير، كأن المرأة في أسر الرجل فإذا طلقها فقد خلى سبيلها، وكذلك أطلقت الناقة من عقالها، إلا أنهم خصوا المرأة بالتطليق في الاستعمال وغيرها بالإطلاق. و"المراجعة" أن يعيد الرجل زوجته إلى نكاحه إذا كان يملك ذلك منها، وهو أن يكون قد بقي له من الثلاث بعضها ولم تنقض العدة، وستجيء أحكام الرجعة في كتابها. و"العِدَّة" فِعْلة من العدِّ: الإحصاء، كأن المعتدة تعد أيامها التي إذا انقضت حلت للأزواج، قال الجوهري: وعِدَّة المرأة أيام أقرائها، وفي إطلاقه نظر فإن العدة قد تكون بالأشهر، والحمل. و"قِبَل" الشيء أوله وحقيقة ما أقبل منه، والمعنى فطلقوهن مستقبلات عدتهن؛ لأنه إذا طلقها وهي حائض احتاجت أن تبتديء بالعدة من أول الطهر على ما سيجيء بيانه في ذكر المذهب، وفي رواية: "في قبل عدتهن" وفي أخرى: "لقبل عدتهن" وهذه "اللام" هي التي في "لِسِتٍّ خلون" و"الِخَمْسٍ بقين" وهي "لام" التخصيص، وفيها معنى الظرفية كأنه قال: فطلقوهن في استقبال عدتهن، وكأن الطلاق مخصوص بقبل العدة، وأما "في" ففائدتها الظرفية إلا أن "اللام" يشير ظاهرها إلى أن الطلاق مقترن بأول مدة العدة وأما

"في" فلا تقتضي ذلك؛ لأنه لابد أن يكون قد ذهب من المدة شيء حتى تصح أن تكون ظرفًا. وقوله: "فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء" بيان أن الأقراء التي تعتد بها هي الأطهار دون الحيض؛ لأنه قال: "يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهير" عقب الطهارة بقوله: "فتلك العدة" فكانت مضافة إلى الطهر لا إلى الحيض، ولأنه قد أنكر عليه لما طلق في حالة الحيض فكيف كان ينكر عليه ما هو جائز له؟! ويوضح ذلك قوله: "ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق" فدل على أن الطهر هو المعتد به في الأقراء. وقوله: "أرأيت إن عجز واستحمق" يريد العجز عن تطليقها في الوقت المسنون للطلاق، "واستحمق" أكثر ما يروى بضم التاء على ما لم يسم فاعله يعني أن الناس استحمقوه وعدوه أحمق، حيث وضع الشيء في غير موضعه، والمعروف بفتح التاء، على أن الفعل له، أي تكلف الحمق بما فعله من الطلاق وامرأته حائض، ومثله قولهم: "استنوق الجمل" إذا صار يشبه الناقة، وفي الكلام محذوف تقديره: أرأيت إن عجز وصار أحمق يُسقط حمقه وعجزه عنه الطلاق وأن ذلك هل يقوم له عذرًا حتى يعتد بتطليقه؟ و"المجامعة" مفاعلة من الجمع بين الشيئين أو الأشياء، واستعمالها في الوطء استعمال خاص لأن المجامعة تقع على جمع أنواع، لكن الاستعمال خصصه باجتماع خاص على هيئة خاصة، حتى صار كأنه موضوع بإزائه لا يدل على غيره، فإذا أطلقت لفظة المجامعة لم يفهم منها إلا الوطء إلا أن تكون القرائن تدل على خلاف ذلك. وقوله: "ولم ير التطليقة شيئًا" ظاهره أنه لم يعتد به عليه، وهذا لا قائل به من الأئمة إلا ما حكي عن الشيعة من أن الطلاق لا يقع في الحيض، ويحتمل أن يكون قوله: "لم يرها شيئًا" يعني أنه لم ير التطليقة شيئًا يمنع من الرجعة التي

أمره أن يردها إلى نكاحه، وحكي عن الشافعي أنه حمل هذا اللفظ على أنه لم يرها شيئًا صوابًا غير خطأ يؤمر صاحبه أن لا يقيم عليه، ألا ترى أنه يؤمر بالمراجعة؟ ولا يؤمر بها الذي طلقها طاهرًا، كما يقال للرجل أخطأ في فعله أو أخطأ في جوابه: لم يصنع شيئًا، أي لم يصنع شيئًا صوابًا، وفي رواية الشافعي: "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق" فذكر طهرين بينهما حيضة, وإنما منعه من طلاقها في الطهر الأول؛ لئلا تطول عليها العدة, لأن المراجعة لم تكن تنفعها حينئذ، فوجب عليه أن يجامعها في الطهر لتحقيق معنى المراجعة، فإذا جامعها, لم يكن له أن يطلقها في طهر جامعها فيه؛ لأنه طلاق بدعة، ولأنه قبل أن يمس، وعلى أن أكثر رواة الحديث عن ابن عمر إنما قالوا: "ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق" ولم يذكروا إلا طهرًا واحدًا، وهذه الزيادة إنما رواها عنه نافع وسالم من طريق الزهري. والذي ذهب إليه الشافعي أن الطلاق على أربعة أضرب: الأول: واجب وهو طلاق المُولي إذا انقضت مدة الإيلاء وجب عليه الفيئة والطلاق. والثاني: طلاق محظور وهو طلاق المرأة وهي حائض، وفي طهر قد جامعها فيه، بدليل قوله في الحديث: "وإن شاء طلقها قبل أن يمس". والثالث: طلاق مكروه، وهو طلاق المرأة المرضية الصالحة. والرابع: طلاق مستحب، وهو أن تكون [معيَّة] (¬1) الزوج والزوجة غير مستقيمة ولا التئام بينهما؛ فيستحب لهما الفراق. ¬

_ (¬1) في "الأصل": مع.

والمراد في هذا الحديث الطلاق الثاني، وهو المحظور. والطلاق على اختلاف أنواعه متى أضيف إلى الزوج وقع، سواء كان محظورًا أو واجبًا أو مكروها أو مستحبًا، وإلى ذلك ذهب عامة الفقهاء، وقد حكينا ما ذهبت إليه الشيعة من أن الطلاق في الحيض لا يقع؛ أخذًا بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1) والعدة لا يعتد بها في زمان الحيض. قال الشافعي: في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر أن يراجع امرأته دليل على أنه لا يقال له: راجع إلا من قد وقع عليه طلاقه لقوله تعالى في المطلقات: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ} (¬2) ولم يقل هذا في ذوات الأزواج، وأن معروفًا في اللسان بأنه إنما يقال للرجل: راجع امرأتك. إذا افترق هو وامرأته، قال: وفي حديث أبي الزبير شبيه به، ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به. قال: وقد وافق نافعًا غيره من أهل الثبت في الحديث، فقيل له: "أحسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - تطليقة؟ قال: فمه وإن عجز" يعني أنها حسبت، وقد اتفق العلماء على انقسام الطلاق إلى سني وبدعي، فالبدعي هو الطلاق المحرم إنشائه وإن صح وقوعه، والسني لا تحريم فيه، ثم البدعي إنما يتعلق تحريمه بالمدخول بها فأما غير المدخول بها فلا، وكذلك إذا لم تسأل المرأة الطلاق، فأما مع سؤالها فليس ببدعة. وأما طلاق السنة فهو أن يطلقها وهي طاهر. قال الشافعي: فَبَيِّنٌ -والله أعلم- في كتاب الله جل ثناؤه بدلالة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن السنة في المرأة المدخول بها التي تحيض دون من سواها من المطلقات أن تطلق لقبل عدتها، وذلك أن حكم الله أن العدة على المدخول بها، ¬

_ (¬1) سورة الطلاق، آية (1). (¬2) سورة البقرة، آية (228).

وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يأمر بطلاق طاهر من حيضها التي يكون لها حيض وطهر. قال: وطلاق السنة فيها أن يطلقها طاهرًا من غير جماع في الطهر الذي خرجت من حيضه. وأما قوله: "مره فليراجعها" فإن هذا أمر مستحب ولا يجب عليه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: يلزمه أن يراجعها. والمستحب أن يطلقها واحدة ليأمن الندم على الطلاق الثلاث، ولا بينة عند الشافعي في تفريق الطلاق، بل سواء طلقها واحدة أو ثلاثًا، لكن بشرط أن تكون في حال طهر، لكن الأولى أن يفرق الطلاق، وروي ذلك عن عبد الرحمن بن عوف والحسن بن علي والشعبي وابن سيرين وإسحاق وأبي ثور وهي إحدى الرواتيين عن أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: جمع الثلاث بدعة محرم إلا أن أبا حنيفة يجوز عنده أن يطلقها واحدة ويراجعها، ثم يطلقها أخرى ثم يراجعها، ثم يطلقها الثالثة. وقال أهل الظاهر والشيعة: الثلاث محرمة، فإذا أوقعها لم يقع منها شيء، ومنهم من قال: يقع منها واحدة والله أعلم. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم، عن ابن جريج: "أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه: هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم". هكذا روى الشافعي هذا الأثر في كتاب "اختلاف الحديث" عقيب الحديث الذي قبله، وهو صريح في صحة وقوع الطلاق على الحائض، ونافع أخبر بحال ابن عمر من غيره، وإذا اعتبرت روايات حديث طلاق ابن عمر وجدت الجماعة قد أخرجوه، وذكروا الاعتداد بالطلقة عليه وأنها حسبت من طلاق زوجته، كذا في سياق روايات الحديث على اختلاف ألفاظهم.

الفصل الثاني: في ألفاظ الطلاق

الْفصْل الثانِي: فِي ألْفاظِ الطَّلاق وَفِيه فَرْعانِ الفرع الأول: في الصَّريح وَالكِنايةِ أخبرنا الشافعي، أخبرنا محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله بن علي بن السائب، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: "أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني طلقت امرأتي البتة، والله ما أردت إلا واحدة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة. فردها إليه". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله بن علي ابن السائب، عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: "أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، ثم أتى رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنى طلقت امرأتي سهيمة البتة، ووالله ما أردت إلا واحدة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لركانة: والله ما أردت إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة. فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان". هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي. أما أبو داود فأخرجه (¬1) عن ابن السرح وإبراهيم بن خالد الكلبي -في آخرين- عن محمد بن إدريس الشافعي بإسناده ولفظه. وعن سليمان بن داود (¬2)، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده ... ¬

_ (¬1) أبو داود (2206). (¬2) أبو داود (2208).

قال أبو داود: هذا أصح من حديث ابن جريج: "أن ركانة طلق زوجته ثلاثًا" لأنهم أهل بيته وهم أعلم به، وحديث ابن جريج رواه عن بعض بني أبي رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأما الترمذي فأخرجه (¬1) عن هناد، عن قبيصة، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: [يا] (¬2) رسول الله، إني طلقت امرأتي البتة. فقال: ما أردت بها؟ قلت: واحدة. قال: آلله؟ قلت: آلله. قال: فهو ما أردت". قال الترمذي: هذا حديث لا يعرف إلا من هذا الوجه. "البتة" من البت: القطع، تقول: بَتَّهُ يَبِتُّه ويَبُتُّه، وإذا فعل ذلك بته، ولا أفعله البتة تقال لكل أمر لا رجعة فيه، وهو منصوب على المصدر. وقوله في رواية الترمذي: "آلله؟ فقلت: آلله" أي بالله ما أردت إلا واحدة؟ فقال: بالله ما أردت إلا واحدة. وحرف القسم قد يحذف من الاسم المتسم به، وفيه مذهبان: النصب بإيصال الفعل [المضمر] (¬3) إليه، تقول: آللهَ لأفعلن. والجر بالحرف المحذوف، تقول: آللهِ لأفعلن، وهمزة الله في الحالين مفتوحة مقطوعة، وقد عوضوا من حرف القَسَم في اسم الله خاصة همزة الاستفهام، فقالوا: آلله لأفعلن، بالمد. هذا الحديث يتضمن دلالتين: إحداهما: جواز وقوع الطلاق الثلاث دفعة واحدة. ¬

_ (¬1) الترمذي (1177). (¬2) سقط من "الأصل"، والمثبت من جامع الترمذي. (¬3) تكررت في "الأصل".

والثانية: أن كنايات الطلاق يرجع فيها إلى الحالف. أما الأولى فإن الرجل إذا طلق زوجته بصريح اللفظ أو بكنايته مع النية ثلاثًا وقع طلاقه ثلاثاً، كما صرّح أو كما نوى، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأهل الرأي. وقال أحمد: إذا نوى بصريح اللفظ الطلاق أكثر من واحدة لا يقع إلا واحدة. وقال الثوري وأصحاب الرأي أيضًا: يجوز إرادة الثلاث بالكناية، ولو أراد بها اثنتين لم يقع إلا واحدة بائنة. ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استحلف ركانة على ما نوى، ولو لم تكن الثلاث تقع لما استحلفه وديَّنه. وفيه دليل على أن الطلاق الثلاث مباح وليس ببدعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله عن نيته ولم ينكر فعله. وأما حكم كنايات الطلاق فإن ألفاظها كثيرة، وهي كل لفظة محتملة، إما جلية كقولك: خلية وبرية وبتة. وإما خفية ولا يتم إلا بتقدير استعارة وإضمار، فكقولك: الحقي بأهلك وحبلك على غاربك، وكقوله: اعتدي، واستبرئي و [غير ذلك] (¬1) من ألفاظ الكنايات، والمقصود بالذكر ها هنا هو قوله: "البتة" وهي من جملة ألفاظ كنايات الطلاق، والكناية لا يقع بها الطلاق مطلقًا إلا إذا نوى الطلاق، وهذا الحالف لما قال: إني طلقت امْرأتي البتة ولم أرد إلا واحدة دَيَّنَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس الحلف شرطًا في ذلك وإنما فعله استظهارًا وتأكيدًا، فلما حلف "ما أردت إلا واحدة" قبل منه وأوقع عليه طلقة رجعية، وردها إليه. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وأخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، سمع محمد بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني المطلب بن حنطب: "أنه طلق امرأته البتة، ثم أتى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال: ما حملك على ذلك؟ قال: قلت: قد فعلت. قال: فقرأ {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (¬1) ما حملك على ذلك؟ قال: قد فعلت. قال: أمسك عليك امرأتك، فإن الواحدة تبت". قول عمر: "ما حملك على ذلك؟ " كأنه تقريع وتوبيخ له على فعله وتطليقه، هذا هو ظاهر اللفظ، ألا ترى أن الإنسان إذا أقدم على فعل فأخطأ فيه يقال له توبيخًا وتقريعًا: ما حملك على ذلك. وفيه استعلام عن الحامل له على ذلك والباعث على الإقدام على فعله. قال الشافعي: معنى مسألة عمرُ المطلبَ "ما حملك على ذلك" يرددها [يعني] (¬2) والله أعلم: ما أردت بذلك؟ وقول المطلب: "قد فعلت" يعني والله أعلم: أي خرج مني بلا نِيَّة [زيادة] (2)، وفي حديث الليث بن سعد: ما يُبَينِّ أن معنى قول عمر ما وصفت. قال الشافعي: فلما أخبره أنه لم يرد به زيادة على عدد الطلاق ألزمه [واحدة] (¬3) لأنه يديَّن في قوله. قال الشافعي: وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (1) لو طلق فلم يذكر البتة كان خيرًا له؛ إذ كانت كلمة محدثة ليست في أصل الطلاق، تحتمل صفة جعلها للطلاق وزيادة في عدده، فنهاه عن المشكل من القول ولم ينه عن الطلاق، وهو لا يحلفه على ما أراد إلا ولو أراد ¬

_ (¬1) سورة النساء، آية (66). (¬2) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 472). (¬3) تكررت في الأصل.

أكثر من واحدة ألزمه ذلك. وقول عمر: "أمسك عليك امرأتك" أي راجعها ولا تفارقها فإن ذلك لك. وقوله: "فإن الواحدة تبت" يريد أن الواحدة يجوز أن تطلق عليها البتة. قال الشافعي -رضي الله عنه- ذكر الله تعالى الطلاق في كتابه بثلاثة أسماء: الطلاق، والفراق، والسراح، فمن خاطب امرأته فأفرد لها اسمًا من هذه الأسماء لزمه الطلاق. وما تكلم به مما يشبه الطلاق سوى هؤلاء الكلمات فليس بطلاق حتى يقول: كان مخرج كلامي به على أني نويت به طلاقًا، وهو ما أراد من عدد الطلاق والله أعلم. أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن أبي سلمة، عن سليمان بن يسار، أن عمر بن الخطاب قال للتوأمة مثل قوله للمطلب. هذا الحديث أخرجه الشافعي تاليًا للحديث الذي قبله في كتاب "أحكام القرآن" تأكيدًا لما ذهب إليه من الحكم بأن "البتة" من كنايات الطلاق، وأنها تحتاج إلى نية حتى يقع بها الطلاق، كما شرحناه فيما سبق. وقد أخرج الشافعي، عن الثقة، عن الليث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار: "أن رجلاً من بني زريق طلق امرأته البتة، فقال عمر: ما أردت بذلك؟ قال: أتراني أقيم على حرام والنساء كثير؟! فأحلفه فحلف". قال الشافعي: أراه فردّها عليه. وهذا هو حديث الليث الذي أشار إليه الشافعي في حديث المطلب بن حنطب قبله. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أنه قال في الخلية والبرية: إنها ثلاث تطليقات كل واحدة منهما".

"الخلية" فعلية بمعنى مفعولة، من خليت الشيء من يدي، أخليته: إذا تركته، والأصل فيه: الناقة إذا أطلقت من عقالها يقال لها: الخلية؛ لأنه خلى عنها، ويجوز أن يكون من قولهم: أنا منك خلاء، أي: براء. وأما "البرية" فإنه من البراء، وهي الخلاص من الشيء، تقول: أنا بري، وهي برية. وأخرج الشافعي هذا الحديث في خلاف مالك إلزامًا له في خلاف ابن عمر، فإنه يفرق بين المدخول وغير المدخول بها، ومالك يفرق بينهما في التي لم يدخل بها. والذي ذهب إليه الشافعي: أن هذين اللفظين من ألفاظ كنايات الطلاق التي لا تقع إلا بالنية، والعدد ما أراده ونواه؛ إن واحدة فواحدة وإن اثنتين فاثنتين، وإن ثلاثًا فثلاثًا. وقال مالك: الكنايات الظاهرة كقوله: أنت برية، وبائنة، وبتة، وحرام، يقع بها الثلاث، سواء نوى الثلاث أو لم ينوه، إلا أن تكون غير مدخول بها فيقبل قوله فيما نوى. وقال أبو حنيفة: الكنايات بوائن إلا قوله: اختاري. إن نوى بها واحدة كانت واحدة، وإن نوى ثلاثًا كان ثلاثًا، وإن نوى ثنتين وقع واحدة ولا يقع بها طلقتان. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن هشيم، عن منصور، عن الحكم، عن إبراهيم: "أن عليًّا -كرم الله وجهه- قال في الخلية والبرية والحرام: ثلاثًا، ثلاثًا". وفيما بلغه عن محمد بن يزيد ومحمد بن عبيد وغيرهما، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن رياش بن عدي الطائي قال: "أشهد أن عليًّا جعل البتة

[ثلاثًا] (¬1) ". قال الشافعي: ولسنا ولا إياهم نقول بهذا، أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف علي -كرم الله وجهه-. وقد أخرج الشافعي قال: أخبرنا مالك: "أنه بلغه أنه كُتِبَ إلى عمر بن الخطاب من العراق: أن رجلاً قال لامرأته: حبلك على غاربك. فكتب عمر إلى عامله: أَنْ مُره أن يوافيني في الموسم، فبينما عمر بن الخطاب يطوف بالبيت؛ إذ لقيه رجل فسلم عليه، فقال: من أنت؟ فقال: أنا الذي أَمَرْتَ أن يُجلب عليك. قال: أنشدك برب هذا البيت هل أردت بقولك: حبلك على غاربك الطلاق؟ فقال الرجل: لو استحلفتني في غير هذا المكان ما صَدَقْتُكَ، أردت الفراق. قال عمر: هو ما أردت". قال الشافعي: وبهذا نقول، وفيه دلالة على أن كل كلام أشبه الطلاق لم يحكم به طلاقًا حتى يسأل قائله، إن كان أراد طلاقًا فهو طلاق، وإن لم يرد لم يكن طلاقًا. وقال الشافعي: وذكر ابن جريج، عن عطاء: "أن عمر بن الخطاب رُفع إليه رجل قال لامرأته: حبلك على غاربك. فقال لعلي -كرم الله وجهه-: انظر بينهما، فقال له علي: ما أردت؟ فجحد أن يكون أراد الطلاق، فأراد أن يستحلفه بين الركن والمقام، فأقر أنه أراد الطلاق، فأمضاه عليه ثلاثًا". قال: وذكر عن الحسن، عن علي مثله. وأخرج الشافعي فيما حكى عن العراقيين، عن أبي يوسف، عن أشعث بن سوار، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود: "أنه قال في الحرام: ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "المعرفة" (5/ 476).

إن نوى يمينًا فيمين، وإن نوى طلاقًا فطلاق وهو ما نوى من ذلك". قال الشافعي: إذا قال لامرأته: أنت عليّ حرام. فإن نوى طلاقًا فهو طلاق، وهو ما أراد من عدده، وإن لم يرد طلاقًا فليس بطلاق، ويكفر كفارة اليمين؛ قياسًا على الذي يحرم أمته فيكون عليه فيها الكفارة. وقال في كتاب "الرجعة": فإن أراد طلاقًا ولم يرد عددًا فهي واحدة يملك الرجعة، وإن قال: أردت تحريمها بلا طلاق لم تكن حرامًا، وكانت عليه كفارة يمين، والله أعلم.

الفرع الثاني في التفويض والتخيير

الْفرعُ الثَّانِي في التفْوِيضِ والتخْيِيِر أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "كان يقول إذا مَلَّك الرجل امرأته فالقضاء ما قضتْ، إلا أن يناكرها الرجل فيقول: لم أرد إلا تطليقة. فيحلف على ذلك؛ فيكون [أملك] (¬1) بها ما كانت في عدتها". هذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) إسنادًا ولفظًا. قوله: "ملك امرأته" يريد فوض طلاقها إليها، فملكها ما لم يكن في ملكها. وقوله: "فالقضاء ما قضت" يريد أن حكم الطلاق مرجوع فيه إلى قولها، متى أوقعت الطلاق وقع، كما كان إلى الزوج. وقوله: "إلا أن يناكرها" يريد يخالفها فيما ملَّكها من عدد الطلقات وإيقاعه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن التفويض تمليك لها، وقيل: إنه توكيل كتوكيل الأجنبي، وينبني عليه أنها لو طلقت نفسها في مجلس آخر لا على الاتصال لم يجز إن جعلناه تمليكًا، وإن جعلناه توكيلًا جاز. وألفاظ التفويض منها صريح ولا يحتاج إلى نية، ومنها كناية يحتاج إلى النية، فإذا قال: طلقي نفسك. فقالت: طلقت نفسي. وقع الطلاق. وإذا قال: اختاري نفسك. فقالت: اخترتك. لم يقع عليها شيئًا، وبه قال ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل". (¬2) الموطأ (1156).

ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وعامة الفقهاء. وحكي عن علي وزيد -في إحدى الروايتين- أنه يقع بالإختيار طلقة رجعية، وإليه ذهب الحسن وربيعة. فأما إن اختارت نفسها ونويًا الطلاق وقع؛ لأنه كناية، وإن نوى أحدهما دون الآخر لم يقع، وإن نويا جميعًا عددًا وقع ما نوياه واتفقا عليه، فإن اختلفا في العدد وقع الأقل، وإن نويا واحدة كانت رجعية، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يفتقر وقوع الطلاق إلى نية المرأة، فإذا نوى الزوج الطلاق وقع واحدة، وإن نوى ثلاثًا لم يقع إلا واحدة. وقال مالك: إذا نوى الطلاق وقع الثلاث إن كانت مدخولًا بها، وإن لم تكن مدخولًا بها قُبِلَ منها، أنها أرادت واحدة أو اثنتين. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن سعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن خارجة بن زيد، أنه أخبره: "أنه كان جالسًا عند زيد بن ثابت، فأتاه محمد بن أبي عتيق وعيناه تدمعان، فقال له زيد بن ثابت: ما شأنك؟ فقال: ملكت امرأتي أمرها ففارقتني. فقال له زيد: ما حملك على ذلك؟! فقال له: القدر. فقال له زيد: ارتجعها إن شئت، فإنما هي واحدة وأما أملك بها". هذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (¬1) إسنادًا ولفظًا، وأخرج الشافعي هذا الحديث والذي قبله في كتاب "اختلاف مالك" وهو مؤكد للحديث الذي قبله. وأخرج الشافعي -فيما بلغه- عن أبي معاوية ويعلى عن الأعمش، عن إبراهيم، عن مسروق: "أن امرأة قالت لزوجها: لو أن الأمر الذي بيدك بيدي لطلقتك. فقال: قد جعلت الأمر إليك. فطلقت نفسها ثلاثًا، فسأل عمرُ عبدَ الله عن ذلك، فقال: هي واحدة، وهو أحق بها. فقال عمر: فإني أري ¬

_ (¬1) الموطأ (1157).

ذلك". قال الشافعي: بهذا نقول؛ إذا جعل الأمر إليها، ثم قال: لم أرد إلا واحدة. فالقول قوله وهي تطليقة يملك الرجعة، وهم يخالفون فيها فيجعلونها واحدة بائنة. وقال الشافعي -فيما بلغه- عن هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي ومغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، في الخيار: "إن اختارت نفسها فواحدة، وهو أحق بها". قال: وهكذا نقول، وهم يخالفونه ويرون الطلاق فيه بائنًا. وقال -فيما بلغه- عن شريك، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن مسروق، عن عبد الله قال: "إذا قال الرجل لامرأته: استلحقي أهلك، أو وهبها لأهلها فقبلوها، فهي تطليقة وهو أحق بها". وبهذا نقول إذا أراد الطلاق، وهم يخالفون ويزعمون أنها تطليقة بائنة. وقال الشافعي -فيما بلغه- عن عبيد الله بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن طلحة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: "لا يكون طلاق بائن إلا خلع أو إيلاء". قال الشافعي: وهم يخالفونه في عامة الطلاق فيجعلونه بائنًا، وأما نحن فنجعل الطلاق كله يملك فيه الرجعة إلا طلاق الخلع. وقال الشافعي: عن ابن علية، عن جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم الأسدي، عن زاذان، عن علي قال في الخيار: "إن اختارت زوجها فواحدة وهو أحق بها". فلسنا ولا إياهم نقول بهذا القول. أما نحن فنقول: إن اختارت زوجها فلا شيء، ويروى عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "خَيَّرَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فاخترناه، فلم يعد ذلك طلاقًا.

الفصل الثالث في الطلاق قبل الدخول

الفصْل الثَّالِثُ فِي الطَّلاقِ قَبل الدُّخُول أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس بن بكير قال: "طلق رجل امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، ثم بدا له أن ينكحها، فجاء يستفتي، فسأل أبا هريرة وعبد الله بن عباس فقالا: [لا] (¬1) نرى أن ينكحها حتى تزوج زوجًا غيرك. فقال: إنما كان طلاقي إياها واحدة. فقال ابن عباس: إنك أرسلت من يدك ما كان لك من فضل". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك ... بالإسناد وذكر الحديث إلى آخره. وأخبرنا الشافعي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن معاوية [بن] (¬2) أبي عياش الأنصاري: أنه كان جالسًا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر، فجاءهما محمد بن إياس بن البكير فقال: إن رجلاً من أهل البادية طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها. قال عبد الله بن الزبير: إن هذا الخبر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فَسَلْهُما ثم ائتنا فأخبرنا. فذهب فسألهما، فقال أبو هريرة: الواحدة تُبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره. وقال ابن عباس مثل ذلك". أخرج الرواية الأولى في كتاب "الطلاق" والروايتين الأخرتين في كتاب "أحكام القرآن"، وقد أخرج مالك الثلاث في الموطأ (¬3). وأخرج أبو داود (¬4)، عن أحمد بن صالح ومحمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من "الأم" (5/ 183)، و"المعرفة" (5/ 489). (¬2) بياض في "الأصل". (¬3) الموطأ (1180). (¬4) أبو داود (2198).

عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن محمد بن إياس: "أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سُئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثًا، فكلهم قال: لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره". قال أبو داود: ورواه مالك، عن يحيى بن سعيد ... وذكر إسناد مالك ونحو لفظه. قوله: "أرسلت من يدك ما كان لك من فضل" يريد أن له ثلاث تطليقات، فإذا طلقها جميعها لم يبق له شيء يملكه، وإذا طلق واحدة أو ثنتين بقي له تمام الثلاث. وقوله: "الواحدة تبينها" أي تفرق بينها وبين الزوج بوقوعها عليها؛ فإن غير المدخول بها تبينها الواحدة، والإبانة في الطلاق هو أن لا يبقى للزوج إلى المرأة رجعة إلا بنكاح جديد؛ وإن لم يكن الطلاق ثلاثًا. وقد بانت المرأة منه، تبين: إذا انفصلت عنه، فإن الطلاق ينقسم إلى رجعي وبائن، فالرجعي يجوز له أن يعيدها إلى نكاحه بغير تجديد عقد، والبائن لا يصح إلا بعقد جديد. وقوله: "والثلاث تحرمها" يريد أنه لا يمكنه إعادتها برجعة ولا تجديد عقد، وأن نكاحها عليه حرام حتى تنكح زوْجًا غيره، ثم يطلقها الثاني طلاقًا تبين به منه أو يموت عنها، ثم يجدد عليها الأول العقد، وهذا هو المذهب، وسواء فيه المدخول بها وغير المدخول بها عند الشافعي. قال الشافعي: قال الله عز وجل: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) وقال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية (229).

زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1). فالقرآن -والله أعلم- يدل على أن من طلق زوجة له -دخل بها أو لم يدخل بها- ثلاثًا؛ لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره والله أعلم. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نعمان بن أبي عياش الزرقي، عن عطاء بن يسار قال: "جاء رجل يسأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن رجل طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يمسها، قال عطاء: فقلت: إنما طلاق البكر واحدة. فقال عبد الله بن عمرو: إنما أنت قاص، الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره". هكذا أخرجه في كتاب "الطلاق" وعاد أخرجه في كتاب "أحكام القرآن" بالإسناد واللفظ. هذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) بالإسناد واللفظ، وقد خالف مالكًا فيه يحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون وعبدة بن سليمان، فرووه عن يحيى بن سعيد، عن بكير بن عبد الله، عن عطاء بن يسار. دون ذكر النعمان بن أبي عياش في إسناده. وقال مسلم بن الحجاج: إدخال مالكٌ النعمانَ في هذا الإسناد وهم منه، قال: والنعمان أقدم سنًّا من عطاء بن يسار. قوله: "إنما طلاق البكر واحدة" يريد بالبكر: غير المدخول بها، فإن البكر والثيب في هذا الحكم سواء، وإنما الاعتبار بالدخول وعدمه لا بالبكر والثيب. وقوله: "إنما أنت قاص" أي لا علم لك بالفتوى إنما تقص أحاديث، وهذا الحديث مؤكدًا لما قبله. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية (230). (¬2) الموطأ (1181).

وقد أخرج الشافعي، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن قسيط، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: "أنه قال في رجل قال لامرأته -ولم يدخل بها-: أنت طالق، ثم أنت طالق، ثم أنت طالق. فقال أبو بكر: أتطلق امرأة على ظهر الطريق؟! قد بانت من حين طلقتها التطليقة الأولى". وحكى الشافعي عن بعض العراقيين أنه قال: "بُلِّغْنا عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت بذلك" والله أعلم.

الفصل الرابع: في طلاق الثلاث

الْفصّلُ الرابعُ: فِي طَلاقِ الثَّلاَث أخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، أن أبا الصهباء قال لابن عباس: "إنما كانت الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجعل واحدة وأبي بكر وثلاث من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم". هذا حديث حسن صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. أما مسلم فأخرجه (¬1) عن إسحاق بن إبراهيم، عن روح بن عبادة، عن ابن جريج. وعن محمد بن رافع (1)، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج بالإسناد، وقال: "أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاث من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم". وأما أبو داود فأخرجه (¬2) عن أحمد بن صالح، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وعن محمد بن عبد الملك بن مروان (¬3)، عن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن غير واحد، عن طاوس: "أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر؟ قال: ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته [ثلاثًا] (¬4) قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة ¬

_ (¬1) مسلم (1472). (¬2) أبو داود (2200). (¬3) أبو داود (2199). (¬4) ليست في "الأصل"، والمثبت من سنن أبي داود.

على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرًا من إمارة عمر، فلما أن رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم". وأما النسائي فأخرجه (¬1) عن سليمان بن يوسف، عن أبي عاصم، عن ابن جريج ... بالإسناد قال: "ألم تعلم أن الثلاث ... " وذكر الحديث وقال فيه: "ترد إلى الواحدة؟ قال: نعم". "إنما" كلمة مركبة من "إن" التي للتحقيق والتأكيد و"ما" الكافة، ويحصل من مجموعهما حصرَ الحكم على الشيء والشيء على الحكم؛ تقول: إنما القائم زيد، وإنما زيد القائم، فحصرت القيام على زيد، وزيدًا على القيام، وها هنا قد حصر الثلاث على الواحدة، وإذا كانت الألف التي في "أنما" لامها الأصلية وحدها كانت الجملة إخبارًا، تقديرها: أن الثلاث كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا, وليس الغرض من قول أبي الصبهاء الإخبار، إنما غرضه الاستفهام بمعنى التقرير والتثبيت ونزل على ذلك أمران: أحدهما: قوله في آخر الحديث: "فقال ابن عباس: نعم" ونعم لا تكون جواب إخبار؛ لأن الخبر لا يحتاج إلى جواب وإنما يحتاج الاستفهام؛ قال مسلم: "أتعلم" وقال أبو داود: "أما علمت"، وقال النسائي: "ألم تعلم" فدل على [أن] (¬2) الغرض الاستفهام، فتكون الهمزة التي في أول "أنما" همزة ممدودة، فالهمزة هي الأصلية، والمد عوض عن همزة الاستفهام، فإن همزة الاستفهام إذا دخلت على همزة أصلية يجوز فيها تحقيق الهمزتين والتليين والمد، فيكون التقدير أأنما. و"الثلاث" يريد بها الطلقات الثلاث. ¬

_ (¬1) النسائي (3406). (¬2) ليست في "الأصل" والسياق يقتضيها.

وقوله: "تجعل واحدة" يريد أنها لا تقع منها إلا واحدة وتلغي الثنتان. وفي رواية الشافعي ومسلم والنسائي وإحدى روايتي أبي داود لم يتعرضوا لذكر المدخول بها ولا غيرها إنما أطلقا، وقد خصصها أبو داود في روايته الثانية وهي المراد؛ لأن المدخول بها لا اختلاف أن هذا الحكم لا تعلق له بها، وإنما جاز حذف هذا التخصيص؛ لأن المعنى مفهوم عندهم [فإذا] (¬1) أطلقوا اللفظ صرفه السامع إلى ما عنده من الغرض المفهوم، والفرق بين قول مسلم: "أتعلم" وقول أبي داود: "أما علمت" وقول النسائي: "ألم تعلم" أن قول مسلم: "أتعلم" أكثر ما يطلق هذا اللفظ في استفهام من لا يكون المُسْتَفْهِم قد علم أن المُسْتَفْهَم عالم بما سأله عنه، فيكون متوقفًا في أمر فيسأله ليعلم حقيقة الأمر عنده هل يعلمه أم لا؟ ويجوز أن يكون المستفهِم عالمًا أن المستفهَم عالم بذلك وإنما يريد بسؤاله تقريره، أو أن يظهر للسامع حقيقة حال المسؤل من علم أو جهل. وأما قوله: "أما علمت" و"ألم تعلم" فإنما هو استفهام تقرير وتثبيت محض مع علم المستفهِم أن المستفهَم عالم بما سأله عنه. و"صدر" كل شيء أوله، يريد بها أوائل إمارة عمر بن الخطاب، وفي رواية الشافعي: "وثلاثٍ" بالجرِّ عطفًا على ظاهر اللفظ، وفي رواية مسلم: "وثلثًا" وفي رواية أبي داود والنسائي: "وصدرًا" بالنصب عطفًا على الموضع. و"التتايع" بتائين معجمتين بنقطتين من فوق، وياء تحتها نقطتان من بعد الألف، بمعنى التساقط والوقوع في الشيء، إلا أنه لا يكون إلا في الشر. وقوله: "أجيزوهن عليهم" أي أمضوهن وأنفذوا الثلاث وأوقعوهن. ¬

_ (¬1) تكررت في "الأصل".

وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث، فقال قوم: كان هذا الحكم في الصدر الأول ثم نسخ. وهذا لا وجه له؛ لأن النسخ إنما يكون في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فأما في زمان عمر فلا وجه للنسخ؛ فإن الأحكام استقرت وانقطع الوحي، وإنما هو زمان الاجتهاد والرأي فيما بلغهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه نصٌ وتوقيف، كيف وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: "أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثًا: حرمت عليك". فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يفتي بخلافه، وأن عمر بن الخطاب يكون قد علم أن الحكم كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر شيئًا ثم يفعل بخلافه؛ ألا ترى أن البخاري لم يخرج هذا الحديث في صحيحه مع صدق رجاله؛ لما فيه من الاختلاف على سائر الروايات عن ابن عباس. والله أعلم. قالوا: ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفًا إلى طلاق البتة، وذلك أنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة وكان عمر يراها واحدة ثم تتايع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث، وإليه ذهب غير واحد من الصحابة وغيرهم منهم: علي وابن عمر وسعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد. وهذا كصنيعه في حد شارب الخمر، فإنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أربعين، ثم أن عمر لما رأى الناس تتايعوا في الخمر واستخفوا العقوبة عليها قال: "أرى أن تبلغ بها حد المفتري" يعني القاذف فجعلها ثمانين، وذلك بمحضر من ملأ من الصحابة فلا يبعد أن يكون الأمر في طلاق البتة مثله. وقال أبو العباس بن سريج: يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من طلاق الثلاث؛ وهو أن يفرق بين اللفظ كأنه يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وكان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر، والناس على

صدقهم وسلامتهم لم يكن ظهر فيهم الخب والخداع، وكانوا يُصَدَّقون أنهم أرادوا به التوكيد ولم يريدوا التكرار، فلما رأى عمر في زمانه أمورًا ظهرت وأحوالًا تغيرت؛ منع من حمل اللفظ على التوكيد وألزمهم الثلاث. وقال قوم: إنما هذا الحكم حكم خاص في غير المدخول بها، وإليه ذهب سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار قالوا: من طلق البكر ثلاثًا فهي واحدة. وعامة أهل العلم على خلافه، وقال ربيعة وابن أبي ليلى والأوزاعي ومالك فيمن تابع بين كلامه فقال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق: لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، إلا أن مالكًا قال: إذا لم تكن له نية. وقال الشافعي وأصحاب الرأي وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق: تَبين بالأولى ولا حكم لما بعدها. وقال الشافعي: فإن [كان] (¬1) معنى قول ابن عباس: "أن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة" يعني أنه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالذي يشبه -والله أعلم- أن يكون ابن عباس قد علم أن كان شيئًا [فنسخ] (¬2) فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يشبه أن يكون ابن عباس يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ثم يخالفه بشيء لم يعلمه كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه خلافه. فإن قيل: فلعل هذا بشيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر. قيل: قد علمنا أن ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة، وبيع الدينار بالدينار، وفي بيع أمهات الأولاد وغيره، فكيف يوافقه في شيء يروي عن النبي ¬

_ (¬1) تكررت "بالأصل". (¬2) في "الأصل": فسخ، والمثبت من "السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 338)، و"المعرفة" (5/ 464).

- صلى الله عليه وسلم - فيه خلافه؟! فإن قيل: هل من دليل تقوم به الحجة في ترك أن تُحسب الثلاث واحدة في كتاب أو سنة أو مما ذكرت؟ قال: نعم، وذكر حديث عروة وهو: أخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: "كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها، ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها، ثم طلقها وقال: والله لا أؤويك ولا تحلين أبدًا؛ فأنزل الله عز وجل {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬1) فاستقبل الناس الطلاق جديدًا من يومئذ، من كان منهم طلق أو لم يطلق". هكذا أخرجه في كتاب "العدة". هذا حديث صحيح مرسل أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) والترمذي هكذا مرسلاً. أما الترمذي فأخرجه (¬3) عن أبي كريب، عن عبد الله بن إدريس، عن هشام، عن أبيه. وأخرجه الترمذي أيضًا (3)، عن قتيبة، عن يعلى بن شبيب، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة ... وذكر نحوه ثم قال: حديث مالك أصح من حديث يعلى ابن شبيب. قال الشافعي: فلعل ابن عباس أجاب عن الثلاث والواحدة سواء، وإذا جعل الله عدد الطلاق على الزوج وأن يطلق متى شاء فسواء الثلاث والواحدة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية (229). (¬2) الموطأ (1222). (¬3) الترمذي (1192).

وأكثر من الثلاث في أن يقضي بطلاقه. "ارتجع" مضارع أَرْجَعَ، تقول: رجعت، أَرْجَع، راجعت الرجل أرجعه، ويتعدى ولا يتعدى، وهذيل تقول: أرجعت الرجل، فيعدونه بالهمزة، ومنه الرَّجعة في النكاح، بفتح الراء وكسرها والفتح أفصح. و"شارفت" الشيء إذا وصلت إليه وقاربته، كأنك تشرف عليه وتنظر إليه. و"أويت" فلانًا إلي فأنا أؤويه إذا ضممته إليك. والأصل فيه أنك أخذته إلى مأواك وهو منزلك. وقوله: "لا تحلين أبدًا" يريد: لغيره من الأزواج؛ لأنها إذا لم تبن منه لا تحل لغيره، ومعنى قوله تعالى {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (¬1) أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع، ولم يرد بالمرتين الثلاثة وإنما أراد التكرار، كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (¬2) أي كرة بعد كرة، ثم خيرهم -بعد أن علمهم كيف يُطَلِّقون- بين أن يمسكوا بمعروف أو ليسرحوا بإحسان، أي أمسكوهن بالمراجعة أو سرحوهن بترك المراجعة حتى تنقضي العدة، وقيل: معنى قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان أي طلقتان، فعلى المطلق إمساك من غير إضرار، أو ترك من غير تعرض. وقوله: "فاستقبل الناس الطلاق جديدًا" يريد أنهم بنوا أمرهم في طلاق نسائهم من وقت نزول هذه الآية بناءًا جديدًا، كأنهم اليوم ملكوا نكاحهن ولم يعتدوا بما كان تقدم من طلاق من طلق منهم ومن لم يطلق. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم وعبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني عكرمة بن خالد، أن سعيد بن جبير أخبره: "أن رجلاً جاء إلى ابن عباس ¬

_ (¬1) البقرة، آية (229). (¬2) سورة الملك، آية (4).

فقال: طلقت امرأة لي مائة. قال: تأخذ ثلاثًا وتدع سبعة وتسعين". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "قال رجل لابن عباس: طلقت امرأتي مائة. قال: تأخذ ثلاثًا وتدع سبعة وتسعين". هذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (¬1) قال: "بلغه أن رجلاً قال لعبد الله بن عباس: إني طلقت امرأتي مائة تطليقة، فماذا ترى عَليّ؟ فقال ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوًا". وقد أخرج البيهقي (¬2) الروايتين معًا، إلا أنه قال في الرواية الأولى عوض "المائة": "ألف"، وقال: "تدع تسع مائة وسبعًا وتسعين". قوله في الرواية الأولى: "امرأة لي" هذا اللفظ يقتضي أن له أكثر من امرأة، وجائز أن تكون له امرأة واحدة إلا أن اللفظ بالمعنى الأول أخص، وفي الرواية الثانية: "طلقت امرأتي" يدل على الأمرين إلا أنه بالمعنى الثاني أخص. وقوله "تأخذ ثلاثًا" يعني تكتفي في طلاقها بثلاث تطليقات، وتدع الباقي من المائة لا حكم له. وقوله: "اتخذت بها آيات الله هزوًا" يريد أنك لعبت في قولك ذلك، و"آيات الله" يريد بها أن الطلاق الذي أمر الله به منتهاه إلى الثلاث، وما جاء بعده فإنما هو لعب وهزوٌ ولا أصل له، فكأنه استهزأ بحكم الله تعالى في حصره الطلاق في الثلاث، قيل: إن الواجب عليك أن تجد في العمل بآيات الله وأوامره لا أن تستهزأ. وهذا الحديث ذكره الشافعي بعد حديث ابن عباس؛ يشير إلى أنه قد صح عنه أنه أجاز الثلاث، وأنه لما استفتاه هذا السائل عن المائة أوقع عليه الثلاث ¬

_ (¬1) الموطأ (1146). (¬2) السنن الكبرى (3327)، و (7/ 337).

جملة، ولم يفته بالواحدة كما تضمنه الحديث الأول، وقد روى ذلك عنه: سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وعكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري. وروي مثله عن عُمر وعلي والحسن وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو. ***

الفصل الخامس في طلاق العبد

الفَصْل الخامِس فِي طلاَق العَبْدِ وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، قال: حدثني نافع، أن ابن عمر كان يقول: "من أذن لعبده أن ينكح فالطلاق بيد العبد، ليس بيد غيره من طلاقه شيء". هذا الحديث هكذا أخرجه مالك في "الموطأ" (¬1) وزاد في آخره: "فأما أن يأخذ الرجل أمة غلامه أو أمة وليدته فلا جناح عليه". وقد أخرج الشافعي في القديم هذا الحديث بالزيادة المذكورة. وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، قال: حدثني عبد ربه بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: "أن نفيعًا -مكاتبًا لأم سلمة- استفتى زيد بن ثابت، فقال: طلقت امرأة لي حرة تطليقتين، فقال زيد بن ثابت: حرمت عليك". وأخبرنا الشافعي، أخبرنا مالك، قال: حدثني ابن شهاب، عن ابن المسيب: "أن نفيعًا -مكاتبًا لأم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- طلق امرأته حرة تطليقتين، فاستفتى عثمان بن عفان، فقال عثمان: حرمت عليك". هذا الحديث هكذا أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) إسنادًا ولفظًا. قال الشافعي: طلاق العبد اثنتان، فيملك من رجعتها بعد واحدة ما يملك الحر من رجعة امرأته بعد اثنتين. وقال في "الإملاء": جعل الله الطلاق بالرجال وإليهم، وجعل العدة على ¬

_ (¬1) الموطأ (1194). (¬2) الموطأ (1190).

النساء، فيطلق الحر الأمة ثلاثاً وتعتد حيضتين، ويطلق العبد الحرة ثنتين، وتعتد ثلاث حيض. وتفصيل المذهب: أن طلاق الحر ثلاثًا تحته حرة أو أمة، وطلاق العبد ثنتان سواء كان تحته حرة أو أمة، وروي مثل ذلك عن عمر وابن عباس، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة والثوري: الطلاق معتبر بالنساء، فإذا كانت حرة كان لزوجها ثلاث تطليقات حرًّا كان أو عبدًا، وإذا كانت أمة كان لزوجها طلقتان حرًّا كان أو عبدًا، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

الفصل السادس: في أحكام متفرقة

الفصْل السَّادِس: في أحْكَامٍ مُتفرقَةٍ أخبرنا الشافعي، أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار، أنهم سمعوا أبا هريرة يقول: [سألت] (¬1) عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن رجل من أهل البحر طلق امرأته تطليقتين ثم انقضت عدتها، فتزوجها رجل غيره، ثم طلقها أو مات عنها ثم تزوجها زوجها الأول، قال: هي عنده على ما بقي". هذا الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (¬2) عن الزهري، عن حميد وعبيد الله وسليمان وابن المسيب ... وذكر نحوه. ورواه الحكم بن عتيبة، عن مزيدة بن جابر، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب. وعن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب. ورواه ابن سيرين، عن عمران بن حصين. قوله: "هي عنده على ما بقي له من الثلاث" إن كان طلقها واحدة فهي ثنتين وإن كان طلقها ثنيتن فهي على واحدة. قال الشافعي: يهدم الزوج المصيبها بعده الثلاث ولا يهدم الواحدة والثنتين، قال: وقولنا هذا قول عمر بن الخطاب وعدد من كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد خَالَفَنَا في هذا بعض الناس واحتج يقول ابن عمر وابن عباس. ¬

_ (¬1) في "الأصل" سمعت، والمثبت من "المعرفة" (5/ 505). (¬2) الموطأ (1128).

وبقول الشافعي قال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وابن المسيب، وعبيدة السلماني البصري، وأحمد، ومحمد بن الحسن، وزفر، وروي ذلك عن عمر وعلي وزيد ومعاذ وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يهدم الزوج الثاني ما بقي من الطلاق وتعود إلى الأول بالثلاث، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس. قال الشافعي: لما كانت الطلقة الثالثة توجب التحريم، كانت إصابة زوج غيره يوجب التحليل، ولما لم يكن في الطلقة والطلقتين ما يوجب التحريم، لم يكن لإصابة زوج غيره معنى يوجب التحليل. ومعنى هذا الكلام: أن الزوج إذا طلق ثلاثًا قبل الدخول أو بعده؛ فإن المطلقة لا يحل له أن يعقد عليها حتى تتزوج بعده ويصيبها الزوج ويطلقها وتعتد منه، ثم يجوز للأول أن يتزوجها، وإذا كان الطلاق واحدة أوْ اثنتين وبانت منه بذلك، كان للذي طلقها وأبانها أن يتزوج بها من غير أن تتزوج بزوج غيره، فإن تزوجها زوج آخر وأصابها ثم طلقها واعتدت، ثم تزوجها الأول، عادت إليه بما بقي من طلاقها. وأخرج الشافعي في كتاب "حرملة": حدثنا سفيان، عن مسعر، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفى، عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلم". استدل الشافعي بهذا الحديث على أنه إذا طلق في نفسه ولم يحرك به لسانه لم يكن طلاقًا، وهو من حديث النفس الموضوع عن بني آدم. وأخرج الشافعي في كتاب "المكره" ويروى عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أن عليًّا -رضي الله عنه- قال: "لا طلاق لمكره". أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف علي، والذي روي عن عمر بن الخطاب

-رضي الله عنه-[أن رجلاً] (¬1) تدلى يشتار عسلًا فجاءته امرأته فوقعت على الحبل، فحلفت لتقطعنه أو لتطلقني ثلاثًا، فذكَّرَهَا الله تعالى والإسلام، فأبت إلا ذلك، فطلقها ثلاثًا، فلما ظهر أتى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فذكر له ما كان منها إليه ومنه إليها، فقال: ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق". تم كتاب الطلاق والحمد للهِ رب الْعَالمين. ويتلوه كتاب الرجعة في المجلد الخامس إن شاء الله تعالى، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. وكان الفراغ منه ليوم الخميس خامس وعشرون من ذي القعدة سَنةَ أَرْبع وَثَلاَثِينَ وَسَبْعمائةَ. والحمد لله وحده ... ¬

_ (¬1) ليست في "الأصل"، والمثبت من المعرفة (5/ 493) والسنن الكبرى للبيهقي (7/ 357).

الشَّافِي فيْ شَرح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثيْر مَجْد الدِّيْن أبي السَّعادَاتْ: المباركْ بْن محمَّد بْن عَبْد الكريم الجزْريْ تحقِيقْ أحمَدْ بْن سُليمان أبيْ تميْم ياسر بْن إبراهيْم الجزْءُ الخَامِسْ مَكتَبةَ الرُّشِدِ نَاشِرُون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشَّافِي فيْ شَرح مُسْنَد الشَّافِعي لابْنِ الأثيْر مَجْد الدِّيْن أبي السَّعادَاتْ: المباركْ بْن محمَّد بْن عَبْد الكريم الجزْريْ

جميْع الحقوقْ محفوظة الطَّبْعَةُ الأولى 1426 هـ - 2005مـ مَكتَبةَ الرُّشْدِ نَاشِرُونْ المملكة العربية السعودية - الرياض شارع الأمير عبد الله بن عبد الرحمن (طريق الحجاز) ص. ب 17522 الرياض 11494 هاتف 4593451 فاكس 4573381 Email:[email protected] Website:www.rushd.com * فرع طريق الملك فهد: الرياض - هاتف 2051500 فاكس 2052301. * فرع مكة المكرمة: هاتف 5585401 فاكس 5583506. * فرع المدينة المنورة: شارع أبي ذر الغفاري - هاتف 8340600 فاكس 8383427. * فرع جدة: ميدان الطائرة - هاتف 6776331 فاكس 6776354. * فرع القصيم: بريدة - طريق المدينة - هاتف 3242214 فاكس 3241358. * فرع أبها: شارع الملك فيصل - تلفاكس 2317307. * فرع الدمام: شارع الخزان - هاتف 8150566 فاكس 8418473. وكلاؤنا في الخارج القاهرة: مكتبة الرشد - ت 2744605. بيروت: دار ابن حزم هاتف 701974. المغرب: الدار البيضاء - وراقة التوفيق - هاتف 303162 فاكس 303167. اليمن: صنعاء - دار الآثار - هاتف 603756. الأردن: عمان - الدار الأثرية 6584092. البحرين: مكتبة الغرباء - هاتف 957833 - 945733. الإمارات: مكتبة دبي للتوزيع هاتف 43339998 فاكس 43337800. سوريا: دار البشائر 2316668. قطر: مكتبة ابن القيم - هاتف 4863533.

كتاب الرجعة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما. الحمد لله كما يليق بكمال وجهه وعز جلاله، لا إله إلا الله عدة للغلبة. كتاب الرجعة وفيه فصلان: الفصل الأول في أحكام الرجعة أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب أن علي بن أبي طالب قال: إذا طلق الرجل امرأته؛ فهو أحق أن يراجعها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، في الواحدة والاثنتين. قوله: "إذا طلق الرجل امرأته" يريد الطلاق أولاً. "فهو أحق أن يراجعها": أي يردها إلى نكاحه من غير تجديد عقد. وقوله: "حتي تغتسل من الحيضة الثالثة" لأنها إذا حاضت بعد الطلاق ثلاث حيضات ثم طهرت؛ فإنها تكون قضت عدتها من ذلك الطلاق؛ وحينئذ لا يجوز له أن يراجعها إلا بعقد جديد، وذلك في الطلقة الأولى والثانية، فأما في الثالثة فإنها تحتاج أن تنكح زوجًا غيره. هذا معنى هذا الحديث. والشافعي ذكر هذا الحديث في حكايته عن مذهب غيره، بعد أن حكى ما

ذهب إليه هو ومن قال بقوله، فإنه يقول: إن عدة المطلقة المدخول بها بالأقراء، والأقراء عنده: الأطهار، فمتى طلقها وهي طاهر ثم حاضت، ثم طهرت ثم حاضت، ثم طهرت ثم دخلت في الحيضة الثالثة، فقد استكملت الأقراء الثلاثة وبانت من زوجها. وروي مثل ذلك عن: زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، وبه قال الفقهاء السبعة -فقهاء المدينة- والزهري، وابن أبي ذئب، وربيعة، ومالك، وأبو ثور، وأحمد في إحدى الروايتين. وقال أبو حنيفة: الأقراء: الحيض. وروي ذلك عن عمر وابن مسعود، وأبي موسى، وبه قال الثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والأوزاعي، وأحمد في الرواية الأخرى، وكذلك قال الشافعي. وقال عمر، وعلي، وابن مسعود: لا تحل المرأة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة. قال: فقيل للعراقيين -يعني الذين ذهبوا إلى هذا القول-: لم لا تقولون يقول من احتججتم بقوله ورويتم عنه، ولا قول أحد من السلف علمناه؟ فإن قال قائل: أين خالفناهم؟ قلنا: قالوا: حتى تغتسل وتحل لها الصلاة، فلم قلتم: إن فرطت في الغسل حتى يذهب وقت الصلاة فقد حلت وهي لم تغتسل، ولم تحل لها الصلاة؟. ثم قال: ولا تعدوا أن تكون الأقراء إلا أطهار، كما قالت عائشة، والنساء بهذا أعلم لأنه فيهن نزل لا في الرجال. أو تكون الحيض فإذا جاءت بثلاث حيض حلت، ولا نجد في كتاب الله تعالى للغسل معنى يدل عليه، ولستم تقولون بواحد من القولين والله أعلم. أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك قال: حدثني أبو الزناد، عن سليمان بن يسار

أن نفيعا- مكاتبًا لأم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عبدًا كانت تحته امرأة حرة، فطلقها اثنتين ثم أراد أن يراجعها، فأمره أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عثمان بن عفان فيسأله عن ذلك، فذهب إليه فلقيه عند الدَّرَج آخذًا بيد زيد بن ثابت فسألهما، فابتدراه جميعًا فقالا: حرمت عليك، حرمت عليك. قد تقدم في كتاب الطلاق روايتان مختصرتان، وهذه الرواية أخرجها في كتاب الرجعة (¬1)، وقد أخرجها مالك في الموطأ (¬2) هكذا، وقد جاء في المسند: "أن مكاتبا لأم سلمة له عبد" وهو غلط، إنما هو"أن نفيعا مكاتبا لام سلمة أو عبد"، كذا جاء في الموطأ وفي كتاب السنن للبيهقي (¬3) وهو الصحيح -إن شاء الله تعالى- وقد ذكرنا في كتاب الصداق عند ذكر الروايتين حكم طلاق العبد ورجعته وعدة زوجته. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي في مسكن حفصة، وكان طريقه إلى المسجد، فكان يسلك الطريق الآخر من أدبار البيوت، كراهية أن يستأذن عليها حتى راجعها. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬4) إسنادًا ولفظًا. وأدبار البيوت -بفتح الهمزة-: أي أنه لم يكن يجيء من جهة أبوابها كي لا يستأذن على حفصة فيدخل عليها فيراها عندها. وكراهية: منصوب لأنه مفعول له، أي: كان يسلك الطريق من ظهره لأجل كراهية الاستئذان عليها. قال الشافعي: عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج أنه قال لعطاء: ما يحل ¬

_ (¬1) الأم (5/ 258). (¬2) الموطأ (2/ 449/ 47). (¬3) السنن الكبير (7/ 360). (¬4) الموطأ (2/ 435/ 65).

للرجل من المرأة يطلقها؟ قال: لا يحل له منها شيء ما لم يراجعها. وهذا كما قال عطاء -إن شاء الله عز وجل-. أخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن حسان، عن عبيد الله بن عمر، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن سعيد بن جبير، عن علي بن أبي طالب في الرجل يطلق امرأته ثم يشهد على رجعتها ولم تعلم بذلك؟ قال: هي امرأة الأول دخل بها الآخر أو لم يدخل. قوله: "يشهد على رجعتها" أي يشهد عليها أنه قد ردها إلى نكاحه ولم تعلم المرأة بذلك. في الحديث كلام محذوف تقديره: "ثم تزوجها رجل آخر" ثم يتصل الكلام بقوله: قال: هي امرأة الأول، ويدل عليه. قال الشافعي: إن الله -تعالى- جعل للزوج المطلق الرجعة في العدة، ولا يبطل ما جعل الله له منها بباطل من نكاح غيره، ولا بدخول لم يكن محل الابتداء لو عرفاه كانا عليه محدودين، وفي مثل معنى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نكح الوليان فالأول أحق. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المرأة إذا لم تعلم صحة المراجعة حيث لا يفتقر فيها إلى علمها ولا رضاها، ثم انقضت عدتها زُوِّجت بآخر، وادعى أنه كان راجعها، فمن أين تنقضي عدتها؟ وثبت ذلك فنكاح الثاني مفسوخ، سواء دخل بها أو لم يدخل. وإليه ذهب أكثر الفقهاء. وقال مالك: إن كان الثاني قد دخل فهو أحق, وإن لم يكن دخل بها ففيه روايتان. وروى ذلك عن عمر. فأما إذا لم تثبت رجعية الأول فالقول قول الثاني مع يمينه. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن حماد، عن قتادة، عن خلاس: أن رجلاً

طلق امرأته وأشهد على طلاقها، وراجعها وأشهد على رجعتها، واستكتم الشاهدين حتى انقضت عدتها، فرفع إلى علي -كرم الله وجهه- ففرق بينهما ولم يجعل له عليها رجعة وعزَّر الشاهدين. قال الشافعي: وهم يخالفون هذا ويجعلون الرجعة بائنة. أورده فيما ألزم العراقيين، في خلافٍ على روايات خلاس عن علي يضعفها أهل العلم بالحديث (¬1). ... ¬

_ (¬1) وذلك لأن روايته عنه من كتاب، ولذا قال أكثر النقاد: إنه لم يسمع منه، قال أحمد: روايته عن علي من كتاب، وكذا قال أبو داود ويحيى بن سعيد وغيرهم. وانظر تهذيب الكمال (8/ 364 - 367).

الفصل الثاني في نكاح المطلقة ثلاثا

الفصل الثاني في نكاح المطلقة ثلاثا أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أنه سمعها تقول: جاءت امرأة رفاعة -يعني القرظي- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هُدبة الثوب، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أتريدين [أن ترجعي] (¬1) إلى رفاعة؟ لا حتى يذوق عُسيلتك وتذوقى عُسيلته". وأبو بكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخالد بن سعيد بن العاص [بالباب] (1) ينتظر أن يؤذن له، فنادى يا أبا بكر، ألا تسمع ما تجهر به هذه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بالإسناد المذكور، وذكر الحديث إلى قوله: "ويذوق عسيلتك". وأخبرنا الشافعي بالإسناد وذكر الحديث بطوله. أخرج الرواية الأولى في كتاب "اختلاف الحديث" (¬2)، والثانية في كتاب "الرسالة"، والثالثة في كتاب "الرجعة" (¬3). هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا وأبا داود. فأما البخاري (¬4): فأخرجه عن عبد الله بن محمد، عن سفيان. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، والناقد، عن سفيان. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (5/ 248). (¬2) اختلاف الحديث (ص: 550). (¬3) الأم (5/ 248). (¬4) البخاري (2639). (¬5) مسلم (1433).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن ابن أبي عمر وإسحاق بن منصور، عن سفيان إلى قوله: "عسيلتك". وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن عمرو بن علي، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري الحديث. بَتَّ الطلاق: أي قطعه، تقول: بت الشيء يبت وأبته بتته لغة قريبة. وهدبة الثوب: طرفه مما يلي رأسه كالطرة، ويجمع على الهدب تريد: أن ذكره رخو لا يشتد. والعسيلة: كناية عن النكاح, لأنه مستحلى عند الرجل والمرأة، قالوا لكل ما استحلوه: عسل ومعسول. وقيل: العسيلة: ماء الرجل، والنطفة تسمى عسيلة. قال الأزهري: والأول أولى, لأن العسيلة في الحديث كناية عن حلاوة الجماع، الذي يكون بتغييب الحشفة في فرج المرأة، ولا يكون ذواق العسيلتين معًا إلا بالتغييب وإن لم ينزلا, ولذلك اشترط عسيلتهما، فأنث العسيلة لأنه شبهها بقطعة من العسل، والعرب تؤنث العسل وتذكره، فشبه بما يجده الرجل والمرأة من حلاوة الجماع بالذوق، والذوق لا يكون إلا بالفم، وإنما شبهه به تفهيما للمخاطب، وإيرادًا للمعنى في صورة تقربه من المعرفة، فكأنه شيء مدرك بحاسة الذوق حيث أعطاه معنى الذوق والعسيلة؛ فاستعار له ذكر الذوق. قال الشافعي: قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3) واحتمل قول الله -عز وجل-: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أن يتزوجها زوج غيره، فكأن هذا لأن اسم النكاح يقع بالإصابة ¬

_ (¬1) الترمذي (1118). (¬2) النسائي (6/ 146). (¬3) [البقرة: 230].

ويقع بالعقد، فأما المعنى الذي سبق إلى من خوطب به واحتمل حتى يصيبها زوج غيره قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة طلقها زوجها ثلاثًا ونكحها بعده رجل: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". يعني: يصيبك زوج غيره، بيَّن أن إحلال الله إياها للزوج المطلق ثلاثًا بعد زوج بالنكاح، إذا كان منع النكاح إصابة من الزوج. وفي هذا الحديث من الفقه:- أن المرأة إذا لم يقدر زوجها على وطئها، فلها أن تشكوه إلى الحاكم وتطلب فسخ الحاكم (¬1). وأن المبتوتة لا تحل للزوج الأول حتى تنكح زوجًا غيره، إذا أريد بالبت الثلاث. وفيه: أن ذكر مثل هذا الأمر الذي يُستحيى منه عند الحاكم جائزًا، ألا ترى أن خالد بن سعيد لما أنكر عليها ما جهرت به من هذا القول، لم ينكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه إنما تبسم من قولها، وقال لها مجيبًا بألطف وأوثق عبارة: "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن المسور بن رفاعة القرظي، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير: أن رفاعة طلق امرأته -تميمة بنت وهب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثلاثا، فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها فأراد رفاعة أن ينكحها -وهو زوجها الأول الذي كان طلقها- فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنهاه أن يتزوجها وقال: "لا تحل لك حتى تذوق العسيلة". هكذا أخرجه في كتاب الرجعة (¬2)، وكذا أخرجه مالك (¬3) في الموطأ بالإسناد ¬

_ (¬1) كذا في الأصل ويبدو أنه سبق قلم ولعل الصواب [الزواج]. (¬2) الأم (5/ 248). (¬3) الموطأ (2/ 419/ 17) بدون ذكر [أبيه].

واللفظ، ورواه عنه ابن وهب (¬1) فقال: عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، عن أبيه. قوله: "فاعترض عنها" كناية عن عجزه عن وطئها، كأن شيئًا اعترضه دونها ومنعه منها. والمس: الجماع. والعسيلة: قد شرحناها في حديث عائشة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المطلقة لا يحل لمطلقها أن يعود ينكحها حتى تنكح زوجًا غيره ويصيبها، فإذا طلقها وقضت العدة منه حل للأول أن يتزوج بها، وسواء وقعت الثلاث دفعة واحدة أو متفرقة، وسواء كانت قبل الدخول أو بعده بهذا قالت الجماعة، وروي ذلك عن: علي، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، إلا ما حكي عن ابن المسيب أنه قال: لا يحتاج إلى وطء الزوج ويكفي العقد. وذكر العسيلة يبطل ذلك لأنه أراد تشبيه لذة الجماع بالعسل والقدر المبيح من هو تغييب الحشفة في الفرج فما زاد, لأن كل حكم يتعلق بالوطء يحصل بتغييب الحشفة، كالمهر والحد والإحصان وسائر الأحكام، ولا يحصل الإحلال بالوطئ في نكاح صحيح على الجديد. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد. وقال في القديم: يحصل الإحلال بالوطء في نكاح فاسد. والله أعلم. ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر في الاستذكار (16/ 151): حديث المسور بن رفاعة في رواية يحيى وجمهور رواة الموطأ مرسل، ورواه ابن وهب، عن مالك، عن المسور، عن الزبير بن عبد الرحمن، عن أبيه فوصله وأسنده، وتابعه على ذلك عن مالك: إبراهيم بن طهمان وهو مسند متصل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه.

كتاب الإيلاء

كتاب الإيلاء أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يوقف المُوْلِي. أخرجه في كتاب اليمين مع الشاهد، وعاد أخرجه بالإسناد واللفظ في كتاب الإيلاء (¬1). هذا حديث صحيح. البضع -بكسر الباء وقد تفتح-: ما بين الثلاثة إلى التسعة، تقول: عندي بضعة رجال، وبضع نسوة، وبضعة عشر رجلاً، وبضع عشرة امرأة، فإذا جاوزت العشرة لم تقل: بضع وعشرون. قاله الجوهري. وقال الأزهري (¬2): قال أبو زيد: يقال: بضعة وعشرون رجلاً، وبضع وعشرون امرأة. قال: وقال أبو عبيدة: [البضع] (¬3) ما لم يبلغ العقد ولا نصفه. يريد ما بين الواحد إلى أربعة. والمولى: اسم فاعل من آلى يولي إيلًاء فهو مول، إذا حلف وأقسم. والإيلاء: الحلف، وتقول: تألى، متولي فهو متأل، والألية اليمين. هذا هو الأصل في اللغة، ثم استعمله الشرع استعمالًا خاصًا فيمن يحلف أنه لا يطأ زوجته، وفيه خلاف بين العلماء سنذكره، والأصل فيه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} (¬4). الآية، وكان الإيلاء طلاق ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 265). (¬2) تهذيب اللغة (1/ 488). (¬3) في الأصل [البيع] وهو تصحيف والمثبت من تهذيب اللغة وهو الصواب. (¬4) [البقرة: 226].

الجاهلية، وكان ضررًا بالمرأة إذا لم يردها زوجها إلى أن لا يقربها أبدًا، فلا تتزوج بغيره ولا هو يقربها، وفعل ذلك في الإسلام أيضًا، وإنما عُدي "بمن" ومن شأنه أن يعدى "بعلى" لأنه ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد؛ فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مولين أي: مقسمين. وقوله: "يوقف المُوْلِى" هو فعل مستقبل من أوقف، ولم يجئ في العربية أوقف وإنما جاء وقف، وهو يتعدى ولا يتعدى تقول: وقف الرجل ووقفته أنا. وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لو مررت برجل واقف فقلت له: ما أوقفك ها هنا لرأيته حسنًا. وحكى ابن السكيت عن الكسائي مثله. وإنما اللغة الفصحى وقفته أقفه، قال الله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (¬1) فكان ينبغي أن يقول: كلهم يقف المولى، أي يحبسه ويلزمه بما يجب عليه من الرجوع إلى الوطء أو الطلاق ولا شك أن هذا من تحريف النساخ أو الرواة، فإن الشافعي يجل قدره عن جهل مثل هذا من اللغة، وهو من فصحاء العرب وعلمائهم، ويدل على ذلك أنه حيث استعمل هذه اللفظة -أي في كتبه- لم يذكرها إلا بغير ألف. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الإيلاء عبارة عمَّن حلف على ترك زوجته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف أربعة أشهر فما دونها لم يكن موليًا. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: إذا حلف على ترك وطئها أربعة أشهر فما زاد، كان موليا إِيلاءً شرعيًا. وقال النخعي، وابن أبي ليلى، وقتادة، والحسن، وحماد، وإسحاق: إذا حلف لا يطأها يومًا أو يومين أو أقل أو أكثر كان موليًا. ¬

_ (¬1) [الصافات: 24].

وروى عن ابن عباس أنه قال: لا يكون موليًا حتى يحلف على ترك الوطء أبدًا أو مطلقًا، فإذا انقضت مدة الأربعة أشهر ولم يطأها؛ كان لها أن تطالبه بالرجوع إلى الوطء أو الطلاق. وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد. وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: أن المولى إذا لم يطأ في مدة الإيلاء، وقع بمضي المرأة طلقة وبانت منه. وحكى ذلك عن ابن مسعود. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن أبي إسحاق الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة قال: شهدت عليًا (رضي الله عنه) أوقف المولى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم أن عليًا أوقف المولى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليا (كرم الله وجهه) كان يوقف المولى. أخرج مالك (¬1) في الموطأ الرواية الثالثة، وأخرج الشافعي الروايات الثلاث في كتاب الإيلاء (¬2)، مؤكدًا لحديث سليمان بن يسار في وقف المولى. وقال الشافعي -فيما بلغه عن هشيم، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليًا -كرم الله وجهه- وقف المولي. وقال: هكذا نقول وهو موافق لما روينا عن عمر وابن عمر، وعائشة، وعن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وعن بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم وقفوا المُوْلى، وهم يخالفونه ويقولون: لا يُوقف إلا إذا مضت أربعة أشهر بانت منه. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 17/437). (¬2) الأم (5/ 265).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس: أن عثمان كان يوقف المولي. وهذا الحديث أخرجه الشافعي (¬1) مؤكدًا لما سبق من وقف المولى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة إذا ذكر لها الرجل يحلف أن لا يأتي امرأته فيدعها خمسة أشهر، لا ترى ذلك شيئًا حتى يوقف، وتقول: كيف قال الله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬2). وهذا الحديث أخرجه الشافعي مؤكدًا لما سبق، وأن المولى إذا حلف مطلقا وتركها أكثر من أربعة أشهر، ولم يعتد بذلك حتى يوقف ويلزم بالرجوع أو الطلاق. وسيرد بيان ذلك في حديث ابن عمر التالي لهذا الحديث. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لا يقع عليها طلاق، وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف، فإما أن يطلق وإما أن يفيء. هذا حديث صحيح أخرجه مالك في الموطأ، والبخاري. أما مالك (¬3): فأخرجه بالإسناد نحوه. وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول في الإيلاء الذي سمى الله: لا يحل لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم بالطلاق كما أمر الله. وقال لي إسماعيل: حدثني مالك، عن نافع، عن ابن عمر: إذا مضت أربعة ¬

_ (¬1) الأم (5/ 265). (¬2) البقرة: [229]. (¬3) الموطأ (2/ 18/437). (¬4) البخاري (5290، 5291).

أشهر يوقف حتى يطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق. قال البخاري: ويذكر ذلك عن عثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، واثنى عشر رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفاء يفيء: إذا رجع، يريد الرجوع إلى الوطء الذي امتنع منه وآلى على تركه، فإن كان قادرًا على الوطء فيباشره، وإن كان عاجزًا فيقول بلسانه: إذا قدرت على الوطء وطئت. وهذا الحديث والذي قبله أوردهما الشافعي حجة لما ذهب إليه؛ من أنه لا يقع بالإيلاء طلاق، وأنه يلزم بعد انقضاء الأجل بالرجوع إلى الوطء أو بالطلاق، وهو حجة على من قال: أنه يقع بامتناعه من الوطء طلقة بائنة. ويؤيد قول الشافعي أن الله تعالى أمر أن يتربص أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر فما دونها فلا معنى للتربص, لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك أو مع انقضاء المدة، ويكون بعد ذلك ممتنعًا من الوطء بغير يمين فلا يكون موليًا، كما لو امتنع من الوطء ابتداءً بغير يمين. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي يحيى، عن ابن عباس أنه قال: المولى الذي يحلف لا يقرب امرأته أبدًا. المولى: في موضع رفع بالابتداء، وخبره قوله: الذي يحلف وليس بصفة، لأنا لو جعلناه صفة لاحتاج إلى خبر، وإنما الغرض أن المولى: هو الحالف أن لا يقرب امرأته أبدًا. وإنما خرج الشافعي هذا الحديث في سياق كلام ذكره مع من خاطبه في الإيلاء، وهو أنه قال: قال بعض العراقيين لكنا اتبعنا فيه -يعني في الإيلاء ومدته- قول ابن عباس وعبد الله بن مسعود. قلنا: أما ابن عباس فأنت تخالفه في الإيلاء. قال: ومن أين؟ فذكر هذا

الحديث، ثم قال: وأنت تقول: المولي من حلف على أربعة أشهر فصاعدًا، قال الشافعي: وأما ما رويت فيه عن ابن مسعود فمرسل، وحديث علي بن بذيمة لا يسنده غيره فيما علمته -يريد بالمرسل: رواية إبراهيم، عن عبد الله فيمن آلى من امرأته فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها قال: بانت منه. ويريد بالمسند: رواية علي بن بذيمة عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن ابن مسعود قال: في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. قال الشافعي: ولو كان هذا ثابتا عنه فكنت إنما بقوله اعتللت أكان بضعة عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى أن يؤخذ بقولهم أو واحد أو اثنان وأقل بضعة عشر أن يكونوا ثلاثة عشر. وأخرج الشافعي فيما بلغه عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية الأسدي أنه تزوج امرأة أخيه وهي ترضع ابن أخيه، فقال: والله لا أقربها حتى تفطمه، فسأل عليًا -كرم الله وجهه- عن ذلك. فقال علي: إن كنت إنما أردت الإصلاح لك ولابن أخيك فلا إيلاء عليك، إنما الإيلاء ما كان في الغضب. ورواه الشافعي في القديم (¬1) عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن علي بن أبي طالب في معناه. ثم قال: وسعد ثقة وإن كنت لا أدري عمن رواه. ¬

_ (¬1) المعرفة (11/ 112).

كتاب اللعان

كتاب اللعَان وفيه فصلان: الفصل الأول في سنة اللعان وكيفيته وأحكامه أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، حدثنا ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: أرأيت يا عاصم لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فسأل عاصم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رجع عاصم إلى أهله جاء عويمر فقال: يا عاصم! ماذا قال لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل التي سألته عنها: فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسط الناس فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها". فقال سهل بن سعد: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغنا من تلاعنهما قال عويمر: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتها وطلقتها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد أخبره قال: جاء عويمر العجلاني إلى عاصم بن عدي، فقال: يا عاصم بن عدي، سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل وجد مع امرأته رجلاً فقتله، أيقتل به؟ أم كيف يصنع؟، فسأل عاصم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسائل، فلقيه

عويمر فقال: ما صنعت؟ قال: صنعت أنك لم تأتني بخير، سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعاب المسائل. قال عويمر: والله لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأسألنه، فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما، فدعاهما فلاعن بينهما، فقال عويمر: لئن انطلقت بها لقد كذبت عليها ففارقها قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظروها، فإن جاءت به أسحم أدعج عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا" فجاءت به على النعت المكروه. قال ابن شهاب: فصارت سنة المتلاعنين. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الله بن نافع، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب عن سهل بن سعد: أن عويمرًا جاء إلى عاصم، فقال: أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله، أتقتلونه؟ سل لي يا عاصم رسول الله، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعابها، فرجع عاصم إلى عويمر، فأخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره المسائل وعابها، فقال عويمر: والله لآتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء وقد نزل القرآن خلاف عاصم، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قد نزل فيكما القرآن" فتقدما فتلاعنا، ثم قال: كذبت عليها إن أمسكتها، ففارقها وما أمره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمضت سنة المتلاعنين، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظروها، فإن جاءت به أحمر قصيرًا كأنه وحرة فلا أحسبه إلا قد كذب عليها، وإن جاءت به أسحم أعين ذو أليتين فلا أحسبه إلا قد صدق عليها"، فجاءت به على النعت المكروه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد -أخي بني ساعدة- أن رجلاً من الأنصار جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يصنع؟ فأنزل الله -عز وجل- في شأنه ما ذكر في القرآن

من أمر المتلاعنين، قال: فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد قضى فيك وفي امرأتك" قال: فتلاعنا وأنا شاهد، ثم فارقها عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت سنة بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين، وكانت حاملاً فأنكرها، فكان ابنها يدعى إلى أمه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه سمعت سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن جاءت به أشقر سبطًا فهو لزوجها، وإن جاءت به أديعج فهو للذي يتهمه" قال: فجاءت به أديعج. أخرج الشافعي هذه الروايات جميعًا في كتاب اللعان، وعاد أخرج الروايتين الأخريين في كتاب اختلاف الحديث، إلا أنه قال: إن جاءت به أشعر سبطًا، وإن جاءت به أديعج جعدًا. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي. أما مالك (¬1): فأخرج الرواية الأولى بالإسناد. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن يحيى، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سهل. وذكر الرواية الثالثة. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق برواية البخاري ولم يذكر في روايته الصفات. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن محمد بن جعفر الوركاني، عن إبراهيم بن سعد بالإسناد. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن محمد بن معمر، عن أبي داود، عن ¬

_ (¬1) الأم (5/ 124 - 125). (¬2) البخاري (5309)، (5308). (¬3) مسلم (1492/ 3). (¬4) أبو داود (2248). (¬5) النسائي (5/ 170 - 171).

عبد العزيز بن أبي سلمة وإبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن سهل، عن عاصم. ولم يذكر الصفات. وكلهم أخرج الحديث عن سهل أن عاصم بن عدي، فجعلوه من مسند سهل، إلا النسائي فإنه جعله من مسند عاصم (¬1). الأسحم: الأسود. والدعج في العين: هو شدة سوادها مع سعتها، وقيل: هو شدة سواد سوادها وشدة بياض بياضها، يقال: رجل أدعج، وعين دعجاء، وامرأة دعجاء. وقيل: الدعج والدعجة: سواد في كل شيء ولا يخص العين, يقال: رجل أدعج إذا كان أسود. وقال الأصمعي: الدعج والدعجة: شدة السواد. قال الأزهري: هذا هو الصواب، والأول لم يقله إلا الليث وهو خطأ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أدعج العينين" يريد أسود العينين. وقوله: "عظيم الأليتين" يريد كثيرهما سمينهما، والأليتان جانبا الإست الناتئان، شبههما بألية الكبش. والوحَرة -بفتح الحاء- دويبة صغيرة حمراء كالعظاءة تلصق بالأرض، وأراد بها المبالغة في قصره. والأعين: الواسع العين. والأميغر: تصغير الأمغر، وهو الأحمر على لون المغرة: وهي الطين الذي يصبغ به. ¬

_ (¬1) قال المزي في تحفة الأشراف (4/ 227): المحفوظ حديث سهل بن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

والسبط: الشعر خلاف الجعد. والأديعج: تصغير الأدعج. وقد جاء في الرواية الثالثة: "فإن جاءت به أسحم، أعين، ذو أليتين" بالرفع وهو خطأ، وإنما الصواب "ذا أليتين"، وكذا جاء في كتاب البيهقي بالنصب. وقوله: "انظروا، إن جاءت به أدعج كذا كذا" فيه دليل على اعتراض الشبهة والرِّيب في القضية من جهة الظن، وتطريق الشبهية وإن كانت لا تؤثر في الظاهر؛ فإن الحكم بالظاهر انتفاء الولد عنه باللعان وإلحاقه بالأم. وأما الباطن: فإن الشبهة تثير في الباطن أمرًا ما, ولو كان للشبهة ها هنا حكم لوجب عليها الحد؛ إذ جاءت به على النعت المكروه. ويريد بالنعت المكروه: شبهه الولد بمن رميت به فإن ذلك مكروه. وقوله في الصدق: "فلا أراه إلا قد صدق"، وفي الكذب: "فلا أراه إلا كاذبا" فجعل في الصدق "قد" وفي الكذب اسم الفاعل، وكلا اللفظين دالان على معنى واحد؛ وإنما جاء بقد والفعل في الصدق وبالاسم في الكذب لأن حالة تصديقه حالة مكروهة تنفر منها الطباع؛ لما فيها من إظهار الفاحشة، وإعلان هذه الحالة القبيحة، ولذلك ندب الشرع إلى ستر أمثال هذه المعاصي وإخفائها، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لهزال: "هلا سترته بثوبك يا هزال"، وقال: "إذا أتى أحدكم سيئًا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله" وقال في هذا الحديث إنه يكره المسائل، وكان يعرض عن الماعز كلما أقر عنده بالزنا؛ حتى أتاه عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وبين يديه، كل ذلك سترًا للمعصية، وأعظم ما في ذلك قوله تعالى: {نَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬1) وإذا كان الأمر كذلك ¬

_ (¬1) [النور:19].

عدل في ذكرها والإخبار عنها إلى الفعل، فقال: "فلا أراه إلا قد صدق"، ولم يقل: "فلا أراه إلا صادقاً", لأن دلالة الاسم في هذا المقام أوضح من دلالة الفعل، وذلك أن الأصل في المفعولات والحال الاسم، وأما الجملة الاسمية والفعلية فإنهما فرع في الوضع عليه، فكانت دلالة الأصل أوضح من دلالة الفرع، فلم تكن الهمة في الإخبار عن صدقه قوية؛ ولا النفوس إلى تحقيق صدقه منبعثة، نظرًا إلى الأدب الشرعي في إخفاء المعاصي. فلما جاء إلى حالة التكذيب وكانت الهمة في إظهارها قوية، والنفس في تحقيقها منبعثة؛ عدل في الإخبار عنها إلى اللفظ الموضوع الأصلي، فقال: "فلا أراه إلا كاذبا". وقوله: "قد صدق" حرف وفعل، والحرف هو للقليل الأفعال والتقريب إلى الحال، يقول قائل: كان كذا وكذا، فتقول في الجواب: قد كان ذلك. أي أنه قليل الكون قريبه. ويقول العامل: قد يكون كيت وكيت، فتقول: قد يكون ذلك أي: أنه قليل الوقوع وقريب من الوقوع. فأما قوله: "فلا أراه إلا كاذبًا" فإن اللفظ يقتضي اتصافه بالكذب وأن ذلك حالة لا دلالة فيها على تقريب الحال ولا تقليل، وإنما لما علقه بالشرط صار معلقًا عليه، فكانت الدلالة فيه أقوى نظرًا إلى الأصل في الأدب الشرعي في إظهار الأوصاف الجميلة والخلال الحميدة. قال الشافعي: وفي حديث ابن أبي ذئب دليل على أن سهل بن سعد قال: فكانت سنة المتلاعنين، وفي حديث مالك وإبراهيم بن سعد كأنه قول ابن شهاب، وقد يكون هذا غير مختلف بقوله مرة ابن [شهاب] (¬1) ولا يذكر سهلاً، وبقوله أخرى ويذكر سهلا، ووافق ابن أبي ذئب إبراهيم بن سعد فيما زاد في آخر الحديث على حديث مالك. ¬

_ (¬1) من الأم (5/ 126).

قال الشافعي: يحتمل طلاقه ثلاثًا أن يكون بما وجد في نفسه، لعلمه بصدقه وكذبها وجرأتها على اليمين؛ طلقها ثلاثًا جاهلاً بأن اللعان فرقة، فكان كمن طلق من طلق عليه بغير طلاقه، وكمن شرط العهدة في البيع والضمان في السلف وهو يلزمه شرط أو لم يشترط. قال: وزاد ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين. وتفريق النبي عند فرقة الزوج إنما هو تفريق حكم. قال الشافعي: ففي حكم اللعان في كتاب الله -عز وجل- ثم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلائل واضحة منها: أن عويمرًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل وجد مع امرأته رجلاً، فكره المسائل، وذلك أن عويمرًا لم يخبره أن هذه المسألة كانت. قال: وقد أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يكن؛ فحرم من أجل مسألته". قال: وأخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، [عن] (¬1) عامر بمثل معناه. ومنها: الدلالة على أن ما حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - حرام بأمر الله إلى يوم القيامة. ومنها: الدلالة على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وردت عليه هذه المسألة، وكانت حكمًا وقف عن جوابها حتى أتاه من الله الحكم فيها، فقال لعويمر: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك" فلاعن بينهما كما أمر الله في اللعان، ثم فرق بينهما، وألحق الولد بالمرأة ونفاه عن الأب، وقال: "لا سبيل لك عليها"، ولم يرد الصداق على الزوج فكانت هذه أحكاما وجبت [باللعان] (¬2). وأخبرنا الشافعي: عن مالك، عن هشام بن عروة وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) من الأم (5/ 127). (¬2) في الأصل [النكاح] والمثبت من الأم (5/ 127) وهو الصواب.

العجلاني -وهو أحيمر سبط نضو الخلق- فقال: يا رسول الله! أرأيت شريك ابن السحماء -يعني ابن عمه، وهو رجل عظيم الأليتين أدعج العينين خال الخلق- يصيب فلانة -يعني امرأته- وهي حبلى وما قربتها منذ كذا، فدعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شريكًا فجحد، ودعى المرأة فجحدت، فلاعن بينها وبين زوجها وهي حبلى، ثم قال: "انظروها، فإن جاءت به أدعج، عظيم الأليتين فلا أراه إلا [قد] (¬1) صدق عليها وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا قد كذب". فجاءت به أدعج عظيم الأليتين، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أمره لبينِّ لولا ما قضى الله" يعني أنه لِمَنْ زنا لولا ما قضى الله من أن لا يحكم على أحد إلا بإقرار واعتراف على نفسه، لا يحل بدلالة غير واحد منهما وإن كانت بينة، فقال: "لولا ما قضى الله لكان لي فيها قضاء غيره" ولم يعرض لشريك ولا للمرأة -والله أعلم- وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب، ثم علم بعد أن الزوج هو الصادق. هذا الحديث جاء في المسند في كتاب "إبطال الاستحسان" مبتورًا كما تراه، وقد أبان عنه الإمام الحافظ أبو بكر أحمد البيهقي وأوضحه فقال (¬2) -رحمه الله-: قد ذكر الشافعي -رحمه الله- في كتاب "إبطال الاستحسان" فصلا في أن الأحكام في الدنيا إنما هي على ما أظهر العباد، وأن الله يدين بالسرائر هو احتج بأمر المنافقين وبحديث أبي هريرة قال: "لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا [إله إلا] (¬3) الله" ثم قال: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة. وإنما أراد حديث هشام، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ" الحديث لكنه انقطع إما بترك وقع في نسخه، وإما بترك الشافعي الحديث ليرجع إلى الأصل فيثبته، وكأنه كره إثباته من الحفظ ثم كتب بلا إسناد: وجاء العجلاني إلى ¬

_ (¬1) تكرر في الأصل. (¬2) المعرفة (11/ 158). (¬3) من المعرفة.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أحيمر سبط نضو الخلق وذكر الحديث إلى آخره، قال فيه بعد قوله: لا يحكم على أحد إلا بإقراره. قال البيهقي: الصواب "إلا بشهود". وقال بعد قوله: "وإن كانت بينة -يعني ظاهرة". قال البيهقي بعد فراغ الحديث: فظن أبو عمرو بن مطر -رحمنا الله وإياه، أو من خرَّج المسند من المبسوط- أن قوله: "وجاء العجلاني" من قول هشام بن عروة فخرجه في المسند مركبًا على إسناد حديث مالك بن هشام، وهذا وهم فاحش والشافعي يبرأ إلى الله تعالى من هذه الرواية، وقد وهم أبو عمرو أو من خرج المسند هكذا في غير حديث مما خرجه في المسند، وقد ذكرته في هذا الكتاب -يعني كتاب "السنن والآثار"- وبينته وبالله التوفيق. قال البيهقي: وهذا الحديث فيما قرأته على أبي سعيد بن أبي عمرو -في كتاب إبطال الاستحسان- عن أبي العباس، عن الربيع، عن الشافعي، عن مالك، عن هشام لكنه في أصل عتيق فصل بينه وبين ما بعده بدائرة، ثم: كتب وجاء العجلاني [ومن يفكر في قوله عن هشام بن عروة وجاء العجلاني] (¬1) علم أنه ابتداء كلام معطوف على ما قبله، وليس لهذا الحديث أصل من حديث مالك، عن هشام بن عروة، وقد أعاد الشافعي هذه المسألة في مواضع من كتبه، واحتج فيها بحديث هشام عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة بحديث العجلاني. وأنا مستغن عن هذا الشرح، لكن لبعد أفهام أكثر الناس احتاج في مثل هذا الوهم الفاحش منذ مائة سنة إلى بيان، وبالله التوفيق. انتهى كلام البيهقي -رحمه الله-. ولقد بالغ وأحسن الصنع في بيان هذا الوهم، الذي يجل قدر الشافعي. ¬

_ (¬1) من المعرفة (11/ 160).

-رحمة الله عليه- عنه وهو كما قال وشرح ولا مطعن فيه لطاعن ولا مغمز لغامز، ولقد بلغني عن بعض الأئمة- أظنه الحافظ أبا نعيم الأصفهاني -رحمه الله- أنه قال للشافعي: على كل أحد مِنَّة إلا البيهقي فإن منته على الشافعي. يريد بها [ما] (¬1) صنع في كتبه؛ من تشييد مذهبه وبيان صحة أحاديث أحكامه. وقال البيهقي (¬2) -رحمه الله-: قال الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب أحكام القرآن: ورمى العجلاني امرأته برجل بعينه فالتعن، ولم يحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرمي بالمرأة، فاستدل على أن الزوج إذا التعن لم يكن للرجل الذي رماه بامرأته عليه حد. وقد ذكرنا حديث سهل بن سعد في قصة عويمر العجلاني، وليس فيه احضار المرمى بالمرأة كما قال الشافعي ها هنا، وقد قال في الإملاء: وقد قذف العجلاني امرأته بابن عمه وابن عمه شريك بن السحماء، وسماه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر أنه رآه عليها، وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شريكًا فأنكر فلم يحلفه، فكذلك لا يجلد أحدًا ادُّعي عليه الزنا، والتعن العجلاني فلم يحد النبي - صلى الله عليه وسلم - شريكًا بالتعانه، فكذلك لا يحد من رُمي بالزنا بالتعان غيره، ولم يحد العجلاني القاذف فكذلك لا يحد من قذف رجل بعينه. قال البيهقي: وذكر الشافعي -رحمه الله- في الإملاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل شريكًا فأنكر فلم يحلفه، وكان الشافعي أخذه من تفسير مقاتل بن حيان فإنه كذلك ذكره مقاتل في تفسيره، وقد حكى الشافعي عن تفسيره في غير موضع إلا أنه سمى القاذف بشريك بن السحماء هلال بن أمية، وكذلك هو في رواية ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وأثبته ليستقيم السياق. (¬2) المعرفة (11/ 156).

عكرمة، عن ابن عباس، وفي رواية أنس بن مالك، والشافعي سماه العجلاني، والعجلاني هو عويمر المذكور في حديث سهل بن سعد، وليس في حديث سعد أنه رماها بشريك بن سحماء ولا بغيره مسمى بعينه، إلا أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن جاءت به كذا وكذا "فلا أحسبه إلا قد صدق عليها، دليل على أنه رماها برجل بعينه وإن لم يسم في حديثه، وقال: وعندي أن الشافعي ذهب في هذه الأحاديث إلى أنها خبر عن قصة واحدة، ومن تفكر فيها وجد ما يدله على صحة ذلك، ثم إنه اعتمد على حديث سهل بن سعد في تسمية القاذف بعويمر العجلاني لفضل حفظ الزهري على حفظ غيره، ولأن ابن عمر قال في حديثه: فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني عجلان، وفيه إشارة إلى من سماه سهل بن سعد، فكان ذلك عنده أولى من رواية عكرمة، عن ابن عباس، ورواية هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أنس في تسمية القاذف بهلال بن أمية، ثم وجدهما أسميا المرمي بالمرأة ولم يسمه سهل، فذهب في تسمية المرمى بالمرأة إلى روايتهما، وفي تسمية الرامي إلى رواية سهل وابن عمر، وعلى ذلك خرج قوله في الأملاء -والله أعلم. ولنذكر الآن ما في الحديث من ألفاظ تحتاج إلى بيان. الأحيمر: تصغير الأحمر، يريد أنه أبيض أشقر وليس بأسمر ولا أسود. والنضو: الضعيف الرقيق، وهو في الأصل البعير المهزول وجمعه أنضاء، فاستعير لما أشبهه من غيره. والسحماء: السوداء تأنيث الأسحم. وقوله: "خال الخلق" لم أثبت هذه اللفظة هل هي بالجيم أو الحاء أو الخاء، وأشبه الثلاثة أن يكون بالخاء المعجمة من قولهم: خل لحمه يخل خلولًا فهو خال أي: قل ونحف، والخل أيضًا: الرجل النحيف، واختل جسمه أي هزل.

قد ذكرنا أن هذا الحديث ذكره الشافعي في كتاب "إبطال الاستحسان"، وحيث ذكرنا توجيه الحديث وأشرنا إلى الوهم الواقع لأبي العباس الأصم في تخريجه، فلنذكر طرفًا مما ذهب إليه الشافعي وغيره من العلماء في الاستحسان. أما الشافعي فقد ذهب إلى إبطاله حتى أنه قال: من استحسن فقد شرع في الدين. ويبطل الاستحسان إذا لم يترتب على قاعدة من قواعد الأدلة. واشتهر عن أبي حنيفة القول بالاستحسان، ثم اختلف أصحابه فجاهر بعضهم بالخلاف فقال: هو ترك القياس والعمل بغير دليل شرعي إنما هو استحسان عقلا, وليس على المستحسن إقامة دليل تتوجه عليه القوادح، إنما هو تلويح يعن في العقل. وقال بعضهم: الاستحسان إمالة فرع إلى أصل هو أدعى له. ومعنى ذلك: أنه تخصيص العلة بمعنى يقتضيه بناء على قولهم بجواز تخصيص العلل. وقال بعضهم: الاستحسان يراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد، لا تساعده العبارة عنه، ولا يقدر على إبرازه وإظهاره. وهذا من أعجب الأقوال وأغربها. وقال الكرخي -من متأخريهم- وغيره من أصحابهم ممن عجز عن نصرة الاستحسان المشتهر عن أبي حنيفة، قالوا: الاستحسان ليس هو من عبارة عن قول بغير دليل، بل هو بدليل وأخال أن يكون المستحسن غير مطالب بدليل، وليس في هذا خلاف ولا نقص ولا كلام مع من ذهب إليه، إنما الكلام مع من قال: لا يلزم في الاستحسان إقامة دليل. وذلك هو المنكر ألا ترى أن أبا حنيفة قال: إذا شهد أربعة بزنا على شخص لكن عينَّ كل واحد منهم زاوية من زوايا بيت، وقال: زنا فيها، فالقياس أن لا حد عليه، لكنا نستحسن حده، فيقال:

لم نستحسن سفك دم مسلم من غير حجة؛ إذ لم يجتمع شهادة الأربعة على زنا واحد، وغايته أن يقول: تكذيب المسلمين قبيح، وتصديقهم وهم عدول حسن فنصدقهم، ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا. والكلام على هذا وأحكامه وبسط القول فيه، أمر متعلق بكتب أصول الفقه وفروعه، وإنما اعترض القول فذكرنا ما قدره الله تعالى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن القاسم بن محمد قال: شهدت ابن عباس يحدث بحديث المتلاعنين، فقال له ابن شداد، أهي التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها" فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت قد أعلنت. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي طويلًا ومختصرًا هكذا. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن ابن المديني، عن سفيان بالإسناد. وعن ابن عفير وابن يوسف، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. وعن إسماعيل، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن الناقد وابن أبي عمر، عن سفيان. وعن أحمد بن يوسف الأزدي [عن إسماعيل بن أبي أويس] (¬3)، عن سليمان ابن بلال، عن يحيى بن سعيد، وفي بعض طرقها قال: لا، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن عيسى بن حميد، عن الليث، عن يحيى بن سعيد. ¬

_ (¬1) البخاري (6855، 6856، 5310، 5316). (¬2) مسلم (1497). (¬3) سقط من الأصل والمثبت من مسلم. (¬4) النسائي (6/ 173 - 174).

وعن يحيى بن محمد بن السكن، عن محمد بن جهضم، عن إسماعيل بن جعفر، عن يحيى بن سعيد. قد تقدم في حديث سهل من شرح حديث الملاعنة وحكمه ما فيه كفاية. وقوله في هذا الحديث: شهدت ابن عباس يحدث بحديث المتلاعنين. يريد حديث العجلاني وزوجته المذكور وفي حديث سهل. وقوله: "قد أعلنت" الإعلان: الإظهار، والمراد أنها أعلنت الفاحشة وأظهرتها، وقد بينه في الرواية الأخرى التي يقول فيها: كانت تظهر في الإسلام السوء. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج أن يحيى بن سعيد حدثه، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس: أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، والله ما لي عهد بأهلي منذ عفار النخل، قال: وعفارها إذا كانت تؤبر تعفر أربعين يومًا لا تسقى بعد الإبار -فوجدت مع امرأتي رجلاً- قال: وكان زوجها مصفرًا حمش الساقين سبط الشعر، والذي رميت به خدلًا إلى السواد جعدًا قططا مستهًا- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم بينّ" فلاعن بينهما، فجاءت برجل يشبه الذي رميت به. قوله: "ما لي عهد بأهلي" يريد أنه لم يطأ منذ كذا وكذا. وعَفَار النخل -بفتح العن المهملة، وتخفيف الفاء-: تلقيح النخل وإصلاحها، فيقال: قد عفروا نخلهم يعفرون، قاله الأصمعي. وقال ابن الأعرابي: العفار أن يترك النخل بعد التلقيح أربعين يومًا لا تسقى، والعفار: لقاح النخل. قال الجوهري: ويقال: العقار -بالقاف والفاء أشهر، وتأبير النخل تلقيحها.

وحمش الساقين: دقيقهما. وشعر سبِط وسبْط -بسكون الباء وكسرها-: إذا كان مسترسلًا ولم يكن جعدًا. والخدل: السمين الساقين والذراعين الممتلئيهما، رجل خدل وامرأة خدلاء بينة الخدل. وقوله: "إلى السواد" أي مائلًا إلى السواد في لونه. والقطط: المبالغ في الجعودة، رجل قط الشعر، وقطط الشعر بمعنى، وقد قطط شعره -بالكسر- وهو أحد ما جاء على الأصل بأظهار الضعيف. وقوله: "مستهًا" يريد عظيم الإست، تقول: سته الرجل يسته فهو أسته بينّ السته: إذا كان كثير العجز وامرأة ستهاء. قال الأزهري: وفي حديث الملاعنة "إن جاءت به مستها جعدًا فهو لفلان" أراد بالمسته: الضخم الأليتين كأنه يقال استه فهو مسته، كما يقال: أسمن فهو مسمن، ورأيت رجلاً ضخم الأرداف كأن يقال له: أبو الأسته. والذي ذهب إليه الشافعي في ذكر هذا الحديث: هو الاستدلال به على أن للزوج ملاعنة زوجته على الحمل. ووجه الاستدلال: أن زوجها قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما لي عهد منذ عفار النخل، وإنما قال ذلك: لأنه رآها حاملاً، ورأى عندها رجلاً وهو بعيد العهد بها. وتفصيل المذهب: أنه إذا قذف زوجته كان له لعانها ونفي الولد، وإن لم يكن صرح بالزنا بل نفى الولد ولاعن لنفي الولد. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وأحمد: ليس له أن يلاعن لنفي النسب، ولا يصح نفيه في حال الحمل، فإن صرح بالقذف كان له أن يلاعن إلا عند أبي حنيفة إذا لاعنها

للقذف وهي حامل يلزمه الولد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لاعن بين المتلاعنين، أمر رجلاً أن يضع يده على فيه عند الخامسة، وقال: "إنها موجبة". أخرج النسائي (¬1) هذا الطرف، وقد جاء في جملة حديث طويل أخرجه البخاري (¬2) وأبو داود (¬3) والنسائي، إلا أن رواية النسائي لهذا الطرف هي عن علي بن ميمون، عن سفيان، عن عاصم. والهاء في "فيه" راجعة إلى الرجل الملاعن، وإنما أفردها وإن كان لم ينفرد الرجل بالذكر لأنه قال: المتلاعنين. فعرف أنه يريد أحدهما, ولما ذكر الضمير رده إلى الرجل. والموجبة: هي اللعنة التي توجب أحكام اللعان، فإن اللعان إنما يتم باللعنة الخامسة فهي تمامه. والسنة في اللعان: أنه عند الخامسة يقفه الحاكم ويقول له: أخاف إن لم تكن صادقا أن تبوء بلعنة الله تعالى، اتق الله فإنها موجبة، وإن عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة، ويأمر رجلاً أن يضع يده على فيه حتى لا يبدر بالخامسة. وقد جاء هذا المعنى في رواية البخاري وأبي داود. وأخبرنا الشافعي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: أخبرني عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمتلاعنين: "حسابكما على الله، أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها" قال: يا رسول الله، ما لي، قال: " [لا] (¬4) مال لك، إن كنت قد صدقت عليها فهو بما ¬

_ (¬1) النسائي (6/ 175). (¬2) البخاري (4747). (¬3) أبو داود (2256،2255). (¬4) سقط من الأصل والمثبت من الأم (5/ 126).

استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها أو منه". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عمر يقول: فرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أخوي بني العجلان، وقال: "هكذا بإصبعيه -المسبحة والوسطى- فقرنهما -الوسطى والتي تليها يعني المسبحة- وقال "الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رجلاً لاعن امرأته في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - انتفى عن ولدها، ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بالمرأة. أخرج هذه الأحاديث في كتاب اللعان (¬1)، وأخرج في كتاب اختلاف الحديث عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين وألحق الولد بالمرأة. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة طويلاً ومختصرًا. أما مالك (¬2): فأخرج الرواية الثالثة في الموطأ بالإسناد. وأما البخاري (¬3): فأخرج الرواية الأولى عن علي بن عبد الله وقتيبة، عن سفيان. وأخرج الثانية: عمرو بن زرارة، عن إسماعيل، عن أيوب، عن سعيد بن جبير. وأخرج الثالثة: عن يحيى بن بكير، عن مالك. وأما مسلم (¬4): فأخرج الأولى عن يحيى بن يحيى وأبي بكر وزهير، عن سفيان. ¬

_ (¬1) انظر الأم (5/ 126). (¬2) الموطأ (2/ 445، 35). (¬3) البخاري (5312، 5311 , 5315). (¬4) مسلم (1494،1493).

وأخرج الثانية: عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد، عن أيوب. وعن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن أيوب. وأخرج الثالثة: عن سعيد بن منصور وقتيبة ويحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬1): فأخرج الأولى عن أحمد بن حنبل، عن سفيان. وأخرج الثانية: عن أحمد بن حنبل، عن إسماعيل، عن أيوب. وأخرج الثالثة: عن القعنبي، عن مالك. وأما النسائي (¬2): فأخرج الأولى عن محمد بن منصور، عن سفيان. وأخرج الثانية: عن زياد بن أيوب، عن ابن علية، عن أيوب. وأخرج الثالثة: عن قتيبة، عن مالك. وأما الترمذي (¬3): فأخرج الحديث بطوله عن هناد، عن عبدة بن سليمان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير. وأخرج الثالثة: عن قتيبة، عن مالك. والرواية التامة لحديث ابن عمر قد أخرجها مسلم والترمذي، ونحن نذكرها ليعرف أصل الحديث. قال سعيد بن جبير: سئلتُ عن المتلاعنين في امرأة مصعب بن الزبير، أيفرق بينهما؟ فما دريت ما أقول، فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة، فقلت للغلام، استأذن لي، قال: إنه قائل، فسمع صوتي فقال: ابن جبير؟ قلت: نعم. قال: ادخل، فوالله ما جاء بك هذه الساعة إلا حاجة، فدخلت فإذا هو مفترش ¬

_ (¬1) أبو دواد (2258,2257، 2259). (¬2) النسائي (6/ 177 - 178). (¬3) الترمذي (1202، 1203).

برذعة له، متوسد وسادة حشوها ليف، قلت: أبا عبد الرحمن! المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله! نعم، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان، قال: يا رسول الله! أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت عن مثل ذلك. قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه، فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله -عز وجل- هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، [قال: لا والذي بعثك بالحق، ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها، وذكَّرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة] (¬1). قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما. قوله: "لا سبيل لك عليها" فيه بيان وقوع الفرقة بينهما باللعان، بخلاف من قال: اللعان لا يوجب الفرقة. وفيه دلالة على أن الفرقة باللعان تأبيدة، ولو كان له عليها سبيل إذا أكذب نفسه لاستثناه، فقال إلا أن تكذب نفسك فيكون لك عليها حينئذ سبيل، فلما أطلق الكلام دل على تأييد الفرقة. وفيه بيان أن زوج الملاعنة لا يرجع عليها بالمهر، وإن أقرت المرأة بالزنا أو قامت عليها البيَّنة بذلك، هذا في المدخول بها ألا تراه قال: "فهو بما استحللت من فرجها". فأما غير المدخول بها فقد اختلف الناس فيها:- ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مسلم والترمذي.

[قال] (¬1) الحسين وقتادة وسعيد بين جبير: تلاعنه ولها نصف الصداق. وقال الحكم وحماد: لها الصداق كاملًا. وقال الزهري: يتلاعنان فلا صداق لها. والضمير في قوله: "منها" راجع إلى المرأة، وفي "منه" راجع إلى المال. وقوله: "أحدكما كاذب، فهل منكما تائب" في هذا اللفظ من الأدب الحسن ما لا يخفى على السامعين، وذلك أنه لم يواجه أحدًا منهما بالكذب ولا خصه به, لأنه أولاً: علم غيب ولعل الله -تعالى- لم يكن أعلمه الكاذب منهما, ولأن العلم الحقيقي أن أحد المختلفين -الذين يدعى كل واحد منهما خلاف الآخر- كاذب والآخر صادق، وقد سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم بين الكاذب والصادق منهما، فحكم حكمًا واحدًا لأنه لم يتعين الصادق من الكاذب، وكلاهما يتجاذبان النقيضين فاستوى حكمهما لذلك، ولذا سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إن جاءت به كذا وكذا فهو لفلان، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لفلان" فحكم بينهما بالظاهر دون الباطن، وسوى الحكم بينهما بمقتضى اللعان, لأن ما علمه من باطن الأمر وقرائن الأحوال التي قال لأجلها: "إن جاءت به كذا وكذا فهو لفلان"، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية ابن عباس لما جاءت به على النعت المكروه: "لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن". والذي ذهب إليه الشافعي: أن أحكام اللعان: وقوع الفرقة، وتأبد الحرمة، وسقوط حد القذف، وانتفاء النسب، ووجوب حد الزنا عليهما إن لم تلتعن، فإذا التعنت سقط الحد عنها ولحقها الولد. وقال أبو حنيفة: الفرقة تتعلق بلعانها وحكم الحاكم. وهو أحد الروايتين عن ¬

_ (¬1) أثبته ليستقيم السياق.

أحمد. وقال ربيعة ومالك وداود: تتعلق الفرقة باللعانين معًا. وهي الرواية الثانية عن أحمد. وقد استدل أبو حنيفة ومن قال بقوله بهذا الحديث، حيث أضاف التفريق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما الشافعي فإنه قال: لما جرى التلاعن بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أضيف التفريق إليه ونسب إلى فعله، كما تقوم البينة إما بشهادة، وإما بإقرار المدعى عليه، فثبت الحق بهما عليه ثم يضاف الأمر في ذلك إلى قضاء القاضي. قال: ولو وجب أن لا تكون التفرقة إلا بأمر الحاكم، لوجب أن لا ينفى الولد عن الزوج إلا بحكم الحاكم، لأنه قد سبق عليه في الذكر، فقال: "فرق بين المتلاعنين وألحق الولد بالأم"، فإذا جاز أن يلحق الولد بالأم ويقطع نسبه عن الأب من غير صنع الحاكم فيه؛ جاز أن تقع التفرقة بينهما من غير صنع له فيه. وأما تأبيد الحرمة: فإليه ذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر. وبه قال النخعي، والبصري، والزهري، والثوري، والأوزاعي، وعطاء بن أبي رباح، ومالك، وإحدى الروايتين عن أحمد لأنه فسخ لا طلاق. قال أبو حنيفة ومحمد: إنه طلاق لا فسخ، فلذلك لا تتأبد عنده الحرمة، ويظهر الأثر فيما إذا كذَّب نفسه فإنه يجوز ردها إلى نكاحه عندهما. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد قال: شهدت المتلاعنين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن خمس عشرة سنة. قال الشافعي: ثم ساق الحديث فلم يتقنه إتقان هؤلاء. هذا طرف من حديث اللعان الذي رواه سهل، وقد تقدم ذكره في أول كتاب اللعان.

وهذا الطرف قد استدل به الشافعي على أن اللعان لا يكون إلا بمحضر من طائفة من المؤمنين، لأنه قال: ولما حكى سهل بن سعد شهود المتلاعنين، مع حداثته وحكاه ابن عمر، استدللنا أن اللعان لا يكون إلا بمحضر من طائفة من المؤمنين، لا ما يحضره الصغار والكبار أولى به، ولأنه أردع للمتلاعنين عن الكذب. وقوله: "فلم يتقنه إتقان هؤلاء" يريد ما مضى من روايات مالك وغيره، وإنما أشار إليهم لأنهم قد تقدم ذكرهم في كلامه قبل ذكره لهذا الحديث، ففي رواية مالك وغيره: "وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي رواية ابن جريج: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد"، وفي رواية الأوزاعي: "فأمرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالملاعنة بما سمى الله في كتابه"، وفي رواية نافع عن ابن عمر: "فتلاعنا كما قال الله -عز وجل-". والإتقان: الإحكام والمراد به أنه لم يحكم حفظه كما حفظه غيره من الرواة. ومذهب الشافعي: أن اللعان لا يصح إلا بحضرة الحاكم، وأن يكون في أشرف الأماكن، فإن كان بمكة فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة فعند المنبر، وقيل عليه، وإن كان بالقدس فعند الصخرة، وإن كان بغيره من البلاد فبالجامع، وأن يكون بعد العصر، وأن يكون بمجمع من الناس وأقلهم أربعة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا، من سأل عن شيء لم يكن -يعني محرمًا- فحرم من أجل مسألته". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود.

فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبد الله بن يزيد المقري، عن سعيد عن عقيل، عن الزهري، وقال: "عن شيء لم يحرم فحرم". وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن إبراهيم بن سعد. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن سفيان، عن الزهري، وقال: "عن أمر لم يحرم". تقول: جرم الرجل وأجرم جرمًا وإجراما: إذا أذنب. والجارم: الجاني، والجرم: الذنب. وقوله: "في المسلمين جرمًا" أي أن ذنبه مختص يختص بهم ولهم, لأن التحريم راجع إليهم ولهذا قال: "أعظمهم ذنبا فيهم" فجعلهم محلا لجرمه. وقوله: "فحرم من أجل مسألته" تعليل من لبيان الجرم وأنه كان بسبب سؤاله، وهذا الحكم من تعظيم أمر السؤال إنما هو فيمن يسأل تعنتًا وتكلفا فيما لا حاجة له فيه، لا فيمن سأل سؤال حاجة وضرورة، مثل: مسألة بني إسرائيل في شأن البقرة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى أمرهم أن يذبحوا بقرة، فلو استعرضوا البقر وأخذوا منها بقرة فذبحوها لأجزأتهم، فما زالوا يسألون ويتعنتون حتى غلظت عليهم. وأمروا بذبح بقرة مخصوصة، فعظمت عليهم المؤنة ولحقتهم المشقة في طلبها حتى وجدوها فاشتروها بالمال العظيم، فذبحوها وما كادوا يفعلون. ولذلك قال: أن بني إسرائيل شددوا فشدد عليهم. فأما من كان سؤاله استبانة لحكم واجب، واستفادة لعلم قد خفي عليه؛ فإنه لا يدخل في هذا الوعيد، كيف وقد قال الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬4). ¬

_ (¬1) البخاري (7289). (¬2) مسلم (2358). (¬3) أبو داود (4610). (¬4) النحل: [43]

وقد احتج بهذا الحديث من ذهب إلى أن أصل الأشياء، قبل ورود الشرع على الإباحة إلى أن يقوم دليل الحظر. وقد استدل الشافعي بهذا الحديث في كتاب اللعان، لقول عاصم بن عدي لعويمر العجلاني: سل لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كره المسائل. قال الشافعي (¬1): ففي حكم اللعان في كتاب الله ثم سنة رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -)، دلائل واضحة منها: أن عويمرًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل وجد مع امرأته رجلاً فكره المسائل، وذلك أن عويمرًا لم يخبره أن هذه المسألة كانت، ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال: وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (¬2) الآية، فكانت المسائل فيما لم ينزل إذ كان الوحي ينزل مكروهة، لما ذكرنا من قول الله ثم قول رسول الله وغيره مما في معناه. ومعنى كراهية ذلك: أن تسألوا عما لم يحرم، فإن حرمه الله تعالى في كتابه أو على لسان نبيه حرم أبدًا؛ إلا أن ينسخ الله تحريمه في كتابه؛ أو ينسخ على رسوله سنة بسنة. وفيه دلالة: على أن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرام بأمر الله إلى يوم القيامة. وفيه دلالة: على أن رسول الله حين وردت عليه هذه المسأله وكانت حكما، وقف عن جوابها حتى أتاه من الله الحكم فيها، فقال لعويمر: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك"، فلاعن بينهما كما أمر الله في اللعان، ثم فرق بينهما وألحق الولد بالمرأة ونفاه عن الأب، وقال: "لا سبيل لك عليها" ولم يرد الصداق على الزوج، فكانت هذه أحكامًا وجبت باللعان والله أعلم. ¬

_ (¬1) الأم (5/ 125 - 126). (¬2) [المائدة:101].

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة أن رجلاً من أهل البادية أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "هل لك من إبل"؟ فقال: نعم، قال: "مما ألوانها"؟ قال: حمر قال: "وهل فيها من أورق"؟ قال: نعم، قال: "أنى ترى ذلك"؟ قال: عرقًا نزعه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فلعل هذا نزعه عرق". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة أن أعرابيًا من بني فزارة -فذكر الحديث وقال فيه: إن فيها لوُرقا، قال: "فأنى أتاها ذلك"؟ قال: لعله نزعه عرق. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن يحيى بن قزعة وإسماعيل بن أبي أويس، عن مالك. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن ابن أبي خلف (¬3)، عن سفيان. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن عبد الجبار بن العلاء وسعيد بن عبد الرحمن، عن سفيان، عن ابن شهاب. وفي رواياتهم وهو يعرض بالاستنفاء منه. الأورق من الإبل: الذي فيه لون بياض إلى سواد، وهو أطيب الإبل لحمًا وليس بمجهود عندهم في عمله وسيره، قاله الأصمعي. ¬

_ (¬1) البخاري (5303، 6847). (¬2) مسلم (1500). (¬3) سقط من الأصل تخريج رواية مسلم وهذا الإسناد لأبي داود وليس في رواية مسلم من يسمى ابن أبي خلف، وانظر سنن أبي داود (2260). (¬4) النسائي (6/ 178). (¬5) الترمذي (2128). وقال: حسن صحيح.

وقال أبو زيد: هو الذي يضرب لونه إلى الخضرة، والجمع: وُرْق. والمراد من الحديث -على كلا التفسيرين-: أن في إبله بعيرًا يخالف ألوانها. وقوله: "أنى ترى ذلك"؟ أي من أين جاءها هذا اللون المخالف لألوانها؟! ونزع فلان إلى أبيه: إذا أشبه أي لعله نزعه عرق في أصله رجع إليه ومال نحوه، فشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - الأورق من إبله بولده الذي جاء أسود، وإن كان الأب والأم ليسا بأسودين. وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل فيهما من أورق" وإدخاله لفظة "من" في الاستفهام زيادة في تحقيق القول والتشبيه، لأن لفظة "من" تزيد في الاستفهام استغراقًا أي: ولو أنه أورق واحد، ولذلك قال في الجواب: نعم، إن فيها لورقًا وهذا القول من الأب تعريض بأن زوجته قد زنت؛ وأنه يريد أن ينفي ولدها فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا السؤال والتشبيه بالإبل أن الولد للفراش، ولم يجعل اختلاف اللون دلالة يجب الحكم بها. وفي هذا دليل على إثبات القياس، وبيان أن المتشابهين حكمهما من حيث اشتبها واحد. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في التعريض بالقذف، قال: فلما كان قول الفزاري تهمة الأغلب منها -عند من سمعها- أنه أراد قذفها، فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يره قذفًا، لذا كان لقوله وجه يحتمل أن لا يكون أراد به القذف من التعجب والمسألة عن ذلك، استدللنا على أنه لا حد في التعريض. والذي ذهب إليه الشافعي: أن التعريض بالقذف لا يكون قذفًا إلا بعد أن يعرف أنه أراد به القذف. وبه قال أبو حنيفة وقال مالك وأحمد في أشهر

الروايتين عنه -أنه يكون قذفًا في حال الغضب. فأما إذا كان الأب والأم أبيضين وجاء الولد أسود وبالعكس ففي جواز نفي الولد وجهان. وقال المزني في الجامع الكبير (¬1) سمعت الشافعي يقول: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن عمر -رضي الله عنه- كان يجلد الحد في التعريض. قال المزني: وقوله بدلائل الكتاب والسنة أولى من هذا. يريد استدلال الشافعي بما ذكرنا من السنة، وبأن الله -تعالى- أباح التعريض بالخطبة في عدة المتوفى عنها فكان خلافًا للتصريح. ... ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (11/ 171).

الفصل الثاني في الولد للفراش

الفصل الثاني في الولد للفراش أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب -أو أبي سلمة- عن أبي هريرة -والشك من سفيان- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن آدم، عن شعبة. وعن مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن سعيد بن منصور (¬3)، وزهير وعبد الأعلى بن حماد والناقد، عن سفيان. وأما ابن منصور فقال: عن سعيد، عن أبي هريرة. وأما زهير فقال: عن سعيد أو عن أبي سلمة -أحدهما أو كلاهما- عن أبي هريرة. وقال الناقد: حدثنا سفيان مرة، عن الزهري، عن أبي سلمة. ومرة عن سعيد، ومرة عن سعيد أو أبي سلمة. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد. ¬

_ (¬1) البخاري (6750، 6818). (¬2) مسلم (1457). (¬3) زاد في الأصل [فقال: سعيد عن أبي هريرة] وهي زيادة مقحمة وستأتي بعد قليل في موضعها الصحيح. (¬4) الترمذي (1157) وقال: حسن صحيح.

قال: وقد رواه الزهري عن سعيد وأبي سلمة. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة. وفي الباب عن عمر، وعثمان، وعائشة، وأبي أمامة، وعمرو بن خارجة، وعبد الله بن عمر، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم. الولد: يقع على الذكر والأنثى والواحدة والجمع، تقول: هذا ولدك، وهذه ولدك، وهؤلاء ولدك. واللام في "للفراش" لام الملك. والفراش أراد بها: النكاح, لأن الزوجة فراش الرجل. وقيل: أراد صاحب الفراش، يريد بالفراش الذي ينامان فيه. وقد صرح بذلك البخاري في رواية أخرى له: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الولد لصاحب الفراش". والعاهر: الزاني، والعاهرة: الزانية، عهر فهو عاهر. والعُهْر -بالسكون- الزنا، ويروى بالفتح والاسم: العهر. ومعنى قوله: "وللعاهر الحجر" قد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد به الرجم, لأن حد الزاني رجم بالحجارة. وليس الأمر كذلك، لأن ليس كل زان يرجم، وإنما يرجم المحصن منهم. قالوا: وإنما المعنى به ها هنا الحرمان والخيبة، كقولك: إذا أيَّسْت الطالب وخيبته من الشيء ما لك غير التراب وما في يدك غير الحجر، ونحو ذلك من الكلام، يريد أن العاهر قد خاب من لحوق الولد وأيس منه، وهذا ¬

_ (¬1) النسائي (6/ 180).

كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء صاحب الكلب يطلب ثمنه فاملأ كله ترابًا" يريد أن الكلب لا ثمن له، فضرب المثل بالتراب الذي لا قيمة له. وقد أجرى بعضهم حديث ثمن الكلب على ظاهره، وقال: تملأ كله ترابًا كمن قال في العاهر أنه أراد بالحجر الرجم، وإثبات، النسب وإلحاقه بالفراش المستند إلى عقد صحيح أو ملك يمين، مذهب جميع الفقهاء لم يختلف فيه أحد من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين وغيرهم، ولا يثبت الولد بوطء الزنا. وأول من استلحق في الإسلام ولد الزنا معاوية بن أبي سفيان، في استلحاقه زياد بن أبيه، والقصة مشهورة (¬1) وذلك بخلاف الإجماع من المسلمين، ثم لا يفيد الاستلحاق شيئًا من الأحكام الشرعية إذا كان عن زنا. قال الشافعي: وليس يخالف حديث نفي الولد عمن ولد على فراشه؛ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وقوله: "الولد للفراش" له معنيان:- أحدهما -وهو أعمهما وأولاهما-: أن الولد للفراش ما لم ينفه رب الفراش باللعان الذي نفاه به عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا نفاه باللعان فهو منفي عنه وغير لاحق بمن ادعاه بزنا وإن أشبهه. والمعنى الثاني: إذا تنازع الولد رب الفراش والعاهر، فالولد لرب الفراش. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن ¬

_ (¬1) قال الإمام الذهبي في السير (3/ 495): يقال: إن أبا سفيان أتى الطائف فسكر، فطلب بغيًا فواقع سمية، وكانت مزوجة بعبيد، فولدت من جماعة زيادًا فلما رآه معاوية من أفراد الدهر استعطفه وادَّعاه وقال: نزل من ظهر أبي.

عبد بن زمعة [وسعدًا اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة] (¬1) فقال سعد: يا رسول الله! أوصاني أخي إذا دخلت مكة أن انظر إلى ابن أمة زمعة فاقبضه فإنه ابني، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن أمة أبي، فرأى شبهًا بيِّنا بعتبة فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش، واحتجبي منه يا سودة". هكذا أخرج هذا الحديث في كتاب اختلاف الحديث (¬2). وقد أخرجه المزني عنه (¬3): عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص، أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص، وقال: ابن أخي كان عهد إليَّ فيه، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هو لك يا عبد بن زمعة" وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسودة بنت زمعة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم-: "احتجبي عنه" لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله -عز وجل-. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬4): فأخرجه عن ابن شهاب وذكر رواية المزني. وأما البخاري (¬5): فأخرجه عن عبد الله بن محمد، عن سفيان. وعن عبد الله بن يوسف وإسماعيل ويحيى بن قزعة والقعنبي، عن مالك. وأما مسلم (¬6): فأخرجه عن سعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة والناقد، عن سفيان. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من مطبوعة المسند. (¬2) الأم (ص:547) اختلاف الحديث. (¬3) المعرفة (11/ 175). (¬4) الموطأ (2/ 567/ 20). (¬5) البخاري (2053، 2421، 2745، 6749، 7182). (¬6) مسلم (1457).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن سعيد بن منصور ومسدد، عن سفيان. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن سفيان. كانت العرب في الجاهلية تكون لهم إماء عليهن ضرائب لمواليهن وهن البغايا يذهبن ويؤدين ضرائبهن، وكانت الأمة منهن إذا جاءت بولد وادعاه أحد الزناة الذين زنوا بها، استحق به وصار ولده كما يكون في النكاح الصحيح. وكان لزمعة بن قيس بن عامر بن لؤي، وهو أبو سودة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمة زانية، إلا أنه كان يلم بها فزنا بها عتبة بن أبي وقاص في الجاهلية وحملت منه، فلما حضرته الوفاة قال لأخيه سعد بن أبي وقاص: إن حمل أمة زمعة مني، فلما فتحت مكة نظر سعد إلى ابن أمة زمعة، فطلبه ليأخذه وأبي عليه عبد بن زمعة أن يعطيه، هو (¬3) أخي وولد على فراش أبي من أمته، فاختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى فيه شبهًا ظاهرًا بعتبة، إلا أنه حكم بظاهر حكم الإسلام في كون الولد للفراش ولم يعتبر بالشبه الذي رآه فيه، فتحكم به لعبد ولم يحكم به لسعد، ثم إنه للشبه الذي رأى فيه بعتبة قال لسودة زوجته: "احتجبي منه"، وإن كان حكم الإسلام قد جعله أخاها، إلا أن الشبه الذي فيه اقتضى الاستحباب لها بالاحتجاب منه والاستظهار بالتنزه عن الشبه. وإليه ذهب الشافعي، ومالك، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد: إنما هذا على سبيل الواجب وهو حرام, لأن من أصلهم أن من زَنَا بامرأة حرمت على أولاده، وهذه القضية لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الشبه لعتبة علم أنه من مائه، فأجراه على التحريم مجرى النسب فأمرها بالاحتجاب منه. ¬

_ (¬1) أبو داود (2273). (¬2) النسائي (6/ 181). (¬3) كذا في الأصل والظاهر وجود سقط هنا.

وقوله: "هو لك يا عبد بن زمعة" هذه اللام لام الملك والتخصيص، وهي بالتخصيص أشبه، يريد ملكك ثابت لك بموجب دعواك أو مختص بما دون خصمك، ثم علل إثبات الحكم لعبد بقوله: "الولد للفراش" ثم إنه جاء عاريًا بالتعليل عاريًا من حرف العلة -وذلك أن- أحسن في مواقع الخطاب, لأنه يكون الكلام كأنه جملة واحدة، وأن هذه العلة جزء من الكلام وبعض من أبعاضه، وإذا جاء حرف العلة صار الكلام منقسمًا إلى علة ومعلول، ألا ترى أنه لو قال: هو لك يا عبد لأن الولد للفراش، لم يكن لهذه الطلاوة والحسن والامتزاج الحاصل بقوله: لك يا عبد، الولد للفراش. وبيان ذلك: أن ظهور حرف العلة يفيد معناها ولا يتوقف فهم السامع على تدبر الكلام، وإذا أسقطه صار الكلام محتاجًا إلى حرف التعليل، فيتوفر الفهم على الإصغاء إلى اللفظ والاستماع إليه وتدبر معناه، ولأن الشيء إنما يحذف في موضع لا يخل صرفه بالمعنى حتى يصير كأنه مستغني عنه. قال الشافعي: فقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن وليدة زمعة بدعوة أخيه ونسبه إلى أبيه، وقال: "الولد للفراش" واعلم أن الأمة تكون فراشا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من بني زهرة، كان يسكن دارنا، فذهبت معه إلى عمر فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية، فقال: أما الفراش فلفلان، وأما النطفة فلفلان، فقال عمر -يعني: ابن الخطاب-: "صدقت، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالفرايق". وقد رواه المزني عن الشافعي (¬1) بالإسناد قال: أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من بني زهرة من أهل دارنا، فذهبت مع الشيخ إلى عمر وهو في الحجر، ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (11/ 174).

فسأله عن ولاد الجاهلية، قال: وكانت المرأة في الجاهلية إذا طلقها زوجها أو مات عنها نكحت بغير عدة، فقال الرجل: أما النطفة فمني وأما الولد فهو على فراش فلان، فقال عمر: صدقت، ولكن قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالولد للفراش. هذا طرف من حديث قد تقدم ذكره في كتاب الحج، وذكرنا هناك شرحه ونذكر ها هنا منه ما يريده بيانا. الولاد: مصدر ولدت المرأة تلد ولادًا وولادة، وأولدت حان ولادها. والنطفة: القليل من الماء ولهذا سمي به ماء الرجل. وقوله: "أما الفراش فلفلان" يريد به الزوجة أو الأمة وكلاهما يسمى فراشًا. وقوله: "وأما النطفة فلفلان" فيريد به أن الولد مخلوق من مائه وإن كانت أم الولد فراشًا لغيره، وكذلك لأنه يكون قد رأى منه شبهًا به فألحقه للشبه، وإن كانت الفراش لا تلحقه. ولذلك قال له عمر: صدقت، ولكن قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفراش وأبطل حكم الشبه. والذي أراد بقوله: "ولاد الجاهلية" أن الجاهلية كان لهم نكاح يسمونه نكاح "الاستبضاع" كان الرجل يقول لامرأته -إذا طهرتْ من طمثها-: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يبين حملها من الذي تستبضع منه ثم يصيبها زوجها ولا يعتزلها بعد ذلك، وإنما يفعل هذا -زعموا- رغبة في نجابة الولد، وإنما سموه نكاح الاستبضاع لأن المرأة بذلت فرجها لذلك الرجل، والبضع النكاح. والذي جاء في رواية المزني: من نكاح الزوجة بغير عدة لا ينافي هذا، فإن ذلك من ولاد الجاهلية وهذا من ولادها أيضًا فلا يكون مناقضًا والله أعلم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الفراش بالوطء لملك اليمين وبالعقد للزوجة،

والأمة لا تصير فراشًا بالملك لأن الملك قد يقصد به غير النكاح؛ بخلاف العقد فإن صارت فراشًا ولحقه ولدها. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا تصير فراشًا حتى يقر بولدها، فإذا أقر به صارت فراشًا ولحقه ولدها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن يونس أنه سمع المقبري يحدث القرظي قال المقبري: حدثني أبو هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول -أما نزلت آية الملاعنة- قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء ولم يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه وفضحه به على رؤس الخلائق في الأولين والآخرين". هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. أما أبو داود (¬1): فعن أحمد بن صالح، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن ابن الهاد. وأما النسائي (¬2): فعن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، عن الليث، عن ابن الهاد. قوله: "أيما امراة أدخلت على قوم من ليس منهم" يريد ولد الزنا، وذلك أن المرأة إذا حملت من الزنا وجعلت الحمل من زوجها، فقد أدخلت على زوجها وقومه ولدًا ليس من زوجها. وقوله: "فليست من الله في شيء" أي لا علاقة بينها وبين الله، ولا عندها من حكم الله وأمره ودينه شيء كما تقول: لست من شأنك في شيء، ¬

_ (¬1) أبو داود (2263). (¬2) النسائي (6/ 179 - 180).

أي ليس عندي من أمرك وما أنت عليه شيء ولا أنا متعلق منك بسبب، وذلك براءة من الله تعالى فكأنه قال: فهي بريئة من الله في كل أمرها وشأنها, ولذلك جاء بلفظة "شيء" منكرة، أي أنها بريئة منه في كل أمورها وأحوالها، وإنما أردف هذا اللفظ المشتمل على الذم العام المتضمن جميع أقسامه بقوله: ولم يدخلها الله جنته لأمرين:- أحدهما: أن الأول حكم عام كما قلنا، إلا أنه مع عمومه لا يكاد النساء يقعن علي حقيقة المراد منه لعمومه، فأعقبه بذكر أحد أنواعه التي يعمها كل سامع فقال: "ولم يدخلها الله جنته"، وذكر دخول الجنة دون غيره من أنواع الوعيد, لأن الأنفس تميل إلى النعيم، وحصول الراحة، ودخول الجنة من أقوى أسباب حصول النعيم، فإن كل ما أعد الله من أسباب النعيم موجود فيها ومن حرمها فقد حرم الخير كله. والأمر الثاني: أن قوله: "ولم يدخلها جنته" تعريض لخلود النار لأنه ليس في الآخرة إلا جنة أو نار، فمن لم يدخل الجنة فهو في النار، وإذا كان في النار ولم يدخل الجنة فقد خلد فيها، فجمع في هذه اللفظة بين نوعين من التغليظ على الزانية:- أحدهما: التصريح بالمنع من دخول الجنة. والآخر: التعريض بدخول النار. وقوله: "أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم" يشمل التغليظ والوعيد لأن فيه إدخال الولد والزنا معًا، لأن من جاءت بولد زنا فإنها زانية حيث أن الزنا قبل الولادة، ولكنه أراد أن ينهى عن الأمرين ويوعد على الحالتين، جاء باللفظ الشامل لهما وهو إدخال الولد على غير أهله. وأما قوله: "وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه" فإنه تغليظ على من يقذف زوجته ويقتات عليها نفيًا لولده منها وهو كاذب عليها، فجاء بلفظ

جحود الولد لأنه بدل عن القذف والنفي معًا. وقوله: "وهو ينظر إليه" وهو يريد يراه أنه منه ويعلم أنه ولده لم ينكره. وقوله: "احتجب الله منه" من أعظم أسباب الوعيد والتغليظ، لأن لا غاية في النعيم أعظم من النظر إلى الله تعالى في الدار الآخرة، وهي النهاية القصوى من الخير، فإذا احتجب الله تعالى عن إنسان فويل له ويل له. وقوله: "وفضحه به" يريد بجحوده ولده وإظهار كذبه على زوجته وافترائه عليها، وهذا من أقوى أسباب الوعيد، ولا سيما عند العرب الذين هم أولو الأنفة والحمية، وإنما قدم ذكر المرأة على الرجل في هذا المقام: لأن المرأة هي التي باشرت الزنا , ولولا إرادتها وإجابتها لم يقع -اللهم إلا كرهًا- وهي كانت السبب في إلحاق الولد به، والرجل إنما يقف على أمرها بعد وقوع الفعل منها، وعلى نحو من هذا جاء قول الله -عز وجل-: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فقدم المرأة على الرجل في الذكر. والله أعلم.

كتاب العدة وفيه بابان

كتاب العدة وفيه بابان الباب الأول في تبيين العدة ومقدارها وفيه خمسة فصول الفصل الأول في عدة المطلقة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن -هو ابن أبي بكر الصديق- حتى دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال ابن شهاب: فذكرت له لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة وقد جادلها في كتاب الله ناس فقالوا: إن الله -عز وجل- يقول: {ثَلَاثةُ قُرُوء} (¬1)، فقالت عائشة: صدقتم، وهل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء: الأطهار. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول هذا. يريد الذي قالت عائشة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت: إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه. هذا حديث صحيح، أخرج مالك (¬2) في الموطأ الرواية الأولى. قوله: "انتقلت حفصة" أي نقلتها إليها من البيت الذي كانت فيه معتدة. ¬

_ (¬1) البقرة: [228]. (¬2) الموطأ (451/ 54).

والأقراء: جمع قرء -بالفتح- وهي عند الشافعي: الأطهار، وعند أبي حنيفة الحيض. وقد ذكرنا الخلاف في ذلك في أول كتاب الرجعة، في حديث علي بن أبي طالب. وقد استدل الشاقعي على أنها الأطهار، بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلاق ابن عمر: "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء". ومعنى اللام في "لها" معنى "في" أي هي العدة التي تطلق النساء فيها، كما يقال: كتبت لخمس خلون من الشهر، أي في وقت خلا فيه من الشهر خمس ليال، وإذا كان وقت الطلاق الطهر ثبت أنه وقت العدة. وقال الشافعي بإسناده: في حديث طلاق ابن عمر وتلا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فطلقوهن لقُبل عدتهن أو في قُبل عدتهن". قال الشافعي: فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله -جل ثناؤه- الطهر دون الحيض، وقوله: فطلقوهن لقبل عدتهن وهو أن يطلق طاهرًا لأنها حينئذ تستقبل عدتها, ولو طلقت حائضًا لم تكن مستقبلا عدتها إلا بعد الحيض. وقال الشافعي: القرء في اللغة: اسم وضع لمعنى فلما كان الحيض دمًا يرخيه الرحم فيخرج، والطهر دمًا يحتبس فلا يخرج، وكان معروفاً من لسان العرب أن القرء: الحبس، تقول العرب: هو يقري الماء في حوضه وفي سقائه، وهو يقري الطعام في شدقه أي يحبسه فيه. وقال عمر بن الخطاب: العرب تقري في صحافها أن تحبس فيها. قال الأزهري: قال أبو عبيد: الأقراء: الحيض، والأقراء: الأطهار، وأصله

من دنو وقت الشيء. وقال الأزهري: قد قال الشافعي: القرء اسم للوقت، فلما كان الحيض يجيء لوقت جاز أن يكون الأقراء حيضًا أو طهرًا، وإنما السنة دلت على تخصيصه بالطهر، وذكر ما حكيناه من كلام الشافعي. قال الزجاج: قال يونس: إن الأقراء عنده تصلح للحيض والطهر. وقال أبو عمرو: إن القرء الوقت وهو يصلح للحيض والطهر. قال أبو الهيثم: يقال: قرأت المرأة إذا طهرت، وقرأت إذا حاضت. وقال الكسائي والفراء: أقرأت المرأة إذا حاضت. قال الزجاج: والذي عندي في هذا أن القرء في اللغة: الجمع، وأن قولهم: قريت الماء في الحوض وإن كان قد ألزم الباء فهو جمعت، وقرأت القرءان لفظه مجموعًا، وإنما القرء: اجتماع الدم في الرحم، وإنما يكون في الطاهر. والظاهر من كلام هؤلاء العلماء: أن القرء من الأضداد يجوز إطلاقه على الحيض والطهر، وإنما الاشتقاق والسنة دلا على تخصيصه بالطهر، كما ذهب إليه الشافعي وقاله. والله أعلم. وقوله: "إذا طعنت المطلقة" يريد إذا دخلت في الدم وتمكنت منه وكأنه تشبيه بدخول الرمح في الطعنة. وقوله: "فقد برئت منه" أي تخلصت من الزوج وانفصل ما بينهما من وصلة النكاح، لأنها قد انقضت عدتها باستكمالها ثلاثة قروء، على أن الأقراء: الأطهار. وقد ذكرنا اختلاف المذهب في عدة المطلقة المدخول بها، في حديث علي المذكور في كتاب الرجعة.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع وزيد بن أسلم، عن سليمان بن يسار أن الأحوص -هو ابن حكيم- هلك بالشام حين دخلت امرأته في الدم من الحيضة الثالثة وقد كان طلقها، فكتب معاوية إلى زيد بن ثابت [يسأله عن ذلك] (¬1)، فكتب إليه زيد: أنها إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها, ولا ترثه ولا يرثها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري قال: حدثني سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت قال: "إذا طعنت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد برئت منه. هذا الحديث أخرج منه مالك في الموطأ (¬2) الرواية الأولى، مؤكدًا لما سبق من حديث عائشة، وحكى مثله عن عثمان بن عفان، وابن عمر، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وابن شهاب أنهم كانوا يقولون: إذا دخلت المطلقة المدخول بها في الدم من الحيضة الثالثة، فقد بانت منه ولا ميراث بينهما ولا رجعة له عليها. قال مالك: وذلك الأمر الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة، برئت منه وبرئ منها لا ترثه ولا يرثها". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬3) هكذًا مؤكدا لما تقدم من الأحاديث، على أن الأقراء: هي الأطهار. قال الشافعي: فيما بلغه عن هشيم وأبي معاوية ومحمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح "أن رجلاً طلق امرأته فذكرت أنها قد ¬

_ (¬1) من الأم (5/ 209). (¬2) الموطأ (2/ 452). (¬3) الموطأ (2/ 452/ 58).

حاضت، في شهر ثلاث حيض، فقال علي -رضي الله عنه- لشريح: قل فيها، فقال: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها يشهدون صُدِّقت، فقال له: قالون" -وقالون بالرومية أصبت-. وقد رواه ابن شهاب، عن إسماعيل وفيه: فجاءت بعد شهر (¬1) فقالت: قد انقضت عدتي. وفي رواية أخرى: أن شريحًا رفعت إليه امرأة طلقها زوجها فحاضت ثلاث حيض في خمس وثلاثين ليلة، فلم يدر ما يقول فيها، فرفع إلى علي -رضي الله عنه- فقال: سلوا عنها جاليتها -أو قال: جارتها- فإن كان حيضها كان كذا، وإلا فأشهر ثلاثة. قال الشافعي: وهم لا يأخذون بهذا، أما بعضهم فيقول: لا تنقضي العدة في أقل من أربعة وخمسين يومًا. وقال بعضهم: أقل ما تنقضي به تسعة وثلاثين قومًا. وأما نحن فنقول بما روي عن علي, لأنه موافق لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يجعل للحيض وقتًا، ثم ذكر حديث مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن فاطمة بنت أبي حبيش: "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي". قال الشافعي: فلم يوقت لها وقتًا في الحيضة ليقول كذا وكذا يومًا ولكنه قال: "إذا أقبلت وإذا أدبرت". قال الشافعي: لا تنقضي العدة في أقل من ثلاثة وثلاثين والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كان عند جده هاشمية وأنصارية، فطلق الأنصارية وهي ترضع، فمرت بها سنة ثم ¬

_ (¬1) في المعرفة (11/ 187): [شهرين].

هلك ولم تحض فاختصموا إلى عثمان بن عفان، فقضى للأنصارية بالميراث فلامت الهاشمية عثمان، فقال: هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا -يعني علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر أخبره "أن رجلاً من الأنصار يقال: حبان بن منقذ طلق امرأته وهو صحيح وهي ترضع ابنته، فمكثت سبعة عشر شهرًا لا تحيض يمنعها الرضاع أن تحيض، ثم مرض حبان بعد أن طلقها بسبعة أشهر أو ثمانية، فقلت له: إن امرأتك تريد أن ترث، فقال لأهله: احملوني إلى عثمان، فحملوه إليه فذكر له شأن امرأته وعنده علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت، فقال لهما عثمان: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها ترثه إن مات ويرثها إن ماتت، فإنها ليست من القواعد اللاتي يئسن من المحيض، وليست من الأبكار اللاتي لم يبلغن المحيض، ثم هي على عدة حيضها ما كان قليل أو كثير. فرجع حبان إلى أهله فأخذ ابنته، فلما فقدت الرضاع حاضت حيضة ثم حاضت حيضة أخرى، ثم توفي حبان قبل أن تحيض الثالثة، فاعتدت عدة المتوفى عنها زوجها وورثته". وأخرج مالك (¬1) في الموطأ الرواية الأولى، إلا أنه أخرجها عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان. والذي جاء في المسند: مالك، عن محمد بن يحيى. ومالك يروي عنهما ويحيى بن سعيد يروي عن محمد بن يحيى أيضًا. قوله: "فمرت بها سنة" أي انقضت عليها في مدة طلاقها سنة فجعل المرور للسنة، وذلك لأنها كانت مقيمة في بيتها والأيام تنقضي بها إلى تمام السنة. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 448/ 439).

والقواعد: جمع قاعدة: وهي المرأة التي قد كبرت وأسنت فقعدت عن الولد من الكبر، ولا تطمع في التزويج وأيست من الحيض لذلك. والقاعد -بلا هاء التأنيث- على النسب، تقول: امرأة قاعد أي ذات قعود من الكبر، وإنما حذفت الهاء منها فرقا بينها وبين قاعدة بمعنى الحالة. ومعنى قوله: "وليست من الأبكار" لم يرد به اللاتي لم يفتضضن إنما يرد بها الصغائر من النساء، يدل عليه قوله: "اللاتي لم يبلغن المحيض"، وإنما قال الأبكار: لأن الغالب على الصغائر أن يكن أبكارًا. وقوله: "ثم هي على عدة حيضها" أي منتظرة بعدتها أن تحيض ثلاث حيض وهي عدة المطلقة. وقوله: "ما كانت من قليل أو كثير" أي زمان قليل أو كثير، فالاعتبار بعدد الحيضات لا بالزمان الذي تحيض فيه. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا طلق زوجته التي دخل بها فإن عليها العدة، فإن كانت لم تر الدم اعتدت ثلاثة أشهر، سواء كانت دون سن المحيض أو جاوزت ذلك. وبه قال أبو حنيفة، وإن كانت رأت الدم ثم تباعد حيضها: فإن كان تباعده خلاف عادتها اعتدت به، وإن طالت عدتها سنين -وإن كان تباعده خلاف عادتها وكان ذلك لعارض من مرض، أو رضاع، أو نفاس- انتظرت زوال العارض وعود الدم وإن طال، لحديث حبان المذكور، وإن تباعد لغير عارض فقد اختلف قول الشافعي فيه:- فقال في القديم: تمكث حتى تعلم براءة رحمها ثم تعتد بالشهور وبه قال مالك وأحمد، وعلم براءة رحمها مختلف فيه. وقال في الجديد: تنتظر حتى تبلغ سن اليأس. وبه قال أبو حنيفة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد ويزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن المسيب أنه قال: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:

أيما امرأة طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعتها حيضة، فإنها تنتظر تسعة أشهر فإن بان بها حمل فذاك، وإلا اعتدت بعد التسعة ثلاثة أشهر ثم حلت. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1) إلا أنه قال: ثم رفعتها حيضتها. ومعنى قوله: "رفعتها حيضة" يريد انقطاع الدم وارتفاعه بعد الحيضة أو الحيضتين. وهذا الحكم هو ما ذهب إليه الشافعي في القديم، وقد ذكرناه في حديث محمد بن يحيى بن حبان. والتفريع عليه أنا إذا قلنا: تمكث حتى تعلم براءة الرحم ففي قدره قولان:- أحدهما: تسعة أشهر وتعتد بعدها بثلائة أشهر، فتلك سنة. وبه قال مالك وأحمد عملاً بحديث عمر بن الخطاب هذا ووجه ذلك: أن هذه في مدة الحمل في الغالب، فإذا لم يبن فيها الحمل فقد علم براءة الرحم في الظاهر. والقول الثاني في مدة البراءة: أنها تنتظر أربع سنين، فإذا انقضت اعتدت بثلاثة أشهر. ووجه ذلك: أن هذه المدة هي التي يتيقن فيها براءة الرحم لأن أكثر الحمل أربع سنين. والشافعي -رحمه الله- لما رجع في قوله الجديد إلى أنها تنتظر من اليأس فإنما أخذ بقول ابن مسعود، هذه المطلقة بالحيض وإن طالت. وحكى ذلك عن عطاء، وعمرو بن دينار، وابن الشعثاء، وابن شهاب، واعتذر عن قول عمر بن الخطاب بأن قال: وقد يحتمل قول عمر أن يكون في المرأة قد بلغت السن الذي من بلغها من نسائها ييئسن من المحيض، فلا يكون مخالفا لقول ابن مسعود. قال: وذلك وجهه عندنا. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 455/ 70).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن محمد بن عبد الرحمن -مولى آل طلحة- عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عتبة، عن عمر بن الخطاب أنه قال: ينكح العبد امرأتين ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين فإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرًا ونصفًا. قال سفيان: وكان ثقة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس الثقفي، عن رجل من ثقيف أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: لو استطعت لجعلتها حيضة ونصفًا، وقال رجل: فاجعلها شهرًا ونصفًا، فسكت عمر. قوله: "ينكح العبد" يعني لا يجوز له أن يجمع أن أكثر من امرأتين لأنه على نصف الحر، والحر يجمع بين أربع. وروى ذلك عن عمر، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وبه قال عطاء، والحسن البصري، وهو قول عامة الفقهاء، إلا ما حكى عن ربيعة، والزهري، ومالك، وداود، وأبي ثور أنهم قالوا: يحل له أربعة. وكذلك طلاقه لا يملك إلا طلقتين, لأن طلاق الحرة ثلاث فيكون الطلاق طلقة ونصف طلقة، والطلقة لا تنتصف فيكمل له تمام الثانية ضرورة. وكذلك قوله في الأمة: "تعتد حيضتين" لأن عدة الحر ثلاث حيض، فلما الأمة فتحيضتان حملًا على الطلاق. وبه قالت الجماعة إلا داود فإنه قال: تعتد بثلاثة أقراء. فإن لم تكن الأمة تحيض فهي من ذوات الأشهر، وفيه للشافعي ثلاثة أقوال: أحدهما: شهر ونصف. وبه قال أبو حنيفة. والثاني: شهران.

والثالث: ثلاثة أشهر. وعن أحمد ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة. فمن قال: شهران، حملها على عدة الأقراء. ومن قال: ثلاثة أشهر حملها على عدة الحرة، لأن الغرض أن يعلم براءة الرحم ولا تحصل تلك إلا بمضي ثلاثة أشهر. ومن قال: شهر ونصف حمل الأمة على نصف الحرة، وهو القياس والأولى. قال الشافعي: اجتمع لعمر بن العزيز أنه لا يبين الحمل في أقل من ثلاثة أشهر. وحكاه في القديم عن بعض أصحابه، وقال: قال غيره: شهر ونصف على النصف من عدة الحرة. ثم قال: وهذا أقيس والأول أحوط. والله أعلم.

الفصل الثاني في عدة الوفاة

الفصل الثاني في عدة الوفاة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سئل ابن عباس وأبو هريرة عن المتوفى عنها زوجها وهي حامل؟ فقال ابن عباس: آخر الأجلين، وقال أبو هريرة: إذا ولدت فقد حلَّت، فدخل أبو سلمة على أم سلمة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- فسألها عن ذلك؟ فقالت: ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بنصف شهر، فخطبها رجلان: أحدهما شاب، والآخر كهل، فخطبت إلى الشاب، فقال لها الكهل: لم تحلل، وكان أهلها غيبي ورجى إذا جاء أهلها أن يؤثروه بها، فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قد حللت فانكحي من شئت". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار أن ابن عباس وأبا سلمة اختلفا في المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال، فقال ابن عباس: آخر الأجلين، وقال أبو سلمة: إذا نُفِست فقد حلت، قال: فجاء أبو هريرة فقال: أنا مع ابن أخي -يعني أبا سلمة- فبعثوا كريبًا -مولى ابن عباس- إلى أم سلمة يسألها عن ذلك، فجاءهم فخبرهم أنها قالت: ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها: "قد حللت فانكحي". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا أبا داود. أما مالك (¬1): فأخرج الروايتين بالإسنادين في الموطأ. وأما البخاري (¬2): فأخرج الرواية الثانية عن سعد بن حفص، عن شيبان، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 460/ 461). (¬2) البخاري (5318).

يحيى، عن أبي سلمة. وأخرج عن: يحيى بن بكير، عن الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة. وذكر المتن وحده. وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن ابن المثنى، عن عبد الوهاب، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار. وفي أخرى: عن محمد بن رمح، عن الليث، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة، عن عبد ربه، عن أبي سلمة. وذكر نحو الأولى. وفي أخرى: عن محمد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك وذكر الثانية. قوله: "آخر الأجلين" أي المتأخر منهما: إما الوضع والأشهر، أيهما كان متأخرًا عن الآخر كان هو العدة وهو الأجل. والغيب: جمع غائب مثل: خادم وخدم. ونفست المرأة -بضم النون وفتحها-: تنفِس وتنفُس إذا ولدت. والذي ذهب إليه الشافعي: أن عدة الوفاة إذا لم تكن المرأة حاملاً: أربعة أشهر وعشرا بنص القرآن، فلما إذا كانت المرأة حاملًا فإن عدتها وضع حملها، ¬

_ (¬1) مسلم (1485). (¬2) الترمذي (1194) وقال: حسن صحيح. (¬3) النسائي (6/ 190).

سواء كان قبل انقضاء الأشهر أو بعدها. وروى مثل ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة وهو قول عامة الفقهاء. وحكى عن علي، وابن مسعود: أنها تعتد بآخر الأجلين وقال الشافعي فيما بلغه عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضحى عن علي أنه قال: الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بآخر الأجلين. أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف علي، وإنما رغب عنه لما مضى من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي حجة على الخلق. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه "أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال، فمر بها أبو السنابل بن بعكك فقال: قد تصنعت للأزواج، إنها أربعة أشهر وعشرًا، فذكرت ذلك سبيعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كذب أبو السنابل -أو ليس كما قال أبو السنابل- قد حللت فتزوجي". هكذا أخرجه الشافعي في كتاب الرسالة منقطعًا، وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، موصولاً إلى سبيعة. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن يحيى بن بكير، عن يزيد وعن يونس معًا، عن ابن شهاب، عن عبيد الله، عن أبيه، عن عمر بن عبد الله الأرقم، عن سبيعة. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري مثل البخاري. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن سليمان بن داود المهري، عن ابن وهب، عن ¬

_ (¬1) البخاري (5319، 3991) وراجع إسناده هناك. (¬2) مسلم (1484). (¬3) أبو داود (2306).

يونس، عن الزهري مثل البخاري. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري مثل البخاري. وكلهم أخرجوه أطول من هذا، وقد جاء من طرق كثيرة عن سبيعة عن أم سلمة. قوله: "قد تصنعت للأزواج" يريد: تحسنت وسويت هيأتك وبرئت, لأنه رآها وقد فارقت هيئة المعتدات، ثم علل قوله وإنكاره عليها بقوله: إنها أربعة أشهر وعشرًا يريد: أن المدة التي تجب عليك أن تعتدي بها هي عدة الوفاة. وقوله: "كذب أبو السنابل" يريد بالكذب الخطأ, لأنه لم يقل لها ذلك نقلاً ولا حكمًا سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما قال لها ذلك برأيه واجتهاده وظنًا منه أن الأمر كذلك، وما كان هذا سبيله فلا يتطرق إليه الكذب, لأن الكذب يتعلق بالأخبار لا بالاجتهاد، فسمي الخطأ كذبًا اتساعا ومجازًا، وذلك سائغ لقرب ما بينهما, ولذلك قال: "أو ليس كما قال أبو السنابل" وهذا ظاهر في المعنى لا يحتاج إلى تأويل، فإنه لفظ يحتمل الخطأ والكذب فكان صرفه إلى الخطأ أولى موافقة للقول الأول. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن المسور ابن مخرمة "أن سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنته في أن تنكح فأذن لها". هذا حديث صحيح: أخرجه البخاري والنسائي. وأخرجه مالك (¬2) في الموطأ بالإسناد. ¬

_ (¬1) النسائي (6/ 194 - 195). (¬2) الموطأ (2/ 461/ 85).

فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن يحيى بن قزعة، عن مالك. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. وهو مؤكد لما سبق من الأحاديث الدالة على أن عدة المتوفى عنها زوجها الحامل بالوضع. قال الشافعي: ودلت السنة على أن الأشهر لغير الحوامل، فإن الطلاق والوفاة في الحوامل المعتدات سواء، وأن أجلهن كلهن أن يضعن حملهن. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر "أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل، فقال ابن عمر: إذا وضعت حملها فقد حلت. فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلت". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬3) هكذا. وقوله: "على سريره" يريد النعش الذي يحمل عليه الميت. وهذا القول من عمر -رضي الله عنه- مبالغة في الحكم بأن العدة تنقضي بالوضع، فإنها تحل للأزواج ولو كان الوضع قبل أن يدفن زوجها -والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) البخاري (5320). (¬2) النسائي (6/ 190). (¬3) الموطأ (2/ 460 - 461 رقم 84).

فرع أما أقل العمل وأكثره

فرع في أقل الحمل وأكثره روي عن أبي الأسود الدؤلي (¬1) أن عمر رفعت إليه امرأة ولدت لستة أشهر وأمر برجمها، وأُتِيَ عليْ -رضي الله عنه- في ذلك فقال: لا رجم عليها لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬2)، وقال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬3) ستة أشهر حمله، وحولين كاملين تمام رضاعه لا رجم عليها، فخلى عمر عنها. وروي عن ابن عباس ما دل أن أقل الحمل ستة أشهر. وبه قال الشافعي وغيره من الفقهاء. وروي عن الوليد بن مسلم أنه قال: قلت لمالك بن أنس حديث عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله! من يقول هذا هذه جارتنا [امرأة] (¬4) محمد بن عجلان امرأة صدق وزوجها رجل صدق، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين وإلى هذا ذهب الشافعي. وقول عمر بن الخطاب في امراًة المفقود: تتربص أربع سنين يشبه أن يكون إنما قاله لبقاء الحمل هذه المدة. قال الشافعي: وأعجب ما سمعت من النساء يحضن، نساء تهامة يحضن لتسع سنين. قال البيهقي: روينا عن عباد بن عباد المهلبي أنه قال: أدركت فينا امرأة ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (11/ 228). (¬2) [البقرة: 233]. (¬3) [الأحقاف: 15]. (¬4) من المعرفة.

صارت جدة وهي ابنة ثماني عشرة سنة ولدت لتسع سنين ابنة، فولدت ابنتها لتسع سنين. وعن عبد الله بن صالح: أن امرأة في جوارهم حملت وهي ابنة تسع سنين. وقيل: هي ابنة عشر سنين. ***

الفصل الثالث اجتماع العدتين

الفصل الثالث اجتماع العدتين قد تقدم في كتاب النكاح في نكاح المعتدة، حديث رشيد الثقفي وزوجته طليحة، وحديث زاذان عن علي -رضي الله عنه- وذكرنا من المذاهب هناك ما يغني عن إعادته ها هنا، لكن قد أخرج الشافعي: عن عبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرنا عطاء "أن رجلاً طلق امرأته فاعتدت منه، حتى إذا بقي شيء من عدتها نكحها رجل في آخر عدتها، جهلاً ذلك وبنى بها، فأتى علي ابن أبي طالب في ذلك ففرق بينهما وأمرها أن تعتد ما بقي من عدتها الأولى، ثم تعتد من هذا عدة مستقبلة، فإذا انقضت عدتها فهي بالخيار إن شاءت نكحت وإن شاءت فلا". وقال الشافعي فيما بلغه عن صالح بن مسلم، عن الشعبي أن عليًا قال في التي تتزوج في عدتها: تتم ما بقي من عدتها من الأول، وتستأنف من الآخر عدة جديدة. قال الشافعي: وكذلك نقول وهو موافق لما روينا عن عمر وهم يقولون: عليها عدة واحدة، ويخالفون ما روي عن علي. وقال في القديم (¬1): فقيل: هذا قضاء عمر وعلي وعمر بن عبد العزيز وغيرهم كما قلنا، فعمَّن أخذت قولك؟ قال: عن إبراهيم. قلنا: أو ما زعمت أن إبراهيم وحده لا يكون حجة فكيف يكون حجة على من زعمت أن ليس لأحد من الأمة خلافه لأن ذلك قولك وقولنا في الواحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (11/ 227).

الفصل الرابع في امرأة المفقود

الفصل الرابع في امرأة المفقود أخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن حسان، عن أبي عوانة، عن منصور بن المعتمر، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن علي -رضي الله عنه- "أنه قال في امرأة المفقود: أنها لا تتزوج". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن حسان، عن هشيم بن بشير، عن سيار ابن الحكم، عن علي "في امرأة المفقود إذا قدم وقد تزوجت امرأته: إن شاء طلق وإن شاء أمسك ولا تخير". قد روى هذا الحديث أبو عبيد، عن هشيم، عن سيار، عن الشعبي، عن علي. ورواه سماك بن حرب، عن حنش، عن علي. ورواه سعيد بن جبير، عن علي -رضي الله عنه-. قوله: "ولا تخير" إشارة إلى الزوج الأول، فإن بعضهم يقول: يخير بين المرأة والصداق وروى ذلك عمر. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الزوج إذا غاب عن امرأته وكانت غيبته منقطعة لا يسمع له خبر ولا يعلم له موضع، ففيه قولان:- قال في الجديد: ليس للزوجة أن تتزوج بحال، وإنما تصبر حتى تتيقن موته أو طلاقه. وروي ذلك عن علي أنه قال: هذه امرأة ابتليت فلتصبر حتى يأتيها يقين موته. وإليه ذهب ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والثوري، وأبو حنيفة.

وقال في القديم: أنها تصبر أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ثم تحل للأزواج. وروى ذلك عن عمر، وبه قال مالك. وأما بيان حكم الزوجية:- فعلى الجديد: أنها ترد إليه، فإن كان الثاني ما دخل بها فلا شيء عليه، وإن كان قد دخل بها؛ فرق بينهما وأعيدت ولا نفقة لها على واحد منهما، فإذا قضت العدة حلت للأول. وعلى القديم: لا سبيل للأول عليها سواء تزوجت أو لم تتزوج وبه قال مالك. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو، فإنها تنتظر أربع سنين ثم تنتظر أربعة أشهر وعشرًا". قال الشافعي: الحديث الثابت عن عمر وعثمان في امرأة المفقود مثل ما روي عن مالك وزيادة "فإذا تزوجت فقدم زوجها المفقود قبل أن يدخل بها زوجها الآخر كان أحق بها، وإن دخل بها زوجها الآخر فالأول المفقود بالخيار بين امرأته والمهر". قال ابن شهاب: وقضى بذلك عثمان بعد عمر.

الفصل الخامس في الأستبراء

الفصل الخامس في الأستبراء أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال "في أم الولد يتوفى عنها سيدها قال: تعتد بحيضة". هذا الحديث أخرجه مالك (¬1) في الموطأ إسنادًا ولفظًا. وقد روي عن القاسم بن محمد وغيره من فقهاء التابعين من أهل المدينة مثل ذلك. قال الشافعي: أصل الاستبراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عام سبي أوطاس، أن توطأ حامل حتى تضع أو توطأ حائل حتى تحيض. والذي ذهب إليه الشافعي: أن أم الولد إذا مات عنها سيدها أو أعتقها تعتد بحيضة. وروى ذلك عن عمر، وعائشة، وهو مذهب الشعبي ومالك وأحمد وأبي ثور وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة: تعتد ثلاثة أقراء. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: إذا مات عنها سيدها اعتدت أربعة أشهر وعشرًا. وروى هذا عن أحمد. فعلى مذهب الشافعي هل القرء الذي تعتد به طهر أو حيض؟ فيه خلاف:- قيل: إنه طهر لأن الأقراء: الأطهار في حق الحرة فكذلك الأمة. وقيل: إنه حيض لحديث سبي أوطاس، وخالف الحرة لأن الحيض تكرر في عدتها الأطهار، وها هنا لا يتكرر فاعتمد على الحيض. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 463/ 92).

الباب الثاني في أحكام المعتدات

الباب الثاني في أحكام المعتدات وفيه فصلان: الفصل الأول في السكنى والنفقة وفيه فرعان: الفرع إلأول في المطلقة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن يزيد -مولى الأسود بن سفيان، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن فاطمة بنت قيس "أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة -وهو غائب بالشام- فبعث إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: "ليس لك عليه نفقة". وأخبرنا الشافعي بالإسناد: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب بالشام- فذكرت الحديث وقال فيه: "فجاءت رسول الله فذكرت ذلك له، فقال: "ليس لك عليه نفقة" وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي، فاعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك". أخرج الرواية الأولى في كتاب "أحكام القرءان"، والثانية في كتاب "العدة" (¬1)، وهو طرف من حديث طويل صحيح أخرجه الجماعة إلا البخاري فقد أكثروا طرقه، وقد أخرج منه الشافعي طرفًا في كتاب اختلاف الحديث، لبيان جواز الخطبة على خطبة الغير، وقد ذكرنا طرق الأئمة لهذا الحديث في خطبة النكاح فلم نعدها هنا. ¬

_ (¬1) انظر الأم (5/ 235 - 236).

والذي ذهب إليه الشافعي: أن المطلقة المعتدة: إما أن تكون رجعية أو بائنا: فأما الرجعية: فلها النفقة والسكنى. وأما البائن: فلا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً ولها السكنى. وروي مثل ذلك عن عبد الله بن مسعود، وابن عمر، وعائشة، وبه قال الفقهاء السبعة، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد وروي عن ابن عباس. وجائز أنهما قالا: لا نفقة لها ولا سكنى. وإليه ذهب أحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة والثوري: لها النفقة والسكنى. قال الشافعي: قال لنا بعض من خالفنا في هذه المسألة: فإنكم تركتم حديث فاطمة هي قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سكنى لك ولا نفقة". فقلت له: ما تركنا من حديث فاطمة حرفًا، قال: إنا حدثنا عنها أنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سكنى لك ولا نفقة"، فقلنا: لكنا لم نحدث هذا عنها, ولو كان ما حدثتم عنها كما حدثتم كان على ما قلنا وعلى خلاف ما قلتم. قال: وكيف؟ قلت: أما حديثنا فصحيح على وجهه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نفقة لك عليه"، وأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ولو كان في حديثها إحلاله لها أن تعتد حيث شاءت، لم يحظر عليها أن تعتد حيث شاءت، فكيف أخرجها من بيت زوجها وأمرها أن تعتد في بيت غيره؟ قلت: لعلة لم تذكرها فاطمة كأنها استحيت من ذكرها وقد ذكرها غيرها. قال: وما هي؟ قلت: كان في لسانها ذرب فاستطالت على أحمائها فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد في بيت [ابن] (¬1) أم مكتوم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وقد تقدم قربيًا على الصواب كما أثبتناه.

عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن ابن عباس في قول الله -عز وجل-: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قال: أن تبذو على أهل زوجها، فإذا بذت فقد حل إخراجها. قد اختلف المفسرون في المراد بالفاحشة ها هنا: فقال قوم: المراد بها: الزنا، وقد تكرر ورود الفاحشة في القرءان العزيز وأريد بها الزنا، فيكون اخراجهن لإقامة الحد. وقيل: الفاحشة ها هنا: النشوز. وقال الشافعي في كتاب أحكام القرءان (1) في هذه الآية: فالفاحشة: أن تبدو على أهل زوجها فيأتي من ذلك ما يخاف الشقاق بينها وبينهم، فإذا فعلت حد لهم إخراجها وكان عليهم أن ينزلوها منزلاً غيره. وإنما ذهب الشافعي في هذا أخذًا بتأويل ابن عباس المذكور في الحديث. والبذاء -بالمد-: الفحش في الكلام، بذا يبذ فهو بذيء والمرأة بذئة، ويقال فيه: أبذاء. والمراد به في الحديث: الشتم وطول اللسان على أهل الزوج، فحينئذ يخرجونها إلى غير ذلك المنزل من أقرب المنازل إليه. ويريد بأهل الزوج: أقاربه وألزامه، هذا إذا كانوا معها في دار واحدة. وقوله: "مبينة" من البيان الظهور، وقد اختلف القراء فيها:- فقرأها قوم: بكسر الياء أي أنها هي التي بينت أمرها وأظهرته. وقرأها قوم: بفتح الياء أي أنها مظهرة موضحة. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم وسليمان ابن يسار أنه سمعها تذكر أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق ابنة عبد الرحمن ابن الحكم البتة فانتقلها عبد الرحمن بن الحكم، فأرسلت عائشة إلى مروان بن

الحكم وهو أمير المدينة فقالت: اتق الله يا مروان، واردد المرأة إلى بيتها. فقال مروان -في حديث سليمان-: إن عبد الرحمن غلبني، وقال مروان -في حديث القاسم-: وما بلغك شأن فاطمة بنت قيس، فقالت عائشة: لا عليك ألا تذكر شأن فاطمة، فقال: إن كان إنما بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود وأخرجه مالك في الموطأ. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن إسماعيل، عن مالك وزاد: ابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه فقال: عابت عائشة ذلك أشد العيب، وقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها فأرخص لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما مسلم (¬2): فأخرج منه أطرافًا منها: إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن عن سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. ومنها: عن محمد بن المثنى، عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أن بيه. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. قوله: البتة: يريد طلاقًا بائنًا. قوله: "فانتقلها" يريد نقلها من بيت زوجها قبل انقضاء عدتها. وقوله: "واردد المرأة إلى بيتها" وإنما هو بيت زوجها، وإنما جاز ذلك لأنه مختص بها إلى أن تقضي عدتها, ولأنه كان بيتها الذي تسكنه قبل الطلاق، فاستصحبت الحال في تسميته بيتها مجازًا. وقوله: "غلبني عليها" يعني أن أباها عبد الرحمن أخرجها ولم أقدر أن ¬

_ (¬1) البخاري (5325، 5326). (¬2) مسلم (1481/ 54). (¬3) أبو دواد (2295).

أمنعه. وهذا اعتراف من مروان بأن الحكم ما قالت عائشة، وإنما الغلبة منعته من إقراره الحق مقره. وقوله: "أو ما بلغك شأن فاطمة" يريد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تنتقل من بيت زوجها وهي في عدتها. وهذا القول من مروان اعتراض على ما ذهبت إليه عائشة، ولذلك قالت له في الجواب: "لا عليك أن لا يذكر شأن فاطمة" يعني أن حديثها ليس حجة في هذا الباب، لأنها رخص لها الخروج لعذر. وقد ذكرنا ذلك قبل هذا الحديث. وأخبرنا الشافعي قال: أخبرني عبد العزيز بن محمد بن عمرو، عن محمد ابن إبراهيم أن عائشة كانت تقول: "اتق الله يا فاطمة فقد علمت في أي شيء كان ذلك". لما روت فاطمة بنت قيس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، فكانت عائشة تنكر ذلك عليها وتقول لها: "اتق الله" أي خافيه واخشيه فيما تروينه وتحدثين به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الناس يأخذون به وقد علمت لأي سبب أمرك أن تعتدي في بيت ابن أم مكتوم، وذلك السبب: طول لسانها فلا تمسكه عن أحد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى، عن عمرو بن ميمون بن مهران، عن أبيه قال: "قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها فدفعت إلى سعيد بن المسيب فسألته عن المبتوتة؟ فقال: "تعتد في بيت زوجها". فقلت: فأين حديث فاطمة بنت قيس؟ فقال: هاه ووصف أنه تغيظ وقال: فتنت فاطمة الناس، وكان للسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها، فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم". هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1) مختصرًا بمعناه. ¬

_ (¬1) أبو داود (2296).

قوله: "فدفعت إلى سعيد بن المسيب" أي رددت إليه ودللت عليه. والمبتوتة: يريد به المطلقة الثلاث. وقوله: "فأين حديث فاطمة! " يريد حديث انتقالها إلى بيت ابن أم مكتوم. وقوله: "هاه" كلمة يقولها الحزين والمتأوه والمغتاظ والمتأسف، وها هنا أراد المغتاظ القوله: إنه تغيظ، وتغيظ واغتاظ بمعنىً. وقوله: "فتنت الناس" أي جعلتهم مختلفين واوقعتهم في فتنة بقولها لإن منهم من أخذ به، ومنهم من لم يأخذ به. والذرابة في اللسان: الحدة وسرعة الكلام والجواب والمراد: أنها كانت لا تمسك لسانها عن شيء تقوله فيتأذى به غيرها، ولذلك قال: فاستطالت على أحمائها أي أهل زوجها وأهل الزوج كلهم أحماء والأحماء جمع الحم، والاستطالة في القول مجاوزة الحد والسُّبة في الخطاب. وقد ذكرنا أن المعتدة إذا تأذى بها زوجها قولاً أو فعلاً، جاز أن تنتقل عن مسكنها وتُحَوَّل إلى غيره. قال الشافعي: فعائشة ومروان وابن المسيب يعرفون أن حديث فاطمة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم كما حدثت، ويذهبون إلى أن ذلك إنما كان للشر، ويريد ابن المسيب تبيين استطالتها على أحمائها، ويكره لها ابن المسيب وغيره أنها كتمت في حديثها السبب خوفاً أن يسمع ذلك سامع، فيرى أن للمبتوتة أن تعتد حيث شاءت. قال: وسنته - صلى الله عليه وسلم - في فاطمة تدل على أن ما تأول ابن عباس في قول الله -عز وجل-: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬1) هو البذاء على أهل زوجها كما تأول إن شاء الله، ولم يقل لها النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتدى حيث شئت ولكنه حصنها ¬

_ (¬1) النساء: [19].

حيث رضي إذا كان زوجها غائبًا ولم يكن له وكيل بتحصينها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع أن بنت سعيد بن زيد كانت عند عبد الله فطلقها البتة، فخرجت فأنكر ذلك عليها ابن عمر. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1) وقال: وكانت تحت عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو المذكور في حديث الشافعي ومن لا يعرف هذا يظن أن عبد الله المذكور في الحديث هو عبد الله بن عمر لأجل ذكر نافع وليس هو إنما هو عبد الله بن عمرو بن عثمان. وهذا الحديث مؤكدًا لما تقدم ذكره من الحديث في لزوم المعتدة مسكنها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله أنه سمعه يقول: نفقة المطلقة ما لم تحرم، فإذا حرمت فمتاع بالمعروف. قوله: "ما لم تحرم" أي ما لم تحرم على الزوج وهي: إما التي لا تملك رجعتها أو المطلقة ثلاثًا، فإن المطلقة ثلاثًا تحرم عليه نكاحها إلا أن تنكح زوجًا غيره، والتي لا تملك رجعتها تحرم عليه إلا بعقد جديد. والمعنى في الحديث: أن النفقة إنما تجب للمطلقة التي تملك رجعتها. وأما البائن والمبتوتة: فلا نفقة لها. وقوله: فمتاع بالمعروف" يريد به المتعة، وقد تقدم في كتاب الصداق القول في المتعة، ولمن هي، ومقدارها، والتقدير في الكلام فإذا حرمت فلها متاع بالمعروف أي من غير تقتير ولا إسراف. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال: قال عطاء: ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 453/ 64).

"ليست الحبلى المبتوتة منه في شيء، إلا أنه ينفق عليها من أجل الحبل، فإذا كانت غير حبلى فلا نفقة لها. قد تقدم فيما سبق أن المطلقة البائن إذا كانت حائلًا فلا نفقة لها وإنما هي السكنى، وإذا كانت حاملًا فلها النفقة، وهل النفقة للحمل أو للحامل؟ فيه قولان:- أحدهما: للحمل, لأنها لو كانت حائلًا لم تجب لها نفقة، فإذا رضعت سقطت نفقتها. الثاني: أنها للحامل لأنها تجب مع اليسار والإعسار. وقوله: "ليست الحبلى المبتوتة منه في شيء" أي ليست من الإنفاق في شيء إلا أن ينفق عليها من أجل الحبل، وهذا يعضد ما تقدم ذكره في حديث جابر، إلا أنه موجه على القولين، فجائز أن تكون النفقة للحمل، وأن تكون للحامل لأنه قال: إلا أن ينفق عليها من أجل الحبل، فجعل الحبل علة في الإنفاق عليها, ولم يصرح أن النفقة للحمل أو للحامل، فجاز صرفه إلى الجهتين. ***

الفرع الثاني المتوفى عنها زوجها

الفرع الثاني في المتوفى عنها زوجها أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب أن الفريعة بنت مالك بن سنان أخبرتها: "أنها جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدْرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه، فسألت أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة -أو في المسجد- دعاني -أو أمرني- فدعيت له، فقال: "كيف قلت؟ " فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا، فلما كان عثمان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك الحديث فأخبرته فأتبعه وقضى به. هذا حديث صحيح، أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. فأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬3): عن (¬4) محمد بن العلاء، عن ابن [إدريس و] (¬5) شعبة وابن جريج ويحيى بن سعيد ومحمد بن إسحاق، عن سعد بن إسحاق. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 461 - 462 رقم 87). (¬2) أبو داود (2300). (¬3) الترمذي (1204) أخرجه من طريق الأنصاري عن معن عن مالك به وقال: حسن صحيح. (¬4) سقط ذكر إسناد الترمذي من الأصل، وهذا الإسناد هو إسناد النسائي (6/ 199 - 200). (¬5) سقط من الأصل والمثبت من النسائي.

وفي أخرى: عن قتيبة، عن حماد، عن سعد بن إسحاق. أعبد: جمع قلة لعبد. وطرف القدوم -بتخفيف الدال- تلة جبل بالحجاز قرب المدينة. وقولها: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي. هو رجوع من الغيبة إلى ضمير المتكلم، لأنه قال في الأول: "جاءت تسأله أن ترجع إلى أهلها، فكان إخبار من الراوي عنها ثم عدل عن الإخبار فجعل كأن المخبر هي. وقوله: "حتى يبلغ الكتاب أجله" يريد مدة العدة التي فرضها الله تعالى وقدرها وهي أربعة أشهر وعشرًا, ولم يرد بالكتاب كتاب الله العزيز، إنما أراد ما كتبه الله أي فرضه على النساء من العدة. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "الرسالة" (¬1) مستدلًا به على قبول خبر الواحد، ولذلك قال الشافعي في عقبه: وعثمان في علمه وإمامته يقبل خبر امرأة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويصير إلى اتباعه ولم يتهمها ويقضي به بين المهاجرين والأنصار. قال الشافعي. قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (¬2). الآية. فكان فرض الزوجة أن يوصي لها الزوج بمتاع إلى الحول، ولم أحفظ عن أحد خلافًا في أن المتاع: النفقة والكسوة والسكنى إلى الحول، وثبت لها السكنى فقال: "غير إخراج" ثم قال: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ في مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} فدل القرءان على أنهن إن خرجن فلا جناح على الأزواج لأنهن تركن ما فرض لهن، ودل الكتاب إذا كانت السكنى لها فرضا فتركت حقها؛ ولم يجعل الله على الزوج حرجًا من ترك حقه غير ممنوع لم ¬

_ (¬1) الرسالة (). (¬2) [البقرة: 240].

يخرج من الحق عليه، ثم حفظت عن من أرضى من أهل العلم أن النفقة للمتوفى عنها وكسوتها حولًا منسوخة بآية الميراث، قال الله -عز وجل-: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (¬1) إلى قوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} (¬2)، قال: ولم أعلم مخالفًا فيما وصفت من نسخ نفقة المتوفى عنها وكسوتها سنة وأقل من سنة، ثم احتمل سكناها إذا كان مذكورًا مع نفقتها أنه يقع عليه اسم المتاع أن يكون منسوخًا في السنة وأقل منها، كما كانت النفقة والكسوة منسوخين في السنة وأقل، واحتمل أن يكون نسخت في السنة وأثبتت في عدة المتوفى عنها حتى تنقضي، وأن تكون داخلة في جملة المعتدات فإن الله تعالى يقول في المطلقات: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (¬3) فلما فرض من المعتدة من الطلاق السكنى فكانت المعقدة للمتوفى عنها في معناها؛ احتملت أن يجعل السكنى لأنها في معنى المعتدات؛ فإن كان هكذا فالسكنى لها في الكتاب منصوص أو في معنى من نص لها السكنى، وإن لم يكن هكذا ففرض السكنى لها في السنة. وقال في القول الثاني في كتاب "العدد": الاختيار لورثته أن يسكنوها فقد ملكوا كان دونه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "امكثي في بيتك" يحتمل ما لم تخرجي منه إن كان لغيرك لأنها قد وضعت أن المنزل ليس لزوجها. وتفصيل المذهب: أن المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها في عدتها، سواء كانت حاملاً أو حائلاً، وروي عن قوم من الصحابة أن لها النفقة. وأما السكنى: فإنها واجبة لها في إحدى القولين، وروي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وأم سلمة. وبه قال مالك. والقول الثاني: لا سكنى لها، وروي عن علي، وابن عباس، وعائشة، وبه قال أبو حنيفة. ¬

_ (¬1) النساء: [12]. (¬2) النساء: [12]. (¬3) الطلاق: [1].

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: "ليس للمتوفى عنها زوجها نفقة، حسبها الميراث. هذا الحديث محقق ما سبق ذكره من أن المتوفى عنها لا نفقة وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس. وقوله: حسبها الميراث: أي كافيها وقانعها، تقول: حسبي وحسبك درهم. والله أعلم. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن هشيم بإسناده عن علي بن أبي طالب قال: "الحامل المتوفى لها النفقة من جميع المال". وقال فيما بلغه عن ابن أبي ليلى، عن الشعبي, عن عبد الله في الحامل المتوفى عنها لها النفقة من جميع لمال. قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا. أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف علي وعبد الله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه أنه قال "في المرأة بالبادية يتوفى عنها زوجها أنها: تنتوى حيث ينتوى أهلها". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن هشام، عن أبيه وعن عبيد الله بن عبد الله مثله أو مثل معناه لا يخالفه. البادية: اسم فاعله من بدت تبدو فهي بادية إذا أتت البادية، وهي البرية والصحراء ولم تتم في المدن والقرى، فاسم الفاعل والاسم سواء في اللفظ، والبدو: خلاف الحضر، وقد جاء في كتاب "السنن" (¬1) المرأة البدوية منسوبة إلى البدو. ¬

_ (¬1) المعرفة (11/ 215).

والانتواء: الانتقال والتحول من دار إلى غيرها حكمًا، كما تنتوى الأعراب في باديتها من أرض إلى أرض. والذي ذهب إليه الشافعي: أن البدوية التي توفي عنها زوجها تعتد في بيتها الذي كانت فيه ومسكنها الذي كانت تسكنه, لأنه موضع إقامتها كمنزل الحضرية، وإنما يفترقان في أن منازل أهل البادية تنتقل دون منازل أهل الحضر، فإن انتقلوا قبل انقضاء العدة جميعهم انتقلت معهم، فإن انتقل بعضهم وفي الباقين أهلها وعندهم منعة وقوة فلا تنتقل، وإن انتقل أهلها مع المتنقلين وبقي في الباقين قوة ومنعة فالخيار لها في الإقامة والانتقال. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله أنه كان يقول: "لا يصلح للمرأة أن تبيت ليلة واحدة إذا كانت في عدة وفاة أو طلاق إلا في بيتها". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1) عن نافع، عن ابن عمر كان يقول: لا تبيت المتوفى عنها زوجها ولا المبتوتة إلا في بيتها. قوله: "لا يصلح" يريد لا يجوز: فإن ما ليس يصلح فهو فاسد. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المعتدة إن كانت عن وفاة وأرادت أن تخرج نهارًا لحاجة لها، جاز أن تخرج ثم تعود إلى بيتها ليلاً، وإن كانت مطقلة رجعية: فلا يجوز لها إلا بإذن زوجها لأنها في حكم الزوجات. وإن كانت بائنًا: ففيه قولان: قال في القديم: لا يجوز لها الخروج. وقال في الجديد: يجوز لها ويستحب أن لا تخرج. قال الشافعي: وقد ذهب بعض من ينسب إلى العلم في المطلقة: أنها لا تخرج ليلاً ولا نهارًا بحال إلا من عذر، ولو فعلت هذا كان أحب إلى، وإنما ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 463/ 90).

منعنا من إيجاب هذا عليها مع احتمال الآية، ما ذهبنا إليه أن عبد المجيد أخبرنا قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرنا أبو الزبير، عن جابر قال: طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلا لها فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بلى، فجدي نخلك فلعلك أن تصدقي أو تفعلي معروفا". قال الشافعي: نخل الأنصار قريب من منازلهم، والجدار إنما يكون نهارًا. وقال: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال: حدثنا إسماعيل بن كثير، عن مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد فآم نساؤهم وكن متجاورات في دار فجئن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلن: يا رسول الله! إنا نستوحش بالليل فنبيت عند إحدانا فإذا أصبحنا تبددنا إلى بيوتنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، فإذا أردتن النوم فلتأت كل امرأة إلى بيتها". ***

الفصل الثاني من الباب الثاني في الأحداد

الفصل الثاني من الباب الثاني في الإحداد أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك [عن] (¬1) عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن محمد بن عمرو بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة قال: قالت زينب: "دخلت على أم حبيبة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- حين توفي أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة -خلوق أو غيره- فدهنت منه جارية ثم مسحت بعارضيها ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها عبد الله ابن جحش، فدعت بطيب فمست منه ثم قالت: ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة وعشرًا". قالت زينب: وسمعت أمي -أم سلمة- تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، ابنتي توفي عنها [زوجها] وقد اشتكت عينها. أفنكحلها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا" -مرتين أو ثلاثًا- كل ذلك يقول: "لا" ثم قال: "إنما [هي] (¬2) أربعة أشهر وعشرًا، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول". ¬

_ (¬1) الأم (5/ 230). (¬2) من المسند (204).

قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشًا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبًا ولا شيئًا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة: حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتُعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. قال الشافعي: الحفش: البيت الصغير الذليل من الشعر والبناء وغيره. والقبض (¬1): تأخذ من الدابة موضعًا بأطراف أصابعها، والقبض تأخذ بالكف كلها. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك (¬2): فأخرجه في الموطأ إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن إسماعيل وعبد الله بن يوسف، عن مالك وعن مسدد، عن يحيى، عن شعبة، عن حميد. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن ابن المثنى عن غندر. وعن أبي بكر والناقد، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، عن حميد. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن الأنصاري، عن معن، عن مالك ولم يذكر سؤال حميد لزينب. ¬

_ (¬1) في الأصل كتب فوقها: [كذا] قلت: والصواب بالمهملة [القبض] وكذا في المسند وانظر اللسان مادة: قبض. (¬2) الموطأ (2/ 101/465/ 102, 103). (¬3) البخاري (5334 , 5335, 5336 , 5337). (¬4) مسلم (1486, 1487 ,1488, 1489). (¬5) أبو داود (2299). (¬6) الترمذي (1195 , 1196, 1197) وقال: حسن صحيح.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. الخلوق: ضرب من الطيب مجموع من أخلاط زعفران وقصب الذريرة وقرنفل كذا يقوله الأطباء، وقيل غير ذلك. والإحداد: حزن المرأة على زوجها وترك الزينة ولبس ثياب الحزن وفيه لغتان: أحدت تحد فهي محد وحدت تحد فهي حاد ويرى أنه من الحد المنع لأنها منعت من الزينة. والحفش: قد جاء تفسيره في الحديث، وسمي حفشًا لضيقه. وقيل: الحفش الدرج فشبه به لصغره. وقد جاء في بعض الروايات عن مالك أن الحفش: الخص. وقوله: "فتفتض به" قد فسره الشافعي في الحديث أنه بالصاد المهملة وبالضاد المعجمة وبالقاف والباء الموحدة، والمروي في الحديث إنما هو: تفتض بالفاء والتاء المعجمة بنقطتين من فوق. قال الأزهري: قال القتيبي: سألت الحجازين عن الافتضاض؟ فذكروا أن المعتدة كانت لا تغتسل ولا تمس ماء ولا تقلم ظفرا ولا تنتف عن وجهها شعرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر ثم تفتض بطائر فتمسح به قبلها وتلبده فلا يكاد يعيش. قال: وهو من فضضت الشيء إذا كسرته، كأنها في عدة من زوجها فتكسر ما كانت فيه وتخرج منه الدابة. قال الأزهري: وقد روى الشافعي هذا الحديث غير أنه روى هذا الحرف بعينه ¬

_ (¬1) النسائي (16/ 201 - 202).

بالقاف والصاد وقد شرحه في آخر الحديث. وقال الأخفش: فتقتص به من القصة أي فتطهر به، شبه ذلك بالفضة لصفائها. وقوله: "ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره" أي تعاود الذي كانت أو امتنعت منه لأجل العدة. وإنما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك: لأن هذا كان من عادة العرب أن يفعلوه فجاء الإِسلام بالتخفيف والرخصة، وجعل العدة أربعة أشهر وعشرًا ولم يحرم عليها ما كانت محرمة على نفسها، ومع هذا جاءته تريد أن تكحل ابنتها، فقال لها ذلك إنكارًا عليها وتوبيخًا وتقريعًا وإلزامًا لها بالحجة واتباع السنة. والذي ذهب إليه الشافعي أن إحداد المعتدات على ثلاثة أقسام: الأول: معتدة يجب عليها الإحداد وهي المتوفى عنها زوجها. وحكي عن الحسن البصري: أنه لا إحداد عليها. والثاني: معتدة لا يجب الإحداد عليها قولًا واحداً وهي الرجعية وأم الولد. والثالث: معتدة مختلف في إحدادها وهي المطلقة البائن. وقال في القديم: عليها الإحداد. وهو قول ابن المسيب وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال في الجديد: لا إحداد عليها. وبه قال ربيعة ومالك والرواية الأخرى عن أحمد. والإحداد يتعلق بالبدن، وهو أن تجتنب كل ما يجلب الأبصار إليها ويدعو إلى مباشرتها، من تحسين وتطيب ودهن مُطيب وكحل أسود وغير ذلك وجميع أنواع الزينة.

وأما المسكن: فلا يتعلق بالاحداد فلها أن تسكن مسكنًا حسنًا وغير حسن، ولا يحرم عليها تقليم الأظفار وأخذ العانة. وأما الثياب: فالتي لم تغير بصبغ: يجوز لبسها وإن كانت رفيعة، سواء كانت من قطن أو كتان أو إبريسم. وإن كانت مغيرة بصبغ للزينة: كالأحمر والأصفر ونحوهما لم يجز لبسها، وإن لم يكن للزينة: كالكحل وما يقصد به احتمال الوسخ أو إظهار الحزن فيجوز، وإن كان صبغ غزله ثم نسج فالمذهب أنه لا يجوز نص عليه في الأم. وحكى عن أبي إسحاق أنه قال: يجوز. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن عائشة وحفصة -أو عائشة أو حفصة- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا". هذا حديث صحيح، أخرجه مالك في الموطأ ومسلم والنسائي. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد وقال: عن عائشة وحفصة معًا. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وقتيبة وابن جريج، عن الليث، عن نافع، عن صفية مثل الشافعي. وفي أخرى له: عن حفصة وحدها. وفي أخرى: عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن عبد الوهاب، عن نافع، ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 467 رقم 104) (¬2) مسلم (1490). (¬3) النسائي (6/ 189).

عن صفية، عن حفصة. وفي أخرى له: عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمها. وفي أخرى قال: وهي أم سلمة. وهذا الحديث مؤكد لما سبق يبين الإحداد الواجب عن المتوفى عنها زوجها ومن عدا الزوج من الأقارب لا يحل لها الإحداد عليه كالأب والأخ والولد وغيرهم. وأخرج الشافعي قال: أخبرنا مالك أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم سلمة وهي حاد على أبي سلمة فقال: "ما هذا يا أم سلمة؟ " فقالت: يا رسول الله، إنما هو صبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعليه بالليل وامتسحيه بالنهار". قال الشافعي: الصبر يصفر فيكون زينة وليس بطيب، فأذن لها أن تجعله بالليل حيث لا يرى وتمسحه بالنهار. وقد روي هذا الحديث موصولا عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن المغيرة بن الضحاك، عن أم حكيم بنت أسيد، عن أمها: أنها أرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فذكرت لها ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ***

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع وفيه فصلان الفصل الأول فيمن يحرم بالرضاع أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، هذا رجل يستأذن في بيتك، فقال رسول الله: "أراه فلانا" لعم حفصة من الرضاعة، فقلت: يا رسول الله! لو كان فلان حيًا -لعمها من الرضاعة- يدخل علي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن سليمان بن يسار، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرج الرواية معًا إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرج الأولى عن إسماعيل. وأما أبو داود (¬3): فأخرج الثانية عن القعنبي. وأما الترمذي (¬4): فأخرج الثانية عن إسحاق بن موسى، عن معن. وأما النسائي (¬5): فأخرج الأولى عن هارون بن عبد الله عن معن. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 469/ 1). (¬2) البخاري (2646). (¬3) أبو داود (2055). (¬4) الترمذي (1147) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (6/ 102).

وأخرج الثانية (¬1): عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى. هؤلاء كلهم عن مالك. وأخرج الثانية أيضًا عن محمد بن عبيد، عن علي بن هاشم، عن عبيد الله ابن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة، عن عائشة. وقال في أخرى له: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". الرَضاع -بفتح الراء-: مصدر رضع يرضع رضاعًا ورضاعة. وهذا أخي من الرضاعة، وهو رضيعي. ومعنى قوله: "يحرم من هذا ما يحرم من هذا" استواؤهما في معنى التحريم يريد كلما حرم من جانب الولادة كالأم والبنت والأخت فإنه يحرم ما كان مثله من الرضاعة، كالمرضعة ومن رضع على لبنه ابنًا كان أو بنتًا وأختهما وكذلك هو في جانب الولادة مثله في جانب الرضاعة ولهذا قال في رواية النسائي: "ما يحرم من النسب" مكان الولادة لأن لفظ النسب أعم من لفظ الولادة وأوضح. قال الشافعي: قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلى قوله: {اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬2) فاحتمل إذ ذكر الله تحريم الأم والأخت من الرضاعة فأقامهما في التحريم مقام الأم والأخت والنسب؛ أن تكون الرضاعة كلها تقوم مقام النسب فما حرم بالنسب حرم بالرضاعة مثله، وبهذا نقول بدلالة [سنة] (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقياس على القرءان. والله أعلم. ¬

_ (¬1) النسائي (6/ 98 - 99). (¬2) [النساء: 23]. (¬3) من الأم (5/ 23).

أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: جاء عمي أفلح وذكر الحديث. قال الربيع: زعم الشافعي قال: ما أحد أشد خلافًا لأهل المدينة من مالك. هكذا أخرج هذا الطرف في كتاب اختلافه مع مالك، وقد أخرجه البيهقي عن الشافعي بالإسناد المذكور، فإما قال: جاء عمي -أظنه قال: من الرضاعة- ابن أبي القعيس يستأذن علي بعد ما ضرب الحجاب فلم آذن له، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته، فقال: "إنه عمك فليلج عليك". والحديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرجه عن ابن شهاب بالإسناد: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها -وهو عمها من الرضاعة- بعد أن نزل الحجاب. وذكر باقي الحديث. وفي أخرى له عن هشام، عن أبيه نحوه، وقالت في آخره: يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وعن أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان، وزاد فيه قالت: إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن محمد بن كثير العبدي، عن سفيان، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 2/469). (¬2) البخاري (5103). (¬3) مسلم (1445). (¬4) أبو داود (2057).

هشام بالإسناد وذكر نحوه. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن الحسن بن علي، عن ابن نمير، عن هشام. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن هارون بن عبد الله، عن معن، عن مالك وعن عبد الجبار بن العلاء، عن سفيان. والذي ذهب إليه الشافعي: أن لبن الفحل يحرم كما تحرم ولادة الأب، وذلك أن المرأة إذا أرضعت صبية فإن زوجها يحرم على الصبية لأنه أبوها وأولاده أخوتها، لأن اللبن مشترك بن الزوج والزوجة إذ هو لولدها المخلوق من مائهما. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وبه قال عطاء، وطاوس، والحسن، وسليمان بن يسار، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق. وقال ابن عمر وابن الزبير: لا يحرم لبن الفحل والصبية المرتضعة مباحة لزوج المرضعة. وبه قال داود، وابن علية لأن اللبن عندهم للمرأة دون الرجل. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة قال: سمعت ابن جدعان قال: سمعت ابن المسيب يحدث عن علي بن أبي طالب أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لك في بنت عمك حمزة فإنها أجمل فتاة في قريش؟ فقال: "أما علمت أن حمزة أخي من الرضاعة وأن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم والنسائي. أما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب ومحمد ابن العلاء جميعًا عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، وعن عثمان بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، عن جرير. ¬

_ (¬1) الترمذي (1148) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (6/ 103). (¬3) مسلم (1446).

وعن ابن نمير عن أبيه، وعن أبي بكر المقدمي، عن ابن مهدي، عن سفيان كلهم عن الأعمش. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن هناد بن السري، عن أبي معاوية، عن الأعمش بإسناد مسلم وهذا لفظهما قال: قلت: يا رسول الله، ما لك تتوق (¬2) في قريش وتدعنا؟ قال: "وعندك أحد"؟ قلتُ: نعم؛ بنت حمزة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة". قوله: "هل لك" أي هل لك فيها رأي ورغبة، يقال: هل لك في هذا الأمر، وهل لك إلى هذا الأمر، وفي كتاب الله عز وجل: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (¬3). وهذا اللفظ وإن كان استفهامًا فإنه عرض. والفتاة من النساء: الشابة. فقال له: "أما علمت أن حمزة أخي من الرضاعة" فذكر هذا اللفظ جوابًا لقوله، وعرضه عليه ابنة حمزة، ثم ذكره في موضع الاستفهام وهو تقرير وتثبيت للحال المذكور في نفس المخاطب، وإثبات للشيء من أوجه طرقه, لأن الجواب إذا كان السائل عالمًا به ومقرًا بصحته كان أثبت وآكد، ثم لم يكفه في الجواب هذا المعنى الذي هو في معنى التقرير والتثبيت، وأنه أورده على سبيل التعليل للمنع من نكاحها بأخوة الرضاعة حتى علل الجواب وصرح بالسبب الذي لا يجوز مع وجوده نكاحها وهو الرضاع، فقال: "وإن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب" فأفصح ذكر التحريم للسبب الرضاعي الذي لا يجوز مع وجوده النكاح، وهاتان الجملتان مقدمتان: جزئية وكلية:- فالجزئية: قوله: "إنها ابنة أخي من الرضاعة". ¬

_ (¬1) النسائي (6/ 99). (¬2) في الأصل [لا تتوق] وزيادة [لا]، مقحمة وليست عندهما. (¬3) النازعات: [18].

والكلية: قوله: "إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب". فيحصل من مجموعهما أنها لا تحل لي. قوله: "تتوق" بتائين معجمتين بنقطتين من فوق والواو مشددة من: تاق إلى الشيء يتوق: إذا مال إليه ورغب فيه: يريد ما لك تميل إلى نساء قريش وترغب في نكاحهن وتدعنا معشر أهلك. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنة حمزة مثل حديث سفيان. هذا الحديث هكذا جاء في المسند ولم يذكر متنه وإنما قال: مثل حديث سفيان، يعني حديث علي بن أبي طالب المذكور قبل هذا. وقد أخرج البخاري (¬1) ومسلم (¬2) والنسائي (¬3) عن ابن عباس حديث ابنة حمزة بمعناه. وأخرج مسلم (¬4) حديث ابنة حمزة عن أم سلمة بمعناه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عمرو بن الشريد أن ابن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتان فأرضعت إحداهما غلامًا وأرضعت الأخرى جارية، فقيل له: هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال: لا، اللقاح واحد. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬5) إسنادًا ولفظًا. وأخرجه الترمذي (¬6): عن الأنصاري، عن معن، عن مالك وفيه: عن رجل له جاريتان. ¬

_ (¬1) البخاري (5100). (¬2) مسلم (1447). (¬3) النسائي (6/ 100). (¬4) مسلم (1448). (¬5) الموطأ (2/ 470/ 5). (¬6) الترمذي (1149) وقال: وهذا الأصل في هذا الباب وهو قول أحمد وإسحاق.

وهذا الحديث يعد في أفراد مالك وقد رواه عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج ومالك، عن الزهري. اللقاح: ماء الفحل ها هنا. وقوله: اللقاح واحد: فيه أن ماء الفحل الذي حملت منه واحد، واللبان الذي أرضعت به كل واحدة منهما كان أصله ماء الفحل يعني زوجها أو سيدها. ويحتمل أن يكون اللقاح في هذا الحديث يعني الإلقاح، يقال: ألقح يلقح إلقاحًا ولقاحًا كما يقال: أعطى يعطي إعطاء وعطاء. وأصل اللقاح في الإبل ثم استعير للنساء، والذي أراد ابن عباس: أن الغلام والجارية أخوان من الأب لأن زوج المرضعين واحد. وقوله: لا. قد كان كافيًا في الجواب ولكنه ذكر علة النفي وعدم الجواز، وهي قوله: اللقاح واحد لتكون فتواه مقبولة لسماع مستندها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: "يا رسول الله! هل لك في أختي بنت أبي سفيان؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فاعل ماذا"؟ قلت: تنكحها. قال: "أختك" قالت: نعم. قال: "أو تحبين ذلك"؟ قالت: نعم، لست بمخلية لك وأحب من شركني في خير أختي، قال: "فإنها لا تحل لي" قالت: فقلت: والله لقد أخبرت أنك تخطب بنت أبي سلمة قال: "بنت أم سلمة"؟ قالت: نعم. قال: "فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأباها ثويبة فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن".

هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن عروة. [و] (2) عن ابن يوسف وابن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، [و] (2) عن الحميدي، عن سفيان، عن هشام. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام. وعن سويد بن سعيد، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة. وعن الناقد، عن الأسود بن عامر، عن زهير كلاهما عن هشام. وأما أبو دواد (¬4): فأخرجه عن عبد الله بن محمد النفيلي، عن زهير، عن هشام. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن عمران بن بكار، عن أبي اليمان مثل البخاري. قوله: "فاعل ماذا" أي ما أنا فاعل بها، ففاعل خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنا فاعل ماذا. وقوله: "فلست لك بمخلية" أي لست بمنفردة ولا متروكة لدوام الخلوة بك، وهذا البناء إنما يكون من أخليت، تقول: أخلت المرأة فهي مخلية، فأما من خلوت فلا وقد جاء أخليت بمعنى خلوت وشركته في هذا الأمر بالكسر أشركه بالفتح إذا كنت له شريكًا فيه. والربيب والربيبة: ولد زوجة الرجل من غيره، فعيل بمعنى مفعول أي: ¬

_ (1) البخاري (5101 , 5107, 5372 , 5106). (¬2) هنا بداية إسناد آخر ولم يشر في الأصل إلى التحويل، فلذا أضفت حرف [و]. (¬3) مسلم (1449). (¬4) أبو داود (2056). (¬5) النسائي (6/ 94).

مربوب ومربوبة، وكان الزوج هو الذي ربهما. والحجر: حجر الإنسان من الثوب وغيره، وفائدة ذكر الحجر أنهن في حضن الزوج أو بصدد احتضانه وفي حكم التقلب في حجره. وقوله: "أرضعتني وأباها ثويبة" يعني أبا سلمة، فثويبة مولاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث يتضمن أحكامًا منها: الجمع بين الأختين والربائب وبنات الأخت من الرضاعة. أما تحريم الجمع بين الأختين: فقد سبق في كتاب النكاح. وأما الربيبة: فإذا تزوج امرأة ولم يدخل بها حرم عليه نكاح بنتها تحريم جمع، فإذا دخل بالأم حرمت الربيبة على التأبيد، وسواء في ذلك بنت امرأته لبطنها أو بنت بنتها أو بنت ابنها سفلتا. وقال داود: إنما تحرم عليه إذا كانت في حجره وكفالته، فإن لم تكن في حجره فلا تحرم عليه ولو دخل بأمها. وبه قال علي -كرم الله وجهه-. وقال زيد: يحرم عليه إذا دخل بأمها أو مات. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة أن أمه زينب بنت أبي سلمة أرضعتها أسماء بنت أبي بكر امرأة الزبير بن العوام، فقالت زينب بنت أبي سلمة وكان الزبير يدخل علي وأنا أمتشط فيأخذ بقرن من قرون رأسي فيقول: اقبلي عليَّ فتحدثيني أراه أنه أبي وما ولد فهم إخوتي، ثم إن عبد الله بن الزبير أرسل قبل الحرة، فخطب إليَّ أم كلثوم ابنتي على حمزة بن الزبير، وكان حمزة للكلبية، فقالت لرسوله: وهل تحل له؟ إنما هي ابنة أخيه! فأرسل إليَّ عبد الله: إنما أردت بهذا المنع لما قبلك ليس لك بأخ أبا، وما ولدت أسماء فهم إخوتك وما كان من ولد الزبير

من غير أسماء فليسوا لك بإخوة فأرسلي فاسألي عن هذا؟ فأرسلت فسألت وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون وأمهات المؤمنين؟ فقالوا لها: إن الرضاعة [قبل الرجل] (¬1) لا تحرم شيئًا، فأنكحتها أباه فلم تزل عنده حتى هلك. القرن من قرون الرأس: يريد ضفير من ضفائر الشعر أو خصلة من خصله. وقوله: أقبلي علي أي اجعلي وجهك مما يلي وجهي، هذا هو الأصل ثم استعمل فيمن يجعل همته وذهنه مصروفًا إلى من يخاطبه. وقوله: إنما أردت بهذا المنع لما قبلك يريد امتناعها من إجابته إلى تزويج ابنتها بأخيه. والمتوافرون: الكثيرون من الشيء الوافر. وهذا الحديث حجة لما حكيناه من مذهب عبد الله بن الزبير أن لبن الفحل لا يحرم. وقد أخرج الشافعي فيه آثارًا وإن كان مذهبه ومذهب الأئمة المجتهدين على خلاف ذلك، فمن تلك الأحاديث:- أخرج عن عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أنه كان يقول: كان يدخل على عائشة من أرضعه بنات أبي بكر، ولا يدخل عليها من أرضعه نساء بني أبي بكر. وأخرج عن عبد العزيز بن محمد، عن سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن ابن عباس كان لا يرى الرضاعة من قبل الرجل تحرم شيئًا. قال عبد العزيز: وذلك كان رأي ربيعة، وأنكر حديث عمرو بن الشريد، عن ابن عباس في اللقاح واحد، قال: حديث رجل من أهل الطائف وما رأيت ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل وفي المعرفة (11/ 252): [من قبل الرجال].

من فقهاء المدينة أحدًا يشك في هذا إلا أنه روي عن الزهري خلافهم فما التفتوا إليه وهؤلاء أكثر وأعلم. قال الشافعي: فقلت له -يعني بعض أصحاب مالك: أتجد بالمدينة من علم الخاصة شيئًا؛ أولى أن يكون عامًا ظاهرًا عند أكثرهم من ترك تحريم لبن الفحل، وقد تركناه وتركته ومن يحتج بقوله إذ كنا نجد في الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالدلالة على ما نقول، وهذا إنما أورده على طريق الإلزام في تركهم في بعض المواضع الخبر الواحد، بقول بعض أهل المدينة وتركهم ما قال الأكثر من المدنيين: أن لبن الفحل لا يحرم بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة. قال الشافعي: وإنما لم يختلف بنعمة الله قول في أنه لا يذهب إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء إلى أن أدعه أكثر ولا أقل.

الفصل الثاني فيما يحرم من الرضاع

الفصل الثاني فيما يحرم من الرضاع أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة -أم المؤمنين- أنها قالت: كان فيما أنزل الله من القرءان عشر رضعات معلومات يُحرِّمن، ثم نسخن بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهنَّ مما يقرأ من القرءان. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة أنها كانت تقول: نزل القرءان بعشر رضعات معلومات يحرمن، ثم صرن إلى خمس يحرمن. فكان لا يدخل على عائشة إلا من استكمل خمس رضعات. أخرج الأولى في كتاب "اختلافه مع مالك"، والثانية في كتاب "الرضاع" (¬1). هذا حديث صحيح، أخرجه الجماعة إلا البخاري. فأما مالك (¬2): فأخرج الأولى إسنادًا ولفظًا. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود (¬4): فعن القعنبي. وأما الترمذي (¬5): فعن إسحاق بن موسى، عن معن. وأما النسائي (¬6): فعن هارون بن عبد الله، عن معن كلهم عن مالك. ¬

_ (¬1) الأم (5/ 26). (¬2) الموطأ (2/ 17/474). (¬3) مسلم (1452). (¬4) أبو داود (2602). (¬5) الترمذي (1150). (¬6) النسائي (6/ 100).

قولها: "كان فيما أنزل الله من القرءان عشر رضعات معلومات يحرمن" يجوز أن يكون بهذا لفظ القرءان وأن يكون الملفظ لها حكت به معنى لفظ القرءان. ومعنى قولها: فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مما يقرأ من القرءان تريد به قرب عهد النسخ من وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صار بعض من لم يبلغه النسخ يقرأه على الرسم الأول، وفيه دليل على جواز نسخ التلاوة وبقاء الحكم مثل: آية الرجم نسخ لفظها وبقي حكمها. إلا أن القرءان لا يثبت بخبر الواحد فلم يجز أن يكتب ذلك في المصحف، والأحكام تثبت بخبر الواحد فجاز أن يقع العمل به، فآية الرجم نسخ لفظها وبقي حكمها كما قلنا. وأما آية الرضاع: فنسخ لفظها من التلاوة ونسخ حكمها من عشر رضعات إلى خمس. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الرضاع الذي يتعلق به التحريم خمس رضعات. وروى ذلك عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير، وبه قال عطاء وطاوس وإسحاق وأحمد في أصح الروايات عنه. وقال علي وابن عباس وابن عمر: يحرم القليل والكثير. وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث. وقال دواد وأبو ثور وابن المنذر: يحرم الثلاث. وحكى عن قوم: أن التحريم لا يقع بأقل من عشر رضعات. وهو قول شاذ لا اعتبار به، ولا يحرم الخمس إلا أن تكون متفرقة في الحولين، فإن مدة الرضاع المحرم إنما هي الحولان وبه قال عمر، وابن عمر، وابن

مسعود، وابن عباس. وإليه ذهب الشافعي وابن شبرمة والأوزاعي ومالك في إحدى الروايات عنه، وروى عنه إن شهرًا جاز، وروى شهرين. وبه قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: حرم الرضاع في ثلاثين شهرًا. وروى عن عائشة أنها قالت: يحرم أبدًا. وبه قال داود أخذًا بحديث سهلة بنت سهيل. والجماعة يجعلون إرضاع سالم حكمًا خالصًا له. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع أن سالم بن عبد الله أخبره أن عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- أرسلت به وهو يرضع إلى أختها أم كلثوم فأرضعته ثلاث رضعات ثم مرضت فلم ترضعه غير ثلاث رضعات فلم أكن أدخل على عائشة من أجل أن أم كلثوم لم تكمل لي عشر رضعات. هذا الحديث أخرجه مالك (¬1) في الموطأ بالإسناد. قوله: "فلم أكن أدخل" بعد قوله: "أرسلت به" فجاء في الأول بضمير الغائب ثم عاد إلى ضمير المتكلم، فعل ذلك على عادة تفنن العرب في كلامها يخرج تارة من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن المتكلم إلى الغائب، ومن الغائب إلى المتكلم، وهذا فاش في العربية وكثير ما جاء في كلام الله العزيز، وهو باب من أبواب العربية لطيف محبوب عندهم، لما فيه من إيقاظ السامع وتنبيه الغافل بالخروج من لفظ إلى لفظ؛ والانتقال من معنى إلى معنى. قد جاء في هذا الحديث أن سالمًا قال: لم تكمل لي عشر رضعات. والشافعي إنما اشترط خمسًا، فإن كانوا عائشة قد أمرت به أن يرضع عشرًا فذلك من باب الاحتياط؛ أن يأتي بأكثر من القدر الواجب عملًا بما كان قبل النسخ. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 470/ 7).

قال الشافعي: أمرت به عائشة يرضع عشرًا لأنها أكثر الرضاع فلم يتم له خمس فلم يدخل عليها, ولعل سالمًا يكون ذهب عليه قول عائشة في العشر رضعات فنسخن [بخمس] (¬1) معلومات، فحدث عنها بما علم من أنه أرضع ثلاثاً فلم يكن يدخل عليها، وإنما أخذنا بخمس رضعات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكاية عائشة أنهن يحرمن وأنهن من القرءان. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد أنها أخبرته أن حفصة -أم المؤمنين- أرسلت بعاصم بن عبد الله بن سعد إلى أختها فاطمة بنت عمر ترضعه عشر رضعات ليدخل عليها وهو صغير يرضع، ففعلت فكان يدخل عليها. هذا الحديث أخرجه مالك (¬2) في الموطأ هكذا. والقول في حكم العشر ما قاله الشافعي في حديث سالم بن عبد الله؛ من أن عائشة صرحت بنسخ العشر إلى الخمس ولا يجوز العمل بغير ذلك. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن هشام، عن أبية، عن عبد الله بن الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الرضعة ولا الرضعتان". هذا حديث صحيح أخرجه النسائي (¬3) عن شعيب بن يوسف، عن يحيى، عن هشام. ¬

_ (¬1) الأم (5/ 27). (¬2) الموطأ (2/ 471/ 8). (¬3) النسائي (6/ 101).

وأخرجه في رواية أخرى: عن زياد بن أيوب، عن ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحرم المصة ولا المصتان". فجعله في هذه الرواية من مسند عائشة، وحديث عائشة هذا قد أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن إسماعيل. وعن سويد بن سعيد، عن معتمر بن سليمان كلاهما عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن ابن الزبير، عن عائشة. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن إسماعيل، عن أيوب بإسناد مسلم. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمد بن [عبد الأعلى] (¬4) الصنعاني، عن معتمر بن سليمان، عن أيوب. واتفاق هؤلاء الأئمة على رفع الحديث عن عبد الله بن الزبير إلى عائشة، يدل على أن رواية الشافعي، ورواية النسائي الأولى مرسلة (¬5). قال الربيع: فقلت للشافعي: أسمع ابن الزبير من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم. وحفظ عنه، وكان يوم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن تسع سنين. المصة: المرة الواحدة من المص، تقول: مصصت الشيء -بالكسر- أمصه -بالفتح- مصا، وامتصصته مثله. ¬

_ (¬1) مسلم (1450). (¬2) أبو داود (2063). (¬3) الترمذي (1150). (¬4) في الأصل [على] وهو تصحيف والمثبت من الترمذي. (¬5) قال الترمذي عقبه (3/ 447): .... روى غير واحد هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .... والصحيح عند أهل لحديث حديث ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: الصحيح عن ابن الزبير عن عائشة وانظر التلخيص الحبير (4/ 5).

وقد جاء في بعض الروايات: المصة والمصتان، وفي بعضها: ولا المصتان. وإثبات "لا" آكد في النفي من حذفها لأنه مع الحذف يوهم اللفظ أن يكون المراد به ثلاث مصات، أي لا حرم الجمع بين ثلاث مصات وإن كان في هذا الإبهام بعد. فأما مع إثباتا "لا" فلا يتصور هذا الوهم، ألا ترى أن أبا عبيد، وأبا ثور، وداود، وابن المنذر قالوا: إنما يحرم ثلاث رضعات أخذًا بدليل الخطاب من قوله: "لا تحرم المصة والمصتان"، فكان ما زاد على المصتين هو الثلاث بخلاف حكم ما دونها. وصريح خطاب هذا الحديث يأبى ذلك فإنه صريح في النفي. قال الشافعي: فدل ما حكت عائشة في الكتاب وما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان". على أن الرضاع لا يحرم به على أقل اسم الرضاع، ولم يكن أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة. وقد قال بعض من مضى بما حكت عائشة في الكتاب ثم في السنة والكفاية بما حكت في الكتاب ثم في السنة. أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الحجاج ابن الحجاج -أظنه- عن أبي هريرة قال: لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء. هكذا جاء في الحديث في المسند موقوفًا عليه، ورواه محمد بن إسحاق، عن إبراهيم بن عقبة قال: كان عروة بن الزبير يحدث عن الحجاج بن الحجاج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحرم من الرضاعة المصة ولا المصتان، ولا يحرم إلا ما فتق الأمعاء من اللبن". قوله: "إلا ما فتق الأمعاء" يريد أوسعها أي ما كان من الرضاع في الصغر،

فإن اللبن غذاء جسم الصغير وعليه ينمى لحمه وعظمه, لأنه في سن النماء والزيادة. وهذا ذهاب منه إلى أن الرضاع لا يحرم إلا ما كان في الصغر. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالمًا خمس رضعات يحرم بلبنها، ففعلت فكانت تراه ابنا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير؟ فقال: أخبرني عروة بن الزبير أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة -وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قد كان شهد بدرًا، وكان قد تبنى سالمًا الذي يقال له: سالم مولى أبي حذيفة كما تبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة، وأنكح أبو حذيفة سالمًا وهو يرى أنه ابنه، فأنكحه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهي يومئذ من المهاجرات الأول وهي يومئذ من أفضل أيامى قريش، فلما أنزل الله -عز وجل- في زيد بن حارثة ما أنزل: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ} (¬1) رد كل واحد من أولئك تبنى إلى أبيه، فإن لم يعلم أباه رده إلى الموالي. فجاءت سهلة بنت سهيل -وهي امرأة أبي حذيفة وهي من بني عامر بن لؤي- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، كنا نرى سالمًا ولدا وكان يدخل علي وأنا فُضل وليس لنا إلا بيت واحد، فما ترى في شأنه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها" ففعلت فكأنه تراه ابنًا من الرضاعة. فأخذت بذلك عائشة فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال، فكأنه تأمر أم كلثوم وبنات أختها يرضعن من أحببت أن يدخل عليها من الرجال والنساء، وأبى سائر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس وقلن: ما نرى الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلة بنت سهيل إلا رخصة في ¬

_ (¬1) الأحزاب: [5].

سالم وحده من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد. فعلى هذا من الخبر كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في رضاعة الكبير. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالمًا خمس رضعات فيحرم بهن. أخرج الروايتين الأولتين في كتاب الرضاع (¬1)، وأخرج الرواية الثالثة في كتاب خلافه مع مالك، والحديث في نفسه حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد وذكر الرواية الطولى هكذا مرسلاً. وأما البخاري (¬3): فأخرجه في كتاب الغزوات في غزوة بدر، عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن أبا حذيفة كان ممن شهد بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر نحوه إلى قوله: فجاءت سهلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: فذكر الحديث ولم يذكر لفظه. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن عمرو الناقد وابن أبي عمر، عن سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة قالت: جاءت سهلة بنت سهيل فقالت: يا رسول الله، إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم فقال: "أرضعيه" فقالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "قد علمت أنه رجل كبير". وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن أحمد بن صالح، عن عنبسة، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة وأم سلمة أن أبا حذيفة بن عتبة وذكر نحو الرواية الطولى وقال في آخرها: وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث. ¬

_ (¬1) الأم (5/ 28). (¬2) الموطأ (2/ 472/ 12). (¬3) البخاري (4000). (¬4) مسلم (1453). (¬5) أبو داود (2061).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عن سفيان بإسناد مسلم مثله. وأخرج عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن يونس ومالك، عن ابن شهاب، عن عروة قال: أبى سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدخلن عليهن بتلك الرضعة أحدًا. وذكر الرواية الطولى نحوها. قوله: تبنى سالما: أي اتخذه ابنا. وأيامى: جمع أيم، وهي المرأة التي لا زوج لها، وقد تقدم ذلك مستقصىً وقوله: "هو أقسط عند الله" أي أعدل، تقول: أقسط الرجل: إذا عدل، والقسط الاسم وقسط إذا جار. وامرأة فضل: إذا كان عليها ثوب واحد، وهو الذي تلبسه في بيتها وذلك الثوب مفضل. وقوله: فيحرم بلبنها: إن كانت اللفظة بياء تحتها نقطتان وحاء ساكنة وراء مضمومة على أنه فعل مضارع من يوم يحرم فهو من الحرمة: أي يحرم عليه نكاحها، والمعنى فيه ظاهر وهو أشبه بالحديث، وإن كانت اللفظة كما قيل: بتاء معجمة من فوق وحاء مفتوحة وراء مشددة على أنه فعل ماض فالمعنى صار له منها حرمة كحرمة الأهل، تقول: تحرم الرجل بصحبة فلان وتحرم بزادة، ومنه قولهم: فلان ذو محرم من فلانة إذا لم تحل له نكاحها والأول أشبه. قال الشافعي في سياق هذا الحديث: وهذا -والله أعلم- في سالم -مولى أبي حذيفة- خاصة، فإن قال قائل: ما دل على ما وصفت؟ فذكرت حديث سالم -مولى أبي حذيفة- عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أمر] (¬2) امرأة أبي حذيفة أن ترضعه خمس رضعات يحرم بهن، وقالت أم سلمة في الحديث: ¬

_ (¬1) النسائي (6/ 104 - 106). (¬2) من الأم (5/ 28).

وكان ذلك في سالم خاصة. وهذا حديث أم سلمة لم يجئ في المسند ولا في رواية الربيع، وإنما ذكر المزني في المختصر الكبير: أن الشافعي حين عورض بهذا قال: ما جعلناه خاصًا بهذا الخبر ولكن أخبرني الثقة، عن معمر، عن الزهري، عن أبي عبيدة بن عبد الله -يعني ابن زمعة- عن زينب بنت أم سلمة عن أمها أم سلمة أنها ذكرت حديث سالم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت في الحديث: كان رخصة لسالم خاصة، قال الشافعي: فأخذنا بهذا يقينًا لا ظنًا. وإنما قال الشافعي هذا لأن حديث مالك مرسل، وقد أسنده غيره إلى عائشة وفيه حكايه عروة، عن أم سلمة وسائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أنه لم يقطع بالرخصة أنها لسالم خاصة في الحكاية عنهن، وإنما قال: وقلن لعائشة: والله ما نرى لعلها رخصة لسالم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون الناس. وهو في الرواية التي رواها عن أم سلمة مقطوع بأنها له خاصة. قال الشافعي: وإذا كان هذا لسالم خاصة فالخاص لا يكون إلا مخرجًا من الحكم العام، فلا يجوز إلا أن يكون رضاع الكبير لا يحرم. وقد أخرج الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن دينار قال: جاء رجل إلى ابن عمر يسأله عن رضاعة الكبير؟ فقال ابن عمر: جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب فقال: كانت لي وليدة وكنت أطؤها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت: دونك فقد والله أرضعتها. فقال عمر: أوجعها وائت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغير. وأخرج أيضًا عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: لا رضاع إلا لمن أرضع في الصغر. وأخرج عن مالك، عن يحيى بن سعيد أن أبا موسى قال في رضاعة الكبير: ما أراها إلا تحرم. فقال ابن مسعود: انظر ما تفتي به الرجل؟ فقال أبو موسى: فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود: لا رضاعة إلا ما كان في الحولين. فقال أبو

موسى: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم. هذا الحديث أخرجه مالك (¬1) في الموطأ واختصره أبو داود (¬2). وقد أخرج الشافعي عن عبد المجيد، عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن عقبة بن الحارث أخبره أنه نكح أم يحيى بنت أبي إهاب فقالت أمة سوداء: قد أرضعتكما. قال: فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فأعرض، فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: "وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬3) وأبو داود (¬4) والترمذي (¬5) والنسائي (¬6). قال الشافعي: إعراضه - صلى الله عليه وسلم - عنه يشبه أن يكون كره له أن يقيم معها، وقد قيل إنها أخته من الرضاعة. وهذا معنى ما قلنا من أن يتركها ورعًا لا حكمًا. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 473/ 14). (¬2) أبو داود (2059). (¬3) البخاري (5104). (¬4) أبو داود (3603). (¬5) الترمذي (1151). وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (6/ 109).

كتاب النفقات

كتاب النفقات وفيه ثلاث فصول الفصل الأول في نفقة الزوجية أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن هندًا بنت عتبة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح وليس لي منه إلا ما يُدخِل عليَّ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أنها حدثته أن هندًا أم معاوية جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وأنه ما يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرًا وهو لا يعلم، فهل عليَّ في ذلك من شيء؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن محمد بن مقاتل، عن عبد الله، عن يونس، عن الزهري، عن عروة. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن هشام. ¬

_ (¬1) البخاري (5359). (¬2) مسلم (1714).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن هشام. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن هشام بن عروة. الشح: أشد البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، شح يشح -بالكسر- شحًا فهو شحيح والاسم الشح. وقيل فيه أيضًا: شح يشح -بالفتح- والأول القياس. وقوله: إلا ما [يدخل] (¬3) علي: أي ما يحضره إلى بيتي مما يمكنني من التصرف فيه، ويأذن لي في إنفاقه. وقوله: "بالمعروف" يريد: من غير تقتير ولا إسراف بل بالعدل وقدر الكفاية. والولد: يقع على الواحد والجمع. والباء في "المعروف" يجوز أن تتعلق "بخذي"، وأن تتعلق "بيكفيك". وقد جاء في رواية البخاري "مسيك" بدل "شحيح" بمعنى بخيل وهو بفتح الميم والتخفيف بوزن شحيح، وكثيرًا ما يدور بين أهل الحديث، وقراءة هذه اللفظة فيروونها بكسر الميم وتشديد السين بوزن سكين، والذي في كتب اللغة الأول. وقد جمع هذا الحديث فوائد من الفقه والأدب: منها وجوب نفقة النساء على أزواجهن، ووجوب نفقة الأولاد على الآباء دون الأمهات، وأن للمرأة أن تخرج من بيتها لحاجة، وأن تستفتى العلماء فيما يعرض لها من إلمام، وأن ¬

_ (¬1) أبو داود (3532). (¬2) النسائي (8/ 246 - 247). (¬3) في الأصل [يريد] وقد تقدم في الرواتين على الصواب.

صوتها ليس بعورة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع كلامها وأجابها، وأن النفقة إنما تجب بقدر الكفاية، وأن للإنسان أن يذكر ما في غيرها من عيب عند الحاجة؛ فإنها ذكرت أبا سفيان بالشح ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم -, وأن للحاكم أن يحكم بعلمه فإنه لم يطالبها بالبينة فيما ادعته من ذلك إذا كان قد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بينهما من الزوجية، وأن بخل أبي سفيان قد كان بينهم كالظاهر، وأنه يجوز القضاء على الغائب وإن كان في البلد، وأن للمرأة أن تلي نفقة ولدها، وأن من له حق وغيره يمنعه منه يجوز له أن يأخذه بغير علمه، وأنه يجوز أن يكون من جنس حقه ومن غير جنسه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفصل ذلك عليها؛ ولأنه معلوم أن منزل الرجل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق التي تلزمه لهم؛ ثم أطلق إذنها في أخذ كفاية أولادها من ماله. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "أحكام القرءان" (¬1)، وقال: قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (¬2)، قال: وقول الله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} يدل -والله أعلم- على أن على الزوج نفقة امرأته، وقوله: {أَلَّا تَعُولُوا} أي لا يكثر من تعولون إذا اقتصر المرء على واحدة وإن أباح له أكثر منها. وهذا التفسير الذي ذكره الشافعي قد رواه الليث بن سعد، عن سعيد بن أبي [هلال] (¬3) وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، وهذه اللفظة مما اعتدها حَسَدَةُ الشافعي -رضي الله عنه- وأخذوها عليه. قالوا: لأن من كثر عياله إنما يقال فيه: أعال يعول، قالوا: ومعنى الآية: ذلك أدنى أن لا تعولوا، أي اختيار المرأة الواحدة والتسري أقرب من أن لا تميلوا، من قولهم: عال الميزان ¬

_ (¬1) أحكام القرآن (1/ 179 - 180) وانظر المعرفة (11/ 275 - 276). (¬2) [النساء: 3]. (¬3) في الأصل [وهب] وهو تصحيف والتصويب من المعرفة (11/ 276).

عولًا إذا مال، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. وقال بعضهم: هو من عول الفريضة إذا كثرت سهامها فقصرت عن الوفاء بحقوق ذوي الميراث، فيكون المعنى في قوله: ذلك أدنى أن لا تعولوا، أي لا يلزمكم من النفقة فتقصر عن الوفاء بجميع حقوق نسائكم. والذي أخذ على الشافعي فيما ذهب إليه وجهه أن يجعل من قولك: عال الرجل عياله يعولهم، كقولك: مانهم يمونهم لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم وفي ذلك ما يبعث على المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب. وكلام مثل الشافعي -وهو من أعلام العلم، وأئمة الشرع ورؤس المجتهدين- حقيق بالحمل على الصحة والسداد، وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا، وكفى بشهرته دليل على رسوخه في علم كلام العرب، فإنه أعلى قدرًا من أن يخفى عليه مثل هذا, ولكن للعلماء طرق وأساليب فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات، وقد قوى يعيلوا وهو مما يشيد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده. قال بعض الأئمة: سألت أبا عمر -غلام ثعلب الذي لم تر عيناي مثله- عن حروف أخذت على الشافعي -رحمه الله- مثل: ماء مالح، وذلك أدنى أن لا تعولوا، وقوله: أينفى أن يكون كذا وكذا. فقال لي: كلام الشافعي صحيح، سمعت أبا العباس ثعلبًا يقول: يأخذون على الشافغي وهو من بيت اللغة يجب أن يؤخذ عنه، وقد أخذ عنه اللغة جماعة من العلماء منهم الأصمعي. قال الأزهري: وروى أحمد بن يحيى، عن سلمة، عن الفراء أن الكسائي قال: أعال الرجل إذا كثر عياله، وقال: ومن العرب الفصحاء من يقول: قال:

يعول إذا كثر عياله، وهذا يؤيد ما ذهب إليه الشافعي لأن الكسائي لا يحكي عن العرب إلا ما حفظه وضبطه. قال الأزهري: وقول الشافعي نفسه حجة لأنه عربي اللسان فصيح اللهجة، وقد اعترض عليه بعض المتحذلقين فخطأه وقد عجل ولم يتثبت فيها. قال: ولا يجوز للحضري أن يعجل إلى إنكار ما لا يعرفه من كلام العرب. أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، عندي دينار؟ قال: "أنفقه على نفسك" قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على ولدك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على أهلك". قال: عندي آخر؟ قال: "أنفقه على خادمك" فقال: عندي آخر؟ قال: "أنت أعلم". ثم قال سعيد: ثم يقول أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث: يقول ولدك: أنفق عليّ إلى من تكلني؟ تقول زوجتك: أنفق علي أو طلقني، يقول خادمك: أنفق علي أو بعني. هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان بالإسناد قال: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة فقال رجل: عندي دينار وذكر الحديث وفيه: "على زوجتك أو زوجك"، وفيه: "أنت أبصر" وفيه: "تصدق" بدل: "أنفق" في المواضع كلها ولم يذكر كلام أبي هريرة. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن عمرو بن علي، ومحمد بن مثنى، عن يحيى عن ابن عجلان مثل أبي داود. ¬

_ (¬1) أبو داود (1691). (¬2) النسائي (5/ 62).

قوله: "عندي دينار" تفسير ما جاء في رواية أبي داود وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصدقة فقال رجل: عندي دينار أي أتصدق بدينار؟ فقال: "أنفقه على نفسك" لأن نفقته على نفسه أهم ما يجب عليه أن يقدمه بقوله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عدة: "بدأ بنفسك ثم بمن تعول"، فلما قال له: عندي آخر؟ أمره أن ينفقه على ولده، والآخر على زوجته، والآخر على خادمه, لأن هؤلاء تجب نفقتهم عليه، ولما كان الولد أهم عنده من الزوجة والخادم قدمه في الذكر، ولأن الإنسان ميله إلى ولده أكثر من غيره، ولأن الولد إنما تحب نفقته على أبيه إذا كان طفلًا وغير بالغ؛ أو هو عاجز عن الكسب بزمانة أو جنون، وعن ما يقوته وإذا ضيعه ولم ينفق عليه هلك لعدم من ينفق عليه، فالرحمة له أكثر والشفقة عليه أوفر، بخلاف الزوجة والخادم فإنهما أقدر من الولد الصغير والعاجز، ولأن نفقة الولد إذا فأتت سقطت بخلاف الزوجة فإنها لا تسقط ولها المطالبة بها, ولأنها إذا لم ينفق عليها وفرق بينهما كان لها من ينفق عليها من ذي رحم أو زوج تستجده. وأما الخادم: فإنه بعرضة الكسب والقدرة على الطلب، فلذلك قدم الزوجة عليه وأخره، ولأنها عاجزة بتعلقها بزوجها ومنعه إياها, ولأنه يبايع عليه إذا عجز عن نفقته فتكون نفقته على من يبتاعه. وقوله: "أنت أعلم، وأنت أبصر" أي أعلم وأبصر بشأنك وبإخراج مالك في أبواب البر فإن شئت تصدقت وإن شئت أمسكت. وكلام أبي هريرة في آخر الحديث فيه بيان لما ذكرناه من معنى الترتيب. والذي ذهب إليه الشافعي: أن النفقة تستحق بثلاثة أسباب:- بالزوجية، والقرابة، وملك اليمين، هذه الثلاثة مذكورة في هذا الحديث، ثم بين الأئمة اختلاف في فرع هذه الأصول الثلاثة مع اجتماعهم على وجوبها لهم.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته؟ قال: يفرق بينهما، قال أبو الزناد: قلت: سنة؟ قال سعيد: سُنَّة. قال الشافعي: والذي يشبه قول سعيد: سنة أن يكون سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "يفرق بينهما" يريد إذا طلبت المرأة فسخ النكاح بإعسار النفقة، فأما إذا لم تطلب فلا. وقوله: "قلت: سنة" يريد أن أبا الزناد استفهم ابن المسيب عن هذا الحكم؛ هل هو سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فلذلك قال له سعيد في الجواب: سنة. وفي هذا السؤال وجوابه مبتدآن محذوفان التقدير: هل هذا سنة قال: هو سنة. أي نعم هو سنة، سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , لأن السنة لا تطلق إلا على ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قيس عليه. وقد استدل الشافعي في هذا الحكم بقول أبي هريرة والذي قبل هذا. قال الشافعي: قال أبو هريرة: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الزوج بالنفقة على أهله، قال أبو هريرة: تقول امرأتك: أنفق عليَّ أو طلقني، ويقول خادمك: أنفق علي أو بعني. قال البيهقي: وقد روى ابن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قول ابن المسيب، والذي ذهب إليه الشافعي هذا لفظه قال: لما كان فرض الله على الزوج نفقة المرأة ومضت بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والآثار والاستدلال بالسنة؛ لم يكن له -والله أعلم- حبسها على نفسه يستمتع بها -و [منعها] (¬1) عن غيره تستغني به- وهو مانع لها فرضًا عليه عاجزًا عن تأديته؛ وكان حبس النفقة والكسوة يأتي على نفسها فتموت جوعًا وعطشًا وعريًا فتلزمه الفرقة بينهما. ¬

_ (¬1) من الأم (5/ 107).

وقد اختلف في نقل مذهبه، والذي جاء في كتاب "الشامل" لابن الصباغ، و"المهذب" لأبي إسحاق، و"المستظهري" للشاشي -رحمهم الله-: أن لها الفسخ قولاً واحدًا. وروي عن عمر وعلي وأبي هريرة. وبه قال ابن المسيب، والحسن وحماد بن أبي سليمان، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق. والذي جاء في كتاب الغزالي، وفي كتاب أبي محمد الجويني، و"التهذيب" للبغوي أن في المسألة قولين:- أحدهما: لها الفسخ وهو الأظهر. والثاني: لا يثبت لها الفسخ. وبه قال الزهري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر [أن عمر] (¬1) بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا. هذا الحديث استدل به الشافعي على ما ذهب إليه من ثبوت الفسخ بالإعسار وطلب نفقة ما انقضى من الزمان الذي لم تأخذ فيه نفقته, لأن عمر ألزمهم بذلك، فالشافعي جعل فقد النفقة أشد من فقد الجماع بالعنّة، لأن لها مطالبته بالنفقة وليس لها مطالبته بالجماع، فإذا عجز عن إصابة امرأته أُجِّل سنة ثم يفرق بينهما إن شاءت. قال الشافعي: إن كانت الحجة في العنة الرواية عن عمر أنه قضى بذلك، فالرواية عنه بالتفريق بالإعسار أثبت, لأن خبر العنين عن عمر منقطع وخبر ¬

_ (¬1) من الأم (5/ 107).

الفرقة عنه موصول، فكيف رددت هذا ولم يخالفه فيه أحد علمته من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبلت قضاءه في العنين، وأنت تزعم أن عليًّا -كرم الله وجهه- يخالفه؟!. وقوله: "أن يأخذوهم بأن ينفقوا" أي يلزمهم بالنفقة تقول: أخذته بهذا الأمر أي ألزمته به كأنك قد أخذته إليك وصار في يدك وأن أخذك إياه كان بسبب هذا الأمر، أي ألزمته به كأنك قد أخذته إليك وصار في يدك. وقوله: "بأن ينفقوا أو يطلقوا" كلام جازم جامع، فإما أن ينفق عليها، وإما أن يطلقها لا ثالث لهما، اللهم إلا أن يقال: إن الطلاق إنما يكون مع طلب الفسخ. وكذلك قوله: "فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا عن أزواجهم" لما كان عندهم في المسألة حكمان لم يسعه الاقتصار على الأول لأنه كان يكون ذلك داعيًا إلى إسقاط نفقة الأيام الفائتة فجمع في كتابه بين الحكمين عدلاً منه -والله أعلم.

الفصل الثاني • في نفقة الأقارب

الفصل الثاني في نفقة الأقارب أخبرنا الشافعي: اْخبرنا سفيان، عن محمد بن المنكدر أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي مالاً وعيالاً، وإن لأبي مالًا وعيالاً، وإنه يريد أن يأخذ مالي فيطعمه عياله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنت ومالك لأبيك". هذا الحديث هكذا أخرجه الشافعي مرسلاً، وقد جاء هذا المعنى عند أبي داود (¬1) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه عن محمد بن المنهال، عن يزيد بن زريع، عن حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده وذكر نحوه. قوله: "أنت ومالك لأبيك" يريد أن الأب تجب له النفقة على الابن في ماله، فإن لم يكن للولد مال وكان له كسب لزمه أن يكسب وينفق عليه. وقد اختلف في صفة الأب الذي تجب له النفقة فقال الشافعي: إنما تجب للأب الفقير الزَّمِن العاجز عن الكسب، فإن كان له مال أو كان صحيح البدن فلا نفقة له. وقال الفقهاء: نفقة الوالدين واجبة على الولد. قال الخطابي: ولا أعلم أحدًا منهم اشترط فيها الزمانة كما اشترطها الشافعي. وقد استدل الشافعي بحديث هند المقدم ذكره على وجوب نفقة الولد على أبيه دون أمه، وبقول الله -عز وجل-: {وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2) وبقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (¬3). ¬

_ (¬1) أبو داود (3530). (¬2) [البقرة: 233]. (¬3) [الطلاق: 6].

الفصل الثالث في نفقة الماليك

الفصل الثالث في نفقة المماليك أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عجلان أبي محمد، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "للملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬1) عن أبي الطاهر، [عن ابن وهب] (¬2) عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج. وأخرجه مالك في الموطأ (¬3) قال: بلغني أن أبا هريرة قال: وذكر الحديث. قوله: "للملوك" بلام الملك دليل على وجوب النفقة له واستحقاقه لها، والجار والمجرور في موضع الخبر، والمبتدأ طعامه وكسوته عطف عليه، التقدير: طعام المملوك وكسوته يملكها. وإنما قدم الخبر لأنه آكد في المعنى، ولأنه في هذا المقام بصدد تمليك المملوك الطعام والكسوة واستحقاقه؛ فقدم ما هو أعنى به وعنده أهم. وقوله: "بالمعروف" يريد لا إسراف فيه ولا تقتير بل وسطًا من الحال. وقوله: "ولا يكلف من العمل ما لا يطيق" قال الشافعي: يعني -والله أعلم- إلا ما يطيق الدوام عليه ليس ما يطيقه يومًا أو يومين أو ثلاثة أو نحو ذلك ثم يعجز عنه فيما بقي. والمذهب: أن نفقة المماليك واجبة، فإن كان العبد صغيرًا أو غير مكتسب ¬

_ (¬1) مسلم (1662). (¬2) من مسلم. (¬3) الموطأ (2/ 747 رقم 40).

لكبره أو زمانته كانوا النفقة في مال سيده، وإن كان مكتسبًا: فإن شاء السيد أنفق عليه من ماله وأخذ جميع كسبه، وإن شاء جعل نفقته في كسبه لأن كسبه مال لسيده، وإن عجز كسبه عن نفقته تمم سيده نفقته من ماله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن إبراهيم بن أبي خداش، عن عتبة بن أبي لهب أنه سمع ابن عباس يقول في المملوكين: "أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون". وهذا الحديث مؤكد لحديث أبي هريرة وفيه زيادة فإن ذلك قال له طعامه وكسوته بالمعروف، وهذا زادهم تخصيصًا وإكرامًا فقال: أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، وذلك على سبيل الاستحباب لا الواجب، فإن الواجب هو طعامه وكسوته بالمعروف من قوت أهل البلد وغالب كسوتهم. قال الشافعي: وكان حال الناس فيما مضى ضيقًا وكان كثيرًا من اتسعت حاله مقتصدًا، ومعاشهم ومعاش رقيقهم متقاربًا، فلما من لم يكن حاله هكذا وخالف معاش السلف والعرب؛ فأكل رقيق الطعام ولبس جيد الثياب فلو آسى رقيقه كان أكرم وأحسن وإن لم يفعل فله مال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - نفقته وكسوته بالمعروف والمعروف عندنا المعروف لمثله في بلده الذي يكون به. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كفى أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه فليدعه وليجلسه، وإن أبى فليروغ له لقمة فيناوله إياها أو يعطه إياها" أو كلمة هذا معناها. هذا الحديث صحيح أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن حجاج وحفص بن عمر، عن شعبة، عن ¬

_ (¬1) البخاري (2557، 5460).

محمد بن زياد , عن أبي هريرة وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن داود بن قيس، عن موسى بن يسار، عن أبي هريرة وقال فيه: فإن كان الطعام مشفوها فليضع في يده منه أُكلة أو أُكلتين. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن نصر بن علي، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن أبي هريرة. قوله: "إذا كفى أحدكم خادمه" من باب: ضرب زيدًا غلامه من تقديم المفعول على الفاعل ووصل ضمير المفعول بالفاعل وهذا جائز في العربية. فأما تقديم الفاعل والضمير متصل به على المفعول في هذا المثال ونحوه فلا يجوز لا يقول: ضرب غلامُه زيدا. و"طعامه" منصوب لأنه مفعول ثان لكفى. و"حره ودخانه" منصوبان على البدل من طعامه بدل الاشتمال لأن إصلاح الطعام يشمل الحر والدخان. وقوله: "فليروغ له لقمة" يقال: روغ طعامه ومرغه: إذا روَّاه دسما. والمشفوه: الطعام القليل وأصله من الماء المشفوه وهو الذي كثرت عليه الشفاه فقل لكثرة الشاربين. وقيل: هو من قولهم: رجل مشفوه إذا كثر الناس سؤاله حتى نفد ما عنده. والأكلة -بالضم-: اللقمة، وبالفتح: المرة الواحدة من الأكل والأول المراد. ¬

_ (¬1) أبو داود (3846). (¬2) الترمذي (1853) وقال: حسن صحيح.

قال الشافعي: وهذا يدل على ما وصفناه من تباين طعام المملوك وطعام سيده؛ إذا أراد سيده طيب الطعام لا أدنى ما يكفيه؛ والمملوك الذي يلي طعامه الرجل مخالف عندنا للملوك الذي لا يلي طعامه. وقد اختلف أصحابه: فقال قوم: إجلاسه أفضل, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ به، ولأنه يأكل كفايته بجلوسه، وكان ذلك تواضعًا من سيده. وقال قوم: مخيرًا بين الإجلاس والإطعام والأول أولى. ومن لم يل الطعام من المماليك: فيستحب له أيضًا أن يطعمه منه لكن الاستحباب في حق الذي يليه أشد -والله أعلم.

كتاب الحضانة

كتاب الحضانة أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، قال أبو محمد: -أظنه- عن هلال بن أبي ميمونة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيَّر غلامًا بين أبيه وأمه". هذا أخرجه في المسند مختصرًا، وأخرجه في كتاب حرملة (¬1) قال: حدثنا سفيان، حدثنا زياد بن سعد سمعه عن هلال بن أبي ميمونة يحدثه عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة أنه أتى رجل فارسي وامرأة له يختصمان في ابن لهما، فقال الفارسي: يا أبا هريرة، هذا بِسَر (¬2) قال أبو هريرة: لأقضين بما شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به، يا غلام! هذا أبوك وهذه أمك فاختر أيهما شئت. ثم قال أبو هريرة: شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل وامرأة يختصمان في ابن لهما، فقال الرجل: يا رسول الله، ابني. وقالت المرأة: ابني يسقيني من بئر أبي عنبة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلام، هذا أبوك وهذه أمك فاختر أيهما شئت". هذا حديث صحيح: أخرجه أبو داود والترمذي، والنسائي. أما أبو داود (¬3): فأخرج الرواية الثانية عن الحسن بن علي، عن عبد الرزاق وأبي عاصم، عن ابن جريج، عن زياد وزاد في آخره: فأخذ بيد أمه فانطلقت به. وأما الترمذي (¬4): فأخرج الأولى عن نصر بن علي، عن سفيان. وأما النسائي (¬5): فأخرج نحو الثانية عن محمد بن الأعلى، عن خالد، عن ¬

_ (¬1) المعرفة (11/ 301 - 302). (¬2) قال في اللسان: رجل بسر وامرأة بسرة؛ شابان طريَّان. (¬3) أبو داود (2277). (¬4) الترمذي (1357) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي في الكبرى (5690).

ابن جريج, عن زياد قوله: "خير غلامًا" أي جعل إليه أن يختار أحد أبويه أيهما مالت نفسه إليه تبعه. والمذهب فيه: أن الأبوين إذا افترقا وتنازعا الولد: فإن كان لم يبلغ سبع سنين فإن الأم أحق به، إلى كان بالغا فالاختيار إليه مع أيهما أراد كان وإن شاء انفرد عنهما، وأما بين السبع إلى البلوغ: فإنه يخير أن أبويه وسواء كان الولد ذكرًا أو أنثى. وقال أحمد: إن كان ذكرًا خير، وإن كان أنثى فالأم أحق. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز التخيير، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن كان ذكرًا: فحتى يستقل بنفسه يأكل بنفسه ويلبس بنفسه ثم الأب أحق به، وإن كان أنثى: فحتى تزوج أو تحيض. ومالك يقول: إذا كان ذكرًا فالأم أحق به ما لم يثغير (¬1). وروى عنه: إلى البلوغ، وإن كانوا أنثى: فالأم أحق بها ما لم تتزوج ويدخل بها الزوج. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن يونس بن عبد الله الجرمي، عن عمارة الجرمي قال: خيرني علي -رضي الله عنه- بين أمي وعمي ثم قال لأخ لي أصغر مني: وهذا أيضًا لو قد بلغ مبلغ هذا لخيرته. قال الشافعي: قال إبراهيم -يعني ابن محمد- عن يونس، عن عمارة، عن علي مثله وقال في الحديث: وكنت ابن سبع سنين أو ثماني سنين. هذا الحديث مؤكد لما ذهب إليه الشافعي من التخيير، والحد الذي حده فيما شرحناه من مذهبه. ¬

_ (¬1) أثغر الصغير: نبت ثغرة والثغر: الأسنان أو مقدمها. انظإ القاموس المحيط مادة: ثغر.

وقوله للأخ الصغير: "وهذا لو قد بلغ مبلغ هذا لخيرته" يريد لو بلغ سنه. وفيه دليل على أنه لم يكن له سبع سنين فالأم أحق به ولا يخير. وإدخال "قد" بعد "لو" يفيد تقليل الزمان وتقريبه من بلوغه حد السن التي كان الأخ الكبير قد بلغها. وقد أخرج الشافعي في القديم (¬1): عن سفيان بن عيينة، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن إسماعيل بن عبيد الله بن [أبي] (¬2) المهاجر، عن عبد الرحمن بن غنم أن عمر بن الخطاب خير غلامًا بين أبيه وأمه. قال الشافعي: وقال بعض الناس: الأم أحق بالغلام حتى يأكل وحده ويلبس وحده، ثم الأم أحق بالجارية حتى تحيض. قال: وقد رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خير غلامًا بين أبويه وأحدهما مشرك، ورووه عن علي وشريح بأحاديث يثبتونها ولم يخالفوها إلى قول أحد تقوم بقوله عندهم حجة -والله أعلم. تم كتاب "النكاح" من كتاب "الشافي" في شرح مسند الشافعي -رضي الله عنه- "وعن مؤلفه وعن جميع المسلمين" والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا ¬

_ (¬1) المعرفة (11/ 302). (¬2) من المعرفة.

كتاب الجراح

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله كتاب الجراح وفيه خمسة أبواب: الباب الأول في تحريم القتل أخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة -وهو يحيى بن حسان- عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل، عن عثمان بن عفان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا من إحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير [نفس] " (¬1). هكذا أخرجه في كتاب اختلاف الحديث، وعاد أخرجه في كتاب "جراح العمد" بهذا الإسناد ولم يسم الثقة، وقال: ابن سهل بن حنيف وفيه: "لا يحل قتل امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث". هذا حديث صحيح، قد أخرجه الترمذي والنسائي وذكر اعتذار عثمان ومناشدته أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عزم مَنْ عَزَمَ على قتْلهِ وحَصَرَهُ في دارهِ. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن أحمد [بن عبدة] (¬3) الضبي، عن حماد بن زيد بالإسناد. وقال: روى حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد هذا الحديث فرفعه. ورواه القطان وغير واحد عن يحيى بن سعيد فوقفوه على عثمان. قال: وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 3). (¬2) الترمذي (2158) وقال: حسن. (¬3) تكررت في الأصل.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن إبراهيم بن يعقوب، عن محمد بن عيسى، عن حماد بن زيد بالإسناد وزاد مع أبي أمامة: عبد الله بن عامر بن ربيعة. وفي الباب عن: عائشة، وابن مسعود، وأبي هريرة. ومن ذلك الوجه أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3). "من" في قوله: "من إحدى ثلاث" لابتداء الغاية، كأن الحل ابتدأ من إحدى هذه الثلاث. وفي الرواية الأخرى: "بإحدى ثلاث" وهي بالتسبيب وهي أظهر في البيان من "من"، لأن التعدية بها أكثر وأعرف. وإنما أنث الثلاث: ذهابًا إلى الخصال ثم فسرها بقوله: "كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس" فيجوز في كفر الجر على البدل من "ثلاث"، والرفع على الاستئناف. وكذلك قوله: "زنا", و"قتل نفس". والإيمان والإسلام في هذا الحديث عبارة عن شيء واحد، كقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬4) وذلك لأن الكفر يضادهما معا. ولا أعتبار في إباحة دم المرتد بما ينعقد عليه الضمير؛ إنما هو مجرد الظاهر من قول: أو فعل، وسواء كان ضميره معتقدا عليه أو لا فإنه يكفر بذلك، فلهذا قلنا: إن قوله: "بعد إيمان" إنما يريد به كفر بعد إسلام. والإحصان: من أحصن الرجل: إذا تزوج فهو محصن بفتح الصاد وهو ¬

_ (¬1) النسائي (7/ 91). (¬2) البخاري (6878). (¬3) مسلم (1676) كلاهما من حديث ابن مسعود. (¬4) [الذاريات: 35، 36].

أحد ما جاء على أفعل فهو مفعل، وأحصنت المرأة: عفت، وأحصنها زوجها فهي محصنًا ومحصنة. وقيل: كل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة، وكل امرأة متزوجة فهي محصنة بالفتح لا غير. وقرئ: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} على ما لم يسم فاعله أي زوجن. وقرئ: {أُحْصِنَّ} بفتح الهمزة أي حفظن فروجهن وتعففن من الزنا. والمراد بالإحصان في الحديث والفقه: إنما هو التزوج. وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} يريد إلا أن يكون القتل قصاصًا. والمراد بالكفر في هذا الحديث: الردة، والارتداد: الرجوع إلى وراء. وهو في الشرع: من فارق الإسلام ورجع إلى الكفر. وإنما سمي المسلم الذي يكفر -وإن لم يكن كافرًا في الأصل- مرتدًا: لأن الناس كانوا في الأصل قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كافرين وإليهم أرسل، فكأن كل من أسلم ثم رجع إلى الكفر سمي مرتدًا: لأنه ارتد إلى ما كان عليه. ثم كثير هذا في الاستعمال حتى صار يطلق على كل مسلم كفر وإن كان أصله مسلما؛ فظر إلى الأصل والاستعمال. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". هكذا أخرجه في كتاب "جراح العمد"، وعاد أخرجه بالإسناد المذكور في كتاب "الجزية" (¬1)، وفي كتاب "اختلاف الحديث" وسمى فيه أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف. ¬

_ (¬1) انظر الأم (6/ 3 - 4).

هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الموطأ. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله". وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي الطاهر وحرملة وأحمد بن عيسى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب مثل البخاري. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسدد، عن أبي معاوية، عن الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة وذكر لفظ الشافعي وقال: "منعوا" بدل: "عصموا". وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن هناد، عن أبي معاوية بإسناد أبي داود ولفظ الشافعي. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب بإسناد مسلم ولفظ البخاري. لا إله إلا الله: كلمة التوحيد التي بعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي [التي] (¬6) كُلُف الخلق بقولها، وهي العبارة الدالة على الإسلام، فكل من يتلفظ بها مع الإقرار برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مسلمًا له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. وقوله: "إلا بحقها"راجعة إلى أحد أمرين:- ¬

_ (¬1) البخاري (2946). (¬2) مسلم (21). (¬3) أبو داود (2640). (¬4) الترمذي (2606) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (6/ 4 - 5). (¬6) أثبتها لضرورة السياق.

الأول: أن تكون راجعة إلى الدماء والأموال، يريد: أن دماءهم وأموالهم معصومة على من يريدها إلا عن حق يجب فيها، أما الدماء: فالقصاص، والردة، والحد ونحو ذلك. وأما الأموال: فالزكاة، وحقوق آلآدميين ونحو ذلك. وتكون الباء بمعنى "عن" أو بمعنى "من" أي: فقد عصموها إلا عن حقها أو من حقها. والأمر الثاني: أن تكون راجعة إلى قوله: "لا إله إلا الله" أي: فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق كلمة التوحيد، وحقها هو ما يتبعها من الأقوال والأفعال الواجبة التي بها يتم الإسلام. فأما القول: فهو قول: أن محمدًا رسول الله. والألفاظ التي لا تتم الصلاة إلا بها: كالتكبير والقراءة وغير ذلك. وأما الأفعال: فكالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج وهذه كلها وما يجري مجراها من فروض الإسلام هي من حق لا إله إلا الله، فالمتلفظ بلا إله إلا الله يحكم له بالإسلام إذا أتى بالإقرار برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم بعد ذلك يطالب بهذه الفروض المذكورة، ويدل على ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عمر -أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2) - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". ألا ترى ... كيف صرح الصلاة والزكاة وبحق الإسلام. ¬

_ (¬1) البخاري (25). (¬2) مسلم (22).

ومعنى قوله: "عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام" أي: منعوني من استباحتها, لأن دماء المشركين وأموالهم مباحة إلى أن يسلموا، وهذا الخطاب متعلق بهم لأنهم كانوا يشركون مع الله غيره ولا يقولون: لا إله إلا الله بخلاف أهل الكتاب كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولذلك لا يمنع من المشركين بجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، والنصارى من أهل الكتاب وإن قالوا: لا إله إلا الله فإنهم يقولون بالابن وروح القدس وينقضون ما يقولونه بوجه من المشاركة إذا حوققوا فيها ظهر تهافتها وتلاشيها، وكذلك طائفة من اليهود وإن قالوا كلمة التوحيد فإنهم قالوا: عزيرٌ ابن الله، وهم فيه أضعف حجة وأخسر قولًا وفعلًا. "وحسابهم على الله" يريد: أتى بما بعثت وكلفت أداء الرسالة واستماع الإقرار بالشهادة وحقها، فإذا قالوا بألسنتهم وباشروا الأفعال بجوارحهم قنعت منهم بذلك، ولم أومر بالنقب عن قلوبهم، والتفتيش عن ضمائرهم، والاطلاع على عقائدهم هل قالوا أو فعلوا ذلك بانعقاد الناطق مع الظاهر أم لا؟ ولا في وسع البشر علم ذلك ومعرفته، فأنا أقنع بظواهرهم وأكل بواطنهم وسرائرهم إلى الله وهو يحاسبهم عليها ويجازيهم بمودعاتها. وعصمة المال والدم بأمرين:- أحدهما: لا إله إلا الله. والثاني: حقها أو حق الدماء والأموال على كلا التقديرين. والحكم إذا تعلق بوجود شرطين لا يقع دون استكمال وقوعهما. وفي رواية الشافعي: "لا أزال أقاتل" وهذا اختيار منه بما هو منطو عليه من الامتساك بمقاتلتهم. و"حتى" متعلقة بقوله: "لا أزال أقاتل" وهي بمعنى "إلى أن". وفي روايات

الباقين: "أمرت أن أقاتل" ولكل واحد من القولين ترجيح. أما رواية الشافعي: فإن فيها زيادة تخويف للمشركين الموعودين بالقتال, لأن إضافة المقاتلة إلى نفسه وإخباره بما هو عازم عليه وملتزم به، وأن الباعث عليها نفسي والداعي أمر ذاتي فيه من تخويف المخاطبين بهذه العزيمة ولزوم الأمر؛ ما ليس في إضافة المقاتلة إلى أنه مأمور محمول عليها لا سيما إذا لم يصرح بالأمر، فإن الباعث الخارج لا يقابل بالباعث الداخل، فالداعي التكليفي لا يقاوم الداعي الطبعي. وفي قوله: "لا أزال" من العلم بالدوام والاستمرار ما ليس في قوله: "أمرت أن أقاتل"، وإن كان تعليق الحكم بحتى يقتضي الدوام والاستمرار إلى وقوع المعلق بها ولكن في زيادة لفظ "لا أزال" من التصريح بتحديد وقوع المقاتلة وتكرارها ما ليس في تلك. وأما الرواية الأخرى: وهي "أمرت أن أقاتل حتى" فإن الفعل إذا كان مأمورًا به من جهة لا يمكن مخالفتها، وحتمًا من آمر لا يسع رد أمره -وهو في هذا المقام الله تعالى- فإنه يكون آكد من فعل هو مبتدأ من نفس الإنسان ومنشأ من ذاته, لأن الإنسان قد يعزم على الشيء ويريده ويختاره ويترجح فعله عنده وهو قادر عليه، ثم يدعه ولا يفعله لا سيما إذا لم يتجه عليه بتركه ملامة وليس كذلك فيما إذا كان واجبًا عليه لازمًا ويتوجه بتركه عليه الملامة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر (رضي الله عنهما) فيمن منع الصدقة-: أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أزال أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"؟! فقال أبو بكر: هذا من حقها. يعني: منعهم الصدقة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب قال

لأبي بكر: أليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"؟! قال أبو بكر: هذا من حقها, لو منعوني عقالًا مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر هذا القول أو معناه. وأخرج الرواية الأولى في كتاب "اختلاف الحديث" وأخرج الثانية والثالثة في كتاب "الجزية" وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، عن عبيد الله قال: قال أبو هريرة: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر وكفر من كفر من العرب؛ فقال عمر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله قالوا فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"؟! فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق لمال، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن قتيية، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري بتمامه وقال فيه: عقالًا. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه بإسناد مسلم ولفظه قال: ورواه عنبسة، عن يونس، عن الزهري وقال: عناقًا. وأما الترمذي (¬4) والنسائي (¬5): فأخرجاه بإسناد مسلم ولفظه. ¬

_ (¬1) البخاري (1399 - 1400). (¬2) مسلم (20). (¬3) أبو داود (1556). (¬4) الترمذي (2607) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (7/ 77).

هذا حديث شريف كثير الفوائد، وهو أصل من أصول الإسلام. وقد ذكرنا في حديث أبي هريرة الذي قبله ما فيه كفاية من شرحه إلا أن حديثه لم يتعرض فيه إلى منع الزكاة وقتال مانعيها؛ وما جرى بين أبي بكر وما يتعلق به -وبالله التوفيق. فنقول: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستخلف الناس أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- وصار إمامًا واجب الطاعة مقبول القول، تعين عليه ما يلزم أولي الأمر من إلزام الناس بشرائط الإسلام والعمل بها، وكان من جملة ما يلزمه أخذ زكاة الأموال من أربابها؛ إذ الزكاة أحد مباني الإسلام، فلما كفر من كفر من العرب مثل: من اتبع مسيلمة والأسود العنسي وغير هؤلاء؛ ممن ركب هواه وعاد في حافرته ورجع إلى جاهليته وشقوا عصا الإسلام وأظهروا الكفر الصراح؛ وكان ممن خالف الجماعة منهم: طائفة منعوا الزكاة فإنهم أقروا بشرائع الإسلام وأحكامه وأنكروا الزكاة. ومنهم من أقر بالزكاة إلا أنه امتنع من أدائها إلى الإمام خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهؤلاء فلا يخلوا أمرهم من إحدى حالين:- إما أن يكونوا كفارًا لإنكارهم وجوب الزكاة بتكذبيهم نص القرءان والسنة. وإما أهل بغي بامتناعهم من أدائها إلى الإمام، وإنما لم يسموا يومئذ أهل بغي: لأن اسم الردة جمعهم وغيرهم، فإن أكثر العرب بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتدوا وكفروا وتركوا أحكام الإسلام رأسًا، حتى إنه لم يبق موضع يصلى فيه إلا ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - , ومسجد عبد القيس بالبحرين في قرية يقال لها جواثا. فلما شملت الردة وكانت هذه الطائفة مخالفة شاقة للعصا انتظمهم وإياهم اسم الردة، ومن هؤلاء الذين امتنعوا من أدائها إلى الإمام جماعة اتبعوا أمر مقدميهم ورؤسائهم في ذلك مثل: بني يربوع أرادوا أن يبعثوا بصدقاتهم إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة، وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف بين أبي بكر وعمر حتى قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا. فقال له أبو بكر: فقد قال في سياق الحديث: "إلا

بحقها" والزكاة من حق المال. فعمر نظر إلى أول الحديث فاستدل به ولم يعتبر آخره، وأبو بكر جمع بين أول الحديث وآخره ولذلك سلَّم إليه، وقال: فعرفت أنه الحق. وقد ذكر العلماء وجوهًا من الاستدلالات والفوائد منها:- وجوب الزكاة. فإنه لم يقرهم على منعها، فإنه روي عنهم أنهم قالوا: والله ما كفرنا بعد إيماننا وإنما بخلنا بأموالنا. ومنها: أن للإمام أن يقاتل الرعية على منعهم حقًا من الحقوق الشرعية. ومنها: جواز المناظرة في الأحكام. فإن أبا بكر وعمر تناظرا وتحاجا في هذه المسألة. ومنها: جواز القول بالعموم. فإن عمر احتج بالحديث وعمومه: "حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم". ومنها: جواز القياس. فإن أبا بكر قال: والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة، وهذا قياس للزكاة على الصلاة. ومنها: تخصيص العموم بالقياس فإنه قابله بذلك. ومنها: أن الإمام إذا قال قولاً كان لغيره مناظرته عليه. ومنها: أن خلاف الواحد للجماعة خلاف. فإن أبا بكر أقام على ذلك وخالفوه ثم رجعوا إلى قوله، ولذلك قال عمر: فعرفت أنه الحق. ومنها: أن الصحابة إذا اختلقوا على قولين؛ ثم أجمعوا على أحدهما صار ذلك أجماعًا وسقط الخلاف الذي كان بينهم كأن لم يكن. ومنها: ظهور فضل أبي بكر وشجاعته. فإنهم أشاروا عليه بترك قتالهم فأبى. ومنها: أن الخطاب الوارد في القرءان العزيز مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - تشاركه فيه

أمته، لأن الله -عز وجل- قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (¬1) فطلب ذلك منهم أبو بكر. ومنها: أن السخال تجب فيها الزكاة لأنه قال: لو منعوني عناقا، والعناق: الصغير من أولاد المعز خلافا لأبي حنيفة. ومنها: أن الصغيرة تؤخذ من الصغار خلافا لمالك فإنه قال: يؤخذ منها كبير. ومنها: أن حول النتاج حول الأمهات ولو كان يستأنف لها الحول لم يوجد السبيل إلى أخذ العناق. ومنها: أن الزكاة الواجبة في مال المرتد لا تسقط عنه بالردة. وأما العقال: فقد اختلف في تفسيره: فقال أبو عبيد: العقال: صدقة عام. وقال غيره: العقال: الحبل الصغير الذي يعقد به البعير وهو مأخوذ مع الفريضة, لأن على صاحبها التسليم، وإنما يقع قبضها برباطها. وقال غيره: كان من عادة المصدق إذا أخذ الصدقة تعمد إلى حبل فيفرق به بين بعيرين، أي يشده في أعناقهما لئلا يشردا فيسمى عند ذلك القرائن، وكل قرينين منها عقال. وقال المبرد: إذا أخذ المصدق أعيان الإبل قيل: أخذ عقالاً، وإذا أخذ أثمانها قيل: أخذ نقدًا. وتأول بعض أهل العلم قوله: "لو منعوني عقالًا" على معنى وجوب الزكاة فيه إذا كان من عروض التجارة فبلغ مع غيره منها قيمة نصاب. ¬

_ (¬1) [التوبة: 103].

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن حسان، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن المقداد أنه أخبره أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيتُ رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعهما، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله [بعد أن قالها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقتله" فقلت: يا رسول الله] (¬1) إنه قطع يدي ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن أبي عاصم، عن ابن جريج. وعن عبدان، عن عبد الله، عن يونس. وعن إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن أخي الزهري كلهم عن الزهري. وقال في رواية: "فقال: لا إله إلا الله". وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن قتيبة وابن رمح، عن الليث. وعن ابن رافع، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، وعن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس كلهم عن الزهري. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري. أرأيت: بمعنى أخبرني، هكذا تقال هذه الكلمة ومنه قوله تعالى: {أَرَأَيْتُمْ ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 4). (¬2) البخاري (4019، 6865). (¬3) مسلم (95). (¬4) أبو داود (2644).

إنْ أَتَاكُمْ} (¬1) و {أَرَأَيْتَ الَذِي يَنْهَى} (¬2)، وقد تزاد فيها الكاف فيقال: أرأيتك. والمعنى في ذلك كله أخبرني. وقد تقدم بيان هذا فيما مضى الكتاب. ولاذ بالشيء يلوذ به: إذا التجأ إليه وامتنع به. والإسلام: الانقياد والطاعة. هذا هو الأصل، ثم صار مطلقًا على من أقر بالشهادتن، وقد فسره في الرواية الأخرى بقوله: "ثم قال: لا إله إلا الله". ومعنى قوله: "فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله" وباقي الكلام إلى آخر الحديث: يريد أنه بعد إسلامه صار بمنزلتك قبل أن تقتله، فإنك كنت قبل أن تقتله مسلمًا وهو بعد أن أسلم مسلم مثلك. وقوله: "فإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" يعني: أنك تصير مباح الدم, لأنه كان قبل أن يلفظ بكلمة الإسلام مباح الدم فلما أسلم صار معصوم الدم، وأنت أيضًا معصوم الدم، فإذا قتلته بعد إسلامه صرت مباح الدم، إلا أن بين الإباحتين فرقًا وذلك كأنه قبل الإسلام مباح الدم بالكفر؛ وهذا بعد قتله مباح الدم بالقصاص. قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: معناه: أنه يصير مباح الدم لا أنه يصير مشركًا كما أنه كان مباح الدم قبل أن يقول شهادة لا إله إلا الله. وقد تأول الخوارج -ومن قال بقولهم- معنى قوله: "وأنك بمنزلته قبل أن تقول كلمته التي قال على الكفر يعنون: إنه لما أسلم وعصم الإسلام دمه ثم قتله صار كافرًا؛ كما كان هذا قبل أن يقول كلمة الإسلام. حملًا منهم على ما قرروه من مذاهبهم وهو التكفير بالكبائر والله أعلم. ¬

_ (¬1) [يونس: 50]. (¬2) [العلق: 9].

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة". هذا طرف من حديث طويل أخرجه الجماعة إلا مالكًا. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن خالد الحذاء عن أبي قلابة، عن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف بملة غير الإِسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم". وفي رواية "من قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله". وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن معاوية بن سلام الدمشقي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن [أبي توبة الربيع بن نافع، عن معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة] (¬4) وذكر الحديث بطوله. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن إسحاق بن يوسف عن الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة. الحديث بطوله. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن قتيبة، عن ابن أبي عدي، عن خالد، عن أبي قلابة. وعن محمد بن عبد الله بن بزيع، عن يزيد, عن خالد، عن أبي قلابة. ¬

_ (¬1) البخاري (1363، 6047). (¬2) مسلم (110). (¬3) أبو داود (3257). (¬4) ما بين المعقوفتين بالأصل بياض قدر سطر والمثبت من أبي داود. (¬5) الترمذي (1527) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (7/ 5 - 6).

أخرج الشافعي هذا الحديث في "جراح العمد"، وأورده البيهقي مع ما قبله من الأحاديث في تحريم القتل من كتاب "الجراح". وقد أخرج الشافعي في المعنى أحاديث غير مسندة منها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قتل المؤمن يعدل عند الله زوال الدنيا". ومنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعان على قتل امرئ مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله". وقد روى هذا الحديث عن الزهري، عن ابن المسيب, عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مر بقتيل فقال: [من به]، (¬1) فلم يذكر [له] (1) أحد فغضب ثم قال: "والذي نفسي بيده لو اشترك فيه أهل السماء وأهل الأرض لكبهم الله في النار". ... ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 4).

الباب الثاني في القصاص

الباب الثاني في القصاص وفيه خمسة فصول: الفصل الأول في قتل العمد أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: وجد في قائم سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابٌ: "إن أعدى الناس على الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه فقد كفر بما أنزل على محمد". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة [عن محمد بن إسحاق] (¬1) قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي: ما كان في الصحيفة التي كانت في قراب سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: "لعن الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير ولي نعمته فقد كفر بما أنزل الله على محمد". عدا عليه يعدو عَدْوا وعُدْوا: إذا ظلمه. والتعدي: مجاوزة الشيء إلى غيره، والعدوان: الظلم الصراح، تقول: عدا عليه وتعدى عليه واعتدى عليه كله بمعنى، وأعدى أفعل منه. وقد جاء في بعض النسخ: أعتا من العتو وهو تجاوز الحد في الكبر. وقوله: "القاتل غير قاتله" إذا حمل اللفظ على ظاهره لا يصح، لأن المقتول كيف يقتل قاتله فإنه يكون قد مات فكيف يقتل؟. ووجه الحديث: أنه يريد ولي المقتول إذا استقاد من قاتله من يستحق دمه، فإن الإنسان إذا قتل ولد إنسان آخر مثله جاز أن يسمى قاتلًا للولي فيضاف إليه، ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 4).

لأنه قتل من يرث دمه فكأنه قاتله. فأما الضارب غير ضاربه: فيصح ظاهرًا لفعله لأن الإنسان قد يضرب ثم يضرب ضاربه. وإنما جعله أعدى الناس على الله: لأن الله حكم أن لا يقتل إلا القاتل، ولا يضرب إلا الضارب على جهة القصاص، فإذا قتل غير القاتل، وضرب غير الضارب، كان قد تعدى على الله بفعله في مخالفته حكمه وأمره ومجاوزته حده ورسمه. وقوله: "من تولى غير مواليه" الموالي: جمع المولى، ويرد في اللغة على جماعة كالمعتق، والمعتق، والسيد، والناصر، والصاحب، والحليف، وغير ذلك، إلا أنه في هذا الحديث إنما يريد به المعتق، وذلك إذا نسب نفسه إلى غير معتقه، وجعل نفسه مولى له وترك ولاء صاحبه. وقوله: "فقد كفر بما أنزل الله على محمد" يريد به كفر النعمة وجحد البر والإحسان, لا الكفر الذي هو نقيض الإيمان فإن الإجماع على خلافه، وإن حملنا قوله: "بما أنزل الله على محمد" على العموم كان الكفر الذي هو ضد الإيمان وليس كذلك فتحمله على الخصوص، ويريد به: ما أنزل عليه من كون ولاء العبد لمعتقه لا لغيره، فإذا والى غير معتقه وجعل ولاءه لغيره كان جاحدًا لما أنزل الله -عز وجل- من أمر الولاء على محمد - صلى الله عليه وسلم -. واللعن في أصل اللغة: الطرد والإبعاد من الخير، واللعنة الاسم. قال الأزهري: واللعنة في القرءان: العذاب. وقيل: هو الإبعاد من رحمة الله وكرامته، ومن لم تلحقه رحمة الله خلده في عذابه. وولي النعمة: صاحبها وربها والذي أولاها وأسداها إلى المنعم عليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم -أو عن

عيسى بن أبي ليلى، عن ابن أبي ليلى- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اعتبط مؤمنًا بقتل فهو قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، فمن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا يُقْبَلُ منه صرف ولا عدل". تقول: أعتبطت الناقة: إذا نحرتها من غير داء ولا كسر أعبطها عبطا وأعتبطتها، ومات فلان عبطة: أي شابًا صحيحًا، واعتبطه الموت، فالمراد بقوله: "من أعتبط مؤمنًا بقتل" أي: قتله بلا جناية توجب ذلك عليه. وقد جاء في حديث عبادة بن الصامت مما أخرجه أبو داود في كتاب السنن (¬1) عن محمود بن الربيع أنه سمعه يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل مؤمنًا فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً" وذكر قصة في أول الحديث وآخره وقال في آخره: قال خالد بن دهقان: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: اعتبط بقتله؟ فقال: الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى لا يستغفر الله من ذلك. وهذا التفسير يدل على أنه من الغبطة -بالغن المعجمة- وهي الفرح والسرور وحسن الحال، وذلك أن القاتل بقتله دخل في هذا الوعيد بخلاف ما إذا حزن لقتله وندم عليه. وجاء في معالم السنن للخطابي في شرح حديث عبادة بن الصامت قال: "من قتل مؤمنًا فاعتبط قتله" ولم يذكر في سياق الحديث يحيى بن يحيى ثم قال: معنى قوله: "اعتبط قتله" أي: قتله ظلمًا لا عن قصاص. يقال: أعبطت الناقة واعتبطتها: إذا نحرتها من غير داء وآفة تكون بها. ومات فلان عبطة: إذا مات شابًا قبل أوان الشيب والهرم. قال أمية بن الصلت:- ¬

_ (¬1) أبو داود (4270).

من لم يمت عبطة يمت هرما ... للمرء كأس لا بد ذائقها وهذا القول من الخطابي -رحمه الله- يخالف ما فسره يحيى بن يحيى في سياق الحديث، إلا أن الذي جاء في مسند الشافعي -بالعين مهملة- لأنه لم يتعرض فيه لغير القود، ولو كان بالغين المعجمة لتعرض للوعيد الذي ذكره في حديث عبادة، وإنما تعرض إليه عند ذكر من حال دونه، ولأن القاتل ظلما سواء اغتبط أو ندم فإن القصاص واجب عليه. والقود: القصاص. تقول: أقدت القاتل بالقتل أي: قتلته به. وأقاده السلطان من أخيه: أي مكنه من قتل قاتل أخيه. واستقدت الحاكم: أي سألته أن يقتل القاتل بالقتل. والهاء في "يده" راجعة إلى القاتل، أي: فإن نفسه قود ما جنت يده من القتل إلا أن يرضى ولي المقتول أو وارثه فيهبه الدم فلا يقتل. ومن حال دونه: أي منع من أخذ القصاص، تقول: حلت بين الشيئين: إذا حجزت بينهما. الصرف: النافلة. وقيل: التوبة. العدل: الفرض. وقيل: الفدية. قال الشافعي: قال الله -جل ثناؤه-: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ في الْقَتْلِ} (¬1) قال: لا يقتل غير قاتله. وهذا يشبه ما قيل والله أعلم. قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} (¬2) فالقصاص إنما ¬

_ (¬1) [الإسراء: 33]. (¬2) [البقرة: 178].

يكون ممن فعل ما فيه القصاص لا ممن لم يفعله. والذي ذهب إليه الشافعي: أن القتل كبيرة من الكبائر، فمن قتل مؤمنًا متعمدًا فقد فسق واستوجب النار إلا أن يتوب، وحكى عن ابن عباس أنه قال: لا تقبل له توبة وأنه يخلد في النار، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (¬1) وهذا ينتقض بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ الله إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} (¬2) ولأن التوبة إذا صحت من الكفر فمن القتل أولى، وأما الآية فمحمولة على من لم يتب. وقد جاء في التفسير أنها منسوخة بقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} (¬3). والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن سعيد بن أبجر، عن إياد ابن لقيط، عن أبي رمثة قال: دخلت مع أبي على رسول - صلى الله عليه وسلم -، فرأى أبي الذي بظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: دعني أعالج الذي بظهرك فإني طبيب. فقال: "أنت رفيق" وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من هذا معك"؟ قال: ابني أشهد به. قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه". هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. أما أبو داود (¬4): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن عبيد الله بن إياد، عن إياد. وذكر الحديث بنحوه ولم يذكر المعالجة. وزاد في آخره: وقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. ¬

_ (¬1) [النساء: 93]. (¬2) [الفرقان: 68 - 70]. (¬3) [النساء: 48، 116]. (¬4) أبو داود (4495).

وأما النسائي: فأخرجه عن (¬1) وذكر نحو رواية أبي داود. المعالجة ها هنا: المداواة وأصله من عالجت الشيء أعالجه معالجة وعلاجا إذا ناولته وحاولته. والذي بظهره: أراد به خاتم النبوة فإنه كان مثل زر الحجلة نأتيًا في ظهره من أعلاه. وقوله: "أنت رفيق" أي: يرفق بالمريض ويطلق به. وأما الطبيب فإنه الله -سبحانه وتعالى. وقوله: "أشهد به" أي: أشهد أنه ابني وأعترف به. وقوله: "لا يجني عليك ولا تجني عليه" قد فسره الآية التي قرأها في رواية أبي داود: {تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: أن جنايتك التي تجنيها لا يلزم ابنك منها شيء، وجنايته التي يجنيها لا يلزمك منها شيء، بل كل منكما مؤاخذ بجنايته غير مطالب بجناية الآخر. وقد أخرج هذا المعنى بقوله: "لا تجني عليه ولا يجني عليك" مخرجًا بليغًا؛ لأنه أراد: لا يلتزم بجنايتك ولا تلتزم بجنايته، فظاهر لفظ الحديث لا يدل على ذلك، إنما مدلوله: أن الأب لا يجني على الابن ولا الابن على الأب، ولكن لما كان التقدير: أن الأب إذا جنى جناية طولب بها ابنه، وأن الابن إذا جنى جناية فطولب بها أبوه كان كل واحد منهما قد جنى على صاحبه الجناية التي جناها عليه غيره، فنفى الحكم من الأصل وجعل وقوع الجناية من أحدهما على الآخر منفية كأنها لا تقع وذلك أبلغ، فإن السبب إذا نفي من الأصل كان نفي المسبب آكد وأبلغ، فإنه يكون نفيًا للأصل وإذا انتفى الأصل انتفى الفرع. ¬

_ (¬1) بالأصل بياض قدر نصف سطر والحديث عند النسائي (8/ 53) عن هارون بن عبد الله، عن سفيان، عن عبد الملك بن أبجر، عن إياد بن لقيط، عن أبي رمثة به. مختصرًا.

وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا معاذ بن موسى، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان قال: أخذت هذا التفسير عن نفر حفظ معاذ منهم: مجاهد والضحاك والحسن، قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى} (¬1) الآية. قال: كان بدو ذلك في حيَّينَّ من العرب اقتتلوا قبل الإسلام بقليل، وكان لأحد الحيين، فضل على الآخر، فأقسموا بالله ليقتل بالأنثى منهم الذكر، وبالعبد منهم الحر. فلما نزلت هذه الآية رضوا وسلموا. قال الشافعي: وما أشبه ما قالوا من هذا بما قالوا، لأن الله -تعالى- إنما ألزم كل مذنب ذنبه ولم يجعل جرم أحد على غيره، فقال: الحر بالحر إذا كان -والله أعلم- قاتلًا له، والعبد بالعبد إذا كان قاتلًا له، والأنثى بالأنثى إذا كانت قاتلة لها. لا أن يقتل بأحد ممن لم يقتله لفضل المقتول على القاتل. وقال الشافعي -رحمه الله-: من العلم العام الذي لا اختلاف فيه بين أحد لقيته فحدثني وبلغني عنه من علماء العرب: أنها كانت قبل نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تباين في الفضل ويكون بينهما ما يكون بين الجيران من قتل العمد والخطأ، فكان بعضها يعرف لبعض الفضل في الديات حتى تكون دية الرجل الشريف أضعاف دية الرجل دونه، فأخذ بذلك بعض من بين أظهرها من غيرها بأقصد مما كانت تأخذ به، فكانت دية النضيري ضعف دية القرظي وكان الشريف من العرب إذا قتل؛ تجاوزوا قاتله إلى من لم يقتله من أشراف القبيلة التي قتله أحدها، وإنما (¬2) لم يرضوا إلا بعدد يقتلونهم فقتل بعض بني غني شأس بن زهير فجمع عليهم أبوه زهير بن جذيمة فقالوا له -أو بعض من ندب عنهم-: ¬

_ (¬1) [البقرة: 178]. (¬2) في الأم (8/ 8): (وربما).

سل في قتل شأس؟ فقال: إحدى ثلاث لا يرضيني (¬1) غيرها. فقالوا: ما هي؟ قال: تحيون إليَّ شأسًا، أو تملئون ردائي من نجوم السماء، أو تدفعون إليَّ غنيا بأسرها فأقتلها. ثم لا أرى أني أخذت عوضًا وقتل كليب وائل فاقتتلوا دهراً طويلًا واعتزلهم بعضهم، فأصابوا ابنًا له يقال له: بجير فأتاهم فقال: قد عرفتم عزلتي فبجير بكليب وكفوا عن الحرب. قالوا: بجير بشسع كليب فقاتلهم وكان معتزلًا. فيقال إنه نزل في ذلك وغيره مما كانوا يحكمون به في الجاهلية، حكم الله بالعدل فسوى في الحكم بين عباده الشريف منهم والوضيع {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬2). فيقال: إن الإسلام نزل وبعض العرب يطلب بعضًا بدماء وجراح فنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬3) الآية والآية التي بعدها. قال: ولم أعلم ممن لقيت من أهل العلم مخالفًا في أن الدمين متكافئان بالحرية والإسلام، فإذا قتل الرجل المرأة عمدًا قتل بها، وإذا قتلته قتلت به، ولا يؤخذ من المرأة ولا من أوليائها شيء للرجل إذا قتلت به ولا إذا قتل بها. وقال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا، يقولون: بينهم القصاص في النفس. أورده فيما ألزم العراقيين من خلاف علي، وروى أيضًا عن الحسن وعلي وكلاهما منقطع. وقال ابن المنذر: وروي عن علي والحسن خلاف ذلك. ¬

_ (¬1) في الأم (8/ 8): (يغنيني). (¬2) [المائدة: 50]. (¬3) [البقرة: 178 - 179].

الفصل الثاني في المسلم بالذمى

الفصل الثاني في المسلم بالذمى أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن مطرف، عن الشعبي، عن أبي جحيفة قال: سألت عليًا -رضي الله عنه- قال: هل عندكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء سوى القرءان؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا في كتابه وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر. هكذا أخرجه في كتاب "جراح العمد" بهذا الإسناد واللفظ إلا أنه قال: "يؤتى" بدل "يعطى" و"القرءان" عن "كتابه" وقال: "ولا يقتل مؤمن بكافر". وأخرج في القديم قال: وذكره يحيى بن سعيد، عن [ابن] (¬1) أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد، عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقتل مسلم بكافر". هذا حديث صحيح، قد أخرجه البخاري والنسائي. وقد أخرج ذكر الصحيفة وأنهم لم يكتبوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً غير القرءان. مسلم (¬2) وأبو داود (¬3) والترمذي (¬4). وأضافوا إلى حديثهم ذكر المدينة وفضلها وتحريمها. أما البخاري (¬5): فأخرجه عن محمد بن سلام، عن وكيع، عن سفيان ¬

_ (¬1) من المعرفة (12/ 190). (¬2) مسلم (1370). (¬3) أبو داود (235). (¬4) الترمذي (1412) وقال: حسن صحيح. (¬5) البخاري (111).

بالإسناد وذكر الحديث. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان بالإسناد. الفلق: الشق. والحَبه بفتح الحاء: من الحنطة والشعير ونحوهما. وبكسر الحاء الحبة من البزورات. والنسمة: كل ذي روح، والنسمة: النفس، والنسمة: الروح، والنسمة: الإنسان. والمراد بها في هذا الحديث الأول: لأنه أعم. والبرء -مهموز-: الخلق تقول: برأ الله الخلق أي: خلقهم إلا أن في لفظة البارئ مزيد معنى غير الخالق لأنه يختص بالمخترع الذي خلق لا عن مثال ولها أيضًا بالحيوان اختصاص لغيرها وقلما يستعمل في غير الحيوان فيقال: برأ الله النسمة وخلق السموات والأرض. والاستثناء في قوله: "إلا أن يعطي مؤمن" من قوله: "لا والذي فلق الحبة" أي: ليس عندنا إلا أن يعطي الله عبدًا فهمًا. وهذا استثناء منقطع لأن اللهم الذي يعطيه الله أحدًا من عبادة ليس مما كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندهم. وتنكير العبد للإبهام وإيذان أن بعض العباد يختص بهذه المنحة دون غيره، وأنها ليست عطية شاملة لكل العباد. والكتاب: هو القرءان العزيز. وذلك أنه سأله: هل عندكم شيء سوى القرءان؟ فقال: لا. إلا الفهم الذي يرزقه الله أحدًا من خلقه في معرفة كتابه. والصحيفة: الكتاب. والجمع صحف وصحائف، وفي رواية الشافعي: "وما ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 23).

في الصحيفة" فإن صحت الرواية بإسقاطها فتكون اللام في "الصحيفة" للعهد لأن حذف كلمة الإشارة يقتضي أن تكون الصحيفة معروفة عند المخاطب، يريد: ليس عندنا إلا ما في الصحيفة التي تعرفها. فأما مع إثبات كلمة الإشارة فتكون اللام للجنس، ثم خصها من بين أمثالها بكلمة الإشارة. وفكاك الأسير وفكه: إطلاقه وفك الرقبة: عتقها، وقيل: المعونة في ثمنها التعتق. والعقل: الدية. وإنما سميت عقلاً: لأن الإبل المأخوذة في الديات كانت تعقل بفناء ولي المقتول لتسلمها، ثم كثر استعمالهم هذا الحرف حتى قالوا: عقلت القتيل: إذا أعطيت ديته دراهم أو دنانير. والعاقلة: الذين يلتزمون الدية وتجب عليهم من أقارب القاتل. تقول: عقلت القتيل أي: أعطيت ديته، وعقلت له دم فلان أي: تركت له القود والدية. وعقلت عن فلان أي: عزمت عنه الدية تلزمه. والعقل المصدر فسميت به الدية. وقوله: "لا يقتل مسلم بكافر" قد حذف "أن" وهي مرادة. التقدير: وأن لا يقتل مسلم بكافر لأن هذه الجملة معطوفة على ما قبلها ولا يتجه العطف إلا مع وجودها، لأنه قال فيها: العقل، وفكاك الأسير -وهما اسمان- ثم قال: "لا يقتل مسلم بكافر" وهذه جملة فعلية. ومعناها: النهي أو النفي فكيف يعطف على اسم؟ فأما إذا دخلت "أن" صارت هي وما بعدها بمنزلة الاسم، لأن "أن" والفعل بمنزلة المصدر فحسن العطف، اللهم إلا أن يكون قد عطف جملة محكية فذكرها بلفظ المذكور في الصحيفة، كأنه قد كان فيها: "لا يقتل مسلم بكافر" فحكاها. ويعضد القول الأول: مجيء أن في

رواية النسائي. وكلا القولين حسن. وقد جاء في رواية: "مسلم" وفي أخرى: "مؤمن" وكلاهما في هذا الموضع واحدًا لا فرق بينهما. كقوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). والكافر في هذا الحديث يدخل فيه كل من ليس بمسلم مشركا كان أو معاهدًا أو مستأمنًا أو كان كتابيا عند الشافعي، فلا يجوز عنده أن يقتل مسلم بكافر. وروى ذلك عن عمر وعلي وعثمان وزيد بن ثابت. وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد، وطاوس، ومالك، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور. وقال أبو حنيفة وأصحابه: المسلم يقتل بالذمي خاصة. وإليه ذهب الشعبي والنخعي. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن أبي حسين، عن عطاء وطاوس -أحسبه قال: ومجاهد والحسن- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح: "ولا يقتل مؤمن بكافر". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن أبي حسين، عن عطاء وطاووس ومجاهد والحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته عام الفتح: "لا يقتل مسلم بكافر". قال: مرسل؟ قلت: نعم. أخرج الرواية الأولى في كتاب "اختلاف الحديث" والثانية في كتاب "الديات". وقال الشافعي: وقد يصله غيره من أهل المغازى من حديث عمران بن ¬

_ (¬1) [الذاريات: 35 - 36].

حصين وعمرو بن شعيب وغيره. قال الشافعي: سمعت عددًا من أهل المغازى وبلغني عن عدد منهم أنه كان في خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: "لا يقتل مؤمن بكافر". قال: وبلغني عن عمران بن حصين أنه روى ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا المعنى قد روي عن عائشة ومعقل بن يسار وعمرو بن شعيب والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن محمد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن البيلماني أن رجلاً من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة، فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أنا أحق من أوفى بذمته" ثم أمر به فقتل. هذا الحديث [أورده] (¬1) الشافعي في قتل المسلم بالكافر، والحديثين اللذين يذكرهما بعده أوردهما في معرض بيان سقوط الاحتجاج بهما. قال الشافعي -بعد أن ذكر الاحتجاج بما احتج به على ما ذهب إليه-: قال قائل: فقد روينا من حديث ابن البيلماني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قتل مؤمنا بكافر". قلنا: أفرأيت لو كنا نحن وأنت نثبت المنقطع بحسن الظن بمن روى؟ فروي حديثان: أحدهما: منقطع، والآخر: متصل بخلافه، أيهما كان أولى بنا أن نثبته؟ الذي ثبتناه متصلاً -وقد عرفنا من رواه بالصدق- أو الذي ثبتناه بالظن؟ قال: بل الذي ثبتناه متصلاً. قلنا: فحديثنا متصل وحديث ابن البيلماني خطأ، وإنما روى ابن البيلماني فيما بلغنا أن عمرو بن أمية قتل كافرًا وكان له عهد إلى مدة وكان المقتول رسولاً فقتله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان ثابتا كنت أنت قد خالفت الحديثين حديثنا وحديث ابن البيلماني. قال: والذي قتله ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وأثبته ليستقيم السياق.

عمرو بن أمية قبل بني النضير وقبل الفتح بزمان، وخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يقتل مسلم بكافر" عام الفتح، فلو كان كما يقول كان منسوخًا. قال: فلم تقول به وتقول هو منسوخ؟ وقلت: هو خطأ: قلت: عاش عمرو ابن أمية بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - دهرًا وأنت إنما تأخذ العلم من بعد ليس لك مثل معرفة أصحابنا، وعمرو قتل اثنين وداهما النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يزد عَمرًا على أن قال: قتلت رجلين لهما مني عهد لأديتهما (¬1) أهل الحيرة وكتب أن اقتلوه وقتل ولم يرجع عنه أفكان يكون في أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة؟ قال: لا. قلنا: فأحسن حالك أن تكون احتججت بغير حجة، أرأيت لو لم يكن فيه إلا ما قال عمرو أكان عمر يحكم بحكم ثم يرجع عنه إلا عن علم بلغه هو أولى من قوله؟ فهذا عليك وأن يرى أن الذي رجع إليه أولى به من الذي قال، فيكون قوله راجعًا أولى أن يصير إليه. قال: فلعله أراد أن يرضيه بالدية. قلنا: فلعله أراد أن يخيفه بالقتل ولا يقتله. قال: ليس هذا في الحديث. قلنا: وليس ما قلت به في الحديث. قال: فقد روينا فيه أن عثمان بن عفان أتي بمسلم قتل كافرًا فأمر بقتله فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعوه فوداه بألف دينار ولم يقتله. فقلت: هذا من حديث من يُجْهل. فإن كان غير ثابت فدع الاحتجاج به، وإن كان ثابتًا فعليك فيه حكم ولك فيه آخر فقل به، حتى نعلم أنك قد اتبعته على ضعفه. فقال: وما عليَّ منه؟. قلنا: زعمت أنه أراد قتله فمنعه ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع لهم، فهذا عثمان وناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مجمعون ألا يقتل مسلم بكافر، فكيف خالفتهم؟ قال: فقد أراد قتله. قلنا: وقد رجع والرجوع أولى به. انتهى كلام الشافعي. وابن البيلماني ضعيف لا يقوم بحديثه حجة، وقد ¬

_ (¬1) في المعرفة (12/ 28): بيان أن العبارة هنا بها سقط فزاد هناك [قال: فانا مع ما ذكرنا بأن عمر كتب في رجل من بني شيبان قتل رجلاً من أهل ...].

ضعفه علي بن المديني، والدارقطني قال: هو ضعيف لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله؟! وقال أبو عبيد: هذا حديث ليس بمسند ولا يجعل مثله إماما يسفك به دماء المسلمين. قال عبد الواحد بن زياد: قلت لزفر: إنكم تقولون بدرء الحدود بالشبهات وإنكم جئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها. قال: وما هو؟ قلت: المسلم يقتل بالكافر. قال: فاشهد أنت على رجوعي عن هذا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا قيس بن الربيع الأسدي، عن أبان بن تغلب، عن الحسن بن ميمون [عن] (¬1) عبد الله -مولى بني هاشم- عن أبي الجنوب الأسدي قال: أتي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة. قال: فقامت عليه البينة فأمر بقتله فجاء أخوه فقال: إني قد عفوت. قال: فلعلهم هدَّدوك أو فرقوك أو فزعوك قال: لا, ولكن قتله لا يرد علي أخي وعوَّضوني فرضيت. قال: أنت أعلم. من كان له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا. هذا الحديث ذكره الشافعي من الأحاديث التي رواها محمد بن الحسن ليجيب عنها في سقوط الاحتجاج بها. وقد ذكرنا في حديث ابن البيلماني من قول الشافعي ما فيه مقنع، والذي يخص هذا أن راويه أبو الجنوب وهو ضعيف الحديث -قاله الدارقطني وغيره- قال: وفي حديث أبي جحيفة عن علي ما دلكم أن عليًا لا يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا بخلافه. قال ابن المنذر: قد ثبت عن عثمان وعلي أنهما قالا: لا يقتل مؤمن بكافر، وروي عن زيد بن ثابت أيضا (¬2). ¬

_ (¬1) من مطبوعة المسند (2/ 351). (¬2) راجع هذه الأقوال في المعرفة (12/ 31).

وقول علي في الحديث: لعلهم هدَّدوك. استفسار منه لئلا يكون عفوه عن القصاص بسبب تخويف من جانبهم وتهديد بالخوف. وقوله: عوضوني فرضيت. أي: أعطوني عوض دم أخي ما رضيت به. يعني الدية. وقوله: من كان له ذمتنا. أي عهدنا وأماننا كان دمه معصومًا كدمائنا وديته إذا قتل واجبة كديتنا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا محمد بن يزيد، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الزهري أن ابن شاس الجذامي قتل رجلاً من أنباط الشام فرفع إلى عثمان بن عفان فأمر بقتله. فكلمه الزبير وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهوه عن قتله. قال: فجعل ديته ألف دينار. وهذا الحديث أيضًا من جملة ما أخرجه الشافعي ليجيب عنه وقد أشار إليه في الكلام على حديث ابن البيلماني. وقوله: "فكلمه الزبير وناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -" يوهم أن الزبير ليس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس كذلك، وإنما أفرده بالذكر تنبيهًا على شرفه وتخصيصًا فهذا كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (¬1) فخص جبريل وميكائيل بالذكر بعد أن كانا داخلين في قوله: "وملائكته". وأما ذكر الدية ومقدارها فسيرد في كتاب "الديات". ¬

_ (¬1) [البقرة: 98].

الفصل الثالث في قتل الجماعة بالواحد

الفصل الثالث في قتل الجماعة بالواحد أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل نفرًا خمسة أو سبعة برجل قتلوه، وقيل: قتل غيلة. فقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً. هذا حديث صحيح أخرجه مالك في الموطأ (¬1) بالإسناد هكذا مرسلاً، وأخرجه البخاري (¬2): عن ابن بشار، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أن غلامًا قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم. قال البخاري: وقال مغيرة بن حكيم، عن أبيه: أن أربعة قتلوا صبيًا، فقال عمر مثله. النفر: اسم يقع على عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة. والباء في "برجل" للتسبب أي: بسبب رجل واحد. والغيلة بكسْرٍ-: الخداع، يقال: قتله غيلة وغالة واغتاله بمعنى: إذا قتله بالمكر والخداع على غرة وغفلة من أمره. وقوله: "قتل غيلة" يجوز أن يكون "قتل" فعلًا مبنيًا لما لم يسم فاعله فتنتصب "غيلة" على الحال أي: في حال اغتيال. ويجوز أن يكون اسمًا بوزن غلت فيكون منصوبًا على المصدر من قتلوه ويكون "غيلة" مجرورًا بإضافة المصدر إليه وهو الأحسن. وتمالأ القوم -بالهمز- يتمالؤن: إذا تعاونوا على أمر يفعلونه. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 663 رقم 13). (¬2) البخاري (6896).

وجميعًا: تأكيد للضمير في لقتلتهم. وفي رواية الشافعي ومالك: "لو تمالأ" فذكر الضمير في عليه ردًا إلى المقتول. وجاء في رواية البخاري: "لو اشترك فيها" فأنث الضمير ردًا إلى الغيلة. وهذا الحديث ترجم عليه مالك: باب: ما جاء في الغيلة. وترجم عليه البخاري: باب: إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقبون ويقتص منهم كلهم؟ وكلا المعنيين يتضمنهما الحديث. فأما الشافعي فأخرجه في كتاب "الجراح" مستدلًا به على قتل الجماعة بالواحد. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الجماعة إذا أشتركوا في قتل واحد، وكان كل منهم لو انفرد بفعله وجب عليه القود فكذلك يجب على جميعهم. وروي عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة وابن المسيب والحسن وعطاء. وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وحكي عن ابن الزبير ومعاذ بن جبل والزهري وابن سيرين أنهم قالوا: لا تقتل الجماعة بواحد؛ ولكن ولي الدم يقتل منهم واحدًا ويأخذ من الباقين حصصهم من الدية. فأما الواحد إذا قتل جماعة: فإنه يقتل بواحد منهم وللباقين الديات، فإن قتلهم على الترتيب واحدًا بعد واحد كان مقتولاً بالأول، وإن قتلهم دفعة واحدة سقط حق الباقين. وقال أحمد: إن طلبوا كلهم القصاص قتل بجماعتهم، وإن طلب بعضهم القصاص وبعضهم الدية: قتل بمن طالب القصاص وأعطى الدية من طلبها.

الفصل الرابع في التخيير بين القصاص والدية

الفصل الرابع في التخيير بين القصاص والدية أخبرنا الشافعي: أخبرنا معاذ بن موسى، عن بكير بن معروف، عن مقاتل ابن حيان قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن نفر -حفظ معاذ منهم-: مجاهد والحسن والضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1) الآية. قال: كان كُتِبَ على أهل التوراة "من قتل نفسا بغير نفس حق أن يقاد بها ولا يعفى عنه ولا تقبل منه الدية". وفرض على أهل الإنجيل: "أن يعفى عنه ولا يقتل ولا يقتل" ورخص لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفى عنه فذلك قوله تعالى: {تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يقول الدية تخفيف من الله إذ جعل الدية ولا يقتل. ثم قال: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. يقول: من قتل بعد أخذ الدية فله عذاب أليم. وقال في قوله تعالى: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ينتهي بها بعضكم عن بعض مخافة أن يقتل. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، أخبرنا عمرو بن دينار قال: سمعت مجاهدًا يقول: كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية، فقال الله -عز وجل- لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. هذه الرواية الثانية التي رواها مجاهد، عن ابن عباس قد أخرجها البخاري (¬2): عن الحميدي وقتيبة، عن سفيان، عن عمرو. ¬

_ (¬1) [البقرة: 178]. (¬2) البخاري (4498).

وأخرجها النسائي (¬1): عن الحارث بن مسكين، عن سفيان، عن عمرو. معنى قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬2) أي: من عفي له من جهة أخيه شيء من العفو كقولك: سر يريد بعض السير ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به، لأن عفي لا يتعدى إلى مفعول به إلا بمعد. والمراد بالأخ ها هنا: ولي المقتول، وقيل له أخوه: لأنه يلابسه من قبل مطالبة الدم، ولأن المؤمنين إخوة. وذكره بلفظ الأخوة: ليعطف أحدهما على الآخر بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. وإنما عدى "عفي" باللام ومن شأنها أن تعدى بعن: لأنه إنما يتعدى بعن إذا كان الذكر للجاني المذنب، قيل: عفوت لفلان عما جنى، فيكون التقدير: فمن عفي له عن جنايته. فاستغنى عن ذكر الجناية، وقيل: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ} (2) أي: ترك له بعض المستحق. وإنما قال: "شيء" إشعار بأنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه تم العفو؛ فإنه إذا عفى بعض الورثة سقط القصاص ووجب الدية. وقوله: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (2) أي: فليتبع ولي الدم الذي عفى المعروف في المطالبة بالدية برفق من غير تشديد، وليؤدها القاتل المعفو عنه بإحسان من غير مطل. {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (2) أي: العدول من الدم إلى الدية ورحمة رحمك بها. {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} (2) تجاوز الحد فقتل بعد أخذ الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرة. وذلك أن العرب كانوا يجعلون الصلح سببًا لأمن القاتل وظهوره إليهم، فيجيء ولي الدم فيقتله بعد الصلح ويرمي الدية عليهم. ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 36 - 37). (¬2) البقرة: [178].

وقوله: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أخبر الله -تعالى- أن لعباده في شرع القصاص مصلحة كثيرة وهي البقاء ودوام الحياة، لأن القاتل إذا علم أنه متى قَتَل قُتِلَ امتنع عن القتل، فبقي هو ومن هم بقتله. ومن كلام العرب: "القتل أنفى للقتل". وقيل: المراد أنهم كانوا يقتلون العشرة بالواحد وأكثر، فلما فرض القصاص وهو المماثلة والمساواة. وأصله من: قص الأثر إذا اتبعه كان ذلك حياة للباقين المستزادين في القتل. هذا من فصيح القرءان المعجز لأرباب البلاغة، لأن القصاص قتل وتغريب للحياة وقد جعل مكانا فظرفا للحياة، وفيه من إصابة معجز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة، لأن المعنى: ولكم في هذا لجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة أو نوع من الحياة؛ وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل. وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أي: فرض عليكم. والحر بالحر، العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، والذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر إجماع. فأما الحر بالعبد فلا يقتل به [عند] (¬1) الشافعي، ويقتل به أبو حنيفة وأصحابه. قال الشافعي -في سياق هذا الحديث- وما قال ابن عباس في هذا كما قال -والله أعلم- وكذلك قال مقاتل، لأن الله -جل ثناؤه- إذا ذكر لقصاص ثم قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (¬2) لم يجز -والله أعلم- أن يقال: إن عفي إن صولح على أخذ الدية، لأن العفو: ترك حق بلا عوض، فلم يجز إلا أن كون إن عفي عن ¬

_ (¬1) أثبتها ليستقيم السياق. (¬2) البقرة: [178].

القتل، فإذا عفى لم يكن له سبيل وصار لعافي القتل مال في مال القاتل وهو دية قتيله، فيتبعه بمعروف ويؤدي إليه القاتل بإحسان، ولو كان إذا عفي عن القاتل لم يكن له شيء لم يكن للعافي أن يتبعه بالمعروف؛ ولا على القاتل شيء يؤديه بإحسان. قال: وقد جاءت السنة مع بيان القرءان بمثل معنى القرءان. وذكر حديث أبي شريح وهو:- وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا. ولا يعضد بها شجرًا، وإن ارتخص أحد فقال: أحلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله تعالى أحلها لي ولم يحلها للناس، وإنما أحلت لي ساعة من النهار ثم هي حرام كحرمتها بالأمس، ثم إنكم ياخزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، من قتل بعده قتيلاً فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا أبو حنيفة سماك بن الفضل الشهابي قال: وحدثني ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود" وقال أبو حنيفة: فقلت: لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث؟ فضرب صدري وصاح عليَّ صياحًا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: تأخذ به؟ نعم آخذ به، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه، إن الله -عز وجل- اختار محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من الناس فهداهم به وعلى يديه واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن

يسكت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا فلهم العقل، وإن أحبوا فلهم القود". وأخرج الرواية الأولى في كتاب "جراح العمد" (¬1)، والثانية في كتاب "الرسالة" (¬2)، والثالثة في كتاب "الديات" (¬3). هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. أما البخاري (¬4): فأخرج من الرواية الأولى إلى قوله: "بالأمس" وزاد: "ليبلغ الشاهد الغائب" ولم يذكر قوله لخزاعة. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن المقبري مثل البخاري. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن ابن أبي ذئب مثل الشافعي. وأما أبو داود (¬7): فأخرج حديث خزاعة مفردًا عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن ابن أبي ذئب. وأما النسائي (¬8): فأخرجه بإسناد مسلم ولفظه. ¬

_ (¬1) الأم (6/ 9). (¬2) الرسالة (رقم 1234). (¬3) الأم (7/ 148، 319). (¬4) البخاري (104). (¬5) مسلم (1354). (¬6) الترمذي (1406) وقال: حسن صحيح. (¬7) أبو داود (4504). (¬8) النسائي (5/ 205 - 206).

وقوله: "إن الله حرم مكة" أي: جعلها حرامًا ممتنعة على الناس من الأذى والفساد والنهب والقتل وغير ذلك من أنواع الشرور، وجعل ذلك حرامًا على الناس أن يفعلوه وإن كان في غيرها أيضًا حرامًا؛ إلا أن لها مزيد تحريم في أشياء في غيرها كالصيد والشجر والعشب والملتجئ إلى الحرم، وقد بين هذا المجمل بقوله: "فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرًا". والسفك: الإراقة. سفكت الدم أسفكه إذا أرقته وإنما يريد القتل المحرم. والعضد: القطع بالمعضد وهي: حديقة وتتخذ لقطع الشجر. قال ابن شميل: المعضاد: سيف يكون مع القصابين يقطعون به اللحم، وهو الذي يسمونه الساطور. قال الأصمعي: المعضد: السيف يمتهن في قطع الشجر. وارتخص: من الرخص وهي ضد العزيمة، وكان أصله من الشيء الرخيص. وقوله: "إنما أحلت لي ساعة من النهار" يريد لما فتحها أحل له سفك الدم بها وغير ذلك مما كان محرمًا. وقيل: لم يحل إلا إراقة الدم دون الصيد وقطع الشجر وسائرها حرام منها. وقوله: "أنا عاقله" يريد: أنه هو الذي يؤدي إلى أهله من العقل الدية. والخيرة -بكسر الخاء وسكون الياء-: الاختيار وهي الاسم من قولك: خيار الله لفلان في هذا، فأما بفتح الياء: فهي الاسم من قولك: اختاره الله، تقول: محمد خيرة الله من خلفه بالفتح ويجوز بالسكون أيضًا. وقوله: "بخير النظرنين يريد خير الأمرين والحالين الذي هو أرفقهما له

وأحبهما إليه وأرفقهما به، والأمران هما: القصاص، وأخذ الدية. فأيهما مال ولي الدم إليه واختاره فذاك له. والخيرية هنا ليست راجعة إلى كون أحد الأمرين خيرًا من الآخر، إنما هي راجعة إلى ولي الدم، وأن أيهما أحب إليه وخير يعود إلى اختياره وإرادته. والنظرين: ثثنية النظر وهو الرأي والأمر، من قولك: نظرت في هذا الأمر أي: فكرت فيه وتدبرته. والباء في "بخير" متعلقة بمحذوف تقديره: فهو ملتبس بخير النظرين، أو عامل بخيرهما ونحو ذلك. والترك: القصاص. وقوله: "نال مني" يريد السب والإنكار. وإسقاط همزة الاستفهام من "تأخذ" الثانية -إن صحت الرواية بذلك- فإنه من طريق الانتفاع وطلب الاختصار، وقد جاء إسقاطها في الكلام كثيرًا وهي مع إسقاطها مرادة، وإنما حسن إسقاطها لدلالة الكلام عليها ولكثرة الاستعمال، وقد جاءت الهمزة الثانية في كتاب السنن للبيهقي. وقوله: "وعلى لسانه" معطوف على قوله: "وعليه" وفصل بينهما بجملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى، فهي جملة معترضة بينهما والنية فيها التأخير لأن الجمل جميعها معطوفة بعضها على بعض، وإذا جاز الاعتراض بالجمل التي ليست معطوفة؛ فلأن يجوز بالجمل المعطوفة أولى. ومثل المثلين جائز في فصيح الكلام والشعر وقد جاء في كتاب البيهقي: "فاختار لهم ما اختار له على لسانه" بغير واو، فإن كان صحيحًا فأنه يكون متعلقا لقوله: "واختار لهم على لسانه ما اختاره له". أو داخرين -بالخاء المعجمة-: من الدخول للذل والصغار، يقال: دخر الرجل -بالفتح- فهو داخر وادخره غيره.

وهذا الحديث قد تضمن أحكامًا، والمقصد من إدراجه تخيير ولي القتيل بين القصاص والدية، ونحن نذكر ما يتعلق بالحديث من الأحكام. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- في أمر الحرم: أن من قتل قتيلاً فلجأ إلى الحرم فإنه يقتص منه وكذلك الحدود. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: لا يقتل ولكن ينظر خروجه من الحرم، إلا أن يكون قد قتل فيه فإنه يقتل. وأما الصيد: فإن صيد الحرم لا يجوز لأحد قتله ولا صيده وهذا إجماع. وأما الشجر: فإنه لا يجوز قطعه، وسواء في ذلك ما نبت بنفسه أو ما أستنبته الآدميون. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: ما ينبته الآدميون يجوز قطعه، وما لم ينبتوه: فإن كان مما يستنبته الناس جاز قطعه، وما لا فلا. وأما حشيش الحرم: فلا يجوز قطعه ولا قلعه ولا بيعه إلا الإذخر، لقول العباس -رضي الله عنه-: إلا الإذخر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إلا الإذخر". ويجوز رعي الحشيش لحاجة الماشية إليه. وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز. فأما العوسج والشوك: فيجوز قلعه لأنه مضر. ويحكى عن مالك أنه قال: لا شيء على من قطع شيئًا من شجر الحرم. وهو قول داود. فأما التخيير في القصاص والدية: فإن القتل العمد العدوان عند الشافعي على قولين:- أحدهما: أن الواجب به أحد شيئين: إما القصاص، وإما الدية ويعتبر ذلك

باختيار ولي الدم، فإن عفى عن أحدهما كان له الآخر. والقول الثاني: أن الواجب القصاص، إلا أن له أن يعفو عنه على أن يأخذ الدية ولا يعتبر رضى الجاني، فإن عفى عن القصاص ولم يشترط الدية سقط حقه. وقد روى ثبوت الدية بغير اختيار القاتل عن: ابن عباس ومجاهد وعطاء وابن المسيب. وبه قال أحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: الواجب القود، وليس للولي أن يعفو على مال إلا برضى القاتل. وعن مالك روايتان:- أحدهما: مثل أبي حنيفة. والثانية: تخيير الولي. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله أو مثل معناه. هذا الحديث أخرجه في كتاب "الديات" عقيب الرواية الثالثة من حديث أبي شريح المذكور قبل هذا (1)، وهو طرف من حديث طويل أخرجه الجماعة إلا مالكا. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن أبي نعيم، عن شيبان، عن يحيى بالإسناد أن خزاعة قتلوا رجلاً. وقال عبد الله بن رجاء: حدثنا حرب، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلاً من بني ليث بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الله حبس عن مكة الفيل ¬

_ (1) الأم (7/ 148 - 319). (¬2) البخاري (6880،112).

وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار، ألا وإن ساعتي هذه حرام لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها, ولا يلتقط ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يودى، وإما أن يقاد". فقام إليه رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاة فقال: اكتب لي يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اكتبوا لأبي شاة" ثم قام رجل من قريش فقال: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا الإذخر". وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن زهير وعبيد الله بن سعيد، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى. وعن إسحاق بن منصور، عن عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن يحيى. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن عباس بن الوليد، عن أبيه، عن الأوزاعي. وعن أحمد بن إبراهيم، عن أبي داود، عن حرب بن شداد كلاهما عن يحيى وذكر الحديث مختصرًا. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن محمود بن غيلان ويحيى بن موسى، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى مختصرًا. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن العباس بن الوليد، عن أبيه، عن الأوزاعي، عن يحيى. وله روايات أخرى. وفي الباب عن: وائل بن حجر، وأنس. ¬

_ (¬1) مسلم (1355). (¬2) أبو داود (4505). (¬3) الترمذي (1405) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي في الكبرى (3/ 434 - 435 رقم 5855).

وما يتعلق بأحكام هذا الحديث قد تقدم في حديث أبي شريح. واختلاء الشوك: أخذه. والتقاط الساقط: أخذها، والساقط: الشيء الذي يسقط من الناس وهي اللقطة. والمنشد: المعرف. والإذخر: نبت معروف. ***

الفصل الخامس في أحاديث متفرقة

الفصل الخامس في أحاديث متفرقة أخبرنا الشافعي: عن محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم النخعي، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتى برجل قد قتل عمدًا فأمر بقتله، فعفى بعض الأولياء فأمر بقتله، فقال ابن مسعود: كانت النفس لهم جميعًا، فلما عفى هذا أحيا النفس فلا يستطيع أن يأخذ حقه حتى يأخذ غيره. قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية عليه في ماله وترفع حصة الذي عفى، فقال عمر: وأنا أرى ذلك. وأخرج الشافعي فيما بلغه عن حماد، عن قتادة، عن خلاس، عن علي قال: إذا أمر الرجل عبده أن يقتل رجلاً فإنما هو كسيفه أو كسوطه يقتل المولى ويحبس العبد في السجن. وقال الشافعي فيما حكى عن محمد بن الحسن قال: أخبرنا إسماعيل بن عياش الحمصي قال: حدثنا عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قضى في رجل قتل رجلاً متعمدًا وأمسكه آخر، قال: يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت. قال: هو يخالف ما احتج به فلا يحبسه حتى يموت. وأخرج المزني: عن الشافعي، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن طلحة قال: طعن رجل بقرن في رجله فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقدني. قال: "انتظر" فعاد إليه فقال: "انتظر" فعاد إليه فقال: "انتظر". فعاد إليه فأقاده، فبرأ المستقاد منه وشلت رجل الآخر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، قد برأت رجله وشلت رجلي؟ فقال: "قد قلت لك انتظر" ولم ير له شيئاً. هذا حديث مرسل، وكذا رواه أيوب، وابن جريج عن عمرو بن دينار

مرسلاً. ورواه أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة عن ابن علية، عن أيوب، عن عمرو، عن جابر. قال الدارقطني: أخطأ فيه ابنا أبي شيبة وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره فرووه عن عمرو مرسلاً (¬1). وأخرج الشافعي: فيما بلغه عن سعيد، عن أبي معشر، عن عبد الله في الذي يقتص منه فيموت قال: على الذي اقتص منه الدية ويرفع عنه بقدر جراحته. قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا، بل يقولون -نحن وهم-: لا شيء على المقتص لأنه فعل فعلاً كان له أن يفعله. وأورده فيما ألزم بعض العراقيين في خلاف عبد الله بن مسعود وهذا ليس بثابت عن ابن مسعود. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) انظر هذه الأقوال في المعرفة (12/ 84 - 85).

الباب الثالث في الديات

الباب الثالث في الديات وفيه عشرة فصول: الفصل الأول في قتيل عمد الخطأ وقتيل الخطأ أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم ابن ربيعة، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا، مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني مثله. هكذا أخرج هذا الحديث في كتاب "جراح العمد" (¬1)، وقد أخرجه المزني عنه بهذا الإسناد أتم من هذا قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على درجة الكعبة يوم الفتح فقال: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا فيه مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها، ألا وإن كل مأثرة ودم ومال كان في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين، إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت فإني أمضيتهما لأهلها كما كانتا". وهذا الحديث قد أخرجه أبو داود والنسائي، وفيه اختلاف كثير على القاسم ابن ربيعة فتارة: عنه، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. ¬

_ (¬1) الأم (6/ 105) وسمى الثقة هناك فقال: [عبد الوهاب الثقفي].

وتارة: عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وتارة: عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمه. وتارة مرسلاً. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن سليمان بن حرب ومسدد، عن خالد، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس، عن ابن عمرو. وعن مسدد، عن [عبد] (¬2) الوارث، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن ابن عمر. قال أبو داود (1): وأما رواية ابن عيينة، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن [ابن] (2) عمر، ورواه أيوب السختياني، عن القاسم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يعقوب السدوسي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن، عن شعبة، عن أيوب، عن القاسم، عن عبد الله بن عمرو. وعن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس، عن حماد، عن أيوب، عن القاسم مرسلاً. وعن محمد بن منصور، عن سفيان، عن ابن جدعان، عن القاسم، عن ابن عمر. وعن محمد بن كامل، عن هشيم، عن خالد، عن القاسم، عن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. العمد: القصد تقول: عمدت إلى الأمر أعمد إليه: إذا قصدت وتعمدت فعل كذا وكذا: إِذا فعلته عن قصد ونية في فعله وعزيمة على إيجاده. ¬

_ (¬1) أبو داود (4547، 4548، 4549). (¬2) من أبي داود. (¬3) النسائي (8/ 40 - 42).

والخطأ: ما لا يتعمده ويكون فيه مخطئا أي: مخالفًا للصواب من غير قصد. والمأثرة: كل ما يؤثر ويذكر من مكارم الجاهلية ومفاخرهم. وقوله: "تحت قدمي" معناه: إبطالها وإسقاطها. هذا من فصيح الكنايات قد داسها بقدمه وألصقها بالتراب وأخفاها فيه. وأما سدانة البيت: فهي خدمته والقيام بأمره وهي الحجابة أيضًا، وكانت في بني عبد الدار. والسقاية: ما كانوا يسقونه الحجيج من نبيذ الزبيب والماء، وكانت في بني هاشم فأقرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانا عليه، وصار بنو شيبة -وهم من بني عبد الدار- يتولون حجبة البيت إلى الآن، وبنو العباس يتولون سقاية الحاج. وجملة أنواع القتل ثلاثة:- الأول: عمد محض: وهو أن يقصد ضربه بما يقتل غالبًا كالسيف، والسكين، والحجر الثقيل وما أشبه ذلك. والثاني: الخطأ المحض: وهو أن لا يقصده وإنما يرمي هدفًا أو صيدًا ونحو ذلك فيصيب إنسانًا. والثالث: عمد الخطأ -ويقال له: شبه العمد-: وهو أن يقصد ضربه بما يقتل غالبا كالعصا الصغير والحجر الصغير، إما على وجه التأديب، أو على وجه الإيلام فيموت منها، فيسمى شبه العمد: لأنه قصد الضرب وأخطأ في القتل. وبهذا التقسيم قال أبو حنيفية وأحمد. وعن مالك روايتان الثانية منهما بنفي شبه العمد ويقول: إنه عمد إذا ثبت ذلك فإن الأول فيه القصاص أو الذي كما سبق، والثاني والثالث فيهما الدية. ثم الدية على ضربين: مغلظة ومخففة.

فالمغلظة: تجب في العمد المحض إذا ترك أولياء القتيل القصاص وطلبوا الدية عند الشافعي، وقد تقدم بيان ذلك، وكذلك المغلظة تجب في شبه العمد. والمخففة: تجب في الخطأ إلا أن يكون قد قتله في الحرم أو في الأشهر الحرم، أو كان القتيل ذا رحم محرم من النسب. فأما المغلظة: فهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة والخلفة: الحامل وجمعها خلفات فذلك مائة من الإبل. وقوله: "في بطونها أولادها" من باب التأكيد وإلا فالخلفة: هي التي في بطنها ولدها. ويجوز أن يكون ذلك لأن قوله: "خلفة" ربما ظن أنه أراد به التي من شأنها أن تحمل، وأن سنها قد بلغ السن الذي تحمل في مثله فقال: "في بطونها أولادها" نفيًا لهذا الوهم المتوقع. وروى هذا التغليظ عن عمر وإحدى الروايتين عن علي وعن زيد وأبي موسى والمغيرة. وبه قال عطاء ومحمد بن الحسن وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال أبو حنيفة ومالك: للتغليظ أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمسة وعشرون حقة، وخمسة وعشرون جذعة. وهذه إحدى الروايتين عن علي وقد رويت عن ابن مسعود. وأما الدية المخففة فهي أخماس عند أكثر الفقهاء، إلا أنهم اختلفوا في الأخماس:- فقال الشافعي ومالك: خمس جذاع، وخمس حقاق، وخمس بنات لبون، وخمس بنات مخاض، وخمس بنو لبون. وحكى ذلك عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة والليث. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: خمس بنو مخاض، وخمس بنات

مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس حقاق، وخمس جذاع. وروي عن علي -رضي الله عنه- أنها أرباع: بنات مخاض، وبنات لبون، وحقاق، وجذاع. وبه قال الشعبي وإسحاق. وقال زيد: هي ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون ابن لبون. وبه قال الحسن البصري. وقال الشافعي فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم، عن علي قال: الخطأ شبه العمد بالخشبة والحجر الضخم ثلاث حقاق، وثلاث جذاع، وثلاث ما بين ثنية إلى بازال عليها كلها خلفة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قتل في عمية رميًا يكون بينهما حجارة أو جلد بالسوط أو ضرب بعصا فهو خطأ عقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدًا فهو قود يده فمن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل". هكذا جاء هذا الحديث في المسند مرسلاً، وقد أخرجه أبو داود والنسائي مسندًا عن ابن عباس. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن سعيد بن سليمان، عن سليمان بن كثير، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس وذكره. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن هلال بن العلاء، عن سعيد بن سليمان مثل أبو داود. وعن محمد بن معمر، عن محمد بن كثير، عن سليمان بن كثير، عن عمرو بن دينار. ¬

_ (¬1) أبو داود (4540). (¬2) النسائي (8/ 39 - 40).

العمية -بتشديد الميم وتشديد الياء-: الأمر الأعمى الذي لا يستبين وجهه. وقيل: العمية: الفتنة، وقيل: الضلال. والذي في رواية أبي داود والنسائي: "عمياء" أي في حالة ذات جهالة كأنها عمياء مظلمة لا يبصر نفعها من ضرها. وقوله: "رميا يكون بينهم بحجارة" هذه اللفظة يجوز أن تكون بكسر الراء وتشديد الميم وتشديد الياء وألف ساكنة غير منونة، من قولهم: كانت بين القوم رميا ثم صاروا إلى حجيرى: أي كان بين القوم مراماة بالحجارة ثم يوسطهم من حجر بينهم وكفا بعضهم عن بعض وهو الصحيح. وموضع "رميا" جر بدلاً من عمية، بدل بعض من كل أو بدل اشتمال لأن العمية تشمل الرميا وغيرها من أنواع الضلالة والجهالة. ويجوز أن يكون "رميا" وهو مصدر رمى يرمي، والمعنى: أن ترمي القوم بالحجارة فيوجد بينهم قتيل لا يدرى من قتله ويعمى أمره فلا يبين ففيه الدية. كذلك قوله: "أو جلد بالسوط أو ضرب بعصا" لأنه ليس من آلة القتل فعقله عقل الخطأ أي: ديته دية قتيل الخطأ. وباقي الحديث قد تقدم مثله في باب القصاص. وأما دية الخطأ فقد تقدم ذكرها في الحديث قبل هذا وهو حديث ابن عمر. قال الشافعي: قال الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (¬1) قال: فأحكم الله -تعالى- في تنزيل كتابه أن على قاتل المؤمن دية مسلَّمة إلى أهله، وأبان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - كم الدية. قال: وكان نقل عدد من أهل العلم من عدد لا تنازع بينهم أن رسول ¬

_ (¬1) [النساء: 92].

الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بدية المسلم مائة من الإبل، وكان هذا أقوى من نقل الخاصة، وقد روي من طريق الخاصة وبه نأخذ ففي المسلم يقتل خطأ مائة من الإبل. وذكر حديث ابن عيينة وحديث ابن عمر وقد تقدما. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: "في النفس مائة من الإبل". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي بكر في الديات في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: "في النفس مائة من الإبل". قال ابن جريج: فقلت لعبد الله بن أبي بكر: أفي شك أنتم من أنه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه يعني بذلك. هذا طريق من حديث طويل أخرجه مالك في الموطأ والنسائي. أما مالك (¬1): فأخرجه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم في العقول: "أن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعًا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها، وفي العين خمسون وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن خمس، وفي الموضحة خمس". وأما النسائي (¬2): فأخرجه من طرق كثيرة طويلة ومختصرة. فمنها: عن عمرو بن منصور، عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم؛ ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 647 رقم 1). (¬2) النسائي، (8/ 57 - 58).

عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابًا فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن هذه نسختها: "من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد: وكان في كتابه: "أن من اعتبط مؤمنًا قتلاً عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، فإن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل نصف الدية، وفي المأمومة نصف الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأن الرجل يقتل بالمرأة، وأن على أهل الذهب ألف دينار". هذا الطرف الذي أخرجه الشافعي من هذا الحديث استدل به على أن الدية من الإبل، والذي جاء في رواية الموطأ والنسائي من تفصيل الأعضاء والجراح؛ سيجيء شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: "فقرئت" بالتأنيث ذهابا إلى الأحكام المودعة في الكتاب وقوله: "فاعتبط مؤمنًا قتلا" قد تقدم في كتاب القصاص، وذكرنا الخلاف فيمن رواه بالعين والغين. والقيل: الملك. ودور عين من أدوار اليمن ومقدميها ثم صارت قبيلة وكذلك معافر وهمدان. وقوله: "عن بينة" إذا ثبت أنه قتله وقامت عليه البينة. والمنقلة: الشجة التي يخرج منها صغار العظام. قال الشافعي (¬1): وإذ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتيل العمد الخطأ دية مغلظة ¬

_ (¬1) الأم (6/ 113).

منها: أربعون خلفة في بطونها أولادها، ففي ذلك دليل على أن دية الخطأ الذي لا يخالطه عمد مخالفة لهذه الدية، وقد اختلف الناس فيها فألزم القاتل مائة من الإبل بالسنة، ثم ما لم يختلفوا فيه ولا ألزمه من أسنان الإبل إلا أقل ما قالوه يلزمه، لأن اسم الإبل لا يلزم الصغار والكبار، فدية الخطأ أخماس: عشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون بنو لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. والله أعلم. ***

الفصل الثالث في قيمة الدية

الفصل الثالث (*) في قيمة الدية أخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن عبيد [الله] (¬1) بن عمر، عن أيوب بن موسى، عن ابن شهاب ومكحول وعطاء قالوا: أدركنا الناس على أن دية الحر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، فقدم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تلك الدية على أهل القرى ألف دينار أو اثني عشر آلاف درهم، ودية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم، فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل، ودية الأعرابية إذا أصابها الأعرابي خمسون من الإبل لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق. هكذا جاء هذا الحديث في المسند، وقد أخرجه البيهقي (¬2) عنه بالإسناد بنحوه وهذا لفظه: قالوا: أدركنا الناس على أن دية الرجل المسلم الحر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة من الإبل، وتقويم عمر على أهل القرى ألف دينار واثني عشر ألف درهم، وإن كان الذي أصابه من الأعراب فديته مائة من الإبل لا يكلف الأعراب الذهب ولا الورق، ودية الأعرابي إذا أصاب الأعرابي مائة من الإبل. قال الشافعي (¬3): وعام في أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض الدية من الإبل، ثم قومها عمر بن الخطاب على أهل الذهب والورق، والعلم يحيط -إن شاء الله- أن عمر لا يقومها إلا قيمة يومها ويكون قومها إلا برضا الجاني وولي الجناية. ثم استدل بهذا الحديث فقال في آخره: وهذا يدل على ما وصفت، ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 114). (¬2) المعرفة (12/ 106). (¬3) الأم (6/ 114). (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "الفصل الثاني"، والله أعلم.

ألا ترى أنه لا يكلف الأعرابي ذهبًا ولا ورقا لوجوب الإبل، وأخذ الذهب والورق من القروى لإعواز الإبل فيما أرى -والله أعلم- لأن الحق لا يختلف في الدية. وتفصيل المذهب: أن الواجب في الدية الإبل، فإن أعوزت فلم يكن في تلك الناحية أو كانت إلا أنها لم تبع بثمن مثلها فقد اختلف قول الشافعي فيها:- فقال في القديم: يجب على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم. وبه قال مالك. وقال في الجديد: إذا أعوزت الإبل رجع إلى قيمتها. وقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز العدول عن الإبل إلى الدراهم والدنانير مع وجودها, ولا يتعين الإبل على الجاني. وقال الحسن البصري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد: الدية ستة أصول: الإبل، والذهب، والفضة، ومائتا بقرة، ومائة حلة، وألفا شاة، ووافقهم أحمد إلا أن عنده في الحلل روايتان. وأما تقدير الدية بالدراهم:- فإن الشافعي قال: إنها اثنى عشر ألف درهم. وهذا على القديم. فأما على الجديد: فإنها تقوم بغالب نقد البلد، وإذا وجد بعض الإبل أخذ وقوم الباقي بالذهب أو الدراهم. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: عشرة آلاف درهم. وأما دية المرأة وجراحها: فإنها على النصف من دية الرجل وجراحه وبه قال أهل العلم كافة، إلا ما حكي عن ابن علية والأصم فإنهما قالا: دية الرجل والمرأة سواء. والله أعلم.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد [عن] (¬1) ابن جريج، عن عمرو بن شعيب قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقيم الإبل على القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق، ويقيمها على أثمان الإبل فإذا غلت رفع في قيمتها وإذا هانت نقص في ثمنها على أهل القرى الثمن ما كان. هذا الحديث هكذا جاء في المسند مرسلاً، وقد أخرجه أبو داود والنسائي مرفوعًا. فأما أبو داود (¬2) فقال: وجدت في كتابي عن شيبان -ولم أسمعه منه، فحدثناه أبو بكر- صاحب لنا ثقة- قال: حدثنا شيبان، عن محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم دية الخطأ على أهل القرى وذكر نحوه وزاد قال: وبلغت في [عهد] (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين أربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار أو عدلها من الورق ثمانية ألف درهم وذكر حديثًا طويلاً يتضمن أحكامًا كثيرة تتعلق بالديات. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن أحمد بن سليمان، عن يزيد بن هارون، عن محمد بن راشد بإسناد أبي داود وذكرا من حديثه. عدل الشيء بكسر العين: مثله ونظيره، وقيل بالفتح أيضًا. وهذا الحديث ذكره الشافعي في كتاب جراح الخطأ مستدلاً به على أن الأصل في الدية الإبل، وإنما يعدل إلى القيمة مع إعوازها، وأن تقدير ثمنها غير محصور في شيء بعينه، لأنه قال: إذا غلت زاد في ثمنها، وقد صرح بذلك أبو داود والنسائي في روايتهما أنها بلغت أثمانها في ثمانمائة دينار. وأخرج المزني (¬5) قال: حدثني الشافعي قال: سمعت عبد الوهاب الثقفي ¬

_ (1) من الأم (6/ 115). (¬2) أبو داود (4564). (¬3) من أبي داود. (¬4) النسائي (6/ 42 - 43). (¬5) انظر المعرفة (12/ 108).

يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أدركت الناس وهم يعطون في دية المسلم من الغنم ألفي شاة. قال: وسمعت الثقفي يقول: سمعت يحيى بن سعيد يحدث عن عمرو بن شعيب أن عمر بن الخطاب قال: في الدية على أهل الشاء الشاء. وأخرج الشافعي قال: حدثنا محمد بن الحسن بلغنا عن عمر بن الخطاب أنه فرض على أهل الذهب ألف دينار في الدية، وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم. أخبرنا بذلك أبو حنيفة، عن الهيثم، عن الشعبي، عن عمر بن الخطاب وزاد: على أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل الغنم ألفا شاة. قال الشافعي: وروى عطاء ومكحول وعمرو بن شعيب وعدد من الحجازيين أن عمر فرض الدية اثنى عشر ألف درهم، ولم أعلم بالحجاز أحدًا خالف فيه. وممن قال الدية اثنى عشر ألف درهم: ابن عباس وأبو هريرة وعائشة. لا أعلم بالحجاز أحدًا خالف ذلك قديمًا ولا حديثًا, ولقد رواه عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضى بالدية اثنى عشر ألف درهم، وزعم عكرمة أنه نزل فيه: "وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله". وهذا الذي ذكره الشافعي عن عكرمة، عن ابن عباس موصولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: قال محمد بن الحسن: وقال أهل المدينة: إن عمر فرض الدية على أهل الورق اثنى عشر ألف درهم. قال: ونحن أعلم -فيما نظن- بفريضة عمر بن الخطاب حين فرض الدية دراهم من أهل المدينة، لأن الدراهم على أهل العراق وقد صدق أهل المدينة أن عمر فرضها اثنى عشر ألف درهم، ولكنه فرضها وزن ستة.

قال الشافعي: فقلت لمحمد بن الحسن: أفتقول أن الدية اثنى عشر ألف درهم وزن ستة؟ فقال: لا. فقلت: فمن أين زعمت إذ كنت أعلم بالدية -فيما زعمت- من أهل الحجاز لأنك من أهل الورق وأنك عن عمر قلتها، فإن عمر قضى فيها بشيء لا تقضى به؟ قال: لم تكونوا تحسبون، قلت: أفتروي شيئًا تجعله أصلاً في الحكم، فأنت تزعم أن من روي عنه لا يعرف ما قضى به؟. وقال الشافعي: فادعى محمد على أهل الحجاز أنه أعلم بالدية منهم، وإنما عن عمر قبل الدية من الورق ولم يجعل [لهم] (¬1) أنهم أعلم بالدية منه إذ كان عمر منهم، فمن الحاكم منه أولى بالمعرفة ممن الدراهم منه إذ كان الحكم إنما وقع بالحاكم. وأخرج الشافعي فيما بلغه عن يزيد بن هارون، عن هشام، عن الحسن أن عليًا قضى بالدية اثنى عشر ألفًا. قال الشافعي: وبهذا نقول وهم يقولون: الدية عشرة آلاف درهم. ... ¬

_ (¬1) من المعرفة (12/ 110).

الفصل الرابع في دية ما دون النفس

الفصل الرابع في دية ما دون النفس أخبرنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: "وفي الأنف إذا أوعي جدعًا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث النفس، وفي الجائفة مثلها، وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن خمس، وفي الموضحة خمس". هكذا أخرج هذا الحديث في كتاب "جراح الخطأ" وقد أخرج منه طرفًا في كتاب "جراح العمد" بالإسناد: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" وأخرج منه طرفًا آخر في "جراح العمد" بالإسناد: "وفي الموضحة خمس". هذا الحديث هو الذي تقدم منه طرف في الفصل الأول، وقد تقدم ذكره وذكر من أخرجه وذكر ما يتعلق به، ونحن نزيده ها هنا إيضاحًا، وذلك أن كل [ما] (1) في الإنسان من الأعضاء والجوارح مفردا؛ فإن ديته دية النفس كاملة كالأنف واللسان والذَّكَر، وما كان منها مزدوجًا ففي الواحد منهما نصف الدية وفي الاثنين الدية كالعينين والأذنين واليدين والرجلين، وما كان أكثر من ذلك فبنسبة العدد كالأصابع لما كانت عشرًا كان لكل إصبع عشر من الإبل، لأنها عشر الدية. وروي مثل ذلك عن علي وابن عباس وزيد بن ثابت. وعن عمر روايان: أحدهما: مثل ذلك، والأخرى: أن الأصابع متفاضلة. وأما الأسنان: فقد اختلف في حكمها لاختلاف الأحاديث الواردة فيها فمنهم من جعل فيها خمسًا خمسًا، ومنهم من جعل ثلاثًا ثلاثًا وغير ذلك. وقوله: "في كل إصبع مما هنالك" الكاف راجعة إلى اليد والرجل لأنه قد ¬

_ (1) أثبتها ليستقيم السياق.

أتبعها بذكرها حيث قال: "وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك" أي مما في اليد والرجل. والجدع: القطع. وأوعيته -بالياء- جدعًا: إذا استأصله، وكذلك أوعيته واستوعبته بالباء. والواو في قوله: "وفي الأنف" واو عطف على ما قبله في أول الحديث، لأن أول الحديث: أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: "أن في النفس مائة من الإبل" ثم قال: "وفي الأنف كذا وكذا". والمأمومة: شجة تبلغ أم الدماغ وهي أن يبقي بينها وبين الدماغ جلد رقيق. والجائفة: الطعنة التي تخالط الجوف وتنفذ فيها. والمراد بالجوف: كل ما له قوة محيلة كالبطن والدماغ. والموضحة: التي تبدي وضح العظم وهو بياضه، والتي فرض فيها خمس من الإبل هي ما كانت في الرأس والوجه، فأما الموضحة في غير الوجه والرأس ففيها الحكومة. قوله: "وفي المأمومة ثلث النفس" يريد ثلث الدية. قال الشافعي: والموضحة في الرأس والوجه كله سواء في أعلاه وأسفله صغيرة كانت أو كبيرة. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال ابن المسيب: إذا كانت في الوجه وجب عشر من الإبل لأن تبينها أكثر وقال مالك إذا كانت على الأنف أو اللحي الأسفل ففيها حكومة. قال الشافعي: ولم نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيما دون الموضحة من الشجاج بشيء، وأكثر قول من لقيت أن ليس فيما دون الموضحة أرش معلوم،

وأن في جميع ما دونها حكومة. وجملة الأمر: أن القصاص فيما دون النفس يثبت في الأطراف والجراح: أما الأطراف: فسيرد الكلام فيه. وأما الجراح: فإنما يجب القصاص في الجراح إذا انتهى إلى العظم، وتسمى الجراح التي تكون في الرأس والوجه الشجاج دون سائر البدن، وليس في الشجاج قصاص مثل الموضحة ولا دية مقدرة وإنما فيها الحكومة، وما بعد الموضحة ففيها أرش مقدر، وتنفرد الموضحة بجواز القصاص فيها والدية. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن عبد الله بن الحارث -إن لم أكن سمعته من عبد الله- عن مالك بن أنس، عن يزيد بن قسيط، عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف دية الموضحة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن الثوري، عن مالك، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن المسيب عن عمر وعثمان مثله أو مثل معناه. قال الشافعي: وقرأنا على مالك: أنا لم نعلم أحدًا من الأئمة في القديم ولا في الحديث؛ قضى فيما دون الموضحة بشيء. قال الشافعي: وهو -والله يغفر لنا وله- يروي عن إمامين عظيمين عمر وعثمان قضاء فيما دون الموضحة بشيء مؤقت. قال البيهقي (¬1): روينا عن عبد الرزاق أنه سأل مالك بن أنس أن يحدثه بحديث عمر وعثمان في الملطاة فامتنع، وقال: إن العمل عندنا على غيره ورجله عندنا ليس هناك -يعني يزيد بن عبد الله بن قسيط- إسناد هذا الحديث ¬

_ (¬1) المعرفة (12/ 120).

من غرائب الإسناد ولطائفها، لأن الشافعي معروف بالرواية عن مالك، وهو من أكبر أصحابه وأعرفهم بحديثه، وبينه وبين مالك في هذا الحديث ثلاث: مسلم، وابن جريج، والثوري. ثم كل واحد منهم مثل مالك أو بعضهم أكبر منه، وفيه لمالك من الفضيلة: أن الثوري روى عنه، وللثوري أن ابن جريج روى عنه، قل ما يجيء مثل هذا الإسناد إلا نادرًا. قال الأزهري: وقال أبو عبيد عن الواقدي: الملطاة مقصور ويقال: الملطاه بالهاء: القشرة التي بين عظم الرأس ولحمه. وقال شمر: يقال: شجه حتى رأيت الملطي. وقال الليث: تقدير الملطاء أنه ممدود مذكر وهو بوزن: الحرباء فجعل الميم أصلية. وقال شمر عن ابن الأعرابي أنه ذكر الشجاج فلما ذكر الباضعة ثم قال: الملطئة وهي التي تخرق اللحم حتى تدنو من العظم. وقال غيره: تقول الملطي. وقول ابن الأعرابي يدل على أن الميم من الملطي ميم مفعل، وإنها ليست بأصلية كأنها من لطيت بالشيء إذا لصقت به. والله أعلم. وقال الجوهري: الملطي على مفعل السمحاق من الشجاج: وهي التي بينها وبين العظم القشرة الرقيقة. قال أبو عبيد: وأخبرني الواقدي أن السمحاق في لغة أهل الحجاز الملطي ويقال لها: الملطاة أنه لا دية مقدرة لما دون الموضحة والملطاة دون الموضحة، فلا دية لها مقدرة إنما فيها الحكومة. وقد ورد عن الشافعي من رواية حرملة بن يحيى عنه في تفسير الشجاج قال: قال الشافعي: أول الشجاج الحارصة: وهي التي تحرص الجلد حتى تشقه قليلاً

ومنه قيل: حرص القصار الثوب إذا شقه، ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم وتبضعه بعد الجلد، ثم المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم ولم تقطع السمحاق، والسمحاق: جلدة رقيقة فهي سمحاق، فإذا بلغت الشجة تلك القشرة الرقيقة حتى لا يبقى بين العظم واللحم غيرها فهي السمحاق وهي الملطاة، ثم الموضحة: وهي يكشف عنها تلك القشرة وتشق حتى يبدو وضح العظم، والمنقلة: التي تنقل منها العظم، والأمة وهي المأمومة: وهي التي تبلغ أم الرأس الدماغ، والجائفة: وهي التي تخرق حتى تصل إلى الصفاق. وما كان دون الموضحة فهو خدوش فيه الصلح، والدامية: التي تدمى من غير أن يسيل منها دم. هذا ما رواه حرملة عن الشافعي. وقال الأزهري: أول الشجاج: الحارصة: وهي التي تشق الجلد شقًا يسيرًا وتقشره، ومنه: حرص القصار الثوب إذا قصره لأنه يقشره، ثم الدامعة: وهي التي تدمع منها نقطة من دم، ثم الدامية: وهي التي تخرج من الدم أكثر من ذلك، ثم الباضعة: وهي التي تبضع اللحم تشقه بعد الجلد، ثم المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم، ثم السمحاق: وهي التي وصلت إلى جليدة رقيقة بين اللحم والعظم، وتسمى تلك الجليدة السمحاق، ثم الموضحة: وهي التى وضحت عن العظم وكشفت عنه، ثم الهاشمة: وهي التي تهشم العظم، ثم المنقلة: وهي التي تهشم العظم وتنقل ما رقَّ منه، ثم الأمة: وهي التي تبلغ أم الرأس ويقال لها: المأمومة، وأم الرأس الخريطة التي فيها الدماغ وقيل: هي الدامعة، وقيل: الدامغة هي تخسف الدماغ فلا حياة بعدها، وقد ذكرها بعضهم الدامعة -بالعين المهملة- بعد الدامية لأنها تدفع بعد ما دميت. إذا ثبت هذا فليس في الشجاج قصاص إلا في الموضحه، وما قبلها فيه الحكومة كما سبق، ومنها وما بعدها فيه دية مقدرة:- ففي الموضحة: خمس من الإبل، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمس

عشرة، وفي الأمة ثلث الدية لأنها جائفة وكذلك الدامغة. وقال الشافعي: وقد حفظت عن عدد لقيتهم وحكي لي عنهم أنهم قالوا: في الهاشمة عشر من الإبل. وبهذا أقول. قال: ولست أعلم خلافًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الجائفة ثلث الدية. قال: وروي عن ابن طاوس، عن أبيه قال: عند أبي كتاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: "وفي الأنف إذا قطع المارن مائة من الإبل" قال: وحديث ابن طاووس في الأنف أبين من حديث ابن حزم. قال: وإذا اصطلمت الأذنان ففيهما الدية قياسًا على ما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بالدية من الاثنين في الإنسان. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا مالك، حدثنا داود بن حصين أن أبا غطفان بن طريف المري أخبره أن مروان بن الحكم أرسله إلى ابن عباس فسأله ما في الضرس؟ فقال ابن عباس: فيه خمس من الإبل. فردني مروان إلى ابن عباس قال: أفتجعل مقدم الفم مثل الأضراس؟ فقال ابن عباس: لو أنك لا تعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء. قال الشافعي: ما يدلك على أن الشفتين عقلها سواء؟ وقد جاء في الشفتين سوى هذا آثار. هذا الحديث هكذا أخرجه الشافعي في كتاب "الديات والقصاص" (¬1) عن محمد بن الحسن، عن مالك، وقد أخرجه في كتاب "جراح الخطأ" عن مالك، وإنما رواه في كتاب "الديات" عن محمد، عن مالك لأنه حكى في ذلك الكتاب أخبار محمد وكلامه على أهل المدينة، ثم يذب الشافعي عنهم ويجيب محمدًا عن ما احتج به عليهم لأنه لم يسمعه من مالك، فقد أخرج في كتاب "الديات" عن محمد بن الحسن، عن محمد بن أبان، عن حماد، عن النخعي ¬

_ (¬1) الأم (6/ 125).

في الأسنان كل سن نصف عشر الدية مقدم الفم ومؤخره سواء. قال محمد بن الحسن: وأخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن شريح قال: الأسنان كلها سواء في كل سن نصف عشر الدية. قال: وأخبرنا بكير، عن عامر الشعبي: الأسنان كلها سواء في كل سن نصف عشر الدية. وهذا الحديث الذي أخرجه الشافعي وقد جاء في الموطأ (¬1) بهذا الإسناد وأما تفصيل القول في دية الأسنان فإن الأضراس سواء، في كل ضرس خمس من الإبل. وحكى مثل ذلك عن ابن عباس ومعاوية، وحكى ابن المسيب عن عمر أنه قال: في السن خمس وفي الضرس بعير بعير. وروى عنه أنه كان يجعل في الضواحك خمسًا، وفي الأضراس بعيرين بعيرين، فإذا زادت على عشرين ضرسًا ففيها وجهان: هل يجب في كل ضرس خمس؟ أو تكمل الدية ولا يزاد عليها ولو قلع جميعها؟. قال الشافعي: والحجة فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وفي السن خمس" فكانت الضرس سنًا في فم لا يخرج من اسم السن. قال: وهذا كما قال ابن عباس إن شاء الله، والدية على العدد لا على المنافع. وقوله: "فهذا بذلك" يدلك على أن الشفتين عقلهما سواء، يريد أنه لما كان عقل الأسنان سواء، والمنفعة بها مختلفة، والجمال بها متفاوت. كان عقل الشفتين كذلك إن اختلفا في المنفعة والجمال. قال: فلما رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد في الدية الأسماء غير ملتفتٍ إلى المنفعة والجمال، كان ينبغي في كل ما وقعت عليه الأسماء أن يكون هكذا. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 656 - 657 رقم 8).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن مسلم بن جندب، عن أسلم -مولى عمر بن الخطاب- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "قضى في الضرس بجمل، وفي الترقوة بجمل، وفي الضلع بجمل". قوله: "قضى" أي حكم وأوجب في دية الضرس بجمل. والترقوة: العظم المستطيل فيما بين نقرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان عن جانبي الثغرة. قال الشافعي: في الأضراس خمس خمس لما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "في السن خمس" وكانت الضرس سنا. قال: وأنا أقول يقول عمر في الترقوة والضلع، لأنه لم يخالفه أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما علمته، فلم أر أن أذهب إلى رأي فأخالفه به. هكذا قال في كتاب "اختلافه مع مالك"، وفي كتاب "الديات" وهو قول سعيد بن المسيب. وقال في كتاب "الجراح" (¬1): يشبه -والله أعلم- أن يكون ما حكي عن عمر فيما وصف حكومة لا توقيت عقل، ففي كل عظم كسر من إنسان غير السن حكومة وليس في شيء منها أرش معلوم. وقال أصحاب الشافعي في الترقوة والضلع قولان:- أحدهما: في كل واحد جمل. والثاني: أن فيهما الحكومة. ومنهم من قال: ليس فيها إلا الحكومة قولاً واحداً، وإنما أوجب جملا تقدير الحكومة به. ¬

_ (¬1) الأم (6/ 80).

وذهب المزني وغيره: إلى أن فيها قولين كما ذكرنا. وبالجمل قال أحمد وإسحاق، وبالحكومة قال مالك وأبو حنيفة. ومعنى الحكومة: أن يُقَّوم المجني عليه لو كان عبدا وهو سوي قبل الجناية ثم يُقَّوم وهو مجني عليه، فما نقص بالجناية من قيمته الأولى نسب إلى أصل القيمة ثم أخذ بنسبته من الدية فهو واجب وإنما سميت حكومة: لأن ما قدره الشارع من القيم ليس لأحد أن يعدل عنه، وما لم يقدر فيه قيمة فعل كما قلنا. ومثاله: أن يكون له يد مثلًا فقطعها إنسان فيقال: لو كان هذا المقطوع اليد عبدا ويده شلاء كم قيمته؟ فيقال: مائة. ويقال: كم قيمته بعد قطع يده الشلاء فيقال: تسعون. فتكون الحكومة عشرة وهو عشر الثمن، فيؤخذ منه عشر الدية وهو مائة وهو نقص القيمة الأولى، ولو كانت يده سليمة وقطعها أوجبنا نصف الدية لأن قيمتها مقدرة في الشرع بذلك. وقد أخرج الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد [سمع سعيد] (¬1) ابن المسيب يقول: قضى عمر بن الخطاب في الأضراس ببعير بعير، وقضى معاوية في الأضراس بخمسة أبعرة خمسة أبعرة، فالدية تنقص في قضاء عمر وتزيد في قضاء معاوية، فلو كنت جعلت في الأضراس بعيرين بعيرين فتلك الدية سواء. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إسماعيل بن علية بإسناده عن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "في الأصابع عشر عشر". هكذا أخرجه في كتاب "الجراح" (¬2) ولم يتمم إسناده، وقد رواه المزني عنه عن إسماعيل بن علية، عن غالب التمار، عن مسروق بن أوس، عن أبي موسى هكذا رواه علي بن المديني، عن إسماعيل. ورواه ابن أبي عروبة، عن غالب ¬

_ (¬1) من الأم (7/ 234). (¬2) الأم (6/ 75).

التمار، عن حميد بن هلال، عن مسروق. والحديث قد أخرجه أبو داود والنسائي. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن إسماعيل، عن عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن غالب التمار، عن حميد، عن مسروق، عن أبي موسى. وفي أخرى: عن أبي الوليد، عن شعبة، عن غالب، عن مسروق. قال أبو داود: رواه محمد بن جعفر، عن شعبة، عن غالب، عن مسروق. ورواه إسماعيل، عن غالب بإسناد أبي الوليد. ورواه حنطة بن أبي صفية عن غالب بإسناد إسماعيل. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن أبي الأشعث، عن خالد، عن سعيد، عن قتادة، عن مسروق. وله روايات أخرى كذلك. قوله: "في الأصابع" حرف الجر متعلق بمحذوف تقديره: الحكم في دية الأصابع عشر عشر. يعني من الإبل، فلما كرر العشر علم أن كل إصبع ديتها عشر من الإبل، وقد سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الأصابع في الدية، كما سوى بين الأسنان فيها لحكمة رآها، وإلا فلا شبهة أن بعض الأصابع وبعض الأسنان أنفع من بعض وبعضها أكثر عملاً من بعض، ولولا السنة لكان القياس أن تتفاوت قيمتها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان وعبد الوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة، وفي ¬

_ (¬1) أبو داود (4557،4556). (¬2) النسائي (6/ 56).

التي تليها بعشرة، وفي الوسطى بعشرة، وفي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست. هكذا أخرجه في كتاب "الرسالة" (¬1). الإبهام من الأصابع معروفة والجمع الأباهيم. والتي تليها: المسبحة والسبابة، وما يقوله عوام الناس في تسميتها بالسبابة لا أصل له (¬2). والوسطى سميت بذلك: لأنها بين اثنتين من كل جانب. والتي تليها تسمى البنصر، ولم يسمها في هذا الحديث. والخنصر: الصغرى. والذي ذهب إليه الشافعي: أن دية الأصابع سواء عشر عشر من الإبل. وروى ذلك عن علي وابن عباس وزيد بن ثابت. قال الشافعي: لما كان معروفا -والله أعلم- عند عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع، نزلها منازلها فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، فلما وجد كتاب آل عمرو بن حزم وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل" صار إليه، ولم يقبل كتاب عمرو بن حزم -والله أعلم- حتى ثبت لهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: والحكمة في تسويتها واضحة وكذلك أنه لو جعلت مختلفة لاختلاف منافعها ومضارها وحسنها؛ لأدى ذلك إلى اختلاف كثير لا ينضبط بين الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والصحيح والتالف وغير ذلك من اختلاف البشر واختلاف أعضائهم، فحمل الأمر على التساوي في ذلك قطعا لهذا التفاوت المؤدي إلى الاختلاف العظيم والله أعلم. ¬

_ (¬1) الرسالة (ص 422 رقم 1160). (¬2) قلت: قال في اللسان: السبابة الأصبع التي تلي الأبهام والوسطى صفة غالبة، وهي المسبحة عند المصلين. مادة: سبب.

الفصل الخامس في دية جراح [المرأة]

الفصل الخامس في دية جراح [المرأة] (¬1) قد تقدم في الفصل الثالث حديث ابن شهاب ومكحول وذكرنا فيه أن دية المرأة نصف دية الرجل. وأخرج الشافعي: عن محمد بن الحسن قال: أخبرنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: عقل المرأة على النصف من عقل الرجل في النفس وفيما دونها. قال: وأخبرني أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن زيد بن ثابت أنه قال: يستوي الرجل والمرأة في العقل إلى الثلث، ثم النصف فيما بقي. قال: وأخبرني أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: قول علي -رضي الله عنه- في هذا أحب إلي من قول زيد. قال: وأخبرنا محمد بن أبان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعلي بن أبي طالب- أنهما قالا: عقل دية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس وفيما دونها. وقد روي عن ربيعة بن عبد الرحمن سأل سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر، قال: كم في اثنتين؟ قال: عشرون، قال: كم في ثلاث؟ قال: ثلاثون، قال كم في أربع؟ قال: [عشرون] (¬2) قال ربيعة: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها، قال: أعراقي أنت؟ قال: عالم ¬

_ (¬1) أثبتها لتمام المعنى بها. (¬2) سقط من الأصل والمثبت من المعرفة (12/ 135).

متثبت أو جاهل متعلم. قال: يا ابن أخي إنها السنة. قال الشافعي: القياس الذي لا يدفعه أحد يعقل ولا يخطئ به أحد فيما نرى، أن نفس المرأة إذا كان فيها من الدية نصف دية نفس الرجل وفي يديها نصف ما في يده، أنه ينبغي أن يكون ما صغر من جراحها هكذا، فلما كان هذا من الأمور التي لا يجوز لأحد أن يخطئ بها من جملة الرأى، وكان ابن المسيب يقول: في ثلاث أصابع المرأة ثلاثون، وفي أربع عشرون. ويقال له: حين عظم جرحها نقص عقلها، فنفول: هي السنة، وكان يروي عن زيد بن ثابت أن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث دية الرجل، ثم تكون على النصف من عقله لم يجز أن يخطئ أحد هذا الخطأ من جهة الرأي، لأن الخطأ إنما يكون من جهة الرأي فيما يمكن مثله فيكون رأي أصح من رأي، أما هذا فلا أحسب أحدًا يخطئ بمثله إلا الاتباع لمن لا يجوز خلافه عنده، فلما قال سعيد بن المسيب: هي السنة. أشبه أن يكون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن عامة من أصحابه، ولم يشبه زيد أن يقول هذا من جهة الرأي لأنه لا يحتمله الرأي، فإن قال قائل: فقد يروى عن علي خلافه فلا يثبت عن علي ولا عن عمر -رضي الله عنهما-، ولو ثبت كان يشبهان أن يكونا قالا به من جهة الرأي، ولا يكون فيما قال سعيد: السنة إذا كان يخالف القياس والعقل إلا علم اتباع فيما نرى والله أعلم. هذا قوله فيما ذب عن أهل المدينة ثم أردفه بأن قال: وقد كنا نقول به على هذا المعنى ثم وقفت عنه وأنا أسأل الله الخيَرة من قبل أنا قد نجد منهم من يقول السنة، ثم لا نجد لقوله السنة نفاذا بأنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالقياس أولى بنا فيها. قال: ولا يثبت عن زيد إلا كثتبوته عن علي. قال البيهقي: إنما رواه عن علي وزيد. الشعبي وإبراهيم النخعي وروايتهما عنهما منقطعة، وكذلك رواية إبراهيم عن عمر، والقياس ما قال الشافعي -رضي الله عنهما.

وأخرج الشافعي فيما بلغه عن شعبة، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله في جراحات الرجال والنساء يستوي في السن والموضحة وما خلا فعلى النصف. قال الشافعي: وهم يخالفون هذا فيقولون على النصف من كل شيء. أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف عبد الله بن مسعود. وأخرج الشافعي: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار أن زيد بن ثابت قضى في العين القائمة إذا طفئت -أو قال: فختت- بمائة دينار. قال مالك: ليس على هذا العمل إنما فيها الاجتهاد ولا شيء مؤقت، وجعل الشافعي فيها الحكومة في موضع آخر، ثم قال: وقد قضى به زيد بن ثابت في العين القائمة بمائة دينار فلعله قضى به على هذا المعنى -والله أعلم. ***

الفصل السادس في دية أهل الذمة

الفصل السادس في دية أهل الذمة أخبرنا الشافعي: أخبرنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن ثابت عن سعيد ابن المسيب أن عمر بن الخطاب قضى في اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف، وفي المجوسية بثمانمائة. [وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن صدقة بن يسار قال: أرسلنا إلى سعيد بن المسيب نسأله عن دية المعاهد فقال: قضى فيه عثمان بن عفان بأربعة آلاف. قال: فقلنا: فمن قبله؟ قال: فَحصَبَنا] (¬1). قال الشافعي: هم الذين سألوه آخرًا، وإنما أرادوا -والله أعلم- أن ابن المسيب كان يقول خلاف ذلك ثم رجع إلى هذا. ذكر الشافعي الروايتين الأولتين في كتاب "السير" وذكر الثالثة في كتاب "الديات". وقد رواه ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن عمر وعن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، عن عمر. وروي عن ابن مسعود مثل ذلك. قال الشافعي (¬2): أمر الله -تعالى- في المعاهد يقتل خطأ بدية مسلمة إلى أهله، ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقتل مؤمن بكافر مع ما فرق الله به بين المؤمنين والكافرين، فلم يجز أن يحكم على قاتله بدية ولا أن ينقص منها إلا ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) الأم (6/ 105).

بخبر لازم، وقضى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم ووصى عمر في دية المجوسي بثمانمائة درهم، ولم يعلم أحدا قال في دياتهم أقل من هذا، وقد قيل: أن دياتهم أكثر من هذا، فألزمنا قاتل كل أحد الأقل مما اجتمع عليه. وتفصيل المذهب: أن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ولا فرق بين الذمي والمعاهد والمستأمن. وروي مثل ذلك عن عمر وعثمان وسعيد بن المسيب والحسن، وبه قال إسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: مثل دية المسلم. وروى مثل ذلك عن ابن مسعود وبه قال علقمة والشعبي والنخعي والزهري ومجاهد والثوري. وقال مالك: يجب فيه نصف ديه المسلم. وبه قال عمر بن عبد العزيز وعروة ابن الزبير وعمرو بن شعيب. وقال أحمد: إن قتله عمدًا وجبت دية كاملة، وإن قتله خطأ وجب نصف دية. وأما دية المجوسي: فإنها ثلثا عشر دية المسلم أي نوع وجب منها، وذلك بالدراهم ثمانمائة درهم على أن دية المسلم اثنى عشر ألف درهم وبه قال مالك. وحكي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ديته دية اليهودي والنصراني. وقال أبو حنيفة: ديته دية المسلم وسواء كان له ذمة أو أمان فإن دمه محقون. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن الحسن، أخبرنا محمد بن يزيد، أخبرنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن ابن المسيب قال: دية كل معاهد في عهده ألف دينار. المعاهد -بكسر الهاء-: اسم فاعل من عاهد، وبفتحها اسم المفعول منه

وكلاهما فاعل ومفعول من حيث اللفظ والمعنى، لأن المعاهد بالكسر معاهد بالفتح من جهة من عاهده وكذلك بالعكس. وقوله: "في عهده" يريد: في مدة العهد، قال: المعاهد إنما يكون إلى مدة معلومة فإذا انقضت زال عنه حكم المعاهدة وبقي الاسم مجازًا خاليًا من الحكم المختص بالمعاهدين، فإذا قيل معاهد في عهده فديته ثلث دية المسلم. وهذا الأثر أخرجه الشافعي في كتاب "الديات" (1) عن محمد بن الحسن، وكذلك حديث عثمان بن عفان وقد تقدم في فصل: قتل المسلم بالكافر ليجيب عنهما. قال الشافعي في حديث عثمان: هذا من حديث من يجهل فإن كان غير ثابت فدع الاحتجاج به، وإن كان ثابتًا فعليك فيه حكم ولك فيه آخر فقل به حتى تعلم أنك قد اتبعته على ضعفه -يريد: رجوعه عن قتل المسلم بالكافر- قال: فقد روينا عن الزهري: أن دية المعاهد كانت في عهد أبي بكر وعمر وعثمان دية مسلم تامة، حتى جعل معاوية نصف الدية في بيت المال. قلنا: فتقبل أنت عن الزهري إرساله فنحتج عليك بمرسله، قال: ما نقبل المرسل من أحد وإن الزهري لقبيح المرسل، قلنا: فإذا أبيت أن تقبل المرسل وكان هذا مرسلاً وكان الزهري قبيح المرسل عندك أليس قد رددته من وجهين؟. وقال الشافعي: الدية جملة لا دلالة على عددها في تنزيل الوحي، وإنما قبلنا عدد الدية مائة من الإبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبلنا عن عمر الذهب والورق إذ لم يكن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدد دية المسلم، وعن عمر دية غيره ممن يخالف الإسلام إذ لم يكن فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء. ... ¬

_ (1) الأم (7/ 321).

الفصل السابع في دية الجنين

الفصل السابع في دية الجنين أخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن حسان، أخبرنا الليث بن سعد، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ميراثها لبنيها وزوجها والعقل على عصبتها". وأخبرنا الشافعي قال: قال قائل: ما الخبر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالجنين على العاقلة؟ قيل: أخبرنا الثقة قال الربيع: هو يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة. أخرج الرواية الأولى في كتاب "جراح العمد"، وأخرج الثانية في كتاب "الديات" (¬1) كما ذكرنا ولم يتعرض إلى لفظ الحديث فيها والحديث هو الرواية الأولى، وقد رواه البيهقي في كتابه عن الشافعي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة عبد أو وليدة. هذا حديث صحيح متفق عليه أخرجه الجماعة. أما مالك (¬2): فأخرج الرواية التي ذكرها البيهقي. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن الليث. وأما مسلم (¬4)، وأبو داود (¬5)، والنسائي (¬6): فأخرجوه عن قتيبة، عن الليث. ¬

_ (¬1) الأم (6/ 107،103). (¬2) الموطأ (2/ 651 رقم 5). (¬3) البخاري (6909). (¬4) مسلم (1681). (¬5) أبو داود (4577). (¬6) النسائي (8/ 47 - 48).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن ابن سعد الكندي، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو وعن أبي سلمة، عن أبي هريرة. ولهؤلاء الأئمة روايات كثيرة لهذا الحديث أطول من هذه. الجنين: الولد ما دام في بطن أمه فعيل بمعنى مفعول، والجمع الأجنة، وإنما سمي جنينا: لأنه مستور ببطن أمه من جننت الشيء إذا سترته. وقوله: "سقط ميتًا" يريد: خرج من بطن أمه ميتًا بضرب الأخرى لها ولذلك قوله: فطرحت جنينها. والغرة عند العرب: اسم يقع على أنفس شيء يهلك وأفضله فالفرس غرة مال الرجل، والعبد غرة ماله، والبعير النجيب غرة ماله، والأمة الفارعة غرة ماله. وقيل: الغرة عند العرب: العبد أو الأمة. قال الزهري: لم يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - في جعله في الجنين غرة إلا جنسًا واحدًا من أجناس الحيوان وهو قوله: "عبد أو أمة" وغزة المال أفضله، وغزة القوم: سيدهم، والغرة: البياض في وجه الفرس. وروى عن أبي عمرو أنه قال في تفسير غرة الجنين: لا يكون الأبيض من الرقيق. والنبي - صلى الله عليه وسلم - كنى بالغرة عن الجسم جميعه. والعبد والأمة مجروران لأنهما بدل من غرة، وقد روى "غرة عبد أو أمة" بإضافة الغرة إلى العبد والأول أشبه. والعصبة من الأقارب: من يرث مال الميت جميعه إذا انفرد كالأب والابن والأخ من الأب والأم والعم ونحو ذلك، أو يرث ما تبقى من المال بعد أخذ ¬

_ (¬1) الترمذي (1410) وقال: حسن صحيح.

ذوى الفروض المقدرة فروضهم. والمراد بالعصبة ها هنا: العاقلة: وهم الذين تجب عليهم دية الخطأ. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الغرة الواجبة في الجنين هي بقدر نصف عشر الدية، وهو خمس عن الإبل، أو ستمائة درهم، أو خمسون دينارًا، وهذا التقدير إنما يعدل إليه عند عدم الغرة، ولا يجب في الجنين إن لم يسقط ميتًا فإن سقط حيًا ثم مات بسبب الجناية ففيه الدية الكاملة، وسواء ذكرًا أو أنثى بعد أن يكون قد بدا فيه التصوير والتخطيط. ووافق أبو حنيفة ومالك على تقدير الغرة بنصف عشر الدية، ولا اعتبار بنفاسة قيمة الغرة، إنما المعتبر السلامة عن العيوب التي توجب الرد في البيع. ومتى عدمت الغرة عدل إلى قيمتها خمس من الإبل، فإن لم توجد الإبل فعلى القديم: ينتقل إلى الذهب والدراهم، وعلى الجديد: إلى قيمة الإبل. والغرة ميراث لورثة الجنين، وأما دية القتيل فإنها ميراث لورثته، وعن علي -كرم الله وجهه- أنه قال: لا يرثها إلا العصبات الذين يعقلون الدية. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة، فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم عن لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل، ومثل ذلك يطل؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوان الكهان". هذا حديث صحيح إلا أنه مرسل، أخرجه البخاري والنسائي ومداره على مالك، وقد أخرجه في الموطأ (¬1) هكذا مرسلاً، وأخرجه البخاري (¬2) عن قتيبة عنه. وأخرجه النسائي (¬3): عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 652 رقم 6). (¬2) البخاري (5759، 5760). (¬3) النسائي (8/ 49).

وهكذا الحديث المرسل هو رواية من جملة روايات حديث أبي هريرة وقد أرسله ابن المسيب، فقد جاء هذا الحديث عن المغيرة بن شعبة مبسوطًا أطول من هذا. الوليدة: الأمة فعيلة بمعنى مفعولة. والغرامة: أداء ما يلزمه أداؤه من مال وغيره. والاستهلال: البكاء والصياح، ويريد أنه إنما أخرج ميتا لأنه. قال أولاً: من لا شرب ولا أكل، وهذا من أوصاف الأحياء، ثم لما كان الولد قد يخرج حيًا ولا يأكل ولا يشرب ثم يموت أتبع ذلك بقوله: ولا نطق ولا استهل فإن من أدنى أوصاف الحي النطق أو الاستهلال، فإذا لم يوجد منه صوت ولا نطق كان أدل على أنه لم يخرج وفيه أدنى حياة. وقوله: "ومثل ذلك يطل" أي يهدر دمه يقال: طل دمه، وأطل دمه وطل دمه وهو قليل، وقد جاء في بعض الروايات: "ومثل ذلك بطل" بناء على أنه ما فعل ماض من البطلان والأول الوجه. والكهان: جمع كاهن وهو الذي يخبر عن الأشياء ظنًا وتخمينًا وحزرًا، فيصيب بعضًا ويخطئ أبعاضًا ويكون له قرين من الجن يخبره. وقد كان منهم في الزمان المتقدم جماعة كسطيح وشق وغيرهما. ومعنى قوله: "إنما هذا من إخوان الكهاه" وفي رواية أخرى: "أسجع كسجع الكهان؟! " من أجل سجعه الذي سجع فإنه لم يعجبه بمجرد السجع دون ما تضمن سجعه من الباطل، ضرب المثل بالكهان: لأنهم كانوا يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، فيستميلون بها القلوب، ويستصغون إليها الأسماع، فأما إذا كان وضع السجع في موضعه من الكلام فلا ذم فيه، كيف وقد جاء ذلك في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار وابن طاوس عن طاوس أن عمر قال: "أذكر الله امرءًا سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين شيئا؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جاريتين لي -يعني ضرتين-، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح خبائين فألقت جنينًا ميتًا، فقضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغرة فقال عمر: لو لم نسمع بهذا لقضينا فيه بغير هذا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وذكر الحديث مثله وقال في آخره: إن كدنا نقضي في مثل هذا برأينا. أخرج الرواية الأولى في كتاب "الرسالة" (¬1)، والثانية في كتاب "جراح الخطأ" (¬2) وأخرجه في الموضعين مرسلاً، وقد أخرجه أبو داود والنسائي هكذا مرسلاً، وأخرجاه مسندًا عن طاوس عن ابن عباس. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن محمد الزهري، عن سفيان، عن عمرو، عن طاوس مرسلاً وزاد فيه: بغرة عبد أو أمة. وفي أخرى: عن محمد بن مسعود المصيصي، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس مسندًا. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن حماد، عن عمرو، عن طاوس مرسلاً. وعن يوسف بن سعيد، عن حجاج بن محمد، عن ابن جريج مسندًا مثل أبي داود. ¬

_ (¬1) الرسالة (ص426 - 427 رقم 1174). (¬2) الأم (6/ 107). (¬3) أبو داود (4573، 4572). (¬4) النسائي (8/ 47، 21 - 22).

الذكر: مصدر ذكرته أذكره: إذا أجريت اسمه على لسانك ثم اتسع فيه فاستعمل بمعنى المدح والذم، واستعمل بمعنى الطلب والسؤال والقسم، وفعل الذكر يتعدى إلى مفعول واحد تقول: ذكرت زيدًا بخير وأذكر عمروًا بشرٍ. فإن كانت اللفظة "أذكر" في الحديث مضارع "ذكر" وهمزتها مفتوحة كان التقدير في الكلام: أذكر بالله امرءًا أي: أسأله بالله وأنشده بالله ولأنه كان الذكر نطقًا والتشديد كذلك حمله عليه ويكون قد انتصب اسم الله تعالى بحذف حرف القسم. وإن كانت همزة "أذكر" مضمومة والكاف مكسورة وكانت مضارع "أذكرته" كانت متعدية إلى مفعولين وكان المعنى في الوجهين سواء، وهو تضمنها معنى المسألة والقسم. الجارة والضرة وقد فسرهما في الحديث. والمسطح: عود من عيدان الخباء. ومعنى الغرة وحكمها قد ذكرناه في حديث أبي هريرة قبل، هذا الحديث استدل به الشافعي في كتاب "الرسالة" على قبول خبر الواحد. قال: ففي هذا الخبر مسئلة عمر امرءًا ليقبل منه، وفيه أن قبله عن رجل ليس بطويل الصحبة ولم يتهم نجره، ولم ينكر أن يكون حمل بن مالك وعى شيئًا ابتلي به في خاصة نفسه ومن يعنيه، وسلم عمر لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يتعنت المخبر إذ لم يتهمه، وقد قال: إنه لو لم يسمع هذا لقضى فيه بغيره، وكذلك قال في الرواية الأخرى: إن كدنا أن نقضي في هذا برأينا، فأدخل في خبر كاد وليس بالكثير.

الفصل الثامن في ميراث الدية

الفصل الثامن في ميراث الدية أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن ابن المسيب أن عمر كان يقول: "الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئًا". حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يُورِّث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى الضحاك بن سفيان أن يُورِّث امرأة أشيم الضبابي من ديته". قال ابن شهاب: وكان ابن أشيم قتل خطأ. هذا حديث صحيح، أخرجه مالك في الموطأ والترمذي. أما مالك (¬1): فأخرجه عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب نشد الناس بمنى: من كان عنده علم من الدية أن يخبرني. فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فقال له عمر: ادخل الخباء حتى آتيك. فلما نزل عمر بن الخطاب أخبره الضحاك فقضى بذلك عمر بن الخطاب. قال ابن شهاب: وكان قتل أشيم خطأ. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة وأبي عمار وغير واحد قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري بالإسناد واللفظ. العاقلة: هم الذين يؤدون العقل: وهو الدية من عصبة الجاني، وإنما سموا العاقلة: لأنهم يتحملون العقل وهو الدية. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 660 رقم 9). (¬2) الترمذي (1415) وقال: حسن صحيح.

وقيل: لأنهم يعقلون القاتل أي: يمنعون عنه، والعقل: المنع. قال الشافعي: ولا أعلم أن العاقلة العصبة وهم القرابة من قبل الأب، ولا يدخل فيهم الأب ولا الجد ولا الابن ولا ابن الابن، وإنما هو: الأخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، وأعمام الأب وبنوهم وما علا من ذلك. وقال أبو حنيفة ومالك: يدخل فيهم الأب والابن. وأما ميراث الدية فإنه كباقي الأموال يرثه من ميراث مال الميت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب "أن رجلاً من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنه بسيف فأصاب ساقه فنرى في جرحه فمات، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فذكر ذلك له، فقال عمر: اعدد لي على قُديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة ثم قال: أين أخو المقتول؟ قال: ها أنا ذا. قال: خذها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس للقاتل شيء". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1) بهذا الإسناد واللفظ. قوله: "نزى في جرحه" بمعنى: نزف دمه إذا جرى ولم ينقطع. وقُديد: موضع بين مكة والمدينة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن القاتل لا يرث بكل حال عمدًا كان أو خطأ مكلفًا أو غير مكلف، قتله بحق أو بغير حق، مباشرة أو بسبب، وبالجملة فكيف ما أضيف القتل إليه. وقيل في القتل غير المضمون كالحد ثلاثة أقوال:- أحدها: يرث ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 660 رقم 10).

الثاني. والثالث: إن ثبت بإقراره ورث، وإن ثبت بنيته فلا يرث وبه قال ابن عمر وابن عباس والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وأحمد. وقال ابن المسيب وعطاء ومالك والأوزاعي: إن كان عمدًا لم يرثه، وإن كان خطأ ورثه إلا من ديته. وقال أبو حنيفة: المباشر للقتل لا يرث إلا أن يكون صبيًا أو مجنونًا أو عادلًا قتل باغيا. والقاتل بسبب يرث إلا أن يكون راكب دابة فرفسته فإنه لا يرثه، ولما كان الأب في هذا الحديث قاتلاً، لم يورثه من دية ابنه وألزمه بها وأعطاها أخاه لأنه وارثه، فإن الأب لما لم يرثه بسبب القتل كان في حكم العدم فاستحق الميراث أخوه والله أعلم. وأخرج الشافعي قال: قال محمد بن الحسن: أخبرنا عباد بن العوام قال: أخبرنا حجاج بن أرطاة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أن رجلاً قتل أخاه خطأ فلم يورثه. قال: ولا يرث قاتل شيئًا. قال: وأخبرنا أبو حنيفة: عن حماد، عن النخعي قال: لا يرث قاتل خطأ أو عمدا, ولكن يرث أولى الناس به بعده. قال الشافعي: وليس في الفرق أن يرث قاتل الخطأ ولا يرث قاتل العمد خبر يتبع إلا خبر رجل، فإنه لا يرفعه ولو كان ثابتًا لكانت الحجة فيه. ***

الفصل التاسع في أحاديث متفرقة

الفصل التاسع في أحاديث متفرقة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مروان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: لجأ قوم إلى خثعم فلما غشيهم المسلمون استعصموا بالسجود فقتلوا بعضهم، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أعطوهم نصف العقل لصلاتهم" ثم قال بعد ذلك: "ألا إني بريء من كل مسلم مع مشرك" قالوا: لم؟ قال: "لا تراءى ناراهما". هذا حديث صحيح، أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي. أما الترمذي (¬1): فأخرجه عن هناد، عن أبي معاوية، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر لهم أن ينصف العقل وقال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال: "لا تراءى ناراهما". قال الترمذي: وحدثنا هناد، عن عبدة، عن إسماعيل، عن قيس مثل حديث أبي معاوية ولم يذكر فيه جريرًا، وهذا أصح لأن أكثر أصحاب إسماعيل قالوا: عن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكروا جريرًا. قال: وسمعت محمدًا -يعني البخاري- يقول: الصحيح حديث قيس مرسل. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه بإسناد الترمذي مثله وقال: رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة ولم يذكروا جريرًا. ¬

_ (¬1) الترمذي (1604، 1605). (¬2) أبو داود (2645).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن محمد بن العلاء، عن أبي خالد، عن إسماعيل، عن قيس مرسلاً. لجأ: اللجأ إلى قوم: إذا احتمى بهم واستند إليهم. والغشيان: التغطية يريد: فلما علاهم المسلمون وأوقعوا بهم. والاستعصام: استفعال من عصمت فلانًا: إذا حميته ومنعت منه من يريده بأذى. والسجود: يريد به الصلاة، وذلك أن المسلمين لما وصلوا إلى حيث أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من قصد هؤلاء الخثعميين، كان قد انضم إليهم جماعة من المسلمين يكونون عندهم، فلما رأوا المسلمين قد وصلوا إليهم وغشوهم أظهروا شعار الإسلام؛ فصلوا حتى يمتنع المسلمون من قتلهم إذا رأوهم يصلون فلم ينفعهم ذلك وأسرع فيهم القتل، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يعطوا نصف ديتهم لصلاتهم، وإنما لم يكمل لهم الدية -وإن كانوا مسلمين-: لأنهم قد أعانوا على أنفسهم لمقامهم بين ظهراني الكفار، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره فسقطت حصة جنايته من الدية. قال الشافعي: إن كان هذا ثبت فأحسب النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى من أعطى منهم تطوعًا، وأعلمهم أنه يرى كل مسلم مع مشرك في دار شرك ليعلمهم أن لا ديات لهم ولا قود، وقد يكون هذا قبل نزول الآية -يعني قوله قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَئاً} (¬2) فنزلت الآية بعد، وقد يكون إنما قال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" يريد: يقيم مع مشرك فأسقط "يقيم" لدلالة مع عليه، فإن "مع" تفيد الاجتماع، وقد صرح بذلك في روايات الباقين. ومعنى براءته منه له وجهان:- ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 36). (¬2) [النساء: 92].

أحدهما: البراءة من دمه وغرامة ديته. والثاني: البراءة منه في الدين والإبان على جهة التعظيم والإنكار لمقامه بينهم كقوله: "من شد علينا السلاح فليس منا". وهذا ومثاله كثيرًا ما يجيء في ألفاظه - صلى الله عليه وسلم - ومقصده منها: التفظيع والإكبار لشأن هذا الأمر حتى يجتنب، وأن الإنسان إذا علم أنه بمخالفته يتبرأ منه ترك ذلك، وفيه دليل على أنه إذا كان أسيرا في أيديهم وأمكنه الخلاص منهم لا يحل له المقام بينهم. وقوله: "لا تراءى ناراهما" فيه وجوها من التأويل:- أحدهما: أن الله -تعالى- قد فرق بين دار الإسلام ودار الكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم، حتى إذا أوقدوا نارًا كان منهم بحيث يراها، فجعل الرؤية للنار ولا رؤية لها، فإن معنى "تراءى: ناراهما" -ترى نار هذا نار ذاك وإنما الغرض أن تدنوا هذه، يقال: داري تنظر إلى دار فلان أي: تقابلها. والثاني: أنه أراد الحرب تقول: هذه تدعوا إلى الله، وهذه تدعوا إلى الشيطان فكيف يتفقان؟ فكيف يساكنهم في بلادهم وهذه حال هؤلاء وهذه حال هؤلاء؟!. والثالث: أن معناه: لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله والعرب تقول: ما نار إبل أي: ما سمتها ومن ذلك قولهم: نارها ما بخارها أي: بسيمتها تدل على كرمها وعتقها، ومنه قول الشاعر: قد سقيت إبلهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار المعنى: أنهم يعرفون إبلهم بسيماتها التي يسمونها بها فيقدمونها في السقي

على غيرها. والسمة إنما تكون بالحديدة التي تحمى بالنار ثم تكوى بها الإبل وغيرها. وقوله - صلى الله عليه وسلم - هذا الجواب عاريًا من حرف التعليل مستعملاً على طريق التشبيه والتجوز والاتساع، فيه من الفصاحة والبلاغة والإشارة اللطيفة المعروفة من كلامه؛ ما ليس في ظهور ذلك في الخطاب يعرفه ممن كان ذا خاطر لمَّاح وذوق دراك والله أعلم. وتراءى بلفظ (¬1) الماضي وإنما هو فعل مستقبل قد حذف منه حرف التاء الواحدة تخفيفًا، تقديره: تتراءى وهذا فاش في العربية، وقد ذكرنا وجه ذلك فيما سبق من هذا الكتاب. وهذه "لا" نافية كأن "ترائي النارين أمر ثابت العدم مستقر في النفوس لا يقع، فأورد مورد النفي لذلك، ولو ذهب ذاهب إلى أنها ناهية لكان قولان والأول أشبه وأولى. وقد جاء في بعض روايات الحديث "ترايا"، وإنما الوجه "تراأى" لأنه من الرؤية والرؤية مهموزة، فأما إبدال الهمزة ياء فليس بالكثير؛ وإنما جاء إذا انكسر ما قبل الهمزة ساكنة كانت أو متحركة نحو: بئر وبير، فأما إذا لم ينكسر ما قبلها فإنما جاء شاذا، قالوا في قرأت: قريت، وفي أعصر اسم رجل: يعصر. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مطرف، عن معمر، عن الزهري، عن عروة قال: كان أبو [حذيفة] (¬2) بن اليمان شيخاً كبيرًا، فرفع [في] (¬3) الآطام مع النساء يوم أحد فخرج يتعرض للشهادة، فجاء من ناحية المشركين فابتدره المسلمون فتوشَّقوه بأسيافهم وحذيفة يقول: أبي أبي، لا يسمعونه من شغل الحرب حتى ¬

_ (¬1) تكررت في لأصل. (¬2) في الأصل [حنيفة] وهو تصحيف والمثبت من مطبوعة المسند (2/ 341) وهو الصواب. (¬3) من مطبوعة المسند.

قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بديته. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬1) مسندًا عن عبيد الله بن سعيد عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون -هزيمة بينة عرفت فيهم، وقد كان انهزم منهم قوم حتى لحقوا بالطائف- فصرخ إبليس: أي عباد الله! أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم فبصر حذيفة فإذا هو بأيه اليمان، فقال: أي عباد الله! أبي أبي، قال: فوالله ما اختجروا حتى قتلوه فقال حذيفة: يغفر لكم، قال عروة: فوالله ما زالت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله -تعالى-. ولم يذكر الدية. الآطام: جمع أطم وهو الحصن، مثل: أجم وآجام، وكان لأهل المدينة حصون إذا خافوا العدو، لجأوا إليها وتركوا فيها نساءهم وذراريهم وأموالهم. وقوله: "فخرج يتعرض للشهادة" يريد: القتل في سبيل الله يرجوا أن يقتل فيموت شهيدًا. وقوله: "فتوشقوه بأسيافهم" أي: قطعوه بها، وأصله من الوشيقة وهي اللحم المقدد، وقيل: هي اللحم يقطع ويغلى إغلاءة خفيفة حتى يبقي مدة لا يهلك. وقوله: "أخراكم" يريد وراءكم أي: ارجعوا إليه، وذلك أن إبليس -لعنه الله- لما رأى المشركين قد انهزموا صاح في المسلمين: يا عباد الله، وراءكم، يحذرهم فيوهمهم أن العدو وراءهم، فرجعت أولى المسلمين إلى ورائهم فاجتلدوا مع أخراهم، فصادفوا اليمان فقتلوه وهم يظنون أنه من المشركين وكان ذلك من لعنة إبليس. والاجتلاد: افتعال من الجلد يريد: القتال والمضاربة والاحتجاز، ¬

_ (¬1) البخاري (4065).

والانحجاز: الانفصال والترك، يريد: أنهم ما انفصلوا عن القتال حتى قتلوه. قال الشافعي: ولو اختلطوا في القتال فقتل بعض المسلمين بعضا فادعى القاتل أنه لم يعرف المقتول فالقول قوله مع يمينه ولا قود عليه وعليه الكفارة، ويدفع إلى أولياء المقتول ديته. وذكر هذا الحديث. وروي عن محمود بن لبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يَدِيَه فتصدق به حذيفة على المسلمين. ورواه موسى بن عقبة، عن الزهري، عن عروة فقال: ووداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج الشافعي: فيما بلغه عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر "أن ناسًا حفروا بئرًا لأسد، فازدحم الناس عليها فتردى فيها رجل فتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر، فعلق الآخر بآخر فجرحهم الأسد فأخرجوا منها فماتوا، فتشاجروا في ذلك حتى أخذوا السلاح، فقال علي -رضي الله عنه-: لم تقتلون مائتين من أجل أربعة؟ تعالوا فلنقض بينكم فإن رضيتم وإلا فارتفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: الأول ربع الدية، وللثاني ثلث الدية، وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة، وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا على البئر. فمنهم من رضي ومنهم من لم يرض، فارتفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصوا عليه القصة وقالوا: إن عليًا قضى بكذا وكذا، فأمضى قضاء علي. قال الشافعي: وهم لا يقولون بهذا. أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف علي وهو مرسل (¬1). وأخرج الشافعي فيما بلغه عن ابن أبي زائدة، عن [مجالد] (¬2)، عن الشعبي، ¬

_ (¬1) الأم (7/ 177). (¬2) في الأصل [مجاهد] والمثبت من الأم (7/ 177).

عن علي أنه قضى في القارصة والقامصة والواقصة جارية ركبت جارية فعضتها (¬1) [جارية] (¬2) فقمصت فوقصت المحمولة فاندقت عنقها فجعلها أثلاثا. قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا، ويزعمون أن ليس على الموقوصة شيء، وأن ديتها على القارصة. أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف علي (¬3). ... ¬

_ (¬1) في الأم [فقرصتها]. (¬2) من الأم. (¬3) الأم (7/ 177).

الفصل العاشر في جراح العبد

الفصل العاشر في جراح العبد أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أنه قال: عقل العبد في ثمنه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن حسان، عن ليث بن سعد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب أنه قال: عقل العبد في ثمنه كجراح الحر في ديته. قال ابن شهاب: وكان رجال (¬1) سواه يقولون: يُقوَّم بسلعة. معنى قوله: عقل العبد في ثمنه: أن دية ما يستحقه من جراحه تكون بنسبة ثمنه كما أن جراح الحر بنسبة ديته. قال الشافعي في العبد يقتل: فيه قيمته بالغة ما بلغت. وتفصيل المذهب: أن جراح العبد مقدرة بقيمته، ففي يديه جميع القيمة، وفي يده نصف القيمة، وفي موضحته نصف عشر القيمة، وفي إصبعه عشر القيمة، كما قدرت هذه الجراحات في الجزء من ديته. وروي مثل ذلك عن عمر وعلي. وعن أبي حنيفة روايتان:- إحداهما: مثل الشافعي، والأخرى: أن ما كان فيه جمال كاللحية والحاجبين يجب فيه ما نقص من ثمنه والباقي مقدر. وقال محمد بن الحسن: يجب ما نقص. وقال مالك: يجب ما نقص إلا في الموضحة، والمنقلة، والمأمومة، والجائفة. ومعنى قوله: "يقيم بسلعة" أي يقال: كم قيمة هذا العبد مجروحًا؟ وكم قيمته سليمًا؟ فما نقص فهو الذي يجب فيه. وهذا هو مذهب محمد بن الحسن مطلقًا، وبعض مذهب أبي حنيفة ومالك. ¬

_ (¬1) في الأصل زاد [في] والأحسن حذفها كذا في الأم (6/ 104).

الباب الرابع في القسامة

الباب الرابع في القسامة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال (¬1) من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ابن أبي حثمة ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فتفرقا في حوائجهما، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير -أو عين- فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، فقالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه. فذكر ذلك لهم فأقبل هو وأخوه حويصة -وهو أكبر منه- وعبد [الرحمن] (¬2) بن سهل -أخو المقتول- فذهب محيصة يتكلم وهو الذي كان بخيبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمحيصة: "كبر كبر" يريد السن, فتكلم حويصة، ثم تكلم محيصة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب" فكتب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم"؟ قالوا: لا، قال: "فتحلف [يهود] (¬3)؟ قالوا: لا، ليسوا بمسلمين. فوداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، فقال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي ليلى بالإسناد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم"؟ قالوا: لا، قال: "فتحلف يهود". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان والثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن ¬

_ (¬1) في الأصل [أن رجال] وزيادة [أن] مقحمة وحذفها هو الصواب كذا لفظه في الأم (6/ 90). (¬2) في الأصل [الله] والمثبت من الأم (6/ 90) وهو الصواب. (¬3) من الأم (6/ 90).

يسار، عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالأنصاريين فلما لم يحلفوا رد الأيمان على يهود. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى، عن بشير بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن بشير، عن سهل بن أبي حثمة أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا لحاجتهما فقتل عبد الله بن سهل، فانطلق هو وعبد الرحمن -أخو المقتول- وحويصة بن مسعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له قتل عبد الله بن سهل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم قاتلكم -أو صاحبكم-"؟ فقالوا: يا رسول الله، لم نشهد ولم نحضر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قتبرئكم اليهود بخمسين يمينا" قالوا: يا رسول الله، كيف نقبل أيمان قوم كفروا؟ فزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عقله من عنده، قال بشير بن يسار لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض في مربد لنا. أخرج الرواية الأولى في كتاب "القسامة" (¬1) والأطراف الثلاثة التي تليها في كتاب "اختلاف الحديث" (¬2). وأخرج الخامسة في كتاب "اليمين مع الشاهد" (¬3)، وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬4): فأخرج الرواية بإسنادها ولفظها، وقال فيه: أخبره في رجال من كبار قومه. وأخرج الرواية الرابعة: عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار وذكر ¬

_ (¬1) الأم (6/ 90). (¬2) اختلاف الحديث مع الأم (ص:557). (¬3) الأم (7/ 37). (¬4) الموطأ (2/ 668 - 669 رقم 2،1).

الحديث بطوله نحو الأولى. وقد رواه جماعة عن مالك كما رواه الشافعي منهم: عبد الله بن يوسف وابن وهب ومعن وغيرهم أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه. ورواه غيرهم عن مالك: أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه. وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن مسدد، عن بشر بن المفضل، عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار، عن سهل. وعن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد. وعن أبي نعيم، عن سعيد بن عبيد. وعن إسماعيل وابن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى، بن سعيد، عن بشير. وعن القواريري، عن حماد بن زيد، عن يحيى عن بشير، عن سهل ورافع ابن خديج. وعن القواريري أيضًا، عن بشر بن المفضل، عن يحيى. وعن الناقد، عن ابن عيينة، وعن [ابن] (¬3) مثنى، عن عبد الوهاب كليهما عن يحيى. وعن إسحاق بن منصور، عن بشر بن عمر عن مالك. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، عن مالك. ¬

_ (¬1) البخاري (2702، 6142، 6143، 6898، 7192). (¬2) مسلم (1669). (¬3) من مسلم. (¬4) أبو داود (4520، 4521).

وفي أخرى: عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة ومحمد بن عبيد، عن حماد ابن زيد، عن يحيى، عن بشير، عن سهل ورافع بن خديج. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى، عن بشير، عن سهل. قال يحيى: وحسبت عن رافع بن خديج. وأما النسائي (¬2): فأخرجه بإسناد أبي داود الأول عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن مالك. وذكر الحديث بطوله. قال الشافعي: وكان سفيان يحدثه هكذا، وإنما قال: لا أدري أبدأ بالأنصاريين أم يهود، فيقال له: إن الناس يحدثون أنه بدأ بالأنصاريين قال: فهو ذاك وربما حدثه ولم يشك فيه. وأخرج المزني: عن الشافعي، عن مالك، عن يحيى، عن بشير وذكر الحديث بطوله وبدأ فيه بالأنصاريين. الكبراء: أي جمع كبير مثل: شريف وشرفاء. والجهد بالفتح: المشقة والحاجة. والفقير: يخرج الماء من القناة، والفقير أيضًا: حفير يحفر حول الفسلة إذا غرست، والأول المراد. والعين: عين الماء. وقوله: "كبرِّ كبرِّ" يريد ليبدأ الأكبر بالكلام، لأن حويصة كان أكبر سنًا من محيصة، وقد جاء في رواية أخرى: "الكُبْر الكُبْر" بضم الكاف وسكون الباء. وقوله: "يريد السن" أي: الكبير في العمر. وقوله: "فوداه من عنده" أي أعطى ديته، ويشبه أن يكون إنما وداه ¬

_ (¬1) الترمذي (1422) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (8/ 4 - 12).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل العهد الذي جعله ليهود، فلم يحب أن يبطله ولم يحب أن يهدر دم القتيل فوداه من عنده؛ وتحمل الدية للإصلاح. وقوله: "إما أن تدوا صاحبكم" فيه دليل أن الواجب بالقسامة الدية. وقوله: "أو تؤذنوا بحرب" يريد: أنهم إذا وجبت عليهم الدية ولم يؤدوها نقضوا العهد؛ كما إذا امتنعوا من أداء الجزية. قاله الخطابي. والركض ها هنا يريد به: الرَمَح والرفس. وقوله: "فتستحقون دم صاحبكم" يريد به قيمته التي هي الدية، لأنهم يستحقون الدية بسبب الدم. وقوله: "فتبرئكم يهود" يعني: أنهم إذا حلفوا خمسين يمينًا ويبرئوا من الدم، تقول: برئت منك ومن الدين والغيب أبرأ وأبرأت غيري أبرئه، وأبرأته أبرئه إبراء وتبرئة. والفريضة: الواحدة من الإبل، فكأنه مأخوذ من فرائض الزكاة، فإن كل سن من أسنان الإبل يسمى فريضة. والمربد: موقف الإبل. والذي ذهب إليه الشافعي في القسامة: أنه إذا وجد قتيل في موضعه وادعى وليه على رجل بعينه أنه قتله أو على جماعة، نظرت: فإن كان للمدعي بينة على دعواه وكان القتل عمدًا وجب القصاص، وإن كان خطأ وجبت الدية، وإن لم تكن بينة نظرت: فإن لم يكن له لوث -واللوث: أمر ظاهر يشهد بالدعوى- كما إذا وجد قتيل في محلة قوم أو قرية بينه وبينهم عداوة ولا يختلط بهم غيرهم؛ فالقول مع عدم البينة قول المدعى عليه؛ فإن حلف سقطت الدعوى، وإن نكل حلف المدعي يمينًا واحدة، وقيل: خمسين يمينًا فإذا حلف المدعي مع النكول وجب له القصاص إن كان ادعى العمد قولًا واحدًا، فإن كان مع الدعوى لوث فإنه يبدأ بيمين المدعي. وبه قال ربيعة ومالك والليث

وأحمد وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: إذا وجد قتيل في موضع فادعى وليه على رجل بعينه أو جماعة بأعيانهم، كان للولي أن يختار من الموضع خمسين رجلاً يحلفون خمسين يمينًا: والله ما قتلناه ولا علمنا قاتله، فإن نقصوا عن الخمسين كرر الأيمان حتى تتم خمسين، فإذا حلفوا وجبت الدية على باقي الخطة، فإن لم يكن وجبت على سكان الموضع، فإن لم يحلفوا حبسوا -يعني يحلفوا أو يقروا. وقال الشافعي: إذا بديء بيمين المدعي إن كان دعوى القتل خطأ محضًا وكان معه لوث فإنه يحلف خمسين يمينا، فإن كان اللوث شاهد عدل فإن المدعي يحلف يمينًا، ويستحق الدية مخففة مؤجلة على العاقلة، وإن ادعى عمد الخطأ فكذلك، وإذا لم يكن شاهد حلف خمسين يمينًا؛ وتكون الدية على العاقلة مغلظة مؤجلة، وإن ادعى عمدًا محضًا فإنه يحلف خمسين يمينًا؛ سواء كان معه شاهد عدل أو لم يكن، لأن العمد المحض لا يثبت بالشاهد واليمين، فإذا حلف وجد له القود. قاله في القديم وبه قال ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومالك والليث وأحمد وأبو ثور. وقال في الجديد: تجب الدية مغلظة حالة في مال القاتل. وبه قال ابن العباس ومعاوية والحسن البصري وأبو حنيفة والثوري وإسحاق. وجه القول الأول: قوله: "فتستحقون دم صاحبكم" يريد: دم القاتل لأن دم صاحبكم استحقاقه متحقق، ويعضده ما جاء في الرواية الأخرى: "أو قاتلكم". ووجه الجديد: أن يمينه المدعى إنما مبناها على غلبة الظن وحكم بظاهر الأمر ولا يجب الدم بذلك، بل كان دخول الأيمان في القسامة احتياطًا للدم.

وفي هذا الحديث من الفقه:- أن الدعوى في القسامة مخالفة لسائر الدعاوى بتقديم يمين المدعي. وفيه: أن الحكم بين المسلم والذمي كالحكم بين المسلمين في الاحتساب بيمينه والاكتفاء بها، وأن يمين المشرك مسموعة على المسلمين كيمين المسلم عليه. وقال مالك: لا تسمع أيمانهم على المسلمين كشهادتهم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب أن رجلاً من بني سعد بن ليث أجرى فرسًا فوطئ على إصبع رجل من جهينة فنزى منها فمات، فقال عمر للذين ادعى عليهم: يحلفون بالله خمسين يمينًا ما مات منها، فأبوا وتحرجوا من الأيمان وقال للآخرين: احلفوا أنتم فأبوا. هكذا أخرج الحديث في كتاب "اليمين مع الشاهد" (¬1) ولم يتمه، وقد جاء عامته في كتاب "السنن" (¬2) للبيهقي قال: فقضى عمر بن الخطاب بشطر الدية على السعديين. نزى ونزف بمعنًى، تقول: أصابه جرح فنزى منه فمات أي: نزف منه الدم فمات. والتحرج: تفعل من الحرج وهو: الإثم أي: امتنعوا من اليمين خوفًا من الوقوع في الإثم. وهذا الحديث أورده لبيان تقديم المدعى عليه في القسامة، وأنه قد خالف فيه. قال البيهقي: ولو سمع عمر -رضي الله عنه- قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جاوزه إلى غيره، كما روينا عنه في كل ما بلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يسمعه. قد أخرج الشافعي قال: أخبرنا سفيان، عن منصور، عن الشعبي أن عمر ¬

_ (¬1) الأم (7/ 37). (¬2) السنن الكبير (8/ 125 - 126).

ابن الخطاب كتب في قتيل وجد ما بين خيوان وادعة: أن يقاس ما بين القريتين، فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلاً حتى يوافوه بمكة، فأدخلهم الحجر فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدية، فقالوا: ما وفت أموالنا أيماننا، ولا أيماننا أموالنا، فقال عمر: كذلك الأمر. قال الشافعي: وقال غير سفيان عن عاصم الأحول، عن الشعبي قال عمر بن الخطاب: حقنتم بأموالكم دماءكم، ولا يطل دم امرئ مسلم. قال الشافعي: هذا إنما رواه الشعبي، عن الحارث الأعور. والحارث مجهول، ونحن نروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الثابت أنه بدأ بالمدعين فلما لم يحلفوا قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا" وإذ قال: "تبرئكم" فلا يكون عليهم غرامة، ولما لم يقبل الأنصار اليمين وداه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يجعل على يهود والقتيل بين أظهرهم ميتًا. قال المزني: سمعت ابن عبيد يقول: سمعت الشافعي -رضي الله عنه- يقول: سافرت إلى خيوان وادعة أربعة عشر سفرًا، أسألهم عن حكم عمر بن الخطاب في القتيل وأحكي لهم ما روي عنه، فقالوا: إن هذا لشيء ما كان ببلدنا قط، قال الشافعي: والعرب أحفظ شيء لأمر كان. ***

الباب الخامس في الساحر

الباب الخامس في الساحر أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عائشة، أما علمت أن الله أفتاني في أمر استفتيته فيه" -وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكث كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن "أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رجلي والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: وفيم؟ قال: في جف طلعة ذكر في مشط ومشاقة تحت رعونة -أو رعوفة- شك الربيع في بئر ذروان" قال: فجائها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هذه التي أريتها كأن رءوس نخلها رءوس الشياطين، وكأن ماءها نقاعة الحناء" فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرج، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، فهلا -قال سفيان: يعني تنشرت- قالت عائشة: فقال: "أما والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على الناس منه شرًا" قالت: ولبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف ليهود. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن الحميدي وعبد الله بن محمد، عن سفيان. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام. قوله: "أفتاني في أمر استفتيته فيه" يريد: أعلمني بما استعلمته منه وأجاب سؤالي في تعريفي بما أنا فيه. ¬

_ (¬1) البخاري (5765، 6063). (¬2) مسلم (2189).

والمطبوب: المسحور، وسمي بذلك: تفاؤلاً بالطب الذي هو العلاج كما قيل للديغ: سليم تفاؤلا بالسلامة. وجف الطلعة: هو غلافها الأصفر الذي يكون فيه العزق قبل أن ينشق منه. وقد جاء في لفظ الحديث: "تحت رعوفة" والمعروف وهو الذي جاء في رواية البخاري ومسلم: "راعوفة" وهي صخرة تجعل في أسفل البئر إذا حفرت تكون ثابتة هناك؛ فإذا أرادوا تنقيتها جلس المنقي عليها. وقيل: هي حجر يأتي في بعض البئر يكون صلبًا لا يمكنه حفره فيتركونه على حاله. ويقال: هو حجر يكون على رأس البئر يقوم عليه المستقي عليها. والأول أشبه ويقال لها: "أرعوفة" فأما زعوبة أو رعوفة فلم أجده. والمشط: معروف. والمشاقه: ما يسقط من تسريح الكتان والإبريسم ونحوهما. وبئر ذوران، ويروى: بئر ذي أروان: بئر في بني زريق بالمدينة. ونقاعة الحناء: هو الماء الذي ينقع فيه الحناء فيصير لونه أحمر وقولها: فقلت: يا رسول الله، فهلا: قد فسره سفيان بقوله: تنشرت والتنشر والانتشار من النشرة وهي كالعودة والرقية، وإذا نشر المطبوب فكأنما نشط من عقال. وقد جاء في رواية غير سفيان: "أفلا أخرجته"؟ مفسرًا وهو أشبه بقوله: "كره أن أثير على الناس منه شرا". وأخبرنا الشافعي -وفي نسخة- أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة يقول: كتب عمر -رضي الله عنه-: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر.

قال: وأخبرنا أن حفصة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- قتلت جارية لها سحرتها. المعنى الأول من هذا الحديث طرف من حديث طويل قد أخرجه أبو داود (¬1): عن مسدد، عن سفيان، عن عمرو. وأنه سمع بجالة يحدث عمرو بن أوس وأبا الشعثاء قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية -عم الأحنف بن قيس- إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كل ساحر وساحرة، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة. فقتلنا في يوم ثلاث سواحر، وفرقنا بين كل رجل من المجوس وحريمه في كتاب الله -تعالى- وصنع طعامًا كثيرًا فدعاهم فعرض السيف على فخذه فأكلوا ولم يزمزموا، وألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر. قوله في الحديث: وأخبرنا، من كلام الشافعي أي: قال الشافعي: وأخبرنا أن حفصة. وسياق الكلام يوهم أنه من كلام بجالة وليس كذلك. قال الشافعي: وأمر عمر أن يقتل السحار -والله أعلم- إن كان السحر كما وصفنا شركًا وكذلك أمر حفصة، فأما بيع عائشة الجارية التي سحرتها ولم تأمر بقتلها؛ فيشبه أن تكون لم تعرف ما السحر فباعتها؛ لأن لها بيعها عندنا وإن لم تسحرها, ولو أقرت عند عائشة أن السحر شرك ما تركت قتلها إن لم تتب، أو دفعتها إلى الإمام ليقتلها -إن شاء الله تعالى-. قال: وحديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحد هذه المعاني عندنا والله أعلم. وتفصيل المذهب: أن السحر عند الشافعي له حقيقة، وقد يتغير المسحور به عن عادته ويمرض ويموت، ويفرق بين المرء وزوجه، ويجوز أن يكون السحر ¬

_ (¬1) أبو داود (3043).

قولاً وفعلاً، وقال قوم: لا حقيقة وإنما هو تخييل. وتعليم السحر وتعلمه حرام، وإذا تعلمه إنسان: فإن فيه ما يوجب الكفر فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر ثم اعتقد إباحته كان كافرًا، وإن لم يعتقد حله فهو فاسق بذلك. وقال مالك: تعلمه وتعليمه كفر، وإذا تاب لا تقبل توبته، فإن سحر رجلاً فمات سئل عن سحره فإن قال: سحري يقتل غالبًا وقد قتلته به. وإن قال: الغالب على سحري السلامة قال: هذا سحر خطأ ففيه الدية مغلظة في ماله لأنه ثبت بإقراره، والعاقلة لا تحمل الإقرار. وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه القود لأنه لم يقتل بحديدة، فإن تكرر ذلك منه قتل لأنه من السعي في الأرض بالفساد. والزمزمة: صوت خفي لا يفهم النطق به تقوله المجوس عند أكلهم الطعام. وقوله: "فألقوا وقر بغل أو بغلين من الورق" يريد: حمل بغل أو بغلين من أخلة الفضة فإنهم كانوا يأكلون بالأخلة المتخذة من الفضة والله أعلم.

كتاب الحدود

كتاب الحدود وفيه سبعة أبواب الباب الأول قتال أهل البغي قال الربيع: قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله -تبارك وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} (¬1) الآية. قال الشافعي: فذكر الله اقتتال الطائفتين، والطائفتان الممتنعتان وأمرنا بالإصلاح بينهم، فحق أن لا يقاتلوا حتى يُدعوا إلى الصلح، وأمر بقتال الباغية وهي مسماة باسم الإيمان حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت لم يكن لأحد قتالها، والفيء: الرجعة عن القتال كالهدنة أو التوبة أو غيرها، وأمر إن فاءت أن يصلح بينهما بالعدل ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، فأشبه هذا -والله أعلم- أن تكون التباعات في الدماء والجراح وما فات من الأموال ساقطًا بينهم، وقد يحتمل أن يصلح بينهم بالحكومة إذا كانوا قد فعلوا ما فيه حكم، فيعطي بعضهم من بعض ما وجب له لقول الله -عز وجل-: "بالعدل" والعدل: أخذ الحق لبعض الناس من بعض قال: وإنما ذهبنا إلى أن القود ساقط والآية تحتمل المعنيين: لأنه: أخبرنا مطرف بن مازن، عن معمر بن راشد، عن الزهري قال: أدركت الفتنة الأولى في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت فيها دماء وأموال، فلم يقتص فيها من دم ولا مال ولا قرحٍ أصيب بوجهة التأويل، إلا أن يوجد مال رجل بعينه فيدفع إلى صاحبه. ¬

_ (¬1) [الحجرات: 9].

وهذا الحديث رواه يونس، عن الزهري وقال: أدركت -يعني: تلك الفتنة- رجالاً ذوي عدد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد بدرًا، وبلغنا أنهم كانوا يرون أن يهدر أمر الفتنة. قال الشافعي: وروي عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن ابن الحسين قال: دخلت على مروان بن الحكم فقال: ما رأيت أحداً أكرم غلبة من أبيك، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى مناديه: لا يقتل [مدبر] (¬1) ولا يذفف على جريح. قال الشافعي: هكذا ذكرت هذا الحديث للدراوردي فقال: ما احتفظ بعجب من حفظه هكذا. قال الدراوردي: أخبرنا جعفر، عن أبيه: أن عليًا كان لا يأخذ سلبًا، وإن كان يباشر القتال بنفسه وأنه كان لا يذفف على جريح ولا يقتل مدبرًا. ورواه في القديم عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر. وأخرج الشافعي عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي فاختة أن عليًا أتي بأسير يوم صفين فقال: لا تقتلني صبرا، فقال علي -رضي الله عنه-: إني لا أقتلك صبرًا، إني أخاف الله رب العالمين فخلى سبيله، ثم قال: أفيك خير تبايع؟. قال الشافعي: والحرب يوم صفين قائمة ومعاوية يقاتل جادا في أيامه كلها منتصفا أو مستعليا، وعلي يقول لأسير من أصحاب معاوية: لا أقتلك صبرا، إني أخاف الله رب العالمين، وأنت تأمر بقتل مثله!! يريد من كلَّمه في هذه المسألة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر، عن أبيه أن عليًا قال ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والمثبت من الأم (4/ 216).

في ابن ملجم بعدما ضربه: أطعموه واسقوه وأحسنوا أساره، فإن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وإن مت فقتلتموه فلا تمثلوا. الإسار -بكسر الهمزة-: الأسر. وولي الدم: متولي أمره أي: أنا الذي أتولى أمر دمي. والاستقادة: أخذ القود وهو القصاص. ومثلت بالقتيل -مخففًا-: إذا جدعت أطرافه وشوهت خلقته، تقول: مثلت به أمثل، وأما مثلت -بالتشديد- فللتكثير. وفي هذا الحديث من حسن الأدب وشرف الأخلاق؛ ما هو جدير أن يصدر عن مثل علي -كرم الله وجهه- فأولها: أنه قال: "أطعموه واسقوه" فقدم ما هو الأهم الذي به قوام الروح والحياة مثل: الطعام والشراب الذي لا غناء عنه، ثم ثنى بقوله: "وأحسنوا أساره" أي: ارفقوا به والطفوا له، ولا تضيقوا شده وحبسه، ولا تسيئوا الصنيع به، لعلمه بما عندهم من الحنق عليه والغيظ منه، ثم إنه علل هذا القول بقوله: "فإن عشت فأنا ولي دمي" أي: إني أرجو الحياة وفي روح وربما برأت، وحينئذ يكون أمر دمي إليَّ لا إليكم، فاوقع في أسماعهم وأثبت في أنفسهم أنه ممن يرجو الحياة، حتى لا يكونوا يبطشون بابن ملجم يعجلون عليه ويخالفونه في وصيته به ورفقهم بشأنه، لما غلب على ظنهم أن عليًا لا يبرأ من ضربته تلك. وهذا من ألطف أبواب الرحمة حتى إنه ربما بطشوا به وعجلوا عليه؛ بما كانوا عليه من الأنفس الأبية والنخوة العربية بطلب الأوتار ودرك الثأر، ولذلك قال لهم: "فإن عشت أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت" فجعل الأمر مترددًا بين العفو والقود ليكون جامعًا للحالين. ثم قال لهم تسكينًا يريهم: "وإن مت فقتلتموه فلا تمثلوا به" أي: لا يحملكم الغيظ على المثلة به وتشويه خلقته، وهذا غاية في الرفق والإحسان؛ أن يوصيهم

بسلوك ألطف الطرق في أخذ القصاص بعد موته. وقوله: "فإن مت فقتلتموه" ولم يقل: "فاقتلوه" تلقينا لهم وتحسينا إليهم أن أمر قتله بعد موتي والعفو عنه إليكم؛ فإن وجد منكم أحد الأمرين الجائزين لكم وهو القتل فلا تمثلوا أي: كونوا كما قال الله -تعالى-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (¬1)، وأخذًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" فكرم الله وجهه في أكرم أخلاقه، وأشرف أعراقه، وألطف ألفاظه، وأصلح أغراضه. هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "أهل البغي" مستدلاً به على أن الباغي إذا لم تكن له جماعة يمنعونه وطائفة قائلة بقوله يصدون عنه، فإنه يقاد منه. ونحن نذكر المذهب فيه مفصلاً وإنما يثبت حكم البغاة لمن خرج عن طاعة الإمام بثلاث شرائط:- إحداها: أن يكون لهم كثرة ومنعة تحتاج في لقائهم إلى جمع الجيش، فأما إذا كانوا أعدادًا لا تحتاج إلى ذلك معهم فإنهم قطاع الطريق، يدل على ذلك حديث علي- كرم الله وجهه- وابن ملجم- لعنه الله. قال الشافعي: قتل ابن ملجم عليًا متأولاً فأقيد به، فلم يثبت لفعله حكم البغاة ولأنا لو أثبتنا للواحد والعدد حكم البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه؛ أدى إلى إتلاف أموال الناس بغير ضمان، [ولو] (¬2) لم يكن لعلي -كرم الله وجهه- القود من ابن ملجم لقال لولده: لا تقتلوه فإنه متأول، قال: وقتله الحسن بن علي، وفي الناس بقية من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم أحدا أنكر قتله ولا عابه؛ ولا خالف في أن يقتل إذا لم تكن جماعة يمتنع بمثلها. قال: ولم يقر علي -ولا أبو بكر قبله- ولي من قتله الجماعة الممتنعة مثلها على التأويل كما وصفنا ولا على الكفر. ¬

_ (¬1) [النحل: 126]. (¬2) من المعرفة.

والشريطة الثانية: الخروج عن قبضة الإمام. والشريطة الثالثة: أن يكون لهم تأويل سائغ، وهو أن تقع لهم شبهة يعتقدون به الخروج عن طاعة الإمام. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن طلحة بن عبد الله بن عون، عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومن قتل دون ماله فهو شهيد". هكذا أخرجه في كتاب "جراح العبد"، وعاد أخرجه في كتاب "قتال أهل البغي" (¬1) بالإسناد المذكور وأسقط الواو التي قبل "من". هذا طرف من حديث صحيح، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. أما أبو داود (¬2): فأخرجه عن هارون بن عبد الله، عن أبي داود [عن إبراهيم ابن سعد، عن أبيه، عن أبي عبيدة] (¬3) بن محمد بن عمار بن ياسر، عن طلحة بن عبد الله، عن سعيد بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه فهو شهيد". وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن عبد [ابن] (¬5) حميد، عن يعقوب بن إبراهيم ابن سعد، عن أبيه مثل أبي داود قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد". وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم وقتيبة، عن سفيان بإسناد الشافعي. ¬

_ (¬1) الأم (6/ 30)، (4/ 215). (¬2) أبو داود (4772). (¬3) سقط من الأصل والمثبت من أبي داود تحفة الأشراف (4/ 5). (¬4) الترمذي (1421) وقال: حسن صحيح. (¬5) من الترمذي. (¬6) النسائي (6/ 115).

ولفظة الواو التي في قوله: "ومن" عاطفة إحدى الجمل على غيرها من جمل الحديث التي جاءت في رواية أبي داود والترمذي، فكأن الشافعي قد روى الحديث وكان هذا البعض في روايته غير مبتدأ به، فاحتاج إلى واو العطف كما احتاج إليها غيرها من الجمل الباقية. والشهيد: هو القتيل في سبيل الله مجاهدًا، والشهادة القتل فيها، وإنما سمي القتيل شهيدًا: لأن الله -تعالى- وملائكته شهود له بالجنة، وقيل: لأنه من يستشهد يوم القيامة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأمم. فهو على الأول: فعيل بمعنى مفعول، وعلى الثاني: فعيل بمعنى فاعل. ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه بهم غيرهم ممن خصه بهذه الفضيلة كالغريق والحريق، والمبطون، ومن قتل دون ماله، ودون دمه، ودون أهله وغير ذلك. والذي ذهب إليه الشافعي: لو أن رجلاً طلب رجلاً ليقتله، أو يأخذ ماله أو حريمه كان له دفعه بأيسر ما يمكنه؛ وإن أدى ذلك إلى قتله قتله ولا ضمان عليه ولا قود فيما يتلفه أو يقتله، فإن قتل هو فقد خصه النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضيلة وإن لم يجر عليه حكمهم في الدفن والغسل والكفن والصلاة وغير ذلك فيما يتعلق بالشهداء، وإنما حكمهم حكم باقي الموتى. وأخرج الشافعي في القديم (¬1) من رواية أبي عبد الرحمن البغدادي عنه بإسناده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تفترق أمتي فرقتين فتمرق بينهم مارقة، يقتلها أولى الطائفتين بالحق". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬2). وأخرج أيضًا: من رواية أبي عبد الرحمن بإسناده عن مسلم بن أبي بكرة وسئل: هل سمعت في الخوارج من شيء؟ قال: سمعت والدي أبا بكرة يقول ¬

_ (¬1) المعرفة (12/ 229). (¬2) مسلم (1065).

عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إنه سيخرج في أمتي أشداء أحداء زلقة ألسنتهم بالقرءان لا يجاوز تراقيهم؛ فإذا لقيتموهم فأنيموهم ثم إذا رأيتموهم [فأنيموهم] (¬1) فالمأجور من قتلهم". وأخرج أيضًا: حديث وكيع بإسناده عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يخرج قوم يقرؤن القرءان لا يجاوز تراقيهم، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3). وأخرج أيضًا: من حديث كثير بن هشام بإسناده عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الخوارج: "طوبى لمن قتلهم وقتلوه". وأخرج أيضًا: من حديث يزيد بن هارون، عن هشام بإسناده عن علي -كرم الله وجهه- قال: لولا أن تبطروا لحدثتكم ما وعد الله على لسان نبيه للذين يقتلونهم رجل مخدج اليد، أو شدون إليه، أو مودن اليد. هذه الأحاديث استدل بها الشافعي على قتال الخوارج. قال: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتال أقوام يخرجون فوصفهم، ولم نعلم أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على عليِّ -رضي الله عنه- قتاله الخوارج، وقد تأول [علي] (¬4) -رضي الله عنه- أن الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم هم الخوارج، وذلك أنه قال: علامتهم رجل مخدج، وقال أبو سعيد الخدري في حديثه في الخوارج: فأتيت أريد قتالهم فوجدت عليًا قد سبقنا إليهم. ¬

_ (¬1) من المعرفة (12/ 230). (¬2) البخاري (3611). (¬3) مسلم (1066). (¬4) تكررت في الأصل.

الباب الثاني في المرتد

الباب الثاني في المرتد أخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن حماد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي أمامة بن سهل، عن عثمان بن عفان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا في إحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس". هذا حديث صحيح متفق عليه، وقد تقدم ذكره في باب: تحريم القتل من كتاب "الجراح"، وذكرنا اختلاف طرقه، وذكرنا هناك ما أغنى عن إعادته. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أيوب، عن أبي تميمة، عن عكرمة قال: لما بلغ ابن عباس أن عليًا -كرم الله وجهه- حرق المرتدين أو الزنادقة قال: لو كنت أنا لم أحرقهم ولقتلتهم، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" ولم أحرقهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله". هذا حديث صحيح: أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان. وعن أبي النعمان، عن حماد بن زيد كلاهما عن أيوب. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن أحمد بن عبدة، عن الثقفي، عن أيوب. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن المبارك، عن أبي هشام، ¬

_ (¬1) البخاري (3017، 6922). (¬2) أبو داود (4351). (¬3) الترمذي (1458) وقال: صحيح حسن. (¬4) النسائي (7/ 104).

عن وهيب، عن أيوب وكلهم قالوا: أن عليًا -كرم الله وجهه- حرق قومًا ارتدوا عن الإسلام، ولم يذكروا الزنادقة. حرَّق بالتشديد يفيد التكثير، والفعل منه أحرق. والمرتدين: هم الراجعون إلى دينهم الأول بعد دخولهم في الإسلام، وسواء رجعوا إلى دينهم وإلى أي دين كان غير الإسلام، فإنهم يطلق عليهم اسم الردة. والأصل الأول: لأن الرد إنما يكون إذا رجع إلى ما كان فيه، ولما كان الذي كان فيه كفرًا -وكل ما خالف الإسلام كفر- سمي مفارق الإسلام مرتدًا لذلك. وأما الزنادقة: فهو جمع زنديق: وهو الذي لا يدين بدين ولا ينتمي إلى شريعة، ولا يؤمن بالبعث والنشور، ولا يثبت الصانع إنما هو مباحي -نعوذ بالله من الضلالة ونسأله الهداية-. وقد جاء في رواية البخاري والترمذي قال: فلما بلغ ذلك عليًا قال: صدق ابن عباس. وفي رواية أبي داود: ويح ابن أم عباس. وهذا الحديث ذكره الشافعي وذكر بعده حديث زيد بن أسلم وسيجيء بعد هذا، ثم قال: حديث يحيى بن سعيد -يعني- عن عثمان بن عفان، ثابت يريد الحديث الأول، ولم أر أهل الحديث يثبتون الحديثين بعده: حديث زيد لأنه منقطع، ولا الحديث قبله يعني حديث ابن عباس. وقال في القديم: حديث زيد مرسل لا يقوم بمثله حجة، وعكرمة يتقى حديثه ولا يقوم به حجة. أما انقطاع حديث زيد فصحيح: لأن زيد يروي عن أسلم أبيه، عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأما حديث عكرمة: فقد ترك الأخذ بحديثه جماعة من الأئمة منهم: مالك ابن أنس، ومسلم بن الحجاج لم يخرج عنه في الصحيح حديثًا، وقد وثقه جماعة منهم: البخاري وأخرج حديثه في صحيحه. قال الشافعي في وجوب قتل المرتد إذا لم يتب من الكفر: يشبه أن يكون حكم المرتد حكم الذي لم يزل كافرًا محاربًا وأكثر منه، لأن الله -تعالى- أحبط بالشرك بعد الإيمان كل عمل صالح قدمه المشرك قبل شركه، وأن الله -جل ثناؤه- كفر من لم يزل مشركًا ما كان قبله، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبان أن من لم يزل مشركًا ثم أسلم كفر عنه الشرك. وأما الإحراق بالنار: فلا يجيزه الشافعي فإنه قال: وأما نحن فروينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يعذب أحد بعذاب الله -تعالى- فقلنا: ولا حرق أحد حيا ولا ميتا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غير دينه فاضربوا عنقه". هذا هو الحديث الذي أشار إليه الشافعي أنه منقطع، وصدق الشافعي ... زيد بن أسلم إنما يروي عن الصحابة وعن أبيه، وقد أخرج الموطأ (¬1) هذا الحديث هكذا وقال مالك في سياق الحديث: معناه -والله أعلم- أن من خرج من الإسلام إلى غيره مثل: الزنادقة وأشباههم فأولئك إذا ظهر عليهم يقتلون، ولا يستتابون، فإنهم لا تعرف توبتهم فإنهم كانوا يسرون الكفر ويعلنون الإسلام، فلا أرى أن يستتاب هؤلاء إذا ظهر على أمرهم بما يثبت به. قال مالك: والأمر عندنا أن من خرج من الإسلام إلى الردة أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا قتلوا. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 565 رقم 15).

قال: ومعنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه" من خرج من الإسلام إلى غيره؛ لا من خرج من دين غير دين الإسلام إلى غيره، كمن يخرج من يهودية إلى نصرانية أو مجوسية ومن فعل ذلك من أهل الذمة لم يستتب ولم يقتل. وسيرد بيان المذهب في قتل المرتد مفصلاً إن شاء الله تعالى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلاً سارَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو يستأمره في قتل رجل من المنافقين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله"؟ قال: بلى، ولا شهادة له. قال: "أليس يصلي"؟ قال: بلى، ولا صلاة له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أولئك الذين نهاني الله -عز وجل- عنهم". هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1) بالإسناد واللفظ، وهو حديث مرسل: لأن عبيد الله بن عدي تابعي، ويقال: أنه ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والأول أثبت. الأصل في "ساره" سارره فأدغم إحدى الرائين في الأخرى بعد إسكان الأولى، وجاز إسكانها مع سكون الألف لأن الألف فيها مدة؛ فإذا لقيها ساكن آخر بعد أمكن النطق بها [لحصول المدة فيها عند النطق بهما] (¬2)، فيتهيأ اجتماع الساكنين، فأما مع غير الألف فلا يصح اجتماعهما. وقوله: "أليس يشهد"؟ استفهام تقرير وتثبيت واستحلاف (¬3) منه؛ أن من كان يأتي بالشهادة فإنه لا يقتل، وهو استفهام مع إعلام أنه عارف بأنه يشهد. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 156 رقم 84). (¬2) تكررت في الأصل. (¬3) كذا في الأصل.

وكذلك قوله: "أليس يصلي"؟ لما كان أصل الإسلام الإتيان بالشهادة، وهي وظيفة القول بالصلاة وهي من وظيفة الفعل جمع بينهما، وإنما خص الصلاة دون باقي مباني الإسلام: لأنها أشرفها، فإن أول ما يجب على الإنسان إذا أسلم أو جرى عليه القلم مسْلمًا الصلاة؛ لأنها مكررة في اليوم والليلة خمس مرات بخلاف الزكاة. وتفصيل المذهب في المرتد: أن المرتد عن الإسلام إلى أي كفر كان مما يُسَر: كالزنادقة والنفاق؛ أو يظهر: كاليهودية والنصرانية والشرك فإنه يقتل، وسواء كان مسلمًا من ابتدائه أو كان أسلم. ثم عاد إلى الكفر؛ فإن تاب قبلت توبته ولم يقتل. وقال مالك وأحمد وإسحاق: لا تقبل توبة الزنديق المستسر بالكفر. وعن أبي حنيفة روايتان كالمذهبين. والرجل والمرأة فيه سواء. وروي مثله عن أبي بكر وعمر وعلي -رضي الله عنهم- وبه قال الحسن والزهري ومالك والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: لا تقتل المرأة إنما تحبس وتطالب بالرجوع إلى الإسلام. قال الشافعي: قال الله -جل ثناؤه-: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} إلى قوله: {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} (¬1). قال: فبين الله -تعالى- أن إظهار الإيمان ممن لم يزل مشركًا حتى يظهر الإيمان؛ وممن أظهر الإيمان ثم أشرك بعد إظهاره ثم أظهر الإيمان مانع لعدم من ¬

_ (¬1) [المنافقون: 1: 3].

أظهر، في أي هذين الحالين كان وإلى أي كفر صار؛ فأخبر الله -عز وجل- عن المنافقين بالكفر وحكم فيهم بعلمه من أسرار خلقه ما لا يعلمه غيره، من أنهم في الدرك الأسفل من النار، وحكم فيهم -جل ثناؤه- في الدنيا بأن ما أظهر من الإيمان وإن كانوا كاذبين لهم جنة من القتل، وبينَّ على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - مثل ما ذكر في كتابه. وذكر حديث المقداد وقد تقدم في باب "تحريم القتل" وبسط الكلام في هذا المعنى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن أسامة بن زيد قال: شهدت من نفاق عبد الله بن أبيّ ثلاثة مجالس. هذا الحديث ذكره الشافعي في سياق الاحتجاج على أمر المنافقين وشأنهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان يعلم نفاقهم ويرضى بظاهر الإسلام فلا يقتلهم. قال الشافعي (¬1): وهؤلاء الأعراب لا يدينون دينًا يظهر، بل يظهرون الإسلام ويستخفون الشرك والتعطيل، قال الله -عز وجل-: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} (¬2) قال: وقال: وقد سمع من عدد منهم الشرك وشهد به عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من جحده وشهد شهادة الحق فتركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما أظهر، ومنهم من أقر بما شهد به عليه وقال: تبت إلى الله -جل وعز- وشهد شهادة الحق فتركه بما أظهر. قال الشافعي: فأما أمره أن لا يصلى عليهم فإن صلاته -بأبي هو وأمي- ¬

_ (¬1) الأم (6/ 116). (¬2) [النساء: 108].

مخالفة صلاة غيره، وأرجو أن يكون قضى له إذا أمره بترك الصلاة على المنافقين؛ أن لا يصلي على أحد إلا غفر له؛ وقضى أن لا يغفر لمقيم على شرك فنهاه عن الصلاة على من لا يغفر له، ولم يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا أحدًا ولم يحبسه، ولم يعاقبه، ولم يمنعه سهمه في الإسلام إذا حضر القتال، ولا مناكحة المؤمنين وموارثتهم، وترك الصلاة مباح على من قامت بالصلاة عليه طائفة من المسلمين، وقد عاشرهم حذيفة فعرفهم بأعيانهم، ثم عاشرهم مع أبي بكر وعمر وهو يصلي عليهم؛ فكان عمر إذا وضعت جنازة فرأى حذيفة فإن أشار إليه أن اجلس جلس، وإن قام معه صلى عليها عمر؛ ولا يمنعون الصلاة عليهم ولا شيئا من أحكام الإسلام، وما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أحد من أهل دهره حدا؛ بل كان أقوم الناس بما افترض الله عليه من حدوده؛ حتى قال في امرأة سرقت فشفع فيها: "إنما أهلك من كان قبلكم أنه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الوضيع قطعوه"، وقد آمن بعض الناس، ثم ارتد، ثم أظهر الإيمان فلم يقتله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد به: عبد الله بن أبي سرح حين أزله الشيطان فارتد ولحق بالكفار ثم عاد إلى الإسلام. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري (¬1)، عن أبيه أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى، فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل كان فيكم من مُغَرَّبة خبر؟ فقال نعم، رجل كفر بعد إسلامه قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه قال عمر: فهلا حبستموه ثلاثًا وأطعمتموه كل يوم رغيفًا واستتبتموه، لعله يتوب ويراجع أمر الله -تعالى-؟ اللهم إني لم أحضر ولم أرض ولم آمر إذ بلغني. ¬

_ (¬1) في الأصل [بن القاري] وهو تصحيف.

هذا الحديث هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬1) إسنادًا ولفظًا، وزاد بعد قوله: أبي موسى -وكان عاملا. يقال: هل فيكم من مغرِبة خبر -بكسر راء مغربة وهو الأكثر وبفتحها مع الإضافة فيهما أي: هل جاء معك من خبر غريب، ويقال بغير الإضافة، وأصله من الغرب: البعد. والذي جاء في المسند: لم أحضر ولم أرض ولم آمر، والذي جاء في الموطأ وفي سنن البيهقي (¬2): ولم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني، كأنه أشبه بالحال: لأن غرض عمر أنه لمن يحضر هذه القصة، ولم يأمر بها, ولم يرض إذ بلغته لا أنه لم يأمر بها إذ بلغته، والظاهر أن هذا سهو من الكاتب الأول ثم اتسعت النسخ على ذلك. وهذا الحديث استدل به على استتابة المرتد، وذلك أن الاستتابة مشروعة في حقه، وبذلك قال أكثر أهل العلم. وحكي عن الحسن البصري أنه قال: لا يستتاب. وقال عطاء: إن كان مسلمًا في الأصل لم يستتب، وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب. وهذه الاستتابة واجبة أم مستحبة؟ قولان:- أحدهما: أنها مستحبة. وبه قال أبو حنيفة لأن من بلغته الدعوة لا تجب استتابته وكذلك المرتد. والثاني: أنها واجبة. وهل يستتاب به في الحال أو يتأنى به ثلاثا؟ فيه قولان:- ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 565 رقم 16). (¬2) السنن الكبير (8/ 206 - 207)، والمعرفة (12/ 257 - 258).

أحدهما: ثلاثًا. وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وإسحاق. والثاني: في الحال فإن تاب وإلا قتل. وهي التي نصرها الشافعي واختاره المزني. وحكي عن علي أنه قال: يستتاب شهرًا. وقال الثوري: يستتاب ما دمنا نرجوا عوده. وأخبرنا الشافعي أنه قال لبعض من يناظره قال: قلت له: روى الثقفي -وهو ثقة- عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". هذا حديث صحيح، أخرجه مالك (¬1) والترمذي (¬2)، وقد أخرجه الشافعي في كتاب "اليمين مع الشاهد" (¬3) وسيرد في كتاب "القضاء"، وعاد ذكره الشافعي ها هنا للاستدلال به على من كان يتكلم معه فأورده في المرتد إذا لحق بدار الحرب أو مات على الردة، لا يرثه ورثته المسلمون بل يكون ماله فيئًا للمسلمين. وقال أبو حنيفة: يرثه ورثته المسلمون. قال الشافعي (¬4): أيعدو المرتد أن يكون كافرًا أو مؤمنًا؟ قال: بل كافر قلت: فكيف ورثت المسلمين من الكافرين؟ قال: إنما أخذنا بهذا أن عليًا قتل مرتدًا فأعطى ورثته من المسلمين ميراثه فقلت له: هل سمعت من أهل العلم بالحديث منكم، من يزعم أن الحفاظ لم يحفظوا عن عليٍّ قسم ماله بين ورثته المسلمين، ويخاف أن يكون الذي زاد هذا غلطا؟ فقال: قد رواه ثقة، وإنما قلنا خطأ ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 555 رقم 5). (¬2) الترمذي (1344). ثم أخرجه مرسلاً (1345) وقال عقبه: وهذا أصح وهكذا روى سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً. (¬3) الأم (6/ 255). (¬4) الأم (6/ 161)، والمعرفة (12/ 261).

بالاستدلال وذلك ظن، فقلت: روى الثقفي -وهو ثقة- عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد فقلت: لم يذكر جابرًا الحفاظ؟ وهذا يدل على أنه غلط، أفرأيت إن قلنا: إن هذا ظن والثقفي ثقة وإن ضيع غيره أو شك؟ قال: إذا لا تنصف قلت: وكذلك لم تنصف أنت. وقال الشافعي: وقلت له: أليس إذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لأحد معه حجة؟ قال: بلى. قلت: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرث المسلم الكافر فكيف خالفته؟ قال: فلعله أراد الكافر الذي لم يكن أسلم. فقال منهم قائل: فهل رويت في ميراث المرتد شيئًا عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلت: إذا أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الكافر لا يرث المسلم، ولا المسلم يرث الكافر، وكان المرتد كافرًا ففي السنة كفاية في أن ماله مال كافر لا وارث له. قال: فقد قال بعض أصحابك: أن رجلاً ارتد في عهد عمر ولحق بدار الحرب، فلم يعرض عمر لماله ولا عثمان من بعده. قلنا: ولا نعرف هذا ثابتًا عن عمر ولا عثمان، ولو كان ثابتًا كان خلاف قولك وبما قلنا أشبه، أنت تزعم أنه إذا لحق بدار الحرب قسم ماله، ويروى عن عمر وعثمان أنهما لم يقسماه وتقول: لم يعرض له، وقد يكون بيدي من وثق به، أو يكون ضمنه من هو في يديه ولم يبلغه موته فيأخذه فيئا. وقد أخرج الشافعي عن ابن علية، عن سليمان، عن أبي عمرو الشيباني أن رجلاً تنصر بعد إسلامه فأتى به علي -عليه السلام- فجعل يعرض عليه فقال: ما أدري ما نقول غير أنه يشهد أن المسيح ابن الله فوثب إليه علي فوطئه وأمر الناس أن يطؤه، ثم قال: كفوا فكفوا عنه وقد مات. قال الشافعي: وهم لا يأخذون بهذا، يقولون: لا يقتل الإمام أحدا هذه القتلة، ولا يقتل إلا بالسيف. أورده إلزامًا للعراقيين في خلاف علي -رضي الله عنه- والله أعلم.

الباب الثالث في حد الزنا

الباب الثالث في حد الزنا أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب، عن يونس، عن الحسن، عن عبادة -يعني ابن الصامت- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". أخبرنا الشافعي قال: وحدثنا الثقة، عن الحسن كان يدخل بينه وبين عبادة حطان الرقاشي، ولا أدري أدخله عبد الوهاب بينهما فنزل من كتابي حين حولته وهو الأصل أولا، والأصل يوم كتبت هذا الكتاب غائب عني. هكذا أخرجه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1) قال البيهقي (¬2): وقد أخرجه في كتاب "أحكام القرءان" عن عبد الوهاب بالإسناد المذكور وزاد فيه معنى: قال الحسن: كان أول حدود النساء يحبسن في بيوت لهن حتى نزلت الآية التي في النور. هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. أما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى التميمي، عن هشيم، عن منصور، عن الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن مسدد، عن يحيى، عن سعيد بن أبي عروبة ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث مع الأم (533). (¬2) المعرفة (12/ 273). (¬3) مسلم (1690). (¬4) أبو داود (4415).

عن قتادة، عن الحسن، عن حطان، عن عبادة. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن هشيم بإسناد مسلم. قوله: "خذوا عني" أي: خذوا الحكم في حد الزنا عني، وإنما عدى الأخذ بعن وإنما يتعدى بمن: لأنه لما كان الحكم صادرًا عنه أعطاه معناه، أو لأنه أعطى فعل الأخذ معنى الرواية أي: ارووا حكم الزنا عني. والسبيل في الأصل: الطريق يذكَّر ويؤنَّث، وأراد به ها هنا: الخلاص، التقدير: قد جعل الله لهن طريقًا يتحصلن به، لأن هذا اللفظ هو آخر الآية وهي قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬2) فعلق الموت بالحبس أو السبيل، فلما كان الحبس: سد الطريق الذاهب والجائي السبيل خلاصًا له من الحبس. والضمير في قوله: "لهن" راجع إلى النساء وهن غير مذكورات في هذا الحديث وهذا فاش في العربية بذكر الضمير وإن لم يتقدم في الذكر مرجوع إليه. وله في القرءان نظائر، وإنما يذكر إذا كان في الكلام ما يدل عليه أو يفهم منه، ألا ترى أن قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬3) يريد الشمس ولم يتقدم لها ذكر، ولكن لما كان قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (¬4) علم من ذكر العشي وانشغاله عن الصلاة بالخيل إلى أن غابت الشمس، فجاز رد الضمير إلى غير مذكور. ¬

_ (¬1) الترمذي (1434) وقال: حسن صحيح. (¬2) [النساء: 15]. (¬3) ص: [32]. (¬4) [ص: 31 - 32].

وكذلك قوله في هذا الحديث: "قد جعل الله لهن سبيلا" أتبعه بذكر الثيب والبكر ويتلهن الحد؛ عرف أنه يريد النساء لا سيما وقد كان تقرر في أذهانهم قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} (¬1). والبكر -بكسر الباء-: المرأة التي لم يطأها أحد فهي على أصل الخلقة، والجمع: أبكار، والبكر أيضًا: المرأة التي ولدت بطنًا واحدًا وبكرها. والمراد بالبكر في هذا الحديث من الرجال والنساء: التي لم تتزوج وبذلك يتعلق الحد. والثيب من النساء: التي قد تزوجت بوجه ما، ولا يوصف به الرجال إلا أن يقال: ولد الثيبين، وولد البكرين. قال: ومنه الخبر الثيبان يرجمان، والبكران يجلدان. وامرأة ثيب كانت ذات زوج فمات عنها زوجها أو طلقت ثم رجعت إلى النكاح. قال ذلك الأزهري. وقال الجوهري: رجل ثيب، وامرأة ثيب الذكر والأنثى فيه سواء. قال [] (¬2) ابن السكيت وذلك إذا كانت المرأة قد دخل بها، أو كان الرجل قد دخل بامرأته تقول منه: قد ثيبت المرأة. وعلى اختلاف القولين فإن المراد بالثيب في الشرع: المحصن من الرجال والنساء. وقوله: "الثيب بالثيب، والبكر بالبكر" يريد: إذا زنى الثيب بالثيب وإذا زنى البكر بالبكر. فحذف ذلك اختصارًا لفهم السامع، ودلالة سياق اللفظ عليه. ¬

_ (¬1) النساء: [15]. (¬2) بياض بالأصل قدر كلمة.

قال الشافعي: وكانت العقوبات في المعاصي قبل أن ينزل الحد، ثم نزلت الحدود ونسخت العقوبات فيما فيه الحدود. وذكر حديث النعمان بن مرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تقولون في الشارب والزاني والسارق؟ وذلك قبل أن تنزل الحدود- فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هن فواحش وفيهن عقوبة، وأسوأ السرقة الذي يسرق صلاته". قال: ثم ساق الحديث وهذا الحديث تقدم ذكره وشرحناه في كتاب "الصلاة". قال الشافعي: ومثل معنى هذا في كتاب الله -عز وجل- قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وذكر إلى قوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬1) قال: فكان حد الزاني بهذه الآية: الحبس والأذى حتى أنزل الله على نبيه حد الزنا، فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬2) واستدللنا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من أريد بالمائة جلدة فذكر حديث عبادة بن الصامت ثم قال: وهذا الحديث يقطع الشك -يريد الرواية الثانية التي ذكرها في أحكام القرءان- فبين أن حد الزانيين الحبس (¬3) أو الحبس والأذى وأن أول ما حد الله به الزانيين من العقوبة في أبدانهما بعد هذا. قال: ودلت سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين، لأن قول رسول - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا" أول ما نزل فنسخ به الحبس ¬

_ (¬1) [النساء: 15، 16]. (¬2) [النور: 2]. (¬3) في الأصل زاد [كما أن] والسياق غير مستقيم بها.

والأذى عن الزانيين، فإنما رجم ماعزًا ولم يجلده وأمر أنيسًا أن يغدوا على امرأة الأسلمي فإن اعترفت رجمها، دلت على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين وثبت الرجم عليهما. وتفصيل المذهب: أن الثيب بالثيب يجب عليهما الرجم دون الجلد، والبكر بالبكر الجلد دون الرجم ولا يجمع بينهما. وبه قال أبو بكر وعمر والنخعي والزهري ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وعامة الفقهاء. وقال غيرهم: يجمع بين الجلد والرجم للثيب. وبه قال علي وأبي بن كعب وابن مسعود والحسن البصري وإسحاق وداود واختاره ابن المنذر. وقد اختلف العلماء في تنزيل لفظ الحديث وترتيبه على الآية هو ناسخ للآية أو مبين لها؟ فذهب بعضهم: إلى أنه ناسخ، وهذا على قول من يرى نسخ الكتاب بالسنة، وذلك أن قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ في الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلًا} كان هذا حكم الزانية في الأول، لما نزل الحد بهذا الحديث كان ناسخًا للحكم الأول. وقال آخرون: إن هذا الحديث مبين المائة وليس ناسخا لها، وذلك أنه بيان للحكم الأول. وقال آخرون: إن هذا الحديث مبين المائة وليس ناسخا لها، وذلك أنه بيان للحكم الموعود في الآية. وهو قوله -عز وجل-: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} فكأن الأمر قد وقع بحبسهن إلى غاية، فلما انتهت مدة الحبس وحان وقت مجيء السبيل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني" تفسير السبيل وبيانه، ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه وإنما هو بيان أمر كان تحت ذكر السبيل منطويًا فبان المبهم منه وفصل

المجمل من لفظه، فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة -وهذا أصوب القولين، لأن النسخ إنما يكون في حكم ظاهره الإطلاق، فأما إذا كان مشروطا وزال الشرط فلا يكون نسخا والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك وابن عيينة، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد -وزاد سفيان وشبل- أن رجلاً ذكر أن ابنه قد زنى بامرأة رجل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأقضين بينكما بكتاب الله -عز وجل-" فجلد ابنه مائة وغرَّبه عاما، وأمر أنيسًا أن يغدو على امرأة الآخر فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما أخبراه: أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحدهما: يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي في أن أتكلم قال: "تكلم" فقال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنى بامرأته، فأخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني: أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته افقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله-عز وجل- أما غنمك وجاريتك فرد عليك" وجَلَدَ ابنه مائة وغربه عاما، وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد وذكر الرواية الثانية. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن الزهري. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 627 رقم 6). (¬2) البخاري (6827، 6828).

وذكر نحو الرواية الثانية. وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن قتيبة ومحمد بن رمح، عن الليث، عن ابن شهاب. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن نصر بن علي وغير واحد، عن سفيان. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن [محمد بن سلمة عن] (¬5) عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك وكلهم ذكر الرواية الثانية بطولها. والزيادة التي زادها سفيان في إسناد الرواية الأولى وهي: شبل هو شبل بن خالد، وقيل: ابن خليد. وهو وهم من سفيان لأن شبلاً لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما روى عن عبد الله بن مالك الأوسي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثه: "إذا زنت الأمة فاجلدوها، فإن زنت في الرابعة فبيعوها ولو بضفير". وسفيان قد أدخل هذا الحديث في الحديث الآخر وهو غلط، والصحيح ما رواه مالك وغيره عن أبي هريرة وزيد بن خالد لا غير. قوله: "بكتاب الله" يريد: بما فرض الله، لأن معنى الكتاب: الفرض والإيجاب لقوله -تعالى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} (¬6)، و {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ}. ويجوز أن يكون أراد بكتاب الله: الآية التي نسخ لفظها دون حكمها وهي "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وسيجيء في حديث آخر عن عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه. والتغريب: النفي، غربه يغربه تغريبًا: إذا جعله غريبًا بأن طرد من [زنى] (¬7) عن وطنه. ¬

_ (¬1) مسلم (1698،1697). (¬2) أبو داود (4445). (¬3) الترمذي (1433) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (8/ 340 - 341). (¬5) من النسائي. (¬6) البقرة: [178]. (¬7) أثبتها ليستقيم السياق.

وأجل: بمعنى نعم. والعسيف: الأجير، والجمع: العسفاء. وقوله: فافتديت منه أي: أعطيته الغنم والجارية فداء لابني لئلا يرجم. وقد جمع هذا الحديث فنونًا من الأحكام منها:- أن الرجم إنما يجب على الثيب دون البكر، وأن للحاكم أن بيدأ باستماع كلام أي الخصمين شاء، وأن العقود الفاسدة في البيع والصلح وما يجرى مجراهما منتقضة، وأن ما أخذ عليها مردود إلى صاحبه، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه الاستفتاء وهو حاضر ولا على المفتي وهو مقيم بين ظهرانيهم، وأن التغريب متلازم للزاني، وأنه لم يجمع على الثيب الرجم والجلد، وأنه لما قال: إن ابني زنى بامرأة هذا لم يكن قاذفًا لها، وأنه لم يشترط في الاعتراف بالزنا التكرار؛ وإنما علق الحكم بوجود الاعتراف حسب، وفيه دليل على جواز الوكالة في إقامة الحدود -وقد اختلف العلماء فيه- وأنه لا يجب على الإمام حضور المحدود بنفسه، وفيه دليل على قبول خبر الواحد. والذي ذهب إليه الشافعي: أن البكر إذا زنى يجب عليه جلد مائة وتغريب عام. وبه قال الأئمة والعلماء والمجتهدون. وقال أبو حنيفة وحماد: الحد جلد مائة، والتغريب تعزير وليس بحد وهو إلى رأي الإمام. وقال مالك: الرجل يغرب والمرأة لا تغرب، وأقل النفي ستة عشر فرسخًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: الرجم في كتاب الله حق على كل من زنا إذا أحصن من الرجال أو النساء؛ إذا قامت عليه البينة أو كان [الحبل] (¬1) أو الاعتراف. ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 154).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد أنه سمع ابن المسيب يقول: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم؛ أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله -عز وجل- فلقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا، فوالذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها: "الشيخ والشيخة فارجموهما البتة" فإنا قد قرأناها. أخرج هاتين الروايتين في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1)، وعاد أخرج الرواية الأولى في موضع آخر من المسند. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا النسائي. أما مالك (¬2): فاُخرج الأولى بإسنادها، وأخرج الثانية في جملة حديث طويل بالإسناد. وأما البخاري (¬3): فأخرج عن علي بن عبد الله، عن سفيان، عن الزهري وذكر نحو هذا المعنى. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن أبي الطاهر وحرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري. وذكر نحوه أتم منه. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن عبد الله بن محمد النفيلي، عن هشيم، عن الزهري. وأما الترمذي (¬6): فأخرجه عن سلمة بن شبيب وإسحاق بن منصور والحسن ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث مع الأم (533). (¬2) الموطأ (2/ 628 - 629 رقم 8، 10). (¬3) البخاري (6829). (¬4) مسلم (1691). (¬5) أبو داود (8/ 44). (¬6) الترمذي (1431، 1432) وقال: حسن صحيح.

ابن علي الخلال وغير واحد، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. وعن أحمد بن منيع، عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن داود بن أبي هند، عن ابن المسيب. الإحصان: من أحصن الرجل إذا تزوج فهو محصَن -بفتح الصاد - وهو أحد ما جاء على أفعل فهو مفعل، والإحصان: العفة، وللإحصان شروط: وهي: أن يكون المحصن حرًا، بالغًا، عاقلاً، وطئ في نكاح صحيح. ومن أصحاب الشافعي من قال: الإحصان: هو الوطء في النكاح الصحيح خاصة، وأما باقي الشروط فهي من شرائط وجوب الرجم دون الإحصان. والبينة والشهادة والحجة وهي من باب: الشيء يبين بيانًا فهو بيِّن إذا اتضح وظهر، وتأنيث بينة نظرًا إلى الحجة والشهادة وهي في الأصل وصف لموصوف مؤنث تقديره: حجة بينة، فلما حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه وغلب عليها كثرة الاستعمال؛ صار الوصف كأنه الموصوف في أصل الوضع وينزل منزلة الأسماء العالية. والاعتراف: الإقرار. وقوله: "أن تهلكوا عن آية الرجم": المعنى إياكم أن يصدر هلاككم عن آية الرجم، يعني أن آية الرجم: تكون سببا لهلاككم بترككم لها وترك العمل بها. ولولا هذا التقدير لم يكن لدخول عن في الكلام مساغ. وقوله: "أن يقول قائل" تعليل للهلاك. وقوله: "لا نجد حدين في كتاب الله -تعالى-" يريد: أن الجلد في القرءان وليس فيه الرجم. والبتة: من البت: القطع، أي: فارجموهما قولاً قاطعًا وحكمًا فاصلاً. وهو منصوب على المصدر المؤكد تقول: بته ويبته بتًا وبتة وأصل ذلك البتة لكل أمر لا يرجع فيه.

وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: فإني خشيت أن يجيء أقوام فلا يجدونه في كتاب الله فيكفرون به. ويحتمل الكفر معنيين:- أحدهما: أن يكون من الكفر ضد الإيمان، لأن من جحد آية من كتاب الله وقال: إنها ليست من القرءان يكفر. والثاني: أن يكون من الكفر: الجحود والإنكار، أي أنهم إذا لم يجدوا آية الرجم في كتاب الله جحدوا الرجم وأنكروه فبطل هذا الحكم، وآية الرجم كانت تتلى فيما يتلى من القرءان فنسخ لفظها ولم ينسخ حكمها وهي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم". والمراد بالشيخ والشيخة: الشيبان، وهذه الآية وإن كانت صريحة في وجوب الرجم وقد صحت عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ورويت عن أبي بن كعب؛ فإن الفقهاء إنما استدلوا على وجوب الرجم: بالسنة وبما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رجم ماعزًا والأسلمية والغامدية واليهوديين، وبإجماع الأمة على وجوب الرجم على المحصن، ولا مخالف لذلك إلا ما حكي عن الخوارج أنهم أنكروه وقالوا: الحد الجلد للبكر والثيب. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار، عن أبي واقد الليثي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أتاه رجل وهو بالشام فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلاً، فبعث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبا واقد الليثي إلى امرأته يسألها عن ذلك، فأتاها وعندها نسوة حولها؛ فذكر لها الذي قال زوجها لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وأخبرها أنه لا تؤخذ بقوله وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع؛ فأبت أن تنزع وثبتت على الاعتراف فأمر بها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرجمت. هذا الحديث أخرجه مالك الموطأ (¬1) إسنادًا ولفظًا. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 628 رقم 9).

نزع عن الشيء: إذا قلع عنه. وقوله: فتمت (¬1) على الاعتراف أي: مرت عليه ماضية فكان إقرارها قد تم وفرغت منه: وفي هذا الحديث من الفقه:- أن عمر اكتفى بأبي واقد في شهادته عليها بالاعتراف. وفيه: أنه يجوز [تأمين] (¬2) بالزنا وغيره من الجنايات بالرجوع عن الإقرار. وفيه: أن قول الزوج لا يقبل في حقها وإنما يكون قاذفًا إذا لم تعترف. وفيه: بيان وجوب الرجم بالإقرار. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين زنيا. أخرجه في كتاب "الرسالة" (¬3)، وعاد أخرجه بالإسناد في كتاب "اليمين مع الشاهد" (¬4). هذا طرف من حديث طويل يتضمن قصة وقد أخرجه الجماعة إلا النسائي. أما مالك (¬5): فأخرجه بالإسناد قال: جاءت اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم"؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة ونشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم، ثم [قرأ] (¬6) ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، ¬

_ (¬1) تقدم في الرواية بلفظ [وتثبت] وكذا في مطبوعة المسند، وهذا اللفظ جاء في الموطأ هكذا. (¬2) في الأصل كلمة لم اهتد لفهما رسمها [بامين]. (¬3) الرسالة (692). (¬4) الأم (7/ 33). (¬5) الموطأ (2/ 625 رقم 1). (¬6) من الموطأ.

فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد إن فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما، فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. قال مالك: يعني: يحني عليها يكب عليها حتى تقع الحجارة عليه. وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف وإسماعيل. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن رجال من أهل العلم منهم: مالك. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن القعنبي. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن إسحاق بن موسى، عن معن. جميعًا عن مالك وذكروا روايته، إلا أن الترمذي قال: وفي الحديث قصة. ولم يذكرها. قوله: نفضحهم من الفضاحة الشهرة أي: نكشف حالهم ونشهرهم بين الناس ليعلم بحالهم من لم يعلم. وقوله: يحني عليها: هو كما فسره مالك تقول: أحنى عليه يحنى وتحانا يحاني: إذا أكب عليه يقيه بنفسه شيئًا يؤذيه. قال الخطابي في "معالم السنن" (¬5): هكذا قال أبو داود: يجني والمحفوظ: يحنى أي يكب عليها، يقال: حتى الرجل يحني حنوا إذا أكب على الشيء. قال كثير: ¬

_ (¬1) البخاري (6841). (¬2) مسلم (1699). (¬3) أبو داود (4446). (¬4) الترمذي (1436) وقال: حسن صحيح. (¬5) معالم السنن (3/ 281).

أعزة لو شهدت غداة بنتم ... حنوء العائدات على وشادي فهذا القول من الخطابي يدل على أن اللفظ بالحاء المهملة، ولعل رواية الخطابي كذا، فأما رواية الباقين فإنما هي بالجيم ومعناها في اللغة ما ذكرناه (¬1). والذي ذهب إليه الشافعي: أن أهل الذمة إذا تدافعوا إلينا وتحاكموا عندنا: فإما أن نحكم بينهم أو ندع، فإن حكمنا حددنا المحصن بالرجم وغير المحصن بالجلد والتغريب، والإسلام عندنا ليس شرطاً في الإحصان. وقال أبو حنيفة ومالك: الإسلام شرط فيه. فلا يجب عندهما الرجم على المحصن الذمي. وقد أخرج المزني عن الشافعي: عن عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من أسلم ورجلاً من اليهود وامرأة. هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬2). وقال الشافعي فيما بلغه عن هشيم، عن الشيباني، عن الشعبي. وفيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أشياخه أن عليًا نفى إلى البصرة. وقال فيما بلغه عن يزيد بن هارون، عن [ابن] (¬3) أبي عروبة، عن حماد، عن إبراهيم -أظنه- عن عبد الله في أم الولد تزني بعد موت سيدها تجلد وتنفى. ¬

_ (¬1) انظر اللسان مادة: حنا. (¬2) مسلم (1701). (¬3) من المعرفة (12/ 292).

قال: وهم لا يقولون بهذا، يقولون: لا ينفى أحد زنا ولا غيره. ونحن نقول: ينفى الزاني بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وأبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز -رضي الله عنهم كلهم- قد رأوا النفي. وقال الشافعي: قال قائل: لا أنفي أحدًا. فقيل لبعض من يقول قوله: ولم رددت النفى في الزنا وهو ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود عندنا إلى اليوم؟ قال: رددته بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسافر المرأة سفرًا إلا مع ذي محرم". قلت له: سفر المرأة شيء حيطت المرأة في ما لا يلزمها من الأسفار، وقد نهيت أن تخلو في المصر برجل وأمرت بالقرار في بيتها، وقيل لها: صلاتك في بيتك أفضل، وليس هذا مما يلزمها بسبيل، ثم قال: أرأيت إن كانت ببادية لا قاضي عند قومها إلا على ثلاث ليال أو أكثر فادعى عليها مدع حقا أو أصابت حقا؟ قال: ترفع إلى قاض، قلنا: غير ذي محرم؟ قال: نعم، قلنا: فقد أبحت لها أن تسافر ثلاثاً أو أكثر مع غير ذي محرم، قال: هذا يلزمها، قلنا: فهذا يلزمها برأيك فأبحته لها ومنعتها منه فيما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبر به عن الله. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع أن عبدًا كان يقوم على رقيق الخمس، وأنه استكره جارية من ذلك الرقيق فوقع بها، فجلده عمر ونفاه ولم يجلد الوليدة لأنه استكرهها. هذا الحديث في الموطأ (¬1)، وهو وإن كان مرسلاً فنافع -مولى ابن عمر- كان مشهورًا بالرواية عن الثقات وبالعناية بأخبار آل عمر، وقد رواه الليث، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 631 رقم 15).

نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن عمر. قال الشافعي: النفي ثلاثة ونحوه منها نفي نص في كتاب الله -عز وجل- وهو قول الله -تعالى- في المحاربين: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬1) وذلك النفي هو: أن يطلبوا فيتبعوا ثم يطلبوا فيتبعوا؛ فمتى قدر عليهم أقيم عليهم حد الله إلا أن يتوبوا قبل أن يقدر عليهم، فيسقط عنهم الحد ويثبت عليهم حقوق الآدميين. والنفي في السنة وجهان: أحدهما: ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نفي البكر الزاني سنة. والثاني: أنه يروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نفى مخنثين كانا بالمدينة، يقال لأحدهما: هيت، وللآخر: ماتع ويحفظ عن أحدهما أنه نفاه إلى الحمى؛ وأنه كان في ذلك المنزل حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحياة أبي بكر وحياة عمر، وأنه شكى الضيق فأذن له بعض الأئمة أن يدخل المدينة في الجمعة يومًا يتسوق ثم ينصرف وقد رأيت أصحابنا يعرفون هذا ويقولون: لا أحفظ عن أحد منهم أنه خالف فيه، وإن كان لا يثبت ثبوت نفي الزنا. وأخرج الشافعي -في كتاب حرملة-: عن سفيان، عن هشام، عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت أم سلمة وعندها مخنث، فسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لعبد الله بن أبي أمية: يا عبد الله، إذا فتح الله عليكم الطائف غدًا فعليك بابنة غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلوا هذا عليكم". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد وأبي الزناد كلاهما عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلاً قال أحدهما: أحبن، وقال الآخر: مقعد، ¬

_ (¬1) [المائدة: 33].

كان عند جوار سعد فأصاب امرأةً حبلٌ فرميت به، فسئل فاعترف، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به، قال أحدهما: يجلد بأثكال النخل، وقال الآخر: بأثكول النخل. هذا الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن سعيد الهمداني، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب عن أبي أمامة، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار وذكر الحديث أتم من هذا وأطول. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن [] (¬3) وقد روي عن أبي أمامة، عن أبيه، وقيل: عن أبي أمامة، عن سعد بن عبادة. قوله: "أحبن": يريد: المستسقي تقول: حَبِن الرجل بالكسر يَحبَن بالفتح وبه حبن. والمقعد: الزَّمِن الذي لا يقدر على القيام كأنه قد ألزم القعود. وقوله: فرميت به: أي: نسب إليه الحبل. والإثكال والأثكول: العذق من أعذاق النخل بما فيه من الشماريخ. قال الأزهري: قال ابن السكيت عن الأصمعي: الإثكال والأثكول: الشمراخ. والذي ذهب إليه الشافعي: أن المريض لا يقام عليه الحد حتى يبرأ إذا كان ¬

_ (¬1) أبو داود (4472). (¬2) النسائي (8/ 242 - 243). (¬3) بياض بالأصل قدر سطر وإسناده عند النسائي أخرجه عن الحسن بن أحمد الكرماني، عن أبي الربيع، عن حماد، عن يحيى، عن أبي أمامة بنحوه.

مريضًا يتوقع برؤه سريعًا كالحمى والصدع، وما لا يتوقع برؤه سريعًا فيقام عليه الحد بأطراف الثياب وإثكال النخل؛ فيؤخذ مائة شمراخ فيضرب بها دفعة واحدة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أن سعدًا قال: يا رسول الله، أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم". هكذا أخرجه في كتاب "الجراح"، وأخرجه في كتاب "أدب القاضي" بالإسناد واللفظ (¬1). هذا حديث صحيح، أخرجه مالك ومسلم وأبو داود. فأما مالك (¬2): فأخرجه في الموطأ إسنادًا ولفظًا. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن زهير، عن إسحاق بن عيسى، عن مالك وله روايات أخرى. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. الإمهال: التأخير، والهمزة فيه همزة استفهام مع همزة الأصل وقد عوض من إحداهما مدة، ولا يجوز أن لا يكون استفهامًا لأن الكلام لا يأتلف بالاستفهام، فإن الغرض من الحديث الاستفهام لا الخبر. والشهداء: جمع شهيد وشاهد نحو: ظريف وظرفاء وعالم وعلماء وقوله: إن وجدت مع امرأتي رجلاً يريد: يطؤها وإلا فإذا رآه خاليًا بها من غير ملابسة ¬

_ (¬1) انظر الأم (6/ 137)، (7/ 44). (¬2) الموطأ (2/ 566 رقم 17). (¬3) مسلم (1498). (¬4) أبو داود (4533).

جماع -فإن ذلك وإن كان حراما عليها- فليس الغرض إلا الأول. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة شهداء يشهدون شهادة متفقة: أنهم رأوه يطؤها وطئا حقيقيًا كما يرى الميل في المكحلة، وكذلك اللواط لا يثبت إلا بأربعة شهداء. وقال أبو حنيفة: يثبت اللواط بشاهدين. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب أن علي بن أبي طالب سئل عن رجل وجد مع امرأته رجلاً فقتله أو قتلها؟ فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته. هكذا أخرجه في كتاب "أحكام القرءان"، وقد جاء في كتاب "الحدود" (¬1) بهذا الإسناد أن رجلاً بالشام وجد مع امرأته رجلاً فقتله -أو قتلها- فكتب معاوية إلى أبي موسى بأن يسأل له عن ذلك عليًا -كرم الله وجهه- فسأله, فقال علي: إن هذا لشيء ما هو بأرض العراق، عزمت عليك لتخبرني، فأخبره، فقال علي: أنا أبو حسن إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته. قال الشافعي -رضي الله عنه -: وبهذا كله نأخذ ولا أحفظ عن أحد قبلنا من أهل العلم فيه مخالفا. وهذا الحديث قد أخرجه مالك في الموطأ (¬2) وذكر الرواية الطويلة. قوله: "إن لم يأت بأربعة شهداء" يريد: بينة الزنا، لأن الشهود إذا شهدوا على الزنا وهم أربعة؛ وجب قتل المشهود عليه حدا إن كان محصنا، فإن بادر أحد فقتله حدًا كان قد افتات على السلطان باستيفائه الحد، فقال علي -كرم الله وجهه-: إن لم تتم البينه على أنه زنا بامرأته؛ وإلا فقد وجب عليه القصاص فليعط أولياء الدم فيقتلوه. ¬

_ (¬1) الأم (6/ 137). (¬2) الموطأ (2/ 566 رقم 17).

والرُّمّة -بضم الراء-: ماء الحبل البالي في الأصل، ثم استعير فقالوا: دفع إليه الشيء برمته أي: كله وجميعه، وأصل ذلك لسبب خاص وهو أن رجلاً دفع إلى رجل بعيرا بحبل في عنقه فقيل ذلك لكل من دفع شيئا بجملته، وهو في هذا المقام أحسن استعمالا: لأن من عادة القاتل إذا أخذ أن يجعل في عنقه حبل لئلا يهرب يريد: أنهم يعطونه بالحبل الذي في عنقه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه أن يحيى بن حاطب حدثه قال: توفي حاطب فأعتق من صلى من رقيقه وصام، وكان له أمة نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه، فلم ترعه إلا بِحَبلها وكانت ثيِّبا، فذهب إلى عمر فحدثه، فقال عمر: لأنت الرجل لا تأتي بخير، فأفزعه ذلك فأرسل إليها عمر فقال: أحبلت؟ فقالت: نعم، من مرعوش بدرهمين، فإذا هي تستهل بذلك ولا تكتمه، قال: وصادف عليًا، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، فقال: أشيروا علي وكان عثمان جالسًا فاضطجع، فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد، فقال: أشر علي يا عثمان، فقال: قد أشار عليك أخواك فقال: أشر علي أنت، فقال: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه، فقال: صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه، فجلدها عمر مائة وغربها عامًا. أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1). النوبية: منسوبة إلى النوبة وهو جبل معروف من السودان. والأعجمي: الذي لا يفصح وسواء كان روميًا أو أرمنيًا أو فارسيًا أو حبشيًا أو نوييًا أو غير ذلك. وأما العجمي وهو منسوب بلاد العجم وهم الفرس. ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث مع الأم (507).

وقوله: "فلم ترعه" من الروع الغزع أي: لم يفزعه إلا وهي حبلى. وقوله: "لأنت الرجل" هذه اللام لام جواب القسم أي: والله لأنت الرجل. وقوله: "لا يأتي بخير" يريد إخباره بحبل هذه الجارية فإنه أمر مشكل يحتاج إلى كشف وبيان. والاستهلال: الضحك, استهل وجه الرجل وتهلل إذا تلألأ من الفرح. وقول عثمان: "ليس الحد إلا على من علمه" يريد بذلك: إذا كان الإنسان جاهلاً بتحريم المحرم كالزنا مثلا فإنه لا يجب عليه الحد، لهذا قال له عمر: صدقت، ما الحد إلا على من علمه، وأراد بالحد في حق هذه الجارية: الرجم، لأنه قال: فجلدها عمر وغربها, ولأنه قد ذكر في الحديث أنها كانت ثيبا، وأنها معتقة وحكمها في الحد حكم الأحرار؛ وهذه كانت جاهلة بتحريم الزنا ووجوب الحد مطلقا، والحد يدرأ عنها بشبهة الجهالة، فلذلك لم يرجمها وجلدها وغربها تعزيرًا لا حدًا. وقال الشافعي فيما بلغه عن يزيد بن هارون بإسناده عن أبي روح أن رجلاً كان يواعد جاريته مكانًا في خلاء، فعلمت جارية بذلك فلتة فحسبها جاريته فوطأها ثم علم، فأتى عمر فقال: أثبت عليا، فسأل عليًا فقال: أرى أن يضرب الحد في خلاء ويعتق رقبة وعلى المرأة الحد. قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا، يقولون: يدرأ عنه الحد بالشبهة، فأما نحن فنقول في المرأة: تحد كما روي عن علي لأنها زنت وهي تعلم. قال الشافعي فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حجية بن عدي قال: كنت عند علي فأتته امرأة فقالت: إن زوجي وقع على جاريتي؟ فقال: إن تكوني صادقة ترجمة، وإن تكوني كاذبة نجلدك. قال الشافعي: وبهذا نأخذ لأن زناه بجارية امرأته مثل زناه بغيرها إلا أن يكون

ممن يعذر بالجهالة، فيقول: كنت أرى أنها حلال لي فإنه يدرأ عنه الحد، وإن كان عالماً حددناه حد الزاني. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن عادت فزنت فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فتبين زناها فلبيعها ولو بضفير من شعر" يعني: الحبل. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن الليث (¬2)، عن سعيد. وله روايات أخرى. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن أبي سعيد الأشج، عن أبي خالد الأحمر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مختصرًا. قوله: "فتبين" يجوز أن يكون قاصرًا ومتعديًا: فإن كان قاصرًا: كان زناها مرفوعًا لأنه الفاعل والتقدير: يرقبان زناها وظهر. وإن كان متعديا: فيكون زناها منصوبًا لأنه مفعول التقدير: فبين سيدها زناها أي: علمه وعرفه، واندرج ذكر السبب تحت قوله: "أمة أحدكم". والضفير: الحبل لأنه يضفر، فعيل بمعنى مفعول. ¬

_ (¬1) البخاري (6837، 6838). (¬2) وقع سقط هنا من الأصل كما هو واضح فقد رواه الليث كما في رواية البخاري عن ابن شهاب. ولم يُذكر طريق مسلم وقد أخرجه (1703) عن عيسى بن حماد، عن الليث، عن سعيد بن أبي سعيد به، فانتبه. (¬3) أبو داود (4470) لكن ليس بهذا الإسناد، وقد أخرجه من هذا الوجه الترمذي (1440) وراجع تحفة الأشراف (9/ 375).

والتثريب: التعيير والتوبيخ. يقول: إذا تحقق زناها فليجلدها الحد، دليل على أن المأمور به هو الحد المنوط بها دون ضرب التعزير والتأديب. وقال أبو ثور: في هذا الحديث: إيجاب الحد، وإيجاب البيع أيضًا لا يمسكها إذا زنت أربعًا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن حد العبد والأمة خمسون جلدة سواء كانا بكرين أو ثيبين. وبه قال أكثر الفقهاء. وحكي عن ابن عباس أنه قال: إذا لم يكونا مزوجين فلا حد عليهما، وإن كانا مزوجين فعليهما نصف الحد وهو خمسون. وبه قال طاوس وأبو عبيد. وليس عليهما عند العلماء رجم: لأن الرجم لا ينتصف، فلم يدخلوا في الخطاب أو لأن الحدود تدرأ بالشبهات والإسقاط إليها يتطرق، فلما لم يكن ينصف الرجم أسقط النصف الآخر. وقال أبو ثور: إذا لم يحصنا بالتزويج فعليهما نصف الحد، وإن أحصنا فعليهما الرجم. وقد أخرج الشافعي هذا الحديث عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله ابن عبد الله، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأمة إذا زنت لم تحصن قال: "إذا زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير". قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة. وأخرجه عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبي هريرة [و] (¬1) زيد بن خالد وشبل قالوا: كنا قعودا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل فقال: إن جاريتي زنت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجلدوها، فإن زنت فاجلوها، فأن زنت ¬

_ (¬1) في الأصل [عمر] وهو تصحيف والتصويب من الأم (6/ 135).

فبعها ولو بضفير". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد ابن علي أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث جارية قد زنت. قال الشافعي: فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان الثوري وإسرائيل، عن عبد الأعلى، عن أبي جميلة، عن علي -كرم الله وجهه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم". قال: وهم يخالفون هذا إلى غير فعل أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتفصيل المذهب: أن للسيد أن يقيم الحد على عبده وأمته، وروي عن جماعة من الصحابة أنهم فعلوا ذلك. وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يقيمه إلا الإمام. وكذلك أن يقيم على عبده وأمته حد القذف والشرب، فأما القطع في السرقة والقتل في الردة ففيهما وجهان، والمذهب: أن له ذلك. وقد نص الشافعي على القطع في السرقة في البويطي. ***

الباب الرابع في حد السرقة

الباب الرابع في حد السرقة أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن عمرة، عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "القطع في ربع دينار فصاعدا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرجه عن يحيى بن سعيد، عن عمرة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن القعنبي، عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عمرة. عن إسماعيل بن أبي أويس، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم وابن [أبي] (¬4) عمر، عن سفيان. وعن أبي طاهر وحرملة والوليد بن شجاع، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة. ولهما روايات كثيرة. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن سفيان. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 634 رقم 24). (¬2) البخاري (6789، 6790). (¬3) مسلم (1684). (¬4) من مسلم. (¬5) أبو داود (4384،4383).

وعن أحمد بن صالح ووهب بن بيان. وعن ابن السرح، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن علي بن حجر، عن سفيان. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، عن حفص بن حسان، عن الزهري، عن عمرة. وعن الحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة. وله روايات كثيرة. وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة للأئمة والعلماء، وأقواها دليلاً ما صرح به الخطاب ولم يكن حكاية عن فعل، كما رواه الشافعي في حديث سفيان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "القطع في ربع دينار فصاعدا"، لأن منهم من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في ربع دينار، ومنهم من قال: اليد تقطع في ربع دينار، ومنهم من قال: إن عائشة قطعت في ربع دينار، وكل واحدة من هذه الروايات يمكن دخول التأويل فيها، فأما القطع في ربع دينار فصاعدا، أو لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا. فلا مجال للتأويل فيه فإنه حكم جزم من الشارع ونص صريح في المقدار الذي يجب به القطع، وقد تمسك بعض من أول رواية عائشة من رواية سفيان أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا، لأن عائشة إنما أخبرت عما قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيحتمل أن يكون ذلك لأنها قومت ما قطع فيه فكانت قيمته عندها ربع دينار؛ فجعلت ذلك مقدار ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع فيه وقيمته عند غيرها أكثر من ذلك. ولله العجب من هذا القائل -أظنه الطحاوي الحنفي (رحمه الله) - كيف ¬

_ (¬1) الترمذي (1445) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (8/ 77 - 78).

يظن بعائشة -رضي الله عنها- مع ما اشتهر عنها من العمل والفقه في دين الله والخوف من الله ومن رسوله؛ أن تحكم على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا ولم تحط به علما؛ أو تطلق مثل هذا التقدير بالظن والتخمين، ومن الجائز أن يكون عند غيرها أكثر قيمة ثم تفتي بذلك المسلمين؟ وهب أنه استمسك بتأويل هذه الرواية الواردة بهذا اللفظ -إذا صحت- فما عسى أن يقول في قولها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "القطع في ربع دينار فصاعدا"، وفي قوله: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدا"، وهذا نص صريح في تقدير ما يقطع فيه" (¬1). وقوله: "فصاعدا" منصوب على الحال أي: فما زاد على الربع صاعدا في الزيادة. والذي ذهب إليه الشافعي: في أن القطع يجب فيما قيمته ربع دينار من دراهم وغيرها. وقال مالك: يقطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم وهما أصلان، ويقوم غيرهما بالدراهم. وبه قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يقطع في عشرة دراهم مضروبة. وقوم الذهب وسائر ما يقطع فيه بالدراهم. ¬

_ (¬1) وتعقب الحافظ في الفتح (12/ 105) الطحاوي في دعواه تلك بأكثر من وجه فقال: ... وعلى هذا التعليل عول الطحاوي فأخرج الحديث عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن عيينة بلفظ: "كان يقطع"، وقال: هذا الحديث لا حجة فيه لأن عائشة إنما أخبرت عما قطع فيه فيحتمل أن يكون ذلك لكونها قومت ما وقع فيه إذ ذاك فكان عندها ربع دينار فقالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع في ربع دينار مع احتمال أن تكون القيمة يومئذ أكثر، وتعقب باستبعاد أن تجزم عائشة بذلك مستندة إلى ظنها المجرد، وأيضاً فاختلاف التقويم وإن كان ممكنا لكن محال في العادة أن يتفاوت هذا التفاوت الفاحش بحيث يكون عند قوم أربعة أضعاف قيمته عند آخرين وإنما يتفاوت بزيادة قليلة أو نقص قليل لا يبلغ المثل غالبًا ..... وثم وجوهًا أخرى ذكرها الحافظ وتعقب بها الطحاوي في دعواه فانظر تتمة كلامه هناك.

وحكى عن الحسن البصري أنه قال: يقطع في نصف دينار. وبه قال ابن الزبير. وقال عثمان البتي: يقطع في درهم فما زاد. وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا يقطع إلا في خمسة دراهم. وقالت الخوارج وداود: يقطع في القليل والكثير. وقال النخعي: لا يقطع إلا في أربعين درهما. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مِجَنٍّ قيمته ثلاثة دراهم. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه من موسى بن إسماعيل، عن جويرية، عن نافع. عن إبراهيم بن المنذر، عن أبي حمزة، عن موسى بن عقبة، عن نافع. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن طرق كثيرة عن نافع منها: عن يحيى بن يحيى عن مالك. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع. وقال في حديثه: سَرَق تُرسًا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع. ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 634 رقم 21). (¬2) البخاري (6796، 6798). (¬3) مسلم (1686). (¬4) أبو داود (4386). (¬5) الترمذي (1446) وقال: حسن صحيح.

وأما النسائي (¬1) فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن نافع. وعن عبد المجيد بن محمد، عن مخلد، عن حنظلة، عن نافع. المجن: الترس، وهو مفعل من الجنة: الوقاية، كأن المستتر به يختفي عن غيره ممن يريد به أذى. قال الشافعي: حديث ابن عمر موافق لحديث عائشة، لأن ثلاثة دراهم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده ربع دينار، وذلك أن الصرف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان اثنى عشر درهمًا بدينار وكان كذلك بعده، وفرض عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الدية اثنى عشر ألف درهم على أهل الورق، وعلى أهل الذهب ألف دينار. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه، عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقًا سرق أترجة في عهد عثمان، فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثنى عشر درهمًا بدينار، فقطع يده. قال مالك: وهي الأترجة التي يأكلها الناس. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬2) إسنادًا ولفظًا، والشافعي أخرجه مستدلاً به: على أن الصرف كان يومئذ اثنى عشر (¬3) درهمًا بدينار. فإنه قال عقيب الحديث: فحديث عثمان يدل على ما وصفت من أن الدراهم كانت اثنى عشر درهمًأ بدينار. قال: ويدل حديث عثمان على أن قطع اليد في الثمر الرطب صلح ييبس أو لم يصلح، لأن الأترج لا ييبس. ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 76). (¬2) الموطأ (2/ 634 رقم 23). (¬3) في الأصل [اثني عشر ألف] وزيادة [ألف] مقحمة والسياق لا يستقيم بها وانظر الأم (6/ 130)، والمعرفة (12/ 377).

والذي ذهب إليه الشافعي: أن السارق إذا سرق ما قيمته ربع دينار قطع سواء كان رطبًا أو يابسًا. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: لا يجب القطع في الطعام الرطب الذي يتسارع إليه الفساد كالفواكه والطبائخ. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن حميد الطويل أنه سمع قتادة يسأل أنس بن مالك عن القطع؟ فقال أنس: حضرت أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- فقطع سارقًا في شيء ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم. وهذا الحديث ذكره الشافعي -رضي الله عنه- مؤكدًا لحديث عائشة وابن عمر، وبيانا لما ذهب إليه، فإن أنسًا قال: إن الذي قطع فيه ما يسرني أن يكون لي بثلاثة دراهم فإنها أنفس عنده منه، وهذا مبالغة في وجوب القطع بهذا القدر المذكور. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا غير واحد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي -كرم الله وجهه- قال: القطع في ربع دينار فصاعدًا. وهذا الحديث مؤكد لما سبق من تعيين القطع في ربع دينار. وقد روى هذا الحديث سليمان بن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليًا قطع يد سارق في بيضة من [حديد ثمنها] (¬1) ربع دينار. والقائلون بخلاف هذه الأحاديث محتجون بما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: كانت قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. والعجب ممن يرد حديث عائشة وابن عمر وعثمان وأنس وعلي الثلاثة من الطرق المختلفة الواردة في كتب الصحاح ويتمسك بمثل هذا الحديث؛ وبحديث ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مثله! ومن أنصف ورجع إلى ¬

_ (¬1) في الأصل [حديث ثمنها] والتصويب من المعرفة (12/ 378).

أدنى معرفة بالأخبار؛ علم أن مثل هذه الأخبار لا يترك حديث عائشة وابن عمر ومن ذكرناه، ومن أعجب الأشياء أنهم قالوا في حديث سفيان، عن عائشة: أنها حكت قيمة ما قطع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - برأيها؛ وربما كان عند غيرها أكثر! ولا يعتبر هذا في حديثه الذي تمسك به؟! فإن هذا التأويل واقع عليه وداخل فيه لأنه قال: كانت قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم. ومن ينكر ذلك فإن مجنًا يساوي ثلاثة، وآخر يساوي عشرة، وآخر يساوي أكثر، وآخر يساوي أقل. فابن عباس حكى الحال التي قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها ذلك السارق؛ وأن المجن كانت قيمته عشرة دراهم، وغيره حكى مجنًا قيمته ثلاثة دراهم. وإذا رجعنا إلى النص الصريح انقطعت حجة كل محتج ودحضت أدلة كل مخالف. قال الشافعي (¬1): قلت لبعض الناس: هذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع في ربع دينار فصاعدًا، فكيف قلت: لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعدا؟ وما حجتك في ذلك؟ قال: قد روينا عن شريك، عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبيهًا بقولنا، قلت: أتعرف أيمن؟ أما أيمن الذي روى عنه عطاء: فرجل صدق لعله أصغر من عطاء؛ وروى عنه عطاء حديثاً عن امرأة كعب، عن كعب فهذا منقطع؛ والحديث المنقطع لا يكون حجة، قال: فقد روى شريك، عن منصور، عن مجاهد، عن أيمن ابن أم أيمن -أخي أسامة لأمه- قلت: لا علم لك بأصحابنا أخو أسامة قتل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين قبل مولد مجاهد، ولم يبق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيحدث عنه، قال: فقد روينا عن عمرو بن شعيب، عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في ثمن المجن، قال ابن عمرو: فكانت قيمة المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا. ¬

_ (¬1) الأم (6/ 130).

قلت له: هذا رأي من عبد الله بن عمرو، وفي رواية عمرو بن شعيب: والمجان قديما وحديثًا سلع يكون ثمن عشرة ومائة ودرهمين، وإذا قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ربع دينار قطع في أكثر منه، فأنت تزعم أن عمرو بن شعيب ليس ممن يقبل روايته وتترك شيئًا رواها يوافق أقاويلنا وتقول غلط، فكيف ترد روايته مرة ثم تحتج بها على أهل الصدق والحفظ؟ مع أنه لم يرو شيئًا يخالف قولنا. وبسط الكلام في ذلك إلى أن قال: فليس لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة وعلى المسلمين اتباع أمره. قال الشافعي: فلا إلى حديث صحيح ذهب، ولا إلى ما يذهب إليه من ترك الحديث واستعمل ظاهر القرءان. والله أعلم. وقال الشافعي فيما بلغه عن ابن مهدي، عن سفيان، عن عيسى بن أبي عزة وعن الشعبي، عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع سارقًا في قيمة خمسة دراهم. وهم يخالفون هذا، يقولون: لا يقطع في أقل من عشرة دراهم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى ابن حبان أن رافع بن خديج أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا قطع في ثمر ولا كَثَر". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى ابن حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله. هذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي. أما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن محمد، عن عمه، عن رافع. وقال: هكذا روى بعضهم وروى مالك وغير ¬

_ (¬1) الترمذي (1449).

واحد: عن محمد، عن رافع. بإسقاط عمه. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن عمرو بن علي، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى، عن رافع. وعن أحمد بن محمد بن رجاء، عن وكيع، عن سفيان. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في السرقة من الحرز، قال: وبهذا نقول: لا قطع في ثمر معلق لأنه في غير حرز ولا جمار لأنه غير محرز. واحتج بهذا الحديث بعض الناس وقال: فمن ها هنا قلنا لا يقطع في الثمر والرطب. قال الشافعي: والثمر اسم جامع للرطب واليابس من الثمر، فيسقط القطع عمن سرق تمرًا في بيت، وإنما أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "لا قطع في ثمر ولا كَثَر" على ما سئل عنه وكان حيطان المدينة ليس عليها حظَار (¬2)، ولأنه يقول: "فإذا آواه الجرين ففيه القطع" ولتفصيل الحرز في كتب الفقه شرح وبسط ليس هذا موضع ذكره فإن كتب الفقه به أولى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن أبي حسين، عن عمرو بن شعيب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا قطع في ثمر معلق، فإذا آواه الجرين ففيه القطع". هذا حديث منقطع، وقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي مسندًا. أما أبو داود (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 87). (¬2) يريد به حائط البستان، انظر اللسان مادة حظر. (¬3) أبو داود (1710).

الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: "من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مختصرًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: "من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه". وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن عبد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كم تقطع اليد؟ قال: "لا تقطع [اليد في ثمر معلق فإذا ضمه الجرين قطعت في ثمن المجن ولا تقطع] (¬3) في حريسة الجبل؛ فإذا آوى المراح قطعت في ثمن المجن". وله روايات أخرى، وكلهم أخرجوه مسندًا ألا مالكًا فإنه أخرجه منقطعًا بالإسناد المذكور. الجرين: موضع الثمار الذي يجفف فيه كالبيدر للغلة. والمراح -بالضم-: الموضع الذي تأوي إليه الماشية ليلاً. وآواه المراح: أي ضمه وجمعه. والخبنة: ما تحمله في حصنك، وقيل: هو ما تأخذه في خبنة ثوبك وهو ¬

_ (¬1) الترمذي (9/ 128) وقال: حسن. (¬2) النسائي (8/ 84 - 85). (¬3) من النسائي.

ذيله وأسافله. والخلسه: الاسم من خلست الشيء واختلسته: إذا استلبه ونهبه. وحريسة الجبل: قيل: هي فعيلة بمعنى مفعولة أي: محروسة، المعنى: ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع، لأنه ليس بموضع حرز. وقيل: إن الحريسة: السرقة نفسها، يقال: حرس يحرس حرسا: إذا سرق. وقوله: "فعليه غرامة مثليه والعقوبة" هذا يقول به أحمد. أما الشافعي فإنما يوجب عليه غرامة مثله ولا يوجب عليه القطع. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله أن صفوان بن أمية قيل له: من لم يهاجر هلك، فقدم صفوان المدينة فنام في المسجد فتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذ رداءه من تحت رأسه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقطع يده، فقال صفوان: إني لم أرد هذا؛ هو عليه صدقة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهلَّا قبل أن تأتيني به"؟!. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث مالك. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1) بالإسناد واللفظ وقال فيه: فأمر به أن تقطع يده. وأخرجه أبو داود (¬2): عن محمد بن يحبي بن فارس، عن عمرو بن حماد ابن طلحة، عن أسباط، عن سماك بن حرب، عن حميد ابن أخت صفوان، ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 636 رقم 28). (¬2) أبو داود (4394).

عن صفوان بن أمية. وقال في حديثه: كنت نائمًا على خميصة لي ثمنها ثلاثين درهمًا، فجاء رجل فاختلسها. وفي أخرى ذكر الرداء. وأخرجه النسائي (¬1): عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن عمرو, عن أسباط. برواية أبي داود. وعن محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن صفوان بن أمية. والروايتان اللتان أخرجهما الشافعي مرسلتان، ولذلك أكد إحداهما بالأخرى. والتوسد: أن يتخذ وسادة وهي: المخدة. وقوله: "فأمر به تقطع يده" هكذا جاء في نسخ المسند وكأنه قد سقط منه "أن" وقد جاءت مذكورة في الموطأ. وقوله: "فهلا قبل أن تأتيني به"؟ أي: هلا تصدقت به عليه ووهبته ذنبه قبل أن تأتيني به وتعلمني بسرقته، فإنه بعد أن بلغتني سرقته فلابد لي من قطعه، وقد جاء في الحديث: "تعافوا الحدود بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب" وقال: "إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع". والذي ذهب إليه الشافعي: أن من فرش ثوبًا ونام عليه أو توسده وسرقه منه أحد، وجب عليه القطع لأن ذلك حرز مثله في العادة؛ فإن تدحرج في نومه فأخذ لم يجب القطع. ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 69 - 70).

قال الشافعي: فانظر بدأ إلى الحال التي يسرق فيها السارق؛ فإذا فرق بين السرقة وبين حرزها فقد وجب الحد عليه؛ فإن وهبت السرقة للسارق قبل [أن] (¬1) يقطع قطع. واحتج بحديث صفوان. وقال أيضاً: وانظر إلى المسروق فإن كان في موضع تنسبه العامة إلى أنه في مثل ذلك الموضع محرز، فاقطع فيه، فرداء صفوان كان محرزًا باضطجاعه عليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن عبدا له سرق وهو آبق، فأبى سعيد بن العاص أن يقطعه فأمر ابن عمر فقطعت يده. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬2): أن عبدًا لعبد الله بن عمر سرق وهو آبق، فأرسل به عبد الله بن عمر إلى سعيد بن العاص -وهو أمير المدينة- ليقطع يده، فأبى سعيد أن يقطع يده وقال: لا تقطع يد الآبق إذا سرق، فقال له عبد الله بن عمر: في أي كتاب الله -عز وجل- وجدت هذا؟ ثم أمر به عبد الله بن عمر فقطعت يده. الآبق: الهارب، أبق العبد يأبق ويأبق -بالكسر والضم- أباقا فهو آبق: إذا هرب من مولاه. والذي ذهب إليه الشافعي: أن العبد إذا سرق وجب عليه القطع سواء كان آبقا أو غير آبق. وقال أبو حنيفة: إذا كان آبقا لا يقطع. وحكى مثل ذلك عن ابن عباس. ¬

_ (¬1) من المعرفة (12/ 402)، وانظر الأم (6/ 148). (¬2) الموطأ (2/ 635 رقم 26).

وللسيد أن يقيم الحد على عبده في الزنا والقذف والشرب، فأما القطع في السرقة والقتل في الردة ففيهما وجهان؛ والمذهب أن له ذلك، وقد نص على القطع في البويطي. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد أن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي جاء بغلام له إلى عمر بن الخطاب فقال له: اقطع يد هذا فإنه سرق، فقال له عمر: ماذا سرق؟ قال: سرق مرآة لامرأتي قيمتها ستون درهمًا، فقال له عمر: أرسله ليس [عليه] (¬1) قطع، خادمكم سرق متاعكم. هذا حديث الموطأ (¬2) بالإسناد واللفظ. والمرآة -بكسر الميم- والمد:- معروفة وتجمع مراء بوزن غزال والكثير على: مرايا بوزن خطايا. والمذهب في هذه المسألة: أن العبد إذا سرق من مال سيده لا يقطع به استدلالًا بهذا الحديث، لأن عمر حكم بذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكره أحد؛ وذلك تخصيص للآية فكان إِجماعًا. وحكى عن داود أنه قال: يقطع لعموم الآية. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: خرجت عائشة إلى مكة ومعها مولاتان وغلام لابن عبد الله بن أبي بكر الصديق، فبعث مع المولاتين ببرد مراجل قد خيط عليه خرقة خضراء، قالت: فأخذ الغلام البرد ففتق عنه فاستخرجه؛ وجعل مكانه لبدًا أو فروة وخاط عليه؛ فلما قدمت المولاتان دفعتا ذلك إلى أهله، فلما فتقوا عنه ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 151). (¬2) الموطأ (2/ 640 رقم 33).

وجدوا اللبد ولم يجدوا فيه البرد؛ فكلموا المولاتين فكلمتا عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم-[أو كتبتا إليها واتهمتا العبد فسئل العبد عن ذلك، فاعترف فأمرت به عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -] (¬1) فقطعت يده، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: القطع في ربع دينار فصاعدًا. هذا حديث الموطأ (¬2) إسنادًا ولفظًا وزاد فيه: فكلمتا عائشة -أو كتبتا إليها- واتهمتا العبد فسئل العبد عن ذلك فاعترف فأمرت به عائشة فقطت يده (¬3). فبعث مع المولاتين ببرد: يريد: أنه بعث معهما قوم من مكة إلى المدينة، وقد جاء في بعض نسخ المسند: "فبعثت" فإن صحت به الرواية فالضمير راجع إلى عائشة. والمراجل -بالجيم-: ضرب من برد اليمن. والذي ذهب إليه الشافعي: أن جناية العبد لا تخلو: إما أن تثبت ببينة أو بإقراره، فإن ثبتت ببينة نظرت: فإن كانت موجبة للقصاص كان أولى الجناية أن يستر فيها، وإن كانت موجبة للمال أو اختار ولي القصاص أن يعفو على مال يعلق ذلك برقبته. وإن كانت الجناية ثبتت بإقراره: فإن كانت بموجب القصاص قبل إقراره وكان للمقر استيفاؤه. وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال زفر والمزني وداود وابن جرير: لا يقبل إقراره. وقال: [يقبل] (¬4) إقراره فيما دون النفس. وإذا أقر بسرقة توجب القطع قطع، وإن لم توجب القطع كالسرقة من غير ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 149 - 150)، والمعرفة (12/ 421). (¬2) الموطأ (2/ 635 رقم 25). (¬3) تقدم أن الزيادة ثابتة عند الشافعي. (¬4) في الأصل [أقبل يقبل].

حرز فإن إقراره لا يصح في حق سيده؛ ويكون المقر به في ذمته تالفا أو باقيا لأنه متهم بإقراره. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أن رجلاً من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم على أبي بكر الصديق؛ فشكى إليه أن عامل اليمن ظلمه وكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم افتقدوا حليًا لأسماء بنت عميس -امرأة أبي بكر- فجعل الرجل يطوف معهم ويقول: اللهم عليك بمن بَيَّتَ أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ، وأن الأقطع جاء به فاعترف الأقطع أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر فقطعت يده اليسرى، وقال أبو بكر: والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي من سرقته. هذا الحديث أخرجه الموطأ (¬1) وقال فيه: "عقدًا" بدل "الحلي". قوله: "افتقدوا": افتعلوا من فقدت الشيء أفقده إذ لم تجده أو غاب عنك. وقوله: "بيَّت أهل هذا البيت الصالح" يريد: سرق، والبيات: فعل الشيء ليلاً على غفلة ومنه تبييت العدو. وقوله: "لدعاؤه على نفسه أشد عندي من سرقته" يريد قول الأقطع: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت، أي: خذ من فعل ذلك وانتقم منه، فكان هذا القول عند الصديق أعظم من السرقة، لأن إقدامه على السرقة -وإن كان كبيرًا- فإنه زلة حملته نفسه عليها. وأما قوله ذلك بعد السرقة: فإنه لا يصدر إلا عن نية خبيثة وقلب فاسد ونفس شريرة، حيث لم يستعظم زلته بالسرقة؛ فكرر هذا القول لينفي عنه التهمة؛ وجعل القول طريقًا إلى الانتفاع بما سرقه؛ مع ما فيه من النفاق، ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 637 رقم 30).

والرياء، والكذب؛ وتمشية أمر السرقة ليخلص له نفعها، فكان هذا عند الصديق أعظم من السرقة. وقد جاء في رواية الموطأ: أن دعاء أشد عليه عندي من سرقته فجعل عظم ذلك وشدته على السارق أعظم من سرقته، وأن عقوبة هذا الذنب في نظري أشد على السارق من عقوبة السرقة. وهذا المعنى وإن كان صريحًا في رواية الموطأ؛ فإن رواية الشافعي أيضًا تقتضيه. لأن شدة الذنب وعقوبته إنما تعود على المذنب. هذا الحديث مسوق لوجوب تكرار القطع بتكرار موجبه. قال الشافعي عقيب هذا الحديث: فبهذا كله نأخذ. وقد روي هذا الحديث عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، عن أبي بكر مثله. وروي عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن صفية في هذه القصة قالت: فأراد أبو بكر أن يقطع رجله ويدع يده ليستطيب بها، فقال عمر: والذي نفسي بيده، لنقطعن يده الأخرى، فأمر به أبو بكر فقطعت. وتفصيل المذهب: أنه إذا تكررت السرقة من واحد ولم يقطع، تداخل الحد وقطعت يده لا غير لأنه حد من حدود الله -تعالى- فإذا اجتمعت تداخلت كحد الزنا فإن سرق فقطعت يده ثم سرق فقطعت رجله، سواء سرق منه أولا أو من غيره، وسواء سرق تلك العين التي قطع فيها أو في غيرها. وقال أبو حنيفة: إذا سرق تلك العين التي قطع فيها لم يجب القطع. وأول ما يقطع من السارق يده اليمنى؛ فإن سرق ثانيًا قطعت رجله اليسرى، وبه قال الجماعة إلا ما حكي عن عطاء أنه قال: يقطع يده اليسرى، فإذا سرق ثالثة فقطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى. وروي مثل

ذلك عن أبي بكر وعمر وبه قال مالك وإسحاق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: لا يقطع في الثالثة والرابعة. وروي ذلك عن علي. وإن سرق الخامسة عزر وحبس. وروي عن عثمان بن عفان وعمرو بن العاص أنهما قالا: يقتل. وقطع اليد من الكوع، والرجل من المفصل الذي بين الساق والقدم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي الرجال، عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن المختفي والمختفية". قال الشافعي: وقد رويت أحاديث مرسلة في العقوبات وتوقيتها تركناها لانقطاعها. المختفى: من اختفى يختفي فهو مختف، تقول: اختفيت الشيء إذا استخرجته، والمختفي: النباش لأنه يستخرج الأكفان، ويجوز أن يكون من الخفية الركية. قال ابن السكيت: كل ركية كانت حفرت ثم تركت حتى اندفنت ثم احتفروها ونثلوها فهي خفية. قال أبو عبيد: لأنها استخرجت وأظهرت. قال الشافعي: ويقطع النباش إذا أخرج الكفن من جميع القبر، لأن هذا حرز مثله. وروي مثل ذلك عن عائشة وابن الزبير، وبه قال ابن المسيب وعطاء والشعبي وإبراهيم والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وربيعة ومالك وحماد بن أبي سليمان وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود. وقال أبو حنيفة والثوري: لا يقطع لأن القبر ليس حرزًا.

وقالت عائشة: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا. وروى البراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ومن نبش قطعناه" (¬1). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى ابن عبد الرحمن بن حاطب أن رفقاء لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر كثير بن الصلت أن تقطع أيديهم، ثم قال عمر: إني أراك تجيعهم، والله لأغرمنك غرمًا ليشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ قال: أربعمائة درهم. قال عمر: أعطه ثمانمائة درهم. هذا حديث الموطأ (¬2) إسنادًا ولفظًا. الرقيق: فعيل بمعنى مفعول من الرق: الملك والعبودية، وهو واحد يقع على القليل والكثير والذكر والأنثى. وانتحروها: افتعلوا من النحر، نحرت الناقة والجمل نحره نحرًا. وقوله: "إني أراك تجيعهم" يريد: أن الجوع حملهم على سرقة هذه الناقة ونحرها ليأكلوها. والغرم: الاسم من غرمه غرمًا وغرامة: إذا أديت ما لزمك أداؤه. وقوله: "يشق عليك" إشارة إلى إلزامه بالثمن في مقابلة إجياعه رقيقه؛ فإن من يبخل على عبيده الذين يلزمه نفقتهم بقوتهم، يكون إخراج المال عليه شاقًا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن السارق إذا سرق نصابًا من حرز قطع، ووجب عليه رد العين المسروقة إن كانت باقية، وبدلها إن كانت تالفة. وبه قال الحسن البصري وعثمان البتي وحماد بن أبي سليمان وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود. ¬

_ (¬1) ذكره البيهقي بإسناده في المعرفة (12/ 409 - 410) وقال: في هذا الإسناد بعض من يجهل. (¬2) الموطأ (2/ 573 رقم 38).

وقال أبو حنيفة والثوري: إن كانت العين باقية ردها وقطع، وإن كانت تالفة: فإن طالب صاحبها بغرم فغرم له سقط القطع، وإن لم يطالب بالغرم حتى قطعه الحاكم سقط الغرم. وإن أتلف العين بعدما قطع؟:- قال أبو حنيفة: يغرمها. رواه عنه ابن زياد. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يغرمها. وقال مالك: إن كان السارق معسرًا لم يغرم. وعدول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن قيمة ناقته إلى ضعفها، إنما فعله عقوبة له: لأجل إجاعته رقيقه، وبخله عليهم بقوتهم حتى سرقوا. قال الشافعي: لا يضعف الغرامة على أحد في شيء؛ إنما العقوبة في الأبدان لا في الأموال؛ وإنما تركنا تضعيف الغرامة من قبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيما أفسدت ناقة البراء بن عازب أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها. قال: وإنما هي مضمونة بالقيمة لا بالقيمتين، ولا يقبل قول المدعي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه". وأخرج الشافعي فيما حكى عن أبي يوسف قال: أخبرنا بعض أشياخنا، عن ميمون بن مهران عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبدًا من الحبش سرق من الخمس فلم يقطعه وقال: "مال الله بعضه في بعض". قال: وحدثنا بعض أشياخنا عن سماك بن حرب، عن ابن النابغة عن علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رجلاً سرق مغفرًا من المغنم فلم يقطعه. قال الشافعي: ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأحرار بسهمان ورضخ للعبيد، فإذا سرق أحد حضر المغنم من المغنم شيئًا لم أر عليه قطعًا لأن الشرك بالقليل والكثير سواء. والله أعلم.

الباب الخامس في قطاع الطريق

الباب الخامس في قطاع الطريق أخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم، عن صالح -مولى التوأمة- عن ابن عباس في قطاع إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا خافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض. القطاع: جمع قاطع، ومعنى قطع الطريق: أنهم يمنعون من يسير بما يفعلونه من القتل والنهب؛ فيمتنع الناس من المسير في تلك الطريق خوفًا منهم، فكأنهم بهذا الفعل قد قطعوا الطريق عن الاتصال؛ فلا يقدر السالك على سلوكها لأنها قد انقطعت فلم تبق طريقًا. وقوله: "من خلاف" يريد: اليمنى والرجل اليسرى. والسبيل: الطريق. وإخافتها من الخوف. قال الشافعي (¬1) عقيب هذا الحديث: وبهذا نقول، وهو موافق معنى كتاب الله -عز وجل- وذلك أن الحدود إنما نزلت فيمن أسلم فأما أهل الشرك فلا حدود فيهم إلا القتل أو السبي أو الجزية، واختلاف حدودهم باختلاف أفعالهم على ما قال ابن عباس: أن الله -تعالى- قال: والنفي من الأرض إنما هو طلبهم من بلد إلى بلد لإقامة الحد عليهم أين ظفر بهم، فكأنهم يطلبهم من أماكنهم التي يهربون إليها، وانتقال من مكان إلى مكان خوفًا من الظفر بهم قد ¬

_ (¬1) الأم (6/ 152).

نفوا من الأرض. وقد روي هذا القول عن ابن عباس وقتادة وأبي مجلز وبه قال حماد والليث وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إن قَتل قُتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخير فيه بين: أن يقتله ويصلبه، وبين أن يقطعه ويقتله، وبين أن يجمع له بين القطع والقتل والصلب. وقال مالك: إذا شهر السلاح وقطع الطريق فإن الإمام إذا رآه جلدًا ذا رأي قتله، وإن كان جلدًا لا رأي له قطعه. ولم يعتبر فعله. وذهبت طائفة: إلى أن الآية على التخيير للإمام أن يفعل أي الأحكام أراد. وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن البصري والنخعي والضحاك وداود. قال الشافعي: قال الله -عز وجل-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ...} (¬1) فمن تاب قبل أن يقدر عليه سقط حد الله وأخذت حقوق بني آدم. وقال في كتاب الشهادات (¬2): فأخبر الله بما عليهم من الحد إلا أن يتوبوا من قبل أن يقدر عليهم، وذكر حد الزنا والسرقة ولم يذكره فيما استثنى، فاحتمل ذلك أن لا يكون الاستثناء إلا حيث جعل في المحارب خاصة، واحتمل أن يكون كل حد لله فتاب صاحبه قبل أن يقدر عليه سقط عنه. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) [المائدة: 34]. (¬2) راجع المعرفة (12/ 438).

الباب السادس في حد الخمر وذكر الأشربة

الباب السادس في حد الخمر وذكر الأشربة وفيه ثلاثة فصول:- الفصل الأول في الخمر والأنبذة أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: "كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة الأنصاري وأبي ابن كعب شراب فضيخ تمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: يا أنس، قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مِهْراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسَّرت". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا إلا أنه قال: شرابًا من فضيخ وتمر. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن إسماعيل بن عبد الله، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، عن مالك وأخرجه من روايات أخرى كثيرة. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن سليمان بن حرب، عن حماد، عن ثابت. عن أنس. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 645 رقم 13). (¬2) البخاري (5582). (¬3) مسلم (1980). (¬4) أبو داود (3673).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن سويد بن نصر، عن ابن المبارك، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس. الفضخ: كسر الشيء الأجوف، والفضيخ: شراب يتخذ من البسر المطبوخ وهو المشدوخ. والمهراس: حجر ثقيل يشال ليعرف به شدة الرجال، سمي مهراسا: لأنه يهرس به أي: يدق. والذي أراد به في الحديث: حجر كانوا يدقون به ما يحتاجون إليه. والمهراس في غير هذا الموضع: صخرة منقورة يكون فيها الماء لا ينقلها الرجال، وتسع كثيرًا من الماء. وقد جاء في بعض نسخ المسند: "فضربتها بأسفلها" فأنث الضمير، فإن صحت الرواية به فكأنه نظر إلى أن المهراس صخرة، وأنه يقع على الصخرة فأنث لذلك. وهذا الحديث: بيان لتحريم الأنبذة وإلحاقها بالخمر، وبيان لجواز إطلاق اسم الخمر عليها. ألا تراه قال: كنت أسقيهم شرابًا من فضيخ وتمر، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فأمره بكسر الجرار. فلو لم يعلم أن اسم الخمر يقع على شراب الفضيخ والتمر؛ وأن التحريم لاحق بها, لما أمره بكسرها وإراقتها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. ¬

_ (¬1) النسائي (8/ 287).

أما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬3): فأخرجه في جملة حديث عن أبي الربيع العتكي وأبي كامل، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع. وذكر حديثًا وجاء في آخره بهذا المعنى. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن يحيى بن درست، عن حماد بن زيد. وأما النسائي (¬6): فأخرجه عن قتيبة وعن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم كلاهما عن مالك. قوله: "حرمها في الآخرة ولم يشربها في الآخرة" هذا من باب التعليق في باب الخطاب وعلم البيان، كقول الشاعر: بعيدة مهوى القرط إما لنوفل ... أبوها، وإما عبد شمس وهاشم وكقولهم: فلان طويل النجاد، عظيم الرماد. فقوله: "بعيدة مهوى القرط" فإنما يصف بهذا الكلام طول عنقها, ولكنه لما كان بعد مهوى القرط؛ إنما يكون لطول العنق ذكر ما هو مسبب عنه؛ وترك ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 645 رقم 11). (¬2) البخاري (5575). (¬3) مسلم (2003). (¬4) أبو داود (3679). (¬5) الترمذي (1861) وقال: حسن صحيح. (¬6) النسائي (8/ 317 - 318).

ذكر السبب الذي هو طول العنق. وهذا حسن في مواقع الخطاب لأنه يجمع بين السبب والمسبب عنه. وكذلك: "طويل النجاد، وعظيم الرماد" يريد: طويل القيائمة وكثرة إضرام النار للضيفان وغيرهم. وأمثال هذا في العربية وفصيح الكلام كثير، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حرمها في الآخرة" من هذا الباب، لأن الخمر إنما يشربها في الآخرة من دخل الجنة، فإنه ليس في الآخرة إلا جنة أو نار، والخمر من شراب أهل الجنة لقوله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} (¬1)، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (¬2) وقوله: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (¬3) وشراب أهل النار: الحميم، فإذا لم يشرب الخمر في الآخرة لم يدخل الجنة؛ لأن شربها مترتب على دخول الجنة فكأنه قال: من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها لم يدخل الجنة. فذكر حرمانه إياها لاشتماله على حرمانه دخول الجنة. ويجوز أن يكون المراد به: أنه لا يشربها في الآخرة عقوبة له على شربها في الدنيا مع عدم التوبة، فيكون قد حرم من نعيم الآخرة -ملاذ الجنة شرب خمرها- وإن دخلها. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل شراب أسكر فهو حرام". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البتع فقال: "كل شراب أسكر فهو حرام". ¬

_ (¬1) [محمد: 15]. (¬2) [الصافات: 45]. (¬3) [الصافات: 47].

هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرج الرواية الثانية. وأما البخاري (¬2): فأخرج الرواية الأولى عن علي، عن سفيان. والثانية عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما [مسلم] (¬3) (¬4): فأخرج الأولى عن يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور وأبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير بن حرب كلهم عن سفيان. وأخرج الثانية: عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬5): فأخرج الأولى عن مسدد وموسى بن إسماعيل، عن مهدى ابن ميمون، عن أبي عثمان عمرو بن سلم الأنصاري، عن القاسم، عن عائشة وزاد: وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام. وأخرج الثانية: عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬6): فأخرج الأولى عن عبد الله بن معاوية الجمحي، عن مهدي بن ميمون. مثل أبي داود. وأخرج الثانية: عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك. وأما النسائي (¬7): فأخرج الأولى عن إسحاق بن إبراهيم وقتيبة، عن سفيان. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 644 رقم 9). (¬2) البخاري (242، 5855). (¬3) في الأصل [مالك] وهو تحريف والمثبت هو الصواب. (¬4) مسلم (2001). (¬5) أبو داود (3687، 3682). (¬6) الترمذي (1866، 1863). وقال في الأول: حسن, وفي الثاني: حسن صحيح. (¬7) النسائي (8/ 297 - 298).

وأخرج الثانية: عن قتيبة، عن مالك. قوله: "أسكر" أي فيه قوة الإسكار ومن شأنه أن يسكر إذا شرب؛ لا أنه يريد القدر الذي يسكر منه؛ بدليل أن قليل الخمر المعتصر من العنب حرام إجماعًا، وهو لا يسكر قليله إنما يسكر كثيره؛ ويؤيد ذلك الزيادة التي في رواية أبي داود والترمذي وهي قوله: "ما أسكر منه الفرق" وهو إناء يسع ستة عشر رطلاً: "فملء الكف منه حرام". وقوله: "كل شراب" على جهة العموم يتناول الأشربة كلها فيها ومطبوخها عنبها وزبيبها وتمرها وغير ذلك؛ مما يتخذ منه الشراب المسكر فلا وجه لتخصيص أحد الأشربة؛ كيف والأحاديث متعاضدة على ذلك. والبِتْع -بكسر الباء وسكون التاء-: شراب يتخذ باليمن من العسل وهذا من أقوى الأدلة على عموم التحريم لكل مسكر، لأنهم لما سألوه عن البتع ظنا منهم أن له حكمًا خاصا؛ وأنه غير داخل في عموم التحريم، قال لهم في الجواب: "كل شراب أسكر فهو حرام"، التقدير: إن كان البتع يسكر فهو حرام، ألا تراه لما سئل عن نوع واحد من أنواع الأنبذة وهو البتع؛ أجابهم بتحريم الجنس فدخل فيه القليل والكثير؛ ولو كان فيه تفصيل الشيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الخمور والأنبذة كلها وكل شراب مسكر فهو حرام. أما الخمر المعتصرة من العنب إذا قدمت بالمربد واشتدت، فقليلها وكثيرها حرام إجماعًا لا خلاف فيه. وأما غيرها من الأنبذة: فاختلف العلماء في تحريمها:- فروي تحريمها عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وعائشة. وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق.

وقال أبو حنيفة: الأشربة على أربعة أضرب:- أحدها: الخمر: وهو عصير العنب إذا اشتد وقذفت بالزبد؛ فهو حرام قليله وكثيره. وأسقط أبو يوسف ومحمد قذف بالزبد واشترط الاشتداد دون الغليان. والثاني: المطبوخ من عصير العنب إن ذهب أقل من ثلثيه فهو حرام، وإن ذهب ثلثاه فهو حلال إلا ما أسكر منه، وإن طبخه عنبا ففيه روايتان:- إحداهما: يجرى مجرى عصيره والمشهور أنه حلال وإن لم يذهب ثلثاه. والثالث: نقيع التمر والزبيب إذا اشتد يكون حرامًا؟ وإذا طبخ حتى يشتد كان حلالًا إلا المسكر منها ولا يعتبر أن يذهب ثلثاه. والرابع: أن تنبذ الحنطة والشعير والذرة والأرز والعسل ونحو ذلك فإنه حلال سواء كان نقيعًا أو مطبوخًا. وقد اختلف العلماء في تسمية الأنبذة خمرًا: فقال جماعة -وهم الأكثر: الكل يسمى خمرا. وقال غيرهم: لا يسمى خمرًا. ومن قال بالأول جعل اسم الخمر في المعتصر من العنب حقيقة وفي الأنبذة مجازًا. قال: وللشارع أن ينقل الأسماء ويتسع فيها, ولأنه إن كانت الخمر إنما سميت خمرا لأنها تخامر العقل أي: تخمره أي: تغطيه فإن الأنبذة كذلك مجاز أن يعطى اسمها المشتق من هذا الفعل حيث هو موجود فيها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه أن أبا وهب الجيشاني سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البتع؟ فقال: "كل مسكر حرام". هذا الحديث هكذا جاء في المسند من رواية سفيان مرسلًا لأن أبا وهب

تابعي، وقد غلط في القول حيث قال إنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا جاء الحديث في كتاب السنن وفيه نظر. والحديث الصحيح الثابت هو ما أخرجه مسلم (¬1): عن قتيبة، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عمارة بن غرية، عن أبي الزبير، عن جابر أن رجلاً قدم من جيشان -وجيشان من اليمن- فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له: المزر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أو مسكر هو"؟ قال: نعم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام، إنَّ على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال" قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: "عرق أهل النار أو عصارة أهل النار". فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أو مسكر هو"؟ استفهام عن علة التحليل والتحريم، فلما قال له: نعم، قال: "كل مسكر حرام" فجاء باللفظ العام والحكم الكلي. وقد تقدم بيان ذلك في حديث عائشة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان قال: سمعت أبا الجويرية الجرمي يقول: إني لأول العرب سأل ابن عباس وهو مسند ظهره إلى الكعبة فسألته عن الباذق؟ فقال: سبق محمد الباذق وما أسكر فهو حرام. هذا حديث صحيح أخرجه البخاري والنسائي. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان. وذكر الحديث وزاد فيه: قال: الشراب الحلال الطيب قال: ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن أبي الجويرية قال: ¬

_ (¬1) مسلم (2002). (¬2) البخاري (5598). (¬3) النسائي (8/ 300).

سمعت ابن عباس وسئل عن الباذق؟ الحديث. الباذق: شراب معروف عندهم، ويحتمل أن يكون معربًا من باده، هو اسم الخمر بالفارسية. وقال أبو عبيد: هي كلمة عربية ولم يعرفها. وقوله: "سبق محمد الباذق" والسؤال عنه فحكم حكمًا عامًا يدخل فيه الباذق وغيره من المسكرات. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الغبيراء فقال: "لا خير فيها" ونهى عنها. فقال مالك: قال زيد: هي السكركة. هكذا أخرج مالك هذا الحديث في الموطأ (¬1) مرسلًا عن عطاء، فقد أخرج أبو داود (¬2) عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الوليد بن عبدة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء؟ وقال: " [كل] (¬3) مسكر حرام". وقال أبو داود: قال أبو عبيد: الغبيراء: السكركة. وقد روي في حديث موصول عن أم حبيبة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- أنا ناسًا من أهل اليمن قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، إن لنا شرابًا نصنعه من القمح والشعير؟ فقال: "الغبيراء"؟ قالوا: نعم، قال: "لا تطعموه". الغُبَيْراء: -بضم الغين المعجمة، وفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 644 رقم 10). (¬2) أبو داود (3685). (¬3) بالأصل بياض والمثبت من أبي داود.

نقطان وبالمد-: شراب تتخذه الحبش من الذرة يسكر. والسكركة -بضم السين-: قد جاء في الحديث أنه الغبيراء. قال الأزهري: روي عن أبي موسى الأشعري أن السكركة خمر الحبشة. وقال أبو عبيد: هو من الذرة. قال الأزهري: وليست بعربية. وقوله: "لا خير فيها" بيان لحكمة النهي عنها. وأما الميسر: فهو القمار. وأما الكوبة: فهي الطبل ذو الرأسين، وقيل: إنه القصير منها وقيل: هو النرد. وقوله: "لا تطعموه" بفتح التاء والعين لا تذوقوه شربًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام. هذا حديث صحيح، أخرجه الجماعة إلا البخاري. أما مالك (¬1): فأخرجه هكذا موقوفًا على ابن عمر في أكثر الروايات عنه، وقد رواه روح بن عبادة عنه مرفوعًا. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم وأبي بكر بن إسحاق، عن روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن سليمان ومحمد بن عيسى في آخرين، عن ¬

_ (¬1) لم أقف عليه في الموطأ بهذا الإسناد واللفظ وانظر الاستذكار (24/ 297 - 298). (¬2) مسلم (2003). (¬3) أبو داود (3679).

حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن يحيى بن درست، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن سويد، عن عبد الله بن حماد، عن أيوب، عن نافع. كلهم رفعوه. هذا الحديث من أقوى الأدلة على تحريم الأشربة المسكرة كلها، وذلك بإطلاق تسمية الخمر عليها باللفظ العام الكلي وهو قوله: "كل مسكر خمر" فأطلق اللفط والتسمية، ثم قال: "وكل مسكر حرام" فحصل من مجموع ذلك: أن الأنبذة المسكرة حرام، وقد جاء في بعض الروايات: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" فيحصل منه: أن كل مسكر حرام، وقد تقدم ذكره في إطلاق اسم الخمر على الأنبذة، وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث اسم الخمر لجميع الأشربة المسكرة، وما أراد به مجرد الاسمية فإنه لا فائدة فيه إنما أعطاها بما يقضيه حكم المسمى بهذا الاسم؛ وهو الخمر المعصرة من العنب وحكمها التحريم إجماعًا، فكان لها حكمها لذلك. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن داود بن الحصين، عن واقد بن عمرو ابن سعد بن معاذ وعن سلمة بن عوف بن سلامة أخبراه عن محمود بن لبيد الأنصاري أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام فشكا إليه أهل الشام وباء الأرض وثقلها، وقالوا: لا يصلحنا إلا هذا الشراب، فقال عمر: اشربوا العسل فقالوا: لا يصلحنا العسل، فقال رجل من أهل الأرض: هل لك أن تجعل لنا -وفي نسخة: لك- من هذا الشراب شيئًا لا يسكر؟ فقال: نعم، فطبخوه حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث، فأتوا به عمر فأدخل عمر فيه إصبعه ثم رفع يده ¬

_ (¬1) الترمذي (1861) وتقدم قريبًا. (¬2) النسائي (8/ 296).

فتبعها يتمطط، فقال: هذا الطلاء هذا مثل طلاء الإبل فأمرهم أن يشربوه، فقال له عبادة بن الصامت: أحللتها والله؟ فقال عمر: كلا والله، اللهم إني لا أحل لهم شيئًا حرمته عليهم، ولا أحرم عليهم شيئًا أحللته لهم. هذا الحديث هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬1) وقال فيه: أن نجعل لك، وهكذا أخرجه البيهقي (¬2). الوباء -مقصورا وممدودا-: تغير الهواء في العالم وفساده فيعقب في الأبدان أمراضًا عامة لأكثر الناس ويحصل منه الموت السريع، بإجراء الله العادة في ذلك. والمراد به في هذا الحديث: كثرة الأمراض بالشام وحاجتهم إلى ما يعدل أمزجتهم ويصلحها لئلا تتعرض للوباء، ولهذا قال: "وبالأرض وثقلها" وذلك أن الأرض إذا كانت ثقيلة بمعنى أن هواءها وماءها وترابها, لا تكاد تصح منه الأبدان، فإن الغذاء [لا] (¬3) ينهضهم كما يجب فيحدث فيه تغيرا. وقوله: "أن تجعل لنا" هكذا جاء في نسخة السماع، وجاء في غيرها من النسخ: "نجعل لك"، فأما الأول: فكأنه أشبه باللفط والمعنى، لأن شكواهم كانت فيما يتعلق بأنفسهم، فلما منعهم قالوا: هل لك أن تجعل لنا شرابًا لا يسكر؟ ويحقق ذلك قوله: "فأمرهم أن يشربوه". وأما قوله: "نجعل لك" فإن ذلك راجع إليه، يعنون أنك قد دخلت الشام ويحصي عليك من وبائها وثقلها، فهل نجعل لك شرابًا لا يسكر؟. وقوله: "يتمطط" أي: يتمدد، أراد أنه كان ثخينًا فلما رفعه على إصبعه صعد عليها وسال ممتدًا لذلك. والطلاء -ممدود-: شراب يتخذ من عصير العنب مطبوخًا، وبعض العرب ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 645 - 646 رقم 14). (¬2) المعرفة (13/ 21). (¬3) أثبتها ليستقيم المعنى.

يسمي الخمر: طلاء، يريد تحسين اسمها لا أنها الطلاء بعينها. وقيل: إنما سمي هذا الشراب المطبوخ طلاء: تشبيها له بطلاء الإبل وهو القطران والكبريت وما يطلى به الإبل من الجرب، وقد قال عبيد بن الأبرص للمنذر حين أراد قتله: هي الخمر تكنى الطلاء ... كما الذئب يكنى أبا جعدة ضربه مثلًا أي: تظهر لي الإكرام وأنت تريد قتلي، كما أن الخمر وإن سميت طلاء حسن اسمها فإن فعلها قبيح، وكما أن الذئب وان كانت كنيته حسنة فإن عمله ليس بحسن. وقوله: "كلا والله" أي ليس الأمر كما قلت وهذه كلا بمعنى "لا" وهي نافية، وفيها زيادة ردع وإنكار، وتحقيق النفي بخلاف لا وليس. وهذا الشراب الذي ذكره أن يؤخذ عصير العنب وهو حلو غير مشتد ولا قاذف بزبد، فيطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وهو الندبس والرب المتخذ من العنب ولا خلاف أن ذلك حلال بين الناس لأنه طعام من الأطعمة، كما أن المعمول من التمر مثله ولم يقل أحد أنه حرام لأنه لا يسكر أبدًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إني [وجدت] (¬1) من فلان ريح شراب فزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته، فجلده عمر الحد تامًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن السائب بن يزيد أن عمر ابن الخطاب خرج فصلى على جنازة فسمعه السائب يقول: إني وجدت من عبيد الله وأصحابه ريح شراب، وأنا سائل عما شربوا فإن كان مسكرًا ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 144).

حددتهم. قال سفيان: فأخبرني معمر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد أنه حضره يحدهم. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1) وذكر الرواية الأولى. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن الحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. فلان المكنى به عنه في الرواية الأولى هو المصرح به في الرواية الثانية وهو: عبيد الله بن عمر بن الخطاب. وقوله: "إن كان يسكر جلدته فجلده" فيه محذوف تقديره: سأل فقيل: يسكر فجلده. وقوله: "الحد تاما" يعني أنه ألحقه بالمسكرات التي لا خلاف فيها؛ ولم يقتصر منه على بعضه لأجل شبهة أوجبت ذلك، ولا لحقه في حق ابنه رقة ورحمة، بل أكمل استيفاء الحد منه ولم تأخذه في الله لومة لائم -رضي الله عنه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن إسحاق، عن معبد بن كعب، عن أمه -وكانت قد صلت القبلتين- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخليطين وقال: "انبذوا كل واحد منهما على حدته". قد روى هذا المعنى جماعة من الصحابة: منهم جابر وأبو قتادة وأبو سعيد وابن عباس وأنس وغيرهم، وأخرجت أحاديثهم في الصحاح فكلهم قالوا: نهى عن الخليطين وأن ينبذا معًا. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 642 رقم 1). (¬2) النسائي (8/ 326).

والخليطان: تثنية الخليط فعيل بمعنى مفعول، والمراد بالخليطين: الزبيب والتمر أو البسر والرطب، وقد جاء مصرحًا به في روايات الجماعة وكذلك البسر والتمر، وكذلك الزهو والرطب. وإنما جاءت الكراهة في الخليطين لأن أحدهما يقوي صاحبه فتسرع الشدة فيه. وقوله: "فانتبذوا كل واحد على حدته" أي: منفردًا تقول: قعد فلان على حدته أي وحده، ونبذه النبيذ إذا اتخذته. وقد ذهب غير واحد من أهل العلم إلى تحريم الخليطين، وإن لم يكن الشراب المتخذ منهما مسكرًا عملًا بظاهر الحديث، ولم يجعلوه معدلا بالإسكار. وإليه ذهب عطاء وطاوس، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث. ومذهب الشافعي: أنه يكره. قالوا: من شرب الخليطين قبل حدوث الشرط فيه فهو آثم من جهة واحدة، وإذا شربه بعد حدوث الشدة فيه كان آثمًا من جهتين:- إحدهما: شرب الخليطين. والأخرى: شرب المسكر. ورخص فيه سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينبذ التمر والبسر جميعًا، والتمر والزهو جميعًا. هذا الحديث قد أخرجه مالك في الموطأ (¬1) هكذا مرسلًا إلا أنه قال: نهى أن ينبذ البسر والرطب جميعًا، والتمر والزبيب جميعًا. وقد تقدم شرح الخليطين في حديث أم معبد. والزهو: الرطب إذا احمر أو اصفر. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 644 رقم 7).

الفصل الثاني في الأوعية

الفصل الثاني في الأوعية أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنتبذوا في الدباء والمزفت" قال: ثم يقول أبو هريرة: واجتنبوا الحناتم والنقير. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ينتبذ في الدباء والمزفت". هذا حديث صحيح، أخرجه مالك ومسلم وأبو داود والنسائي. أما مالك (¬1): فأخرجه عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن عمرو الناقد، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة أنه سمع أبا هريرة. وذكر الحديث ولم يذكر النقير. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن وهب بن بقية، عن نوح بن قيس، عن عبد الله بن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة. وذكر نحوًا من هذا وأتم منه. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قريش بن عبد الرحمن، عن علي بن الحسن، عن الحسين، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة. الدبَّاء -بضم الدل والتشديد والمد-: القرع، الواحدة دباءة. والمزفت: الإناء المطلي بالزفت أو القار. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 643 رقم 6). (¬2) مسلم (1992). (¬3) أبو داود (3693). (¬4) النسائي (8/ 206 - 207).

والحناتم: جمع حنتم وهي جرار كانوا يجلبون فيها الخمر إلى المدينة. قيل: إنها كانت خضراء. والنقير: خشبة أو جذع ينقر وينبذ فيه. قال أبو عبيد: قد جاء تفسير هذه الأوعية عن أبي بكرة أنه قال: أما الدباء فإنا معشر ثقيف كنا بالطائف نأخذ الدباء، فنجرد فيها عناقيد العنب ثم ندقها حتى تهدر ثم تموت. وأما النقير: فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب والبسر ويدعونه حتى يهدر ثم يموت. وأما الحنتم: فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر من الرطب والبسر. وأما المزفت: فهذه الأوعية التي فيها الزفت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان قال: سمعت الزهري يقول: سمعت أنسا يقول: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدباء والمزفت أن ينبذ فيه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه تعليقًا (¬2) قال: وعن الزهري حدثني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت" وكان أبو هريرة يلحق معها الحنتم والنقير. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن عمرو الناقد، عن سفيان. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري وقال: أن ينبذ فيها. ¬

_ (¬1) البخاري (5587). (¬2) بل أخرجه موصولاً بالإسناد السابق قال الحافظ في الفتح (10/ 47): هو من رواية شعيب أيضًا عن الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور .... (¬3) مسلم (1992). (¬4) النسائي (8/ 305).

قوله: "أن ينبذ فيه" فرد الضمير إلى الواحد وقد تقدم اثنان وذلك جائز أي: نهى أن ينبذ في الدباء وفي المزفت وفي رواية النسائي: "فيهما" وجاء بالضمير مثنى على اللفظ والمعنى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب في بعض مغازية، قال عبد الله بن عمر: فأقبلت نحوه فانصرف قبل أن أبلغه، فسألت: ماذا قال؟ قالوا: "نهى أن ينتبذ في الدَّبَّاء والمزفَّت". هذا حديث صحيح، أخرجه الجماعة إلا البخاري. أما مالك (¬1): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسدد، عن عبد الواحد بن زياد، عن منصور ابن حيان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر وابن عباس نحوه. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن محمد بن المثنى عن الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن زاذان قال: سألت ابن عمر عما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من الأوعية. فذكر حديثًا طويلًا أتم من هذا. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وله ولمسلم روايات كثيرة بهذا الحديث طوال وقصار وما في هذا الحديث من ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 643 رقم 5). (¬2) مسلم (1997). (¬3) أبو داود (3690). (¬4) الترمذي (1868) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي (8/ 305).

شرح فقد تقدم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ابن أبي أوفى قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري والنسائي. أما البخاري (¬1): عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد، عن أبي إسحاق الشيباني، عن ابن أبي أوفى قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجر الأخضر، قلت: أنشرب في الأبيض؟ قال: لا. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة، عن الشيباني مثل البخاري إلا أنه قال: لا أدري وفي أخرى له: نهى عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض. الجر والجرة سواء، والأحمر والأبيض يريد: المدهونة بهذه الألوان. وإنما نهى عنها: لأنها تسرع فيها الشدة لأن مسامها مشدودة بالدهن والأصباغ، فتقوى شدتها وتسرع ولا يشعر صاحبها فيكون على غرر من شربها. وقد اختلف العلماء في هذا:- فقال قوم: كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بحديث بريدة الأسلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت نهيتكم عن الأوعية، فاشربوا في كل وعاء؛ ولا تشربوا مسكرًا" (¬3) وهذا أصل الأقاويل. وقال قوم: التحريم باق، فلا تنبذ في هذه الأوعية. وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وروي عن ابن عمر وابن عباس. ¬

_ (¬1) البخاري (5596). (¬2) النسائي (8/ 304). (¬3) أخرجه مسلم (1977).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان: عن سليمان الأحول، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "لما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأوعية، قيل له: ليس كل الناس يجد سقًاء، فأذن لهم في الجر غير المزفت". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. وهكذا وقع الحديث في المسند من هذه الرواية، وقد سقط من الإسناد رجل وهو أبو عياض، يدل عليه أن الشافعي قد أخرجه في موضع آخر من كتبه رواه عنه المزني: عن سفيان، عن سليمان، عن مجاهد، عن أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو (¬1). وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن علي بن المديني, عن سفيان. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وابن أبي عمر، عن سفيان وذكر أبا عياض. وأما أبو داود (¬4): فأخرج نحوه عن محمد بن جعفر بن زياد, عن شريك، عن زياد بن فياض، عن أبي عياض، عن عبد الله بن عمرو. قال في آخره: فقال أعرابي: إنه لا ظروف لنا فقال: "اشربوا ما حلَّ". الأوعية: جمع وعاء وهي ما يحفظ فيه الشيء، والمراد بالأوعية ها هنا: أوعية الشراب، فلما ضاق عليهم الأمر بتحريم الانتباذ فيها شكوا إليه فرخص لهم في الجر غير المزفت، لأن المزفت يسرع في الشراب الشدة. وهذا الحديث وأمثاله ناسخ لتحريم الأوعية غير ما في هذا الحديث، ورواية أبي داود: "اشربوا ما حل" تقييد لهم بأن الاعتبار إنما هو بالحلال والحرام لا ¬

_ (¬1) وهذا قول البيهقي في المعرفة (3/ 45). (¬2) البخاري (5593). (¬3) مسلم (2000). (¬4) أبو داود (3700).

بالظروف والأوعية، فإن الوعاء لا يحرم حلالًا ولا يحل حرامًا. وقد أخرج المزني (¬1): عن الشافعي، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن إسحاق ابن سويد، عن معاذة عن عائشة قالت: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدباء والحنتم والمزفت". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان [ينبذ له] (¬2) في سقاء، فإن لم يكن فَتَوْر من حجارة". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. فأما مسلم (¬3): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن زهير وعن يحيى بن يحيى، عن أبي خيثمة كلاهما عن أبي الزبير. وزاد في آخره: فقال بعض القوم: وأنا أسمع من برام، قال: من برام. وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن النفيلي، عن زهير، عن أبي الزبير. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن أبي الزبير. وقال: في تور برام. السقاء: ما كان من جلد. والتور: إناء من حجارة أو صفر أو حديد ونحو ذلك، وهو من أول في العرف معروف. والبرام: جمع برمة وهي القدر، وتجمع على برم أيضًا، وقد أطلقه كثرة ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (575). (¬2) من الأم (6/ 179). (¬3) مسلم (1999). (¬4) أبو داود (3702). (¬5) النسائي (8/ 302).

الاستعمال على الحجر الذي يتخذ منه القدر، وذلك أن القدور عندهم إنما كانت تتخذ من تلك الحجارة، فسميت الحجارة باسم ما يعمل منها تسمية للشيء باسم أصله، حتى الاسم أخص بالحجر منه بالقدر، ولذلك قال: تور من برام أي: من هذا الحجر الذي يتخذ منه القدور، وليس كذلك بأن البرام القدور إن منها لا حجارتها. ويجوز أن يكون التقدير: تور من قدور أي: من حجارة القدور، أو من جنس القدور لأن التور هو القدور، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وكونه يعدل عن السقاء عند تعذره إلى التور: لأن التور لا يشتد فيه الشراب فإن رأسه واسع مكشوف وليس فيه ما يسرع فيه الشدة. والله أعلم. ***

الفصل الثالث في الحد

الفصل الثالث في الحد أخبرنا الشافعي: أخبرنا معمر، عن الزهري [عن] (¬1) عبد الرحمن بن أزهر قال: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين يسأل عن رحل خالد بن الوليد، فجريت بين يديه أسأل عن رحل خالد بن الوليد حتى أتاه جَزِعا فأُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بشارب، فقال: "اضربوه" فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه التراب ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بكِّتوه" فبكتوه، ثم أرسله، قال: فإنما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك المضروب فقومه أربعين، فضرب أبو بكر في الخمر أربعين حياته ثم عمر؛ حتى تتابع الناس في الخمر فاستشار فضربه ثمانين. هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬2): عن سليمان بن داود المهري، عن ابن وهب، عن أسامة بن زيد أن ابن شهاب حدثه عن عبد الرحمن بن أزهر قال: كأني انظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآن وهو في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد، فبينما هو كذلك إذ أتى برجل قد شرب الخمر، فقال للناس: "اضربوه" فمنهم من ضربه بالعصا، ومنهم من ضربه بالمتِخة -قال ابن وهب: هي الجريدة الرطبة- ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترابا من الأرض فرماه به في وجهه. وله في رواية أخرى (¬3): عن ابن السرح قال: قال: وجدت في كتاب خالي عبد الرحمن بن عبد الحميد، عن عقيل أن ابن شهاب أخبره أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر أخبره عن أبيه قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشارب وهو بحنين فحثى في وجهه التراب؛ ثم أمر أصحابه فضربوه بنعالهم وما كان في أيديهم، حتى قال لهم: ارفعوا فرفعوا، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جلد أبو بكر في ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 180). (¬2) أبو داود (4487). (¬3) أبو داود (4488).

الخمر أربعين، ثم جلد عمر في الخمر أربعين صدرًا من إمارته ثم جلد ثمانين وأربعين، ثم أثبت معاوية الحد ثمانين. قوله: "يسأل عن رحل خالد" أي: موضعه الذي فيه رحله، لأن من عادتهم إذا نزلوا في أرض أن ينزلوا على ما ينفق لهم، فيحتاج من يريد أحدا منهم أن يسأل عن موضعه. وقوله: "حثوا عليه التراب" أي: رموه في وجهه إهانة له. والتبكيت: اللوم، والتعنيف، والتوبيخ. وقوله: "فلما كان أبو بكر" يريد: لما كان خليفة: سأل من حضر يوم حنين عن القضية ومقدار الحد الذي حد به ذلك الشارب، فقومه أربعين أي: قدر الضرب الذي ضربه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب؛ فكان مقدار أربعين ضربة؛ لا أنها أربعون عددًا بالثياب والنعال والأيدي. وإنما قاس ما ضربه ذلك الشارب فكان مقداره أربعين عصا؛ ولذلك قال: "فقومه" أي جعل قيمته أربعين. والتتابع: التساقط في الشيء والوقوع فيه ولا يكون إلا في الشر. والذي ذهب إليه الشافعي في حد الخمر: أنه أربعون، فإن رأى الإمام أن يزيد شيئا جاز وكان ذلك تعزيرًا لا حدًا. وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: حد الخمر ثمانون. واختاره ابن المنذر. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ثور بن يزيد الديلي أن عمرًا استشار في الخمر يشربها الرجل؟ فقال علي بن أبي طالب: نرى أن نجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى -أو كما قال- قال: فجلده ثمانين في الخمر. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬1). ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 6642 رقم 2).

والهذيان من القول معروف وهو: الرديء منه. والافتراء: الكذب والاختلاق، يريد: أنه يبدو على لسانه ذم أحد أو قذفه وحد القذف ثمانون فألحقه به لذلك. والزيادة على الأربعين محمولة على ما قلنا من أن للإمام أن يزيد على الأربعين ويكون تعزيرًا لا حدًا. والله [أعلم] (¬1). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شرب الخمر فاجلدوه؛ ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه؛ ثم إن شرب فاقتلوه". لا يدري الزهري بعد الثالثة أو الرابعة، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به قد شرب فجلده، ووضع القتل وصارت رخصة قال سفيان: ثم قال الزهري لمنصور بن المعتمر ومخول: كونا وافدي العراق بهذا الحديث. هكذا أخرجه في كتاب "الأشربة" (¬2)، وقد أخرج منه طرفًا في كتاب اختلاف الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن شرب الخمر فاجلدوه" ولم يزد. وقد جاء هذا الحديث من رواية الشافعي أيضًا وقال فيه: فأتى برجل فجلده، ثم أتي به الثانية فجلده، ثم أتي به الثالثة فجلده، ثم أتي به الرابعة فجلدوه ووضع القتل فكان رخصة. والحديث بتمامه قد أخرجه أبو داود (¬3): عن أحمد بن عبدة الضبي، عن سفيان، عن الزهري أخبرنا عن قبيصة بن ذؤيب. وذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: حدث الزهري بهذا الحديث وعنده منصور بن المعتمر ومخول بن راشد، فقال لهما: كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث. ¬

_ (¬1) سقط من الأصل والسياق يقتضيها. (¬2) الأم (6/ 179). (¬3) أبو داود (4485).

قد اختلفت رواية هذا الحديث فرواه الشافعي، عن سفيان، عن الزهري، عن قبيصة. ورواه أبو داود: عن الزهري فقال: عن من أخبره (¬1) عن قبيصة. والزهري قد لقي قبيصة وروى عنه، وقبيصة قد اختلف في صحبته: فأثبته قوم في الصحابة، وأثبته قوم في تابعي الشام. واختلف في ميلاده: فقيل: ولد أول سنة من الهجرة، وقيل: سنة الفتح، وأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا له، وهو خزاعي. قوله: "ووضع القتل" أي: أسقطه. وقوله: "وصارت رخصة" يعني: وضع القتل لما أسقطه عن الشارب كان رخصة له وتخفيفًا عنه، ولم يرد في الرخصة في السنن الشرعية التي يجوز للمترخص أن يفعلها كالإفطار والقصر في السفر ونحو ذلك، فإن ذلك يجوز له أن يعمل به وأن لا يعمل به، وها هنا ليس له أن يقتل الشارب؛ إنما أراد بالرخصة التخفيف بإسقاط القتل. ووافد القوم: الذي يجيء إليهم ويقصدهم ويتحفهم بشيء؛ فلذلك قال الزهري لمنصور ومخول: كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث، يعني: أنه غريب عندهم لا يعرفونه فتكونان أنتما قد أتحفتماهم به. قال الخطابي: وقد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل وإنما يقصد به الردع والتحذير، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه" ولو قتل عبده لم يقتل إجماعًا. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن القتل منسوخ بهذا الحديث، وبما روي عن ابن الزبير أنه قال نحو حديث قبيصة، قال: ثم أتي به ¬

_ (¬1) في السنن بلفظ [أخبرنا] فلعله ذكره بالمعنى.

الخامسة فحده لم يقتله. قال الشافعي: فإن صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من هذه الأحاديث فحديث ابن الزبير ناسخ له. والطرف الذي أخرجه الشافعي في كتاب "اختلاف الحديث" أردفه بحديث عثمان بن عفان: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن علي بن أبي طالب قال: لا أوتى بأحد شرب خمرًا ولا نبيذًا مسكرًا إلا جلدته الحد. هذا الحديث مؤكد لما ذهب إليه الشافعي من تحريم الأنبذة المسكرة؛ وأن حكمها حكم الخمر المجمع على تحريمها في الإثم ووجوب الحد؛ لأن عليًا -كرم الله وجهه- قرن بينهما في الحكم بواو العطف قبل أن يأتي بجواب النفي؛ وأنه قال: أوتى بأحد فعل هذا ولا هذا إلا جلدته، وهذا قول حاضر دائر بين النفي والإثبات؛ والمعطوف مقارن للمعطوف عليه قبل إيقاع الحكم المترتب عليه. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة [عن] (¬1)، عمرو بن دينار، عن أبي جعفر أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إن تجلدوا قدامة اليوم فلن نترك أحدًا بعده. وكان قدامة بدريًا. هذا طرف من حديث طويل قد أخرجه أبو بكر البرقاني على شرط صحيح البخاري، والبخاري قد أخرج منه طرفًا في ذكر من شهد بدرًا (¬2)، والحديث قال (¬3): استعمل عمر قدامة بن مظعون على البحرين -وكان شهد بدرًا مع ¬

_ (¬1) من المسند (2/ 299). (¬2) البخاري (4011). (¬3) وأخرجه هكذا مطولًا البيهقي في سننه (8/ 316).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو خال ابن عمر وحفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: فقدم الجارود من البحرين فقال: يا أمير المؤمنين، إن قدامة بن مظعون قد شرب مسكرًا؛ وإني إذا رأيت حدًا من حدود الله -عز وجل- حق علي أن أرفعه إليك، فقال له عمر: من يشهد على ما تقول؟ قال: أبو هريرة، فدعا عمر أبا هريرة فقال: على ما تشهد يا أبا هريرة؟ قال: لم أره حين شرب؛ ولكن قد رأيته سكران يقيء، فقال: عمر: لقد تنطعت أبا هررة في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة وهو بالبحرين يأمره بالقدوم عليه، فلما قدم قدامة والجارود بالمدينة، كلم الجارود عمر فقال: أقم على هذا كتاب الله -عز وجل- فقال عمر للجارود: أشهيد أنت أم خصم؟ فقال الجارود: أنا شهيد، فقال: قد كنت أديت شهادتك: فسكت الجارود ثم قال: لتعلمن أني أنشدك الله، فقال عمر: أما والله لتملكن لسانك أو لأسوأنك، فقال الجارود: أما والله ما ذاك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسئوني، فأوعده عمر، فقال أبو هريرة وهو جالس: يا أمير المؤمنين، إن كنت تشك في شهادتنا فسل بنت الوليد امرأة ابن مظعون، فأرسل عمر إلى هند ينشدها بالله -تعالى- فأقامت هند على زوجها قدامة الشهادة، فقال عمر: يا قدامة إني جالدك، فقال قدامة: والله لو شربت كما تقولون ما كان لك أن تجلدني يا عمر، قال: ولم يا قدامة؟ قال: إن الله -عز وجل- قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬1) فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله -عز وجل- ثم أقبل عمر على القوم فقال: ماذا ترون في جلد قدامة؟ فقال القوم: لا نرى أن تجلده ما دام وجعًا، فسكت عمر عن جلده أياما ¬

_ (¬1) [المائدة: 93].

ثم أصبح يومًا قد عزم على جلده، فقال لأصحابه: ماذا ترون في جلد قدامة؟ فقالوا: لا نرى أن تجلده ما دام وجعًا، فقال عمر: إنه والله لأن يلقى الله -تعالى- تحت السياط؛ أحب إلي من [أن] (¬1) ألقى الله -عز وجل- وهو في عنقي، إني والله لأجلدنه، ائتوني بسوط، فجاء مولاه أسلم بسوط يفتق صغير، فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال: قد أخذت دقرارة أهلك. الدقرارة: واحدة الدقارير وهي الأباطيل وعادات السوء، المعنى: أن عادة السوء التي هي عادة قومك، وهي العدول عن الحق والعمل بالباطل قد عرضت لك فعملت بها، وذلك أن أسلم كان عبدًا بجاويًا. ائتوني بسوط غير هذا، قال: فجاءه أسلم بسوط تام فأمر عمر -رضي الله عنه- بقدامة فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره، فحجا وقدامة مهاجر لعمر حتى قفلوا من حجهم ونزل عمر بالسقيا فنام بها، فلما استيقظ قال: عجلوا علي بقدامة؛ انطلقوا فأتوني به، فوالله إني لأرى في النوم أنه جاءني آت فقال لي: سالم قدامة فإنه. أخوك، فلما جاءوا بقدامة أبى أن يأتيه، فأمر عمر بقدامة فجر إليه جرًا حتى كلمة عمر واستغفر له، فكان أول صلحهما. معنى قول عمر إن يجلد قدامة اليوم فلن يترك أحد بعده، لأن مثل قدامة وشرفه وأنه بدري وابن عمه وخال أولاده، إذا لم يراعه في الحد لا يترك أحدا غيره. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد [عن] (¬2) ابن جريج قال: قلت لعطاء أتجلد في ريح الشراب؟ فقال: إن الريح ليكون من الشراب الذي ليس به بأس، فإذا اجتمعوا جميعًا على شراب واحد فسكر أحدهم جلدوا جميعًا الحد تامًا. قال الشافعي: وقول عطاء مثل قول عمر لا يخالفه. ¬

_ (¬1) من السنن. (¬2) من المسند (2/ 298).

يريد الشافعي بقول عمر قوله: إني شممت من عبيد الله وأصحابه ريح الشراب، وأنا سائل عما شربوا فإن كان مسكرًا حددتهم. وإنما قال: أجلدهم جميعًا وإن كان واحدا منهم، لأنهم قد اجتمعوا على شرب شراب مسكر، وشرب قليل المسكر وكثيره يوجب الحد، ولم يعتبر في وجوبه وجود الرائحة حتى علله بشرب المسكر فجلدهم وان لم يسكروا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الحد لا يقام على أحد شرب حتى يقر أنه شرب مسكرًا؛ أو يشهد عليه عدلان بذلك، فأما إن وجد سكران، أو اشتم منه رائحة المسكر، أو تقيأ مسكرًا لم يجب الحد لأنه يجب أن يكون شرب مكرها، أو شرب ما يجيء منه رائحة الخمر. ألا ترى أن عمر لما شم من ابنه رائحة شراب لم يحده بمجرد الرائحة؛ ولا مجرد إخباره أنه شرب الطلاء حتى قال: أسأل عنه فإن كان مسكرًا جلدته. أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر محمد بن علي أن علي بن أبي طالب جلد الوليد بسوط له طرفان أربعين، فيكون ذلك ثمانين لأجل الطرفين. وهذا الحديث منقطع، محمد بن علي لم يدرك عليًّا -كرم الله وجهه- وقد جاء في الحديث أنه: أمر به فجلد أربعين جلدة، وهذا يشبه بأنه لا يخالفه بأن يكون جلده بكل طرف عشرين؛ فيكون الجميع أربعين، ولذلك قال علي لما جلد الوليد بهذا السوط -إن كان ثابتا- أربعين، فقد قال في الحديث الثابت: جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكُلٌ سُنَّةٌ، وقال في رواية عبد العزيز بن المختار وهو أحب إلي فلولا أنه اقتصر على أربعين لم يقل وهذا أحب إلي، فأما جلد الوليد بن عقبة وشيبة، فإن الوليد ابن عقبة بن أبي معيط هو أخو عثمان بن عفان لأمه، كان أميرًا على الكوفة وكان يشرب الخمر فصلى بالناس صلاة الصبح أربعًا ثم قال: أزيدكم، فرفع أمره إلى

عثمان وشهد عليه رجلان أحدهما: حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عمر: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي، قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تول قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم فاجلده، وعلي -كرم الله وجهه- يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إليّ. وأما صفة السوط الذي يجلد به فهو: أن يكون سوطًا بين سوطين لا جديد فيجرح ولا خليق فلا يؤلم. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط فأتي بسوط مكسور، فقال: "فوق هذا" فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: " [بين] (¬1) هذين فأتي بسوط قد رُكب به فَلَان فأمر به فجلد، ثم قال: "أيها الناس: قد آن لكم تنتهوا عن محارم الله -تعالى- فمن أصاب منكم من هذه القاذورة شيئًا فليستتر بستر الله -تعالى- فإنه من يُبْدِ لنا صفحته نُقِم عليه كتاب الله -عز وجل-". قال الشافعي: هذا حديث منقطع ليس مما يثبت بنفسه حجة وقد رأيت من أهل العلم عندنا من يعرفه ويقول به، فنحن نقول به. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) من المعرفة.

الباب السابع في إقامة الحدود والتعزير

الباب السابع في إقامة الحدود والتعزير أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي إدريس [عن] (¬1) عبادة بن الصامت قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله" وقرأ عليهم الآية وقال: "فمن وفَّي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى والناقد وأبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وابن نمير، عن سفيان. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن يعقوب بن إبراهيم، عن غندر، عن معمر، عن الزهري. وأما الترمذي (¬5): فأخرجه عن قتيبة بن سعيد، عن سفيان، عن الزهري. ¬

_ (¬1) من الأم (6/ 138). (¬2) البخاري (/). (¬3) مسلم (1709). (¬4) النسائي (7/ 148). (¬5) الترمذي (1439) وقال: حسن صحيح.

الآية التيِ قرأها عليهم هي قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ في مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1). وقد جاء في رواية البخاري ومسلم قال: "تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تسرقوا, ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف". وقوله: "فمن وفَّى منكم" يقال: وفى، ووافى، ووفى، والقرآن نزل بوفى ووافى (*). والكفارة: الخصلة التي من شأنها أن تكفر الذنب أي: تمحوه وتغطيه وتستره. وهذا يدل على أن الحدود مكفرات للذنوب التي حد عليها، وأن من لم يفضحه الله بظهور معصيته حتى يحد؛ فإن أمره إليه في تعذيبه والعفو عنه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: لم أسمع في الحدود حديثا أبين من هذا، ونحن نحب إن أصاب الحد أن يستر، وأن يتقي الله، ولا يعود لمعصية الله -تعالى-، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "وما يدريك لعل الحدود نزلت كفارة للذنوب"، وروي أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر رجلاً أصاب حدًا بالاستتار، وأن عمر أمر به، وهذا حديث صحيح عنهما. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عبد العزيز [بن عبد الله] (¬2) ابن عمر، عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت ¬

_ (¬1) [الممتحنة: 12]. (¬2) تكررت في الأصل. (*) قال معد الكتاب للشاملة: كذا في المطبوعة، ولعل صوابها: "أوفى"، والله أعلم.

عبد الرحمن، عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تجافوا لذوي الهيئات عن عثراتهم". قال الشافعي: سمعت من أهل العلم من يعرف هذا الحديث ويقول: نتجافى للرجل ذي الهيئة عن عثرته ما لم يكن حدًا. هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1): عن جعفر بن مسافر ومحمد بن سليمان الأنباري، عن ابن أبي فديك، عن عبد الملك بن زيد، [عن محمد بن أبي بكر] (¬2)، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود". التجافي: تفاعل من جفا الشيء عن الشيء يجفو: إذا لم يلزمه ولم يثبت عليه كالجنب على الفراش، والسرج عن ظهر الدبة. والمراد في الحديث: الترك والتساهل والتسامح عن التشديد والتحقيق. وذوو الهيئات: يريد به: من لم يظهر منهم ريبة. قال الشافعي: ذوو الهيئات الذين تقال عثراتهم: الذين ليسوا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة فيغفر له؛ إلا أن يكون حدًا من حدود الله -عز وجل- ويبلغ الإمام، فلا يجوز أن يدعه؛ ولا ينبغي لأحد أن يشفع فيه. وفيه دليل على أن للإمام ترك التعزير إن شاء ولو كان واجبًا لما أجاز له تركه. وقد أخرج الشافعي: فيما بلغه عن ابن مهدي بإسناده أن رجلاً أقر عند علي -كرم الله وجهه- أظنه بحد، فجهد عليه أن يخبره ما هو فأبى، فقال: اضربوه حتى ينهاكم. قال الشافعي: وهم يخالفون هذا. ¬

_ (¬1) أبو داود (4375). (¬2) من أبي داود، وتحفة الأشراف (12/ 413).

أورده فيما ألزم العراقيين خلاف علي، ولعله قد أقر بحد وهو حد لآدمي. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن أبي بكر بن عياش قال: حدثني أبو حصين، عن عامر بن الكاهلي قال: كنت عند علي إذ أتي برجل، فقال: ما شأن هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، وجدناه تحت فراش امرأة، فقال: لقد وجدتموه على نتن، فانطلقوا به إلى نتن مثله فمرغوه فيه فمرغوه في عذرة وخلى سبيله. قال الشافعي: وهم يخالفون هذا، يقولون: يضرب [ويرسل] (¬1) وكذلك قول المفتين، أورده في إلزام العراقيين من خلاف علي. وقد أخرج الشافعي عن رجل، عن شعبة، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله "أنه وجد امرأة مع رجل في لحافها على فراشها، [فضربه] (¬2) خمسين، فذهبوا فشكوا ذلك إلى عمر فقال: لم فعلت ذلك؟ قال: لأني أرى ذلك، قال: وأنا أرى ذلك". قال الشافعي: وأصحابنا يذهبون إلى أنه يبلغ بالتعزير هذا وأكثر منه إلى ما دون الثمانين، وهم يقولون: لا يبلغ بالتعزير في شيء أربعين، فيخالفون ما روي عن عمر وابن مسعود -رضي الله عنهما-. قال: وقد روى مسعر بن كدام حديثًا منقطعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين". رواه عنه المزني. والله أعلم. ¬

_ (¬1) في الأصل [ويغسل] والمثبت من الأم (7/ 183) وكذا نقله عنه في المعرفة (13/ 68). (¬2) في الأصل [فضربها] والمثبت من الأم (7/ 183).

كتاب موجب الضمان

كتاب موجب الضمان أخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج -أظنه- عن عطاء، عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن يعلى بن أمية قال: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة، قال: وكان يعلى يقول: وكانت تلك الغزوة أوثق عملي في نفسي، قال عطاء: قال صفوان: قال يعلى: كان لي أجير فقاتل إنسانًا فعض أحدهما يد الآخر، فانتزع المعضوض يده من العاض فذهبت إحدى ثنيته، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأهدر ثنيته، قال عطاء: وحسبت أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيدع يده في فيك تقضمها كأنها فيِّ فحل يعضها؟! قال عطاء: وقد أخبرني صفوان أيهما عض فنسيته. وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبيد الله بن سعيد، عن محمد بن بكر، عن ابن جريج. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر، عن أبي أسامة، عن ابن جريج. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسدد، عن يحيى، عن ابن جريج مختصرًا. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن يعقوب بن إبراهيم، عن ابن علية، عن ابن جريج. وله روايات كثيرة قد بين فيها الاختلاف على عطاء. الغزوة: المرة الواحدة من الغزو، وهذه الغزوة: غزوة تبوك، قد جاءت ¬

_ (¬1) البخاري (4417). (¬2) مسلم (1674). (¬3) أبو داود (4584). (¬4) النسائي (8/ 31).

مفسرة في روايات الأئمة:- فمنهم من قال: غزوة تبوك، ومنهم من قال: غزوة العسرة وغزوة العسرة هي غزوة تبوك، سميت بذلك لأنها كانت في حال عسر وضيق من أحوال المسلمين؛ وكانت في الصيف وشدة الحر فإنها عسرت عليهم. وقوله: "أوثق عملي في نفسي" يريد: أشد وأثبت عندي وأنا بها أوثق من باقي أعمالي التي عدتها، كأنه قد كان فيها مخلصًا صادق النية محتسبًا. والإهدر: الإبطال أي: لم يقده منها. والفحل: يريد به: فحل الإبل. والقضم بأطراف الأسنان، تقول: قضمت -بالكسر- أقضم -بالفتح- والقضم بجميع الفم. وقول عطاء: وقد أخبرني صفوان أيهما عض فنسيته، قد جاء مفسرًا في بعض روايات الأئمة وهو أن المعضوض كان أجير يعلى والعاض الرجل الآخر. والذي ذهب إليه الشافعي: العمل بهذا الحديث وإسقاط القَوَد عنه والدية. وحكي عن مالك وابن أبي ليلى أنهما قالا: يجب الضمان. وذلك خلاف السنة. وشرح المذهب فيما هذا سبيله: أن يتوصل في دفع خصمه بأيسر الطرق وأقربها؛ فإن أمكن ذلك وإلا فيدفعه بجهده؛ فإن لم يندفع إلا بموجب أذاه فعله ولا قود عليه. وهذا حكم ومطرد في أمثال ذلك؛ حتى لو أن رجلاً طلب رجلاً ليقتله أو يأخذ ماله أو حريمه؛ كان له دفعه بأيسر ما يمكنه، فإن أدى ذلك إلى قتله قتله ولا ضمان عليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج أن ابن أبي مليكة أخبره أن

أباه أخبره أن إنسانًا جاء إلى أبي بكر الصديق وعضه إنسان فانتزع يده منه فذهبت ثنيته، فقال أبو بكر: بعدت سّنة. هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬1) عقيب حديث يعلى المذكور قال: وأخبرني ابن أبي مليكة [عن جعدة] (¬2). وقد اختلفت رواية الشافعي وأبي داود، فإن الشافعي قال: عن ابن أبي مليكة، عن أبيه، وأبو داود قال: عن جده. وابن أبي مليكة هو: أبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة. واسم أبي مليكة: زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي. فعلى رواية الشافعي تكون الرواية عن عبيد الله. وعند أبي داود: عن أبي مليكة. ويجوز أن يكون أراد الشافعي بأبيه جده، وهذا مستمر بين الرواة يعملون الجد أبًا. والواو في "وعضه" واو الحال وفيها "قد" مضمرة تقديره: وقد عضه إنسان. وقوله: "بعدت سنه" بكسر العين أي: ذهبت هدرًا، وهلكت كقوله تعالى: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} (¬3)، كما يقال: أبعده الله أي: أذهبه وأهلكه، وهي وإن كان لفظها لفظ الخبر فإنها بمعنى الدعاء. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي المغيرة في قوم دخلوا على امرأة في دار قوم؛ فخرج إليهم بعض أهل الدار فقتلوهم؛ فأصبحوا وقد جاءت عشائرهم إلى علي فرفعوهم إليه؛ فقال علي: ¬

_ (¬1) أبو داود (4584). (¬2) في الأصل [هو أن جريج] والمثبت من أبي داود. (¬3) [هود: 95].

وما جمع هؤلاء جميعًا في دار واحدة ليلاً؟ فقال بيده فقلبها ظهرًا لبطن، ثم قال: لصوص قتل بعضهم بعضًا؛ قوموا فقد أُهدِرت دماؤهم، فقال الحسن: أنا أضمن هذه الدماء فقال: أنت أعلم بنفسك. قال الشافعي: وليسوا يقولون بهذا، أما نحن فروي عن علي -كرم الله وجهه- أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله، فسئل علي فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته. أخبرنا بذلك مالك، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب. وبهذا نقول نحن وهم، إلا أنهم يقولون -في اللص يدخل دار رجل فيقتله-: ينظر إلى المقتول فإن لم يكن يعرف باللصوصية مثل القاتل؛ وإن كان عرف باللصوصية دريء عن القاتل القتل وكانت عليه الدية، وهذا خلاف ما رووا عن علي -كرم الله وجهه-. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فخذفته بعصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري، ومسلم وأبو داود والنسائي. أما البخاري (¬1): فعن علي بن عبد الله، عن سفيان. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقأوا عينه فقد هدرت عينه". وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن منصور، عن سفيان وقال: "ما كان ¬

_ (¬1) البخاري (6902). (¬2) مسلم (2158). (¬3) أبو داود (5172). (¬4) النسائي (8/ 61).

عليكم من حرج" وفي أخرى: "جناح". الحذف -بالخاء والذال المعجمتين-: هو أن تجعل حصاة بين أصبعيك ثم ترميها، أو تجعلها في طرف خشبة وتمسكها بيدك ثم ترميها. قال الجوهري: المتخذفة: المقلاع. وفقأت عينه: إذا بخصتها. والجناح والحرج: الإثم. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا نظر إلى حرم إنسان من سير الباب أو كوة الدار عمدًا؛ فله أن يقصد عينه بحصاة أو مصدرا (¬1) ونحو ذلك من غير تقديم إنذار، فإن أذهب عينه فلا ضمان عليه. وقال بعض الأصحاب: لابد من يجُب تقديم الإنذار، فإن كان الباب مفتوحا فنظر فلا. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له شيء من ذلك، ومتى أتلف عينه وجب عليه الضمان. وتأول الحديث على التغليظ والوعيد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري قال: سمعت سهل بن سعد يقول: اطلع رجل من حجر في حجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدري يحك به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن الزهري وذكر الحديث ¬

_ (¬1) كذا في الأصل. (¬2) البخاري (6901).

وقال: "لو أعلم [أنك] (¬1) تنتظرني". وأما مسلم (¬2): فأخرجه بإسناد البخاري ولفظه. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه بإسناد البخاري وقال "أنك تنظرني" (¬4). الحجرة: البيت، وهو في الأصل: البقعة من الأرض يحاط عليها حائط، ومنه يسمى حضيرة الإبل حجرة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة كالغرفة والقبضة. والمدرة: شيء يسرح به الشعر محدد الطرف من حديد أو غيره شبيهًا بسن من أسنان المشط وأكبر قليلاً. فينتظر: تفعل من النظر، وفي رواية الشافعي: "ينتظر" غير مضاف إلى أحد، وفي رواية النسائي: "ينظرني" فأضاف النظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأول عام في مطلق النظر سواء كان إلى رجل أو امرأة، والثاني خاص في النظر إلى الرجال، وإذا كان هذا الحكم مع النظر إلى الرجال؛ فما الظن بالنظر إلى النساء؟ فإنه يكون آكد وأشد والحكم يندرج عليه بطريق الأول. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقفي، عن حميد، عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بيته [رأى رجلاً] (¬5) اطلع عليه، فأهوى له بمشقص كان في يده، وكأنه لو لم يتأخر لم يبال أن يطعنه. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الموطأ. أما البخاري (¬6): فأخرجه عن أبي اليمان، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله ¬

_ (¬1) في الأصل [أن] والمثبت من البخاري. (¬2) مسلم (2156). (¬3) الترمذي (2709) لكن بإسناد غير إسناد البخاري فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن الزهري، قلت: وهو عند النسائي (8/ 60 - 61) من طريق البخاري وسقط تخريج طريق النسائي هنا. (¬4) عند الترمذي [تنظر]. (¬5) في الأصل [راجلًا] والمثبت من الأم (6/ 32). (¬6) البخاري (6900).

ابن أبي بكر بن أنس. وذكر نحوه. وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وأبي كامل وقتيبة، عن حماد مثل البخاري. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن محمد بن عبيد، عن حماد مثل البخاري. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن بندار، عن الثقفي. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن عمرو بن منصور، عن مسلم بن إبراهيم عن أبان، عن يحيى، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس وحديثه أتم. قوله: "رأى رجلاً" جملة في موضع البدل من قوله: "كان في بيته" كأنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً اطلع عليه. وقوله: "أهوى إليه" مد إليه يده، واللام في "له" بمعنى إلى لأن حروف الجر يقوم بعضها مقام بعض. والمشقص: السهم فيه نصل عريض يرمى به الوحش، حكاه الأزهري عن الليث وقال: أخطأ الليث في تفسير المشقص. وقال: قال أبو عبيد: قال الأصمعي: المشقص من النصال الطويل وليس بالعريض، أما العريض من النصال فهو المعبلة وهذا هو الصحيح وعليه كلام العرب. وقوله: "لم يبال" أي: لم يكترث ولم يهتم له، تقول: لا أباليه فإذا قالوا: لم أبال، ثم إنهم حذفوا الألف تخفيفًا لكثرة الاستعمال فقالوا: لم أبل، ¬

_ (¬1) مسلم (2157). (¬2) أبو داود (5171). (¬3) الترمذي (2708) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي في الكبرى (7063).

وكذلك فعلوا في مصدره فقالوا: ما أباليه بالة والأصل: بالية، مثل: عافاه الله عافية. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب وأبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العجماء جرحها جبار". هكذا أخرجه في كتاب اختلاف الحديث (¬1)، وأخرجه في القديم (¬2): عن سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". ورواه المزني عنه عن سفيان ومالك معًا، وهو حديث صحيح متفق عليه، أخرج الجماعة. أما مالك (¬3): فأخرجه بالإسناد وذكر الرواية الثانية. وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح وقتيبة، عن الليث، عن ابن الشهاب. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن مسدد، عن سفيان، عن ابن شهاب. وأما الترمذي (¬7): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن ابن شهاب. ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث مع الأم (566). (¬2) المعرفة (13/ 93). (¬3) الموطأ (2/ 661 رقم 12). (¬4) البخاري (1499). (¬5) مسلم (1710). (¬6) أبو داود (4593). (¬7) الترمذي (642) وقال: حسن صحيح.

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. وكلهم ذكر الحديث بتمامه. العجماء: الدابة، وهي تأنيث الأعجم من المعجمة وهي العجز عن الكلام، فكل من لا يقدر على الكلام فهو أعجم، والأنثى عجماء. والجبار: الهدر. والركاز: مختلف فيه فقد تقدم ذكر ذلك في كتاب الزكاة. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الدابة إذا أصابت أحدًا ويد صاحبها عليها وجب عليه الضمان، وسواء كانت الإصابة بيدها أو رجلها، وسواء كان راكبًا عليها أو قائدًا لها أو سائقًا. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن نفحت بيدها فعليه الضمان، و [إن] (¬2) نفحت (¬3) برجلها فلا ضمان عليه. وإنما يكون جرحها هدرًا: إذا كانت منفلتة عائدة على وجهها ليس لها قائد ولا سائق. وأما حكم البئر: فهو أن يحفر بئرا في ملك نفسه فيقع فيها إنسان؛ فإنه هدر ولا ضمان على صاحب البئر، وقد يتأول أيضًا: على البئر تكون بالبوادي يحفرها الإنسان فيحييها بالحفر؛ فيتردى فيها إنسان فيكون هدرًا. وأما المعدن: فهو ما يستخرج من معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس ونحو ذلك، فيستأجر قوما يعملون فيها فربما انهارت على بعضهم فقتله فدمه هدر. ¬

_ (¬1) النسائي (5/ 45). (¬2) في الأصل [إ] وهو تصحيف والمثبت هو المناسب للسياق. (¬3) النفح: الضرب والرمي وانظر اللسان مادة نفح.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعد ابن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطًا لقوم فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الأموال حفظها بالنهار؛ وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا أيوب بن سويد، حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن البراء بن عازب أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل من الأنصار فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية ما أفسدت ماشيتهم بالليل. هذا الحديث أخرجه مالك وأبو داود. أما مالك (¬1): فأخرجه بإسناد الأولى ولفظها. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أحمد بن محمد بن ثابت المروزي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن حرام بن محيصة، عن أبيه أن ناقة للبراء ابن عازب. وذكر الرواية الأولى وقال فيها وعلى أهل المواشي حفظها بالليل. وله في أخرى: عن محمود بن خالد، عن الفريابي، عن الأوزاعي , عن الزهري، عن حرام، عن البراء. رواية الشافعي من طريق مالك مرسلة؛ وكذلك أخرجها مالك في الموطأ. والرواية الثانية مسندة عن حرام، عن البراء، وكذا أخرجها أبو داود في إحدى روايتيه، وأخرجه في رواية الأخرى عن حرام بن محيصة عن أبيه، وأبو حرام إنما هو سعد فيجوز أن يكون أراد سعدًا، ويجوز أن يكون أراد محيصة. وقد قال الشافعي في رواية حرملة: رواه غير سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 573 رقم 37). (¬2) أبو داود (3569، 3570).

حرام بن سعد بن محيصة، عن أبيه. والحائط: البستان. والمواشي: جمع ماشية كالإبل والبقر والغنم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الماشية إذا أتلفت على إنسان زرعه: فإن كان صاحبها معها أو غيره فالضمان على من يده عليها كما قلنا في الحديث الذي قبله. وإن لم يكن يد أحد عليها: فإن كان ذلك بالنهار فلا ضمان على صاحبها؛ لأن حفظ الزرع على صاحبه بالنهار للحديث. وإن كان بالليل: وكان صاحبها أرسلها بالنهار ثم لم يمسكها ليلاً أو أرسلها ليلاً؛ فعليه الضمان، وإن لم يكن قد أرسلها وسرحت لنفسها من محبسها فلا ضمان عليه. وقال أبو حنيفة: لا ضمان على صاحبها بكل حال إذا لم يكن يده عليها سواء كان نهارًا أو ليلاً. والحديث قد فرق بين الليل والنهار صريحًا فلا يقاس عليه غيره، والحكم في هذه المسألة خاص والذي قبله وهو: "العجماء جبار" عام، وإنما فرق بين الليل والنهار فيها: لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار؛ ومن عادة أصحاب المواشي أن يسير حولها نهارًا ويرددها ليلاً إلى المراح؛ فمن خالف هذه العادة كان خارجًا عن الحفظ إلى التقصير؛ فكان كمن ألقى متاعه في طريق شارع أو تركه في غير حرز؛ ولا يكون على آخذه قطع. قال الشافعي في حديث البراء بن عازب: فأخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله؛ ولا يخالف هذا الحديث حديث: "العجماء جرحها جبار" فإنه جملة من الكلام العام الذي يراد به الخاص، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العجماء

جرحها جبار" وقضى فيما أفسدت العجماء بشيء في حال دون حال دل ذلك أن ما أصابت العجماء من جرح وغيره في حال جبار وفي حال غير جبار، وفي هذا دليل على أنه إذا كان على أهل العجماء حفظها ضمنوا ما أصابت، وإذا لم يكن عليهم حفظها لم يضمنوا شيئًا مما أصابت، ويضمن أهل الماشية السائمة بالليل ما أصابت من زرع ولا يضمنونه بالنهار، ويضمن القائد والراكب والسائق لأن عليهم حفظها في تلك الحال، ولا يضمنون لو انفلتت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس قال: كان الرجل يؤخذ بذنب غيبره، حتى جاء إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فقال الله -عز وجل-: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬1). الوزر: الذنب والجرم، تقول: وزر يزر وزرًا فهو وازر، والتأنيث راجع إلى النفس أي: نفس وازرة. وقوله: "الذي وفى" يريد: وفَّى برؤياه وذبح ولده، وقيل: إنما أراد به الإطلاق ليتناول كل وفاء من صبره على النار، والذبح، وأذى الناس وغير ذلك، والتوفية: الإتمام. ومحل "أن" وما بعدها الجر بدلاً مما في صحف موسى، تقديره: أم لم ينبأ بالذي في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى، ويجوز أن يكون محلها الرفع على أن هو لا تزر وازرة أخرى، كأن قائلًا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقيل: أن لا تزر وازرة و"أن" هي المخففة من الثقيلة، التقدير: أنه لا تزر، ويكون الضمير للشأن. قال الشافعي: والذي سمعت -والله أعلم- في قول الله -عز وجل-: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا يؤخذ أحد بذنب غيره في بدنه لأن الله ¬

_ (¬1) [النجم: 37، 38].

-تعالى- جزى العباد على أنفسهم وعاقبهم عليها وكذلك أموالهم لا يجني أحد على أحد في ملك إلا حيث خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ بأن جناية الخطأ في الحر من الآدميين على عاقلته. وبسط الكلام في شرحه في كتاب "أحكام القرءان" وبالله التوفيق. ***

كتاب السير والجهاد

كتاب السير والجهاد وفيه ثلاثة أبواب:- الباب الأول في أحكام الجهاد وآدابه أخرج الشافعي: عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد المقبري، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن قتلت في سبيل الله صابرًا محتسبًا، مقبلًا غير مدبر، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم" فلما ولَّى الرجل ناداه وأمر به فنودي فقال: "كيف قلت"؟ قال: فأعاد عليه القول، فقال: "نعم إلا الدَيْن كذلك قال لي جبريل عليه السلام". ورواه أيضًا عن سفيان، عن ابن عجلان، عن محمد بن قيس، عن عبد الله ابن أبي قتادة، عن أبيه نحوه. أخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقة، عن محمد بن أبان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث جيشًا أمرَّ عليهم أميرًا وقال: "فإذا لقيت عدوًا من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال -أو ثلاث خصال، يشك علقمة-: ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين؛ وأخبرهم إن فعلوا أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما عليهم؛ فإن اختاروا المقام في دارهم أنهم كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله كما يجري على المسلمين، وليس لهم في الفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن لم يجيبوك [إلى الإسلام] (¬1) فادعهم إلى أن يعطوا الجزية ¬

_ (¬1) من المسند (2/ 385).

عن يد وهم صاغرون، فإن فعلوا فأقبل منهم ودعهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم". هكذا أخرجه في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1)، وعاد أخرج من أوله طرفًا في كتاب "الجزية" قال: أخبرني الثقة يحيى بن حسان، عن محمد بن أبان، عن علقمة بن سليمان، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث جيشًا أمرَّ عليهم أميرًا. وذكر الحديث. هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي. فأما مسلم (¬2): فأخرجه أتم من هذا عن أبي بكر، عن وكيع. وعن إسحاق بن إبراهيم، عن يحيى بن آدم، عن سفيان وعن عبد الله بن هاشم، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد بالإسناد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية؛ أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا باسم الله؛ في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله، واغزوا ولا تغلوا؛ ولا تغدروا؛ ولا تمثلوا؛ ولا تقتلوا وليدًا؛ وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال" وذكر نحو ما بقي وزاد بعده: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه؛ فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه؛ ولكن اجعل لهم ذمتك [وذمة أصحابك] (¬3)؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه؛ وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا". وأما أبو داود (¬4): فأخرجه عن محمد بن سليمان الأنباري، عن وكيع، عن ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث مع الأم (509). (¬2) مسلم (1731). (¬3) في الأصل [وذمة أبيك وذمم أصحابك] والمثبت هو لفظ مسلم. (¬4) أبو داود (2612).

سفيان بإسناد مسلم ونحو حديثه. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن ابن مهدي بإسناد مسلم ونحو حديثه وأسقط منه ذكر الجزية. العدو: معروف ويقع على الواحد والاثنين والجمع، والمذكر والمؤنث تقول: هو عدو، وهما عدو، وهي عدو، وهم عدو. وفي هذا الحديث قد أوقعه على الجماعة لا قال: فإذا لقيت عدوا فادعهم. والخلال جمع خلة بالفتح وهي الخصلة. ثم أعاد العامل وهو الدعاء فقال: "ادعهم إلى الإسلام". فإن أجابوك: أي: أطاعوك وأسلموا التقدير: فإن أجابوك إلى الإسلام. والتحول: الانتقال من مكان إلى غيره. ودار المهاجرين: هي المدينة وما حولها من أماكن المسلمين التي يسكنونها. والمهاجرون على ثلاثة أقسام:- قسم لا تجب عليهم الهجرة ويستحب لهم: وهم من كان من المسلمين عشيرة تمنعه وتحميه من المشركين، مع إظهار دينه بينهم. وقسم تجب عليهم الهجرة: وهم المستضعفون الذين لا يمكنهم إظهار دينهم بينهم؛ وليس لهم عشيرة تمنعهم وتحميهم. وقسم تسقط عنهم الهجرة: وهم الذين لهم عذر من مرض، أو ضعف، أو عدم نفقة. وعلى هذا التفصيل فإن الهجرة باقية ما دام للمسلمين دار حرب. وقولهم: "إن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم" يريد به: أن الأحكام ¬

_ (¬1) الترمذي (1617).

الجارية على المهاجرين يشاركونهم فيها؛ ويلزمهم العمل بها؛ والمؤاخذة عليها؛ وأنهم والمهاجرون سواء في كل ما لهم وعليهم. وفي ذلك تسلية لهم عند انتقالهم عن أوطانهم؛ وأنهم كانوا غرباء في دار الهجرة؛ وأنهم متأخرون عن السابقين، فإن الحكم جار لهم وعليهم مثل ما هو على المهاجرين، وإنهم إن اختاروا المقام بدارهم فإنهم لا يشاركون المهاجرين في فضيلتهم وثوابهم وحقهم، وإنما لهم حكم أمثالهم من أعراب المقيمين في البوادي الذين لم يتصفوا بصفة الهجرة ولا تحلوا بفضيلتها، وأنهم لا حق لهم في الغنائم -الفيء- إلا أن يجاهدوا في سبيل الله فيكون لهم نصيب من المغنم. وبيان ذلك: أن المهاجرين كانوا من قبائل مختلفة، تركوا أوطانهم وأموالهم وهجروها في الله واختاروا المدينة دارًا ووطنًا, ولم يكن لهم أو لأكثرهم بها زرع ولا ضرع، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق عليهم بما أفاء الله عليه أيام حياته، ولم يكن للأعراب وسكان البادية في ذلك حظ إلا من قاتل مع المسلمين فيأخذ نصيبه من القيمة يرجع إلى وطنه، ولذلك كان عليهم ما على المهاجرين من الجهاد والنفير إلى لقاء العدو، وأى وقت دعوا لا يتخلفون، وكان الأعراب من أجاب منهم وحضر أخذ سهمه وعاد، ومن لم يجب لم يكن له سهم ولا عتب عليه في التخلف إذا كان في المجاهدين كفاية. والجزية: فعلة من الجزاء كأنها جزاء عن إقرارهم على دينهم فترك قتلهم وأخذ مالهم. وقوله: "عن يد وهم صاغرون" اليد: لا يخلو إما أن يراد بها يد المعطي، أو يد الآخذ. فإن أراد بها يد المعطي فالمعنى: عن يد منقادة غير ممتنعة، لأن من أبى وامتنع لم يعط يده. وإن أريد بها الأخذ فالمعنى: عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم لأن قبول الجزية منهم وترك أزواجهم لهم نعمة عليهم.

والصغار: الذل، والصاغر اسم فاعل منه. وقوله: "لا تغلوا" من الغلول وهو الخيانة في الغنيمة وهي ما يخفيه أحد الغزاة من الغنائم ولا يحضره إلى أمير الجيش ليدخل في القسمة. وقوله: "ولا تغدروا": من الغدر وهو نقض العهد. وقوله: "ولا تمثلوا" أي: لا تشوهوا خلقة القتيل بالجدع والشق والقطع ونحو ذلك، تقول: مثلت بالقتيل أمثل مثلاً، والاسم: المثلة -بضم الميم وسكون الثاء- ومثلت القتيل شدد للتكثير. والوليد: الطفل. والذمة: العهد والأمان. وإخفار الذمة: نقض العهد. وفي رواية الشافعي: "فإذا لقيت عدوا من المشركين"، وفي رواية مسلم: "عدوك". ورواية الشافعي أولى: لأنه لم يقيد العداوة ولا خصصها بإضافتها بل أطلق العداوة في المشركين، لأنه أراد به عداوة الدين، وعداوة الدين لا تخص أحدًا بعينه من المسلمين، إنما هي عداوة عامة لكل من خالف ما للمشركين عليه، ألا ترى أن آباءهم وأبناءهم كانوا مشركين، ولم يكونوا لهم أعداءً إلا من جهة الدين؛ فإذا خصص العداوة بالإضافة وهي أن القتال المذكور إنما هو لعدو خاص بسبب يخصه، وذلك أن السبب غير شامل لغيره فكان إطلاق العداوة أولى من أضافتها. وقوله: "إن أبوا فادعوهم إلى أن يعطوا الجزية" ظاهر هذا الكلام يقتضي أن يقبل الجزية من كل مخالف للإسلام؛ مشرك وكتابي وغيرهما من عبدة الشمس والنيران والأوثان. وإلى ذلك ذهب الأوزاعي.

ومذهب مالك قريب منه، وحكي عنه أنه قال: يقبل من كل مشرك إلا من المرتد. وسيجيء تفصيل المذهب في باب الجزية. وقوله: "ادعهم إلى ثلاث خلال" فقد اختلف العلماء في القتل قبل الدعاء: فقال مالك: لا يقاتلون حتى يدعوا ويؤذنوا. وقال الشافعي: يجوز أن يقاتلوا قبل أن يدعوا فإنهم قد بلغتهم الدعوة. وبه قال الحسن البصري والنخعي وربيعة ويحيى الأنصاري والليث بن سعد وسفيان الثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. فأما من لم تبلغه الدعوة ممن بعدت داره ونأى محله فإنه لا يقاتل حتى يدعى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن ابن عصام، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث سرية قال: "إن رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتلن أحدا". هذا حديث حسن أخرجه أبو داود والترمذي. أما أبو داود (¬1): فأخرجه عن سعيد بن منصور، عن سفيان بالإسناد قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فقال: "إذا رأيتم مسجدًا" الحديث. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن محمد بن يحيى العدني المكي، عن سفيان الحديث. ¬

_ (¬1) أبو داود (2635). (¬2) الترمذي (1549) وقال: هذا حديث غريب. قلت: وفي هذا إشارة إلى ضعفه عنده كما هو معلوم من اصطلاحه، والحديث إسناده ضعيف. عبد الملك بن نوفل قال الحافظ في التقريب: مقبول، وابن عصام قال فيه الحافظ أيضًا: لا يعرف حاله.

وفي روايتهما: "فلا تقتلوا أحدًا"، والنون التي في رواية الشافعي هي النون التي للتأكيد الثقيلة؛ تدخل الكلام زيادة في تحقيق الفعل أو الترك. ورواية الشافعي والترمذي: "كان إذا بعث سرية" وهذا اللفظ يدل أن ذلك كان عادته في بعث سراياه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عمر بن حبيب، عن عبد الله بن عون أن نافعًا كتب إليه يخبره أن ابن عمر أخبره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار علي بني المصطلق وهم غارون في نعمهم بالمريسيع، فقتل المقاتلة وسبى الذرية. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن علي بن الحسن بن شقيق، عن عبد الله، عن ابن عون. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن سليم بن أخضر، وعن ابن المثنى، عن ابن أبي عدي كلاهما عن ابن عون. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن سعيد بن منصور، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن ابن عون. قوله: "وهم غارون" جمع غار من الغرة وهي الفعلة. والنعم: الإبل والبقر والغنم. والمريسيع: ماء لبني المصطلق. والذرية: صغار الأولاد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن حميد، عن أنس ¬

_ (¬1) البخاري (2541). (¬2) مسلم (1730). (¬3) أبو داود (2633).

قال: سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر فانتهى إليها ليلاً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طرق قومًا لم يُغِر عليهم حتى يصبح؛ فإن سمع أذانًا أمسك؛ وإن لم يكونوا يصلون أغار عليهم حين يصبح، فلما أصبح ركب وركب المسلمون، وخرج أهل القرية ومعهم مكاتلهم ومساحيهم، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: محمد والخميس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"، قال أنس: وإني لردف لأبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا حديث صحيح، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬1): فأخرجه عن حميد، عن أنس. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن الأنصاري، عن معن، عن مالك. وأما البخاري (¬3) ومسلم (¬4) وأبو داود (¬5) والنسائي (¬6) فأخرجوه في جملة حديث طويل يتضمن ذكر غزوة خيبر. وللحديث روايات كثيرة. الطروق: إتيان المكان ليلاً، تقول: طرق المنزل يطرقه طروقًا فهو طارق. والإغارة: النهب، أغار يغير إغارة فهو مغير. وقوله: "إن سمع أذانا أمسك" كأنه يستدل بالأذان عن الإسلام لأنه من شعائره، ولأن فيه الشهادتين، ولأنه مقدمة الصلاة. ولهذا قال: "وإن لم يكونوا يصلون" فجعل الصلاة في مقابلة الأذان؛ لأن ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 373 رقم 48). (¬2) الترمذي (1550). (¬3) البخاري (371). (¬4) مسلم (1365). (¬5) أبو داود (2634). (¬6) النسائي (7/ 203 - 204).

كل واحد منهما مقترن بالآخر فكأنه قال: وإن لم يسمع أذانًا أغار عليهم، أو كأنه قال: فإن رآهم يصلون أمسك، فلما كان بين الأذان والصلاة هذا التلازم أوقع أحدهما موقع الآخر. والمكاتل: جمع مكتل -بكسر الميم وفتح التاء- وهو الزنبيل. والمساحي: جمع مسحاة -بكسر الميم- وهي المجرفة من الحديد. والخميس: الجيش، لما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم -والمسلمون معه قالوا: هذا محمد والجيش معه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ: "الله أكبر، خربت خيبر" لما علم من نزوله عليها بالمسلمين، ولذلك قال: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين" وهم الذين جاءهم النذير، وبلغهم الإنذار؛ وأعلموا بما ينالهم إذا خالفوا الأمر. والذي ذهب إليه الشافعي في تبييت المشركين: أنه جائز، وأورد هذا الحديث اعتراضًا قال: ورواية أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يغير حتى يصبح، ليس بتحريم الإغارة ليلاً ولا نهارًا ولا غارين -والله أعلم- ولكنه على أن يكون يبصر من معه كيف يغيرون، احتياطًا أن يؤتى من كمين أو من حيث لا يشعرون، وقد تختلط الحرب إذا غاروا ليلاً فيقتل بعض المسلمين بعضا , ولقائل أن يقول: إنما كان يوقفه عن الإغارة ليلاً ليسمع الأذان ويدري هل هم مسلمون أو لا, ولا يكون ذلك منعا من الإغارة ليلاً، إنما كان يفعله احتياطا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، عن عمه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والولدان. هكذا أخرجه في كتاب "الرسالة" (¬1)، وعاد أخرجه في كتاب "قتال ¬

_ (¬1) الرسالة (824).

المشركين" (¬1) بالإسناد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى الذين بعث إلى ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان. هكذا أخرجه الشافعي في الموضعين عن ابن كعب، عن عمه. وقد أخرجه مالك في الموطأ (¬2) عن ابن كعب وقد حسبت أنه قال: عبد الرحمن بن كعب أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين قتلوا ابن أبي الحقيق عن قتل النساء والولدان، قال: فكان رجل منهم يقول: برَّحت بنا امرأة ابن أبي الحقيق بالصياح، فأرفع عليها السيف ثم أذكر نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكف ولولا ذلك استرحنا منها. وأكثر الرواة عندهم: عبد الرحمن بن كعب، وعند القعنبي: عبد الله بن كعب أو عبد الرحمن بن كعب بالشك. ابن أبي الحقيق: هو أبو رافع عبد الله وقيل: سلام، وكان من تجار اليهود وكبارهم وأغنيائهم ومقدميهم، وكان في حصن له بأرض الحجاز وقيل: بخيبر، والأول أصح فكان يؤدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعين عليه، فأنفذ إليه من قتله رجالًا من الأنصار وأمر عليهم عبد الله بن عتيك، فمضوا وقتلوه. وقصته في المغازي مشهورة. ولما أرسلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بما يفعلون، ونهاهم عن قتل النساء والولدان. الولدان: جمع وليد وهو: الصبي فعيل بمعنى مفعول، والأنثى وليدة، وجمعها: ولائد. وقد أطلقوا الوليد والوليدة على العبد والأمة أيضًا. وقوله: "برحت بنا" من التبريح الشدة في الأمر، تقول: برح به الأمر ¬

_ (¬1) الأم (4/ 239). (¬2) الموطأ (2/ 358 رقم 8).

تبريحا أي جهده وشق عليه، ولقيت منه برحًا بارحا أي: شدة وأذى. والحكم في قتل النساء والصبيان قد تقدم في الحديث قبله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فكتبوا عليهم أن لا يفر العشرون من المائتين فأنزل الله -عز وجل-: {الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فخفف عنهم وكتب عليهم أن لا تفر مائة من مائتين. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري وأبو داود. وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن يحيى بن عبد الله السلمي، عن عبد الله عن جرير بن حازم، عن الزبير بن خريت، عن عكرمة، عن ابن عباس. وذكر نحوه بمعناه وزاد في آخره: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أبي توبة الربيع بن نافع، عن ابن المبارك، عن جرير بن حازم بإسناد البخاري مثله. يريد بالصبر: الثبات على لقاء العدو والاحتساب. وقوله: {يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} عدة من الله -تعالى- وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا وغلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله -تعالى- وتأييده، وختم الآية بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (¬3) أي قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب، فهم لا يثبتون إذا صدقتموهم خشية ¬

_ (¬1) البخاري (4653). (¬2) أبو داود (2646). (¬3) [الحشر:13].

القتل، وهذا كان في صدر الإسلام يجب على الواحد أن يثبت لعشرة، وقد روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أن ذلك كان ندبًا وحثًا لا واجبًا. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه: أن الجهاد قد قلنا إنه من فروض الكفايات، إلا أن يلتقي الزحفان فإنه يجب الثبات بشرط: أن يكون العدد ضعف المسلمين؛ فلا يفر الواحد من الاثنين فإن كانوا ثلاثة فصاعدا جاز له الفرار. وذكر الشيخ أبو حامد: أنه ليس يريد أن على كل واحد على الانفراد أن يصابر اثنين منفردين، وإنما يريد أن جيش المشركين إذا كان ضعف جيش المسلمين فعليهم المصابرة، والأصل الأول. ويجوز للواحد أن يفر من اثنين في موضعين:- أحدهما: أن يكون متحيزا إلى فئة، أو متحرفًا لقتال. وحكي عن الحسن البصري وعكرمة والضحاك: أن هذا كان في غزاة بدر خاصة ولا يجب في غيرها. قال الشافعي -رحمة الله عليه-: [آي] (¬1) القرآن عام لجميع الناس وكل الخلق مراد به إلا أن يبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الفرض أن الله قصد به إلى قوم دون قوم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن [ابن] (¬2) أبي نجيح، عن ابن عباس قال: من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثنين فقد فر. قال البيهقي: هكذا وجدته وقد سقط من إسناده بين ابن أبي نجيح وبين ابن عباس عطاء بن أبي رباح. ¬

_ (¬1) من المعرفة (13/ 220). (¬2) من مسند الشافعي (2/ 388)، والأم (4/ 242).

كذا رواه الحاكم أبو عبد الله: عن الأصم، عن أحمد بن شيبان، عن سفيان وأدخل في الإسناد عطاء. الفرار: الهرب. قوله: "من فر من ثلاثة فلم يفر" يريد: أن الفرار من الثلاثة وإن كان فرارًا على الحقيقة -وإنه ليس بفرار شرعي؛ لأن الفرار الشرعي المنهي عنه الحرام على فاعله إنما هو أن يفر من اثنين لقوله -تعالى-: {الْآنَ خَفَّفَ الله عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ} (¬1) وهذا هو القدر الواجب في الجهاد، وقد تقدم في الحديث قبله حكم الفرار وما يتعلق به. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فلقوا العدو فحاص الناس حيصة، فأتينا المدينة ففتحنا بابها وقلنا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحن الفرارون، فقال: "بل أنتم العكارون وأنا فئتكم". هذا حديث حسن، أخرجه أبو داود والترمذي. فأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن يزيد بن أبي زياد بالإسناد وذكر أطول من هذا. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد بالإسناد وذكر الحديث وفيه: فقدمنا المدينة فاختبأنا بها وقلنا هلكنا ثم أتينا ¬

_ (¬1) [الأنفال: 66]. (¬2) أبو داود (2647). (¬3) الترمذي (1716). وقال: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد. قلت: وضعفه الألباني -رحمه الله- في الإرواء (1203).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الحديث. السرية: طائفة من الجند ينفذون في الغزو وإلى بعض الجهات، وهي فعيلة بمعنى فاعلة، سميت سرية: لأنها تسري ليلاً في خفية لئلا يدْرِ بهم العدو فيحذر فيمتنع، قيل إن أقصى السرايا أربعمائة، وقد جاء في الحديث: "خير السرايا أربعمائة". وحاص: قد روى حاص وجاض، فأما حاص -بالحاء والصاد المهملتين فهو من قولك: حصت عن الشيء أحيص: إذا حديث عنه وملت إلى غير جهته. المعنى: فروا من العدو فرة واحدة وانهزموا. وأما جاض -بالجيم والضاد المعجمتين-: فإنه يجوض الإبل، تقول: جاض عن الشيء يجيض عنه: إذا حاد عنه. والعكارون: جمع عكار وهو الذي يحمل في الحرب تارة بعد تارة، تقول: عكر يعكر عكرا إذا عطف، والعكرة: الكرة بعد البفرة. فأما العكار -بالتشديد- فيه للمبالغة. والفئة: الجماعة من الناس، وهم في الحرب الجماعة الذين يكونون وراء المقاتلة يستندون إليهم؛ فإن كان منهم أمر التجؤا إليهم واحتموا بهم، وأصله من فاء يفيء: إذا رجع قاله الجوهري. وقال الأزهري: إن أصل الفيئة من قولهم: فلوت رأسه: إذا فلقته لأن الفئة فئة من الناس. وهذا القول من النبي - صلى الله عليه وسلم - كالتسلية لهم، وإقامة عذرهم في انهزامهم. وقد تقدم في حديث ابن عباس شرح المذهب. وهذا الحديث مسوق لبيان مقدار موضع الفئة التي يلتجئ إليها، فإنه لا فرق

بين القرب والبعد فيها، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: "أنا فئة كل مسلم" وكان بالمدينة وكان المجاهدون بعيدا عنه، قالوا: لأن الآية عامة، ولأن العزيمة في الفرار أمر بين العبد وبين الله؛ ولا يمكن مخادعة الله في العزائم؛ فإذا ظهرت تلك العزيمة جاز له التوجه إليهم والالتجاء، وقد ذهب بعضهم: إلى أنه لا بد أن تكون الفئة في مسافة قصيرة؛ يمكنه الاستنجاد بمن فيها في هذا القتال وإتمامه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} (¬1). قال الشافعي -رضي الله عنه-: والتحرف للقتال الاستطراد إلى أن يمكن المستطرد الكرة في أي حال ما كان الإمكان والتحيز إلى الفئة أين كانت الفئة ببلاد العدو وبلاد الإسلام بعد ذلك أو قرب، وإنما يأثم بالتولية من لم ينو واحدًا من المعنيين. وقد أخرج الشافعي في القديم أحاديث في كيفية بيعة الناس إمامهم ومقصوده منها هذه المسئلة، ونحن نذكر أسانيدها. قال المزني: حدثنا الشافعي، أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد قال: أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت أن أباه أخبره، عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول أو نقوم بالحق لا نخاف في الله لومة لائم. وقد أخرج الشافعي أيضًا: عن عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة , عن عبادة بن الصامت قال: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستًا كما أخذ ¬

_ (¬1) [الأنفال: 15، 16].

على النساء: أن لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا أولادكم، ولا يغتب بعضكم بعضا, ولا تعصوني في معررف. فمن أصاب منكم منهن واحدة فعجلت عقوبته فهو كفارة، ومن أخرت عقوبته فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وأخرج الشافعي: عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: كنا إذا بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، يقول لنا: "فيما استطعتم". وأخرج الشافعي: عن مالك، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة نبايعه، فقلنا: يا رسول الله, نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئًا, ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا [ولا نأتي] (¬1) ببهتان نفترينه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما استطعتن وأطقتن"، فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة". وأخرج الشافعي: عن ابن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لم نبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. قال الشافعي: فالسنة أن يبايع الناس إمامهم؛ على أن يقاتلوا معه ما أمكنهم القتال وأطاقوه؛ وإذا لم يطيقوه فلا سبيل لهم على ما وصفه ابن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع الناس فيما استطاعوا. قال الشافعي: فإن عجزوا عن القتال وسعهم التحيز والفرار إلى فئة؛ وكل المسلمين فئة وكذلك قال عمر بن الخطاب: أنا فئة كل مسلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله ¬

_ (¬1) في الأصل [تي] والمثبت من المعرفة (13/ 222).

ابن عتبة، عن ابن عباس أخبرني الصعب بن جثامة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن أهل الدار من المشركين، يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هم منهم". وزاد عمرو بن دينار عن الزهري: "هم من آبائهم". هكذا أخرجه [الشافعي] (¬1) في كتاب "الرسالة" (¬2)، وأخرجه في كتاب قتال المشركين بهذا الإسناد وقال فيه: فيصاب من نسائهم وأبنائهم (¬3). هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. فأما البخاري (¬4): فأخرجه عن علي، عن سفيان. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور والناقد. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن [أحمد بن عمرو بن] (¬7) السرح. وأما الترمذي (¬8): فأخرجه عن الجهضمي. كلهم عن سفيان. التبييت: أي بُيِّتم، والاسم: البيات، وأصله من قولك: بات فلان يفعل كذا: إذا فعله ليلاً. والذراري -شدد الياء-: جمع ذرية وهم صغار الأولاد، والأصل فيها ¬

_ (¬1) في الأصل [البخاري] وهو تحريف. (¬2) الرسالة (823). (¬3) الأم (4/ 239). (¬4) البخاري (3012). (¬5) مسلم (1745). (¬6) أبو داود (2672). (¬7) من أبي داود. (¬8) الترمذي (1570) وقال: حسن صحيح.

الهمز لأنه من ذرأ الله الخلق أي: خلقهم، إلا أنهم يتركوا همزها. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هم منهم" أي من المشركين. وكذلك قوله: "هم من آبائهم" أي حكمهم حكم آبائهم في أمر الدين؛ وحكم الإسلام يشملهم فما يجري على آبائهم يجري عليهم. قال الشافعي -رضي الله عنه-: كان سفيان يذهب إلى أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هم منهم" إباحة لقتلهم، وأن حديث ابن أبي الحقيق ناسخ. قال: وكان الزهري إذا حدث بحديث الصعب بن جثامة، أتبعه حديث ابن كعب بن مالك. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وحديث الصعب بن جثامة كان في عمرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان في عمرته الأولى فقد قتل ابن أبي الحقيق قبلها وقتل في سنتها, وإن كان في عمرة الآخرة فهو بعد أمر ابن أبي الحقيق من غير شك. والله أعلم. قال: ولم نعلمه رخص في قتل النساء والولدان ثم نهى عنه، ومعنى نهيه عندنا -والله أعلم- من قتل النساء والولدان: أن يقصد قصدهم بقتل وهم يعرفون منهزمين ممن أمر بقتله منهم. ومعنى قوله: "هم منهم" أنهم يجمعون خصلتين أن ليس لهم حكم الإيمان الذي يمنع الدم، ولا حكم دار الإيمان الذي يمنع الغارة على الدار، ومعنى هذا القول: أن قتل النساء والصبيان في البيات في الحرب إذا لم يتميزوا من آبائهم، وإذا لم يتوصل إلى الكفار إلا بالإتيان عليهم جائز؛ فإن النهي عن قتلهم مصروف إلى حال التمييز والتفرق؛ وأن الإبقاء عليهم إنما كان من أجل أنهم فيء للمسلمين لا من جهة أنهم على حكم الإسلام، فلا يجوز قتل النساء والصبيان إذا كانوا على هذه الحال.

وقول الشافعي: إن قتل ابن أبي الحقيق إن كان قبل العمرة الأولى، يشهد بصحته ما قاله محمد بن إسحاق بن يسار -صاحب المغازي-: أن قتله كان قبل بني المصطلق وقبل عمرة الحديبية. وفي حديث الصعب بن جثامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو بالأبواء وبودان؛ فأهدى إليه حمار وحشٍ فرده وقال: "إنا حرم"، وذكر أنه سئل عن ذراري المشركين. وفي ذلك دليل لما قال الشافعي من كونه بعد نهيه. وقوله: - صلى الله عليه وسلم - في الجواب: "هم منهم، وهم من آبائهم" من الأجوبة البليغة الفصيحة المشتملة على الغرض المسئول عنه وزيادة، وذلك أنه نبه به على السبب المقتضي للحكم، وذكر العلة التي من أجلها ألحقهم بالرجال، فإن قوله: "هم منهم" أي: بعضهم، والبعض مندرج تحت الكل ويشتمله حكم الأصل، وكذلك قوله: "هم من آبائهم" ألحق الآباء بالأبناء، ولم يتعرض في الجواب إلى ذلك واكتفى بقوله: "هم منهم"، و"هم من آبائهم"، وهذا من بدائع ألفاظه ولطائف خطابه - صلى الله عليه وسلم - وقد استدل الشافعي - رضي الله عنه- على جواز التبييت بحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار علي بني المصطلق وهم غارون. وقد تقدم ذكره. وأخرج الشافعي في القديم (¬1) قال: حدثنا بعض أصحابنا، عن محمد بن إسحاق، عن محمّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: ما رأيت مثل يهودية من بني قريظة إنها لتحدث عندي وتضحك، نودي بها فقالت: إني الآن لمقتولة، قلت: وما شأنك؟ قالت: أحدثت حدثا. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فحدثنا بعض أصحابنا أنها كانت دلت على محمود بن مسلمة رحا فقتلته فقتلت بذلك. ¬

_ (¬1) المعرفة (13/ 233).

قال: قد جاء الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل القرظية، ولم يصح خبر على أي معنى قتلها، وقد يحتمل أن يكون قد أسلمت ثم ارتدت ولحقت بقومها، ويحتمل غير ذلك والله أعلم. وذكر في القديم أيضًا حديث رباح بن [أخي] (¬1) حنظلة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى امرأة ضخمة مقتولة فقال: "ما أرى هذه كانت تقاتل". وفي ذلك دلالة على أنها إذا قاتلت حل قتالها وقتلها والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا أبو ضمرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرق أموال بني النضير. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة بالإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع نخل بني النضير وحرق، وهي البويرة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرق أموال بني النضير فقال قائل: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. أما البخاري (¬2): فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن موسى بن عقبة. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن هناد وسعيد بن منصور، عن ابن المبارك، عن موسى فزاد في رواية قال: فأجابه أبو سفيان بن الحارث [] (¬4) ¬

_ (¬1) في الأصل [أبي] وهو تصحيف والتصويب من المعرفة وراجع ترجمة رباح من التهذيب وهو رباح بن ربيع الأسيدي. (¬2) البخاري (3021). (¬3) مسلم (1746). (¬4) بياض بالأصل قدر سطر، ويبدو أنه وقع سقط، والبيتان المذكوران ليسا عند مسلم، وقد ذكرهما البخاري في إحدى رواياته (4032) فتنبه.

أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نوحيها السعير ستعلم أينا منها بُنْزه ... وتعلم أي أرضينا تصير الشاعر الأول هو حسان بن ثابت. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع. البويرة: اسم ذلك النخيل. واستطار الحريق: إذا اتسع وشمل الشيء المحرق، ومنه الفجر المستطير وهو الذي انتشر وأضاء بضوئه. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه يجوز للمسلمين تخريب ديار المشركين وقطع شجرهم وإحراقها. قال: وكلما كان مما يملكون لا روح فيه فإتلافه بكل وجه مباح. فإن قال قائل: فلعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حرق مال بني النضير ثم تركه، قيل: فقد حرق بخيبر -وهي بعد بني النضير-، وحرق بالطائف وهي آخر غزوة قاتل فيها، وأمر أسامة بن زيد أن يحرق على أهل أبنى (¬2). وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا بعض أصحابنا، عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت ابن شهاب يحدث عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أغير صباحًا على أهل أبنى وأحرق. هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬3): عن هناد بن السري، عن ابن المبارك، عن صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري وقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عهد إليه ¬

_ (¬1) أبو داود (2615). (¬2) الأم (4/ 258). (¬3) أبو داود (2616).

وقال: اَغِرْ على أبنى صباحًا وحرق، قيل لأبي مسهر أبنى، قال: نحن أعلم هي يبنى فلسطين. رواية الشافعي هي حكاية قول أسامة عند خطابه لعروة، فإنه كذا يقول المتكلم: أمرني أن أفعل كذا وكذا، ورواية أبي داود حكاية معنى كلامه ردا من المتكلم إلى الغائب، فإنه قال: اغرْ على أبنى وحرق. فعروة قد حكى في رواية أبي داود ما قال له أسامة لا بلفظه، وفي رواية الشافعي أعاد لفظه عند خطابه، وهو أبلغ وأتقن لأن رواية الحديث بالمعنى مختلف فيها, ولقائل أن يقول: إن رواية أبي داود أبلغ لأنها حكاية لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الأمر كذا، تقول: افعل كذا وكذا، والجواب: أن أسامة إنما قال: أمرني أن أفعل كذا وكذا, ولم يقل: قال لي: افعل كذا وكذا. وأبنى: هي مدينة عند الرملة من فلسطين، والمشهور في اسمها: يبنى -بالياء- وكذلك تسمى اليوم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن صهيب -مولى عبد الله بن عامر- عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال] (¬1): "من قتل عصفورًا بغير حقها سأله الله -عز وجل- عن قتله" قيل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حقها؟ قال: "أن يذبحها فيأكلها". العصفور: مذكر، والأنثى: عصفورة. وقد رد الضمير في هذا الحديث تارة إلى مؤنث فقال: "فما فوقها بغير حقها"، هكذا في نسخ المسند على ما وصل إلينا منها، فإن لم يكن سهوا من الكاتب فيكون ذلك ردا إلى النفس أي: من قتل نفسًا. ورده ثانية إلى مذكر فقال: "سأله -عز وجل- عن قتله" ردا إلى اللفظ، ثم ¬

_ (¬1) من الأم (4/ 59).

عاد فقال: "ما حقها" فأنث الضمير. وهذا وأمثاله فاش في العربية أن يحمل الكلام على اللفظ، وتارة على المعنى فيعامل كلًا من الأمرين بما يقتضيه من تذكير وتأنيث، وجمع وإفراد وغير ذلك. وقد بين سبب المطالبة من الله بقتله وهو: بقتله عبثا لا لفائدة ولا حاجة منه إليه، وقد جاء النهى كثيرًا عن أمثال هذه كالنهي عن المصبورة والمجثمة لأنه تعذيب الحيوان لغير فائدة؛ وهذا حرام شرعًا مذموم عرفًا وعقلاً. ولما ذكر الشافعي ما يجوز إتلافه من أموال المشركين مما لا روح فيها تبعه بذكر ذوات الروح ونهى عن ذكرها فقال: ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المصبورة: وهي التي تنصب وترمى إلى أن تموت، فقال: قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: لا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة. فإن قال قائل: فقد قال أبو بكر: ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، فقطعته؟ وإني إنما قطعته بالسنة واتباع لما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وكان أولى بي والمسلمين، ولم أجد لأبي بكر مخالفًا في ذوات الأرواح من كتاب ولا سنة، ولا مثله من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما حفظت، مع أن السنة تدل على ما قال أبو بكر في ذوات الأرواح. وذكر حديث العصفور. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقفي، عن حميد، عن أنس قال: لما حضرنا تستر فنزل الهرمزان على حكم عمر -رضي الله عنه- فقدمت به على عمر، فلما انتهينا إليه قال له عمر: تكلم، قال: كلام حي أو كلام ميت؟ قال: تكلم لا بأس، قال: إنا وإياكم معشر العرب ما حكى الله بيننا وبينكم، كنا نتعبدكم؛ ونقتلكم؛ ونغصبكم، فلما كان الله معكم لم يكن لنا بكم يدان، فقال عمر: ما تقول، فقلت: يا أمير المؤمنين، تركت بعدي عدوا كثيرا وشوكة شديدة؛ فإن قتلته يئس القوم من الحياة ويكون أنفذ لشوكتهم، فقال عمر: أستحي قاتل البراء بن مالك ومجزأة بن ثور؛ فلما خشيت أن يقتله قلت: ليس

إلى قتله سبيل، قلت له: تكلم لا بأس، فقال عمر: أرتشيت وأصبت منه؟ فقلت: والله ما ارتشيت ولا أصبت منه، قال: لتأتيني على ما شهدت به لغيرك؛ أو لأبدأن بعقوبتك، قال: فخرجت فلقيت الزبير بن العوام فشهد معي، فأمسك عمر وأسلم وفرض له. قوله: "نزل على حكم" أي: أن يحكم فيه بما يراه من: قتل، أو أسر وعفو وإطلاق وغير ذلك. وقوله: "كلام حي أو كلام ميت"؟ يريد: إن كنت تريد أن تقتلني فأتكلم كلام من يريد أن يموت عن قريب؛ فلا يخاف ما يقول فلا يراقب أحدا. وإن تريد لا تقتلني فإني أتكلم كلام من يريد أن يعيش؛ فيحتاط فيما يقول. وقوله: "لا بأس" أي: لا تخف فتكلم كلام حي. وقوله: "ما خلى الله بيننا وبينكم" أي: لم يكن له نبأ ولا بكم عناية، فإنا كنا أشد منكم قوة وأحد شوكة، فكنا نتعبدكم أي: نتخذكم عبيدًا وخولًا ونذلكم، لأن التعبد: الإذلال، فكنا نقتلكم ونغصبكم أزواجكم وأموالكم، فلما كان الله معكم ونصركم علينا وصارت الدولة لكم، لم يكن لنا بكم يدان أي: لا طاقة ولا قدرة لأن الدفع والمباشرة باليدين فكأنا عن عجزنا عنكم مسلوبوا الأيدي التي بها البطش والأخذ، تقول: ليس لي بهذا الأمر يد وليس لي بها يدان. وقوله: "تركت بعدي شوكة شديدة" هذا من قول أنس بن مالك. والشوكة: شدة البأس والحد في السلاح، وقد شاك الرجل يشاك شوكا أي: ظهرت شوكته وحدته، وهو شائك السلاح وشاكي السلاح مقلوب منه. ويئس من هذا الأمر: إذًا انقطع منه رجاؤه ييأس، وكذلك أيس يائس فهو آيس.

وقوله: "استحي قاتل البراء" أي: اتركه حيا واستبقيه، يعني: الهرمزان. والارتشاء: من الرشوة وهو البرطيل أي: أنك أخذت شيئًا رشاك به لتتكلم عنه وتسعى في خلاصه، فطلب عمر منه شاهدا آخر على صحة قوله، إنك قلت له: يائس، كأن عمر قد كان يسبه فشهد له الزبير بذلك. والباء في "به" متعلقة: "بشهدت". والباء في بغيرك متعلقة بقوله: "لتأتيني". وقوله: "فرض له" أي: جعل له نصيبا في بيت المال كما لغيره من المسلمين. قال الشافعي: وقبول من قبل من الهرمزان أن ينزل على حكم عمر -رضي الله عنه-؛ موافق سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل من بني قريظة حين حاصرهم وجهدتهم الحرب أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ. قال: وقول عمر -رضي الله عنه-: لتأتيني بمن يشهد على ذلك، يحتمل: أنه إذا لم يذكر ما قال للهرمزان أن لا يقبل إلا بشاهدين. ويحتمل: أن يكون احتياطًا كما احتاط في الأخبار. ويحتمل: أن يكون في يديه، فجعل الشاهد غيره لأنه دافع عما في يديه، وأشبه عندنا أن يكون احتياطًا. والله أعلم. قال: ولا قود على قاتل أحد بعينه، لأن الهرمزان قاتل البراء بن مالك ومجزأة ابن ثور، فلم ير عمر عليه قودًا، وقول عمر في هذا موافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ جاءه قاتل حمزة مسلما فلم يقتله به قودا. والذي ذهب إليه الشافعي في الأمان: أن عقده جائز من المسلمين للمشركين؛ وإن كان الإمام منهم جاز له أن يعقد لهم الأمان حسب ما يراه من الصلاح، فيصح عقده للواحد فمن فوقه؛ ولأهل إقليم؛ ولجميع المشركين إن رأى ذلك، وإن كان الذي عقده أميرًا من جهة الإمام فيكون له العقد لمن هو في

ولايته؛ ويكون في غير ولايته كآحاد الرعية، وأما آحاد الناس فيخير واحد منهم الواحد، والعدد القليل أكثرهم أهل قافلة، ولا يجوز أن يؤمن أهل بلد ولا أهل إقليم وسواء في ذلك الحر من المسلمين والعبد، وأما ألفاظ الأمان فأن يقول: أمنتك وأجرتك، وهذا صريح، فإن قال: لا تخف، ولا تخش، ولا تجزع، ولا بأس عليك كان أمانا صحيحا كما قال عمر في هذا الحديث. وقد أخرج الشافعي: عن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إلى عامل جيش كان بعثه: إنه بلغني أن الرجل منكم يطلب العلج، حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، قال له الرجل: مترس، يقول: لا تخف فإذا أنزله قتله، وإني والذي نفسي بيده؛ لا يبلغني أن أحدًا فعل ذلك إلا ضربت عنقه. قال مالك: لا يقتل به. قال الشافعي: إن كان إنما ذهب إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقتل مسلم بكافر وهذا كافر، لزمه إذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء أن يترك كل ما خالفه، وإذا قال الرجل للرجل: لا تخف، فقد أمنه وإذا قال: مترس، فقد أمنه فإن الله -تعالى- يعلم الألسنة. وأخرج الشافعي: عن يوسف بن خالد السمتي، عن إبراهيم بن عثمان، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس -رضي الله عنه- "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان نازل أهل الطائف فنادى مناديه: أن من خرج إلينا من عبد فهو حر، فخرج إليه نافع ونفيع فأعتقهما". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقفي: عن حميد، عن موسى بن أنس، عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب سأله: إذا حاصرتم المدينة كيف تصنعون؟ قال: نبعث الرجل إلى المدينة ونصنع له هنة من جلود، قال: أرأيت إن رمي بحجر؟ قال: إذًا يقتل، قال: فلا تفعلوا فوالذي نفسي بيده، ما يسرني أن تفتحوا مدينة فيها أربعة آلاف مقاتل بتضييع رجل مسلم.

هذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "الأسارى" (¬1) من المسند، وقال: لا ينبغي أن يولي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه، شجاعًا ببدنه، حسن الأناة؛ عاقلًا للحرب؛ بصيرا بها؛ غير عجل ولا ترق، وأن يتقدم إليه وإلى من ولي أن لا يجعل المسلمين على مهلكة بحال. وذكر هذا الحديث ثم قال: وما ذكر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من هذا احتياط وحسن نظر للمسلمين. ثم ذكر في موضع آخر: أنه يحل له بأنفسهم أن يقدموا على ما ليس عليهم تعرضا للقتل ورجاء إحدى الحسنيين ألا ترى أني لا أرى ضيقا على الرجل أن يحمل على الجماعة حاسرًا، أو يبارز الرجل وإن كان الأغلب أنه مقتول، لأنه قد بورز بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وحمل رجل من الأنصار حاسرًا على جماعة من المشركين يوم بدر؛ بعد إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه بما في ذلك من الخير فقتل، والرجل هو: عوف بن عفراء. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن يزيد بن خصيفة، أخبرنا السائب بن يزيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر يوم أحد بين درعين. هذا الحديث أخرجه أبو داود (¬2): عن مسدد، عن سفيان، عن يزيد، عن السائب، عن رجل قد سماه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهر يوم أحد بين درعين، أو لبس درعين. فالشافعي رواه عن السائب مرسلاً، وأبو داود رفعه عن السائب، عن رجل، وقد رواه إبراهيم بن يسار، عن سفيان، عن يزيد، عن رجل من بني تميم، عن طلحة بن عبيد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك رواه بشر السري، عن سفيان إلا أنه قال: عمن حدثه طلحة فقال: ظاهر فلان بين درعين وبين ثوبين: إذا لبس أحدهما فوق الآخر، وكأنه من المظاهرة المعاونة، أي أن كل واحد منهما أعان ¬

_ (¬1) الأم (4/ 169). (¬2) أبو داود (2590).

الآخر على ما يراد منه؛ إن كانا درعين فلمنع العدو، وإن كانا ثوبين فلدفع أذى الحر والبرد. وهذا الحديث ذكره الشافعي في عقيب كلامه في جواز إقدام الواحد على الجماعة، ثم قال: والاختيار أن يتحرز. واستدل بهذا الحديث. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد، عن عبيد الله بن أبي رافع قال: سمعت عليًا -كرم الله وجهه- يقول: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ؛ فإن بها ظعينة معها كتاب" فخرجنا تعادى بنا خيلنا، فإذا نحن بظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا لها: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين ممن بمكة يخبر ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ما هذا يا حاطب"؟ قال: لا تعجل علي، إني كنت امرًأ ملصقا في قريش ولم أكن أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها قراباتهم؛ ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يدًا، والله ما فعلت شكًا في ديني؛ ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه قد صدق"، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". ونزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} (¬1). هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. ¬

_ (¬1) [الممتحنة: 1].

أما البخاري (¬1): فأخرجه علي بن عبد الله وقتيبة والحميدي. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وزهير وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسدد. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن ابن أبي عمر. كل هؤلاء عن سفيان بن عيينة. الظعينة: المرأة، وهي في الأصل إذا كانت في الهودج، ثم كثر استعمالها حتى أطلقت على المرأة كانت في الهودج مسافرة أو مقيمة أو لم تكن. وقوله: "ولم تعادى بنا خيولنا" أي: تتعادى، فحذف إحدى التاءين تخفيفًا لكثرة الاستعمال. وقوله: "أو لتلقين الثياب" يريد: تعريتها وأخذ ثيابها ليظهر الكتاب. والعقاص: جمع: عقصة أو عقيصة وهي: الضفيرة من الشعر إذا لويت وجعلت مثل الرمانة أو لم تلو، المعنى: أنها أخرجت الكتاب من ضفائرها المعقوصة. وقوله: "يخبر ببعض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -" يريد: أنه أخبر أهل مكة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يغزوهم، وذلك في غزوة الفتح. والملصق: الرجل المقيم في الحي وليس منهم بنسب، كأنه قد التصق بهم. وقوله: "أن أتخذ عندهم يدًا" يريد: أن يسري إليهن مكرمة، ويسلف ¬

_ (¬1) البخاري (3007) وانظر أطرافه هناك. (¬2) مسلم (2494). (¬3) أبو داود (2650). (¬4) الترمذي (3305) وقال: حسن صحيح.

إليهم حقا يعرفونه له، فإن دعته إليهم يوما حاجة كافئوه عليها وجازوه بها. وقوله: "وما يدريك"؟ أي: ومن أين تعلم؟ وكيف تدري أن يكون الله -عز وجل- قد قال في حق أهل بدر كيت وكيت. وهذا الحديث أخرجه الشافعي فيمن دل المشركين على أمر من أمور المسلمين؛ أو أطلعهم على شيء من أسرارهم، فإنه لا يقتل. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فإن كان من فعل ذلك من ذوي الهيئات عُذر ولم نعذِّره لحديث حاطب وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"، وإن لم يكن من ذوي الهيئات عُذِّر بما يراه الإمام والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: أسر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني عقيل فأوثقوه وطرحوه في الحرة، فمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن معه -أو قال: أتى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- على حمار وتحته قطيفة، فناداه: يا محمد، يا محمد، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما شأنك؟ قال: فيم أخذت؟ وفيم سابقة الحاج؟ قال: "أخذت بجريرة حلفائكم ثقيف" وكانت ثقيف أسرت رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتركه ومضى، فناداه: يا محمد، يا محمد، فرحمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إليه فقال: "ما شأنك"؟ قال: إني مسلم، فقال: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح"، قال: فتركه ومضى، فناداه: يا محمد، فرجع إليه، فقال: إني جائع فأطعمني -قال-: وأحسبه قال: وإني عطشان فاسقني، قال: "هذه حاجتك" ففداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف وأخذ ناقته تلك. هكذا أخرجه في كتاب "الأسارى" (¬1)، وأخرج الشافعي في كتاب "قسم ¬

_ (¬1) الأم (4/ 252، 239).

الفيء" عن ابن عيينة، عن أيوب بالإسناد طرفًا منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدى رجلاً برجلين. وأخرج في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1) عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن أيوب بالإسناد قال: أسر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني عقيل، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففداه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف. هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود بطوله وأخرج الترمذي منه هذا الطرف. فأما مسلم (¬2): فأخرجه عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب. وعن أبي الربيع، عن حماد. وعن إسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر، عن عبد الوهاب، عن أيوب. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن سليمان بن حرب ومحمد بن عيسى، عن حماد، عن أيوب. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن أبي عمر، عن [سفيان] (¬5)، عن أيوب بالإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين. لم يزد على ذلك. فديت الأسير أفديه وفاديته أفاديه: إذا أعطيت فداه فأنقذته من الأسر، ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث مع الأم (494). (¬2) مسلم (1641). (¬3) أبو داود (3316). (¬4) الترمذي (1568) وقال: حسن صحيح. (¬5) في الأصل [عبد الوهاب] وهو تحريف والمثبت من الترمذي وكذا تحفة الأشراف (8/ 203).

والفداء بالكسر يمد ويقصر، وإذا فتح فالقصر لا غير. وقيل: فديت الأسير: إذا أسرته بمالك وخلصته من الأسر، وفاديته: إذا أعطيت رجلاً وأخذت عوضه. والجريرة: الجناية، تقول: جر عليه يجر جريرة: إذا جنى عليه جناية. ومعنى قوله: "أخذت بجريرة حلفائكم ثقيف" قد اختلف في تأويله:- فقيل معناه: أنهم كانوا عاقدوا بني عقيل أن لا يعرضوا للمسلمين ولا لأحد من حلفائهم، فنقض حلفاؤهم العهد ولم ينكره بنو عقيل فأخذ بجريرتهم. وقيل معناه: إن هذا كان رجلاً كافرًا لا عهد له، فأخذه وأسره جائز، فإذا جاز أن يؤخذ بجريرة نفسه وهو كافر، جاز أن يؤخذ بجريرة غيره ممن كان على مثل حاله من حليف وغيره. وقيل: في الكلام إضمار يريد: أنك أخذت لندفع بك جريرة حلفائك ثقيف، ونفدي بك الأسرى الذين أسرتهم ثقيف، ألا تراه قال في الحديث: ففدى الرجل برجلين من المسلمين. قال الشافعي -رضي الله عنه- في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخذت بجريرة حلفائكم من ثقيف": معناه: أن المأخوذ مشرك مباح الدم والمال لشركه من جميع جهاته؛ والعفو عنه مباح، فلم ينكر أن يقول: أخذت -أي: حبست- بجريرة حلفائكم ثقيف، وتحبسه بذلك ليصيروا إلى أن يخلوا من أراد، وقد غلط بهذا بعض من قال: يؤخذ الولي بالولي من المسلمين، فإن هذا مشرك يحل أن يؤخذ بكل جهة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلين من المسلمين قال: "هذا ابنك"؟ قال: نعم، قال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه، وقضى الله -تعالى-: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، فلما كان حبسه هذا حلالًا بغير جناية غيره وإرساله مباحًا جاز أن يحبس بجناية غيره لاستحقاقه

ذلك بنفسه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وأسلم هذا الأسير فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسلم بلا نية، قال: "لو قلتها وأنت تملك نفسك أفلحت كل الفلاح"، وحقن بإسلامه دمه، ولم يخله بالإسلام إذ كان بعد أساره، وإذ فداه بعد إسلامه بالرجلين فقد أثبت عليه الرق بعد إسلامه. قال: وهذا قول مجاهد، فإن سفيان أخبرنا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إذا أسلم أهل العنوة فهم أحرار وأموالهم فيء للمسلمين، فتركنا هذا استدلالًا بالخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: وإذ فداه برجلين من أصحابه؛ وإنما فداه بهما أنه فك الرق عنه بأن خلوا صاحبيه. وفي هذا دلالة على أن لا بأس أن يعطي المسلمون المشركين كل من يجري عليه الرق؛ وإن أسلم إذا كان لا يسترق، وهذا العقيلي لا يسترق لموضعه فيهم، فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم وهي أرض كفر؛ لعلمه بأنهم لا يضرونه لقدره فيهم وشرفه عندهم. وقال بعض العلماء: أنه لما يخله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أطلقه؛ ورده إلى دار الكفر بعد أن قال: إني مسلم، فإنه يتأول على أنه قد كان أطلعه الله -تعالى- على كذبه؛ وأعلم أنه تكلم بالإسلام على سبيل التقية دون الإخلاص، ألا تراه قال له: "هذه حاجتك" حين قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، وليس هذا لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمتى قال الكافر: إني مسلم، قبل منه إسلامه ظاهرًا؛ ووكلت سريرته إلى الله -تعالى- لانقطاع الوحي؛ واستداد باب علم الغيب. وقوله: "لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح" يريد: أنك لو تكلمت بكلمة الإسلام طائعًا راغبًا فيه قبل الأسر؛ أفلحت في الدنيا بالإطلاق من الأسر؛ وأفلحت في الآخرة بالنجاة من النار، ومن جمع له فلاح الدنيا

والآخرة فقد جمع كل الفلاح. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الأسير إذا أسلم حقن دمه؛ وفي حكمه قولان:- أحدهما: أن يكون رقيقا للمسلمين لا يمن عليه ولا يفادي به. والثاني: أن يكون الإمام مخيرا فيه بين ثلاث حالات:- أحدها: استرقاقه. والثانية: أن يمن عليه ويطلق. والثالثة: أن يفادي به غيره من أسراء المسلمين أو يفدي بالمال بشرط أن يكون له عشيرة تحميه إذا رد إليهم وهو مسلم، فأما إذا لم يكن له عشيرة تحميه لم يجز رده إلى المشركين. وهكذا الحكم في الأسير إذا كان مشركا، فالإمام غير فيه قتلاً، ومنًا، وفدًاء. وبه قال أبو ثور وأحمد والأوزاعي. وقال مالك في الرجال البالغين: إن شاء قتلهم، وإن شاء فادى بهم أسراء المسلمين. وبه قال الثوري وأبو عبيد وزاد: وإن شاء استرقهم. وقال أصحاب الرأي: إن شاء ضرب أعناقهم، وإن شاء أن يمن عليهم فيكونوا فيئا للمسلمين ولا يطلقهم بغير عوض، وإن شاء أن يعرض عليهم الإسلام، لكن ينبغي أن ينظر أي ذلك خيرًا للمسلمين فعله. وقال الحسن وعطاء وسعيد بن جبير: إن شاء مَنَّ عليه، أو فاداه وكانوا يكرهون قتله. قال الشافعي -رضي الله عنه-: أسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بدر، فمنهم من مَنَّ عليه بلا شيء أخذ منه، ومنهم من أخذ منه فدية، ومنهم من قتله؛ فكان المقتول بعد الأسر عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وكان من الممنون عليهم بلا فدية: أبو عزة الجمحي تركه لبناته وأخذ عليه عهدًا أن لا يقاتله؛ فأخفره وقاتله يوم أحد فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفلت فما أسر من المشركين

رجل غيره، فقال: يا محمد، امنن علي ودعني لبناتي وأعطيك عهدًا أن لا أعود لقتالك، فقال: "لا تمسح علي عارضيك بمكة، تقول: خدعت محمد مرتين" فأمر به فضربت عنقه، وعندها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى، عن جعفر، عن أبيه قال: لا والله ما سمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عينًا, ولا زاد أهل اللقاح على قطع أيديهم وأرجلهم. سمل العين سملها: إذا أحمى حديدة كحلها بها ليذهب بصرها. واللقاح: جمع لقحة، وهي: الناقة ذات اللبن، وقيل: ذات المخاض، وأهل اللقاح هم: الذين جاؤا إلى المدينة فمرضوا، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوا إلى الإبل فيشربوا من ألبانها، ففعلوا وصحوا، ثم قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل، فأنفذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم، فلما أحضروا سمل أعينهم، وقطع أيديهم وأرجلهم. هذا الحديث أخرجه الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب "قال المشركين" (¬1) في النهي عن الأمثلة بالأسرى، وأن المسلمين إذًا أخذوا مشركا وأرادوا قتله ضربت رقبته بغير مثلة. قال: فإن قال قائل: فقد قطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيدي الذين استاقوا [لقاحه] (¬2) وأرجلهم وسمل أعينهم، فيما رواه أنس بن مالك، من حديث هؤلاء المقدم ذكرهم. قال الشافعي -رضي الله عنه-: ثم روى فيه راوي حديثهم أيضًا: أن ¬

_ (¬1) الأم (4/ 245). (¬2) في الأصل [الفاحشة] وهو تصحيف والتصويب من الأم (4/ 245)، والمعرفة (13/ 202).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخطب بعد ذلك خطبة إلا أمر بالصدقة ونهى عن المثلة. ثم ذكر حديث أنس -رضي الله عنه- وهو من رواية المزني عنه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا عبد الوهاب، عن حميد، عن أنس أن ناسًا من عرينة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فقال: "لو خرجتم إلى ذود لنا فشربتم من ألبانها" ففعلوا وارتدوا عن الإسلام، فقتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستاقوا ذوده، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبهم، فقطع أيديهم -وأرجلهم، وسمل أعينهم، وتركهم في الحرة حتى ماتوا. وزاد في رواية: فما خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة إلا نهى فيها عن المثلة. حديث أنس -رضي الله عنه- صحيح (¬1) قد روي من غير وجه، وروي عن ابن عمر أيضًا، فلا معنى للإنكار بعد صحة الإسناد، فإما أن يحمل على النسخ كما ذهب إليه ابن سيرين وقتادة؛ وعلى ذلك حمله الشافعي -رضي الله عنه- في أول كلامه. وإما أن يحمل على أنه قد فعل بهم ما فعلوا بالرعاء؛ فإنه قد جاء في رواية؛ سليمان التيمي عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما سمل أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة. قال الشافعي -رضي الله عنه- والمثلة التي نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو: أن يقطع يدي المشركين -إذا أسروا- وتجدع آذانهم وأنفهم، وقد فعل ذلك أبو سفيان يوم أحد فمثل بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأمثلن بكذا وكذا منهم" فأنزل الله -عز وجل-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا ¬

_ (¬1) قال البيهقي في المعرفة (13/ 204): هذا الحديث دون هذه الزيادة مخرج في الصحيحين من حدث عبد العزيز بن صهيب، عن حميد، عن أنس.

بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} (¬1) فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك عن المثلة. قال الشافعي -رضي الله عنه-: المثلة، واتخاذ ما فيه الروح غرضا، وإحراق المشركين بالنار لا يحل فعل ذلك بهم [بعد] (¬2) أن يؤسروا، ويحل أن يقاتلوا ويرموا بالنبل والحجارة وبشهب النار، وكل ما كان فيه دفع لهم عن المسلمين؛ ومعونة أهل الإسلام عليهم. وأخرج الشافعي: عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح أن هبار بن الأسود كان قد أصاب زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وقال: "إن ظفرتم بهبار فاجعلوه بين حزمتين من حطب ثم احرقوه"، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله! ما ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله، إن ظفرتم به فاقطعوا يده ثم رجله" (¬3). قوله: "أصابها بشيء" يريد: خروجه خلفها حين خرجت من مكة وردها؛ حتى سقط بها بعيرها وأسقطت لذلك سقطا. وقد ذكر في القديم حديث الليث بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن سليمان بن يسار، عن أبي هريرة أنه قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث وقال: "إن وجدتم فلانًا وفلانًا -لرجلين من قريش- فأحرقوهما بالنار"، ثم قال حين أردنا الخروج: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله -عز وجل- فإن وجدتموهما فاقتلوهما". وذكر أيضًا حديث جماعة من الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن المثلة، والمصبورة، والمجثمة، واتخاذ ما فيه الروح غرضا، وتحسين القتل والذبح وغير ذلك وتركنا ذكرها اختصارا. ¬

_ (¬1) [النحل: 126]. (¬2) من الأم (4/ 258). (¬3) قال البيهقي في المعرفة (13/ 206): وهذا منقطع.

الباب الثاني في الغنائم وأحكامها

الباب الثاني في الغنائم وأحكامها قد تقدم في ربع "البيوع" في كتاب "قسم الفيء والغنائم والخمس" ما يتعلق بها، ونذكر ها هنا ما بقي من أحكام الغنائم حسب ما جاء في ربع الجنايات. أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال: سبيت امرأة من الأنصار وكانت الناقة أصيبت قبلها. قال الشافعي -رضي الله عنه-: كأنه يعني ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم -, لأن آخر الحديث يدل على ذلك، قال عمران بن حصين: فكانت تكون فيهم فكانوا يجيئون بالنعم إليهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل فجعلت كلما أتت بعيرًا منها فمسته رغى فتتركه، حتى أتت تلك الناقة فمستها فلم ترغ -وهي ناقة هدرة- فقعدت في عجزها، ثم صاحت بها فانطلقت، وطلبت فلم يقدر عليها، فجعلت لله عليها إن الله أنجاها لتنحرنها، فلما قدمت عرفوا الناقة وقالوا: ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: إنها قد جعلت لله عليها إن أنجاها الله عليها لتنحرنها فقالوا: والله لا تنحريها حتى يؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتوه فأخبروه أن فلانة قد جاءت على ناقتك، وإنها قد جعلت لله عليها إن أنجاها الله عليها لتنحرنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله! بئس ما جزتها أن أنجاها الله -تعالى- عليه لتنحرنها, لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا وفاء لنذر فيما لا يملك العبد -أو قال: ابن آدم". هذا طرف من حديث صحيح، قد أخرجه مسلم وأبو داود حديثا واحدًا بطوله، والشافعي -رضي الله عنه- قد أخرجه قطعتين بإسناد واحد، فأخرج

الفصل الأول من الحديث لحاجته إليه؛ في معنى أخذ الأسير بجريرة حلفائه وأستلامه بعد الأسر؛ وفدائه بغيره ورده إلى بلاده، وقد تقدم ذكره، وأخرج هذا الفصل الثاني لبيان ما أحرزه المشركون من أموال المسلمين؛ إذا عاد المسلمون استولوا عليه، وقد ذكرنا طريق مسلم وأبي داود عند ذكر الفصل. الرغاء: صوت البعير، رغا البعير يرغوا رغاء، وهدر البعير يهدر وهديرا إذا ردد صوته في حنجرته. وقوله: "فجعلت لله عليها" أي: التزمت له ونذرت. قال الربيع: سألت الشافعي -رضي الله عنه- عن العدو يأبق إليهم العبد، أو يشرد إليهم البعير؛ أو يغيرون فينالونهما فيظهر عليهم المسلمون فجاء صاحبهما؟ فقال: هما لصاحبيهما، فقلت: أرأيت إن وقعا في المقاسم؟ فقال: قد اختلف فيهما المفتون:- فمنهم من قال: هما قبل المقاسم وبعدها سواء لصاحبهما. ومنهم من قال: هما لصاحبهما قبل المقاسم؛ فإذا وقعت في المقاسم وصارت في سهم رجل فلا سبيل إليها. ومنهم من قال: صاحبها أحق بها ما لم يقسما، فإذا قسما فصاحبيهما أحق بهما بالقيمة. قال الشافعي -رضي الله عنه- ودلالة السنة -فيما أرى والله أعلم- مع من قال: لمالكه قبل القسم وبعده، فأما القياس فتبعه ولا شك -والله أعلم- ثم ذكر حديث الأنصارية والناقة وزاد في آخره: وأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقته. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقته بعدما أحرزها المشركون وأحرزتها الأنصارية على المشركين، ولو كانت الأنصارية أحرزت شيئًا ليس لمالك كان لها في قولنا أربعة أخماسها وخمس لأهل الخمس، وفي

قول غيرنا: كان لها ما أحرزت لا خمس فيه، ولهذا قالت في سياق الحديث: "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم" لأنها لم تملكها فيكف تنذر ما لم تملكه؟ والله أعلم. وتفصيل المذهب: أن المشركين إذا قهروا المسلمين على أموالهم وحازوها لم يملكوها. وروي مثل ذلك عن أبي بكر الصديق وابن عمر وسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهم- أجمعين، وبه قال ربيعة. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يملكونها عليهم، فإن أخذها المسلمون منهم وجاء صاحبها قبل القسمة فهو أحق بها، وإن جاء بعد القسمة فهو أحق بها بقيمتها. وفرق أبو حنيفة بين العبد الآبق وبين سائر الأموال، فقال فيه بقول الشافعي -رضي الله عنه-. وقد أخرج الشافعي: عن الثقة، عن نافع، عن ابن عمر أن عبدًا له أبق وفرسا له غار، فأحرزه المشركون ثم أحرزه عليهم المسلمون فردا بلا قيمة. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم حديث علي بن الجعد، عن شريك، عن الركين بن الربيع، عن أبيه أن فرسًا له غار إلى المشركين فصار في الخمس، قال: فأتيت سعدًا فأخبرته فدفعه إليّ. وأخرج أيضًا: عن الثقة، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه -لا أحفظ عمن رواه- أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال فيما أحرزه العدو من المسلمين مما غلبوا عليه أو أبق إليهم ثم أحرزه المسلمون: مالكوه أحق به قبل القسم وبعده. وقد أخرج الشافعي: عن مالك، عن ثور بن زيد الديلي قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية؛ فهي على

قسم (¬1) الجاهلية؛ وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام وهي لم تقسم، فهي على قسم الإسلام". قال الشافعي -رضي الله عنه-: ونحن نروي فيه حديثًا أثبت من هذا بمثل معناه. ولعله أراد ما رواه موسى بن داود، عن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا حاتم -يعني ابن إسماعيل- عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن خلال، فقال ابن عباس: إن ناسًا يقولون: إن ابن عباس يكاتب الحرورية، ولولا أني أخاف أن أكتم علمًا لم أكتب إليه، وكتب إليه نجدة أما بعد: فأخبرني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء وهل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضرب لهن بهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس -رضي الله عنه-: إنك كتبت تسألني هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيداوين المرضى ويحذين من الغنيمة، وأما السهم: فلم يكن يضرب لهن بسهم، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل الولدان؛ فلا تقتلوهم إلا أن تكون تعلم منهم ما علم الخضر من الصبي الذي قتل، فتميز بين المؤمن والكافر، فتقتل الكافر وتدع المؤمن، وكتبت متى ينقضي يتم اليتيم؟ ولعمري إن الرجل تشيب لحيته وإنه لضعيف الأخذ ضعيف الإعطاء؛ فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم، وكتبت تسألني عن الخمس؟ وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى ذلك علينا قومنا فصبرنا عليه. ¬

_ (¬1) في الأصل [قسم في] وزيادة [في] لا وجه لها، والمثبت من المعرفة (13/ 304).

هكذا أخرج هذه الرواية في كتاب "الأسارى" (¬1)، وأخرج منه طرفًا في كتاب "الجزية"، وقد تقدم ذكره في كتاب "قسم الغنيمة والفيء" وهو حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬2) بطوله وأخرج منه أبو داود (¬3) والترمذي (¬4) أطرافًا، ونحن نذكر في هذا الموضع ما في هذه الرواية من الشرح. الحرورية: طائفة من الخوارج نزلوا حروراء -قرية قريبة من الكوفة- وتنافروا فيها، وكان أول اجتماعهم بها، وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه. وهذا نجدة الذي كتب إلى ابن عباس -رضي الله عنه- هو: نجدة بن عامر أحد الخوارج. والخلال: جمع خلة -بفتح الخاء- وهي الخصلة. وقوله: "أما بعد" فإن هذا الكلام مقطوع عن الإضافة تقديره: أما بعد حمدًا لله أو غير ذلك من الكلام، فلما حذف حمدًا لله من اللفظ بني "بعد" على الضم، ومنه قوله -تعالى-: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬5) أي: من قبل الخلق ومن بعده، وأما بعد يقال لها: فصل الخطاب. وقوله: "إلا أن تعلم ما علم الخضر (عليه السلام) من الصبي الذي قتله" يريد الذي قال الله -تعالى- فيه: {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ} (¬6) حيث علم أنه كافر. وأما اليتيم فهو من الناس: من مات أبوه وهو دون البلوغ، وبالبلوغ ¬

_ (¬1) الأم (4/ 165 - 257). (¬2) مسلم (1812). (¬3) أبو داود (2727). (¬4) الترمذي (1556) وقال: حسن صحيح. (¬5) [الروم: 4]. (¬6) [الكهف: 74].

ينقضي اليتم إلا أن يكون سفيهًا أو محجورًا عليه، ولذلك قال ابن عباس: ولعمري إن الرجل لتشيب لحيته وهو ضعيف الأخذ ضعيف الإعطاء. وأما الخمس: فهو خمس الغنيمة والفيء. وقوله: "فأبى ذلك علينا قومنا" أي: منعونا منه ولم يعطونا إياه فصبرنا عليه، وهذا إشارة إلى ما فعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما كثرت الفتوح والغنائم في زمانه، استكثر لهم الخمس ولم يعطهم جميعه؛ وأبوا أن يأخذوه إلا كله. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه- من رواية المزني عنه (¬1)، عن مالك، عن ثور بن زيد الديلي، عن أبي الليث -مولى ابني مضيع- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر، فلم نغنم ذهبًا ولا فضة إلا الأموال والثياب والمتاع قال: ووجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو وادي القرى، وزعم أن رفاعة بن زيد وهب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدا أسود يقال له: مدعم، قال: فخرجنا حتى كنا بوادي القرى، فبينا مدعم يحط رحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه سهم غائر فأصابه فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلا، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي آخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا". وأخرج الشافعي من رواية المزني (¬2) عنه: عن سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة، عن زيد بن خالد الجهني قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، فمات رجل من أشجع فلم يصل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "صلوا على صاحبكم" فنظروا إلى متاعه فوجدوا فيه خرزًا من خرز يهود يساوي (¬3) درهمين. وفي رواية: والله ما يساوي درهمين. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (650). (¬2) السنن المأثورة (651). (¬3) السنن المأثورة (لا يساوي).

قال الربيع: قلت للشافعي: أفرأيت الذي يغل من الغنائم شيئًا قبل أن يقسم؟ قال: لا يقطع ويغرم، وإن كان جاهلاً عُلِّم ولم يعاقب؛ فإن عاد عوقب، قلت: أفيرحل عن دابته، أو يحرق سرجه ومتاعه؟ قال: لا يعاقب رجل في ماله، وإنما يعاقب في بدنه، وإنما جعل الله الحدود على الأبدان وكذلك العقوبات، وقليل الغلول وكثيره محرم. وأخرج الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن يحيى ابن سعيد القطان، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وبهذا نقول. ***

الباب الثالث في الجزية

الباب الثالث في الجزية أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن الأزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر [بعده] (¬1)، والذي نفسي بيده، لتنفقن كنوزهما في سبيل الله". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن ابن بكر، عن الليث، عن يونس، عن الزهري. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن حرملة، عن ابن وهب. وعن عمرو الناقد وابن أبي عمر، عن ابن عيينة، عن الزهري. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن سعيد بن عبد الرحمن، عن سفيان. كسرى: لقب لمن يملك من ملوك الفرس، وتكسر كافه وتفتح، وهو معرب حسرو وحسرو وهو الملك بالفارسية، والنسبة إليه: كسروي وكسري، ويجمع على أكاسرة من غير قياس، وبجمع الصحة كسرون بفتح الراء. وقيصر: لقب من يملك الروم بلسانهم. ¬

_ (¬1) من الأم (4/ 171). (¬2) البخاري (8/ 36). (¬3) مسلم (8/ 29). (¬4) الترمذي (2216) وقال: حسن صحيح.

وهذا الحديث من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه بشر إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وكذلك كان لما هلك كسرى في زمان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وأخذت البلاد منه لم يعد يقوم لهم ملك، ودامت البلاد في أيدي المسلمين إلى الآن، وكذلك قيصر لما أخذت منه بلاد الشام وفلسطين ومصر والجزيرة وديار بكر وديار ربيعة؛ لم تعد إليه ولا قام للروم فيها ملك. والكنوز: الأموال المدفونة المدخرة. وسبيل الله -تعالى- يريد به: الجهاد واصطناع المعروف وأبواب البر، فكل ذلك في سبيل الله -تعالى-. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فالله -جل ثناؤه- هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. قال: وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فتح فارس والشام، فأغزى أبو بكر الشام على ثقة من فتحها لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففتح بعضها وتم بعضها في زمان عمر -رضي الله عنه- وفتح عمر -رضي الله عنه- العراق وفارس، فقد أظهر الله -جل ثناؤه- دينه الذي بعث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأديان، لأنه أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل، وأظهره بأن جماع الشرك دينان: دين أهل الشرك، ودين الأميين، فقهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأميين حتى دانوا بالإسلام، وأعطى بعض الجزية صاغرين وجرى عليهم حكمه - صلى الله عليه وسلم - وهذا ظهوره على الدين كله. قال: وقد يقال: ليظهرن الله دينه على الأديان حتى لا يدان الله إلا به وذلك متى شاء الله -تعالى-. وكانت قريش تنتاب الشام انتيابًا كثيرًا، وكان كثير من معاشها منه، وتأتي العراق فيقال: لما دخلت في الإسلام ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خوفها من انقطاع معاشها بالتجارة من الشام والعراق لأهل الإسلام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا هلك

كسرى فلا كسرى بعده" فلم يكن بأرض العراق كسرى ثبت له أمر بعده، وقال: "إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده"، فلم يكن بأرض الشام قيصر بعده وأجابهم على ما قالوا فكان كما قال لهم وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس، وقطع قيصر ومن قام بهذا الأمر بعده عن الشام. قال الشافعي -رضي الله عنه-: بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمكة وهو بلد قومه، وقومه أميون وكذلك كان من حولهم من العرب، ولم يكن فيهم من العجم إلا مملوكًا أو محررًا أو مجتازًا ومن لا يذكر، قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (¬1) وفرض الله عليهم جهادهم فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (¬2) وجاءت السنة بما جاء به القرآن، فذكر حديث أبي هريرة وعمر بن الخطاب وقوله لأبي بكر الصديق: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، وهذا في المشركين مطلقًا وإنما يراد به -والله أعلم- مشركو أهل الأوثان، ولم يكن بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا قربه أحد من مشركي أهل الكتاب؛ إلا يهود المدينة وكانوا حلفاء الأنصار؛ ولم يكن الأنصار استجمعت أول ما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسلامًا؛ فوادعت يهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تخرج إلى شيء من عداوته يقول يظهر ولا فعل حتى كانت وقعة بدر، فتكلم بعضها بعداوته والتحريض عليه فقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، ولم يكن بالحجاز -علمته- إلا يهودًا ونصارى قليل بنجران، وكانت المجوس بهجر وبلاد البربر وفارس نائين عن الحجاز دونهم مشركون أهل الأوثان كثير، فأنزل الله -تعالى- فرض قتال المشركين من أهل الكتاب، فقال -تبارك وتعالى-: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬3) ففرق الله -جل ثناؤه، كما شاء لا معقب لحكمه- بين قتال ¬

_ (¬1) [الجمعة: 2]. (¬2) [الأنفال: 39]. (¬3) [التوبة: 29].

أهل الكتاب أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية أو يسلموا، وفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... وذكر حديث بريدة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث جيشًا أمر عليهم أميرًا وقال: "إذا لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال" وقد تقدم الحديث بطوله في أوائل كتاب الجهاد. وقال الشافعي -رضي الله عنه-: انتوت قبائل من العرب قبل أن يبعث الله -تعالى- محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وينزل عليه الفرقان، فدانت دين أهل الكتاب. ثم ساق الكلام إلى أن قال: فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجزية من أكيدر دومة وهو رجل يقال: من غسان أو كندة، وأخذ من أهل ذمة اليمن وعامتها عرب، ومن أهل نجران وفيهم عرب، وفي هذا دليل على أن الجزية ليست على النسب إنما هو على الدين، وكان أهل الكتاب المشهور عند العامة: أهل التوراة من اليهود، والإنجيل من النصارى وكانوا من بني إسرائيل، وأحطنا بأن الله -تعالى- قد أنزل كتبًا غير التوراة والإنجيل والفرقان، قال الله -جل ثناؤه-: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا في صُحُفِ مُوسَى 36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (¬1) فأخبر أن لإبراهيم صحفا، وقال: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} (¬2) قال: وأما عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ومن بعده من الخلفاء إلى اليوم؛ فقد أخذوا الجزية من بني تغلب وتنوخ وبهرا وهم إلى الساعة مقيمون على النصرانية؛ فضاف عليهم الصدقة وذلك جزية وإنما الجزية على الأديان لا على الأنساب، ولولا أن نأثم بتمني باطل وددنا أن الذي قال أبو يوسف كما قال، وأن لا يجرى الصغار على عربي، ولكن الله -تعالى- أجل في أعيننا من أن نحب غير ما قضى. وقال في موضع آخر: فنحن كنا على هذا أحرص؛ لولا أن الحق في غير ما قال فلم يقل لنا أن نقول إلا بالحق. ¬

_ (¬1) [النجم: 36، 37]. (¬2) [الشعراء: 196].

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار سمع بجالة يقول: لم يكن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن علي بن عبد الله، عن سفيان قال: سمعت عمرا قال: كنت جالسًا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس، فحدثهما بجالة سنة سبعين عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة، عند درج زمزم قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس فأتانا كتاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قبل موته بسنة: فرقوا بين كل محرم من المجوس، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن مسدد، عن سفيان بالإسناد وذكر الحديث أطول منه، وقد تقدم ذكر روايته في كتاب الحدود. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن أبي معاوية، عن الحجاج، عن عمرو بن دينار، عن بجالة قال: كنت كاتبًا لجزء بن معاوية على مناذر، فجاءنا كتاب عمر -رضي الله عنه-: انظر مجوس من قبلك فخذ منهم الجزية، فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر. وفي أخرى: عن ابن أبي عمر، عن سفيان الحديث. الجزية: فعلة من جزيت أجزي: إذا أعطيت عوضًا من حق، فكأن الجزية ¬

_ (¬1) البخاري (3156). (¬2) أبو داود (3043). (¬3) الترمذي (1586، 1587) وقال: حسن.

جزاء ما نزل عنه المسلمون من قبل أهل الكتاب وقتالهم وفي مقابلة الإبقاء عليهم. وقوله: "لم يكن أخذ الجزية" هكذا جاء في المسند لم يعدوا واوًا قبلها، والذي جاء في السنن للبيهقي (¬1): و"لم يكن" فإن رواية المسند منقطعة من الحديث مجعولة حديثًا برأسها، ورواية السنن طرف من الحديث مذكورة بصورتها ولذلك أثبت الواو التي كانت عاطفة في الحديث وقوله: "لم يكن" فعل مستقبل اللفظ ماضي المعنى بدخول حرف النفي عليه، ثم أتبعه بفعل ماضي اللفظ والمعنى؛ وفي ذلك نفي عام للأخذ لأنه صريح في باب النفي؛ وكأن النفي كان مستمرًا لنزول عمرًا لأمر إلى أن شهد عبد الرحمن. والمحرم من النساء والرجال: من لا يجوز بينهما نكاح، والمرأة محرم على بعلها أيضًا، والمراد الأول. وفي امتناع عمر من أخذ المجوس إلى أن شهد عبد الرحمن؛ دليل على أنه كان رأي الصحابة أن لا يقبل الجزية من كل مشرك. كما ذهب إليه الأوزاعي. وقد اختلف العلماء في سبب قبول الجزية من المجوس:- فذهب الشافعي -رضي الله عنه- في أغلب قوليه: أنها إنما قبلت منهم لأنهم من أهل كتاب. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه. وقال أهل العلم: ليسوا من أهل الكتاب؛ وإنما أخذت الجزية من أهل الكتاب بالكتاب، ومن المجوس بالسنة وهو حديث عبد الرحمن. واتفق عامة أهل العلم على تحريم نكاح نسائهم وذبائحهم. قال الشافعي -رضي الله عنه-: حديث بجالة متصل ثابت لأنه أدرك عمر، وكان رجلاً في زمانه كاتبا لعماله، وقد روي من حديث الحجاز حديثان ¬

_ (¬1) السنن الكبير (8/ 247 - 248).

منقطعان بأخذ الجزية من المجوس. فذكرهما وهما هذان الحديثان:- وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهدت لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[يقول] (¬1): "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". هذا حدث منقطع، هكذا رواه في المسند، وقد جاء في الموطأ (¬2) هكذا. وقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" أي: اسلكوا معهم مسلكهم وهم اليهود والنصارى. والسنة: السيرة وأصلها من السنن وهو: الطريق، يقال: فلان على سنن واحد أي: على طريقة واحدة. قال الشافعي -رضي الله عنه-: إن كان هذا الحديث ثابتًا فيغني في أخذ الجزية، لا في أن تنكح نساؤهم وتؤكل ذبائحهم. قال: ولو كان أراد جميع المشركين غير أهل الكتاب لقال -والله أعلم-: سنوا جميع المشركين سنة أهل الكتاب، ولكن لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سنوا بهم" فقد خصهم وإذا خصهم فغيرهم مخالف لهم ولا يخالفهم إلا غير أهل الكتاب. وأما الحديث الثاني: فإنه أخرجه عن مالك، عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس البحرين، وأن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أخذها من البربر، وأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أخذها من مجوس فارس. ¬

_ (¬1) الأم (4/ 174). (¬2) الموطأ (2/ 233 رقم 42).

ورواه يونس، عن ابن شهاب , عن [سعيد بن] (¬1) المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر وأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أخذها من مجوس السواد، وأن عثمان بين عفان -رضي الله عنه- أخذها من مجوس البربر. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وكانت المجوس يدينون غير دين أهل الأوثان, ويخالفون أهل الكتاب من اليهود والنصارى في بعض دينهم، وكان المجوس في طرف من الأرض لا يعرف السلف من أهل الحجاز من دينهم، ما يعرفون من دين اليهود والنصارى حتى عرفره وكانوا -والله أعلم- أهل كتاب. أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي سعد سعيد بن المرزبان، عن نصر ابن عاصم قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي: علام تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب؟!، فقام إليه المستورد فأخذ يلببه فقال: يا عدو الله، تطعن على أبي بكر وعمر وعلى أمير المؤمنين -يعني عليًا-؟! وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب له إلى القصر [فخرج علي عليهما فقال: اتئدا، فجلسا في ظل القصر] (¬2) فقال علي: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته [أو] (¬3) أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد وامتنع منهم، فدعا أهل مملكته فقال: تعلمون دينا خيرًا من دين آدم؟ وقد كان ينكح بنيه من بناته، فأنا على دين آدم وما يرغب بكم عن دينه، فتابعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم وهم أهل كتاب، وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر منهم الجزية. ¬

_ (¬1) من المعرفة (13/ 366)، والأم (4/ 174). (¬2) من الأم (4/ 173)، والمعرفة (13/ 367). (¬3) في الأصل [وأمه] والمثبت من الأم (4/ 173)، والمعرفة (13/ 367).

قال البيهقي (¬1): هكذا رواه الشافعي -رضي الله عنه- وغيره: عن سفيان ابن عيينة، عن نصر بن عاصم. والصواب عيسى بن عاصم الأسدي. كذا قاله محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكذلك رواه الفضل بن موسى وابن فضيل، عن أبي سعيد، عن عيسى بن عاصم. قال محمد بن إسحاق: توهمت أن الشافعي -رضي الله عنه- أخطأ في حديث سفيان، فرأيت الحميدي تابعه في ذلك، فعلمت أن الخطأ من ابن عيينة. قال أبو داود السجستاني: ما من العلماء أحد إلا وقد أخطأ في حديثه، غير ابن علية وبشر بن المفضل، وما أعلم للشافعي حديثًا خطأً. وقال أبو زرعة الرازي: ما عند الشافعي حديث غلط فيه. تلبيب الإنسان: مجمع ثوبه من مقدمه، وأخذ تلبيبه: إذا أخذ بمجامع ثوبه وجره، ولبه تلببة: إذا أخذ بتلبيبه. والطعن: العيب والإنكار على الإنسان في قول أو فعل، طعن يطعن طعنًا: إذا عابه. والقصر: يريد به دار الإمارة بالكوفة. وقوله: "اتّئدا" أي: تأنيا وارفقا، وهو أمر من التؤدة. ورغبت عن كذا خلاف رغبت فيه. وقوله: "أسري على كتابهم" كناية عن رفعه وأخذه من بينهم كما يسرى على المال من الليل فيؤخذ وينهب وأهله غافلون؛ ويصبحون وقد أخذت أموالهم ومواشيهم، والسري: سير الليل. ¬

_ (¬1) المعرفة (13/ 367).

وفي هذا الحديث: دليل على أن العلة ذهب إليها الشافعي، من تعليل أخذ الجزية من المجوس وهي: أنهم أهل كتاب، ولا اعتبار بمخالفتهم مذهبهم، ولا برفع الكتاب من بين أظهرهم، فإن اليهود والنصارى بدلوا التوراة والإنجيل، وخالفوا ما أمروا به فيهما، ومع ذلك فالجزية مأخوذة منهم، ثم نص الكتاب إنما قال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ولم يشترط العمل بما فيه والوفاء به، هؤلاء قد أوتوا كتابًا كما أوتي النصارى واليهود؛ فلذلك جاز أخذ الجزية منهم -والله أعلم. وقال الشافعي -رضي الله عنه-: حديث نصر بن عاصم، عن علي متصل وبه نأخذ، وفيه دليل على أن عليًا أخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأخذ الجزية منهم إلا وهم أهل كتاب ولا من بعده، ولو كان يجوز أخذ الجزية من غير أهل الكتاب لقال علي: الجزية تؤخذ منهم كانوا أهل كتاب أو لم يكونوا أهله، ولم أعلم من سلف من المسلمين أحدًا أجاز أن تؤخذ الجزية من غير أهل الكتاب والله أعلم. قال الشافعي -رضي الله عنه- في القديم: ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البحرين فاستعمل عليهم العلاء بن الحضرمي، وبعث إليه بمال من جزيتهم، ومن بالبحرين من أهل الكتاب مجوس. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، أخبرني إسماعيل بن أبي حكيم، عن عمر بن عبد العزيز أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن: "أن على كل إنسان منكم دينارًا كل سنة أو قيمته من المعافر". يعني: أهل الذمة منهم. هذا الحديث هكذا جاء في المسند مرسلًا في كتاب الجزية (¬1)، وقد أخرج أبو داود هذا المعنى مسندًا عن معاذ بن جبل. ¬

_ (¬1) الأم (4/ 179).

والمعافر: ثياب تكون باليمن منسوبة إلى معافر، وهي موضع باليمن تسمى بمعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب ابن زيد بن كهلان. والذمة والذمام: العهد، وقيل: الأمان، وأهل الذمة يقع على أهل الكتاب ممن عقد له منهم ذمام وعهد. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن أقل ما يجب على الذمي من الجزية دينار، والغني والفقير فيه سواء، فإن أدى زيادة عليه أو عقد له الذمام على أكثر منه جاز. وقال أبو حنيفة: يجب على الغني ثمانية وأربعون درهمًا من صرف اثنى عشر درهما بدينار، وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل اثنى عشر درهمًا. وروي ذلك عن أحمد. وقال مالك: الغنى أربعون درهمًا أو أربعة دنانير، والفقير عشرة دراهم أو دينار. وقال الثوري: ليست مقدرة، وإنما هي إلى رأي الإمام. وروي ذلك عن أحمد أيضًا. قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله -تعالى-: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1) وكان معقولًا أن الجزية شيء يؤخذ في أوقات، وكانت الجزية محتملة القليل والكثير، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله -تعالى- معنى ما أراد، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزية أهل اليمن دينارًا في كل سنة، أو قيمته من المعافر وهي: الثياب، وكذلك روي أنه أخذ من أهل أيلة ومن نصارى بمكة دينارًا دينارًا عن كل إنسان، وأخذ الجزية من أهل نجران فيها ¬

_ (¬1) [التوبة: 29].

كسوة، ولا أدري ما غاية ما أخذ منهم، وقد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار، وأخذه من أكيدر دومة، ومن مجوس البحرين، لا أدري كم غاية ما أخذ منهم؛ ولم أعلم أحدا حكى عنه قط أنه أخذ من أحد أقل من دينار. وأخبرنا الشافعي قال: أخبرني مطرف بن مازن وهشام بن يوسف بإسناد لا أحفظه غير أنه حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض على أهل الذمة من أهل اليمن دينارًا كل سنة، فقلت لمطرف بن مازن: فإنه يقال: وعلى النساء، فقال: ليس، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من النساء ثابتًا عندنا. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فسألت محمد بن خالد وعبد الله بن عمرو بن مسلم وعددًا من علماء أهل اليمن، فكلهم حكى لي عن عدد مضوا قبلهم يحكون عن عدد مضوا كلهم ثقة أن صلح النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم كان لأهل ذمة اليمن على دينار كل سنة، ولا يثبتون أن النساء كن فيمن تؤخذ منهم الجزية، وقال عامتهم: ولم تؤخذ من زروعهم وقد كانت لهم زروع، ولا من مواشيهم شيء علمناه، وكل من وصفت أخبرني أن عامة ذمة أهل اليمن من حمير. قال: وسألت عددًا كثيرًا من أهل اليمن متفرقين في بلدان اليمن، فكلهم أثبت لي ما يختلف قولهم أن معاذًا أخذ منهم دينارًا عن كل بالغ وسموا البالغ: حالمًا، قالوا: وكان في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع معاذ أن على كل حالم دينارًا, ولا خلاف بين الأئمة أن النساء لا جزية عليهن، فإن بذلت امرأة من نفسها جزية قبلت منها وكانت هبة لا جزية. أخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن أبي الحويرث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب على نصراني بمكة يقال: موهب دينارًا كل سنة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب على نصارى أيلة ثلثمائة دينار كل سنة، وأن يضيفوا من

مر بهم من المسلمين ثلاثًا ولا يغشوا مسلمًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم، عن إسحاق بن عبد الله أنهم كانوا يومئذ ثلثمائة، فضرب عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ثلثمائة دينار كل سنة. قال الشافعي: ثم صالح أهل نجران على حلل يؤدونها إليه، فدل صلحه إياهم على غير الدنانير على أنه يجوز ما صالحوا عليه، وصالح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أهل الشام على أربعة دنانير، وروى عنه بعض الكوفيين أنه صالح الموسر من ذمتهم على ثمانية وأربعين، والوسط على أربعة وعشرين، والذي دونه على اثنى عشر، فلا بأس بما صالح عليه أهل الذمة إن كان أكثر من هذا، إذا كان العقد على شيء مسمى بعينه. وفي هذا الحديث: دليل على عدم التفرقة بين الغني والفقير في الجزية لأهل أيلة، الذين قد حصرهم ثلثمائة نفر ولم يكونوا أغنياء ولا كلهم فقراء، وقد سوى بينهم في ضرب الجزية. وأما الضيافة: فإنها من الشروط التي يجوز أن تشترط عليهم عند عقد الذمة، وأن ذلك جائز أن يلزمهم به ويكون مدة الضيافة ثلاثة أيام، لعدد معلوم من المارين بهم من المسلمين بطعام معلوم أيضًا، وتكون الضيافة زائدة على دينار الجزية. والغش: الخيانة والغدر. أخرج الشافعي -رضي الله عنه- في القديم: حديث روح بن عبادة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي مجلز أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جعل على الغني من أهل الذمة ثمانية وأربعين، وعلى الوسط أربعة وعشرين، وعلى الفقير اثنى عشر درهما. وأخرج أيضًا: عن ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن أسلم أن عمر بن

الخطاب -رضي الله عنه- ضرب على أهل الشام أربعة دنانير ومدين من قمح، وعلى أهل مصر أربعة دنانير وأردبًا من قمح، وعلى أهل العراق أربعين درهما وخمسة عشر صاعًا من حنطة. وأخرج أيضًا: عن مالك، عن نافع، عن أسلم أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. هكذا رواه وقد سقط من متن الحديث: وعلى أهل الورق أربعين درهما. وأخرج أيضًا: عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فرض على أهل السواد ضيافة يوم وليلة، فمن حبسه مطر أو مرض أنفق من ماله. قال الشافعي: وحديث أسلم بضيافة ثلاث أشبه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل ثلاثًا، وقد يجوز أنه جعلها على قوم ثلاثًا؛ وعلى قوم يومًا وليلة، ولم يجعل على آخرين ضيافة كما يختلف صلحه لهم، فلا يرد بعض الحديث بعضًا. وأخرج أيضًا في القديم: عن مالك، عن نافع، عن أسلم أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب: أن لا تؤخذ الجزية من النساء والصبيان. وأخرج أيضًا: عن ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن أسلم أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله: أن لا يأخذوا الجزية من النساء والصبيان، ولا يأخذون إلا من جرت عليه الموسى. وأخرج أيضًا: حديث أبي معاوية ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق قال يعلى [عن معاذ] (¬1)، وقال أبو معاوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في الأصل غير متضحة والمثبت من المعرفة (13/ 380).

بعث معاذًا فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا أو عدله معافري. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القطنية العشر. وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن السائب ابن يزيد أنه قال: كنت غلامًا مع عبد الله بن عتبة على سوق المدينة في زمان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فكان يأخذ من النبط العشر قال الشافعي -رضي الله عنه-: لعل السائب حكى أمر عمر أن يؤخذ من النبط العشر في القطنية؛ كما حكى سالم، عن أبيه، عن عمر فلا يكونان مختلفين، أو يكون السائب حكى العشر في وقت آخر؛ فيكون أخذ منهم مرة في الحنطة والزيت عشرًا ومرة نصف العشر، ولعله كله يصلح يحدثه في وقت برضاه ورضاهم. وهذا الحديث هكذا أخرجه مالك في الموطأ (¬1)، وقال: إنه سأل ابن شهاب: على أي وجه كان يأخذ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من النبط العشر؟ فقال ابن شهياب: كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية فالزمهم ذلك عمر. النبط: جيل معروف من الناس ويقال لهم: النبيط أيضًا. وقوله: "يكثر الحمل" يريد: الجلب. والقطنية بكسر القاف والتشديد واحدة القطاني، كالعدس والماش والدحن والحمص واللوبيا وما أشبه ذلك. وقيل: هي اسم جامع لما كان سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن من دخل من أهل الحرب إلى بلاد الإِسلام بتجارة فعليه العشر؛ والذمي لا شيء عليه اكتفاء بالجزية، إلا ¬

_ (¬1) الموطأ (1/ 235 رقم 48).

إن اعتبر في الحجاز فإنه يؤخذ منه نصف العشر. وقيل: إن للإمام أن يزيد علي العشر إن رأى، وله أن يقتصر على نصف العشر, فأما إسقاط هذه الضريبة عنهم بالكلية ففيه خلاف، ولا يؤخذ العشر في سنة إلا مرة واحدة. وقد اختلف في تردد مال التجارة في الحجاز: هل يكرر أخذ العشر منها أم؟ وقال أبو حنيفة: ينظر إن كانوا يأخذون في بلادهم من تجار المسلمين شيئًا أخذنا من تجارهم عندنا وإلا فلا. ثم أهل الذمة إن كانوا قد صولحوا عند عقد الذمة على تعشيرهم لزمهم ذلك وإلا فلا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن عبد الله، بن دينار, عن سعد البخاري أْو عبد الله بن سعد -مولى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن عمر قال: ما نصارى العرب بأهل كتاب، وما تحل لنا ذبائحهم وما أنا بتاركهم حتى يسلموا أو أضرب أعناقهم. الذين يجوز عقد الذمة لهم وأخذ الجزية منهم هم: أهل الكتابين: التوراة والإنجيل، وهم اليهود والنصارى هذا لا خلاف فيه، وألحق قوم بهم المجوس بناء على أنهم أهل كتاب وقد تقدم ذكر ذلك. فأما من دخل من العرب في دين اليهود والنصارى؛ فقد كان دخل في اليهودية من العرب قبل الإسلام: من حمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكندة، ودخل في النصرانية: من ربيعة وغسان، ودخل في المجوسية: من تميم، وكانت عبادة الأوثان والزندفة في العرب وخاصة في قريش وبني حنيفة، وهؤلاء الذين تهودوا أو تنصروا إن كانوا دخلوا في دين ما لم يبدل لم يقروا، وإن كانوا دخلوا قبل النسخ والتبديل أقروا، فأما ما عدا التوراة والإنجيل من

الكتب: كالزبور وصحف إبراهيم وآدم وإدريس (عليهم الصلاة والسلام) فقد اختلف العلماء فيها: هل يقر القائلون فيها بالجزية أم لا؟. قال الشافعي -رضي الله عنه- صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكيدر الغساني وكان نصرانيًا عربيًا على الجزية، وصالح نصارى نجران على الجزية وفيهم عرب وعجم، وصالح ذمة اليمن على الجزية وفيهم عرب وعجم، فاختلفت الأخبار عن عمر في نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب، فروي عنه أنه صالحهم على أن يضاعف عليهم الصدقة، ولا يكرهوا على غير دينهم، ولا يصبغوا أبناءهم في النصرانية، وعلمنا أنه كان يأخذ جزيتهم نعمًا، ثم روي أنه قال بعد: نصارى العرب بأهل الكتاب. وذكر هذا الحديث ثم قال: فأرى للإمام أن يأخذ منهم الجزية لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها من النصارى من العرب كما وصفت، فأما ذبائحهم فلا أحب أكلها خبرًا عن عمر وعلي -رضي الله عنهما-، وكذلك لا يحل لنا نكاح نسائهم لأن الله -جل ثناؤه- إنما أحل لنا أهل الكتاب الذين عليهم نزل وجعلهم شبيهًا بالمجوس. وأما أبو حنيفة فإنه قال: تؤخذ الجزية من جميع المشركين إلا من عبدة الأوثان من العرب. وقال مالك: لا تؤخذ من كفار قريش خاصة. وقال أبو يوسف: لا يؤخذ من عربي، وإنما يؤخذ من العجم. وقوله: "حتى يسلموا أو أضرب أعناقهم" هذا بناء على أن من لا يصح أخذ الجزية منه لا يقبل منه إلا الإسلام أو القتل، فأما من يجوز أخذ الجزية منه فإنه إذا بدلها قبلت منه وعقدت له الذمة، لا يقتل ولا يلزم بالإسلام، وروي عن عمر أنه دعا قبائل من العرب انتقلت إلى النصرانية وهم: تنوخ وبهراء وبنو تغلب إلى إعطاء الجزية، فقالوا: إنا نحن عرب لا نؤدي الجزية؛ فخذ منا الصدقة كما تأخذ من المسلمين، فأبى، فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن

عروة: يا أمير المؤمنين! إن القوم لهم بأس وشدة فلا تعن عدوًا بهم، فبعث عمر في طلبهم وردهم وضرب عليهم الصدقة، فأخذ من كل خمس من الإبل شاتين، وأخذ مكان العشر الخمس، ومكان نصف العشر العشر، ولم يخالفه أحد من الصحابة فليس لأحد بعد ذلك ذمة، لأن عقد الذمة يكون على التأبيد. وقد أخرج الشافعي هذا المعنى: عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الشيباني، عن رجل أن عمر صالح نصارى بني تغلب على أن لا يصبغوا أبناءهم، ولا يكرهوا على غير دينهم، وأن تضاعف عليهم الصدقة. والله أعلم. ***

كتاب الصيد والذبائح

كتاب الصيد والذبائح أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رفاعة، عن رافع بن خديج قال: قلنا: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غدًا وليست معنا مدي، أنذكي بالليط؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهر الدم وذكر عليه اسم الله -تعالى- فكلوا، إلا ما كان من سن أو ظفر؛ فإن السن عظم من الإنسان، والظفر مدي الحبشة". هذا حديث [] (¬1). المدى: جمع مدية وهي القشرة والسكين. والتذكية: الذبح. والليط: القصب، قال الأزهري والجوهري: الليط: قشرة القصبة والجمع الليط، والمراد به في الحديث نفس القصبة لا قشرها لأن القشر لا يذبح. وقوله: "ما أنهر الدم" أي: أجراه وأسأله فهو من النهر مجرى الماء، تقول: نهر النهر: إذا حفزته، ونهر الماء: إذا جرى في الأرض وجعل لنفسه بجريانه نهرًا. والاستثناء في قوله: "إلا ما كان من سن أو ظفر"، ومن قوله: "ما أنهر الدم" أي: ما ذبح من الأشياء كلها فكلوه، إلا ما كان من السن والظفر. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه كل آلة لها حد يقطع الحلقوم ويفري الأوداج، فإنه يجوز الذكاة به؛ سواء كان حديدًا، أو حجرًا، أو خشبًا أو غير ذلك. ¬

_ (¬1) بياض بالأصل قدر سطرين، ولتمام الفائدة أذكر تخريجه هنا فقد أخرجه البخاري (2507)، ومسلم (1968)، وأبو داود (2821)، والترمذي (1491)، والنسائي (7/ 226 - 228).

وقال أبو حنيفة: إِذا كان منفصلًا جازت التذكية به، وإذا كان متصلًا لم يجز، لأنهما مع الاتصال لا يمكن التذكية بهما، ومع الانفصال يمكن. قال الشافعي -رضي الله عنه- في رواية حرملة: ومعقول في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السن إنما يذكى بها إذا كانت منتزعة؛ فأما وهي ثابتة فلو أراد الذكاة بها كانت منخنقة، وإذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن السن عظم من الإنسان"، وقال: "إن الظفر مدي الحبش" ففيه دلالة على أنه لو كان ظفر الإنسان قاله كما قال في السن, ولكنه أراد الظفر الذي هو طيب من بلاد الحبشة يجلب، وإذا نهى عن الظفر وكان المعقول أنه ما وصفت فحرام ذلك الظفر والأسنان وعظمه قياس على سنه، فلا يجوز أن يذكى من الإنسان بعظم لأن السن عظم، ولا بظفر لأنه من الإنسان. وهذا القول ذكره البيهقي في كتاب السنن والآثار (¬1)، ولم أجده في كتاب من كتب الفقه التي وقفت عليها، على اختلاف القائلين بها والمصنفين لها، على أن الظفر هو طيب الحبشة قاله الأزهري فيه. والأظفار: شيء من العطر أسود؛ شبيه بصفر مقتلف من أصله يجعل في الدخنة، ولا يفرد منه الواحد، وربما قال بعضهم: أظفار واحدة. وليس بجائز في القياس. ويجمعونها على الأظافير، وهذا في الطيب إذا أفرد شيء من نحوها ينبغي أن يكون ظفرًا، وهذا التفسير من الأزهري في هيئة الظفر وصورته تمكن الزكاة به، وإنما جعله مدي الحبشة: لأنهم ربما كانوا يكثرون الذبح به وغلب ذلك على عادتهم، أو هو سنة بينهم يتداولونها فنسبت إليهم. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا حاتم بن إسماعيل والدراوردي أو أحدهما، عن ¬

_ (¬1) (13/ 454).

جعفر بن محمد، عن أبيه قال: النون والجراد ذكي. هذا الحديث هكذا في الموطأ وزاد في آخره: كله، وقد رواه الثوري في "الجامع" عن جعفر، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: الحيتان والجراد ذكي كله. والنون: هو الحوت. والذكي: الذبيح من الذكاة: الذبح. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن الجراد حلال وموته ذكاته؛ وكل ما هو من حيوان الماء ولا يعيش إلا في الماء فإنه حلال كله -فيما نقله المزني- وسواء منه ما كان من جنس السمك وغيرها. وكذلك نص في الأم وفي اختلاف العراقيين. وقال الربيع: سئل الشافعي -رضي الله عنه- عن خنزير الماء؟ فقال: يؤكل. قال أصحاب الشافعي -رضي الله عنه-: فعلى هذا يحل جميعه إلا الضفدع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتله ولو حل أكله جاز قتله. قال أبو حامد: السرطان مثله. وبه قال مالك وأحمد. ومن الأصحاب من قال: لا يحل منه إلا السمك وما كان من جنسه، ولا يحل كلب الماء ولا خنزيره. وهو قول أبي حنيفة. وقد أخرج المزني: عن الشافعي -رضي الله عنه- عن عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أبي أيوب الأنصاري أنه أكل سمكًا طافيًا. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فقال -يعني من كره السمك الطافي-:

القياس أنه كله سواء، ولكنه بلغنا أن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -سمى جابرا أو غيره- كره الطافي، فاتبعنا فيه الأثر، قلنا: لو كنت تتبع الآثار والسنن حتى تفرق بين المجتمع منها بالاتباع حمدناك، ولكنك تتركها ثابتة لا مخالف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتأخذ -زعمت- برواية عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كره الطافي، وقد أكل أبو أيوب سمكًا طافيًا وهو من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعه زعمت القياس وزعمنا السنة. والله أعلم. وأخرج المزني (¬1): عن الشافعي، عن سفيان قال: حدثنا أبو يعفور العبدي قال: أتيت ابن أبي أوفى فسألته عن أكل الجراد؟ فقال: غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ست غزوات أو سبع غزوات، وكنا نأكل الجراد. هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لنا ميتتان ودمان، الميتتان: الحوت والجراد، والدمان -أحسبه- قال: الكبد والطحال". هكذا رواه إسماعيل بن أبي أويس، عن عبد الرحمن وعبد الله وأسامة ابني زيد بن أسلم، عن أبيهم مرفوعًا. ورواه سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر موقوفًا (¬4). أما قوله: "الميتتان: الحوت والجراد" فقد تقدم ذكر ذلك في حديث جعفر بن محمد. ¬

_ (¬1) السنن المأثورة (594). (¬2) البخاري (5495). (¬3) مسلم (1952). (¬4) هكذا قال البيهقي في المعرفة (13/ 466): وزاد: وهذا أصح وهو في معنى المرفوع.

وأما قوله: "والدمان: الكبد والطحال" فإنهما دم جامد مستمسك فيهما مع ذلك حلال دون غيرهما من الدماء، وتثنية الدم في الأكثر الأفصح: الدميان، وبعضهم يقول: دمان على الحذف، وبعضهم يقول: دموان والله أعلم. وأخرج المزني: عن الشافعي -رضي الله عنه- قال: أخبرنا عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته". قال الشافعي -رضي الله عنه-: كمال الذكاة بأربع: الحلقوم، والمريء، والودجين، وأقل ما يكفي من الذكاة إتيان الحلقوم والمريء. قال: وكل ما كان مأكولاً من طائر أو دابة، فإنه يرح أحب إلي وذلك سنة، ودلالة الكتاب فيه، والبقر داخلة في ذلك لقول الله -تعالى- {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} إلا الإبل فقط فإنها تنحر. قال: وموضع النحر في الاختيار في السنة في اللبة، وموضع الذبح في الاختيار في السنة أسفل اللحيين، والذكاة في جميع ما ينحر ويذبح ما بين اللبة والحلق. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي -كرم الله وجهه- أنه قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم [لم] (¬1) يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر. هكذا جاء هذا الحديث في المسند (¬2)، عن الثقفي في كتاب الصيد، وأخرجه في كتاب السير قال: أخبرنا الثقة سفيان أو عبد الوهاب أو هما، عن ¬

_ (¬1) من الأم (4/ 282). (¬2) المسند (2/ 617).

أيوب وقال: لم يتمسكوا من نصرانيتهم -أو دينهم- الشك من الشافعي -رضي الله عنه. قال البيهقي (¬1): رواه في كتاب "تحريم الجمع" عن الثقفي، ولم يجاوز به عبيدة وشك في تبليغه به عليًا ورواه في كتاب "الضحايا" عن الثقفي وقال: عن عبيدة، عن علي ولم يشك فيه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: أحل الله -جل ثناؤه- طعام أهل الكتاب، وكان طعامهم عند بعض من حفظت من أهل التفسير: ذبائحهم، يسمونها لله فهي حلال، وإن كان لهم ذبح آخر يسمون عليه غير اسم الله مثل: اسم المسيح لم يحل هذا من ذبائحهم. قال الشافعي -رضي الله عنه-: والذي يروى من حديث ابن عباس في إحلال ذبائح نصارى العرب، إنما هو من حديث عكرمة أخبرنيه ابن الدراوردي وابن [أبي] (¬2) يحيى، عن ثور الديلي، عن عكرمة، عن [ابن] (2) عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال قولًا حكي هو إحلالها وتلا: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ [مِنْكُمْ] (2) فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (¬3) ولكن صاحبنا سكت عن عكرمة وثور لم يلحق ابن عباس -رضي الله عنه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتنى كلبًا إلا كلب ماشية أو ضاريًا، نقص من عمله كل يوم [قيراطان] (¬4) ". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري، ومسلم والترمذي والنسائي. فأما مالك (¬5): فأخرجه بالإسناد وقال: "إلا كلبا ضاريًا أو كلب ماشية". ¬

_ (¬1) المعرفة (13/ 401). (¬2) من المعرفة (13/ 403). (¬3) [المائدة: 51]. (¬4) في الأصل [قيرات] وهو تصحيف والمثبث من مطبوعة المسند (2/ 463). (¬5) الموطأ (2/ 738 رقم 13).

وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث، عن نافع. اقتنى الشيء تقتنيه اقتناء من القنية: إذا تملكه لنفسه ليبقى لا للتجارة. والماشية: الغنم، وكلبها الذي جرت به: أن يكون يتبع الغنم ليحفظها ويحرسها. والضاري: الصائد، تقول: ضري الكلب بالصيد ضارة أي: تعود، وكلب ضار وأضراه صاحبه أي: عوده، وأضراه به أي: أغراه. وقوله: "ضاريا" منصوب لأنه صفة لمنصوب محذوف تقديره: أو كلبًا ضاريًا. والقيراط: جزء من اثنى عشر جزءًا من الدرهم، وجزء من عشرين جزءًا من الدينار، فإن جعلت بالنقص من قراريط الدرهم فهو: سدس العمل، وإن جعلته من قراريط الدينار فهو: عشر العمل، والمراد بنقص العمل: نقص الأجر والثواب عليه. والمذهب: أنه لا يجوز اقتناء الكلاب إلا للصيد أو لحفظ الماشية أو للحرث ¬

_ (¬1) البخاري (5480). (¬2) مسلم (1574). (¬3) الترمذي (1487). (¬4) النسائي (7/ 188).

وما كان في معناها، فأما اتخاذه لحفظ البيوت فقد اختلف القول فيه، والظاهر في كلام الشافعي -رضي الله عنه- أنه قد ألحقه بهذه الأشياء المستثناه المذكورة. وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن يزيد بن خصيفة، أن السائب بن يزيد أخبره أنه سمع سفيان بن أبي زهير -وهو رجل من شنؤة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "من اقتنى كلبًا نقص من عمله كل يوم قيراطان، قالوا: أنت سمعت من رسول الله؟ قال: إي ورب هذا المسجد". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه مالك والبخاري ومسلم والنسائي. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد المذكور وقال في الحديث بعد قوله: من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهو يحدث ناسًا معه عند باب المسجد، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اقتنى كلبًا لا يغني عنه زرعًا ولا ضرعًا نقص من عمله كل يوم قيراطان". وأما البخاري (¬2): [فأخرجه] (¬3) عن عبد الله بن يوسف. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى كليهما عن مالك. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة. فقد جاء في رواية الشافعي: "من اقتنى كلبًا" مطلقًا ولم يستثن والظاهر أنه إغفال من الكتاب، فإن مذهب الشافعي قد ذكر تحريم اقتناء الكلاب لغير ما استثناه. ¬

_ (¬1) مالك (2/ 738 رقم 12). (¬2) البخاري (2323). (¬3) في الأصل [فأخبره] وهو تصحيف والمثبت هو الصواب. (¬4) مسلم (1576). (¬5) النسائي (7/ 187 - 188).

والضرع: كناية عن الماشية فإنها ذات الضرع، والضرع للشاة كالثدي للمرأة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية، قيل له: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فقال: إن أبا هريرة له زرع. وقد أخرج مسلم هذه الرواية. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك. ... ¬

_ (¬1) البخاري (3323). (¬2) مسلم (1570). (¬3) الترمذي (1488) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (7/ 184).

كتاب الأطعمة والمكاسب

كتاب الأطعمة والمكاسب أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة الخشني: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كل ذي ناب من السباع". وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا مالك، عن ابن شهاب بالإسناد الحديث. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- أخبرنا سفيان الحديث. أخرج الرواية الأولى في كتاب "الرسالة" (¬1)، وأخرج الثانية والثالثة في كتاب "الطعام" (¬2) وهو مما لم يسمعه الربيع من الشافعي. وهذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. أما مالك (¬3): فأخرجه بالإسناد قال: أكل كل ذي ناب من السباع حرام. وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن عبد الله بن يوسف، عن مالك مثل الشافعي. وأما مسلم (¬5): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وابن أبي عمر، عن سفيان. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما النسائي (¬7): فأخرجه عن إسحاق بن منصور وابن المثنى، عن سفيان. ¬

_ (¬1) الرسالة (561). (¬2) انظر الأم (3/ 214). (¬3) الموطأ (2/ 396 رقم 13). (¬4) البخاري (5530). (¬5) مسلم (1932). (¬6) أبو داود (3802). (¬7) النسائي (7/ 200 - 201).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن أحمد بن الحسن، عن القعنبي، عن مالك. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عباس وجابر وخالد بن الوليد والعرباض بن سارية والمقدام. الناب: السن المعروفة وهي التي بين الرباعيات والضواحك، والجمع: أنياب ونيوب، وبه يكون القطع. والسباع: اسم يقع على ما يفترس من الوحوش كالأسد والنمر والذئب وابن آوى والكلاب ونحوها. وقوله: "عن كل ذي ناب من السباع" يدل أن الحرام من ذوي الأنياب ما كان سبعا، لأنه خصصه بذلك. وفرق ما بين رواية الجماعة ولفظ مالك: أن مالكا حكى لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - الوارد في أمر ذي الناب من السباع، وهو قوله: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" فهذا هو النص. وأما الجماعة: فإنما حكوا لفظ أبي ثعلبة الذي حكى به معنى ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر صريح لفظ مالك. أو أن أبا ثعلبة قد سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن أكلها بلفظ النهي كأنه قال: أنهاكم عن أكلها أو لا تأكلوها، فحكى أبو ثعلبة معنى اللفط بقوله: نهى عن أكلها, ولم يحك لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما سمعه. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه-: أن كل ماله ناب يعدو به على الناس ويتقوى به؛ فإنه حرام وإن كان طاهرًا. وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: يكره وليس بمحرم. واستثنى الشافعي -رضي الله عنه- منها الضبع والثعلب. وبه قال أحمد ¬

_ (¬1) الترمذي (1477) وقال: حسن صحيح.

وإحداهما أبو حنيفة في عموم التحريم. قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله -جل ثناؤه: {الَّذِينَ (¬1) يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬2). قال: وإنما تكون الطيبات والخبائث عند الآكلين كانوا لها وهم العرب؛ الذين سألوا عن هذا ونزلت فيهم الأحكام، وكانوا يكرهون من خبيث الماء كل ما لا يكرهها غيرهم، فأهل التفسير -أو من سمعت منهم- يقول في قول الله -تعالى-: {قُلْ لَا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} (¬3) يعني: مما كنتم تأكلون، فإن العرب قد كانت تحرم أشياء على أنها من الخبائث؛ وتحل أشياء على أنها من الطيبات، فأحلت لهم الطيبات عندهم إلا ما استثنى، وحرمت عليهم الخبائث عندهم، قال الله -عز وجل-: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}. وأخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عبيدة ابن سفيان الحضرمي، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام". وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه- بالإسناد المذكور والحديث. هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم والترمذي والنسائي. أما مسلم (¬4): فأخرجه عن زهير بن حرب، عن ابن مهدي، عن مالك. ¬

_ (¬1) في الأصل [والذين] وهو خطأ. (¬2) [الأعراف: 157]. (¬3) [الأنعام: 145]. (¬4) مسلم (1933).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن عبد العزيز بن محمد، عن محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن إسحاق بن منصور، عن ابن مهدي، عن مالك قال: كل ذي ناب من السباع فأكله حرام. والفرق بين رواية الشافعي ومن وافقه ورواية النسائي: أنه لما كان الأهم في الحديث والغرض المسوق لأجله هو الأكل، قدم في الذكر فقيل: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وهو أولى الروايتين. وأما الفاء التي في رواية النسائي: فإنها التي تدخل على أخبار المبتدأ ودخولها عليها في موضعين:- أحدهما: لازم، والآخر: غير لازم، فاللازم في موضعين:- أحدهما: أن يكون المبتدأ شرطًا جازمًا، والخبر جملة اسمية، أو أمرية، أو نهييهّ كقولك: من يأتني فله درهم، ومن يأتك فاضربه، ومن يقم فلأضربه. والموضع الثاني: دخولها في قولك: أما زيد قائم، لابد من دخول الفاء في خبر "أما". وأما غير اللازم: ففي موضعين:- أحدهما: في خبر الأسماء الموصولة إذا كانت علتها فعلًا أو ظرفًا، كقولك: الذي يأتيني فله درهم، والذي في الدار فله درهم. والموضع الثاني: النكرات الموصوفة إذا كانت صلتها فعلًا أو ظرفًا، كقولك كل رجل يأتيني فله درهم، وكل رجل في الدار فله درهم. والفرق بين وجود الفاء وعدمها: أن الدرهم مع الفاء يستحق بالإتيان، ومع ¬

_ (¬1) الترمذي (1479) وقال: حسن. (¬2) النسائي (7/ 200).

عدمها لا يستحق ويتنزل منزلة الأخبار، كقولك: زيد له درهم. وما عدا هذه المواضع لا تدخل الفاء في أخبارها, لا تقول: زيد فقائم. قال الشافعي -رضي الله عنه-: قال الله -جل ثناؤه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬1) وهو -جل ثناؤه- لا يحرم عليهم من صيد البر في الإحرام إلا ما كان حلالًا لهم قبل الإحرام -والله أعلم- فلما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحرم بقتل الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، وقتل الحيات دل ذلك على أن لحوم هذه محرمة، لأنها لو كانت داخلة في جملة ما حرم الله قتله من الصيد في الإحرام لم يحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الضب فقال: "لست بآكله ولا محرمه". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا أبا داود. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد أن رجلاً نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما ترى في الضب؟ فقال: "لست بآكله ولا بمحرمه". وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن موسى بن إسماعيل، عن عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار نحوه. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن قتيبة وابن رمح، عن الليث، عن نافع. ¬

_ (¬1) [المائدة: 96]. (¬2) الموطأ (2/ 738 رقم 11). (¬3) البخاري (5536). (¬4) مسلم (1943).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن مالك، عن ابن دينار. وأما النسائي (¬2): فأخرجه مثل الترمذي. وفي الباب عن عمر وأبي سعيد وابن عباس وثابت بن وديعة وجابر وخالد بن الوليد وعبد الرحمن بن حسنة. قوله: "سئل عن الضب" إنما يريد: عن أكله، وقد جاء ذلك مفسرًا في رواية مسلم والثوري، وإنما اكتفى عن ذكر الأكل بقوله في الجواب "لست آكله" فعرف من الجواب أنه أراد السؤال عن الأكل، وآكله: خبر لست وليس فعلًا مستقبلاً، وإنما هو اسم بدليل ما عطف عليه وهو قوله: "ولا محرمه"، فلما عطف عليه اسمًا علم أنه اسم لأن الاسم لا يعطف على الفعل، وقد جاء في رواية مالك: "لست بآكله ولا بمحرمه"، وفي ذلك أوفى دليل علم أنه اسم لا فعل بدخول الباء عليه، وقد جاء في رواية الباقين "لست آكله ولا أحرمه"، على أنهما فعلان فجاز عطف الفعل على الفعل، والاسمية في هذا المقام أوقع من الفعلية من وجهين:- أحدهما: أنه مع الاسمية يفيد أنه هو غير متصف بأكله، وأن غيره هو الذي يأكله، كما تقول: لست أنا بالقائم يريد: أن القائم غيري، ولا يوجد هذا المعنى في قولك: لست أقوم، أيفيد إخبارك عن نفسك بنفي القيام في المستقبل، من غير تعرض إلى إثباته لغيرك. والثاني: أنه مع الاسمية يعم جميع الأزمنة: ماضيها وحاضرتها ومستقبلها ومع الفعلية مختص بالاستقبال لا غير. والذي ذهب إليه الشافعي: أن الضب حلال يجوز أكله، وبه قال مالك ¬

_ (¬1) الترمذي (1790) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (7/ 197).

وأحمد والأوزاعي، وروي عن عمر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يحل أكله. وروري ذلك عن علي -كرم الله وجهه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن ابن عباس. قال الشافعي: أشك أقال مالك: عن ابن عباس، عن خالد بن الوليد. أو عن ابن عباس وخالد بن المغيرة؟ أنهما دخلا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة، فأتى بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فقال له بعض النسوة التي في بيت ميمونة: أخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب يا رسول الله، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقلت: أحرام هو؟ فقال: "لا, ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا الترمذي. فأما مالك (¬1): فأخرجه بالإسناد عن ابن عباس، عن خالد بن الوليد بن المغيرة. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن القعنبي. وأما مسلم (¬3): فعن يحيى بن يحيى. وأما أبو داود (¬4): فعن القعنبي جميعا عن مالك. وقال مسلم مرة: عن ابن عباس، عن خالد. ومرة: عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 737 رقم 10). (¬2) البخاري (5537). (¬3) مسلم (1945). (¬4) أبو داود (3794).

وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن كثير بن عبيد، عن محمد بن حرب، عن الزبيدي والزهري، عن أبي أمامة، عن ابن عباس، عن خالد. المحنوذ: المشوي، وهو محنوذ وحنيذ. وقيل. هو الذي يشوى على الرضف وهي الحجارة المحماة. وأهوى بيده إلى الشيء: مدها إليه. وعفت الشيء أعافه: إذا كرهته واستقذرته. والاجترار: الجذب والأخذ؛ وهو افتعال من: الجر السحب. وفي هذا الحديث من تأكيد إباحة أكل الضب ما لا خفي به، لأنه قال: أحرام هو؟ قال: "لا" وهذا صريح في النص، وأنه أكله بين يديه ولم ينكر عليه، وأنه ذكر علة امتناعه من أكله وهو: أنه لم يكن بأرض قومه، وإنما قال: فقالوا: هو ضب، لأنه كان في البيت ابن عباس وخالد وهما رجلان، فإذا اجتمع رجال ونساء غلب الرجال على النساء ولذلك لم يقل: فقلن. وإنما دخل ابن عباس وخالد بيت ميمونة لأنها خالتهما. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم وعبد المجيد وعبد الله بن الحارث، عن ابن جريج، عن عبد الله بن عبيد بن عمير [عن ابن أبي عمار] (¬2) قال: سألت جابر ابن عبد الله عن الضبع: أصيد هي؟ قال: نعم، فقلت: أتؤكل؟ قال: نعم، قلت. أسمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قد تقدم هذا الحديث في فصل الصيد من كتاب "الحج" وشرحناه هناك ونزيده ها هنا بيانًا. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وفي مسألة ابن أبي عمار جابرا: أصيد ¬

_ (¬1) النسائي (7/ 197 - 198). (¬2) من المسند (2/ 610).

هي؟ قال: نعم، ومسألته أتؤكل؟ قال: نعم. دليل على أن الصيد الذي نهى الله المحرم عن قتله ما كان يحل أكله من الصيد، وأنهم إنما يقتلون الصيد ليأكلوه لا عبثا بقتله، وفيه دلالة على إحلال ما كانت العرب تأكل ما لم ينص فيه خبر تحريم ما كانت تحرمه بما يعدوا على الناس، من قبل أنها لم تزل إلى اليوم تأكل الضبع والثعلب، وتأكل الضبع والأرنب وحمار الوحش، ولم تزل تدع أكل الأسد والنمر والذئب. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر قال: أطعمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر. حديث صحيح المتن، قال البيهقي: إلا أنه في هذه الرواية مرسل، فإن عمرو ابن دينار لم يسمعه من جابر إنما سمعه محمد بن علي بن الحسين، عن جابر. وقد أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن مسدد، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن محمد بن علي، عن جابر قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر، ورخص في لحوم الخيل. وأما مسلم (¬2): فعن يحيى بن يحيى وقتيبة، عن حماد، عن عمرو. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن سليمان بن حرب، عن حماد، عن عمرو. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن قتيبة ونصر بن علي، عن سفيان مرسلًا. قال الترمذي: كذا روى غير واحد عن عمرو، عن جابر. ¬

_ (¬1) البخاري (5520) (¬2) مسلم (1941). (¬3) أبو داود (3888). (¬4) الترمذي (1793) وقال: حسن صحيح.

قال: وروى حماد بن زيد، عن عمرو، عن محمد، عن جابر. ورواية ابن عيينة أصح. قال: وسمعت محمدا -يعني البخاري- يقول-: سفيان بن عيينة أحفظ من حماد بن زيد. وأما النسائي (¬1): فأخرجه عن قتيبة وأحمد بن عبدة، عن حماد، عن عمرو، عن محمد، عن جابر. وأخرجه عن قتيبة عن سفيان، عن عمرو، عن جابر. قوله: "أطعمنا" لم يرد أنه هو عمل لهم طعامًا من لحوم الخيل فأكلوا، إنما يريد أنه أذن في أكل لحوم الخيل فأكلناها، فهو الذي أطعمنا إياها أي: أباح لنا أكلها. ولحوم الحمر: يريد بها الأهلية، ويدل على ذلك في الموضعين روايات باقي الأئمة، فإن بعضهم قال: أذن لنا، وبعضهم قال: رخص لنا. والذي ذهب إليه الشافعي: أن لحوم الخيل حلال أكلها. وبه قال شريح والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: يكره كراهة يتعلق بها إثم، ولا نقول إنها محرمة وبه قال مالك. وأما لحوم الحمر الأهلية: فإنها حرام. وبه قالت الجماعة، وحكي عن ابن عباس أنه قال: هي حلال. وأما البغال: فإنها محرمة، وحكي عن الحسن أنه قال: هي حلال. ¬

_ (¬1) النسائي (7/ 201).

وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي: أخبرنا سفيان، عن هشام، عن فاطمة، عن أسماء قالت: نحرنا فرسًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. أما البخاري (¬1): فأخرجه عن إسحاق، عن عبدة. وعن قتيبة، عن جرير. وعن الحميدي، عن سفيان. وعن خلاد بن يحيى، عن سفيان. كلهم عن هشام بن عروة. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن ابن نمير، عن أبيه وحفص بن غياث ووكيع. وعن يحيى بن يحيى، عن أبي معاوية. وعن أبي كريب، عن أبي أسامة كلهم عن هشام. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن عيسى بن أحمد العسقلاني -عسقلان بلخ- عن ابن وهب، عن سفيان، عن هشام. هذا الحديث مؤكد لتحليل لحوم الخيل، وهو صريح في الدلالة لأنها قالت: نحرنا فرسًا فأكلناه، وفيه دليل على أن ما ذبح يجوز أن ينحر. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-: عن سفيان، عن عبد الكريم -أبي أمية- قال: أكلت فرسا في عهد ابن الزبير فوجدته حلوا. وأخبرنا الربيع قال: قال الشافعي -رضي الله عنه-: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن بني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي -كرم الله وجهه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عام خيبر عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية. ¬

_ (¬1) البخاري (5511، 5511، 5512). (¬2) مسلم (1942). (¬3) النسائي (7/ 227).

هذا حديث صحيح، وقد تقدم ذكره في كتاب النكاح [مشروحًا] (¬1). قال الشافعي -رضي الله عنه-: ففي هذا الحديث دلالتان -يعني فيما يتعلق بالخبر: إحداهما: تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، والأخرى: إباحة لحوم الحمر الوحشية، لأنه لا صنف من الحمر إلا أهلي أو وحشي، فإذا قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتحريم قصد الأهلي، ثم وصفه دل على أنه أخرج الوحشي من التحريم، مع أنه قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إباحة أكل حمر الوحش، أمر أبا بكر -رضي الله عنه- أن يقسم حمارًا وحشيًا قتله أبو قتادة بين الرفقة، وحدث أبو طلحة أنهم أكلوا معه لحم حمار وحشي. قال البيهقي: قوله: قتله أبو قتادة، زيادة وقعت في الكتاب أو حديث داخل في حديث، فإن الذي قتله أبو قتادة أتى به أصحابه وهم محرمون وهو غير محرم حتى أكلوا منه، والذي أمر أبا بكر بقسمته بين الرفاق وهو في حمار وحشي وجدوه عقيرًا في الروحاء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه" فجاء البهزي -وهو صاحبه- فقال: يا رسول الله، شأنكم بهذا الحمار، فأمر أبا بكر فقسمه بين الرفاق. وهذا الحديث مما لم يسمعه الربيع من الشافعي، ولو كان قرئ عليه لأمر -والله أعلم- بتغييره. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان، عن أبي إسحاق عن ابن أبي أوفى قال: أصبنا حمرًا خارجة من القرية يوم خيبر فنحرناها، فنادى منادي النبي - صلى الله عليه وسلم -[أن اكفؤوا القدور بما فيها فكفأناها وإن القدور لتغلي] (¬2). قال أبو إسحاق: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنما تلك حمر كانت تأكل القذر. ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) من المعرفة (14/ 102).

وقد أخرج في سنن حرملة أيضًا: عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أنس قال: جاءَ جاءٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال، أكلت [الحمر] (¬1)، ثم جاء في الثانية فقال: أكلت الحمر، ثم جاء في الثالثة فقال: أفنيت الحمر، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديًا فنادى في الناس: أن الله ورسوله ينهيانكم عن الحمر الأهلية فإنها رجس، قال: فكفئت القدور وإنها لتفور باللحم. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله سمع ابن عباس يخبر عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه". أخرجه البخاري (¬2): عن الحميدي، عن سفيان. ورواه الحجاج بن المنهال، عن سفيان وزاد فيه: وهو جامد. قال الشافعي -رضي الله عنه-: فدل أمره بأكل ما سواه -يعني في الجامد- على أن ما حولها ما لصق بها دون ما كان دونه مائل على اللصوق. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن حرام بن سعد بن محيصة، عن أبيه أنه استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إجارة الحجام فنهاه عنه، فلم يزل يسأله ويستأذن حتى قال: "اعلفه ناضحك ورقيقك". وفي نسخة: "أو رقيقك". هذا الحديث أخرجه مالك وأبو داود والترمذي. أما [مالك] (¬3) فأخرجه بالإسناد إلا أنه قال: عن ابن شهاب، عن ابن ¬

_ (¬1) من المعرفة (14/ 103). (¬2) البخاري (5538). (¬3) سقط عن الأصل والسياق يقتضيه، والحديث عند مالك في الموطأ (2/ 742 رقم 28).

محيصة أنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون الذي استأذن ابن محيصة وهو سعد، ولم يقل عن ابن شهاب؛ عن محيصة؛ عن أبيه كما أخرجه الشافعي عنه، وفي ذلك نظر لأنه قد رواه ابن شهاب عن سعد ابن محيصة، وإنما رواه الشافعي عن مالك، عن ابن شهاب، عن حرام، عن سعد. وإن كان عنى بابن محيصة حراما فنسبه إلى جده فلا يصح لأنه يكون قد قال: أن حرامًا استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحرام تابعي والرواية الأولى التي أخرجها الشافعي: عن سفيان فيها عن حرام بن سعد أن محيصة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون قد خالف رواية مالك، لأن الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اختلف فيه على ابن شهاب فجعله تارة: سعدًا، وتارة: ابن سعد، وتارة: محيصة. وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة. كليهما عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن محيصة، عن أبيه. وقد أخرج المزني: عن الشافعي، عن سفيان، عن الزهري [عن] (¬3) حرام بن سعد، عن محيصة، عن أبيه أن محيصة فذكر بنحوه. وأخرجه المزني أيضًا: عن الشافعي، عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعد بن محيصة، عن أبيه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه المزني أيضًا: عن الشافعي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن ابن محيصة -أحد بني حارثة- عن أبيه ... الحديث. الكسب: المعاش وطلب الرزق، وأصله الجمع، تقول: كسبت مالاً، ¬

_ (¬1) أبو داود (3424). (¬2) الترمذي (1277) وقال: حسن صحيح. (¬3) من المعرفة (14/ 113).

وكسبتُ زيدًا مالاً. وهذا الفعل أحد ما جاء على فعلته ففعل تقول: كسبته ما فكسب هو. والحجام: معروف وهو فعال من حجمت الرجل أحجمه فأنت حاجم، وحجام للكثرة، والاسم الحجامة، والمحجم -بالكسر-: القارورة التي للحجام. وقوله: "فلم يزل يكلمه" يريد: في المسألة منه والاستفسار عن الحكم فيه. والناضح: البعير الذي يستقي الماء، والأنثى ناضحة، وفلان يسقي بالنضح. والرقيق: اسم يقع على العبيد والإماء، وهو فعيل بمعنى مفعول من الرق أي: مرقوق ويقع على الواحد والجمع. وقوله: مع الرقيق "أطعمه" ومع الناضح: "اعلفه"، لأن الإطعام اسم عام يقع على كل من يأكل، وأما العلف فخاص يقع على الدواب، تقول: علفت الدابة أعلفها علفًا ساكنة اللام والاسم بالفتح، وقد تستعمل في غير الدواب قليلاً كما جاء في الرواية الثانية، قال: "اعلفه ناضحك ورقيقك"، إلا أنه لما أراد أن يجمع بينهما قدم ما هو أولى بالعلف وهو الدواب. والإجارة: فعالة من الأجرة وهي العوض من الانتفاع بالشيء المستأجر والذي ذهب إليه الشافعي: أن كسب الحجام حلال لا بأس به، ولا يحرم على الحر ولا على العبد. وحكي عن بعض أصحاب الحديث: أنه حلال للعبد حرام على الحر لهذا الحديث. وهو مئول على التنزه والكراهة لأنه من المكاسب الدنيئة ولأن حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى الحجام أجرته، قال: ولو كان حرامًا ما أعطاه، ولو كان حرامًا لم يجز للرقيق أكله لأن الحرام يستوي فيه الحر والعبد. قال الشيخ أبو حامد: يكره للحر سواء كسبه الحر أو العبد، ولا يكره للعبد

سواء كسبه حر أو عبد. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، أخبرنا حميد، عن أنس قال: حجم أبو طيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر له بصاع من تمر، وأمره أن يخفف عنه من خراجه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، عن حميد، عن أنس أنه قيل له: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: نعم، حجمه أبو طيبة فأعطأه صاعين، وأمر مواليه أن يخففوا عنه من ضريبته، وقال: "إن أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري لصبيانكم من العذرة ولا تعذبوهم بالغمز". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا النسائي. فأما مالك (¬1): فأخرج الرواية الأولى إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬2): فأخرج الأولى عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. والثانية: عن محمد بن مقاتل، عن عبد الله، عن حميد. وأما مسلم (¬3): فأخرج الأولى عن أحمد بن الحسن بن خراش، عن شبابة، عن شعبة، عن حميد. وأخرج نحو الثانية: عن ابن أبي عمر، عن مروان الفزاري. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن حميد. وذكر الثانية إلى قوله: "الحجامة". ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 742 رقم 26). (¬2) البخاري (2102، 5696). (¬3) مسلم (1577). (¬4) الترمذي (1278) وقال: حسن صحيح.

وأما أبو داود (¬1): فأخرج الأولى عن القعنبي، عن مالك. الصاع الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طيبة، وأجر حجامته، والخراج، وقد تقدم ذكره. وهو الخراج الذي كان يكون على عبيدهم يكسبون ويؤدونه كل يوم، أو كل شهر. وفي هذا من الفقه: حل كسب الحجام للعبد والحر، وجواز ضرب الخراج على العبيد وحله لمواليهم، لأنه لو لم يكن حلالًا لهم لما أمرهم بالتخفيف منه؛ ولكان منعهم عنه بالكلية. والضريبة والخراج سواء في المعنى كأنها قد ضربها عليه أي: أوجبها وألزمه إياها، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. والأمثل: الأجود والأفضل، تقول: فلان أمثل من فلان. والقسط: عقار معروف من عقار البحر. والعذرة: وجع يعرض في الحلق من غلبة الدم. والغَمْز والكبس بالإصبع، يريد: أن القسط ينفع من العذرة فداووهما به ولا تعذبوا صبيانكم بغمز حلوقهم فتؤلموهم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين. هكذا جاء في المسند ذكر الإسناد ولم يذكر المتن، وقد أخرجه المزني (¬2): عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة ومحمد بن سيرين، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأعطى الحجام أجره، ولو كان خبيثًا لم يعطه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال للحجام: "اشكموه". ¬

_ (¬1) أبو داود (3424). (¬2) انظر المعرفة (14/ 115).

هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن موسى ومعلى بن أسد، عن وهيب، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: احتجم وأعطى الحجام أجره واستعط. وفي أخرى: ولو يعلم كراهية لم يعطه. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر، عن عفان. وعن إسحاق بن إبراهيم، عن المخزومي، عن وهيب، عن ابن طاوس. مثل البخاري. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن خالد عن عكرمة، عن ابن عباس. وذكر رواية المزني. الخبيث: الحرام. والشكم: الجزاء، تقول منه: شكمته أشكمه شكمًا بالفتح، والاسم بالضم، فإذا كان العطاء ابتداء فهو الشكد بالدال عوض الميم. قال الأصمعي: الشكم والشكد: العطية، والاستعاط: افتعال من السعوط وهو ما يتداوى به في الأنف أسعطته فاستعط. واللام في قوله: "للحجام" لام أجل، أي: قال لأجل الحجام اشكموه، وليس القول منه واقعًا مع الحجام؛ وإنما هو مع أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أمره بعطاء الحجام أجرته، التقدير: وقال: اشكموا الحجام، فلما قدم الحجام على الفعل أدخل عليه اللام؛ لتخصيص أن الشكم راجع إليه ومخصوص به وزيادة في البيان. ¬

_ (¬1) البخاري (2278). (¬2) مسلم (1202). (¬3) أبو داود (3423).

قال الشافعي -رضي الله عنه-: وليس في شيء من هذه الأحاديث مختلف ولا ناسخ ولا منسوخ؛ فإنهم قد أخبروا قد رخص لمحيصة أن يعلفه ناضحه ويطعمه رقيقه، ولو كان حرامًا لم يجز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمحيصة أن يملك حرامًا ولا يعلفه ناضحه ويطعمه رقيقه، ورقيقه ممن عليه فرض الحلال والحرام، ولم يعط حجامًا على الحجامة إلا ما يحل له أن يعطيه وما يحل لمالكه ملكه. والمعنى في نهيه عنه وإرخاصه في أن يطعمه الناضح والرقيق: أنه من المكاسب دنيًّا وحسنًا، فكان كسب الحجام دنًّيا فأحب له تنزيه نفسه عن الدناءة لكثرة المكاسب التي هي أجمل منه، فلما زاده فيه أمره أن يعلفه ناضحه ويطعمه رقيقه تنزيهًا له ولا تحريمًا عليه. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن عبد الله بن ضمرة، عن علي -رضي الله عنه- قال: كسب الحجام من السحت. أورده فيما ألزم العراقيين من خلاف علي. قال: وليسوا يأخذون بهذا. قال: ونحن نروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أعطى الحجام أجره، ولو كان سحتًا لم يعطه إياه. وأخرج الشافعي: عن مالك، عن عمه أبي سهيل، عن أبيه أنه سمع عثمان ابن عفان يقول في خطبته: لا تكلفوا الصغير الكسب فإنكم متى كلفتموه الكسب سرق، ولا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة الكسب، فإنكم متى كلفتموها الكسب كسبت بفرجها. والله أعلم. ***

كتاب السبق والرمي

كتاب السبق والرمى أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن أبي فديك، [عن ابن أبي ذئب] (¬1)، عن نافع بن أبي نافع، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا سبق إلا في نصل أو حافر أو خف". وأخبرنا الشافعي: عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن عباد بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا سبق إلا في حافر أو خف". هذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. فأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن ابن أبي ذئب. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن إسماعيل بن مسعود، عن خالد، عن ابن أبي ذئب. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن أبي كريب، عن وكيع، عن ابن أبي ذئب. السَبَق بفتح الباء: الجعل الذي يقع السباق عليه، وبسكونها المصدر سبقت أسبق سبقًا، قالوا: والرواية الصحيحة في هذا الحديث بالفتح، يريد: أن الجعل والعطاء لا يستحق إلا في هذه الأشياء، ويجوز بالسكون أي: لا يسابق إلا بين هذه الأشياء المثلثة. والنصل: يريد به: السهم، فكنى عنه ببعضه لأن النصل: الحديدة التي ¬

_ (¬1) من الأم (4/ 229). (¬2) أبو داود (2574). (¬3) النسائي (6/ 226 - 227). (¬4) الترمذي (1700) وقال: حسن.

تجعل في السهم. فأما الخف: فإنه يريد به: الإبل. والحافر يريد به: الخيل، فكنى ببعض أعضائه عنها. وهذا على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أي: ذو نصل، وذو خف، وذو حافر. وقوله: "لا سبق" بالنفي العام المشتمل على معنى النهي؛ فيه دليل على حصر السبق في هذه الأشياء الثلاثة، وأنه لا يجوز أن يسابق بين غيرها. هذا في الرواية الأولى. وقد أسقط النصل في الرواية الثانية: فلأن حقيقة السباق إنما يكون بن ذوات الروح كالخيل والإبل، وما من شأنه أن يعدو ويسبق الآخر، وإن كان استعمال هذا المعنى في غير الحيوانات؛ فإنما هو على سبيل المجاز والاتساع، فذكر في الرواية الثانية ما هو حقيقة في بابه؛ وأضاف في الأولى إليه ما هو مجاز في بابه، ويجوز أن يكون قد قال أحد الحديثين فحصر الحديث الجائز في الحافر والخف وأضاف إليه النصل (¬1). قال أهل اللغة: النصل في الرمي، والرهان في الخيل، والسباق فيهما. وتفصيل المذهب: أن السهام عبارة عن النشاب والنبل، وقد أضيف إليهما كل ما ينكأ العدو نكايتهما كالمزراق (¬2) والمروتين، والرمح والسيف. وقال قوم: لا يجوز إلا بهما. وبه قال أحمد. والأول أولى لاشتراكهما في أن لها نصلاً، والخبر إنما قال: "نصل" ولم يفصل. ¬

_ (¬1) وضع فوقها علامة إلحاق وكتب في الحاشية: السهم. (¬2) قال أبو عبيد في السلاح ص21: المزراق، مازُرق به رزقًا وهو أخف من العنزة.

وأما الخف: فيجوز المسابقة على الإبل وفي الفيل خلاف. وأما الحافر: فالذي نقله المزني عنه: أنه الخيل خاصة. وقال غير المزني: الحافر: الخيل والبغال والحمير. فالمسألة على قولين عند بعضهم، والمنصوص الجواز عليهما لعموم الخبر في الحافر. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبَّق بين الخيل التي أضمرت. هكذا جاء في المسند. وقد أخرج المزني، عن الشافعي بهذا الإسناد أنه سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء، فكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق. وأخرج المزني أيضًا: عنه، عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر. وذكر نحو الثانية. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬1): فأخرج رواية المزني وزاد في آخرها: وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق. وأما البخاري (¬2): فأخرجه عن عبد الله بن محمد، عن معاوية، عن أبي إسحاق، عن موسى بن عقبة، عن نافع وزاد في حديثه: فقلت لموسى: وكم بين ذلك؟ فقال: ستة أميال أو سبعة. وقال في غير المضمرة: ميل أو نحوه. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن يحيى بن يحيى التميمي، عن مالك. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 372 رقم 45). (¬2) البخاري (2870). (¬3) مسلم (1870).

وأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن محمد بن الوزير، عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان [عن] (¬3) عبيد الله بن عمر، عن نافع. وأما النسائي (¬4): فأخرجه عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك. قوله: "سبق" هكذا جاء في هذه الرواية بالتشديد وهو بمعنى سابق. قال: الأزهري: يقال: سبق: إذا أخذ السبق، وإذا أعطى السبق فهذا من الأضداد. قال: تقول العرب للذي يسبق من الخيل: سابق وسبوق، وإذا كان يسبق فهو مسبق، قال الفرزدق:- من المحرزين المجد يوم رهانه ... سبوق إلى الغايات غير مسبق فعلى هذا يكون معنى سبق بين الخيل: أي طلب أيها يكون مسبقا أي: مسبوقًا، وهذا أيضًا موجود في سابق، فإن المسابقة إنما تراد ليعلم السابق من المسبوق. والضُمْرُ والضُمُرُ مثل: العسر والعسر: الهزال وخفة اللحم وقد ضمر الفرس بالفتح يضمر ضمورًا، وضمر -بالضم- لغة فيه، وأضمرته أنا فضمرته تضميرًا فأضمر هو، وتضمير الفرس قيل: هو أن يعلفه حتى يسمن ثم يرده إلى القوت وذلك في أربعين يومًا، وهذه المدة تسمى المضمار، والموضع الذي يضمر فيه الخيل يسمى أيضًا: مضمارًا. ¬

_ (¬1) أبو داود (2575). (¬2) الترمذي (1699) وقال: صحيح حسن غريب. (¬3) من الترمذي، وتحفة الأشراف (6/ 136). (¬4) النسائي (6/ 226).

قال الأزهري: الضمر من الهزال ولحوق البطن. قال: والضمار: الموضع الذي يضمر فيه الخيل فيه، وقد يكون للضمار وقتًا للأيام التي يضمر فيها الخيل للسباق، أو الركوض إلى العدو. قال: وتضميرها: أن يشد عليها سروجها ويجلل بالأجلة حتى تعرق تحتها؛ فيذهب رهلها ويشتد لحمها؛ ويحمل عليها غلمان خفاف يجرونها البردين بكرة وعشية ولا يعنفون بها، فإذا أضمرت واشتدت لحومها أمن عليها القطع عند حضرها ولم يقطعها الشد. فذلك التضمير الذي يعرفه ويسمونه مضمارًا وتضميرًا. والله أعلم. وقد أخرج المزني: عن الشافعي، عن عبد الوهاب، عن حميد، عن أنس قال: كانت ناقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسمى العضباء وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما في وجوههم فقالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبقت العضباء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حق على الله أن لا يرفع شيئًا من الدنيا إلا وضعه". وأخرج المزني عنه أيضًا: عن سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: سابقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبقته، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني. كذا رواه ابن عيينة، عن هشام، عن أبيه. وخالفه أبو أسامة فرواه عن هشام، عن رجل، عن أبي سلمة، عن عائشة. والله أعلم. ***

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: لغو اليمين قول الإنسان: لا والله، وبلى والله. هكذا أخرجه في كتاب خلاف مالك (¬1)، وأخرجه في كتاب "الأيمان" عن سفيان، عن عمرو [عن] (¬2) ابن جريج، عن عطاء قال: ذهبت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة [وهي] (2) معتكفة [في] (2) بثير فسألناها عن قول الله -تعالى- {لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ}؟ قالت: هو لا والله، وبلى والله. هذا حديث صحيح، أخرجه مالك والبخاري وأبو داود. فأما مالك (¬3): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬4): فأخرجه عن ابن المثنى، عن يحيى، عن هشام بالإسناد قلت: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُمْ} (¬5) قالت: هو لا والله، وبلى والله. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن حميد بن مسعدة، عن حسان بن إبراهيم، عن إبراهيم، عن عطاء [في] (¬7) اللغو في اليمين قال: قالت عائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال:] (7) هو كلام الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله. قال أبو داود: روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ موقوفًا على عائشة، وكذلك رواه الزهري وعبد الملك بن أبي سليمان ومالك بن مغول كلهم عن عطاء، عن عائشة موقوفًا. ¬

_ (¬1) الأم (7/ 242). (¬2) من الأم (7/ 63). (¬3) الموطأ (2/ 379 رقم 9). (¬4) البخاري (6663). (¬5) البقرة: [225]. (¬6) أبو داود (3254). (¬7) من أبي داود.

وقال مالك بن أنس: أحسن ما سمعت في ذلك: أن اللغو حلف الإنسان في الشيء يستيقن أنه كذلك ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه. قال: والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب، ليرضي به أحدًا، أو يعتذر لمخلوق، أو يقتطع به مالاً فهذا أعظم [من] (¬1) أن تكون فيه كفارة. قال: وإنما الكفارة على من حلف ألا يفعل الشيء المباح له فعله ثم يفعله أو يفعله ثم لا يفعله، مثل: إن حلف لا يبيع ثوبه بعشرة دراهم ثم يبيعه بذلك، أو حلف ليضربن غلامه ثم لا يضربه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: اللغو في لسان العرب: هو الكلام غير المعقود عليه فيه، وما وقع منه من غير قصد. قال: فكانت عائشة أولى أن تتبع لأنها أعلم باللسان مع علمها بالفقه. وقال أبو حنيفة: لغو اليمين: هو الحلف على الماضي من غير أن يقصد الكذب في يمينه. وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وحكى أصحاب مالك عنه أنه قال: هي اليمين الغموس. فعلى ما قلناه من مذهب الشافعي؛ أن اللغو في اليمين يقع على الماضي، والمستقبل، وما جرى على لسانه من غير قصد؛ إلا أن يكون بالطلاق أو العتاق؛ فيلزمه في الحكم ولا يقبل قوله أنه لم يقصد ذلك. وقد أخرج الشافعي في كتاب حرملة (¬2): عن سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع سمع ابن عمر يقول: أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر في بعض أسفاره وهو يقول: وأبي، وأبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ينهاكم أن ¬

_ (¬1) من الموطأ (2/ 380). (¬2) المعرفة (14/ 156).

تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". وأخرجه الربيع عنه بإسناده مثله، وهو حديث صحيح. وأخرجه أيضًا الربيع: عن الشافعي، عن سفيان، عن الزهري قال: أخبرني سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -[عمر] (¬1) يحلف بأبيه فقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، قال عمر: والله ما حلفت بها بعد ذاكرا ولا آثرا. معنى آثرا: أي: حاكيًا وراويًا عن أحد أنه حلف بأبيه. وأخرج المزني (¬2): عن الشافعي، عن سفيان [عن] (¬3) أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف بيمين فقال: إن شاء الله، فقد استثنى". رواه وهيب بن خالد وعبد الوارث وحماد بن سلمة وابن علية، عن أيوب مرفوعًا، ثم شك أيوب في رفعه فتركه. قاله حماد بن زيد: ورواه مالك وموسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا. وأخبرنا الشافعي قال: أخبرني عبد الله بن مؤمل، عن ابن أبي مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس من الطائف في جارتين -وفي نسخة جاريتين- ضربت إحداهما الأخرى ولا شاهد عليها؟ وكتب إليَّ: احبسهما بعد العصر ثم اقرأ عليهما: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (¬4)، ففعلت، فاعترفت. هذا الحديث مسوق لبيان تغليظ اليمين بالزمان، وأن حكم النساء فيه حكم الرجال، وتغليظ اليمين يكون بأربعة أشياء: بالزمان، والمكان، واللفظ، والعدد: ¬

_ (¬1) من المعرفة (14/ 156). (¬2) معرفة السنن المأثورة (105). (¬3) من السنن المأثورة. (¬4) آل عمران: [77].

فأما تغليظ الزمان: فهو أن يؤخر الاستحقاق لها بعد صلاة العصر أخذًا بقوله -تعالى-: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ}، جاء في التفسير أنها صلاة العصر، ومعنى الحبس: الصبر والتأخير. وفيه من الفقه: أن المتداعيين إذا لم يكن لكل واحد منهما بينة فإنهما يتحالفان. وقوله: "اقرأ عليهما الآية" فيه تخويف وتحذير من اليمين الفاجرة، والحلف على الباطل، ولذلك لما خوفها بالآية اعترفت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن [هاشم بن] (¬1) هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، عن عبد الله بن نسطاس، عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة؛ تبوأ مقعده من النار". هذا الحديث أخرجه مالك وأبو داود. فأما مالك (¬2): فأخرجه بالإسناد قال: "من حلف على منبري آثما تبوأ مقعده من النار". وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن نمير، عن هاشم ابن هاشم بالإسناد. وذكر الحديث وزاد فيه بعد قوله: "آثمة ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعده من النار أو وجبت له النار". أثم الرجل يأثم إثمًا فهو آثم، وأثيم وأثوم: إذا أذنب، الإثم الذنب. وقوله: "بيمين آثمة" هذا على طريق المجاز، وإنما الآثم الحالف ولكن لما كانت اليمين الكاذبة هي سبب إثم الحالف بها، جاز أن يوصف بها مجازًا، تقول: ليل نائم، ونهار صائم. ويدل على ذلك رواية مالك: "من حلف على ¬

_ (¬1) من الأم (7/ 36) والمعرفة (14/ 299). (¬2) الموطأ (2/ 558 - 559 رقم 10). (¬3) أبو داود (3246).

منبري آثما" فجعل الإثم صفة للحالف وهو نصب على الحال، فمعنى قوله: "بيمين آثمة" أي: بيمين كاذبة. والتبوء: اتخاذ الموضع منزلاً، من المباءة المنزل، تقول: تبوأت هذه الدار منزلاً، أي: اتخذها مقامًا. والمقعد: موضع القعود. وفي ذكر المنبر نهاية في تأكيد اليمين، لأنا قد قلنا: إن تغليظ اليمين يكون بالزمان، والمكان، واللفظ، والعدد. والزمان تقدم ذكره. وأما المكان: فإن كان بمكة: فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة: فعلى منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عنده. عملًا بالروايتين، فإن رواية مالك: "على المنبر"، ورواية أبي داود: "عند المنبر"، وإن كان ببيت المقدس: فعند الصخرة، وإن كان فيما عدا ذلك من البلاد: ففي جوامعها، وعند المنبر وغيره سواء. وقال أبو حنيفة: لا تغلظ في الزمان والمكان. وقال مالك (¬1): لا أرى أن يحلف أحد على المنبر على أقل من ربع دينار وذلك ثلاثة دراهم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن داود بن الحصين أنه سمع أبا غطفان بن طريف المُري قال: اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع إلى مروان بن الحكم في دار، فقضى باليمين على زيد بن ثابت على المنبر، فقال زيد: أحلف له مكاني، فقال مروان: لا والله، إلا عند مقاطع الحقوق، فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ويأبى أن يحلف على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك. قال مالك: كره زيد صبر اليمين.

هذا حديث صحيح، أخرجه مالك (¬1) بالإسناد المذكور في الموطأ، وزاد في ذكر مروان: وهو أمير المؤمنين على المدينة. وأخرج البخاري هذا الحديث في ترجمة باب من كتاب اليمين. قوله: "عند مقاطع الحقوق" يريد: مفاصلها؛ والموضع الذي يبت أمرها عنده ويقطع الحكم فيها لديه؛ وذلك لأنه مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والموضع الذي كان يحلف فيه الناس. وأما امتناع زيد من الحلف على المنبر: فيشبه أن يكون تعظيمًا لشأنه، وهربًا من التسرع إلى اليمين عليه، خوفًا أن يصادف ذلك قضاء فيظن أنه كذب في يمينه، فحلف به القضاء حيث حلف على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان يعلم أن اليمين على المنبر تغليظ لها وليس بواجب عليه، ومروان كان يظن ذلك أو يراه واجبًا, ولم يكن تنبه لغرض زيد في امتناعه، وهو ما ذكرناه من تعظيم أمر المنبر وخوفه، فلذلك كان يعجب من امتناعه لأنه أمر خفي عليه سببه، وقد قال مالك في آخر الحديث: كره زيد صبر اليمين، أي: حبسه ووقوفه لها وإلزامه بها في هذا الموضع الشريف بمشهد من الناس، فإن طلوعه إلى المنبر وحلفه عليه يشهد من أمره ما كان يخفى على أكثر الحاضرين؛ ويراه من لم يره لو حلف مكانه، تقول: صبر الحاكم فلانًا على اليمين، أي ألزمه بها ووقفه في مكانه ليحلف بها. وقد أخرج الشافعي -رضي الله عنه-: عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله". قال ابن شهاب: ولم يبلغني أنه ذكر وضوءًا. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 559 رقم 12).

أخرجه الشافعي في باب: ما ينقض الوضوء (¬1)، قال: لا وضوء من كلام وإن عظم ولا ضحك في صلاة ولا غيرها، واحتج بهذا الحديث. وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري (2) ومسلم (¬3). أراد بالكلام العظيم: الحلف باللات والعزى. وأخرج المزني: عن الشافعي، عن سفيان، عن جامع بن أبي راشد وعبد الملك بن أعين سمعا أبا وائل يخبر عن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان"، ثم قرأ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - من كتاب الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ...} (¬4) الآية. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬5) ومسلم (¬6). وأخرج المزني أيضًا: عن الشافعي، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن معبد بن كعب [عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك] (¬7)، عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتطع حق مسلم بيمينه، حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار"، قالوا: وإن كان [شيئًا] (8) يسيرا يا رسول الله؟ قال: "وإن كان قضيبًا من أراك" قالها ثلاثا. وفي أخرى: عن ابن عيينة، عن محمد بن إسحاق، عن معبد وقال: "من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان"، قيل: يا رسول الله، وإن كان [شيئًا] (¬8) يسيرا؟ قال: "وإن كان سواكا من أراك". حديث صحيح، أخرجه مسلم (¬9). ¬

_ (¬1) الأم (1/ 21). (¬2) البخاري (6650). (¬3) مسلم (1647). (¬4) آل عمران: [77]. (¬5) البخاري (7445). (¬6) مسلم في الأيمان (224). (¬7) السنن المأثورة (545). (¬8) من السنن المأثورة (443). (¬9) مسلم كتاب الأيمان (8/ 2).

وأخبرنا الشافعي -رضي الله عنه-، أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: من حلف على يمين فوكدها، فعليه عتق رقبة. أورده الشافعي في كتاب خلاف مالك، فيما ألزم أصحابه من خلاف ابن عمر، وهو طرف من حديث قد أخرجه مالك في الموطأ (¬1) بالإسناد أن ابن عمر كان يقول: من حلف بيمين فوكدها ثم حنث فعليه: عتق رقبة، أو كسوة عشرة مساكين، ومن حلف بيمين فلم يؤكدها ثم حنث فعليه: إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وفي أخرى: أنه يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة، وكان يعتق المراد إذا وكد اليمين. قوله: "من حلف على يمين" يريد بيمين فأقام على مقام الباء، أو أنه سمى المحلوف عليه -يمينًا مجازًا. والحنث: نقض اليمن وفعل ما حلف أن لا يفعله، أو ترك ما حلف أن يفعله. وتأكيد اليمين: تحقيقها والجزم بها وعقد القلب عليها، وذلك بخلاف لغو اليمين. والذي ذهب إليه الشافعي في كفارة اليمين: أنها كفارة مخيرة بين: الإطعام، والعتق فإن لم يجد واحدًا منهما عدل إلى الصوم وليس في الكفارات ما جمع بين التخيير والترتيب؛ إلا كفارة اليمين والكفارة التي تجب بنذر اللجاج، وتحريم الزوجة. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 381 رقم 12).

كتاب النذور

كتاب النذور أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يطيع الله -تعالى- فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله -تعالى- فلا يعصه". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن أبي نعيم. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن القعنبي. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن قتيبة. كلهم عن مالك. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن الحسن الخلال، عن عبد الله بن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن طلحة بن عبد الملك. والذي ذهب إليه الشافعي: أن النذر على ضربين:- نذر لجاج وغضب، ونذر طاعة وبر. فأما نذر اللجاج: فهو أن يخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه أو غيره بالنذر شيئًا أو يحثها على شيء، مثل أن يقول: إن كلمت زيدًا فعلي كذا وكذا، وإن دخلت الدار فمالي صدقة. وهذا يسمى نذر اللجاج، وهو مخير فيه: بين أن يفي بما أوجب على نفسه، وبين أن يكفر كفارة يمين. ومن أصحاب الشافعي من يقول: الواجب الكفارة. ¬

_ (¬1) البخاري (6696). (¬2) أبو داود (3289). (¬3) النسائي (7/ 17). (¬4) الترمذي (1526) وقال: حسن صحيح.

والمذهب الأول، وروي مثله عن عمر وابن عباس وعائشة وحفصة وأم سلمة، وإليه ذهب طاوس والحسن البصري وعبيد الله بن الحسن العنبري وشريك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: تلزمه الصدقة بالمال، وإن كان غير المال لزمه فعله. وقال مالك: يلزمه أن يتصدق بثلث ماله. وإليه ذهب الزهري. وقال ربيعة: يلزمه أن يتصدق من ماله بقدر الزكاة. وفيه أقوال للعلماء غير هذا. وأما نذر الطاعة والبر فضربان:- أحدهما: ما لزم نفسه في مقابلة نعمة استجلبها أو نقمة استدفعها، مثل أن يقول: إن شفى الله مريض فلله علي كذا وكذا، وإن قدم غائبي فلله على كذا وكذا، فمتى اندفع ما استدفعه، أو وجد ما استجلبه لزمه ما ألزم نفسه. والضرب الثاني: ما يلزمه بغير عوض، مثل أن يقول: لله علي أن أتصدق بكذا وكذا، أو أصلي كذا وكذا، ظاهر المذهب أنه يلزمه، وبه قال أهل العراق. وحكى عن بعض أصحاب الشافعي أنهم قالوا: لا يلزمه شيء. وأما نذر المعصية: فلا يلزمه شيء من الوفاء به ولا ببعضه. وحكى الربيع: أنه يلزمه به كفارة يمين. قال أصحاب الشافعي: هذا من كيس الربيع وليس بمذهب الشافعي. وقال مالك بقول الشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا نذر في معصية فكفارته كفارة يمين، واستدلوا بحديث الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا

نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". وهذا الحديث لو صح لكان القول به واجبًا، والضمير إليه لازما إلا أن أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب، وهم فيه سليمان بن أرقم فرواه عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة فحمله عنه الزهري وأرسله عن أبي سلمة ولم يذكر فيه سليمان بن أرقم ولا يحيى بن أبي كثير، والحديث فيما قاله أحمد بن حنبل حديث ابن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن الزبير، عن أبيه، عن عمران بن حصين. ومحمد بن الزبير هو الحنظلي، وأبيه مجهول لا يعرف، فالحديث من طريق الزهري مقلوب، ومن هذا الطريق فيه رجل مجهول والاحتجاج به ساقط. قال الشافعي -رضي الله عنه-: ومن نذر نذرا في معصية لم يكن عليه قضاؤه ولا كفارة، وذلك أن يقول: لله علي إن شفى فلانًا أن أنحر ابني، أو أفعل كذا، من الأمر الذي لا يحل له أن يفعله. قال: وإنما أبطل الله النذر في البحيرة والسائبة لأنها معصية؛ ولم يكن في ذلك كفارة وبذلك جاءت السنة، ثم ذكر حديث عائشة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة وعبد الوهاب بن عبد المجيد، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن أبي قلابة، عن عمران بن حصين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم". قال الشافعي -رضي الله عنه-: وكان في حديث عبد الوهاب بهذا الإسناد أن امرأة من الأنصار نذرت وقد هربت على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول، فأخذ ناقته ولم يأمرها بأن تنحر مثلها ولا تكفر. قال: فبذلك نقول أن من نذر تبررًا أن ينحر مال غيره، فهذا نذر فيما لا يملك فالنذر ساقط عنه. والله أعلم.

وقد تقدم في باب الجهاد حديث عمران بن حصين بطوله، الذي هذا القدر طرف منه يتعلق بالنذر فذكرناه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بأبي إسرائيل وهو قائم في الشمس، فقال: "ما له"؟ فقالوا: نذر أن لا يستظل، ولا يقعد، ولا يكلم أحدًا، ويصوم، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستظل، ويقعد، ويكلم الناس، ويتم صومه ولم يأمره بكفارة". هذا حديث صحيح، أخرجه الشافعي هكذا مرسلاً، وقد أخرجه مالك والبخاري وأبو داود. أما مالك (¬1): فأخرجه منقطعًا عن حميد بن قيس وثور بن زيد الديلي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وأحدهما يزيد في الحديث على صاحبه وذكر نحوه. وأما البخاري (¬2): فأخرجه مسندًا عن موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني مرسلًا. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه مسندًا بإسناد البخاري. قد تضمن نذر هذا الرجل أمرين: نذر طاعه، ونذر معصية، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء بما كان منهما طاعة وهو الصوم، وأن يترك ما ليس بطاعة من: القيام في الشمس، وترك الكلام، والقعود. وذلك لأن هذه الأمور شاقة تتعب البدن وتؤذيه، وليس في شيء منها قربة إلى الله -سبحانه- وقد وضعت عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم. وقد أخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان، عن أبي الزناد، عن ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 378 رقم 6). (¬2) البخاري (6704). (¬3) أبو داود (3300).

الأعرج، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعن ابن عجلان، عن ابن المقبري (¬1)، عن أبي هريرة -يزيد أحدهما على صاحبه- قال: قال الله -تبارك وتعالى-: "إن النذر لا يأتي على ابن آدم شيئًا لم أقدره عليه [وإنما هو شيء أستخرج به من البخيل يؤتيني عليه] (¬2) ما لا يؤتيني على البخل". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬3) ومسلم (¬4). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عروة بن أذينة قال: خرجت مع جدة لي عليها مشي إلى بيت الله، حتى إذا كانت ببعض الطريق عجزت فسألت عبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر: مرها فلتركب ثم تمشي -وفي رواية: ثم لتمش من حيث عجزت. قال مالك: وعليها هدي. هذا حديث صحيح، أخرجه مالك (¬5) في الموطأ بالإسناد إلا أنه قال: فأرسلت مولى لها يسأل ابن عمر فخرجت معه، فسأل ابن عمر فقال: مرها وذكر الحديث. قوله: "عليها مشي" يريد: أنها نذرت أن تمضي إلى بيت الله -تعالى- ماشية. والذي ذهب إليه الشافعي -رضي الله عنه- إن نذر المشي إلى بيت الله الحرام انعقد نذره. ¬

_ (¬1) كذا في الأصل وفي المعرفة (14/ 203): [المقبري]. (¬2) من المعرفة (14/ 203). (¬3) البخاري (6694). (¬4) مسلم (1640). (¬5) الموطأ (2/ 377 رقم 4).

وفي لزوم المشي قولان بناء على أن الأفضل هو الركوب أو المشي؟ قال ذلك الغزالي. وقال ابن الصباغ: يلزمه أن يمشي إليه حاجًا أو معتمرًا، لأن المشي ليس بقربة إلا أن يكون للحج أو العمرة، فإذا أطلقه حُمِل على المعهود الشرعي ولزمه أن يأتيه ماشيًا، والمشي إلى العبادة أفضل، فإن ركب فلا يخلو أن يكون من عذر أو من غير عذر، فإن كان من غير عذر فقد أساء وعليه دم، وإن كان من عجز فله الركوب؛ وفي وجوب الدم عليه قولان. وحكى الغزالي عن الشافعي قال: لو ركب في بعض الطريق ومشى في بعض، قال الشافعي: مشى حيث ركب وركب حيث (¬1). قال: وهذا تفريع على لزوم القضاء، فكأنه وقع الحج الأول عنه وبقي المشي الواجب، فلم يمكن قضاؤه مفردًا فقضى بالحج له وكفاه بعض المشي لذلك، وهذا معنى قوله: مرها فلتركب، ثم تمشي من حيث عجزت، يريد: مشيها في القضاء. والله أعلم. ... ¬

_ (¬1) من المعرفة (14/ 209) وانظر تمام العبارة هناك.

كتاب القضاء وما يتعلق به من: آداب القاضي، والدعاوي، والبينات والشهادات.

كتاب القضاء وما يتعلق به من: آداب القاضي، والدعاوي، والبينات والشهادات. وفيه ستة فصول:- الفصل الأول في آداب القضاء أخبرنا المزني في الجامع (¬1): عن الشافعي قال: أخبرنا الثقة، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جعل قاضيًا فقد ذبح بغير سكين" هذا لما فيه من الخطر، ولذلك كره من كره التسرع إلى طلبه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحكم الحاكم - ولا يقضي القاضي- بين اثنين وهو غضبان". هكذا أخرجه في كتاب "أحكام القرءان"، وعاد أخرجه في كتاب "أدب القاضي" (¬2) بالإسناد وقدم ذكر القضاء على الحكم. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬3): فأخرجه عن آدم، عن شعبة، عن عبد الملك، عن عبد الرحمن قال: كتب أبو بكرة إلى ابنه -وكان بسجستان-: أن لا تقض بين ¬

_ (¬1) انظر المعرفة (14/ 221). (¬2) الأم (6/ 199). (¬3) البخاري (7158).

اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان". وأما مسلم (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن أبي عوانة. وعن يحيى بن يحيى، عن هشيم. وعن شيبان، عن حماد بن سلمة. وعن أبي بكر، عن وكيع، عن سفيان. وعن ابن المثنى، عن غندر. وغير هؤلاء كلهم عن عبد الملك بن عمير. وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن عبد الملك. وأما الترمذي (¬3) والنسائي (¬4): فأخرجاه عن قتيبة، عن أبي عوانة، عن عبد الملك. والذي جاء في روايات هذا الحديث على اختلافها، بحكم الحاكم أو لا يقضي بالشك، وجاء في رواية أخرى: "لا يحكم الحاكم ولا يقضي" فجمع بينهما. وجاء في رواية أخرى: "لا يقضي القاضي" بغير شك، فأما الشك فإنما يكون الراوي الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحاكم أو القاضي" والمعنى فيهما سواء. فأما الجمع بين اللفظين وإن كان القاضي والحاكم في أصل الوضع بمعنى، وهو: من يمضي الحكم على الناس وينفذ أمره، فإن الاستعمال وكثرته قد خصص اسم القاضي [لمن] (¬5) ينتصب لفصل الأحكام الشرعية، كالنكاح، ¬

_ (¬1) مسلم (1717). (¬2) أبو داود (3589). (¬3) الترمذي (1334) وقال: حسن صحيح. (¬4) النسائي (8/ 237 - 238). (¬5) أثبتها لاحتياج السياق إليها.

والطلاق، والبيع، والشراء، والديون، والدعاوى، والبينات، وإثبات السجلات، وبقي اسم الحاكم مشتركًا بين القضاء والإمارة، فإذا قيل: فلان قاضي البلد، فلا يراد به السلطان والأمير، وإذا قيل: حاكم البلد، أجاز العرف والاستعمال إضافته إلى كلا الرجلين. والله أعلم. والشافعي -رحمه الله- استدل بهذا الحديث على تثبت الحاكم في حكمه قال: قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1) الآية، فأمر الله من يمضي أمره على أحد من عباده، أن يكون متثبتا قبل أن يمضيه، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحكم خاصة أن لا يحكم الحاكم وهو غضبان، لأن الغضب مخوف على أمرين:- أحدهما: قلة التثبت، والآخر: أن الغضب قد يتغير معه العقل، ويقدم به صاحبه على ما لم يقدم عليه لو لم يكن غضب. وتفصيل المذهب: أنه يكره للقاضي أن يقضي وهو غضبان، وكل ما هو جاري مجرى الغضب فله حكمه مثل: الجزع الشديد، والعطش الشديد، والهم الشديد، والفزع الشديد، ومدافعة الأخبثين لأن هذه الأشياء تمنع التثبت في الحكم، وإن حكم في هذه الأحوال نفذ حكمه. وأخرج الشافعي في القديم: عن مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمني كلمات أعيش بهن، ولا تكثر علي فأنسى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تغضب". هكذا جاء مرسلًا عن مالك، ورواه معمر، عن الزهري، عن حميد، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البخاري (¬2) من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة. ¬

_ (¬1) [الحجرات: 6]. (¬2) البخاري (6116).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن الزهري قال: قال أبو هريرة: ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: وقال الله -عز وجل-: {وأمرُهُم شُورَى بينهُمْ} (¬1). قال: وقال الحسن: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مشاورتهم لغنيا, ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده. قال: وإنما أمر به -يعني الحاكم- بالمشورة: لأن المشير ينبهه لما يغفل، ويدله من الأخبار على ما لعله أن يجهله، فأما أن يقلد مستنيرًا فلم يجعل الله هذا لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبيان تفصيل المذهب: أن الحاكم إذا أراد أن ينفذ حكمًا ثابتًا بالكتاب والسنة والإجماع لم يحتج فيه إلى المشاورة، وإن كان حكمًا بالاجتهاد فيستحب له أن يشاور اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ومن بعدهما من الأئمة، ولا يشاور إلا أمينًا، عالمًا بالكتاب والسنة والآثار، وأقاويل الناس، ولسان العرب، ولا يقبل منه وإن كان أعلم منه حتى يعلم كعلمه. والشورى: مصدر بمعنى التشاور، والتقدير: وأمرهم بينهم ذو شورى. ... ¬

_ (¬1) الشورى: [38].

الفصل الثاني في اجتهاد الحاكم

الفصل الثاني في اجتهاد الحاكم أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن [يزيد] (¬1) بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس -مولى عمرو بن العاص- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن الهاد. فحدث بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة ابن عبد الرحمن، عن أبي هريرة. هكذا أخرجه في كتاب "الرسالة" (¬2) عند ذكر الاجتهاد، وعاد أخرجه في كتاب "جماع العلم" إسنادًا ولفظًا. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود. فأما البخاري (¬3): فأخرجه عن عبد الله بن يزيد، عن حيوة، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد بالإسناد. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن عبد العزيز. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن عبيد الله بن عمرو بن ميسرة، عن عبد العزيز. ¬

_ (¬1) في الأصل [ابن زيد] وهو تصحيف والتصويب من الأم (7/ 278) والمعرفة (14/ 231). (¬2) الرسالة (1409، 1410). (¬3) البخاري (7352). (¬4) مسلم (1716). (¬5) أبو داود (3574).

الاجتهاد: افتعال من الجهد: الوسع والطاقة، أي أنه أعمل فكره ووسعه في الوقوف على حقيقه هذه الحال؛ التي يريد فصلها والحكم فيها. ومنه المجتهد: وهو العالم الذي يجتهد في [الأحكام] (¬1) العامة والخاصة، فاسم المجتهد المطلق لا يراد به إلا: الناظر في الأحكام الكلية والجزئية من أحكام الشرع أصلاً وفرعًا. والمجتهد الخاص: هو الناظر في مسألة بعينها على الخصوص. وقوله: "فأصاب" يريد: وجد الحق الذي طلبه باجتهاده، ولذلك قابله بالخطأ الذي هو ضد الصواب. والناس في هذه المسألة مختلفون على طريقين:- فمنهم من قال: كل مجتهد في الظنيات مصيب. ومنهم من قال: المصيب واحد والباقون مخطئون، إلا أنهم مثابون على الاجتهاد لا على الخطأ الذي أوصله الاجتهاد إليه. ولذلك قال في المصيب: "فله أجران أجر على اجتهاده وأجر على إصابته"، وقال في المخطئ: "فله أجر على أحد قسمي المصيب وهو الاجتهاد. وقال الغزالي -رحمه الله-: والمختار عندنا وهو الذي يقطع به وبخطأ المخالف أن كل مجتهد في الظنيات مصيب؛ وأنه ليس فيها حكم لله معين. وقد اختلفت الروايات عن الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما من الأئمة -رضي الله عنهم- في ذلك. والله أعلم. قال الشافعي -رحمة الله عليه-: قال الله جل ثناؤه-: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (¬2) قال: قال الحسن ¬

_ (¬1) في الأصل [الحاكم] والسياق هكذا لا يستقيم والمثبت هو الأقرب. (¬2) [الأنبياء: 78 - 79].

ابن أبي الحسن: لولا هذه الآية لرأيت أن الحكام قد هلكوا, ولكن الله حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده. قال الشافعي -رضي الله عنه- في المجتهدين إذا اختلفوا وكان ممن له الاجتهاد وذهبوا مذهبًا محتملاً: لا يجوز على واحد منهم أن يقال له أخطأ مطلقًا, ولكن يقال لكل واحد منهم: قد أطاع فيما كلف وأصاب فيه، ولم يكلف علم الغيب الذي لم يطلع عليه. وجعل مثال ذلك: القبلة إذا اجتهدوا فيها واختلفوا، قال: فإن قيل: فيلزم أحدهما اسم الخطأ، قيل: أما فيما كلف [فلا] (¬1)، وأما خطأ عين البيت فنعم، لأن البيت لا يكون في جهتين مختلفتين، فإن قيل: فيكون مطيعا بالخطأ؟ قيل: هذه مسألة جاهل يكون مطيعا بالصواب لما كلف من الاجتهاد، وغير آثم بالخطأ إذا لم يكلف صوابه بمغيب العين عنه. وقال الشافعي -رضي الله عنه-: من حكم أو أفتى بخبر لازم أو قاس عليه، فقد أدى ما كلف وحكم وأفتى من حيث أمر، كان في النص مؤديًا ما أمر به نصًا، وفي القياس مؤديًا ما أمر به اجتهادًا وكان مطيعًا لله تعالى بالأمرين، ثم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه أمرهم بطاعة الله، ثم رسوله، ثم الاجتهاد. وقد أخرج الشافعي في كتاب حرملة: عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3)، وأورده الشافعي فيما إذا اجتهد الحاكم ثم رأى اجتهاده خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو شيئًا في معنى هذا، رده لا يسعه غير ذلك. ¬

_ (¬1) من المعرفة (14/ 232). (¬2) البخاري (2697). (¬3) مسلم (8/ 17).

قال: وإن كان مما يحتمل ما ذهب إليه ويحتمل غيره لم يرده، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما-: إن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق ولا نفاذ له، واسٍ بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس [ضعيف] (¬1) في عدلك، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين الناس إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، ومن ادعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمرًا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته حقه، فإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ في العذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك من قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت لرشدك؛ أن تراجع الحق فإن الحق قديم لا يبطل الحق شيء؛ ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل؛ والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادات، إلا مجلود في حد، أو مدرك (¬2) عليه شهادة الزور، أو ظنين في ولاء أو قرابة، فإن الله -عز وجل- تولى من العباد السرائر وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم فيما أدلى؟ إليك مما ليس في كتاب أو سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال والأشباه بالحق، وإياك والغضب والقلق أو الضجر والتأذي للناس عند الخصومة والتنكر، فإن القضاء في مواطن الحق يوجب الله به الأجر، ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين لهم بما ليس في قلبه شأنه الله -تعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا، وما ظنك بثواب الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته. وقد أخرج المزني في "الجامع" قال الشافعي: أخبرني الثقة، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أد ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [من] والمثبت من المعرفة (14/ 240). (¬2) في المعرفة (14/ 240): [مجرب].

حق الضعيفين: الأرملة، والمسكين". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من النار". هكذا أخرجه في كتاب "اليمين والشاهد"، وعاد أخرجه في كتاب "إبطال الاستحسان" (¬1) بالإسناد واللفظ وفيه: "فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة. فأما مالك (¬2): فأخرجه إسنادًا ولفظًا. وأما البخاري (¬3): فأخرجه عن القعنبي، عن مالك. وعن عبد العزيز بن عبد الله، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن الزهري، عن عروة. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن يحيى بن يحيى التميمي، عن أبي معاوية، عن هشام بن عروة. وأما أبو داود (¬5): فأخرجه عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن هشام. ¬

_ (¬1) انظر الأم (6/ 199)، (5/ 128)، (7/ 11). (¬2) الموطأ (2/ 553 رقم 1). (¬3) البخاري (7169، 2458). (¬4) مسلم (1713). (¬5) أبو داود (3583).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن هارون بن إسحاق الهمداني، عن عبدة بن سليمان، عن هشام. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن هشام. البشر: الخلق من الأناس، ولذلك قيل لآدم (عليه السلام): أبو البشر. وقوله: "إنما أنا بشر" أي: إنما أنا إنسان مخلوق يجري علي ما يجري على الناس من النسيان والخطأ، ولست أعلم الغيب فأطلع على خفايا السرائر فأحكم بمقتضاها، إنما أحكم بما يظهر لي وأسمعه من المتحاكمين. وقوله: "ألحن بحجته" أي: أقوم بدليله؛ وأعرف بما يدفع عنه دعوى خصمه، وأفطن من غريمه بما له وعليه وبما يضره وينفعه، تقول: لحنت -بالفتح- ألحن لحنًا: إذا قلت له قولًا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو -عني بالكسر- يلحنه لحنًا -بالفتح- أي: فهمه، وألحنته أنا إياه. والحجة: الدليل والبرهان الذي يفهمه صاحب الدعوى على صحة دعواه، تقول: حاجه فحاجه أي: عليه بالحجة، والتحاج: التخاصم. والنحو في الأصل: القصد والطريق، تقول: نحوت نحو فلان أي: قصدت قصده وسلكت طريقه. فقوله: "فأقضي له على نحو ما أسمع منه" أي: على الظاهر لي من كلامه، والقصد الذي ذهب إليه؛ والطريق الذي سلكها في خصامه واعترافه وإنكاره. وقوله: "إنما أقطع له قطعة من النار" شبه ما يحكم به في ظاهر القول بقطعة يقطعها للمدعي من النار، وهذا كقوله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} (¬3) الآية، لأنه لما كان ¬

_ (¬1) الترمذي (1339) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (8/ 233). (¬3) [النساء: 10].

ذلك سببا لدخولهم النار كأنه بعض النار. ومساق هذا الحديث لوجوب الحكم بالظاهر، وفيه من الفقه:- أن حكم الحاكم لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالاً، وأنه متى أخطأ الحاكم في حكمه ومضى كان ذلك في الظاهر؛ وأما الباطن وحكم الآخرة فإنه غير ماض، وفيه: أنه لا يجوز للمقضي له أن يأخذ ما قضى له به إذا علم أنه لا يستحقه؛ ولا يحل له فيما بينه وبين الله -عز وجل- ألا تراه قال: "فلا يأخذ منه شيئًا، إنما أقطع له قطعة من النار" وهذا الحكم مطرد بين الأئمة في الأموال والدماء والفروج؛ لأن ذلك كله حق أخيه وقد حرم عليه أخذه، وهذا مجمع عليه، إلا أن أبا حنيفة -رحمه الله- ذهب إلى: أن حكم الحاكم في الفروج ينفذ ظاهرًا وباطنًا، ويحل الحرام ويحرم الحلال، حتى إنه إذا ادعى رجل على امرأة أجنبية أنها زوجته وأقام شاهدي زور، فشهدا له بذلك وهما يعلمان أنها ليست زوجته، وقضى الحاكم بالزوجية بشهادتهما، قال: إن الرجل المدعي زوجيتها يحل له نكاحها بمجرد الحكم؛ فإن ذلك عند الله حلال مع علم الرجل والشهود بطلان القضية وكذلك لو شهد شاهدا زور لامرأة على زوجها أنه طلقها ولم يكن قد طلقها، ثم حكم الحاكم بطلاقها بشهادة شاهدي الزوجان، لكل واحد من الشاهدين أن يزوجها، مع علمه أن زوجها لم يطلقها وأنه شهد بطلاقها زورًا. والله أعلم. ***

الفصل الثالث في الشهادات

الفصل الثالث في الشهادات أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة قال: سمعت الزهري قال: زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز، فأُشهد لأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال لأبي بكرة: تب تقبل شهادتك، وإن تبت قبلت شهادتك. وسمعت سفيان بن عيينة يحدث به هكذا مرارًا، ثم سمعته يقول: شككت فيه قال سفيان: أشهد لأخبرني فلان -ثم سمى رجلاً فذهب على حفظ اسمه- فسألت، قال لي عمر بن قيس: هو عن سعيد بن المسيب، فكان سفيان لا يشك أنه سعيد بن المسيب. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وغيره يرويه عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب عن عمر. قال الربيع بهذا الإسناد في كتاب آخر، وقال: إن شهادة المحدود لا تجوز، قال فيه: قال سفيان: الزهري الذي أخبرني فحفظته ثم نسيته، قال: فلما قمت فسألت من حضر، قال لي عمر بن قيس -وحضر المجلس معي-: هو سعيد بن المسيب، قلت لسفيان: أشككت حين أخبرك سعيد بن المسيب؟ قال: هو كما قال غير أنه قال: كان قد دخلني الشك. قال الشافعي: وأخبرني من أثق به من أهل المدينة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لما جلد الثلاثة استتابهم، فرجع اثنان فقبل شهادتهما وأبي أبو بكرة أن يرجع فرد شهادته. القاذف إذا قذف وصح قذفه لم يجب عليه الحد، ولا يفسق، ولا ترد

شهادته، فإن لم يصح قذفه فعليه: حد القذف، حكم بفسقه، وترد شهادته، فإن تاب زال فسقه وقبلت شهادته ولم يسقط عنه الحد. وقد اختلف في قبول شهادته:- فروي ذلك عن عمر بن الخطاب، وبه قال عطاء وطاوس والشعبي ومجاهد والزهري وربيعة ومالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد. وقال الحسن البصري وشريح والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقبل شهادته. والاعتبار في سقوط الشهادة بالقذف إذا لم يصح، وعند أبي حنيفة بالجلد، فإذا لم يجلده الحاكم لم تسقط شهادته. وكيفية توبة القاذف: هو أن يقول: القذف باطل حرام ولا أعود إلى ما قلت، وقيل هو أن يقول: كذبت فيما قلت. وقول الشافعي في لفظ الحديث: قال سفيان: أشهد لأخبرني، يريد به سفيان أن الزهري قال: أشهد لأخبرني فلان، لا أن سفيان قال: أشهد -يعني نفسه- وإنما الشافعي حكى قول سفيان حيث حكى الزهري، لأن سفيان هو الشاك في الاسم لا الشافعي، والاسم المشكوك فيه هو سعيد بن المسيب وقد رده ذلك في الحديث. وهذا الذي تضمنته هذه القضية من حديث أبي بكرة. والشهود الذين استتابهم عمر: هو شهادتهم على المغيرة بن شعبة بالزنا، وذلك أن عمر بن الخطاب كان ولى المغيرة بن شعبة أميرًا على البصرة، وكان يخرج من دار الإمارة نصف النهار، وكان أبو بكرة: نفيع بن الحارث الثقفي يلقاه فيقول: أين يذهب الأمير؟ فيقول: في حاجة، فيقول: إن الأمير يزار ولا يزور، قالوا: وكان يذهب إلى امرأة يقال لها أم جميل بنت عمر، وتخبأ أبو بكرة في غرفة له مع أخويه نافع وزياد ورجل آخر يقال له: شبل بن معبد،

وكانت غرفة هذه أم جميل بحذا غرفة أبي بكرة؛ وضربت الريح باب غرفة المرأة ففتحته، ونظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها، فقال أبو بكرة: هذه بلية ابتليتم بها فانظروا، فنظروا حتى أثبتوا، فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال: إنه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا، قال: وذهب المغيرة ليصلي بالناس الظهر، ومضى أبو بكرة وقال: لا والله لا تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت، فقال الناس: دعوه فليصل فإنه الأمير، واكتبوا بذلك إلى عمر، فكتبوا إليه، فأمرهم أن يقدموا عليه جميعًا المغيرة والشهود، فلما قدموا عليه جلس عمر فدعى بالشهود والمغيرة، فتقدم أبو بكرة، فقال: رأيته بين فخذيها؟ قال: نعم والله لكأني انظر إلى تشريم جدري بفخذيها، فقال له المغيرة: لقد ألصقت في النظر، فقال له أبو بكرة: لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به، فقال له عمر: لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة، قال: نعم، أشهد على ذلك، قال: فاذهب عنك مغيرة، ذهب ربعك، ثم دعا نافعًا فقال: على ما تشهد؟ فقال له: مثل شهادة أبي بكرة. فقال: لا حتى تشهد أنه ولج فيها ولوج المرود في المكحلة. قال: نعم، حتى بلغ قدده. فقال له عمر: اذهب عنك مغيرة، ذهب نصفك، ثم دعى الثالث فقال له: على ما تشهد؟ فقال: على مثل شهادة صاحبي، فقال له عمر: اذهب عنك مغيرة، وذهب ثلاثة أرباعك، ثم كتب إلى زياد وكان غائبا فقدم، فلما رآه في المسجد واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار فلما رآه مقبلا قال: إني لا أرى رجلاً لا يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين، ثم إن عمر رفع رأسه إليه فقال: ما عندك يا سلح الحيارى؟ وقيل: إن المغيرة قام إلى زياد فقال له -مخبأ لعطر بعد عروس- فقال له: يا زياد، اذكر الله، واذكر موقف القيامة، فإن الله وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين، قد حقنوا دمي إلا أن تتجاوز إلى ما لم تراءيت فلا يحملنك سوء منظر رأيته على أن تتجاوز إلى ما لم تره، فوالله لو كنت بين بطني نأيت أن يسلك ذكري فيها، قال: فدمعت عينا

زياد، واحمر وجهه، فقال: يا أمير المؤمنين، إما أن أحق ما حق القوم فليس عندي، ولكن رأيت مجلسًا وسمعت نفسًا سيئًا وانتهارًا، ورأيته مستبطنها، فقال عمر: أرأيته يدخل كالميل في المكحلة؟ قال: لا، وقال زياد: رأيته رافعا رجليها، فرأيت خصييه يتردد إلى بين فخذها، ورأيت خبرا شديدا، وسمعت نفسًا عاليا، فقال عمر: رأيت يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا قال عمر: الله أكبر، قم إليهم فاضربهم. فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد، ودرأ الحد عن المغيرة، فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا، فهم عمر أن يضربه حدًّا ثانيا، فقال له علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه-: إن ضربته فارجم صاحبك، فنهاه عن ذلك، يعني: إن ضربت أبا بكرة حدًا ثانيًا جعلت شهادته الثانية شهادة أخرى؛ فكملت أربع شهادات فوجب بذلك الرجم على المغيرة، فتركه واستتاب عمر أبا بكرة، فقال أبو بكرة: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي؟ فقال: أجل، قال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا. فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر، الحمد لله الذي أخزاكم، فقال عمر: بل أخزى مكانا رأوك فيه، ثم إن أم جميل هذه وافقت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بالموسم والمغيرة هناك، فقال عمر: أتعرف هذه يا مغيرة؟ فقال: نعم، هذه أم كثلوم بنت علي، فقال له عمر: أتتجاهل علي؟ والله ما أظن أن أبا بكرة كذب عليك، وما رأيتك إلا خفت إلا أن ترمى بحجارة من السماء. وفي هذه الواقعة من الفقه:- أنه إذا شهد ثلاثة على إنسان بالزنا ولم يتم الرابع، أو شهد واحد أو اثنان ففيها قولان-: أحدهما وهو المنصوص المشهور: أنهم يحدون، وبه قال مالك وأبو حنيفة.

والثاني: لا يحدون لأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة عند الحاكم، فلم يجب عليه الحد، كما لو شهد الأربعة ثم رجع واحد منهم لم يحد الباقون. وفيها: أن أحد الشهود إذا حد ثم عاد وشهد بعد الحد بما شهد أولاً لم يحد عليه ولكن يعذر للأذى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: لا تجوز شهادة النساء لا رجل معهن في أمر النساء أقل من أربع عدول. قال الشافعي: الولادة وعيوب النساء مما لم أعلم مخالفًا لقيته؛ في أن شهادة النساء فيه جائزة لا رجل معهن، ثم ذكر هذا الحديث وقال: وبهذا نأخذ، وذكر قول من خالفه وأجاز شهادة المرأة الواحدة، وزعم أن عليًا -رضي الله عنه- أجاز شهادة القابلة وحدها. قال الشافعي: قلت: لو ثبت عن علي -كرم الله وجهه- صرنا إليه -إن شاء الله- ولكنه لا يثبت عندكم ولا عندنا عنه هذا، إنما رواه جابر الجعفي، عن عبد الله بن نجي، عن علي. وعبد الله مجهول، وجابر ضعيف مطعون فيه. وقوله: "أربع عدول" يريد: أربع نساء عدول، لأن شهادة كل امرأتين برجل، والقضية الشرعية تحتاج إلى شاهدين واحتاج أن يكون أربعًا. وتفصيل المذهب فيه: أن الولادة، والاستهلال، والعيوب تحت الثياب، والرضاع تقبل فيه شهادة النساء على الانفراد (¬1). وقال الشافعي: لا يقبل فيه إلا أربعًا. وبه قال عطاء. وقال الثوري ومالك: أقبل امرأتين. وقال الحسن وأحمد: يقبل قول المرضعة. ¬

_ (¬1) زاد في الأصل [الرضاع] ولا أرى لها وجهًا والعبارة هكذا مستقيمة ويبدو أنها انتقال نظر من الناسخ.

وقال أبو حنيفة: أقبل في ولادة الزوجيات واحدة، ولا أقبل في ولادة الملطقات. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس في شهادة الصبيان: لا تجوز. وزاد ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: لأن الله -تعالى- يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ (¬1) مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬2). هذا الحديث ذكره الشافعي فيمن يجوز قبول شهادته. قال الشافعي: قال الله -تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا (¬3) شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} إلى قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (2)، وكان الذي يعرف من خوطب بهذا أنه أريد به الأحرار المرضيون المسلمون، وأن الرضى إنما يقع على العدول منا ولا يقع إلا على البالغين، لأنه إنما خوطب بالفرائض البالغون دون من [لم] (¬4) يبلغ غير أن أصحابنا من ذهب إلى من يجيز شهادة الصبيان في الجراح ما لم يتفرقوا، وقول الله -عز وجل-: {مِنْ رِجَالِكُمْ} يدل على أن لا تجوز شهادة الصبيان في شيء والله أعلم. فإن قال قائل: أجازها ابن الزبير، فابن عباس ردها بالامتناع من قبول شهادة الصبيان. قاله ابن أبي ليلى وأبو حنيفة والأوزاعي وإحدى الروايتين عن أحمد. وقال مالك: تقبل في الجراح إذا كانوا قد اجتمعوا لأمر مباح قبل أن يتفرقوا. وروي ذلك عن ابن الزبير وعن أحمد. ¬

_ (¬1) في الأصل [ترون] وهو خطأ. (¬2) [البقرة: 282]. (¬3) في الأصل [واستشهد] وهو خطأ. (¬4) من الأم (7/ 88).

وروي عن أحمد: أنه تقبل شهادتهم في كل شيء. وقد أخرج الشافعي في القديم: عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن [ابن] (¬1) أبي عمرة الأنصاري، عن زيد بن خالد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟، الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". قيل: هذا يكون في الرجل يكون عنده لإنسان شهادة وهو لا يعلمها. والله أعلم. وقد أخرج الشافعي في كتاب حرملة: عن مالك، عن موسى بن ميسرة، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى الأشعري. وعن سفيان، عن أيوب بن موسى، عن سعيد بن أبي [هند] (¬2)، عن أبي موسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله". قال الشافعي: ويكره من وجه الخبر اللعب بالنرد أكثر مما يكره اللعب بشيء من الملاهي، ولا نحب اللعب بالشطرنج وهو أخف من النرد. وقد أخرج الشافعي: عن سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمرو بن الشريد، عن أبيه قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هل معك من شعر أمية ابن الصلت شيء"؟، قال: قلت: نعم قال: "هيه"، قال: فأنشدته بيتا، فقال: "هيه" قال: فأنشدته حتى بلغ مائة بيت. رواه مسلم في الصحيح (¬3): عن ابن أبي عمر، عن سفيان. قال الشافعي: فأما استماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به كثر أو قل، ¬

_ (¬1) من المعرفة (14/ 270). (¬2) في الأصل [منصور] والمثبت من المعرفة (14/ 324). (¬3) مسلم (2255).

وكذلك استماع الشعر، وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحداء والرجز، وأمر ابن رواحة في شعره فقال: "حرك بالقوم" فاندفع يرتجز. وأخرج الشافعي في كتاب حرملة: عن سفيان، عن سليمان التميمي، عن أنس قال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - حاد يقال له: أنجشة، وكانت أمي مع أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أنجشة رفقًا بالقوارير". ***

الفصل الرابع في القضاء باليمين مع الشاهد

الفصل الرابع في القضاء باليمين مع الشاهد أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الله بن الحارث بن عبد الملك المخزومي، عن سيف بن سليمان المكي، عن قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". قال عمرو: في الأموال. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن ربيعة بن عثمان، عن معاذ ابن عبد الرحمن، عن ابن عباس -ورجل آخر سماه فلا يحضرني ذكر اسمه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن ابن أبي شيبة وابن نمير، عن زيد بن الحباب، عن سيف. وفي أخرى (¬2): عن محمد بن يحيى وسلمة بن شبيب، عن عبد الرزاق، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار. وقال عمرو: في الحقوق. قوله: "قضى باليمين مع الشاهد" أي: باجتماعهما واتفاقهما معا. والأموال: تطلق على كل ما يقتنى من الذهب والفضة والأنعام وغيرهما، ¬

_ (¬1) مسلم (1217). (¬2) وقع سقط من الأصل في هذا الموضع، وقد انتهى تخريج طريق مسلم، وسقط الطريق الأول لأبي داود وذكر الثاني فقط، وانظر سنن أبي داود (3608، 3609).

وعلى البساتين، فأما الدور والأملاك غير البساتين فلا أعلمه. والحقوق: جمع حق، وهو ما يستحقه الإنسان من الأموال. قال الشافعي -رضي الله عنه-: حديث ابن عباس ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لا يرد أحد من أهل العلم مثله لو لم يكن فيه غيره، مع أن معه غيره مما يشده. والذي ذهب إليه الشافعي: العمل باليمين والشاهد. ورُوي مثل ذلك عن: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب وابن عباس. وزيد بن ثابت وابن عمر وسعد بن عبادة وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وسهل بن سعد وعامر بن ربيعة والمغيرة وأنس وتميم الداري وعمرو بن حزم وسلمة بن قيس وبلال بن الحارث ومعاوية وشريح وابن المسيب وعروة والشعبي والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار وأبي سلمة والزهري وعمر بن عبد العزيز ويحيى بن يعمر ومالك وابن أبي ليلى وأحمد. وذهب أبو حنيفة وأصحابه: إلى أنه لا يقضى بالشاهد واليمين حتى قال محمد بن الحسن: من قضى بالشاهد نقضت حكمه. وروي مذهب أبي حنيفة عن النخعي والزهري وابن شبرمة والأوزاعي والثوري. وعلى ذلك فإنما يقضي بالشاهد واليمين على الحقوق المالية عينًا ودينًا، وما يقصد به المال مثل: البيع، والإجارة، والهبة، والصلح، والمساقاة، والقراض، والجناية الموجبة للمال كالخطأ، والعمد الذي لا يوجب القصاص كبعض الجراح. وما ليس بمال ولا يقصد به المال فلا يثبت بشاهد ويمين كالنكاح والخلع، والطلاق، والرجعة، والقذف، والقصاص، والنسب، والعتق، والتدبير، والكتابة.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، حدثني جعفر بن محمد قال: سمعت الحكم بن عتيبة يسأل أبي -وقد وضع يده على جدار القبر ليقوم- أقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد؟ قال: نعم، وقضى بها علي بين أظهركم. قال مسلم: قال جعفر: في الدين. وأخبرنا الشافعي أنه قال لبعض من يناظره: روى الثقفي -وهو ثقة- عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين. هذا الحديث أخرجه مالك والترمذي. فأما مالك (¬1) فأخرج الأولى بالإسناد واللفظ. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه مسندًا عن محمد بن بشار ومحمد بن أبان، عن عبد الوهاب الثقفي، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر الحديث. وأخرجه في أخرى مرسلاً: عن علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر، عن أبيه: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد الواحد"، قال: وقضى بها علي فيكم. قال الترمذي: وهذا أصح، وهكذا روي عن سفيان الثوري، عن جعفر، عن أبيه مرسلاً، وروى عبد العزيز بن أبي سلمة ويحيى بن سليم هذا الحديث عن جعفر، عن أبيه، عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: "بين أظهركم" يريد: فيما بينكم، والأظهر: جمع ظهر الإنسان، ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 555 رقم 5). (¬2) الترمذي (1344، 1345).

والأصل في هذه اللفظة: أن الإنسان إذا التجأ إلى أحد حماه وتركه ظهره ليلتقي دونه من يريده، ثم كثر ذلك حتى صار يقال لنزيل القوم: فلان بين ظهراني القوم، وبين أظهرهم: إذا استبقوه بأنفسهم وأنزلوه منزلة بعضهم. وقوله: "في الدين" يريد: الحقوق المالية، وخص الدين: لأن أكثر المطالبات التي تحتاج إلى البينة واليمين، إنما تكون بالدين وبما هو في ذمة المدعى عليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا إِبراهيم، عن عمرو بن أبي عمرو -مولى المطلب-، عن ابن المسيب: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". هذا الحديث حديث مرسل، وقد جاء به زيادة في تأكيد ما سبق من الأحاديث. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عمر وابن شعيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الشهادة: "فإن جاء شاهد حلف مع شاهده". وجاء في نسخة: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه وقال: "احلف مع شاهده" حلفت أحلف حلفًا وحلفًا ومحلوفًا: إذا أقسمت، ومحلوف أحد ما جاء من المصادر على مفعول مثل: المجلود والمعقول والمعسور، وأحلفته أنا وحلفته واستحلفته كله بمعنى، وأحلف لما لم يسم فاعله. وقوله: "فحلف مع شاهده" أي: حلف مع شهادة شاهده، لأن ظاهر اللفظ يعطي أن يشترك الشاهد والمدعي في اليمين، تقول: قمت مع زيد، فقد وجد القيام منكما، وكذلك: حلفت مع زيد، وليس الغرض ذلك إنما الغرض ما قلناه؛ التقدير: فإن شهد له شاهد حلف مع شهادة شاهده.

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد". أبو جعفر: هو عبد الله بن مسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب القرشي الهاشمي، وقد تكلموا فيه، والحديث مرسل. ***

الفصل الخامس في الدعاوى

الفصل الخامس في الدعاوى أخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينة على المدعي -وأحسبه قال ولا أثبته أنه قال- واليمين على المدعى عليه". هكذا أخرج الشافعي الحديث في كتاب "اختلاف الحديث" (¬1)، وقد رواه جماعة عن ابن جريج منهم: الوهاب بن عطاء، وابن وهب، وعبد الله بن داود وعبد الله بن إدريس وعثمان بن الأسود والوليد بن مسلم، وقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي الفصل الثاني وهو قوله: "اليمين على المدعى عليه"، ولم يخرج أحد منهم الفصل الأول وهو قوله: "البينة على المدعي". فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن أبي نعيم، عن نافع [ابن] (¬3) عمر، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين على المدعى عليه. وأما مسلم (¬4): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن بشر، عن نافع [ابن] (¬5) عمر مثل البخاري. وأما أبو داود (¬6): فأخرجه عن القعنبي، عن نافع [ابن] (5) عمر. ¬

_ (¬1) اختلاف الحديث مع الأم (557). (¬2) البخاري (2668). (¬3) في الأصل [عن ابن] والتصويب من البخاري. (¬4) مسلم (1711). (¬5) في الأصل [عن ابن] وهو خطأ وتقدم الإشارة على ذلك قريبًا. (¬6) أبو داود (3619).

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن محمد بن سهل بن عسكر البغدادي، عن محمد بن يوسف، عن نافع عمر. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن علي بن سعيد بن مسروق، عن يحيى بن أبي زائدة، عن نافع [بن] (¬3) عمر أطول من هذا. وقد أخرج الترمذي (¬4): عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر وغيره، عن محمد بن عبيد الله، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". البينة: الظاهرة الواضحة، من قولك: بين الشيء يبين بيانًا فهو بائن وبين وهما بمعنى، وتاء التأنيث فيها لرجوعها إلى الشهادة، هذا هو الأصل، ثم اتسع فيها لكثرة الاستعمال فصارت من الأسماء الغالبة على الصفات، حتى إذا قيل: بينة علم أنها الحجة والشهادة. والمدعي: اسم فاعل من ادعى يدعي فهو مدع، والدعوى الاسم وهي الطلب، والمدعي في اللغة: من ادعى شيئًا لنفسه، سواء كان في يده أو في يد غيره أو في ذمته. والمدعى عليه: هو من ادعي عليه شيء في يده أو في ذمته لغة وشرعًا، وقد يكونان متداعيين بأن يختلفا مثلًا في العقد، ويدعي كل واحد منهما أن الثمن غير الذي يذكره الآخر. وحجة المدعي: البينة لتحقق ما يدعيه، وحجة المدعى عليه: اليمين لينفي بها ما يدعى عليه. ¬

_ (¬1) الترمذي (1342) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (8/ 248). (¬3) في الأصل [عن ابن] وهو خطأ وتقدم الإشارة إلى ذلك قريبًا. (¬4) الترمذي (1341).

فإن أقام المدعي البينة حكم بها له فكانت أولى من يمين المدعي، واليمين من جهة المدعى عليه، فكانت التهمة من البينة أبعد، فإن لم يكن للمدعي بينة كان القول قول المدعى عليه مع يمينه، فكانت يمينه [أولى من يمين] (¬1) [المدعي] (¬2) لأن يده على العين المدعى بها في الغالب، وإن كانت دينًا: فالأصل براءة الذمة، وعلى هذا قول الأئمة الفقهاء والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن أبي يحيى، عن إسحاق بن أبي فروة، عن عمر ابن الحكم، عن جابر بن عبد الله: أن رجلين تداعيا دابة، فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للتي هي في يده. وقد رواه الزعفراني عنه قال: أخبرنا رجل، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة بإسناده ومعناه. قال الشافعي في القديم: هذه رواية صالحة ليست بالقوية ولا بالساقطة، ولم نجد أحدًا من أهل العلم يخالف القول بهذا، مع أنها رويت من غير هذا الوجه وإن لم تكن قوية. قال البيهقي: روينا هذا عن محمد بن الحسين، عن أبي حنيفة، عن هشيم الصيرفي، عن الشعبي، عن جابر أن رجلين اختصما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ناقة، وروي ذلك عن شريح في قضائه. قوله: "تداعيا" أي: ادعى كل واحد منهما ما يدعيه الآخر. وقوله: "نتجها" أي: ولدت عنده. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا ادعى رجل على رجل عينًا في يده فأنكره، ثم أقام كل منهم (¬3) البينة، فإن بينة من الشيء في يده تقدم على بينة ¬

_ (¬1) تكررت في الأصل. (¬2) أثبتها ليستقيم المعنى. (¬3) كذا بالأصل.

المدعي، وتسمى بينة المدعى عليه بينة الداخل، وبينة المدعي بينة الخارج. وإلى قول الشافعي ذهب شريح والنخعي والحكم ومالك وأبو ثور وأبو عبيد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أن كان المدعى ملكًا مطلقًا لم تسم بينة، إلا أن يدعي النتاج في ملكه، أو النتاج فيما لا يتكرر نتجه، فأما ما يتكرر نتجه كالخز والصوف فلا يسمع بينته. واختلف فيه عن أحمد. وقد أخرج الشافعي في القديم: أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن ليث بن سعد قال: أخبرنا بكير بن عبد الله بن الأشج أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: اختصم رجلان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر، فجاء كل واحد منهما بشهداء عدول على عدة واحدة، فأسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما وقال: "اللهم أنت تقضي بينهما". قال الشافعي بالقرعة في مثل هذه القضية عملًا بحديث ابن المسيب، وله قول آخر: أنه يقسم بينهما نصفين لأن حجة كل واحد منهما فيها سواء. قال البيهقي: وقد قال الشافعي -رضي الله عنه- في مثل هذه المسألة -بعد ذكر القولين-: وهذا مما أستخير الله فيه، وأنا فيه واقف. ثم قال: لا يعطى واحد منهما شيء ويوقف حتى يصطلحا. ***

الفصل السادس في القافة ودعوى الولد

الفصل السادس في القافة ودعوى الولد أخبرنا الشافعي: أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن رجلين تداعيا ولدا، فدعى له عمر القافة فقالوا: قد اشتركا فيه، فقال له عمر: والِ أيهما شئت. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار عن عمر مثل معناه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مطرف بن مازن، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عمر بن [الخطاب مثل معناه] (¬1). أخرج الموطأ (¬2) من هذا الحديث رواية سليمان وهذا لفظه: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا عمر قائفًا فنظر إليهما فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه بالدرة وقال: يديك (¬3)، ثم دعا المرأة فقال: أخبريني خبرك؟ فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيها في إبل أهلها فلا يفارقها حتى يظن وتظن أن قد استمر بها الحمل، ثم انصرف عنها فهريقت عليه الدماء، ثم خلفه الآخر، فلا أدري من أيهما هو، فكبرَّ القائف، فقال عمر للغلام: وال أيهما شئت. وقد أخرج الشافعي هذه في القديم: عن مالك بالإسناد واللفظ. ¬

_ (¬1) من المعرفة (14/ 367). (¬2) الموطأ (2/ 568 رقم 22). (¬3) ليس في الموطأ قوله [وقال يديك].

القافة: جمع قائف وهو الذي يعرف الآثار، تقول: قفت أثره أقفوه: فأنا [قائف] (¬1) أي: اتبعته، وهم في الشريعة: قوم معروفون من العرب يعرفون الناس بالشبه، فيلحقون إنسانا بإنسان لما يدركون من المشابهة التي يدركونها بينهما مما يخفى على غيرهم. وقوله: "وال أيهما شئت" أي: أَتبع من أردت منهما وكن أنت لمن شئت منهما. ولاط بالشيء يليط به ويلوط به ليطًا ولوطًا: إذا ألصق به. وقوله: "هريقت عليه الدماء" أي: حاضت، والغالب من حال الحامل أنها لا تحيض، فإن ظن أنها حيض فيكون ذلك نادرا السبب. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا اشترك اثنان في وطء امراة على وجه يلحق الولد كل واحد منهما ويكونان سواء، وهو أن يكون وطئا بنكاح فاسد، أو شبهة، أو صحيح وفاسد، أو شبهة وقد بانت من النكاح الصحيح، فأما إذا وطئها بشبهة ولها زوج: فإن الولد يلحق بالزوج لأن فراشه قائم وهو أقوى من الشبهة، فإذا زال فراشه بالطلاق كان هو والواطئ بشبهة أو نكاح فاسد سواء، فإذا أتت بولد يمكن أن يكون لكل واحد منهما: فإنه يرى القافة وإن ألحقوه بأحدهما لحق، وكذلك إذا وطئ السيدان جارية مشتركة بينهما، وكذلك إذا تنارعا في اللقيط يرى القافة. وبه قال علي وأنس وإحدى الروايتين عن عمر، وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد، وبه قال مالك في ولد الأمة إذا وطئها سيد بعد سيد. وقال أبو حنيفة: وألحقه بهما. وحكى الطحاوي عنه: أنه يلحقه باثنين ولا يلحقه بأكثر. ¬

_ (¬1) في الأصل [ئف] والزيادة من عندي وبها يستقيم اللفظ وانظر اللسان مادة قفا.

وحكي عن أبي يوسف: أنه يلحقه مثله وأكثر. وقال المتأخرون: يجوز أن يلحق بمائة أب. وقال أبو حنيفة في الزانيين يتنازعان الولد: ألحقه بهما. وقد أخرج المزني: عن الشافعي، عن سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرف السرور في وجهه فقال: "ألم ترى أن مجززًا المُد لجَّي؛ نظر إلى أسامة [و] (¬1) زيد وعليهما قطيفة قد غطيا رؤسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها [من بعض] (¬2). هذا حديث صحيح متفق عليه، "البخاري" (¬3) ومسلم (¬4). قال الشافعي: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يسر بالحق ويقبله ولو كان أمر [القافة] (¬5) باطلاً لقال: لا تقل في هذا شيئًا فإنك إن أصبت في بعض فلعلك تخطئ في بعض، ولم يطلع الله على الغيب أحدًا ولكنه -والله أعلم- رآه علمًا أوتيه من أوتيه، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعملونه، وهو الذي أدركت عليه أهل العلم والحكام ببلدنا لا اختلاف فيه، فلو لم يكن في القافة إلا هذا؛ كان ينبغي أن يكون فيه دلالة لمن سمعه، وأخبرني عدد من أهل العلم من أهل المدينة ومكة: أنهم أدركوا الحكام يقضون بقول القافة، وأخبرهم من كان قبلهم: أنهم أدركوا مثل ما أدركوا, ولم يروا بين أحد يرضونه من أهل العلم تنازعًا في القول بالقافة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن علية، عن حميد، عن أنس أنه شك في ابن له ¬

_ (¬1) في الأصل [بن] والمثبت من المعرفة (14/ 365) وهو الصواب. (¬2) من المعرفة (14/ 365). (¬3) البخاري (3555). (¬4) مسلم (1459). (¬5) في الأصل [الفه] وهو تصحيف والمثبت من المعرفة (14/ 366).

فدعا له القافة. هذا الحديث مؤكد لحديث القول بالقافة، وقد روي عن يحيى بن أيوب وغيره، عن حميد، عن موسى بن أنس، عن أنس أنه مرض فشك في حمل جارية له فقال: إن مت فادعوا له القافة. ***

كتاب العتق والولاء

كتاب العتق والولاء أخرج المزني قال: حدثنا الشافعي، عن سفيان، عن شعبة الكوفي قال: كنت مع أبي بردة بن أبي موسى على ظهر بيت فدعى بنيه فقال: يا بني إني سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعتق شركًا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم عليه قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما عبد كان بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان موسرًا فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة أو قيمة عدل، ليست بوكس ولا شطط، ثم يغرم لهذا حصته". هذا حديث صحيح، أخرجه الجماعة إلا النسائي. فأما مالك (¬1): فأخرج الرواية الأولى بإسنادها. وأما البخاري (¬2): فأخرج الأولى عن عبد الله بن يوسف، عن مالك. وأخرج الثانية: عن علي بن عبد الله، عن سفيان أخصر منهما. وأما مسلم (¬3): فأخرج الأولى عن يحيى بن يحيى، عن مالك. وأخرج الثانية: عن الناقد وابن أبي عمر، عن سفيان نحوها. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 592 رقم 1). (¬2) البخاري (2521، 2522). (¬3) مسلم (1501).

وأما أبو داود (¬1): فأخرج الأولى عن القعنبي، عن مالك. وأخرج الثانية: عن أحمد بن حنبل، عن سفيان. وأما الترمذي (¬2): فأخرج نحو الأولى عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع. وأخرج نحو الثانية: عن الحسن بن علي الخلال، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم. تقول: أعتقت العبد أعتقه إعتاقًا فهو معتق، وعتق العبد يعتق -بالكسر- عتقًا وعتاقًا وعتاقة -بالفتح فيهما- فهو عتيق وعاتق. والشرك: الشركة، تقول: شركت فلما نافى البيع وغيره أشركه شركة، والاسم: الشرك، والجمع: أشراك. وقوله: "من أعتق شركًا له" أي: نصيبًا. والهاء في قوله: "فكان له مال" راجعة إلى المعتق. والتقويم: التثمين من القيمة وهو ما يساوي الشيء المقوم، وأصله من قام يقوم مقام الشيء، كأنهما اشتركا في مقام واحد أحدهما مسد الآخر، تقول: قومت السلعة أقومها تقويمًا، وأهل مكة يقولون: استقمت السلعة وهما بمعنى. والعدل -بالفتح-: السواء وخلاف الجور أيضًا، وهو مصدر عدلت بها عدلاً فجعله اسمًا للمثل. والعدل -بالكسر-: المثل، وقيل: العدل -بالفتح-: ما عادل الشيء من غير جنسه، فعلى هذا القول يكون المراد في القيمة بالفتح. ¬

_ (¬1) أبو داود (3940، 3947). (¬2) الترمذي (1347،1346) وقال: حسن صحيح.

والحصص: جمع حصة، وهي القسم والنصيب. وقوله: "عتق عليه" أي: صار عتقه عليه واجبًا. وقوله: "وإلا فقد عتق منه ما عتق" يعني: إن لم يكن مال يقوم عليه حصص شركائه؛ عتق من العبد نصيبه الذي أعتقه وبقي نصيب شركائه على ما كان عليه في الرق. والموسر: اسم فاعل من أيسر يوسر يسارًا: إذا كان غنيًا ذا سعة، والاسم اليسار واليسارة والميسارة بالفتح والضم. والوكس: النقص، وقد وكس الشيء يكِس، ووكست فلانًا: إذا نقصته. والشطط: مجاوزة القدر في كل شيء، يريد: لا ينقص من ثمنه ولا يزاد عليه وإنما يقوم تقويم الحق. والإشارة بقوله: "ثم يُقَّوم لهذا حصته" إلى صاحب الحصة الباقية والذي ذهب إليه الشافعي: العمل بهذا الحديث والأخذ به، وذلك أنه إن كان لمعتق معسرا؛ استمر العتق في نصيبه وبقي النصيب الآخر مملوكا لصاحبه يتصرف فيه كيف يشاء، وإن كان المعتق موسرًا وجب تقويمه عليه وأدى قيمة نصيب شريكه إليه. فأما متى يعتق نصيب شريكه؟ ففيه ثلاثة أقوال:- أحدها: أنه يسري العتق إليه في الحال. وبه قال أحمد. والثاني: أنه يسري بأداء القيمة. وهو القديم، وبه قال مالك، ويكون قبل أداء القيمة مالكًا لصاحبه، إلا أنه لا ينفذ تصرفه فيه لأنه قد استحق عتقه. الثالث: أن العتق مراعى، فإن دفع القيمة تبينا أنه كان عتق من حين أعتق نصيبه، وإن لم يدفع القيمة إليه تبينا أنه لم يكن عتق.

وقال أبو حنيفة: العتق لا يسري وإنما يستحق به إعتاق النصيب الآخر، فإن كان المعتق معسرًا كان شريكه بالخيار بين أن يعتق نصيب نفسه ويكون الولاء بينهما، وبين أن يستسعيه في قيمة نصيبه، فإذا أداه إليه عتق ويكون الولاء أيضًا بينهما، وإن كان موسرًا كان شريكه أيضًا مخيرًا بين ثلاث خيارات: هذان المذكوران في المعسر، والثالث: أن يضمن شريكه في نصيبه ويكون جميع الولاء لشريكه؛ ويرجع الشريك بما غرمه في سعاية العبد. وقال ابن شبرمة وابن أبي ليلى والثوري وأبو يوسف: يسري العتق في الحال بكل حال، فإن كان المعتق موسرًا غرم قيمة نصيبه، وإن كان معسرًا استسعى في قيمة نصيبه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين أن رجلاً من الأنصار أوصى عند موته، فأعتق ستة مماليك وليس له مال غيرهم -أو قال- أعتق عند موته ستة مماليك و [ليس] (¬1) له شيء غيرهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال فيهم قولًا شديدًا، ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم فأعتق اثنين، وأرق أربعة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج، أخبرني قيس بن سعد أنه سمع مكحولًا يقول: سمعت سعيد بن المسيب يقول: أعتقت امرأة -أو رجل- ستة أعبد لها, ولم يكن لها مال غيرهم، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقرع بينهم فأعتق ثلثهم. قال الشافعي -رضي الله عنه-: كان ذلك في مرض المعتق الذي مات فيه. هذا حديث سعيد بن المسيب مرسل، وجائز أن يكون رواية من الحديث الأول، وجائز أن يكون غيره، فذكرنا الروايتين معًا ها هنا وهو حديث صحيح، ¬

_ (¬1) من الأم (8/ 4).

أخرجه الجماعة إلا البخاري. فأما مالك (¬1): فأخرجه عن يحيى بن سعيد، عن غير واحد، عن الحسن بن أبي الحسن البصري. وعن محمّد بن سيرين أن رجلاً في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وذكر نحوه وفيه: فأسهم فيما بينهم. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن علي بن حجر وأبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن سليمان بن حرب، عن حماد، عن أيوب. وزاد في رواية أخرى: "ولو شهدته قبل أن يدفن في مقابر المسلمين". وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب. وأما النسائي (¬5): فأخرجه عن [] (¬6). وفيه (¬7): لقد هممت أن لا أصلي عليه. القول الشديد: يريد به القوي الغليظ المشتمل على الإنكار والتوبيخ والتهديد ونحو ذلك. وقد جاء في نسخة: وقال فيهم، وفي نسخة: وقال فيه، فالجمع راجع إلى المماليك أي: قال في أمرهم وعتقهم، والواحد راجع إلى السيد أي: قال في شأنه وما فعله عن عتقه. ¬

_ (¬1) الموطأ (2/ 593 رقم 3). (¬2) مسلم (1668). (¬3) أبو داود (3958، 3960). (¬4) الترمذي (1364) وقال: حسن صحيح. (¬5) النسائي في الكبرى (4974). (¬6) بياض بالأصل قدر سطر وإسناد النسائي قال: [أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة به]. (¬7) النسائي في الكبرى (4975).

والتجزئة مهموز: القسمة والتقطيع وجعل الشيء أجزاء، تقول: جزأت الشيء تجزئةً إذا قسمته. والأقراع والإسهام سواء، تقول: أقرعت بين القوم وأسهمت وقوله: "وأرق أربعة" أي: أبقاهم في الملكة وهم الذين لم تقع القرعة [عليهم] (¬1). والذي ذهب إليه الشافعي: أن السيد إذا أعتق عبيدًا له في مرضه المخوف الذي يتصل به الموت، وكانوا جميع ماله، وأعتقهم دفعة واحدة، ولم تجز الورثة العتق فيما زاد على الثلث، أنهم يجزءون ثلاثة أجزاء: جزءًا للعتق، وجزأين للرق ويقرع بينهم، فمتى لم يوجد شرط من هذه الشروط الأربعة التي هي: مرض الموت، واستغراق المال، والعتق دفعة، وامتناع الورثة. لم يجزؤا ثلاثة، لأنه أن أعتقهم في حال صحته، أو مرضه الذي لم يمت فيه فإنهم يعتقون جميعًا، وإن أعتق واحدًا بعد واحد قدمنا الأول ولم يقرع بينهم، وإن كان له مال آخر يخرجون به من الثلث عتقوا جميعهم، وإن أجازت الورثة عتق جميعهم، فإذا وجدت الشروط أقرعنا بينهم. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وعمر بن عبد العزيز. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يعتق من كل واحد منهم ثلثه ويستسعى في قيمة باقيه. ويروى ذلك عن الشعبي والنخعي. قد تضمن هذا الحديث: أن حكم العتق في المرض الذي يموت فيه المعتق حكم الوصايا، وأن ذلك من الثلث، وفيه إثبات القرعة في تمييز الأمور الشائعة في الأعيان. وقوله: "فجزأهم" إنما يريد به التجزئة في القيمة لا في الأعيان وعدد الرؤوس، وهكذا هو الحكم. ¬

_ (¬1) أثبتها ليستقيم السياق.

وإنما قال: "أعتق اثنين وأرق أربعة" لأن قيمتهم وافقت عددهم، فإن عبيد أهل الحجاز إنما كانوا الزنوج والحبش، والقيم تتساوى فيهم غالبًا أو تتقارب، ولذلك إذا اختلفت [القيم] (¬1) والعدد عدل إلى القيمة ولم يبال بتفاوت العدد، حتى لو كانوا أربعة وقيمة اثنين مائة، وقيمة الاثنين الباقين مائتان؛ جعل الاثنان اللذان قيمتهما مائة جزءًا واحدًا، والاثنان الآخران اللذان قيمتهما مائتان جزئين، ثم يقرع بينهم. وتفريق العتق في أجزاء العبد يؤدي إلى الضرر في الملَّاك والمماليك معًا، وعتق الجميع يرفع الضرر ويبقى سوء المشاركة. وقد اعترض قوم على هذا فقالوا: في هذا ظلم للعبيد، لأن السيد إنما قصد إيقاع العتق عليهم جميعًا، فلما منع حق الورثة من استغراقهم وجب أن يقع القدر الجائز منه شائعًا فيهم؛ لينال كل واحد منهم حصته منه كما لو وهبهم ولا مال له غيرهم، وكما لو أوصى بهم. فإن الهبة تصح في جزء كل واحد منهم قبل. هذا قياس ردته السنة الثابتة، فإن صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - إذا قال قولًا وحكم بحكم لم يجز الاعتراض عليه برأي ولا بأصل آخر، بل يجب عليه تقريره على حاله واتخاذه أصلاً في بابه، والوصايا والهبات مخالفة للعتق، لأن الورثة لا يتضررون بوقوع الوصية والهبة شائعتين في العبد ويتضررون بوقوع العتق شائعا، وأمر العتق مبني على التغليب والتكميل إذا وجد إليه السبيل، وحكم الدين قد منع من إكماله في جماعتهم فأكمل من خرجت له القرعة منهم. قال الشافعي: وهذا الحديث أصل في أن الوصية في المرض بالثلث للأجانب، لأن عتقه إياهم في معنى الوصية لهم وهم أجانب. قال: وكانت العرب لا تستعبد من بينها وبينه نسب. يريد بها أن الوصية ¬

_ (¬1) أثبتها لتمام السياق.

للأقربين منسوخة بآية الميراث. وأما كيفية القرعة؟ فتختلف باختلاف عدد العبيد ممن لهم ثلث، ومن لا ثلث لهم، وأن تتساوى فيهم، وأن لا تتساوى. وهذا شيء مستقصى في كتب الفقه، إلا أن للقرعة وجوها أحسنها: هو أن يؤخذ ثلاث رقاع مثلا ويكتب في واحدة منها حر وفي اثنتين عبد أو رق ويجعل في ثلاث بنادق من طين أو شمع ونحو ذلك، ثم تغطى بثوب ويقال لمن يحضر ذلك: أخرج واحدة منها على اسم واحد منهم، فما كان فيها من حرية أو رق فهو له، فإن خرج في الأولى حر فلا يحتاج إلى إخراج شيء آخر، وإن خرج رق عاد أخرج أخرى باسم واحد من الاثنين الباقيين، فإن خرج حر عتق وبقي الثالث عبدًا، وإن خرج في المرة الثانية عبد لم يحتج إلى إخراج الثالثة لأنها تبقى للثالث فيكون حرا. قال الشافعي عقيب حديث ابن عمر وعمران بن حصين وسعيد بن المسيب: وبهذا كله نأخذ، كل واحد من هذه الأحاديث ثابت عندنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم ذكر مذهب نفسه، ثم مذهب غيره في استسعاء العبد في باقيه وأطال القول فيه، محتجًا على إبطال من ذهب إليه بإبطال ما رووا فيه وبعضه والطعن في رواته، فطال الكتاب بنقل ما ذكره. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن ابن [أبي] (¬1) نجيح، عن مجاهد أن عليًا -رضي الله عنه- قال: الولاء بمنزلة الحلف أقره حيث جعله الله تعالى هكذا رواه الشافعي عن سفيان، ورواه عباس النرسي عن سفيان: الولاء بمنزلة النسب لا يباع ولا يوهب أقره حيث جعله الله تعالى. ورواه عبد الله بن مغفل، عن علي -كرم الله وجهه- قال: الولاء شعبة من النسب. الحِلْف -بكسر الحاء وسكون اللام-: العهد يكون بين القوم وقد حالفه أي نصره، وفي الحديث: أنه حالف بين قريش والأنصار، يعني: آخى بينهم لأنه ¬

_ (¬1) من المعرفة (14/ 410)، والسنن الكبرى (10/ 294).

حلف في الإسلام، ومعنى جعل الولاء بمنزلة الحلف: يريد في المناصرة والمعاقدة وأنه يجب على المولى لزوم مواليه وأن لا يوالي غيرهم، كما يجب على المخالف لزوم مخالفته. وقوله: "أقره حيث جعله الله تعالى" يريد أنه لا يغيره عما أجراه الإسلام عليه من الالتزام به فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا حلف في الإسلام"، وكان الحلف في الجاهلية على معان، فما كان منه على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وقال: "لا حلف في الإسلام" يريد: على مثل هذا، وما كان منه على نصر المظلوم وصلة الأرحام واصطناع المعروف فذلك الذي قال فيه: "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده في الإسلام إلا شدة" يريد: المعاقدة على الخير ونصر الحق، والمشابهة بين الولاء والحلف من هذا الوجه والله أعلم. قال الشافعي: قال الله -تعالى-: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ في مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} (¬1)، وقال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} (¬2) فنسب إبراهيم إلى أبيه وأبوه كافر، ونسب ابن نوح إلى أبيه وابنه كافر، وقال الله -تبارك وتعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في زيد بن حارثة: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬3)، وقال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ} (¬4)، فنسب الموالي بنسبين: أحدهما: إلى الآباء، والآخر إلى الولاء، وجعل الولاء بالنعمة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاء لمن أعتق"، وقال: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" فدل الكتاب والسنة على أن الولاء إِنما يكون بتقدم فعل من المعتق، كما يكون ¬

_ (¬1) [هود: 42]. (¬2) [الأنعام: 74]. (¬3) [الأحزاب: 5]. (¬4) [الأحزاب: 37].

النسب بتقدم ولاء من الأب. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة أنها أرادت أن تشتري جارية تعتقها، فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يمنعك ذلك، إنما الولاء لمن أعتق". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة يعني نحوه ولم يقل عن عائشة وذلك مرسل. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة وذكر الحديث بطوله. هذا حديث صحيح متفق عليه، وسيرد في كتاب "المكاتب"، وقد تقدم ذكره بطوله في كتاب "البيع" أيضًا مع شرح ألفاظ الحديث ومعناه، وإنما ذكر هنا ليستدل به على أن الولاء لمن أعتق. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا محمد بن الحسن، عن يعقوب بن إبراهيم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا تباع ولا توهب". هذا الحديث هكذا رواه الشافعي في كتاب "البحيرة والسائبة" (¬1) عن محمد ابن الحسن الفقيه، عن أبي يوسف القاضي صاحبي أبي حنيفة. وكأن محمد ابن الحسن قد رواه للشافعي من حفظه فتركه في إسناده عبيد الله بن عمر، وقد رواه محمد بن الحسن في كتاب "الولاء" عن أبي يوسف، عن عبيد الله بن عمر، عن ابن دينار، وهذا اللفظ الذي رواه محمد بهذا الإسناد غير محفوظ، فإن رواية الجماعة عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ¬

_ (¬1) الأم (8/ 85).

بيع الولاء وعن هبته. هكذا رواه عبيد الله بن عمر في رواية عبد الوهاب الثقفي ومالك والثوري وشعبة والضحاك بن عثمان وسفيان بن عيينة وسليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر وغيرهم. ورواه عمير بن النحاس، عن ضمرة، عن الثوري على اللفظ الذي رواه أبو يوسف وقد اجتمع أصحاب الثوري على خلافه، وأصح ما روي فيه حديث هشام بن حسان، عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا تباع ولا توهب" وهذا مرسل، وروي عن عمر بن الخطاب من قوله: اللحمة في القرابة والنسب -بضم اللام- وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الولاء بمنزلة القرابة والنسب، لا يمكن الانفصال منه كما لا يمكن الانفصال من النسب، وكما أن النسب لا يباع ولا يوهب فكذلك الولاء. أخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح أن طارق بن المرقع أعتق أهل بيت سوائب فأتى بميراثهم، فقال عمر بن الخطاب: أعطوه ورثة طارق فأبوا أن يأخذوه، فقال عمر: اجعلوه في مثلهم من الناس. هكذا أخرجه في كتاب "جراح العمد"، وأخرجه في كتاب "الولاء" (¬1) قال: أخبرنا مسلم وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء أن طارق بن المرقع أعتق أهل أبيات من أهل اليمن سوائب فانقطعوا عن بضعة عشر ألفًا، فذكر ذلك لعمر بن الخطاب فأمرني أن أدفع إلى طارق أو ورثة طارق -أنا شككت- في الحديث هكذا. السوائب: جمع سائبة، والسائبة: هو الذي يترك يسيب أي: يمشي ويذهب حيث شاء، من ساب يسيب إذا ذهب مستمرا, ولذلك سميت الدابة سيبة أي: ذاهبة حيث أرادت. ¬

_ (¬1) الأم (4/ 133، 79).

وقولهم: أعتق فلان عبده سائبة أي: أعتقه وقطع ما بينه وبينه من العلاقة، فلا يلتزم به، ولا عقل بينهما ولا ميراث ولا شيء، ومنه السائبة التي كانوا يسيبونها في الجاهلية من الإبل. وقوله: "أعطوه ورثة طارق" لأن طارقًا كان قد أعتق هؤلاء سوائب والسوائب كان لا يرثهم معتقهم فامتنعوا من أخذ المال لذلك، فقال عمر: اجعلوه في مثلهم من الناس، أي: فيمن كان سيبه من الناس، وأن يشتري به عبيدًا فيعتقوا سوائب. قوله: "فانقلبوا عن بضعة عشر ألفا" أي: ماتوا عن هذا القدر المعروف من المال. وقوله: "فأمرني" هكذا جاء في نسخ السنن (¬1) وكأنه سهو من النساخ، لأن الحديث مرسل عن عطاء، وعطاء لا يقول: فأمرني عمر، إنما يقول فأمر عمر، ويعضد ذلك رواية البيهقي (¬2) فإنه قال: فأمر أن يدفع إلى طارق أو ورثة طارق. قال الشافعي: كان أهل الجاهلية يبحرون البحيرة، ويسيبون السائبة ويوصلون الوصيلة، ويعتقون الحاكم وهذه من الإبل والغنم السائبة كانوا يقولون: قد أعتقناك سائبة، ولا ولاء لنا عليك، ولا ميراث يرجع منك، ليكون أعظم لتبررنا فيك. وكانوا يقولون في الحام إذا ضرب الفحل في إبل الرجل عشر سنين، وقيل له نتج له عشرة: حام أي: حمى ظهره لا يحل أن يركب، ويقولون في الوصيلة وهي من الغنم إذا وصلت بطونا توأما ونتج لنتاجها، وكانوا يمنعونها مما يفعلون بغيرها فأنزل الله -عز وجل-: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ¬

_ (¬1) كذا بالأصل ولعله أراد [المسند] فصحفت. (¬2) المعرفة (14/ 419).

وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (¬1) فرد الله ثم رسوله الغنم إلى مالكها؛ إذا كان العتق لا يقع على غير الآدميين، وكذلك لو أنه أعتق بعيره لم يمنع بالعتق منه، إذ حكم الله أن يرد ذلك ويبطل الشرط، وكذلك أبطل الشرط في السائبة ورده إلى ولاء من أعتقه. قال الشافعي -رضي الله عنه-: ونحن نقول: إن أعتق رجل سائبة فهو حر وولاؤه له. ثم ذكر هذين الحديثين عن عطاء. والذي ذهب إليه الشافعي: أن من أعتق سائبة فهو عتيق وولاؤه له. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: يعتق ولا يكون له عليه ولاء، إنما يكون ولاءه للمسلمين فإذا قال لعبده: أنت سائبة، كان ذلك كناية، فإن لم يكن له نية لم يعتق، وإذا أراد به العتق عتق. وقد أخرج الشافعي: عن سفيان قال: أخبرنا أبو طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر قال: كان سالم -مولى أبي حذيفة- مولى لامرأة من الأنصار يقال لها: عمرة بنت يعار أعتقته سائبة، فقتل يوم اليمامة فأتي أبو بكر -رضي الله عنه- بميراثه فقال: أعطوه عمرة فأبت [أن] (¬2) تقبله. وعن الشافعي: عن سفيان، عن سليمان بن مهران، عن النخعي أن رجلاً أعتق سائبة فمات، فقال عبد الله: هو لك، قال: لا أريده، قال: فضعه إذًا في بيت المال فإن له وارثًا كثيرًا. وقد روي حديث ابن مسعود موصولاً عن علقمة بن عبد الله. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن ¬

_ (¬1) [المائدة: 103]. (¬2) من المعرفة (14/ 419).

أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه أنه أخبره: أن العاص بن هشام هلك وترك [بنين له ثلاثة، اثنان لأم، ورجل لعله، فهلك أحد الذين لأم وترك] (¬1) مالًا وموالي، فورثه أخوه الذي لأمه وأبيه ماله وولاء مواليه، ثم هلك الذي ورث ولاء الموالي وترك ابنه وأخاه لأبيه، فقال ابنه: قد أحرزت المال وولاء الموالي، وقال أخوه: ليس كذلك إنما أحرزت المال، فأما ولاء الموالي فلا، أرأيت لو هلك أخي اليوم ألست أرثه أنا؟، فاختصما إلى عثمان فقضى لأخيه بولاء الموالي. هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ (¬2) إسنادًا ولفظًا. إذا كان الأخوة لأب واحد وأم واحدة فهم الأعيان، وهذه الأخوة تسمى: المعاينة، وإن كانوا بني أب واحد وأمهات شتى فهم العلات، والواحد ابن على -بفتح العين- لأن الذي تزوج كل واحدة من أمهاتهم تزوج قبلها أخرى ثم حل من هذه الثانية، ومنه العلل الشرب الثاني بعد النهل، وإن كانوا لآباء شتى وأم واحدة فهم: الأخياف، قيل: سموا بذلك لاختلاف آبائهم فكأنه من قولهم: الناس أخياف أي: هم مختلفون. والذي ذهب إليه الشافعي: أن من أعتق عبدًا فله ولاؤه، فإذا مات العبد ولم يخلف وارثًا كان ميراثه للمعتق، فإن كان له وارثًا من قرابة أو صهر ورثه صهره وقرابته، فإن فضل من أنصبائهم شيء كان للمعتق، وسواء كان المعتق ذكرًا أو أنثى، ثم ينتقل الميراث عن المعتق إلى عصابة المذكور دون الإناث. وحكي عن طاوس أنه قال: يرثه قرابة ذكرهم وأنثاهم، ثم الولاء للكبر الأكبر في الدرجة لا في السن، ومثاله ما جاء في هذا الحديث فإن أخا الميت أكبر من ابنه وأعلى في الدرجة. ¬

_ (¬1) من الأم (4/ 128). (¬2) الموطأ (2/ 600 - 601 رقم 22).

وقوله: "أو هلك أخي الآن ألست أرثه أنا" يعني: الأخ الأول لو مات وخلف أخا لأب وابن أخ لأب وأم، فإن الميراث للأخ دون ابن الأخ لأن الأخ يحجب ابن الأخ، وذلك أن الولاء ورث أبو هذا الولد من أخيه لأبيه وأمه، فأما الذي مات عنه الأخ الثاني فإنه لابنه خاصة دون أخيه والولاء لأخيه دون ابنه. والله أعلم. وأخرج الشافعي في سنن حرملة: عن سفيان، عن هشام بن عروة عن أبيه، عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله، إني أعتقت في الجاهلية أربعين محررا، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسلمت على ما سبق لك من خير". هكذا رواه سفيان، وقد رواه أبو معاوية عن هشام أتم من هذا وفيه: فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا صنعت لله في الإسلام مثله، قال: وكان أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وساق مائة بدنة، فأعتق في الإِسلام مائة رقبة، وساق مائة بدنة. وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬1) ومسلم (¬2). ... ¬

_ (¬1) البخاري (2538). (¬2) مسلم (123).

كتاب التدبير

كتاب التدبير أخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد [عن] (¬1) ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: إن أبا مدكور -رجل من بني عذرة- كان له غلام قبطي فأعتقه عن دبر منه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع بذلك العبد فباع العبد فقال: "إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد بعد ذلك فضلاً فليتصدق". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن حسان، عن حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر: أن رجلاً أعتق غلامًا له عن دبر لم يكن له مال غيره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتريه مني"؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم وأعطاه الثمن. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن حسان، عن الليث وحماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أعتق رجل من بني عذرة عبدًا عن دبر، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألك مال غيره"؟ فقال: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتريه مني"؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، فجاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فدفعها إليه ثم قال: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل عن نفسك شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذوي قرابتك شيء فهكذا وهكذا" يريد: عن يمينك وشمالك. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار وعن أبي الزبير سمعا جابر بن عبد الله يقول: دبر رجل منا غلامًا له ليس له مال غيره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتريه مني"؟ فاشتراه نعيم بن النحام قال عمرو: سمعت جابرا يقول: عبدًا قبطيًا مات عام أول في إمارة ابن الزبير. وزاد أبو الزبير: يقال له: يعقوب. ¬

_ (¬1) من الأم (8/ 15).

قال الشافعي: هكذا سمعته منه عامة دهري، ثم وجدت في كتابي دبر رجل منا غلامًا له فمات. فإما أن يكون خطأ من كتابي أو خطأ من سفيان، فإن كان من سفيان فابن جريج أحفظ لحديث أبي الزبير من سفيان، ومع ابن جريج حديث الليث وغيره، وأبو الزبير يحد الحديث تحديدًا يخبر فيه حياة الذي دبره، وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم أحفظ لحديث عمرو من سفيان وحده، وقد يستدل على حفظ الحديث من خطئه بأقل مما وجدت في حديث ابن جريج والليث عن أبي الزبير، وفي حديث حماد عن عمرو وغير حماد يرويه عن عمرو كما رواه حماد بن زيد، وأخبرني غير واحد ممن لقي سفيان بن عيينة قديمًا، أنه لم يكن يدخل في حديثه "مات"، وعجب بعضهم حين أخبرته، أني وجدت في كتابي "مات"، قال: ولعل هذا خطأ منه أو زللًا منه حفظتها عنه. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن آدم، عن شعبة، عن عمرو بن دينار. وعن قتيبة، عن سفيان، عن عمرو وعن أبي النعمان، عن حماد بن زيد، عن عمرو. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي الربيع، عن حماد بن زيد. وعن زهير، عن أبي بكر وأحمد بن عبدة، عن سفيان كليهما عن عمرو. وعن قتيبة وابن رمح، عن الليث، عن أبي الزبير. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن أحمد بن حنبل، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن أبي الزبير. وعن أحمد بن حنبل أيضًا، عن هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن ¬

_ (¬1) البخاري (2534، 6716). (¬2) مسلم (997). (¬3) أبو داود (3957، 3955).

عطاء وإسماعيل بن أبي خالد، عن سلمة بن كهيل، عن عطاء، عن جابر. وقال فيه: بسبعمائة أو تسعمائة. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن عمرو. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن الليث. ح وعن زياد بن أيوب، عن إسماعيل، عن أيوب كليهما عن أبي الزبير. قبطي: منسوب إلى القبط، وهم هذا الجيل المعروف من الناس، وأكثرهم الآن سكان ديار مصر ويدينون اليوم دين النصارى. وقوله: "عن دبر منه" يريد: علق عتقه بموته، أي: أنه يعتق بعد ما يدبر سيده أن يولي ويموت، والعبد مدبر. والتدبير على ضربين: مطلق، ومقيد. فالمطلق: أن يقول: أنت حر بعد موتي ونحو ذلك من الألفاظ. والمقيد: أن يقول: إن من من مرضي هذا فأنت حر، أو قال: في سنتي هذه، أو سفري هذا وأشباه ذلك. وقوله: "فليبدأ مع نفسه بمن يعول" في هذا الكلام لطافة وحسن إيراد، وذلك قال أولاً: "فليبدأ بنفسه ثم إن فضل شيء" وكان القياس أن يقول: فإن فضل شيء فليعطه من يعول فعدل عن هذا اللفظ إلى قوله: "فليبدأ مع نفسه بمن يعول" فجعل الابتداء له ولمن يعول معا، وإنما الابتداء لنفسه لا لعياله، ولكن لما كانت نفقة من يعوله واجبة عليه ممتزجة بنفقته ومؤنته، جعل الابتداء لنفسه ولمن يعول مشتركين فيه، فكأنه قال: "فليبدأ بنفسه وبمن يعول" فجعل ما يتعلق بمن يعول ابتداء المعنى، ولولا قوله: "مع نفسه" لجاز أن يكون أراد بالابتداء حق من ¬

_ (¬1) الترمذي (1219) وقال: حسن صحيح. (¬2) النسائي (5/ 69) (7/ 304).

يعول ابتداء على من بعده، ولكن قوله: "مع نفسه" يمنع من ذلك، فإن لفظة "مع" تنفي أن يكون الابتداء بنفسه وبمن يعول معًا في حالة واحدة، وذلك لامتزاج النفقتين واتحاد المؤنتين. وقوله: "لم يكن له مال غيره" بغير واو قيل: إنه لم يفيد أنه في موضع الصفة للغلام، كأنه قال: أعتق غلامًا منفردًا بالمالية التي له، وفي بعض الروايات بإثبات الواو وهي عاطفة على ما قبلها. وأما اللفظة -التي ذكرها الشافعي أنه وجدها في كتابه، وهي لفظة "مات" فإن الحفاظ لم يثبتوها ولم يعرفوها في هذا الحديث، لا من طريق سفيان ولا من غيره، وقد أنكرها الشافعي واستقصى القول فيها، ويشبه أن يكون هذا الوهم إنما وقع لبعض من رواه الآن لأن في بعض الروايات: أن رجلاً أعتق مملوكه إن حدث به حدث فمات، قوله: "فمات" من شرط العتق وهو من قول المعتق يوم التدبير، وليس بإخبار عن موت المعتق. والذي ذهب إليه الشافعي: أن تدبير العبد لا يمنع من التصرف فيه، ويجوز فسخ التدبير وبيع العبد متى شاء. وروي مثل ذلك عن عائشة وعمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد، وعن أحمد روايتان. أحدهما: يجوز بيعه على الإطلاق. والثانية: يباع لأجل الدين. وقال أبو حنيفة: إن كان التدبير مقيدًا جاز بيعه، وإن كان مطلقًا لم يجز التصرف فيه. وقال مالك: لا يجوز بيعه، مطلقا كان التدبير أو مقيدا. قال الشافعي: ويجوز الرجوع في التدبير بالقول، مثل أن يقول: فسخت

التدبير أو أبطلته ونحو ذلك، وبالفعل كالبيع والهبة. وقال في أكثر كتبه الجديدة: ولا يزول التدبير إلا بالفعل كالبيع والهبة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن، عن أمه عمرة أن عائشة دبرت جارية لها، فسحرتها، فاعترفت بالسحر، فأمرت بها عائشة أن تباع من الأعراب ممن يسيء مِلكها فبيعت. هذا الحديث قد أخرجه مالك في الموطأ (¬1) بهذا الإسناد أن عائشة -زوج النبي - صلى الله عليه وسلم- كانت أعتقت جارية لها عن دبر منها، ثم إن عائشة اشتكت بعد ذلك ما شاء الله أن تشتكي، ثم دخل عليها رجل سندي فقال لها: أنت مطبوبة، فقالت عائشة: ومن طبني؟ قال: امرأة من نعتها كذا وكذا فوصفها، وقال: إن في حجرها الآن صبيًا قد بال، فقالت عائشة: ادعو لي فلانة - لجارية لها كانت تخدمها- فوجدوها في بيت جيران لهم في حجرها صبي قد بال، فقالت: حتى أغسل هذا الصبي، فغسلته ثم جاءت فقالت لها عائشة: أحببت العتق فوالله لا تعتقين أبدًا، ثم أمرت عائشة ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء ملكتها، قالت: ثم ابتع لي بثمنها رقبة فأعتقها ففعل. وهذا المعنى رواه الشافعي في القديم عن مالك. الأعراب: ساكنوا البادية ممن لا يأوي إلى المدر والقرى، وهو جمع لا واحد له من لفظه. وسوء الملكة: خلاف حسنها وهو أن يستعمل العبد فيما يشق عليه، ويكلف ما ليس في وسعه من الخدمة، وأن يجاع ويعرى ويضرب ونحو ذلك من أنواع الأذى. والسندي: منسوب إلى السند وهم ناس معروفون من جنس الهنود أو قريب ¬

_ (¬1) انظر الاستذكار (25/ 238).

منهم، وبلادهم جميعًا متصلة من جهة المشرق. والمطبوب: المسحور. وقوله: "والله لا تعتقين أبدا" يعني: أنها تنقض تدبيرها وتبيعها فلا تعتق بسبب التدبير. وقد أخرج الشافعي قال: أخبرنا الثقة، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: باع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدبرًا احتاج صاحبه إلى ثمنه. وأخرج الشافعي قال: أخبرنا علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: المدبر من الثلث. قال الشافعي: قال لي علي بن ظبيان: كنت أخذته مرفوعًا، فقال لي أصحابي: ليس بمرفوع وهو موقوف على ابن عمر فوقفته، والحفاظ الذين حدثوه يقفونه على ابن عمر، وقد رواه عثمان بن أبي شيبة في آخرين عن علي ابن ظبيان مرفوعًا، والصحيح موقوف كما رواه الشافعي وروى أيضًا عن علي وابن مسعود مرسلًا موقوفًا. وأخرج الشافعي قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أنه دبر جاريتين له، فكان يطأهما وهما مدبرتان. ***

كتاب المكاتب

كتاب المكاتب أخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن أن بريرة جاءت لتستعين عائشة، فقالت عائشة: إن أحب أهلك أن أصب لهم ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت، فذكرت ذلك بريرة لأهلها فقالوا: إلا أن يكون ولاؤها لنا، قال مالك: قال يحيى: فزعمت عمرة أن عائشة ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يمنعك ذلك، فاشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق". هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد تقدم له طرق في كتاب "البيع"، وفي كتاب "العتق"، وله روايات كثيرة إلا أن مالكا أرسله في أكثر الروايات وأسنده عنه مطرف بن عبد الله، وأسنده الشافعي عنه في كتاب "اختلاف الحديث"، وفي كتاب "البحيرة والسائبة"، وأرسله المزني عنه وغيره وهو المحفوظ من حديث مالك، وقد رواه غير مالك موصولاً منهم: سفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وجعفر بن عون وعبد الوهاب الثقفي كلهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة، عن عائشة (¬1). وأخرجه المزني: عن الشافعي، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: أردت أن أشتري بريرة فأعتقها، فاشترط علي مواليها أن أعتقها ويكون الولاء لهم، قالت عائشة: فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق"، ثم خطب الناس فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ فمن اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط". قال الشافعي: حديث يحيى، عن عمرة، عن عائشة أثبت من حديث هشام وأحسبه غلط في قوله: واشترطي لهم الولاء، بغير أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهي ¬

_ (¬1) راجع تفصيل ذلك من المعرفة (14/ 460).

ترى ذلك يجوز، فأعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها إن أعتقتها فالولاء لها، وقال: لا يمنعك عنها ما تقدم من شرطك، ولا أرى أمرها يشترط لهم ما لا يجوز. وقال الشافعي: وأحسب حديث نافع، عن ابن عمر، عن عائشة أثبتها كلها لأنه مسند وأنه أشبه. وقد حكى حرملة قال: سمعت الشافعي يقول في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - "اشترطي لهم الولاء" معناه: اشترطي عليهم الولاء، قال الله -عز وجل-: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} (¬1) يعني: عليهم اللعنة. وما يتعلق بهذا الحديث من شرح لفظ بيان معنى وذكر مذاهب الفقهاء قد تقدم ذكره مبسوطًا في كتاب "البيع" فلم نعده. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن [ابن] (¬2) أبي نجيح، عن مجاهد أن زيد بن ثابت قال في المكاتب: هو عبد ما بقي عليه درهم. والذي ذهب إليه الشافعي: أن العبد لا يعتق حتى يؤدي جميع الكتابة. وروي ذلك عن: عمر وابن عمر وزيد وعائشة وأم سلمة، وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن والزهري ومالك وأبو حنيفة وأصحابه. وحكي عن ابن مسعود: أنه إذا أدى نصف ما عليه عتق كله وكان زعيمًا بالباقي بعد عتقه. وروي مثله عن علي -كرم الله وجهه-، وروي عنه أيضًا: أنه يعتق بقدر ما يؤدي. وقال شريح: إذا أدى ثلث ما عليه عتق وأدى الباقي بعد ذلك. وقد أخرج الشافعي: عن حماد الخياط، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله إذا أدى المكاتب قيمته فهو حر. ¬

_ (¬1) [الرعد: 25]. (¬2) من الأم (8/ 53).

أورده فيما ألزم العراقيين في خلاف عبد الله بن مسعود (¬1). وأخرج الشافعي: فيما بلغه عن ابن مهدي، عن الثوري، عن طاوس، عن الشعبي أن عليا -كرم الله وجهه- قال في المكاتب: يعتق منه بحساب. وفيما بلغه عن حجاج، عن يونس، عن ابن أبي إسحاق، عن أبيه، عن الحارث، عن علي: يعتق من المكاتب بقدر ما أدى، ويرث بقدر ما أدى. قال الشافعي: وقال ابن عمر وزيد بن ثابت: هو عبد ما بقي عليه شيء. وروي ذلك عن عمرو بن شعيب، فبذلك نقول ويقولون معنى وهم يخالفون هذا الذي رووه عن علي. وقد أخرج الشافعي في القديم (¬2): عن سفيان قال: سمعت الزهري -وثبتني معمر- يذكر عن نبهان -مولى أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان معها وأنها سألته: كم بقي عليك من كتابتك؟ فذكر شيئًا قد سماه وأنه عنده، فأمرته أن يعطيه أخاها وابن أخيها، وألقت الحجاب واستترت منه وقالت: عليك السلام، وذكرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه" ورواه المزني: عن الشافعي: عن سفيان بالإسناد نحوه وقال: قال سفيان: فسمعته عن الزهري أو ثبتنيه معمر. قال الشافعي في القديم: ولم أحفظ عن سفيان أن الزهري سمعه من نبهان، ولم أر من رضيت من أهل العلم يثبت واحدًا من هذين الحديثين والله أعلم. أراد هذا الحديث، وحديث عمرو بن شعيب في المكاتب. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الله بن الحارث، عن ابن جريج، عن إسماعيل ابن أمية أن نافعًا أخبره أن عبد الله بن عمر كاتب غلامًا له على ثلاثين ألفًا ثم ¬

_ (¬1) الأم (8/ 53). (¬2) المعرفة (14/ 449).

جاءه فقال: "إني قد عجزت، قال: إذًا امحُ كتابتك، فقال: فقد عجزت فامحها أنت، قال نافع: فأشرت إليه امحها، وهو يطمع أنا يعتقه فمحاها العبد وله ابنان أو ابن، قال ابن عمر: اعتزل جاريتي، قال: فأعتق ابن عمر ابنه بعد. قوله: "قد عجزت" يريد: عجز عن تحصيل مال الكتابة الذي كاتبه عليه. والمحو: الطمس، يريد هو الكتاب الذي كتبه له بالمكاتبة، تقول: محوته أمحوه وأمحيه محيا. والذي ذهب إليه الشافعي: أنه إذا كاتب عبده على نجوم لم يكن له أن يطالبه قبل حلول النجم، فإن طالبه فعجز عن أدائه كان السيد مخيرًا بين فسخ الكتابة؛ وبين الصبر عليه، وإن كان العبد قادرًا على الأداء فهو بالخيار إن شاء أدى وعتق، وإن شاء عجز نفسه وامتنع من الأداء. وقوله: "اعتزل جاريتي" قد كان مزوجا بجارية لعبد الله وله منها ولد. وقوله: "فأعتق ابن عمر ابنه بعد" يريد أن أولاده عبيده فاحتاجوا أن يستأنف لهم العتق. وأخرج الشافعي: أخبرنا الثقة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه كاتب عبدًا له بخمسة وثلاثين ألفًا ووضع عنه خمسة آلاف -أحسبه قال-: من آخر نجومه. قال الشافعي: وهذا -والله أعلم- عندي مثل قول الله -عز وجل-: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1). وقد روي في الموضع عن المكاتب عن ابن عمر وابن عباس، وروى أبو عبد الرحمن السلمي، عن علي في قوله -عز وجل-: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (¬2) قال: ربع الكتابة. هذا هو المحفوظ موقوف، وقد روي مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم. ¬

_ (¬1) [البقرة: 241]. (¬2) [النور: 33].

باب عتق أمهات الأولاد

باب عتق أمهات الأولاد لم يرد فيه في المسند حديث. وقد أخرج الشافعي فيما بلغه عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عبيدة قال: قال علي: استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد؟ فرأيت أنا وهو أنها عتيقة، فقضى به عمر حياته وعثمان بعده، فلما وليت رأيت أنها رقيقة. وقد روي عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي قال: اجتمع رأيي ورأي عمر على عتق أمهات الأولاد، ثم رأيت بعد أن أرقهن في كذا وكذا، فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلى من رأيك وحدك في الفتنة. وكذلك رواه الشعبي، عن عبيدة إلا أنه قال: من رأيك وحدك في الفرقة. قال الشافعي: إذا وطئ الرجل أمته بالملك فولدت له فهي مملوكة بحالها لا ترث ولا تورث، إلا أنه لا يجوز لسيدها بيعها ولا إخراجها من ملكه بشيء غير العتق، وأنها حرة إذا مات من رأس المال. وقد أخرج المزني: عن الشافعي، عن عبد المجيد، عن ابن جريج، عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي بيننا لا يرى بذلك بأسا. فيحتمل: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر بذلك. ويحتمل: أن ذلك كان قبل النهي، أو قبل ما استدل به عمر وغيره من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عتقهن، ومن فعله منهم لم يبلغه ذلك.

كتاب فضائل قريش

كتاب فضائل قريش أخبرنا الشافعي: حدثنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قدموا قريشًا ولا تقدموها، وتعلموا منها ولا تعالموها أو تعلموها". هذا الحديث وما أشبهه من الأحاديث التي أملاها الشافعي -رحمة الله عليه- في الجديد، في فضائل قريش والأنصار وغيرهم، وقصده من ذلك ترجيح معرفتهم بالسنن على معرفة غيرهم. قوله: "قدموا قريشا" يستدل بهذا الحديث من لا يرى الإمامة إلا في قريش، وهو صريح في ذلك أو قريب من الصريح. وقوله: "ولا تقدموها" فحذف التاء الواحدة وهي تاء التفعل لا تاء المضارعة. وقوله: "ولا تعالموها" مفاعلة من العلم، أي: لا تغالبوها بالعلم ولا تكاثروها فيه. وفي الرواية الأخرى: "ولا تعلموها" لأن التعليم إنما يكون من الأعلى بالأدنى، ومن الأعلم لمن ليس بأعلم، فنهاهم أن يجعلوا قريشًا في مقام التعليم أو في مقام المغالبة بالعلم، وهذا القول وإن كان عامًا في الأمر بتقديمهم والتعلم منهم؛ وفي النهي عن المتقدم عليهم والتعليم لهم، فإنه خاص في الإمامة وصرفه إليها أخص وأولى بالإجماع، لأنه لا يجوز أن يلي الإمامة إلا قرشي؛ وإذا كان هذا المنصب خاصًا دون الناس، فما الظن بغيره من المناصب والمراتب؟. وقريش: هو النضر بن كنانة، وقيل: هو فهر بن مالك بن النضر. فكل من هو من ولد هذا أو ذا فهو قرشي. ويريد بقريش في الحديث: القبيلة، وإنما صرف لأنه نظر إلى الاسم أو الحي

فزال عنه التأنيث فانصرف. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن حكيم بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز وابن شهاب يقولان: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أهان قريشا أهانه الله -عز وجل-". هذا الحديث هكذا أخرجه الشافعي مرسلاً، وقد أخرجه الترمذي (¬1) مسندًا عن صالح بن الحسين، عن سليمان بن داود الهاشمي، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن محمد بن أبي سفيان، عن يوسف بن الحكم، عن محمد بن سعد، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يرد هوان قريش أهانه الله". قال الترمذي: وأخبرنا عبد بن حميد، عن يعقوب بن إيراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب بهذا الإسناد نحو رواية الشافعي. من أهان قريشا: أي من أحل بها هوانًا جزاه الله عليه مثله، وقابل هوانه بهوان، ولكن هوان الله أشد وأعظم. ورواية الترمذي: "من يرد هوان قريش أهانه الله" فهذا أعظم لأنه جعل هوان الله لمن أراد هوانها، فهذا وإن كان اللفظ يقتضيه، ويجوز أن يجعل ذلك خاصا لقريش، لكن حكم الله المطرد في عدله أنه لا يعاقب على الإرادات، وما تحدثت به الأنفس، إنما يعاقب ويجازي على الأفعال والأقوال الواقعة، ولكن ذكر ذلك لمعنيين:- أحدهما: الزجر والوعيد والتغليظ في حق قريش؛ ليكون الانتهاء عن أذاهم أسرع قبولًا واتباعًا. والثاني: أن هذا جرى على العادة المألوفة في الخطاب والاتساع في اللغة، ¬

_ (¬1) الترمذي (3905) وقال: غريب من هذا الوجه.

يقول القائل: من يعزم على كرامتي أكرمه، ومن يعزم على إهانتي أهنه، ولا يرد أنه يكرمه أو يهينه بمجرد العزم على إكرامه وإهانته، وإنما يريد أحد أمرين إما أن يجاري اللفظ بلفظ مثله، فيكون التقدير: من يعزم على كرامتي أعزم على كرامته، ومن يعزم على إهانتي أعزم على إهانته، أو على تقدير: من يعزم على كرامتي فإني أكرمه إذا وقع منه ما عزم عليه، ولكن أوسع في الخطاب بهذا القول المعتاد لفهم المعنى والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن أبي فديك، عن [ابن] (¬1) أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن أنه قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله -عز وجل-". بطر الرجل -بالكسر- يبطر -بالفتح-: إذا طغى في النعمة وكفرها وجار فيها، يريد: لولا أنها إذا علمت ما لها عند الله من الخير والأجر والثواب والنعيم المعد المدخر لها؛ كانت تبطر وتدع العمل وترتكب ما لا يحل لها، اتكالا على ما لها عند الله من حسن الجزاء لأعلمتها به. وهذا دليل على علو منزلتها وارتفاع قدرها عند الله، وأن المعد لها شيء كثير؛ لا يمكن الإنسان مع معرفته به إلا أن يطغى ويبطر. وفي إضافة البطر إليها نقص ولكنه أمر طبيعي قد ركب في الإنسان وجبلت الفطرة الآدمية فلا يكاد يخلو عنه وإن وجد من يقهر نفسه، ويكف هواه، ويغلب طبعه فإليه المنتهى وقليل ما هم فلا نظن أن ذلك نقص يخصهم فإنه وصف لا يخلو منه بشر. وفقنا الله وإياكم لقهر شيطان الهوى. وأخبرنا الشافعي: أخبرني ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش: "أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم مع الحق، إلا أن تعدلوا عنه فتُلحون عليه ¬

_ (¬1) من المسند (3/ 695).

كما تلحى هذه الجريدة" يشير إلى جريدة في يده. هذا الأمر يريد به: الأمانة والإمارة، وهو إشارة إلى الأمر الذي جاء به، ثم إنه لما جعلهم أولى الناس به اتبعه بما يتبعهم من العجب والبطر والترفع على الناس، فقال: "ما كنتم مع الحق أي": ما لزمتم الحق ودمتم عليه إلا أن تنصرفوا عنه وتميلوا إلى غيره من الباطل، فتلحون أي تنسرون كما تنسر هذه الجريدة: وهي القطعة من عسيب النخل، والعسيب: من السعفة ما بين الكرب ومنبت الخوص، وما ينبت عليه الخوص فهو السعفة، واللحاء -ممدودا-: القشر الذي يكون على العود، تقول: لحوته ألحوه لحوًا، أو لحيته ألحيه لحيًا. ووجه التشبيه بهذا المثال: أن الجريدة وغيرها من العيدان إذا أخذ قشرها كان ذلك داعيا إلى يبسها وجفافها، لأنها مهما كان قشرها عليها كان أحفظ لها، وكذلك أنتم معشر قريش تجردون من الفضيلة التي خصصتم بها وكنتم بها أولى من غيركم إذا عدلتم عن الحق، فيكون ذلك أدعى إلى ذهاب جاهكم وفضلكم على الناس فإنكم وإن كنتم ذوي نسب شريف تميزتم به على غيركم؛ فإنما يتم لكم ذلك ويستمر بلزوم الحق؛ والوقوف عند حكم العدل والانصاف واتباع الواجب وترك الهوى والميل معه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة الأنصاري، عن أبيه، عن جده رفاعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نادى: "أيها الناس، إن قريشًا أهل أمانة من بغاها العواثر أكبه الله لمنخريه" يقولها ثلاث مرات. بغيت الشيء أبغيه: إذا طلبته، وبغيتك: طلبته لك، كأن الأصل لغيت لك الشيء فحذف اللام وأوصل الفعل، لأن بغيت لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد وعلى هذا جاء قوله: "من بغاها العواثر" أي: بغى لها وطلب لها. والعواثر: جمع عاثرة أي: خصلة من شأنها العثور وهو السقوط والوقوع

على الوجه، من عثر يعثر عثورًا. وقال الأزهري: معناه: من بغى لها المكائد التي تعثر بها، كالعاثور الذي يحدُّ في الأرض فيتعثر به الإنسان إِذا مر به ليلًا وهو لا يشعر به. قال: ويقال: وقع فلان في عاثور شر وعافور شر، إذا وقع في ورطة لم يحسبها ولا شعر بها. وقد جاء في المسند: "أكبه الله" وإنما يقال: كبه بغير ألف، فإذا أدخل الألف صار الفعل قاصرًا بعد أن كان متعديًا، تقول: كببته فأكب هو، وهذا البناء من الأبنية الشاذة، أن يقال: أفعلت أنا ففعلت غيري، ومثله قشعب الريح السحاب فأقشع، وليس شيء من بناء أفعل مطاوعًا، وسيبويه يجعل أكب من باب أبغض. والكلام أي: دخل الكب وصار ذا كب، وكذلك اتسع السحاب أي: دخل في القشع، ومطاوع كب وانقشع: انكب وانقشع. وقوله: "لمنخريه" أي: ألقاه على وجهه ورماه ملتقيًا وجه الأرض بمنخريه، وتخصيص المنخرين: جريًا على قولهم: رغم أنفه وأرغم الله أنفه أي: ألقاه في الرغام وهو التراب. وذلك أن الإنسان إذا سقط على وجهه فأول ما يلقى الأرض أنفه. واللام في "لمنخريه" لام التخصيص، أي أن الكب لهما خاصة دون سائر أعضائه، والمراد كما قلنا: أنه من طلب لقريش المكائد نقلها الله إِليه وجعلها له، وعكس عليه غرضه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن قتادة بن النعمان [وقع] (¬1) بقريش فكأنه نال منهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مهلا يا قتادة، لا تشتم قريشًا فإنك ¬

_ (¬1) من المسند (2/ 698).

لعلك ترى منها رجلاً أو يأتي منهم رجال تحقر عملك مع أعمالهم، وفعلك مع أفعالهم، وتغبطهم إذا رأيتهم، لولا أن تطغى قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله -تعالى-". قوله: وقع بقريش، يفسره قوله: نال منهم. وقوله: "لا تشتم قريشًا" تقول: وقع فلان في الناس وقيعة أي أعانهم، وكذلك وقع به، ونال فلان من فلان: إذا شتمه واغتابه ونحو ذلك. وقوله: "مهلًا" أي: تأن واصبر، وهو ساكن الهاء، ويكون للواحد والاثنين والجمع والمؤنث، يعني: أمهل، فإذا قيل لك: مهلاً، قلت: لا مهل، ولا تقل: لا مهلا. والغبطة: نوع من الحسد إلا أنه لا يكون متضمنا زوال ما يحسد عليه إنما هو تمني مثله من غير زواله عن صاحبه. وطغى يطغى ويطغو طغيانًا: إذا جاوز الحد، وكذلك طغى يطغى. وقوله: "منها ومنهم" جمع بين الضميرين، فالأول: رده إلى لفظ الجماعة من قريش وهي مؤنثة، والثاني: رده إلى جماعة الرجال وهم مذكرون. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم [بن] (¬1) خالد، عن [ابن] (1) أبي ذئب بإسناد لا أحفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقريش شيئًا من الخير لا أحفظه، وقال: "شرار قريش خيار شرار الناس". فلان خير الناس وشر الناس، ويقال: أخير ولا أشر إلا في لغة رديئة، وهو لا خيار الناس وشرارهم، وهم أخيار وأشرار. وفي هذه الفضيلة التي ذكرها لقريش ما لا يخفى، لأنه لما علم أن قريشًا مع كثرتها لا تخلو من الأشرار كما يكون في جميع الناس من الخير والشر، وكانت ¬

_ (¬1) من المسند (2/ 699).

قريش من أشراف القبائل عند الله جعل شرارها أقل شرًا من شرار الناس؛ ولم يقل أقل شرًا، وجاء به بلفظ الخبر فقال: "خيار شرار الناس" وأضاف الخير إليهم في حال وصفهم لقلة الشر وأضاف الشر إلى الناس، وهذا من ألطف أبواب الخطاب وأحسنها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن إسحاق بن إبراهيم، عن جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة. وزاد فيه: "وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم لهم كراهية، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه". وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن مغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد وذكر نحوه. المعادن: جمع معدن الشيء وهو موضعه الذي يوجد فيه ويكثر فيه وقوعه. وفقه الرجل يفقه -بالضم فيهما-: إذا صار فقيها، وفقه -بالكسر- يفقه -بالفتح- إذا علم. وقوله: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام" وإن كان الحكم عامًا في حق الناس، فإن فيه إشارة إلى قريش وأنهم خيار الناس في الجاهلية، وهم خيار الناس في الإسلام، وإن الخير خير على كل حال كافرًا كان أو مسلمًا، ¬

_ (¬1) البخاري (3493، 3494). (¬2) مسلم (2526).

يدل على ذلك أنه قد جاء في بعض طرق البخاري ومسلم لهذا الحديث: "الناس تبع لقريش مسلمهم بمسلمهم وكافرهم لكافرهم"، ثم لما أطلق الحكم في ذلك خصه بقوله: "إذا فقهوا" أي: صاروا فقهاء عالمين، وإن وصف العلم هو الذي يتميز منه الإنسان على غيره، وهو الفضيلة العظمى، والنعمة الكبرى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني قال: حدثني ابن الغسيل، عن رجل سماه، عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في مرضه فخطب، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "ألا إن الأنصار قد قضوا الذي عليهم، وبقى الذي عليكم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم". قال الجرجاني في حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار"، وقال في حديثه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج بَهَشَ النساء والصبيان من الأنصار، فرق لهم ثم خطب فقال هذه المقالة. هذا الحديث قد أخرج بعضه البخاري ومسلم والترمذي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن محمد بن يحيى بن أبي علي الصائغ المروزي عن شاذان -أخي عبدان-، عن أبيه، عن شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس. وذكر الحديث إلى قوله: عن هشيم (¬2). وأما مسلم (¬3): فأخرجه في حديث ولم يذكر منه إلا: " [فاقبلوا] (¬4) من محسنهم واعفوا عن مسيئم". ¬

_ (¬1) البخاري (3799). (¬2) كذا بالأصل وهشيم ليس له ذكر في الإسناد ولا المتن. (¬3) مسلم (2510). (¬4) في الأصل [قبلوا] والمثبت من مسلم.

وأما الترمذي (¬1): فأخرجه مثل مسلم. وأما قوله في الدعاء: "لأبناء الأنصار" فقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. قوله: "قد قضوا الذي عليهم" يريد ما كانوا بايعوه عليه في العقبة من النصرة والحماية والإيواء والإيمان والوفاء بجميع ما اشترط عليهم عند البيعة. وقوله: "وبقى الذي عليكم" من حسن الجزاء لهم، وإعظام شأنهم، وعرفان إحسانهم، والوفاء لهم على صنيعهم مثله، ثم فسر ذلك بقوله: "اقبلوا من محسنهم" إذا أحسن فعلًا وقولاً، "وتجاوزوا عن مسيئهم" إذا أساء فعلًا وقولاً، وهذه كرامة لهم أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن إساءتهم، وهذا وإن كان عاما في التجاوز عن إساءتهم؛ فما هو إلا على سبيل التكرمة والمبالغة في العفو عنهم، وإلا فالحكم يلزمهم شرعًا؛ وإنما لهم فيما يبدو منهم من إساءة لا تتعلق بحق، ومن الإساءة التي ليس فيها حد مشروع مما يدور في الناس من الأقوال والأفعال الجاري بها عادات المتجاورين المتعاملين. والله أعلم. وقوله: "بهش" أي: ارتاح وخف إليه إذا رآه. قال أبو عبيد: يقال: الإنسان إذا نظر إلى الشيء فأعجبه واشتهاه فأسرع إليه وفرح به قد بهش إليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عمي محمد بن علي بن العباس، عن الحسن بن القاسم الأزرقي قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثنية تبوك فقال: "ما ها هنا شأم -وأشار بيده إلى جهة الشام- ومن ها هنا يمن -وأشار بيده إلى جهة [المدينة] (¬2) ". الثنية: الطريق في الجبل وقيل: هي الطريق في الجبلين، وقيل: هي العقبة ¬

_ (¬1) الترمذي (3904) وقال: حسن. (¬2) من المسند (2/ 706).

في الجبل. والغرض من هذا الحديث: بيان حد الشام واليمن، وقد جعل المدينة من اليمن بقوله: وأشار بيده إلى جهة المدينة، وقال في جهة الشام: "ما ها هنا"، وقال في جهة اليمن: "من ها هنا" وبينهما فرق وذلك أن قوله: "من ها هنا" يفيد أن ابتداء اليمن من هذه البقعة، وقوله: "ما ها هنا" إشارة إلى أن هذه البقعة من الشام وإن لم يكن متعرضا إلى أنها ابتداء الشام أولاً. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو أن الناس سلكوا واديًا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬1): عن محمد بن بشار، عن غندر، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، وذكر نحوه. الهجرة: مفارقة الوطن، والانتقال من أرض إلى أرض للمقام بها وترك الأولى للثانية، وأصله من الهجر ضد الوصل، تقول: هجره هجرًا وهجرانًا والهجرة: الاسم، والهجرة في الإسلام: هجرة الحبشة وهجرة المدينة. والمراد بها في هذا الحديث: هجرة المدينة وهي التي تخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه هاجر كما هاجر المسلمون وكان منهم، فقال: لولا أني هاجرت فصرت من جملة المهاجرين، لكنت واحدًا من الأنصار أي: من جملتهم معدودا فيهم. وهذا وإن كان مسوقا لبيان فضل الأنصار؛ فإن فيه بيان فضل المهاجرين عليهم. وقوله: "ولو أن الناس سلكوا واديًا أو شعبا" الشعب كالوادي إلا أنه ما كان منه بين جبلين، وقيل: هو مسيل الماء في بطن من الأرض له حرفان ¬

_ (¬1) البخاري (3779).

مشرفان، وقد يكون بن سندي جبلين. وقوله: "لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم" إظهارًا لموافقتهم وميله إليهم، ورغبته في الانضمام معهم، ومتابعة لهم دون الناس كلهم، وأنه لما قال: "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار" ولم يمكنه أن يترك المهاجرين أتبع الكلام بسلوكه مسلك الأنصار وموافقته لهم في ذلك. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عمرو، عن جابر بن عبد الله قال: كنا يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم اليوم خير أهل الأرض" قال جابر: لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن سعيد بن عمرو [الأشعثي] (¬3) وسويد بن سعيد وإسحاق بن إبراهيم وأحمد بن عبدة، عن ابن عيينة. ويوم الحديبية: يوم معروف كان في سنة [ست] (¬4) من الهجرة، توجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى مكة معتمرين فصدهم المشركون. والشجرة المذكورة في هذا الحديث: شجرة سمر كانت هناك بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه تحتها على أن لا يفروا، وقيل: بايعهم على الموت معه. وهذا من الأحاديث التي تشهد بفضل الصحابة وخاصة لأهل الحديبية فإنهم أهل بيعة الرضوان بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري (4840). (¬2) مسلم (1856). (¬3) في الأصل [الأشعري] والمثبت من صحيح مسلم. (¬4) أثبتها ليستقيم السياق. (¬5) [الفتح: 18].

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن عبد الله بن أبي لبيد، عن ابن سليمان ابن يسار، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قام بالجابية خطيبًا فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا كمقامي فيكم فقال: "أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب، حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد، ألا فمن سره أن يسكن [بحبوحة] (¬1) الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد، ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن". هذا حديث صحيح، أخرجه الشافعي مرسلًا عن سليمان بن يسار، عن عمر. وسليمان لم يدرك عمر. وقد أخرجه الترمذي (¬2) مسندًا عن أحمد بن منيع، عن النضر بن إسماعيل [عن] (¬3) ابن سوقة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية: وذكر الحديث وقال: بحبوحة الجنة، وفي حديثه: "عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة". قوله: "ثم يظهر الكذب" ويريد: كثرته وأنه يفشو في الأرض بحيث يظهر لكل أحد من الناس، ثم إنه أكد ذلك بقوله: "حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد" وهذا دأب من يكثر القول ويتكلم بما لا يصدق، فيقصد افتراه بالحلف من غير أن يستحلف على صحة قوله، ويشهد بالشيء تبرعًا من غير أن يستشهد، فيقف نفسه في مظان التهم. وبحبوحة الدار -بضم الباء-: وسطها، ووسط كل شيء خياره. ¬

_ (¬1) في الأصل [بحبحة] وستأتي في الشرح على الصواب كما هو مثبت وانظر المسند (2/ 667). (¬2) الترمذي (2165) وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. (¬3) من الترمذي.

والفذ: الواحد المنفرد من كل شيء. وقوله: "فإن الشيطان مع الفذ" أي: من شأنه أن يصاحب الواحد. وقوله: "وهو من الاثنين أبعد" لأن الشيطان إذا خلا بالإنسان يمكن من وسوسته وإيقاعه في الفتنة، لأنه لا شاغل له من قبول أباطيله، ولا رادع له عن اتباع أضاليله، فإذا كان معه غيره كان أبعد له عنه ولا يتمكن منه منفردًا. وقوله: "فليلزم الجماعة" يريد: جماعة المسلمين وأهل التقى والصلاح والتشبه بهم، والاقتداء بأفعالهم. ويحصل ذلك بملازمته إياهم. ثم علل ذلك بقوله: "فإن الشيطان مع الفذ" ثم لما قرر أن الشيطان مع الاثنين أبعد كان ذلك إعلامًا منه تجنب الشيطان الاثنين مطلقا فأتبعه بقوله: "ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما". والشافعي أخرج هذا الحديث وقال في أثناء كلامه: فلم يكن للزوم الجماعة معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما، فمن قال بما تقول جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، وإنما تكون الغفلة في الفرقة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبًا وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة [يمانية] (¬1). هذا حديث صحيح متفق عليه، ألا أن الشافعي أخرجه من هذا الطريق موقوفًا على أبي هريرة، وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي مرفوعًا. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن محمد بن [بشار] (¬3)، عن ابن المثنى، عن ابن ¬

_ (¬1) عن المسند (2/ 707). (¬2) البخاري (4388). (¬3) في الأصل [المثنى] والمثبت من رواية البخاري.

أبي عدي، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما مسلم (¬1): فأخرجه مثل البخاري. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن عبد العزيز بن محمد، عن محمد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. قوله: "ألين قلوبا" وصف لهم بسلامة الفطرة، وخلوص النية، وصحة الباطن، لأن اللين من مدح القلوب كما أن القساوة من ذمها. وكذلك رقة الأفئدة جمع فؤاد من مدحها كما أن غلظها من ذمها. والقلوب هي الأفئدة في الحقيقة، وإنما الاستعمال قد خصص كلا منهما بموضع في الذكر، وإن كان لا فرق بينهما في الأصل، وقد استعمل الأطباء الفؤاد في قسم المعدة، وإنما جاز ذلك لأنه مفارق للقلب الذي هو الفؤاد. وانتصب قلوبا وأفئدة على التمييز والتخصيص، ومن عادة المميز أن يكون واحدًا مفردًا، تقول: هؤلاء أقوى منكم قلبًا وأحسن وجهًا. وإنما جمع ها هنا كما جاء في قوله تعالى: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} ولم يقل عملاً، لأنه لو قال عملًا لجاز أن يتوهم أن كلهم خسروا في عمل واحد لا في أعمال، فجمع لإزالة هذا اللبس وهذا مطرد فيما كان من جنسه، إلا أن هذا التأويل بالآية أخص، لأنهم يجوز أن يكونوا كلهم مشتركين في قلب واحد. وقوله: "الإيمان يمان، والحكمة يمانية" يريد: أن مكة من اليمن وأن أصل الإيمان والحكمة منها، يعني: أن النبوة نشأت منها نشأت وبها عرفت. ¬

_ (¬1) مسلم (52). (¬2) الترمذي (3935).

وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن دوسًا قد عصت وأبت فادع الله عليها، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ورفع يديه فقال الناس: هلكت دوس، فقال: "اللهم اهد دوسا وائت بهم". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. وأما البخاري (¬1): فأخرجه عن علي، عن سفيان. وعن أبي نعيم، عن الثوري. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن يحيى بن يحيى، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد. قوله: "عصت وأبت" أي: امتنعت من الأحكام والدخول في الطاعة. وقوله: "هلكت دوس" بلفظ الماضي وإنما يراد به المستقبل، وذلك أن الناس لما رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استقبل القبلة ورفع يديه عقيب قول الطفيل ما قال، ظنوا أنه يدعو عليهم فقالوا: هلكت دوس، أي: تهلك بدعائه عليهم، لكن لما كان اعتقاد المسلمين في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه متى دعى على أحد أو لأحد استجيب له صار الهلاك المتوقع بدعائه، كأنه قد وقع وكان، فلذلك جاؤا به بلفظ الماضي، ثم لما قال له الطفيل: قد عصت وأبت، قال في الدعاء: "اللهم اهد دوسا وأت بهم"، فدعى لهم بما يخالف العصيان وهو: الهداية والإتيان إليه، والدخول في طاعته. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا الدراوردي عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ¬

_ (¬1) البخاري (6397، 4392). (¬2) مسلم (2524).

عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا أنا أنزع على بئر أستقي -قال الشافعي: يعني في النوم ورؤيا الأنبياء وحي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فجاء ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفيه ضعف والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فنزع حتى استحال في يده غربا، فضرب الناس بعطن، فلم أر عبقريًا يفري فريه". هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن سعيد بن عفير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد، عن أبي هريرة. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة. نزعت الدلو من البئر أنزعها: إذا استقيتها، وأصله من نزعت الشيء عن مكانه، وقد فسره في لفظ الخبر فقال: "بينا أنا أنزع على بئر أستقي" فأبدل أستقي من أنزع لأنه مفسرة لها وهي المرادة ولما أطلق الكلام في هذه الرواية ولم يقل: بينا أن نائم كما جاء في رواية البخاري ومسلم. قال الشافعي: يعني في النوم. حتى بين أنه كان نائمًا، ثم أتبع ذلك بقوله: ورؤيا الأنبياء وحي، ليتبين أن هذا وإن كان رؤيا نوم فإنها في التحقيق كاليقظة، لأن رؤيا الأنبياء وحي. والذنوب: الدلو إذا كانت ملأى ماء، ولا يقال لها وهي فارغة: ذنوب، وهي تؤنث وتذكر. وقوله: "وفيه ضعف" أي: في استقائه، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعى له واستغفر ¬

_ (¬1) البخاري (7021). (¬2) مسلم (2392).

له فقال: "والله يغفر له" يعني -والله أعلم- لما قال: "وفيه ضعف" ربما أوهم هذا اللفظ قصورًا فيه ووضعا من حقه فقال: "والله يغفر له" أي: لا يضره ضعفه عن الاستسقاء. واستحال الشيء إلى الشيء: أي: انقلب إليه، أي: تغير عما كان عليه. والغرب: الدلو العظيمة، يريد: أنها كانت ذنوبًا فصارت غربًا، فإن الغرب أعظم من الذنوب. والعطن: الموضع الذي تناخ فيه الإبل عند الماء إذا رويت، يقال: عطنت الإبل فهي عاطنة وعواطن: إذا شربت فبركت عند الحواظر لتعاد إلى الشرب مرة أخرى. والمراد بقوله: "حتى ضرب الناس بعطن" أي: حتى رووا فأرووا إبلهم فأبركوها وضربوا لها عطنا. والعبقري: الرجل الشديد، وفلان عبقري القوم أي: سيدهم وكبيرهم. وقوله: "يفري فريه" يريد: يعمل عمله، فرى يفري: إذا قطع، تقول العرب: فلان يفري الفرى: إذا عمل العمل وأجاده. وهذا الحديث أريه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلًا لأيام خلافة أبي بكر وعمر، وأن أبا بكر قصرت مدة خلافته ولم يفرغ من قتال أهل الردة لافتتاح الأمصار إلا قليلاً، حتى إنه توفي والمسلمون يحاصرون دمشق، وأن عمر طالت مدة خلافته حتى تيسرت له الفتوح، وأفاء الله عليه الغنائم وكنوز الأكاسرة، فشبه الري وضرب العطن بذلك. والله أعلم.

وقد أخرج الشافعي قال: سمعت عبد الوهاب يحدث عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم عليه تمر وشعير من بعض القرى، وأن أسيد بن حضير قال له أهل بيتين من بني ظفر: اذكر حاجتنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن أسيد بن حضير أتى النبي فوجد معه قومًا، وأنه حنى عليه فذكر له حاجة أهل بيتين من بني ظفر، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لكل أهل بيت وسق من تمر وشطر من شعير" فقال أسيد: يا رسول الله، جزاك الله عنا خيرا قال يحيى: فزعم محمد بن إبراهيم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال] (1) "وأنتم فجزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار، فإنكم أعفة صبر، وإنكم سترون بعدي أثرة في الأمر والقسم، فاصبروا حتى تلقوني". وأخرج الشافعي قال: حدثني بعض أهل العلم: أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: ما وجدت لنا ولهذا الحي من الأنصار مثلا إلا ما قال الطفيل:- أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... نلاقي الذي يلقون منا لملت. هم خلطونا بالنفوس وألجأوا ... إلى حجرات أدفات وأظلت. قال الربيع: وسمعت الشافعي يروي هذا على أثرها:- جزاك الله عنا جعفرًا حين أزلفت بنا نعلنا في الواطئين فزلَّت. وأخرج الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة لا أعلمه إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوشك الناس أن يضربوا آباط الإبل في طلب العلم؛ ولا يجدون عالمًا أعلم في عالم المدينة". ¬

_ (1) من السنن المأثورة (408).

وفي رواية: "أكباد الإبل". قال عبد الرزاق بن همام في تفسير هذا الحديث: هو مالك. وقال سفيان بن عيينة: يرونه مالك بن أنس. قال ذلك الترمذي في كتابه "الجامع". والله أعلم. ***

كتاب اللواحق

كتاب اللواحق هذا كتاب يتضمن أحاديث وردت في المسند في ضمن الكتب المودعة فيه، ولم يمكن إدخالها في الترتيب الذي وضعنا عليه أبواب كتابنا إلا بنوع من التصنيف، فأفردنا لها هذا الكتاب وأودعناها فيه، وأشرنا عند كل حديث في أي موضع جاء من المسند، وفيه ثلاثة فصول:- الفصل الأول في النصح أخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه الجماعة إلا مالكًا. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن مسدد ومحمد بن المثنى، عن يحيى. ح وابن نمير، عن أبيه وعلي بن عبد الله، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير قال: بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشترط علي والنصح لكل مسلم. وفي أخرى: على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن ابن نمير وأبي أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير. وعن أبي بكر وزهير، عن سفيان، عن زياد. وأما أبو داود (¬3): فأخرجه عن عمرو بن عون، عن خالد، عن يونس، عن ¬

_ (¬1) البخاري (57) وانظر أطرافه هناك. (¬2) مسلم (56). (¬3) أبو داود (4945).

عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير وزاد فيه: قال: فكان إذا باع الشيء أو اشتراه قال: أما إن الذي أخذنا منك أحب إلينا من الذي أعطيناك فاختر. وأما الترمذي (¬1): فأخرجه عن محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن جرير. وأما النسائي (¬2): فأخرجه عن محمد بن عبد الله بن يزيد، عن سفيان، عن زياد. المبايعة: المعاهدة والمعاقدة وهو من البيع، كأن البائع قد أعطى الذي بايعه مخالصته وموافقته وموالاته ومناصرته، وأخذ العوض عليها منه إما نفعًا عاجلًا من أمور الدنيا، وإما آجلًا من أمور الآخرة، ومنه المبايعة للإمام والأمير. أما النصح: فهو كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تحصره وتجمع معانيه غيرها، وأصل النصح في اللغة: الخلوص، تقول: نصحت العسل: إذا خلصته من السمع، وفيه لغتان: نصحت فلانًا أنصح له وأنصحه نصحًا ونصاحة، وأنصح له أنصح من أنصحه والاسم: النصحة والنصيح والناصح بمعنى واحد. وهذا الحديث والذي بعده أخرجهما الشافعي -رحمة الله عليه- في أول كتاب "الرسالة" (¬3). قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله ودعوا ما قلت وهذا اتباع منه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخذ في البيعة من النصح لكل مسلم، ولهذا رواه فيما قصد من إرشاد غيره ¬

_ (¬1) الترمذي (1925) وقال: صحيح. (¬2) النسائي (7/ 140). (¬3) الرسالة ص 50 - 51.

بما وضع في كتاب "الرسالة"، ولهذا بلغ من حرصه -رضي الله عنه- على إفهام المسترشدين أنه قال: وددت لو أن الناس نظروا في هذه الكتب ثم نحلوها غيري، طلبا منه للنصيحة لهم وأن قصده إنما كان من وضع الكتب وتسييرها في الناس ليدلهم البيان فيها على أن الأرجح من المذاهب التي هي الأتبع للكتاب والسنة، وما أشبه الكتاب والسنة تقربا إلى الله -جل ذكره-، غير ملتمس بها ذكرًا ولا شرفًا. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن سهيل بن أبي صالح، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن تميم الداري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، لله، ولكتابه، ولنبيه، ولأئمة المسلمين وعامتهم". هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي. فأما مسلم (¬1): فأخرجه عن محمد بن عباد المكي، عن سفيان، عن سهيل. وعن محمد بن حاتم، عن ابن مهدي، عن سفيان. وفيه: قلنا لمن؟ قال: "لله". وأما أبو داود (¬2): فأخرجه عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن سهيل. وفيه: قالوا: لمن؟. وأما النسائي (¬3): فأخرجه عن يعقوب بن إبراهيم، عن عبد الرحمن، عن سفيان. قوله: "الدين النصيحة" مبتدأ وخبر، وهذا اللفظ يجعل الدين كأن النصيحة هي جماع الدين وملاكه، لأن من لا نصح عنده وباطنه ملتبس ¬

_ (¬1) مسلم (55). (¬2) أبو داود (4944). (¬3) النسائي (7/ 156 - 157).

بالغش؛ فليس عنده من الدين إلا الاسم، ويعضد ذلك تكرار اللفظ ثلاث مرات، وما جاء في رواية النسائي: "إنما الدين النصيحة" فجاء بلفظة "إنما" الذي يتضمن الحصر والقصر، وحقيقة النصح أن يكون بهذه المثابة، لأنه الوصف النفسي الذي لا يصدر عنها إلا وهي خالصة من النفاق، عارية من الغش. ثم لما حكم بهذا الحكم من جعل النصح هو الدين، قال مفسرًا أو مبينًا: "لله، ولكتابه، ولنبيه، ولأئمة المسلمين وعامتهم" فابتدأ بتقديم الأهم الأولى وهو الله -سبحانه- وقال: لأن الدين له حقيقة أصلًا وفرعًا ونقلًا، ثم ثنى بما هو تال له في الرتبة وهو صفة من صفاته، قائم به، الناطق بعظمة جلاله، الشارح صدور أوليائه، الصادع ببيان أحكامه، المعجز ببديع نظامه فقال: "ولكتابه"، ثم ثلث بما يتلو كلامه في الرتبة وهو رسوله الهادي إلى دينه، الموقف على أحكام طاعته، الصادق في إبلاغ رسالته، المفصل لجمل شريعته. ثم ربع بالأئمة الذين هم أولوا الأمر، وخلفاء الأنبياء في الأرض القائمون بسنة الله -تعالى- في عباده. ثم خمس بعامة المسلمين، وهم الباقون منهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة. وفي رواية الشافعي لم يقل: قالوا لمن، إنما قال: "لله ولكتابه"، فجاء بالجواب من غير سؤال؛ ليكون الكلام متصلًا بعضه ببعض لا يحتاج إلى سؤال سائل ولا استفسار طالب، وإن كان جوابًا عن سؤال مقدر؛ ولكن هذا أحسن وأبلغ في مواقع الخطاب، وذلك أن المتكلم يكون عالمًا بما يريد أن يتلفظ به، ويعلم أن لفظه إذا كان مجملًا يحتاج إلى تفصيل، أو مشكلًا احتاج إلى تفسير، أو مهملًا احتاج إلى تقييد، فيأتي بما يوضح كلامه ويزيل لبسه. فأما النصح لله: فهو صحة الاعتقاد في وحدانيته، وإخلاص النية في عبادته.

وأما النصح لنبيه: فهو التصديق لنبوته، والطاعة له فيما أمر به ونهى عنه، وإخلاص العمل في اتباعه. وأما النصح لأئمة المسلمين: فهو أن يطيعهم في الحق، ولا يرى الخروج عليهم بالسيف إذا جاروا. وأما النصح لعامة المسلمين: فهو إرشادهم للحق، وتعريف جاهلهم وتقويم مائلهم، والأمر بالمعروف فيهم، والنهي عن المنكر بينهم، وغير ذلك مما ندب الشرع إليه، وحث عليه، وافترضه، وسنه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله -تعالى-: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (¬1) لا أذكر إلا ذكرتك، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. رفعنا: من الرفعة في الأمور وهو الشرف، وارتفاع القدر والمنزلة، لا ارتفاع الأجسام. والذكر في اللغة: مصدر ذكرته أذكره ذكرًا، وحقيقته: إجراء اللفظ المعرب عن الشيء على لسان المتكلم، وهو مكسور الذال، وقد يطلق الذكر في مقتضى اللغة: على المدح، والثناء، والذم، والهجر، كقوله -تعالى-: {فاذكُرُوني أذكُرْكُم}، وكقوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} (¬2) وإنما يفرق بين الحالين بالقرائن والأوصاف. وقوله: "لا أذكر إلا ذكرت" إطلاق عام أريد به خاص، ولذلك عقبه بالتفسير: كلما ذكر اسم الله -عز وجل- ذكر اسم النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: "لك" فيه من الفائدة ما في زيادة الإفصاح بعد الإبهام، ألا ترى أنه لما قال: "ورفعنا لك" فهم من هذا اللفظ أن ثم مرفوعًا قبل أن يقول: "ذكرك"، فلما قال: "ذكرك" فافصح بذكر المرفوع، فعلم المعنى مبهمًا ¬

_ (¬1) الشرح: [2]. (¬2) الأنبياء: [36].

ومفسرًا، وذلك أحسن في مواقع الخطاب من قوله: ورفعنا ذكرك، والأحسن أنه أراد بقوله: "لك" إن رفعنا ذكرك لم يكن لشيء خارج عنك، ولا لأحد غيرك، ولا كان إلا خالصًا مقصورًا عليك. قال الشافعي في هذا الحديث: يعني والله [أعلم] (¬1) ذكْره عند الإيمان بالله، والأذان، ويحتمل: ذكره عند تلاوة القرآن، وعند العمل بالطاعة والوقوف على المعصية. ... ¬

_ (¬1) أثبتها ليستقيم السياق.

الفصل الثاني في العمل بالكتاب والسنة

الفصل الثاني في العمل بالكتاب والسنة أخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو -مولى المطلب- عن المطلب بن حنطب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تركت شيئًا مما أمر الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئًا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه، وإن الروح الأمين نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فأجملوا في الطلب". هذا حديث مشهور دائر بين العلماء، وأعرف فيه زيادة لم أجدها في المسند وهي: "ألا فاتقوا الله" قبل قوله: "فأجملوا في الطلب"، وهذا الحديث أخرجه الشافعي في أول كتاب "الرسالة" (¬1) مستدلًا به على العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يتضمنه القرآن قال الشافعي: لم يسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط إلا بوحي الله -عز وجل- فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحيًا إلى رسوله فيسن به. قال الشافعي: وقيل لما يُتْل قرآن وإنما ألقاه جبريل في روعه بأمر الله -عز وجل- فكان وحيًا إليه، وقد قيل: جعل الله إليه لما شهد له به من أنه يهدي إلى صراط مستقيم أن يسن، وأيهما كان فقد ألزمه الله خلقه، ولم يجعل لهم الخيرة من أمرهم فيما سن، وفرض عليهم اتباع سنته. وهذا المعنى الذي يتضمنه هذا الحديث فرض واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يترك شيئًا مما أمر الله به ونهى عنه إلا ويبلغه الناس، ويوقفهم عليه ويأخذهم به، قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬2) فكان التبليغ واجبًا بمقتضى الأمر المسموع بالنفي ¬

_ (¬1) الرسالة (289). (¬2) [المائدة: 67].

المتضمن التقريع والتهديد. قال المفسرون: معنى الآية: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعًا، وعرفت أن من الناس من يكذبني، فأوحى الله إليَّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك، وضمن لي العصمة فقويت. المعنى: بلغ ما أنزل إليك غير مراقب ولا خائف أحدًا ينالك مكروهه، وإن لم تبلغ جميعه كما أمرت فما بلغت رسالتي. أي: أن تترك بعضها فيكون كمن لم يبلغها. وقيل: بلغها الناس ولا تخف. وإنما جاز كون قوله: "فما بلغت رسالته" جوابا للشرط الذي هو: "وإن لم تفعل" لأنه إذا كان مأمورًا بتبليغ المنزل إليه جميعه فبلغ بعضه، لم يكن قد بلغ ما أمر به، فجاز أن يكون جوابًا للشرط. والروح الأمين: جبريل (عليه السلام)، سمي روحًا: لأنه روحاني والملائكة روحانيون، وسمي أمينًا: لأنه ملك الوحي إلى الأنبياء، والرسول إليهم بأمر الله ونهيه، فكان أمينًا على وحيه. والنفث: شبيه بالنفخ، نفث ينفث وينفث وقد شبه ما يلقيه الملك في نفسه من الوحي بالنفث كأنه نفخ في قلبه، لأن الكلام إنما يكون باللسان والفم، والنفخ لما كان بالفم والشفتين شبهه بالكلام لأنهما يخرجان من الفم. وقد جاء في بعض الروايات: "ألقى" بدل "نفث". والروع -بالضم- القلب والعمل. وقوله: "ألا فاتقوا الله" هذه التي تبعث على جماع الخير، لأن مع التقوى تنكف النفس عن أكثر المطالب، وترتفع عن الشهوات، وتترك معظم المطامع، ولذلك قال: "فأجملوا في الطلب" أي: اطلبوا الرزق طلبًا جميلًا لا حرص ولا تكالب ولا إسفاف على الدنايا فلا إشراف على الأموال، فإن الرزق الذي قدر

لكم سيصل إليكم ولكن بطلب جميل، ألا تراه كيف قال: "فأجملوا في الطلب" ولم يقل: فاتركوا الطلب، فإنه إذا علم الإنسان [أنه] (¬1) يصل إليه يقينا لم يحتج إلى الطلب، وإنما قال: "فأجملوا في الطلب" لأن من عوائد الله في خلقه تعليق الأحكام بالأسباب، وترتيب الحوادث على العلل. وهذه سنة في خلقه مطردة، وحكمته في ملكه مستمرة، وإن كان قادرًا على إيجاد الأشياء اختراعًا وابتداعًا، لا عن تقدم إسباق وسبق علل، بأن يشبع الإنسان من غير أن يأكل، ويرويه من غير شرب، وينشئ الخلق من غير جماع، وينبت من غير ماء، وغير ذلك من الأشياء. لكنه أجرى العادة أن الشبع يحصل عقيب الأكل بخلقه في الأكل، والري عقيب الشرب، والولد عقيب الجماع، فلذلك قال: "فأجملوا في الطلب" فإنه وإن كان هو الذي [يأتي] (1) بالرزق ولكن قدر مجيئه بنوع من السعي رفيق، وحال من الطلب جميلة، فجمع هذا الحديث النظر إلى المسبب والمسبب له والأسباب فالسبب هو الله -تعالى-، والسبب هو الرزق، والمسبب له هو العبد والسبب هو السعي، وإنما جمع بين المسبب والسبب لئلا يتكل العبد، وليس كل أحد يقدر على الاتكال فيهلك بتأخر الرزق عنه، وربما أوقعه ذلك في باب عظيم من الشرك وكفر النعمة، ففرق في الخطاب بين تعريف اعتلاق الأشياء بالمسبب اعتلاقًا شرعيًا، ليتكمل للعبد حالة الصلاح المستمرة، ويثبت له قضية الفلاح مستقرة. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن سالم أبي النضر -مولى عمر ابن عبيد الله- سمع عبيد الله بن أبي رافع يحدث عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه". ¬

_ (¬1) أثبتها ليستقيم السياق.

قال سفيان: وحدثنيه محمد بن المنكدر مرسلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا حديث حسن، أخرجه أبو داود والترمذي. فأما أبو داود (¬1): فأخرجه عن أحمد بن حنبل وعبد الله بن محمد النفيلي، عن سفيان. وأما الترمذي (¬2): فأخرجه عن قتيبة، عن سفيان، عن سالم مرفوعًا. وعن ابن المنكدر مرسلًا. ألفيت ألفيته: إذا وجدته. ولا هي الناهية، وقد أوقعها على نهي نفسه لأن فعل "ألفين" له، وإنما يريد نهيهم أن يلفيهم على هذه الحالة، لا نهي نفسه أن يجدهم عليه، ولا أن ذلك جائز لهم أن يكونوا عليه فضلًا أن يقروا عليه. وإذا حملنا اللفظ على مدلول ظاهره من نفسه؛ كان الغرض المطلوب إذا حقيقته النهي راجعة إليهم لا إليه، وهذا في العربية فاش وباب واسع، وفي القرآن مثله قوله -عز من قائل-: {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا} (¬3) أوقع النهي على الصادين، وإنما يريد بالنهي: نفس موسى (عليه السلام) أي: لا تقبل صدهم إذا صدوك، إلا أن الآية أوقع فيها النهي على المخاطب، والحديث أوقع فيه النهي على المتكلم، ووجه ذلك إن وجد: أنه إباهم على هذه الحالة من ترك الأخذ بالحديث، ورفض ما لم يجدوه في كتاب الله مسبب عن كونهم عاملين عليها مستمسكين بها، فكانت حالتهم سببا لأن يلفيهم عليها، فذكر المسبب واكتفى به عن ذكر السبب لأنه من لوازمه، ولأنه إذا نهى عن المسبب فقد نهى عن السبب، ألا ترى أنه إذا قال: لا أرينك ها هنا، فإنما أراد أن ينهاه ¬

_ (¬1) أبو داود (4605). (¬2) الترمذي (2663) وقال: حسن صحيح. (¬3) [طه: 16].

عن حضوره عنده حتى لا يراه، لأنه إذا حضر عنده رآه فإذا لم يحضر لم يره، فلا فرق بين أن يقول: لا أريتك ها هنا، وبين أن يقول: لا تحضر عندي، إلا أن قوله الأول أبلغ في باب النهي، لأنه جمع في النهي بين إيقاعه على المتكلم من طريق الصريح؛ وعلى المخاطب من طريق الكناية والمعنى واللزوم. والأريكة: السرير، وقيل: لا يكون أريكة حتى يكون من وراء حجلة، وقيل: "هو كل ما اتكيء عليه، وإنما أراد بذكر الأريكة صفة أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت ولم يطلبوا العلم من مظانه". وقوله: "يأتيه الأمر من أمري" ولم يقل: يأتيه أمري لأمرين:- أحدهما: أنه لم يرد كل ما أمرهم به، لأنهم لا يصدر ذلك عنهم أنهم يخالفونه في كل أمره، أو أن كلهم خالفوه، إنما أراد بعض أمره، ولذلك قال: "لا ألفين أحدكم" فجاء بلفظة أحد وإن كان ذلك عاما فيهم كلهم. والأمر الثاني: أن ورود التفصيل بعد الإجمال، والتخصيص بعد التعميم أبلغ في مواقع الخطاب من إفراد اللفظ، ألا ترى أن قوله: "لا يأتيه الأمر" معرفًا بالألف واللام فيه من تفخيم الأمر وتعظيمه، وأنه هو الحقيق أن يسمى أمرًا، والحقيق أن لا يخالف ما ليس في ذكره مضافًا إليه، ولذلك أراد به إياه بعد ذكره بقوله: "من أمري" فإنه لما ذكره معرفا مفخما، ارتقبت النفوس نسبة هذا التعظيم إلى أمر، فلما نسبه إلى نفسه، وقال: "من أمري" حصلت تلك الفخامة والعظمة مقصورة عليه بخلاف ما لو لم يقل ذلك، وهذا سر من ألفاظ النبوة دقيق. ثم لما تحقق ذلك أتبعه بقوله: "ومما أمرت به أو نهيت عنه" فخص بعد أن عم، وفصل بعد أن أجمل، وذلك أن العقاب والثواب إنما هما معروفان بالأفعال والأقوال بعد وقوعها، أما قبل وقوعها مع حديث النفس بها والعزم عليها فلا، فلما قال: "الأمر من أمري" كان هذا قولًا كليًا في امتثال الأمر واجتناب

خلافه إذا وقع، فاحتاج أن يقول: "مما أمرت به أو نهيت عنه" لبيان تعلق الثواب والعقاب به بعد وقوعه، ويجوز أن يكون الأمر في قوله: "يأتيه الأمر من أمري" عبارة عن الشيء، وحينئذ يكون جمعه على أمور تقول: أمر فلان مستقيم وأموره مستقيمة، أي: أحواله، فأما الأمر الذي هو ضد النهي فجمعه على أوامر. والمتكئ: هو المتمكن من الأرض جالسًا وسواء كان على جنبه أو مقعده والمراد بهذا الحديث: الأمر بلزوم السنة، والنهي عن مخالفة ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر به من الفرائض والنوافل وقرره وثبته من الأحكام وأنها في لزوم قبولها ووجوب العمل بها تتنزل منزلة كتاب الله -تعالى- فإنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. قال الشافعي -رضي الله عنه-: وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول - صلى الله عليه وسلم -، وإعلامهم أنه لازم لهم وإن لم يجدوا له نص محكم في كتاب الله -عز وجل. وهذا الحديث أخرجه في كتاب "اليمين مع الشاهد" (¬1)، وفي كتاب "الرسالة" (¬2) مستدلًا على ما سبق في الحديث قبله. وفي هذا الحديث: بيان أن لا حاجة بالحديث إلى أن يعرض على الكتاب، فإنه مهما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حجة بنفسه. كما ذهب إليه الخوارج وغيرهم، فإنهم تعلقوا بظواهر القرآن، وتركوا السنن التي تضمنت بيان القرآن وتخصيص القرآن عامة وإيضاح مشكله. قال الشافعي -رحمة الله عليه-: ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين معنى ما أراد خاصًا، وعامًا، وناسخًا، ومنسوخًا، ثم يلزم الناس ما تبين بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الله قبل. ¬

_ (¬1) الأم (7/ 15). (¬2) الرسالة (295).

وقد جاء في رواية المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكيء على أريكته، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، أو حلالًا استحللناه، وإنما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرم الله". زاد في رواية: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" ولهذه الزيادة تأويلان:- أحدهما: أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو، مثل ما أعطي من الظاهر المتلو. والثاني: أوتي الكتاب وحيًا وأوتي من البيان مثله، أي: أذن له أن يبين ما في الكتاب فيعم ويخص، ويجمل ويفصل، ويشرح ويشرع ما ليس في القرآن مما أذن الله فيه، ويكون ذلك في وجوب الأخذ به والعمل بموجبه كالقرآن المتلو. والله أعلم. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مسلم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه أن عنده كتابًا من العقول نزل به الوحي، وما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صدقة وعقول فإنما نزل به الوحي، وقيل: لم يبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا قط إلا بوحي الله، فمن الوحي ما يتلى، ومنه ما يكون وحيًا إلى رسوله فيسن به. العقول: جمع عقل وهو الدية، وقد تقدم بيان ذلك مبسوطًا في كتاب الديات وغيرها. والوحي: الرسالة، والإلهام، والكتابة، والكلام الخفي، والإشارة وكل ما ألقيته إلى غيرك، يقال: وحيت إليه الكلام وأوحيت، وأوحى الله إلى رسله ووحى أي: أرسل وأشار إليهم، ولغة القرآن أوحى، وكأن معنى الوحي على اختلاف وروده في أماكنه: الإعلام بالشيء وهما متعديان باللام وإلى، تقول:

أوحيت إليه وله، ووحيت إليه وله. والصدقة: يريد بها فريضة الزكاة وتفصيلها الذي جاءت به السنة، أي أن الوحي نزل بتفصيل فريضة الزكاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينه للناس مفصلاً بعد أن جاء في القرآن مجملاً. وسن فلان يسن: إذا ابتدع شيئًا وعمله، والسنة: السيرة، تقول: سننت له سنة فاتبعها. فقد اختلف في قوله -تعالى-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬1) فقال قوم: أراد به القرآن، أي: ما يقرأه عليكم من كلام الله، ليس متحرفًا فيه ولا ناطقًا عن هواه ورأيه. وقيل: إنه عام في كل ما يأمر به من أحكام الدين، أي: ليس صادرًا عن هواه ورأيه إنما هو وحي من الله -عز وجل. وقد أخرج الشافعي قال: قال أبو يوسف: حدثنا خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه دعى اليهود فسألهم فحدثوا حتى كذبوا على عيسى [عليه السلام] (¬2)، وصعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فخطب الناس فقال: "إن الحديث سيفشو عني فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني، وما آتاكم عني يخالف القرآن فليس عني". قال الشافعي لمن خاطبه في هذا المعنى فقال: هذا عني كما وصفت أفتجد حجة على من روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله". قال الشافعي: فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت في حديثه في شيء صغر ولا كبر، فيقال لنا: قد ثبتم حديث من روى هذا في شيء، وهذه رواية ¬

_ (¬1) [النجم: 3، 4]. (¬2) من المعرفة (13/ 153).

منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء، وكأنه أراد بالمجهول: خالد بن أبي كريمة فلم يعرف من حاله ما يثبت له خبره. قال الخطابي: هذا حديث باطل لا أصل له. وحكى عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة، وقد روي هذا من حديث الشاميين عن يزيد بن ربيعة، عن أبي الأشعث. وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان، إنما يروي عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة بإسناد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يمسكن الناس علي شيئا، فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله لهم ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله". هذا طرف من حديث طويل، وقد أخرجه الشافعي: عن عبد الوهاب الثقفي، عن يحيى بن سعيد، عن [ابن] (¬1) أبي مليكة، عن عبيد بن عمير الليثي يتضمن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يصلي بالناس وذكر هذا في آخره، والحديث مذكور بطوله في كتاب "استقبال القبلة"، إلا أن هذا الطرف قد رواه ها هنا عن ابن عيينة منقطعًا في كتاب "صفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -" وقال (¬2): هذا منقطع، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع أمره، واجتناب ما نهى عنه، وفرض الله ذلك في كتابه على خلقه ولكن قوله -إن كان قاله- "لا يمسكن الناس علي شيئًا" يدل على أنه إذا كان بموضع القدوة فقد كانت له خواص أبيح له فيها ما لم يبح للناس، وحرم عليه فيها ما لم يحرم على الناس، فقال: "لا يمسكن الناس علي شيئًا من الذي لي أو على دونهم. وأما قوله: "فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله، ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله" فكذلك صنع - صلى الله عليه وسلم - وبذلك أمر، وافترض عليه أن يتبع ما أوحي إليه ويشهد أنه قد اتبعه فيما لم يكن فيه وحي (¬3)، فقد فرض الله في الوحي اتباع ¬

_ (¬1) من الأم. (¬2) الأم (7/ 288). (¬3) كذا العبارة في الأصل.

سننه، فمن قبل عنه فإنما قبل بفرض الله، قال الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذروني ما تركتكم، فإنه إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ما أمرتكم من أمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا". وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله. هذا حديث صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. فأما البخاري (¬2): فأخرجه عن إسماعيل، عن مالك، عن أبي الزناد. وأما مسلم (¬3): فأخرجه عن ابن أبي عمر، عن سفيان. وأما الترمذي (¬4): فأخرجه عن هناد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. والشافعي أخرجه في كتاب "أحكام القرآن". ذروني: اتركوني ودعوني وهو فعل أمر من فعل متروك الاستعمال وهو: وذر، ومثله: ودع لم يستعمل أيضًا استغنوا عنه بترك، كذا يقوله النحويون ويدل عليه في جواب الأمر: "ما تركتكم" ولم يقل: ما وذرتكم لأنه لا يستعمل، وإن استعمل فشاذ لا يقاس عليه، ومعنى الكلام: اتركوني لا تسألوني عما لا يعنيكم في أمر دينكم مهما أنا تركتكم لا أقول شيئًا، ثم علل ¬

_ (¬1) الحشر: [71]. (¬2) البخاري (7288). (¬3) مسلم (1337). (¬4) الترمذي (2679).

ذلك بقوله: "إنما هلك من كان قبلكم" يريد من أمر الأنبياء بكثرة سؤالهم إياهم واختلافهم عليهم. وقوله: "فما أمرتكم من أمر فأتوا منه ما استطعتم" أي: ما قدرتم إلا أن تعجزوا عجزًا ظاهرًا يتعذر معه امتثال الأمر، فتدخلون إذًا في جملة المعذورين، وليس قوله: "ما استطعتم" ردًا في قبول الأمر إلى إرادتهم وإيثارهم ولكن لما كان أمره قد يكون فرضًا وندبًا وإباحة قال: "فأتوا منه ما استطعتم" لأن فيه ما ليس بواجب، ولما كان النهي عن الشيء لا يكون إلا محظورا أو مكروها، قال فيه: "فانتهوا" ولأن حظ الإنسان في النوافل وما يجري مجراها إذا قلل منها فإنما يقلل من حظه، لا أنه يجلب إلى نفسه بتركها إثمًا ولا عذابًا، بخلاف المنهي عنه فإنه متى خالفه حمل نفسه من ذلك وزرًا وإثما. وفقنا الله -تعالى- لما يرضيه من أوامره واجتناب زواجره. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها [كما سمعها] (¬1)، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم". هذا حديث مشهور أخرجه الترمذي (¬2) مختصرًا، عن محمود بن غيلان عن أبي داود، عن شعبة، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نضر الله امرءًا سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع" لم يزد على هذا. ¬

_ (¬1) من المسند (1/ 16). (¬2) الترمذي (2657) وقال: حسن صحيح. قلت وأخرجه أيضًا (2658) مطولًا كما هنا.

نضر: يروى بتشديد الضاد وتخفيفها، والتخفيف أفصح، وهي: النضارة النعمة والبهجة، يقال: نضره ونضره. وعيت الشيء أعيه وعيًا: إذا حفظته وفهمته. وأديت الحديث إلى فلان: إذا أوصلت إليه، وتأدى إليه الخبر أي: انتهى، وفي بعض روايات هذا الحديث: "فأداها كما سمعه" وهذا المعنى وإن كان هو المطلوب فإنه مفهوم مع حذفه لأنه قال: "سمع مقالتي فأداها" فأعاد الضمير إلى المقالة، وإذا لم يؤدها كما سمعها لم يكن مؤديًا لها إنما يكون مغيرًا. ومع حذف قوله: "كما سمعها" زيادة معنى ليس موجودًا بوجوده، وذلك أن قوله: "نضر الله عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها" دعاء لمن جمع الحفظ والوعي والأداء، فكأن الدعاء موقوفًا على الحفظ والأداء وكأنه حث عليهما، فكأن الحفظ والأداء مأمورًا بهما، فأما مع وجود قوله: "كما سمعها" فيكون التقدير: نضر الله من أدى مقالتي كما سمعها، فيكون الدعاء مصروفًا إلى وجود الصفة متى وجد الأداء، لأن الدعاء مصروف إلى الأداء نفسه. وقوله: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" دليل على كراهية اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي في الفقه، لأنه إذا فعل ذلك فقد قطع طريق الاستنباط على من بعده ممن هو أفقه منه، وكذلك قوله: "فرب حامل فقه غير فقيه" فإن راوي الحديث ليس الفقه من شرطه الحفظ، فأما الفهم والتدبر فعلى الفقيه. وإنما قسم العمل إلى اثنين: لأن حامل الحديث لا يخلو إما أن يكون فقيها أو غير فقيه، والفقيه لا يخلو أن يكون غيره أفقه منه، فانقسم لذلك إليهما. وقوله: "ثلاث لا يغل عليهن" يروى "يغل" بفتح الياء وكسر الغين من الغل: الحقد والضغن، تقول: لا يدخله شيء من الحقد يزيله عن الحق ويروى بضم الياء وكسر الغين من الأغلال: وهو الخيانة في كل شيء، ومنه الغلول في الغنيمة.

وقوله: "عليهن" في موضع نصب على الحال، أي: لا يغل كائنًا عليهن قلب مسلم، وإنما انتصب على النكرة لتقدمه، والمعنى: أن هذه الخلال المذكورة في الحديث من الإخلاص، والنصيحة، واللزوم يستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الدغل والفساد. وهذا الحديث أخرجه الشافعي في كتاب "الرسالة" (¬1) للاحتياط في نقل الحديث وروايته، والمحافظة على ألفاظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى إثبات خبر الواحد. قال الشافعي: قال لي قائل: أذكر الحجة في تثبيت خبر الواحد، بنص خبر أو دلالة فيه أو إجماع؟ قلت: أخبرنا ابن عيينة. وذكر هذا الحديث ثم قال: فلما ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى استماع مقالته وتحفظها وأدائها امرءًا يؤديها، دل على أنه لا يأمر أن يؤدي عنه إلا من تقوم الحجة به على من يؤدي إليه. ثم ذكر أحاديث كثيرة قد تقدمت في الكتاب بأسانيدها في أبوابها. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم أن عمر إنما رجع بالناس عن خبر عبد الرحمن بن عوف. قال الشافعي: حين خرج إلى الشام فبلغه وقوع الطاعون بها. هذا طرف من حديث طويل صحيح متفق عليه، أخرجه البخاري (¬2) ومسلم (¬3). وأخرج أبو داود (¬4) منه طرفًا، وإنما أورد الشافعي منه هذا الطرف في كتاب "الرسالة" مستدلا به على قبول خبر الواحد، وأن عمر لما بلغه وقوع الطاعون بالشام؛ أشاروا عليه بالرجوع إلى المدينة فلم يواففهم على ذلك وقال: أفرارًا من ¬

_ (¬1) الرسالة رقم (1102). (¬2) البخاري (5729). (¬3) مسلم (2219). (¬4) أبو داود (3103).

قدر الله؟ حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه" يعني: الطاعون، فرجع عمر بالناس إلى المدينة، عملا بخبر عبد الرحمن بن عوف لما أخبره به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفًا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى صاحب بني إسرائيل، فقال ابن عباس: كذب عدو الله، أخبرني أبي بن كعب قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ذكر حديث موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر. هذا طرف من حديث صحيح متفق عليه، قد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. فأما البخاري (¬1): فأخرجه عن علي بن المديني والحميدي وقتيبة وعبد الله بن محمد، عن سفيان. وأما مسلم (¬2): فأخرجه عن حرملة، عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس. وعن عمرو الناقد وابن راهويه وعبيد الله بن سعيد وابن أبي عمر، عن ابن عيينة. وأما الترمذي (¬3): فأخرجه عن [ابن] (¬4) أبي عمر، عن سفيان. وهذا الطرف الذي أخرجه الشافعي في كتاب "الرسالة" (¬5) مستدلًا به على ¬

_ (¬1) البخاري (122) وراجع أطرافه هناك. (¬2) مسلم (2380). (¬3) الترمذي (3149). (¬4) من الترمذي. (¬5) الرسالة رقم (8/ 12).

قبول خبر الواحد، قال: فابن عباس مع فقهه وورعه ثَّبت خبر أبي بن كعب وحده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يكذب امرءًا من المسلمين، إذ حدثه أبي بن كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما فيه دلالة على أن موسى بني إسرائيل صاحب الخضر. ومعنى قوله صاحب الخضر: أي الذي صاحبه وقص الله حديثهما في سورة الكهف. وقوله: "ليس بموسى صاحب بني إسرائيل" يريد: الذي هو نبي بني إسرائيل المشهور صاحب الشريعة، وأنه من بني إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -على نبينا وعليهم الصلاة والسلام. ***

الفصل الثالث في الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -

الفصل الثالث في الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا الشافعي: أخبرنا الدراوردي، عن محمد بن عجلان، عن عبد الوهاب بن بخت، عن عبد الواحد النصري، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أفرى الفرى من قوّلني ما لم أقل، ومن أرى عينيه في المنام ما لم تريا، ومن ادعى إلى غير أبيه". هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري (¬1): عن علي بن عياش، عن حريز، عن عبد الواحد بن عبد الله النصري، عن واثلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينيه ما لم تر، أو يقول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل". قوله: "أفرى الفرى" أكذب الكذبات فإن الفرية: الكذب، وجمعه الفراء مثل: مرية ومرى، تقول: فرى فلان كذبا: إذا خلقه وافتراه اختلقه والاسم: الفرية. قوله: "قوَّلني ما لم أقل" أي: قال عني ما لم أقله، فجاء به بلفظ أنيق وخطاب رشيق أي: جعله لحكايته عنه ما لم يقله، كأنه قد حمله على قوله وأن ذلك وإن كنت لم أقله ولم يجر على لساني، فإنه إذا حكاه عني فقد جعلني قائلًا له حيث نسبه إلي، ولكن كأن ذلك منه على جهة الحمل على القول لا أنه صادر عني. وهذا من محاسن الألفاظ ولطائف الخطاب، وأبلغ في المعنى من قوله: قال عني، أو حكى عني، أو أخبر عني وغير ذلك من الألفاظ الدالة على المعنى. ¬

_ (¬1) البخاري.

وقوله: "أو ترى عينيه ما لم تريا" يريد: الكذب في رؤيا النوم، وسمى ذلك رؤيا عين: لأن الرؤيا وإن كانت رؤياه بنفسه لا بجارحة عينه، فإنه إنما يرى في النوم ما يراه متخيلًا بجارحة العين؛ ويسمع بجارحه الأذن وغير ذلك من الجوارح، لأنها هي الطرق المألوفة في اليقظة في إيصال المحسوسات إلى النفس، وحيث كانت كذلك قال: "أو ترى عينيه ما لم تريا"، وإلا فعلى الحقيقه أن العين لا ترى في النوم شيئًا وإنما النفس هي الباصرة السامعة فيه. قوله: "ومن ادعى إلى غير أبيه" هو من يرغب عن أبيه ويلتحق بغيره، إما تركا للأدنى ورغبه في الأعلى أو خوفًا من الإقرار بنسبه، أو تقربًا إلى غيره بالانتماء إليه، وغير ذلك من الأغراض الداعية للإنسان إلى ارتكاب ذلك إنما صح جمع بين هذه الثلاثة في حديث واحد لمناسبة بينها وأنها من أعظم أبواب الكذب، وذلك أن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شبهه في عظمه وإكباره؛ وذلك أنه كذب في أصل من أصول الدين، وهدم لقاعدة عظيمة من قواعد الشرع، والكذب عليه كذب على الله لأنه ما نطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. وأما الكذب في النوم: فلأن الرؤيا الصالحة جزء من أربعين جزءًا من النبوة، أو من ستة وأربعين أو غير ذلك على اختلاف الروايات، وقد كان الوحي إلى الأنبياء وإلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - وعلى آل كلٍ وسلم، في كثير من الأمر في النوم، والمنام طرف من الوحي يريه الله -تعالى- عباده فإذا كذب فيه فقد كذب في نوع من الوحي، فلذلك كان من أعظم أبواب الكذب. وأما الادعاء إلى غير الأب: فلأمور منها: أنه قد جاء في الحديث: أن مما كانوا يتلونه من القرآن: لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، والذي جاء في القرآن صريحًا في حق الأدعياء قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (¬1) وهذا نص في لزوم النسب، وإذا خالف أحدهم نص القرآن ¬

_ (¬1) [الأحزاب: 5].

كاذبا كان ذلك مع اعتقاده كفرا، وهو من أعظم أبواب الكذب، لأنه تكذيب للوحي، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أدخلت على قوم ولدًا ليس منهم، ويكفي ذلك تعظيمًا وتغليظًا. في رواية الشافعي: "إن أفرى الفرى" فجعل هذه الثلاثة أعظم أنواع الكذب بما قلنا، وفي رواية البخاري: "من أعظم الفرى" فجعلها بعضها. وجدير بها أن تكون أعظم أبواب الكذب بما قلنا. وفي رواية الشافعي جعل الخبر عن الحدث جثة، وذلك أن المبتدأ هو: "أفرى الفرى" وذلك، والخبر هو: "من قولني" وذلك جثة، وهذا غريب في الكلام، وإنما حسن ذلك في أمثال هذا الخطاب إضافة الجثة إلى الحدث الدال على الخبر، كأنه قال: إن أفرى الفرى عني ما لم أقله، وحيث كان القول لا يصدر إلا عن قائل جاز تقديم ذكره، فقال: "من قولني"، ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف تقديره: أفرى الفرى قول من قولني، ومثله قوله -تعالى-: {وَلَكِنَّ البِرَ من اتَّقَى} (¬1) تقديره: بر من اتقى. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار". متن هذا الحديث صحيح مشهور، وقد أخرجه جماعة من الصحابة منهم: ابن مسعود وابن الزبير وأنس والمغيرة وسلمة بن الأكوع وغيرهم. وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي (¬2). التبوأ: اتخاذ المباءة وهو المنزل تقول: تبوأت منزلًا أي: نزلته، وبوأت الرجل منزلا، وبوأت له منزلا أي: هيأته. والمقعد: موضع القعود. ¬

_ (¬1) البقرة: [189]. (¬2) قلت: وهو من المتواتر وشهرته تغني عن تخريجه.

والمعنى: من كذب عليَّ فلينزل في مكانه من النار. وجاء به بلفظ الأمر جوابا بالشرط ليكون أبلغ في وجوب الفعل والذم له. والكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر الموبقة، والذنوب المهلكة، لأنه مضر بأصل الدين مفسدة في أمر الإيمان" والكاذبون على النبي كثيرون، وقد اختلفت طرق كذبهم، وقد أشرنا إلى بعض ذلك في مقدمة كتابنا "جامع الأصول"، ولعناية الله بدينه وحفظ شريعته قيض لهؤلاء الكاذبين أولئك الأئمة الأعلام، الذين بحثوا عن أحوال الرواة، ونقبوا عن أمورهم، وتطلبوا مخرج الأحاديث ومصدرها وموردها، وكشفوها كشفًا جليا حتى أظهروا ما فيها من العوار، وأسقطوا ما تقوله الكذبة الأشرار، حيث لم يثبت على محل الاعتبار، ولا اطرد في قضية الأخبار. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن أبي بكر عن سالم، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الذي يكذب علي يبنى له بيت في النار". هذا حديث حسن (¬1) مؤكد لما سبق من الأحاديث. وقوله: "يبنى له بيت في النار" من أعظم ألفاظ الوعيد لأنه إيذان بأن مقره ومسكنه قد أعد له وهيئ وبني، فإن ذلك عند الله بمكان من الإعظام، ومحل من الإكبار، حتى يبنى لفاعله بيت في النار. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن عبد العزيز بن محمد، عن أسيد بن أبي أسيد، عن، أمه قالت: قلت لأبي قتادة: ما لك لا تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يحدث عنه الناس؟ قالت: فقال أبو قتادة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كذب علي فليلتمس بجنبه مضجعا من ¬

_ (¬1) نعم بشواهده وإلا فإسناده لين فيه يحيى بن سليم، وعبيد الله بن عمر وهما مضعفان.

النار" فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك ويمسح الأرض بيده. هذا حديث حسن. قوله: "فليلتمس" من ألطف الألفاظ وأرشقها، لأن ملتمس الشيء هو متطلبه والساعي في تحصيله رغبة وإيثارا. وقوله: "بجنبه" إيذان بموضع النوم من جسمه، وأن النائم بالمكان مستوطن ليس كالقائم والمستوفز. والمضجع: مفعل من الضجعة، والمضجع مفتعل منه، وكلاهما عبارة عن الموضع. وقوله: "يمسح الأرض بيديه" يريد به: الإشارة إلى المضجع الذي قال: "فليلتمس له مضجعا" وذلك أن من أراد أن يتخذ موضعًا ينام فيه فإنه يسويه بيديه ويصلحه ليتمكن من النوم عليه. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا عليّ". هذا حديث حسن، قد أخرج أبو داود (¬1) منه ذكر بني إسرائيل وحده عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن علي بن مسهر، عن محمد بن عمرو. وقد جاء المعنيان معا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أخرجه البخاري (¬2) والترمذي (¬3). وعن أبي سعيد الخدري أخرجه مسلم (¬4). الحرج: الإثم والضيق. ¬

_ (¬1) أبو داود (3622). (¬2) البخاري (3461). (¬3) الترمذي (2669). (¬4) مسلم (3004).

ولم يرد بقوله: حدثوا عنهم ولا حرج عليكم، إجازه أن يحدث عنهم بما لم يفهم ولم يصح أو سمع عنهم، وإنما أراد الإذن في حكاية ما سمع عنهم مما تناقلته الرواة وحكاه الناس ودار بين العلماء والمؤرخين، لا اختلاق الكذب عليهم واختراع أشياء لم تسمع عنهم، فإن ذلك إذن في صريح الكذب، والأول إن كان صحيحًا فقد حدث الراوي بما سمع، وإن كان كذبًا فالعهدة فيه على من اختلقه أو وضعه لا على من رواه وحدث به، ولأن بني إسرائيل كان فيهم من الأحوال العجيبة والآثار الغريية، التي قلما كانت في غيرهم من الأمم الخالية والقرون الماضية وما لقي منهم أنبياؤهم وعلماؤهم، وما كان فيهم من الجرأة والإقدام على سؤال أنبيائهم والطلب منهم، ويكفي ما كان منهم في زمن موسى (عليه الصلاة والسلام) من المعجزات والكرامات وإجابة الملتمسات، وكل ما يحكيه المحدث عنهم من الأمور الغريية، فإنها بمكانة من جواز وقوع مثلها منهم، ولأن زمان بني إسرائيل بعيد، والرواية عنهم بأخبرنا وحدثنا فلان عن فلان متعذرة، فقال: حدثوا عنهم بما سمعتموه على سبيل البلاغ لا سبيل الإسناد، بخلاف الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدل على ذلك قوله عن نفسه: "ولا تكذبوا علي" ومعلوم أن الكذب على بني إسرائيل غير جائز بحال، وإنما أراد بقوله: "ولا تكذبوا علي" إعلامًا أن الكذب حرام ولا سيما على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الحديث عني إنما أذنت فيما كان منه صدقًا وصحيحًا لا فيما كان منه كذبًا وباطلاً، فما أحسن تفهيمه، وألطف توفيقه، وأشرف مواقع خطابه - صلى الله عليه وسلم -. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه قال: إني لأسمع حديثًا أستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أنه يسمعه سامع فيقتدي به أسمعه من الرجل لا أثق به، وقد حدثه عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به قد حدثه عمن لا أثق به.

هذا الحديث مسوق لبيان الاحتياط في روايه الحديث، والتثبت في نقله، وأخذه وإبلاغه، واعتبار من يؤخذ عنه، والكشف عن حال رجاله واحدا بعد واحد، حتى لا يكون فيهم مجروح، ولا منكر الحديث، ولا مغفل، ولا كذاب، ولا من يتطرق إليه طعن في قول أو عمل بوجه من الوجوه بحيث يجتمع برواة ذلك الحديث شرائط الصحة وقد بسطنا القول في ذلك في مقدمة هذا الكتاب. وأخبرنا الشافعي: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد قال: سألت ابنًا لعبد الله بن عمر عن مسألة فلم يقل فيها شيئًا، فقيل له: إنا لنعظم أن يكون مثلك ابن إمامي هدى تسأل عن أمر ليس عندك فيه علم، فقال: أعظم من ذلك والله عند الله، وعند من عرف الله، وعند من عقل عن الله، أن أقول ما ليس لي به علم، أو أخبر عن غير ثقة. هذا الحديث من أحسن ما يروى في آداب العالم، وأنه يتعين عليه أن لا يفتي عن غير علم، ولا يقول ما لا يعرفه، فإن له أجرا وأكثر ثوابا. ولقد صدق فيما قال: أن أقول ما ليس لي به علم، أعظم عند الله من أن اسأل عما لا علم لي به، فأسكت ولا أقول فيه شيئًا، وقد قال عبد الله بن مسعود: إن أعلم لأحدكم أن يقول فيما ليس به علم: الله ورسوله أعلم. وروي عن عبد الله بن عباس أنه سئل عما لا يعلم، فقال: لا أعلم. وهذا أدب مستعمل، وطريق مسلوك محمود بين العلماء، لا يعابون عليه بل يحمدون، ولا يذمون به بل يمدحون. والله أعلم.

أحاديث متفرقة

أحاديث متفرقة أخرج الشافعي: عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة قال: ذكر ابن عباس أن ابن عمر تلا هذا الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} (¬1) فبكى ثم قال: والله لئن أخذنا الله بها لنهلكن، فقال ابن عباس: يرحم الله أبا عبد الرحمن قد وجد المسلمون فيها حين نزلت ما وجد، فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت: {لَا يُكَلِّفًالله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬2) الآية. من القول والعمل، وكان حديث النفس مما لا يملكه أحد ولا يقدر عليه أحد. وأخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء". وأخرج الشافعي: عن الدراوردي، عن ابن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمد نبييًا". وأخرج الشافعي: عن سفيان، عن عبدة بن أبي لبابة، وعاصم، عن زر قال: سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقلت: إن أخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف قال: إني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قيل لي: قل فقلت"، فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج الشافعي فيما ألزم به العراقيين من خلاف عبد الله بن مسعود أو رواه عن وكيع، عن سفيان، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: رأيت عبد الله يحك المعوذتين من المصحف ويقول: لا تخلطوا به ما ليس منه. ¬

_ (¬1) البقرة: [284]. (¬2) البقرة: [286].

قال: وهم يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بهما في صلاة الصبح، وهما مكتوبتان في المصحف. وأخرج الشافعي: عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت". قال الشافعي فيما بلغه عن حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان عبد الله يكره أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وأخرج الشافعي في سنن حرملة: عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام". وأخرج الشافعي: عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة أنها كست عبد الله بن الزبير مطرف خز كانت تلبسه. قال الربيع: قلت للشافعي: ما تقول في لبس الخز؟ فقال: لا بأس به، إلا أن يدعه رجل ليأخذ أفضل منه، فأما لأن لبس الخز حرام فلا. وأخرج الشافعي: عن مالك، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إن جارية لي كانت ترعى غنمًا لي، فجئتها وفقدت شاة من الغنم، فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها وكنت من بني آدم، فلطمت وجهها وعليَّ رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله"؟ فقالت: في السماء، قال: "فمن أنا"؟ فقالت: أنت رسول الله، فقال: "أعتقها"، فقال عمر بن الحكم: يا رسول الله، أشياء كنا نصنعها في الجاهلية: كنا نأتي الكهان؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تأتوا الكهان"، فقال عمر: وكنا نتطير؟ فقال: "إنما ذلك

شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم". قال الشافعي: واسم الرجل: معاوية بن الحكم. كذا رواه الزهري ويحيى بن أبي كثير. وأخرج الشافعي في القديم: عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[بجارية] (¬1) له سوداء فقال: يا رسول الله، إن علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتشهدين أن لا إله إلا الله"؟ قالت: نعم، قال: "أتشهدين أن محمدًا رسول الله؟ قالت: نعم [قال] (1) "أتوقنين بالبعث بعد الموت"؟ قالت: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعتقه". وأخرج الشافعي: عن إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه أحدث الأخبار، تقرؤنه محضًا لم يشب؟! ألم يخبركم الله في كتابه أنهم حرفوا كتاب الله وبدلوا؟ وكتبوا كتابًا بأيديهم فقالوا: "هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلاً، ألا ينهاكم العلم الذي جاءكم عن مسألتهم والله ما رأينا رجلاً منهم قط سألكم عما أنزل الله إليكم. وأخرج الشافعي في كتاب حرملة: عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سلمة، عن رجل من ولد أم سلمة قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله: لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل الله -عز وجل-: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}. وأخرج أيضًا في كتاب حرملة: عن سفيان، عن قعنب التميمي -وكان ثقة خيارًا- عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حرمة نساء المسلمين على القاعدين في الحرمة كأمهاتهم، وما ¬

_ (¬1) من المعرفة (11/ 119).

من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله، إلا نصب له يوم القيامة فيقال له: يا فلان هذا فلان [بن فلان خانك] (¬1) فخذ من حسناته ما شئت"، ثم التفت إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما ظنكم". وأخرج الشافعي في كتاب حرملة: عن سفيان قال: حدثنا ابن جدعان، عن أنس بن مالك قال: أهدى أكيدر دومة للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبة، فتعجب الناس من حسنها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بل في الجنة خير منها". وأخرج الشافعي: عن سفيان، عن عبد الوهاب، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". وأخرج أيضًا: عن عبد الوهاب، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبقيع، فنادى رجل: يا أبا القاسم! فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني لم أعنك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي". وأخرج أيضًا في سنن حرملة: عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن المغيرة بن شعبة، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لم يتوكل من استرقى واكتوى". هذا آخر ما يسره الله، ووفق له، وهدى إليه وقدره من شرح مسند الإمام الشافعي -رحمة الله عليه- حسب ما أدى الإمكان، ووصل إليه الفهم والعرفان، مما استفدناه من أقوال العلماء فأبديناه، وادخرناه من فوائدهم فأنفقناه؛ ووقفنا عليه من متفرق معانيهم فجمعناه وتلقفناه من آرائهم ومذاهبهم المختلفة فأوردناه، وعرفناه من مقاصدهم الغامضة فأوضحناه، وتحققناه من ¬

_ (¬1) من المعرفة (13/ 121).

أقوالهم المشكلة وشرحناه، فجاء بعون الله -تعالى- كما تراه مهذبًا ومحررًا، كما وقفت عليه قويًا. وأنا أرغب إلى الله -سبحانه- أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، مجازيًا عليه بفضله في دار النعيم. وإلى من وقف منه على سهو أن يصلحه؛ أو رأى فيه مبهمًا أن يوضحه، فالمعصوم معدوم، والمهذب قليل. وفقنا الله وإياكم معشر الإخوان لما يرضيه، وجمعنا وإياكم في الدار الآخرة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطاهرين أجمعين، وسلم دائمًا كثيرًا. نجز الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه في عشية السبت الثامن عشر من ربيع الآخر [] (¬1). ... ¬

_ (¬1) بالأصل غير متضح.

§1/1