السيوف المشرقة ومختصر الصواقع المحرقة

الألوسي، محمود شكري

[مقدمة المؤلف]

- بسم الله الرحمن الرحيم - [مقدمة المؤلف] الحمد لله الذي أبطل شبه القاصرين عن إدراك اليقين وقطع بما وصل من سلسلة حفظة دينه دابر الكافرين، والصلاة والسلام على من نطق بجوامع الكلم وموجز المقال وبين بمختصر لفظه سائر الأحكام من الحرام والحلال وميز بما جاء به بين أهل الحق وفرق الكفر والضلال، وعلى آله وأصحابه نجوم سماء الهداية ورجوم شياطين الغواية صلاة وسلاما دائمين إلى النهاية. أما بعد، فيقول الفقير إلى لطف الله تعالى الهادي محمود شكري بن السيد عبد الله بهاء الدين بن العلامة المفسر الشهير أبي الثناء السيد محمود شهاب الدين الحسيني الآلوسي البغدادي: إن أشرف ما يتعاطاه الإنسان ويصرف فيه نفائس الأوقات والأزمان هو الاشتغال بالعلوم الدينية واقتناص شوارد الأحكام الشرعية، سيما ما يتعلق برد شبه أهل البدع والأهواء ويدمغ أم رأس الزائغين عن المحجة البيضاء. ألا وإن أضرهم على الإسلام وأجرأهم في الهجوم على حمى محارم الملك العلام فرق الروافض المتمسكين بكل ما يناقض الدين المحمدي ويعارض، فهم الأولى بإعداد العدد والأحق ممن خالف أهل الحق بما نستمده من كل برهان وسند، فلقد فرقوا عصا المسلمين وأوهنوا الدين المحمدي المبين بدسائس لا تدري اليهود بعشرها وحيل لا تعرف الشياطين على خبثها ومكرها: لقد جربتهم فرأيت منهم ... خبائث بالمهيمن نستجير ولقد أصبح اليوم أعراق قطر العراق مملوّة من سم أذنابهم، فلا ينجع فيه ترياق ولا ألف راق، فقد ارتد غالب القبائل والعربان على أعقابهم ورجعوا -والأمر لله تعالى- على أدبارهم، فرفضوا شعائر الإسلام وأهملوا سائر الأحكام واتخذوا بغض أئمة الدين عبادة وصيروا مقت أصحاب سيد المرسلين وسيلة لنيل السعادة وقعدوا عن نصرة إمام المسلمين في الجهاد، بل عدوا ذلك من باطل الاعتقاد.

فلذا ترى أحبارهم ورهبانهم يسرعون إليهم إذا قامت حرب بين المسلمين والكفار، فيعظونهم بالقعود عن نصرة المسلمين وإعانتهم ولو بأقل مقدار. إن سمعوا بنكبة المسلمين كان ذلك أسعد عيد، وإن أخبروا بنصرتهم غشيهم همّ ليس عليه من مزيد. فما أشبه حالهم بما قص تعالى في كتابه من حال إخوانهم اليهود حصب جهنم وحطبها: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا}، كل ذلك من إهمال أولي الأمر وعدم المبالاة بهذا الأمر الأمَرّ. فلم يعيّنوا من يلقن عقائد الدين جهلة الناس وعوام المسلمين ولا من يبين لهم الأحكام ويميز لهم بين الحلال والحرام: وتراخى الأمر حتى أصحبت ... هملا يطمع فيها من يراها فإن إزاحة جيوش ظلام الضلال بإيقاد مصباح الهدى والرشاد لا تتيسر من غير مساعدة من ولاه الله تعالى زمام أمور العباد. ومع ذلك إن من وقف على ما انطووا عليه واطلع زيغهم وضلالهم وشبههم فيما ذهبوا إليه ظهر له أنهم ليسوا على شيء وتبين لديه أن ما هم عليه ضلال وغي، فيستمسك المؤمن بعرى دينه ويعض بنواجذه على إيمانه ويقينه. وقد أُلف في إبطال مذاهب هذه الفرقة السالكة طريق الردى والفئة الزائغة عن منهج الهدى كتب تصدع بالحق وتنطق بالصدق وتقلع أساس الكفر من محله وتستأصل عرق الرفض من أصله. غير أن البعض منها فيه إطناب ممل، والبعض الآخر فيه إيجاز مخل. ولقد لخصت فيما مضى ترجمة التحفة الاثني عشرية بألفاظ موجزة وعبارات مرضية. وقد ظفرت في هذه الأيام بكتاب الصواقع المحرقة لإخوان الشياطين والزندقة لخاتمة فحول الأنام وشيخ العلماء الأعلام فريد دهره ووحيد عصره: نصير الدين الشيخ

محمد الشهير بخواجة نصر الله الهندي المكي ابن العلامة جامع المعقول والمنقول حادي الفروع والأصول خواجة محمد سميع الشهير بمولانا برخور ولد الحسيني الصديقي، سقى الله ثراه صيب رحمته وأسكنه جل شأنه فسيح جنته. فرأيته كتابا تشد إليه الرواحل وتقطع دونه المنازل. وهو أشبه شيء بالتحفة الاثني عشرية وأوفقها بجميع ما انطوت عليه من كلية وجزئية: فإن لم يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها غير أن فيه بعض زيادات تعد من جمة الإفادات. وكان مفتقرا إلى الإيجاز وتبديل بعض عبارات فيه كالألغاز، حيث أن المؤلف رحمه الله تعالى أدى غالب مقاصده بألفاظ غير مأنوسة الاستعمال وكلمات لا تكاد تعرف إلا بمراجعة كتب اللغة وكملّ الرجال. وقد اشتملت مع ذلك على ذكر حكايات لا تفيد شيئا لدى الخصام والمشاجرات وعلى عبارات لا دخل لها في المقصد ولا تعرض لها في دفع الخصم الألد. فأحببت أن ألخصها ليعم نفعها وأختصرها كي يسهل أخذها ونقلها. وسميت ما كتبته واختصرته ولخصته "السيوف المشرقة ومختصر الصواقع المحرقة". والله سبحانه الميسر وهو المعين وبه جل شأنه في كل الأمور نستعين.

المقصد الأول في بيان سبب ظهور الرافضة وسبب افتراقهم وعدد فرقهم

المقصد الأول في بيان سبب ظهور الرافضة وسبب افتراقهم وعدد فرقهم وبيان أول من لقب بالشيعة ومدتهم وذكر مكائدهم وغير ذلك مما سيجئ إن شاء الله تعالى في فصول متعددة

الفصل الأول في بيان مبدأ ظهور الرافضة

الفصل الأول في بيان مبدأ ظهور الرافضة اعلم أن الله تعالى لما فتح بلاد الكفار من اليهود والنصارى والمجوس وعباد الوثن والنار على أيدي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيدي من اتبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم وشرفهم وعظمهم وكرمهم، وهلكت أعداء الله بسيوفهم القاطعة وأسنتهم اللامعة وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ذلك بما قدمت أيديهم من معصية خالقهم عز اسمه وجل علاه؛ تستر من تستر منهم بإظهار الإسلام وجعله جنة لرشق مصيب السهام، فأظهروا الانقياد والإيمان وأبطنوا الضلال والكفران، ومع ذلك فهم لم يألوا جهدا في إعداد ما يطفئ نور الله الذي أراد ظهوره، وأنى لهم ذلك ويأبى الله إلا أن يتم نوره. فكان الدين المحمدي إذ ذاك في ترقٍ واستظهار، وكلمة المسلمين غير مختلفة ويدهم واحدة على الكفار، فلم يحصل مراد المنافقين من تشتيت شمل الموحدين، ولم يتيسر لأولئك الأشقياء إلقاء العداوة بينهم والبغضاء، حتى خرج أهل مصر بتقدير العزيز العليم على ثالث الخلفاء ذي النورين عثمان بن عفان المبشر على بلوى تصيبه بجنات النعيم. فانتهز المنافقون إذ ذاك فرصة الظفر بمقاصدهم ونيل أوطارهم ومرادهم فاتبعوا أولئك المارقين، واتفقوا مع الخارجين وحملوا حينئذ على قتل عثمان وسقيه كأس المنون، فقتلوه قاتلهم الله أنى يؤفكون. فحل بالمسلمين من البلاء ما حل، والأمر كله لله عز وجل. وبعد أن استشهد رضي الله تعالى عنه بويع لعلي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة، وكان أهلا لذلك، فقد اختاره للإمامة من اختار أسلافه. وقد خرج عليه من خرج وبغى عليه من بغى ممن أخطأ في ذلك المنهج، فسمي حينئذ من تابع الأمير بشيعة علي ذي القدر الخطير، وكانوا على اعتقاد أهل الحق، ثم تابعهم المنافقون ومن خرج على عثمان واختلطوا جميعا وقيل للكل شيعة علي. وكان من جملة المنافقين عبد الله بن سبأ اليماني الصنعاني. وكان أول أمره

يهوديا خبيث النفس، فأظهر للشيعة الذين كانوا على نهج الحق كمال المحبة لعلي وسائر أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وحث المسلمين على ذلك ورغبهم فيما هنالك، وهو يستبطن إضلالهم وتفريق شملهم، حتى تأكد لديهم أنه من المخلصين ومن أجلة المسلمين، وأنه حل عندهم أعلى محل. ولما تيقن أن قوله لديهم يسمع وأمره مقبول ومطاع وأن خزعبلاته تروج عليهم، ذكر لهم أن أمير المؤمنين أفضل البشر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه أخوه وابن عمه ووصيه وصهره وأولى الناس به، وتلا لهم الآيات الواردة في فضائله وروى الأحاديث الصحيحة والموضوعة في مناقبه. فلما صدقوه بذلك وانطوت عقائدهم على ما هنالك، ألقى على طائفة من هؤلاء الشيعة دسائس أخرى، وهي أن أمير المؤمنين كان وصي النبي - صلى الله عليه وسلم - وخليفته من بعده، وقد نصّ على خلافته وأمر أصحابه باتباعه والاعتراف بإمامته وأوصاهم بإطاعته وأنزل الله تعالى فيه لما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة راكعا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}،

ولكن الصحابة أضاعوا وصيته في وصيّه، ولم يطيعوا الله ورسوله فيما أمروا به، ونبذوا أمر الرسول وراء ظهورهم وارتدوا على أعقابهم إلا أربعة منهم، وعصب أبو بكر وصاحباه حقه وظلموه. فاعتقدوا ذلك حقا وحسبوا هنالك صدقا، فصدق إبليس عليهم ظنه فاتبعوه من دون الله، لا يلتفتون في ذلك لعذل عاذل ولا يصغون لقول قائل ولا يفيدهم الوعظ والزجر ولا ينفعهم الدعاء والذكر. والذكرى تنفع المؤمنين وتفيد الموحدين. ثم إن ابن سبأ لما رأى من طاعة قومه له ما رأى وحصل له بعض الأماني، قصد أن يظهر مطلوبه ويطلب منهم مراده ومقصوده، فاختلى بطائفة منهم ممن لا يفرق بين القشر واللب ولا يميز بين الغث والسمين، وناجاهم بأنكم قد شاهدتم من خوارق الأمير ما شاهدتم وعلمتم أن ذلك مما لا يمكن صدوره عن بشر، كقلب الأعيان وإحياء الموتى والإخبار عن الغيوب وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، فما تقولون فيه؟ قالوا أنت أعلم به منا وأبصر بحاله. قال هلموا إلي في الليل أبين لكم رأيي فيه. فلما جاءوه عشاءً قال: يا معشر الأحباب وذوي الألباب، إنكم لتعلمون أنه لا يمكن صدور مثل تلك الأمور إلا من الله، فاعلموا أن عليا هو الإله لا إله إلا هو، وقد سمعت منه أنه يناجي: أنا حي لا يموت، أنا باعث من في القبور، أنا أقيم القيامة! فجذبهم بعنان كذبه وافترائه إلى الكذب والضلال لأنهم كانوا مستعدين لمثل هذا، {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}، وكل ميسر لما خلق له، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}.

وافترقت الشيعة حينئذ إلى أربع فرق

وكان ابن سبأ يدعو الناس إلى ما دعى إليه سرا وعلانية، حتى قال هو وأصحابه للأمير شفاها بعد ما رأوا شيئا من خوارقه: أنت الإله حقا، فزجرهم ونهاهم عن ذلك واستتابهم، فأظهروا التوبة، فنفاهم إلى المدائن. فلما استقر ابن سبأ وأصحابه بها شرعوا يغوون الناس ويستميلونهم إلى عقائدهم الخبيثة، ووافقهم جم غفير على القول بألوهية علي رضي الله تعالى عنه، فضلوا ضلالا بعيدا. وسيّر ابن سبأ دعاته إلى البلاد الدانية والقاصية ليدعوا الناس إليه، حيث لم يكن له عن هذا الأمر دافع ولا صاد. وافترقت الشيعة حينئذ إلى أربع فرق الفرقة الأولى المخلصون: وهم الناجية الذين هم أهل السنة والجماعة ما عدا البغاة. الفرقة الثانية التفضيلية: وهم الذين يفضلون عليا كرم الله تعالى وجهه على كافة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثالثة السبئية: وهم الذين يسبون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل يكفرونهم، وحاشاهم رضي الله تعالى عنهم. والرابعة الغلاة: وهم الذين يقولون بألوهية علي كرم الله تعالى وجهه. ثم إنه قد افترق كل من الفرقتين الأخيرتين إلى فرق كثيرة وصاروا طرائق قددا. وسيجيء إن شاء الله تعالى ذكرهم بالتفصيل، ومنه الهداية والتوفيق.

الفصل الثاني في بيان سبب افتراق الرافضة

الفصل الثاني في بيان سبب افتراق الرافضة اعلم أن ابن سبأ لما دعى الناس إلى ما دعاهم إليه من الرفض والضلال، وأجابه من أجابه من الحمقاء، صارت الرافضة فرقتين، وكانت دعاة كل فرقة يدعون الناس إلى مذهبهم. ولما دعى بعض دعاة الفرقة الغلاة إلى مذهبه طائفة من الفرقة السبئية وتبعه منهم من تبعه، وكان فيهم من له أدنى روية وعقلٍ أعرض عنه وشدد عليه النكير، وقال من يأكل ويشرب ويصحّ ويمرض ويجوع ويعرى ويلد ويولد كغيره من الحيوانات أنى يسوغ أن يدعى فيه الألوهية. فلما أذعن طائفة منهم إلى هذا القول واستشكل عليه الأمر والتبس عليه طريقه، راجع من يعوّل عليه ويقبل قوله لديه، ففكر وقدر ثم قتل كيف قدر، ثم قال له مجيبا: إن الله روح حلّ في علي وهو ليس بإله، وإنما حلّ الإله فيه كما حلّ في عيسى بن مريم واتحد بناسوته. فاستحسنه جماعة من الحمقى وعقدوا قلوبهم عليه. فافترقت فرقة الغلاة إذ ذاك فرقتين: فرقة تقول إن عليا هو الإله، وأخرى تقول بحلول الإله فيه. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ثم زاد رؤساء كل فرقة ما دعته له أهواؤهم وأوحته إليهم شياطينهم. فكثرت فرقهم وتشعبت طرقهم. ولما استشهد ريحانة الرسول الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه، ومضت برهة من الزمان، نهض كيسان مولى السبط الأكبر يدعو الناس إلى إمامة محمد بن علي بن أبي طالب، لأنه بعد أن جاء مولاه بنفسه لازم صحبة أخيه محمد وأخذ عنه

غرائب العلوم، فلبى دعوته جمع من الفرقة الأولى، منهم مختار بن أبي عبيدة الثقفي، وسمَت نفسه للسلطنة، فادعى أنه استخلفه محمد لطلب ثأر أخيه والجهاد مع أعدائه، إلا أنه قال بإمامة السبطين وكان كيسان ينكرها، ودعى جمعا كثيرا إلى مذهبه فاتبعوه، ولقب أصحابه بالمختارية. وحاربوا معه النواصب من المروانية فهزموهم بإذن الله، واستولى على العراق وديار بكر والأهواز وأذربيجان. ثم اختلفوا في الإمام بعد محمد: فقال أبو كريب وكان من رؤسائهم: محمد خاتم الأئمة، وقد اختفى من خوف الأعداء وسيظهر بعد حين. وقال إسحاق منهم: الإمام بعد محمد ابنه أبو هاشم بن حرب، وكان من

رؤساء الكيسانية. وذهبت فئة من موالي آل جعفر بن أبي طالب إلى أن الإمام بعد أبي هاشم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وتبعهم جمع كثير. وذهبت جماعة أخرى من الكيسانية إلى أن الإمام بعد ابي هاشم علي بن عبد الله بن عباس لما انتقلت الخلافة إلى آل عباس ثم إلى أولاد المنصور. ولما خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم على ابن عبد الملك بن مروان الأموي، وتابعه جماعة من الشيعة المخلصين واثنا عشر ألفا من الفرقة الأولى من الرافضة، وحاربوا معه يوسف بن عمرو الثقفي أمير العراقين، ورفضه الرافضة واستشهد؛ قال لأصحابه: إن الإمام بعد الحسين زيد. ثم اختلفوا في تعيين الإمام بمقتضى ما عرض لأوهامهم.

ونهض بعض الفرقة الأولى لما سمَت نفسه للرئاسة يدعو الناس إلى إمامة الحسن المثنى بن الحسن السبط، وجمع [عددا] منهم إلى إمامة علي بن الحسين. وكان أفضل أهل زمانه في العلم والورع. فاتبعه جمع كثير ودعوا الشيعة إليه. وكان من تلك الدعاة هشام بن الحكم الأحول وهشام بن

سالم الجواليقي وشيطان الطاق والميثمي وزرارة بن أعين. وقالوا الإمام بعد علي بن الحسين ابنه محمد الباقر. واختلفوا فيه، فقال جمع إنه حي وقال آخرون إنه مات والإمام ابنه زكريا وهو حي. وقالت جماعة الإمام بعده ابنه الصادق، فتبعهم جمع كثير ولقبوا بالإمامية. وزاد كل

منهم في أصول المذهب أشياء ودعى الناس إليه فتبعه جمع كثير. فافترقت الإمامية ست فرق: الحسنية والحكمية والسالمية والشيطانية والميثمية والزرارية. ثم اختلفوا في الإمام بعد الصادق. فقالت جماعة هو حي لكنه اختفى وسيظهر بعد حين، وقال جمع إنه مات والإمام بعده ابنه موسى. ثم افترقوا وسبب ذلك اختلافهم في تعيين الإمام بعد الإمام السابق أو إنكار أو ادعاء رجوعه بعد الموت، ولذلك كثرت فرقهم. وقالت جماعة أخرى الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل. وافترقوا فرقتين. منهم من قال إنه حي وهو خاتم الأئمة، ومنهم من قال إنه مات والإمام بعده ابنه محمد. وافترقت الفرقة الثانية أيضا. وسبب افتراقهم أنه لما مات إسماعيل خلّف ابنا يدعى محمدا، فقدم مع جده إلى بغداد ومات هناك ودفن في مقابر قريش. وكان له عبد حجازي سماه المبارك، وكان مشهورا بجودة الخط والقرمطة، فلاقاه عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي بعد وفاة الصادق، فادعى أنه من شيعة هؤلاء، وكان ينادمه ويلازمه حتى حل

عنده محل الروح من الجسد وقال: قد ظهر لي من مولاك محمد ما ظهر من الأسرار المكتومة على غيري، فراج عليه كذب حتى ألحّ عليه أن يبين له ما باح له مولاه من أسراره، فقال له: بشرط أن يجعل ليلك ليل أنقد، وأعطاه مال عن ظهر يد. فذكر له شيئا من كلام الأئمة في المقطعات، ودس فيه شيئا من الفلسفة، وعلمه طرفا من الشعوذة والسحريات والطلاسم، وكان ماهرا في تلك العلوم. وقد ذكره محمد بن زكريا الرازي في كتاب المخاريق مع غيره من الحكماء. ثم بين له شيئا من عقائده الزائغة، فراج عليه زيفها وقبل ما ألقاه عليه. ثم افترقا. فخرج المبارك إلى الكوفة ودعا أهلها إلى مذهب الإسماعيلية، فأجاب دعوته جمع كثير ممن لا يفرق بين النقير والقطمير، ولقب شيعته بالمباركية والقرامطية أيضا. وخرج عبد الله بن ميمون إلى قهستان العراق ودعى جمعا إلى مذهبه، فاتبعه فريق من الضالين ورهط من المفسدين، ولقب شيعته بالميمونية. ثم استخلف رجلا اسمه خلف

سيّره إلى خراسان وقم وقاشان، فأضل من ابتع هواه وأطاع الشيطان وعصى الإله. وارتحل ميمون إلى البصرة فدعى جمعا من أهلها إلى مذهبه فأبى أكثرهم. ولم يزل يروق لهم كلماته ويموه عليهم غلطاته حتى أجابه الغفير الجمّ منهم. وقدم خلف طبرستان ودعى الشيعة إلى مذهب القداح، وقال هو مذهب أهل البيت، وإذا خرج قائمهم أذاع ذلك وسيخرج عن قريب. ثم قدم الكوفة فأضل من أضل. ثم توجه إلى نيسابور فأقام في قراها يدعو الناس إلى مذهبه الباطل، فأجابه من الجهلة من أجابه. وقد انتشر أمره بين أهل السنة فقصدوه، فلما أحس بذلك هرب منهم وشرع يجول في الفلوات، إلى أن قصم الله عمره. ثم أقام مقام الخلف بعده أحمد واستخلف رجلا من علماء السوء اسمه غياث وسيره إلى العراق وحثه على استمالة الناس إلى مذهبه. وكان غياث أديبا ماهرا في النحو واللغة شاعرا مجيدا، فصنف في أصول مذهب الباطنية كتابا سماه بالبيان، وقد رصعه بأمثال العرب وأشعارهم، واستدل على مذهبه بالآيات والأخبار، وذكر معنى الوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من الأحكام لغةً، وقال هو مراد الشارع دون ما فهمته العامة. وكان كثير الجدل والمناظرة مع مخالفيه، فأتاه ذوو الضلال من كل فج عميق وأسرعوا له من كل بلد سحيق، ليأخذوا عنه مذهبه الباطل ظنا منهم أنه الحق، ولم يدروا أنه بعيد

عنه بمنازل. ولقب تابعيه بالخليفية، وكان ذلك سنة اثنين ومائتين. فينما هو راكب متن ضلاله سائر في أودية سوء أفعاله إذ أخبره رجل بأن الملأ يريدون قتلك. فخرج حينئذ منها إلى مرو الشاهجان. فأقام هناك مدة وأضل فيه من أضل بتقدير الله عز وجل. ثم رجع إلى الري فأُخبر أن أهل السنة يطلبونه، فهرب منهم هو وأتباعه الفجرة، فاختارته المنية في الطريق، ومات في البصرة ودفن هناك. واستخلف بعده ولده أحمد. وكان يتلو تلو أبيه من البصرة إلى الشام ولم ينل هناك شيئا من بغيته، فارتحل إلى المغرب وثوى في بلد كان أكثر أهله كالأنعام. ودعاهم إلى مذهب الإسماعيلية فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. ثم رجع إلى الشام فلم ينل مراده أيضا، فقدم البصرة ولقي هناك هند الأخاسس، وخلّف ابنه محمدا، فخرج إلى المغرب فعلا قدره

ثمّة، وادعى أنه هو المهدي الموعود به. فاستولى على الإفريقية وغيرها من بلاد المغرب. ولقب أتباعه بالمهدوية. ثم افترقت المهدوية بعد مدة فرقتين. وسبب ذلك أن المستنصر من ولد المهدي نصّ على إمامة ولده نزار ثم على إمامة ولده المستعلي، فأخذ جمع بالنص الأول وآخرون بالثاني. ثم خرج من هؤلاء القوم محمد بن علي البرقعي في الأهواز سنة خمس وخمسين ومائتين. وادعى أنه من العلوية ولم يكن منهم، إلا أن بعض العلوية تزوج بأمه فعزا نفسه إليه. واستولى على خوزستان بصرة وأهواز. وأضل خلقا كثيرا من الناس. ولقب أتباعه بالبرقعية. وأرسل إليهم المعتضد العباسي غير مرة جنودا كثيرة، فغلبوا عليهم في كل مرة

بتقدير الله تعالى. وبقي خمس عشرة سنة في أرغد عيش حتى أتى أمر الله، فسيّر المعتضد جنودا لا قبل لهم بها، وذلك سنة سبعين ومائتين، فقاتلوا جنوده أشد القتال، فهزموهم بإذن الله وأسروا البرقعي وذهبوا به إلى بغداد. فأمر المعتضد أمير العسكر أن يقتله ويصلبه في جذع نخلة، ففعل كما أمر، فاضمحل الباطل حينئذ وانقشعت غيوم الضلال وتفرقت أتباعه أيادي سبأ. ثم خرج سنة ثمان وسبعين ومائتين رئيس القرامطة واستولى على قطيف. وخرج هذه السنة فيما وراء النهر رجل منهم يقال له حكيم بن هشام الملقب بالمقنع، وكان بليغا ماهرا في علوم الشعوذة والحيل والنجوم والسحريات والطلمسات وكثير من علوم الفلاسفة، وكان يظهر للناس أمورا غريبة من السحر والشعوذة. فتبعه جمع كثير من الجهلة، حتى عمل قليبا في بلدة نسف يخرج منه بعد المغرب قمر منير يضيء خمس فراسخ ثم يأفل فيه قبل طلوع الفجر. فكثرت أتباعه إذ ذاك. ولقب تابعيه بالمقنعية. وادعى الخبيث أنه رابع أربعة آلهة فصدقته شيعته. فأرسل إليه الخليفة وملوك ما وراء النهر جنودا تترى يقاتلونهم ثم يغلبون، حتى

جاء أمر الله، فأرسل الخليفة والملوك وأمراء خراسان جنودا متتابعة، فحاربهم فضاقت عليه الأرض، فتحصن هو وأصحابه حصنا حصينا قد بناه على بعض التلال وهرب الآخرون منهم، وقاتل المسلمون أهل الحصن من وراء الجدر. فلما نفد ما عندهم من الزاد أمر أصحابه أن يوقدوا نارا عظيمة فأوقدوها، ثم سقاهم سما مع الخمر فماتوا جميعا، فألقى أجسادهم في النار، فلما صارت رمادا نسفها نسفا، ثم دخل الخبيث في جب من المياه الحارة التي لا يقع فيها شيء إلا صار ماءً، وكانت في زاوية من زوايا الحصن جارية مريضة قد أغمي عليها، فأفاقت بعد يومين ولم تر أحدا في الحصن، فزحفت إلى الباب فنادت أن ليس في الحصن أحد غيري، فستور جمع منهم الحصن فلم يروا منهم أحدا، فنزلوا وفتحوا الباب ودخل فيه المسلمون فلم يروا منهم أثر فتعجبوا. وزعم أتباعه الذين تفرقوا في البلاد أنه عرج هو وأصحابه إلى السماء. وخرج أيضا رجل منهم في عهد المعتضد، وهو أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، في البحرين على أبحر والحسا والقطيف وسائر بلاد البحرين. ودعى الناس إلى مذهب الباطنية من الرافضة. ولقب تابعيه بالجنابية. وكانوا يغيرون على القرى ويقطعون السبل ويقتلون المسلمين. فقتله خادم له في الحمام سنة إحدى وثلاثمائة. وقام مقامه ولده طاهر، وكان هو وأبوه على عقيدة واحدة، وهوه الذي قتل الحجاج في الموسم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقيل قتلهم أبوه. وأذاع مذهب الباطنية. وكان يسعى غاية السعي في الإضلال حتى صاحت به وبأكثر أتباعه حوادث الدهر.

ونهض حمدان منهم، وكان من قرمط يدعو الناس إلى إمامة محمد بن إسماعيل وأنه حي لم يمت وهو المهدي. ولقب أتباعه بالقرمطية، وغلب عليهم بهذا اللقب، ولا يلقب به المباركية بعده. ثم نهض ابن أبي الشمط وخالف حمدان وقال الإمام بعد إسماعيل أخوه محمد ثم أخوه موسى الكاظم ثم أخوه عبد الله ثم أخوه إسحاق. ولم ينكر إمامة محمد بن إسماعيل لكن أنكر حياته. ودعى الناس إليه. ولقب أصحابه بالشمطية. وعاش أعواما في إضلال الناس حتى ورد حياض غتيم. والميمونية والخلفية والبرقعية والمقنعية والجنابية والقرمطية كلهم من الباطنية. ولا خلاف بينهم في العقائد إلا في بعض المسائل. وكلهم يوجبون العمل ببواطن النصوص لا بظواهرها، ولذا لقبوا بالباطنية. لكن لقبت كل قوم منهم بلقب ليتعارفوا، إلا أن المقنع في أواخر ايامه ادعى الألوهية. والباطنية كلهم من الإباحية وغلاة الرافضة. وكان بين البرقعي والمقنع والقرمطي عيبة مكفوفة، وكان بينهم مكاتبات، وهم على وتيرة واحدة. وأول من دعى الناس إلى مذهب الباطنية القداح. وأول من جهر به البرقعي ثم المقنع والجنابي ثم الحسن من

النزارية ثم غير واحد من ولده. والمهدوية منهم يبالغون في إجراء الأحكام الشرعية خشية أن ينفر عنهم الناس. وتقول أئمتهم لكل من شيعتهم سبح يغتروا.

الفصل الثالث في بيان فرق الشيعة

الفصل الثالث في بيان فرق الشيعة اعلم أن فرق الشيعة كثيرة، وأصولهم خمسة: الشيعة الأولى والغلاة والكيسانية والزيدية والإمامية. وأصل الفرق الأربعة الكذب والبهتان، وجل مقالاتهم في اتباع الهوى. أما الشيعة الأولى فهم المخلصون. وهم الذين شايعوا عليا كرم الله تعالى وجهه بعد أن بايعه المسلمون للخلافة ولازموا صحبته من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة وغيرهم ممن تبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم. وهؤلاء افترقوا فرقتين: السنية قالوا إن عليا هو الخليفة بعد عثمان والإمام الذي افترضت طاعته، ومن خرج عليه فو باغ مخطئ؛ والتفضيلية قالوا إن عليا وأولاده أحق بالخلافة من غيرهم وهو أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يذكرون الصحابة إلا بخير ولا يعزونهم إلى الضلال. ولا خلاف بينهم وبين الفرقة الأولى في هذه المسألة. وأما الغلاة فأربع وعشرون فرقة الأولى السبئية: أصحاب عبد الله بن سبأ. قالوا إن عليا هو الإله حقا وإنه لم يقتل وإنما قتل ابن ملجم شيطانا تصور بصورته وإنه في السحاب وإن الرعد صوته والبرق سوطه وإنه ينزل بعد حين يقتل أعداءه. الثانية المفضلية: أصحاب المفضل الصيرفي. قالوا في الأئمة مثل ما قالت النصارى في المسيح وإنه تعالى حل فيهم واتحد بناسوته وإن النبوة لم تنقطع،

وينتحلون النبوة والرسالة. الثالثة السريغية: أصحاب السريغ. قالوا إن الله تعالى حل في خمسة أشخاص، النبي والعباس وعلي وجعفر وعقيل. الرابعة البزيعية: أصحاب بزيع بن يونس. قالوا جعفر بن محمد هو الإله لا يرى، ولكن شبه بهذه الصورة، والأئمة يوحى إليهم ويرقون في الملكوت. الخامسة الكاملية: أصحاب أبي كامل. قالوا إن لله تعالى مكانا وإن الأرواح تتناسخ وكان روح الله في آدم ثم في ولده شيث ثم في الأنبياء والأئمة، وكذلك تتناسخ في سائر بني آدم، وإن الصحابة كفروا بترك بيعة علي، وكذا علي بترك طلب الحق. السادسة المغيرية: أصحاب مغيرة بن سعد العجلي. قالوا إن الله تعالى على صورة رجل وإنه جسم على رأسه تاج من نور قلبه منبع الحكم. السابعة الجناحية: قالوا الأرواح تتناسخ، وكان روح الله تعالى في آدم ثم في شيث ثم سائر الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ثم إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، وهو الإمام بعد محمد بن الحنفية. وأنكروا المعاد

واستحلوا المحارم. الثامنة البيانية: أصحاب بيان بن سمعان النهدي. قالوا إن لله تعالى صورة وإنه حل في علي واتحد بناسوته ثم في ابنه محمد ثم في ولده أبي هاشم ثم في بيان واتحد بناسوته. التاسعة المنصورية: أصحاب أبي منصور العجلي، ويقال لهم العجلية أيضا. قالوا الرسل لا تنقطع أبدا وإن العالم قديم. وأنكروا الأحكام والجنة والنار وأولوها. وقالوا الإمامة صارت إلى محمد بن علي بن الحسين ثم انتقلت منه إلى أبي منصور هذا. العاشرة الغمامية: ويقال لهم الربيعية أيضا. قالوا إن الله تعالى ينزل إلى الأرض كل ربيع في غمام فيطوف الدنيا ثم يعرج إلى السماء. الحادية عشرة الأموية: أصحاب الأموي. قالوا إن عليا كان شريكا لمحمد في النبوة.

الثانية عشرة التفويضية: قالوا إن الله تعالى خلق الدنيا وفوضها إلى محمد وأباح له كل ما فيها. وقالت طائفة منهم فوضها إلى علي. وقالت أخرى إليهما. الثالثة عشر الخطابية: أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي. قالوا إن الأئمة أبناء الله وعلي إله وجعفر الصادق الإله الأصغر وأبو الخطاب نبي، والأنبياء فرضوا على الناس طاعة أبي الخطاب. وكان يأمر أصحابه بشهادة الزور على مخالفيه. الرابعة عشر المعمرية: أصحاب المعمر. قالوا جعفر بن محمد الصادق نبي ثم بعده أبو الخطاب وبعد قتله معمر، وأحكام الشريعة مفوضة إلى النبي وقد أسقطها معمر. وهؤلاء فرقة من الخطابية. الخامسة عشر الغرابية: قالوا إن الله تعالى أرسل جبريل فغلط في تبليغ الرسالة من علي إلى محمد، وكان محمد لعلي أشبه من الغراب بالغراب، لذلك لقبوا بالغرابية. السادسة عشر الذبابية: قالوا إن عليا إله وإن محمدا نبي وهو أشبه له من الذباب بالذباب. وهؤلاء طائفة من الغرابية رجعوا عن عقيدتهم إلى هذه العقيدة. السابعة عشر الذمية: قالوا إن عليا إله، ويذمون محمدا لأنهم يزعمون أن عليا هو

الإله وقد بعث محمدا ليدعو الناس إليه فدعاهم إلى نفسه دونه، فلذا لقبوا بالذمية. الثامنة عشر الاثنينية: قالوا إن محمدا وعليا كلاهما إله، وافترقوا فرقتين؛ فقدمت فرقة عليا وقدمة فرقة أخرى محمدا، وهؤلاء الفرقة من الذمية رجعوا عن الذم وشاركوا محمدا مع علي في الإلهية. التاسعة عشر الخمسية: وهم فرقة من الذمية أيضا. قالوا الآلهة خمسة محمد وعلي وفاطمة وحسن والحسين، وزعموا أن الخمسة شيء واحد وأن الروح حالة فيهم على السوية لا مزية لواحد منهم على الآخر. ومن أعجب العجائب أن طائفة منهم كانوا يحذفون التاء من فاطمة تحاشيا عن وصمة التأنيث مع اعترافهم بأنها بنت محمد وبعلة علي وأم الحسن والحسين، وذلك من فرط شركهم وجهالتهم وغباوتهم وضلالتهم. وربما يطلق عليهم وعلى الاثنينية النزة الأولى مع أنهم تبرؤوا عن الذم. العشرون النصيرية: أصحاب نُصير. قالوا إن الله تعالى حل في علي ثم الأئمة من ولده، ولذا أطلقوا الألوهية على علي والأئمة. الحادية والعشرون الإسحاقية: أصحاب إسحاق. قالوا الأرض لا تخلو من نبي، والله حل في علي ثم في الأئمة من ولده كما قالت النصيرية. إلا أنهم اختلفوا فيمن حل الله فيه بعد علي من ولده. الثانية والعشرون [العلبائية]: أصحاب [علباء] بن دراع الأوسي، وقيل

الأسدي. قالوا إن عليا هو الإله وهو أفضل من محمد وإن بايعه. الثالثة والعشرون الرزامية: أصحاب الرزام. قالوا الإمام بعد علي ابنه محمد ثم ولده أبو هاشم ثم علي بن عبد الله بن العباس بوصية أبي هاشم له ثم محمد بن علي ثم أولاده إلى المنصور ثم حل الله تعالى في أبي مسلم صاحب الدعوة وإنه لم يقتل. واستحلوا المحارم وتركوا الفرائض. الرابعة والعشرون المقنعية: أصحاب المقنع. ادعوا الألوهية في المقنع، وقالوا الآلهة أربعة علي والحسن والحسين والمقنع. وهؤلاء فرقة من الرزامية. وأما الكيسانية فهم أصحاب كيسان مولى الحسن السبط، وقيل مولى علي بن أبي طالب. وقال الجوهري في صحاحه: كيسان لقب المختار، وتبعه غيره. والصحيح ما قدمناه. تتلمذ على محمد بن علي وأخذ عنه العلوم الغريبة. وهم ست فرق:

الفرقة الأولى الكربية: أصحاب أبي كريب الضرير. قالوا الإمام بعد علي ابنه أبو القاسم محمد لأن عليا رفع إليه الراية بالبصرة وإنه حي مقيم بجبل رضوى في شعب منه، وهو صاحب الزمان، دخل الشعب ومعه أربعون رجلا من أصحابه، وعنده عينان نضاختان يجريان عسلا وماء. وإلى هذا يشير كُثير عزة الشاعر المشهور من جملة أبياته، وكان كيساني الاعتقاد: وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء تغيّب لا يُرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء وأبو كريب هذا أول من قال باختفاء صاحب الزمان من خوف الأعداء وظهوره بعد حين، وتبعه جماهير الإمامية فوقعوا في وادي الجبت. الفرقة الثانية الإسحاقية: أصحاب إسحاق بن عمر. قالوا الإمام بعد محمد ابنه أبو الهاشم وبعده أولاده بوصية الآباء للأبناء. الفرقة الثالثة الكندية: أصحاب عبد الله بن الحرب، ويقال لهم الحربية أيضا. قالوا الإمام بعد أبي الهاشم عبد الله بن الحرب الكندي بوصيته له. الفرقة الرابعة العباسية: قالوا الإمام بعد أبي الهاشم [علي بن عبد الله بن العباس] ثم انتقلت إلى ولده محمد بن

(فرق الزيدية)

علي بوصية له ثم انتقلت إلى ابنه. الفرقة الخامسة الطيارية: قالوا الإمام بعد أبي الهاشم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب بوصية له. الفرقة السادسة المختارية: أصحاب مختار بين أبي عبيدة الثقفي. قالوا الإمام بعد علي ابنه الحسن ثم الحسين ثم محمد بن الحنفية. (فرق الزيدية) وأما الزيدية فهم المنسوبون إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهم تسع فرق: الفرقة الأولى الزيدية المخلصون: الذين هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأخذوا عنه أصول المذهب وفروعه، ولا يتبرؤون من الصحابة ولا يذكرونهم إلا بخير. وقالوا الإمامة كانت حق علي إلا أنه ترك الولاية للمتقدمين عليه، وإن بيعة أبي بكر وصاحبيه لم تكن على خطأ لأن عليا رضي بها. ومذهبهم موافق لمذهب أهل السنة ولا خلاف بينهم إلا في هذه المسألة، وقد وافقوا بها الفرقة الثانية من فرقتي الشيعة الأولى. ولا يغلون في دينهم. ومن القائلين بصحة إمامته وجواز خروجه على الظلمة ووجوب اتباعه أبو حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي. وغيّر مذهبه من جاء بعده من الزيدية. الفرقة الثانية الجارودية: أصحاب أبي الجارود زياد بن أبي الزياد. قالوا الإمام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب بالنص عليه وصفًا لا تسمية.

وكفروا الصحابة بتركهم الاقتداء بعلي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده الحسن وبعده الحسين. والإمامة بعدهما شورى في أولادهما، فمن خرج منهم بالسيف وهو عالم شجاع فهو إمام، فزيد إمام ويحيى ابنه إمام. واختلفوا في المنتظر. فقالت طائفة المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن الذي ادعى الإمامة وقتل في أيام المنصور وقالوا إنه حي لم يقتل. وذهبت جماعة منهم إلى أنه محمد بن القاسم بن الحسين صاحب طالقان، أسر في أيام المعتصم وحبس حتى مات في الحبس، وأنكروا موته، وزعمت عصبته أنه يحيى بن عمر من أحفاد زيد نبن علي بن الحسين صاحب الكوفة، قتل أيام المستعين بالله

وأنكروا قتله. الفرقة الثالثة الجريرية: ويقال لهم السليمانية أصحاب سليمان بن جرير. قالوا الإمامة شورى فيما بين الخلق، وإنما تنعقد برجلين من خيار المسلمين، وأبو بكر وعمر إمامان وإن أخطأت الأمة في البيعة لهما مع وجود علي. وكفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة. الفرقة الرابعة البترية: ويقال لهم الثومية أصحاب البتر الثومي، وهو المغيرة بن سعد الملقب بالأبتر. وقالوا بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن عليا ترك البيعة لهما، وتوقفوا في عثمان. وقالوا علي إمام حين بويع. الفرقة الخامسة النعيمية: أصحاب نعيم بن اليمان. قالوا مثل ما قالت البترية إلا أنهم يكفرون عثمان ويتبرؤون منه دون غيره من الصحابة. الفرقة السادسة الدكينية: أصحاب الفضل بن دكين. قالوا مثل ما قالت الجارودية إلا أنهم يكفرون طلحة والزبير وعائشة دون غيرهم من الصحابة. الفرقة السابعة الخشبية: أصحاب خلف بن عبد الصمد. قالوا الإمامة شورى بين

(فرق الإمامية)

أولاد فاطمة ويجب الخروج على من تقمص بالخلافة من غيرهم. سموا بذلك لأنهم خرجوا على السلطان ولم يكن لهم سلاح غير الخشب. الفرقة الثامنة اليعقوبية: أصحاب يعقوب. قالوا بالرجعة، وينكرون إمامة أبي بكر وعمر، ومنهم من يتبرأ منهما. الفرقة التاسعة الصالحية: أصحاب الحسن بن صالح. قالوا الإمامة شورى في أولاد فاطمة، فمن خرج منهم وهو عالم شجاع سخي فهو إمام. (فرق الإمامية) وأما الإمامية فهم يزعمون أن زمان التكليف لا يخلو من إمام من أولاد فاطمة. وهم تسع وثلاثون فرقة: الأولى الحسنية: قالوا الإمام بعد علي ولده الحسن ثم الحسن المثنى بوصيته له وهو الذي لقب بالرضا من آل محمد، ثم بعده ولده محمد الملقب بالنفس الزكية، ثم بعده أخوه إبراهيم بن عبد الله، وهو وأخوه خرجا أيام خلافة المنصور الدوانيقي ودعيا الناس إلى نفسيهما واجتمع

إليهما خلائق لا تحصى وقتلا. الثانية النفسية: قالوا النفس الزكية لم يقتل لكنه غاب وسيظهر بعد حين. وهؤلاء طائفة من الحسنية. الثالثة الحكمية، ويقال الهشامية: أصحاب هشام بن الحكم. قالوا الإمام بعد علي الحسن وبعده الحسين وبعده ابنه علي وبعده ولده الباقر وبعده جعفر الصادق. وقالوا إن الله تعالى جسد عريض عميق وهذه المقادير متساوية فيه. الرابعة السالمية، ويقال لهم الجواليقية: أصحاب هشام بن سالم الجواليقي. قالوا الإمام بعد النبي علي ثم الحسن ثم الحسين ثم ولده الباقر ثم الصادق. قالوا إن الله تعالى جسم على صورة إنسان. الخامسة الشيطانية، ويقال لهم النعمانية أيضا: أصحاب محمد بن النعمان الصيرفي الملقب بشيطان الطاق. قالوا الإمام بعد علي ولديه الحسن والحسين ثم ولده الباقر ثم ولده الصادق. وقالوا إن الله تعالى على صورة إنسان لا يعلم الأشياء إلا بعد كونها. السادسة الميثمية: أصحاب الميثمي. قالوا الإمام بعد علي الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد الباقر ثم جعفر بن محمد الصادق ثم ابنه موسى الكاظم. وقالوا إن الله تعالى جسم وله أعضاء. السابعة الزرارية: أصحاب زرارة بن أعين. قالوا الإمام بعد علي ولداه ثم

حفيده علي بن الحسين ثم ولده محمد ثم ولده جفعر. وقالوا صفات الله حادثة، ولم يكن قبل ذلك حيا ولا عالما ولا قادرا ولا سميعا ولا بصيرا. الثامنة اليونسية: أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي. قالوا إن الله تعالى على العرش تحمله الملائكة. التاسعة البدائية: قالوا لا يجوز البداء على الله تعالى، وهو أن يريد شيئا ثم يبدو له ما لم يكن ظاهرا له. العاشرة المفوضة: قالوا إن الله تعالى فوّض خلق الدنيا إلى محمد فهو الذي خلق الدنيا بما فيها، وقالت طائفة منهم فوّض ذلك إلى علي، وقالت طائفة أخرى فوضه إليهما. وهؤلاء الفرقة من غلاة الإمامية، وكلهم كفار وكلهم متفقون على الأئمة الستة. الحادية عشرة الباقرية: قالوا الإمام بعد علي بن الحسين ولده الباقر بنص أبيه وإنه لم يمت، وهم ينتظرونه.

(فرق الإسماعيلية)

الثانية عشرة الحاصرية: قالوا الإمام بعد محمد الباقر ابنه زكريا وهو حي مختفٍ في جبل حاصر إلى أن يؤذن له بالخروج. الثالثة عشر الناوسية: أصحاب عبد الله بن ناؤس البصري. قالوا الإمام بعد محمد الباقر ابنه جعفر الصادق. واختلفوا فيما بينهم بعد اتفاقهم على أنه حي. فقالت طائفة إنه غاب ولا يموت حتى يظهر أمره وهو القائم المنتظر والمهدي الموعود به، وهم أكثر الناؤسية. وقالت طائفة أخرى منهم إنه لم يغب وإن أولياءه يرونه في بعض الأوقات. الرابعة عشر العمارية: أصحاب عمار. قالوا الإمام بعد جعفر ولده محمد. (فرق الإسماعيلية) الخامسة عشر الإسماعيلية: وهم الذين يزعمون أن الإمام بعد جعفر ولده إسماعيل، وكان أكبر أولاده، وكانت أمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي. وافترقوا ثمان فرق: السادسة عشر المباركية: أصحاب مبارك. قالوا إسماعيل هو القائم المنتظر والمهدي الموعود. السابعة عشر الباطنية: قالوا مات إسماعيل والإمام بعده أولاده بنص السابق على

اللاحق، وقالوا يجب العمل بباطن الكتاب دون ظاهره. الثامنة عشر القرمطية: أصحاب رجل من سواد الكوفة، وقيل اسمه حمدان بن قرمط. وقرمط قرية من قرى واسط. قالوا الإمام بعد جعفر محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق لأن الصادق نصّ عليه، ومحمد حي لم يمت وهو المهدي. وقالوا بإباحة المحرمات. التاسعة عشر الشمطية: أصحاب يحيى بن أبي الشمط. قالوا الإمام بعد محمد بن علي ابنه جعفر الصادق، ثم الإمامة في بنيه إسماعيل ومحمد وموسى الكاظم [ثم] عبد الله وإسحاق ثم في ولدهم. العشرون الميمونية: أصحاب عبد الله بن ميمون. قالوا يحرم العمل بالظواهر، وأنكروا المعاد. الحادية والعشرون الخلفية: أصحاب خلف. قالوا ما ورد في الكتاب والأخبار من الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها فهو محمول على معناه اللغوي. وأنكروا القيامة والجنة والنار. الثانية والعشرون البرقعية: أصحاب محمد بن علي البرقعي. قالوا لا معاد وأنكروا الشرائع والأحكام وأولوا النصوص وأنكروا نبوة الأنبياء وأوجبوا لعنهم. الثالثة والعشرون الجنابية: أصحاب أبي طاهر الجنابي. قالوا لا معاد وأنكروا الأحكام وأوجبوا قتل من يعمل بها ولذا قتلوا الحجاج. وهؤلاء الفرق الأربعة كلهم من

القرامطة القائلين بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق. الرابعة والعشرون السبعية: قالوا بالناطقون بالشرائع، وهم الرسل، سبعة، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والمهدي، وبين كل اثنين من هؤلاء سبعة يقيمون شرائعه، ولا بد في كل عصر من سبعة يقتدى بهم، وإسماعيل بن جعفر منهم. الخامسة والعشرون المهدوية: قالوا الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل ثم ولده محمد الوصي ثم ولده أحمد الوفي ثم ولده محمد التقي ثم ولده

عبيد الله الرضي ثم ولده أبو القاسم عبد الله ثم ولده محمد الذي سمى نفسه بمحمد المهدي ثم ولده [محمد] القائم بأمر الله ثم إسماعيل بن [محمد] المنصور بقوة الله ثم معد بن إسماعيل المعز لدين الله ثم أبو منصور نزار بن معد العزيز بالله ثم أبو علي منصور بن نزار الحاكم بأمر الله ثم أبو الحسن علي بن منصور الظاهر لدين الله ثم معد بن علي

بن المنصور المستنصر بالله بنص الآباء على الأبناء. ولما أفضت نوبة الإمامة إلى المهدي أظهر أمره في بلاد المغرب وطلب الملك وتبعه جمع لا يحصى، فاستولى على بلاد إفريقية وبقي الملك في أولاده حينا من الدهر، واستولى بعض أولاده على بلاد مصر وبعضهم على بلاد الشام، وآثر أهل اليمن مذهبهم ولبى ملوكه دعوتهم. السادسة والعشرون المستعلية: قالوا الإمام بعد المستنصر [المستعلي] وبعده أبو القاسم أحمد بن المستعلي بالله لأن المستنصر نص على إمامته بعد ما نص على إمامة أخيه نزار والنص الثاني ينسخ الأول، ثم منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله ثم أبو ميمون عبد المجيد الحافظ لدين الله ثم أبو المنصور إسماعيل الظافر بأمر الله ثم أبو القاسم عيسى بن

محمد الفائز بنصر الله ثم أبو عبد الله محمد بن علي العاضد لدين الله. ولما أفضت نوبة الخلافة إليه خرج عليه بعض أمراء ملوك الشام واستولى عليه وحبسه فمات في السجن ولم يبق من ولد المهدي من يدعي الإمامة. السابعة والعشرون النزارية، ويقال لهم الحميرية والصالحية: قالوا العالم قديم والزمان غير متناه والأرواح تتناسخ، وأنكروا المعاد والجنة والنار، وقالوا الإمامة بعد المستنصر لولده نزار لأن المستنصر نص على إمامته أولا ثم هجره وأوصى لابنه أحمد المستعلي، والمعتمد هو النص الأول ولا يجوز العمل بالنص الثاني مع وجود النص الأول، ثم بعده لولده الهادي ثم بعده لولده الحسن.

وهو من أكاذيبهم الفاضحة، لأن المستعلي لما مات أبوه وبايعه الناس وانقادت له الأمراء والعساكر وتابعتهم الرعايا سجن أخاه مع ولديه ومكثوا في السجن إلى أن اغتالتهم يد المنون، فاعتزاء الحسن لنسبه إليه محض افتراء. الثامنة والعشرون المسقطية: قالوا الإمام بعد نزار ولده الهادي ثم ولده الحسن، والإمام غير مكلف بالفروع وله أن يسقط التكاليف الشرعية. ومن خرافاتهم الفاضحة أن الحسن بن الصباح الحميري قدم مصر فلقي بعض نساء نزار وكان معها ولد صغير من ولد نزار فحمله وجاء به إلى الري ثم استولى على حضرموت وبعض قلاع طبرستان، فنقله وأهله إلى حضرموت، فاستخلف كيّا وأوصاه بتوقير الهادي وتربيته وصيانته عن أعدائه، وكان كيا يربيه ويكرمه حتى إذا دنى ارتحاله من الدنيا استخلف ولده محمدا وأوصاه بتعظيم الهادي وتكريمه، فكان معه معززا موقرا مكرما، فنجب ليلة زوجة ابن كيا فحملت بالحسن. وقد زعموا أن المحرمات كلها حل للإمام وله أن يفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل. وزعمت جماعة أنه تغشى امرأة خليعة في ساعة من الليل فحملت، وحملت زوجة ابن كيا تلك الساعة في حين وضعت حملها وضعت تلك المرأة التي ظفر بها الهادي حملها أيضا، وأودى بالهدي الأزلم الجذع واستبدلت زوجة ابن كيا ولده بولد الهادي.

وكل ذلك من الترهات والكذب والمخترعات. ولقد أسس قدوة كل من الفرقتين مذهبه على شفا جرف هار حيث أسس دينه وشرعه على قول امرأة أو امرأتين، وما ذلك إلا لفرط غيهم وضلالهم. ولما مات محمد بن كيا ادعى الحسن أنه من ولد نزار فصدقه قومه، وادعى الإمامة فأطاعوه ولقبوه بـ"على ذكره السلام"، مع أن كل ذي لب لا يرتاب في ضلاله وزيغه عن سواء السبيل. وجمع أتباعه من القرى والحصون والمدن فجلس على المنبر واستقبل القبلة وخطب فقال: يا أيها الناس إني خليفة الله في الأنام، وإني الإمام الحق المفروض طاعته على البرية لا حجحجة فيه ولا لجلجة، وللإمام أن يفعل ما يشاء، وإني أسقطت التكاليف الشرعية عنكم وأبحت لكم المحرمات، فافعلوا ما شئتم. فاستخف قومه فأطاعوه. وكان الحسن هذا مع أنه من أولاد الزنى باعترافه واعتراف أشياعه كان في غاية الخبث، ثم صار هو وأتباعه قوما بورا، وسيصلون سعيرا ويدعون ثبورا. ثم ادعى الإمامة ولده محمد بن الحسن، وكان أكفر من والده، ثم حفيده علاء الدين محمد بن جلال الدين حسن بن محمد، [وكان مذهبه] دون أبيه جلال الدين لأنه أنكر مذهب آبائه

وضللهم وأسلم وحسن إسلامه وبالغ في طعن أسلافه وهدم أساس مذهبهم وأمر أتباعه بالمعروف ونهى عن المنكر، وبنى المساجد في قلاعه وبلاده وصاهر سلاطين الإسلام، وأخبر الخليفة بإسلامه وسير أمه إلى الكعبة لأداء حجة الإسلام، وأخرج من خزائنه كتب الملاحدة التي صنفها ابن الصباح وغيره من أتباعه في بيان اعتقاداتهم الزائغة وأحرقها بإشارة علماء قزوين. ثم ولده ركن الدين، وهو الذي شتت شمله وخرب قلاعه وقتل أشياعه. فلما استولى على قلاعه التتار تحصن أياما في حصن "ألموت" ثم أظهر الطاعة وصاحبهم وسافر معهم إلى أوطانهم فمات في الطريق. ثم ولده الذي لقبوه بجديد الدولة، وقد استولى على بعض قلاع آبائه وأراد تعمير ما خرب منها. ولما أخبر به ملك التتار أرسل إليه جندا فحشد أشياعه فقاتلوهم فغلبوا وقتل منهم جم غفير وهرب سائرهم، واتبعهم التتار فتركوهم شذر مذر، وصير ديارهم عاليها سافلها ولم يبق منهم من يدع الإمامة. وأودت بمن بقي منهم في بعض قرى طبرستان أيادي المنون.

هذا والباطنية والقرامطة والسبعية والحميرية من غلاة الإسماعيلية من فرق الإمامية، وكلهم كفرة لما تقدم. التاسعة والعشرون الفطحية، ويقال لهم الأفطحية والعمائية: وهم أصحاب عبد الله بن عمي. قالوا الإمام بعد الصادق ابنه عبد الله بن جعفر أخو إسماعيل من أمه وأبيه وإنه مات ولكنه يرجع بعد موته ولم يخلّف ولدا. وإنما لقبوا بذلك لأن عبد الله كان أفطح الرجلين. الثلاثون الإسحاقية: قالوا الإمام بعد جعفر ابنه إسحاق. وكان إماما جليل القدر يداني أباه في العلم والتقوى، وقد روى عنه جمع من ثقات المحدثين كسفيان بن عيينة وغيره. الحادية والثلاثون اليعفورية: أصحاب ابن أبي يعفور. قالوا لا يجوز صدور الذنوب عن الأنبياء والرسل. الثانية والثلاثون القطعية، ويقال لهم المفضلية: أصحاب أبي المفضل بن عمرو. قالوا الإمام بعد جعفر ابنه موسى الكاظم، ويقطعون بموته. الثالثة والثلاثون الموسوية: وقفوا على موسى بن جعفر، قالوا لا يدرى أحي هو أم ميت.

الرابعة والثلاثون الممطورية: قالوا الإمام بعد جعفر ابنه موسى وهو حي لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض شرقها وغربها وهو المهدي. وإنما سموا ممطورية لأنهم ناظروا يونس بن عبد الرحمن من القطعية فقال لهم أنتم أهون من الكلاب الممطورة، فلزمهم هذا اللقب واشتهروا به. الخامسة والثلاثون الرجعية، ويقال لهم الكاظمية: قالوا الإمام بعد الصادق ابنه موسى الكاظم بنص أبيه عليه وإنه مات ولكنه سيرجع بعد موته إلى الدنيا. وهؤلاء الفرق الثلاثة يقال لهم الواقفة لوقوفهم على موسى بن جعفر. السادسة والثلاثون الأحمدية: قالوا الإمام بعد موسى أحمد بن موسى بن جفعر. السابعة والثلاثون الاثنا عشرية: قالوا الإمام بعد موسى ابنه علي الرضا ثم بعده محمد التقي ثم ولده علي النقي ثم ولده الحسن بن علي العسكري ثم ولده

محمد بن الحسن العسكري وهو القائم المنتظر والمهدي الموعود وهو حي وقد اختفى من خوف الأعداء وسيظهر بعد حين. الثامنة والثلاثون الجعفرية: قالوا الإمام بعد الحسن أخوه جعفر بن علي وإنه لم يخلف ولدا. التاسعة والثلاثون الثالث عشرية: وهم فرقتان النصيرية والمختارية: أما النصيرية فهم أصحاب أبي نصر هبة الله بن أحمد بن محمد الكاتب. قالوا الإمام بعد علي بن الحسين ابنه زيد وبعده أخوه الباقر، ثم ساقوا الإمامة إلى محمد بن الحسن العسكري. أما المختارية فهم أصحاب المختار.

خاتمة لهذا الفصل

خاتمة لهذا الفصل اعلم أن أول من لقب بالشيعة من شايعوا عليا بعد أن بويع له بالخلافة ولازموا صحبته وحاربوا من حاربه وسالموا من سالمه من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان كما سبق، وهم الشيعة المخلصون. وكان تلقبهم بهذا اللقب سنة سبع وثلاثين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل تحية. ثم بعد سنتين أو ثلاث سنين ظهرت التفضيلية. منهم أبو الأسود الدؤلي تلميذ الأمير كرم الله تعالى وجهه وواضع النحو بأمره وتعليمه. ومنهم أبو سعيد يحيى بن يعمر العدواني وكان تابعيا لقي [إسحاق] بن سويد العدواني وكان عالما بالقراءات والتفسير والنحو ولغة العرب وهو أحد قراء البصرة أخذ النحو عن أبي الأسود. وقال القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان في وفيات الأعيان: "كان يحيى بن يعمر شيعيا من الشيعة الأوائل القائلين بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". ومنهم سالم بن أبي حفصة الراوي عن محمد بن علي الباقر وابنه الصادق

وعبد الرزاق. وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت صاحب إصلاح المنطق. وغيرهم. ثم ظهرت الرافضة منهم، وهم الذين يسبّون بعض أمهات المؤمنين وأعاظم الصحابة أو كلهم إلا أربعة أو ستة منهم ويقذفونهم بأنهم ارتدوا عن الدين. ثم افترقوا فرقا كثيرة كما تقدم. وكان بدؤ ظهورهم في عهد أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه أوائل سنة إحدى وأربعين. ثم القائلون بألوهية علي. وأول من ظهر منهم السبائية ثم العلبائية. والعلباء هو الذي وافق ابن سبأ. ثم ظهرت الحلولية من الغلاة، وكان بدؤ ظهورهم سنة ستين تقريبا. ثم [ظهرت] باقي الفرق. ثم ظهرت الرزامية، وكان بدؤ ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة. ثم ظهرت المقنعية من الرزامية. ثم ظهور فرق الحلولية. ثم ظهرت الإمامية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ثلاث وستين ومائة، وهم أكثر فرق الرافضة اليوم. ثم ظهرت الكيسانية القائلون بإمامة محمد بن علي بن أبي طالب، وكان بدؤ ظهورهم سنة أربع وستين. ثم افترقوا فرقا كثيرة، وكان أكثرهم عددا وعدة المختارية،

وكان بدؤ ظهورهم سنة ست وستين. ثم ظهرت الهشامية في حدود سنة تسع ومائة. ثم ظهرت الزيدية القائلون بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان بدؤ ظهورهم سنة اثنتي عشرة ومائة، ثم افترقت فرقا كثيرة. ثم ظهرت الجواليقية والشيطانية من فرق الإمامية سنة ثلاث عشرة ومائة. ثم ظهرت الزرارية واليونسية والمفوضة والكيسانية والبدائية والفارسية والعمائية منهم. وبدؤ ظهورهم سنة خمس وأربعين ومائة. ثم ظهرت الإسماعيلية بالإمامية، وبدؤ ظهورهم سنة خمس وخمسين ومائة. ثم المباركية منهم، وكان بدؤ ظهورهم سنة تسع وخمسين ومائة. ثم الواقفية من الإمامية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ثلاث وثمانين ومائة. ثم الاثنا عشرية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ست وخمسين ومائتين. ثم المهدوية من فرق الإسماعيلية، القائلون بإمامة محمد بن عبد الله بن عبيد الله الشهير عندهم بمحمد المهدي. وكان بدؤ ظهورهم سنة تسع وتسعين ومائتين. والمهدي هذا هو الذي ادعى أنه من ولد إسماعيل بن جعفر ثم ادعى الإمامة ونهض لطلب الملك سنة تسع وتسعين ومائتين، واستولى على بعض بلاد المغرب سنة ثلاثمائة.

وزعم أنه ابن عبد الله بن عبيد الله بن قاسم بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق. وكذبه النسابة في دعواه وقالوا إسماعيل بن جعفر مات قبل أبيه جعفر ولم يخلف ولدا سوى محمد وقد مات في بغداد كما تقدم ولم يخلف ولدا، وأنكر ذلك سائر الشيعة أيضا. واختلف النسابة في نسبه، فقالت نسابة المغرب إنه من ولد عبد الله بن سالم البصري، وكان أبوه خبازا في البصرة. وقالت نسابة العراق إنه من ولد عبد الله بن ميمون القداح. وزعمت المهدوية أن محمدا هذا هو المهدي الموعود به، ورووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على رأس ثلاثمائة سنة تطلع الشمس من مغربها"، وأولوا الشمس بالمهدي والمغرب بديار المغرب. وكل ذلك كذب وافتراء. وأصل عقيدة الإسماعيلية إنكار الشرائع. وكان الحاكم من سلاطينهم يأمر الناس أن يسجدوا إذا ذكر اسمه عندهم ويدعي أن الله تعالى يكلمه وأنه يعلم الغيب. وأفعاله شهيرة. وكان المتقدمون من المهدوية يبطنون الإلحاد والزندقة ويظهرون الزهد وكثرة الطاعات وإجراء أحكام الشريعة، وذلك خلاف ما يبطنون، وكذا الحميرية، حتى تابعهم جمهور من الناس. وكانت القرامطة من الإسماعيلية يبدون ما يخفونه غيرهم من تلك الفرقة، وقد خرجوا على المقتدر بالله واستولوا على بعض القرى والأمصار، وقدموا في الموسم مكة وقتلوا من الحجاج في

البيت الحرام قدر ثلاثة آلاف نفس، وذلك سنة تسع عشرة وثلاثمائة. وكان رئيسهم أبو سعيد الجنابي القرمطي، وكان يقتل من يجد من المسلمين. ثم ابنه أبو طاهر. ولما قدم مكة في الموسم دخل المسجد الحرام وهو على جواده يشرب الخمر ويبالغ في قتل الحاج، وبال جواده فيه. وأمر جنوده أن يقلعوا الحجر الأسود من مكانه، فقلعوه فذهب به إلى الكوفة وألقاه في كناستها، وكان عندهم عشرين سنة. ثم اشتراه منهم سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة أبو القاسم فضل بن المقتدر المطيع لأمر الله بثلاثين ألف دينار. فجاء به أبو طاهر بن أبي سعيد في مسجد الكوفة وربطه في سارية من سواري المسجد واستحضر أعيان البلد، فلما حضروه سلم الحجر إلى من أرسله المطيع لأمر الله إليهم لشرائه وقال لمن حضر عنده من المسلمين: اشهدوا أني سلمت الحجر الأسود، قالوا: شهدنا، ثم قال: من أين عرفتهم أنه الحجر الأسود. وكان ابن حكم المحدث حاضرا، فقال روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الحجر الأسود يحشر يوم القيامة وله عينان ينظر بهما ولسان يتكلم به ويشهد لمن استلمه، وإنه يطفوا على الماء ولا يحترق بالنار". فلما سمع بذلك أبو طاهر استهزأ به ودعا بالنار وألقاه فيها فلم

يحترق، ثم دعا بالماء فألقاه فيها فطفى على الماء. فقال بعد ما اختبر ذلك: قد ثبت دين الإسلام بالروايات الصحيحة الموثوق بها فلا يمكن أن يهدم بنيانه أو يثلم. فظهر له الحق وتبين له الرشد من الغي ولكنه استمر على ضلاله وبقي على حاله. ثم ظهرت الحميرية منهم، ويقال لهم الألموتية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. ثم المسقطية منهم، وكان هؤلاء آخر فرق الروافض ظهورا. أقول: وقد ظهرت في زماننا فرق أخرى كالبابية والكشفية والقرتية. وقد بينت طريقتهم في مختصر التحفة الاثني عشرية.

الفصل الرابع في بيان مدة بقاء كل فرقة من فرق الروافض

الفصل الرابع في بيان مدة بقاء كل فرقة من فرق الروافض اعلم أن كل فرقة من الفرق قد تقل في زمان وتكثر في زمان آخر. وقد كثرت الناؤسية في بغداد وغيرها من البلاد في حدود سنة خمسمائة ثم اخترمتهم المنية. وكان الفرق في بلاد الشام ومصر والعراقين وفارس وأذربيجان وخراسان منتشرين لا يظهرون أمرهم إلى أن خرج التتار مرة بعد أخرى وقتلوا المشركين إلا فئة قليلة هربت منهم. وخلت كثير من البلاد عن المسلمين كمصر والشام والعراقين وخراسان خوارزم وكاشغر وبلاد تركستان وما وراء النهر وبلخ وبدخشان وكابل وزابل وقندها وسجستان وطخارستان وفارس وكرمان وأذربيجان. ولما استقام الملك على التتار رجع إلى أوطانهم من هرب. ولم يبق من فرق الرافضة إلا شرذمة قليلة من الغلاة الزيدية والباطنية من الإسماعيلية والمهدوية والاثني عشرية. أما الغلاة فالقائلون منهم بأن عليا إله لم يبق منهم إلا السبائية والعلبائية. أما السبائية فقد طالت مدتهم، فإنهم ظهروا في خلافة أمير المؤمنين وبقوا إلى هذا الزمان،

لكنهم شرذمة قليلة متفرقون في البلاد، وأكثرهم في بلد أردبيل وغيرها من بلاد أذربيجان -ولا عبادة لهم سوى أنهم يصومون في كل سنة ثلاثة أيام- وفي بلدة بغراج من بلاد الترك، وليس فيها غيرهم من أهل المذاهب. وملكهم يدعي أنه من نسل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب. ومن الغرائب أن أهل هذه البلدة كلهم جرد مرد إلا ملكهم فإنه ذو لحية طويلة ويوجد في قرى رابستان. أما العلبائية فقليلة جدا، يأتلفون مع السبائية ولا يفارقونهم. وأما القائلون بالحلول فلم يبق منهم إلا المفضلية والنصيرية. أما المفضلية فقد طالت مدتهم أيضا وكثرت جماعتهم. فإن ابتداء ظهورهم سنة ستين تقريبا. وبقوا إلى هذا اليوم وأكثرهم في قرى قهستان وخراسان وبعض قرى بدخشان وفي بلاد الهند والسند وقرى كابل ولمغان، وهو موضع من كابلستان. وحكى بعض العدول أن في ناحية كابل أربع قرى قطانها كلها من غلاة الرافضة من فرق الحلولية إلا سكان ستة بيوت أو سبعة، وإمامهم رجل يدعي أنه من ولد علي أمير المؤمنين، يسكن قرية من قرى قهستان خراسان يقال لها الجنان، وله في كل بلد من البلاد المذكورة خليفة. وعينوا في كل بلد رجلا لإبلاغ أخبار الخليفة والأتباع إلى الإمام وأجناده. وكانوا يطلقون لفظ الإله على الإمام والرسول على الخليفة وجبريل على المخبر. ويبالغون في ترك العمل بأحكام الشرع ولو تقية، ويقولون إنه لا يجب عليهم شيء إلا أداء العشر من أموالهم إلى الإمام الذي حل فيه الإله، ويبالغون في أداء العشر حتى أنهم يؤدونه عن كل شيء ولو كان لقمة طعام أو شربة ماء، ويعطونه إلى الرسول وهو يرسله بيد جبريل إلى من اتخذوه إلها من دون الله تعالى. ومن خرافاتهم أنه يسأم الله تعالى في طول المكث في الأرض فيدعو السحاب

ويصنع سلما فيرقى إلى السماء ويسير في السماوات ما شاء ثم ينزل إلى الأرض. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. أما النصيرية فقد طالت مدتهم أيضا، فإن ظهورهم كان سنة عشرين ومائة، وبقي منهم إلى زماننا هذا، وأكثرهم في كثير من قرى دمشق. أما الزيدية فكانوا جماعات متفرقة في بلاد العرب حتى استولى بعض الشرفاء الزيدية على بلاد اليمن، فاجتمعت الزيدية عنده، فكثرت هذه الطائفة هناك وبقيت إلى هذا الزمان. وأما الباطنية فقد طالت مدتهم لأن بدء ظهورهم كان زمن الرشيد سنة بضع وثمانين ومائة. وبقي منهم إلى حد الآن [جماعة]، وأكثرهم في بلاد خراسان وبدخشان وبعض أراضي ما وراء النهر والهند. وأما المهدوية من فرق الإسماعيلية فقد طالت مدتهم. فإن محمدا بن عبد الله الملقب بالمهدي خرج في بعض بلاد المغرب سنة ست وتسعين ومائتين على المقتدر العباسي وحارب من ولاه المقتدر بلاد المغرب وغلب عليه وفتح إفريقية وادعى الإمامة، فاستفحل أمره وأمر أولاده وفتح بعضهم مصر وأذاعوا مذهبهم في تلك البلاد. وأجاب دعوته أهل اليمن. وبقي الملك فيهم مائتين وستين سنة. وكانوا على طريقة

حتى سافر الحسن بن الصباح الحميري مع جمع من أصحابه وأسرته إلى بلاد قهستان، وكان يزعم أنه شيعي من فرقة الإسماعيلية وأن الإمام بعد المستنصر ولده نزار دون المستعلي، وكان يتنقل من قرية إلى قرية، فبنى خارج الحصن عريشا واشتغل بالرياضات الشاقة وأظهر للناس كمال الزهد والورع حتى انخدع به جماعة كثيرة من أهل الحصن وأحلوه محل الإمام وانقادوا لأمره ونهيه، ولم يدروا أنه ذئب تقمص بجلد شاة، وكان في غاية من الفقر واشتاقت نفسه للرئاسة والإمارة، فخدع حاكم الحصن فانخدع وأخرجه منه وانتزع ملكه من يده، وذلك سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وابتدع النزارية فسير دعاته إلى الرساتيق والحصون الحصينة من قهستان وطبرية وقزوين ليدعوا الناس إلى مذهبه، فلبوا دعوته إلا فريقا من المؤمنين. فكثرت أشياع ابن صباح حتى سير دماعات من دهات أتباعه إلى القرى والأمصار ليردوا أعيان أهلها من العلماء والأمراء على أعقابهم، فدخل كل جماعة بلدة ولازم كل رجل منهم من يريد إعطائه، وكان يخدمه أحسن خدمة، فإذا انتهز فرصة قتله فيهرب أو يقتل. فقتلوا على هذه الكيفية جما غفير من أهل الحق وبعض الأمراء ومن خالفهم من المسلمين وعاندهم. ثم حاربوا الملوك فغلبوا واستولوا على كثير من القلاع والبلاد. وعاش ستين سنة ثم لما دنت وفاته واستيقن أنه يرتحل عن الدنيا عن قريب استخلف كيا من خلفائه وأحب أصحابه إليه، وكان صاحب سره وأعلق بقلبه من ولده. ثم إن كيا لم يمتد عمره بل لحق سلفه إلى بئس المصير. ثم استولى على ملكه بعده ولده محمد، ثم ابنه الحسن وادعى أنه من ولد نزار بن المستنصر كما سلف، فأظهر ما أخفاه أسلافه من الزندقة. وبقي الملك فيهم مائة وإحدى وسبعين سنة، ثم أبادهم الله تعالى على يد التتار، فلم يبق منهم من يدعي الإمامة.

ثم المستعلية، فقد بقي الملك فيهم إلى خمسمائة وستين سنة، ولم يبق فيهم من يدعي الإمامة، إلا أن أهل مذهبه قد طالت مدتهم بعد ذلك زمنا طويلا في بعض بلاد اليمن وأقاصي الهند. وكانوا يظهرون مذهبه وكانوا يخطؤون الفرق الإسلامية ويرمون أهل السنة بالإلحاد. وأما الاثنا عشرية فكانوا جماعات متفرقة في البلاد يختفون من أهل السنة والجماعة حتى استولى آل بويه الديلمي على البلاد، وكان أولهم عماد الدولة، سمت نفسه لطلب الملك فاستولى على مُلك مَلكه وحارب الملوك في خلافة المقتدر العباسي. وكان هو وابنا أخويه يصطادون الطيور والأسماك ويقتاتون بها وبثمنها، فأزمعوا الشخوص من جبال ديلم إلى عراق العجم. فلما قدموا البلد الذي ثوى فيه السلطان دخلوا على بعض الأمراء بما عليهم من الأسمال فأعجبه بسطة أجسامهم وعذوبة نطقهم، فذهب بهم إلى الملك فنظمهم في سلك جنوده.

ولما رأى حسن تدبير الأكبر وشجاعته ألبسه أردية الكرام، فاستفحل أمره شيئا فشيئا حتى صار أمير أمرائه. فلما مات الملك سمت نفسه لطلب الملك فاستولى على مُلك ملكه وحارب الملوك في خلافة المقتدر العباسي فغلبهم واستولى على عراق العجم وبلاد فارس وديلم وغيرها سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وبقي الملك فيهم سبعا وعشرين سنة، وكانوا من غلاة الاثني عشرية. فكثرت هذه الفرقة في بلاد العراق وأذربيجان وفارس وخراسان وجرجان وماندران وجيلان وجبال ديلم. وكثرت علماؤهم وصنفوا كتبا جمة في المذهب، لكنهم كانوا يخفونها لكثرة أهل السنة. وكان بعضهم يظهر مذهبه لبعض السفهاء، ويكثر أكثرهم التشيع بالاعتزال، حتى إن الصاحب بن عباد وزير الديالمة كان يستر مذهبه بالاعتزال أيضا، وإنه كان رافضيا غاليا في الرفض كما يظهر من شعره وسبه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحصره الأئمة في اثني عشر رجلا وغير ذلك. ولم يدع سلاطينهم أهل السنة إلى مذهبهم خوفا من الفتنة. فلما أبادهم الله تعالى ضعفت الرافضة وذهبت ريحهم. فإن للباطل جولة ثم يضمحل، ولريح الضلال عصفة ثم يسكن. فستروا مذهبهم وبالغوا في التقية، حتى خرج كفار التتار وقتلوا كل من وجدوه من هذه الأمة من بغداد إلى نهر السند وجازوا الحرمين الشريفين، فقتل من قتل وهرب من هرب، ثم رجعوا إلى بلادهم فرجع من هرب من المسلمين إلى وطنه.

ثم لما قام بعض ولده مقامه سيّر ابن أخيه هولاكو الخبيث مع جنود كثيرة إلى بلاد المسلمين، فاستولى على البلاد التي استولى عليها جده وعبر الشط وفتح دار السلام وقتل الخليفة وهو [المستعصم] العباسي وكثيرا من المسلمين. واستولى على بلاد العرب، سوى الحرمين زادهما الله تعالى شرفا وكرامة، وبلاد الشام. وقتل من المسلمين ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى. فحينئذ أظهرت الرافضة مذهبهم حتى رجع بعض ملوكهم إلى مذهب أهل الحق وعقيدتهم، وهو القان غازان بن أرغون بن بغا بن هولاكو بن طلوس بن جنكيزخان، وسماه من هداه إلى الصراط المستقيم بسلطان أحمد، ودعى أهله وجنوده إلى الإسلام وطريق الحق فلبوه جميعا. فانكسرت شوكة الرافضة وستروا مذهبهم حينئذ، وذلك سنة أربع وستين وتسعين وستمائة. فلما مات السلطان قام أخوه أولجاييق مقامه، وكان يحب العمران مشغوفا باللعب والملاهي غافلا عن

الأوامر والنواهي، وكان على مذهب أهل السنة، حتى اجتمع به تاج الدين، وكان من دعاة الرافضة، فدعاه إلى مذهبه وجدّ في إضلاله وجمع علماء الرافضة عنده، ومنهم ابن المطهر الحلي، وكان أخبثهم وأضلهم عن سواء السبيل. فذكروا عنده مطاعن الصحابة وأن الخلفاء غصبوا حق أهل البيت والصحابة خذلوهم وأضاعوا وصية نبيهم في وصيّه وأخيه وابن عمه وصهره وارتدوا على أعقابهم. وكان ابن المطهر الدجال والمبتدع الضال يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله حتى ملأ قلبه من الوسوسة والشبهة الواهية، فترفض بعد سنة من ولايته وترك ما كان عليه من الهداية في بدايته، ودعى أهله إلى الباطل فأطاعوه ورغبوا إليه رغبة عن الحق واتبعوه. فأضل الرجل قومه وما هدى وأوقعهم في غيابة جب الردى. ولم يعصم الله من هذه الوصمة إلا القليل ممن لا تحركه عواصف الأباطيل. وألّف ابن المطهر له نهج الحق ومنهج الكرامة في مطاعن الصحابة ومثالب أهل السنة وإبطال مذهبهم وأنهم عن الحق بمعزل. ثم دعى السلطان إليه قومه

وجنوده ورعاياه، فأطاعه كل منهم ولباه. ثم سيّر جمعا من أتباعه إلى البلاد ليدعوا المؤمنين إليه ويعولوا في أمر مذهبهم عليه. فأطاعه الأرجاس وأبى عما دعى إليه كثير من الناس. وقاتلهم أهل أصبهان ومن حذا حذوهم فقتلوا كثيرا منهم. وكان بعض أعاظم أمرائه عاونهم ونصرهم حتى كف السلطان عن الإكراه. وكثرت الرافضة وأعلنوا مذهبهم. وصنف علماؤهم كتبا جمة في الأصول والفروع والتفسير والحديث. وألف ابن المطهر بعد أن فرغ من كتابيه السابق ذكرهما شرح التجريد والاستبصار والنهاية والخلاصة والمبادئ في الأصول وغيرها كتاب الألفين، وأورد فيه ألفي دليل لإثبات مذهبه وترويج خزعبلاته، وزعم أنه أبطل مذهب أهل الحق بما أورد من شبهاته. وقد ردها فحول علماء السنة أحسن الرد وألقموا ذلك النباح حجر النكد. فعادت هاتيك الخرافات والشبه الواهيات لا تروج ولو على ابن يوم ولا يخفى فسادها على أحد من القوم. ولم يزل ابن الحلي يجادل بباطله أهل الحق ولم يرتدع عن غيه بعد أن ظهر له الصواب أثناء المناظرة كالفلق حتى مات على التحير والوله. ومن يضلل الله فلا هادي له. والسلطان قبل موت هذا الخبيث عاد إلى مذهب أهل السنة بإرشاد بعض العلماء

الأجلة. وضربت على ابن الحلي وأتباعه المذلة بعد أن سكن في الحلة، فحينئذ ضعفت الرافضة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتفرقوا شذر مذر وفرت علماؤهم خوفا من أهل السنة كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة. ولم يزل مذهب أهل السنة يتقوى والحق يعلو، وذلك سنة عشر وسبعمائة، حتى استولى بعد مدة بعض التراكمة من فرقة الاثني عشرية على ديار بكر وما حولها من القرى والأمصار سنة ستين وثمانمائة ورجعت الرافضة إلى ديارهم وإلى ما كانوا عليه، وبقي الملك فيهم قريبا من خمسين سنة. ولما أضلتهم الضالة وانتشبت فيهم أنياب المنون، وذلك سنة عشر وتسعمائة، تولى الملك أول سلاطين الحيدرية، وكانوا من غلاة الاثني عشرية. ولما شاع خبرهم في البلاد أتته الرافضة من كل فج عميق وأقبلوا إليه من كل مرمى سحيق. فاستفحل أمره شيئا فشيئا حتى استولى على عراق العجم وفارس وكرمان ومازندران وأذربيجان وخراسان. ووفد عليه رجل من علماء الفرقة الهالكة وكان يزعم أنه نائب صاحب الزمان، فسجد له وقربه ووقره، فحثه الرجل على أن يُكره المؤمنين على قبول مذهب الاثني عشرية ويقتل من أبى وينهى الناس عن الجمعة والجماعة ويحول القبلة إلى اليسار ويخرب المساجد ويأمر الخطباء والأرذال أن يلعنوا عائشة الصديقة وحفصة أمي المؤمنين وكبراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين على المنابر والطرق والأسواق. وصنف في وجوب لعنهم كتابا

اشتمل على دلائل أوهى من نسيج العنكبوت. فأذعن السلطان لقوله وأكره المؤمنين على الرفض وقال لهم أجيبوا إلى ما دعاكم إليه وإلا صببت عليكم العذاب صبا. فأجابت دعوته جماعو وأبت أخرى، وقتل الأرفاض جما غفيرا من علماء أهل السنة ومشائخهم ومن أبى عن إجابتهم والإذعان إليهم، ونهى المصلين عن الجماعة والجمعة، وخربت المساجد وحول القبلة إلى الجنوب. وأمر جنوده أن ينبشوا قبور كبراء أهل السنة ويحرقوا عظامهم، ففعلوا ما أمرهم، فنبشوا قبور جمع من العلماء الأعلام والمشائح العظام إلا قبر شيخ الإسلام أبي الحسن الجامي النامي النامقي والشيخ أبي يزيد البسطامي والشيخ أبي الحسن الخرقاني وشيخ الإسلام عبد الله بن أبي منصور الأنصاري الهروي وسائر مشايخ هراة وغيرهم. ولما فتح هراة دعى أهلها إلى ما دعى إليه غيرهم، فأبوا أن يجيبوا دعوته، فقتل منهم جما غفيرا من العلماء والشرفاء. وتبعه أخوه فوقع في أبي جاد وخطب بأمره في جامع هراة كما أمره به من ذكر الأئمة الاثني عشر ولعن من يوجبون لعنه من الصحابة. وخالفه ابنه فهرب إلى ما وراء النهر كما هرب كثير من علماء خراسان وبعض علماء

فارس وأصفها وغيرهما من البلاد. فعاش برهة من الدهر وله من السلطان مكان. ولما استولى على جميع بلاد خراسان رجع إلى مستقره وولاها أمراءه، فغزاهم خاقان الترك فغلبوا واستولوا على خراسان وقتل من الرافضة ما لا يحصى عددا وهرب أكثرهم. ثم لما قضى نحبه رجعوا وقاتلوا الأتراك وغلبوا واستولوا على خراسان مرة أخرى. ثم جاهدهم من قام مقام الخاقان وفتح بلاد خراسان عنوة. ولما مات استولوا مرة أخرى واستقر لهم الملك، غير أن خواقين ما وراء النهر وأمراء بلخ لا يزالون يغزونهم ويقتلون فريقا منهم ويأسرون فريقا، ويجاهدهم قياصرة الروم وملوك الهند وخوارزم. وأسر ملك خوارزم في بعض غزواته [جمعا] من الأمراء وأبنائهم ونسائهم وعمة السلطان وبنات الأمراء والأعيان، وكانوا يسيرون مع الركب العراقي وقد أفاضوا من أصفهان يريدون زيارة مشهد طوس، ونهب أموالهم.

وبقي الملك فيهم مع المنازع مائتي سنة، ثم ضعفت شوكتهم ووهنت قوتهم، فاستولى عليهم أرذل الرعايا وأقلهم مالا وعددا من أهل السنة وقاتلوهم فانهزموا واستولوا على بلاد سجستان وقندهار وقرة، ثم حاصروا أصبهان وكان ملك الرافضة يسكن فيها، فسير أمراءه من حكام البلاد جنودهم رسلا ليدعوهم إلى محاربتهم فأتاه أكثر من مائة ألف فارس وجمع لا يكاد يحصى من الرجالة، وكان مع من خرج عليه اثنا عشر ألف فارس ولم يكن معهم من الرجالة إلا شرذمة قليلة، فغلبوهم بإذن الله وقتلوا من الرافضة جمعا لا يحصى عددهم وهرب من بقي منهم، فخلت ربوعهم وتفرقت جموعهم وتشتت شملهم وذوى فرعهم وأصلهم. وتحصن السلطان ومن معه من الأمراء والأهالي في البلد، فحاصرهم أهل السنة وضيقوا عليهم أنفاسهم فضاقت عليهم الأرض، حتى اضطروا إلى أكل أوراق الأشجار، بل إلى أكل الميتة ولحم الخنزير. فاضطر السلطان إلى أخذ العهد بأن لا يصل إليه ضرر، وسلم الملك إلى أمير الجيش وأهل السنة، فدخل البلد وجلس على سرير السلطنة وسجن السلطان مع ولده وأهله في دار من أحسن الدور، وعين له خدما ومؤنة وافية وأعزه غاية الإعزاز وتزوج بنته. ثم فتح سائر بلاد فارس والعراق وأذربيجان وغيره وولى الوزراة وزير السلطان وأقر كثيرا من الأمراء على ما كانوا عليه من المناصب. فاجتمع من كان في قلبه مرض في دار بعض الأمراء وشاوره على قتل الملك، فلما عزم الأمر تفرقوا، فأخبر الملك بما أسروا من المكر فقتلهم جميعا وقتل سلطانهم مع من كان معه من الرجال، وكتب إلى أمرائه وسائر البلاد أن يقتلوا كل من وجدوه من أولي الشوكة منهم فقتلوهم وقتلوا كثيرا من روافض فارس وقم وكاشان وهمدان وبعض بلاد خراسان وشروان. ونهض جمع كثير من رعايا هراة وأمروا عليهم بعض رؤسائهم وجاهدوا الروافض، فقتلوهم

قتلا ذريعا واستولوا على البلدة وما حولها من القرى والبلدان كجام وخاف وصاف وباخرز وغيرها. ثم بايعوه وتوجوه بتاج السلطنة. ولما استقر لهم الملك أمر بإحراق ما وجد من كتب الرافضة، وهرب جمع من الرافضة ومن اختفى من جندهم. وأورث الله تعالى ديارهم المؤمنين، فما بكت عليهم السماء والأرض إنهم كانوا قوم سوء فاسقين. وكان مدة أهل السنة فيهم ما يزيد على عشرين سنة. هذا وقد كان لما جنح السلطان الذي قتل إلى السلم هرب شاب من البلد وادعى أنه من ولد السلطان، وأخذ يسير في الأرض هائما حتى وجد خفيرا فسار معه إلى طوس، فقطن ريثما مات ملك أصفهان واستولى على الملك ابن عمه، وكان فظا غليظ القلب فاسقا سفاحا، فانفض من حوله كثير من شجعان قومه فركدت ريحه. وكان في عراق العجم رجل من أهل نيسابور من الدعاة العارفين فنون الحرب، فقدم أصبهان والملك مشغول بالملاهي غافل عن تدبير الملك، وقد علم أن أبسال جنوده تفرقوا أيادي سبأ، فأزمع الشخوص إلى طوس. فلما قدمه دخل على الشاب الذي يدعي أنه ابن السلطان وأخبره بما رأى وشجعه وحثه على القتال وحشد له العساكر وجعل نفسه قائد جنوده وأميرا على أمرائه، فكان عندهم وجيها فنهضوا للقتال. فلما التقى الجمعان وقامت الحرب على ساق تغلبوا على ملك أصفهان فهرب، فاستولوا على أكثر البلاد وملك بعضا آخر منها أخو الفاتح لأصفهان عنوة من أهل السنة. ثم إن الرافضة حبست سلطانهم لما رأوا منه الظلم والجور والاشتغال بالملاهي ونهب أموال الناس وغصب نسائهم واللواطة في أبنائهم وبناتهم. وأقام القائد ولده الرضيع ماقمه وحاربهم الروم وغلبوا عليهم وقهروهم وانتزعوا كثيرا من البلدان من

أيديهم، وحاصروا من هرب منهم في الحرب وتحصنوا بالقلاع وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب فهرب فريق وقتل فريق آخر على أيدي الروم، وهم جنود القيصر نيفا وخمسين ألفا وحرقوا كثيرا من حصونهم الحصينة بأيديهم حتى فتح الروم البلد عنوة وقتلوا من أهله ما قتلوا ونهبوا ما وجدوا من الأموال النفيسة. فوقع من بقي من الرافضة في ضيق عظيم. ثم فتحوا سائر بلاد أذربيجان ولم يألوا جهدا في القتل والأسر والنهب وتخريب العمارات حتى صرا كثير من قراها بلاقع. ثم قصد قهرمان القيصر أصبهان فاستقبله قائد السلطان فقاتلهم فغلب وسالمهم. ورجع إلى أصبهان وسمت نفسه إلى الزعامة الكبرى، فجلس على سرير السلطنة ثم قال: أيها الناس اعلموا أني من أهل السنة والجماعة ولست من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فايم الله ذي الجلال والإكرام إن من سب أحدا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لأجعلن الأغلال في عنقه ثم لأقطعن منه الوتين ثم لأصلبنه في جذوع النخل لما تفوه بهذا الكلام. وأمر بقتل من سب بعض الصحابة الكرام. فحسبت الفرقة الناجية أنه على الحق والرافضة زعمت أنه ليس منهم ولكن يؤلف قلوبهم بذلك، ولا غرو في ذلك فإنهم أهل الكذب والبهتان. فكثرت بذلك جنوده وأتباعه. ولم تزل الفرقة الاثنى عشرية إلى يومنا هذا ذليلين صاغرين. نسأله تعالى أن يخذلهم إلى يوم الدين.

الفصل الخامس في بيان دعاة الرافضة وفرقهم

الفصل الخامس في بيان دعاة الرافضة وفرقهم اعلم أن لكل فرقة من فرقة الرافضة دعاة كانوا يدعون الناس إلى باطلهم وينصبون حبائل الحيل ليوقعوا الناس في شرك الضلال، كلهم أروغ من ثعلب وأهدى من القطا في طريق الضلال والغي. والدعاة ثلاث فرق: الفرقة الأولى المنافقون. الفرقة الثانية الفجرة الصواغون. الفرقة الثالثة المؤمنون المخدوعون. وكل منهم إما عالم يدعو الناس إلى مذهبه بإقامة الدلائل والشبه الواهية على حقيقته وذم مذهب غيره، وربما يؤلف قلوبهم ببذل الأموال يأخذها من أغنياء شيعته أو بالمواعيد الكاذبة ويريهم أنه أعطف عليهم من أبيهم وأمهم، فيطيعه ويتبعه بذلك كل من أعمى الله تعالى عين بصيرته وختم على قلبه؛ وإما ذو ثروة وفضل يدعو الناس إليه بأمرين: بذل المال وإقامة الدليل؛ وإما ذو شوكة يدعو الناس إليه بالوعد والوعيد؛ وإما غير ذلك ممن اتصف بشيء يوجب اجتماع الناس عليه. ثم الداعي للدعاة على الدعوى أمور: الأول تضليل الأمة وتفريق شملهم. والداعي لذلك الأمر هو المنافق اللعين كعبد الله بن سبأ والعلباء وبيان النهدي وغيرهم ممن تقدم ذكره، وكان أولهم ابن سبأ فإنه كان منافقا قصارى بغيته تفريق جماعة المسلمين وتضليل المؤمنين. الثاني تكثير سواد مذهبه. والداعي لذلك الأمر لا يكون إلا مقلدا للمذهب. الثالث حب الجاه والمال. والداعي لذلك الأمر لا يكون إلا الغاوي المضل. ومن هذه الفرقة من ادعى السفارة بين الإمامية الاثني عشرية وبين صاحب الزمان وادعى المكاتبة

معه والرواية عن الأئمة ليتأسى به الشيعة ويجعلوه قدوة لهم ويبذلوا له أموالهم ويجعلوا له أمهات أولادهم وسائر جواريهم. الرابع إرضاء ملك أو ذي ثروة يحب أن يكثر أهل مذهبه. والداعي لذلك الأمر لا يكون إلا من يشتري الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فيضل الناس ليرضى عنه سلطانه أو ذو الثروة. الخامس رجاء نيل المثوبة من الله تعالى. والداعي لذلك الأمر هو الذي يعتقد أن مذهب الرافضة حق وما عداه باطل، فيدعو الناس لينال أجرا عظيما من عند الله سبحانه. السادس أداء ما أوجب الله تعالى بزعمه من الأمر بالمعروف والهداية إلى طريق الحق. والداعي إنما العالم المخطئ. السابع الشفقة على ذوي القربى وغيرهم من المسلمين والرأفة بهم ظنا منه أن غير أهل مذهبه يعذبون بالنار. والداعي لذلك هو المنخدع أو المخطئ أو المقلد لهما بغير علم ولا بصيرة في المذهب. الثامن إيقاع العداوة والبغضاء بين الرجل وأسرته وأقاربه وعشيرته. والداعي لذلك خبيث النفس لئيم الطبيعة. وأول داعية كل فرقة من ابتدع المذهب. وأول من دعى الناس على الرفض والقول بألوهية علي بن أبي طالب عبد الله بن سبأ. وقد أشرنا سابقا في كيفية إضلاله وجلب الناس إلى زيغه وباطله. وقد أعاد صاحب الأصل ذلك البحث في هذا المقام مع زيادة في بسط الكلام، وقد أعرضت عن ذكره لئلا يطول المقام واعتمادا على فهم ذوي البراعة وأهل الكمال. ثم لما استشهد السبط الجليل أبو عبد الله الحسين بن علي المرتضى رضي الله تعالى عنهما، اختلفت الشيعة في تعيين الإمام. فزعم كيسان أن الإمام بعد علي ابنه محمد بن الحنفية وأنكر إمامة السبطين ودعى الناس إليه، فتبعه جمع كثيرون، إلا أن أكثرهم

رجعوا عن مذهبه بسبب إنكاره إمامة السبطين. وقالوا إن محمد بن علي بن أبي طالب إمام هذه الأمة بعد أخويه. وارتضى هذا القول سائر الكيسانية، وقدوتهم مختار بن أبي عبيد الثقفي. ولما ولي الكوفة وما حولها دعى الناس إلى مذهبه فتبعه جمع كثيرون من الشيعة لسلطانه وإحسانه إليهم وقوله بإمامة السبطين وادعائه أن محمد بن علي بن أبي طالب استخلفه لطلب ثأر أخيه والجهاد مع النواصب من آل مروان وتابعيهم وإدارة البلاد التي تفتح. ودفع إلى رؤساء الشيعة كتابا منه إليهم بخطه وطبع عليه بطابعه فإذا فيه: "من محمد بن علي أمير المؤمنين إلى فلان وفلان وفلان وأتباعهم، يا معشر الشيعة اعلموا أني قد جعلت مختار بن أبي عبيد الثقفي خليفتي، فأطيعوا أمره وجاهدوا معه الأعداء بأموالكم وأنفسكم وحثوا أتباعكم على مقاتلتهم وعلى إطاعة المختار فيما يأمر وينهى، والسلام على من اتبع الهدى". فلما قرأوا الكتاب أطاعوه من غير توقف. وحاربوا أول من كان بالكوفة ممن قاتل السبط الشهيد وقتلوهم حيث وجدوهم، وهرب أمير الكوفة، فآتاه الله الملك. ثم أرسل إبراهيم بن مالك بن الأشتر إلى جهاد من كان في بلاد العراق من النواصب وقتل من وجد من محاربي السبط الجليل ومن نصرهم ووالاهم، وأمره [بأن] يثخن في الأرض. فخرج إبراهيم من الكوفة وقتل من وجد منهم، وفتح بلاد العراق والأهواز وديار

بكر وأذربيجان. ثم قصد دمشق، فأخبر به ابن مروان فسير إليه عبيد الله بن زياد مع مائة ألف فارس، واستقبله إبراهيم ومعه اثنا عشر ألف فارس. فقالتهم فقتل إبراهيمُ عبيد الله بن زياد ودوخ من كان معه من الجنود. وقد بلغ عدد القتلى في حروب المختار مائة وأربعين ألف رجل. فارتفع قدر المختار إذ ذاك واستشفت الشيعة المخلصون وغيرهم بقتل ابن زياد وأعداء أهل البيت وانهزام جيش العدوان، وشكروا صنيع المختار وأثنوا على إبراهيم ومن معه. وأتت الشيعة تسعى إلى المختار من كل فج. واختار مذهبه جمع لا يحصى منهم. ولقب أهل مذهبه بالمختارية، وأبقوا في أحسن حال وأرفه عيش نحو اثنتي عشرة سنة. ثم ادعى أنه يوحى إليه. فقاتله ابن الزبير فنصره الله تعالى عليه، فغلبه وقتله بعد أن أسره. وتفرقت حينئذ أتباعه وجنوده. ورجع الكيسانية عن مذهبه واختلفت كلمتهم في

تعيين الإمام بعد محمد كما سبق. ثم تعين هشام الأحول وهشام بن سالم وأحول آخر يلقب بشيطان الطاق. فطفق كل منهم مع من وافقهم يدعون الناس إلى إمامة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثم إلى إمامة محمد بن علي الباقر. فتبعهم جمع من التفضيلية والمختارية، ورجعت جماعة كثيرة من الشيعة إلى مذهبهم. وهؤلاء الرهط أسلاف الشيعة الإمامية وقدماء دعاتهم ورواة أخبارهم ومتكلميهم، مع أنهم قد بلغوا في الضلال ما علمت واتبعوا أهواءهم من دون الله فضلوا وأضلوا. والأئمة الذين يدعون هؤلاء أنهم يروون عنهم أحكام الدين كانوا يتبرؤون منهم ويكذبون ما يروون عنهم من العقائد الباطلة والهفوات الزائغة ويدعون عليهم بالهلاك. وقد ثبت ذلك بالآثار الصحيحة المروية من طريق الإمامية أيضا كما سيجيء إن شاء الله تعالى ذكره في غير موضع من هذا الكتاب. ودعى أصحاب زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب جمعا من الشيعة إلى إمامته لما بايعه جمع كثير سرا. ونهض يطلب الخلافة. وكان الإمام أبو حنيفة تعالى يحض الناس على إمامته ويقول: "لولا ودائع الناس عندي لجاهدت الأعداء معه". فقاتل أمير العراقين. ولما أخبر به عبد الملك بن مروان جهز إليه خمسة آلاف مقاتل، فقتلوه وغلبوا في مواطن كثيرة. ثم رفضه الجم الغفير من أهل الكوفة ممن ينتحلون حب جده ويزعمون أنهم من خلص الشيعة. ومن دعاة الزيدية يحيى بن زيد بن علي. ومنهم أبو عبد الله يحيى بن الحسين بن القاسم الحسيني، من ولد الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الملقب بالهادي، وكان فاضلا نبيلا وعالما جليلا. استولى على بلاد اليمن سنة ثمان ومائتين، ثم استولى على الحجاز. وصنف كتابا في فقه الزيدية سماه الأحكام.

ومنهم ابنه محمد الملقب بالمرتضى، وحفيده حسن بن أحمد، ويحيى بن أحمد وغيرهم من الزيدية. ومنهم من غيّر مذهبه، كجارود وسليمان بن جرير التبر التومي وحسن بن صالح ونعيم بن اليمان ويعقوب. وكل منهم يدعو الزيدية إلى مذهبه بعد أن ابتدعوا في المذهب أمورا كما سبق. ولما كان الهشامان وشيطان الطاق أكثر دعاة الإمامية كيدا وأعلمهم وأوفرهم خداعا، تبعهم جمع لا يحصى ومن ثم كثرت فرقة الإمامية وزادت على سائر فرق الرافضة. ثم إن الإمامية لما افترقت إلى فرق كثيرة كما سلف كثر دعاة كل فرقة منهم وتصدر جمع من كل فريق واتبعهم جمع من سفهاء الأحلام. وكان كل فرقة تقول بإمامة رجل من أهل البيت ثم بعد وفاته بإمامة ولد من ولده أو بإمامة أخيه أو تنكر موته وتزعم أنه اختفى وسيظهر بعد حين، إلى أن قالوا بإمامة الحسن بن علي العسكري واختفائه بعد موته. فادعى جمع أن حسنا لم يخلف ولدا وأن الإمام بعده أخوه جعفر فسمّ فمات ولم يخلف ولدا، فزعموا أنه خاتم الأئمة وكانوا شرذمة قليلة. وزعمت جماعة أخرى منهم أن الحسن بن علي خلف ولدا وهو المهدي الموعود وهو خاتم الأئمة، لكنه اختفى من خوف الأعداء. واستقرت أراؤهم على انحصار الأئمة في الاثني عشر رجلا، فلقبوا بالاثني عشرية.

وكثرت دعاتهم، وأولهم ادعى السفارة بينه وبين شيعته، وذلك سنة ست وستين ومائتين، ثم بعده خلفاؤه إلى أن أفضت نوبة السفارة سنة ست عشرة وثلاثمائة إلى علي بن محمد، وهو خاتم الدعاة من السفرة، وعاش إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ومن دعاتهم من ادعى الكتابة، فكان يظهر للشيعة كتابا يزعم أنه خط الإمام الحجة قد بعثه جوابا نمقه إليه. ومن هؤلاء من يثبت الواسطة بينه وبين صاحب الزمان. ومنهم من لا يثبت كما سيجيء إن شاء الله تعالى. ومن دعاتهم علماؤهم الذين صنفوا الكتب أو تصدروا لتعليم الفقه والكلام. وسيجيء ذكر عيون مصنفيهم ومشاهير علمائهم إن شاء الله تعالى. ومن دعاتهم من يروي الأخبار عن الأئمة الأخيار وأصحابهم بواسطة أو بغير واسطة في الأصول والفروع وفضائل الأعمال. ومن دعاتهم بعض من استولى على البلاد من الزائغين. وأنكر بعضهم إمامة موسى بن جعفر ومن بعده من ولده، فزعم بعضهم أن جعفر بن محمد الصادق لم يمت ولكنه غاب وسيظهر بعد حين، وهو المهدي المنتظر، ورووا عنه في ذلك آثارا ودعى الشيعة إليه، منهم عبد الله بن ناؤس. وادعى بعضهم أنه بعد جعفر إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي، مع أنه مات قبل أبيه في المدينة ودفن في بقيع الغرقد باتفاق المؤرخين والإخباريين من أهل السنة وجماهير الشيعة. وزعموا أنه لم يمت ولكنه غاب وهو القائم المنتظر الموعود. وأول دعاة هؤلاء الضلال مبارك ثم خلفاؤه. وذهب بعضهم إلى أن الإمام بعد الصادق ابنه محمد ودعى الناس إلى إمامته. وزعم بعضهم أن الإمام بعد جعفر محمد بن إسماعيل بنص الصادق عليه.

وهذه الفرق الثلاثة كانوا شرذمة قليلة ودعاتهم من ابتدع المذهب وأصحابه. وأولهم حمدان قرمط. وزعم بعضهم أن إسماعيل بن جعفر مات بعد أبيه، والإمامة بعد جعفر لإسماعيل وبعده لأولاده بنص السابق على اللاحق كما سبق. ودعاتهم عبد الله بن ميمون وحدان قرمط ويحيى بن أبي الشمط وخلف وأحمد وخلفاؤهم. وادعى محمد بن عبد الله بن عبد الله الذي لقب بالمهدي أنه من ولده وأنه إمام هذه الأمة. فانخدع جمع من السفهاء من أهل المغرب وصدقوه وبايعوه وكثرت أتباعه. ونهض لطلب الملك فحارب من ولاه المقتدر العباسي فغُلب، وغلب المهدي على إفريقية وهي من مشاهير بلاد المغرب. وانتشرت دعاته إلى بلاد المغرب وأورث الولاية أولاده وفتحوا مصر. ومال إلى مذهبهم علماء السوء وعلموا الناس مذهب العبيدية وكثرت دعاتهم من العلماء. منهم نعمان بن محمد بن منصور وعلي بن نعمان ومحمد بن نعمان وعبد العزيز ومحمد بن المسيب والمقلد بن المسيب العقيلي وأبو الفتوح برحوان ومحمد بن

عماد الكتامي الملقب بأمين الدين وغيرهم. ومن دعاتهم زمن المستنصر عامر بن عبد الله الزواحي. ومن أكابر دعاتهم في ذلك الزمان علي بن محمد الصليحي، وكان أبوه قاضيا في اليمن سني المذهب عالما ورعا، وكان علي الداعي خليفة عامر المذور في الدعوة، وذلك أن عامر الداعي كان يركب إلى القاضي ويلاطفه لرئاسته وصلاحه وعلمه وسؤدده وفضله، وكان يرى لولده علي مخايل النجابة، فلم يزل عامر يتردد إليه حتى استمال قلب ولده وهو يومئذ دون البلوغ. وقال بعض أئمة التاريخ كان عند عامر حلية علي الصليحي في كتاب الصور، وهو من الذخائر العظيمة، فأوثقه منه على تنقل حاله وجزيل ماله وأطلعه على ذلك من غير علم أبيه وأهله، ثم مات عامر بعيد ذلك وأوصى له بكتبه وعلومه ورسخ في ذهنه من كلام عامر ما رسخ، فعكف على الدرس وكان ذكيا، فلم يبلغ الحلم إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم العربية والكلامية والحكمية والفقهية، وصار فقيها في مذهب الدولة العبيدية، ثم صار يحج بالناس دليلا على طريق السراة والطائف خمس عشرة سنة. وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة رقى قلعة منيعة من جبال اليمن، وكان معه ستون رجلا قد حالفهم بمكة في موسم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على الموت والقيام على الدعوة إلى مذهب المهدوية وبيعة المستنصر العبيدي، وكل منهم له أتباع كثيرون. وبنى فيها حصنا حصينا واستفحل أمره شيئا فشيئا. وكان يدعو للمستنصر خفيا ويخاف من نجاح صاحب تهامة ويلاطفه ويستكن لأمره ظاهرا وهو يسعى

في قتله باطنا، حتى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وهرب أبناؤه، وملك تهامة. وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة كتب إلى المستنصر في إظهار الدعوة، فأذن له. فطوى بلاد اليمن وفتح الحصون وملك بلاد اليمن كلها في أقل من سنتين، وأخذ البيعة من كافة أهل اليمن وأضل منهم خلقا كثيرا. وعزم على الحج سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، وتوجه في ألفي فارس فيهم من أهله مائة وستون رجلا، حتى إذا كان في النهجر نزل في ظاهره بضيعة يقال لها بئر أم معبد، وكان سعيد وخباس ابنا صاحب تهامة مستترين في زبيد، فلما أخبرا أن الصليحي توجه من مكة خرجا ومعهما سبعون رجلا كلهم مشاة ليس معهم سوى الجريد وفي رؤسها مسامير، وتركوا جادة الطريق وسلكوا طريق الساحل. وكان الصليحي قد سمع بخروجهم فسير جمعا ممن في ركابهم لقتالهم، واختلفوا في الطريق فوصل سعيد ومن معه قريب بئر أم معبد، فظن الناس من الصليحيين أنهم من عبيد عسكرهم فلم يكترثوا منهم، وإن حذرهم منهم بعض دعاتهم ونصحهم، فهجموا عليهم بغتة فقتلوه وجزوا رأسه بسيفه وقتلوا أخاه وسائر الصليحيين في تلك السنة فقطع دابرهم. ومن أكابر دعاتهم [الطلائع بن زريك] الأرمني وزير الفائز بن الظافر العبيدي،

وكان يرغب الناس في التشيع ويدعوهم إلى مذهب العبيدية. وممن يرغبهم في المذهب ويدعوهم إلى مذهب المهدوية الفقيه عمارة اليمني الشاعر المشهور صاحب تاريخ اليمن، وكان شافعي المذهب لم يكن منهم، وكان يمدح الفائز والصالح ويثني عليهما بما ليس فيهما، حتى قال في قصيدة يمدحهما بها: لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما ... وزيره الصالح الفرّاج للغمم مع اعتقادده فساد مذهبهما، وذلك لكثره إحسانهما إليه. ولما انقضت دولتهم وذهبت ريحهم وملك صلاح الدين مصر، اتفق الفقيه عمارة اليمني مع جماعة من رؤساء مصر على التعصب لهم وإعادة دولتهم، وكانوا ثمانية من الأعيان من جملتهم الفقيه عمارة، وكاتبوا الإفرنج واستدعوا بهم إلى السلطان حتى يجلسوا ولد العاضد مكانه، فأحس بهم السلطان فقبضهم وصلبهم ودمر العبيدية وعاش عيشا رغدا.

ولم يبق من العبيدية من يدعي الإمامة. ورجع الناس عن مذهبهم ولم يبق من المتمذهبين بمذهبهم إلا رهط من أهل اليمن وجمع هربوا من مصر إلى أقاصي الهند ودعوا جمعا إلى مذهبهم فأجابتهم عصبة من الحمقى، وبقي أهل مذهبهم في الهند وبعض بلاد اليمن إلى الآن. وزعم بعض من هؤلاء الضلال أن ابن العاضد قدم الهند، وادعى أنه المهدي فأطاعه قوم من الجهلة وعاش مدة، ثم مات ودفن هناك، وأذاعوا أنه قبر المهدي. والمهدوية يزورونه ويتبركون به. ومن دعاتهم المكرم الصليحي ملك مدينة ذي جبلة من بلاد اليمن وزوج السيدة بنت الصليح القائمة مقام زوجها بعد موته. وسبأ بن أحمد بن مظفر الصليحي الذي استولى على أكثر بلاد اليمن في جماعة من الصليحيين وعظماء اليمن وشرذمة من علمائهم. ومن دعاتهم رؤساء القرامطة أبو سعيد القرمطي الجنابي وابنه أبو طاهر، فإنهم منهم إلا أنهم كانوا يظهرون ما يخفونه من الاعتقادات الفاسدة. ومن دعاتهم النزارية حسن بن علي بن محمد بن الحسين بن محمد بن صباح الحميري الشهير بابن الصباح وكبار أولاده. وابن الصباح أول من ابتدع مذهب النزارية. اللهم اعصمنا من هؤلاء الشياطين واحفظنا من البدع والأهواء بمنك وكرمك.

الفصل السادس في بيان مكائد الرافضة لإضلال الناس وميلهم عن الحق

الفصل السادس في بيان مكائد الرافضة لإضلال الناس وميلهم عن الحق اعلم أن الرافضة أحرص الناس عل تكثير سوادهم ورجوع المسلمين إلى مذهبهم، فيكيدون لذلك كيدا ويمكرون مكرا كبارا. وأكثرهم كيدا الإمامية، وهم أكثر فرق الرافضة اليوم، ولم يزالوا ينصبون للأنام شرك الشبه والأوهام كي يوقعوهم بما وقعوا فيه من ورطة الضلال ويجلبوهم إلى ما كلانوا عليه من رداءة الأحوال، مع أن ذلك منهي عنه عندهم، كما نبهوا عليه وأشاروا في معتمد كتبهم إليه. فقد روى الكليني عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "كفوا عن الناس ولا تدعوا أحد إلى أمركم". هذا ولهم مكائد كثيرة ربما يعثر عليها بعض القاصرين فينخدع بها. فوجب التنبيه عليها وبيان تزويرها وافترائها، ولنذكر منها تسعا وسبعين مكيدة. الأولى: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون أن يخل الله تعالى بواجب. وهذا افتراء لأن أهل السنة أجمعوا على أنه تعالى لا يخل بالواجب، إذ لا واجب عليه كما سيجيء تحقيق ذلك في المقصد الثاني إن شاء الله تعالى، وإنما يستلزم ذلك من أصولهم.

فإنهم قالوا إن الله تعالى أنظر إبليس إلى يوم الوقت المعلوم، ومكنه من إضلال المكلفين وخلق له قدرة على ذلك، والواجب عليه أن لا ينظره لأنه الأصلح للمكلف، وأن لا يمكنه إضلالهم فإن تمكينه إخلال بالواجب، وأن لا يخلق له تلك المقدرة فإن خلقها كذلك. ولأنهم زعموا أن الله سبحانه أمر محمد بن الحسن المهدي أن يختفي بعد أن خوّفه الأعداء ما يزيد ألف سنة في الكتاب المختوم بخواتم الذهب فحرم عباده من اللطف بسبب إخافة جمع من أهل بلد انقرضوا. الثانية: يقولون إن أهل السنة يجوزون أن يفعل الله تعالى القبيح. وهو افتراء أيضا، فإن مذهب أهل السنة أنه لا قبيح منه تعالى، بل ذلك إنما يلزم من أصولهم المؤسسة على شفا جرف هار، فإن من مكّن على فعل القبيح فهو كفاعله، كمن دفع سكينا إلى رجل يعلم أنه يمزق بطن نفسه، فإنه مما يذمه أهل العقول. وقد صرحوا بخلقه تعالى القدرة للعاصي على خلق أفعاله القبيحة، فإنه أيضا قبيح. وأيضا قواعد أصول القوم على أن الله تعالى يفعل القبيح، فإنهم لا ينكرون أنه تعالى يخلق للعاصي القدرة والإرادة ويمكّنه من الشر، وكل ذلك قبيح. وأنه تعالى أباح لحوم الحيوانات للإنسان وسلطه عليها فيأخذها ويعذبها، ولا شك أن الإنسان أكثرهم عصاة والحيوانات مطيعة وتسليط العاصي على المطيع قبيح، وأنه تعالى يبسط الرزق لكثير من عباده وهو يعلم أن الغنى أضر له من السم الواقع حيث إنه يتمكن بسببه من سفك الدماء والجور والظلم وسائر المنهيات، ويعلم أن منهم من يدعي الألوهية كنمرود وفرعون والمقنع وغيرهم، وأن منهم من يقتل الأنبياء والصالحين بغير حق، والتمكين من القبيح قبيح.

الثالثة: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون الظلم على الله تعالى، فأنى له أن يظلم عباده عندهم ويلومهم من غير جرم وإيصال عوض؟ وهذا باطل عندهم لا أصل له، فإن مذهب أهل السنة امتناع صدور الظلم منه تعالى، كما سيجيء ذلك في المقصد الثاني إن شاء الله تعالى. بل إنما يلزم ذلك من مذهبهم، فإن قواعد أصولهم تنص على ذلك. روى ابن بابويه وغيره عن الأئمة: "أن أولاد

الكفار في النار"، وذلك ظلم وإيلام ومن غير جرم. ولأنهم اعترفوا بأن الله تعالى خلق السباع وجعل أقواتها لحوم الحيوانات الضعيفة وأنه سلطها عليها من غير جرم، وتسليط القوي على الضعيف ظلم بين. وإنه خلق الإنسان ضعيفا، وخلق له نفسا وخلق لها ما تلتذ به وما تنفر عنه وخلق لها ميلا إلى الشهوات الموجبة لهلاكها ونفورا عن التكليفات الموجبة لسعادتها، ومكن أكثرهم من تحصيل ما يريده ثم أمر بفعل ما ينافرها ونهاها عن ارتكاب ما يلائمها، وهو يعلم أن أكثرهم لا يأتمر بما أمره ولا ينتهي عما نهاه عنه، وقيض له عدوا يراه من حيث لا يراه ويوسوس له في صدره ويزين له سوء عمله، وخلق له القدرة على الوسوسة والتزيين، وهو لا يتمكن من دفعه، وهو سبحانه يعلم أنه يتبعه، ثم يعذبه. وكل ذلك صريح، فإن من حبس مسكينا ومنعه من الطعام والماء إلى أن بلغ جهده، ثم أحضر عنده ألوانا من لذائذ الأطعمة ووضعها بين يديه وخلى بينه وبينها ثم قال له: إن أكلت شيئا منها لأعذبنك عذابا شديدا، ثم قيض له قرينا عدوا له يدعوه إلى أكلها ويغريه عليه ويقول له: إن صاحب الطعام جواد كريم عفو، إن أكلت منها لا يؤاخذك به ويعفو عنك والجوع يرديك، فأكل منه شيئا يسيرا، وعذبه عذابا أليما، عده أولو العقول ظالما كما لا يخفى. وأما تجويز الإيلام من غير جرم وإيصال عوض فهو مذهب أهل البيت، وهم قدوة هؤلاء، وقد نص عليه أمير المؤمنين والسجاد زين العابدين كما سيجيء إن شاء الله تعالى في الإلهيات. والجواز لا يستلزم الوقوع، ومع ذلك يتقونه لأن الله تعالى وعد وعد الحق أن يكفر عن المتألم بالإيلام سيئاته أو يرفع له الدرجات على طريق الوجوب، إذ لا يجب عليه سبحانه شيء. هذا ويلزم ذلك هؤلاء الضلال بمقتضى أصولهم، وذلك لأن الله تعالى يبتلي الحيوانات العجم بالأمراض والموت بلا جرم وإيصال عوض، ولا فرق بين المكلف وغيره.

الرابعة: إنهم يقولون إن أهل السنة يزعمون أن الله تعالى عابث لاعب في أفعاله، حيث إنه يجوز عندهم أن يفعل سبحانه لا لغرض. وهو أيضا افتراء وزور، فإن مذهب أهل السنة أن أفعاله تعالى كلها محكمة متينة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى. وتلك الحكم والمصالح غايات لأفعاله تعالى ومنافع راجعة إلى المخلوقات. والعبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع، لكنها ليست أسبابا باعثة على إقدامه وعللا مقتضية لفاعليته، فلا تكون أغراضا وعللا نائبة لأفعاله، فإنه لو كان فعله تعالى لغرض لكان مستكملا بتحصيل ذلك الغرض، فإنه هو الآمر الباعث للفاعل على الفعل، فهو المحرك الأول له وبه يصير الفاعل فاعلا لغرض، فلا بد أن يكون وجود ذلك الغرض أولى بالقياس من عدمه، وإلا لم يصلح لأن يكون غرضا له فيكون الفاعل حينئذ بفعله مستفيدا لتلك الأولوية ومستكملا بغيره فيلزم انفصاله سبحانه عنه واستكماله به، ويلزم أيضا أن يكون تعالى محلا للحوادث. ولأن فعله سبحانه لو كان لغرضه لكان ناقصا لأن غرض الفاعل لما كان سببا لإقدامه على فعله كان ذلك الفاعل ناقصا في

فاعليته مستفيدا لها من غيره، ولا سبيل للاستكمال والنقصان إلى سرادقات جلاله وكبريائه سبحانه. ونحو قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} محمول على الغايات والمنافع المترتبة عليها دون الأعراض والعلل الغائبة. ومن قال من الفقهاء بتعليل أفعاله تعالى فقد أراد بالغرض ما ذكرنا، ولا مشاحة في الاصطلاح. هذا ثم إن هؤلاء القوم طعنوا في أهل الحق لإنكارهم التعليل ظنا منهم أنه يستلزم العبث وعموا عما صرحوا به في كتبهم، فإن القول به يوجب كونه تعالى عابثا في كثير من أفعاله، فإن الله تعالى كلف بالإيمان عن علم أنه لا يؤمن ويموت كافرا وتكليفه عبث، فإن الغرض من التكليف الانزجار عن القبائح عندهم، وكذا تكليف سائر من لا ينزجر عن المعاصي ولا يستمر بما أمر به ولا ينتهي عما نهي عنه. الخامسة: إشاعتهم أن أهل السنة يزعمون أن الله تعالى لا يفعل ما هو الأصلح لعباده، بل ما هو فساد في الحقيقة. وهو افتراء أيضا، فإن أهل الحق يقولون لا يجب على الله تعالى الأصلح، بل إن شاء فعله وإن شاء لم يشأه لمصلحة أخرى تركه. وما رموا به هو مذهبهم، لأن الله تعالى ترك كثيرا مما هو الأصلح بزعمهم كما سبق، وكما سيأتي في مباحث وجوب الأصلح إن شاء الله تعالى. السادسة: يقولون إن أهل السنة جوزوا تكليف المعدوم ومخاطبته، فيقول الله تعالى في الأزل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ولا شخص هناك. ولا يخفى بطلانه، وهذا أيضا من افترائهم، لأن وجود المكلف عندهم شرط للتكليف الذي هو طلب الفعل من المكلف، لأن الطلب من المعدوم ممتنع.

نعم إنهم يقولون إن الأمر يتعلق بالمعدوم فإنه مكلف، ويريدون بذلك التعليق العقلي، وهو أن المعدوم الذي علم الله أنه يوجد بشرائط التكليف توجه عليه حكم في الأزل بما يفعله ويفهمه فيما لا يزال، فإذا وجد وصار مكلفا تعلق به ذلك الحكم من غير تجدد أمر آخر، كما في خطابات النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوامره ونواهيه كل مكلف يولد إلى يوم القيامة واختصاصها بأهل عصره. وثبوت الحكم فيما سواهم بطريق القياس بعيد جدا. وليس المراد بتنجيز التكليف في حال العدم بأن يطلب منه الفعل حال عدمه. السابعة: إنهم يقولون إن أهل السنة جوزوا تكليف من لا يفهم قبل فهمه. وهو افتراء أيضا لأن تكليف من لا يفهم الخطاب لا يجوز، لأن فهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال شرط لصحة التكليف، لأن الامتثال بدون الفهم محال وتكليف لا لا يطاق، وهو ممتنع عند الجمهور. ومن جوزه قال لأنه لا يكون للابتلاء بالعزم وعدم الإعراض والبشر والكراهة وهو معدوم هاهنا.

الثامنة: إنهم يقولون إن أهل السنة جوزوا تكليف الرضيع والمجنون المطبق جنونه. وهو أيضا افتراء، لأن مذهب أهل السنة أن القلم مرفوع عن الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق. والقول بجواز التكليف محال كما هو مذهب بعض الأشاعرة، وإن كان يوجب جوازه إلا أنهم أنكروا الوقوع والفساد، وإنما هو فيه دون الجواز. التاسعة: إنهم يقولون إن أهل السنة كلهم جوزوا التكليف بالمحال، كتكليف الزمن الطيران إلى السماء. وهذا افتراء لأن مذهب جماهير أهل السنة من الفقهاء والمتكلمين من الماتريدية وأكثر الأشاعرة أن إمكان الفعل شرط التكليف به اقتضاء للطاعة، فإذا لم

يكن في الفعل طاعة لم يكن الاقتضاء متصدرا. وأما ما نسب للأشعري ما يشعر بذلك فلم يثبت، ومن جوزه من الأشاعرة وهم شرذمة قليلة فأكثرهم على عدم الوقوع للاستقراء في التكاليف، ولقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، ولا فساد في الجواز. ومن ادعى الوقوع بناء على أن الله تعالى كلف من علم أنه لا يؤمن بالإيمان اعترف بندرته وقلة وقوعه. وهذه المسألة مفصلة في كتب أصول الفقه وعلم الكلام أتم أصيل. العاشرة: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون كون المأمور به حراما. وهو أيضا افتراء، لأن مذهب جمهور أهل السنة أنه يستحيل كون الشيء الواحد من جهة واحدة مأمورا به وحراما، لأن مقتضى الأمر الفعل ومقتضى الحرمة الترك والجمع بينهما محال، وحين جوز التكليف بالمحال قال إنه ليس منه، بل هو تكليف وهو محال في نفسه، لأن معناه الحكم بأن الفعل يجوز تركه ولا يجوز وهو يناقض الأول. الحادية عشرة: إنهم يقولون إن أهل السنة جوزوا المعاصي على الرسل، وهو قول يبطل الشرائع، فإنه إذا جاز صدور المعاصي منهم لا يبقى وثوق بأقوالهم فتنتفي فائدة البعثة. وهذا أيضا من افترائهم، لأن مذهب الحنفية وجماهير الأشاعرة أنهم معصومون عن الكبائر عمدا وسهوا قبل النبوة وبعدها، وعمدا قبل النبوة عند جماعة منهم. وجوز بعضهم صدورها

عنهم قبل الوحي إذ لا دليل على الامتناع عقلا ونقلا. هذا والجواز لا يستلزم الصدور. وورد عند الإمامية عن أبي عبد الله وعلي بن موسى الرضا ما يدل على صدور كبيرة عن الرسل قبل البعثة كما سيجيء في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى. والأكثر على عصمتهم عن الصغائر بعد البعثة عمدا وسهوا، [و] الصغائر الخسيسة مطلقا، وهي ما يلحق فاعلها بالسفل والأرذال ويحكم عليه بدناءة الهمة، كسرقة لقمة وتطفيف حبة. ومن جوزه عقلا لا فساد فيه، إنما الفساد في الوقوع. وجوزت الإمامية صدور الذنب عنهم قبل البلوغ، كما ذكره المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة، وعليه حمل فعل إخوة يوسف به بعدما تعسف ومنع كون الأسباط هؤلاء. وقد روى جمع من الإمامية عن الأئمة صدور الكبيرة عن بعض الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بعد البعثة.

فقد روى الكليني بإسناد صحيح عن أبي يعفور عن الصادق أنه صدر عن يونس بن متى الذي هو من المرسلين ذنب كان الموت عليه هلاكا، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. الثانية عشرة: إنهم يقولون إن أهل السنة جوزوا السهو على الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه، وهذا يستلزم إبطال الشرائع. نعم جوزوا ذلك ولكن لا طعن فيه، فإن مذهب أهل السنة جواز السهو عليهم بشرط أن لا يقروا عليه بل يشعروا به ليرتفع الالتباس. وهذا الشرط يقطع دابر الاستلزام. وقد روى أصحاب الصحاح منهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سهى في الرباعية فصلاها ركعتين. وذهب بعض الفقهاء من أهل السنة والصوفية إلى المنع وحملوا المنع على ما روي عنه عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين على القصد والعمد ليبين للناس حكم السهو، قالوا ويؤيد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لم أفعل"،

وفي رواية: "لم يكن" حين قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت. وقال بعض المحققين إن سهو غير المعصوم من الغفلة وهو آفة، وأما سهوه فعن حضور فهو في حقه كمال وفي حق غيره نقصان. وقد أجاد من قال: يا سائلي عن رسول الله كيف سهى ... والسهو من فعل قلب غافل لاهي قد غاب عن كل شيء سره فسهى ... عما سوى الله في التعظيم لله وقد بالغ الحلي الصيرفي ومن يحذو حذوه في الطعن على أهل السنة في رواية حديث ذي اليدين، وقد روته الإمامية في كتبهم كالكليني وابن جعفر الطوسي في التهذيب بأسانيد صحيحة عندهم. فطعنهم على

أهل السنة في ذلك مكابرة وعناد ظاهر. الثالثة عشر: إنهم يقولون إن أهل السنة كفروا بقولهم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بما هو كفر من ثناء اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهم رووا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في سورة النجم وهو بمكة بمجلس قريش بعد قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}، بإلقاء الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى"، فلما ختم السورة سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون لما سمعوه يثني على آلهتهم. وهذا أيضا من مفترياتهم لأن القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - فاه به مما وضعته الزنادقة، وأورده بعض المفسرين الذين لا يميزون بين الغث والسمين والصحيح والسقيم. والصحيح أن الشيطان ألقاه في أسماع الكفار وقلوبهم، محاكيا نغمته - صلى الله عليه وسلم - حين وقف على {الْأُخْرَى} فظن الكافرون أنه - صلى الله عليه وسلم - تكلم بهذا. وقد روى ابن عقبة أن المسلمين لم يسمعوها، ولذا لم يخبره أحد منهم أنه تكلم به

حتى أخبره جبريل بأن الشيطان ألقى ذلك في أسماع المشركين، فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى عليه تسلية له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}. وقد روى جمع من الإمامية ما ينبئ عن كفر بعض الرسل والأنبياء، كما سيجيء ذلك في مبحث النبوات إن شاء الله تعالى. وأقول: إن هذا البحث مفصل أتم تفصيل في سورة الحج لجدنا روح الله تعالى روحه فراجعه. الرابعة عشر: إنهم يقولون إن الصحابة كلهم إلا أربعة أو ستة منهم كانوا يقلون أهل البيت ولبغضونهم. وهو أيضا من أكاذيبهم ومفترياتهم، فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين كانوا يحبون أهل البيت أشد الحب، ويروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبارا في فضائلهم. وهذه كتب الحديث الصحيحة عند أهل السنة مشحونة بمآثرهم ومزاياهم. ولا يشك في ذلك إلا من أعمى الله بصيرته. الخامسة عشر: إنهم يقولون إن في مذهب أهل السنة مخالفة لكتاب الله تعالى، كغسل الرجلين في الوضوء، والقرآن نص على المسح، فإنه قرئ بجر الأرجل ونصبها، وكلتا القراءتين تدل على المسح، أما النصب فإنه عطف على المحل، وأما الجر فعطف على اللفظ لامتناع العطف على المنصوب للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية، ولأن هذه الواو قد تكون بمعنى (مع) فينصب ما

بعدها كما تقول: قام زيد وعمرا، واستوى الماء والخشبة. وهذا باطل بل هو أيضا من مفترياتهم، لأن كلتا القراءتين تدل على الغسل. أما النصب فلأن الأرجل معطوف على الوجوه والأيدي، والفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية غير ممتنع بل جائز، وقد نقل أبو البقاء وغيره اتفاق النحاة على الجواز، والعطف على المحل -وإن كان جائزا- لكن العطف على اللفظ أولى بإجماع أئمة العربية، ولأن العطف على المغسول هو ظاهر تلك القراءة، ولا يجوز ترك الظاهر إلا بدليل، لأن العطف على المحل مجاز فلا يصار إليه من غير ضرورة، ولأن دليل العطف على المغسول ما تواتر من الأخبار، ولأن العطف على المحل إنما يجوز عند عدم الالتباس لا يقال: "ضربت زيدا ومررت بعمرو وبكرا"، بعطف بكرا على عمرو محلا. وقراءة الجر غير خاصة على المدعى. أو معطوف على فعل مقدر، وهو {فَاغْسِلُوا} واضمار الفعل في غير القرآن غير عزيز، والدليل عليه ما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غسل رجليه من أول أمره إلى أن قضى نحبه. والعطف على البعيد جائز باتفاق البصريين والكوفيين. ويا للعجب أن هؤلاء الضالين يطعنون على أهل الحق بإيثارهم العطف البعيد، وهم يفسرون كثيرا من آي القرآن بما يضحك منه صبيان العرب وجهلة الأعراب كما سيجيء كثير من ذلك. ومنه تفسير الخطاب بالغيبة أو معطوف على محل رؤوسكم، فإن العرب جوزت حذف أحد فعلين متقاربي المعنى، ولكل متعلق، وعطف متعلق المحذوف على المذكور كأنه متعلقه. قال لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه في معلقته الشهيرة:

فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها أي وباضت فإن النعام (بضم الهاء وفتحها) تبيض ولا تلد الأطفال، يريد أن الديار التي ذكرت في الأبيات السابقة مخضبة كثيرة العشاب قد علا بها فروع هذا الضرب من النبات وأصبحت الظباء والنعام ذوات الأطفال بجانبي وادي هذه الديار. وقال الآخر: إذا ما الغانيات برزن يوما ... يزججن الحواجب والعيونا أي وكحلن العيون. وقال الأخر: يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا أي حاملا رمحا. وقال الآخر: تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر أي ويفقأ عينيه. ومنه قول العرب: علفتها تبنا وماء باردا، أي وسقيتها. إلى غير ذلك من الشواهد. ولا يجوز أن تكون الواو بمعنى "مع" لفقد القرينة. وإن الحجة ناهضة على خلافه لما سيجيء إن شاء الله تعالى. وأما الجر فعلى الجواز وهو جائز، وقد أثبته سيبويه والأخفش إماما العربية وأبو البقاء وجمع كثير من النحويين في النعت

وغيره وفي العطف وفي التوكيد وغيره. وللنحاة باب في ذلك، وقالوا: قد وقع الجر بالجوار في القرآن وكلام العرب من النظم والنثر كثيرا. فمن القرآن {عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، وحقه الرفع، {وَحُورٌ عِينٌ} على قراءة حمزة والكسائي ورواية الفضل عن عاصم، وهو عطف عام ب {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} لا على {وِلْدَانٌ} إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مخلدون. ومن النثر: "هذا حجر ضبٍّ خربٍ" بالجر، والأصل الرفع فإنه صفة جحر. ومن النظم قول النابغة: لم يبق غير طريد غير منفلت ... وموثق في حبال القد مسلوب فخفض موثق بالمجاورة لمنفلت، وحقه الرفع إذ التقدير لم يبق إلا أسيرا وموثق. وقول امرئ القيس:

فظل طهاة الفحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قديد معجل فإن قديد عطف على صفيف فخفض على الجوار وكان حقه النصب. وقول الأخر: يا صاح بلّغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب بجر كلهم والأصل نصبه لأنه توكيد ذوي. وإنكار الزجاج الجر بالمجاور في غير النعوت، ومع العطف لا معتبر له إن ثبت بعد أن أثبته من هو أعلى كعبا منه ومن لا يشق الزجاج غباره كسيبويه والأخفش ووافقهما جماهير أهل العربية وورد في كلام البلغاء. مع أن شهادة الزجاج لو ثبتت نفي، وشهادة جمهور أئمة العربية إثبات، وهي مقبولة وشهادة النفي غير مقبولة. ودعوى قلة وقوعها في كلام العرب باطل، كيف وقد نص أبو البقاء وجمع من أئمة العربية على وروده في النظم والنثر كثيرا. ولو سلم قلته، والوقوع ليست بمانع من الحمل، وإنما المانع عدم وروده في كلام العرب. وقد حملت الإمامية الباء في {بِرُءُوسِكُمْ} على التبعيض ولم يلتفتوا إلى إنكار سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه، وأنكره أيضا أبو الفتح ابن جني وأبو البقاء العكبري وجماهير النحاة من الكوفيين والبصريين. واعترف جمع من عيون علماء القوم كابن المطهر الحلي والمقداد ومحمد بن حسن الطوسي شيخ الطائفة بصحة قول سيبويه. وقد بالغ الطوسي في عدم وروده في كلام العرب فقال في التهذيب: "وإفادتها للتبعيض غير موجودة في كلام العرب".

وقال المقداد في كنز العرفان: أنكر أهل العربية الباء للتبعيض، وما قيل إنه أثبته الأصمعي فلم يثبت، نعم قد توهم بعض المتأخرين من أهل العربية كالفارسي والقتيبي وابن مالك أن الباء في قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} للتبعيض، وكذا قول الشاعر: فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج وهو وهم واضح وغلط فاضح، فإن الظاهر أن الباء فيهما للإلصاق، فلم يكن قولهم هذا شهادة حتى يسمع ولا يلتفت إلى قول سيبويه وجمهور أئمة الأدب. أو الأرجل معطوف على الرؤوس، والغسل والمسح في المعطوف بمعنى إمرار اليد المبتلة في المعطوف عليه بمعنى صب الماء. وقد جاء المسح بمعنى الغسل حقيقة. روي عن أبي زيد الأنصاري وغيره من أئمة العربية أنهم قالوا المسح في لغة العرب يكون غسلا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ وغسل أعضاءه قد تمسح، ويقال مسح الله عز وجل ما بك، أي غسل عنك وطهرك، ومنه

قولهم دخلت البحر فمسحت جسدي بالماء، وقولهم مسح المطر الأرض. والدليل عليه أيضا الأخبار المتواترة معنى، ولا يلتفت إلى قول المنكر من الفرقة الضالة بعد ما ثبت عن أئمة اللغة، وكونه بمعناه مجازا لم ينكره أحد، ويجري إرادة المعنى المجازي في المعطوف والمعنى الحقيقي في المعطوف عليه. وقد نقل شارح زبدة الأصول على مذهب الإمامية عن بعض المهرة في العربية من علمائهم أنه صحح ذلك، وقال الصلاة في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}، أي في المعطوف عليه على المعنى الحقيقي، وهو في الأركان المخصوصة، وفي المعطوف عليه على المعنى المجازي وهو موضع الصلاة أعني المساجد، وقال إنه نوع من الاستخدام. وفسرها به جمع من مفسري القوم وفقهائهم، وبعض فقهاء الشافعية. فيجوز أن يراد هنا في المعطوف عليه المعنى الحقيقي، وفي المعطوف المعنى المجازي، والدليل عليه ما تقدم. ولأن قراءة الجر لو دلت على المسح فقراءة النصب ناسخة، لأن السبيل في القراءتين كالسبيل في الآيتين، أو متعارضة فحينئذ يجب المصير إلى ما في الأخبار المتواترة معنى. ولم يرو أحد من أهل السنة عن الأئمة إلا الغسل، ورواه عنهم الإمامية أيضا. روى العياشي عن علي بن

أبي حمزة قال: سألت أبا إبراهيم عن القدمين، قال: تغسلا غسلا. وروى محمد بن نعمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله: إن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم تغسل رجليك. وروى هذا الأثر جمع منهم كالكليني وأبي جعفر الطوسي وغيرهما بأسانيد صحيحة عندهم. وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن آبائه عن علي قال: جلست

أتوضأ فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غسلت قدمي قال: يا علي خلل بين الأصابع. إلى غير ذلك من الأخبار. فسند الغسيل من الأحاديث متفق عليه، وسند المسح مختلف فيه، فوجب طرحه على ما يقتضيه أصول القوم. والتقية باطلة كما سيجيء إن شاء الله تعالى. والنسخ لم يثبت عند أهل السنة، والآية لا تدل على ذلك فإن الناسخ يجب أن يكون ظاهر الدلالة بالاتفاق. وما رواه الصفار ناص على عدم النسخ. هذا ولو لم يكن في هذه الآية دلالة الغسل لسأل الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مواظبة الغسل، وما ذكره الكراكجي: أنه روى المخالفون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح رجليه، وأن عليا علم الناس وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه؛ ففرية بلا مرية، وبهتان عظيم، وإنما الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم رووا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل رجليه في الوضوء إلى أن قضى نحبه، وهم لا يكذبون عليه باتفاق الفريقين. وقد روت الشيعة ذلك عن أمير المؤمنين، وأورده الرضي في نهج البلاغة.

وما روى عباد بن تميم عن عمه أنه عليه السلام توضأ ومسح قدميه، فهو معل بتفرد الراوي ومخالفة الجمهور، ولأنه لا يحتاج إلى بيان سنده وبيان من أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، ولأنه يحتمل أن يكونا غير ثابتين، ولكن الراوي لما رآه من بعيد ظن أنه مسح رجليه. [وما روي] عن أمير المؤمنين: "أنه مسح رأسه ورجليه وشرب فضل ماءه قائما، وقال: إن الناس تزعم أن هذا مكروه، وإني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث". فإن صح فلا يدل على المدعى لأن فيه أنه قد مسح وجهه ويديه، وكان ذلك المسح غسلا خفيفا فكذلك يحتمل أن يكون مسح رجليه كذلك، وهذه إشارة إلى الغسل الخفيف، يعني أن الناس تكره الغسل الخفيف ويرون الإسباغ.

ولو كان المسح لقال إن الناس تزعم أن هذا لا يجوز، ولأن المتنازع فيه وضوء من يحدث، ولأنه محتمل أن يكون المراد بالمسح إمرار اليد المبتلة في الأعضاء الخمسة. وقد صح عن أمير المؤمنين أنه كان يغسل رجليه في الوضوء ولا يمسح. روي عن أبي عبد الله الحسين أنه قال: دعاني أبي علي بوضوء فقربته إليه ... إلى أن قال: ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم اليسرى. وروى أبو داود والطحاوي وغيرهما أنه: دخل الرحبة فدعا بماء فأتاه غلام بإناء فيه ماء وطست فتوضأ وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا. وما قيل إن المسح مذهب جماعة من أعيان الصحابة كعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وسلمان وأبي ذر وأنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمع من التابعين كأبي العالية وعكرمة والشعبي والحسن

البصري، إلا أنه كان يحب الجمع بين الغسل والمسح، وهو قول الناصر من أئمة الزيدية، وأن التخيير مذهب محمد بن جرير الطبري؛ فهو افتراء، فإنه لم يتثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين بإسناد، وإنما حكاه من هو كحاطب ليل. والدليل على أنه كذب لا أصل له ما أخرجه الطحاوي عن عبد الملك بن أبي سليمان أنه قال: قلت لعطاء: أبلغك عن أحد من الصحابة أنه مسح على القدمين؟ قال: لا. ولأن ارتكاب أحد الأمرين يوجب مخالفة صاحب الشرع، فإنه

إذا كان يغسل رجليه من أول الأمر إلى أن قضى نحبه لا يجوز المسح، فالذين كانوا يلازمونه بالعشي والأبكار ولا يفارقونه آناء الليل وأطراف النهار ويأخذون الوحي عنه غضا طريا، وكان كل منهم عن الخلاف بريئا منه، كيف يخالفون فعل نبيهم عليه السلام وقد وعدهم الله تعالى الخلود في دار السلام. ومحمد بن جرير المذكور هو محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي الشيعي صاحب الإيضاح والمسترشد في الإمامة، لا أنه محمد بن جرير بن غالب الطبري أبي جعفر صاحب التفسير والتاريخ الكبير من أهل السنة، فإنه لم يذكر في تفسيره إلا الغسل. هذا وعزو المخالفة إلى من لا يجوّز المخالفة أصلا بل يكفر المخالف افتراء منشأه العصبية والعناد، فإن حمل إعرابه على ما نص على جوازه عيون أئمة العربية، وليس من المخالفة في شيء، إنما المخالفة في إنكار كثير من كلماته كرم الله تعالى وجهه {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} و {إِلَى الْمَرَافِقِ}، و {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}، كما سيجيء إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني والسادس. وفي ترك العمل بما دل عليه النص، وذلك في مذهب القوم كثير جدا كتخصيص الابن

الأكبر للميت بسيف أبيه ومصحفه وخاتمه وثياب بدنه إن ترك مالا سواها، وعدم توريث الزوجة من الأرض والعقارات والدور والسلاح والدواب، فإن القرآن دل عل التوريث مطلقا، والتخصيص مخالفة. وقد اعترف ابن المطهر الحلي في المختلف بتكفير الصحابة من المهاجرين والأنصار مع أن القران ناص على أنهم مؤمنون {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. إلى غير ذلك من المخالفات. والرافضة يعيبون أهل الحق بعيوبهم، والمرء يولع بالذي يتعود. السادسة عشر: إنهم يقولون إن مذهب أهل السنة مخالف للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كتحريم المتعة وقد أباحها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصلاة الضحى وقد روي عن عائشة أنها قالت: صلاة الضحى ما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا أيضا من مفترياتهم، فإن المتعة قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

بعد أن أباحها لجنوده خاصة في بعض الغزوات كما سيجيء إن شاء الله تعالى. وأما صلاة الضحى فقد صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح والطبراني في الدعاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت بصلاة الضحى. وأخرج مسلم وأحمد وابن ماجه عن معاذة بنت عبد الله: سألت عائشة: كم كان يصلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الضحى؟ قالت: أربع [ركعات] ويزيد ما يشاء. وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الضحى ست ركعات" إلى غير ذلك من الأخبار.

قال الشيخ ولي الله العراقي: ورد في صلاة الضحى أحاديث كثيرة مشهورة، وقال محمد بن جرير الطبري: قد بلغت الروايات في صلاة الضحى مبلغ التواتر المعنوي. وما ورد في النفي فهو خبر واحد له معارضات، وشهادة الإثبات تهدم دجى النفي، ورواية النفي لا تقاوم أخبار الإثبات لكثرتها. ولو كان العمل بأحد الخبرين المتعارضين بسبب ترجيح أحدهما على الأخر مخالفة، فهو في مذهبهم أكثر من أن يحصى، فإن جميع آثارهم متعارضة كما سيجيء إن شاء الله تعالى. والمخالفة إنما هي في مذهبهم كترك صلاة الجمعة والجماعة وطهارة الودي والمذي وعدم انتقاض الوضوء من خروجه وطهارة البول بعد نثر الذكر ثلاثا وجواز الصلاة مع خروجه وسيلانه إلى الساق، إلى غير ذلك. وسيجيء نبذة عنه إن شاء الله تعالى. السابعة عشر: إنهم يقولون إن أهل السنة شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، كالعمل بالقياس. وهذا أيضا باطل وزور، فإنه قد تواتر عن أهل البيت والصحابة أنهم يقيسون، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز لهم ذلك، وروت الزيدية عن أهل البيت جوازه. وجوزه من الإمامية أبو نصر هبة الله بن أحمد بن محمد وتابعوه، وهم الثالث عشرية، لما سنح لهم من الدلائل القاطعة من الروايات الصحيحة عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم.

وروت الفرقة الاثنا عشرية عن أمير المؤمنين ما ينص على أنه كان يقيس وعن غيره من الأئمة جوازه. من ذلك ما رواه أبو جعفر الطوسي في التهذيب عن أبي جعفر محمد الباقر أنه جمع عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله ولا ينزل؟ فقالت الأنصار: الماء من الماء، وقال المهاجرون: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فقال عمر لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: توجبون عليه الحد ولا توجبون عليه صاعا من الماء؟ إذا التقى الختانان وجب الغسل. فإنه كرم الله تعالى وجهه قاس الغسل بالحد، وليس هذا من طريق الأولوية كما زعموا بناء على أن المجامعة بدون الإنزال إذا كان لها تأثير في أقوى الشقين -أي حد الزنا- كان لها تأثير في ضعفها بطريق الأولى، فإن السحق يوجب التعزير عند أهل السنة والحد عند الإمامية، ولا يوجب الغسل بالاتفاق. واللواطة وإن كانت إيغابا يحد عند فرقة من أهل السنة والإمامية، ويعزر عند غيرهم، ولا يجب على اللائط الغسل إن لم ينزل عند الإمامية. والمباشرة الفاحشة مع الأجنبية توجب أحد الأمرين ولا توجب الغسل. والأجنبيتان إذا وجدتا في إزار واحد عزرتا ولا يجب الغسل. وقولهم إن الروايات المذكورة توافق العامة فيجب طرحها من فرط العصبية والعناد، وهو يناقض قولهم إن المختلف فيه يطرح للمتفق عليه. وما رووه عن أهل البيت أنهم قالوا إذا ورد منا حكمان مختلفان: "خذوا بما خالف العامة ودعوا ما وافقهم" افتراء.

وقد اعترف شارح مبادئ الأصول الحلي أن الصحابة كانوا يقيسون، وخصص قياسهم ببعض أنواعه، ولم يجد به نفعا. وأجاز الباقر والصادق وزيد بن علي وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي الأخذ عنهم الفقه والحديث والقياس. وتفصيل دلائل جوازه وإبطال ما استدل به المنكرون في كتب الأصول. الثامنة عشر: إنهم يقولون إن مذهب أهل السنة باطل ومذهب الإمامية حق، ويستدلون عل ذلك بأن الاثني عشرية قليلون وأهل السنة كثيرون، وقد مدح الله تعالى القليلين فقال: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}. وهذا أيضا باطل لأن الله تعالى نص في كتابه على أن أصحاب اليمين من هذه الأمة كثيرون، فقال عز من قائل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}، وأن الله تعالى إنما يمدح كثير الشكر والذين يعملون جميع الصالحات، فإن صدر الآية: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، ولا شك أن الشكور بالنسبة إلى الشاكر وغير الشاكر، والذين يعملون الصالحات بالنسبة إلى من يعمل بعض الصالحات والذي لا يعمل شيئا منها، في غاية القلة، ولم

يمدح من عقيدته حقة. وذلك بين لا سترة فيه، ولو كانت القلة توجب الفضل لكان الحق مذهب الزيدية أو الناصبة أو الأفطحية أو الناوسية من الإمامية وغيرهم. التاسعة عشر: إنهم يؤلفون كتبا في إبطال مذهب أهل السنة وذكر مثالبهم ومطاعن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، وقد ألف جماعة منهم كالمرتضى وابن المطهر وابنه ومحمد بن الحسن الطوسي وسبطه ابن الطاوس وابن شهر آشوب السروي المازندراني وغيرهم، وأكثرهم تأليفا فيها ابن المطهر الذي هو أجهل من أبي جعدة، والمشهور منها منهج الحق ومنهاج الكرامة والألفين. وقد ردها فحول علماء أهل الحق، لا سيما شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية روح الله تعالى روحه في جنات النعيم.

والحلي هذا كان عندهم من العلماء المشار إليهم بالبنان، مع أنه أجهل من ابن يوم، كما يلوح من ظاهر عباراته. ومن طالع كتابه الذي سماه بالألفين -وهو كتاب مشحون بالأكاذيب والاستدلالات التي لا يخفى بطلانها على أحد- يتبين له صدق ما ذكرنا. العشرون: إنهم يقولون إن الخلفاء الثلاثة حرفوا كتاب الله وأسقطوا منه آيات وسور كثيرة في الأحكام وفي فضائل أهل البيت والأمر باتباعهم والنهي عن مخالفتهم ووجوب محبتهم وذكر أسماء أعدائهم، ومن ذلك سورة الولاية، وهي بزعمهم سورة طويلة ذكر فيها ولاية أهل البيت وفضائلهم، وأن منها أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون. وقد أضلوا بهذه المكيدة كثيرا من الناس، والأمر لله تعالى. وهذا أيضا من افترائهم وتزويرهم، إذ كيف يكون ذلك والله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وسيجيء إن شاء الله تعالى إبطال هذا القول الباطل بحيث لا يبقى قول لقائل.

الحادية والعشرون: إنهم يقولون إن ابن بابويه روى عن ابن عباس وغيره من طرق متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يعذب الله من والى عليا". وهذه أيضا مكيدة عظيمة، إذ فيها سهولة وراحة توجب ميل الجهلاء إليها. وهذا القول أيضا باطل لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. الثانية والعشرون: إنهم ينقلون عن التوراة: "أن الله تعالى قال فيه بمادماد اثنا عشر أوصياؤه خلفاؤه بعده أولهم إيليا ثم قيذور ثم إبربيل ثم مشغور ثم مسهور ثم مشموط ثم رومر ثم اهزار ثم تيمور ثم نسطور ثم نوقش ثم قديمونيا".

وهذا أيضا من أكذوباتهم، فإنه ليس في التوراة التي عند القرائين علماء اليهود -كنى بهم عن علماء الرافضة منهم- ولا في التوراة التي عند النصارى، ولا في التوراة المنقولة من العبرانية إلى العربية. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ينكرون ذلك. وذكر بعض علماء الرافضة أنه سمع ذلك عن بعض علماء أهل الكتاب، فإن صح ذلك فلا يوثق به، فإنهم لا يزالون يبذلون جهدهم في تشتت كلمة أهل الإسلام وتفريق جماعتهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم. ومن ينكر نبوة الخاتم كيف يعترف بذلك ويتفوه بما يفحمه عند الخصام، فهل هذا إلا من كذبات أحد الفريقين، أهل الكتاب أو الرافضة، وليس في الكلام ما ينص أو يشير إلى أن أوصيائه من أهل بيته، مع أنه لا يدل على المدعى كما لا يخفى على أولي النهى. الثالثة والعشرون: إن عصبة من علمائهم أظهروا أنهم من محدثي أهل السنة، بعد انتحال علم الحديث وسماعه من ثقاتهم وحفظ أسانيدهم، وملازمة التقوى والورع ليستيقن الطالب أنه منهم، فيأخذ عنه الحديث وهو يروي الأحاديث الصحاح والحسان، وقد يروي بإسناد صحيح ما وضعه من خبر يوافق مذهبه مثل جابر الجعفي، وقد انخدع بعض الثقات من

المحدثين فروى أخبارا لم يتفرد هو بها كالترمذي وأبو داود والنسائي. ومثل أبي القاسم سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي، فإنه كما ذكر الشيخ النجاشي: شيخ الطائفة وفقيهها ووجهها. وقد قيض الله تعالى لها رجالا ميزوها وعرفوها لظهور آثار الوضع عليها من غرابتها ومخالفتها لصحيح الأخبار. الرابعة والعشرون: إنهم وضعوا أخبارا زعموا أنها مأثورة عن أهل البيت في مثالب الصحابة، مثل أنهم نبذوا وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل ببته وراء ظهورهم وارتدوا عن دينه، وأن أهل البيت مظلومون ظلمهم الخلفاء ومن بعدهم وغصبوا حقهم، وأن غاصبهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأن محبيهم معهم في النار، وأن محبي أهل البيت وشيعتهم مع النبي وآله في مقعد صدق

عند مليك مقتدر. فينخدع بها من ران على قلبه ما كان يعمل، فعمي عن سواء السبيل وضل، وسيجيء إن شاء الله تعالى إبطال ذلك. الخامسة والعشرون: إنهم يضعون أخبارا تؤيد مذهبهم، مثل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إن أولي العزم من الرسل كانوا يتمنون أن يكونوا من شيعة علي". السادسة والعشرون: إنهم ينقلون أخبارا عن بعض كتب أهل السنة، مما رواه بعض محدثيها عن رجل يشاركه فيه غيره، في اسمه أو لقبه أو كنيته أحدهما صدوق والآخر كذاب، وترك ما يميز به أحدهما عن الآخر ليعلم أنه صحيح، كالسدي فإنه مشترك بين رجلين: أحدهما الكبير والآخر الصغير، والأول ثقة والآخر كذاب وضاع رافضي، فينخدع بذلك بعض من ليس له رسوخ في العلم.

السابعة والعشرون: إنهم يفسرون بعض آيات القرآن وكلماته بما يوافق مذهبهم، وعزوا ذلك التفسير إلى أئمة أهل البيت افتراء عليهم، كتفسير الرب بعلي والمؤمن بشيعته، والكافر بأهل الحق، والمنافق بكبار الصحابة، وغير ذلك. الثامنة والعشرون: إنهم ينقلون ما يدل على مطاعن الصحابة وما يستدل به على بطلان مذهب غير الرافضة عن كتاب يعزون تأليفه إلى بعض كبراء أهل السنة، وذلك الكتاب لا يوجد تحت أديم السماء. التاسعة والعشرون: إنهم ينقلون أخبارا دالة على مطاعن الصحابة عن كتب عزيزة الوجود لأهل السنة، ليس في تلك الكتب منها أثر، وبفرض أنها موجودة فبمخالفتها للأحاديث الصحاح لا يعتد بها. والأردبيلي أكثر ما ينقل في كشف الغمة من هذا القبيل، وكذا الحلي في

الألفين وابن طاووس وغيرهم. الثلاثون: إنهم يقولون إن أهل السنة يبغضون أهل البيت. وهذا من مفترياتهم الواضحة وأكاذيبهم الفاضحة، فإن أهل السنة أجمعوا على أن محبة ذوي القربى واجبة على كل مسلم مسلمة، ورووا في فضائلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رووا، حتى إن صلاتهم لا تتم إلا بالصلاة عليهم رضي الله تعالى عنهم. الحادية والثلاثون: إنهم يقولون إن عمر بن الخطاب حرق بيتا فيه سيدة النساء والحسن والحسنين وسادات بني هاشم، ورضي بذلك أبو بكر والصحابة، وأنه ضرب بمقدم سيفه بطن الزهراء حتى أسقطت ولدا كان في بطنها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة. وهذا أيضا من أقبح مفترياتهم وكذبهم، بل فيه طعن بأهل البيت ورميهم بالجبن، إذ أقل العرب تأبى غيرته ذلك، فكيف بأبي الحسنين كرم الله تعالى وجهه وصناديد بني هاشم يسكتون عن مثل ذلك؟ ولكن الرافضة قاتلهم الله تعالى لما عدلوا عن سواء

السبيل عادوا يخبطون خبط عشواء. الثانية والثلاثون: إنهم يستدلون على أن مذهب الشيعة أحق بالاتباع بأنهم يتبعون أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ويتمسكون بهديهم، وغيرهم لا يتبعون، فالشيعة هم الناجون، وباقي الفرق هالكون، وخبر السفينة المتفق عليه ينص على ذلك. وهذا أيضا كذب وزور ودون إثباته خرط القتال. بل الأحق باتباع أهل البيت هم أهل السنة، فإن فقهاءهم أخذوا الفقه عنهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى، والشيعة يقتدون بالكذابين الذين يفترون عليهم الكذب، كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى. الثالثة والثلاثون: إنهم يذكرون حكايات مكذوبة. من ذلك ما يحكون أن جارية سوداء حضرت مجلس الرشيد، وأخذت تكلمه في المذاهب وتذكر فضائح كل مذهب ومطاعن أهله، وتمدح مذهب الشيعة وأهله وتثبت أحقيته بالدلائل القاطعة من غير اكتراث بأحد، وكان مجلس الرشيد غاصا بالعلماء، فلم يقدر أحد منهم على إفحامها ولم يتمكن من إبطال دلائلها، فاستحضر الرشيد فحول علماء البلد، فحضر جم غفير منهم أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة ونظراؤه، فناظرتهم جميعا فأفحمتهم. فيا للعجب من هؤلاء الذين افتروا على الله الكذب كيف يسوغ لهم ذكر مثل هذه

الحكاية التي لا يخفى كذبها حتى على الصبيان، ولا بدع في ذلك فإنهم كلهم أبناء متعة وأولاد زنا، فلا يأنفون من عار ولا يستحون من فعل كل قبيح، بحكم: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت». الرابعة والثلاثون: إنهم يؤلفون بعض الكتب في إبطال مذهب أهل الحق وإثبات مذهب الرافضة وينسبونه إلى امرأة قليلة الممارسة بالعلوم ويشيعون أن علماء الفرق المخالفة عجزوا عن رده وإبطاله، وكتاب الحسنية الذي ألفه المرتضى وعزاه إلى جارية من جواري أهل البيت من هذا القبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الخامسة والثلاثون: إنهم يؤلفون بعض الكتب في إبطال مذهب أهل السنة وإثبات مذهبهم ويعزونه إلى بعض أهل الذمة. ومن ذلك الكتاب المعزى إلى يوحنا بن إسرائيل الذمي، وهو رجل مجهول لا يعرف، والكتاب قد ألفه المرتضى وعزاه إلى الذمي وذكر في مفتتحه سبب تأليفه: "أنه لما نور الله تعالى قلبه بنور العقل تسارع إلى طلب ما هو الحق من الأديان حتى ظهر له بعد برهة من الزمان أن الحق مذهب الإسلام، لكنه رأى في أهله اختلافا كثيرا، فإنهم افترقوا فرقا كل فرقة تدعي أنها على الحق، وأن مخالفيها على الباطل، فجمع كتب كل فرقة وكتب مخالفيهم من الفرق الأخرى، وأمعن النظر فيما فيها من النفي والإثبات، فظهر له أن الحق مذهب الإمامية، فلما تبين له الرشد من الغي طفق يدور في مجامع العلماء حتى ساقه القضاء يوما إلى أعظم مدارس البلد وقد اجتمع فيه عظماء العلماء من سائر الفرق فجاءهم وقال لهم: يا جهابذة الحل والعقد إنه رجل نصراني كان يفتش عن الحق

منذ عرف اليمين من الشمال حتى ظهر له بالدلائل القاطعة أن الحق دين الإسلام، لكن رأى فيه اختلافا، وقال: إني أطلب الحق فمنّوا علي واهدوني، فنهض كل إمام من الفرق الأربعة يدعي أن مذهبه حق ومذهب مخالفيه باطل، فتنازعوا وتشاجروا وكثر الشغب وكاد أن تقوم الحرب بينهم على ساق فقال لهم لا تنازعوا واسمعوا مني ما ظهر من الحق لي فتركوا المشاجرة وقالوا هات ما عندك، فقال الحق من المذاهب الإسلامية هو الذي رفضتموه ورميتم أهله بالرفض - وذكر لهم مما سنح له من البراهين في إثبات مذهب الشيعة وإبطال غيره من المذاهب، فما فاه بكلمة واحدة أحد من العلماء، قال: ثم حررت ما جرى بيني وبينهم من البراهين في إثبات الحق وإبطال الباطل رجاء نيل الثواب يوم الحساب وأن يهدي به إلى الحق من أخطأ طريق الصواب". هذا وايم الله تعالى إن هذه عصبية ظاهرة من المرتضى وخدعة منه لا تخفى على أولي النهى، وإن كثرة الاختلاف هي في مذهب الرافضة، فإنهم اختلفوا في الأصول اختلافا كثيرا، حتى افترقوا إلى نيف وخمسين فرقة كما سلف، واختلفت كل فرقة منهم في الفروع اختلافا لا يحيط به الإحصاء. وأما أهل السنة فكانوا فرقة واحدة في الأصول، لم يكن بينهم اختلاف في أمهات المسائل الأصولية، ثم افترقوا بعد حين طويل فرقتين وما اختلفوا إلا في المسائل اليسيرة، وافترقوا في الفروع إلى أربع فرق واختلفوا في نيف وثلاثمائة مسألة من المسائل الاجتهادية. وقد اختلفت الإمامية في الفروع في أكثر من ألف مسألة مع وجود النص في أكثرها كطهارة الخمر ونجاستها، فإن كان في هذا الاختلاف مطعن فالكل مشتركون فيه، بل

هم أحق بها، وإن لم يكن فالقول السابق إنما نشا عن محض الجهل والغي، وأما الدلائل التي ذكرها الرجل في ذلك الكتاب فهي أوهن من بيت العنكبوت، وقد أبطلها علماء أهل السنة في كتبهم المؤلفة في هذا الباب، والله الهادي إلى سبيل الصواب. وقد ألف المرتضى كتبا أخرى مثل هذا الكتاب السابق ذكره مشحونة بالكذب والافتراء، وما ذاك إلا لشدة تعصبه وعناده على الباطل، عامله الله تعالى بعدله، ومع ذلك فقد لقبه أصحابه بعلم الهدى، وما دروا أنه علم الضلالة والردى، نسأل الله تعالى العصمة من الزلل، والتوفيق في القول والعمل. السادسة والثلاثون: إنهم يبطلون مذاهب أهل السنة بأخذها سرا بضرب من الحيل، كما أن رجلا من علمائهم الذين هم شياطين الأنس أظهر للناس أنه على مذهب بعض الفقهاء الأربعة كالشافعي مثلا، وألف كتابا في الفقه على مذهب ذلك الإمام وذكر فيه مطاعن المذهب صريحا، وأورد فيه ما يدل على بطلان مذهب الإمام الشافعي دلالة وإشارة، كأن يذكر مسألة ويستدل عليها بالقياسات التي ينكرها غيره من الفقهاء والمجتهدين مثل قياس الطرد، وهو أن يكون بين الأصل والفرع معنى مطرد، وقياس الشبهة، وهو أن يكون بين الأصل والفرع مشابهة صورة في الأحكام الشرعية، وقياس المناسب، وهو أن يكون بين الأصل والفرع معنى مناسب؛ فإن العلماء اختلفوا في كون هذه القياسات حجة.

والمتفق عليه هو القياس المؤثر، وهو أن يكون بين الأصل الفرع معنى مشترك. وأنكر أبو حنيفة كون القياسات المذكورة حجة إلا القياس المؤثر. وقال الشافعي كلها حجة. ويستعمل قياس الطرد كثيرا كقياس المطعومات بالممصوصات للمشابهة بينهما في الطعم، وإن لم يكن الطعم مؤثرا في الزيادة بالمقدار كالكيل والوزن، وكتحمل العاقلة قليل الجناية لمشابهتها للكثيرة، وقياس الخل بالدهن في عدم إزالة النجاسة لتشابهمها في الصورة، ثم يذكر الحديث الذي يخالف القياس ويجيب عنه بأنه متروك بالقياس، وقد طعن في غير موضع من الكتاب على من ترك العمل بالحديث لأجل القياس. وهذه المكيدة ينخدع بها من ليس له قدم راسخة في العلم. السابعة والثلاثون: إنهم يعزون بعض الكتب من مؤلفاتهم إلى بعض الأئمة من أهل السنة، وهو مشحون بالهذيانات والطعن على أهل الحق، كالمختصر الذي ألفه بعض هؤلاء الضلال وعزاه إلى مالك بن أنس أحد المجتهدين الأربعة، ومما ذكر فيه أنه يجوز للمالكي أن يلوط مع مملوكه لعموم قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فإن من طالع ذلك الكتاب من القاصرين ربما اغتر به. قال المؤلف (عليه الرحمة): وإني سمعت بعض من يدعي العلم من أهل أصفهان يعزو تلك المسألة إلى أبي حنيفة، مع أن ذلك كذب مفترى بين ظاهر لا يخفى على أولي النهى. ألا لعنة الله على الكاذبين.

الثامنة والثلاثون: إنهم يدسون في كتب أهل السنة من التفاسير والأحاديث وغيرهما ما يقدح في الصحابة ويؤيد مذهب مخالفيهم من الرافضة حتى يغتر بها من يراها. ولم يفدهم ذلك شيئا، لأن ما يدسون به إن كان من الكتب الصحيحة الشهيرة فلا يخفى على أحد ذلك، وإن لم تكن كذلك فلا اعتداد بها. التاسعة والثلاثون: إنهم يخونون في النقل، فإن جمعا من علماء فرقتهم الضالة قد ألفوا كتبا ونقلوا فيها من كتب أهل السنة ما يوافق مذهبهم ويخالف مذاهب أهل السنة، فيستدلون به على مدعاهم، وليس في الكتب المنقول عنها أثر. ومقصودهم من ذلك إيقاع القاصرين في وهدة الضلال، وأكثر ما أورده الأردبيلي في كتابه كشف الغمة من هذا القبيل، وكذا ما نقله ابن المطهر الحلي في كتابه الألفين ونهج الحق ومنهاج الكرامة. الأربعون: إنهم يؤلفون كتبا في فضائل الخلفاء الأربعة، ويذكرون ما ورد فيها من كتب أحاديث أهل السنة من الصحاح والسنن والمسانيد والأجزاء وإيراد بعض أخبار موضوعة في فضائل أمير المؤمنين مما يقدح في الخلفاء الثلاثة وينص على أن الإمام الحق بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمه. فإذا رآه الغبي حسبه حقا، حيث يعتقد أن ذلك مذهب أهل السنة لما في ذلك الكتاب من فضائل الخلفاء ما فيه. ومثل هذه الكتب كثيرة، والله العاصم من مكر الشياطين.

الحادية والأربعون: إنهم ينقلون مسائل مفتراة على أئمة أهل السنة في كتبهم وهم براء منها، وذلك مثل جواز اللواطة مع المملوك ودخول الرجل أمه بعد أن يلف قضيبه بخرقة، فإن الأولى نسبوها إلى مالك بن أنس والثانية إلى أبي حنيفة. وقد أورد مثل هذه المسألة المفتراة على أهل السنة المرتضى وابن المطهر الحلي وابن طاووس. أقول: وقد رأيت في كتب ابن المطهر الحلي الذي رده شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية (عليه الرحمة) أنه قال: "ذهب بعض أهل السنة إلى أن الله تعالى ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد راكبا على حمار، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا في كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا، لتجويز أن الله تعالى ينزل على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب تعالى بالنداء: هل من تائب، هل من مستغفر؟ "، تعالى الله عن مثل هذه العقائد المروية في حقه تعالى علوا كبيرا. قال: "وحكي عن بعض المنقطعين المباركين من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام [نفاط] ومعه أمرد حسن الصورة قطط الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها، فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه، فتوهم النفاط، فجاء ليلا، وقال: يا أيها الشيخ رأيتك تلح النظر إلى هذا الغلام وقد أتيتك، فإن كان لك

فيه نية، فأنت الحكم فيه، فرد الشيخ عليه وقال: إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله تعالى ينزل على صورته فتوهمت أنه الله، فقال له النفاط: ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة". انتهى ما هو المقصود من كلامه. فانظر بالله تعالى عليك هل يتصور ممن يعلم أنه سيقف بين يدي الله تعالى أن يفتري بمثل هذا الافتراء عل أهل السنة مع أن كتبهم لو فرشت على البسيطة لغطتها، ولكن الحلي خبيث النفس بلا شك ولا شبهة، فلذا لم يستح بنقل مثل هذا الافتراء ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد أحسن شيخ الإسلام قدس سره في الرد عليه فقال: "هذه الحكاية وأمثالها أمر دائر بين أمرين، إما أن يكون كذبا محضا ممن افتراها عل أهل بغداد وبعض الشيوخ، وإما أن يكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب، وأدنى العامة أعقل منه وأوفق. وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا، لأنه من المعلوم لكل ذي علم إنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا يخفى بطلانه على صبي من الصبيان، ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا، مع أنها صحيحة واقعة. ومما يبين كذب ذلك أن هذا الحديث الذي ذكره كذب ولم يذكره أحد بل لا يوجد شيء في الآثار من مثل هذا الهذيان، بل ولا في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله تعالى ينزل إلى الأرض". وكل حديث روي فيه مثل هذا فإنه موضوع كذب مثل حديث الجمل الأزرق وأنه ينزل عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة، وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف، وحديث آخر أنه رأى ربه ببطحاء مكة، وأمثال ذلك.

وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده. ثم جمهور أهل السنة يقولون إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد، فهم متفقون على أنه ليس كمثله شيء، وأنه لا يعلم كيف ينزل ولا تمثل صفاته بصفات خلقه. وقد تنازعوا في النزول هل هو [صفة] فعل منفصل عن الرب سبحانه في المخلوقات أو فعل يقوم به على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والتصوف. وكذلك تنازعوا في الاستواء على العرش هل هو فعل منفصل عنه يفعله في العرش كتقريبه إليه أو فعل يقوم بذاته على قولين:

فالأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم ممن يقول إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته. والثاني: قول أئمة الحديث وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي

والبخاري وحرب الكرماني وابن خزيمة ويحيى بن عمار السجستاني وعثمان بن سعيد الدارمي وابن حامد وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن مندة وأبي إسماعيل الأنصاري وغيرهم. وليس هذا موضع سعة الكلام في هذه المسائل". انتهى كلامه الذي هو كالدر المكنون والجوهر المصون (عليه الرحمة) والرضوان. الثانية والأربعون: إنهم يلحقون بعض الأبيات بأشعار كبار أهل السنة وأئمتهم مما ينص على صحة

اعتقادهم وبطلان عقيدة مخالفيهم من أهل السنة. من ذلك ثلاثة أبيات ألحقها بعضهم بشعر الشافعي في حب أهل البيت، أما الأبيات التي أنشأها الشافعي فهي: يا راكبا قف بالمركب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهدالثقلان أني رافضي وأما الأبيات التي ألحقت بهذه الأبيات فهي: قف ثم ناد بأنني لمحمد ... ووصيه وبنيه لست بباغض وأخبرهم أني من النفر الذي ... لولا أهل البيت ليس بناقض وقل ابن إدريس بتقديم الذي ... قدمتموه على علي ما رضي فإنه إذا سمعها من لا يفرق بين غث الكلام وسمينه اغتر بها وصدته عن سواء السبيل. ومن له أدنى حظ من البلاغة يعلم أن هذه الأبيات ليست من شعر الشافعي، وأين الثرى من الثريا. الثالثة والأربعون: إنهم ينظمون أبياتا على لسان أئمة أهل السنة تشعر بصحة اعتقاد الرافضة، ومن ذلك ما يعزونه إلى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وهو: شفيعي نبي والبتول وحيدر ... وسبطاه والسجاد والباقر المجدي وجعفر والثاوي ببغداد والرضا ... وفلذته والعسكريان والمهدي ومن ذلك أيضا: في جنة واقية من البلا ... وجنة باقية بعد البلى

بطوس والكرخ وسر من رأى ... وطيبة وكوفة وكربلا وكذب ذلك ظاهر لا يخفى على من له أدنى روية وفهم، فإن الشافعي مات قبل العسكريين، ولم يشهد وفاة الجواد المدفون بالكرخ، فإن علي بن محمد النقي ولد سنة أربع عشرة ومائتين، ومات والده محمد بن علي الجواد سنة عشرين ومائتين، ومات الشافعي سنة أربع ومائتين في خلافة المأمون. وسر من رأى بلدة قريبة من بغداد، وتسمى سامراء، قد بناها المعتصم، ولم يدرك الشافعي خلافة المعتصم. ولم يذكر ذلك في كتبه ولا رواه عنه أصحابه ولا غيرهم، كما ذكر خلافة المهدي وظهوره واقتداء عيسى بن مريم عليه السلام به في الصلاة، فهل هذا إلا افتراء بلا مراء. نعم ذكر هو وغيره من فقهاء أهل السنة ومحدثيهم فضائل من أدركوا من أهل البيت ورووا عنهم الحديث، وسموا سند الحديث المروي عنهم سلسلة الذهب. الرابعة والأربعون: إنهم يقولون قد أخبر بحقية مذاهب الشيعة العرب الموحدون في عهد الجاهلية،

الذين أخبروا ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -. من ذلك ما رواه غير واحد منهم: "أن الجارود بن المنذر العبدي كان نصرانيا فأسلم يوم الحديبية وأنشد في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: أنبأنا الأولون باسمك فينا ... وبأسماء الأوصياء الكرام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ فقال الجارود: كلنا يا رسول الله نعرفه غير أني من بينهم عارف بخبره وأقف على أثره، فقال سلمان: أخبرنا، فقال: يا رسول الله، لقد شهدت قسا وقد خرج من ناد من أندية إياد إلى ضحضح ذي قتاد وسمر وغياد، فدنوت منه فسمعته يقول: اللهم رب السموات الأرفعة والأرضين الممرعة، بحق محمد والثلاثة المحاميد معه والعليين الأربعة وفاطمة والحسنين الأبرعة وجعفر وموسى التبعة سمي الكلم الضرعة، أولئك النقباء الشفعة والطرق المعيهة ورثة الأناجيل ونفاة الأباطيل والصادقو القيل عدد النقباء من بني إسرائيل، فهم أول البداية وعليهم تقوم الساعة

وبهم تنال الشفاعة ولهم من الله فرض الطاعة، اسقنا غيثا مغيثا، ثم قال: ليتني مدركهم ولو بعد لأي من عمري ومحياي، ثم أنشأ يقول: أقسم قس قسما ليس به مكتتما ... لو عاش ألفي سنة لم يلق منهم سئما حتى يلاقي أحمد والنجباء الحكما ... هم أوصياء أحمد أفضل من تحت السما يعمي الأنام عنهم وهم ضياء للعمى ... لست بناس ذكرهم حتى أحل الرجما قال الجارود: فقلت: يا رسول الله أنبئني بخبر هذه الأسماء التي لم نشهدها وأشهدنا قس ذكرها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله عز وجل إلي أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا؟ فقلت: علام بعثوا؟ قال: بعثتهم على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما، ثم عرفني الله تعالى بهم وبأسمائهم، ثم ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجارود أسماءهم واحدا بعد واحد إلى المهدي، ثم قال: قال لي الرب هؤلاء أوليائي، وهذا المنتقم من أعدائي يعني المهدي". انتهى. ولا يخفى كذب هذا الخبر، وأمارات الوضع لائحة عليه، فإن هذا الكلام المنقول عن قس بمعزل عن البلاغة كما هو ظاهر لمن له حظ من فن المعني والبيان، وإنما المروي عن جارود أنه لما أسلم قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي بعثك بالحق لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول". والصحيح من رواية قس بن ساعدة الإيادي ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن وفد بكر بن وائل قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغوا من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا:

كلنا نعرفه، قال: ما فعل؟ قالوا: هلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: كأني به على جمل أحمر بعكاظ قائما يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع وسقف مرفوع وبحار لا تغور وتجارة لن تبور، ليل داج وسماء ذات أبراج، وأقسم قس قسما لئن كان في الأرض رضى ليكونن بعده سخط، وأن لله عزت قدرته دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا؟ ثم أنشد أبو بكر شعرا وهو: في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تسعى الأكابر والأصاغر وفي بعض الروايات: لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين عابر أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر فكم من فرق بين العبارتين؟ وكم من شواهد تشهد بصدق ثانية القصتين؟ والبيان يطول، والبنان ملول. ولو صح ما رواه الرافضة من ولاية علي والأئمة من ولده وتعيينهم بأسمائهم لأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك غيره واستفاض عنه، كما أخبر عن المهدي وصفاته غير مرة، وتواتر عنه غير ذلك، ولأخبر به من آمن من

النصارى واليهود وسمع عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر من العرب من سمع من الأولين، ولا سيما من كان من شيعة علي من الصحابة والتابعين، ولرواه عنهم وعن أهل البيت سائر فرق الشيعة، ولم يقع اختلاف في مسألة الإمامة، ولم تتنازع الأمامية في عددهم وتشخيصهم. وذلك أظهر من فلق الصباح. ويدل أيضا أن ما رووه اختلاق وكذب أن الأئمة بزعمهم لم يتمكنوا مدة عمرهم من نفي الباطل وأنهم لم يصدقوا قط في كلام، وأنهم حاشاهم لم يزالوا في إثبات الباطل وتقريره، وأنهم يكذبون تقية كل ذلك بزعمهم الكاسد واعتقادهم الفاسد. ونعوذ بالله تعالى من سوء الاعتقاد على البررة الأمجاد. الخامسة والاربعون: إنهم يفترون على الله تعالى وعلى رسوله حيث يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تسأل شيعة علي عن ذنب، وإن سيئاتهم تبدل بالحسنات، وإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يروي عن ربه جل شانه أنه قال: "لا أعذب من والى عليا وإن عصاني". وهذا في البطلان أظهر لأولي الأبصار من الشمس في رابعة النهار، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} إلى غير ذلك من الآيات والآثار الصحيحة الروايات. السادسة والأربعون: إنهم يقولون إن ما ورد في إمامة علي وفضائله من الأخبار متفق عليه بين الفريقين،

وما ورد في إمامة غيره من الخلفاء وفضائلهم مختلف فيه، والمختلف فيه يجب أن يترك للمتفق عليه فإنه أبعد عن الريب. وهذا الكلام من الرافضة مناقض لما ذهبوا إليه من أن الحق من الأخبار المتعارضة ما خالف أهل السنة. فتبا لهم من فئة يقولون ما لا يفعلون. ويا سبحان الله إنهم قد شابهوا اليهود والنصارى حتى في أقوالهم وخيالاتهم الباطلة، فإن هذا القول كثيرا ما يحتج به أهل الكتابين من اليهود والنصارى على حقية مذهبهم، فيلزم على هذا أنهم على الحق ولا قائل به من الفريقين. سبحانك هذا بهتان عظيم وضلال وخيم: لأهل الرفض تبا ثم سحقا ... لقد فازوا بما فاه الحيارى تراهم هائمين بكل واد ... كأنهم اليهود والنصارى السابعة والأربعون: إنهم يقولون إن مذهب الشيعة أحق بالاتباع لأنهم جازمون بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار، وإن أهل السنة ليسوا بجازمين بل شاكون في أمرهم، والجازم أحق بالاتباع. وهذا كذب وافتراء من الرافضة، لأن أهل السنة لا يرتابون في أن من مات على الإسلام دخل الجنة، لكن لما كانت العاقبة مجهولة والخاتمة مستورة لم يجزموا، فإن الجزم أمنٌ من مكر الله: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. ويؤيد ما ذكرنا بل يعينه ما ذكر في التفسير المنسوب إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري المعتبر عند الشيعة. وليس كل جازم أحق بالاتباع، فإن اليهود والنصارى مثلا يجزمون بنجاتهم وليسوا بناجين بالاتفاق. وأيضا فرق الشيعة كلهم يجزمون بنجاتهم، وبلا شك أن منهم من هو على ضلالة من غير نكير.

الثامنة والأريعون: إن بعض علمائهم يظهرون للناس أنهم على مذهب أهل السنة وأنه يقلد أحد المذاهب الأربعة ويتولى بعض وظائفهم، فإذا حان حينه وقرب موته أظهر أن الحق هو مذهب الرافضة وأن عقيدته عقيدتهم وأوصى أن يتولى غسله وتكفينه ودفنه بعض علماء الرافضة. قال ابن المطهر الحلي في كتاب منهج الكرامة: "كان [أكبر] مدرسي الشافعية في زماننا حيث توفي أوصى بأن يتولى أمره وغسله وتجهيزه بعض المؤمنين وأن يدفن في مشهد الكاظم". وهذه مكيدة عظيمة، فإنه إذا رأى ذلك منه تلامذته وأحباؤه وسمع من غيرهم من سفهاء الأحلام استيقنوا أن مذهب الشيعة حق، وإلا لما ذهب إليه مثل ذلك العالم الفقيه وترك مذهبه، فيزيغون عن الحق ويعدلون عن سواء الطريق. وما دروا أن ذلك ذئب تقمص ثوب شاة وشيطان ظهر للناس في زي الهداة. التاسعة والأربعون: إنهم يقولون إن كثيرا من كبار علماء أهل السنة ومشايخهم كانوا على مذهب الإمامية. وقد ألف بعض الدجالة منهم المفترين على الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كتابا في وفيات الأعيان من العلماء ومشايخ الطريقة، كالشيخ أبي يزيد البسطامي والشيخ معروف الكرخي والشيخ شقيق البلخي وسهل بن عبد الله

التستري وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وأورد فيه ذكر أحوال كل منهم ما يدل على أنهم من تلك الفرقة الضالة من الأقوال والأفعال بعد ذكر شيء من مناقبهم وكراماتهم. ومن هذا القبيل كتاب المجالس الذي ألفه بعض علماء الشيعة من أهل تستر، وقد اعترف أكثر علمائهم بأن فيه كثيرا من الأكاذيب، فمن تصفحه من القاصرين عن إدراك اليقين ظن أن ما فيه بلا شك ولا تمويه، فيهوي إذ ذاك في مهاوي الردى ويميل عن سواء السبيل والهدى. فالحذر الحذر من مثل هذا الكتاب الذي اشتمل ولو على كلمة مما يخالف أهل الحق والصواب. الخمسون: إنهم يفترون على بعض أئمة أهل البيت الطاهرين ما لا يقبله ذو عقل، فضلا عن عباد الله المخلصين. من ذلك ما روى سهل بن [ذبيان] أنه قال: "دخلت على مولاي الرضا عليه السلام لأمر عرض لي في بعض الأيام، وذلك قبل أن يدخل عليه أحد من شيعته فقال: مرحبا بابن [ذبيان]، الساعة أراد رسولنا أن يأتيك [لتحضر] وهو ينكت الأرض بسبابته، فقلت: لماذا يا ابن رسول الله؟ فقال: منام أزعجني وأقلقني وأرقني، فقلت: ما هذا المنام؟ فقال: رأيت كأني نصب لي سلم فيه مائة مرقاة فصعدت إلى أعلاه، فقلت: أهنئك بطول العمر تعيش مائة سنة يا سيدي، قال: وكأني دخلت إلى قبة خضراء بعد ذلك يبين من باطنها ظاهرها، ومن

ظاهرها باطنها، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن يمينه غلام حسن الوجه على ركبيته شيخ قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فيقال سلم على أبويك الحسن والحسين، فسلمت عليهما، ثم قال: سلم على أمك فاطمة الزهراء، فسلمت عليها ثم قال: سلم على شاعرنا وصاحبنا ونديمنا في الدنيا والآخرة إسماعيل بن محمد الحميري، فسلمت عليه، ثم قال الشيخ: عد بي إلى ما كنا فيه فأنشد يقول: لأم عمرو باللوى مربع ... طامسة أضلاعه بلقع إلى قوله: قالوا له لو شئت أعلمتنا ... إلى من الغاية والمفزع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقصر يا إسماعيل، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: إلهي وسيدي إنك الشاهد عليهم أني قد أعلمتهم من الغاية والمفزع إليه، وأومأ بيده إلى أمير المؤمنين، ثم التفت إلي وقال: يا علي احفظ هذه القصيدة، ومر شيعتنا بحفظها، فمن حفظها [وأدمن قراءتها]، ضمنت له على الله تعالى الجنة. قال الرضا: فلم يزل جدي يكررها علي حتى حفظتها. والقصيدة هي: لأم عمرو باللوى مربع ... طامسة أعلامه بلقع لما وقفت العيس في رسمها ... والعين من عرفانه تدمع ذكرت من كنت ألهو به ... فبت والقلب شجن موجع كأن بالنار لما شفني ... من حب أروى كبدي تلذع

قالوا له لو شئت أعلمتنا ... إلى من الغاية والمفزع إذا توفيت وفرقتنا ... وفيهم في الملك من يطمع فقال لو أعلمتكم مفزعا ... كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا صنيع أهل العجل إذ فارقوا ... هارون فالترك له أورع وفي الذي قال بيان لمن ... كان إذا يعقل أو يسمع ثم أتته بعد ذا عزمة ... من ربه ليس لها مدفع أبلغ وإلا لم تكن مبلغا ... والله منهم عاصم يمنع فعندها قام النبي الذي ... كان بما يأمره يصدع يخطب مأمورا وفي كفه ... كف علي نورها يلمع رافعها أكرم بكف الذي ... يرفع والكف التي ترفع من كنت مولاه فهذا له ... مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا وضل قوم غاظهم قوله ... كأنما آنافهم تجدع حتى إذا واروه في قبره ... وانصرفوا من دفنه ضيعوا ما قال بالأمس وأوصى به ... واشتروا الضر بما ينفع وقطعوا أرحامه بعده ... فسوف يجزون بما قطعوا وأزمعوا مكرا بمولاهم ... تبا لما كانوا به أزمعوا لا هم عليه يردوا حوضه ... غدا ولا هو فيهم يشفع حوض له ما بين صنعا الى ... أيلة أرض الشام أو أوسع ينصب فيه علم للهدى ... والحوض من ماء له مترع

والعطر والريحان أنواعه ... زاك وقد هبت به زعزع ريح من الجنة مأمورة ... ذاهبة ليس لها مرجع إذا دنوا منه لكي يشربوا ... قيل لهم تبا لكم فارجعوا دونكم فالتمسوا منهلا ... يرويكم أو مطعما يشبع هذا لمن والى بني أحمد ... ولم يكن غيرهم يتبع فالفوز للشارب من حوضه ... والويل والذل لمن يمنع والناس يوم الحشر راياتهم ... خمس فمنها هالك أربع فراية العجل وفرعونها ... وسامري الأمة المشنع وراية يقدمها حبتر ... لا برد الله له مضجع وراية يقدمها نعثل ... كلب بن كلب فعله مشنع

وراية يقدمها أبكم ... عبد لئيم لكع أكوع وراية يقدمها حيدر ... كأنه البدر إذ يطلع إمام صدق وله شيعة ... يرووا من الحوض ولم يمنعوا بذاك جاء الوحي من ربنا ... يا شيعة الحق فلا تجزعوا انتهت هذه الأبيات المشحونة من الهذيانات والخرافات. ولعمري إن هذه القصة لمن أشنع مفترياتهم وأكذب كلماتهم على خاتم الأنبياء - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الإمام موسى الرضا رضي الله تعالى عنه. يدل على ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يحفظ الشعر ولا ينبغي له، وليس في تلك الرؤيا ما يزعج الرأي ويقلقه ويجعله متفكرا. وكان الحميري شاعرا ماجنا لم يصحبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينادمه ولا طرفة عين في الدنيا. وابن [ذبيان] كان لا يبالي من الفرية والافتراء. هذا والحميري قاتله الله تعالى ينادي في قصيدته هذه بأرفع صوت أنه تعالى ترك الواجب، وهو الأصلح، فإن الأورع هو الأصلح. وما هذى به في قصيدته من الكلمات السوء في حق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو معتقد جميع الرافضة والفئة الضالة. وسيأتي إن شاء الله تعالى براءتهم من جميع ما رموهم به. ولا بدع أن يصدر مثل ذلك عن الرافضة إخوان الشياطين وأعداء رب العالمين، وقد حكى الله سبحانه عن إخوانهم الكفرة ما هو أشد من ذلك، فقال تعالى عن اليهود:

{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، وعن كفار قريش في النبي - صلى الله عليه وسلم -: {هَذَا سَاحِرٌ}، وعن منافقي يثرب: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، وغير ذلك مما لا يكاد يحصر. ومما يقضى منه العجب أني رأيت بعض المجاميع المطبوعة في ديار إيران مما يعول عليه عندهم أن قراءة هذه القعدة بكيفية مخصوصة في وقت مخصوص من كل يوم من أجلّ الطاعات وأشرف العبادات، وأنها تزيد في الرزق وتطول العمر، إلى غير ذلك مما ذكروا من الخواص والإسرار. ورووا في ذلك روايات عديدة عن الأئمة الأطهار، سبحانك هذا بهتان عظيم وكفر وخيم، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. ولعمري عبادة الأوثان والسجود لصنم أو حيوان ليس بأعظم من ذلك ولا أشد مما هنالك، إذ كلا الفريقين يتخذ الكفر عبادة ويفتري على الله الكذب وزيادة. نسأل الله تعالى العصمة من الزلل والتوفيق في القول والعمل. الحادية والخمسون: إنهم ينسبون إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه أقوالا تؤيد ما هم عليه من الضلال وهو رضي الله تعالى عنه بريء منها. وقد جمع بعض الكبار من علمائهم كتب الأمير كرم الله تعالى وجهه وخطبه ومواعظه ونصائحه وبدل فيها وغيّر ونقص وزاد، وحرف الكلم عن مواضعه بما يوافق مذهبه، ودس فيها ما ليس منها. من ذلك نهج البلاغة الذي جمعه السيد الرضي، وقيل أخوه المرتضى، والمشهور بين الجمهور هو الأول. وقد أسقط كثيرا من كلام الأمير مما يوافق مذهب أهل السنة ويخالف الرافضة، وزاد مؤلفه فيه ما يوافق مذهبه، وكنى عن العلم بفلان ليشتبه الأمر.

ومن ذلك أيضا كتاب رجب بن محمد البرسي الحلي وغير ذلك. ومن هذا القبيل التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري الذي جمعه ابن بابويه الكذاب، فقد شحنه من المفتريات التي يبرأ منها الإمام رضي الله تعالى عنه. ودعاء القنوت الذي يعزونه إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه، وهو المشهور عندهم بدعاء صنمي قريش، لأنه لقب فيه الشيخين بصنمي قريش وهو: "اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك وقلّبا دينك وحرّفا كتابك". وهذا أيضا افتراء بلا شك ولا افتراء. وكثير من عبارات نهج البلاغة المنسوبة إلى الأمير تكذب ذلك على ما لا يخفى على من راجعها. الثانية والخمسون: إنهم ينظمون بعض الأبيات في مدح الأمير، وأن الحق مذهب الشيعة، وينسبون ذلك إلى شخص من اليهود أو النصارى. من ذلك ما ينسبونه إلى ابن فضلون اليهودي وهو: علي أمير المؤمنين عزيمة ... وما لسواه في الخلافة مطمع له النسب العالي وإسلامه الذي ... تقدم وفيه الفضائل أجمع

ولو كنت أهوى ملة غير ملتي ... لما كنت إلا مسلما أتشيع ومن ذلك أيضا: حب علي في الورى جنة ... فامحِ بها يا رب أوزاري لو أن ذميا نوى حبه ... حُصن في النار من النار إلى غير ذلك. الثالثة والخمسون: إنهم يكذبون على أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه ويقولون إنه يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "نحن شجرة أنا أصلها وفاطمة فرعها وأنت لقاحها والحسن والحسنين ثمرتها والشيعة ورقتها". وقد نظم ذلك بعض شعرائهم فقال: يا حبذا سدرة في الأرض نابتة ... ما مثلها نبتت في الأرض من شجر المصطفى أصلها والفرع فاطمة ... ثم اللقاح علي سيد البشر والهاشميان سبطاه لها ثمر ... والشيعة الورق الملتف بالشجر هذا مقال رسول أدبه جاء به ... أهل الرواية في عالي من الخبر

إني بحبهم أرجو النجاة بهم ... والفوز في زمرة من أفضل الزمر وهذه مكيدة عظيمة، فإن من سمع هذا الخبر من القاصرين اعتقده صحيحا، فإن من يسمع يخل فيرتدي حينئذ برداء الردى ويتقمص الرفض. وهذا الخبر مع أنه لا يصح لا يدل على ما يدعونه، فإن المراد بالشيعة غير الرافضة. روى الدارقطني عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "أنت وشيعتك في الجنة، ألا إن ممن يزعم أنه يحبك أقوام يصغرون بالإسلام ويلفظونه يقرءون القران لا يجاوز تراقيهم له نبز يقال لهم الرافضة، فجاهدهم فإنهم مشركون، قال: يا رسول الله، ما العلامة فيهم؟ قال: لا يشهدون جمعة ولا جماعة ويطعنون على السلف". وروى عن موسى [بن جعفر بن محمد] بن علي بن الحسين بن علي بن أن طالب رضي الله تعالى عنهم، وكان من كبار أهل البيت، أنه كان يروي عن أبيه عن جده أنه كان يقول: "إنما شيعتنا من أطاع الله وعمل أعمالنا". ولا يخفى أن الرافضة قد عصوا الله تعالى وعملوا على خلاف ما كان يعمله أهل البيت كما سيحقق ذلك هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. الرابعة والخمسون: إنهم يدعون أن لعلي حقا على جبريل. فقد روى كثير من علمائهم: أن جبريل كان

جالسا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ دخل عليه علي فقام جبريل وقال له: إن علي حقا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف ذلك؟ فقال: لما خلقني ربي جل جلاله سألني: من أنا ومن أنت وما اسمك؟ فتحيرت في الجواب وبقيت ساكتا، ثم حضر هذا الشاب وعلمني الجواب وقال: أنت الرب الجليل وأنا عبدك الضعيف واسمي جبريل، فلهذا قمت له وعظمته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كم عمرك يا جبريل؟ قال: نجم يطلع من العرش في كل ثلاثين ألف سنة مرة واحد وقد شاهدته طالعا ثلاثين ألف مرة. ولا يخفى عليك أن هذه المقالة أيضا من خرافاتهم التي تضحك الثكلى. ومن يضلل الله فلا هادي له. الخامسة والخمسون: إنهم يقولون إن كل من يموت من المؤمنين والفاجرين يرى أمير المؤمنين، فيمنع النار أن تعرض للمؤمن من شيعته ويسقيه ماء باردا ويترك الفاجر يعذب في النار. وقد نقلوا عنه أبياتا خاطب بها الحارث الهمداني، وهي هذه: يا جار همدان من يمت يرني ... من مؤمن أو منافق قبلا يعرفني لحظة وأعرفه ... بنعته واسمه ولما فعلا

أقول للنار حين تعرض للعبـ ... د ذريه لا تقربي الرجلا ذريه لا تقربيه إن له ... حبلا بحبل الوصي متصلا أسقيه من بارد على ظمأ ... تخاله في الحلاوة العسلا قول علي لحارث عجب ... كم أعجوبة له مثلا ألا لعنة الله على الكاذبين الذين يفترون على عباد الله الصالحين. نسأل الله تعالى العفو والعافية عن مثل هذا الداء العضال والزيغ عن الهدى والضلال بمنه وكرمه. السادسة والخمسون: إنهم يقولون لا اعتداد بما يرويه أهل السنة من الأحاديث النبوية، لأنهم إنما يروون غالبها عن المنافقين، إذ لم يتميز المخلص من المنافق بعده - صلى الله عليه وسلم -، والشيعي يروي عن الذين أخلصوا دينهم لله وطهرهم سبحانه تطهيرا. وهذه مكيدة ربما اغتر بها الجهلاء فيقعوا فيما يقعوا، مع أن من حقق النظر ودقق وجد هذا الكلام ظاهر البطلان، فإن مجتهدي أهل السنة قد أخذوا الشرائع والأحكام عن أهل البيت وغيرهم من الأئمة الكرام، وسيجيء إن شاء كلمته تعالى تحقيق ذلك وإثبات ما هنالك، وأن الذين رووا عن المنافقين هم الرافضة، وسيجيء أن رواتهم إما مجسمة وإما زنادقة وإما منافقون. وأن التمييز بين المنافق والمخلص قد حصل في زمنه عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. ولأنه لم يكن أحد من المنافقين له علم ليروى عنه، بل إن التابعين إنما أخذوا العلم عن المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم. ولأن غلاة المنافقين قد ماتوا قبل وفاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بقي منهم بعد ذلك أخلصوا لله تعالى دينهم،

كذا ذكره الرازي في تفسيره وغيره من أساطين العلماء. ولأن أهل السنة ما تركوا العمل بخلاف رواية الجمهور. السابعة والخمسون: إنهم يقولون إن أهل السنة يعتقدون أن الرجل لا يكون منهم حتى يكون في قلبه بغض [أهل البيت] على قدر بيضة الدجاجة. وهذه المكيدة لا تروج على أحد ولا يقبلها إلا من كفر وجحد. فإن حب أهل السنة لأهل البيت ظاهر للعيان، وإن لأولئك السادة الأعلام مما لا ينتطح فيه كبشان، كيف لا وكبار أهل السنة إنما أخذوا العلم عنهم وغرفوا درر الفوائد منهم، ولذا أثنوا عليهم بما يضيق حصره نطاق هذا الكتاب. وقد ألفت فيه مؤلفات عديدة اشتملت على فصل الخطاب، وهذه كتب الشمائل والسير مملوءة من مزاياهم ومعطرة بعبير صفاتهم ورياهم، ولكن أهل العدوان لم يزالوا يهذون بالبهتان. الثامنة والخمسون: إنهم يقولون إن أهل السنة يروون في كتبهم ما يدل على أن للشياطين سبيل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كخبر ليلة التعريس.

وهذه مكيدة ينخدع بها من لم يطلع عل كتبهم، والا فكتبهم الصحيحة عندهم مشتملة على هذا الحديث، وقد ذكره الكليني في الكافي والطوسي في التهذيب بطرق متعددة. ألا قاتل الله أهل الرفض والزور وذوي الخبث والغرور. التاسعة والخمسون: إنهم يقولون إن أهل السنة يوثقون الحرورية وأعداء أهل البيت ويعدلونهم ويروون عنهم في صلاحهم، حتى إن البخاري أخرج في صحيحه عن ابن ملجم لعنه الله تعالى. وهذه مكيدة أيضا لا أصل لها عند أهل السنة، وقد افتراها عليهم ابن شهر آشوب الذي هو في الكذب والبهتان كابن بابويه. فإن أهل السنة لا يوثقون من يبغض عليا كرم الله تعالى وجهه. وقد طعنوا على من وثق [حريز] بن عثمان فإنه كان يبغضه. كيف والناصبة عندهم زائغون عن

نهج الهدى كالرافضة، ومن وثق [حريزا] لم يعلم أنه من مبغضي الأمير كرم الله تعالى وجهه. وابن ملجم من أشقى الأمة، بل لا علم له، فكيف يروي عنه مثل البخاري الإمام الجليل؟ وهذه نسخ البخاري بين أيدينا، فمن ادعى ذلك فعليه البيان والله المستعان. نعم روى البخاري عن عمران بن حطان بعض الأحاديث للاستشهاد، وقد ورد في كتب الرجال أجوبة عن ذلك فراجعها تفز بالصواب. الستون: إنهم يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر عليا أن ينطلق إلى بئر من آبار البادية فيدخلها، فإن فيها قبائل من الجن، فيدعوهم إلى الإسلام ويقاتلهم إن أبوا عن الإسلام، فانطلق إليها ودخلها ورآهم ودعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوا فقاتلهم فقتلهم. وقد عدت الرافضة هذه القصة من الخوارق الدالة على إمامة أمير المؤمنين بلا فصل. وهي كذب وافتراء. وعلى تقدير صحتها لا تعرض لها للإمامة، بل تكون فضيلة من فضائله، وكم له من فضيلة رضي الله تعالى عنه. وقد وقع مثل هذه القصة لغير الأمير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد روي في الصحيح: "أن العزى شجرة سمر بنخلة لغطفان يعبدونها بدعائها لتشفع لهم خاصة، فبعث إليها - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه فقطعها بالفأس وهو يقول: يا عزى كفرانك لا

سبحانك إني رأيت الله قد أهانك، فخرجت شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها. فلو اقتضى ذلك الإمامة لكان خالد بن الوليد أيضا إماما. الحادية والستون: إنهم يقولون إن أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من السابقين إلى الإسلام والمهاجرين وشهد المشاهد وبايع عليا وقاتل البغاة معه وكان من الإمامية، كذا ذكره النجاشي وغيره. وهذه المكيدة كذب صريح وافتراء فضيح، فإن أبا رافع مات قبل قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وأما ما ذكره أحمد بن علي النجاشي أنه شهد مع علي حروبه وكان صاحب بيت ماله في الكوفة، وكان ابناه عبيد الله وعلي كاتبيه؛ فمن افترائه وكذبه، وكذا ما يرويه من أن لأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا يوافق مذهب الإمامية، فهو أيضا كذب. ولم تزل هذه العادة

عند الرافضة إلى يومنا هذا. الثانية والستون: إنهم ينسبون إلى بعض أئمة أهل السنة ما لا يمكن صدوره عن الجهلة قصد التنفير عن مذهبه. من ذلك ما روى العياشي بإسناده: قال أبو حنيفة لأبي عبد الله: كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة، فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه فضحك، قال أبو عبد الله ما يضحكك؟ قال: ظفرت بك جعلت فداك، قال: وكيف ذلك؟ قال: الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخ في التراب حتى يأخذ بعنقه، قال أبو عبد الله: يا نعمان أما علمت أنه إذا نزل القدر عمى البصر. انتهى. ولا يخفى كذب هذه القصة، بل هي مكيدة من شياطينهم، فإن أبا حنيفة أجل من أن يتفوه بمثل ذلك من الظهور بمحل، وكان أبو حنيفة يفتخر بخدمة الصادق وأخذ العلم عنه، وقد أرسل إلى عمه زيد بن علي اثني عشر ألف دينار حين ادعى الإمامة وخرج على هشام، وأفتى أنه أحق بالإمامة منه وحث الناس على مبايعته ونصرته. وكان ممن يميل إلى أهل البيت ويقول سرا وعلانية إنهم أحقاء بالإمامة ولا يخاف أحدا، ولذا سم في السجن. وقال لما سأله منصور الخليفة: ممن أخذت العلم يا نعمان

قال: من أصحاب أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه. وكان يهدي النواصب إلى الحق ويناظرهم ويفحمهم ويدعوهم إلى محبة أهل البيت. روي أنه كان له جار من الجارودية يكفر عليا فهجره ثم جاءه فقال: جئتك لأن رجلا كلمني أن أكلمك أن تزوجه ابنتك ولا بأس به إلا أنه يهودي، فقال: سبحان الله تكلمني أن أزوج ابنتي المسلمة ليهودي كافر، فقال له: ويحك أنت لا ترضى أن تزوج ابنتك ليهودي وتزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوّج بنته كافرا، فانكب حيئنذ على قدميه وقال: فرج الله عنك كما فرجت عني. ثم إن القصة التي نسبوها إلى الإمام أبي حنيفة زورا وبهتانا هي التي وقعت بين نجدة الحروري وابن عباس، وذلك أن نجدة قال لابن عباس: إنك تقول إن الهدهد إذا نقر الأرض عرف مساحة ما بينه وبين الماء وهو لا يبصر شعيرة الفخ، فقال: إذا جاء القدر غشي البصر. انتهى. ومن ذلك ما ذكره الطبرسي في الاحتجاج: أنه دخل أبو حنيفة المدينة

ومعه عبد الله بن مسلم فقال له: يا أبا حنيفة إن هنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد، فاذهب بنا نقتبس منه علما، فلما أتياه إذا هما بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث، فقام الناس هيبة له، فقال أبو حنيفة لابن مسلم: من هذا؟ قال: هذا موسى ابنه، قال: لأحيينه بين يدي شيعته، قال: مه لا تقدر على ذلك، قال: والله لأفعلنه، ثم التفت إلى موسى فقال: يا غلام أين يضع الرجل حاجته في مدينتكم هذه؟ قال: يتوارى خلف الجدار ويتوقى عين الجار وشطوط الأنهار ومسقط الثمار ولا يستقبل القبلة أو يستدبرها فحينئذ يضع حيث يشاء. انتهى. وهذه القصة أيضا من أكاذيب الفئة الضالة. والصحيح على ما رواه أهل السنة وغير الطبرسي من الشيعة: أنه لما دخل المدينة وزار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى دار الصادق فجلس ينتظر خروجه فخرج ابنه موسى وهو صغير فقام ووقره، وقال: أين يضع الغريب حاجته في بلدكم؟ فأجاب بما ذكر، فقال أبو حنيفة: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. الثالثة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة يتبعون أبا حنيفة والشافعي ومالكا وأحمد ولا يتبعون الأئمة وهم الأحقاء بالاتباع، كما ينص عليه خبر السفينة المتفق عليه. وهذه مكيدة تخفى على كثير من القاصرين في العلم. ومن نظر بعين بصيرته رأى الحق مع أهل السنة، لأن اتباعهم لهؤلاء المجتهدين عين اتباعهم لأولئك الأئمة الأطهار، لأن مجتهديهم إنما أخذوا عنهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

والشيعة قاتلهم الله تعالى يدعون أنهم أتباع من يدعي الأخذ عن أهل البيت مع أنهم يخالفونهم في العقائد، كالهشامين وصاحب الطاق وابن الأعين وغيرهم، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. على أن أهل البيت لم يلتفتوا إلى الاستنباط والاجتهاد لاستغراق أوقاتهم بالعبادة والطاعة والعزلة والخلوة، بل أمروا أصحابهم أن يصرفوا عنايتهم نحو تدوين الفقه واستنباط الأحكام وتفريغ الفروع عن أدلتها، فنظموا حسبما أمروا فرائده واقتنصوا أوابده وأسسوا قواعده وقيدوا شوارده وأحرزوا كنوز حقائقه وأبرزوا رموز دقائقه وألفوا وأفادوا وصنفوا فأجادوا، فجزاهم الله تعالى خير الجزاء وخلد لهم جميل الثناء. وقد اتبعت الإمامية في الأحكام الغير المنصوصة والمسائل الاجتهادية علماءهم الذين حسبوهم من أهل الاجتهاد، وما ذكره ابن الأثير الجزري أن عليا بن موسى الرضا كان مجدد مذهب الإمامية في المائة الثالثة، فمراده أنه مجدد علمائهم، فإنه كان ينكر ذلك ولا يعترف بما هنالك. وكذا عده أهل المذاهب من المجددين، فإنه مجدد على رأي صاحب المذهب ومستندهم، وإنما هو حسن الطوية بوفور علمه وشيوع أقواله ومؤلفاته في مذهبه، ولكنه من الظنون التي لا تغني عن الحق شيئا. فإن مبدأ التاريخ غير معلوم لأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله يبعث على راس كل مائة سنة من يجدد أمر دينها" من غير تعيين المبدأ،

والتاريخ الهجري إنما وضعته الصحابة في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وحمل علماء الأمة ما ورد من الأخبار بالأمور المستقبلة على ذلك خطأ فاحش. الرابعة والستون: إنهم يذكرون حكايات تدل على حقيقة ما هم عليه وصدق ما ذهبوا إليه، مع أنها أكذوبة صنفوها وخرافة زخرفوها، فعدلوا عن طريق الحق وعالوا عن منهج الصدق، فمن ذلك ما ذكره أهل السير منهم وصححوه: أن حليمة مرضعة النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمت على الحجاج بالعراق وافدة، فألقت نار الغضب في كانون فؤاده زائدة، فقال لها: ما لي أراك فضلت عليا على الشيخين وتعاميت عن الصبح السائح لذي العينين؟ فأطرقت رأسها وحبست أنفاسها ثم رفعته قائلة وعن سنن الإنصاف غير عادلة: هو ورب موسى أفضل من آدم ونوح وإبراهيم وسليمان وموسى وعيسى، فازداد غضبه وترقب عطبه، فقالت حليمة: إن يكن قصدك بالظلم أسكن رمسي، فقم فهذا السيف ودونك رأسي، وإن كنت تبتغي البرهان فهاك أحاديث كالجمان. فقال: بم تفضلينه على آدم وهو أبو البشر والنبي الأقدم المأمور له بالسجود وخليفة الله تعالى

بلا جحود؟ قالت: بما قاله الله تعالى في حقه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ووصف عليا وأثنى عليه في سورة {هَلْ أَتَى} وكذا في آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} وما أحد تصدق بخاتمه سواه. فقال: وبم تفضلينه على نوح وترجحينه وهو الرسول الكريم صاحب السفينة؟ فقالت: لأن زوجة علي فاطمة بنت النبي الجليل وزوجة نوح كافرة كما في التنزيل، فقال: فبم تفضلينه على إبراهيم جد الأنبياء ذوي القدر العظيم؟ فقالت: دعى إبراهيم ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، وقال علي: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا. فقال: وبم تفضلينه على سليمان رسول الرحمن وملك الزمان؟ فقالت: سليمان طلب من ربه الدنيا وملكها الذي هو كسراب فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ

الْوَهَّابُ}، وطلق الأمير الدنيا ثلاثا مبتورة فقال: إليك عني يا دنيا طلقتك ثلاثا لا رجعة بعدها حبلك على غاربك غري غيري لا حاجة لي فيك. فقال: وبم تفضلينه على موسى بن عمران صاحب اللوح والتوراة من الملك الديان؟ فقالت: لأنه فر من فرعون كما قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}، ورقد الأمير ليلة الهجرة على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: وبم تفضلينه على عيسى بن مريم صاحب الإنجيل والرسول الأكرم؟ فقالت: يوم يحشر الناس في موقف الحساب يسأل عيسى النصارى هل عبدوك بقولك فيفتقر عيسى إلى الاعتذار كما قال تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، والأمير لما قالت السبائية: إنه إله غضب عليهم وهددهم حتى اشتهر في مشارق الأرض ومغاربها أنه أظهر البراءة منهم. قال الحجاج: صدقت، وأرضاها وأمر لها بألف دينار، ثم قالت: يا حجاج اسمع نكتة لطيفة وقصة ظريفة، وهي أن مريم لما أخذها المخاض وكانت ببيت المقدس أمرها الله تعالى بالخروج إلى الصحراء كي لا يتلوث بيت المقدس، ولما أخذ المخاض فاطمة بنت أسد أوحى الله تعالى أن ادخلي الكعبة وشرفي بيتي، فانظر هذين المقامين، وتأمل في فحوى هذين الكلامين، فأطرق الحجاج وترك العناد واللجاج. انتهى. وإذا سمعت ما تلوناه عليك وحققت ما نقلناه إليك، فاعلم هديت إلى سواء

الطريق وسقيت [مياه] التوفيق في كاسات التحقيق، أن هذه أكذوبة وقصة أعجوبة، لأن حليمة ما عاشت إلى هذا الزمن بإجماع المؤرخين، بل اختلف في أنها هل أدركت زمن البعثة أم لا، وهل آمنت أم لا. على أن هذه الأدلة المذكورة قشور لا لب لها. وقد ردت بوجوه: الأول: إن تفضيل علي خلاف النصوص القرآنية، فإن المذكور فيها تفضيل الأنبياء على سائر المخلوقات في مواضع شتى. الثاني: إن هذه الاحتجاجات قد عدت فيها زلات الأنبياء وقيست بمناقب الأمير ولم يذكر فيها مجاهداتهم وحسن معاملاتهم، ولو وزن مناقب الأنبياء وكمالاتهم بمناقب الأمير ثم رجح أحد الشقين على الأخر لكان هذا جديرا بأن يسمع وحريا بأن يقبل، وإلا فيمكن إجراء هذه الطريق من الاحتجاج في كل محل، فيقال إن نبي آخر الزمان عاتبه الله تعالى في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} وفي أخذ الفداء من أسارى بدر وترك الاستثناء، وحمد الأمير

في سورة {هل أتى}، فيكون أفضل من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا قائل بذلك ونستغفر الله مما هنالك. وأما ما استدل به من قصة آدم عليه السلام فهو باطل، لأن الآية لا تدل على أنه اقترف ذنبا، لأن المعصية بمعنى المخالفة والغي بمعنى الخيبة. قال المرقش الأصغر: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما والنهي في قوله تعالى: {لا تقربا} للندب، ومن خالف من نهاه عن أمر واجبا كان أو مندوبا يسمى عاصيا، ولهذا يقال نهيت فلانا عن السفر فعصاني وخالفني، وإن لم يكن ما نهى عنه واجبا. وإذا لم يكن التناول من الشجرة ذنبا لم يلزم التفضيل. وتفصيل الكلام في هذا المقام يطلب من كتب التفسير. الثالث: أن المستدل قد تمسك في مقام مفاضلة نوح والأمير بحال الأزواج وهو في معزل، لأن الأمور الإضافية والأوصاف النسبية غير معتبرة في إثبات كمال المضاف إليه ونقصه، وإنما المناط الصفات الحقيقية له، وهذا بين بالضرورة، فتفضيل زوجة رجل آخر غير مستلزم لتفضيل البعل، والاستدلال بذلك حماقة. ألا ترى أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح وزوجة لوط بالإجماع ولا قائل بالفضل. بل زوجة النبي

- صلى الله عليه وسلم - عندهم كافرة، معاذ الله، فيلزم أن يكون الأمير أفضل من محمد عليه السلام، ولا قائل به أيضا. الرابع: أن حديث: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا" موضوع، لا ذكر له بسند في كتاب. وبعد تسليم صحته غير مفيد للتفضيل، فإنه كرم الله تعالى وجهه طلب مقاما لا يناله إلا الأنبياء، وهو مقام المشاهدة، وهو لا ينافي اليقين، كما أن زكريا طلب آية على توليد الابن مع تيقنه به بعد الإخبار من الله تعالى كما لا يخفى. والأمير كرم الله تعالى وجهه لما علم أن مثل هذا المقام لا يحصل له وأنه في مقام لا ينعكس منه إلى مقام الأنبياء قال: لو كشف لي الغطاء، أي عما أعلمه من مقامي ما ازددت يقينا فيه. وله توجيهات عديدة في كتب القوم. الخامس: ما ذكره من مخافة موسى وفراغ بال الأمير مغالطة، لأن الأمير كان يعلم بأنه صبي صغير السن تابع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعداوة الكفار له ليست بالذات والأصالة، فلم يقتله الكفار، فلم يكن له وجه من الخوف أصلا، ومع ذلك أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكن قلبه بأنهم لن يضروك أبدا، ولأن أسباب العداوة من التجاذب والمقاتلة ما كانت متحققة فيما بينهم بعد، وأسباب المحبة من وجود القرابة وملاحظة رئاسة أبي طالب كانت موجودة، مع خوف الانتقام من حمزة

والعباس وأعمامه وإخوانه الآخرين. بخلاف موسى عليه السلام، فإن غالب ظنه على حساب العادة أن فرعون يقتله بدل القبطي، مع أن مشاورة رؤساء القبط في تدبير قتله قد قرعت سمعه برواية المعتبرين، وقد اطمئن قلبه بعدما وعده الله تعالى بالتأييدات والحماية حيث قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، وقال تعالى: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}. ومع ذلك فسطوة فرعون وجنوده معلومة، وكفار قريش بالنسبة إليه كالذرة إلى الفيل. وأقام موسى وأخوه عليهما السلام فيما بينهم أربعين سنة يصدح بما يؤثر ويصدح بما يؤمر، وهو بخلاف الأمين فإنه أقام في خلافة الخلفاء ذليلا حقيرا بزعم الشيعة. السادس: أن ما ذكر من طلب سليمان عليه السلام للملك أي ضرر فيه، وأي نقص يعتريه، بل هو أعلى كعبا من تطليق الدنيا، إذ معه يتيسر من إقامة العدل والإنصاف وإرشاد خلق الله تعالى وهدايتهم ما لا يتيسر من التطليق. ثم تطليق الدنيا لا ينافي طلب الملك، لأن الأمير مع تطليقه الدنيا طلب الخلافة وسعى إليها سعيا حتى وقع القتال وكثر النضال، وما كان مقصوده حب المال والجاه، بل مراده القدرة على قتال من خالف أمر الله وغير ذلك من الأمور الشرعية والمقاصد البهية. فاشترك سليمان والأمير معا، ولكن الفرق بينهما أن سليمان طلب ذلك من الله تعالى بغير أهبة الأسباب الظاهرة والأمير طلبه بالتأهب من جمع الرجال وسفك الدماء والقتال. وأيضا يلزم من كون ترك الدنيا موجبا للتفضيل أن يكون الرهبان وأمثالهم أفضل من سليمان ويوسف والمهدي، معاذ الله من ذلك. السابع: أن ما ذكر في تفضيل الأمير كرم الله تعالى وجهه على عيسى عليه السلام محصله أمران.: أحدهما تعزيره للغالين في محبته ومسامحة عيسى، والآخر سؤال عيسى عن فعله وافتقاره إلى الاعتذار، والأمير غير مسؤول. وفيهما بحث لأن في الأمير كان في زمنه، وفي عيسى كان بعد رفعه إلى السماء على ما قيل.

والذي يظهر من الكتاب المجيد أن الغلو في عيسى كان أيضا قبل الرفع، وكان عليه السلام يزجر القائل بذلك كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. نعم لعل التثليث وقع بعد ما رفع. وأما وقوع السؤال فمعلوم لذكره، وعدم السؤال غير معلوم، ولا يلزم من عدم العلم عدم الوقوع، والمدعى هو هذا. بل في القران ما يشير إلى سؤال الأمير مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}، وهم يبينون أيضا ذلك العذر كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} الآية، بل الملائكة أيضا يسألون، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} ويعتذرون بما حكى الله تعالى عنهم وهو قوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون}. على أن شهادة النبي حجة دون الولي، فالسؤال كمال وهو صفة الأنبياء قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، فهذا يدل على أفضلية عيسى على الأمير، فانقلب الأمر. هذا لو سلمنا ما قالوه. الثامن: أن ما ذكر في ولادة عيسى غلط محض ومخالف للتواريخ، وفي ولادته اختلاف كثير، والمشهور أن ولادته في بيت اللحم، وقيل في فلسطين وقيل في مصر وقيل في دمشق. وما قال أحد من المؤرخين أخذها المخاض في المسجد الأقصى، ولئن سلمنا فمن أين علم أنها أخرجت بالوحي؟ والظاهر أنه لما كان علوق عيسى عليه السلام

من غير أب كرهت واستقبحت إظهار الولادة في الناس، فلا جرم إن ذهبت إلى الصحراء. وما قيل إن فاطمة بنت أسد أوحي إليها: أن أدخلي وشرفي، فكذب صريح لأنه لم يقل أحد من الإسلاميين بنبوتها. فتأمل. والمشهور في ولادة الأمير عندنا هو أن أهل الجاهلية كانت عاداتهم أن يفتحوا باب الكعبة في يوم الخامس عشر من رجب ويدخلونها للزيارة، فممن دخل فاطمة، فوافقت الولادة ذلك اليوم. وعند الشيعة أن أبا طالب لما رآها في شدة الطلق أخذها استشفاء لها فرحمها الله تعالى، فولدت الأمير كرم الله تعالى وجهه فسماه أبوه أبو طالب عليا. وهذه الرواية نسبت في كتبهم إلى الإمام زين العابدين عن زيدة بنت عجلان الساعدية عن أم عمارة بنت عباد الساعدية. وبالجملة لو كانت الولادة في البيت موجبة لتفضيله على عيسى لكانت موجبة لتفضيله على النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا، ولا قائل به. وأيضا قد ثبت في التواريخ الصحيحة أن حكيم بن حزام بن خويلد الذي هو ابن أخ أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قد ولد في الكعبة أيضا،

فلا بد أن يكون أفضل من عيسى على ما زعموا بل أفضل من جميع الأنبياء، وهذا مما لم يقل به أحد، بل لا تخفى شناعته. فتأمل في هذا المقال واستعن بذي العزة والجلال. الخامسة والستون: إنهم يقولون إن عذاب القبر مخصوص بأهل السنة وغيرهم من الفرق غير الإمامية، وأما الإمامية فهم متنعمون في قبورهم حتى العصاة منهم. وهذا الكلام باطل لا أصل له، لأن الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة التي رواها الفريقان عن أهل البيت وغيرهم ناصة عام أن عذاب القبر واقع للكفار وبعض عصاة المؤمنين، والتخصيص من أكاذيب القوم. فقد روى ابن بابويه القمي عن [عمرو] بن يزيد قال: "قلت لأبي عبد الله إني سمعتك وأنت تقول: كل شيعتنا في الجنة على ما كان منهم، قال: صدقتك والله كلهم في الجنة، قال قلت: جعلت فداك إن الذنوب كثيرة كبار وصغار، فقال: إما في القيامة كلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصي النبي، ولكني والله أتخوف عليكم في البرزخ، قلت: وما البرزخ؟ قال: القبر حين موته إلى يوم القيامة. السادسة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة يحبون أعداء أهل البيت، ومن أحب عدو الرجل فهو عن الصداقة بمعزل، قال الشاعر:

قسم ناقص وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يعرف حق عترتي [والأنصار والعرب] فهو أحد ثلاثة: إما منافق وإما لزنية وإما لغير طهور". (¬1) وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول: "أيها الناس من أبغضنا أهل البيت حشره الله تعالى يوم القيامة يهوديا". (¬2) وأخرج الشيخ العارف أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في نوادر الأصول في أخبار الرسول عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: معرفة آل محمد براءة من النار، وحب أهل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب". (¬3) إلى غير ذلك من الأحاديث. السابعة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة من فرط عصبيتهم رجحوا الجبان على الشجاع في الإمامة، لأن أبا بكر كان جبانا، يدل على ذلك قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}، ¬

(¬1) [قال ابن القيسراني في ذخيرة الحفاظ: [فيه] زيد بن جبيرة منكر الحديث.] (¬2) [موضوعات ابن الجوزي] (¬3) [ليس في النوادر. الضعيفة 4917]

والحزن في المواقف دليل الجبن. وكان علي أشجع الصحابة، فهو أحق بالإمامة منه. وهذا الكلام أيضا باطل، لأن وجوب كون الإمام أشجع ممنوع، وكذا كون علي أشجع من أبي بكر. بل هو أشجع منه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشره ليلة أسري به بأن الله تعالى جعله وصيه ووزيره وخليفته، كما رواه شيخكم أبو جعفر الطوسي في الأمالي، أو كان معه ليلة المعراج كما رواه صاحب نوادر الحكمة عن عمار بن ياسر والقطب الراوندي عن جريدة الأسلمي مرفوعا، فاطلع على ما هو المكتوب في اللوح المحفوظ،

وتيقن أنه يعيش بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يكون خليفته بعده، وأنه يقتله ابن ملجم المرادي، وأنه لا يموت إلا باختياره، فكان إذا دخل الحرب ولاقى العدو لا يختار موته ويعلم أنه لا يتمكن الخصم من قتله؛ بخلاف أبي بكر، فإنه كان إذا لاقى العدى لا يدري هل يقتل أم لا. ولا شك أن من يدخل الحرب ولا يدري أمره ويقاسي من الشدائد والمحن ما يقاسي أشجع ممن يدخلها كأنه بات على فراشه لا يخاف أحدا ولا يخشى. وقد ثبت عن محمد بن عقيل بن أبي طالب أنه قال خطبنا علي فقال: "أيها الناس من أشجع الناس؟ فقلت أنت يا أمير المؤمنين، قال: ذلك أبو بكر الصديق، إنه كان يوم بدر وضعنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - العريش فقلنا: من يقوم عنده لا يدنو عليه أحد من المشركين، فما قام عليه إلا أبو بكر وإنه كان شاهر السيف على رأسه، فكلما دنا عليه أحد هوى إليه أبو بكر بالسيف. الثامنة والستون:

إنهم يقولون إن أهل السنة ينسبون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يخل بعلو قدره وعلو شرفه، حيث ثبت عندهم في الصحيح أن عائشة قالت: "كنت ألعب بالبنات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فكيف يرضى بذلك وبيته محل العبادة ومهبط الوحي والروح الأمين ومتردد الملائكة المقربين في كل وقت وحين، وقد ثبت عندهم أن الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة مجسمة أو تماثيل، ويروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما رأى صورة إبراهيم وإسماعيل في الكعبة محاها. فنقول لا نسلم أن كون تلك البنات كانت مصورة بصورة إنسان، فإنها ربما تصنع من غير صورة بأن يقطع من كرباج قطعة مثل دائرة كالقوارة ويجعل في وسطها قطعة ملفوفة كالبندقة، ويجمع أطرافها وتشد البندقة بخيط فيصير ما فوق العقدة كرأس إنسان وما تحت جسده من غير يد ورجل ثم يجعل عليه خمار. وعلى فرض كونها مصورة فيحتمل أن يكون ذلك قبل التحريم. وكذا العلم بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، فإن ذلك كان في بدء الأمر حين بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعائشة،

قسم ناقص ذلك يطعنون على أهل الحق ما أعمى الله تعالى بصائرهم عن حقيته، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}. التاسعة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة يروون في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ينبئ عن قلة الغيرة ورداءة الطوية، من ذلك ما رووه عن عائشة أنها قالت: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد"، فإن هذا الأمر لا يرضى به من له أدنى غيره وأقل حمية، ومع ذلك إن اللعب من الأمور المنكرة ولا سيما إذا كان في المسجد، فكيف يرضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك وهو أغير الناس وأشدهم نهيا عن المنكر. وهذه مكيدة عظيمة ربما اغتر بها بعض القاصرين ومن كان في قلبه مرض وصد

عن إدراك اليقين، وأما من نظر بعين بصيرته وجانب الهوى وشبهته فلا يلتفت إلى مزخرفات الأقوال ولا ينخدع بشبه أهل الضلال. فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن حينئذ مكلفة، ووجوب منع الغير مكلفة عن أمثال هذه الأمور ممنوع. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذهب ببعض نسائه في الغزوات، وكان النساء ينظرن إلى الرجال ولا يتحجبن عنهم قبل نزول آية الحجاب. ونزولها كان بعد أن نكح النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش كما رواه أبو داود والدارمي وغيرهما. ولعب الحبشة كان بالحراب، واللعب به كالرمي من عدد الحرب، فصار بالقصد عبادة. وزجر عمر رضي الله تعالى عنه من لعب به لظنه أنه من جملة اللعب الحرام، وذلك قبل أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه سكت. ولا نسلم أن تقريره غير البالغة على النظر قبل النهي ينافي الغيرة، والنهي عن النظر إنما ورد بعد الأمر بغض الأبصار، وكان ذلك بعد مدة من تلك الواقعة. وقد ثبت عند هؤلاء الفرقة الضالة ما يروونه عن أبي عبد الله لصحبه أن "خدمة جوارينا لنا وفروجهن لكم". وهذا ينافي الغيرة ولا يرضى به السوقة الأوباش، ولكن من يضلل الله فلا هادي له. السبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يفترون على النبي - صلى الله عليه وسلم -

ويقولون إنه قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"، مع أن الأنبياء معصومون عن الكذب بالاتفاق. وهذا القول باطل، لأن المراد بالكذب التعريض وليس المراد حقيقته، فسماه كذبا لأن المعاريض شبيهة بالكذب في إرادة ما ليس بمطابق للواقع، أو المراد به الكذب بحسب الظاهر، والمعنى لم يتكلم بما هو كذب بحسب الظاهر إلا ثلاث كلمات. فقوله {إِنِّي سَقِيمٌ} إما مجاز بالمشاركة وإما مرض لا يبدو أثره في الظاهر. وقوله: {هَذَا رَبِّي} بزعمكم، فإن قومه كانوا صابئين. وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} تهكم. ولأنه قد ثبت عندهم أن قوله إني سقيم كان كذبا، وإنما قال ذلك تقية. فإذا جاز كونه كذبا جاز أن يكون كلا القولين الآخرين كذبا لمصلحة دينية،

كإفحام عبدة الكواكب وإبطال عقيدتهم الزائفة، وإبداء فساد مذهبهم بأبلغ وجه. هذا وفي مرويات هؤلاء الفرقة ما ينص على [اعتذار] بعض الرسل عما أوحى الله تعالى إليه واتصافه بالحسد وارتكاب بعضهم ذنبا كان الموت عليه هلاكا، كما سيجيء إن شاء الله تعالى في مباحث النبوة. فالطعن على أهل السنة بما هو معتقدهم وقاحة وصلافة ظاهرة. نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة. الحادية والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يفضلون عمر على الانبياء، حيث ثبت في الكتب الصحيحة عندهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: "إن الشيطان يفر من ظل عمر"، مع أنه لم يفر من آدم وهو في الجنة محفوف بالملائكة، ولا من موسى حيث قتل القبطي وقال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، ولا من أيوب حتى مسه {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}، ولا من الأنبياء والرسل حتى ألقى في أمنيتهم إذا تمنوا. وهذه مكيدة عظيمة تزل بها أقدام الجهلة ومن ليس له رسوخ في العقائد الدينية. وأما من له أدنى حظ معرفة العلم ويعرف أن المراد من الحديث ليس للشيطان عليه سلطان، لكنه - صلى الله عليه وسلم - كنى ذلك بما قال لأن الكناية أبلغ من التصريح، ولأن كثيرا ما يعبر عن شدة الخوف بالفرار. قال عز من قائل: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}. والشيطان يخاف من الأنبياء أيضا.

وهو لم يوسوس لآدم ابتداء، وإنما وسوس لحواء وحواء وسوست لآدم؛ وإنما نسبت الوسوسة للشيطان لأنه السبب، أو لأن الله تعالى شجعه على ذلك وأزال الخوف عنه ومكنه من دخول الجنة ونهى الخزنة عن منعه من دخول الجنة لحكم ومصالح يعرفها من يعرفها، وإن كان الأصلح أضداد ذلك، فإنه يجوز ترك الأصلح لمصلحة، صرح به صاحب الكشاف من المعتزلة والمقداد وغيره من الإمامية. وقول موسى عليه السلام إنه {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} لا يدل على ذلك، لأن المشار إليه استصراخ الإسرائيلي المهيج لغضبه، أو عمل القبطي المقتول من عمل الشيطان، وهو ظلمه للقبطي وإيذاؤه له أو كفره وخلافه لله تعالى بذلك عن استحقاقه للقتل. وقوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} إنما هو على سبيل الانقطاع والرجوع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير في أداء حقوق خدمته وشكر نعمته وإن لم يكن هناك ذنب. وقوله: {فَاغْفِرْ لِي} أراد به تقصيري في حقوق نعمتك. ولأن قتل القبطي كان قبل بعثته وهو [لا] يعلم أنه يبعث نبيا. وأن من يبعث نبيا لا يمكن للشيطان منه. وأما قول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فالمراد أن الشيطان يستفزه ويوقعه في الألم، وذلك لأنه يوسوس إلى قومه أن يبعدوه ويجنبوه لما كان عليه الأمراض المؤلمة فأخرجوه من البلد فزاد مرضه ونصبه، واللعين لم يزل يوسوس لزوجته بأن تبعد عنه ولا تباشره، وكانت تخدم قومه وتأخذ الأجرة منهم وتهيئ به مأكل زوجها ومشربه، ويوسوس أيضا لقومه أن لا يخدموا زوجته فإنها تباشر قروحه وتمس جلده، فهذه مضار ظاهرة، فأضاف إلى الشيطان ما فعل من الوسوسة.

وأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، فالمراد من الأمنية القراءة، والمعنى: وما من برسول ولا نبي إذا قرأ كتاب الله تعالى [إلا] ألقى الشيطان في قراءته ودس في كلامه محاكيا صوته ما يوافق عقيدة الكفرة ويسمعهم، ولا يقرب النبي بل يدنو من الكفار. وأيضا فإن الشيعة قد اعترفت بان الآيات المذكورة على ظاهرها فلا مطعن فيها حينئذ. والكلام عل هذه الآية طويل ألف فيه رسائل مفصلة، وأحسن من كتب في ذلك تقي الدين ابن تيمية رحمه الله. الثانية والسبعون: إنهم يطعنون على أهل السنة بما يروونه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: دخلت الجنة فسمعت حس نعلي بلال مولى أبي بكر، ويقولون: إن هذا الكلام يدل على تفضيل مولى أبي بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن السابق أفضل من المسبوق. وهذه مكيدة لا يخفى بطلانها على أحد فضلا عمن جد في العلم واجتهد، فإن السابق كثيرا ما يكون مفضولا. ألا ترى أن العبد يسبق مولاه إلى الرياض والقصور التي

بناها لسكناه. والسبق الموجب للفضل هو الدخول في دار الثواب للجزاء يوم القيامة، فإن الملائكة كانوا يدخلونها قبل الرسل، ودخلها إدريس قبل أولي العزم من الرسل، وكان إبليس يدخلها قبل خلق الرسل وقبل خلق آدم. ولأن الفضل لمن دخل الجنة في اليقظة بجسده دون من دخل بروحه، فإن الذين قتلوا في سبيل الله دخلوا الجنة ورزقوا من نعيمها قبل من هو أفضل منهم من غير نكير. لأن الحق كما يدل عليه سياق الأخبار أن الله تعالى أرى نبيه - صلى الله عليه وسلم - صورا مثالية من أمته ممن خلق ومن لم يخلق في الجنة ليعلم درجاتهم ومنازلهم فيها، فأراه مرة منزلة بلال وغيره من فقراء أمته وأغنيائهم. فقد أخرج الطبراني عن أبي إمامة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت إلى أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم، ونظرت في أسفلها فإذا فيهم الأغنياء". وأراه مرة أخرى منازل بعض الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم. الثالثة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نظر عشية يوم عرفة فتبسم وقال: "إن الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وباهى بعمر خاصة"، (¬1) وهو يوجب التفضيل. وذلك يدل على أنه تعالى كان يباهي بعمر ويدع نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة. والجواب أنه ليس في الخبر ما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان في العامة، ¬

(¬1) [الضعيفة 3054]

وعدم ذكر المباهاة به خاصة لا يدل على نفيها، لأن المراد بالعباد أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، والغرض من ذكرها بيان فضلهم واختصاص عمر لفضيلة استحق بها المباهاة خاصة. والاختصاص بفضيلة لا يوجب التفضيل. ولأنه يحتمل أنه تعالى باهى به - صلى الله عليه وسلم - خاصة إلا أنه لم يذكره. ولأن الغرض من المباهاة إبداء فضل من أراد من المؤمنين للملأ الأعلى، وكان - صلى الله عليه وسلم - مستغن عن ذلك فإنهم كانوا يعرفونه بأنه كان أفضل الخليقة وأكرمهم عند الله تعالى. وأقول: قد تقرر في الأصول أن المتكلم يكون خارجا عن عموم كلامه، وإلا لزم كونه تعالى مقدورا ومخلوقا بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، تعالى الله عن ذلك. على أن المباهاة به مرجعها إلى المباهاة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث إنه من أصحابه وأحد اتباعه. الرابعة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة ينسبون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يخل بعلو قدره، من ذلك ما رووا في كتبهم الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أتى سباطة قوم فبال واقفا وتوضأ". نقول نعم إنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لضرورة دعته إليه، فقد أخرج الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال: "إنما بال قائما لجرح كان في مأبضه". ولأن كل ما يفعله فهو تشريع لجوازه. ولا قبح في البول قائما لا عقلا ولا عرفا.

ويا للعجب من هؤلاء الفرقة الضالة كيف يطعنون على أهل السنة بما لا طعن فيه عند أولي الأبصار، ومع ذلك ينسبون إلى الرسل ما لا تتقبله عقول الأخيار. وقد ذكر المرتضى وغيره من علماء الإمامية أن الخبر متى وجد له محمل صحيح لا يرد. فالحكم ببطلان الحديث بمثل هذه الشبهات مع أن له محملا صحيحا طعن في الدين واتباع للملحدين. الخامسة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون اللعب بالشطرنج والغناء. وهذه المكيدة كذب وافتراء وزور على علماء أهل السنة الأمناء. أما اللعب بالشطرنج فإنه حرام عند أبي حنيفة ومالك وأحمد على الصحيح. وورد في حرمته أحاديث وأثار صحيحة. وعند الإمام الشافعي مكروه في القول القديم، بشرط عدم إخراج الصلاة عن وقتها وعدم الإخلال بحفظ الواجبات بواسطة الاشتغال به وأن يخلو عن القمار وأن لا يصير سببا للنزاع والكذب وأن لا تكون آلاته بصورة بصورة الحيوانات، فإن فقد من هذه الشروط صار حراما وبالإصرار يصير كبيرة؛ كذا في الإحباء. وقد صح عن الإمام الشافعي أنه رجع إلى قول الأئمة الثلاثة، نص عليه

الإمام أبو حامد الغزالي. واللعب مطلقا حرام عند أهل السنة، إلا ملاعبة الرجل أهله وتمرين فرسه والرمي بالقوس. والإمامية يجوزون اللعب في المذاكير في الصلاة التي هي موطن المناجاة مع باري النسمات، كما ذكر الطوسي فيه التهذيب وغيره من علماء الإمامية. وأما الغناء فهو حرام عند الأئمة الأربعة. وأساطين المشايخ وأهل الله لم يسمعوا الغناء ولا رغبوا إليه. قال سيد الطائفة الجنيد البغدادي قدس سره: الغناء بطالة. وقال الشيخ أحمد الشهير برزون: السماع حرام كالميتة. وإنما كانوا يسمعون من الإنشاد في بعض الأحيان عند القبور برفع الصوت والترنم والحداء من غير تلحين وأنغام موسيقية، فإن سماع الأشعار بحسن الصوت لم يرو منعه، بل هو جائز بشرط أن لا يكون من أمرد يخشى النظر إليه الفتنة أو امرأة غير محرم، وأن لا يكون في شيء من اللهو واللعب. وأما أن تكون الأشعار في ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار وذكر العبادات والتشويق في الخيرات، أو يكون فيه من ذكر والهجر والوصل مما يقرب حمله على أمور الحق سبحانه من تلون أحوال المريدين ودخول الآفات على الطالبين. وإن أردت الوقوف على تفصيل هذا المقام فارجع إلى كتاب الغنية للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وكتاب كف

الرعاع عن محرمات اللهو والسماعة للعلامة ابن حجر (عليه الرحمة). وقد ذكر شيخ الرافضة الشهير بالشيخ المقتول في كتابه الدروس أنه يجوز الغناء في العرس بشروط، فلا مطعن لمن جوزه لما سنح له من دلائل إباحته، والشروط هي أن يكون المسمع امرأة وأن لا يكون رجلا وأن لا يكون الشعر في الهجاء وأن لا يكون كذبا، كذا في شرح القواعد. مع أن السماع من المرأة أقبح. فانظر إلى هذه المناقضات وما أبدوا من فاسد الاعتراضات. السادسة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون الوضوء بالنبيذ وهو ماء مقيد، والقرآن ينص على الماء المطلق، قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}. والجواب أن الوضوء بالنبيذ وهو الماء الذي فيه تمرات مخدوشة حتى يأخذ الماء حلاوتها لا يجوز عند مالك والشافعي وأحمد. واختلفت الروايات عن أبي حنيفة، ففي رواية يتوضأ به ولا يتيمم إذا لم يجد المصلي [إلا] نبيذ التمر وكان رقيقا كالماء ولم يشتد ولم يكن

مسكرا، فإذا صار لا يجوز به الوضوء اتفاقا، ولا مطبوخا، فإن الوضوء بالمطبوخ منه مطلقا لا يجوز، لأن النار غيرته لحديث ليلة الجن. وعن أحمد والترمذي وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي وعبد الرزاق في جامعه وغيرهم عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ليلة الجن: "هل لك من وضوء؟ قلت: لا، قال: فما في إداوتك؟ قلت: نبيذ تمر، قال: تمرة حلوة وماء طيب. فتوضأ وتيمم". وهو قول محمد. وروى نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة أنه يتيمم ولا يتوضأ، وهو قول أبي يوسف وفي خزانة المفتين، وهو الأصح وعليه الفتوى للآية. وقد جوز جمع من الشيعة الوضوء من ماء الورد مع أنه ماء مقيدا. فيا للعجب أنهم

جوزوا الوضوء من ماء كر بال فيه الكلب واستنجى به جمع ولو ظهرت فيه أجزاء النجاسة وزادت على أجزاء الماء، وكذا أباحوا الشرب منه، ومع ذلك يطعنون على أهل الحق بسبب الوضوء بالنبيذ عند فقد الماء المطلق، مع صحة وروده عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد أحسن من قال فيما يناسب هذا الحال: ألا أيها اللائمي في خليقتي ... هل النفس فيما كان منك تلوم فكيف ترى في عين صاحبك القذى ... وتنسى قذى عينيك وهو عظيم السابعة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة أباحوا اللواطة بالعبيد وأسقطوا الحد عن اللائط مع أن اللواطة أفحش من الزنا وأقبح منه. وهذه المكيدة محض افتراء على أهل السنة. أما اللواطة بالعبيد فقد أجمعوا على حرمتها ورووا أحاديث كثيرة عن ذلك. منها ما رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط.

وما روى الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها"، قال المنذري هو صحيح الإسناد. وما روى الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة وابن حبان في صحيحه والنسائي والبيهقي عن ابن عباس أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ملعون من عمل عمل قوم لوط" ثلاثا. إلى غير ذلك من الأحاديث. وأما الحد فقد اختلف الفقهاء في موجبه، فذهب الشافعي ومن تبعه إلى أن اللواطة زنا فيحد اللائط حد الزنا، وذهب أبو حنيفة ومن تبعه إلى أن اللواطة ليست بزنا لأنها لم يعهد لها حد ولم يثبت من أهل اللغة إطلاق الزنا على اللواطة وشاع الفرق بينهما في العرف، يقال هذا زنا، وليس بلواطة، ولواطة ليس بزنا، وهو لوطي ليس بزان، وزان

ليس بلائط. قال أبو نواس: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء وقال أحمد بن أبي نعيم: قاض يرى الحد في الزنا ... ولا يرى على من يلوط من بأس فإذا كان الأمر كذلك لا يثبت فيه حد الزنا. ولذا اختلف الصحابة في موجبه، فقال بعضهم: أرى أن يحرق بالنار. وقال ابن عباس: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى منه منكسا ثم يرمى بالحجارة. وقال [ابن الزبير]: إنهما يحبسان في أنتن المواضع حتى يموتا نتنا. فلو كانت اللواطة زنا لم يختلفوا في موجبها، فإنهم أهل اللسان فصحاء.

وظاهر الكتاب يدل على أن موجب اللواطة غير الحد، قال تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}، فإن المراد بالفاحشة اللواطة لتثنية الضمير وتبيينهما بمن المتصلة بضمير الرجال واشتراكهما في الأذى والتوبة والإعراض وهو مخصوص بالرجال. وحكم النساء الحبس كما في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}. والفاحشة لا تختص بالزنا حتى يكون إطلاقها على اللواطة ناصا على أنه الزنا، فإن الفاحشة هي الفعلة المتناهية في القبح. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}، وكون اللواطة أفحش من الزنا ممنوع، بل كلاهما فاحشة، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}. الثامنة والسبعون: إن أسلافهم كانوا يكثرون التردد إلى أئمة أهل البيت ويأخذون عنهم الفقه والحديث ليغتر بهم من يراهم، فيزيدون في الدين وينقصون افتراءً على الأئمة الأطهار، قصدا إلى إضلال الناس. ومن أشدهم كيدا وأعظمهم فتنة وأكثرهم سعيا في تلبيس الحق بالباطل: هشام بن الحكم الأحول وهشام بن سالم الأحول الملقب بشيطان الطاق وزيد بن جهم الهلالي ومرارة بن أعين والحكم بن عتيبة و [ابن] عروة التميمي، الذين

يدعون الرواية عن الإمام السجاد وابنه الباقر وحفيده الصادق، وعمن أتى بعدهم إلى آخر حياة أبي محمد بن الحسن، فإنهم أظهروا للمسلمين فرط محبتهم لأهل البيت وأكثروا التردد إليهم وواظبوا على خدمتهم وصحبتهم، فرووا حينئذ الأكاذيب المموهة والأحاديث المزخرفة في الأحكام الشرعية الأصولية والفروعية، ونسبوا إلى الأئمة بغض الصحابة وأمهات المؤمنين، ورووا عنهم في مدح الشيعة ما يضيق عنه نطاق الحصر، مع أن الأئمة الأطهار رضي الله تعالى عنهم كانوا يظهرون البراءة من هؤلاء الرواة ويقدحون في عقائدهم الزائغة، كما رواه الكليني وغيره من الإمامية عن أئمة الهدى، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. وكان الإمام الأجل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم يقول لهشام الأحول: "ألا تستحي فيما تقول عن أبي ما هو بريء منه"، حتى قال الأحول له يوما: إنك لست بإمام وإنما الإمام بعد أبيك أخوك محمد، فقال: "يا أحول إن أبي يعلمك مسائل الدين ولا يعلمني وهو يحبني حبا شديدا حتى كان يبرد الطعام ويجعله في في لئلا أتأذى من حره، فكيف يرضى أن أدخل النار، هذا لا يكون

أبدا". رواه الكليني وغيره من الإمامية. وكان من هؤلاء القوم جمع من الزنادقة الذين كان قصارى بغيتهم وغاية مطلبهم إلقاء العداوة بين المسلمين. وكان من أخبث الزنادقة الذين يدعون الناس إلى مذهب الرافضة في زمن موسى بن جعفر وخلافة الرشيد إسحاق بن إبراهيم الملقب بديك الجن الشاعر، وكان لا يثبت صانعا ولا يقر ببعث ولا نبوة ويقع في الإسلام وأهله، ومع ذلك يظهر الإسلام ويؤيد مذهب الرافضة، وكانت الرافضة يعدونه من نقبائهم، كما ذكره شيخهم محمد بن محمد بن النعمان الملقب عندهم بالمفيد شيخ أبي جعفر الطوسي والمرتضى وتلميذ ابن بابويه القمي في كتاب المثالب والمناقب. وآخر هؤلاء القوم جماعة ادعوا السفارة بين محمد بن الحسن وشيعته، وأول من ادعى صحبة الأئمة من هؤلاء الغواة والرواية عنهم: هشام الأحول وهشام بن سالم وشيطان الطاق، وهؤلاء ومن نحا نحوهم كأبناء أعين وغيرهم من المنافقين الذين كانت قصارى أمنيتهم إيقاع ثلمة في الدين يفترون على أهل البيت ما هم براء عنه، كما سيجيء إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي.

الفصل السابع في بيان أسلاف الرافضة

هامش الفصل السابع في بيان أسلاف الرافضة اعلم أن أسلاف الرافضة طبقات متعددة. الطبقة الأولى: المنافقون، ومقتداهم عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أخفى اليهودية وأظهر الإسلام، وقد كفّر الصحابة من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ودعا الناس إلى الرفض، ثم إلى الوصية لعلي بن أبي طالب، كما سبق أول الكتاب. فهو قدوة جميع الرافضة وأسوتهم. ولذا كثرت فيهم خصال اليهود، من الكذب والافتراء وكثرة البهتان وسب العلماء ولعن الصلحاء وفرط العداوة لأهل الحق والنفاق. أما الكذب: فإن كل يهودي أكذب من مسيلمة، وكذلك الرافضة فإن فيهم من

الكذب ما ليس في غيرهم من الفرق الهالكة. وكان المرتضى الذي لقبوه بعلم الهدى أكثرهم كذبا، وقد سبق أنه ألف بعض الكتب ونسبه إلى امرأة تارة، وإلى يهودي مرة أخرى. وكان شيخه صاحب الرقعة المزورة أكذب منه، ولم يستح هو ولا ابن بابويه من الافتراء على الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأما الافتراء: فإن اليهود أكثر الناس افتراء، وقد افتروا على عيسى بن مريم وأمه وحواريه ما هم براء عنه. وأما كثرة البهتان: فإن اليهود أكثر الباهتين. والرافضة توازيهم فيه، فإنهم يفترون على أهل الحق ما لا يحيط به نطاق الحصر. وأما سب العلماء ولعن الصالحين: فإن اليهود يسبون عيسى روح الله ورسوله وأمه الصديقة وأصحابه البررة ويلعنونهم. وكذا الرافضة يسبون أمهات المؤمنين، والمهاجرين والأنصار من الصحابة الأنصار، وأمير المؤمنين وأولاده الأخيار -كما يجيء إن شاء الله تعالى- ويلعنون بعض كبراء أولاد الأئمة ممن يفترون عليه أنه ادعى الإمامة ولم يكن إماما، وكان الإمام أخاه، كجعفر بن موسى بن جعفر الصادق، الذي لقبوه بالكذاب، وكان من الأولياء الأمجاد ومن كبار علماء أهل البيت، وقد أخذ عنه الطريقة أبو زيد

البسطامي، بعد أن خدمه أكثر من عشرة أعوام. وما اشتهر بين الناس أنه أخذ عن جعفر الصادق فغلط، والصواب ما قدمنا. وكجعفر بن الحسن العسكري، وكان أيضا من عباد الله الصالحين. وأما فرط العداوة لأهل الحق: فإن اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا. وكذلك الرافضة أشد الناس عداوة للصحابة ولأكثر أمهات المؤمنين وأهل البيت ولجميع أهل السنة. وأما الأضغان والحقد: فإن اليهود أشد أعداء الله حقدا على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وأمه وحواريه، وعلى خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام وأصحابه الأعلام وسائر المسلمين الكرام. وكذلك الروافض، فإنهم أكثر الفرق الهالكة حقدا على أهل الحق وأسلافهم السادة الأمجاد، القامعين بألسنتهم وأسنتهم أهل الزيغ والفساد. وأما النفاق وإبطان الباطل وإظهار الحق: فإن جمعا من اليهود قبل الإسلام كانوا يبطنون اليهودية ويظهرون النصرانية، ولما ظهر الإسلام كانوا يخفون اليهودية ويظهرون الإسلام، وأكثرهم يظهر من العقائد خلاف ما يبطن. وكذلك الرافضة، فإنهم يبطنون الرفض ويظهرون الحق، فإن التقية عندهم واجبة، وقولهم إن التقية إخفاء الحق وإظهار الباطل، فمنشؤه عمى بصائرهم، ودون

إثباته خرط القتاد. فإن كل منافق يزعم ذلك. الثانية: القائلون بالحلول، كبنان بن سمعان، وكان من علماء الإمامية. الثالثة: المجسمة الذين يقولون إن الله تعالى جسم، كالهشامين، وشيطان الطاق، والميثمي، وجماعة أخرى من علماء الإمامية، كما رواه الكليني في الكافي. وكان من هؤلاء القوم من يظهر التشيع ويبطن الكفر كما سبق. الرابعة: الذين يقولون: إن الله تعالى صورة، كالحكم وابن السالم وصاحب الطاق والميثمي، وغيرهم. الخامسة: الذين يقولون: إن الله تعالى أجوف إلى السرة والباقي مصمت، كابن

سالم والميثمي. السادسة: الذين أثبتوا الجهل له تعالى في الأزل، كزرارة بن أعين وبكير بن أعين وابن الحكم وشيطان الطاق وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم، وغيرهم. السابعة: الذين يقولون: إن صفاته تعالى مخلوقة، كابن أعين وأخيه بكير وجماعة. الثامنة: الذين يزعمون أن له تعالى مكانا، كالهشامين وصاحب الطاق. التاسعة: الذين يزعمون أنه تعالى في جهة، كالأحولين وشيطان الطاق والميثمي. العاشرة: الذين يقولون: إنه تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد تكونها، كزرارة وشيطان الطاق وجماعة. الحادية عشرة: الذين كانوا يدعون أنهم من خيار شيعة أمير المؤمنين وخلص أحبته ومع ذلك يعصونه ولا يسمعون قوله ولا يجيبون دعوته ويخالفون أمره، وكان أمير المؤمنين لا يصدق قولهم ويشتكي منهم كثيرا، كما يدل عليه كلامه. فمن ذلك ما كتبه إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر: "أما بعد: فإن مصر قد

فتحت، ومحمد بن أبي بكر قد استشهد، فعند الله نحسبه ولدا ناصحا وعاملا كادحا وسيفا قاطعا وركنا رافعا، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة ودعوتهم سرا وجهرا وعودا وبدءا، فمنهم الآتي كارها ومنهم المعتل كاذبا ومنهم القاعد خاذلا، أسأل الله تعالى أن يجعل منهم فرجا عاجلا، فوالله لولا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة وتوطيني نفسي على المنية، لأحببت ألا ألقى مع هؤلاء يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا". ومن ذلك قوله في خطبة خطبها حين بلغه أن سفيان بن عوف -من أمراء معاوية- وردت خيله الأنبار وقابل من كان هناك من رعيته: "والله يميت القلب ويجلب الهم ما نرى من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا، حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم، وتفرون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم هذه كحمارة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء، قلتم هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السيف أفر،

يا أشباه الرجال ولا رجال، لكم حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم وأعرفكم معرفة". ومن هذه الخطبة أيضا، "قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهام أنفاسا، فأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل أحد أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذرفت على الستين، لكن لا رأي لمن لا يطاع". ومن ذلك قوله في خطبة أخرى: "أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، يقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، دفاع ذي الدين المطول". ومن ذلك قوله في هذه الخطبة أيضا، "المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الباخس، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل، وأصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، وما أوعد العدو بكم".

ومن ذلك قوله في خطبة أخرى له في استنفار الناس إلى أهل الشام: "أف لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا عن الآخرة عوضا؟ ومن الذل عن العز خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد أعدائكم دارت أعينكم كأنكم، من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، يرتج عليكم حواري فتعمهون وكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، ما أنتم بركن يمال بكم، ولا زوافر عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، بئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم، تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم ولا تمتغضون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون". ومن ذلك قوله في خطبة أخرى له: "منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنتصرون بنصركم ربكم، لا دين يجمعكم، ولا حمية تحميكم، أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوثا، فلا تسمعون إلي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثار، ولا، يبلغ منكم مرام، دعوتكم إلى نصر إخوانكم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأشر وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما. يساقون إلى

الموت وهم ينظرون". ومن ذلك قوله في ذم أصحابه أيضا: "كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة، والثياب المتداعية، إن حيصت من جانب تهتكت من جانب آخر، وكلما أطل عليكم منسر من مناسير الشام أغلق كل رجل منكم بابه، وانحجر انحجار الضبة في جحرها، والضبع في وجارها". ومن ذلك قوله أيضا: "من رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل، إنكم والله لكثير في الباجات، قليل تحت الرايات". وقد ذكر هذه الخطب صاحب نهج البلاغة في النهج، وكذا غيره من الإمامية وغيرهم. وقال علي بن موسى بن طاوس سبط محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة: "إن عليا كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة فما أجابه إلا رجل أو رجلان، فتنفس الصعداء وقال: أين يقعان؟ "، ثم قال ابن طاوس: "هؤلاء خذلوه مع اعتقادهم فرض طاعته وأنه صاحب الحق وأن الذين ينازعونه على الباطل، وكان رضي الله تعالى عنه يداريهم ولكن لم تجده المداراة نفعا". وقد سمع قوما من هؤلاء في مسجد الكوفة ينالون منه ويستخفون به، فأخذ بعضادتي الباب وأنشد قول كثير متمثلا به:

هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت يئس منهم حينئذ ودعا عليهم. الثانية عشرة: الذين دعا عليهم أمير المؤمنين بقوله: "قاتلكم الله". الثالثة عشرة: الذين ينكرون ما هو الحق عند جماهيرهم في تعيين الإمام وعدد الأئمة، كالناؤسية وغيرهم ممن تقدم ذكرهم. الرابعة عشرة: الذين نهى الصادق وغيره من الأئمة عن متابعتهم ودعا عليهم وأظهر التبري منهم، كهشام بن الحكم وهشام بن سالم وصاحب الطاق وزرارة، كما رواه الكليني عن غير واحد من الأئمة. الخامسة عشرة: الكذابون من رواة الآثار، كابن عياش الذي اعترفوا بأنه كذاب، وابن بابويه صاحب الرقعة من المتقدمين، والمرتضى من المتأخرين. السادسة عشرة: الذين آذوا سبط المصطفى وابن البتول -صلى الله تعالى

على جده وعلى أمه وعليه- بالقول والفعل، وخرجوا عليه، وأخذوا المصلى من تحته، وجنحوا إلى معاوية ونصروه، وحملوه على المحاربة والاستعداد لها، طمعا في الدنيا، وكانوا هؤلاء شيعته وشيعة أبيه، كما ذكر ذلك المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة، وكتب رؤساؤهم إلى معاوية سرا، وحثوه على سرعة المسير نحوهم، وتعهدوا له بالتسليم عند دنوه منهم والفتك بالإمام، كما ذكر في الفصول من كتب الإمامية. السابعة عشرة: الذين كاتبوا السبط الشهيد الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه وهم أكثر أهل الكوفة، فقد كتبوا إليه كتبا عديدة في توجهه إلى طرفهم، فلما قرب من ديارهم مع الأهل والأقارب والأصحاب وأخذت الأعداء تؤجج نيران الحرب في مقابلته وآل الأمر إلى القتال خانه هؤلاء الفئة الضالة ولم ينصره أحد منهم مع كثرتهم، بل رجع أكثرهم مع الأعداء خوفا وطمعا، وكانوا سببا لشهادته وشهادة كثير ممن معه، وآذوه أكثر ممن آذى الأنبياء من الكفار، حتى مات الأطفال والصبيان الرضع عطشا، وأطافوا أهل البيت النبوي وذوات الخدر من الطاهرات العابدات القانتات في البلاد والقرى والفلوات، إلى غير ذلك من الأمور التي منها السماء تمور والقبائح التي تنكسر أسنان القلم عند ذكرها ويسود وجه القرطاس لدى سطرها.

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في نشر الخلائق تنفخ لابد أن ترد القيامة فاطم وقميصها بدم الحسين ملطخ فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. الثامنة عشرة: من لا يثبت صانعا ولا يقر بنبوة ولا حشر ولا نشر، ويقع في الإسلام وأهله، كديك الجن ومن تبعه. التاسعة عشرة: من يظهر الإسلام وهو من النصارى، كزكريا بن إبراهيم النصراني وغيره. العشرون: من كذبه الصادق، وقال: "إنه يفتري علينا أهل البيت ويروي عنا الأكاذيب" كبيان المكنى بأبي أحمد، وغيره ممن تبعه. الحادية والعشرون: من لم يوحد الله تعالى، وخالف الأئمة في العقيدة، كهشام بن سالم والميثمي وصاحب الطاق وغيرهم ممن ادعى أنه من خلص أصحاب الأئمة. روى الكليني عن إبراهيم بن محمد الخراز ومحمد بن حسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا

وقلنا: إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: "إن الله تعالى أجوف إلى السرة والباقي صمد"، فخر لله ساجدا ثم قال: "سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك". الثانية والعشرون: من يروي عن الأئمة في التوحيد ما هم براء عنه، كهشام بن الحكم، يروي عن الباقر والصادق أنه تعالى جسم. روى الكليني عن علي بن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله: "سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم، أن الله تعالى جسم صمدي نوري، معرفته ضرورية، يمن بها على من يشاء من خلقه، فقال: سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو! ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا يحس ولا يجس ولا يحيط به شيء، وليس بجسم ولا بذي صورة، ولا به تخطيط ولا تحديد". ومنهم من كذب بعض الأئمة في دعوى الإمامة، كبعض أصحاب الكاظم والرضا. ومنهم غير من ذكرنا مما يطول الكلام باستيفائهم. فهؤلاء القوم أسلاف الرافضة الذين أخذوا عنهم المذهب. ولم يأخذوه ممن أثنى عليهم الكتاب، وبشرهم ربهم بجزيل الثواب، جنات تجري من تحتها الأنهار، ومقعد صدق في دار القرار، ومدحهم أمير المؤمنين، وقاتلوا معه أعداءه المارقين. فكيف يفلح قوم اتبعوا أرذل الأراذل واقتدوا بالأسافل! فالحذر الحذر ممن ابتدع وكفر! وهؤلاء كلهم أعداء الدين، وإخوان الشياطين، قد انتحلوا الضلال واستحقوا من الله العذاب والنكال، ليسوا بشيعة أهل البيت المطهرين عن الأرجاس، المبرئين عن وصمة الأدناس؛ بل هم جند إبليس اللعين، وخلفاء المفسدين الماردين. وشيعة أهل البيت إنما هم أهل الحق واليقين، الذين نصروا أمير المؤمنين، وأخذوا العلم منه ومن أولاده، أئمة الهدى والكاشفين الردى، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ورزقنا جل ثناؤه في جنات النعيم رؤياهم، بمنه وكرمه وإحسانه ونعمه.

الفصل الثامن في بيان أنه لا يمكن إثبات الدين المحمدي على أصول الرافضة

الفصل الثامن في بيان أنه لا يمكن إثبات الدين المحمدي على أصول الرافضة اعلم أن إثبات الأحكام الشرعية الأصولية والفروعية لا يمكن من أصول الرافضة ورواياتهم، بل ولا إثبات الملائكة ونبي من الأنبياء، ولا حشر ولا نشر، ولا عقاب ولا جزاء؛ لأن معتقدهم أن جميع الصحابة قد ارتدوا -والعياذ بالله تعالى- بزعمهم الفاسد واعتقادهم الكاسد. روى سليم بن قيس الهلالي في كتاب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عباس عن أمير المؤمنين، وروى أيضا جمع عن الصادق أن الصحابة ارتدوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أربعة أنفس، وفي رواية عن الصادق: إلا ستة. ولا يثبت مثل هذه الأمور برواية أربعة أو ستة، وإنما يثبت بالخبر المتواتر، ومن شرطه بلوغ جميع

طبقاته حدا يمنع تواطئهم على الكذب. وما رواه سائر الصحابة في ادعاء الرسالة وإظهار المعجزة على وفق الدعوى وإنزال الله تعالى القرآن لا يفيد شيئا؛ لأنه خبر جمع أجمعوا على نبذ وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى مخالفة أوامره ونواهيه، وعدم قبول خلافة من استخلفه عليهم، واتفقوا على قرآن محرف، قد نقص كثير من آياته وسوره، وتواطؤا على الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، كغسل الرجلين في الوضوء ومسح الخفين، وحكمهم بصحة خلافة من لم يستخلفه الرسول، واعتقادهم سنية ما ابتدعه وأحدثه خلفاؤهم، كصلاة التراويح وحرمة المتعة، وغير ذلك مما اعتقده أهل الزيغ في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يحتج به لجواز أن يكون اتفاقهم على أمر النبوة مثل اتفاقهم على تلك الأمور. فإنه إذا أخبر جمع غير محصورين، بما يجوز توافقهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون ذلك الخبر متواترا من غير نكير، ولأنه يجوز أن يكون الراوي لإظهار المعجزة ونزول القرآن جمع مخصوص لا كل من رآه وآمن به، وخبر غيرهم بذلك موافقة لهم؛ لأنهم كانوا لا يبالون من الكذب، أو أن يكون اتفاقهم على ذلك لمصلحة دنيوية، فإن هؤلاء القوم زعموا أن قريشا سمعوا من الكهنة أن رجلا من قريش من أولاد هاشم بن عبد مناف، اسمه محمد واسم أبيه عبد الله، يدعي النبوة ويحارب من يخالفه ويغلب عليهم ويملك بلاد العرب وتدين له العرب وتخاف منه العجم، وأصحابه يغزون الروم وفارس ويغلبون عليهم فيملكون بلادهم وأموالهم ويسبون ذراريهم

وأزواجهم ويفتح بعدهم أتباعهم بلاد الترك وبلاد الهند والسند، وكانت العرب تصدق الكهنة فيما يقولون، وقد سمعوا أيضا من اليهود أنهم يقولون: سيظهر رجل من قريش، يدعي النبوة، وليس من النبوة في شيء، ويستفحل أمره شيئا فشيئا، حتى تدين له العرب والعجم، ويستكينون له. فلما ظهر وادعى النبوة، تبعته جماعة، وأبت أخرى. ولما شاهدوا ما شاهدوا من استفحال أمره تبعه من أبى اتباعه أولا، ثم اتبعه بعض من لم يسمع من الفريقين بظهوره، حفظا لنفسه وصيانة لأمواله، ثم اتبعه من حاربه في مواطن كثيرة ولم يظفر عليه اضطرارا، ثم تبعه غير العرب من اليهود والنصارى ومنكري الشرائع والنبوات وعبدة الأوثان ونحوهم مداراة له، بناء على ما قيل في المثل السائر: "إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم" ولله در من قال: ودارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما كنت في أرضهم وكذلك توافقهم على أن القرآن تحدي به فلم يأت أحد من فحول الخطباء ومصاقع البلغاء بما يدانيه، فضلا عما يوازيه. إذ يجوز أن يكون أحد البلغاء من العرب العرباء قد أتى بمثله ولكنهم أخفوا ذلك لتلك المصلحة، وأوصى بعضهم بعضا بالاجتماع والاتفاق وترك الخلاف والشقاق. وأيضا يجوز أن يكون سماع الطبقة الثانية

(الأدلة عند الشيعة)

عن شرذمة قليلة أمكن تواطؤهم على الكذب، ولكنهم عزوا ما سمعوه من البعض إلى الكل لعدم التهمة، وروى عنهم جمع لا يحصى، وهكذا إلى المنتهى، إذ لم يعزو إليهم، ولكن ذاع ذلك الخبر في الطبقة الثالثة، وروى عنهم الطبقة الرابعة، وهلم جرا إلى زماننا هذا، فيكون هذا التواطؤ كتواطئ اليهود في روايتهم عن موسى أنه قال: "هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض"، وتواطىء النصارى عن عيسى عليه السلام أن رسالة ابن البشر قد ختمت قبل وأنه ابن الله. وقول الرافضة: إنه لا يشترط العدد في التواتر، بل يحصل العلم بخبر أربعة إذا كان محفوفا بالقرائن، باطل. فإنه وإن لم يشترط العدد في التواتر على الأصح، لكنه اشترط أن يكون الرواة في كل طبقة جمعا يستحيل تواطؤهم على الكذب، وعدد الأربعة ونحوه يجوز تواطؤهم على الكذب، والقرائن الظنية لا يعول عليها ولا يحصل منها العلم بصدق الخبر، فإن من كان مريضا في دار، فأخبر أربعة أشخاص بموته إنسانا، ثم سمع من تلك الدار صوت البكاء، لا يحصل العلم بموته، لاحتمال أن يكون البكاء لاشتداد مرضه وإغمائه، أو موت بعض أهل الدار فجأة، أو بسبب التردي، أو نحو ذلك. وقد تفردت الرافضة بهذا القول، مع أنه لم يقل به أحد من أولي النهى، وذلك دعوى ليس لهم دليل عليه. فقد تبين بما ذكر أن هؤلاء الفئة الضالة، ليسوا على شيء، وقد بنوا مذهبهم على شفا جرف هار. (الأدلة عند الشيعة) وأقول زيادة على ما ذكر المؤلف ملخصا ذلك من ترجمة التحفة الاثني عشرية:

اعلم أن الأدلة عند الشيعة كتاب وخبر وإجماع وعقل. أما الكتاب الذي يعتمد عليه في الاستدلال، فهو المأخوذ من الأئمة المعصومين، ولم يوجد عندهم. وأما الذي في الأيدي، فزعموا فيه التحريف والإسقاط -والعياذ بالله- كما في الكافي وغيره، فلا اعتماد على الاستدلال به لجواز النسخ بما سقط وتخصيص العام، ونحو ذلك. ونقلته عندهم كنقلة التوراة والإنجيل، فسقة فجرة منافقين مداهنين - معاذ الله تعالى من ذلك. وأما الخبر فلا بد له من ناقل، فهو إما من الشيعة أو من غيرهم. ولا عبرة بغيرهم لأن الصدر الأول منهم ارتدوا، والعياذ بالله تعالى. وأما الشيعة فلهم اختلاف فاحش فيما بينهم في أصل الإمامة وتعيين الإمام، ولا يمكن إثبات قول من أقوالهم إلا بالخبر، لأن الكتاب ساكت عن المقصود بحيث يفحم المخالف. وأيضا قد عرفت حال

الكتاب، فلم يبق إلا الخبر. فلو توقف ثبوت الخبر وحجيته على ثبوت ذلك القول لزم الدور. وأيضا كون الخبر حجة، إما لأنه قول المعصوم، أو وصل بواسطة المعصوم من المعصوم الآخر؛ وعصمة أحد بعينه لا تثبت إلا بخبر، والكتاب حاله معلوم عندهم، والعقل عاجز، والمعجزة على تقدير الصدور أيضا موقوفة على الخبر، لأن مشاهدة التحدي ورؤية المعجزة لم تتيسر لكل. والإجماع أيضا إنما يكون حجة بدخول المعصوم فيه، ومع هذا في نقل إجماع الغائبين لا بد من الخبر. وفي إثبات عصمة رجل بعينه بخبره، أو بخبر المعصوم الآخر الذي وصل الخبر بواسطته دور صريح. وأيضا كون الخبر حجة موقوف على نبوة نبي وإمامة إمام، وإذا لم يثبت بعد أصله كيف يثبت فرعه. والتواتر عندهم ساقط عن حيز الاعتبار، لأن كتمان الحق والزور قد وقع من عدد التواتر، وخبر الآحاد غير معتبر في مثل هذه المطالب بالإجماع، فالاستدلال بالخبر مطلقا غير ممكن. وأما الإجماع فبطلانه ظاهر؛ لأن ثبوت الإجماع فرع ثبوت النبوة والإمامة، ولو لم يثبتا كيف يثبت؟ وأيضا كون الإجماع حجة ليس بالأصالة، بل لكون قول المعصوم في ضمنه، فمدار حجيته على قول المعصوم، وقد علمت ما علمت. وأيضا دخول المعصوم في الإجماع وموافقة قوله لأقوال سائر الأئمة لا يثبت إلا بالخبر، واللازم لازم، فتأمل. وأما العقل فالتمسك به إما في الشرعيات أو غيرها. أما في الشرعيات فلا يمكن الاستدلال به عندهم، لأنهم منكرون أصل القياس، ولا يعلمونه حجة. وأما في غير الشرعيات فيتوقفون على تجريده عن شوائب الوهم والإلف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب. وهذه من الأمور التي لا تحصل إلا بإرشاد الإمام المعصوم، إذ قد كثر التخالف والتزاحم

في العقول وترجيحاتها، فلابد من ترجيح معصوم، ولا يكون إلا نبيا أو إماما. وإذا لم يثبت هذا لم يثبت ذاك. مع أن الكلام في الدلائل الشرعية والأمور الدينية، فإثباتها بالعقل الصرف لا يمكن لأن العقل عاجز عن معرفتها تفصيلا بالإجماع. نعم، يمكن معرفتها للعقل إذا كان مستمدا من الشريعة وقد كان أصل الحكم قد أخذ من الشارع، فحينئذ يقيس شيئا آخر على ذلك الأصل. ولكن لما كان القياس عندهم باطل لم يبق للعقل مطلقا في الأمور الشرعية دخل، لا سيما في قواعد الشرع وكلياته، فإن للعقل فيها ترددا واضطرابا. وإذا كان حال العقل كذلك، ففي أي دليل يستدل؟ انتهى. وأما أهل السنة فلا يرد عليهم ما ورد على الشيعة على ما لا يخفى، لأن الصحابة عندهم كلهم عدول، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

الفصل التاسع في بيان من يدعي كل فرقة من الرافضة أخذ المذهب عنه وإبطاله

الفصل التاسع في بيان من يدعي كل فرقة من الرافضة أخذ المذهب عنه وإبطاله اعلم أن جميع فرق الرافضة سوى الغلاة يدعون أنهم يروون أصول الدين وأحكام الشريعة عن أهل البيت: أما الكيسانية فيزعمون أنهم يروون عن علي وبنيه السبطين ومحمد بن الحنفية، وعن أبي هاشم بن محمد بن علي، أو عن علي وابنه محمد وولده. وأما الزيدية فيزعمون أنهم يروون عن علي وولديه السبطين، وعن زين العابدين السجاد وعن ابنه زيد ويحيى بن زيد. وأما الباقرية فيزعمون أنهم يروون عن خمسة: علي وولديه والسجاد والباقر. وأما الناوسية فيزعمون أنهم يروون عن ستة: الخمسة المذكورة وجعفر بن محمد الصادق. وأما المباركية من الإسماعيلية فيزعمون أنهم يروون عن سبعة: الستة المذكورة وإسماعيل. وأما القرمطية فيزعمون أنهم يروون عن ثمانية: السبعة المذكورة ومحمد بن إسماعيل. وأما السمطية فيزعمون أنهم يروون عن اثني عشر: عن الثمانية

المذكورة ومحمد وموسى الكاظم وعبد الله وإسحاق أبناء الصادق. وأما المهدوية فيزعمون أنهم يروون عن اثنين وعشرين رجلا. وقد تقدم ذكرهم في الفصل الثاني. وهؤلاء يزعمون أن أئمتهم معصومون. قال أبو محمد نجم الدين عمارة بن علي بن زيد المدحجي الشاعر المشهور في قصيدته الميمية التي يمدح بها الفائز بن الظافر ووزيره [الطلائع] بن زرنك: أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا فوز النجاة فاجر البر في القسم وأئمتهم يدعون أيضا أنهم معصومون، ويدعون علم الغيب والعلوم الغريبة من الكيمياء وغيرها. وأما النزارية من المهدوية فيزعمون أنهم يروون عن ثمانية عشر رجلا: أولهم أمير المؤمنين وآخرهم المستنصر. وأما الأفطحية فيزعمون أنهم يروون عن سبعة: علي وولديه والسجاد والباقر والصادق وابنه عبد الله. وأما الممطورية فيزعمون أنهم يروون عن سبعة أيضا: الستة المذكورة، وهم أولاد موسى بن جعفر، والكاظم. وأما الفاطمية والقطعية أيضا فيزعمون أنهم يروون عن هؤلاء السبعة. وأما الاثنا عشرية من الإمامية فيزعمون أنهم يروون عن اثني عشر رجلا: الستة المذكورة وعلي بن موسى الرضا وابنه محمد التقي وولده علي النقي وابنه الحسن العسكري وولده المهدي.

وأما النصيرية فيزعمون أنهم يروون عن ثلاثة عشر رجلا: هؤلاء المذكورون وزيد بن علي أخي الباقر. ولا دليل لهم على ما ادعوه، بل كله باطل، لأن صدق كل فرقة يقتضي كذب الأخرى، فلا يحصل من أخبارهم يقين ولا ظن. أما اليقين فلأن كل فرقة من الفرق الرافضة لم تبلغ حد الكثرة في العصر الأول، بل وفي أكثر العصور المتأخرة، فضلا عن أن تبلغ حد التواتر. ولو تواتر لم ينكر [زيد] على الأحول، ولم ينكر بعض أصحاب الأئمة إمامة صاحبه، ولم تختلف الإمامية في عدد الأئمة، لأن كل فرقة تدعي التواتر. وأما عدم حصول الظن فلكثرة الاختلاف وتكذيب بعضهم بعضا، ولأن رواة أخبارهم جماعة لا تقبل روايتهم؛ لأن منهم مرتكب الكبيرة، وهم

الذين اشتكى منهم أمير المؤمنين لأنهم لا يطيعون أمره ولا يسمعون قوله. ومنهم الفاسق بعمل الجوارح. ومنهم فاسد المذهب، ومنهم الوضاع الكذاب، ومنهم الجهلة الضعفاء، ومنهم من اختلف في توثيقه، ومنهم من تعارضت الأخبار في جرحه وتعديله ولا مرجح لأحد الخبرين على الآخر، وهم الأكثرون -كما سيجيء إن شاء الله تعالى- ومنهم المجسمة، ومنهم الراوي عن الخطوط والرقاع المزورة، وكل من هؤلاء لا تقبل روايته. أما أخبار غير من روى عن الخطوط فظاهر أنها لا تقبل. وأما الراوي عن الخطوط، فلأن الخط يشبه الخط بحيث لا يفرق بينهما، وربما يقلد الماهر في فن الكتابة خط كاتب آخر فيكتب مثل خطه بحيث لا يتميز الخطان. وأما الرقاع فلا يرتاب عاقل أنها مزورة، ولا يصدق بها إلا الأحمق. والعجب من الرافضة أنهم سموا صاحب الرقاع بالصدوق! اللهم إلا أن يكون من تسمية الشيء باسم ضده. وهو وإن كان يظهر الإسلام غير أنه كان كافرا في نفس

الأمر، وكان يزعم أنه كان يكتب مسألة في رقعة، فيضعها في ثقب شجرة ليلا، فيكتب الجواب عنها المهدي صاحب الزمان. وهذه الرقاع عند الشيعة لها محل عظيم وموقع جسيم. فتبًّا لقوم أثبتوا أحكام دينهم بمثل هذه الترهات، واستنبطوا الحلال والحرام من نظائر هذه الخزعبلات. كلا إنها لا تروج إلا على من أعمى الله تعالى بصيرته وطبع على قلبه وأباد فطنته. ومع ذلك فهم لا يصغون للحق ولا يعون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الفصل العاشر في بيان اختلاف الرافضة في الإمامة وتعيين الأئمة

الفصل العاشر في بيان اختلاف الرافضة في الإمامة وتعيين الأئمة اعلم أن الرافضة اختلفوا في الإمامة وتعيين الأئمة: أما الإمامية فذهبت الغلاة منهم إلى أن الإمامة هي الحكومة وإجراء الأحكام من الأوامر والنواهي. وذهب غيرهم من الفرق إلى أن خلافة النبي في أمر الدين والدنيا. وأما تعيين الأئمة: فذهبت فرقة من الغلاة إلى أن الآلهة هم الأئمة، واختلفوا في تعيينهم. فذهبت فرقة منهم إلى أن أولهم علي، أو محمد ثم علي، ثم الحسن ثم الحسين، ثم من صلح من أولاد الحسين إلى جعفر بن محمد، وهو الإله الأصغر، ونوابهم من صلح من أبنائه. وذهبت فرقة إلى أن الإمام في هذه الأمة محمد وعلي، وهما إلهان، ونوابهما من صلح من أولاد علي. وذهبت السبائية والذمية إلى أن الإمام هو علي، وهو إله، ثم الإمام بعد عروجه إلى السماء ولداه، ثم من صلح من أولاد الحسين. وذهبت الحلولية منهم إلى أن الإمام من حل الله تعالى فيه. وقد تقدم ذكر اختلافهم في تعيينهم. واختلف باقي الفرق في تعيين الأئمة اختلافا كثيرا: فذهبت فرقة من الكيسانية إلى أن الإمام بعد النبي علي ثم ولده محمد. وقالت فرقة منهم: إن الإمام بعده الحسن ثم الحسين ثم محمد. وروى كل فرقة عمن زعمه إماما أخبارا في أحكام الشريعة وادعوا التواتر لها. وروت الفرقة الأولى أن محمدا ادعى الإمامة بعد أبيه وأن أباه قد نص على إمامته بعده. وروت الفرقة الثانية أن أباه نص على إمامة الحسن ثم الحسين ثم محمد، وزعموا أن محمدا فقد الإمامة بعد شهادة أخيه الحسين وأظهر الخوارق على وفق دعواه. وروت الإمامية أيضا أنه ادعى الإمامة لكنه رجع عن دعواه، واعترف بإمامة ابن أخيه علي بن الحسين. روى الراوندي في معجزات السجاد عن حسين بن أبي العلاء وأبو المعز حميد بن

المثنى جميعا عن أبي نصير عن أبي عبد الله قال: جاء محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين قال: يا علي، ألست تقر أني إمام عليك؟ فقال: يا عم، لو علمت ذلك ما خالفتك، وأن طاعتي عليك وعلى الخلق مفروضة، يا عم، أما علمت أني وصي وابن وصي؟ وتشاجرا ساعة، فقال علي بن الحسين: بمن ترضى حتى يكون بيننا حكما؟ فقال محمد: بمن شئت، فقال: أترضى أن يكون بيننا الحجر الأسود؟ فقال: سبحان الله أدعوك إلى الناس وتدعونني إلى حجر لا يتكلم! قال علي: بلى يتكلم، أما علمت أنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان يشهد لمن أتاه بالموافاة؟ فندنو أنا وأنت، فندعو الله عز وجل أن ينطقه لنا أينا حجة الله على خلقه؟ فانطلقا وصليا عند مقام إبراهيم، ودنوا من الحجر الأسود، وقد كان ابن الحنفية قال: لئن لم يجبك إلى ما دعوتني إليه إنك إذا لمن الظالمين، فقال علي لمحمد: تقدم يا عم إليه فإنك أسن مني، فقال محمد للحجر: أسألك بحرمة الله تعالى وبحرمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبحرمة كل مؤمن إن كنت تعلم أني حجة الله على علي بن الحسين، إلا نطقت بالحق وبين لنا ذلك، فلم يجبه، ثم قال محمد لعلي: تقدم فاسأله، فتقدم علي فتكلم بكلام خفي لا يفهم، ثم قال: أسألك بحرمة الله تعالى وبحرمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبحرمة علي أمير المؤمنين وبحرمة الحسن وبحرمة الحسين وفاطمة بنت محمد، إن كنت تعلم أني حجة الله على عمي إلا نطقت بذلك وبينه لنا حتى يرجع عن رأيه، فقال الحجر بلسان عربي مبين: يا محمد بن علي، اسمع وأطع لعلي بن الحسين، فإنه حجة الله تعالى على خلقه، فقال ابن الحنفية عند ذلك: سمعت وأطعت وسلمت. انتهى. والكيسانية يصدقون الدعوى وينكرون الشهادة ويزعمون أن الأمر بالعكس. ويروون عن محمد من الخوارق ما لا يكاد يضبط. وقالوا: الإمام بعد محمد ولده أبو هاشم، واختلف بعده كما سبق. وذهبت الزيدية إلى أن الإمام بعد الحسين زيد بن علي

بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنهم- وروى عنه وعن أبيه وجده أخبارا. وادعوا في بعض تلك الأخبار التواتر، كمسح الرجلين في الوضوء. وأنكر الإمام زيد معتقدات سائر الإمامية في الإمام، كما في رواية الزيدية عنه. وروت الإمامية بعض تلك الأخبار أيضا. من ذلك ما رواه الكليني عن هشام بن الحكم، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. وذهبت الباقرية إلى أن الإمام بعد علي ابنه الحسن، ثم أخوه الحسين، ثم ولده علي، ثم محمد بن علي الباقر، وهو حي لكنه مختف. وذهبت الناوسية إلى أن الإمام بعد الباقر ولده عبد الله بن جعفر الصادق وأنه لم يمت، ولا يموتون مدى الدهر حتى يظهر أمره، وهو القائم المنتظر والمهدي الموعود، ورووا عن الصادق فيه أخبارا وادعوا تواترها، منها: "لو رأيتم رأسي هدهد عليكم من هذا الجبل فلا تصدقوا، فإني صاحبكم صاحب السنين". وذهبت المهدوية من الإسماعيلية إلى أن الإمام بعد الصادق ولده إسماعيل بنص الصادق عليه، ثم أولاده من غير تعيين عدد. وذهبت المباركية منهم إلى أن إسماعيل بن جعفر هو القائم المنتظر والمهدي الموعود. وذهبت القرمطية منهم إلى أن الإمام بعد إسماعيل ولده محمد، وهو المهدي. وذهبت السمطية إلى أن الإمام بعد إسماعيل أخوه محمد، ثم أخوه موسى، ثم أخوه عبد الله، ثم أخوه إسحاق، ثم الإمامة في ولدهم. وزعمت الأفطحية أن الإمام بعد الصادق عبد الله بن جعفر، أخو إسماعيل من أبيه وأمه، وكانت أمهما فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأنه مات، ولكنه سيرجع بعد موته إلى الدنيا. وذهبت الموسوية إلى أن الإمام بعد الصادق ولده موسى، بنص الصادق عليه، وهو

خاتم الأئمة. وذهبت الرجعية منهم إلى أنه مات، ولكنه يرجع بعد موته. وذهبت الممطورية منهم إلى أنه حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر أمره، وهو القائم المنتظر، ورووا عن الصادق أنه قال: "سابعكم قائمكم، وهو سمي صاحب التوراة". وقالت الاثنا عشرية: الإمام بعد موسى ابنه الرضا، ثم ابنه محمد التقي، ثم ولده علي النقي، [ثم ابنه الحسن العسكري]، ثم ابنه محمد بن الحسن العسكري، وهو المهدي الموعود. وزعموا أنه حي مختف من خوف الأعداء، فإنه يخرج من السرداب بسر من رأى. وذهب بعضهم إلى أن الإمام بعد الحسن جعفر بن علي أخو الحسن بن علي العسكري، وقالوا: لا عقب للعسكري، وقال بعضهم: كان له ولد، ولكنه مات صغيرا في حياة أبيه. روى الكليني عن زرارة بن أعين عن أبي عبد الله قال: "لا بد للغلام من غيبة، قلت: ولم؟ قال: يخاف، قلت: وما يخاف؟ فأومأ بيده إلى بطنه. فهو المنتظر، وهو الذي يشك الناس في ولادته: فمنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: مات أبوه ولم يخلف، ومنهم من يقول: ولد قبل موت أبيه بسنتين". وكل ذلك من أكاذيبهم، كيف وقد روى الكليني وغيره بطرق متنوعة أن الأئمة لا يموتون إلا باختيارهم، وأنهم يعلمون علم ما كان وما يكون. وكل

من هؤلاء الفرق رووا عن أئمتهم أخبارا لإثبات مذهبهم في عدد الأئمة وتعيينهم. فيزعم كل فرقة منهم أن إمامهم ادعى الإمامة وأظهر المعجزة على وفق دعواه. ويدعون التواتر في أخبارهم عن الإمامة. وكل ذلك كذب. ولو تواتر خبر فرقة منهم، لم ينكر محمد [بن] علي إمامة ابن أخيه علي بن الحسين، ولم ينكر زيد أصل الإمامة، ولم يشدد النكير على الأحول هذا. وهذه الاختلافات مع عدم مرجح تدل دلالة ظاهرة على أن مذهب الكل باطل، وليس لهم على من ادعاه كل سلطان. وذلك ظاهر. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الفصل الحادي عشر في بيان كثرة اختلاف الشيعة في أعداد الأئمة وشروط الإمامة

الفصل الحادي عشر في بيان كثرة اختلاف الشيعة في أعداد الأئمة وشروط الإمامة اعلم أن الشيعة اختلفت اختلافا كثيرا في تعداد الأئمة وشروط الإمامة من العصمة والنص وتفضيلهم على الأنبياء. أما اختلافهم في العد: فذهبت الزيدية والكيسانية والإسماعيلية غير المباركية منهم والقرمطية والسبعية إلى أن الأئمة غير محصورين في عدد معين. فذهبت المباركية والسبعية إلى أنهم سبعة. والقرمطية إلى أنهم ستة. وذهبت الإمامية إلى أن الأئمة محصورون، كالفرق الثلاثة من الإسماعيلية، ولكنهم اختلفوا في العدد: فمنهم من قال: خمسة. ومنهم من قال: سبعة. ومنهم من قال: ثمانية. ومنهم من قال: اثنا عشر. ومنهم من قال: ثلاثة عشر، كما مر غير مرة. وأما اختلافهم في الشروط: فذهبت الزيدية إلى أن العصمة ليست بشرط في الإمامة. وذهبت الإسماعيلية غير النزارية إلى الاشتراط. وأما النزارية فلا يثبتونها ولا ينفون، ويزعمون أن الإمام غير مكلف بالفروع، وكل ما يفعله الإمام من المعاصي فهو جائز له ولا يسأل عما يفعل، والأحكام الشرعية مفوضة إليه، فإن شاء أسقط التكاليف عن المكلفين، وإن شاء كلفهم بها، ولا جناح عليه فيما يفعله. وكان إظهار سلفهم العبادة والورع مكيدة منهم على الناس ليوقعوهم في مهاوي الردى. وأما اختلافهم في النص: فالكيسانية والإسماعيلية والبترية من الزيدية يشترطون

النص، لكن الكيسانية لم يشترطوا معه شيئا آخر، والبترية يشترطون معه الدعوة وإخبار رجلين أو أكثر من خيار المسلمين. وذهبت الإمامية إلى أن شرط الإمامة أحد الأمرين: النص أو دعوى الإمامة، مع إظهار المعجزة الدالة على صدق دعواه. وذهبت الصالحية من الزيدية إلى أنه يشترط في تعيين الإمام أحد الأمرين: إما النص من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والإمام السابق، أو اختبار أهل الحل والعقد من الأمة وبيعتهم من يصلح للإمامة. وهو مذهب أهل السنة والمعتزلة. والذي يصلح للإمامة من كان فاطميا أو قرشيا عند غيرهم مجتهدا في الفروع والأصول ذا رأي وتدبير في أمر الحروب وسد الثغور شجاعا عدلا. وذهبت الجارودية منهم إلى أنه يشترط في المتغلب كونه فاطميا شجاعا عالما بأمور الدين. وأما اختلافهم في التفضيل: فذهبت الزيدية والكيسانية والإسماعيلية إلى عدم التفضيل، كما هو مذهب سائر فرق الإسلامية. والإمامية اختلفوا بعد اتفاقهم على أن الأئمة أفضل من الرسل غير أولي العزم. وأهل البيت ينكرون ذلك.

الفصل الثاني عشر في بيان اختلاف الشيعة فيما رووه عن أهل البيت

الفصل الثاني عشر في بيان اختلاف الشيعة فيما رووه عن أهل البيت اعلم أن الكيسانية رووا عن أئمتهم ما يخالف ما رواه الآخرون في الفروع، مع أن ما رووه عن محمد بن علي بن أبي طالب وولده أبي هاشم أكثرها كذب باتفاق سائر فرق الشيعة. وأن الزيدية يروون عن الأئمة الأربعة: علي بن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين كثيرا من الأحكام، بخلاف ما يرويه غيرهم من الشيعة عنهم، كالقياس؛ فإنهم رووا جوازه، وروى سائر فرق الشيعة إلا النصيرية عدمه. وأن الإسماعيلية غير النزارية اختلفوا في الرواية اختلاف سائر فرق الإمامية. أما النزارية فقد درسوا الأحكام الشرعية وأسقطوا التكاليف وأباحوا المحرمات، فهم كالأنعام أو أضل سبيلا. وأما الإمامية فقد اختلفوا في روايتهم اختلافا كثيرا. وقد صرح شيخ الطائفة محمد بن الحسن في تهذيب الأحكام بكثرة اختلاف رؤساء القوم فقال: لا يوجد خبر إلا وفي مقابلته خبر آخر يضاده في الحكم. ثم قال: وقد اتفق القوم أن هذا لا يجوز أن يتعبد به العاقل ولا أن يعمل به اللبيب. ولذا قد رجع خلق كثير وجم غفير من العقلاء عن مذهب الإمامية بعد الاطلاع على ذلك. وقد حكى أبو جعفر الطوسي في التهذيب عن شيخه أبي عبد الله محمد بن النعمان البغدادي - المشهور عندهم بالمفيد - أن أبا الحسن الهاروني كان يعتقد مذهب الشيعة ويدين بطريق الإمامية، فرجع عنه لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره. والمذهب الذي أسس على الأخبار الكاذبة باطل من غير نكير. انظر إلى الاختلاف الجاري بين

الفرقة الاثني عشرية: فقد روى جمع منهم بإسناد صحيح عندهم أن خروج المذي ينقض الوضوء، وروى آخرون بإسناد صحيح أيضا أنه لا ينقض الوضوء. وروى جمع أنه يجب سجدتا السهو في الصلاة، وأن الأئمة كانوا يسجدون للسهو، وروى آخرون أنه لا يجوز السجود للسهو. وروى بعضهم أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء، وروى آخرون أنه لا ينقض. وروى بعضهم عدم جواز عبث المصلي

ببعض أجزاء بدنه، وروى آخرون جوازه حتى بالمذاكير. إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا يحيط بها الإحصاء. وقد تصدى محمد بن الحسن الطوسي للجمع بين الأخبار المتعارضة في التهذيب والاستبصار، فخبط خبط عشواء وركب متن عمياء، فأتى بالتكلفات البعيدة والتعسفات الغير السديدة، كحمل ماء الورد على الماء الذي فيه الورد. واضطر في التوفيق بين كثير من الأخبار المتضادة إلى التقية، التي هي عكاز أعمى وأوهى من نسج العنكبوت. ومن العجيب أنه حمل بعض الأخبار على التقية، مع أن المخالف لم يذهب إلى ما دلت عليه أو ذهب إليه جماعة شاذة! وأعجب منه أنه حمل جزء الخبر على التقية، وأهمل الجزء الآخر منه مع أنه أيضا يخالف مذهب أهل السنة! كما حمل تخليل أصابع الرجلين فقط على التقية في أمره - صلى الله عليه وسلم - بغسل الوجه مرتين وبتخليل أصابع الرجلين حين غسلهما، مع أن غسل الوجه مرتين مخالف أيضا

لمذهب أهل السنة. وسيجيء إن شاء الله إبطال التقية بدلائل يقينية، بحيث لا تبقي للخصم كلاما، وتوجه عليه من الطعن سهاما. وقد حملوا بعض الأدعية الصادرة عن أهل البيت على معان لا يقصدها الفصيح ومقاصد غير قابلة للتصحيح، من ذلك: ما حملوا قول السجاد رضي الله تعالى عنه: "إلهي ظلمت وعصيت فتوانيت" على معنى: إلهي إن شيعتنا ظلموا وعصوا وتوانوا، لكنهم رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة، فنحن نضيفهم في الدعاء إلى أنفسنا لأنهم منا وهم موالينا. وإنما اضطروا إلى هذا التأويل للقول بعصمة الأئمة؛ لأن هذا الكلام على تقدير صدقه وكذبه ينافي العصمة، مع أنه تأويل يبعد أن يقصده مثل هؤلاء

الأئمة الأعلام والفصحاء الكرام، فقد حمل فيه ياء المتكلم الواحد على الجمع، والتكلم على الغيبة، وإضافة فعل المتكلم إلى الغير. على أنا لو فرضنا صحة هذا التأويل الذي ليس له دليل؛ فما الذي أوجب ترك التصريح والمعنى الصحيح؟ وأي ضرر لو قال: إلهي إن شيعتنا وموالينا وأحب الخلق إلينا قد ظلموا أنفسهم، فاغفر لهم وارحمهم، وارفع درجتهم في الجنة، ونحو ذلك؟ مع أن التكلم بمثل ذلك الكلام موجب لإضلال الأنام؛ لأنه من أوضح الدلائل على عدم عصمة القائل. والتأويل المذكور بعيد عن الأذهان، لا يتبادر إلى أفهام ذوي العرفان. نسأل الله تعالى الهداية والعصمة من الضلالة والغواية.

الفصل الثالث عشر في أقسام أخبار الشيعة

الفصل الثالث عشر في أقسام أخبار الشيعة اعلم أن أقسام الخبر عند الشيعة أربعة: الصحيح والحسن والموثق والضعيف. فالصحيح هو ما اتصلت روايته إلى المعصوم بعدل إمامي. فيدخل فيه ما اعتراه إرسال وقطع. وزاد بعض المتأخرين أن يكون الاتصال بالعدل المذكور في جميع الطبقات. ولكن اعترف بإطلاق الصحيح على ما كان رجال طريقه عدولا إمامية، فإنهم يقولون كثيرا: روى ابن عمير في الصحيح كذا، وفي صحيح ابن عمير كذا، مع كون الرواية المنقولة كذلك مرسلة. ووقع لهم في المقطوع مثل ذلك كثيرا. ويطلقون الصحيح أيضا على ما كان بعض رجاله من لا يعلم حاله، كالحسين بن الحسن بن أبان. نص عليه الحلي في

المنتهى. قال ابن أبي داود في الخلاصة: إن طريق الفقيه إلى معاوية بن ميسرة وإلى عابد الأخمسي وإلى خالد بن النجيح وإلى عبد الأعلى صحيحة. مع أن الثلاثة من الأربعة لم

ينص عليهم بتوثيق ولا غيره، والرابع لم يوثق. ويطلقون الصحيح أيضا على ما رواه من يكذّب بعض الأئمة في دعوى الإمامة، كالحسن بن سماعة، ومن ينكر إمامة الإمام الحق ويقول بإمامة غيره، مثل أبان بن عثمان وعلي بن فضالة وعبد الله بن بكير؛ فإنه قد وقع الإجماع على تصحيح ما يصح عن أبان بن عثمان مع كونه أفطحيا. ويطلقونه أيضا على ما صح عن علي بن فضالة وعبد الله بن بكير، وقد وثقهما علماء الشيعة غاية التوثيق.

قال ابن المطهر في خلاصة الأقوال: "إن عليا بن فضالة كان فقيها بالكوفة عارفا بالحديث، مع أنه كان فاسد المذهب"، ويقتضي أن يكون مثل هذا الخبر من الموثق حسبما تقتضيه قواعدهم، فإدخاله في الصحيح ليس بصحيح. ويطلقون الصحيح أيضا على خبر من دعا عليه المعصوم بالشر لفساد عقيدته، أو شهد عليه ببطلان مذهبه، أو أظهر البراءة منه، وعلى خبر من اشتهر بالكذب واعترف به، أو لم ينته عما نهاه عنه إمامه، أو خالف الأئمة في العقيدة. فإن الكليني وغيره روى عن الأحولين وصاحب الطاق وابن سالم وزرارة أخبارا كثيرة يعتمد عليها. ويطلقونه أيضا على ما في الرقاع التي أظهرها ابن بابويه القمي، وعلى ما في الخطوط التي

يزعمون أنها خطوط الأئمة؛ بل إنهم يرجحون هذا القسم على ما روي بالإسناد الصحيح عندهم، كما نص عليه ابن بابويه، وعلى ما رواه من ضعفوه، كمحمد بن سنان، فإنهم ضعفوه واعتمدوا على خبره، وعلى ما رواه اثنا عشري عمن يدعي السفارة بين الشيعة والحجة، بإسناد رجاله رجال الصحيح عندهم. إلى غير ذلك. والحسن: ما اتصلت روايته إلى معصوم بإمامي ممدوح، من غير نص على عدالته، سواء أكان جميع رواة طريقه ممدوحا أو بعضها، بأن كان أحدهم إماميا ممدوحا، والباقي من الطريق رجاله رجال الصحيح. وهذا التعريف أيضا غير مانع؛ لأنه صادق على ما لحقه إرسال أو قطع، وزاد فيه بعض المتأخرين منهم ما زاد في الصحيح، ولكنه اعترف بإطلاق الحسن على المرسل والمقطوع، فزيادة هذا القيد في التعريفين مما لا طائل تحتها، بل إن هذا القيد مضر، حيث صار التعريف بسببه غير جامع. وقد ذكر جماعة من فقهاء

الشيعة أن رواية زرارة في مفسد الحج إذا قضاه من الحسن، مع أنها مقطوعة. ومثلها كثير في أخبارهم كما لا يخفى على من تصفح كتبهم المؤلفة في الأخبار. ويطلقون الحسن أيضا على ما كان بعض رجاله من المستورين ولم يعرف بقادح ولا مادح. قال ابن المطهر: طريق الفقيه إلى منذر حسن، مع أنه لم يعرف حاله. ومثله طريق أبي إدريس بن زيد. وعلى ما كان بعض رجاله فاسد المذهب، مثل سماعة بن مهران، مع أنه واقفي. والموثق ويقال له القوي: وهو ما دخل في طريقه من نص على توثيقه مع فساد عقيدته، ولم يشتمل باقي الطريق على ضعف. وقد أطلقوا الموثق على الضعيف، كالخبر الذي رواه السكوني عن أبي عبد الله عن أمير المؤمنين - كما سيأتي - فإن

السكوني ضعيف عندهم. وقد يطلق القوي على ما رواه إمامي غير ممدوح ولا مذموم، كنوح بن دراج وابن عمارة وأحمد بن عبد الله بن جعفر الحميري وغيرهم، وهم كثيرون. والضعيف: هو ما اشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه أو مجهول الحال. وأجمع على العمل بالصحيح من جواز العمل بخبر الآحاد من غير نكير، وربما أجمعوا على ترك العمل به، وحكموا بشذوذه مع أنه يؤيده أخبار أخر. مثل ما رواه سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن الكاظم قال: سألته عن بنات ابن وجدة فقال:

للجدة السدس، والباقي لبنات الابن. فإنه صحيح عندهم، وقد رواه غير واحد منهم من طرق أخر، منها ما رواه علي بن الحسين بن رفاط رفعه إلى أبي عبد الله قال: "الجدة لها السدس مع ابنتها ومع ابنها". ومنها ما رواه زرارة عن أبي جعفر قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أطعم الجدة السدس، ولم يفرض الله تعالى لها شيئا"، وهذا الخبر موثق. ومنها ما رواه إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله في أبوين وجدة لأم قال: "للأم السدس، وللجدة السدس، وما بقي وهو الثلثان للأب".

واختلفوا في العمل بالحسن: فمنهم من عمل به مطلقا كالصحيح، منهم شيخ الطائفة؛ ومنهم من منعه، وهم الأكثرون؛ ومنهم من فصل، فجوزوا العمل به وبالموثق وبالضعيف أيضا إذا كان العمل بمضمونه مشتهرا بين أصحابهم، وقدموه على الصحيح الذي لا يكون العمل بمضمونه مشتهرا، وإلا فلا يجوز. وإليه ذهب فخر الدين بن جمال بن المطهر الحلي كما ذكره في المعتبر وتلميذه شيخهم المقتول محمد بن مكي كما ذكره في الذكرى. واختلفوا في العمل بالموثق: فذهب الأكثر إلى منع جواز العمل به مطلقا، مع الحكم بالموثق الذي في طريقه، مثل ابن بكير وابن فضال كما سبق أنه من الصحيح. وجوزه الآخرون، منهم فخر الدين وتلميذه. وجوز المتأخرون العمل بالضعيف إذا اعتضد بالشهرة. وجوز شيخ الطائفة العمل بالخبر الذي اشتمل طريقه على فاسق، سواء اعتضد بالشهرة أو لا، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. وجوز الكليني رواية من يعدونه من صحب بعض الأئمة ولم يعترف بالإمامة، مع أنهم يكفرون المنكر.

الفصل الرابع عشر في بيان احتجاج الرافضة بالأخبار التي لا يجوز الاحتجاج بها

الفصل الرابع عشر في بيان احتجاج الرافضة بالأخبار التي لا يجوز الاحتجاج بها اعلم أن جميع فرق الرافضة كانوا يعملون بما رواه أصحابهم من تحقيق أحوال رجال الإسناد، واستمر ذلك بينهم، ولم يكن لهم كتاب في أحوال الرجال وذكر الجرح والتعديل، حتى ألف الكشي من الاثني عشرية في المائة الرابعة كتابا في ذلك في غاية الاختصار، ليس فيه فائدة. وقد أورد فيه ما تعارضت الأخبار في الجرح والتعديل من غير ترجيح أحد الخبرين على الآخر، فاشتبه حالهم، وقد وقع ذلك لكثير من أكابر رواة القوم. ثم صنف من جاء بعده في الضعفاء كابن الغضائري، وفي الجرح والتعديل كالنجاشي وأبي جعفر الطوسي وجمال الدين أحمد بن طاوس وابن المطهر وتقي الدين بن داود. ولكنهم أهملوا كثيرا من ذلك وأغفلوا عن توجيه ما ورد في الجرح والتعديل، ولا سيما عند تعارض الأخبار فيهما. واختلفوا في ترجيح أحد الخبرين على الآخر اختلافا كثيرا. ولهذا منع صاحب الدراية تعليلهم. وكثيرا ما يتفق لهم التعديل بما لا يصلح تعديلا، كما لا يخفى على من طالع كتبهم، ولا سيما "خلاصة الأقوال"، التي هي الخلاصة في علم الرجال. وقد صحف علماء الرجال منهم كثيرا من الأسماء، فاشتبه أمر الخبر، وذلك كتصحيف أبي نصير بالنون بأبي بصير بالباء الموحدة، ومراجم بالراء المهملة والجيم

بمزاحم بالزاء المعجمة والحاء المهملة. فلا يتميز من تقبل روايته ممن لا تقبل. وقد صحف ابن المطهر في كتب الرجال كثيرا من الأسماء، ومن أراد الإطلاع عليها فليراجع الخلاصة لابن المطهر وإيضاح الاشتباه، لينظر ما بينهما من الاختلاف. وقد نبه ابن داود على كثير من ذلك. ومع هذا لا يرتفع الاشتباه بما ذكره لاحتمال خطأ المخطّئ، كيف لا ولم يأت بحجة قاطعة؟ وتساهل الأخباريون منهم في الإسناد، فلم يلتفتوا إلى تعيين المتفق والمفترق، فرووا عن رجل اتفق اسمه واسم أبيه فصاعد مع اسم راو آخر واسم أبيه كذلك، فلا يتميز حينئذ الثقة من غيره. فقد رووا عن محمد بن قيس؛ وهو مشترك بين أربعة: اثنان منهم ثقتان عندهم، وهما محمد بن قيس الأسدي المكنى بأبي [عبد الله مولى لبني] نصر ومحمد بن قيس البجلي المكنى بأبي عبد الله، وواحد منهم ممدوح من غير توثيق، وهو محمد بن قيس الأسدي المكنى بأبي أحمد، وقد روى عنه ابن بابويه كثيرا وأطلق الرواية، وواحد منهم غير ممدوح. وقد عمل أكثر الشيعة برواية غير العدل لأمر عارض، وهو الشهرة؛ مع أن عدالة الراوي شرط في العمل بالخبر، ومن العجيب أنهم يعملون بالضعيف ولا يعملون بالموثق مع أنه دونه! ويعللون ترك العمل ببعض الأخبار بأنه موثق. مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد الله قال: قال أمير المؤمنين: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا علي، لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه، وايم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه

الشمس وغربت، ولك ولاءه يا علي"، فإنه موثق ولم يعملوا به لكونه موثقا. ويعملون برواية من خالفهم في الاعتقاد من الرافضة. ويعملون بمراسيل ابن عمير، ويدعون العلم بكونه لا يروي إلا عن ثقة، وهذا ادعاء محض وهو بعيد عن الحق بمعزل؛ لأن مستند العلم إما الاستقراء لمراسيله، حيث تتبعوها فوجدوا المحذوف ثقة، أو حسن الظن في أنه لا يرسل إلا عن ثقة، وعلى كل تقدير لا يصير حجة كمراسيل غيره؛ أما على الأول فلأن الاستقراء ممنوع، ولم يذكروا ما استقرؤا من مراسيله، ولو سلم فهو غير تام، والمدعي مطالب بالبرهان، وظاهر كلام القوم في قبول مراسيل ابن أبي عمير هذا المعنى، ودون إثباته خرط القتاد. وقد نازعهم صاحب البشرى منهم ومنع الدعوى، وكذا بعض المحققين من المتأخرين ومن تبعه. ومع ذلك فلا وجه له في الإرسال وقد نهى عنه الإمام أبو عبد الله وسمى المرسل كائنا من كان كاذبا، كما رواه الكليني - كما سيجيء إن شاء الله تعالى - والكاذب لا تقبل روايته من غير نكير. وأما على الثاني فلأنه غير كاف شرعا في

الاعتماد عليه، نص عليه صاحب الدراية في شرحها. وأما الثالث فلأن مرجعه إلى شهادته بعدالة الراوي المجهول، وإثباته صعب، ولم يرو أحد منهم أنه سئل عنه فأجاب بذلك، ولو سلم فلا يكفي ذلك في العمل بروايته، لأنه لا بد له من تعيينه وتسميته، لينظر في أمره، هل أطلق علماء الرجال عليه التعديل أو تعارض كلامهم فيه أو لم يذكروا فيه شيئا من الجرح والتعديل، لأنه لا بد من البحث عن حال الرواة على وجه يظهر عدم الأربعة: من الجرح والتعديل وتعارض الأمرين والسكوت عنهما، فلا حجة في الإرسال، وارتكابه منهي عنه، ومرتكب المنهي عنه فاسق، وقد شهد الصادق بأنه كاذب، فابن أبي عمير الذي يرسل كثيرا فاسق كاذب مصر على الكذب والفسق، فلا تقبل روايته. وعملوا أيضا بمراسيل النضيري وعبد الله بن مغيرة. وكان المتقدمون منهم يعملون بالخبر الضعيف مطلقا من غير تعرض لبيان ضعفه، والمتأخرون منهم عملوا به اقتداء بمتقدميهم، وذلك مثل الخبر الذي رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله أنه سئل عن الصبي تزوج الصبية هل يتوارثان؟ فقال: "إن كان أبوهما زوجاهما نعم". فإن في طريقه القاسم بن سلمان، وهو مجهول العدالة،

ومع ذلك فقد عملوا به لعمل أصحابهم المتقدمين به. قال أبو جعفر الطوسي شيخ الطائفة: إن خبر الفاسق بعمل الجوارح يعمل بحديثه، والمجهول دونه. وتبعه على ذلك من جاء بعده. وهذا باطل لقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} والشهرة لا تكفي في الخبر الضعيف، وقد نص عليه سديد الدين محمود الحمصي، ورضي الدين طاووس وزين الدين صاحب الدراية. وجوز الأكثرون منهم العمل بالخبر الضعيف في القصص وبكثير من الأخبار، من

غير التفات إلى الصحة وعدمها، إذا تلقته الإمامية بالقبول، كخبر عمرو بن حنظلة في المتخاصمين من أصحابهم وأمرهما بالرجوع إلى رجل منهم، وهو خبر ضعيف جدا لأن في طريقه محمد بن عيسى وداود بن حصين، وهما ضعيفان، وعمرو بن حنظلة مسكوت عنه، وقد قبلوا خبره وعملوا بموجبه وسموا هذا النوع من الخبر مقبولا. وكثير في كتبهم مثل ذلك، وقد اعترف به المقتول في شرح الدراية. وعمل شيخ الطائفة ومن تبعه بالخبر المضطرب، وهو ما يرويه الرواة بوجهين مختلفين، من غير ترجيح أحد الوجهين على الآخر، مع اعترافهم بأن الاضطراب يمنع من العمل بمضمون الخبر. والعجب من الشيعة حيث إنهم بالغوا في ضبط الكليني وامتيازه على من عداه، مع أنه كان يخبط خبط عشواء ويعمل بما دعاه إليه هواه على ما لا يخفى على المتتبع. وقد جوزت الإمامية الكذب لنصرة مذهبهم ورواجه، وقد ألف المرتضى الذي

لقبوه بعلم الهدى كتابا لإثبات مذهبه وإبطال مذهب أهل السنة، مشحونة بالأكاذيب؛ وقد عزا بعضها إلى ذمي وبعضها إلى جارية. وألف بعضهم كتابا في وفيات الأعيان وحكى فيه حكايات افتراها على أكابر أهل السنة تنبئ بأنهم كانوا شيعة، وهي محض كذب، وقد اعترف بذلك بعض علماء الشيعة. وكذا ألف مثل ذلك ابن بابويه وابن المطهر وابنه وغيرهم. وجوزت الخطابية من الروافض وضع الحديث لنصرة المذهب، وقد وضع بعض علماء الغلاة كأبي خطاب ويونس بن طيبان ويزيد بن الصايغ أخبارا كثيرة، صرح بذلك صاحب تحفة القاصدين في اصطلاح المحدثين. ومن الغلاة الوضاعين بيان النهدي الذي كان من شيوخ الإمامية ومجتهديهم وزنادقتهم، ومغيرة بن سعيد وكان شيخا من مشايخ الروافض بالكوفة؛ وقد قتلهما خالد بن عبد الله القسري وأحرقهما في النار. فتبا لقوم أخذوا مذاهبهم من أناس ارتدوا بلباس الفسوق والأرجاس، لا يستحون من الكذب والافتراء، ولا يبالون من الكلمة العوراء. فيا ويلهم من الله الذي لا يفوته شيء ولا يخفاه.

الفصل الخامس عشر في بيان روايات الشيعة إلا الحميرية عن أهل البيت

الفصل الخامس عشر في بيان روايات الشيعة إلا الحميرية عن أهل البيت اعلم أن غالب روايات الشيعة عن أهل البيت، ولم يرووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نادرا. ولنذكر ما يقبل من رواياتهم عند أهل السنة وما لا يقبل. أما الشيعة الأولى فأخبار ثقاتهم مقبولة، وهم كما عرفت من أهل السنة، وقد افترقوا حين بويع للأمير كرم الله تعالى وجهه بالخلافة: ففرقة شايعوه، وفرقة خرجوا عليه وهم البغاة، وفرقة اعتزلوا ولم يحاربوا مع أحد ثم ندموا على ترك نصرته، مع اعتقاد أنه على الحق وأن مخالفيه بغاة حين الاعتزال. وأما الشيعة التفضيلية فأخبارهم أيضا مقبولة إذا كان الراوي عدلا ضابطا، وقد روى عنهم أهل السنة والإمامية. وأما غير هاتين الفرقتين فأخبارهم كلها مردودة لأنها كذب مفتراة، إلا ما وافقت رواية أهل الحق؛ وذلك لأن فرق الغلاة كلهم كفرة، وكذا المجسمة من الإمامية كالحكمية والسالمية والسلطانية وغيرهم. وأما الكيسانية فليس لهم رواية إلا في تعيين الإمام، وهو باطل من غير نكير. وأما الزيدية الأولى من الذين جاهدوا الفجرة مع الإمام ونصروه، فأخبار ثقاتهم مقبولة، لأنهم من الشيعة الأولى. وأما الذين تفرقوا عن الإمام زيد وابنه يحيى فأخبارهم مردودة. وأما فرق الإمامية فلا تقبل روايتهم أصلا لفقد العدالة وكثرة اختلافهم ولتكذيب بعضهم بعضا، وأكثر رواتهم زنادقة منافقون يظهرون حب أهل البيت ويروون الأحاديث عن أهل البيت التي لا أصل لها. وأما النزارية من الإسماعيلية فليس لهم شيء من الأخبار، لأنهم لا يحتاجون إلى

وضع الخبر، لأن مناط مذهب متأخريهم من الحسن إلى حديد الدولة ترك العمل بالشرائع. وكذا الباطنية من الإسماعيلية لأن من أصولهم أنه يجب العمل بباطن الكتاب والخبر دون ظاهرهما، واعترفوا بصحة كل خبر سمعوه، وأولوه كما شاءوا.

الفصل السادس عشر في ذكر علماء كل فرقة من فرق الشيعة

الفصل السادس عشر في ذكر علماء كل فرقة من فرق الشيعة اعلم أن لكل فرقة من فرق الشيعة علماء: أما الغلاة فأعلم علمائهم عبد الله بن سبأ الصنعاني وأبو كامل وبنان ومغيرة العجلي، وهما اللذان كذبهما الصادق وقال: "إنهما يفتريان علينا أهل البيت، ويرويان عنا الأكاذيب"، وأبو الخطاب الأخدع ونصير وإسحاق وعلباء ورزام والمفضل الصيرفي وسريع وبريع ومحمد بن يعفور وغيرهم. وأقوال هؤلاء محض هذيان لا دليل عليها ولا برهان. وأما الكيسانية فأعلم علمائهم كيسان، وقد تتلمذ على محمد بن علي بن أبي طالب ولم يكن بعده عالم يوازيه من هذه الفرقة، وهو أول من قال بإمامة محمد بن علي بعد أبيه، وأبو كريب الضرير وإسحاق بن عمر وعبد الله بن حرب وغيرهم. وأما الزيدية المخلصون فأعلم علمائهم يحيى بن زيد بن علي الحسين بن علي بن أبي طالب وأكابر أصحاب زيد، ولهم روايات عن أئمة أهل البيت، كأمير المؤمنين والسبطين والسجاد وزيد ويحيى بن زيد. ومن أئمتهم الناصر. ومن علمائهم جماعة يقال لهم الزيدية، نسبوا إلى زيد بن علي نسبا ومذهبا، وهم من ثقاة المحدثين، وقد روى عنهم أهل السنة والجماعة. وأما الذين اختلفوا وافترقوا فأعلم علمائهم جارود وأحمد بن محمد بن سعيد السبعي الهمداني وابن عقدة وسليمان والبتر التومي وخلف بن عبد الصمد ونعيم بن

اليمان ويعقوب وحسين بن الصالح. ومن علمائهم بعد الثمانين والمائتين الهادي وابنه المرتضى من الشرفاء الحسنية. وأكثر الزيدية غير الفرقة الأولى يتبعون المعتزلة في الأصول إلا في مسائل معدودة كمسألة الإمامة وأن صاحب الكبيرة كافر نعمة فاسق، ويوافقون أبا حنيفة في الفروع، وبعضهم يتبعون الشافعي فيها إلا في بعض مسائل يروونها عن أئمتهم. وأما الإسماعيلية فمن علمائهم المبارك وعبد الله بن ميمون القداح وغياث صاحب كتاب البيان ومحمد بن علي البرقعي والمقنع. وأما المهدوية منهم فلم يكن لهم أول الأمر عالم يقتدى به، ولما قدم محمد بن عبد الله بن عبيد الله الملقب بالمهدي بلاد المغرب، وكان إسماعيليا دعا أهله إلى مذهب الإسماعيلية فأجاب أكثرهم دعوته وتمذهبوا بمذهبه، فلما رأى أن أمره مطاع ادعى أنه من نسل إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق وسمت نفسه إلى الخلافة فجمع من أطاعه وحرضهم على قتال من خالفهم، فحاربوا عمال المقتدر العباسي وولاته، فغلبوا عليهم، فكثرت حينئذ أتباعه ودعاته ولقبوه بالمهدي ودعوا الناس إلى إمامته. ولم يكن دعاته أول الأمر من أهل العلم، كانوا يدعون الناس إلى مذهبه بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وكان أهل الحجاز والعراق ومصر والشام لا يصدقونه في دعواه هذا النسب. وقد صعد العزيز أحد أولاد المهدي المنبر يوم الجمعة، فوجد فوق المنبر رقعة قد كتب فيها هذه الأبيات: إنا سمعنا نسبا منكرا ... يتلى على المنبر في الجامع إن كنت فيما تدعي صادقا ... فاذكر أبا بعد الأب الرابع وإن ترد تحقيق ما قلته ... فانسب لنا نفسك كالطائع أو لا دع الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع

فإن أنساب بني هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع لأن هذه القصة جرت في خلافة الطائع العباسي وكان نسبه مشهورا لا يرتاب فيه أحد، وأما المهدي فكان لا يعرف نسبه أحد، وأجمع أهل الحجاز والمدينة والعراق والشام ومصر على أنه كذاب أفاك. وإنما قال الشاعر: "فاذكر أبا بعد الأب الرابع"؛ لأن أباه الرابع إنما هو أبو المهدي عبد الله بن عبيد الله، ولهذا يقال لبنيه العبيديون، والمهدي غير اسم أبيه وسماه عبد الله، فإن اسمه كما تقدم أحمد، لأنه يزعم أنه هو المهدي الموعود، وكان قد سمع من الأخبار المشهورة أن اسم المهدي محمد واسم أبيه عبد الله، ويدعي أنه ابن عبد الله بن عبيد الله بن قاسم بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق، ولم يخلف محمد ولدا. ولما استولى على بلاد المغرب، وأولاده على مصر والشام والحجاز واليمن، وانتشروا في البلاد، وآثر الناس مذهبهم، نشأ فيهم العلماء، ورجع بعض علماء أهل السنة إلى مذهبه، فممن نشأ فيهم أبو الحسن علي بن نعمان وأبو عبد الله محمد بن نعمان، وذلك في أيام المعز والعزيز، وأبو القاسم عبد العزيز في زمن

الحاكم، وعامر بن عبد الله الرواحي وعلي بن محمد بن علي الصليحي زمن المستنصر. ومن الذين انتقلوا من مذهب أهل السنة إلى مذهب الإسماعيلية أبو حنيفة بن أبي عبد الله ومحمد بن منصور صاحب الثغر وقاضيه، وكان مالكي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإسماعيلية لطلب المال والجاه، ولم يكن في دولة العبيدية مثله، فإنه كان عالما فاضلا، وكان ينتصر لمذهب الرافضة، وكان ملازما لصحبة المعز، ولم يزل عنده معززا مبجلا، وقد تبعه جمع من الناس. إن الفقيه إذا غوى وأطاعه ... قوم غووا معه فضاع وضيعا مثل السفينة إذا هوت في لجة ... غرقت وأغرق ما هنالك أجمعا ومن علماء أولاد المهدي جمع منهم: العزيز ابنه، فإنه كان أديبا فاضلا وعالما كاملا. ومنهم المعز والحاكم بن المعز. والحاكم هذا يدعي أنه يناجي ربه في الطور كما كان موسى عليه السلام يناجيه، وكان يعلم شيئا من علم الكيمياء وله كتاب سماه التعويذ، وهو مشهور بين أرباب هذا الفن، وكذا كتاب الهياكل. وكان الملوك من أولاد عبيد كلهم يدعون معرفة المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة. وصعد العزيز يوما المنبر فرأى في رقعة: بالظلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقة إن كنت أُعطيت علم غيب ... فقل لنا كاتب البطاقة

وكان الحاكم هذا من المغالين في الرفض، وهو الذي بعث رجالا إلى المدينة سرا لاستخراج جسد الشيخين الثاويين جوار سيد الثقلين -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فلما قدموا المدينة خدعوا بعض العلوية ممن كان مجاورا للمسجد الشريف النبوي والروضة المطهرة، فآواهم في داره، وكانوا يشتغلون بالحفر ليلا، فلما بلغوا قرب الروضة المطهرة أظلمت المدينة وثار بها غبار واشتد هبوب الرياح والرعد والبرق حتى استيقن الناس بالهلاك، فقام العلويون وأخبروا أمير المدينة بما جرى، فأرسل إليهم وأحضرهم بين يديه وأمر بقتلهم، فانكشفت الظلمة وزالت الصواعق وسكنت الرياح. كذا ذكره القاضي أبو عبد الله منصور السمناني في كتاب الاستبصار. وأما النزارية فعلماؤهم شرذمة قليلة، وكان أعلمهم الحسن بن الصباح الحميري وأبو الحسن [سنان بن] سليمان بن محمد الملقب براشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية، وله رسائل بديعة، منها ما كتب إلى السلطان نور الدين محمود الشهيد بن علاء الدين زنكي ملك الشام، وهو الذي سير بعض أمرائه، وهو صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى مصر في عهد العاضد، ومات العاضد بعد قدومه، فاستولى على

مصر من غير منازع. لما كتب إليه السلطان كتابا يهدده فيه فقال: "يا للرجال لأمر هال مفظعه ... ما مر قط على سمعي توقعه يا ذا الذي بقراع السيف هددنا ... لا قام قائم جنبي حين تصرعه قام الحمام إلى البازي يهدده ... وشمرت لقراع الأسد أضبعه أضحى يسد فم الأفعى بأصبعه ... يكفيه ماذا يلاقي منه أصبعه وقفنا بتفصيله وجمله، وأعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل! وبعوضة تعد في التماثيل! وقد قالها قبلك قوم آخرون فدمرناهم، وما كان لهم ناصرون، أوللحق تدحضون؟ أم للباطل تنصرون؟ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، أما ما صدرت به قولك من قطع رأسي وقلعك لقلاعي في الجبال الرواسي؛ فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض، كم بين قوي وضعيف ودني وشريف! وإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، فلنا أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت به"، وقد علمتم ما جرى في عترته وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال، والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى، إذ نحن مظلومون للظالمين، ومغبوطون للغابطين، وإذا جاء الحق زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، وقد علمتم ظاهر حالنا، وكيف قتال رجالنا، وما

يتمنون من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم، والله عليم بالظالمين، وفي الأمثال السائرة: أوللبط يهددون بالشط، فهيئ للبلاء جلبابا، وتدرع للرزايا أثوابا، ولا تكونن كالباحث عن حتفه بظلفه، والجاذع مارن أنفه بكفه، وإذا وقفت على كتابنا فكن على أمرنا بالمرصاد، ومن حيلتك على اقتصاد، واقرأ أول النحل وآخر سورة صاد"، ثم ختمها ببيتين وهما: بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت بيوتك فيه واشمخر عمودها فأصبحت ترمينا بنبل قد استوى مغارسها فينا وفينا جريدها وأما علماء الإمامية فهم كثيرون جدا، والمشهورون منهم قيس بن سليم بن قيس الهلالي وهشام بن الحكم وهشام بن سالم وصاحب الطاق وأبو الأحوص وعلي بن منصور وعلي بن جعفر وبيان بن

سمعان المكنى بأبي أحمد الحرري وابن أبي عمير وعبد الله بن مغيرة والنطيري وأبو بصير ومحمد بن الحكيم ومحمد بن الفرخ [الرخجي] وإبراهيم الحراز ومحمد بن حسين وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم وبكير بن أعين وزرارة بن أعين وعبد الله وسماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعلي بن جعفر وعيسى وعثمان وعلي بن

فضال ومنصور بن الحازم وأحمد بن محمد بن عبد الله أبي نصر البزنطي ويونس بن عبد الله القمي وأيوب بن نوح والحسن بن عياش بن الحريش، وغيرهم. وأما علماء الاثني عشرية فكثيرون أيضا. والمشهورون منهم علي بن مظاهر الواسطي وأحمد بن إسحاق وجابر الجعفي ومحمد بن جمهور

العمي وحسين بن سعيد وعبد الدين وعبيد الله ومحمد وعمران وعبد الأعلى بنو علي بن أبي شعبة وجدهم وصاحب المعالم وفخر

المحققين ومحمد بن علي الطرازي ومحمد بن علي الجعابي والكراكجي والكفعمي وجلال الدين حسن بن أحمد شيخ شيخهم المقتول ومحمد بن الحسن الصفار وأبان بن بشر البقال وعبد [الكريم] الخثعمي والحسين بن سعيد والفضيل بن

شاذان ومحمد بن يعقوب الكليني (وكلين كأمير قرية بالري) وعلي بن بابويه القمي -وهو غير القمي الذي هو أحد مشائخ البخاري وأحد رواته في الصحيح فإن هذا من أهل المائة الرابعة، والذي استشهد به البخاري في كتاب الطب حيث قال في حديث: «الشفاء في ثلاثة شرطة محجم وشربة عسل وكية نار»: رواه القمي عن ليث عن مجاهد، فإن ابن بابويه القمي لم ير الليث ولا من روى عنه- وعبد الله بن علي الحلبي وعلي بن مهزيار (بفتح الميم وسكون الهاء والزاي لا الراء كما وهم) الأهوازي

وسلّار وعلي بن إبراهيم القمي وابن براح وابن زهرة وابن إدريس ويونس بن عبد الرحمن والحسن والكيدري ومعين

الدين المصري وابن جنيد وحمزة وأبو الصلاح وابن الشريعة الواسطي وابن [أبي] عقيل والغضائري والكشي والنجاشي وحيدر الآملي

والبرقي ومحمد بن جرير الطبري وابن هشام الديلمي ورجب بن رجب بن محمد البرسي الحلي وابن شهر آشوب السروي المازندراني و [منتجب] الدين أبو الحسن علي بن عبد الله حفيد علي بن حسين بن بابويه والطبرسي ومحمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري صاحب كتاب نوادر الحكم، وشيخهم المقتول محمد بن مكي، وسعد بن عبد الله صاحب كتاب الرحمة،

ومحمد بن الحسن بن الوليد شيخ ابن بابويه، وأحمد بن فهد وميثم بن ميثم البحراني وعبد الواحد بن صيفي النعماني وأبو عيسى الوراق وابن الراوندي والمسبحي وأبو عبد الله محمد بن نعمان الملقب عندهم بالمفيد [وعند البعض ابن المعلم] والشريف المرتضى والشريف الرضي وأبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي وسبطه علي بن موسى بن طاووس وأحمد بن طاووس وجمال الدين أبو علي بن الحسين بن يوسف بن المطهر الأسدي

الحلي المشتهر عندهم بالعلامة، وابنه فخر الدين الملقب عندهم بالمحقق [الحلي، ونصير بن محمد الطوسي وأبو القاسم نجم الدين بن سعيد الملقب عندهم بالمحقق] صاحب الشرائع، وتقي الدين بن داود وسديد الدين محمود الحمصي ورضي الدين بن طاووس وجمال الدين بن طاووس وولده غياث الدين والمقداد وعلي بن عبد العالي وصهره الباقر وزين الدين المقتول وتلميذه بهاء الدين العاملي وخليل

القزويني شارح العدة والباقر المجلسي صاحب بحار الأنوار. وغيرهم مما يطول ذكرهم.

الفصل السابع عشر في بيان كتب الشيعة

الفصل السابع عشر في بيان كتب الشيعة اعلم أن أول من ألف في الأخبار من الرافضة سليم بن قيس الهلالي، وكتابه يعتمد عليه جميع فرق الرافضة. ولنذكر ما لكل فرقة من الكتب: أما السبائية فليس لهم كتاب إلا ما جمعه بعض الأوغاد منهم في مدح أمير المؤمنين وخوارقه وأنه إله وأنه لم يقتل وأنه في السماء وسينزل بعد حين، إلى غير ذلك مما انطوى عليه من العقائد الزائغة، وكتاب الأخبار التي جمعوها لنصرة مذهبهم. وقد ألفت الحلولية منهم كتابا ذكروا فيه عقائدهم الزائغة والأخبار الموضوعة، مثل إن الله تعالى كان روحه في السماء ثم حل في جسد آدم وأولاده الأصفياء حتى انتهى إلى علي وأولاده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأما الكيسانية فليس لهم كتاب إلا ما جمعه بعضهم مما روي عن كيسان في فضل أمير المؤمنين وخوارقه، إلى ابنه محمد - وكان إماما - وشيء من اعتقاداتهم، ولم يبق لهذا الكتاب أثر. وأما الزيدية فلم يكن لهم كتاب في أول الأمر لا في الأصول ولا في الفروع، وكانوا يتبعون المعتزلة في المسائل الأصولية، وفي الفروع أكثرهم يتبع أبا حنيفة، والقليل منهم يتبع الإمام الشافعي. وكانت لهم روايات عن أئمتهم في الفروع توافق مذهب الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي، لكنها قليلة جدا، وبعض المسائل في الأصول. ثم اجتهد بعض علمائهم في الفروع وخالف الإمام أبا حنيفة والإمام الشافعي في مسائل معدودة، ثم صنف كتبا في الفروع والأصول، منها الأحكام. ولا توجد أكثر كتبهم إلا في بلاد اليمن والحجاز.

وأما الإسماعيلية فلم يكن لهم كتاب قبل دولة العبيديين إلا كتاب البيان للباطنية منهم. وصنفوا بعد خروج المهدي كتبا كثيرة، أكثرها لنعمان بن محمد بن منصور القاضي، ككتاب أصول المذاهب وكتاب الأخبار في الفقه وكتاب الرد على المخالفين الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي وعلي بن شريح، وكتاب اختلاف الفقهاء، وكتاب ابتداء الدعوة العبيدية وغيرها من الكتب. ولما انقضت دولتهم وسكنت ريحهم ورجع الناس عن مذهبهم ضاع أكثر كتبهم ولم يبق منها إلا اليسير في بعض بلاد اليمن كعدن وصنعاء لدى بعض مقلدي هذا المذهب. نقل بعضهم أن من جملة مسائل كتبهم أنه يجب أن يكون الإمام معصوما من المعاصي عند الولاية، وأنه إذا نص الإمام على شيء ثم رجع عنه ونص على نقيضه فالثاني ناسخ للأول، وهو مذهب المتقدمين منهم، وتابعهم المهدوية، وخالفهم النزارية منهم وقالوا النص الثاني لا يعمل به والمعتمد هو النص الأول، وأن الإمام إذا قضى أمرا ما كان للمؤمنين الخيرة من أمرهم، وأنه إذا زوج الإمام امرأة من رجل صح العقد بينهما وليس لهما الفسخ، وأن الله تعالى يكلم الإمام كما كلم موسى تكليما. وكان الحاكم العبيدي من أئمة الإسماعيلية يزعم أن الله تعالى يكلمه في الطور، وكان يذهب إلى الطور في بعض الأوقات، وأن الأئمة يعلمون الغيب، كما هو مذهب الاثني عشرية وجمع من الإمامية، وأنه لا يجوز إدخال كلمة "على" على الآل عند التصلية، ورووا

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من فصل بيني وبين آلي بعلَى فقد جفاني"، وهو من الأخبار الموضوعة المختلقة، ولا يقول به غيرهم من فرق الإسلام، وأنه يجوز للرجل نكاح ثماني عشرة امرأة لقوله تعالى: {فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} فإن مثنى معدول عن اثنين اثنين، وثلاث عن ثلاثة ثلاثة، ورباع عن أربعة أربعة، فالمراد من مثنى أربعة، ومن ثلاث ستة، ومن رباع ثمانية، والمجموع ثماني عشرة امرأة. وهذا من الأوهام الفاسدة، فإن الآية لا تدل عليه، لأن مثل هذا الكلام يستعمل في مقام حصر الأقسام فيما دل عليه لفظ العدد، فمعنى جاء القوم مثنى وثلاث ورباع جاء كل قسم من أقسام القوم اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، والثاني توكيد للأول؛ إلا أنه التزم ذكره لأن التكرير علامة على إرادة التوكيد، وليس من لوازم التأكيد جواز إسقاطه، إذ رب تأكيد يلزم حتى يصير كأنه من الكلمة، نص عليه سيبويه في الكتاب، ومثّل ذلك بما الزائدة في "لا سيما زيدٍ" بجر زيد، فإنها لا تحذف، فصار سيما وما كأنها كلمة واحدة. فمعنى الآية: فانكحوا ما طاب لكم من أقسام أعداد النساء، أي فلينكح كل منكم ما طاب له من النساء، إن شاء اثنين اثنين، وإن شاء ثلاثة ثلاثة، وإن شاء أربعة أربعة، لا أكثر من ذلك كخمسة خمسة، ولم يسمع من العرب استعمال مثل هذا الكلام في غير مقام حصر الأقسام. وتمام الكلام على هذه الآية في كتب التفاسير، وفي روح المعاني - تفسير الجد رحمه الله تعالى - في هذا المقام ما يشفي العليل ويروي الغليل. على أنا لو فرضنا أن الآية لا دلالة فيها على المنع من الزيادة على الأربع فالسنة المتواترة تكفي فيه، فقد نصت على جواز الأربع والمنع من الزائد عليه، وانعقد إجماع الأمة عليه قبل ظهور هذه الفرقة. وأما الباطنية من الإسماعيلية فكتبهم قليلة جدا، منها كتاب البيان وكتاب تأويل القرآن وكتاب تأويل الأخبار وكتاب التأويلات المنسوب إلى

ناصر بن خسرو. وأما النزارية فكان لهم كتب كثيرة، منها كتب ابن الصباح وكتاب نصير الدين الطوسي صاحب التجريد صنفه بالتماس بعض سلاطينهم، ولكن جلال الدين قد أحرق كل ما وجده في خزانة آبائه الضالين من كتبهم. وأما الإمامية فلهم كتب كثيرة في الكلام والتفسير والحديث وأصول الفقه وفروعه. أما كتبهم في الكلام: فمنها مصنفات هشام بن الحكم، وهو أول من صنف في الكلام على مذهب الرافضة، ومنها مصنفات هشام بن سالم ومصنفات محمد بن نعمان شيطان الطاق ومصنفات ابن جهم الهلالي وأبي الأحوص علي بن منصور وحسين بن السعيد والفضل بن شاذان ومصنفات أبي عيسى [الوراق] وابن الراوندي والمسبحي ومصنفات محمد بن الحسن الصفار مثل بصائر الدرجات وغيره، ومنها كتاب علي بن مطاهر الواسطي وكتاب التوحيد لعلي بن بابويه

وكتاب التوحيد أيضا لمحمد بن علي بن بابويه وكتاب التوحيد أيضا لحسين بن علي بن بابويه وكتاب الشافي للمرتضى في الإمامة وكتاب محمد بن جرير الطبري في الإمامة أيضا وكتاب تجريد العقائد للطوسي وشرحه لابن المطهر والألفين له ونهج الحق ومنهج الكرامة والباب الحادي عشر له أيضا وشرحه للمقداد والقواعد ونظم البراهين وشرحه ونهج المسترشدين وشرحه

وواجب الاعتقاد وشرحه وكتاب ميثم بن ميثم البحراني والتقويم، وغيرها. وأما كتبهم في التفسير: فالمشهور منها التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمد الحسن العسكري -رواه عنه ابن بابويه بإسناده، ورواه عنه غيره بإسناد مع زيادة ونقصان، وليس في التفسير الذي رواه عنه أهل السنة كثير مما عزته الشيعة إليه- وتفسير علي بن إبراهيم وتفسير مجمع البيان للطبرسي وتفسير التبيان لمحمد

بن الحسن الطوسي وتفسير النعمان وتفسير العباسي والمحيط الأعظم في تفسير القرآن المكرم للحيدر الآملي وكنز العرفان في تفسير أحكام القرآن للمقداد وتفسير الأحكام لغيره، وغير ذلك. وأما كتبهم في الحديث: فقد زعموا أنها كانت أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها الأصول، وكان اعتمادهم على تلك الكتب ثم حالت الحال فضاع معظم تلك الكتب. والمشهور مما بقي: الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني والتهذيب لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي والاستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار لأبي جعفر أيضا وفقه من لا يحضره الفقيه لمحمد بن علي بن بابويه القمي والمعتبر والسرائر وإرشاد القلوب

للديلمي وقرب الإسناد وكتاب المسائل لعلي بن جعفر والنوادر للحسين القمي والجامع المريطي وكتاب المحاسن للبرقي وكتاب العلل لابن بابويه ودعاء الإسلام وكشفه والمقنع

والمكارم والملهوف وكتاب العياشي وفلاح السائل وكتاب المناقب لابن شهر آشوب السروي المازندراني ومعاني الأخبار والمجالس لابن المعلم والإرشاد له والروضة له وكتاب المجالس لأبي علي بن أبي جعفر الطوسي وعدة الداعي لابن فهد

وكتاب الطرف لابن طاووس وكتاب المحاسن لمحمد بن بابويه والفقه له والمجالس له والاستبصار لابن المطهر الحلي وكتاب إنا أنزلناه لابن عياش وكتاب الخصال وكتاب المحاسن للبرقي والبصائر لسعد بن عبد الله وأعلام الدين للديلمي ومجمع البيان والبصائر للصفار والجامع وكتاب النوادر للراوندي

ومجمع البيان ومنتقى الجمان وكتاب الخرائج والجرائح للراوندي وكتاب المحاسن لأبي جعفر الطوسي ومعاني الأخبار له ونوادر الحكمة وكتاب الرحمة وثواب الأعمال والخصال لابن بابويه وكتاب المعراج له وعيون أخبار الرضا له وجامع الأخبار والخلاف للطوسي والمصباح له وإكمال الدين والعيون وعقاب الأعمال والأماني

والهداية وعلل الشرائع والاحتجاج ومشارق أنوار اليقين في كشف أسرار أمير المؤمنين واللباب لابن الشريفة الواسطي، وغير ذلك. وأما أصول الحديث فلم يكن لهم كتاب فيه، وقد ذكر بعضهم أحكام الخبر في أصول الفقه، وقد وضع بعض المتأخرين قواعد ثم زاد عليها من جاء بعده شيئا كثيرا أخذه من كتب أهل السنة، ككتاب البداية في علم الدراية وتحفة القاصدين في معرفة إصلاح المحدثين. ولم يكن لمتقدميهم كتاب في الجرح والتعديل، وإنما ألف فيه الكشي، وتبعه بعض من تأخر عنه. ومجموع ما ألفوه فيه ثمانية مصنفات: كتاب الكشي وهو مختصر جدا، وكتاب الغضائري والنجاشي وأبي جعفر الطوسي وجمال الدين وأحمد بن طاووس وكتاب الخلاصة للحلي والإيضاح له وكتاب تقي الدين حسن بن داود. وأما كتبهم في أصول الفقه: فالمشهور منها المعتمد والعدة، وقد شرحها بعض علماء أصفهان شرحا مبسوطا، والمنادي للحلي وشرحه والقواعد

للمقتول وشرحه والزبدة وشروحه، وأحسن شروحه شرح المازندراني، وغير ذلك. وأما كتبهم في الفقه: فمنها فقه الرضا وقرب المسائل والمبسوط والإسناد ومنتهى الطلب والتحرير وتذكرة الفقهاء وكلها لابن المطهر، والمقنعة لابن بابويه والمقنعة لابن المعلم وكتاب الإشراف له

والمقنع والمعتبر ومكارم الأخلاق وكتاب العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم وكنز الفوائد للكراكجي وكتاب الإقبال ومدينة العلم لابن بابويه والمجلس له وفلاح المسائل وجنة الأمان للفكعمي واللمعة وشرحها

والنهاية والإيضاح والخلاف والتحرير والإرشاد والنافع وشرحه والقواعد والمصباح ومختصر بن جنيد وفتاوى المحقق ومهذب ابن فهد وإيضاح القواعد والمنتهى والشرائع وشرحه

والخلاصة والمبسوط وتذكرة الفقهاء والمختلف والمعالم والمجالس لابن بابويه والدروس والذكرى والبيان للمقتول، وغير ذلك.

الفصل الثامن عشر في بيان أحوال كتب أحاديث الشيعة

الفصل الثامن عشر في بيان أحوال كتب أحاديث الشيعة اعلم أنه ليس لفرق الشيعة كتاب في الأخبار إلا بعرف الإمامية، ولهم كتب كثيرة كما تقدم، وزعموا أن أصح كتبهم أربعة: الكافي، وفقه من لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار. وزعموا أن العمل بما في الكتب الأربعة من الأخبار واجب، وكذا بما رواه الإمامي ودونه أصحاب الأخبار منهم. نص عليه المرتضى وأبو جعفر الطوسي وفخر الدين الملقب عندهم بالمحقق الحلي؛ وهو باطل لأنها أخبار آحاد. وأصحها الكافي. وقالت جماعة: أصحها فقه من لا يحضره الفقيه. وقال بعض المتأخرين الناقد لكلام المتقدمين: أحسن ما جمع من الأصول كتاب الكافي للكليني والتهذيب والاستبصار، وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن. وما زعموا من صحتها باطل؛ لأن في إسناد الأخبار المروية من هو من المجسمة، كالهشامين وصاحب الطاق وغيرهم. ومنهم من أثبت الجهل لله في الأزل، كزرارة بن أعين وبكير بن أعين والأحولين وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم وغيرهم. ومنهم فاسد المذهب كبني فضال وابن مهران وابن بكير، وجماعة أخرى. ومنهم الوضاع كجعفر القزاز وابن عياش. ومنهم الكذاب كمحمد بن عيسى. ومنهم الضعفاء وهم كثيرون. ومنهم المجاهيل وهم أكثر، كابن عمارة وابن سكوه. ومنهم المستورو الحال كالبقليسي وقاسم الخراز وابن فرقد وغيرهم. وسيجيء ذكر جماعة منهم في المقصد السادس إن شاء الله تعالى. ومنهم من هو فاسق في أفعال الجوارح، وغيرهم. ولأن كتب أحاديثهم مشحونة بالأحاديث الضعيفة، فكيف يجب العمل بكل ما فيها من الأخبار؟ وقد اعترف الطوسي بنفي وجوب العمل بكثير من الأحاديث الصحيحة بأنه خبر واحد لا يوجب علما ولا

عملا. والكليني يروي عن ابن عياش وهو كذاب. والطوسي يروي عمن يدعي الرواية عن إمام مع أن غيره يكذبه كابن سكان، فإنه يدعي الرواية عن الصادق وقد كذبه غيره، ويروي عن ابن المعلم وهو يروي عن ابن بابويه الكذاب صاحب الرقعة المزورة، ويروي عن المرتضى أيضا، وقد طلبا العلم معا وقرآ على شيخهما محمد بن النعمان، وهو أكذب من مسيلمة، وقد جوز الكذب لنصرة المذهب، ومن ثمة ألف كتابا مشحونا بالأكاذيب وعزاه إلى نصراني، وكتابا آخر كذلك عزاه إلى جارية كما سبق غير مرة. ودعوى جماعة من متقدميهم كالمرتضى وشيعته تواتر كثير من الأخبار المودعة في كتب القوم باطلة، إذ لا شبهة في أن كل واحد من الأخبار آحاد. وقد اعترف علماء الفرقة أنه لم يتحقق إلى الآن خبر بلغ التواتر إلا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب علي متعمدا

فليتبوأ مقعده من النار» نص عليه المقتول في البداية. وكذا القدر المشترك بينها، إذ لم يتواتر مدلولها أيضا، إذ ليس في كتبهم خبر رواه جمع بلفظ واحد أو ألفاظ متقاربة يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات، ولا معنى واحد لأنه هو القدر المشترك بين الأخبار. وذلك ظاهر لمن تصفح كتبهم. وأعجب من ذلك أنه ادعى أن ما رواه الإمامي وروته أصحابه يوجب العلم، مع أن فيهم من طعنوا فيه. والمتقدمون منهم أيضا كانوا يزعمون ذلك لأنهم كانوا يعملون بما رواه أصحابهم من غير التفات إلى المعلول والمردود والصحيح وغيره. وابن بابويه حكم بوضع بعض ما رواه الكليني بإسناد صحيح عندهم، كالأخبار التي رواها في تحريف القرآن وإسقاط بعض آيات منه. والحلي أيضا حكم بوضع بعض أخبار رواها الكليني أيضا، وكذا أبو جعفر الطوسي، كخبر ليلة

التعريس وخبر ذي اليدين. وبالغ المرتضى في وضع ما رواه شيخ شيخه ابن بابويه والصفار من خبر المساق؛ مع أن إسناد كل منهما صحيح عندهم.

الفصل التاسع عشر في أن معتقدات الرافضة وهميات

الفصل التاسع عشر في أن معتقدات الرافضة وهميات اعلم أنما اعتقدته الرافضة من الإله والرسول والأئمة ليس له وجود في الأعيان: أما معبودهم: فهو عند بعضهم رجل واحد، أو اثنان، أو خمسة، وكل منهم يأكل ويشرب وينكح ويلد ويولد، ويغلب عليه عباده؛ أو أنه روح حل في رجل يصح ويمرض ويأكل ويشرب. وعند بعضهم أنه جسد له طول وعرض وعمق وشكل وصورة ورائحة، ونصفه الأعلى أجوف ونصفه الأسفل صمد. وعند بعضهم أنه جسم على صورة إنسان، وهو في مكان وجهة. وبعضهم يعتقده أنه لم يكن في الأزل عالما ولا سميعا ولا بصيرا؛ وبعضهم يجوز عليه الجهل في الأزل، وأنه لا يعلم الأشياء قبل كونها وإنما يعلمها بعد كونها. وعند بعضهم أنه لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها. وعند بعضهم أنه أوجب عليه أمورا، وإن ترك بعض ما يجب عليه استحق الذم. وعند بعضهم أنه لا يحصل أكثر مراداته في الدنيا، وكثيرا ما يقع مراد من يعاديه كإبليس وجنوده وسائر الكفرة. وعند بعضهم أنه يرضى لعباده الضلال، وأن له شريكا في الخلق - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ولا شك أن ما وصفوه بما وصفوه ليس هو الإله الحق، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع العليم. وأما الرسول الذي يقتدونه: فهو رجل من العرب لم يبلغ بعض رسالات ربه، وليس هو أفضل الخلق، بل من ليس بنبي يساويه، وأنه رد الوحي مرتين، وأنه لم يبلغ رسالة ربه في آخر حياته خوفا من ضرر أصحابه، وأنه حلل ما شاء وحرم ما أراد، وأنه أمر خيار أهل بيته أن يكذبوا على الله ورسوله ما داموا أحياء، وأن يفتوا في الدين بخلاف ما أنزل الله تعالى، وأن يحللوا فروج فتياتهم لشيعتهم، وأن يكرهوهن على البغاء إن أردن تحصنا،

وأن يأمروا شيعتهم بإخراج أمهات أولادهم وسائر جواريهم لأهل مذهبهم، وأن يقرءوا في الصلاة بعض كلمات ليست من القرآن، وألا يقرءوا فيها بعض ما هو القرآن، وأن يأمروا شيعتهم أن يرضوا من خالفهم في المذهب بما لا يرضى الله تعالى لهم من الإضلال، وأن لا يعلموهم أصول دينهم، إلى غير ذلك مما ثبت عند الشيعة من العقائد الفاسدة والأحكام الكاسدة، ولا شك أن النبي الموصوف بهذه الصفات ليس هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل لم يرسل الله تعالى مثل هذا النبي الذي وصفوه الشيعة بما وصفوه. وأما إمامهم في كل عصر: فهو رجل كثير الخوف، يخشى من صفير الصافر. وعندهم أن جميع أئمتهم أذلاء مغلوبون، يفترون على الله الكذب، ولا يمكنهم إظهار الحق، ويخشون من محبيهم الذين يصلون عليهم في صلواتهم، ويرخصون المؤمنات أن يصلين حالة الجنابة، وينصرون الباطل طول أعمارهم، ويقرؤون في صلواتهم ما يجزمون بأنه ليس من القرآن، وينهون شيعتهم عن أن يحدثوا النساء بعض ما وجب عليهن. وخاتمهم كما زعموا أشدهم جبنا، وقد اختفى لما خوّفه في صباه بعض الناس، ولا يظهر من شدة الخوف على أحد، لا على أعدائه ولا على أحبائه، خوفا أن ينتشر بسببهم خبره، وذلك غاية الجبن. وقد طالت مدة غيبته، فتعطل بسببه الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، وسائر الحدود الشرعية، وأن بعض الشيعة يزعم أن إمامه لا يجب عليه شيء، وله أن يفعل ما يشاء، وله إسقاط التكاليف الشرعية. وبعضهم يزعم أن إمامه يعلم المغيبات وأنه يناجي ربه. فلا شك أن مثل هؤلاء الأئمة لم يوجد في زمان قط إلا في أوهامهم، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

الفصل العشرون في بيان غلو الرافضة في مذاهبهم الباطلة

الفصل العشرون في بيان غلو الرافضة في مذاهبهم الباطلة اعلم أن أشد الفرق الهالكة غلوا في مذهبهم الرافضة، فإنهم يغلون في دينهم أشد المغالاة ويقولون على الله ما لا يعلمون. وهم أشبه الناس باليهود كما سبق. وقد اتفق جميع فرقهم على الغلو في أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه حتى فضلوه على الأنبياء، وفي تكفير بعض أمهات المؤمنين والمهاجرين والأنصار الذين مدحهم الله تعالى في كتابه وأخبر بأنه رضي عنهم ورضوا عنه وأنهم أصحاب الجنة. وقد بالغت الرافضة في تتبع مثالبهم والاستدلال على مطاعنهم بالأخبار الموضوعة والأخبار التي لا توجب علما، مع أن لها محامل صحيحة. وقد ورد في القرآن ما يدل بظاهره على صدور الذنب عن بعض الأنبياء، كقوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} وسيجيء ما يتعلق بهذا في مباحث النبوة إن شاء الله تعالى. وقد روي عن الأمير من الأفعال والأقوال ما يدل بظاهره على صدور الذنب، كما ذكره المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة. وقد جعلت الرافضة الآيات الواردة في فضائلهم من المتشابهات، كما ذكره ابن شهر آشوب في مثالبه، وجعلت الأحاديث الصحيحة فيها من الموضوعات. وأما ما تفردت به كل فرقة من الغلو فهو في الدعاوى الكاذبة والعقائد الزائغة. أما الغلاة فغلوهم ظاهر، حيث اتخذوا ابن البشر إلها، وقالوا بتعدد الآلهة والحلول من غير دليل. وأما الكيسانية فغلوهم في إمامة محمد بن علي بعد أبيه من غير برهان، مع وجود السبطين، ودعوى كونه معصوما دونهما، وأنه حي في جبل رضوى، مع أربعين رجلا من أصحابه، عنده ماء وعسل، وأنه صاحب الزمان، وأنه يظهر بعد حين، وأن الله تعالى يوحي إلى الأئمة ونوابهم، وأن من خالفهم كافر. وأما المختارية منهم فغلوهم في المختار بن أبي عبيد الثقفي حتى قالوا إنه يوحى إليه، وقد ادعى ذلك لنفسه. وهو الكذاب الذي أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إن في

ثقيف لمبيرا وكذابا»، والمبير هو حجاج بن يوسف الثقفي. وأما الكندية منهم فغلوهم فيما تقدم، وفي دعواهم إمامة ابن حرب الكندي الذي كان جهولا كذوبا، مع وجود كثرة العلماء من أهل البيت وقريش والكبراء والسادات. وأما المنصورية منهم فغلوهم فيما تقدم، وفي دعواهم إمامة المنصور الدوانيقي، مع وجود من سبق، وفي اعتقاد كون الإمام معصوما، وكونه أفضل من رعيته، مع أن المنصور لم يكن من أهل العصمة. وأما الزيدية غير الأولى منهم فغلوهم في تكذيب ما في القرآن من كون المهاجرين والأنصار من أهل الجنة، وفي أن صاحب الزمان حي مختف، سيظهر أمره بعد حين، وأن المنتظر من قتل أو مات، وفي تضليل مخالفيهم. ولكن بعض فرقهم أقل غلوا من سائر فرق الشيعة. وأما الإمامية فغلوهم في إنكار بعض كلمات القرآن، وفي نبذ ما ورد فيه من

فضائل المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة الأخيار، وفي تكفير الصحابة كلهم إلا أربعة أو ستة، وفي لعن أكابر الصحابة وبعض أمهات المؤمنين، وفي اعتقاد وجوب لعنهم، وفي ادعاء أن عليا أفضل من الملائكة والرسل إلا محمد فإنه يساويه، وأن لعلي حقا على الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأن المراد من الرب في أكثر القرآن علي بن أبي طالب، كما نص عليه علي بن موسى بن طاووس، وأن رقية وأم كلثوم لم

تكونا من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأن الله تعالى خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له لأنه سبحانه أودع في صلبه عليا وأولاده، وأن الرسل بعثوا على ولاية علي، وأنهم يسألون الله تعالى أن يجعلهم من شيعة علي. وأن درجة الرسل دون درجة علي في الجنة، وأن شيعته لا تسأل عن ذنوبهم، وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان من شيعة علي، وأنهم لا يعذبون في النار، وأنهم

يدخلون الجنة بغير حساب. وأن في القرآن تحريفا ونقصا، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى من الخرافات. وأما الإسماعيلية فغلوهم في صفات الله تعالى بما يوجب ارتفاع النقيضين مع أشياء أخر تقدم ذكرها. وأما القرامطة فغلوهم في أنهم كفروا بآيات الله تعالى وفي تحليل ما حرم الله سبحانه. وأما النزارية فغلوهم في ترك العمل بالظواهر وتأويل النصوص بما هو أوهن من نسج العنكبوت. وأما الغلاة منهم فغلوهم في إسقاط أحكام الشريعة رأسا، وكانوا يعيشون مثل البهائم لا يحللون حلالا ولا يحرمون حراما، فهم كالأنعام أو أضل سبيلا.

الفصل الحادي والعشرون في بيان من لقب هذه الفرقة بالرافضة

الفصل الحادي والعشرون في بيان من لقب هذه الفرقة بالرافضة اعلم أن أول من لقّب هذه الفرق الضالة بالرافضة هو الإمام الأجل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ووجه تلقيبهم بهذا اللقب هو أن الإمام زيد رضي الله تعالى عنه لما خرج على هشام بن عبد الملك تبعه خلق كثير من العلماء والقراء وجم غفير من شيعة الكوفة وغيرهم، وكان رضي الله تعالى عنه من الطبقة الثالثة من التابعين ومن كبار أهل البيت الطاهرين، وقد حث الإمام أبو حنيفة الناس على متابعته ومبايعته ونصرته وأفتى بصحة خلافته ووجوب نصرته، وأرسل له اثني عشر ألف دينارا من ماله واعتذر من عدم الحضور بنفسه بأن عنده ودائع الناس. فحاربه أمير العراقين يوسف بن عمر الثقفي، الذي يضرب به المثل في الحمق، ووقع بينهما محاربات كثيرة، وأرسل إليه الثقفي جموعا عظيمة فحاربوه، ولما حمي الوطيس حث الإمام زيد رضي الله تعالى عنه الناس على محاربتهم، فجاء إليه أهل الكوفة - وكانوا خمسة عشر ألفا - وقالوا له: إن تبرأت من أبي بكر وعمر أعناك وحاربنا معك الأعداء، وإلا رفضناك، فقال زيد رضي الله تعالى عنهما: لا أتبرأ منهما أبدا بل أتولاهما، فإن أبي كان

يتولاهما ولا يذكرهما إلا بخير سرا وعلانية، فقالوا له: إذن نرفضك، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الرافضة، فولوا على أدبارهم ورفضوه، فقاتل مع من بقي من المسلمين المخلصين أشد قتال، وهو يتمثل بقوله: ذل الحياة وعز الممات وكلًّا أراه طعاما وبيلا فإن كان لا بد من واحد فسيري إلى الموت سيرا جميلا وحال المساء بين الفريقين، فانصرف زيد وقد أصابه سهم في جبهته، فطلبوا من ينزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموا أمره، فاخرج النصل، فمات رضي الله تعالى عنه من ساعته، فدفنوه في ساقية ماء، وجعلوا على قبره التراب والحشيش، وأجروا الماء على ذلك، وحضر الحجام مواراته، فعرف الموضع، فلما أصبح دخل على يوسف فدله على موضع قبره. فاستخرجه يوسف، وبعث رأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام أن يصلبه عريانا، فصلبه يوسف كذلك. وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه وجماعة من المحدثين أنه لما صلبه عريانا في سنة إحدى وعشرين ومائة نسجت العنكبوت على عورته من يومه. وذكر أبو بكر

بن عياش وجماعة من الأخباريين أن زيدا رضي الله تعالى عنه بقي مصلوبا خمس سنين عريانا فلم ير أحد عورته سترا من الله تعالى له، وذلك بالكيا من الكوفة، ولم يذكروا نسج العنكبوت. وهذا يدل بظاهره على أنه تعالى أعشى أبصار الخلق عن رؤيتها، وهذا أعجب من الأول. وهو من أعظم كراماته وخوارق عاداته، رضي الله تعالى عنه وأرضاه. ولما مات هشام أمر من استخلف بعده - وهو ذو اليدين - أن يدفن، وقيل: أمر بحرقه ونسفه في اليم نسفا، وقيل: أمر هشام بذلك بعد أن صلب عريانا. وروى غير واحد عن جمع من الصالحين أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مستند إلى الجذع الذي صلب عليه الإمام يقول للناس: "هكذا تفعلون بولدي؟ " أقول: وقد رأيت في بعض المواضع أن سبب خروج الإمام زيد رضي الله تعالى عنه أنه كان يدخل على هشام بن عبد الملك بن مروان من فجار بني أمية وظلمتهم، فكان يقع بينهما محاورات، فيفحمه زيد رضي الله تعالى عنه حتى يخجل بين جنده وأعيان مملكته، ومن ذلك أنه قال له يوما: أنت زيد المؤمل للخلافة؟ وما أنت وذاك؟ وأنت ابن أمة، فقال له زيد رضي الله تعالى عنه: إن الأمة لو قصرت بولدها عن بلوغ المعالي لما بعث الله تعالى نبيا هو ابن أمة وجعله أبا للعرب وأبا لخير النبيين، وهو إسماعيل -على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام- وكانت أمه مع أم إسحاق كأمي مع أمك، وما تعييرك

برجل أبوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجده علي بن أبي طالب. فلما خرج قال هشام لجلسائه: ألستم زعمتم أن أهل هذا البيت قد انقرضوا؟ ألا لعمر الله ما انقرض قوم هذا خلفهم. ودخل عليه مرة أخرى فرأى عنده يهوديا يسب، قيل: كان يسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: كان يسب أبا زيد، فانتهره زيد وقال له: يا كافر، أما والله لئن تمكنت منك لقتلتك، فقال هشام: مه يا زيد، لا تؤذي جليسنا، فخرج قائلا: من استشعر حب البقاء استدثر الذل إلى الفناء. هذا وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا كرم الله تعالى وجهه بتسمية هذه الفئة الضالة بالرافضة، وأخبره بعلاماتهم. وقد شاع إطلاق هذا اللقب عليهم سنة ثلاث وعشرين ومائة إلى زماننا هذا. خذلهم الله تعالى وأخزاهم.

المقصد الثاني في الإلهيات

المقصد الثاني في الإلهيات وفيه مطالب.

المطلب الأول في بيان أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعا

المطلب الأول في بيان أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعا ذهبت الإمامية إلى أن النظر في معرفة الله تعالى واجب بحكم العقل، بناء على أنه لا حاكم بالحسن والقبح سوى العقل، ولا حكم لله تعالى فيهما، بل إن الله تعالى تابع في أفعاله لحكم العقل، ولا يجوز أن يخالفه. وهذا القول باطل، لأن مبناه على تحكيم العقل، وامتناع العرفان بغيره، وكلاهما ممنوع، وما هو إلا من بعض الظن، ودون إثباته خرط القتاد. والحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعا لقوله تعالى: {فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحي الأرض بعد موتها}، وقوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض}، وقوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار}، ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها"،

وقوله تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت} وأن الحاكم في الحسن والقبح هو الله تعالى، قال تعالى: {يفعل ما يشاء} و {يحكم ما يريد} وقال تعالى: {لا معقب لحكمه} وقال تعالى: {له الحكم} فإن اللام للاستغراق، وتقديم الخبر يدل على الحصر. وقال تعالى: {إن الحكم إلا لله} وقال تعالى: {لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون} وقال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} نفى الوجوب قبل البعثة لنفي لازمه. ولما رواه محمد بن يعقوب الكليني في الكافي عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "ليس لله على خلقه أن يعرفوه، وللخلق على الله أن يعرفهم"، فإنه لو كان العقل حاكما لزم أن يكون الله تعالى في أفعاله محكوما لبعض مخلوقاته بحيث لا يجوز له أن يخالفه قط، وكفى به نقصا. واحتجت الشيعة على مدعاهم بأن شكر الله تعالى ودفع الخوف واجبان عقلا: أما الأول فلأن من ترك شكر النعم ذمته العقول واستحسنت سلبها عنه. وأما الثاني فلاحتمال أن المنعم قد أراد الشكر من المنعم عليه على النعمة، وأنه إذا لم يشكر سلبها عنه

وعاقبه، فيحصل له خوف العقاب وزوال النعمة عنه، وهو قادر على دفعه، ومن لم يدفعه ذمه العقلاء، وهما متوقفان على المعرفة، وهي متوقفة على النظر لا تتم إلا به، وما لا يتم الواجب المطلق المقدور عقلا إلا به فهو واجب عقلا. وهو باطل؛ لأن الوجوب المتنازع فيه هو ما ترك عليه الثواب والعقاب عند الله تعالى، لا المدح والذم عند العقلاء، ولأن وجوب شكر المنعم عقلا ممنوع، ولأنه لو وجب لوجب لفائدة وإلا كان عبثا، وهو قبيح، ولا فائدة فيه لله تعالى لاستغنائه عنها، ولا للعبد في الدنيا، لأنه متعب ولا حظ للنفس فيه، ولا في الآخرة إذ لا مجال للعقل في الأمور الآخرة. وما يقال: إن الفائدة هي الأمن من احتمال العقاب في الترك الذي هو لازم الحضور على قلب كل ذي لب أو استحقاق الزيادة فباطل؛ لأن اللزوم ممنوع، بل عدمه معلوم في الأكثر، ولو سلم فمعارض باحتمال العقاب على الشكر، واستحقاق المدح معارض لاستحقاق الذم بارتكاب ما يحتمل خوف العقاب، وجلبه للزيادة لا يعلم بالعقل، ولأن الشكر قد يتضمن خوف العقاب؛ لاحتمال أن لا يقع لائقا. ودعوى القطع بعدم العقاب على شكر النعمة مكابرة، أو أنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وادعاء كون هذا التصرف حسنا ممنوع، فإن من بنى مسجدا من مال الغير أو أعطاه مسكينا ذمته العقول، أو لأنه كالاستهزاء كصعلوك شكر ملكا عظيما على كسرة خبز ولقمة طعام قد أخذها بيده بمحضر من أولي الألباب، فإن هذا الشكر يعد استهزاء منه على الملك، فإن ما أعطاه إياه حقير لدى الفقير وغيره، وما أعطاء الله تعالى العبد أحقر عنده من الكسرة واللقمة عند الملك، وكذلك الشكر على نعمة كانت عظيمة لدى المنعم عليه حقيرة لدى المنعم. والعرفان لا يدفع الخوف لقيام احتمال الخطأ، ولا يدفعه اعتقاد أنه مصيب، لأن كل من يأتي بالنظر لا يقطع بعدم احتمال فساده، وربما لعبت به الشكوك. واحتجت الشيعة أيضا بأنه لو وجب النظر شرعا لزم إفحام الرسل، لأن المكلف يقول: لا يجب علي حتى يثبت الشرع، ولا يثبت حتى أنظر، وأنا لا أنظر. وهو أيضا باطل،

لأن الإفحام مشترك، فإنه غير ضروري والمدعى مكابر، فللمكلف أن يقول ذلك بعينه، ولأن النبي يقول له: قد أخبرتك بما إن أذعنت أجداك، وإلا ضرك، وإن كنت في ريب مما أخبرتك به فالتفت إلى معجزتي فإنك إن التفت إليها عرفت صدقي، وإلا هلكت، ولا ضرر علي إن هلكت وهلك سائر الناس أجمعين، وإنما علي البلاغ المبين. وهذا القول يضاهي قول من قال للواقف في واد من الأودية: إن وراءك يا من هو في غفلة أسد، فإن لم تتزحزح عن هذا الموضع افترسك، وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي، فقال: لا يثبت صدقك ما لم التفت، ولا أنظر ورائي ما لم يثبت صدقك. فإنه يدل على فرط جهالة الواقف وأنه استهدف نفسه للبلاء والردى. كذا قاله حجة الإسلام الغزالي في الإحياء. واحتجت أيضا بأنه لو وجب النظر شرعا لزم تكليف العاقل. وهو أيضا باطل، لأنه ليس منه في شيء؛ لأنه يفهم الخطاب، ويتصور التكليف، وإن لم يصدق به.

المطلب الثاني في أن الله تعالى موجود حي عالم سميع بصير قادر

المطلب الثاني في أن الله تعالى موجود حي عالم سميع بصير قادر وذهبت الإسماعيلية من الرافضة إلى أنه تعالى ليس بموجود ولا معدوم، ولا واحد ولا متعدد، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا سميع ولا أصم، ولا بصير ولا أعمى، ولا حي ولا ميت. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجمهور الفرق الإسلامية من أنه تعالى موجود، واحد، حي، عالم، قادر، سميع، بصير؛ كما نطقت به النصوص، كقوله تعالى: {الله لا إله إلا هو} فإن الإله إما اسم جنس أو لا، وعلى الأول فالخبر إما محذوف أو لا، والمحذوف إما أن يكون من الأمور الخاصة؛ مثل لنا، أو للخلق، أو مستحق للعبودية، أو غير ذلك مما يناسب المقام، أو من الأمور العامة؛ وهو إما واحد أو متعدد؛ فإن كان واحدا فهو إما موجود؛ ولا حاجة إلى نفي الإمكان للإجماع على أن غير الموجود لا يكون إلها، ولأنه رد لمن يقول بتعدد الآلهة، ولأن الموجود أعم من الموجود بالفعل أو بالقوة، وأما كون وجوده تعالى ممكنا؛ فيعلم من لفظ الله؛ فإنه اسم للذات المستجمعة لجميع الصفات، ومن تلك الصفات الوجود، وإن كان من الأمور الخاصة؛ فالدال عليه لفظ الله أيضا، وإن كان متعددا فهو موجود ممكن، فيفيد وجوده تعالى بالفعل، وعدم إمكان غيره، وأما على تقدير عدم حذف الخبر بناء على لغة بني تميم فإنهم لا يثبتون الخبر لا لفظا ولا تقديرا، فلا بمعنى انتهى اسم فعل، وإلا بمعنى غير صفة الإله، فيفيد أن الله تعالى موجود بصفة العبودية، وغيره ليس بإله. وقد جوز سيبويه وكثير من المتقدمين وقوع إلا صفة مع صحة الاستثناء من غير ضعف، قال سيبويه: "يجوز في قولك لا رآني أحد إلا زيد أن يكون إلا زيد صفة"، وعليه أكثر المتأخرين من النحويين، وعليه قول الشاعر:

وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان وقال صاحب الكشاف: "لا حاجة في هذا المقام إلى هذا الخبر، فإن إلا الله مبتدأ، ولا إله خبره، وأصل التركيب الله إله؛ أي مستحق للعبادة، وأدخل أداة الحصر فقيل: لا إله إلا الله". وأما دليل باقي الصفات فقوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، {قل هو الله أحد * الله الصمد}، {عالم الغيب والشهادة}، {إن الله على كل شيء قدير}، {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم}، {وهو السميع البصير} فنفي هذه الصفات عنه تعالى يخالف النصوص، فهو كفر لقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ولأنه يلزم ارتفاع النقيضين من نفي تلك الصفات وأضدادها، وهو باطل.

المطلب الثالث في بيان أن الإله واحد

المطلب الثالث في بيان أن الإله واحد ذهبت الخطابية والاثنينية والخمسية والمقنعية إلى أن الإله متعدد. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه جمهور المليين، وغيرهم من العقلاء كالفلاسفة والبراهمة، من أن الله تعالى واحد؛ لإجماع الأنبياء - عليهم السلام - على الدعوة إلى التوحيد، ونفي الشريك في الألوهية، ولنصوص الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {إنما الله إله واحد}، {لا إله إلا هو}، {وإلهكم إله واحد} وغير ذلك. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، «لا إله إلا الله»، «لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك»، وغير ذلك، ولما صح عن علي وأولاده من طريق أهل السنة والشيعة الإمامية والزيدية والكيسانية والإسماعيلية من أنهم كانوا يبرؤون ممن يقول بتعدد الآلهة. ولأنه لو تعدد الإله فإما أن يكون كل واحد منهما علة مستقلة تامة لوجود العالم، فيلزم توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد بالشخص وهو محال، وإلا يلزم عجز

الآخر، والعجز نقص. ولأن المعلول لا بد له من فاعل، والواحد كاف، وما زاد عليه عدد ليس أولى من الآخر، فيفضي ذلك إلى أعداد غير متناهية، وهو محال. ولأنه لو كانا موجودان واجبا الوجود فلا يخلو إما أن يكونا متوافقين في الماهية، أو متباينين فيها، وعلى كلا التقديرين يلزم تركيب كل منهما، أما على التقدير الأول فلتركيب كل منهما في الوجوب والتمايز في الماهية، لأنه لو كان واجبا الوجود متفقين لكان بينهما تمايز، وما به المشاركة بين الشيئين مغاير لما به امتياز كل واحد منهما عن الآخر، فيلزم تركيب كل منهما من جزئين، ثم إن ذينك الجزئين إما أن يكونا واجبين أو لا، فعلى الأول يلزم اشتراكهما في الوجوب والتباين في الماهية، فيكون كل منهما مركبا من جزئين آخرين؛ فيلزم التسلسل وعلى الثاني يلزم أن يكون أحدهما أو كلاهما ممكنا، وقد فرضنا واجبين، هذا خلف، ولأنه لو تعدد الواجب فإما أن يقع تخالف بينهما أو لا، وعلى الأول إما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر، فيلزم كون الآخر عاجزا، أو يحصل مراد كليهما فيلزم اجتماع النقيضين، وعلى الثاني إما أن يكون قدرة كل منهما وإرادته كافية في وجود العالم؛ فيلزم اجتماع العلتين التامتين على معلول واحد بالشخص، وهو باطل، أو لا شيء منهما كاف، فيلزم أن يكون كل منهما عاجزا، وأن لا يكون خالقا، فلا يكون إلها. ولأنه لو وجد إلهان متصف كل منهما بالعلم والقدرة والإرادة، فوجود مقدور معين، كحركة جسم معين في زمان معين فوقوعه إما أن يكون بهما، فيلزم توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد بالشخص، وإما أن يكون بأحدهما، فيلزم الترجيح بلا مرجح. ولأنه لو وجد إلهان كل منهما جامع لصفات الألوهية، فإذا أراد أحدهما أمرا كحركة جسم مثلا فإما أن يتمكن الآخر من إرادة ضده أو لا، وكلاهما محال لاستلزامه اجتماع الضدين، أو لا يقع مراد واحد منهما، وهو محال لاستلزامه عجز الإلهين المفروضين بكمال القدرة، ولاستلزامه ارتفاع الضدين المفروض امتناع خلو المحل عنهما، كحركة جسم وسكونه في زمان معين، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، وهو محال لاستلزامه الترجيح بلا مرجح وعجز من فرض قادرا حيث لم يقدر على ما هو ممكن في نفسه، أعني إرادة الصدور، ولا شك في امتناع احتمال الإرادتين، وهو لا ينافي الإمكان، ولأنه لو تعدد الإله لا يكون العالم، لأن

تكونه إما بمجموع القدرتين، وهو باطل لأن من شأن الإله كمال القدرة، وإما بكل منهما على الإنفراد فيلزم عجز الآخر، وهذا البرهان يسمى برهان التمانع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهتان إلا الله لفسدتا} والمراد بالفساد عدم التكون، فالبرهان قطعي، وأما إذا أريد به الخروج عما هو عليه من النظام فإقناعي، وتقريره أنه لو كان إلهان لأمكن وقوع التنازع بينهما والتغالب وذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض بحكم اللزوم العادي، فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام المحسوس، واختل النظام الذي به بقاء الأنواع، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

المطلب الرابع في بيان أن الله تعالى متفرد بالقدم

المطلب الرابع في بيان أن الله تعالى متفرد بالقدم ذهبت الكاملية والعجلية والرزامية والقرامطة والنزارية إلى أنه تعالى غير متفرد بالقدم، فإن العالم أيضا قديم عندهم. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجماهير الفرق الإسلامية والمليون وغيرهم من العقلاء من أن القديم ذات واحدة والعالم حادث، للنصوص كقوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام}، {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم}، {والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها}، {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} إلى غير ذلك من الآيات. ولأن العالم ممكن، لأنه إما مركب من الهيولى والصورة كما هو مذهب الفلاسفة، أو من الجواهر الفردة كما هو رأي المتكلمين، وواجب الوجود ليس بمركب، فالعالم ليس بواجب الوجود، فهو ممكن الوجود، وكل ممكن محدث، لأن الممكن الموجود لا بد له من مؤثر وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، فالمؤثر في العالم إما أن يكون موجبا بالذات فيلزم قدم الحادث اليومي أو التسلسل، لأن علته إن كانت قديمة لزم قدمه، وإن كانت محدثة لزم التسلسل، وإما أن يكون مختارا وجميع آثار المختار حادثة، لأن المختار إنما يفعل بالقصد إلى الفعل، وهو لا يتوجه إلى شيء حاصل، وإنما يتوجه نحو أمر معدوم، وإلا لزم تحصيل الحاصل. واحتج من قال بقدم العالم بأن العلة التامة المستجمعة لشروط التأثير إن كانت قديمة لزم قدم العالم، وإن كانت حادثة افتقرت إلى علة أخرى، وتلك العلة الأخرى إما قديمة فيلزم قدم الحادث، ومحدثة فيلزم ما لزم وهكذا، فإما أن يدور أو يتسلسل. والجواب أن الباري -عز اسمه- قادر مختار، ولا يلزم من وجود القادر المختار وجود أثره معه،

لأنه يجوز أن يكون تخصصه بوقت دون وقت لا لأمر، والضرورة قاضية بالفرق بين القادر وبين الموجب بهذا المعنى.

المطلب الخامس في أن الله تعالى أبدي لا يصح عليه الفناء لا يشارك في ذلك

المطلب الخامس في أن الله تعالى أبدي لا يصح عليه الفناء لا يشارك في ذلك ذهبت المنصورية والكاملية والمعمرية والجناحية والرزامية والقرامطة والنزارية إلى أن الله تعالى ليس بمتفرد في الأبدية وعدم الفناء، فإن العالم يشاركه في ذلك، فإنه لا يصح عليه الفناء بل يستحيل عدمه. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجماهير الفرق الإسلامية وجميع المليين أنه تعالى متفرد بعدم صحة الفناء، للنصوص من الآيات والأخبار الصحيحة المتواترة الدالة على وجود الدنيا والآخرة وفناء السماوات والأرض وما فيهما، ولأن العالم ممكن، والممكن يجوز عدمه. واحتجوا على ذلك بأن العالم فعل الواجب وأثره، فيلزم بدوامه دوامه، وهو باطل لما سيجيء - إن شاء الله تعالى - من أن الواجب قادر مختار. واحتجوا أيضا بأن الزمان يستحيل عدمه، وإلا لكان عدمه بعد وجوده بعدية بالزمان، فيكون الزمان موجودا حال فرضه معدوما، هذا خلف، فالحركة تستحيل، فإن الزمان مقدار الحركة، فالجسم يستحيل لأن الحركة عرض يستحيل وجودها بدون الجسم. والجواب أنا لا نسلم أن التقدم يفتقر إلى زمان، فإن أجزاء الزمان يتقدم بعضها على بعض من غير افتقار إلى زمان.

المطلب السادس في أن لله تعالى صفات ثبوتية أزلية

المطلب السادس في أن لله تعالى صفات ثبوتية أزلية ذهبت الرافضة إلى أن ليس لله تعالى صفة، فلا حياة له ولا قدرة ولا علم ولا سمع ولا بصر، بل هو حي لا حياة له، وقادر لا قدرة له، وعالم لا علم له، وسميع لا سمع له، وبصير لا بصر له. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة من أن له سبحانه صفات أزلية ثبوتية، وهي العلم والحياة والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام، وزادت الحنفية التكوين، والأشعرية البقاء. فإن النصوص دالة على وجود العلم والقدرة لقوله سبحانه: {أنزله بعلمه}، {ولا يحيطون بشيء من علمه}، {إنما أنزل بعلم الله}، {أن القوة لله}، {هو الرزاق ذو القوة المتين} ولأن كل من هو عالم فله علم، إذ لا يعقل من العالم إلا ذلك، وكذا القادر وغيره. واحتجت الرافضة على مدعاهم بأنه لو كان له صفة فلا يخلو إما أن تكون قديمة أو حادثة؛ فعلى الأول يلزم تعدد القدماء، وهو ينافي التوحيد، وقد كفرت النصارى القائلين بتعدد القدماء، وعلى الثاني يلزم قيام الحوادث بذاته تعالى، وخلوه في الأزل من صفات الكمال. والجواب أن تعدد القدماء إنما ينافي التوحيد لو كانت ذواتا قديمة مستقلة بالألوهية، وله صفات وقدمها لقدم الذات، فلا ينافي التوحيد. وإن ما كفرت النصارى لأنهم افترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: إن الله هو المسيح بن مريم، وقالت فرقة: الآلهة ثلاثة، وقالت فرقة: الإله اثنان، كما نص عليه الكتاب العزيز، ثم بعد ظهور الملة الحنيفية اتفقوا على أن الله تعالى هو جوهر واحد له أقانيم ثلاثة، يعنون بها الصفات، وهي الوجود والعلم والحياة، المعبر عنها بالأب والابن وروح القدس، ومثلوه بالسراج، وأن أقنوم العلم اتحد بجسد عيسى، وتدرعت بناسوته، ثم افترقوا على

ثلاث فرق: الملكانية والنسطورية واليعقوبية. فقالت النسطورية: تدرعت بطريق الإشراق كما تشرق الشمس من الكوة على شيء. وقالت الملكانية: تدرعت بطريق الامتزاج كالراح والماء. وقالت اليعقوبية: بطريق الانقلاب حتى صار الإله هو المسيح بن مريم، ومن هؤلاء من زعم أنه تركب اللاهوت والناسوت كالنفس من البدن، واتفقوا على أن كل أقنوم أزلي قائم بنفسه، وقد ينتقل وينزل. وقد استدلوا على ذلك بما في الإصحاح الخامس من إنجيل متى والأول من

إنجيل مرقص والتاسع من إنجيل لوقا والثامن من إنجيل يوحنا أن يوحنا بن دخرما قال: "إن روح القدس بصورة الحمامة نزل من السماء وحل في اليسوع". وكل ذلك كفر صريح، ولأن التعدد إنما يلزم لو تغاير الذات مع الصفات، والصفات بعضها مع بعض آخر؛ وليس كذلك، فإن الصفات ليست عين الذات ولا غيرها، وكذا الصفات بعضها من بعض. وليس هذا رفع للنقيضين لأن المراد بها أنها ليست عين الذات بحسب المفهوم، ولا غيرها بحسب الوجود، كما في سائر المحمولات، ولا يختص هذا بالمشتقات المحمولة على الذوات، بل يوجد في مباديها أيضا، فإن الوجود ليس عين الماهية فهو ما ولا غيرها ذاتا.

المطلب السابع في أن صفات الله تعالى قديمة

المطلب السابع في أن صفات الله تعالى قديمة ذهبت الزرارية وبكير بن أعين وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم من عيون الإمامية ورواة شطر من أخبارهم وغيرهم إلى أن علمه تعالى وسمعه وبصره حادث. قال زرارة بن أعين: "لم يكن الله تعالى عالما في الأزل ولا سميعا ولا بصيرا حتى خلق لنفسه علما وسمعا وبصرا". وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وغيرهم من الفرق الإسلامية من أن صفاته تعالى كلها أزلية، لأن كل ما يتصف به سبحانه يلزم أن يكون صفة كمال، لامتناع اتصافه تعالى بصفة النقص بالاتفاق، فلو كانت حادثة لكان سبحانه خاليا عنها في الأزل، والخلو عن صفة الكمال مع جواز الاتصاف بها نقص، ولا يجوز الاتصاف حال الخلو بكمال يكون زواله شرطا لحدوث هذا الكمال بأن يتصف دائما بنوع كمال تتعاقب أفراده من غير بداية ولا نهاية، لأنه على هذا لا يخلو الواجب عن الحادث في الأزل فيكون ناقصا، ولأن الحوادث المتعاقبة في الوجود الغير المتناهية ممتنعة، كما يدل عليه برهان التطبيق، ولأنه لا يخلو إما أن يكون كل من الصفات عين ذاته تعالى، أو مغايرة، أو لا عينه ولا غيره، فعلى الأول يلزم قدمها لقدم ذاته، وعلى الثاني والثالث فلا يخلو إما أن تكون واجبة لذاتها، أو ممكنة لذاتها، فإن كان الأول لزم قدمها لوجوب قدم الواجب، وإن كان الثاني فلابد لها من مؤثر، والمؤثر إما ذاته تعالى، أو غيره، والثاني محال لاستحالة احتياج الواجب إلى الغير، وإن كان الأول فلا يخلو إما أن يكون الله تعالى مؤثرا فيها بلا شرط، فيلزم قدمها لأنها عند قدم العلة التامة يلزم قدم المعلول، وإما أن يكون مؤثرا فيها بشرط قديم أو حادث، فعلى الأول يلزم قدم الصفة، وعلى الثاني يلزم التسلسل، وهو باطل؛ فثبت المطلوب. ولأنه روى الكليني عن أبي جعفر أنه قال: "كان الله ولا شيء غيره، ولم يزل عالما"،

وروى هو وجمع آخرون من الإمامية عن الأئمة بطرق متنوعة أنهم كانوا يقولون: إن الله سبحانه لم يزل عالما سميعا بصيرا. وما ذكره زرارة وأصحابه ومن حذا حذوه من الإمامية ضروري البطلان، فإن خلق العلم بدون العلم ممتنع، وكذا خلق القدرة بدون القدرة، ولأنه يلزم أن يكون الله تعالى محتاجا إلى مخلوق في صفاته. واحتجوا على مدعاهم بأنه لا يتصور العالم والسميع والبصير إلا بوجود المعلوم والمسموع والمبصر، وهي حادثة، فوجب حدوث هذه الصفات القائمة بذاته. والجواب أن عدم التصور ممنوع، ولأن الآثار المروية عن الأئمة ناصة على وجود العلم قبل وجود المعلوم، ولأن الحادث تعلق ما ذكر من الصفات، وأنه إضافة فيجوز تجددها وتغيرها.

المطلب الثامن أن الله تعالى فاعل بالاختيار

المطلب الثامن أن الله تعالى فاعل بالاختيار ذهبت الإسماعيلية من الإمامية تبعا للفلاسفة والبراهمة أن الله تعالى موجب بالذات، بمعنى أن تأثيره في وجود العالم بالإيجاب، على معنى أن العالم لازم لذاته، كتأثير الشمس بالإضاءة، وتأثير النار بالإحراق، فإن الإضاءة لازمة لذات الشمس، والإحراق لازم لذات النار. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه جماهير فرق الإسلام وجميع المليين من أنه تعالى قادر، وهو الذي يجوز أن يصدر منه الفعل وأن لا يصدر، وهذه الصحة هي القدرة، وإنما يرجح أحد الطرفين بانضمام وجود الإرادة أو عدمها إلى القدرة، فإنه لو كان موجبا يلزم أن يكون الممكنات قديمة، لأن الموجب لا يتأخر عنه فعله، واللازم باطل فالملزوم مثله، ولأن العالم محدث لأن كل جسم لا يخلو عن الحوادث مثل: الحركة والسكون، وهما حادثان لأنهما مسبوقان بالغير، وما لا ينفك عن الحوادث فهو محدث بالضرورة، ولأن النصوص الدالة على اتصافه بالقدرة أكثر من أن يحصى، كقوله تعالى: {وهو على كل شيء قدير}، {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم}، {قل إن الله قادر على أن ينزل آية}، {بل قادرين على أن نسوي بنانه}، {أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى} إلى غير ذلك من الآيات. واحتجوا على أن الله تعالى موجب بأن القادر لا بد له في فعله من الإرادة، والإرادة هي المحبة، والمحب للفعل محتاج إليه، والاحتياج من سمات النقص، ولأن المحبة من الكيفيات النفسانية، والواجب منزه عنها. والجواب أنا لا نسلم أن الإرادة بمعنى المحبة، وإنما هي القصد إلى الشيء، والفاعل للفعل يريده، ويقصد إليه، سواء رضيه أو لا، وأن الإمامية روت عن الصادق أنه تعالى يريد ولا يحب، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

المطلب التاسع في أن الله تعالى قادر على كل مقدور

المطلب التاسع في أن الله تعالى قادر على كل مقدور ذهب المرتضى وأبو جعفر الطوسي وطائفة أخرى من الإمامية إلى أنه تعالى غير قادر على كل مقدور العبد. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وأكثر الفرق الإسلامية من أنه تعالى قادر على كل مقدور، للنصوص الدالة على شمول قدرته، كقوله تعالى: {والله على كل شيء قدير}، {إن الله على كل شيء قدير}. وما ذكره شيخ الطائفة الضالة في التبيان في تفسير القرآن: أن الآية خرجت مخرج المبالغة، لأن أفعال العباد لا توصف بالقدرة، فبطلانه ظاهر، لأنه تخصيص من غير مخصص، ولأن المقتضي للقدرة هو الذات، وعلة صحة التعلق هي الإمكان، ونسبة الذات إلى الكل على السوية. واحتجوا على مدعاهم بأنه تعالى لو أراد الفعل وأراد العبد عدمه فلا يخلو إما أن يقع مرادهما، فيلزم اجتماع النقيضين، أو لا يقع مراد كل منهما، فيلزم ارتفاعهما، أو يقع مراد أحدهما دون الآخر، فيلزم عدم قدرة الآخر على مراده، وهو خلاف المقدور. والجواب أن قدرة الله تعالى فيه تمنع تأثير قدرة العبد، فإنه سبحانه أقدر على الفعل من العبد، ولأن العبد لا يشاء إلا ما يشاء الله تعالى، قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله}.

المطلب العاشر في أنه تعالى عالم بما كان وما يكون

المطلب العاشر في أنه تعالى عالم بما كان وما يكون ذهبت الشيطانية إلى أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل كونها. وذهبت الزرارية وطائفة أخرى من الإمامية إلى أنه تعالى لم يعلم الأشياء في الأزل، وإنما علمها [بعد] أن خلق لنفسه علما. وذهبت الحكمية وطائفة ممن تبعهم من الاثني عشرية كمقداد صاحب كنز العرفان وغيره إلى أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها. وهذا الكلام كله باطل. والحق ما ذهب إليه أهل الحق وجماهير الفرق الإسلامية والمليون من أنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها، وأن علمه تعالى يعم الممكنات؛ لقوله تعالى: {والله بكل شيء عليم}، {عالم الغيب والشهادة}، {قد أحاط بكل شيء علما}، {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها}، {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} فإن جعله سبحانه الكعبة والشهر الحرام والقلائد قياما للناس لجلب المصالح لهم ودفع المضار قبل وقوعها دليل على علمه تعالى بالشيء قبل كونه، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر بها قبل وقوعها، مثل غلبة الروم على فارس بعد غلبهم في بضع سنين، وكلام أهل الجنة لأهل النار، ونحو ذلك. ولأن مصحف فاطمة مشحون بالأخبار عن الأشياء قبل وقوعها بإجماع الإمامية.

ولأنه تواتر عن أهل البيت من طريق أهل السنة والشيعة أن علمه تعالى بالشيء قبل كونه كعلمه تعالى بعد كونه. وروى الفريقان عن أمير المؤمنين أنه قال: "والله لم يجهل ولم يتعلم، أحاط بالأشياء علما قبل كونها، فلم يزدد بكونها علما علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بها بعد تكوينها". وروى علي بن إبراهيم القمي من الفرقة الاثني عشرية عن منصور بن حازم قال: "سألت أبا عبد الله هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله، قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله بالأمس؟ قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق"، إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة. ولأن الجهل بالبعض نقص، والنقص على الله تعالى محال. واحتج من أنكر شمول علمه تعالى بقوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} وأمثاله، وبأنه لو علم سبحانه الأشياء قبل كونها لزم أن لا يقدر على شيء، وهو ينافي الربوبية، وذلك لأن ما علم الله تعالى وقوعه فهو واجب، وما علم الله تعالى عدمه فهو ممتنع، ولا قدرة على الواجب والممتنع. والجواب عن الآية أن المراد علم ظهور ومشاهدة، وعن الدليل العقلي أن الفعل لا يمكن أن يوجد بغير فاعل موجد من غير نكير، ولأنه تعالى يعلم وقوعه بقدرته، ومثل هذا لا ينافي المقدورية قبل تحققها، وذلك ظاهر. واحتجوا أيضا بأنه لو علمها لزم تغير علمه تعالى، وهذا على الواجب تعالى محال، لأنه لو علم أن زيدا يأكل السفرجل غدا، فإذا أكل في الغد، فإن بقي العلم بحالته فهو جهل، لكونه غير مطابق للواقع، وإن زال وحصل العلم [بأنه أكل] تغير الأول من الوجود إلى العدم، والثاني بالعكس. والجواب أن العلم صفة يتجلى بها المعلومات، بمنزلة المرآة يكشف بها الصور، فلا يتغير بتغير المعلومات كما لا تتغير المرآة.

المطلب الحادي عشر في أنه تعالى يتكلم والكلام صفة من صفاته

المطلب الحادي عشر في أنه تعالى يتكلم والكلام صفة من صفاته ذهبت الكيسانية والزيدية والإمامية إلى أن كلامه تعالى مخلوق، لأنه كلام منتظم من الحروف المسموعة التي خلقها في جبريل أو النبي أو اللوح المحفوظ. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة من أنه صفة أزلية قائمة بذاته تعالى غير مخلوقة، كسائر الصفات الثبوتية، منافية للسكوت والآفة والخرس وغير ذلك، وليست من جنس الحروف، والأصوات، والله تعالى متكلم بها، وهو كلام نفساني، وهذه العبارات دالة عليه، وتسمى العبارات كلامه أيضا على معنى أنها عبارات عن كلامه، وهو يتأدى بها، والاختلاف على العبارات دون المسمى على ما ذهب إليه الأشعرية، لأن معنى المتكلم لغة وعرفا من قام به الكلام، لا من أوجده، للقطع بأن موجد الحركة في جسم آخر لا يسمى متحركا، وقد أجمع المليون على أنه تعالى متكلم. والكلام القائم بذاته تعالى لا يكون هو اللفظي، على ما ذهبت إليه الأشعرية، فتعين أنه معنوي، وذلك ظاهر. ومن أنكر تعقل النفساني فهو من آفته. ولأنه إذا ثبت أنه تعالى متكلم لزم أن يكون الكلام صفة له، لأنه لا يشتق الفاعل لشيء باعتبار فعل غيره بالاستقراء. واحتج من خالف أهل الحق بأنه قد علم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام منتظم مؤلف من حروف مسموعة مفتتح بالتسمية مختتم بالاستعاذة، ولقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}، {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}، {حتى يسمع كلام الله} والمسموع هو الكلام المؤلف من الحروف. والجواب أن لفظ القرآن يطلق بطريق الاشتراك على المؤلف الحادث، وهو المتعارف

عند القراء والفقهاء والأصوليين، وعلى مدلوله الذي هو القديم. وأقول: إن مسألة الكلام قد حيرت الأفهام وزلت فيها أقدام، وليس مثل هذا الكتاب محلا لبسطها، ولا يسع المقام لتحريرها وسطرها. وإن أردت الحق الحقيق بالقبول الذي تقبله الأذهان وتذعن له العقول فارجع إلى فوائد تفسير روح المعاني لجدنا المرحوم الجامع للعجب العجاب من المنطوق والمفهوم.

المطلب الثاني عشر أن القرآن كلام الله تعالى ليس فيه تحريف ولا نقصان

المطلب الثاني عشر أن القرآن كلام الله تعالى ليس فيه تحريف ولا نقصان ذهبت الاثنا عشرية وغيرهم من الإمامية إلى أن القرآن المكتوب بين دفتي المصاحف الموجود عند المسلمين الموجود عندهم ليس كله كلام الله، فإن فيه ما ليس منه، وليس فيه جميع القرآن المنزل الذي أمر الأمة بتلاوته، فإن فيه تحريفات كثيرة، وقد سقط منه آيات وسور جمة. روى الكليني عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله: أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر ألف آية. وروى عن محمد بن [أبي] نصر عنه أنه قال: "كان في {لم يكن} اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم". وروى عن سالم بن سلمة قال: "قرأ رجل على أبي عبد الله وأنا أسمعه حروفا من القرآن ليس ما يقرأه الناس، فقال أبو عبد الله: مه اكفف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأه الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله عز وجل على حده". وروى هو وغيره عن الحكم بن عتبة أنه قال: "قرأ علي بن الحسين قوله تعالى: وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث، وقال: وكان علي بن أبي طالب محدثا". وروى عن مزيد عن أبي عبد الله أنه قال: "الرسول الذي يظهر له الملك فيكلمه، والنبي يرى في منامه، والمحدث الذي يسمع الصوت". وروى عن محمد بن الجهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أنه قال: {أن تكون

أمة هي أربى من أمة} ليس كلام الله، بل حُرف عن موضعه والمنزل: أئمة هي أزكى من أئمتكم". قالوا: ومما أسقط منه سورة الولاية، وكانت سورة الأحزاب [مثل] سورة الأنعام فأسقط منها ما كان في فضل أهل البيت والأحكام، و [لفظة] من قوله تعالى: {لا تحزن إن الله معنا} كما ذكر ذلك ابن شهراشوب السروي في مثالبه. وقالوا: سقط من قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون} لفظ عن ولاية علي؛ ومن قوله تعالى: {خير من ألف شهر} لفظ وملك بني أمية، وكان بعد لفظ ألف؛ ومن قوله تعالى: {وكفى الله المؤمنين القتال} لفظ بعلي بن أبي طالب، وكان بعد لفظ القتال؛ ومن قوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} لفظ "آل محمد"، وكان بعد لفظ الذين ظلموا؛ ومن قوله تعالى {ولكل قوم هاد} لفظ علي، وكان بعد هاد؛ ومن قوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} لفظ وعلي صهرك، وكان بعد صدرك، فأسقطه عثمان حسدا، إلى غير ذلك مما يطول ذكره.

وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجمهور الفرق الإسلامية أنه ليس في القرآن تحريف ولا نقصان، وذلك لأن الله تعالى قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وإذا كان الله تعالى الحافظ له كيف يتمكن أحد من تحريفه؟ ولأن تبليغ القرآن كما أنزل كان واجبا على الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كافة الناس بنفسه أو بمن تبعه، قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} فانتصب - صلى الله عليه وسلم - لتعليمه فأمر بذلك من حضر وبعث إلى من ليس بحضرته، حتى انتشر في الأقطار التي دخلها الإسلام واشتهر في المواضع التي حل فيها الإيمان، ولم يزل المسلمون يتعبدون بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار ويرون ذلك من أفضل الطاعات والأعمال من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى زماننا هذا، وكل ما هذا شأنه لا يمكن تغييره ولا إسقاط شيء منه. ولأنه لو كان فيه تحريف بتغيير أو نقصان لم يبق وثوق بالأحكام. ولأنه لو كان الأمر كما ذكر لرواه جميع فرق الشيعة عن أهل البيت. وقد شدد النكير سائر فرقهم على القائل بالتحريف والإسقاط وحكموا بتكفيره، لا سيما الزيدية، ورووا عن أهل البيت أنهم كانوا يقرأون هذا القرآن، ويتمسكون بعامه وخاصه، ويستشهدون به. والتفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري إنما هو لهذا القرآن. وقد علموه أولادهم وخدامهم وسائر أهل بيتهم، وكانوا يأمرون بتلاوته في الصلاة. ومن ثمة قد أنكر شيخهم ابن بابويه في كتاب اعتقاداته هذه العقيدة وتبرأ منها.

المطلب الثالث عشر أن الله تعالى مريد

المطلب الثالث عشر أن الله تعالى مريد ذهبت الإسماعيلية إلى أنه تعالى لا يتصف بالإرادة، لأنه تعالى موجب، ولا إرادة للموجب، فإن كل ما يصدر عنه لازم لذاته، ولأن الإرادة فعل من أفعاله، وكل فعل مسبوق بالإرادة، فيلزم أن تكون الإرادة مسبوقة بإرادة أخرى وهلم جرا، فيلزم التسلسل، وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة وغيرهم من الفرق الإسلامية وسائر المليين من أنه تعالى مريد لأنه قادر، وفعل القادر مسبوق بالإرادة، والإرادة صفة قديمة لا تحتاج إلى إرادة أخرى فلا يلزم التسلسل، ولأن النصوص الدالة على اتصاف الواجب سبحانه بهذه الصفة كثيرة جدا بحيث لا تكاد تحصى، قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} و {يحكم ما يريد}، {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا}، وغير ذلك من الآيات.

المطلب الرابع عشر أن إرادة الله تعالى متعلقة بكل كائن

المطلب الرابع عشر أن إرادة الله تعالى متعلقة بكل كائن ذهبت الفرق الثمانية من الزيدية والإمامية كلهم، إلا الإسماعيلية النافين للإرادة، إلى أنه تعالى غير مريد لجميع الكائنات، فإنه لا يريد الشر والكفر والمعصية، وقعت أو لم تقع. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن تبعهم من أنه سبحانه مريد للكائنات، من الخير والشر، والنفع والضر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية. قال تعالى: {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا}، {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا}، {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم}، {ولو شاء الله ما أشركوا}، {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله}، {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه}، {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه}، {ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون}، {أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم}، {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء}، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا}، {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم}، {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه}

وغير ذلك من الآيات. وروى الكليني عن محمد بن [أبي] نصر قال: قلت لأبي الحسن الرضا: "إن لبعض أصحابنا القول بالجبر، وبعضهم يقول بالاستطاعة، فقال لي: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال علي بن الحسين: قال الله تعالى: يا ابن آدم، بمشيئتي كنت أنت" إلى آخر الحديث. ولأنه تعالى أخبر أن الذين حرفوا التوراة من أحبار اليهود لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فلو أراد إيمانهم لزم التناقض. ولأنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخبر المتفق عليه أنه قال: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن". وروى الكليني وصاحب المحاسن عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال: سمعت أبا الحسن موسى يقول: "لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى"، وروى جمع عن غيره من الأئمة بمعناه. وروى الكليني أيضا عن سليمان بن جلد عن أبي عبد الله قال: "إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده،

وإذا أراد الله بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله"، ثم تلا هذه الآية: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء}. ولأنه سبحانه أمر إبليس أن يسجد لآدم وهو يعلم أنه لا يسجد، فإن أراد منه الطاعة فقد أراد

الممتنع، وأن يقلب علمه جهلا. وروى الكليني أيضا عن ثابت بن عبد الله عن أبي عبد الله ما ينص على أنه تعالى يريد ضلال بعض عباده إرادة حتم، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. ولأنه سبحانه لو أراد الإيمان من الكافر وأراد الكفر من الكافر، وأراد الطاعة من العاصي وأراد منه العصيان، وقد صدر الكفر من الكافر والعصيان من العاصي؛ لزم أن لا يحصل مراد الله تعالى، ويحصل مراد الكافر والعاصي؛ فيلزم أن يكون كل منهما غالبا والله تعالى مغلوب، وهو ضروري البطلان. فقد روى الكليني عن الفتح بن زيد الجرجاني عن أبي الحسن ما ينص على أن إرادة العبد لا تغلب إرادة الله تعالى، سواء كانت إرادة عزم أو إرادة حتم. وروى عن أبي عبد الله وأبي الحسن ما هو ناص على أنه تعالى يريد المعصية من العبد إرادة حتم، فإنه أراد أن يأكل آدم من الشجرة، وأن لا يسجد له إبليس. وروى عن ثابت بن سعيد ما هو على ذلك أيضا. ولأنه تعالى خلق للعاصي الإرادة والقدرة على خلق أفعاله وجعل له التمكن، كما ذكره المرتضى في درره، فلو أراد بها نفعه وهو يعلم أنه لا ينفعه بل يضره، فذلك عبث وسفه، والله تعالى منزه عن ذلك. ولأن إرادة الممتنع قبيح. ولأنه تعالى أقسم أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، فلو أراد إيمان من يعلم أنه من أصحاب الجحيم فقد أراد أن لا يبر قسمه. ولأنه تعالى لو أراد أن لا يعصى لم يخلق إبليس، ولم ينظره إلى يوم الوقت المعلوم، ولم يمكنه من الإضلال. واحتج من خالف أهل الحق بقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} والرضا هو الإرادة. والجواب أنا لا نسلم أن الرضا هو الإرادة، ولو كان كذلك لكان الله تعالى راضيا بكفر جماعة أخبر بأنه يريد ألا يجعل لهم حظا في الآخرة وأنه يريد أن لا يطهر قلوبهم، وهو باطل بالاتفاق؛ ولأن الإرادة تنفك عن الرضا، كإرادة من إرادته تابعة لإرادة غيره وهو يكره المراد، وإرادة الله تعالى تابعة لإرادة العبد، وإن كانت متقدمة عليها، فأحسن التدبر. واحتجوا أيضا بأنه لو كانت المعصية مرادة لله تعالى لكان الكافر العاصي مطيعا بكفره ومعصيته، لأن الإطاعة تحصيل مراد المطاع. والجواب أن الإطاعة تحصيل ما أمر به المطاع، لا تحصيل ما أراد سواء كان مرضيا عنده أو لا. ألا ترى أن الله تعالى أمر إبليس بالسجود لآدم ولم يرد، وأمر إبراهيم بذبح ولده ولم يشأ. واحتجوا أيضا بأن إرادة القبيح قبيح، وكذا ترك إرادة الحسن. والجواب أن كون كل منهما قبيحا ممنوع، فإنه لا قبح منه تعالى، كما تقدم. وترك إرادة الحسن إذا علم عدم وقوعه حسن، وإرادته قبيح، لأنها عبث.

المطلب الخامس عشر في أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد

المطلب الخامس عشر في أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد ذهبت فرق من الشيعة إلى أن الأمر لازم للإرادة وجودا وعدما. والحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من أنه تعالى قد يأمر بما لا يريد، وينهى عما يريد؛ لأن الأمر لا يستلزم الإرادة، والنهي لا يستلزم الكراهة، إذ قد ينفك أحدهما عن الآخر، كالآمر للاختبار. وما يقال إنه ليس بأمر حقيقة ممنوع، فإنه ادعاء ومكابرة. ولأن الله تعالى كره خروج جماعة إلى الجهاد، وقد أمرهم بالخروج، قال تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} وقال تعالى حكاية عن شعيب: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون} وقال تعالى: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} فإنها ناصة على أن العود في الكفر يكون بمشيئة الله تعالى. وقال تعالى: {يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة} وقد أمرهم سبحانه بالإيمان. وقال تعالى: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} وقال تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا} وقال تعالى: {ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته} وقال تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} وقال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} وقال تعالى: {أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} فهذه الآيات تدل على أن الله تعالى لم يرد إيمان الكل، ولو شاء لآمنوا ولم يشركوا، مع أنه أمرهم بالإيمان، وإنما كذب الله تعالى الكفار في قولهم: لو شاء الله ما عبدناهم، لقوله

سبحانه: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} فإنهم زعموا أن المشيئة هي الرضا، وأن عبادتهم إياهم برضائه تعالى، وهو كذب، فإن الإرادة صفة توجب تخصيص أحد المقدورين بالوقوع، ويرادفها المحبة، فمعنى الأولين أعم من معنى الآخرين، والأعم غير الأخص. وما روي عن أبي حنيفة أن الإرادة والرضا متحدان، فهو مكذوب عليه. ولأنه تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"، وقد رواه الإمامية عن الأئمة أيضا، وتواتر عنهم من طريقهم أيضا، كما ذكره شارح العدة وغيره. وروى البرقي في المحاسن والكليني في الكافي عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: "لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد". وروى الكليني عن الحسن بن عبد الرحمن الحمالي عن أبي الحسن موسى بن جعفر أنه قال: "إنما تكون الأشياء بإرادته تعالى ومشيئته". وروى الكليني وغيره عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله أنه قال: "أمر الله ولم يشاء، وشاء ولم يأمر، أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد، ولو شاء سجد، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل، ولو لم

يشأ لم يأكل"، إلى غير ذلك من الآثار الصحيحة. واحتج من خالف أهل الحق بأن الأمر بما لا يراد سفه، وكذا النهي عما يراد، والله سبحانه منزه عنه. والجواب أن ذلك ممنوع، لأن الغرض من الأمر ليس بمنحصر في إيقاع المأمور به، والغرض من النهي ليس بمنحصر في إيقاع المنهي عنه، فإنه يصح وجود الأمر بدون الإرادة، كما يكون مع الإرادة وجود النهي، ولا يكون سفها. ألا ترى أن السيد إذا أراد إظهار عصيان العبد للحاضرين يأمره بشيء ولا يريده منه، وينهاه عن شيء ويريده، ولأن إرادة وقوع ما لم يعلم أنه لا يقع سفه وعبث، وهو سبحانه منزه عنهما. ولأنه روى الكليني عن فتح بن يزيد الجرجاني: أن لله تعالى إرادتين: إرادة حتم، وإرادة عزم، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أوما رأيت أنه نهى آدم وحوا أن يأكلا من الشجرة، وشاء ذلك، ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى. واحتجوا أيضا بأنه سبحانه يكره المعاصي، فكيف يريدها؟ والجواب أنه ربما تجتمع الإرادة والكراهة، كمن أراد أمرا لأمر ما وهو يكرهه، وأفعاله تعالى لا تخلو عن الحكمة والمصلحة. ولأن الكتاب العزيز قد نص على ذلك كما سبق. وفي خاتمة الزبور: "هل تدري يا داود أي المؤمنين أحب إلي؟ الذي إذا قال: لا إله إلا الله اقشعر جلده، وإني أكره له الموت كما يكره الوالد لولده، ولابد له منه، إني أريد أن أسره في دار سوى هذه، فإن نعيمها فيها بلاء، ورجاءها فيها شدة، ومن أجل ذلك عجلت أوليائي إلى الجنة". فهذا أيضا ناص على أنه سبحانه قد يريد شيئا ويكرهه، فإنه يريد موت المؤمن الموصوف بتلك الصفة ويكرهه. وقد تركت بعض المطالب هنا لكون ما سبق يغني عنها.

المطلب السادس عشر في بيان أنه لا يجوز البداء على الله

المطلب السادس عشر في بيان أنه لا يجوز البداء على الله ذهبت الزرارية والبدائية والسالمية وجمع من الإمامية، كمالك الجهني ودارم بن الحكيم وزبان بن الصلت وغيرهم، إلى أنه يجوز البَدَاء على الله تعالى، وهو أن يريد شيئا ثم يبدو له ما لم يكن ظاهرا له. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجماهير المسلمين وغيرهم من المليين وسائر العقلاء من أنه لا يجوز البداء على الله تعالى، للنصوص المتقدمة في شمول علمه تعالى كل شيء، ولأنه يلزم أن يكون الله تعالى جاهلا بعواقب الأمور، والجهل عليه سبحانه محال، لأنه نقص. واحتج من خالف أهل الحق بقوله تعالى: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}، وبما رواه الكليني عن زرارة بن أعين عن أحدهما قال: "ما عبد الله بمثل البداء". وعن هشام بن سالم عنه قال: "ما عظم الله بمثل البداء".

وبأن النسخ جائز بالاتفاق، وهو إما أن يكون لمصلحة ظهرت له تعالى لم تكن ظاهرة قبل أو لا، والثاني باطل لأنه عبث والله تعالى منزه عنه، فتعين الأول وهو البداء. والجواب أن جميع ما استدلوا به باطل. أما الاستدلال بالآية فلأنها لا تدل على المدعى، لأن المحو والإثبات لا يوجبان الجهل، والمعنى ينسخ ما شاء نسخه من الأحكام لمصلحة تجددت بحسب اقتضاء الزمان، كقوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} وقوله تعالى: {واقتلوهم حيث وجدتموهم}، فإن الزمان الأول اقتضت المصلحة فيه المتاركة، والزمان الثاني اقتضت المصلحة فيه المقاتلة، ويثبت بدله ما يشاء، أو يتركه غير منسوخ، أو يمحو الفاسدات، ويثبت الكائنات، أو يمحو ظلمة الليل، ويثبت ضوء النهار، ونحو ذلك. وأما الاستدلال بالآثار فهو فاسد، لأنها موضوعة مفتراة، وآثار الوضع عليها ظاهر، ولا ظهور الشمس، لأن وصفه تعالى بما يدل صراحة على أنه جاهل بعواقب الأمور لا يكون عبادة، بل معصية وكفرا وإلحادا وزندقة، ولا يكون تعظيما بل تحقيرا. وأما الاستدلال بالنسخ فباطل أيضا، لأن النسخ بالنسبة إلى الشارع بيان محض لانتهاء الحكم الأول، لأنه تعالى عالم بأن ذلك مؤقت إلى وقت معلوم، وبالنسبة إلى العباد رفع للحكم، لجهلهم بكونه مؤقتا، ولأن النسخ لمصلحة تجددت لم تكن موجودة قبل، فإن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات، كمنفعة شرب الدواء في وقت ومضرته في وقت آخر. فلا يتم الترديد على ما لا يخفى.

المطلب السابع عشر في أنه لا يجب على الله تعالى شيء

المطلب السابع عشر في أنه لا يجب على الله تعالى شيء ذهبت الشيعة قاطبة إلى أنه يجب على الله تعالى بعض الأمور، واختلفوا في معنى الواجب فقالت طائفة منهم: الواجب ما يستحق تاركه الذم عقلا، وقالت جماعة أخرى: الواجب ما قدره الله تعالى على نفسه أن يعطيه ولا يتركه. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه الفرقة الناجية وغيرهم من الفرق الإسلامية من أنه لا يجب على الله تعالى شيء، فإنه المتفضل بالتوفيق والخلق والرزق والثواب على الطاعة وغير ذلك، وليس شيء منها واجبا عليه سبحانه، وإنما هو فضل منه؛ إذ الألوهية تنافي الوجوب، والعبد المملوك لا يستحق أجرا ورعاية مصلحة، فإن أعطى فبفضله، وإن منع فبعدله، وهو محمود في كل فعاله. وبطلان القولين في تفسير الواجب أظهر من الشمس. أما الأول فلأنه لا معنى للوجوب إلا عدم التمكن من الترك، وهو ينافي الاختيار. ولأنه لو وجب عليه شيء لزم أن يكون ناقصا لذاته، مستكملا بفعله، لأنه يستوجب الذم بتركه. ولأنه لو وجب عقلا لزم أن يكون بعض مخلوقاته حاكما عليه، وهو باطل. ولأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون بالاتفاق، فحينئذ لا يخلو إما أن يفعل ما يعلم أو لا، والثاني باطل لأنه ينقلب العلم جهلا، فتعين الأول فلا حاجة إلى القول بإيجاب الفعل له بعض الأشياء. ولأن الفعل إما واجب أو ممتنع غير مقدور عليه، وتاركه لا يستحق الذم، والواجب يقع البتة. ولأن ترك الواجب ممتنع كفعل الممتنع. وأما بطلان المذهب الثاني فلأن تقدير بعض الأشياء على نفسه عبث محض، والله سبحانه منزه عنه. ولأن ترك ما قدره على نفسه أن يفعله إن كان جائزا فات معنى الوجوب، وإن لم يكن جائزا بناءً على أن تركه مستلزم للذم عقلا فيرجع إلى المعنى الأول، وقد تقدم بطلانه آنفا، ولأن الوجوب على كلا المعنيين يدل على أن ترك الزجر عن القبائح وفعل القبيح والبخل والسفه والظلم كان جائزا له تعالى قبل الإيجاب وخلق

الفعل كما لا يخفى. واستدل من فسر الواجب بما يستحق تاركه الذم عقلا بأن من الأفعال ما يستحق فاعله الذم عقلا، ومنها ما يستحق تاركه الذم عقلا، وكل ما كان كذلك فهو واجب الفعل والترك عقلا. والجواب أن الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى - على ما سبق بيانه في أول مطالب هذا المقصد - ولأن الواجب يقع والممتنع لا يقع من غير أن يحكم العقل شيئا فيهما؛ فجعل الله تعالى محكوما لبعض خليقته ضلال وزندقة. ولا حجة لهم بقوله تعالى: {إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم} قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} قوله تعالى: {كان على ربك حتما مقضيا} لأن المراد من الآية الأولى تأكيد الحكم دون الإيجاب، والمعنى وعد بالرحمة وعدا مؤكدا وهو منجز البتة، ولاستحالة تطرق الخلف إلى وعده أجراه مجرى الواجب وذكر النفس للاختصاص ورفع الوسائط. و {على} في الآية الأولى لتأكيد المحاسبة والمجازاة، وفي الثانية لتأكيد التفضل لا للإيجاب، وفي الثالثة لتأكيد ورود كل أحد النار. ومعنى {حتما} أمر مبرم، فإن الحتم إبرام الأمر وإحكامه، وقوله تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} معناه: وكان ثابتا محققا بمقتضى الوعد، و {على} للتأكيد. وأقول: لما كان هذا المقام مما تزل فيه الأقدام، لا بأس علينا أن نزيده بيانا ونورد له حجة وبرهانا، فإن حمل هذه الآيات على ما سمعت غير مرضي لدى المحققين، ومنتقد عند أرباب البصائر واليقين. وأحسن ما رأيته ما كتبه الأواه عمدة المحدثين وأحد الحفاظ المتقنين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بالحافظ ابن القيم -رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه- في كتابه بدائع الفوائد، الذي هو في الحقيقة درر وفرائد، فقال بعد كلام له في هذا الباب:

فإن لم يتسع لهذا ذهنك، فسأزيدك إيضاحا وبيانا، وهو أنه قد أخبر سبحانه في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا إيجاب منه على نفسه، فهو الموجب، وهو متعلق الإيجاب الذي أوجبه، فأوجب بنفسه على نفسه. وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى وأوضحه كل الإيضاح وكشف حقيقته بقوله في الحديث الصحيح: «لما قضى الله الخلق كتب بيده على نفسه في كتاب فهو عنده موضوع فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي»، وفي لفظ: «سبقت غضبي». فتأمل كيف أكد هذا الطلب والإيجاب بذكر فعل الكتابة، وصفة اليد، ومحل الكتابة، وأنه كتاب، وذكر مستقر الكتاب وأنه عنده فوق العرش؛ فهذا إيجاب مؤكد بأنواع من التأكيد، وهو إيجاب منه على نفسه، ومنه قوله تعالى: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} فهذا حق أحقه على نفسه، فهو طلب وإيجاب على نفسه بلفظ {الحق} ولفظة {على}. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لمعاذ: «أتدري ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار». ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -

في غير حديث: من فعل كذا وكذا كان حقا على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد. فهذا الحق هو الذي أحقه على نفسه. ومنه الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قول الماشي إلى الصلاة: "أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك"، فهذا حق للسائلين عليه هو أحقه على نفسه، لا أنهم أوجبوه ولا أنهم أحقوه، بل أحق على نفسه أن يجيب من سأله، كما أحق على نفسه في حديث معاذ أن لا يعذب من عبده، فحق السائلين عليه أن يجيبهم، وحق العابدين له أن يثيبهم، والحقان هو الذي أحقهما وأوجبهما، لا السائلون ولا العابدون، فإنه: ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع إن عُذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع ومنه قوله تعالى: {وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} فهذا الوعد هو الحق الذي أحقه على نفسه وأوجبه. ونظير هذا ما أخبر به سبحانه من قسمه ليفعلنه، نحو قوله تعالى: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} وقوله: {لنهلكن الظالمين} وقوله: {قال فالحق والحق أقول * لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} وقوله: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار} وقوله: {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} إلى أمثال ذلك مما أخبر أنه يفعله إخبارا مؤكدا بالقسم. والقسم في مثل هذا يقتضي الحض والمنع، بخلاف القسم على ما فعله تعالى، مثل قوله: {يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين} والقسم على ثبوت ما ينكره المكذبون فإنه توكيد للخبر، وهو من باب القسم المتضمن للتصديق، ولهذا يقول الفقهاء: النهي ما اقتضى حضا أو منعا، والخبر ما اقتضى تصديقا أو

تكذيبا، فالقسم الذي يقتضي الحض أو المنع، وهو من باب الطلب، لأن الحض والمنع طلب. ومن هذا ما أخبر به أنه لا بد أن يفعله لسبق كلماته به، لقوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون} وقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وقوله تعالى: {ولولا كلمة سبقت من ربك} فهذا إخبار عما يفعله أو يتركه أنه لسبق كلمته به فلا يتغير. ومن هذا تحريمه سبحانه ما حرمه على نفسه، لقوله تعالى فيما يرويه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم»، فهذا التحريم نظير ذلك الإيجاب. ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة، التي لا يجزم الناظر في سياق هذه المواضع ومقصودها بالمراد منها، كقول بعضهم: إن معنى الإيجاب والكتابة في ذلك كله هو إخباره به، ومعنى كتب ربكم على نفسه الرحمة أخبر بها عن نفسه، وقوله: «حرمت الظلم على نفسي» أي أخبرت أنه لا يكون، ونحو ذلك مما يتيقن أن المراد به ليس هو المراد بالتحريم، بل الإخبار هاهنا هو الإخبار بتحريمه وإيجابه على نفسه، فمتعلق الخبر هو التحريم والإيجاب، ولا يجوز إلغاء متعلق الخبر، فإنه يتضمن إبطال الخبر. ولهذا إذا قال القائل: أوجبت على نفسي صوما، فإن متعلقه وجوب الصوم على نفسه، فإذا قيل: إن معناه أخبرت بأني أصوم، كان ذلك إلغاء وإبطالا لمقصود الخبر فتأمله. وإذا كان معقولا من الإنسان أنه يوجب على نفسه ويحرم ويأمرها وينهاها مع كونه تحت أمر غيره ونهيه، فالآمر الناهي الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يمتنع في حقه أن يحرم على نفسه ويكتب على نفسه؟ وكتابته على نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به، وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرمه وكراهته له وإرادة أن لا يفعله، فإن محبته لفعله تقتضي وقوعه منه، وكراهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه، وهذا غير ما يحبه سبحانه من أفعال عباده ويكرهه، فإن محبته ذلك منهم لا تستلزم وقوعه، وكراهته منهم لا

تمنع وقوعه. ففرق بين فعله سبحانه وبين فعل عباده الذي هو مفعوله، فإن فعل عباده يقع مع كراهته وبغضه له ويتخلف مع محبته له ورضاه به، بخلاف فعله سبحانه، فهذا نوع وذاك نوع. فتدبر هذا الموضع الذي هو مزلة أقدام الأولين والآخرين، إلا من عصمه الله تعالى بعصمته وهداه إلى صراط مستقيم. انتهى كلامه المقصود نقله. ولولا ضيق المقام لنقلناه بأسره، فإني لا أظنك تجده في كتاب غيره، وإن أردت استيفاء البحث فارجع إلى ذلك الكتاب لتحظى بالصواب وترى العجب العجاب.

المطلب الثامن عشر في بيان أن التكليف لا يجب على الله تعالى

المطلب الثامن عشر في بيان أن التكليف لا يجب على الله تعالى ذهبت الكيسانية والفرق الثمانية من الزيدية والإمامية إلى أن التكليف واجب على الله تعالى. والحق ما ذهب إليه [أهل] السنة من أن التكليف لا يجب عليه تعالى، بل هو تفضل على الأبرار، وعدل بالنسبة إلى الفجار؛ لأنه لا يجب على الله تعالى شيء، كما سبق. ولأنه لو وجب عقلا بالنسبة إلى من يعلم الله بأنه يؤمن، دون الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن؛ فإن التكليف قبيح، لأنه إضرار له، لأنه إلزام أفعال شاقة لا يترتب عليه نفع في الدنيا، ويستحق عليه عذابا شديدا في الآخرة لا انقطاع له وإن كان سببا عن سوء اختياره، ولا سيما من يعلم أنه يؤمن ويعبد الله سنين ويموت كافرا، كبلعم بن باعور وبرصيصا الزاهد وأمية بن الصلت

وأبو عمرو وأضرابهم حيث جمع لهم إلزام المشاق في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة، وهذا قبيح عقلا، والقبيح لا يكون واجبا. ولأن تكليف من علم الله أنه لا يؤمن ويموت كافرا عبث، لأنه لا ينزجر عن القبائح. ولأنه لو وجب لوجب أن يبعث في كل قرية رسلا تترا من غير فترة، أو إماما غير جبان لا يخاف الأعداء بمجرد من الأضرار، ويؤيده بالمعجزات الباهرة الدالة على صدق دعواه، ويمكنه من الدعوة، ولم يفعل ذلك كله؛ فإنه قد وقعت فترة بين الرسل، ولم يبعث في كل قرية رسولا، ولم يبعث إلى قطّان شواهق الجبال المشمخرة نبيا، وكثير منهم لم يبلغه دعوة نبي قط، ولم يتول الإمامة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا رجال لا يتمكنون من إظهار ما هم عليه من أحكام الشريعة خوفا من المخالفين، حتى غاب خاتمهم منذ مدة مديدة خوفا من الأعداء على ما زعمه القوم، مع كثرة شيعته وأنصاره وأوليائه وتبعته. ولأن تكليف سفهاء الأحلام الذين لا يكادون يفقهون حديثا ولا يميزون بين المعجزة والسحر ولا يهتدون إلى طرق الاستدلال سبيلا، تكليف بما لا يطاق. واحتج من خالف أهل الحق على وجوب التكليف بأن التكليف زاجر عن القبائح، لأن الإنسان بمقتضى طبعه يميل إلى الشهوات، فإن علم أنها حرام انزجر عنها، فالزجر عن القبائح بالنسبة إليه تعالى واجب. والجواب أن وجوب الزجر عن القبائح بالنسبة إليه تعالى ممنوع، لأن المنزجر عن

القبائح في العالم قليل جدا، فإن أكثر الناس لا ينزجرون عن القبائح مع العلم بقبحها، والتكليف بالنسبة إليهم عبث، وفعل العبث لا يكون واجبا من غير نكير. ولأن من يعلم الله تعالى أنه لا ينزجر بعد التكليف فزجره عبث، وكذا تكليفه. ولأن الحاكم بالحسن والقبح هو الله تعالى دون العقل كما تقدم.

المطلب التاسع عشر في أن اللطف لا يجب على الله تعالى

المطلب التاسع عشر في أن اللطف لا يجب على الله تعالى ذهبت الكيسانية والزيدية غير المخلصين والإمامية إلى أن اللطف واجب؛ واللطف ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من فرق المسلمين من أنه لا يجب عليه شيء؛ لأنه هو المالك على الإطلاق، وله التصرف في ملكه كيف يشاء، ولا حاكم عليه، ولا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل. ولأنه لو وجب اللطف عليه تعالى لوجب عليه سبحانه أن يريد إيمان كل مكلف، والنصوص تدل على خلاف ذلك، فإنها ناصة على أن انتفاء إيمان الكل مبني على انتفاء مشيئته سبحانه، قال تعالى: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} وقال تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} وقال تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} وقال تعالى: {ولو شاء لهداكم أجمعين} إلى غير ذلك من النصوص، وتخصيص الإرادة بإرادة العزم باطل؛ لأن إرادة العزم للممتنع كإرادة جزمه، وكلاهما سفه، وكذا إرادة انقلاب العلم جهلا، ولأنه لو وجب عليه اللطف لم يشأ ضده وقد شاء، قال تعالى: {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه} وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه} فإنه إذا لم يشأ عدم الفعل فقد شاء الفعل لعدم القائل بالفصل. ولأنه لو وجب اللطف على الله تعالى لوجب عليه أن يريد لعبده خيرا، ولم ينكت في قلبه نكتة سوداء ولم

يسد مسامع قلبه ولم يوكل به شيطانا يضله، وقد فعل ذلك كله بكثير من عباده. ولأنه تعالى قال: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} فلو كان اللطف واجبا لأخل بالواجب، وفعل ما هو عبث وسفه، تعالى الله عن ذلك. ولأنه لو وجب اللطف على الله تعالى لبعث في كل عصر نبيا وولى على كل بلد معصوما يدعو المكلف إلى الحق ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. ولأنه لو وجب عليه سبحانه اللطف لم يخلق للعاصي إرادة المعاصي. واحتج من خالف أهل الحق بأن اللطف يحصل به غرض المكلف، وهو الإتيان بالمأمور به، فيكون واجبا، وإلا لزم نقض الغرض وهو قبيح. والجواب أنا لا نسلم أن الغرض هو الإتيان بالمأمور به، وإلا لزم أن يكون الله تعالى معللا فعله بغرض ممتنع إذا أمر من يمتنع إيمانه بالإيمان، وهو سفه وعبث، ولأن الله تعالى قال: {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وإذا حق القول منه بذلك فلا بد أن يكون جمع من المكلفين عصاة، فتكليفهم بالطاعة عبث، والعبث لا يكون واجبا، فاللطف منتف عنهم، فلو وجب لزم إخلاله تعالى به، ولأنه لو وجب ذلك لم ينظر إبليس إلى النفخة الأولى ولم يقل له: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم} الآية، حين قال: {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا}. ولأن الغرض يحصل بإلجاء المكلف على قبول المأمور به أيضا، بل هو أشد وأقوى من اللطف في حصول الغرض، ولا قبح فيه فيكون واجبا، كما فعل ذلك بقوم موسى عليه الصلاة والسلام حيث رفع فوقهم الطور وألجأهم على الامتثال لما أمروا به، قال تعالى: {ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون} وقال تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة}، ولأن تمكن العاصي من المعاصي نقض للغرض، فإن عدمه لطف، ولم يفعل.

ولأنه لو كان اللطف واجبا لما ذكر لم يخلق في العبد قدرة على خلق القبائح، فإنه نقض للغرض. ولأنه قد ثبت من طريق الإمامية عن أئمة أهل البيت أن الله تعالى أمر إبليس بالسجود ولم يرد منه ذلك كما سلف فتذكر.

المطلب العشرون في بيان أن الأصلح لا يجب عليه تعالى

المطلب العشرون في بيان أن الأصلح لا يجب عليه تعالى ذهبت الكيسانية والزيدية الغير المخلصين إلى أنه يجب على الله تعالى ما هو الأصلح الأنفع لعباده في الدين. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة ومن وافقهم من أنه لا يجب على الله تعالى شيء لما سبق غير مرة. ولأن الفعل إما واجب الوقوع أو ممتنع، والممتنع لا يقع بالاتفاق، فتعين الواجب، ولا فرق بين الأصلح وغيره من الفعل، ولأنه لو وجب الأصلح عليه تعالى لم يجر على يد كثير من عباده الشر، وقد أجراه على أيديهم. ولأن الله تعالى يعلم من الناس من لو أمكنه في الأرض أشاع البدع وسفك الدماء وظلم الناس، ومع ذلك مكنه وجعله سلطانا عليهم، فلو كان الأصلح واجبا عليه لم يمكنه. ولأنه لو وجب الأصلح عليه تعالى لم يمل للذين كفروا ليزدادوا إثما، وقد أملاهم، قال تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما}. ولأنه تعالى لو وجب عليه الأصلح لم يجعل صدر من يريد أن يضله ضيقا حرجا، بل وجب أن يشرحه للإسلام. ولأنه تعالى لو وجب عليه الأصلح لم يسلط على ابن آدم عدوا يراهم هو وقبيله من حيث لا يرونهم. ولأنه لو وجب عليه الأصلح لم يخلق في العبد قوة على خلق المعاصي وإرادتها ولم يجعل له ضروب التمكن، فإن الأصلح أضداد تلك الأمور. ولأنه لو وجب عليه الأصلح لزم أن يكون الواجب تعالى تاركا بعض الواجبات، فإن الأصلح لقوم موسى عليه الصلاة والسلام أن لا يرى السامري الرسول ولم يعلمه خاصية أثره حتى لا يقبض قبضة من أثر الرسول فيجعل ما يضل به الناس. ولأن الأصلح بحال الكافر المسكين المبتلى بأنواع البلايا أن لا يخلقه أو يميته في صغره قبل أن يرتكب ما يوجب الخلود في النار. ولأن الأصلح لمن يعلم سبحانه أنه لا يمتثل لأوامره ولا ينتهي

عما نهاه عنه أن لا يأمره ولا ينهاه. ولأن الأصلح لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينص على خلافة أبي بكر دون علي. ولأنه لو وجب الأصلح عليه تعالى لزم أن لا يستوجب الله تعالى على فعله شكرا، لكونه مؤديا لما وجب عليه، فكان كمن أدى دينا لازما، فالأمر بالشكر على ما يستوجبه قبح. ولأنه لو وجب الأصلح عليه تعالى لما كان له منة على العباد في إفاضة الخيرات ودفع البليات، لكونها أداء للواجب، وكان الأمر بالشكر عليها سفها وعبثا، ولكان قوله تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} لغوا. ولعمري إن مفاسد هذا الأصل أكثر من أن تحصى. أقول: وقد ذكر في ترجمة التحفة ما نصه: "اعترض على الشيعة القائلين بوجوب الأصلح بأن تقوية الفاسقين على قتل الأنبياء وأبناء الأنبياء في غاية القبح عقلا، وقد وقع، كقتل يحيى والحسين؛ فإن أجابوا بأن مصائب مثل هؤلاء الكرام لما كانت مجازاة بالثواب الجزيل في دار الجزاء كانت تلك الأمور حسنة وصلاحا، لا قبحا وفسادا؛ قلنا: فالأنبياء الآخرون مثلا الذين لم تصبهم مثل هذه المصائب، هل يجزون بهذا الثواب الجزيل من غير ابتلاء أم لا؟ فعلى الأول لزم ترك الأصلح وصدور القبيح في حق يحيى والحسين مثلا، وعلى الثاني يلزم تركه في حق أولئك الكرام، لأنهم لم يفوزوا بالثواب الجزيل" انتهى، وهو إلزام حسن على ما لا يخفى. واحتج من خالف أهل الحق أن ترك الأصلح المقدور الغير مضر بخل وسفه، والله تعالى منزه عن ذلك. والجواب أن كون ترك الأصلح بخلا وسفها ممنوع، لأنه سبحانه حكيم عالم بعواقب الأمور، وكل ما يفعله الحكيم العالم بعواقب الأمور لا يخلو عن الحكمة والمصلحة.

المطلب الحادي والعشرون في بيان أن العوض لا يجب على الله تعالى

المطلب الحادي والعشرون في بيان أن العوض لا يجب على الله تعالى ذهبت الكيسانية والفرق الثمانية من الزيدية والإمامية إلى أنه يجب على الله تعالى العوض، وهو نفع مستحق خال من تعظيم الإله، في مقابلة ما أصاب العبد من الآلام. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من الفرق الإسلامية من أنه لا يجب على الله تعالى شيء، لا عوض ولا غيره كما سبق؛ ولأن العوض إنما يجب على من تصرف في ملك الغير، فإنه ظلم، ولا ملك لغيره تعالى. وقول من زعم إنه لو اعتبر هذا لكان خيرات العباد أيضا ظلما باطل، فإن الفرق بين التصرف في ملك الغير بأمره ورضاه ظاهر لكل أحد. ولأنه لو وجب لوجب لمن ليس عليه حق لله تعالى، وله سبحانه على خلقه نعم لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. ولو عبد الله شخص من أول عمره إلى آخره بأنواع العبادات لم يؤد شكر أقل نعمة. روى ابن بابويه القمي في الأمالي من طريق صحيح عن علي بن الحسين أنه كان يدعو بهذا الدعاء: "إلهي، وعزتك وجلالك وعظمتك لو أني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل شعرة في كل طرفة عين سرمد الأبد بتحميد الخلائق وشكرهم أجمعين لكنت مقصرا في بلوغ أداء شكر أخفى نعمة من نعمك، ولو أني كربت معادن حديد الدنيا بأنيابي وحرشت أرضها بأشفار عيني وبكيت من

خشيتك مثل بحور السماوات والأرضين دما وصديدا لكان ذلك قليلا من كثير ما يجب من وفي حقك علي، ولو أنك إلهي عذبتني بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين وعظمت للنار خلقي وجسمي وملأت جهنم وأطباقها مني حتى لا يكون في النار معذب غيري ولا يكون لجهنم حطب سواي لكان هذا لك علي قليلا من كثير ما استوجب من عقوبتك". وفي نهج البلاغة: "لا يأمن خير هذه الأمة من عذاب الله". واحتج من خالف أهل الحق بأن ترك العوض قبيح، لأنه ظلم، فيجب فعله. والجواب أن كون ترك العوض ظلما ممنوع، لأن الظلم لا يمكن صدوره منه تعالى؛ لأنه وضع الشيء في غير محله، بالتصرف في ملك الغير بغير رضاه، أو مجاوزة الحد، وكلاهما في حقه تعالى محال، إذ لا مالك سواه، وليس لأحد عليه حق. بل هو الذي خلق الخلق، وتفضل على عباده بما تفضل، وحد عليهم الحدود، وحلل الحلال وحرم الحرام، ولا يسأل عما يفعل. ويؤيده ما روي عن السجاد من الدعاء الذي ذكر قريبا، وكذا ما في النهج. ولأنه لو وجب العوض لوجب عليه تعالى إنزال الآلام على البهائم عوضا، ولم يقل به أحد. ولأنه لا قبح منه تعالى لما تقدم، ولا يمكن وقوع الظلم منه سبحانه. والاستدلال على إمكان وقوعه بأنه سبحانه قد تمدح بنفي الظلم عنه فقال: {ولا يظلم ربك أحدا} وقال: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} والتمدح بما لا يصح من الممدوح لغو، كقول من يمدح الأعمى: بأنه لا ينظر إلى المحرمات، والعنين: بأنه لا يزني؛ فاسد؛ لأن المراد من الظلم في الآيات والأخبار نقص أجر العمل الصالح للعبد على ما قدره الله تعالى له ووعده، أو تركه رأسا، وتعذيب العبد من غير جرم، أو زيادة تعذيبه على القدر الذي قدره الله تعالى له، فتفضل سبحانه على عباده فجعل الأجر حقهم، وملكا ملكهم، فسمى التصرف فيه ظلما، وإن كان ذلك ليس بظلم في الحقيقة.

وأيضا لا نسلم أن نفي الظلم في الآيات للتمدح، بل هو رد على من زعم ذلك، أو إخبار لمن يعلم أنه لا يصح منه الظلم، كقوله تعالى: {إن الله لا يخلف الميعاد} وقوله: {ما يبدل القول لدي} فإنه إخبار منه تعالى بأنه لا يبدل القول لديه سبحانه لمن يعلم ذلك. ولو سلم أن النفي للتمدح فالمعنى لو أمكن منه الظلم فهو لا يظلم، وليس المقصود نفي إمكانه، بل زجر عباده عن الظلم، فهو على حد قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} وقوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين}، وهذا أسلوب من أساليب البلاغة، وشتان ما بينه وما بين الأعمى والعنين بذلك.

المطلب الثاني والعشرون في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى

المطلب الثاني والعشرون في أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ذهبت الكيسانية والفرق الثمانية من الزيدية والإمامية إلى أن العبد خالق لأفعاله بقدرته، حتى البهائم والطيور وغيرها من الحيوانات وما ليس له شعور من الأعضاء وغيرها. روى المرتضى في الدرر والغرر عن التوزي عن أبي عبيدة قال: اختصم رؤبة وذو الرمة عند بلال بن أبي بردة، فقال رؤبة: والله ما فحص طائر فحوصا ولا تقرمص سبع قرموصا (أي اتخذ قرموصا وهو الموضع الذي يأوي إليه) إلا بقضاء من الله وقدره، فقال له ذو الرمة: والله ما قدر الله على الذئب أن يأكل حلوبة عيائل (جمع عيل، وهو ذو العيال) ضرائك (جمع ضريك، وهو الفقير)، فقال رؤبة: أفبقدرته أكلها؟ هذا كذب على الذئب ثان، قال ذو الرمة: الكذب على الذئب خير من الكذب على رب الذئب. قال المرتضى: هذا الخبر صريح في قوله بالعدل واحتجاجه عليه وبصيرته فيه. هذا كلامه، ولا

يتفوه به من له مسكة من العقل. قل للذي يدعي في العلم فلسفة ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ثم روى عن الأصمعي عن إسحاق بن سويد قال: أنشدني ذو الرمة: وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما يفعل الخمر فقلت له: فعولين خبر لكونا، فقال لي: لو سبحت لربحت، وإنما قلت: وعينان فعولان فوصفتهما بذلك، قال المرتضى: "وإنما تحرز ذو الرمة بهذا الكلام من القول بخلاف العدل". اهـ. وهو باطل؛ لأنه وصفهما بذلك للمبالغة، إذ لا يقول ذو لب أن الخمر تخلق الإسكار، ولو أراد ما ذكره المرتضى لم يفد سوى أنه ما لا علم له ولا إرادة ولا قدرة، كالعين والخمر، شريك الله من خلقه، وهذا قول بطلانه أظهر من الشمس. وقد تبع هؤلاء الضلال المعتزلة، وكلا الفريقين وافقوا المجوسز وزعموا أن القول بخلاف ذلك يستلزم الظلم، وسموا هذا القول عدلا، وسموا أنفسهم عدلية، وأرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه، وأثبتوا له شركاء من خلقه. وقد ظنوا أن أمر الخلق هين حتى زعموا أن مثل الذرة وما دونها خالق لأفعاله. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى مكسوبة للعبد. وما زعمه المخالفون باطل، لأنه يستلزم أن يكون الكافر الذي علم الله تعالى أنه يختار الكفر ويموت عليه قادرا على أن يخلق فيه الإيمان، وليس كذلك، وإلا لزم أن ينقلب العلم جهلا، هذا خلف. ولأن العبد حال الفعل إن لم يتمكن من الترك كان مجبورا لا مختارا، وإن تمكن فلا بد له من مرجح لوجوب الفعل، ولم يمكن منه، وإلا لزم

الترجيح من غير مرجح. ولأنه لو ناقض مراد الله مراد العبد: فإما أن يقع مرادهما جميعا، أو لا يقع، وكلاهما محال، أو يقع مراد أحدهما، فيلزم الترجيح بلا مرجح. ولأنه أجمعت الأمة على وجوب شكر الله تعالى على نعمته الآن، فلو كان بإيجاد العبد لزم شكر الغير على فعل نفسه، ولا معنى له، وأما الشكر على المقدمات فأمر آخر. ولأن المليين أجمعوا على صحة تضرع العبد إلى الله تعالى بطلب ما ينفعه ودفع ما يضره، فلو كان بخلق العبد دون خلق الله تعالى لما صح ذلك. ولنصوص الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى: {لا إله إلا هو خالق كل شيء}،

{ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله}، {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن} مع أن وقوف الطير فعل اختياري من الحيوان. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله صانع كل صانع وصنعه"، أخرجه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد والبيهقي فيه والحاكم في المستدرك عن حذيفة بن اليمان مرفوعا. وروت الإمامية عن الأئمة أيضا: أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، كما ذكره شارح العدة وغيره؛ وفسروا الخلق بالتقدير، والتقدير بالتدبير، وهو أن يفعل ما يفعل المتحري للصواب الناظر في عواقب الأمور. ولا حجة لهم في ذلك لا من اللغة، ولا من كلام الأئمة. ولا يجوز أن يكون الخلق بمعنى التقدير لقوله تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}. وما ذهب إليه أهل الحق هو مذهب المتقدمين من المليين والحكماء الإلهيين ومن بعدهم من الفلاسفة، فإنهم قالوا: المبدأ الأول فاعل الحوادث كلها، وإنه هو المؤثر في الحقيقة، ولا مؤثر سواه، فإن الوسائط بمنزلة الشرائط والآلات. نص عليه الشيخ في الشفاء وتلميذه في التحصيل، وصنف صاحبه الحكيم عمر بن الخيام في ذلك رسالة مفردة، وصرح بذلك صاحب التجريد من الإمامية في شرح الإشارات.

واحتج من خالف أهل الحق بأنه لو كان الله تعالى موجدا لأفعال العباد لكان فاعلا، والفاعل يتصف بالفعل، إذ لا معنى للعاصي إلا فاعل العصيان، فيلزم أن يكون سبحانه كافرا، تعالى الله. والجواب أن الفاعل يطلق على من قام به الفعل، لا على من أوجده. واحتجوا أيضا بأنه لو كان خالقا لأفعال العباد لكان أظلم الظالمين، حيث خلق في العبد المعصية ثم عذبه عليها. والجواب أن الله تعالى أوجد في العبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك، وصفةً من شأنها ترجيح أحد المقدورين بالوقوع، وهي الإرادة، وأخرى من شأنها الميل إلى الشهوات الموجبة لهلاكها والنفور عن التكاليف الموجبة لسعادتها، وهي النفس، ولما تعلقت الإرادة بالفعل تعلقت القدرة به بسبب تعلقها به، وهو ليس بمخلوق لله تعالى لما مر آنفا، وتعلق إرادة العبد بالفعل الكسب، والترجيح مع ميل النفس في المعصية، وبدونه في الطاعة الاختيار، فالعذاب بسبب سوء الاختيار والكسب. ولأن الله تعالى يعلم ما كانوا يفعلون لو فوض إليهم الأمر، فيخلق فيهم ذلك، فيعذب منهم الفجار، كما علم من أطفال الكفار ما كانوا يعملون، فيدخلهم مدخل آبائهم. روى محمد بن بابويه عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عن أطفال المشركين يموتون قبيل أن يبلغوا الحنث، قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين، يدخلون مداخل آبائهم". وروى عن وهب بن وهب عنه عن أبيه أنه قال: "أولاد الكفار في النار". وروى الكليني وابن بابويه وآخرون عن الأئمة: أن الله تعالى خلق بعض عباده سعيدا وبعض عباده شقيا.

وروى الكليني عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله أنه قال: "إن الله تعالى خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه، فمن خلقه سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل سوءا أبغض عمله ولم يبغضه، وإن خلق شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه، فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا، وإذا أبغضه لم يحبه أبدا". وروى الكليني وغيره من الإمامية عن أبي نصير أنه قال: كنت بين يدي أبي عبد الله جالسا وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا ابن رسول الله، من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبدا لله: أيها السائل، علم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه بحقه، فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على طاعته ووضع ثقل العمل تحقيقا لما هم أهله، ووضع لأهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم، ومنعهم إطاقة القبول، فوافقوا ما سبق لهم في علمه، ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه". واحتجوا أيضا بأنه لو كان الله تعالى خالقا لفعل العبد لزم إفحام الأنبياء؛ لأنه إذا قال النبي للكافر: آمن بي، يقول الكافر: قل للذي بعثك يخلق في الإيمان حتى أؤمن، وقد خلق في الكفر، وأنا لا أتمكن من مقابلته، فيفحم النبي ولا يتمكن من جوابه. والجواب أن النبي يقول له: إن الله تعالى أمرني بالتبليغ، وبيده الرد والقبول، وليس لي من الأمر شيء. أو يقول: دعوتي قد تكون داعية لك إلى الفعل واختياره، فيخلق الله تعالى فعل القبول عقبها. ولأن هذا يرد أيضا على تقدير كون العبد خالقا لأفعاله، لأن العبد إذا قال للنبي: إن الله تعالى أجرى بيدي، وأنا لا أتمكن من مقابلته وقهره، أو قال: إنه منعني من إطاقة القبول ووهب لي قوة على خلق المعصية دون الطاعة، فكيف يكلفني بالإطاقة؟، أو قال: إن الله تعالى أراد لي السوء ونكت في قلبي نكتة سوداء وسد مسامع قلبي ووكل بي شيطانا يضلني، فقل له: يريد بي الخير وينكت في قلبي نكتة من نور ويفتح مسامع قلبي ويوكل بي ملكا يسددني حتى أؤمن بك، فيفحم النبي أيضا.

واحتجوا أيضا بكثير من الآيات الدالة على استناد الفعل لفاعله، نحو: {يؤمنون به}، {يكفرون بآيات الله} وبكثير من الآيات الدالة على المدح نحو: {وإبراهيم الذي وفى} وفي الذم نحو: {وكيف تكفرون بالله وأنتم تتلى عليكم آيات الله} والوعد نحو: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} والوعيد نحو: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} وبالآيات الدالة على أن فعل العبد بمشيئته، نحو: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. والجواب أن الفعل يستند حقيقة إلى من قام به، لا إلى من أوجده، فإن الأحمر مثلا الجسم، وإن كانت الحمرة بخلقه تعالى، وكذلك الأكل والشرب والنوم واليقظة وغيرها. وأما المدح والذم والوعد والوعيد فلاختيار العبد وكسبه إياه. وأما المشيئة فلأن أفعال العباد بإرادة الله تعالى، لكنها على وفق إرادة العبد، فإنه سبحانه لما كان عالما بما يريده العبد أراده، فإن الكتاب والسنة وآثار الأئمة ناصة على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} لا يفيد الخصم شيئا، فإنه تعالى لم يذم الكفرة على قولهم: إن الكفر بمشيئة الله تعالى، وإنما ذمهم لأنهم قصدوا بمقالتهم تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذمهم على تفويض الكائنات إلى مشيئة الله تعالى. وقوله تعالى فيما بعد: {فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} يصرم دجى هذا الوهم. وجميع شبههم في هذا الباب أوهى من بيت العنكبوت.

المطلب الثالث والعشرون في أن الله لم يفوض خلق الدنيا إلى أحد

المطلب الثالث والعشرون في أن الله لم يفوض خلق الدنيا إلى أحد ذهبت المفوضة إلى أن الله تعالى فوض خلق الدنيا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو الخالق للدنيا وجميع ما فيها. وقالت جماعة منهم: إن الله تعالى فوض خلقها إلى محمد وعلي، فهما الخالقان لها. وقالت فرقة أخرى منهم: إن الله تعالى فوض خلقها وما فيها لعلي بن أبي طالب. والكل باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجماهير الملة الإسلامية والمليون وغيرهم من العقلاء من أنه تعالى لم يفوض خلق الدنيا إلى أحد، لقوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات}، {خالق السموات والأرض وما بينهما}، {هل من خالق غير الله}، {الله خالق كل شيء} إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة التي في هذا الباب أكثر من أن تحصى. ولا دليل لهذه الفرقة الضالة على هذه الدعوى الكاذبة.

المطلب الرابع والعشرون في أن الله تعالى خالق الخير والشر

المطلب الرابع والعشرون في أن الله تعالى خالق الخير والشر ذهبت الكيسانية والزيدية غير المخلصين والإمامية إلى أنه تعالى خالق الخير وليس بخالق الشر، بل خالق الشر إبليس وعصاة الثقلين. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من أنه تعالى خالق كل شيء، لقوله تعالى: {لا إله إلا هو خالق كل شيء}، {كل شيء خلقناه بقدر}، {خلقكم وما تعملون}. ولما أخرجه ابن ماجه وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه تبارك وتعالى: "أنا خلقت الخير والشر، فطوبى لمن قدر على يده الخير، وويل لمن قدر على يده الشر". ولما رواه محمد بن يعقوب الكليني وغيره عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله أنه كان يقول: "مما أوحى الله إلى موسى وأنزل عليه في التوراة: أني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يد من أحبه، فطوبى لمن أجريته على يده". وروى أيضا عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر يقول: "إن في بعض ما أنزل الله في كتبه أني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يد من أردته، فويل لمن أجريته على يديه". وروى أيضا عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر يقول: "إن في بعض ما أنزل الله في كتبه أني أنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخير وخلقت الشر، فطوبى لمن أجريت

على يديه الخير، وويل لمن أجريت على يديه الشر". وروى علي بن إبراهيم بن هاشم أبو الحسن القمي صاحب التفسير عن عبد المؤمن بن قاسم الأنصاري عن أبي عبد الله قال: "قال ربنا أنا الله لا إله إلا أنا خالق الخير والشر". إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة. ولقد سلك علماء الرافضة في تأويل هذه الأخبار كل واد. فقال بعض المحققين منهم: "المراد من الخير ما يلائم الطبع، ومن الشر ما ينافره"، وهذا لا يجديه نفعا على ما لا يخفى. ولأن ما ذهبوا إليه يستلزم إثبات الشركاء لله تعالى الذي له الخلق والأمر، ولذا سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة، فقال عليه الصلاة والسلام: «القدرية مجوس هذه الأمة»، وذلك لأنهم زعموا أن للعالم إلهين: أحدهما خالق الخير وهو يزدان، والثاني خالق الشر وهو أهرمن. واحتج من خالف أهل الحق بأنه تعالى لو كان خالق كل شيء لكان خالق أفعال العباد، واللازم باطل، لأنه لو خلق الكفر والمعصية في العبد ثم عذبه بذلك لكان ظالما، فالملزوم مثله. والجواب أن الظلم مستحيل في حقه تعالى؛ لأنه إما تجاوز الحد، أو التصرف في ملك الغير، وكلاهما محال على الله تعالى كما سبق؛ ولأن الله تعالى يخلق للعبد إرادة وقوة، فإذا أراد أن يفعل فعلا خلق الله تعالى ذلك الفعل فيه والقدرة عليه، والتفصيل في كتب الكلام، وهذا هو الأمر المتوسط بين الجبر والتفويض، وهو الصراط المستقيم، والمروي عن أئمة أهل البيت.

روي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: "قلت للإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق: يا ابن رسول الله، هل فوض الله تعالى الأمر إلى العباد؟ فقال: الله تعالى أجل من أن يفوض الربوبية إلى العباد، فقلت: هل جبرهم على ذلك؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على ذلك، فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: الأمر بين بين، لا جبر ولا تفويض، ولا كره ولا تسليط". وروى الكليني عنه أنه قال: "لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين". وروى الكليني عن أبي الحسن محمد بن الرضا نحوه وروى عن إبراهيم أنه قال: "سأل الرضا رجل: أيكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ فقال: هو أعدل من ذلك، قال: أفيقدرون على فعل كما يريدون؟ فقال: هم أعجز من ذلك"، كذا في الفصول وفي نثر الدرر. وسأل الفضل بن سهل علي بن موسى الرضا في مجلس المأمون قال: "يا أبا الحسن، الخلق يجبرون؟ قال: الله أعدل أن يجبر ثم يعذب، قال: فمطلقون؟ فقال: الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه". ولأن القدرة والإرادة مخلوقتان لله تعالى بالاتفاق، نص عليه نصير الدين الطوسي في قواعد العقائد وغيره، ولا فرق بين خلق الفعل في العبد وخلق قدرة خلقه فيه.

المطلب الخامس والعشرون في أن جميع الكائنات بقضاء الله تعالى وقدره

المطلب الخامس والعشرون في أن جميع الكائنات بقضاء الله تعالى وقدره ذهبت الكيسانية والفرق الثمانية من الزيدية والإمامية إلى أن ليس جميع الكائنات بقضاء الله تعالى وقدره. والقضاء إثبات ما هو كائن إلى الأبد على وفق ما تعلق به علمه تعالى أزلا في اللوح المحفوظ إجمالا، والقدر تفصيل قضاء الله السابق باتحادهما في المواد الخارجية. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة من أن كل شيء بقضاء الله تعالى وقدره، لقوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}. ولما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره»، ومثل ذلك كثير في الكتب الصحيحة. وروى محمد بن بابويه القمي في كتاب التوحيد بإسناد صحيح عندهم عن أبي عبد الله أنه قال: "القدرية مجوس هذه الأمة، أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر} ". وروى محمد بن بابويه القمي أيضا في حديث المعراج عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الله فقال: "إلهي اجمع أمتي على ولاية علي بن أبي طالب

ليردوا جميعا على حوضي يوم القيامة، فأوحى الله إليه أني قد قضيت في عبادي قبل أن أخلقهم، وقضائي ماض فيهم، لأهلكن من أشاء، وأهدي به من أشاء". وروى الكليني عن أبي نصير قال: "قلت لأبي عبد الله: شاء من أراد وقدر وقضى؟ قال: نعم، قلت: وأحب؟ قال: لا". وغير ذلك من رواياتهم الصحيحة عندهم. واحتج من خالف أهل الحق أنه لو كانت المعاصي بقضاء الله وقدره لزم أن يكون الله ظالما، لأنه إذا قضى وقدر المعصية ثم عذب عليها كان ذلك ظلما. والجواب أن القضاء على ما ذكرنا ليس من الظلم في شيء، لأنه إثبات ما تعلق به العلم في اللوح. وأما القدر فكذلك، لأن إيجاد الفعل عقب صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كما تقدم، فالعذاب بسبب سوء اختيار العبد المعصية وميل نفسه إليها وكسبه، ولو وكله الله تعالى إلى نفسه وفوض الأمر إليه يصدر منه المعصية بقدرته، ولأن القول بعدم التقدير إخراج الله تعالى عن سلطانه كما نطق به الصادق، ولأنه قد سبق أن الظلم لا يتصور في حقه تعالى.

المطلب السادس والعشرون في أن قرب العبد إلى ربه ليس بقرب مكان

المطلب السادس والعشرون في أن قرب العبد إلى ربه ليس بقرب مكان ذهبت الحكمية والسالمية والشيطانية والميثمية وغيرهم من الإمامية إلى أن قرب العبد إلى ربه قرب مكان. روى ابن بابويه في كتاب المعراج عن حمران بن أعين عن أبي جعفر أنه قال في تفسير قوله تعالى: {ثم دنا فتدلى}: "أدنى الله نبيه، فلم يكن بينه وبينه إلا قفص من لؤلؤ، فيه فراش يتلألأ من ذهب، فأراه صورة؛ فقيل: يا محمد، أتعرف هذه الصورة؟ قال: نعم، هذه صورة علي بن أبي طالب". وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم، أن قرب العبد إلى الله تعالى إنما هو بالدرجة والمنزلة والرضوان، وليس قربه منه سبحانه قرب مكان، لأن الله تعالى منزه عن المكان. والأثر من موضوعاتهم، فإن أمارات الوضع لائحة عليه، لأنه مخالف للأخبار الصحيحة، ولأنه يدل على أن صورة علي أقرب إلى الله تعالى من محمد، وبطلانه ظاهر.

المقصد الثالث في مباحث النبوة

المقصد الثالث في مباحث النبوة

الفصل الأول في أن البعثة لطف من الله تعالى

الفصل الأول في أن البعثة لطف من الله تعالى ذهبت الكيسانية والزيدية الغير المخلصين والإمامية إلى أنه يجب على الله تعالى بعث الأنبياء. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم أن بعث الأنبياء لطف من الله تعالى ورحمة لما فيه من الحكم والمصالح التي لا تحصى، كمعاضدة العقل فيما يستقل بمعرفته، مثل وجوب الواجب وعلمه وقدرته وإرادته واستفادة ما لا يستقل به كالمعاد الجسماني وتكميل النفوس الإنسانية بحسب استعداداتهم المختلفة في العلميات والعمليات وتعليم الأخلاق الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص والصناعات الكاملة كالمنازل والمدن والإخبار بتفاصيل ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تحصى. واحتج من خالف أهل الحق بأن نظام العالم المؤدي إلى صلاح العباد وعلى العموم في المعاش والمعاد لا يكمل إلا ببعثة الأنبياء، فيكون واجبا. والجواب أنه لا يجب عليه شيء كما سبق غير مرة.

الفصل الثاني في جواز خلو الزمان عن نبي ووصي

الفصل الثاني في جواز خلو الزمان عن نبي ووصي ذهبت السبعية من الإسماعيلية إلى أنه يجب أن يكون في كل عصر نبي أو وصي، ولا يجوز خلوه عن أحدهما، وكذا الإمامية والمفضلية والعجلية والإسحاقية، غير أن الفرق الثلاثة الأخيرة ذهبوا إلى أنه لا يخلو زمان عن نبي. والكل باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجمهور المسلمين من أنه لا يجب ذلك لما سبق، ولأن الكتاب ناص على وجود زمن الفترة. واحتجت الإسماعيلية على مذهبهم بأنه لما كان العالم العلوي مشتملا على عقل كامل كلي ونفس ناقصة كلية يصدر عنها الكائنات، وجب أن يكون في العالم السفلي عقل كامل كلي ونفس ناقصة كلية نسبتها إلى الرسول الهادي إلى سواء السبيل نسبة النفس الأولى إلى العقل الأول فيما يعود إلى الإيجاد، وهذه النفس هي الإمام والوصي للرسول. ولما كان تحرك الأفلاك بتحريك العقل كان تحرك النفس الإنسانية إلى النجاة بتحريك الرسول، فعلى هذا لا يخلو الزمان عن أحدهما. والجواب أن هذا استدلال بما تتوهمه الأوهام ولا تقبله العقول والأفهام، ولا نسلم أن العالم العلوي مشتمل على عقل ونفس، ولو سلم فلا نسلم أن العالم السفلي مشتمل عليهما أيضا، بل هذا ادعاء محض. واحتجت الإمامية بأن وجود أحدهما لطف، واللطف واجب عليه سبحانه. والجواب أنه لا يجب عليه سبحانه اللطف كما برهنا عليه سابقا، ولا حجة للمفضلية والعجلية على ما زعموه. والكتاب ناص على أن النبوة قد ختمت. وكذا الأخبار الصحيحة والآثار المروية عن أهل البيت. أما الكتاب: فقوله تعالى: {قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من

الرسل}، {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}. وأما الأخبار الصحيحة: فمنها ما رواه البخاري في صحيحه قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين". ومثله في صحيح مسلم والترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام: «لا نبي بعدي» إلى غير ذلك. وأما الآثار المروية عن أهل البيت؛ فمنها ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقول في صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم داحي

المدحوات ورافع المسموكات، اجعل شرائف صلواتك ونواحي بركاتك على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق والفاتح لما أغلق"، وقال في بعض خطبه: "أرسله على فترة من الرسل وطول الحجة من الأمم"، وقال أيضا: "أمين وحيه وخاتم رسله وبشير رحمته ونذير نقمته"، إلى غير ذلك.

الفصل الثالث في أن الرسول أفضل الخلق ولا يكون غيره أفضل منه

الفصل الثالث في أن الرسول أفضل الخلق ولا يكون غيره أفضل منه ذهبت الإمامية وكثير من فرق الشيعة إلى أن عليا أفضل من الرسل إلا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإنه يساويه في الفضل، وكذا الأئمة من ولده. وقالت فرقة منهم: هو أفضل من جميع الرسل إلا أولي العزم، فإنه يساويهم في الفضل، وكذا الأئمة من ولده. وتوقف بعضهم في الأفضلية على أولي العزم، منهم ابن المطهر الحلي. والكل باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم أن غير النبي لا يكون أفضل من النبي، لإجماع المسلمين في القرون الثلاثة على ذلك، وهذا الإجماع حجة بالاتفاق، لأن فيهم أئمة. وقد روى أهل السنة والزيدية عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه كان يضلل القائل بالتفضيل على الأنبياء. ولكون رتبة الأنبياء أرفع قدموا في الذكر قال تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الأنبياء والرسل سادة أهل الجنة". واحتج من خالف أهل الحق بما رواه الراوندي عن أبي عبد الله قال: "إن الله عز وجل فضل أولي العزم من الرسل على الأنبياء بالعلم وورثنا علمهم وفضلنا عليهم، وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يعلمون، وعلمنا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وتلا قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.

وما رواه حسن بن كبش عن أبي ذر قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي بن أبي طالب وقال: "هذا خير الأولين وخير الآخرين من أهل السموات والأرض". وما رواه عن أبي وائل عن عبد الله بن عباس قال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال لي جبريل: "علي خير البشر، ومن أبى فقد كفر". ومما رواه ابن بابويه وغيره من الإمامية عن أبي عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا". والجواب أن هذه الأخبار كلها موضوعة مكذوبة على أهل البيت، وقد تفرد بها الإمامية. ولا يجوز الاحتجاج بها عندهم لأنها معارضة بمثلها. فقد روى الكليني وغيره عن هشام الأحول أنه قال: "سألت زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: الأنبياء أفضل أم الأئمة؟ فقال: الأنبياء أفضل". ولو كانت الأئمة أفضل لأخبره بذلك أبوه، ولو أخبره لما خالفه. وروت الزيدية عن الأئمة الثلاثة أن من قال إن إماما من الأئمة أفضل من نبي فهو هالك.

وروى محمد بن بابويه القمي في الأمالي عن الصادق عن آبائه في خبر تزويج فاطمة لعلي أن الله تعالى قال لسكان الجنة من الملائكة وأرواح الرسل ومن فيها: "ألا إني زوجت أحب النساء إلي أحب الرجال إلي بعد النبيين"، والأحب أفضل. ولأن تلك الأخبار على فرض صحتها لا تفيد في باب العقائد لأنها أخبار آحاد وهي تفيد الظن، ولأنها ليست بحجة مطلقا عند المحققين من الإمامية، كابن زهرة وابن إدريس وابن السراج والمرتضى وجمع من المتقدمين والمتأخرين. ولأن الزيادة في العلم لا توجب الأفضلية بمعنى كثرة الثواب، وإلا لزم كون خضر أفضل من موسى لكونه أعلم، على ما نص عليه الكتاب، ولا قائل به. روى ابن الشريفة الواسطي عن ميثم الهاشمي عن أمير المؤمنين: "أن موسى بن عمران أنزل الله عليه فظن أن لا أحد أعلم منه، فأخبر أن في خلقه من هو أعلم منه، فدعا ربه أن يرشده إلى العالم، فجمع الله تعالى بينه وبين خضر". والمراد بالعلم في قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} العلم النافع في الدين، الذي هو مناط الاعتقاد والعمل. وأما غيره من العلوم فلا يوجب التفضيل، ولم يكن نبي من الأنبياء غير عارف بشيء منه. ومن ادعا مساواة أحد من الأئمة لنبي من الأنبياء فليس له دليل عليه. وزاد في الغلو الإمامية فقالوا: لولا علي لم يخلق الله الجنة ولا الأنبياء ولا الملائكة. وتمسكوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان -شيخ المرتضى وأبي جعفر الملقب عندهم بالمفيد- عن محمد بن الحنفية قال: قال أمير المؤمنين: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنا سيد الأنبياء وأنت سيد الأوصياء،

لولانا لم يخلق الجنة يا علي ولا الأنبياء ولا الملائكة". وهذا أيضا من مفترياتهم، إذ هذه المرتبة لم تثبت لغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

الفصل الرابع في أن النبي لا يحتاج إلى غير النبي لا يوم القيامة ولا في الدنيا

الفصل الرابع في أن النبي لا يحتاج إلى غير النبي لا يوم القيامة ولا في الدنيا ذهبت الإمامية إلى أن كل نبي مرسل وملك مقرب محتاج إلى علي بن أبي طالب يوم القيامة. واحتجوا على ذلك بما رواه ابن بابويه عن سماعة قال: قال أبو الحسن: "إذا كان يوم القيامة لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان إلا وهو محتاج إلى محمد وعلي في ذلك اليوم". وروى ابن بابويه أنه وجد بخط محمد بن الحسن بن علي العسكري ما نصه: "أعوذ بالله من قوم حذفوا محكمات الكتاب ونسوا رب الأرباب والنبي وساقي الكوثر في يوم الحساب ولظى الطامة الكبرى ونعيم دار المتقين، فنحن السنام الأعظم، وفينا النبوة والولاية والكرم، نحن منار الهدى والعروة الوثقى، فالأنبياء كانوا يقتبسون من أنوارنا، ويقتفون آثارنا، وسيظهر حجة الله على الخلق، والسيف المسلول لإظهار الحق". والجواب أن هذه محض كذب وبهتان، ليس لهم على ذلك حجة ولا برهان. والناس إنما يحتاجون إلى سيد الكونين ورسول الثقلين - صلى الله عليه وسلم -، فإنه صاحب الشفاعة العظمى والحوض المورود والمقام المحمود، الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، وبيده لواء الحمد، وآدم ومن دونه تحت لوائه. وابن بابويه نفسه قد نص في بعض كتبه على وضع ما وجد بخط محمد. ألا لعنة الله على الكاذبين.

الفصل الخامس في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا عارفين بما يجب من اعتقادات

الفصل الخامس في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا عارفين بما يجب من اعتقادات زعمت الإمامية أن بعض الرسل كانوا غير عارفين بكل ما يجب على المكلف معرفته. واحتجوا على ذلك بما روى محمد بن بابويه القمي في أخبار الرضا وكتاب التوحيد عن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي بن أبي طالب، ومحمد بن يعقوب الكليني في الكافي عن أبي جعفر: أن موسى بن عمران سأل ربه فقال: "يا رب، أبعيد أنت مني فأناديك أم قريب فأناجيك؟ " وروى الكليني عن أبي عبد الله: أن يونس كان يقول في سجوده: "أتراك معذبي فقد عفرت لك بالتراب وجهي، أتراك معذبي وقد أظمأت لك هواجري، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي، أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، قال: فأوحى الله عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني غير معذبك"، فقال: إن قلت: لا أعذبك ثم عذبتني؟ قال: "فإني غير معذبك، إني إذا وعدت وعدا وفيت". والجواب أن هذين الخبرين من الأخبار الموضوعة، بناءً على ما تقرر من أنه إذا أوهم الخبر باطلا ولم يقبل تأويلا قطع بكذبه. ولا شك أن هذين الخبرين من هذا القبيل على ما لا يخفى.

الفصل السادس في أن الأنبياء لم يصدر عنهم ذنب كان الموت عليه هلاكا

الفصل السادس في أن الأنبياء لم يصدر عنهم ذنب كان الموت عليه هلاكا ذهبت الإمامية إلى أن بعض الرسل أذنب بعد البعثة ذنبا كان الموت عليه هلاكا. واحتجوا بما رواه الكليني في الكافي عن ابن يعفور قال: سمعت أبا عبد الله يقول وهو رافع يده إلى السماء: "رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ولا أقل من ذلك"، فما كان بأسرع من أن تحدر الدمع من جوانب لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا ابن يعفور، يونس بن متى وكله الله عز وجل إلى نفسه أقل من طرفة عين فأحدث ذلك الذنب، قلت: فبلغ به كفرا أصلحك الله؟ فقال: لا، ولكن الموت على تلك الحالة هلاك". والجواب أن يونس عليه السلام لم يحدث قط ذنبا، وقوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} لا يدل على أنه أذنب ذنبا، لأن غضبه كان لله على قوم كفروا به، فخرج منهم بغير وحي من الله تعالى، وهو ليس بذنب، ونقدر من القدر، وهو الضيق كما في قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} والمعنى فظن أن لن نضيق عليه؛ وأما اعترافه بالظلم فهو هضم للنفس واستعظام لما صدر عنه من ترك الأولى، وهو الخروج بغير وحي. وقد روي مثل ذلك عن كثير من الرسل والأنبياء وأوصياء الأمة الذين هم عند الإمامية أفضل من الأنبياء.

الفصل السابع في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا منزهين عن الخصال الذميمة

الفصل السابع في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا منزهين عن الخصال الذميمة زعمت الإمامية أن بعض النبيين كان يحسد بعض الرسل وخيار عباد الله الصالحين على ما آتاهم الله من فضله. واحتجوا على ذلك بما رواه محمد بن بابويه القمي في أعيان أخبار الرضا ومعاني الأخبار عن ابن موسى الرضا: أن آدم لما أكرمه الله تعالى بسجود الملائكة له، وإدخاله الجنة قال في نفسه: أنا أكرم الخلق، فناداه الله عز وجل ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي، فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش، فوجد فيه مكتوبا لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله أمير المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب، من هؤلاء؟ فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك، وهم خير أمتك من جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء والأرض، فإنك إن تنظر إليهم بعين الحسد أخرجتك من جواري، فنظر إليهم بعين الحسد، فسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى الله عنها. وروى ابن بابويه أيضا في معاني الأخبار عن الفضل بن عمر عن أبي عبد الله قال: لما أسكن الله عز وجل آدم وزوجه الجنة قال لهما: {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} فنظرا إلى منزلة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم، فوجداها أشرف منازل أهل الجنة، فقالا: ربنا لمن هذه المنزلة؟ فقال الله جل جلاله ارفعا رؤوسكما إلى ساق عرشي، فرفعا رؤوسهما، فوجدا أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الجبار جل جلاله، فقالا: يا ربنا ما أكرم هذه المنزلة عليك وما أحبهم إليك وما أشرفهم لديك! فقال الله جل جلاله لولاهم ما خلقتكما، هؤلاء خزنة علمي وأمنائي على سري، إياكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد وتتمنيا منزلتهم عندي ومحلهم من كرامتي، فتدخلا من ذلك في نهيي وعصياني، فتكونا من الظالمين، فوسوس

إليهما الشيطان فدلاهما بغرور وحملهما على تمني منزلتهم، فنظرا إليهما بعين الحسد فخذلا لذلك". والجواب أن هذا الخبر أيضا من مفترياتهم وكذبهم. وقد ذم الله تعالى اليهود لحسدهم فقال تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}. وقد وردت أحاديث صحيحة عند الفريقين في ذم الحسد. والمذموم من الحسد أحد الكبائر، فكيف يتصف به آدم عليه السلام؟ والأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن المعصية قبل النبوة وبعدها. وفي كتابي مختصر التحفة في هذا المقام ما يشفي العليل.

الفصل الثامن في أن الأنبياء عليهم السلام أقروا جميعا يوم الميثاق بما خاطبهم الله تعالى

الفصل الثامن في أن الأنبياء عليهم السلام أقروا جميعا يوم الميثاق بما خاطبهم الله تعالى ذهبت الاثنا عشرية وجمع من الإمامية إلى أن آدم أبا البشر لما أخرج الله تعالى ذريته من صلبه وخاطبهم سبحانه بقوله: ألست بربكم؟ وهذا محمد رسول الله؟ وعلي أمير المؤمنين؟ وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي؟ وأن المهدي أنتقم به من أعدائي وأعبد به طوعا وكرها؟ قالوا: أقررنا وشهدنا، وآدم لم يقر ولم يكن له عزم على الإقرار به. واحتجوا على ذلك بما رواه محمد بن الحسن الصفار عن أبي جعفر في خبر الميثاق أنه قال: "قال الله لآدم وذريته التي أخرجها من صلبه: ألست بربكم؟ وهذا محمد رسول الله؟ إلى قوله: وآدم لم يقر". والجواب أن هذا أيضا من موضوعاتهم ومفترياتهم، كيف لا وهو يوجب تكفير رسول خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه واصطفاه وأمر الملائكة بالسجود له، ومن كفر نبيا فهو كافر كما هو ظاهر. وقد بالغ المرتضى في عدم صحة هذا الأثر وأنكر الميثاق في كتابه المسمى بالدرر والغرر.

الفصل التاسع في أن نبيا من الأنبياء لم يعتذر عن الرسالة ولم يستعف منها

الفصل التاسع في أن نبيا من الأنبياء لم يعتذر عن الرسالة ولم يستعف منها ذهبت الإمامية إلى أن بعض الرسل من أولي العزم استعفا عن الرسالة واعتذر عنها. واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} فهذه الآية تدل على الاعتذار والاستعفاء. والجواب أن هذه الآية لا تدل مدعاهم؛ لأن قوله: {ويضيق صدري} لم يكن اعتذارا عن الامتثال، بل إنه تمهيد لطلب المعين على تنفيذ الأمر وأداء الرسالة، ولم يرد أن يكون المرسل أخاه دونه، بل استدعى ضمه إليه واشتراكه في أمره، والمعنى فأرسل جبريل إلى هارون أخي واجعله نبيا يعينني على الرسالة. يدل عليه قوله تعالى: {واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري} الآية، وقوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني}. وقوله: {فأخاف أن يقتلون} ليس تعللا بل هو استدفاع البلية المتوقعة، كما أن قوله: {أخاف أن يكذبون} استمداد استظهار في أمر الدعوة. وأيضا خاف أن يقتل قبل أداء الرسالة، لأن فرعون أمر قومه أن يقتلوه حيث وجدوه قبل قتل القبطي والفرار منهم، فكيف يكون تعللا؟ فقد ظهر لك بطلان ما ذهبوا إليه.

الفصل العاشر في أن المبعوث هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه

الفصل العاشر في أن المبعوث هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ذهبت الغرابية إلى أن الله تعالى لم يبعث محمدا نبيا ولم يرسل إليه جبريل بالرسالة، ولكنه أرسله إلى علي بن أبي طالب، وكان محمد أشبه بعلي من الغراب بالغراب والذباب بالذباب، وقد بعث الله جبريل إلى علي فغلط جبريل في تبليغ الرسالة إلى علي بن أبي طالب، فبلغها إلى محمد بن عبد الله. قال شاعرهم: "غلط الأمين فحادها عن حيدره"، ويلعنون صاحب الريش، ويعنون به جبريل عليه السلام. وهذا باطل عند أهل الحق ومن وافقهم من الفرق، لقوله تعالى: {محمد رسول الله}، {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}، {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}. وفي التوراة في السفر الأول منها، قال الله تعالى لإبراهيم: "إن هاجر تلد ويكون من ولدها من يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع". وفي السفر الخامس منها: "يا موسى إني مقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم وأجري قولي في فيه ويقول لهم ما آمره به، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فأنا أنتقم منه". وفي السفر الخامس أيضا: "أن الرب جاء من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلى من جبال فاران، ومعه عن يمينه ربوات جيش القديسين إلى الشعوب،

ودعا لجميع قديسيه بالبركة". فمجيء الرب تعالى من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى، وإشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى، لأنه سكن في ساعير أرض الخليل في قرية ناصرة، واستعلاؤه من جبال فاران إنزال القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفاران هي جبال مكة على قول الجميع. وفي الإنجيل: قال المسيح للحواريين: "أنا ذاهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له، وهو يشهد علي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس، وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به". وفي نقل يوحنا عنه: "أن الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا، ولكنه مما يسمع به يكلمكم، ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب". وفي نقل آخر عنه: "إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله باسمي هو يعلمكم كل شيء". وفي نقل آخر عنه: "أن البشير ذاهب، والفارقليط بعده يجيء لكم، ويقسم لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني لأجيئكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل". والفارقليط بلغتهم لفظ من الحمد: أحمد أو محمود أو محمد. وفي الزبور: "يا أحمد، فاضت الرحمة على شفتيك، من أجل ذلك أبارك عليك، فتقلد السيف، فإنه بهاؤك وحمدك الغالب، وبوركت كلمة الحق، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، سهامك مسنونة، والأمم يجبرون، تحتك كتاب حق، جاء الله من اليمن، والتقديس من جبل فاران، فامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه، وملك الأرض ورقاب الأمم". وفي موضع آخر منه: "لقد انكسفت السماء من بهاء أحمد، وامتلأت الأرض من حمده". وفيه: "سبحان الذي هيكله الصالحون، يفرح إسرائيل بخالقه، وبيوت صهيون من أجل أن الله اصطفى له أمته، وأعطاه النصر، وسدد الصالحين منه بالكرامة، يسبحونه

على مضاجعهم، ويكبرون الله تعالى بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذوات شفرتين، لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود، وأشرافهم بالأغلال". ومعلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو المنتقم بها من الأمم. وفيه: "أن الله أظهر من صيفون إكليلا محمودا"، وصيفون العرب، والإكليل النبوة، ومحمود هو محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفي مزمور آخر منه: "أنه يجوز من بحر إلى بحر، ومن أنهار إلى أنهار، إلى منقطع الأرض، وأن تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، وتلحس أعداؤه التراب، تأتيه الملوك بالقرابين، وتسجد وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، لأنه يخلص الضطهد البائس ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالضعفاء والمساكين، وأنه يعطي من ذهب بلاد شتى، ويصلي عليه في كل وقت، ويبارك عليه في كل يوم، ويدوم ذكره إلى الأبد". ومعلوم أنه لم يكن هذا إلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، إلى غير ذلك من البشائر التي لا تحصيها الدفاتر، وكلها تدل صراحة على أن النبي محمد لا علي. وقد اعترفت العيسوية من اليهود وكثير من النصارى بنبوته - صلى الله عليه وسلم -، غير أنهم يزعمون أنه مبعوث للعرب خاصة. وقد ثبت عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه لدى الفريقين أنه كان يقول: "وأشهد أن محمدا عبده المصطفى وأمينه المرتضى، أرسله لوجوب الحجج وظهور الفلج وإيضاح المنهج، فبلغ الرسالة صادعا بها، وحمل على الحجة دالا عليها". وكان يقول أيضا: "أقام أعلام الاهتداء ومنار الضياء"، ولأنه لما ادعى محمد - صلى الله عليه وسلم - النبوة بادر علي إلى تصديقه، فآمن به ونصره وقاتل معه من أنكر نبوته. والحاصل أن هذا كلام مما لا ينبغي أن يلتفت إليه

ولا يستوجب أن يعرج عليه، فإن بطلانه غير خفي على أحد، وفساده لا ينكر ولا يجحد. والله سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته ويودع من شاء حكمته ونبوته. والله يهدي من يشاء على صراط مستقيم.

الفصل الحادي عشر في أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين

الفصل الحادي عشر في أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين ذهبت الخطابية والمعمرية والمفضلية والإسحاقية والمنصورية والسبعية إلى أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس بخاتم النبيين. فزعمت الخطابية أن الأئمة أنبياء، وأن أبا الخطاب نبي. وأبو الخطاب هذا كان يتردد إلى جعفر بن محمد الصادق فلما علم منه غلوه فيه تبرأ منه، فلما اعتزل عنه ادعى الأمر لنفسه، فزعم أنه نبي، والأنبياء عليهم السلام فرضوا على الناس طاعته. والمعمرية زعمت أن جعفر بن محمد نبي، وبعده أبو الخطاب، وبعده معمر. وزعمت العجلية والمفضلية والمنصورية أن الرسل لا تنقطع أبدا، وأن أبا منصور نبي. وكان أبو منصور رجلا من بني عجل، وكان أبوه من عجل، سما نفسه إلى الصادق، فلما رأى سوء اعتقاده تبرأ منه وطرده. وزعم أنه رأى الله ومسح رأسه بيده وقال: "يا بني، اذهب فبلغ عني"، ثم أنزله إلى الأرض، وكان يقول: أنا الكسف في قوله تعالى: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم}. وزعمت السبعية أن خاتم الرسل هو المهدي. وزعمت الإسحاقية أن الأرض لا تخلو من نبي. وكل ذلك باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من المسلمين من أن محمدا خاتم النبيين، لقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار وأخبار الكتب السماوية. ولا حجة لهؤلاء الغواة على ما زعموه. إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس.

الفصل الثاني عشر في أن الله تعالى لم يفوض أمر الدين إلى أحد من الرسل والأئمة

الفصل الثاني عشر في أن الله تعالى لم يفوض أمر الدين إلى أحد من الرسل والأئمة ذهبت الإمامية إلى أن الله تعالى فوض أمر الدين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ثم من بعده إلى الأئمة من أهل بيته. وشبهتهم في ذلك: ما رواه حسين بن محمد بن جمهور القمي في النوادر عن محمد بن سنان قال: "كنت عند أبي جعفر، فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد، إن الله تعالى لم يزل منفردا بالوحدانية، ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين، فمكثوا ألف سنة، فخلق الأشياء وأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورهم إليهم، يحلون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون". وما رواه الكليني عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله قال: "إن الله تعالى أدب نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإذا انتهى إلى ما أراد قال له: {وإنك لعلى خلق عظيم} وفوض إليه أمر دينه". وما رواه أيضا عن محمد بن الحسن الميثمي عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: "إن الله تعالى أدب رسوله حتى قومه على ما أراد، ثم فوض إليه دينه فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فما فوضه الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد فوضه إلينا".

والجواب أن هذه الأخبار كلها موضوعة. والحسين بن محمد روى عن الضعفاء، وكثيرا ما اعتمد على المراسيل، قال النجاشي: "ذكره أصحابنا بذلك"، والميثمي من المجسمة. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من أن الله تعالى لم يفوض أمر الدين إلى أحد، قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}. ولو فوض الله تعالى أمر دينه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة لجاز العمل بكل ما روي عنهم، لأن كلا من هؤلاء صاحب شرع، فلا حاجة إلى التوفيق بين الروايات المتعارضة وارتكاب التكلفات في ذلك، أو لم يجز العمل بشيء منها، لأن كلا منهم راعى مصلحة في الأمر والنهي، وهي مستورة، فيلزم التعطيل. ولأنه لو فوض سبحانه أمر دينه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يعاتبه على كثير من الأمور، [كالإذن بالتخلف] عن غزوة تبوك وإنجاز الأسرى يوم بدر وتحريم مارية القبطية على نفسه وغيرها، والمخصص يطالب بالبرهان. والقول بأن العتاب بسبب التعجيل وترك التأمل قول لا طائل تحته، لأن من فوض الله إليه دينه وكان مأمونا من الخطأ معصوما عن الزلل كيف يصدر عنه ما يوجب العتاب؟ ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أجل من أن يأمر وينهى ويتكلم فيما يتعلق بأمر الدين من غير روية، وقد أدبه ربه فأحسن أدبه حتى انتهى إلى ما أراد. ولأن من كان معه الروح الأمين يقومه ويسدده -على ما زعموا- كيف يصدر عنه ما يوجب العتاب؟ ولأن التأمل في الحكم ليظهر الأولى اجتهاد، وقد أجمعت الإمامية على عدم جواز الاجتهاد على المعصوم، ولو جاز تفويض الأحكام له لجاز أن يجتهد، ليظهر له ترجيح أحد الأمرين. ولأن الأئمة يروون الحلال والحرام عن آبائهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرو أحد من الشيعة أنهم حللوا شيئا حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو حرموا شيئا حلله. فعزو هذا القول إليهم كذب وافتراء. وقد شددت الزيدية النكير على القائل بالتفويض، وكذبوا من عزاه إلى أهل البيت. والحق أحق بالاتباع.

الفصل الثالث عشر في أن المعراج لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق

الفصل الثالث عشر في أن المعراج لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق ذهبت الإسماعيلية والمعمرية والذمية إلى أن المعراج باطل وخبره كذب. وشبهتهم في ذلك أن الحركة البالغة إلى هذا الحد من السرعة ممتنعة. والجواب أنها ممكنة في نفسها، كما هو المعلوم من طلوع قرص الشمس، فإنه يحصل في زمان لطيف في غاية السرعة. وقد ثبت في الهندسة أن قرصها يساوي كرة الأرض مئة وستين مرة، وذلك يدل على أن بلوغ الجسم في الحركة إلى ما ذكرنا أمر ممكن في نفسه، ولأن النص دل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من اليمن إلى الشام في مقدار لمح البصر، وقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالق العالم قادر على جميع الممكنات. ومن شبههم أيضا أن صعود الثقيل إلى العلو محال فإنه يميل إلى المركز دائما. والجواب أنا لا نسلم أنه محال، بل هو ممكن كما هو مشاهد من صعود الطيور العظام، وقد تقف في الجو عند قبض أجنحتها وبسطها: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن}، والمغناطيس إذا حاذى الحديد وهو فوقه يجذبه إلى العلو مع ثقله. ومن شبههم أن العروج يستلزم خرق الأفلاك، وهو مستحيل. والجواب أن الاستحالة ممنوعة، وذلك لأن الأجسام متماثلة، فيصح على كل جسم ما يصح على الآخر، والنص يدل على وقوعه، قال تعالى: {إذا السماء انشقت}، {إذا السماء انفظرت} وغير ذلك. ودلائل الفلاسفة على الاستحالة مردودة في كتب الكلام. وذهبت طائفة أخرى من الشيعة، وهم المنصورية، إلى أن المعراج لم يكن مخصوصا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن أبا منصور العجلي قد عرج بجسده إلى السماء في اليقظة. وذهبت الإمامية إلى أن عليا رأى ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري

به. ويحتجون بما رواه ابن بابويه في كتاب المعراج من خبر طويل أن عليا كان ليلة المعراج في الأرض، ولكنه رأى من ملكوت السماء ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد رووا ما يعارض هذا من أن عليا كان على نوق من نياق الحبشة وبيده لواء الحمد وحوله شيعته ومحبيه. وجميع هذه الأقوال مما لا ينبغي أن يلتفت إليها، لأنها أشبه شيء بهذيان المحموم. فما ذهب إليه أهل السنة من أن المعراج، وهو الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السماوات السبع فما فوقها بجسده في اليقظة مختصا به، هو الحق الحقيق بالقبول، لقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى}. والأخبار الصحيحة في ذلك كثيرة في كتب الفريقين.

الفصل الرابع عشر في أن ما ورد من النصوص محمولة على ظواهرها

الفصل الرابع عشر في أن ما ورد من النصوص محمولة على ظواهرها ذهبت السبعية من الإسماعيلية والمنصورية والخطابية والمعمرية والباطنية والقرامطة والرزامية إلى أن ما ورد في الكتاب والسنة من الوضوء والتيمم والصلاة والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة وغيرها ليست على ظواهرها، بل كلها مؤولة. فزعمت السبعية من الإسماعيلية أن الوضوء عبارة عن موالاة الإمام، والتيمم الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الحجة، والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول، بدليل قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، والزكاة عبارة عن تزكية النفس، والكعبة عبارة عن النبي، وكذا الصفا، والباب عبارة عن علي، وكذا المروة، والميقات والتلبية عبارة عن إجابة دعوة الإمام، والطواف بالبيت سبعا عبارة عن الأئمة السبعة، وهم الذين بين النطقاء إلى الأنبياء، والسلام عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله، والغسل عبارة عن تجديد العهد، والجنة عبارة عن راحة الأبدان عن التكليف، والنار عبارة عن تعبها بمزاولة التكاليف. والباطنية من الإسماعيلية أولوها مثل السبعية إلا أنهم أولوا الطواف سبعا بموالاة الأئمة السبعة، الذين هم علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وإسماعيل بن جعفر، وهو آخر الأئمة عندهم. والقرامطة منهم أولوا الجنة بالنعم، والنار بالسقم. وهم الذين فعلوا ما فعلوا بالحجاج في البيت المكرم وأباحوا المحرمات وقلعوا الحجر كما سبق. والبرقعية منهم أنكروا كثيرا من النبيين. وزعمت الباطنية أن الأحكام من الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك مما ابتدعه الخلفاء، والصوم شهرا ابتدعه عمر. وقالت الخطابية والمنصورية والمعمرية والجناحية: الفرائض المذكورة في الشريعة أسماء رجال أمرنا بموالاتهم، والمحرمات أسماء رجال أمرنا بمعاداتهم. وقالت المنصورية والرزامية: الجنة رجل أمرنا بمبايعته وهو الإمام، والنار رجل أمرنا ببغضه وهو خصم الإمام، كأبي بكر وعمر. وقالت المعمرية: الجنة نعيم الدنيا، والنار آلامها، فالدنيا لا تفنى. إلى

غير ذلك من الخرافات والأكاذيب. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم أن ما ورد في الكتاب والسنة محمول على ظاهره غير مؤول. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر ذلك للأمة ونقل إلينا متواترا. ولا حجة للمخالفين على ما زعموا من التأويلات الباطلة. وقد أباح هؤلاء الفجرة وطء البنات والأمهات والعمات والخالات وغيرهن من المحارم، وسيرون ماذا يلاقون من غضب الله وسيصلون جهنم وساءت مصيرا.

الفصل الخامس عشر في أنه تعالى لم يرسل بعد خاتم الأنبياء ملكا إلى أحد بالوحي

الفصل الخامس عشر في أنه تعالى لم يرسل بعد خاتم الأنبياء ملكا إلى أحد بالوحي ذهبت الإمامية إلى أن الله تعالى أرسل جبريل بعد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - إلى علي بن أبي طالب يبلغه رسالات ربه، لكنه يسمع صوته ولا يراه. واستدلوا على ذلك بما رواه الكليني في الكافي عن السجاد أنه قال: "إن علي بن أبي طالب كان محدثا، وهو الذي يرسل الله إليه الملك فيكلمه ويسمع الصوت ولا يرى الصورة". والجواب أن هذه الرواية كذب، مع أنه يناقضها الروايات الأخر الثابتة عندهم عن الأئمة. منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيها الناس، لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات". ومنها ما ثبت عندهم: أن الله تعالى أنزل كتابا مختوما بخواتيم الذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أوصله إلى الأمير، والأمير أوصله إلى الإمام الحسن، وهكذا إلى المهدي، وكان السابق يوصي اللاحق أن يفك خاتما واحدا من ذلك الكتاب ويعمل بما فيه. فلا حاجة حينئذ إلى إرسال الملك والإيحاء. ولأنهم زعموا أن الله تعالى فوض أمر الدين إلى الأئمة، فلهم أن يفعلوا ما يشاءون. وذهبت طائفة من الإمامية إلى أن سيدة النساء فاطمة رضي الله تعالى عنها كان يوحى إليها بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد جمع ذلك الوحي بعضهم وسماه مصحف فاطمة، ويزعمون أن أكثر الوقائع المستقبلة والفتن والملاحم مذكورة فيه،

والأئمة إنما كانوا يخبرون الناس بأخبار الغيب من ذلك المصحف. سبحانك هذا بهتان عظيم. وكيف ساغ لهم التلفظ بمثل هذا الكلام وهم يتلون قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.

الفصل السادس عشر في أن النسخ من وظائف الشارع

الفصل السادس عشر في أن النسخ من وظائف الشارع ذهبت الاثنا عشرية وجمهور الإمامية إلى أن بعض الأحكام ينسخه خاتم الأئمة. وذهبت الحميرية إلى أن الإمام يجوز له أن ينسخ الأحكام كلها. واحتجوا على ذلك بما رواه محمد بن بابويه القمي عن أبي عبد الله أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى آخى بين الأرواح في الأزل قبل أن يخلق الأجساد بألفي عام، فلو قد قام قائم أهل البيت ورث الأخ من الذين آخى بينهما في الأزل ولم يورث الأخ من الولادة". والجواب أن هذه الرواية كذب وافتراء. ومما يدل على ذلك أن التكاليف الشرعية لما كانت لازمة لعامة الناس لا بد أن تكون منوطة بالعلامة الظاهرة والأمور الجلية، كالتوالد والقرابة ونحوهما مما يدركه البشر، والمؤاخاة الأزلية لا يدركها العقل. ونص الإمام لا يمكن في كل فرد فرد. والحاصل أن قولهم هذا مخالف لظاهر العقل، لأن الإمام خليفة النبي في ترويج الشريعة وتعليمها، فإن كان له دخل في تبديل الأحكام وتغييرها فقد خالفه مع أنه ليس بشارع، وكذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} الآية، وقوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} فالناسخ هو الله تعالى، ولا يجوز لنبي ولا رسول أن ينسخ حكما فضلا عن الإمام. ونسأل الله تعالى التوفيق، نعم المولى ونعم الرفيق.

المقصد الرابع في الإمامة

المقصد الرابع في الإمامة

المطلب الأول في أن نصب الإمام ليس بواجب عليه تعالى

المطلب الأول في أن نصب الإمام ليس بواجب عليه تعالى ذهبت الإمامية إلى أن نصب الإمام واجب على الله تعالى. وهو باطل. والحق الحقيق بالقبول ما ذهب إليه أهل السنة من أن نصب الإمام واجب على العباد لا على الله تعالى، حيث أن الفطرة شاهدة له، إذ كل فرقة تقرر لأنفسهم رئيسا من بينهم. وكذا الشرع أيضا، إذا الشارع قد أوضح شرائط الإمام وأوصافه ولوازمه بوجه كلي كما هو شأنه في الأمور الجبلية كالنكاح ولوازمه مثلا. وأيضا لا معنى للوجوب عليه تعالى، بل هو مناف للألوهية والربوبية كما برهنا عليه سابقا. وأيضا كل ما يتعلق بوجود الرئيس العام من أمور المكلفين من إقامة الحدود والجهاد وتجهيز الجيوش وغير ذلك واجب عليهم، فلا بد أن يكون النصب أيضا واجبا عليهم، لأن مقدمة ما يجب على أحد واجب عليه. ألا ترى أن الوضوء وتطهير الثوب وستر العورة واجب على المصلي كالصلاة لا عليه تعالى، وهو ظاهر. وأيضا أن تأملنا علمنا أن نصب الإمام من قبل الباري يتضمن مفاسد كثيرة، لأن آراء العالم مختلفة وأهواء نفوسهم متفاوتة، ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إلى منتهى بقاء الدنيا إيجاب لتهييج الفتن وجرّ لأمر الإمامة إلى التعطيل ودوام الخوف والتزام الاختفاء، كما وقع للجماعة الذين اعتقدوا الشيعة إمامتهم. ومع هذا قولهم نصب

الإمام لطف في غاية السفاهة يضحك عليه، إذ لو كان لطفا لكان بالتأييد والإظهار لا بغلبة المخالفين و [الاستتار]، فإذا لم يكن التأييد في البين، لم يكن النصب لطفا كما يظهر لذي عينين. وما أجاب عنه بعض الإمامية -بأن وجود الإمام لطف، وتصرفه وتمكينه لطف آخر، وعدم تصرف الأئمة إنما هو من فساد العباد وكثرة العناد، فإنهم خوفوهم ومنعوهم بحيث تركوا من خوفهم على أنفسهم إظهار الإمامة، وإذا ترك الناس نصرتهم لسوء اختيارهم فلا يلزم قباحة في كونه واجبا عليه تعالى، والاستتار والخوف من سنن الأنبياء، فقد اختفى - صلى الله عليه وسلم - في الغار خوفا من الكفار- ففيه غفلة عن المقدمات المأخوذة في الاعتراض، إذ المعترض يقول الوجود بشرط التصرف والنصرة لطف، وبدونه متضمن لمفاسد. فالواجب في الجواب التعرض لدفع لزوم المفاسد، ولم يتعرض له كما لا يخفى. وأيضا يرد على القائل بكونه لطفا آخر ترك الواجب عليه تعالى، وهذا أقبح من ترك النصب. وأيضا يقال عليه: هذا اللطف الآخر إما من لوازم النصب أو لا، فعلى الأول لزم من تركه ترك النصب لأن ترك اللازم يستلزم ترك الملزوم. وعلى الثاني لم يبق النصب لطفا للزوم المفاسد الكثيرة، بل يكون سفها وعبثا تعالى الله عن ذلك. وأيضا ما ذكره من تخويف الناس للأئمة غير مسلم، وهذه كتب التواريخ المعتبرة في البين. وأيضا التخويف الموجب للاستتار إنما هو إذا كان بالقتل، وهذا لا يتصور في حق الأئمة لأنهم يموتون باختيارهم كما أثبت ذلك الكليني في الكافي وبوّب له. وأيضا لا يفعل الأئمة أمرا إلا بإذن، فلو كان الاختفاء بأمره تعالى وقد مضت مدة والخفاء هو الخفاء، فلا لطف بلا امتراء.

وأيضا إن كان واجبا للتخويف لزم ترك الواجب في حق الذين لم يكونوا كذلك، كزكريا ويحيى والحسين. وإن لم يكن واجبا بأن كان مندوبا لزم ترك الواجب الذي هو التبليغ لأجل مندوب، وهو فحش. وإن كان أمر الله تعالى مختلفا بأن كان في حق التاركين بالندب مثلا وفي حق المستترين بالفرض لزم ترك الأصلح الواجب بزعم الشيعة في أحد الفريقين، وهو باطل. ولا يمكن أن يقال الأصلح في حق كل ما فعل، لأنا نقول إن الإمام بوصف الإمامة لا يصح اختلاف وصفه كالعصمة، لأن اختلاف اللوازم يستلزم اختلاف الملزومات، فيلزم أن لا يكون أحد الفريقين إماما فلا يكون الأصلح في حقهم إلا أحد الحالين وإلا لزم اجتماع النقيضين، كما أن الموضوع إذا كان مأخوذا بالوصف العنواني فثبوت المحمول له بالضرورة بشرط الوصف يكون لازما ويمتنع حمل نقيضه عليه كما لا يخفى. وأيضا نقول: الاختفاء من القتل نفسه محال لأن موتهم باختيارهم. وإن كان من خوف الإيذاء البدني يلزم أن الأئمة فروا من عبادة المجاهدة وتحمل المشاق في سبيل الله تعالى، وهذا بعيد عنهم. ومع هذا لا معنى لاختفاء صاحب الزمان بخصوصه فإنه يعلم باليقين أنه يعيش إلى نزول عيسى ولا يقدر أحد على قتله وأنه سيملك الأرض بحذافيرها، فبأي شيء يتخوف ويختفي؟ ولماذا لا يظهر الدعوة ويتحمل المشقة كما فعلها سيد الشهداء؟ وما قاله المرتضي في كتابه تنزيه الأنبياء والأئمة من أنه فرق بين صاحب الزمان وبين آبائه الكرام فإنه مشار إليه بأنه مهدي قائم صاحب السيف قاهر للأعداء منتقم منهم مزيل للدولة والملك عنهم، فله مخافة لا تكون لغيره؛ فكلام لا لب فيه، لأن خوف القتل نفسه قد علمته لأن الإمام عندهم عالم بما كان ويكون كما هو مسطور في كتبهم، ومع هذا معلوم له باليقين أن أحدا لن يقتله أبدا.

وأيضا ألا يعلم أن المخالفين لا يقبلون من أحد دعوى المهدوية قبل ألف سنة وأن المهدي يظله السحاب لا سقف السرداب، وأنه يظهر في مكة لا في سر من رأى، ويدعو الناس بعد الأربعين من عمره لا في زمن الطفولة ولا في الشيخوخة. على أن السيد محمد الجنفوري في الهند ادعى المهدوية ولم يقتل ولم يخوف. وأيضا قد كثر محبوه وناصروه في زمن الدولة الصفوية أكثر من رمل الصحارى والحصى، فالاختفاء مناف لمنصب الإمامة الذي مبناه على الشجاعة والجرأة، فهلا خرج وصبر واستقام إلى أن ظفر، وهلا كان كالقوم الذين قال الله تعالى فيهم: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}. ثم ما حكى أولا من قصة الغار واستتار سيد الأبرار من خوف الكفار، فكلام واقع في غير موقعه، لأن استتاره عليه الصلاة والسلام لم يكن لإخفاء

دعوى النبوة بل كان من جنس التورية في الحرب لأجل أن الكفار لا يطلعون على مقصده ولا يسدون الطريق عليه، وهذا أيضا كان ثلاثة أيام، فقياس ما نحن فيه عليه غاية حماقة ووقاحة. ففرق واضح لا يخفى على من له أدنى عقل بين الاختفاء الذي كان مقدمة لظهور الدين والغلبة على الكافرين وبين الاختفاء الذي لازمه الخذلان وترك الدعوة وانتشار الطغيان. فالأول تلوح مياه الهمة من أسرته وتتبلج أقمار النصرة من تحت طرته، بخلاف الثاني فغبار الجبن يلوح على خده والفرار عن الدعوة موسوم على حده. فأي فرقة سخرها الإمام لنفسه في هذه الغيبة وأي ملك ملكه؟ ولو ابتغى صاحب الزمان فرصة ثلاثمائة سنة مكان ثلاث ليالي وعوض الغار سرداب سر من رأى وبدل المدينة المنورة دار المؤمنين قم ودار الإيمان كاشان وبدل الأنصار شيعة فارس والعراق قائلا بأني في هذه الصورة أجمع الأسباب وأتخذ الأصحاب ثم خرج لكشف الغمة وإصلاح حال الأمة لتحمل أهل السنة وغيرهم هذه الشرائط. وأنى ذلك. فليست هذه إمامة بل هي لعمرك قيامة.

تتمة

وقد ترك الشيخ مقداد صاحب كنز العرفان من المتأخرين طريق القدماء وقال: كان الاختفاء لحكمة استأثر بها الله تعالى في علم الغيب عنده. ويرد عليه أن هذا ادعاء مجرد يمكن أن يقال مثله في كل أمر يكون مناقضا للطف، فلا يثبت [اللطف في] شيء! وبه يفسد كلام الشيعة كله، لأن مبنى أدلتهم عليه؛ يقولون إن أمر كذا لطف واللطف واجب عليه تعالى! فليتأمل. والله يحق الحق وهو يهدي السبيل. تتمة اعلم أن قول الله تعالى: {ابعث لما ملكا نقاتل في سبيل الله} وقوله تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} إلى غير ذلك من الآيات يدل على أن هداية الناس والصبر على مشقة مخالطتهم من لوازم الإمامة، وكذا الجهاد في سبيل الله تعالى. والعقل يحكم بذلك. وقد قال أمير المؤمنين: «لا بد للناس من أمير برٍ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الأجل وتأمن فيها السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر» كذا في نهج البلاغة. ولا يمكن حمله على التقية، لما ذكره في نهج البلاغة من أنه رضي الله تعالى عنه قاله لما سمع قول

الخوارج: «لا إمارة» فلا محل للتقية في مقابلتهم، فتأمل في هذا الكلام وتفكر في هذا المقام، تر الفلاح أوضح من الصباح، وأن الحق عند أصحاب الجنة وأهل السنة. والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني في أن الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق

المطلب الثاني في أن الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق وذلك بإجماع المسلمين. وقد تفردت الشيعة بإنكار ذلك، وقالوا الإمامة كذلك لعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، وعند أهل الحق له بعد الثلاثة، ثم لابنه الحسن رضي الله تعالى عنه، والصلح لمصالح رآها وهو اللائق بذاته الكريمة، لا لخوف من جند كما افترى [المفترون]. إذ قد ورد في كتب الشيعة خطبة يقول فيها: «إنما فعلت ما فعلت إشفاقا عليكم» وقد ثبت في أخرى أوردها المرتضى وصاحب الفصول أنه قال لما انبرم الصلح بينه وبين معاوية، وصلح الحسن وقع سنة إحدى وأربعين في نصف جمادى الأولى: «إن معاوية قد نازعني حقا لي دونه، فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة. وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم». وما ذكره صاحب الفصول وغيره أنه كتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية سرا وضمنوا تسليم الحسن إليه فهو من مفتريات الشيعة. وأيضا ذكر صاحب الفصول وغيره عن أبي مخنف أنه كان يقول الحسين في

صلح أخيه الحسن مع معاوية: «لو جزّ أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي». أننسى أن الضرورات تبيح المحظورات. ثم إظهار الكراهة لخلاف المصلحة المعقولة للكاره لا تكون قبيحة. وأيضا الاختلاف بين أكابر الدين في المصالح المنجر إلى عدم الرضا لا يقدح في أحد الجانبين. فليحفظ وليفهم. ثم لا يغتر بما تقوله أهل الزور على أهل السنة من أنهم يقولون بخلافة معاوية بعد الشهيد، حاشا وكلا. بل هم يقولون بصحة خلافته بعد صلح الحسن، إلا أنه غير راشد. والراشدون هم الخمسة، بل قالوا إنه باغ. فإن قلت إذا ثبت بغيه لم لا يجوز لعنه؟ جوابه: إن أهل السنة لا يجوزون لعن مرتكب الكبيرة مطلقا، فعلى هذا لا تخصيص بالباغي لأنه مرتكب كبيرة أيضا، ومرتكب الكبيرة مؤمن لدى الفريقين، على أنه إذا كان باغيا بلا دليل. وأما كان بغيه بالاجتهاد ولو فاسد فلا إثم عليه فضلا عن الكبيرة. ويشهد لهم قوله تعالى: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}. والأمر بالشيء نهي عن ضده عند الإمامية، فالنهي عن اللعن واضح. نعم ورد اللعن في الوصف في حق أهل الكبائر، مثل قوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} وقوله تعالى: {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} لكن هذا اللعن بالحقيقة على الوصف لا على صاحبه. ولو فرض عليه يكون وجود الإيمان مانعا والمانع مقدم [كما هو] عند الشيعة. وأيضا وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضيا، فاللعن لا يكون مترتبا على وجود

الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع. وقوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا إنك رءوف رحيم} نص في طلب المغفرة وترك العداوة بحيث جعل مرتبا على الإيمان من غير تقييد. ويشهد لهم ما تواتر عن الأمير من نهي لعن أهل الشام. قالت الشيعة: النهي لتهذيب الأخلاق وتحسين الكلام كما يدل قوله في هذا المقام: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين». وأهل السنة يقولون هو مكروه للإمام فينبغي كراهته لنا وعدم محبوبيته وجعله قربة وإن لم نعلم وجه الكراهة. وأيضا روي في نهج البلاغة عنه رضي الله تعالى عنه ما يدل صراحة على المقصود، وهو أنه لما سمع لعن أهل الشام خطب وقال: «إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والإعوجاج والشبهة والتأويل». فإذا صحت الروايتان في كتب الإمامية حملنا أن الأولى في حق من كان يلعنهم بالوصف وهو جائز لا مطلقا بل لمن يبلغ الشريعة كالأنبياء، إذ قد يستعمل لبيان قباحة تلك الصفات، وأما الغير في حقه مكروه، لأنه لو اعتاده لخشي في حق من ليس أهلا له؛ وأن الثانية في حق من كان يلعن أهل الشام بتعيين الأشخاص غافلا عن منع الإيمان، فأعملنا الروايتين لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال. وقال بعض علماء الشيعة: البغي غير موجب للعن على قاعدتنا، لأن الباغي آثم، لكن هذا الحكم مخصوص بغير المحارب للأمير، وأما هو فكافر عندنا بدليل حديث متفق عليه عند الفريقين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للأمير: «حربك حربي» وأنه قال لأهل العباء: «أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم» وحرب الرسول كفر بلا شبهة،

(الأدلة القرآنية على خلافة الثلاثة)

فكذا حرب الأئمة. قال أهل السنة: هذا مجاز للتهديد والتغليط، بدليل ما حكم الأمير من بقاء إيمان أهل الشام وأخوتهم في الإسلام. على أن قوله «حرب الرسول كفر» ممنوع، إذ قد حكم على آكل الربا بحرب الله ورسوله معا. قال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وعلى قطاع الطريق كذلك قال تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية، فلم لم تحكم الشيعة بكفر هؤلاء؟ (الأدلة القرآنية على خلافة الثلاثة) هذا ولنرجع إلى ما كنا فيه، ولنورد عدة آيات قرآنية وأخبار عترية تدل على المرام وتوضح المقام وتفسد أصل الشيعة وتبطل هذه القاعدة الشنيعة. وبالله تعالى الاستعانة والتوفيق، ومنه يرجى الوصول إلى سواء الطريق. فمن الآيات قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. الحاصل أن الله تعالى وعد المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت النزول بالاستخلاف والتصرف، كما جعل داود عليه السلام الوارد في

حقه: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} وغيره من الأنبياء، وبإزالة الخوف من الأعداء الكفار والمشركين، بأن يجعلهم في غاية الأمن حتى يخشاهم الكفار ولا يخشون أحدا إلا الله تعالى، وبتقوية الدين المرتضى بأن يروجه ويشيعه كما ينبغي. ولم يقع هذا المجموع إلا زمن الخلفاء الثلاثة، لأن المهدي ما كان موجودا وقت النزول، والأمير وإن كان حاضرا لكن لم يحصل له رواج الدين كما هو حقه بزعم الشيعة، بل صار أسوأ وأقبح من عهد الكفار كما صرح به المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة، مع أن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم خائفين هائبين من أفواج أهل البغي دائما. وأيضا الأمير فرد من الجماعة، ولفظ الجمع حقيقة في ثلاثة أفراد ففوق، والأئمة الآخرون لم يوجد فيهم مع عدم حضورهم تلك الأمور كما لا يخفى، وخلف الوعد ممتنع اتفاقا، فلزم أن الخلفاء الثلاثة كانوا هم الموعودين من قبله تعالى بالاستخلاف وأخويه، وهو معنى الخلافة الراشدة المرادفة للإمامة. وقال الملا عبد الله المشهدي في إظهار الحق بعد الفحص الشديد: يحتمل أن يكون «الخليفة» بالمعنى اللغوي و «الاستخلاف» الإتيان بأحد بعد آخر كما ورد في حق بني إسرائيل: {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض} والمعنى الخاص مستحدث بعد الرحلة. جوابه: أن الاستخلاف غير مستعمل في الكلام بالمعنى اللغوي، والقاعدة الأصولية للشيعة أن الألفاظ القرآنية ينبغي أن تحمل على المعاني الاصطلاحية الشرعية حتى الإمكان، لا على المعاني اللغوية، وإلا فالشرعية كلها تفسد ولا يثبت حكم كما لا يخفى. وأيضا كيف يصح تمسكهم بحديث: «أنت مني» الخ المنضم إليه

{اخلفني في قومي} وكيف التمسك بحديثهم: «يا علي أنت خليفتي من بعدي»؟ ولقد سعى المدققون من الشيعة في الجواب عن هذه الآية وتوجيهها. وأحسن الأجوبة عندهم اثنان: الأول أن «من» للبيان لا للتعبيض، و «الاستخلاف» الاستيطان. قلنا: حمل «من» الداخلة على الضمير على البيان مخالف للاستعمال وبعيد عن المعنى في الآية، وإن قال به البعض بناء على قول البيضاوي، وورد البيان في آخر سورة الفتح فتدبر. سلمنا، لكن لا يضرنا لأن المخاطبين هم الموعودون بتلك المواعيد وقد حصلت لهم، إلا أن الاستخلاف غير معقول للكل حقيقة، فالحصول للبعض حصول للكل باعتبار المنافع. وأيضا قيد {وعملوا الصالحات} وكذا «الإيمان» يكون عبثا، إذ الاستيطان يحصل للفاسق وكذا الكافر أيضا وحاشا القرآن من العبث. الثاني أن المراد الأمير فقط وصيغة الجمع للتعظيم أو مع أولاده بخوف. قلنا يلزم تخلف الوعد كما لا يخفى، إذ لم يحصل لأحد منهم تمكين دين وزوال خوف، والناس شاهدة على ذلك.

وانظر أيها المنصف الحصيف واللوذعي الشريف إلى ما قاله الإمام مما ينحسم فيه الإشكال في هذا المقام. ذكر في نهج البلاغة الذي هو أصح الكتب عندهم أن عمر بن الخطاب لما استشار الأمير عند انطلاقه لقتال فارس وقد جمعوا للقتال أجابه: «إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله تعالى الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأيده، حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عز اسمه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا} وتلا الآية، والله تعالى منجز وعده وناصر جنده. ومكان القيم بالأمر في الإسلام مكان النظام من الخرز، فإن انقطع النظام تفرق، ورب متفرق لم يجتمع، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. وقد كان أن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما

يكرهه. وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة» انتهى بلفظه المقدس. فتدبر منصفا، فاندفع الإشكال واتضح الحال. والحمد لله رب العالمين. ومنها قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} المخاطب بعض القبائل ممن تخلف عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية لعذر بارد وشغل كاسد. وقد أجمع الفريقان أنه لم يقع بعد نزول هذه الآية إلا غزوة تبوك، ولم يقع فيها لا القتال ولا الإسلام، فتعين الغير. والداعي ليس جناب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا محالة، فلا بد أن يكون خليفة من الخلفاء الثلاثة الذين وقعت الدعوة في عهدهم، كما في عهد الخليفة الأول لمانعي الزكاة أولا وأهل الروم آخرا، وفي عهد الخليفة الثاني والثالث كما لا يخفى على المتتبع. فقد صحت خلافة الصديق لأن الله تعالى وعد وأوعد ورتب كلا على الإطاعة والمعصية. فهلا يكون ذلك المطاع المنقاد له بالوجود إماما؟ المنصف يعرف ذلك. وقد تخبط ابن المطهر الحلي وقال: «يجوز أن يكون الداعي الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوات التي وقع فيها القتال ولم ينقل لنا». وإذ فتح هذا الباب يقال: يجوز عزل الأمير بعد الغدير ونصب أبي بكر وتحريض الناس على اتباعه ولم ينقل لنا. فانظر وتعجب. وقال بعضهم: الداعي هو الأمير، فقد دعا إلى قتال الناكثين والقاسطين والمارقين. وفيه:

إن قتل الأمير إياهم لم يكن لطلب الإسلام بل لانتظام أحوال الإمام، ولم ينقل في العرف القديم والجديد أن يقال لإطاعة الإمام إسلام ولمخالفته كفر. ومع هذا نقل الشيعة روايات صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق الأمير أنه قال: "إنك يا علي تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله". وظاهر أن المقاتلة على تأويل القرآن لا تكون إلا بعد قبول تنزيله، وذلك لا يعقل بدون الإسلام، بل هو عينه، فلا يمكن المقاتلة على التأويل مع المقاتلة على الإسلام. وهو ظاهر. ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. مدح الله تعالى في هذه الآية الكريمة الذين قاتلوا المرتدين بأكمل الصفات وأعلى المبرات، وقد وقع ذلك من الصديق وأنصاره بالإجماع، لأن ثلاث فرق قد ارتدوا في آخر عهده عليه السلام. الأولى بنو مدلج قوم أسود العنسي ذي الخمار الذي ادعى النبوة في اليمن وقتل

على يد فيروز الديلمي. الثانية بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب المقتول في أيام خلافة الصديق على يد وحشي. الثالثة بنو أسد قوم طليحة بني خويلد المتنبئ، ولكنه آمن بعد أن أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - خالدا وهرب منه إلى الشام. وقد ارتد في خلافة الصديق سبع فرق: بنو فرازة قوم عيينة بن حصين، وبنو غطفان قوم قرة بن سلمة، وبنو سليم قوم ابن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني

تميم قوم سجاح بنت المنذر، وبنو كندة قوم أشعث بن قيس الكندي، وبنو بكر في البحرين. وارتدت فرقة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه [والتحقت بالنصارى إلى الروم]. وقد استأصل الصديق رضي الله تعالى عنه كل فرقة وأزعجهم واستردهم إلى الإسلام كما أجمع عليه المؤرخون كافة. ولم يقع للأمير ذلك، بل كان متحسرا، وكم قال: ابتليت بقتال أهل القبلة، كما رواه الإمامية. وتسمية منكري الإمامة مرتدين مخالفة للعرف القديم والحديث. على أن المنكر للنص غير كافر، كما قال الكاشي وصاحب الكافي. وانظر إلى ما قال الملا عبد الله صاحب إظهار الحق ما نصه: «فإن قيل فإن لم يكن النص الصريح ثابتا كما في باب خلافة الأمير فالإمامية كاذبون، وإن كان لزم أن يكون جماعة الصحابة مرتدين والعياذ بالله تعالى، أجيب أن إنكار النص الذي هو موجب للكفر إنما هو اعتقاد أن الأمر المنصوص باطل، وأن كذبوا في ذلك التنصيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حاشا. أما لو تركوا الحق مع علمهم بوجوبه للأغراض الدنيوية وحب الجاه فيكون ذلك من الفسوق والعصيان لا غير» ثم قال: «فالذين اتفقوا على خلافة الخليفة الأول لم يقولوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم -

نص عليها لأحد أو قال بما لا يطابق الواقع فيها، معاذ الله، بل منهم من أنكر بعض الأحيان تحقق النص، وأوّل بعضهم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام تأويلا بعيدا» انتهى كلامه. وأيضا قال الأمير في بعض خطبه المروية عنه عندهم: «أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل». وأيضا قد منع السب كما تقدم، وسب المرتد غير منهي عنه. قطعنا وسلمنا أن الأمير قاتل المرتدين، فالمقاتل لهم زمن الخليفة الأول شريك في المدح أيضا، وإلا لزم الخلف لعموم من في الشرط والجزاء كما تقرر في الأصول. والمقاتل هو وأنصاره لا الأمير، إذ لم يدافع أحدا منهم ولا عساكره، إذ هم غير موصوفين بما ذكر، فلكم شكا منهم الإمام وأعلن بعدم الرضاء عنهم. ودونك ما في نهج البلاغة في خطابه لهم: «أنبئتُ أن بُسرا قد اطلع اليمن، وإني لأظن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى أصحابهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته. اللهم إني قد مللنهم وملوني وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني. اللهم مِثْ قلوبهم كما يماث الملح بالماء. لوددت والله لو أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم:

(أخبار عترية في خلافة الخلفاء)

هنالك لو دعوت أتاك منهم ... فوارس مثل أرمية الحميم» والنهج مملوء من أمثال هذه الكلمات، ومحشو من مثل هذه الشكايات. فانظر هل يمكن تطبيق الأوصاف القرآنية على هؤلاء الأقوام وهل يجتمع النقيضان. أو كلام الله كاذب، أو كلام الإمام؟ وأيضا يستفاد من سياق الآية وسباقها أن فتنة المرتدين تدفع بسعي القوم الموصوفين ويتحقق صلاح الدين، إذ الآية سيقت لتسلية قلوب المؤمنين وتقويهم، ولإزالة خوفهم من المرتدين وفتنتهم، ولم تنته مقاتلات الأمير إلا إلى الضد كما لا يخفى. (أخبار عترية في خلافة الخلفاء) وأما أقوال العترة فهي كثيرة أيضا. فمنها ما أورده المرتضى في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين من كتابه الذي كتبه إلى معاوية وهو: «أما بعد فإن بيعتي يا معاوية لزمتك وأنت بالشام، فإنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا». ومنتهى ما أجاب الشيعة عن أمثال هذا أنه من مجاراة الخصم ودليل إلزامي. وهو تحريف لا ينبغي لعاقل ولا يليق بفاضل، إذ فيه غفلة وإغماض عن أطراف الكلام الزائدة على قدر الإلزام، إذ يكفي فيه بيعة أهل الحل والعقد كما لا يخفى.

وأيضا الدليل الإلزامي مسلم عند الخصم، ومعاوية لا يسلم ما ذكر. ويرشدك إلى ذلك كتبه إلى الأمير كما هو مذكور عند الإمامية وغيرهم، فمذهبه كما يظهر منها أن كل مسلم قرشي مطلقا إذا كان قادرا على تنفيذ الأحكام وإمضاء الجهاد وحماية حوزة الإسلام وحفظ الثغور ودفع الشرور وبايعه جماعة من المسلمين من أهل العراق أو من أهل الشام أو من المدينة المنورة فهو الإمام. وإنما لم يتبع الأمير لاتهامه له بقتلة عثمان وحفظ أهل الجور والعصيان، وما كان يعتقده قادرا على تنفيذ الأحكام وأخذ القصاص الذي هو من عمدة أمور شريعة سيد الأنام، وذاك بزعمه ومقتضى فهمه. ومن أجلى البديهات أن بيعة المهاجرين والأنصار التي لم تكن خافية على معاوية قط لو حسبها معتدا بها لم يذكر في مجالسه ومكاتيبه قوادح الأمير، بل خطأ تلك البيعة أيضا بالصراحة كما هو معروف من مذهبه على ما لا يخفى على الخبير. فما ذكر في مقابلته من بيعة المهاجرين والأنصار دليل تحقيقي مركب من المقدمات الحقة فيثبت المطلوب. ومنها ما في النهج أيضا عن الأمير أنه قال: «لله بلاء أبي بكر، لقد قوم الأود، وداوَى العلل، وأقام السنة، وخلّف البدعة، وذهب نقي الثوب قليل العيب، أصاب خيرها واتقى شرها، أدى لله طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طريق متشعبة لا يهتدي فيها الضال ولا يستيقن المهتدي». وقد حذف الشريف صاحب النهج حفظا لمذهبه "أبا بكر" وأثبت بدله "فلان"، وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر. ولهذا الإبهام اختلف الشراح، فقال البعض هو أبو بكر وبعض هو عمر. ورجح الأكثرون الأول وهو الأظهر. فقد وصفه المعصوم من الصفات بأعلى مراتبها، فناهيك به وناهيك بها. وغاية ما

أجابوا أن مثل هذا المدح كان من الإمام لاستجلاب قلوب الناس لاعتقادهم بالشيخين أشد الاعتقاد. ولا يخفى على منصف أن فيه نسبة الكذب إلى معصوم لغرض دنيوي مظنون الحصول، بل كان اليأس منه حاصلا قطعا، وفيه تضييع غرض الدين بالمرة، فحاشا لمثل الإمام أن يمدح مثل هؤلاء. وفي الحديث الصحيح «إذا مدح الفاسق غضب الرب». وأيضا أية ضرورة تلجئه إلى هذه التأكيدات والمبالغات؟ وكان يكفيه أن يقول: لله بلاء فلان قد جاهد الكفرة المرتدين، وشاع بسعيه الإسلام، وقام عماد المسلمين، ووضع الجزية، وبنى المساجد، ولم تقع في خلافته فتنة ولا بقي فيها معاند، ونحو ذلك. وفرق بين هذا والسلوك في هاتيك المسالك. وأيضا في هذا المدح العظيم الكامل تضليل الأمة وترويج للباطل، وذاك محال من المعصوم، بل كان الواجب عليه بيان الحال لمن بين يديه بموجب الحديث الصحيح: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» فانظر وأنصف. وأجاب بعض الإمامية أن المراد من فلان رجل من الصحابة مات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. واختار هذا القول الراوندي. وانظر هل يمكن لغيره - صلى الله عليه وسلم - في زمنه الشريف تقويم الأود ومداواة العلل وإقامة السنة وغيرها؟ وهل يعقل أن رجلا مات وترك الناس فيما ترك والنبي - صلى الله عليه وسلم - موجود بنفسه النفيسة وذاته الأنيسة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم وزور جسيم. وقال البعض: غرض الإمام من هذه العبارة توبيخ عثمان والتعريض به، فإنه لم يذهب على سيرة الشيخين. وفيه نظر من وجوه: أما أولا فالتوبيخ يحصل بدون هذه الكذبات فما الحاجة إليها؟ وأما ثانيا فسيرة الشيخين إن كانت محمودة فقد ثبتت

إمامتهما وإلا فالتوبيخ على عثمان بتركها لا ينبغي. وأما ثالثا فهذه من خطب الكوفة، فما الموجب لعدم الصراحة بالتوبيخ: «أنا الغريق فما أخشى من البلل». ومنها ما نقله علي بن عيسى الإربلي الاثنا عشري في كتابه كشف الغمة في معرفة الأئمة أنه: «سُئل الإمام أبو جعفر عن حلية السيف هل تجوز؟ فقال: نعم، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة. فقال الراوي: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة» ومن الثابت أن مرتبة الصديقية بعد النبوة، ويشهد لها القرآن، والآيات كثيرة. ولا أقل من كونها صفة مدح فوق الصالح، وإذا قال المعصوم في رجل صالح ارتفع عنه احتمال الجور والفسق والظلم والغضب، وإلا لزم الكذب وهو محال. فكيف يعتقد فيه غصب الإمامة وتضييع حق الأمة؟ والمعتقد داخل في عموم هذا الدعاء، ويكفيه جزاء. وغاية ما أجابوا أنه تقية. وأنت تعلم أن وضع السؤال يعلم منه أن السائل شيعي، فلم التقية منه وهذا التأكيد. وبعضهم أنكر هذا الكلام، والنسخ شاهدة لنا، وإن لم يوجد في البعض فالبعض الآخر كاف. والنسخ كثيرة والروايات في هذا الباب أكثر. والله تعالى أعلم وأبصر.

تتمة في ذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل

ومنها ما رواه الدراقطني عن سالم بن أبي حفصة قال: «دخلت على أبي جعفر فقال: اللهم إني أتولى أبا بكر وعمر، اللهم إن كان في نفسي غير هذا فلا نالتني شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، قال سالم: أراه قال ذلك من أجلي». ومنها ما رواه عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عن أبيه الباقر: «أن رجلا جاء إلى أبيه زين العابدين السجاد قال: أخبرني عن أبي بكر وعمر، فقال: عن الصديق؟ قال: تسميه الصديق؟ قال: ثكلتك أمك، قد سماه الصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرون والأنصار، ومن لم يسمه صديقا فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة، اذهب فأحب أبا بكر وعمر». تتمة في ذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل الأول أن الله تعالى ذكر جماعة الصحابة الذين كانوا حاضرين حين انعقاد خلافة أبي بكر الصديق وممدين وناصرين له في أمور الخلافة ملقبا لهم بعدة ألقاب في مواضع من تنزيله. قال تعالى: {أولئك هم الفائزون} وقال تعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} وقال تعالى: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} فإجماع مثل هؤلاء الأقوام على منشأ الجور والآثام محال، وإلا لزم الكذب وهو كما ترى.

الثاني أن قوما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقتلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وأقاربهم ولم يراعوا حقهم نصرة لله تعالى ورسوله وقد حضروا هذه البيعة ولم يخالفوا، أفيليق بهم ما نسب. العاقل لا يقول به. الثالث: أن جما غفيرا من الصحابة قد وقع اتفاقهم على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكل ما يكون متفقا عليه لجماعة الأمة فهو حق وخلافه باطل بما ذكره في نهج البلاغة مرويا عن الأمير في كلام له: «الزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب». الرابع أن أمير المؤمنين لما سئل عن أحوال الصحابة الماضين وصفهم بلوازم الولاية وقال كما في نهج البلاغة: «كانوا إذا ذكروا الله هملت أعينهم حتى تبل جباههم ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب». فالإنكار من هؤلاء والإصرار على مخالفة الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - من المحالات. الخامس: ما ذكر في الصحيفة الكاملة للسجاد من الدعاء لهم ومدح متابعيهم، ولا احتمال للتقية في الخلوات وبين يدي رب البريات. ونصه: «اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم ومضوا في قفو أثرهم والائتمام بهداية منارهم يدينون بدينهم على شاكلتهم، لم يأتهم ريب في قصدهم ولم يختلج شك في صدورهم» إلى آخر ما قال.

فالإصرار من هؤلاء الأخيار على كتمان الحق وتجويز الظلم والجور على عترة سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - لا يقول به عاقل ولا يفوه به كامل. والكتب ملأى من أمثال هذه العبارات والأدلة القطعيات. وفيما ذكر كفاية لمن حلت بقلبه الهداية. والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الردى.

المطلب الثالث في إبطال ما استدل به الرافضة على كون الخلافة للأمير بلا فصل

المطلب الثالث في إبطال ما استدل به الرافضة على كون الخلافة للأمير بلا فصل اعلم أن الشيعة استدلوا على مطلوبهم بالكتاب والسنة وأقوال العترة والأدلة العقلية وبالمطاعن في الخلفاء الثلاثة. (الأدلة القرآنية) أما الكتاب فهي آيات أوردتها أهل السنة في رد الخوارج والنواصب فأخذوها وحرفوا بعض المقدمات وأوردوها فيما أوردوها: فمنها قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون}، تقرير الاستدلال أن أهل التفسير أجمعوا على نزولها في حق الأمير إذ أعطى السائل خاتمه في حالة الركوع، فكلمة {إنما} مفيدة للحصر، والولي المتصرف في الأمور، وظاهر أن المراد ههنا التصرف العام المرادف للإمامة بقرينة العطف [على ولاية الله ورسوله] فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره للحصر وهو المطلوب. الجواب: الحصر أيضا ينفي خلافة باقي الأئمة، ولا يمكن أن يكون إضافيا بالنسبة إلى من تقدمه، لأنا نقول إن حصر ولاية من استجمع هذه الصفات لا يفيد إلا [إذا كان] حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر. وإن أجابوا بأن المراد حصر الولاية في جنابه في بعض الأوقات -وهو وقت إمامته لا وقت إمامة الباقي- فمرحبا بالوفاق، فإنا كذلك نقول هي محصورة فيه وقت إمامته لا قبله أيضا. ودونك هذا التفصيل. فنقول أولا ما ذكر من إجماع المفسرين ممنوع. فقد روى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر: أنها نزلت في المهاجرين

والأنصار. وقال قائل: سمعنا [أنها نزلت] في علي، قال الإمام: هو منهم. وهذه الرواية بصيغ الجمع. وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر. ويؤيده الآية السابقة الواردة في قتال المرتدين. وأورد صاحب لباب التفسير أنها نزلت في شأن عبادة بن الصامت إذ تبرأ من حلفائه الذين كانوا هودا على رغم عبد الله بن أُبي فإنه لم يتبرأ منهم. وهذا القول أنسب بسياق الآية، وهو قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء}. وقال جماعة من المفسرين إن عبد الله بن سلام لما أسلم هجرته قبيلته فشكى ذلك وقال: يا رسول الله إن قومنا هجرونا، فنزلت هذه الآية. وهذا القول باعتبار فن الحديث أصح الأقوال. وأما القول الذي ذكروه فإنما هو للثعلبي فقط، وقد قالوا فيه حاطب ليل هذا. وثانيا إن لفظ «الولي» مشترك بين المحب والناصر والصديق والمتصرف في الأمور، فالحمل على أحدها بدون قرينة لا يجوز. والسباق لكونه في تقوية قلوب المؤمنين

وتسليتها وإزالة الخوف عنها من المرتدين، والسياق من قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين} الآية، لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه، وهم ما اتخذ بعضهم بعضا إماما أيضا؛ قرينتان على إرادة الناصر والمحب كما لا يخفى. وكلمة «إنما» تقتضي هذا المعنى أيضا لأن الحصر إنما يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع من المظان، ولم يكن بالإجماع وقت النزول تردد ونزاع في الإمامة والولاية، بل كان في النصرة والمحبة. وثالثا إن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، كما هو عند الجميع. واللفظ عام ولا ضرورة إلى التخصيص. وكون التصدق في حالة الركوع [وقع له] ولم يقع لغيره غير داع له، إذ القصة غير مذكورة في الآية بحيث يكون مانعا من حمل الموصول وصلاته على العموم، بل جملة {وهم راكعون} عطف على السابق وصلة للموصول أو حال من ضمير {يقيمون}. وعلى كل الركوع الخشوع. وقد ورد كقوله تعالى: {واركعي مع الراكعين} ولم يكن ركوع اصطلاحي في صلاة من قبلنا بالإجماع. وقوله تعالى: {وخر راكعا} وليس في الاصطلاحي خرور بل انحناء. إلى غير ذلك من الآيات، فهو معنى متعارف أيضا فيصح الحمل عليه كما هو مقرر في محله. وأيضا حمل {الزكاة} على التصدق [بالخاتم] كحمل لفظ الركوع على الخشوع، فالجواب هو الجواب. بل ذكر الركوع بعد إقامة الصلاة مؤيد لنا لئلا يلزم التكرار، وذكر الزكاة بعدها مضر لكم، إذ في عرف القرآن يكون المراد بها الزكاة مفروضة لا الصدقة المندوبة. ولو حملنا الركوع على المشهور وجعلت الجملة حالا من ضمير {يقيمون} لعمت المؤمنين أيضا، لأنه احتراز عن صلاة اليهود الخالية عن الركوع، وفي هذا التوجيه غاية لصوق بالنهي عن

موالاة اليهود الوارد بعد. وأيضا لو كان حالا من ضمير {يؤتون} لم يكن فيه كثير مدح، إذ الصلاة إنما تمدح إذا خلت عن الحركات المقلقة بالغير وقطع صاحبها العلائق عما سوى الخالق المتوجه إليه الواقف بين يديه. ومع هذا لا دخل لهذا القيد بالإجماع لا طردا ولا عكسا في صحة الإمامة، فالتعليق به لغو ينزه الباري تعالى عنه. على أنها معارضة بما تقدم فافهم. وتكلف صاحب إظهار الحق غاية التكلف وتعسف نهاية التعسف في تصحيح هذا الاستدلال وتنميق هذا المقال، فلم يأت إلا بقشور لا لب وكلمات لا يرتضيها ذو عقل ولب. فمن جملة ما قال: إن الأمر بمحبة الله ورسوله يكون بطريق الوجوب والحتم لا محالة، فكذا الأمر بمحبة المؤمنين وولايتهم المتصفين بتلك الصفات المذكورة أيضا يكون بطريق الوجوب، إذ الحكم في كلام واحد يكون موضوعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لا يمكن أن يكون بعضه واجبا وبعضه مندوبا، إذ لا يجوز أخذ اللفظ في استعمال واحد بالمعنيين، فبهذا المقتضى تصير مودة المؤمنين واجبة وثالثة لمودة الله ورسوله الواجبة على الإطلاق بدون قيد وجهة، فلو أخذ أن المراد بالمؤمنين كافة المسلمين باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لا يصح، لأن معرفة كل منهم متعذرة لكل واحد من المكلفين فضلا عن مودتهم. وأيضا قد تكون المعاداة لمؤمن بسبب من الأسباب مباحة بل واجبة. فالمراد به البعض وهو المرتضى. انتهى كلامه. وهو كلام الوقاحة منه تفور والجهالة تروي عنه، إذ مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعى؟ وإذا تعذر العام كيف يتعين الأمير وهو المتنازع فيه؟ واستنتاج المتعين من المطلق وقاحة وجهل محض كما لا يخفى. ثم نقول: لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة المؤمنين من جهة الإيمان عام بلا قيد ولا جهة، وهي موالاة لإيمانهم في الحقيقة، والعداوة لسبب غير ضار في الموالاة من جهة الإيمان. ثم ماذا يقول في قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم

أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله}. ولو كانت الموالاة الإيمانية عامة لجميع المؤمنين فأية استحالة تلزمها؟ والملاحظة الإجمالية للكثرة بعنوان الوحدة لا شك في إمكانها. ألا ترى أنهم يقولون كل عدد هو نصف مجموع حاشيتيه، وكذا يقولون كل حيوان حساس، والكثرة فيهما ظاهرة. وليت شعري ما جوابه عن معاداة الكفار، وكيف الأمر فيها وهي هي كما لا يخفى. نعم المحذور كون [أنواع] الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة كافيا، وليس فليس، إذ الأول أصل والثاني تبع والثالث تبع له، فالمحمول مختلف والموضوع كذلك، لأن الولاية العامة، وكالعوارض المشككة، والعطف موجب للتشكيك في الحكم لا في جهته، فالباري وما سواه موجود في الخارج والوجوب والإمكان ملاحظ، وهذا قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} مع أن الدعوة واجبة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مندوبة في غيره، وعليه الأصوليون. وإن تنزلنا عن هذا أيضا فالأظهر أن اتحاد نفس وجوب [المحبة] ليس محذورا بل المحذور الاتحاد في المرتبة والأصالة وهو غير لازم. فتدبر. ومن جملة ما قال إنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة التمسوا من حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستخلاف كما ذكر في مشكاة المصابيح عن حذيفة قال: «قالوا يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأكم عبد الله فاقرأوه» رواه الترمذي.

وهكذا استفسروا منه - صلى الله عليه وسلم - من يكون حريا بالإمامة. أيضا عن علي رضي الله تعالى عنه قال: «قيل يا رسول الله من يؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا في الدنيا راغبا في الآخرة وإن تؤمروا عمر تجدوه أمينا لا يخاف في الله لومة لائم وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم» رواه أحمد، وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الآية فلم يبطل مدلول «إنما». انتهى. وفيه أن محض الاستفسار لا يقتضي وقوع التردد. نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر وخالفوا ونازعوا بعضهم بعضا بعد ما سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - تحقق المدلول [لإنما]، وليس فليس. ومجرد السؤال غير مقتض لـ"إنما" على ما في كتب المعاني. وأيضا سلمنا التردد لكن لم يعلم أنه بعد الآية أو قبلها متصلا أو منفصلا سببا للنزل أو اتفاقيا، فلا بد من إثبات القبلية والاتصال والسببية وأنى ذلك. والاحتمال غير كاف في الاستدلال فلا تغفل. وليعلم أن الحديث الثاني ينافي الحصر صريحا، لأنه - صلى الله عليه وسلم - في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين فكيف الحصر؟ فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول القرآن أو بالعكس لزم التكذيب. والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما تقرر. ومع هذا تقدُّم كلًّ مجهولٌ فسقط العمل. وإن قيل الحديث خبر الواحد وهو غير مقبول في الإمامة، قلنا وكذلك لا يصح في مقام إثبات التردد الاستدلال به، وأيضا الاستدلال بالآية موقوف عليه فافهم. وأيضا الحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركَه، كما يفهم من الآية تركُه. ومنها قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم

تطهيرا}، تقرير الاستدلال أن المفسرين أجمعوا على نزول هذه الآية في حق علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم، وهي تدل عل عصمتهم دلالة مؤكدة، وغير المعصوم لا يكون إماما. ولا يخفى أن المقدمات المذكورة ههنا مخدوشة كلها: أما الأولى فلكون الإجماع ممنوعا. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في الأسواق أن قوله تعالى: {إنما يريد الله} الآية نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. والسباق والسياق يشهدان له. على أن ذكر حال الغير في أثناء خطاب الأزواج بهذه الصورة مناف للبلاغة. وأيضا إضافة البيوت إلى الأزواج في {بيوتكن} يدل على أن المراد بأهل البيت إنما هن الأزواج المطهرات، إذ بيته - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يكون غير ما سكن فيه أزواجه. وقال عبد الله المشهدي [الشيعي]: إن كون البيوت جمعا في {بيوتكن} وإفراد البيت في أهل البيت يدل على الغيرية. وفساد هذا ظاهر لأن "بيتا" اسم جنس يطلق على القليل

والكثير، والإفراد باعتبار الإضافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالبيوت بهذا الاعتبار بيت، والجمع في {بيوتكن} باعتبار الإضافة إلى الأزواج. ثم قال: لا يبعد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال كما وقع قوله تعالى: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل} ثم قال بعد تمام هذه الآية {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} قال المفسرون: {وأقيموا الصلاة} عطف على {أطيعوا} انتهى. وفيه غفلة عن محل النزاع، إذ الكلام في الفصل بالأجنبي باعتبار الموارد وهو المنافي للبلاغة، لا الأجنبي من حيث الإعراب. على أن في عطف على وأطيعوا بحثا، لأنه وقع {وأطيعوا} أيضا بعد {أقيموا}، فيلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه، ولا احتمال للتوكيد لوجود حرف العطف. ثم قال كلاما لا ينبغي ذكره. وأما إيراد ضمير جمع المذكر في {عنكم} فبملاحظة لفظ الأهل، كقوله تعالى خطابا لسارة امرأة الخليل: {قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} وكذا قوله {لأهله امكثوا} الآية خطابا من موسى - صلى الله عليه وسلم - لامرأته. وما روي في سنن الترمذي والصحاح الأخر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا هؤلاء الأربعة ودعا لهم: «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قالت أم سلمة: أشركني فيهم أيضا، قال: «أنت على خير وأنت على مكانك». فهو دليل صريح على نزولها في حق الأزواج فقط، فقد أدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أيضا بدعائه المبارك في تلك الكرامة، ولو كان نزولها في حقهم لكان تحصيلا للحاصل. كذا قالوا. ولكن ذهب محققو أهل السنة إلى أن هذه الآية وإن كانت واقعة في حق الأزواج المطهرات

ولكن بحكم «العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب» دخل في بشارتها الجميع، واختيار الأربعة هربا من توهم الاختصاص بالأزواج بمعونة القرائن كالسباق واللحاق. وما قال عبد الله المشهدي: إن المراد بالبيت بيت النبوة، ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للخدام من الإماء اللاتي يسكن البيوت أيضا، وليس المراد هذا بالاتفاق، فالمراد أهل العباء الذين خصصهم حديث الكساء؛ ففيه أن هذه الوسعة لا تضر أهل السنة لأن العصمة بالمعنى الذي يقول به الشيعة لا يثبتونها والغير غير ضار. وأيضا عدم كون هذا مرادا من أجل أن القرائن تعين المراد. وأيضا يخصص العقل هذا اللفظ باعتبار العرف والعادة بمن كان يسكنون في البيت لا بقصد الانتقال، ولم يكن التحول والتبدل جاريَين عادة فيهم كالأزواج والأولاد دون العبيد والخدام الذين هم في معرض التبدل والتحول من ملك إلى ملك بالهبة والبيع وغير ذلك، وإنما يدل التخصيص بالكساء على كون هؤلاء المذكورين مخصصين لو لم يكن للتخصيص فائدة، وهي ظاهرة. وقيل الإرادة لا تستلزم الفعل عند الشيعة، فافهم وتدبر. وأما الثانية فلأن دلالة هذه الآية على العصمة مبنية على عدة أبحاث: أحدها كون كلمة {ليذهب عنكم الرجس} أي محل لها [من الأعراب] مفعول له ليريد أو به. الثاني معنى «أهل البيت». الثالث أي مراد من «الرجس». وفي هذه المباحث كلام كثير يطلب من الكتب المبسوطة في التفسير.

وبعد اللتيا والتي لو كانت هذه الكلمة مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما البدريين قاطبة معصومين لأن الله تعالى قال في حقهم تارة: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} وتارة: {ليطهركم به وليذهب عنكم رجز الشيطان} وظاهر أن إتمام النعمة في الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظين، ووقوع هذا إتمام أدل على عصمتهم، لأن [إتمام] النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان. فليتأمل فيه تأملا صادقا لتظهر حقيقة الملازمة وبيان وجهها وبطلان اللازم مع فرض صدق المقدم. أما الثالثة فلأن «غير المعصوم لا يكون إماما» مقدمة باطلة وكلمة عاطلة، يدرأها الكتاب وكلام رب العزة المستطاب. فتذكر ولا تغفل وتبصر. ومنها قوله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} فإنها لما نزلت قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجب علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما. رضي الله تعالى عنهم. فأهل البيت واجبو المحبة، وكل من كان كذلك فهو واجب الإطاعة، فعلي واجب الإطاعة وهو معنى الإمام. وغير علي

لا تجب محبته فلا تجب إطاعته. وأجيب أولا بأن المفسرين اختلفوا في هذه الآية. فالطبراني والإمام أحمد رويا عن ابن عباس هكذا، ولكن ضعف ذلك الجمهور فإن السورة بتمامها مكية، ولم يكن هنالك الإمامان [الحسن والحسين]، وما كانت فاطمة رضي الله تعالى عنها متزوجة بعلي رضي الله تعالى عنه. وروي أن القربى من بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة. وجزم قتادة والسدي الكبير وسعيد بن جبير بأن معنى الآية: إني لا أسألكم على الدعوة والتبليغ من أجر إلا المودة والمحبة لأجل قرابتي بكم. وهذه الرواية موجودة في صحيح البخاري عن ابن عباس: "وما بطن من قريش إلا وقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة بهم، فيذكرهم تلك القرابة" لأداء الحقوق، فالاستثناء منقطع. وهذا المعنى هو المناسب لشأن النبوة، لأن الأغراض الدنيوية ليست من شيم الأنبياء. قال تعالى: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله} وقال تعالى: {وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين} وقال تعالى: {أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون} والآيات كثيرة. وثانيا لا نسلم الكبرى وهي «كل واجب المحبة فهو واجب الإطاعة»، وكذا لا نسلم هذه «كل واجب الإطاعة صاحب الإمامة والرئاسة العامة». أما الأول فلأنه لو كان وجوب المحبة مستلزما لوجوب الإطاعة لكان العلويون كذلك لوجوب محبتهم كما ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات، ولكانت الزهراء إماما، بل لكان الأربعة أئمة في عهد

الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واللوازم باطلة. وأما الثاني فلأنه يلزم أن يكون كل نبي في زمنه صاحب الرئاسة الكبرى، كأشموئيل وغيره، وهو ظاهر البطلان. وثالثا لا نسلم انحصار وجوب المحبة في [الأربعة] المذكورين عندنا، بل أبو بكر وعمر وعثمان كذلك بالروايات الصحيحة. والدليل إلزامي فلا بد من ملاحظة جميع روايات أهل السنة ولا تكفي الواحدة. وإن ألحوا فقوله {يحبهم ويحبونه} يشهد لنا، لأنه في حق المقاتلين وهؤلاء رؤساؤهم، والمحبوب واجب المحبة. هذا ثم لا يخفى أن التقريب غير تام لأن النتيجة شيء والمدعى شيء آخر. وأين العام من الخاص، وهذا المطلوب لا ذاك. فتدبر. ومنها قوله تعالى: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} الآية، فإنه لما نزلت خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من منزله آخذا بيده الشريفة أهل العباء وهو يقول: إذا دعوت فأمّنوا. فعلم أن المراد بالأبناء الحسن والحسين وبالنساء فاطمة وبالنفس الأمير، وظاهر استحالة الحقيقة، فالمراد المساواة، فمن كان مساويا للأفضل فهو أولى بالتصرف بالضرورة فهو الإمام لا غيره. وهذا أحسن تقريرهم في الآية كما لا يخفى على المتتبع. وللنواصب فيه كلام كثير ليس هذا محله. وفي هذا الدليل نظر من وجوه: أما أولا فلا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير، بل نفسه الشريفة - صلى الله عليه وسلم -. والإمام داخل في الأبناء حكما كالحسنين، والعرف يعد الختن ابنا من غير ريبة، والمنع مكابرة. والاعتراض بأن الشخص لا يدعو نفسه في غاية الضعف، فقد شاع وذاع قديما وحديثا [أن يقال] دعته نفسه، ودعوت نفسي، {فطوعت له نفسه

قتل أخيه}، وشاورت نفسي، إلى غير ذلك. وأيضا لو قررنا الأمير من قبل النبي لمصداق {أنفسنا} فمن نقرره من قبل الكفار لمصداق {أنفسكم} مع الاشتراك في {ندعو} إذ لا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله {تعالوا}. وأيضا قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين، كقوله تعالى: {يخرجون أنفسهم من ديارهم} أي أهل دينهم، {ولا تلمزوا أنفسكم}، {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} فللقرب والألفة عبر بالنفس، فلا يلزم المساواة كما [لا يلزم] في الآيات. وأما ثانيا فلزوم المساواة في جميع الصفات بديهي البطلان، لأن التابع دون المتبوع. وفي البعض لا تفيد المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف [بأن] تجعل من هي له أفضل وأولى بالتصرف بالضرورة، فليتدبر. ومنها قوله تعالى: {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قالوا: ورد في الخبر المتفق عليه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا المنذر وعلي الهادي». ولا يخفى ضعفه لأنه من رواية الثعلبي، ولا اعتبار لمروياته في التفسير.

وقد أوردها أهل السنة في مقابلة النواصب. والضعيف يُتمسك به في الفضائل. وأيضا لا دلالة لها على إمامة الأمير ونفيها عن غيره أصلا، لأن كون رجل هاديا لا يستلزم أن يكون إماما. نعم الإمامة بمعنى القدوة مرادة وليست محل النزاع. قال الله تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا}، {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير} الآية. ومنها قوله تعالى: {وقفوهم إنهم مسئولون} قالوا: روى عن أبي سعيد الخدري مرفوعا قال: {وقفوهم إنهم مسئولون} عن ولاية علي بن أبي طالب. ولا يخفى أن نحو هذا النحو من التمسك بالروايات لا بالآيات، وفي هذه الروايات كلام قوي لا سيما هذه إذ فيها المجاهيل والضعفاء. على أن نظم القرآن مكذب لها، لأن هذا الحكم في حق المشتركين بدليل {وما كانوا يعبدون * من دون الله}. وما هي وعلي؟

وأيضا النظم يدل على أن السؤال عن مضمون الجملة الاستفهامية وهي {ما لكم لا تناصرون} فقط، ولهذا أجمعوا على ترك الوقف على {مسئولون}. ولئن سلمنا لكان المراد بالولاية المحبة، بدليل رواية الواحدي في تفسيره عن ولاية علي وأهل البيت. وظاهر أن جميع أهل البيت لم يكونوا أئمة. سلمنا أنها الزعامة الكبرى، لكن المفاد اعتقادها في وقت من الأوقات، وهذا مذهبنا لا مذهبكم. فأين التقريب. ومنها قوله تعالى: {السابقون السابقون * أولئك المقربون} قالوا: روي عن ابن عباس مرفوعا أنه قال: السابقون ثلاثة، فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين، والسابق إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب. ولا يخفى أن هذا أيضا تمسك بالحديث، ومدار إسناده على أبي الحسن الأشقر وهو ضعيف بالإجماع. قال العقيلي: هو شيعي متروك الحديث. فالحديث منكر بل موضوع،

وأمارات الوضع عليه لائحة، لأن صاحب ياسين لم يكن أول من آمن بعيسى بل برسله كما دل عليه النص، وكل حديث يناقض مدلول الكتاب في الأخبار والقصص فهو موضوع كما هو مقرر في محله. وأيضا انحصار السباق في ثلاثة رجال غير معقول، فلكل نبي سابق لا محالة. وأيضا أية ضرورة أن يكون كل سابق إماما؟ وأيضا لو صحت الرواية لناقضت قوله تعالى في حق السابقين: {ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين} والثلة الجمع الكثير، ولا يمكن إطلاق الجمع الكثير على اثنين ولا القليل على الواحد أيضا، فعلم أن المراد بالسبق من الآية عرفي أو إضافي شامل للجماعة الكثيرة لا حقيقي بدليل [آية]: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} والقرآن يفسر بعضه بعضا. وأيضا الثابت بإجماع الفريقين أن أول من آمن حقيقة خديجة رضي الله تعالى عنه. فلو كان مجرد السبق كافيا لصحة الإمامة لزم إمامتها وهو باطل. فإن قلت قد تحقق المانع فيها وهو الأنوثة، قلت المانع متحقق وهو وجود الثلاثة الذين كانوا أصلح للرئاسة من جنابه عند الجمهور من أهل السنة. فانظر أيها المنصف الرشيد والفطن اللوذعي المجيد إلى حال هؤلاء جند الأهواء قد نسجت غشاوة التصعب على أبصارهم فهم عمون وحلت غواية الشيطان قلوبهم فهم في بيداء الضلالة يهرعون، استدلوا بما استدلوا ولم يعقلوا، وحلوا عقال التثبت بلاقع الزيغ ولم يعقلوا. فدونك أدلة سموم البطلان يهب من أرجائها ورسومها وخلب البروق يلوح في خلال غمومها وغيومها، مع أنها أقوى دلائلهم في هذا المقام وأعلى وأغلى تحريراتهم في صنوف الكلام. وقد كفيت شرها وأمنت حرها. والحمد لله على ما أولاه.

(الأدلة الحديثية)

(الأدلة الحديثية) منها حديث الغدير: إذ أخذ بيد الأمير وقال: يا معشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا بلى. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قالوا: إن المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وهذا عين الإمامة. فنقول أولا: لم يثبت كون المولى بمعنى الأولى. بل لم يجئ قط المفعل بمعنى أفعل أبدا. إلا أن أبا زيد اللغوي جوزه متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير {هي مولاكم} أي أولى بكم. وقد خطأوه قائلين: لو صح لزم أن يقال مكان فلان أولى منك مولى منك، وهو باطل منكر إجماعا. والتفسير بيان حاصل المعنى وهو النار مقركم ومصيركم. وثانيا لو كان المولى كما ذكروا فمن أي لغة ينقل أن صلته بالتصرف؟ أفلا يحتمل [أن يكون المراد] بالمودة والتعظيم؟ وأية ضرورة في كل ما نسمي الأولى [أن] نحمله على ذلك؟ قال تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} وظاهر أن أتباع إبراهيم لم يكونوا أولى بالتصرف.

وثالثا إن القرينة البعدية تدل على أن المراد الأولى بالمحبة، وهي قوله: «اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»، وإلا لقال: اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك، ولما ذكر المحبة والعداوة. والرسول أعلم الناس وأفصحهم، وقد بين لهم الواجبات أتم تبيين، وهذه المسألة عماد الدين، فلمَ لم يفصح بالمراد وإرشاد العباد ويقول: "يا أيها الناس علي ولي أمري والقائم عليكم بعدي"، ومثل هذا نُقل عن السبط الأكبر. وأما وجه تخصيص الإمام بالذكر فلما علمه - صلى الله عليه وسلم - من وقوع الفساد والبغي في خلافته وإنكار بعض الناس لإمامته. وقد تمسك بعض علماء الشيعة على إثبات أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الحديث، وهو قوله: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم". وهذا هو الكلام القديم وعين الدعوى، فأية حاجة إلى هذا الحمل، بل هو ههنا أيضا بمعنى الأولى بالمحبة. وحاصل المعنى: يا معشر المسلمين، إنكم تحبوني أزيد من أنفسكم، كذلك أحبوا عليا، اللهم أحب من يحبه وعاد من يعاديه. وهذا الكلام بمقام من الانتظام. وهذا اللفظ قد وقع في غير موضع بحيث لا يناسب معنى الأولى بالتصرف، كقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} والسوق شاهد كما لا يخفى. ولو فرضنا كون الأول في صدر الحديث بمعنى الأولى بالتصرف أيضا، لا يكون حمل المولى على ذلك مناسبا، إذ يحتمل أن يراد تنبيه المخاطبين بهذه العبارة ليستمعوا بآذان

واعية وقلوب غير لاهية وليعلموا أنه أمر إرشادي واجب الطاعة، كما أن الأب يقول لأولاده في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أباكم، فافعلوا كذا. فالمعنى ألست رسول الله إليكم أو ألست نبيكم، والربط حاصل بهذه العبارة كما هو ظاهر. ومن العجب أن بعض المدققين منهم أوردوا دليلا على نفي المحبة، وهو أن محبة الأمير أمر مفاد حيث كان ثابتا في ضمن آية {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا. ولا يخفى فساده، إذ فرق بيّن بين بيان وجوب محبة أحد في ضمن عموم وبين إيجاب محبته بخصوصه. مثلا لو آمن أحد بجميع الأنبياء والرسل ولم يتعرض لاسم محمد - صلى الله عليه وسلم - في الذكر لم يكن إسلامه معتبرا. على أن وظيفة النبي توكيد مضامين القرآن، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}. وعلى ما قيل يلزم أن تكون التأكيدات من النبي في باب الصلاة والزكاة مثلا لغوا والعياذ بالله تعالى. وبالغوا أيضا التأكيد في التنصيص على إمامة الأمير، وقد قالوا به. وسبب الخطبة على ما ذكره المؤرخون يدل صراحة على أن المراد المحبة، وذلك أن جماعة كانوا مع الأمير في سفر اليمن كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما، فلما رجعوا شكوا عليا ولم يحمدوا سيرته ولم يحسنوا سريرته، فلما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب هذه الخطبة.

ومنها ما روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام لما استخلف الأمير في غزوة تبوك على أهل بيته من النساء والبنات، قال الأمير: يا رسول الله أتخلِفني في النساء والصبيان؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». قالوا: المنزلة اسم جنس مضاف إلى العلم فيعم جميع المنازل لصحة الاستثناء، وإذا استثنى مرتبة النبوة ثبت للأمير جميع المنازل الثابتة لهارون، ومن جملتها صحة الإمامة وافتراض الطاعة أيضا لو عاش هارون بعد موسى، لأن ذلك له في عهد موسى، فلو انقطعت بعده لزم العزل، وهو محال للزومه الإهانة المستحيلة، فثبتت هذه المنزلة للأمير أيضا وهي الإمامة. هذا واعترضه النواصب. قالوا: هذا لا يدل إلا على استخلاف خاص لأهل البيت، وإلا لما قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - محمد بن سلمة عاملا على المدينة وسباع بن عرفطة عساسا فيها وابن أم مكتوم إماما للصلاة في مسجده بإجماع أهل السير. ويرد بما لا أظنه يخفى على أحد، فتدبر. وهو مع جوابه في المطولات.

ونحن نقول فيه اختلاف من وجوه: أما أولا فلأن اسم الجنس المضاف إلى العلم ليس من ألفاظ العموم عند جميع الأصوليين، بل هم صرحوا بأنه في نحو "غلام زيد" للعهد، وكيف يمكن العموم في نحو "ركبت فرس زيد" وليس غاية الأمر الإطلاق. وللعهد هنا قرينة "أتخلفني" إلخ. فالاستخلاف كالاستخلاف، فينقطع لانقطاعه، ولا إهانة، وهو واضح. والاستثناء لا يكون دليل العموم إلا متصلا، وهنا منقطع لفظا للجملية. ومعنى للعدم وهو ليس من المنازل. وأيضا بالعموم والاتصال يلزم كذب المعصوم، إذ من المنازل ما لا شك في انتفائه كالأسنيّة والأفطحية والشراكة في النبوة والأخوة النسبية، وأين هذا من الأمير. وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن الخلافة بعد موت موسى كانت من جملة منازل هارون، لأنه كان نبيا مستقلا، ولو عاش لبقي كذلك. وأين النبوة من الخلافة، وهل هذا الاستدلال إلا من السخافة. وأما ثالثا فلأن ما قالوا من أنه لو زالت هذه المرتبة من هارون لزم العزل باطل. إذ لا يقال لانقطاع العمل عزل لغة وعرفا، ولا يفهم أحد من مثله إهانة كما لا يخفى على المنصف. وأيضا تشبيه الأمير بها دون المستخلف في الغيبة الثابت خلافة ما سواه كيوشع بن نون وكالب بن يوقنا بعد الوفاة يقتضي بموجب التشبيه الكامل عدم خلافة الأمير بعد الوفاة. فتدبر. ولو تنزلنا عن هذا كله قلنا أين الدلالة على نفي إمامة الثلاثة ليثبت المدعى؟ غاية ما يثبته الحديث الاستحقاق ولو في وقت من الأوقات، وهو عين مذهب أهل السنة،

فالتقريب غير تام. والله تعالى أعلم. ومنها ما رواه بريدة مرفوعا أنه قال: «إن عليا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي» نقول هذا الحديث باطل، لأن في إسناده أجلح، وهو شيعي متهم في روايته. على أنه غير مفيد إذ البعدية تحتمل الاتصال والانفصال وهي غير مطلقة، فلا يثبت المدعى فافهم.

ومنها ما رواه أنس بن مالك أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - طائر [قيل إنه سهام وقيل حبارى وقيل حجل] قد طبخ له وأهدي إليه فقال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي» فجاءه علي. نقول: قد حكم أكثر المحدثين بوضع هذا الحديث. وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزريي، وشمس الدين الذهبي في تلخيصه. ومع هذا فهو غير مفيد للمدعى أيضا، لأن القرينة تدل على أن المراد بأحب الناس الأحب في الأكل. ولا شك أن الأمير كان أحبهم إلى الله في هذا الوصف، لأن أكل الولد ومن حكمه مع الأب موجب لتضاعف اللذة كما لا يخفى على من له ذوق. ولو سلمنا الإطلاق فلا نسلم كون أحب الخلق إلى الله تعالى هو صاحب الرئاسة العامة، وهذا زكريا ويحيى يشهدان لنا، وكذا أشموئيل الذي كان طالوت في زمنه صاحب رئاسة عامة بالنص ينادي بهذا. وأيضا يحتمل أن يكون المراد بمن هو أحب الناس إليك بطريق التبعيض، وهو كثير كقولهم فلان أعقل الناس وأعلمهم. وأيضا يحتمل غيبة أبي بكر إذ ذاك. وسؤال الخارق إنما هو عند التحدي

لا غير، وإلا لما احتاجوا في الحرب والقتال إلى سلاح ورجال، فتدبر. وأيضا لا يقاوم مثل حديث: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر». ومنها ما رواه جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» نقول: هذا الحديث أيضا مطعون [فيه]. قال يحيى بن معين: لا أصل له. وقال البخاري: إنه منكر وليس له وجه صحيح. وقال الترمذي: إنه منكر غريب. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: هذا الحديث لم يثبتوه. وقال الشيخ محيي الدين النووي والحافظ شمس الدين الذهبي والشيخ شمس الدين الجزري إنه موضوع. فالتمسك بالأحاديث الموضوعة التي أخرجها أهل

السنة عن حيز الاحتجاج والتمسك بها في مقام إلزامهم دليل صريح على قلة فقه الشيعة. ومع هذا غير مفيد لمدعاهم، إذ لا يلزم أن من كان باب مدينة العلم فهو صاحب الرئاسة العامة بلا فصل، غايته أن شرطا من شروط الإمامة قد تحقق فيه بوجه ولا يلزم من تحقق شرط تحقق المشروط بالشروط الكثيرة، مع أن هذا الشرط كان ثابتا في غيره أيضا أزيد منه برواية أهل السنة مثل: «ما صب الله شيئا في صدري إلا وقد صببته في صدر أبي بكر» ونحو: «لو كان بعدي نبي لكان عمر» فلا بد من ملاحظة جميع الروايات ليحصل الإلزام، ولا يكفي الرواية الواحدة كما لا يخفى. ومنها ما رواه الإمامية مرفوعا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في بطشه وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب». وجه التمسك به أن مساواة الأمير للأنبياء العظام في صفاتهم الجليلة قد علمت به، والأنبياء أفضل من غيرهم، والمساوي للأفضل أفضل، فيكون علي أفضل من غيره، والأفضل متعين للإمامة. وفيه أما أولا، فإن هذا الحديث ليس من أحاديث أهل السنة بل أورده الحلي في كتبه

ونسبه تارة للبيهقي وتارة للبغوي أخرى وليس في كتبهما أثر منه. أفبالافتراء يحصل الإلزام وبالبهتان ينال المرام؟ وقد أوجب أهل السنة لقبول الحديث في غير الكتب الصحاح التنصيص من الثقة على صحته. فبمثل هذا لا يلزمون وينحوه لا يعبأون. وأما ثانيا فهو محض تشبيه بلا شك ولا تمويه، كقوله: لا تعجبوا من بلى غلالته ... وقد زر أزراره على القمر وقال المتنبي: نشرتْ ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا وأقل ما يلزم مما لا بد منه الاستعارة، ومبناها على التشبيه وفهم المساواة منه كمال الحماقة. أفيدعي عاقل مساواة الكف للبرق في قوله: أرى بارِقاً بالأبرقِ الفَرْدِ يومِضُ ... يُذَهِّبُ ما بَيْنَ الدُّجى وَيُفَضِّضُ كَأَنَّ سُلَيْمى مِنْ أَعاليهِ أَشْرَفَتْ ... تَمدُّ لنا كفّاً خَضيباً وتَقْبِضُ على أنه قد روي عند أهل السنة تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى وتشبيه عمر بنوح وموسى. رواه الحاكم عن ابن مسعود وصححه في قصة مشاروة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما في أسارى بدر، فإنه قال: "إن هؤلاء كانوا مثل إخوة لكم كانوا من قبلهم، قال

نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وقال موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} وقال إبراهيم: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} " وأما ثالثا فلأن مساواة الأفضل في صفة لا تكون موجبة لأفضلية المساوي، لأن ذلك الأفضل له صفات أخر قد صار بسببها أفضل. وأما رابعا فلأن الأفضلية ليست موجبة للزعامة الكبرى كما مر غير مرة. وأما خامسا فكتب العلم ملأى من مثل هذه الأحاديث في حق الشيخين، فلا يثبت التفضيل، فتصفح والله تعالى الهادي. ومنها ما روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال «من ناصب عليا في الخلافة فهو كافر». نقول لا أثر لهذا الأثر في كتب أهل السنة، بل نسب ابن المطهر الحلي روايته إلى الأخطب الخوارزمي. والحلي خوّان في النقل. والأخطب من غلاة الزيدية. ومع هذا لم يرد في كتابه المؤلف في مناقب الأمير. وعلى التسليم فلا اعتبار به لمخالفته للأحاديث الصحيحة المروية في كتب الإمامية، من نحو قول الأمير في نهج البلاغة: «أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج». ولئن اعتبر فمضمونه لا يتحقق إلا إذا طلب الأمير الخلافة وانتزعت عن يده،

وهو لم يطلبها في زمن الثلاثة، لأنه كان مأمورا بالسكوت والتقية كما هو محرر في كتب الإمامية. وأيضا قد سمى الله تعالى في كتابه منكر خلافة الثلاثة في آية الاستخلاف كافرا، قال تعالى: {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} والمعنى من أنكر خلافة أولئك بعد استماع هذه الآية والعلم باستخلافهم فأولئك هم الكاملون في الفسق، والكامل فيه هو الكافر كما لا يخفى. فتدبر. ومنها ما رواه الشيعة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «كنت أنا وعلي بن أبي طالب نورا بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين: فجزء أنا، وجزء علي بن أبي طالب». وهذا الحديث موضوع بإجماع أهل السنة، وفي إسناده محمد بن خلف المروزي. قال يحيى بن معين: هو كذاب. وقال الدارقطني: متروك ولم يختلف أحد في كذبه. ويروى من طريق آخر وفيه جعفر بن أحمد، وكان رافضيا غاليا كذابا وضاعا. والحديث

معارض بحديث: «أول من خلق الله نوري» و «أنا من نور الله وكل شيء من نوري». (¬1) وأيضا قد ثبت اشتراك الخلفاء مع علي في رواية أحسن من هذه. وهي ما رواه الإمام الشافعي بإسناده عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألف عام فلما خلق أسكننا ظهره ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة حتى نقلني إلى صلب عبد الله ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة ونقل عمر إلى صلب الخطاب ونقل عثمان إلى صلب عفان ونقل عليا إلى صلب أبي طالب». وبعد اللتيا والتي لا يدل على المدعى أصلا، لأن اشتراك الأمير في نور النبي لا يستلزم وجوب إمامته بلا فصل فليبينوا ودونه خرط القتاد. ولا بحث لنا في قرب النسب وإنما الكلام في أن ذلك القرب موجب للإمامة بلا فصل أم لا. فلو كان مجرد القرب من النسب موجبا للتقدم في الإمامة لكان العباس أولى بالإمامة كما لا يخفى. فإن قالوا العباس لحرمانه من النور لم يحصل له لياقة للإمامة، قلنا: إن كان مدار التقدم في الإمامة على قوة النور وكثرته فالحسنان حينئذ أولى من الإمام. أما القوة فلأن النور حصة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلت إليهما ولا شك في قوتها. وأما الكثرة فلأنهما كانا جامعين لنوري النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمير، وهو ظاهر. ومنها ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه» ¬

(¬1) [أشار إلى بطلانهما في الصحيحة 133 و 458.]

وهذا الحديث على الرأس والعين. لكن أين الملازمة بين المحبة والإمامة بلا فصل؟ وأيضا هذا الإثبات له لا ينفي عما عداه. كيف وقد قال تعالى في الصديق ورفقائه: {يحبهم ويحبونه} وفي أهل بدر: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}، ومحبوب الله تعالى محبوب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وفي أهل قباء: {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «إني أحبك». ولما سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة» قيل: ومن الرجال؟ قال: «أبوها». ولما كان كلامهم إلزاميا كان للاستدلال بالمذكور محال فلا تغفل، والتخصيص هنا باعتبار المجموع، لأن الفتح في الأزل على يد الأمير، أو دفعا لشبهة أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، أو للتمهيد بالمشترك كما تقول العرب: فلان رجل عاقل، مع أن المقصود إثبات العقل دون الرجولية، فافهم.

ومنها: «رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار» هذا مسلم أيضا لكن أين الإمامة بلا فصل. وقد جاء في حق عمار بن ياسر: «الحق مع عمار حيث دار» وفي حق عمر أيضا: «الحق بعدي مع عمر حيث كان»، والتفاوت بيّن، سيما عند الشيعة من أن الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - غير لازم الإجابة، فقد دعا ربه بجمع أصحابه على محبة علي فلم يحصل كما روى ابن بابويه القمي. على أن البعض قد استدل بهذا الحديث على صحة خلافة الثلاثة بقياس المساواة، وهو الحق مع علي وعلي مع الثلاثة فالحق معهم. ودليل الكبرى صلاته معهم، وقد ثبت القضاء ومبايعته لهم ونصحه في أمور الرئاسة، فقد ذكر في النهج أن الأمير قال لعمر حين استشاره في غزوة الروم: «متى تسير إلى هذا العدو بنفسك فتكسر وتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم، وليس بعدك مرجع يرجعون إليه، فأرسل إليهم رجلا مجربا وأحضر معه البلاغة والنصيحة، فإن أظهره الله تعالى فذلك ما تحمد، وإن تكن

الأخرى كنت أنت درء الناس ومثابا للمسلمين». وقد مرت نصيحة أخرى حين أراد أن يخرج عمر رضي الله تعالى عنه إلى دفع فتنة نهاوند، حيث قال له الأمير كرم الله تعالى وجهه: «إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة .. » إلخ. والعجب من الشيعة [أنهم] يقولون هذا ونحوه لقلة الأعوان والأنصار، ثم يروون ما يناقضه، كما روى أبان بن عياش عن سليم بن قيس الهلالي وغيره أن عمر قال لعلي: «لئن لم تبايع أبا بكر لنقتلنك، قال له علي: لولا عهد عهده إلى خليلي لست أخونه لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا». فهذه الرواية تدل بالصراحة على كثرة الأعوان وأن السكوت لما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - بصحة إمامة الصديق. والدليل العقلي يؤيده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يليق بمقامه أمر مثل الإمام بتعطيل أمر الله وحرمان الأمة من لطفه واتباع أهل الباطل. كيف وقد قال الله تعالى في زمان الكلفة والمشقة وقبل تمام الدين: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} أفيأمر أسد الله بعد تمام الدين بالجبن والخوف وإفساد أمر المسلمين وترك تبليغ الأحكام واتباع الفساق والظلام: {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} حاشاه ثم حاشاه، أولئك مبرؤون مما يقولون. وقال ابن طاوس سبط أبي جعفر الطوسي إن ترك منازعة الإمام وإظهار الرضى في الأحكام كان اقتداء بأفعال الله تعالى، وهي إمهال الجاني والتأني في المؤاخذة، والتأني محمود والعجول لا يسود. وقد ارتضى هذا الجم الغفير ممن يدعي أنه شيعة الأمير. وهو مما يضحك المغبون ويتعجب منه العاقل والمجنون، كيف والاقتداء بأفعال الله تعالى فيما نهى عنه الشرع غير جائز فضلا عن أن يكون واجبا، إذ الباري قد ينصر الكفرة ويعين الفجرة ويخذل الصلحاء ويقدر الرزق على العلماء، أفيجوز الاقتداء بهذه

الأفعال؟ سبحانك ربنا هذا الداء العضال. وأما ما قيل: «تخلقوا بأخلاق الله» (¬1) فبابه المكارم دون الأحكام، وإلا فمن لم يصل ولم يصم ولم يفعل الطاعات أينجو يوم القيامة؟ ثم ما قاله من التأني المحمود فهو في غير طاعة الملك المعبود. قال تعالى في مدح المتعجلين: {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} وفي غيرهم: {وإن منكم لمن ليبطئن}. والإمام له منصب الهداية والإرشاد فكيف يجوز له التأني وبه تفوت كثير من الواجبات. ولو قالوا: تأني الأمير كان بالأمر فلا يلزم ترك الواجبات، قلنا: إذًا إمامته غير متحققة، وإلا فالنصب والأمر [له بالتأني] غير معقول كما لا يخفى. وأيضا إذا كان الأمير مأمورا من الله تعالى بالتأني وإخفاء الإمامة وترك دعواها يكون المكلفون في ترك مبايعته وإطاعة الآخر معذورين، فلو خالفوا ونصبوا غيره لحفظ دينهم ودنياهم وتمشية مهماتهم في هذه المدة لا يكون للعتاب والعقاب لهم محل أصلا، فتدبر. ومنها ما رواه زيد بن أرقم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وعترتي» هذا مسلم أيضا لكن لا مساس له بالمطلوب. سلمنا، ولكن قد صح أيضا: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» و «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». سلمنا، ولكن العترة في لغة العرب الأقارب، فلو دل على الإمامة لزم إمامة الجميع، وهو ¬

(¬1) [الضعيفة 2822]

مطلب الأدلة العقلية

باطل لا سيما إمامة عبد الله بن عباس وابن الحنفية وزيد بن علي وإسحاق بن جعفر الصادق وأمثالهم من أهل البيت، فتدبر. مطلب الأدلة العقلية أما الأدلة العقلية فهي حبائل خيالية ووسوسة شيطانية. منها أن الأمام يجب أن يكون معصوما، وغير الأمير من الصحابة لم يكن معصوما، فكان هو إماما لا غيره. وفي هذا الترتيب نظر يظهر لذي نظر، وفيه بعدُ منع. أما الصغرى فلأن الأمير نص بقوله: «إنما الشورى للمهاجرين والأنصار» على أن الشورى لهم فقط، وبديهي عدم العصمة فيهم. ولمّا سمع قول الخوارج: «لا إمرة» قال: «لا بد للناس من أمير بر أو فاجر» كذا في نهج اليلاغة. وأيضا طريق العلم بالعصمة لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - مسدود، إذ أسباب العلم ثلاثة: الحواس السليمة، والعقل، وخبر الصادق. ولا سبيل لأحد منها إلى تحصيله. أما الأول فظاهر إذ العصمة ملكة نفسانية تمنع من صدور القبائح وهي غير محسوسة. وأما الثاني فلأن العقل لا يدرك الملكة إلا بطريق الاستدلال بالآثار والأفعال، وأين الاستقراء التام في المقام، سيما مكنونات الضمائر من العقائد الفاسدة والحسد والبغض والعجب والرياء ونحوها. ولو فرضنا الاطلاع على عدم الصدور فأين عدم إمكانه وهو المقصود. وأما الثالث فلأن خبر الصادق إما متواتر أو خبر الله ورسوله. وظاهر أن التواتر لا دخل له هنا، إذ يشترط انتهاؤه إلى المحسوس في إفادة العلم ولا انتهاء إذ لا محسوس. وخبر الله والرسول لا يكون موجبا للعلم هنا على أصول الشيعة لإمكان البداء عندهم.

وأيضا وصول الخبر إلى المكلفين إما بواسطة معصوم أو بواسطة تواتر، ففي الأول يلزم الدور، وفي الثاني يلزم خلاف الواقع، لأن كل تواتر ليس مفيدا للعلم القطعي عند الشيعة، كتواتر المسح على الخف، وغسل الرجلين في الوضوء، و {أمة هي أربى من أمة}، وصيغة التحيات ونحو ذلك. فلا بد من التعيين، وذلك غير مفيد، إذ حصول العلم القطعي من التواتر يكون بناء على كثرة الناقلين وبلوغهم ذلك المبلغ، ولما كذب الناقلون في مادة أو مادتين ارتفع الاعتماد عن اقسامه. ولا يرد هذا في الأنبياء للمعجزة وبتميزهم على غيرهم. وفرق بين التابع والمتبوع فافهم. وأما الكبرى فلأن الأمير قال لأصحابه: «لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإنني لست بفوق أن أخطئ ولا آمن من ذلك في فِعلي» كذا في النهج. وهذا لا يصدر من معصوم، لا سيما وبعده: «إلا أن يلقي الله في نفسي ما هو أملك به مني» والمعصوم يملكه الله تعالى نفسه. وأيضا روي في دعاء الأمير: «اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي» كذا في النهج أيضا، فليتدبر حق التدبر. ومنها أن الإمام لا بد من أن لا يرتكب الكفر قط، لقوله تعالى: {لا ينال عهدي الظالمين} والكافر ظالم لقوله تعالى: {والكافرون هو الظالمون}، وغير الأمير من الصحابة عبدوا الأصنام في الجاهلية، فيكون هو إماما دون غيره. وفيه ما في الأول. والنقض بابن عباس. لا يقال اشتراط العصمة تدفعه لأنا نقول بعد التسليم، فالدليل ذاك لا هذا كما لا يخفى. وأيضا من تاب وآمن وعمل صالحا لا يصدق عليه الظلم، إذ تقرر أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفي غيره بشرط الاطراد

والتعارف مجاز، فلا يقال للشيخ صبي وللنائم مستيقظ وللحي ميت. وأيضا قد روى الزاهدي من الحنفية في معالي العشر في حديث طويل أن أبا بكر قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمحضر من المهاجرين والأنصار: «وعيشك يا رسول الله إني لم أسجد للصنم قط، فنزل جبريل عليه السلام وقال: صدق أبو بكر» وكذا نقل أهل السير والتواريخ، فصحت إمامته بملاحظة هذا الشرط، ولله تعالى الحمد. ومنها أنه ادعى الإمامة وأظهر المعجزة كدحي باب خيبر والقصة معلومة وحمل الصخرة في صفين إذ عطش القوم وحفروا بئرا فصادفوا صخرة عظيمة في الأثناء وعجزوا عن قلعها فقلعها الإمام، ومحاربة الجن في غزوة بني المصطلق ورد الشمس وهي مشهورة، فيكون إماما. وفيه أما أولا فلأن إظهار المعجزة خاص بالأنبياء عند دعوى النبوة، إذ لا سبيل للعلم بها إلا به، وفي الغير لا تثبت دعوى رجل على آخر بإثبات خارق على آخر بإثبات خارق دون شهود. [ولما كانت] الإمامة متعلقة بتعيين النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أمته من يصلح لذلك، فلا تكون معجزة دليلا هنا.

وأما ثانيا فلأن الإظهار لم يكن من عند الدعوى، ودعوى ذلك محض كذب، فالرد والدحي والمحاربة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا دعوى بالإجماع. على أن ذلك من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - لا من معجزاته رضي الله تعالى عنه. وحمل الصخرة على تقدير تسليمه لم ينقل مقارنته للدعوى، وعلى تقدير النقل فالإمامة إذ ذلك حق له دون غيره عندنا أيضا وليس محل النزاع. ومحاربة الجن لا أثر لها في كتب أهل السنة أيضا. ومنها أن الأمير كان متظلما ومتشكيا من الخلفاء الثلاثة دائما في حياته، وبيّن أنه مظلوم ومقهور، وما ذاك إلا لغصب الإمامة منه، فتكون الإمامة حقه دون غيره، إذ الأمير صادق بالإجماع. وأنت تعلم أن هذا الدليل غير مذكور بتمامه، فإن كبراه مطوية وهي «وكل من كان كذلك فهو إمام» فيلزم من بعد تسليمه أن يكون كل من أوذي منهم بحد أو قصاص ونحو ذلك إماما، وهو باطل. واعتبار القيود الأخر يبطل التعدد ويجعله حشوا. وأجيب عن هذا الدليل بمنع صحة تلك الروايات، لأن أهل السنة لم يثبت عندهم إلا روايات الموافقة والمناصحة والثناء والذكر الجميل ونحو ذلك. وأكثر روايات الإمامية في هذا الباب موافقة لروايات أهل السنة كما تقدم نقله عن الأمير في نهج البلاغة في قصة عمر، ومن ثنائه عليهم وذكرهم بالخير في حياتهم وبعد مماتهم. وروايات أهل السنة في هذا الباب أكثر من أن تحصى. ولنذكر منها رواية واحدة رواها الحافظ أبو سعيد بن السمان في كتابه الموافقة وغيره من المحدثين عن محمد بن عقيل بن أبي طالب: أنه لما قبض أبو بكر الصديق وسجي عليه ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء علي باكيا مسترجعا وهو يقول: «اليوم انقطعت خلافة النبوة» فوقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجى فقال: «رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستروحه وثقته وموضع سره ومشاورته، كنت أول قومه

إسلاما وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم على رسول الله وأشفقهم عليه، وأحدبهم على الإسلام، وأمنهم على أصحابه، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديا وسمتا ورحمة وفضلا وخلقا، وأشرفهم عنده منزلة وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده. فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا. كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدّقت رسول الله حين كذبه الناس فسماك الله في تنزيله صديقا فقال عز وجل {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} فالذي جاء بالصدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، والذي صدق به أبو بكر. وآسيته حين بخلوا، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا وصحبته في الشدة أحسن الصحبة، ثاني اثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة وخليفته في دين الله عز وجل. أحسنت الخلافة حين ارتد الناس وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي. نهضت حين وهن أصحابك وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا ولزمت منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه إذ كنت خليفته حقا، ولم تنازع ولم تدفع برغم المنافقين وكيد الكافرين وكره الحاسدين وضغن الفاسقين وزيغ الباغين. قمت بالأمر حين فشلوا ونطقت حين تعتعوا ومضيت نفوذا إذ وقفوا فاتبعوك فهدوا، وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم قوة وأقلهم كلاما وأصوبهم منطقا وأطولهم صمتا وأبلغهم قولا وأكبرهم رأيا وأشجعهم نفسا وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملا. كنت والله للدين يعسوبا حين نفر الناس عنه وآخرا حين فشلوا. كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا، تحملت أثقال ما ضعفوا عنه ورعيت ما أهملوا وحفظت ما أضاعوا وعلوت إذ هلعوا وصبرت إذ جزعوا وأدركت أوطار ما طلبوا ورجوا. أرشدتهم برأيك فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا وجليت عنهم فأبصروا. كنت على

الكافرين عذابا صبا وللمؤمنين رحمة وأنسا وحصنا، فطرت والله بعبابها وفزت بجنابها وذهت بفضائلها وأدركت سوابقها، لم تقلل حجتك ولم تضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك ولم يزغ قلبك، كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمن الناس عليه في صحبتك وذات بلدك، وكما قال ضعيفا في بدنك قويا في أمر الله متواضعا في نفسك عظيما عند الله جليلا في أعين المؤمنين كبيرا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز ولا لأحد فيك مطمع. الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف حتى تأخذ منه الحق. والقريب والبعيد عندك سواء. أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له. شأنك الحق والصدق والرفق وقولك حكم وجزم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم، فبلغت والله بهم نهج السبيل وسهلت العسير وأطفأت النيران واعتدل بك الدين وقوي الإيمان وثبت الإسلام والمسلمون وظهر أمر الله ولو كره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا وفزت بالخير فوزا مبينا، فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك وهدت مصيبتك الأنام. فإنا لله وإنا إليه راجعون».

المطلب الرابع في بيان صاحب الزمان

المطلب الرابع في بيان صاحب الزمان ذهبت جماهير الإمامية والكيسانية كلهم إلى أن المنتظر وهو المهدي وهو حي موجود إلا أنه مختف من خوف الأعداء. واختلفت الإمامية فيه اختلافا كثيرا، وافترقوا إلى نيف وعشرين فرقة. والاثنا عشرية والثلاث عشرية منهم يقولون إنه محمد بن الحسن العسكري وإنه مختف وسيخرج من سرداب بسر من رأى وقد اختفى فيه وكان عمره حينئذ أربع وقيل خمس. وأنكر غيرهم ذلك وقالوا لم يخلّف العسكري ولدا، ولذا أخذ ميراثه أخوه جعفر وانتقلت الإمامة إليه. ومنهم من يقول مات أبوه وهو في بطن أمه. ومنهم من يقول ولد قبل موت أبيه بسنتين لكنه مات. وافترقوا عشرين فرقة. وذهبت الكيسانية إلى أنه محمد بن الحنفية. وذهبت فرقة من الإسماعيلية إلى أنه إسماعيل بن جعفر. ووزعمت جماعة منهم أنه محمد بن إسماعيل بن جعفر. وذهبت فرقة من الإمامية إلى أن المهدي محمد بن علي الباقر. وذهبت فرقة إلى أنه جعفر بن محمد الصادق. وذهبت فرقة إلى أنه موسى بن جعفر الكاظم. وزعمت جماعة أن المهدي هو

محمد بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وذهبت فرقة إلى أنه أبو القاسم محمد بن علي الحسن السبط، وهو الذي حبسه المعتصم فبقي سنة في الحبس وأخرجوه وذهبوا به فلم يعرف له خبر. وذهبت فرقة إلى أنه محمد بن عبد الله بن الحسين. وقالت فرقة إنه يحيى بن عمر من أحفاد زيد بن علي بن الحسين. وزعمت فرقة من الإسماعيلية أنه إسماعيل بن جعفر الصادق. وأخرى أنه محمد بن إسماعيل. وجميع هذه الأقوال محض وهم وخيال. والحق ما ذهب إليه أهل السنة من أن المهدي هو رجل من ولد فاطمة يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. أخرج أحمد والماوردي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "المهدي من عترتي يخرج في اختلاف الناس وزلزالهم فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا ويرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض". وفي رواية أبي داود والترمذي: "اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ويقسم المال صحاحا بالسوية ويملأ قلوب أمتي غني ويسعهم عدله". وفي رواية للحاكم: "يحل في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع بلاء أشد منه لا يجد الرجل ملجأ .. فيبعث الله رجلا من عترتي وأهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، يحبه ساكن الأرض وساكن السماء ويرسل قطرها وتخرج الأرض نباتها لا يمسك منهم

شيئا، يعيش فيهم سبع سنين أو ثمان أو تسع". وروى الطبراني والبزار نحوه. وفي رواية للطبراني: "عشرين سنة". وروى أبو نعيم أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "ليبعثن الله من عترتي رجلا أقرن الثنايا أجلح الجبهة" وفي وراية الطبراني والروياني: "وجهه كالكوكب الدري اللون لون عربي والجسم جسم إسرائيلي" إلى غير ذلك من الروايات. وما ذهب إليه الشيعة من تعيين اسمه وأنه ولد واختفى فما أنزل به من سلطان. كيف والاختفاء ينافي الغرض المقصود من نصب الإمام من إقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش للجهاد وحفظ النظام وحماية الإسلام وزجر الأنام عن القبائح والآثام. وقد صح عن أمير المؤمنين أنه قال: "لا بد للناس من إمام بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ فيها الأمن ويأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر". وهو ناص على أن الإمام يجب أن يكون ظاهرا. وقد سبق في أول هذا المقصد تتمة لهذا الكلام. وعلى الله التوكل وبه الاعتصام.

المطلب الخامس في أن العدالة شرط في الإمامة لا العصمة

المطلب الخامس في أن العدالة شرط في الإمامة لا العصمة ذهبت الشيعة سيما الإمامية والإسماعيلية إلى أن الإمام يجب أن يكون مصتفا بالعصمة، بمعنى امتناع صدور الذنب كما في الأنبياء. والحق ما ذهب إليه أهل السنة، لقوله تعالى: {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} فكان واجب الطاعة بالوحي ولم يكن معصوما بالإجماع. وقوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} فكان قبل النبوة إماما وخليفة وصدر منه ما صدر، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فعصى آدم ربه فغوى} وقوله {ثم اجتباه ربه} والاجتباء في قوله تعالى في حق يونس: {فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} والاصطفاء للدعاء ورده إليه لا الاستنباء، إذ قد ثبت بقوله: {وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون} بخلاف ما [نحن] فيه، كذا قيل، فليتأمل. وروى الكليني في الكافي ما قال الأمير لأصحابه: «لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست آمن أن أخطئ» والحمل على المشورة الدنيوية يأباه الصدر كما لا يخفى. وأيضا روى صاحب الفصول عن أبي مخنف أنه قال: "كان الحسين يبدي الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول: لو جز أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي". وإذا خطّأ أحد المعصومين الآخر ثبت خطأ أحدهما بالضرورة لامتناع اجتماع النقيضين. وأيضا في الصحيفة الكاملة للسجاد: «قد ملك الشيطان عناني في سوء الظن

وضعف اليقين، وإني أشكو سوء مجاورته لي وطاعة نفسي له» وظاهر أنه على الصدق. والكذب مناف للعصمة. وقد أسلفنا قول الأمير: «لا بد للناس» الخ. ومن أدلة الشيعة على العصمة أن الإمام لو لم يكن معصوما لزم التسلسل. بيان الملازمة أن المحوج للنصب هو جواز الخطأ للأمة، فلو جاز الخطأ عليه أيضا لافتقر إلى آخر وهكذا، فيتسلسل. ويجاب بمنع أن المحوج ما ذكر، بل المحوج تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد وحفظ بيضة الأسلام مثلا، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة، بل الاجتهاد والعدالة كافيان. ولما لم يكن إثم على التابع إذ ذاك استوى جواز الخطأ وعدمه. سلمنا، لكن التسوية ممتنعة بل تنتهي السلسلة إلى النبي. سلمنا، لكنه منقوض بالمجتهد النائب عن الإمام في الغيبة عند الإمامية، وليس بمعصوم إجماعا، فيلزم ما لزم، والجواب هو الجواب. ومن أدلتهم أنه حافظ للشريعة، فكيف الخطأ؟ ويجاب بالمنع، بل هو مروِّج، والحفظ بالعلماء لقوله تعالى: {والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} وقوله تعالى: {كونوا ربانيين بما كنتم تدرسون}. وأيضا إذا كان الحفظ بالعلماء زمن الفترة وفي الغيبة على ما في كشكول الكرامة للحلي ففي الحضور كذلك. سلمنا، لكن الحفظ بالكتاب والسنة والإجماع، لا بنفسه، ويمتنع الخطأ في هذه الثلاثة، والآراء لا دخل لها في صلب الشريعة، فلا ضرورة في حفظها. سلمنا، ولكن ذلك منقوض بالنائب. وقد يقال بأن وجود المعصوم لو كان ضروريا للأمن من الخطأ لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة، إذ الواحد لا يكفي للجميع بل هو مستحيل بداهة لانتشار المكلفين في الأقطار، والحضور مستحيل عادة، ونصب نائب لا يفيد لجواز الخطأ وعدم إمكان التدارك سيما في الغيبة الكبرى والوقائع اليومية، والإطلاق ممنوع، وعلى تسليمه الإعلام إما برسول ولا عصمة، أو بكتاب والتلبيس جائز. على أن الفهم إنما هو باستعمال قواعد الرأي وضوابط القياس، والكل مظنة الخطأ، فلا يحصل المقصود إلا بنصب معصوم في كل قطر وهو محال.

المطلب السادس في أن الإمامة لا تنحصر في عدد معين

المطلب السادس في أن الإمامة لا تنحصر في عدد معين ذهبت الإمامية إلى أن الأئمة اثنا عشر رجلا. وزعمت النصيرية أن الأئمة ثلاثة عشر. واستدل كل حزب منهم على مدعاه بشبه واهية ودلائل باطلة. والحق ما ذهب إليه أهل السنة من عدم الانحصار في عدد معين وأن الشارع لم يعينهم. وما رواه البخاري بإسناده إلى جابر بن سمرة قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: يكون بعدي اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم أسمعها، وقال أبي إنه قال: كلهم من قريش" وما رواه أيضا في صحيحه بإسناده إلى ابن عتبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا. ثم تكلم بكلمة خفيت علي فسألت أبي ماذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قال كلهم من قريش". (¬1) وروى ذلك مسلم في صحيحه برواية سماك يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يزال أمر الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم يفهمها الرواي فسأل عنها من سمع الحديث فقال: كلهم من قريش" - فلا تفيد الرافضة شيئا، إذ لا يصح حمل الخلفاء على أهل البيت الاثني عشر لتصريح ¬

(¬1) [بل أخرجه مسلم عن جابر بن سمرة]

النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بأن أمر الإسلام يكون عزيزا في أيامهم، ومعلوم عند كل أحد أن أهل البيت -ما عدا علي بن أبي طالب- زعم الرافضة أنهم لم يزالوا خائفين، وكذلك أتباعهم في أيامهم. فأين عزة الإسلام كانت في وقتهم حتى يكونوا هم الخلفاء؟ كيف وقد أطبق الرافضة على أن أمر الإسلام كان في أيامهم خفيا وأن الأئمة أنفسهم كانوا يستترون في أمور دينهم بالتقية. نعم، عزة الإسلام كانت في أيام من ذكره أهل السنة على ما سيجيء، إذ من المعلوم لكل أحد أنهم كانوا يقيمون الحدود ويصلون الجمع والجماعات ويجاهدون الكفار لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله ولا يخافون في ذلك لومة لائم ولا قتال مقاتل. والأحاديث المذكورة لا تدل عند أهل السنة على انحصار الأئمة في عدد معين، بل قالوا إنها دلت على أن قوة الدين وعزة الإسلام والنصرة على الأعداء واستقامة أمور الأئمة يكون في زمان اثني عشر خليفة موصوفين بوصفين، أحدهما كونهم من قريش وثانيهما كونهم تجتمع عليهم الأمة كلهم. ثم اختلفوا في عددهم. فقال بعضهم: هم الخلفاء الأربعة بدليل أن أبا بكر عد منهم، فقد روى أبو القاسم البغوي بسند حسن عن عبد الله بن عمر أنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكون خلفي اثنا عشر خليفة أبو بكر لا يلبث إلا قليلا .. " الخ.

فهذا الحديث يدل على أن أول الاثني عشر هو أبو بكر. ثم معاوية فإنه قرشي وقد اجتمعت عليه الأمة عندما نزل له الحسن عن الخلافة. ثم عبد الله بن الزبير فإنه اجتمع عليه الناس بعد موت يزيد إلا بعض بني أمية، حتى إن مروان بن الحكم همّ بالقدوم عليه ليبايعه فمنعه أقاربه وبايعوه. ثم عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير اجتمع عليه الناس. ثم أولاده الأربعة، وتخلل بينهم عمر بن عبد العزيز، فهؤلاء أحد عشر. ثم ولي الوليد بن يزيد بن عبد الملك لما مات عمه هشام نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه. ثم لم تتفق الكلمة إلى يومنا هذا لوقوع الفتن بين من بقي من بني أمية وبني العباس، حتى خرج المغرب الأقصى عن طاعة بني العباس بتغلب المروانيين على الأندلس إلى أن تسمّوا بالخلافة. ثم استولى العبيديون على المغرب ومصر. واختلت كلمة بني العباس واستضعفوا، ولم يبق من الخلافة إلا الاسم. ثم كثرت الملوك في الأقطار كما هو مشتهر الآن اشتهار الشمس في رابعة النهار. والثاني عشر المهدي الموعود. وهذا الوجه هو الذي ارتضاه المحققون من محدثي أهل السنة والجماعة. وقال بعضهم غير ذلك.

المقصد الخامس في رد مطاعن الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين وسائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم

المقصد الخامس في رد مطاعن الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين وسائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم

اعلم أن الشيعة أوقدوا نار الحرب بأسنة الشبه أمام كل لاحب، فعشى إليها كل أعشى غرّه قياس الشبهة ولم يعلم أنه نار الحباحب، وسلكوا كل طرق من طريق الضلال وتمسكوا بما وسوست إليهم شياطينهم من الأفعال والأقوال، حتى أطالوا لسانهم على أصحاب سيد الكونين ورسول الثقلين وحور عين العماء وتورد وجنة النبوة وآدم عليه السلام بين الطين والماء، ولم يعلموا أن الله تعالى أخرجه من قشر الإمكان لبابا واختاره من بين أعيان الأعيان واختار له أصحابا فبدو في سماء الدين نجوما وغدوا لشياطين الكفرة الملحدين رجوما. أرخصوا في الوغي نفوس ملوك ... حاربوها أسلابها إغلاء كلهم في أحكامه ذو اجتهاد ... وصواب وكلهم أكفاء رضي الله عنهم ورضوا عنه ... فأنى يخطو إليهم خطاء ويكفي الرافضة خزيا معاداتهم لمثل هؤلاء الرجال الذين بذلوا أنفسهم ونفيسهم لتشييد الدين الدين ومحو الكفر الضلال، فتفوهوا في حقهم بما لا يخفى بطلانه على صغار المتعلمين فضلا عن الراسخين من العلم من المسلمين. فدونك فانظر فيها وتأمل بظواهرها وخوافيها.

المطاعن الأولى في الصديق الأجل رضي الله تعالى عنه

المطاعن الأولى في الصديق الأجل رضي الله تعالى عنهمنها أنه صعد يوما على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخطب فقال له السبطان: انزل عن منبر جدنا. فعلم أن ليس له لياقة الإمامة. والجواب بعد التسليم أن السبطين كانا إذ ذاك صغيرين، فإن الحسن ولد في الثالثة من الهجرة في رمضان والحسين في الرابعة منها في شعبان، والخلافة في أول الحادية عشرة، فأفعالهما إن اعتبرت بحيث يترتب عليها الأحكام لزم ترك التقية الواجبة، وإلا فلا نقص ولا عيب، فمن دأب الأطفال أنهم إذا رأوا أحدا في مقام محبوبهم ولو برضائه يزاحمونه ويقولون قم عن هذا المقام. فلا يعتبر في العقلاء هذا الكلام. وهم وإن ميزوا عن غيرهم لكن للصبي أحكام. ولهذا اشترط في الاقتداء البلوغ إلى حد الكمال. ألا ترى أن الأنبياء لم يبعثوا إلا على رأس الأربعين إلا نادرا كعيسى، والنادر كالمعدوم. ومنها أنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده ولم يقتص منه أيضا. ولهذا أنكر عليه عمر لأنه قتل مالك بن نويرة مع إسلامه ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمض عدة الوفاة.

وجوابه أن في قتله شبهة، إذ قد شهد عنده أن مالك وأهله أظهروا السرور فضربوا بالدف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل وقد قال في حضور خالد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رجلكم أو صاحبكم، وهذا التعبير إذ ذاك من شعار الكفار المرتدين. وثبت عنه أيضا أنه قال لما سمع بالوفاة فردّ صدقات قومه عليهم: "قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل". فلما حكي هذا للصديق لم يوجب عليه القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما. فليتدبر. هذا ثم إن الصديق حكم في درء القصاص حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ قد ثبت في التواريخ أن خالدا هذا أغار على قوم مسلمين فجرى على لسانهم: "صبأنا صبأنا" أي صرنا بلا دين، وكان مرادهم أنا تبنا عن ديننا القديم ودخلنا في الصراط المستقيم، فقتلهم خالد حتى غضب عبد الله بن عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسف وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، ولم يقتص منه ولم يودهم. فالفعل هو الفعل، على أن الصديق أودى.

ويجاب أيضا أنه لو كان توقف الصديق في القصاص طعنا لكان توقف الأمير في قتلة عثمان أطعن، وليس فليس. وأيضا استيفاء القصاص إنما يكون واجبا لو طلبه الورثة، وليس فليس. بل ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع عشقه له، ومحبته فيه تضرب بها الأمثال، وكان يقول: وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ثم إن عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق، فلذا لم يقتص من خالد. والله ولي التوفيق. ومنها أنه تخلف عن جيش أسامة المجهز للروم مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أكد التأكيد الشديد حتى قال: "جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف". وجوابه إن كان الطعن من جهة عدم التجهز فهذا افتراء صريح، لأنه جهز وهيأ؛ وإن كان من جهة التخلف فله عدة أجوبة. الأول أن الرئيس إذا عين رجلا مع جيش ثم أمره بخدمة من خدمات حضوره فقد استثناه وعزله، والصديق لأمره بالصلاة كذلك، فالذهاب إما ترك الأمر أو ترك الأهم وهو محافظة المدينة المنورة من الأعراب. الثاني أن الصديق قد انقلب له المنصب، لأنه كان آحاد المؤمنين فصار خليفة

النبي - صلى الله عليه وسلم - فانقلبت الأحكام. ألا ترى كيف انقلبت أحكام الصبي إذا بلغ والمجنون إذا عقل والمسافر إذا أقام والمقيم إذا سافر إلى غير ذلك. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذهب فالخليفة لكونه قائما مقامه يكون كذلك. الثالث أن الأمر عند الشيعة ليس مختصا بالوجوب، كما نص عليه المرتضى في الدرر والغرر، فلا ضرر في المخالفة. وجملة "لعن الله من تخلف" لم تثبت في كتب أهل السنة. الرابع أن مخالفة آدم ويونس لحكم الله تعالى بلا واسطة عند الشيعة، فالإمام لو خالف أمرا واحدا فلا ضير، فتدبر. الخامس أن الأمر عام يشمل جميع الصحابة، وكان علي منهم، والجواب هو الجواب. ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمّر أبا بكر قط على أمر مما يتعلق بالدين، فلم يكن حريا بالإمامة. الجواب أن هذا كذب محض. يشهد على ذلك كتب السير والتواريخ. فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضا في غزوة بني فزارة كما رواه الحاكم عن سلمة بن الأكوع، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضا ويعلمهم الأحكام من الحلال

والحرام، وتأميره أيضا بالصلاة قبل الوفاة، إلى غير ذلك مما يطول. ويجاب أيضا على تقدير التسليم بأن عدم الجعل ليس لعدم اللياقة، بل لكونه وزيرا ومشيرا على ما هو العادة. روى الحاكم عن حذيفة بن اليمان أنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إني أريد أن أرسل الناس إلى الأقطار البعيدة الممتدة لتعليم الدين والفرائض كما كان عيسى أرسل الحواريين" قال من الحضار: يا رسول الله مثل هؤلاء الناس موجودون فينا كأبي بكر وعمر، قال: "لا غنى لي عنهما إنهما من الدين كالسمع والبصر". وأيضا قال - صلى الله عليه وسلم -: "أعطاني الله أربعة وزراء، وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر". وأيضا لو كان عدم

الإرسال موجبا لسلب اللياقة يلزم عدم لياقة الحسنين، معاذ الله من ذلك. ومنها أن أبا بكر ولّى عمر أمور المسلمين مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاه على أخذ الصدقات سنة ثم عزله، فالتولية مخالفة. ويجاب بأن هذا محض جهالة. أفيقال لانقطاع العمل عزل؟ وعلى تقدير العزل فأين النهي عن توليته كي يلزم المخالفة بالتولية؟ فافهم. ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله وعمر تابعين لعمرو بن العاص وأسامة أيضا، ولو كانا لائقين لأمّرهما. ويجاب بأن ذلك لا يدل على الأفضلية ونفي اللياقة، إذ المصلحة ربما اقتضت ذلك. فإن عمرا ذا خديعة ومكر وحيل عارفا بمكائد الأعداء، ولم يكن غيره فيها كذلك، كما يولّى مثل هذا لأخذ السارقين وعسس الليل ونحوهما مما لا يولى عليه الأكابر. وأسامة استشهد أبوه على أيدي كفار الشام والروم، فكان ذلك تسلية له وتشفية. وأيضا مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إطلاعهما على حال التابع والمتبوع كما هو شأن تربية الحكيم خادمه، فلا تغفل. ومنها أن أبا بكر استخلف والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف، فقد خالف. ويجاب بأنه - صلى الله عليه وسلم - أشار بالاستخلاف، والإشارة إذ ذاك كالعبارة. وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثو عهد بالإسلام وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارات حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات. وفي كل زمان رجال، ولكل مقام مقال. وأيضا عدم استخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لعلمه بالوحي بخلافة الصديق كما ثبت في صحيح مسلم، ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالأصلح للأمة. ونعم ما عمل فقد فتح البلاد ورفع ذوي الرشاد وأباد الكفار وأعاذ الأبرار. ومنها أن أبا بكر كان يقول: "إن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني وإن

زغت فقوموني"، ومن هذا حاله لا يليق بالإمامة. ويجاب بأن هذا غير ثابت عندنا. بل الثابت أنه أوصى عمر قبل الوفاة وقال: "والله ما نمت فحلمت وما شبهت فتوهمت، وإني لعلى السبيل ما زغت ولم آل جهدا، وإني أوصيك بتقوى الله تعالى" الخ. نعم أول خطبة خطبها على ما في مسند الإمام أحمد: "يا أصحاب الرسول، أنا خليفة الرسول، فلا تطلبوا الأمرين الخاصين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي والعصمة من الشيطان" وفي آخرها: "إني لست معصوما، فإطاعتي فرض عليكم فيما وافق سنة الرسول وشريعة الله تعالى من أمور الدين، ولو أمرتكم فرضا بخلافها لا تقبلوه مني ونبهوني". وهذا عين الإنصاف. ولما كان الناس معتادين عند المشكلات الرجوع إلى وحي إلهي وإطاعة النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - كان لازما على الخليفة التنبيه على الاختصاص بالجناب الكريم. وأيضا روى الكليني في رواية صحيحة عن جعفر الصادق: "إن لكل مؤمن شيطانا يقصد إغواءه". وفي الحديث ما يؤيد هذا أيضا، ومن جملته: "حتى أنت يا رسول الله؟ قال: نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم". فأين الطعن فيما ذكروه. والمؤمن يعتريه الشيطان بالوسوسة فينتبه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. نعم النقصان

الاتباع، وهو بمعزل عنه. ومنها ما روي عن عمر أنه كان يقول: "كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المؤمنين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"، وهو صريح في أن خلافته لم تبن على أصل. والجواب أن هذا لا يدل على طعن في خلافة الصديق، فإن هذا الكلام من عمر ليس محمولا على الذم. وكيف يتصور منه ذلك وقد كانت إمامته بعهد أبي بكر إليه، والقدح في إمامة أبي بكر قدح في إمامته. بل هذا الكلام صدر من عمر في زجر رجل كان يقول في زمانه: "إن مات عمر أبايع فلانا وأجعله خليفة"، لأن واحدا أو اثنين كانا بايعا أبا بكر أولا فلتة وقد صارت بيعة في آخر الأمر متمكنة حتى تبعه المهاجرون والأنصار كلهم. فمعنى كلام عمر أنها بيعة واحد أو اثنين وإن كانت بلا تأمل ومراجعة، ولكن وصل الحق إلى أهله ولم يقع في غيره موقعه لأجل ما تبين من أدلة خلافته من إمامة الصلاة والقرائن الحالية والمقالية الواقعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه فقط، وقد سبق شيء منها.

وفي صحيح البخاري من فضائل الصديق قال: أتت [امرأة] النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر". وغير ذلك. ولتحقق أفضليته على سائر الصحابة فلا يقاس عليه غيره. بل إن بايع أحد غيره كذلك فاقتلوه، فإنه ترك ما وجب عليه من التأمل والاجتهاد واجتماع أهل الحل والعقد وصار باعثا للفتنة والفساد بين أهل الإسلام. ويصرح بذلك ما ذكره عمر في آخر كلامه هذا: "وأيكم مثل أبي بكر" في الأفضلية والخيرية وعدم الاحتياج إلى المشورة والتأمل في حقه؟ فعلى هذا يكون معنى قول عمر: "وقى الله شرها" أن خلافة أبي بكر وإن وقعت عاجلة في سقيفة بني ساعدة لكن بفضل الله تعالى الحق استقر مركزه لما ذكرنا. وليس مراد عمر أن بيعة أبي بكر ما كانت صحيحة، لأن عمر وأبا عبيدة بايعاه أولا ثم الآخرون، وقال كل منهما في حقه: "أنت خيرنا وأفضلنا"، فلم ينكر عليهما أحد من المهاجرين والأنصار بل سلموه، فثبت أن كون أبي بكر أفضل عند جميع الصحابة مسلّم الثبوت، ولم يناقش الأنصار في ذلك بل ناقشوه في أن يكون خليفة منهم. وقد بايعه سعد بن عبادة بعد هذه المناقشة كما ثبت في الروايات الصحيحة. وبايعه بعد ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن العوام واعتذرا عن التخلف بما اعتذرا. ومنها أنه كان يقول: "أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم"، فإن ذلك

منافٍ لإمامته مع صدقه، وكذا مع كذبه لقبح الكذب من سائر العباد، فكيف من الأئمة المطلوب منهم الهداية إلى جادة السداد والرشاد. والجواب أن هذا الكلام ليس بثابت عن أبي بكر عند أهل السنة بل هو من مفتريات الرافضة. وعلى تقدير صحته فليس بوارد على أهل السنة أصلا، لأنه لا يلزم تفضيل علي عليه، لأنه إنما نفى خيريته على جميع الصحابة وعلي فيهم، ولا يلزم من نفي ذلك نفي المساواة، فاللازم من كلامه مساواته لهم وعلي فيهم، ولا يلزم من مساواته للجميع مساواته لكل فرد فرد منهم، بل اللازم خيريته على كل فرد فرد بطريق الانفراد ومساواته لجميعهم بطريق الاجتماع. ولو سلمنا أن اللازم من كلامه مساواته لعلي يكون ذلك من تواضعه وهضم نفسه لقيام الأدلة على تفضيله على علي، فيكون هذا الكلام منه على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تفضلوني" وفي رواية: "لا تخيروني على الأنبياء" وقوله: "من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب"، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل المخلوقين كلهم الأنبياء وغيرهم بشهادة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيد الناس يوم القيامة" رواه البخاري، وقوله:

"أنا سيد العالمين" رواه البيهقي، وغير ذلك من الأحاديث. وإن أرادوا الطعن بقوله: "أقيلوني" الخ فإنه استعفاء عن الإمامة وهو يدل على عدم اللياقة فعجيب ذلك منهم، لأن الاستعفاء عند الرافضة لا بأس به حتى جوزوه على الأنبياء على ما سبق في مقصد النبوة. وأيضا قد ورد عن علي بن أبي طالب مثل ذلك. فقد ذكر في نهج البلاغة أنه قال للناس بعد قتل عثمان: "دعوني والتمسوا غيري فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا"، وقال لهم: "اتركوني فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم"، فأبوا عليه وبايعوه. وأيضا روي في الصحيفة الكاملة عن السجاد أنه كان يقول في دعائه: "أنا الذي أفنيت في الذنوب عمري"، فإنه إن كان صادقا لا يليق بالإمامة وإن كان كذبا فكذلك لكذبه. ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله لأداء سورة براءة للناس بمكة ثم عزله عن ذلك ونصب عليا مكانه، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها كيف يصلح للإمامة المتضمنة أداء الأحكام لجميع الناس. والجواب أن هذا الكلام كذب وافتراء لإجماع المحدثين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولّى أبا بكر إمارة الحج وأن عليا تولى أمر القراءة فقط وأنهما ذهبا جميعا إلى مكة، وكان علي يقتدي بأبي بكر في ذلك السفر ويصلي خلفه ويتابعه في مناسك الحج. وقد صح في كتب الأحاديث والسير أن عليا لما خرج من المدينة مسرعا ووصل قرب أبي بكر وسمع أبو بكر حفيف ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

اضطرب وظن أن الرسول جاء بنفسه لأداء الحج فأمر الجيش كلهم بالوقوف، فإذا علي طلع عليهم فاستفسر منه بعد ما لاقاه: "أمير أنت أم مأمور؟ " فقال علي: "بل أنا مأمور"، فذهب أبو بكر مع عسكره وخطب قبل التروية وأخذ يبين مناسك الحج على طبق طريق الإسلام. وتولية علي رضي الله تعالى عنه على القراءة يدل على اعتناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصديق رضي الله تعالى عنه لأن قراءة سورة براءة في هذا الجم الغفير وتبليغها لكل منهم تحتاج إلى التردد الكثير والكلفة الشديدة وإلى رفع الصوت، ولا يمكن لأمير الحج لشغله بتفحص أعمال الحج وحفظ الناس من الفتنة والفساد وما يفسد الإحرام وغير ذلك، فأحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤدي هذا الأمر معه رجل عظيم القدر. ولأن عادة العرب في أخذ العهد ونبذه أن يتولاه الرجل بنفسه أو رجل من خاصة أهله، فأرسل عليا أميرا على القراءة وأبا بكر أميرا على الحج. وأيضا في ذلك مصلحة أخرى، وهي أن يتبين للناس أن العهد والميثاق معتنى بشأنه أشد اعتناء، لذا عيّن له شخصا ولم يجعله من توابع الحج. ولو سلمنا أنه عزل فعزله لم يكن لعدم أهليته لذلك لأنهم أجمعوا على عدم عزله عن إمارة الحج وكفى بها فضيلة، وإذا لم ينعزل عنها ثبت له اللياقة المتضمنة لإصلاح عبادات ألوف مؤلفة من المسلمين المستلزمة لأداء أحكام كثيرة وتعليم مسائل لا تحصى، فكيف لا يكون أهلا لقراءة آيات معدودة بصوت؟ على أن عليا لم ينفرد بذلك. فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد هذا العام

مشرك ولا يطوف بالبيت عريان"، قال [حميد] بن عبد الرحمن: "ولى - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الحج ثم أردف علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان". وأيضا عزل عدلٍ يصلح للإمامة قد يكون لمصلحة فلا طعن فيها. وقد عزل الأمير كرم الله تعالى وجهه عمر بن أبي سلمة المخزومي عن ولاية البحرين وكان من خيار شيعته وكتب له: "إني استعملت النعمان بن عجلان [الزرقي] على البحرين ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك فقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل غير ضنين ولا ملوم ولا متهم ولا [مأثوم] " الخ، مع أن عمر كان أفضل من [الزرقي] حسبا ونسبا. ومنها أنه منع فاطمة رضي الله تعالى عنه إرثها فقالت له: "يا ابن أبي قحافة ترث أباك ولا أرث أبي"، واحتج بخبر واحد تفرد به وقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة"، مع أنه يخالف قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فإنه عام يشمل النبي وغيره، وقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} فإنه نص على أن الأنبياء يرثون ويورثون. والجواب أن أبا بكر إنما منع ورثة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الميراث للنص ولم ينفرد هو برواية الحديث. فإن حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة أيضا رووه. وأخرج البخاري في صحيحه عن مالك بن أوس البصري أن عمر بن الخطاب قال بمحضر من الصحابة وفيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص: "أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا نورث ما تركناه صدقة، يريد بذلك نفسه؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على علي والعباس فقال: أنشدكما بالله

هل تعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك؟ قالا: نعم". فهذا الخبر مساوٍ للآية القطعية، ولا يخالفها لأنها من العموميات، وتخصيص الكتاب بالسنة جائز من غير نكير. ولأن الإمامية قد روت حديث الميراث في صحاحهم. فقد روى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر". وآخره ينص على ذلك أيضا لأن كلمة "إنما" موضوعة للحصر عند الفريقين. ولأن تخصيص الكتاب بخبر الآحاد جائز عند الفريقين. ولأن الآية عام مخصوص البعض كالقاتل والكافر، ودلالته ظنية فهي في الدلالة كخبر الآحاد. ولأن الخطاب للأمة والخبر مبين له. والآية الثانية لا تدل على التعميم فلا تنافي في التخصيص لأن المراد ورثة العلم والنبوة دون المال لما روى الكليني عن أبي عبد الله: "أن سليمان قد ورث داود وأن محمدا ورث سليمان". وأيضا لو كان المراد ميراث المال لم يخصّ سليمان بالإرث فإنه كان له عدة أولاد كما رواه الكليني عنه. وأيضا ما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ

الطَّيْرِ} يدل على ذلك. وقد وقعت هذه الوراثة بهذا المعنى في غير آية من القرآن. قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ}، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ}، وقال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فإنه لما خاف بني عمه وكانوا أشرار بني إسرائيل أن يغيروا الدين طلب من الله وليا من صلبه يخلفه في إحياء الدين كما يدل عليه قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}. وأيضا منصب النبوة يأبى طلب ولد يرث ماله، فإن القصد بقاء ذكر الوالد والدعاء له وتكثير سواد الأمة، فمن رامه لغيرها كان معلوما مذموما. وإقرار أمهات المؤمنين في الحجرات لأنها كانت في ملكهن لأنه - صلى الله عليه وسلم - ملكهنّ في حياته. وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} دال على اختصاصهن بها. وإنما دفع سيفه وبغلته عليه الصلاة والسلام لعلي لأنه - صلى الله عليه وسلم - أوصى بذلك، ولم يكن علي وراثه. فلا منافاة بين قول أبي بكر وفعله كما زعموه. ومنها أنه منع فاطمة فدكا، وقد ادعت أنه - صلى الله عليه وسلم - وهبها إياها فلم يصدقها مع عصمتها، فجاءت بعلي وأم أيمن فرد شهادتهما فغضبت عند ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:

"فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني". والجواب أن الموهوب لا يصير ملكا للموهوب له إلا بعد التصرف، وكان في يده عليه الصلاة والسلام يتصرف فيه كما يشاء إلى أن قضى نحبه. ولم يرد أبو بكر شهادة علي وأم أيمن بل طلب امرأة أخرى ليتم نصاب الشهادة، فلو حكم لكان مخالفا للنص. وعصمة المدعي لا توجب الحكم على وفق دعواه من غير بينة لعموم النص. ولا يقدح فيه غضبها، فإن الوعيد في إغضابها، والضابط في الإغضاب أن يقول الإنسان قولا أو فعلا يقصد بذلك أذى شخص فيغضب به. ولم يقصد أبو بكر أذاها، حاشاه ثم حاشاه عن ذلك، ولكنه حكم حكما شرعيا فغضبت منه. وفاطمة رضي الله تعالى عنها مع نزاهة باطنها وطهارة قلبها كانت من البشر وكان لها نفس، وللنفس صفات تظهرها. وقد غضب موسى غضبا شديدا على أخيه حتى أخذ برأسه يجره إليه وألقى الألواح التي فيها كلام الله، وكان رسولا من أولي العزم وكان هارون أكبر منه. قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} وقال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}. والقول بأنه لم يغضب ولكنه أظهر الغضب رجم بالغيب ودعوى بلا دليل. ولأنه قد وقع منها الغضب مرارا على علي بن أبي طالب كما هو مشهور بين الفريقين. فمن ذلك أنها غضبت عليه لما أراد أن يخطب بنت أبي جهل وجاءت بين يدي أبيها - صلى الله عليه وسلم - باكية وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لذلك: "ألا إن

فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويريبني ما أرابها، فمن أغضبها أغضبني". ومنها أن عليا ناقشها يوما وخرج من البيت ونام على أرض المسجد بلا فراش، فاطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك فجاء فاطمة فسأل: أين ابن عمك؟ قالت: غاضبني فخرج. ولأنه قد روى البيهقي في كتاب الاعتقاد أن أبا بكر دخل على فاطمة في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه. وروى بسنده عن الشعبي أنه قال: لما مرضت فاطمة أتاه أبو بكر الصديق فاستأذن عليا فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت. والحمد لله. وروى صاحب محجاج السالكين وغيره من علماء الشيعة أن هذا الأمر شق

على أبي بكر فحضر على باب بيتها واستشفع من علي حتى رضيت فاطمة عنه. وروى عنه أيضا أن أبا بكر لما رأى فاطمة غضبت وهجرته ولم تتكلم بعد في أمر فذلك ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال لها: "يا ابنة رسول الله أنت محقة فيما ادعيت لكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطي منها قوتكم، فقالت: افعل فيها كما كان يفعل أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ولك الله علي أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك، فقالت: والله لتفعلن ذلك؟ فقال: اللهم اشهد، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه، وكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل". ولأن ابن المطهر الحلي ذكر في كتابه منهاج الكرامة أنه لما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا وردها عليها. فلا طعن بعدما ثبت عندهم هذا المقال، ولا قيل ولا قال. ومنها أنه قطع يد السارق ولم يعلم أن القطع لليمنى. والجواب أنه قطع يسار السارق للسرقة الثالثة، كما أخرج النسائي عن الحارث بن حاطب اللخمي والطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وقطع مرة يسرى سارق أقطع اليد والرجل كما أخرج مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن

أبيه. ولم يثبت عند أهل السنة أنها قطعت للسرقة الأولى. ولو سلمنا ذلك فأبو بكر من أهل الاجتهاد، فيحتمل أنه كان يرى بقاء الآية على إطلاقها، فإن الآية شاملة لكلا الأمرين، وأن قطعه عليه السلام يمين السارق في السرقة الأولى ليس على الحتم بل الإمام مخير في ذلك. وإنما وقع الإجماع على قطع الرجل في السرقة الثانية بعد أبي بكر. ومنها أنه أحرق من أتى رجلا في دبره، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التعذيب بالنار. والجواب أن هذا الخبر لم يثبت بإسناد يحتج به، وإنما رواه البعض عن أبي ذر بإسناد ضعيف. وعلى فرض صحته لا يدل على أنه أحرقه حيا. وقد روى سويد بن غفلة أنه أمر به فضربت عنقه ثم أمر به فأحرق. واعترف به المرتضى. ولأن ترك العمل بخبر الواحد لا يوجب الطعن لأنه يحتمل أن يكون ذلك لما عنده من مخصص أو ناسخ أو ما يحمل الأمر به على الندب والنهي على التنزيه أو لم يثبت الخبر عنده. ولأنه ذكر المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة أن عليا أحرق رجلا أتى غلاما في

دبره، وهو بظاهره يدل على أنه أحرقه حيا. ولأنه لو ثبت أنه أحرقه حيا فإنما فعل ذلك بأمر علي، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا بإسناد جيد عن محمد بن المنكدر والواقدي في كتاب الردة في آخر ردة بني سليم أن أبا بكر لما استشار الصحابة في عذاب اللوطي قال علي: أرى أن يحرق بالنار، واجتمع رأي الصحابة على ذلك، فأمر به أبو بكر فأحرق بالنار. وما ذكره بعضهم أن الفجاءة وهو رجل من بين سليم كان يقطع الطريق في خلافة أبي بكر فأتوا به مع رجل من بني أسد يقال له شجاع بن زرقاء ينكح في دبره نكاح المرأة، فتقدم أبو بكر فأمر أن يؤجج لهما نار عظيمة ثم زج الفجاءة فذهب فيها مشدودا فكلما مسته النار سال فيها وصار فحمة ثم زج شجاعا فيها غير مشدود فلما اشتعلت النار في بدنه خرج منها وأحرق بعد زمان فقال الناس في المدينة: "أوحى من عقوبة الفجاءة" فذهبت مثلا؛ فلم يصح. والصحيح إحراق ابن الزرقاء. وعلى فرض صحته فلا مطعن فيه لموافقة علي في ذلك. والمثل لا يدل على أن تلك العقوبة كانت بالإحراق. ومنها أنه لم يعرف ميراث الجدة وحكم الكلالة. والجواب أن عدم العلم ببعض المسائل لا يقدح في الإمامة. روى عبد الله بن بشر

أن علي بن أبي طالب سئل عن مسألة فقال: "لا علم لي بها" ثم قال: "وأبردها على كبدي إن سئلت عما لا أعلم فأقول: لا علم لي بها" رواه سعدان بن نصير. ولأن داود عليه السلام لم يعرف ما هو الحق من الحكم {فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}، ولأن يونس عليه السلام لم يعلم أن الله لا يخلف الميعاد كما زعمت الشيعة على ما سبق. وروى صاحب قرب الإسناد من الإمامية عن إسماعيل بن جابر أنه قال: قلت لأبي عبد الله في طعام أهل الكتاب فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تنزها، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير"، فإن نهيه عن أكل الطعام ثم سكوته ثم أمره آخرا بالتنزه يدل على تردده فيه. ولأن صاحب الزعامة لا يلزم أن يكون عالما بجميع المسائل، فإن طالوت قد آتاه الله الملك مع أنه كان لا يعرف كثيرا من الأحكام الشرعية، وقوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} المراد منه علم الحروب، مع أنه لا يدل على أنه عالم بجميع الأحكام بحيث لا يشذ عن علمه حكم، وإنه لم يكن أعلم من نبي زمانه، بل كان داود عليه السلام أعلم منه. والله الموفق للسداد وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

المطاعن الثانية في حق الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه

المطاعن الثانية في حق الفاروق عمر رضي الله تعالى عنهمنها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما طلب قرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده منع عمر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد الوحي لأنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، ورد الوحي كفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. والجواب أنا لا نسلم أن جميع ما ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وحي، لأنه لو كان كذلك لكان كل ما ينطق به مما علمه شديد القوى، وليس بالاتفاق. والآية لا تدل على ذلك، فإن الظاهر أن الضمير عائد إلى القرآن، وإرجاعه إلى كل ما ينطق تعسف، مع أن مجرد الاحتمال يبطل الاستدلال. ولأن الحق الذي اتفق عليه الفرق الإسلامية حتى الإمامية خلاف ذلك كما سيجيء إن شاء الله تعالى. ولأنه لو كان ينطق به عن وحي لم يعاتب على إذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك واتخاذ الأسرى وتحريم ما أحل الله. ولأن قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ناصّ على أن ليس كل ما ينطق عن وحي، فإنه لو كان الإذن عن وحي لم يقل له {لِمَ أَذِنْتَ}. ولأنهم يعتقدون أن الله تعالى فوّض أمر دينه إليه فحلل ما شاء وحرم ما شاء كما قدمنا ذلك في

مقصد النبوة، فكيف يكون جميع ما يصدر عنه عن وحي؟ روى محمد بن الحنفية عن أبيه قال: قد كان كثر على مارية القبطية أم إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - في ابن عم لها قبطي كان يزورها ويختلف إليها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خذ هذا السيف وانطلق فإن وجدته عندها فاقتله" فلما أقبلت نحوه علم أني أريده وأتى نخلة فرقى إليها ثم رمى بنفسه على قفاه وشعر برجليه فإذا به أجب أمسح ما له ما للرجال لا قليل ولا كثير، قال: فغمدت السيف ورجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: "الحمد لله الذي صرف عنا الرجس أهل البيت". كذا ذكره المرتضى في كتاب الدرر والغرر. فلو كان كل ما ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وحي لكان أمره عليا بقتل القبطي عن وحي، ولا يقول به ذو لب. ولأن عليا خالف أمره - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى محمد بن بابويه في الأمالي والديلمي في إرشاد القلوب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى فاطمة سبعة دراهم وقال لها أعطيها عليا ومريه أن يشتري لأهل بيته طعاما، وقد غلبهم الجوع، فأعطتها عليا وقالت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تبتاع لنا طعاما، فأخذها علي وخرج من بيته ليبتاع طعاما لأهل بيته فسمع رجلا يقول: من يقرض الله الملي الوفي، فأعطاه الدراهم". فقد خالف أمر الرسول وتصرف في مال الغير. ولأن الشريف المرتضى ذكر في الدرر والغرر أن مجرد أمر الرسول لا يقتضي الوجوب. فلذلك راجع النبي - صلى الله عليه وسلم - مراجعة خفيفة في ذلك حيث قال لمن اختلف من أهل البيت وتنازع في الأمر: حسبكم كتاب الله، ولم يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء قصدا للتخفيف عليه عند شدة الوجع وقرب الوفاة مع ما غشيه من الكرب من بعد التكلم. وليست المراجعة حكما بخلاف ما أنزل الله.

وقد راجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه تسع مرات بإشارة موسى الكليم عليه السلام كما ذكر ابن بابويه في كتاب المعراج. وراجع موسى ربه: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ} حيث قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}، فلم تكن المراجعة ردا للوحي. ولأن خبر القرطاس كما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس هو أنه اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جدا فتنازعوا فقالوا: ما شأنه أهجر استفهموه، فذهبوا يروون عنه فقال: "دعوني ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة أو قال نسيتها". وفي رواية: وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال: غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله. وهو يدل على أن أهل البيت اختلفوا في الأمر، وإنما رجح عمر قول من ذهب إلى عدم الاحتياج لما عرف أن الأمر لم يكن جزما منه لأنه لم يبالغ فيه ولم يقل أولا ولا آخرا إن الله أمرني أن أكتب كتابا، فكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بالكتابة حين بدى له مصلحة ثم ظهر له أن المصلحة تركه فلم يكرر القول ولم يبالغ فيه ولم ينكر على من رأى أن المصلحة ترك الكتابة، فسكت عنها وأوصاهم بالأمور الثلاثة.

ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مأمورا باستشارة الصحابة لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وكان عظماؤهم إذا أمرهم بأمر يراجعونه، فإن كان المأمور به جزما ما أمرهم به ولا تركه برأيهم. وقد راجعه علي حين استخلفه على المدينة فقال: "أتخلفني في النساء والصبيان". ولأنه تعالى قال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}، فإنه ناص على أنه قد يوافقهم في بعض من الأمر. ولأنه لو كان مأمورا بها من عند الله لأمضاه ولم يلتفت إلى قول من خالفه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}. ولأن سكوته - صلى الله عليه وسلم - دال على أنه رضي بما أشار به عمر. ولأن الإمامية روت أنه - صلى الله عليه وسلم - رد ما أوحي إليه في غدير خم ولم يأتمر بما أمره ربه، وقد سبق ذلك في مباحث النبوة. ولأنهم رووا عن الأئمة أنهم حكموا بخلاف ما أنزل الله في كثير من الأحكام، وذلك مثل وطئ أمة الغير بإذنه، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وليس المحلَّلة زوجة ولا ملك يمين، وكجواز الصلاة مع الثوب المطلخ بدم الجروح والقروح، وقد قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، وكروايتهم عن الصادق النهي عن تعليم المرأة مسائل الاحتلام، وكروايتهم عن الكاظم النهي عن تعليم الخلق أصول دينهم، وقد أمر الله بذلك. هذا وأقول إن لهذا الكلام تتمة لم يذكرها المؤلف، فإن أحببت الوقوف عليها فارجع إلى ترجمة التحفة أو مختصرها.

ومنها أنه قصد إحراق بيت فاطمة. والجواب أن هذا كذب محض. وقد اختلفت كلمتهم في ذلك فالأكثرون منهم على أنه أحرقه، والآخرون قالوا إنه قصد إحراقه ولم يفعل. وكلا القولين باطل. على أن ذلك لو صح لأفسد عليهم أساس دينهم -أعني التقية- لأنهم زعموا أن ذلك كان بسبب إباء علي عن البيعة، مع أن الواجب عليه بمقتضى ما ذهبوا إليه إظهار البيعة تقية. ومنها أنه أنكر موته - صلى الله عليه وسلم - وحلف أنه لم يمت، ولم يدر أن الموت يجوز عليه حتى تلا أبو بكر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.

والجواب أن إنكار موت شخص في وقت معين لا يستلزم إنكار موته مطلقا. وقوله لما تلا أبو بكر هذه الآية المذكورة كأني لم أسمع هذه الآية لا يدل على عدم علمه بها بل على عدم حضوره، ولأن البشر عند تفاقم أمواج الكرب والأحزام قد يجري على لسانه ما لا يعتقده. ولأن عدم العلم بجواز الموت على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بأعظم من عدم العلم بأنه تعالى يعلم السر وأخفى وأنه منزه عن المكان. وقد صح عند هؤلاء القوم أن موسى كليم الله لا يعلم ذلك. ومنها أنه كان لا يعلم المسائل الشرعية، فأمر برجم امرأة حاملة فقال له أمير المؤمنين: إن كان عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها من سبيل، فقال عمر: لولا علي لهلك عمر. وأراد أن يرجم مجنونة فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يبرأ ويعقل وعن الطفل حتى يحتلم". ولم يعلم أن الميت لا يحد فإنه غير مكلف، وقد ضرب ابنه أبا شحمة حد الزنا ولم يتم مائة جلدة حتى مات فضربه ما بقي بعد موته. ولم يعلم حد

شرب الخمر. وأنه لقن الشهود. فهذه كلها تدل على قلة معرفته. والجواب عن رجم الحاملة أنه لم يثبت، وعلى ثبوته فلعله لم يعلم بالحمل. وهو وإن كان محتاطا في الأحكام يمكن أن يطرأ عليه ذهول أو نسيان، وقد نسي آدم وموسى وفتاه كما نطق به الكتاب، ونسي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه الكليني وأبو جعفر الطوسي عن أبي عبد الله كما تقدم، وكذا الأئمة كما رواه الطوسي عن [عبيد الله] الحلبي: "أن الإمام أبا عبد الله كان يسهو في صلاته ويقول في سجدة السهو: بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وعلى آل محمد". وقوله: "لولا علي لهلك عمر" أراد به ما يعتريه من الحزن والغم بعد العلم بكونها حامل. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل القبطي بمجرد التهمة من غير جرم واحتياط منه في القتل. أو إن عمر علم بالحمل لكنه لم يعلم أنه نفخ فيه الروح، وإذا كان الحمل مضغة أو علقة يجب الحد لعدم الحياة ولا حجة للمنكر. ولأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر عليا بإقامة الحد على امرأة حديثة بنفاس فلم يقمه خشية أن تموت، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:

أحسنت دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد. وأما إرادة رجم المجنونة فلم يثبت عند أهل السنة. وعلى فرض ثبوته فلعله لم يعلم بجنونها، كما لم يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفاس المرأة، وذلك لسكوتها وفقد أمارات الجنون. وعلى فرض علمه بجنونها يحتمل أن جنونها لم يبلغ إلى درجة المنع من الحد، فلما روى علي الحديث عمل بإطلاقه أو علم أن عليا كان أعلم بها منه. ولأن ابن بابويه القمي روى في فقيه من لا يحضره الفقيه أن عليا كان يأمر بإقامة حد السرقة على الصبي قبل أن يحتلم. وهذا يدل دلالة صريحة بأنه لم يعمل بما رواه وخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعمر أراد إقامة الحد على من رفع عنه القلم مرة واحدة مع احتمال الذهول وعدم العلم بالمانع، وعلي أمر بإقامة حد السرقة على كل صبي يسرق وحكم به حكما جازما ومؤبدا مع علمه بكونه لم يحتلم. فلا يسوغ لهم الطعن على عمر في ذلك. وأما حد الميت فهو أيضا من مفترياتهم. والصحيح أنه ضربه مائة جلدة ومات بعد حين من الحد. وأما حد شرب الخمر فإنه لم يقدّر في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشرب الخمر حد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحد شارب الخمر بضرب الجريد

والنعال، وضرب مرة شارب خرم بجريدتين نحو أربعين كما رواه مسلم في صحيحه. ثم جلد أبو بكر أربعين. ثم لما أفضت الخلافة إلى عمر استشار الصحابة في حد الخمر فقال له علي: "أرى أن تجلد ثمانين جلدة"، واتفق على ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد صح ذلك عن الإمامية كما ذكره الحلي في منهاج الكرامة. وأما تلقين الشاهد فكذب أيضا. والصحيح ما ذكره ابن جرير الطبري والإمام البخاري والحافظ عماد الدين بن الأثير والحافظ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي والشيخ شمس الدين المظفر سبط ابن الجوزي في تواريخهم هو: أن المغيرة بن شعبة كان أمير البصرة وكان الناس يلقونه فكتبوا إلى عمر أنه زنى بامرأة يقال لها أم جميل وعليه شهود، فأمر أن يقدموا عليه جميعا المغيرة والشهود، فلما قدموا مجلس عمر فدعا بالمغيرة والشهود فتقدم واحد منهم فقال: رأيته بين فخذيها، فقال عمر: لا والله حتى

تشهد أنك رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة، فقال: نعم أشهد على ذلك، ثم دعا شاهدا آخر فقال: علام تشهد؟ فقال: على شهادة الأول، فقال: هلا تشهد أنه يولج فيها ولوج المرود في المكحلة؟ قال: نعم حتى بلغ قدره، ثم دعا الشاهد الثالث فقال له: علام تشهد؟ فقال: على شهادة صاحبيّ، ثم دعا الرابع وكان غائبا، فلما حضر قال: ما عندك؟ قال: يا أمير المؤمنين رأيته جالسا ونفسا حسيسا وانتهازا، ورأيته مستبطنها ورجلين كأنهما أذنا حمار، فقال عمر: رأيته كالميل في المكحلة؟ فقال: لا، فأمر عمر أن يضرب كل من الشهود ثمانين سوطا. وقد روى ابن بابويه القمي في الفقيه أنه جاء رجل إلى أمير المؤمنين وأقر بالسرقة إقرارا تقطع به يده فلم يقطعها. ومنها أنه منع عن المغالاة في المهر. فقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين أن عمر بن الخطاب أمر على المنبر أن لا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكّرته امرأة من جانب المسجد بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ

وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر. والجواب أنه ليس فيما ذكر طعن على عمر أصلا. وأما تسليمه للمرأة فلم يكن عجزا عن جوابها وإنما كان لمزيد أدبه مع كلام الله تعالى، إذ لا يليق بحال أهل الإيمان أن يصرفوا بإزائه فنون العلم وتوجيهات الجرح وأن يتكلموا بلم، بل لا يستقيم لهم إلا التسليم لظاهر الكلمات. وليس مقصود المرأة من تلاوة هذه الآية إثبات رضاء الله تعالى بمغالاة المهور، وإلا لكان ذلك مخالفا لفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - معاني الكتاب، لأن النهي عن ذلك وارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقد روى الخطابي في غريب الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تياسروا في الصداق فإن الرجل يعطي المرأة حتى يبقى في نفسه حسيكة". وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من خير النساء أيسرهن صداقا". وعن عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم -

أنه قال: "يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها". وروى أحمد والبيهقي مرفوعا بإسناد جيد: "أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا". وغاية ما يثبت من الآية جواز المغالاة ولو مع الكراهة، مع ذلك إن الآية ليست نصا في أن هذا القنطار مهر، إذ يحتمل أن يكون عطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر، فإن الزوج لا يصح له الرجوع عن هبة زوجته خصوصا إذا أوحشها بالطلاق، والنهي عما يجوز لمصلحة هي نصيحة للمؤمنين في حفظ أموالهم من الإضاعة والإسراف لا شك في جوازه. فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - زيدا عن طلاق زينب مع أن الطلاق جائز بلا شبهة. وقد نهى علي أهل الكوفة عن تزويج الحسن مع أن التزويج جائز بلا شبهة حيث قال: "يا أهل الكوفة لا تجوزوا الحسن فإنه مطلاق للنساء". وأما قوله: "كل أحد أعلم من عمر" فإنه من باب التواضع وحسن الخلق، فإنه لو أبطل استنادها بالتوجيهات الحقة لم ترغب بعد ذلك في استنباط المعاني من كتاب الله، فأظهر ذلك استحسانا لها واعترافا بالقصور على نفسه على زعمها ليكون بعد ذلك لها ولغيرها تحريض على تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه. وهذه منقبة عظيمة لعمر مخصوصة به. وإلا فأي رئيس ذي اقتدار يرضى أن يكون مغلوبا لامرأة يحضور الأعيان والأكابر؟ فالطعن عليه بهذه القصة من عدم الإنصاف. ولو فرضنا أن عمر لم يتأت له ارتجالا جوابا ما لكنه كان يمكنه أن يقول: اقتلوا هذه المرأة فإني أذكر سنة النبي وهذه الجاهلة تقابلها بالكتاب، ألم يفهم النبي معاني الكتاب كما هي وتفهم هذه المرأة أحسن منه؟

وقد صدر من علي هذه القصة، فقد أخرج ابن جرير وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال: سأل رجل عليا عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، قال علي: أصبت وأخطأنا، وفوق كل ذي علم عليم. وينبغي أن يعلم أن عمر لو لم يعلم المسألة وفهمها غيره بأحسن وجه لا يسلب لياقة الإمامة كما في قصة داود وسليمان عليهما السلام. فقد روى ابن بابويه في الفقيه عن أحمد بن عمر الحلبي قال: سألت أبا الحسن عن قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} قال: حكم داود برقاب الغنم، وفهّم الله سليمان الحكم لصاحب الحرث لينتفع بمنافعها من اللبن والصوف ويدفع الأرض إلى صاحب الغنم ليبذر ويزرع له، فإذا بلغ الحرث كهيئة يوم أكل يدفعه إلى أهله ويأخذ غنمه". ولو فرضنا أن الله تعالى فهم امرأة حكم مسألة واحدة ولم يفهمه عمر لا يضر عمر ذلك كما لم يضر داود في مثل هذه الواقعة. ومنها أنه منع أهل البيت خمسهم الذي هو سهم ذوي القربى لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}. والجواب أن الأئمة ليسوا بنص المدعى لاحتمال أنهم مصارفه لا على سبيل الاستحقاق، فجاز الاقتصار على صنف واحد. وقد ذهب الإمامية إلى أنه يجوز أن يخص بالخمس طائفة، نص عليه أبو القاسم الملقب عندهم بالمحقق صاحب الشرائع والأحكام وغيره، ومستنده ما روي عن الأئمة الكرام. ولأن أمير المؤمنين لم يخالفه في قسمة

الخمس. وقد ثبت أنه خالف عمر وغيره من الخلفاء في مسائل توافق رأيه. وقد أخرج الطحاوي والدارقطني عن محمد بن إسحاق أنه قال: "سألت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أن علي بن أبي طالب لما ولي أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى؟ قال: سلك به والله مسلك أبي بكر وعمر". وزاد الطحاوي: "فقلت فكيف أنتم تقولون ما تقولون؟ فقال: والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه". ولأن رواية المنع معارضة برواية الإعطاء. فقد أخرج أبو داود عن [عبد الرحمن] بن أبي ليلى عن علي: "أن أبا بكر وعمر قسما سهما لذوي القربى". وأخرج أبو داود أيضا عن جرير بن مطعم: "أن عمر كان يعطي ذوي القربى خمسهم". ولأنه لم يرو أحد أن عمر منع جميع ذوي القربى حقهم، فلعله منع من له

ثروة وصرفه إلى من هو دونهم. ولا محذور في ذلك. ومنها أنه أحدث في الدين ما لم يكن منه كصلاة التراويح. والجواب أن صلاة التراويح لم تكن محدثة، فقد صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث ليال من رمضان جماعة، ولم يجرها مجرى سائر النوافل كما رواه أبو داود والترمذي وصححه وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي ذر، ولكن لم يواظب عليها، وبيّن العذر في تركه المواظبة على ذلك بقوله: "إني خشيت أن تفرض عليكم" لما أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - "صلى في المسجد وصلى بصلاته ناس، ثم صلى - صلى الله عليه وسلم - من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا في الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي [صنعتم] فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت [أن تفرض] عليكم»، وذلك في رمضان". وقد نبه على العلة لتشعر بثبوت الحكم عند ارتفاعها، فهي سنة وليست ببدعة. وقول عمر: "نعمت البدعة هي" فإنما أراد بها معناها اللغوي، وهو المحدث، لأنها اسم من الابتداع بمعنى الإحداث كالرفعة من الارتفاع، وعنى بها المواظبة على الجماعة. ولأن البدعة هي ما أحدث في الدين وليس له أصل في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

وسنة الخلفاء الراشدين ليست من البدعة في شيء لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» أخرجه الترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارية. فإنه ناص على أن فعل الخلفاء ليس من البدعة. وكذا إجماع الأمة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجتمع على ضلالة". وقد سبق أن الأئمة أحدثوا صلاة الغدير وصلاة النيروز وصلاة يوم وفاة عمر، وغير ذلك مما هو مذكور في كتبهم. فكيف يطعنون على عمر في ذلك؟

ومنها أنه قضى في الجد مائة قضية. والجواب أن هذا لا أصل له، بل هو من مفترياتهم. وعلى فرض التسليم إنا لا نسلم أن الحد الذي قضى فيه قد قدّر له عدد معين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمدعي مطالب بالدليل. وقد ذكر غير واحد من الإمامية أنه قضى في حد الخمر، فلا طعن حينئذ، لأن حده لم يكن مقدرا في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام كما سبق، ولأنه يحتمل أن تكون الزيادة على الثمانين لأمر آخر كما زاد على الثمانين حين أتي بالنجاشي الحارثي الشاعر قد شرب الخمر في رمضان، كما رواه محمد بن بابويه القمي في فقه من لا يحضره الفقيه.

ومنها أنه نهى عن متعة النساء ومتعة الحج، وقد كانتا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنسخ حكم الله وحرم ما أحل الله. والجواب أن نهيه عن متعة النساء لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها نهيا مؤبدا يوم أوطاس. فقد أخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه قال: "رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة [عام] أوطاس ثلاثا ثم نهى عنها". وإنما رخص للمضطرين من العسكر لا جميع المسلمين، كما رخص للزبير لبس الحرير لدفع تولد القمل، ثم نهاهم نهيا مؤبدا. وأخرج أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا». وروى مالك وجماعة من المحدثين عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما أنه قال: "أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي بالنهي عن المتعة". وتحريمها بعد أن كان أمر بها، فمن بلغه النهي انتهى عنها، ومن لم يبلغه النهي كان يقول

بالإباحة، فلما علم ذلك عمر في إبان خلافته نهى عنها وبالغ في النهي. ولأن الله تعالى لم يحل للرجال من النساء إلا الزوجة والسرية. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، وهذه الآية نص على حرمة المتعة لأن المرأة التي في عقد المتعة ليست من الأزواج لما رواه أبو بصير عن الصادق: أنه سئل عن المتعة أهي من الأربع؟ قال: "لا ولا من السبعين". ولانتفاء أحكام الزوجة عنها من العدة والإيلاء والظهار والإحصان واللعان والإرث، ولا هي من ملك اليمين، وهو ظاهر. ولأن الاستمتاع بالنساء إنما يحل إذا صار الزوج محصنا لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} والمتمتع ليس بمحصن. واستدلوا على إباحة المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وذلك من وجهين: الأول أنه لو لم تحمل عليها لزم أن لا يجب شيء من المهر على من لا ينتفع من الزوجة الدائمة لأنه تعالى علق إيتاء الأجر بالاستمتاع فلا يجب بدونه، وهو خلاف الإجماع فإن الإجماع على أنه لو طلقها قبل أن يمسها يلزم نصف المهر وإلا لزم المهر. الثاني أن المتعة بمعنى العقد المؤقت حقيقة شرعية وفي غيره مجاز، فلو حمل على غير المتعة لزم المجاز ولا يصار إليه من غير ضرورة. والجواب عن الأول أن الآية إذا دلت على عدم لزوم شيء من المهر فيما ذكر لا يضر لأن

النصف إنما ثبت بالسنة والإجماع ولأنه سبحانه علق إيتاء الأجر بالاستمتاع، والنصف ليس بأجر لأن الأجر بأداء العمل. وعن الثاني أنا لا نسلم أن المتعة حقيقة شرعية فيما ذكر لاحتمال أن تكون حقيقة لغوية أو عرفية، وإنما يثبت ذلك لو ثبت أن هذا العقد لم يكن في الجاهلية أو كان ولم يكن مسمى بهذا اللفظ، ودون إثبات ذلك خرط القتاد. ولأن المراد بالنساء الزوجات، ومن التمتع التمتع بالوطئ بالنكاح، فإن [ذلك] مسوق لبيان ما أحل من النساء وإيتاء ما فرض لهن من مهورهن أو بملك اليمين وما حرم منهن، ولأن قوله تعالى: {مِنْهُنَّ} نص على أن المراد بالاستمتاع الوطئ بالنكاح دون المتعة، فإن المتمتع ليس بمحصن. قال البهائي في كتابه المسمى بوسائل الشيعة: "إن من تمتع لا يكون محصنا ومن تزوج أو وطأ بملك اليمين يكون محصنا". واستدل على ذلك برواياته عن أهل البيت وأطال الكلام في ذلك، فلا يجوز أن يستدلوا على الإباحة ولا يجوز حمل الإحصان على التعفف لأن الإحصان لفظ شرعي معناه تحصين النفس عن الوقوع في الزنا. واستدلوا على الإباحة أيضا بما في مصحف مسعود: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} "إلى أجل مسمى". وكان ابن عباس يقرأ كذلك وكذا أبي بن كعب. والجواب أن هذه القراءة غير ثابتة عند أهل السنة. ولو سلمنا ثبوتها فهي قراءة منسوخة وهي لا تستعمل في إثبات الأحكام مع كون القراءة المشهورة بل المتواترة تخالفها. ولو سلمنا ذلك لا نسلم دلالتها على المتعة أيضا لأن لفظ "إلى أجل مسمى" متعلق بالاستمتاع لا بنفس العقد، والمدة المتعينة في المتعة إنما تكون بنفس العقد لا بالاستمتاع.

وأما ما يحكى عن عبد الله بن عباس في المتعة من إباحتها عند الاضطرار فقد رجع عنه كما ورد في روايات صحيحة منها ما رواه ابن النحاس عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس: "إنك رجل تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة". وكان هذا هو السبب لرجوع ابن عباس عن القول بإباحتها إلى القول بأنها منسوخة. وأخرج الطبراني والطيالسي عن سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: لا أفتي بحل المتعة، أتدري ما صنعت ربما أفتيت فسارت بفتياك الركبان وقالت فيها الشعراء، قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: قد قال لي الشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا أحللت منها إلا ما أحله الله من الميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرج البيهقي من طريق ابن شهاب الزهري قال: "ما مات ابن عباس حتى رجع عن هذه الفتيا". وروى الترمذي عن ابن عباس قال: "إنما المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزل قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال ابن عباس: كل فرج سواهما فهو حرام.

هذا والمتعة التي تزعم الرافضة إباحتها هي أن يقول الرجل للمرأة: متعيني بنفسك مدة كذا بكذا، وتقول المرأة: قبلت، من غير حضور شهود. وهي التي أباحها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عند الضرورة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا مؤكدا. ولو قال لها متعيني بنفسك بكذا وذكر قدرا من المال بحضور الشهود وقبلت المرأة ثم قال: إذا مضت مدة كذا فأنت علي حرام أو أنت طالق، صح عند أبي حنيفة وغيره من الفقهاء. وكذا لو وكلته امرأة بأن يزوجها من نفسه بمحضر من الشهود: وكلتني فلانة بأن أزوجها من نفسي فزوجتها من نفسي على صداق كذا وإذا مضى شهر فهي علي حرام وكان كفؤا له صح النكاح عند الحنفية خلافا لزفر، وإذا مضى الشهر حرمت المرأة عليه. وكذا لو قال زوجت نفسي من موكلتي وجعلت أمرها بيدي صح عند الحاكم الشهيد، كما ذكره في المنتقى، وكذا عند الخصاف. قال شمس الأئمة الحلواني: لا يجوز عند مشائخنا ومشائخ بلخ ما لم يذكر اسمها. وأما متعة الحج، أعني تأدية أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته، فعمر لم يمنعها قط. ورواية منعها عنه افتراء صريح. نعم إنه كان يرى إفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القِران، أو في سفر واحد وهو التمتع، وعليه الإمام الشافعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وغيرهم لقوله

تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. فأوجب سبحانه الهدي على المتمتع لا على المفرد لما فيه من النقصان، كما أوجبه تعالى في الحج إذا حصل فيه قصور ونقص. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - حج في حجة الوداع مفردا، واعتمر في عمرة القضاء وعمرة الجعرانة كذلك ولم يحج فيها، بل رجع إلى المدينة مع وجود المهلة. وأما ما رووا من قول عمر: "وأنا أنهى عنهما" فمعناه أن الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب وهو قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} إلا أن يحكم عليهم الحاكم أو السلطان ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه، فلذلك أضاف النهي إلى نفسه، فالإضافة إضافة مجاز والمراد أنا أظهر النهي، كما يقال نهى الشافعي عن شرب كل مسكر قليلا كان أو كثيرا. والإضافة لأدنى ملابسة شائعة. على أنه صح عند الإمامية أن الأئمة أباحوا التحليل ففسخوا حكم الله وحللوا ما أحل الله.

المطاعن الثالثة في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه

المطاعن الثالثة في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهمنها أنه ولى أمر المسلمين من ظهر منه الخيانة. والجواب أنا لا نسلم ذلك، بل إنه ولى من كان له حسن الظن به ولم يعلم الغيب، والمرؤ إنما يعرف بالمعاملة، ومن ظهر منه الخيانة عزله. ولأن أمير المؤمنين ولّى غير واحد ممن ظهر منه الخيانة، منه بعض بني أعمامه كما يدل عليه كتابه الذي في نهج البلاغة، وهو هذا: "أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن رجل في أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب والعدو قد حرب وأمانة الناس قد خزيت وهذه الأمة قد فنكت (أي بعدت) وشغرت (اشتدت) قلبت لابن عمك ظهر المجن ففارقته مع المفارقين وخذلته مع الخاذلين وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن على بينة من ربك وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم وتبتغي غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة وعاجلت الوثبة واختطفت ما قدرت عليه من الحملة أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من أخذه كأنك لا أبا لغيرك حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك، فسبحان الله أما تؤمن بالمعاد؟ أوَما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما

وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد، فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار" الخ. ومنهم المنذر بن الجارود العبدي، وقد كتب له هذا الكتاب وهو في النهج أيضا: "أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رتي (أي رفع) لي عنك لا تدع لهواك انقيادا ولا تبقي لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك ومن كان بصفتك، فليس بأهل أن يسد به ثغر أو ينفذ به أمر أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة أو يؤمن على جباية، فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله". مع أن عليا يعلم أحوال من يوليه لأن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة بإجماع الإمامية، فقد روى محمد بن يعقوب الكليني وغيره بأسانيدهم ما ينص على ذلك. وقد ولّى زيادا المتجسم من محض الفساد، بل هو بشهادته على نفسه وشهرة ذلك بين أبناء جنسه. ولو ذكرنا نبذة من قبيح أفعاله وشيئا من فحش أقواله لاسود وجه

القرطاس وهان فعل إبليس بالنسبة إلى فعله لدى الناس. ومن طالع مكاتبات الأمير كرم الله تعالى وجهه المذكورة في النهج تبين له حال عماله بأوضح حجج. ومع ذلك لم يتفوه أحد بالاعتراض على الأمير، وأنى يتسنى لأحد التصدي لمثل هذا الأمر الخطير. ولكن الرافضة قاتلهم الله تعالى يخبطون خبط عشواء ولا يستحون من الكلمة العوراء. ومنها أنه أدخل الحكم أبا المروان ابن أبي العاص المدينة، وقد طرده النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبعده عن المدينة وامتنع أبو بكر وعمر عن رده. والجواب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما أخرجه لحبه المنافقين وتهييجه الفتن بين المسلمين ومعاونته الكفار وميله إلى الفجار، ولما زال الكفر والنفاق بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وقوي الإسلام في خلافة الشيخين لم يبق محذور من إرجاعه إليها. وقد تقرر لدى الفريقين أن الحكم إذا علل بعلة ثم زالت زال، وقد سبق ذلك. وعدم إرجاع الشيخين إياه لما حصل عندهما من ظن بقائه على ما كان عليه في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد ارتفع ذلك عن عثمان زمن خلافته لأن الحكم كان ابن أخيه. على أن عثمان قال لما اعترضوا عليه بذلك إني كنت أخذت الإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته على دخول الحكم المدينة. وعدم قبول الشيخين ذلك لعدم كفاية شاهد واحد. فلما آلت الخلافة إلى عثمان عمل بما علم.

ومنها أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال ويقدمهم على غيرهم من الرجال. والجواب على فرض التسليم أن عثمان بذل ذلك من ماله وكان كثير المال ثريا قبل أن يكون خليفة، حتى أنه رضي الله تعالى عنه كان يعتق في كل جمعة رقبة وكان يضيف المهاجرين والأنصار كل يوم. وقد روي عن الحسن البصري أنه قال: "إني شهدت على منادي عثمان ينادي: يا أيها الناس اغدوا على أرزاقكم، فيغدون فيأخذونها وافية، حتى والله سمعته يقول: اغدوا على كسوتكم فيأخذون الحلل". ومن راجع كتب السير علم درجة كرمه. وهكذا شأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومنها أنه حمى الحمى عن المسلمين مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهم سواء في الماء والكلأ. والجواب أنا لا نسلم أن الأرض التي حماها مما لا يجوز حميها لأنه على ما روي أنه

حمى أرضا كانت ملكا له قد تركها للمسلمين ثم حماها لما سنح له، ولأنه حماها لأجل خيل المجاهدين سنة الجدب. ومنها أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسرت أضلاعه، وقدم على عمار بن ياسر بالضرب حتى حدث به فتق، وأنه ضرب أبا ذر ونفاه إلى الربذة. والجواب أن ضرب عبد الله بن مسعود لم يثبت في كتب أهل السنة. وأما ضرب عمار فبغير علم عثمان، بل إنما ضربه بعض غلمانه حيث لم يعرفوا جلالة قدره ونباهة شأنه، حتى لما أخبر عثمان بذلك اعتذر منه حتى رضي رضي الله تعالى عنه، وحدوث الفتق من مفتريات الشيعة. وأما ضرب أبي ذر ونفيه إلى الربذة فلم يصح، وإنما خرج إلى الربذة باختياره، فقد ذكر الطبري وابن الجوزي وابن عبد البر أنه خرج بعد وفاة أبي بكر من المدينة إلى الشام فلم يزل بها حتى ولي عثمان فكتب معاوية إليه يشكو أبا ذر لأنه كان قوالا بالحق وكان يغلظ في القول فكتب إليه عثمان يطلبه إلى المدينة فلما نصحه عثمان بحسن العشرة فقال أبو ذر أستاذن منك أن ألحق بفلاة من الأرض، فخرج من المدينة حاجا أو معتمرا فلما قضى نسكه رجع وسكن في الربذة غير منفي ومات بها.

ومنها أن الصحابة تبرؤا منه ولم يدفنوه بعد موته ثلاثة أيام ولم ينكروا على من أجلب عليه من الأمصار بل سلموه ولم يدافعوا عنه. والجواب أن هذا كذب صريح، لأن الصحابة لم يقصروا في الذب عنه، وكان أمر الله قدرا مقدورا. وقد جاءوا إلى عثمان وفيهم عبد الله وزيد بن ثابت وكل منهما متقلد سيفه فقال له زيد: "إن الأنصار يقولون إن شئت كنا أنصار الله، مرتين، قال: لا حاجة لي في ذلك". وكان معه في الدار الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأبو هريرة وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وكل منهم شاكي السلاح، فعزم عليهم في وضع أسلحتهم وخروجهم ولزومهم بيوتهم فخرجوا وقال: "لئن أقتل قبل الدماء أحب إلي من أن أقتل بعد الدماء". ولما خرجوا من داره بعث أمير المؤمنين بنيه وأولاد أخيه جعفر ومولاه قنبر وكل منهم شاكي سلاحه، وبعث الزبير وطلحة وكثير من الصحابة

أبناءهم وعبيدهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، فقاموا على بابه حتى خضب الحسين بالدماء حين رمى عليه الناس بالسهام وخضب محمد بن طلحة وشج قنبر، فلم يقدر أحد ممن أراد قتله أن يدخل عليه من باب داره فتسوروا من دار بعض الأنصار. وقد ثبت عن الفريقين أن أمير المؤمنين قال: "والله قد دفعت عنه" كما في نهج البلاغة. وذكر غير واحد من الشارحين أنه بالغ في الذب عنه وأنه كان يضرب محاصري عثمان ويغلظ عليهم في الشتم. وكان عبد الله بن سلام يدخل عليهم ويقول لا تقتلوه. وكان حذيفة يحذرهم من قتله. ذكر ذلك القرطبي في التذكرة. أما ترك الدفن فقد ذكر المحققون من أهل السنة ومنهم صاحب التحفة أنه لم يتأخر الدفن بل دفن بثيابه الملطخة بالدم ليلا، وقد شيع جنازته جمع من الصحابة والتابعين. فما نقل صاحب الأصل عن القرطبي من أنه رضي الله تعالى عنه ألقي على المزبلة فأقام فيها ثلاثة أيام لا يصح، وقد شنع عليه أكثر من واحد في إيراد ذلك. ومنها أنه ترك القود الواجب على عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان ملك الأهواز، وكان مسلما. والجواب أن الثقاة من المؤرخين ذكروا أن عمر لما قتله أبو لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة أُخبر عبيد الله ابنه أنه فعل ذلك بإشارة ملك الأهواز هرمزان، فلما رجع من

دفن أبيه دخل دار الهرمزان فقتله، فلما آل أمر الخلافة إلى عثمان استرضى أهله. وأقر ذلك الطبري وغيره من مؤرخي المحدثين. ولأن جميع ورثته لم يكونوا في المدينة. وقد ثبت أنه كان للهرمزان جماعة في فارس لم يقدموا عليه خوفا، نص عليه المرتضى وغيره من علماء الفريقين: ولأنه لم يكن عند قتله من يشهد عليه. ولأن عليا ترك القود الواجب على قتلة عثمان مع كثرة المطالبين به من الورثة وغيرهم حتى هاجت بسبب ذلك فتن كثيرة. ومنها أنه غير الشريعة وخالف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث صلى الظهر والعصر بمنى أربعا أربعا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتين. والجواب أن عائشة أم المؤمنين روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلا من الإتمام والقصر. ويؤيده قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. وقد صحح الدراقطني الإتمام عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مذهب جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين كمالك بن أنس والشافعي وأحمد والطحاوي وابن أبي شيبة وأبو عمر بن عبد البر. وروي أن عثمان لما صلى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه فقال: "يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:

من تأهل ببلد فليصل صلاة المقيم". وقد كان قبل يصلي ركعتين كما أخرج الشيخان عن حفص بن عاصم. والله الهادي إلى سواء السبيل.

المطاعن الرابعة في أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها

المطاعن الرابعة في أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنهامنها أنها خرجت إلى البصرة وقد نهاها الله تعالى عن الخروج وأمرها بالاستقرار في منزلها، فقال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}، فهتكت حجاب الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وتبرجت في محفل يزيد على ستة عشر ألفا. والجواب أن الأمر بالاستقرار في البيوت والنهي عن الخروج ليس بمطلق. ولو كان مطلقا لما أخرجهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الآية إلى الحج والعمرة والغزوات ولا رخص لهن بزيارة الوالدين وعيادة المريض وتعزية أقاربهن. واللازم باطل فكذا الملزوم. والمراد من هذا الأمر والنهي تأكيد التستر والحجاب بأن لا يدرن ولا يحمن في الطرق والأسواق كنساء العوام. ولا منافاة بين الخروج وبين التستر والحجاب. ألا ترى أن المخدرات من نساء الأمراء والملوك يخرجن من بلد إلى بلد ومعهن جمع من الخدم والأتباع. ولا سيما إذا كان السفر متضمنا لمصلحة دينية أو دنيوية كالجهاد والحج والعمرة. وسفر أم المؤمنين كان من هذا القبيل، لأنها خرجت لإصلاح ذات البين وأخذ القصاص من قتلة عثمان المقتول ظلما وعدوانا، وذلك لا يعد تبرجا. ويجاب أيضا بأن ما طعنوا به أم المؤمنين وجد في فاطمة أيضا لما ثبت في كتبهم بطريق التواتر أن الأمير قد أركب فاطمة على مطية وطاف بها محلات المدينة ومساكن الأنصار طالبا منهم الإعانة على ما غصب من حقها زمن خلافة الصديق.

ويجاب أيضا بأن جميع رجال المؤمنين أبناء لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاتفاق، وجميع من كان مع الصديقة في سفرها فهم أبناؤها. ولذا طلبت القصاص من القتلة، فلا إشكال في الطلب أيضا. ومنها أنها خالفت أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى نعيم في كتاب الفتن وابن مسكويه في تجارب الأمم وابن قتيبة في كتاب السياسة: أنه لما انتهى عسكر عائشة إلى ماء الحوأب نبحها كلابه، فقالت لمحمد بن طلحة: أي ماء هذا؟ قال: ماء الحوأب، فقالت: ما أراني إلا راجعة، قال: ولم؟ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لنسائه: كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب، فإياك أن تكوني أنت يا حميراء. فإنها مع تذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - أصرت على ذلك ولم ترجع.

والجواب أن الثابت عندنا أنها لما علمت ذلك وتحققته من محمد بن طلحة همّت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه، ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم على ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس بحوأب. على أن "إياك أن تكوني يا حميراء" ليس موجودا في الكتب المعول عليها عند أهل السنة، ولا في الكتب الثلاثة. فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد، [على أنه] لو كان فلا يرد محذور أيضا لأنها اجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان، وحيث علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة. وليس في الحديث بعد هذا النهي أمر بشيء لتفعله، فلا جرم مرت على ما قصدته من إصلاح ذات البين المأمورة به بلا شبهة. والحوأب كجعفر منزل بين البصرة ومكة. ومنها أنها كانت تظهر العداوة لعلي وقد فرض الله تعالى عليها محبته، وهي التي حرضت الناس على قتل عثمان. والجواب أنا لا نسلم أن عائشة كانت كذلك مع علي، فإنها كانت تروي أحاديث عديدة في فضائله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. منها ما أخرجه الديلمي عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حب علي عبادة. ولم تخرج عليه

لتقاتله بل لإصلاح ذات البين كما سبق. والتحريض على قتل عثمان من المفتريات، فإنها تعترف بأنه إمام مفترض الطاعة. فقد أخرج الترمذي وابن ماجه عنها أنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعثمان: "يا عثمان لعل الله يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم"، وفي رواية: "لا تخلعه" ثلاثا. وما ذكره ابن قتيبة: "أن عائشة أتاها خبر بيعة علي وكانت خارجة من المدينة فقيل لها: قتل عثمان وبايع الناس عليا، فقالت: ما أبالي أن تقع السماء على الأرض قتل والله مظلوما وأنا مطالبة بدمه، فقال عبيد: أول من دس عليه وأطمع الناس فيه لأنت وقد قلت اقتلوا نعثلا فقد فجر، قالت عائشة: والله قد قلت وقال الناس، فقال عبد: منك البداء ومنك الغير ... ومنك الريح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد فجر

ولما أتاها أن أهل الشام ردوا بيعة علي أمرت أن يعمل لها هودج من حديد، فخرجت ومعها طلحة والزبير وابناهما" - فهو كذب لا أصل له. وأكثر ما يذكره ابن قتيبة وابن أعثم الكوفي والسمساطي في كتبهم من هذا القبيل، فلا يعتمد عليه. ومنها أن عسكرها لما خرجوا من مكة نهبوا بيت مال المسلمين وقتلوا جمعا من عمال علي وأخرجوا عامله عثمان بن حنيف الأنصاري مهانا، مع أنه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والجواب أن ذلك لم يثبت بروايات صحيحة لأنها خرجت لإصلاح ذات البين ولم تأمر أحدا بذلك. فإن وقع شيء فإنه وقع بغير رضاها من بعض جهلة العسكر ولم تعلم به، حتى

قيل إنها لما علمت ما جرى بعثمان بن حنيف اعتذرت له واسترضته. ولأن مثل هذا وقع لعسكر الأمير مع أبي موسى الأشعري فقد أحرقوا بيته ونهبوا متاعه لما دخلوا الكوفة، ومنهم مالك بن الأشتر. ومنها أنها أفشت سر النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}. والجواب أن إفشاء السر وقع من حفصة لا غير بإجماع المفسرين، وذلك أنها رأت

النبي - صلى الله عليه وسلم - مع مارية في فراشها من ثقب الباب، وقال لها: إني حرمت مارية على نفسي فاكتميه ولا تفشيه، فذهبت حفصة وبشرت عائشة بذلك. ومن مزيد فرحها اشتبه عليها الأمر فظنت أن الذي أمرت بكتمانه هو ما رأته من الشق لا التحريم. وقد عد ذلك الإفشاء من حفصة معصية وقد تابت عنها. وما ذكرناه ثابت أيضا في تفسير مجمع البيان للطبرسي أحد علماء الإمامية. ومنها أنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة وما رأيتها قط ولكن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها. والجواب أن الغيرة أمر طبيعي في النساء، ولا مؤاخذة على الأمور الجبلية. نعم لو صدر قول أو فعل مخالف للشرع للغيرة تتوجه الملامة. وفي الحديث الصحيح أن بعض أمهات المؤمنين غارت على الأخرى حين أرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

طعاما لذيذا وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك في بيت من تغار، فأخذت الطبق من يد خادمتها فضربت به على الأرض حتى انكسر الإناء وانصب الطعام، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك الطعام بنفسه فاجتباه وجمعه من الأرض وقال: «قد غارت أمكم» ولم يعاتبها ولم يوبخها. فكيف يسوغ لأفراد الأمة أن يجعلوا أمهات المؤمنين هدفا لسهام مطاعنهم؟ نسأل الله تعالى العصمة من الزلل. ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ههنا الفتنة ثلاثا من [هنا] يطلع قرن الشيطان، وأشار نحو مسكن عائشة. والجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى ناحية المشرق وكانت حجرة عائشة في ناحية المشرق. ويؤيده قوله: "من حيث يطلع قرن الشيطان". فإنه صح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال إن الشمس حين تطلع "تطلع بين قرني الشيطان". وقد رواه الشيعة بأسانيد صحيحة عندهم. وقد جاء في رواية أنه أشار إلى الشرق وقال ذلك.

وفي رواية عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان. ولأنه لو كانت عائشة فتنة لوجب على الله تعالى أن لا ينهى نبيه عن تبديلها فإن ذلك أصلح. والصحيح أن الفتنة كما جاء في الأخبار الدجال، فإنه يخرج في بعض الجزائر الشرقية التي سكن فيها ملك التتار ورؤساء أهل البدعة، لأنها نبعت من العراق، فالرافضة من الكوفة والمعتزلة من البصرة والقرامطة من سواد الكوفة والخوارج من النهروان. ولأنها لما دفن عمر في الروضة خرجت عائشة منها وسكنت موضعا آخر من الدار. ولأنها خرجت منها إلى مكة زادها الله تعالى شرفا. ولأن [في] الحجرة كان رأس الإيمان ومحل السكينة ومهبط الوحي وسكن خير الرسل حيا وميتا - صلى الله عليه وسلم -. ومنها أنها زينت يوما جارية كانت عندها وقالت: لعلنا نصطاد بها شابا من شباب قريش. والجواب أن هذه الرواية وردت عن وكيع بن الجراح عن العلاء بن عبد الكريم عن عمار بن عمران عن امرأة من غنم، وعمار والامرأة مجهولان، فلا تقبل هذه الرواية بمقتضى قواعد الفريقين. والله الهادي إلى سواء السبيل.

المطاعن الخامسة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

المطاعن الخامسة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعينمنها أنهم فروا عن الزحف مرتين، مرة يوم أحد وأخرى يوم حنين، والفرار عن الزحف كبيرة. والجواب أن الفرار عن الزحف يوم أحد كان قبل النهي عنه، ولأنه تعالى قد عفى عنهم لقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. وأما الفرار يوم حنين فبعد تسليم أنه كان فرارا في الحقيقة معاتبا عليه لم يصر عليه المخلصون بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}. ولأن الإمامية رووا عن الرسل ما هو أعظم من ذلك على ما مر غير مرة. ومنها ما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}.

والجواب أن تلك القصة إنما كانت في أول زمان الهجرة قبل التأدب بآداب الشريعة، فما وقع حينئذ كانوا معذورين فيه، ولهذا لم يتوعدهم عليه ولم يعاتبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به. والآية خارجة مخرج العتاب بطريق الوعظ والنصيحة. على أنه قد أعقب ذلك الفعل أنواع من الطاعات والاستغفار، و {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. ومنها أنه ورد فيهم ما روي عن أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان مرفوعا: "ليردن علي أناس من أصحابي حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وفي رواية: "فأقول: سحقا سحقا". والجواب عنه أولا بأنا لا نسلم بأن المراد بأصحابي الصحابة بالمعنى المتعارف، بل المراد بهم مطلق المؤمنين به - صلى الله عليه وسلم - المتبعين له. وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي [أصحاب الشافعي] وهكذا، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكما يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا، مع

بينه وبينهم عدة سنين. وعبارات الفقهاء ملأى من ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وأيده بعضهم بأنه وقع في بعض الروايات: "أمتي"، وعلى هذا فالمراد من هؤلاء الأناس عصاة من المؤمنين. ومعرفته - صلى الله عليه وسلم - أنهم من أمته من أمارات تلوح عليهم، فقد جاء في الخبر أن عصاة هذه الأمة يمتازون يوم القيامة عن عصاة غيرهم، كما أن طائعيهم يمتازون عن طائعي غيرهم. وجذبهم وردهم عن الحوض كان تأديبا لهم وعقابا على معاصيهم. ويلحق بذلك دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "سحقا سحقا"، وجعله بعضهم من قبيل قوله عليه الصلاة والسلام لصفية رضي الله تعالى عنها: "عقرى حلقى"، وليس بشيء.

وثانيا بأنا سلمنا أن المراد بالأصحاب الصحابة بالمعنى المتعارف، إلا أن المراد من أولئك الأناس الذين يختلجون ويؤخذون قهرا ويردون عن ورود الحوض الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق رضي الله تعالى عنه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي" لظن أنهم لم يرتدوا كما يؤذن عنه ما قيل في جوابه من أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وهذا الجواب أولى من الجواب المنعي كما لا يخفى. ولا يفيد ذلك الشيعة شيئا، لأنا لا ننكر ارتداد أحد من الصحابة وإنما ننكر ارتداد الخلفاء الثلاثة ومن تابعهم وارتداد من حضر وقعتي الجمل وصفين منهم كما هو زعم الشيعة؛ والحديث لا يدل على ذلك أصلا. فإن قيل إن أناسا في الحديث كما يحتمل أن يراد منه من ذكر من مرتدي الأعراب يحتمل أن يراد منه ما زعمته الشيعة، فما الدليل على ما أردت؟ أجيب بأن ما جاء عن الله تعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم - من مدحهم والثناء عليهم وكذا ما جاء عن الأئمة المعصومين عند الشيعة مما علمت ومما ستعلم إن شاء الله تعالى مانع من إرادة ما زعمته الشيعة. وحينئذ يتعين ما أردنا حذرا من إلغاء الحديث. ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله تعالى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلا بل تتنافسون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض» فإن هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة. وذلك ينافي العدالة. والجواب أن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو

لا يستدعي أن يكون منهم. ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار، والحديث صريح في أن أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب، فتعين أنهم من التابعين، وقد وقع ذلك منهم، فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك الأشتر وأضرابه، ولا كلام لنا فيهم. ومنها ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين من مسند عائشة من عدة طرق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا عائشة، لولا قومك حديثو عهد بالجاهلية -وفي رواية: بالشرك- وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين شرقيا وغربيا فبلغت به أساس إبراهيم". وقوم عائشة قريش، وهذا يدل على فساد بواطنهم في قبول قوله. والجواب أن هذا الحديث ليس فيه مطعن أصلا، لأنه إن كان المراد بقوم عائشة قريشا كما زعموا فهم إما جميعهم أو بعضهم؛ فإن أريد الأول يلزم منه دخول علي بن أبي طالب وغيره من بني هاشم أيضا فيهم لأنهم من قريش؛ وإن أريد الثاني فلا يكون مفيدا للمدعى، إذ يجوز أن يكون الخوف من المؤلفة قلوبهم وحديثي الإسلام بعد الفتح الذين لم يتأدبوا بعد بآداب الشريعة ولم يكمل إيمانهم، والمهاجرون ومن تبعهم بإحسان ليسوا منهم. على أن الواقع في الحديث هو الخوف من وقوع أمر بسبب لا يستلزم وقوعه. فتبين أن إيراد هذا الخبر في مطاعن الصحابة دليل على جهل الرافضة وعدم فهمهم لنصوص الشرع. ومنها أنهم خالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد طلب - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته إداوة وقرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده فأبوا أن يأتوه بذلك حتى قال عمر ما قال وكثر اللغط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخرجوا عني"، والله

تعالى يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. والجواب أن الأمر منه عليه الصلاة والسلام لم يكن إلا من باب الاستحباب وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري وإلا لفعله - صلى الله عليه وسلم - بعد مع خاصة أهل بيته كالأمير كرم الله تعالى وجهه، فإنه بقي عليه الصلاة والسلام حيا بعد ذلك خمسة أيام. ويؤيد ذلك كما قال غير واحد قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو ظاهر. والتخلف عن الامتثال ناشئ عن محض المحبة والوداد دون الشقاق والعناد لما رأوا من شدة مرضه عليه الصلاة والسلام، ومثل هذه المخالفة لا تعد فسقا وإلا لزم فسق جميع الحاضرين ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ولا قال به بالإجماع. وقد وقع للأمير رضي الله تعالى عنه مثل هذه المخالفة عام الحديبية، فإنه كتب الصلح: "هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله"، فلم يرض المشركون بهذا العنوان وقالوا: لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه، فأمر عليه الصلاة والسلام عليا أن يمحو ذلك وبالغ فيه فلم يفعل حتى محاه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة. بل وقع منه كرم الله تعالى وجهه ما يرى أنه أشد من ذلك، فقد صح من طرق متعددة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بيت الأمير والبتول رضي الله تعالى عنهما ليلة وأيقظهما لصلاة التهجد وأمرهما بها، فقال الأمير: "والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا، وإنما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلينا"، فرجع عليه الصلاة والسلام وهو يضرب فخذيه ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}. وقد رواه البخاري أيضا في صحيحه. وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالخروج لمن في الحجرة لم يكن إلا لما فيه من المرض.

وكلام عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن إلا لغلبة الحال عليه الناشئة من كمال المحبة. وقد سبق الكلام على هذا الحديث في رد مطاعن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه. ومنها ما رواه البخاري بسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي [بأخذ القرون قبلها] شبرا بشبر وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك". وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ ". والجواب أنا لا نسلم أن المراد الصحابة، وكيف يصح حصر جميع الأمة بالصحابة؟ ومن تدبر ألفاظ الحديث يهزأ بعقل الرافضة ويحكم بجهلهم، إذ الواقع في الحديث لفظ الأمة لا لفظ الصحابة. وإن أكثر أمته - صلى الله عليه وسلم - شبها الروافض، فإنهم هم الذين شابهوا كفار فارس والروم في أكثر العقائد والأعمال والأخلاق والأعياد والرسوم، فإن الروم زعموا تعدد الآلهة وكذلك الغلاة من الشيعة زعموا أن الآلهة خمسة، وإنهم قالوا بحشر الأرواح دون الأجساد وكذلك جمع من الشيعة على ما سبق، وإنهم أثبتوا لله ابنا وكذلك قال بعض الفرق زعموا أن الأئمة أبناء الله، وإنهم يصلون مع نجاسة ثيابهم وكذلك الإمامية، وإنهم افتروا على الله ورسوله الكذب وكذلك الرافضة، وإنهم يكفرون أهل الحق وكذلك الرافضة. وأما الفرس فيزعمون أن الخالق غير واحد وكذلك بعض فرق الروافض، وإنهم ينكرون القدر وكذلك الروافض، وإنهم يزعمون أنه قد يقع مراد غير الله ولا يقع مراد الله تعالى وكذلك يزعم بعض فرق الرافضة، وإنهم لا غيرة لهم في النساء وكذلك الرافضة. إلى غير ذلك مما

هو مشاهد في العيان لا يحتاج إلى دليل أو برهان. وسيجيء إن شاء الله تعالى وجه شبههم بجميع الكفار. ومنها أنهم آذوا عليا وحاربوه وقاتلوه وهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصهره وربيبه، فكيف ساغ لهم ذلك والسلوك في هاتيك المسالك، مع أن من صدر منه دون ذلك ينتفي عنه اسم العدالة. والجواب أن ذلك محض كذب وافتراء، فإن الصحابة كلهم كانوا يعظمون عليا ويحبونه. قال عبد الرحمن بن أبزى: "شهدنا صفين مع علي في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاث وستون منهم عمار بن ياسر". واستشهد أيضا خمسة عشر من المهاجرين والأنصار. وكتبه تشهد بذلك، وله عبارات كثيرة في النهج تؤيد ما هنالك. وكان الصديق رضي الله تعالى عنه يحبه ويمدحه ويذكر فضائله ويحث الناس على حبه. روى الدارقطني عن الشعبي أنه قال: "بينا أبو بكر الصديق جالس إذ طلع علي، فلما رآه قال: من سره أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة وأقربهم قرابة وأفضلهم تبعا له وأكثرهم غنى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلينظر إلى هذا الطالع". وكان عمر يعظمه ويوقره ويفتخر به ويقبل قوله. وروى الدارقطني عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: "اعلموا أنه لا يتم شرف إلا بولاية علي". ولما اختلف الصحابة في الموؤدة وقال لهم علي: إنها لا تكون موؤدة حتى يأتي عليها التارات السبع، قال له عمر: صدقت أطال الله بقاءك. قال

أبو القاسم الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص: كان عمر أول من نطق بهذا الدعاء. وكان ابنه عبد الله يتأسف في تخلفه عن حروبه. وأخرج الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد حسن عن ابن عمر أنه: "لما بلغه توجه الحسين إلى العراق لحقه مسيرة ثلاثة أيام فقال له: أين تريد؟ فقال: العراق، فإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: لا تنظر إلى كتبهم ولا تأتهم، فأبى، فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا، إن جبريل أتى النبي فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله لا يليها أحد منكم أبدا وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل". وروى البزار نحوه بإسناد حسن. وأكثر ما ذكر المؤرخون من الوقائع والحروب لا يوثق به إذ ليس له إسناد. والحق أن ما وقع من الحروب لم يكن عن عداوة، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وإنما هاجت الفتن بسبب آخر؛ وهو أنه لما بويع لعلي بالخلافة لم يتعرض لقتلة عثمان لما سيجيء إن شاء الله تعالى، وكانوا يزعمون أنهم على الحق وعثمان على الباطل وأنهم مصيبون في قتله ويفتخرون بذلك. وكانت جماعة من كبار الصحابة كطلحة والزبير بن العوام ونعمان بن بشير ومحمد بن مسلمة وكعب بن عجرة وغيرهم يتلهفون على عثمان ويقولون إنه كان على الحق ومقاتلوه على الباطل وإنه قتل مظلوما. وسمع ذلك قتلة عثمان فغضبوا وأردوا بهم كيدا،

فلما أحسوا بذلك هرب كل منهم إلى ناحية، فهرب طلحة والزبير إلى مكة، فلما قدما إليها وجدا فيها أم المؤمنين، وكانت حاجّة في السنة التي قتل فيها عثمان، فقالت: ما وراؤكما؟ فقالا: إنا تحملنا هربا من المدينة من غوغاء الأعراب، ثم قالا مع جمع آخر لها عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم وهي تمتنع عليهم ويحتجون عليها بقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، فأجابتهم عائشة. وأرادوا موضعا يأمنون به من شر البغاة فإنهم علموا أن قتلة عثمان يقصدونهم فاستقام رأيهم على التوجه إلى البصرة. ولما سمع أمير المؤمنين أنهم خرجوا إلى البصرة سار متوجها إليها، فلما بلغتها أرسل الأمير إلى طلحة والزبير قعقاعا وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ادعهما إلى الإلفة والجماعة وعظّم عليهما الفرقة والمباينة، فخرج قعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة وسلم عليها فقال: يا أم ما أشخصك وأقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس، ثم بعث إلى طلحة والزبير فحضرا فقال القعقاع: أخبراني ما وجه الإصلاح؟ قالا: قتلة عثمان، قال: هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وتسكين الفتنة في هذه الساعة والمسالمة، فقالا: قد أصبت وأحسنت. فرجع القعقاع إلى علي وأخبره بذلك فسر به وأعجب، وأشرف القوم على الصلح وأقاموا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح. وأرسل الأمير كرم الله تعالى وجهه عشية اليوم الثالث إلى طلحة والزبير بالسلام وأرسلا إليه بالسلام وترددت الرسل بينهما بالصلح. وفرح الناس بذلك، وحزن قتلة عثمان وباتوا يتشاورون طول ليلهم، فقال رئيسهم عبد الله بن سبأ: يا قوم إن عزكم في مخالطة القوم فالزموا عليا ولا تتركوه، فإذا كان الغد والتقى الناس

للمصالحة فأفشوا القتال، فاجتمع رأيهم على ذلك. فلما غشي الليل أنشبوا نار الحرب ووقع ما وقع. فهذا الحرب لم يكن عن عزيمة من الفريقين كما ذكر القرطبي وجماهير من أهل العلم. وهذا هو الصحيح المشهور. وكان معاوية يومئذ بالشام ولا يريد المحاربة مع الأمير، غير أنه التمس منه أن يسلمه قتلة عثمان أو يخرجهم من عنده، وكان الأمير يأبى ذلك. ولما فرغ من حرب الجمل استقر رأي الناس إلى المسير إلى معاوية فبلغه ذلك فاضطر إلى الخروج إلى الشام. ولما تهيأ كل منهم إلى القتال أرسل الأمير كرم الله تعالى وجهه جمعا من أصحابه إلى معاوية، منهم بشر بن عمرو بن محصن الأنصاري، ليدعوه إلى الطاعة، فقال بشر: إني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها، فقال معاوية: ما يطلب من علي إلا قتلة عثمان فإنهم شرار الخلق، فانصرفوا وأخبروه بذلك. وامتنع الأمير أن يسلمهم وأبى معاوية إلا تسليم القتلة، ورأى القتال معهم واجبا لأنهم كانوا بغاة وكذلك من يعاونهم، وأخطأ هو ومن معه من الصحابة وهم رجال معدودون وقد رجع أكثرهم عن ذلك، ولكنهم صاحبوا معاوية خوفا من قتلة عثمان وحضر بعضهم ولم يقاتل. ومع ذلك لم يبدأ معاوية بالقتال وإنما بدأ الأمير كرم الله تعالى وجهه لعدم طاعة معاوية للخليفة، فكان هو ومن معه من البغاة، ويجب على الأمير أن يحاربهم حتى يرجعوا عما هم عليه من البغي. وقد صح عن الأمير أنه قال: "أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل" كذا في نهج البلاغة. وإنما امتنع الأمير من تسليم القتلة لشوكتهم وشدة شكيمتهم وكثرتهم واختلاطهم مع العسكر، فرأى تأخير التسليم أصوب إلى أن يرسخ القدم في الخلافة وتتفق كلمة المسلمين

[فتعود] قوتهم، فإن المبادرة بالتسليم حينئذ تؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة وتفاقم الفتنة. وقد قال له بعض أصحابه: لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان؟ فقال: "يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي [بقوة والقوم] المجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا". كذا في نهج البلاغة. والحاصل أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزهون عما يشينهم من ذميم الأخلاق مبرؤون عن وصمة الفسق على الإطلاق، ولم يتوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ماز الله الخبيث من الطيب. والآيات التي يوردها الشيعة بعد تسليم أن معانيها كما زعموا ليس مورادها كما فهموا، بل هي واردة في حق إخوانهم المنافقين لا في حق الصحابة الصادقين، بل أولئك الذين اختارهم الله لصحبة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ومات وهو راض عنهم؛ هم الذين فتحوا البلاد بالسيوف وسقوا الأعاجم سم الحتوف ومهدوا قواعد الدين وهدموا أساس المشركين. وهيهات أن يصدر من أولئك الأكابر كبيرة أو يصر أحدهم على صغيرة، وإن وقع منهم حيث لا عصمة ما يقتضي التفسيق فيأبى الله تعالى أن يموتوا عليه وأن يقوموا يوم القيامة من غير توبة بين يديه، حيث أشرقت أنوار النبوة على صفائح قوالب قوابل قلوبهم وكرّه الله إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فحاشا أن يكون من مرغوبهم. وماذا علينا إذا قلنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وماذا يلزمنا إذا حملنا أمر أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - الذين آمنوا به وصدقوه وجاهدوا معه ونصروه على الصلاح، وأي ضرر يعترينا لو قلنا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.

المقصد السادس في المعاد

المقصد السادس في المعاد

المطلب الأول في أن المعاد واقع

المطلب الأول في أن المعاد واقع ذهبت الرزامية والكاملية والمنصورية والحميرية والباطنية والقرمطية والجنابية والخطابية والميمونية والمقنعية والخليفية والجبائية والمعمورية إلى أنه لا معاد للأبدان مطلقا ولا للأرواح في غير هذا العالم، بل قالوا بتناسخ الأرواح وانتقالها من بدن إلى آخر. واستدلوا على ذلك بأنه لو وجد عالم آخر لكان كريّا مثل هذا العالم، ولا يمكن وجود كرتين متماثلتين إلا بتحقق فاصل بينهما، فيلزم الخلاء بين العالمين وهو محال. والجواب أن الخلاء إنما يلزم لو كانت إحدى الكرتين فوق الأخرى أو تحتها أو بأحد جانبيها وليس كذلك، إذ يجود أن يكون منهما مركوزا في ثخن كرة عظيمة يساوي ثخنها قطرها أو يزيد عليها، كما أن التدوير في ثخن الأفلاك. وهذه العقيدة مخالفة لجميع المليين ولنصوص القرآن. قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}. وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بين النفختين أربعون سنة ثم ينزل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل" وقال: "ليس شيء إلا ويبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه تركب الخلق" إلى غير ذلك مما يطول ذكره.

المطلب الثاني في أنه لا يجب على الله تعالى أن يبعث الخلق

المطلب الثاني في أنه لا يجب على الله تعالى أن يبعث الخلق ذهبت الإمامية إلى أنه يجب على الله تعالى أن يبعث الخلق، لأنه كلف الخلق بما كلف فيجب عليه أن يثيب المطيع ويعذب العاصي، فيجب وإلا كان ظالما. والجواب أن ترك الإثابة ليس بظلم، فإن الرجل إذا أعطى عبده جميع ما يحتاج إليه من أمر المعاش ثم كلفه أمرا يطيقه ففعل ذلك ولم يعطه أجرا على عمله لا يعزى الظلم إلى المالك. وكذا ترك عقاب العاصي، وإلا لكان العفو والمغفرة ظلما تعالى الله عن ذلك. فما ذهب إليه أهل السنة من أنه لا يجب عليه إلا ما أوجبه على نفسه هو الحقيق بالقبول.

المطلب الثالث في أن عذاب القبر حق

المطلب الثالث في أن عذاب القبر حق ذهبت المنصورية والحميرية والقرامطة والجناحية والكاملية والباطنية والخطابية والرزامية والمعمرية إلى أن عذاب القبر غير واقع. وهو باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة لقوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} فإنه يدل على أن دخول النار بعد الغرق في البحر بلا تراخ لمكان الفاء هو عذاب القبر لقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فإنه تعالى عطف عذاب القيامة على عرض النار عليها غدوا وعشيا، فهو لا محالة غيره وقبل يوم القيامة فهو إذا في القبر. ولما رواه الشيخان عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عذاب القبر حق". وأخرجا عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وهو ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا. وأما الكافر والمنافق فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين". وأما نعيم القبر فثابت أيضا بقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}

وقوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} فإن حبيب النجار لما قتل قيل له ذلك. وقوله عليه الصلاة والسلام: "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار"، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المؤمن يفسح له في قبره مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها". رواه أحمد وأبو داود عن البراء بن عازب. إلى غير ذلك. واحتج المنكرون بالنقل والعقل. أما النقل فقوله تعالى في صفة أهل الجنة: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} فلو كان في القبر حياة أخرى وموت آخر لذاقوا موتين. والجواب أنه ليس في القبر إحياء وإماتة، بل يخلق الله تعالى نوع حياة يدرك به اللذة والألم بسبب انعكاس الروح على الجسد. وأما قول الكفار: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} فالمراد بالإماتتين إماتة الدنيا والصعقة التي تكون بين النفخة الأولى ونفخة الصعقة، ويكون الموت بين النفختين كالإغماء ولا يسمى ذلك موتا حقيقة ولا مجازا. والمراد بالإحيائين الإحياء في الدنيا والآخرة، ولأن المراد به الجنس لا العدد كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} والجنس يتناول المتعدد. وليس في الآية نفي التعدد. وأما العقل فإن إدراك اللذة والألم والتكلم لا يتصور بدون الحياة والعلم، ولا حياة مع فساد البنية وبطلان المزاج. ولو سلم فإنا نرى الملقى في الأرض والمصلوب يبقى مدة

إلى أن يبلى ولا يشاهد فيه إحياء ولا حركة ولا سكون ولا أثر عذاب أو نعيم، بل لو وضع على صدره كف من خردل يرى ولو بعد حين باقيا على حاله. والجواب أن ذلك كله من الأمور الممكنة، وقد أخبر به الصادق. وأمثال ما ذكروه من الاستبعادات لا ينفي الإمكان. ولأن الله تعالى يخلق للميت نوع حياة يدرك بها اللذة ويفهم المسالة ويقدر على الجواب، ولكنها تخفى على الأحياء من الثقلين، كالنائم يرى أنه يأكل ويشرب ويجامع ويلتذ حتى يرى الأثر على جسده كالمني ويرى أنه وقع في النار واحترقت أعضاؤه ويدرك ألم الحرق ويخفى ذلك على المستيقظين. والله سبحانه قادر على إبقاء الخردل بحالها على صدر الميت وهو على كل شيء قدير. وقد رأى بعض الصلحاء أثر الحريق في بعض القبور. وروي أن مجوسيا جاء إلى عمر بن الخطاب ومعه ثلاث رؤوس فقال: يا عمر إن نبيكم كان يقول إن من خرج من الدنيا على غير الإسلام فهو يحرق بالنار، وتلا قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} فقال عمر: بلى، فأخرج العلج الرؤوس: إن هذا رأس أبي وهذا رأس أمي وهذا رأس أخي وأنا أضع يدي على هذه الرؤوس فلا أرى فيها أثر الحريق، فاستحضر عليا فلما حضر قال للمجوسي: أعد السؤال، فأعاد فقال علي: ائتوني بحدر وحديد، فأتي به فقال للمجوسي: ضع يدك عليهما فقال: هل تجد أثر الحر؟ فقال: لا أجد بل هما باردان، فقال: اضرب الحديد على الحجر، فضرب فخرجت النار من بينهما، فقال للمجوسي: أفتنكر أن يكون وسط هذه الرؤوس نار وأنت لا تجد حرها؟ والله تعالى قادر أن يجعل بين أعضاء الميت وترابه نارا وأنت تجد حرها كما جعل في الحجر والحديد. وما ذلك على الله بعزيز.

المطلب الرابع في أن الجنة والنار حق

المطلب الرابع في أن الجنة والنار حق ذهبت المنصورية والصاحبية والقرامطة والجناحية والكاملية والخطابية والذمية والرزامية والخلفية والميمونية والمقنعية والحقانية إلى أنه لا جنة ولا نار. وما ورد في السمعيات فهو مؤول. والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من أنهما حق مخلوقتان موجودتان الآن لأنها من الأمور الممكنة التي أخبر بها الصادق عليه الصلاة والسلام. وفي ذلك من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة ما يضيق عنها المقام. ولا ضرورة تلجئنا إلى حملها على غير ظاهرها كما لا يخفى على من له عقل سليم.

المطلب الخامس لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت

المطلب الخامس لا رجعة إلى الدنيا بعد الموت وقالت الإمامية بها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووصيه وسبطيه وأعدائهم من الخلفاء والأمراء، وكذا الأئمة الآخرين وقاتليهم يحيون بعد ظهور المهدي ويعذبون ويقتص منهم ثم يماتون ويحيون يوم القيامة. وهذا مخالف لصريح الآيات. منها قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ومنها: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ومنها: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إلى غير ذلك. قال المرتضى في المسائل الناصرية إن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي قيل خضراء فتيبس ويرتد كثيرون، وقيل بالعكس فيهتدي كثيرون. وقال

جابر الجعفي: "إن الأمير سيرجع والدابة في القرآن رمز إليه". نستغفر الله تعالى من سوء الأدب. وجعفر هذا أول من قال بالرجعة ووافقه بعد ذلك جماعته، وهو شهير بالكذب. روى الشافعي عن سفيان بن عيينة: "كنا في منزل جابر الجعفي فتكلم بشيء فخرجنا خوفا أن يقع علينا السقف" وقال أبو حنيفة: "ما لقيت أحدا أكذب من جابر ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح". والدليل العقلي على أصولهم يبطل هذا الاعتقاد، لإنهم إن عذبوا بسوء أعمالهم في الدنيا ثم عذبوا في الآخرة كان ظلما، أو لم يعذبوا حصل التخفيف الأبدي وهو مناف لعظم الجناية. وأيضا لو كان المقصود من إحيائهم تعذيبهم في الدنيا فقط فذلك حاصل في عالم القبر فيكون عبثا، وننزه الله تعالى عنه، أو إظهار جنايتهم فالأولى بذلك الإظهار لمن كانوا معتقدين بحقية خلافتهم وممدين وناصرين. وأيضا في هذا التأخير ترك الأصلح، إذ قد مضى أكثر الأمة على الضلالة. وأيضا يلزم على هذا التقدير أن النبي والوصي والأئمة لا بد لهم أن يذوقوا موتا آخر زائدا على سائر الناس، وظاهر أن الموت شديد، فلا ينبغي إذاقته للمحبوب عبثا. وأيضا

يلزم مذلة الأمير والسبطين حيث لم يأخذوا الثأر بعد مضي هذه المدة إلا بواسطة المهدي ولم ينتقم الله من أعدائهم إلا حينئذ. وبالجملة المفاسد في هذا كثيرة والاعتراضات غزيرة.

المطلب السادس في أن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء

المطلب السادس في أن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء قالت الإمامية إن أحدنا لا يعذب بصغير ولا كبير لا في القيامة ولا في القبر، وحب علي كاف في الخلاص إذ لات حين مناص. ونقول تبا لهم، أوَلا يفقهون أن حب الله ورسوله بلا إيمان غير كاف، وهذا غير خاف. وهذه العقيدة في الأصل مأخوذة من اليهود حيث: {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. وعمدة ما يتمسكون به مفتريات وضعها الضالون المضلون وتلقتها الحمقاء الجاهلون. منها ما رواه ابن بابويه القمي في علل الشرائع عن المفضل بن عمر قال: "قلت لأبي عبد الله: لم صار علي قسيم الجنة والنار؟ قال: لأن حبه إيمان وبغضه كفر، لا يدخل الجنة إلا محبوه ولا يدخل النار إلا باغضوه". ويدل على الوضع المخالفة للكتاب، وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} وكل رواية تخالف قواطع النصوص فهي موضوعة جزما. وأيضا حب الأمير ليس كل الإيمان، وإلا لبطلت التكاليف ولا تمام المشترك، لأن التوحيد والنبوة أصل أقوى وأهم، فهو جزء من أجزاء الإيمان فلا يكفي وحده لدخول الجنة. وأيضا "لا يدخل النار إلا مبغضوه" يدل على أن لا يدخل النار أحد من الكافرين غير الباغضين كفرعون وهامان لأنهم لم يعرفوا فلم يبغضوا، سبحانك هذا بهتان عظيم.

سلمنا ما يريدون، لكن لا يثبت المطلوب أيضا لأن الحاصل لا يدخل الجنة إلا محبوه أن لا يدخل الجنة من لا يحب عليا لا أن كل من يحبه يدخلها، والمدعى هذا لا ذلك والفرق واضح. فلهذا روى ابن بابويه رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جائني جبريل وهو مستبشر فقال: إن الله الأعلى يقرئك السلام وقال: محمد نبيي وعلي حجتي لا أعذب من والاه وإن عصاني ولا أرحم من عاداه وإن أطاعني". ويدل على وضعها لزوم التفضيل، كيف ولا خوف على العاصي ولو منكرا للرسول بحب علي، ولا منفعة للمطيع ولو مؤمنا ببغضه. وهي مخالفة للنصوص كما سبق. على أن التكاليف تكون عبثا ولم يبق إلا الحب والبغض، وفيه الإغراء للنفوس وإمداد الشيطان ومفاسد شتى. على أنه لم يذكر ذلك في القرآن. وانظر مرويات لهم أخر تعارض ما سبق وتعارضه، لكن الكذاب كما قيل لا حافظة له. ومنها ما رواه سيدهم وسندهم حسن بن كبش عن أبي ذر قال: "نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي فقال: هذا خير الأولين من أهل السماوات وأهل الأرض، هذا سيد الصديقين، هذا سيد الوصيين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، إذا كان يوم القيامة جاء على ناقة من نوق الجنة أضائت عرصة القيامة من ضوئها على رأسه تاج مرصع من الزبرجد والياقوت، فتقول الملائكة: هذا ملك مقرب، ويقول النبيون: هذا نبي مرسل، فينادي مناد من تحت بطنان العرش: هذا الصديق الأكبر هذا وصي حبيب الله تعالى علي بن أبي طالب، فيقف على متن جهنم فيخرج منها من يحب ويدخل فيها من يبغض، ويأتي أبواب الجنة فيدخل فيها من يشاء بغير حساب". ولا يخفى أن هذه الرواية ناصّة على أن بعض العصاة ممن يحب الأمير يدخلون النار ثم يخرجهم الأمير ويدخلهم الجنة، فإن كانوا محبيه فلمَ دخلوا؟ وإن لم يكونوا فلمَ خرجوا؟ وأيضا تدل على كذب الحصر السابق في قوله تعالى: لا يدخل الجنة إلا محبوه ولا

يدخل النار إلا مبغضوه. فالرواية باطلة. ومنها ما رواه ابن بابويه القمي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن عبدا مكث في النار سبعين خريفا، كل خريف سبعون سنة، ثم إنه سأل الله تعالى بحق محمد وآله أن يرحمه فأخرجه من النار وغفر له" انتهى. فإن كان هذا محبا فلمَ يعذب؟ وإلا فلمَ يدخل الجنة؟ فلينظر في كلامهم وليتأمل. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

المطلب السابع أن غير الفرقة الناجية من الفرق لا تخلد في النار

المطلب السابع أن غير الفرقة الناجية من الفرق لا تخلد في النار وقالت الاثنا عشرية إن جميع فرق المسلمين في النار إلا الاثني عشرية. قال ابن المطهر الحلي في شرح التجريد: اختلف هؤلاء على أقوال ثلاثة، أحدها أنهم مخلدون في النار، ثانيها أنهم يخرجون منها ويدخلون الجنة، ثالثها الوقف. ثم قال: وذكر جماعة من علمائنا أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود، ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان المقتضي لاستحقاق الثواب، بل في الأعراف. وذكر صاحب التقويم أن الشيعة افترقت اثنتين وسبعين فرقة، والناجية منها الاثنا عشرية، وسائر فرق الشيعة يعذبون في النار ثم يخرجون منها إلى الجنة، وسائر الفرق الإسلامية كلهم مخلدون في النار. وهذا باطل. والحق ما ذهب إليه أهل السنة من أن الفرق الغير الناجية من المسلمين لا يخلدون في النار، بل يعذبون فيها على قدر بدعتهم لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

وروى ابن بابويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي بعثني بالحق لا يعذب الله بالنار موحدا أبدا". وروى الطبرسي في احتجاجه عن الحسين بن علي أنه قال: "من أخذ ما جرى عليه أهل القبلة الذي ليس فيه اختلاف وردّ علم ما اختلف فيه إلى الله سلم ونجا من النار ودخل الجنة". وروى الكليني بإسناد صحيح عن زرارة عن أبي عبد الله قلت: أصلحك الله أرأيت من صام وصلى واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب؟ قال: إن الله يدخله الجنة برحمته. فإن هذه الأخبار الثلاثة [تثبت] قول الجمهور.

المقصد السابع في بيان ما يدل على بطلان مذهب الشيعة

المقصد السابع في بيان ما يدل على بطلان مذهب الشيعة

(الأدلة القرآنية)

وهي إما دلائل نقلية أو عقلية. أما النقلية فآيات وأحاديث وآثار عن الأئمة (الأدلة القرآنية) وأما الآيات؛ فمنها قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح 29]، قال العلماء: هذه الآية ناصة على أن الرافضة كفرة لأنهم يكرهونهم بل يكفرونهم. والعياذ بالله تعالى. ومنها قوله تعالى: {[لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر 10] وهم الصحابة وأمهات المؤمنين ومن تبعهم بإحسان. ومن كان في قلبه غل فهو خاسر مثبور. ومن صفا قلبه من شوائب الغل فهو فائز مسرور. ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء 115]، والمؤمنون قوت نزول الآية هم الصحابة. والرافضة اتبعوا غير سبيل المؤمنين ووافقوا هوى أنفسهم. ومنها قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور 55]، وهؤلاء هم الصحابة كما سبق ذلك في مباحث

(الأحاديث النبوية)

الإمامة، فمن خالفهم وعاداهم فهو في ضلال. وفي هذه الآية دلالة أيضا على أن الشيعة ليسوا من أتباع الأمير كرم الله تعالى وجهه، فإنه كان من الذين وعدهم الله تعالى بما ذكر في الآية. والشيعة يزعمون أن الأئمة كانوا خائفين منافقين. ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب 33]، فالمخاطب بهذه هم الصحابة ومن اقتدى بهم. ومنها قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة 44]، والرافضة قد حكموا بغير ما أنزل الله حيث ضللوا الصحابة وكفروهم، وقد حكم الله تعالى بفوزهم برضائه عنهم وأنه {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح 26]. ومنها قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح 26]، والمراد بهم الصحابة، فمن زاغ عنهم ومال عن طريقهم هلك. والرافضة يعتقدون أن مخالفتهم عبادة ومضاددتهم عين تقواهم. (الأحاديث النبوية) وأما الأحاديث؛ فمنها ما أخرجه الدارقطني عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا الحسن، أما أنت وشيعتك ففي الجنة، وإن قوما يزعمون أنهم يحبونك يصغرون الإسلام ثم يلفظونه يمرقون منه كما يمرق السهم من كبد القوس، لهم نبز يقال لهم الرافضة، فإن أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشروكون". ومنها ما أخرجه أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سيأتي بعدي قوم لهم نبز يقال لهم الرافضة، فإن أدركتهم فاقتلهم فإنهم

مشركون". وفي رواية: "قلت: يا رسول الله ما العلامة فيهم؟ قال: يفرطونك بما ليس فيك ويطعنون على السلف". ومن طريق آخر زاد فيه: "وينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك، وآية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر". ومنها ما أخرجه الطبراني والبغوي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: "قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا علي عمل إذا فعلته كنت من أهل الجنة، سيكون بعدي أقوام يقال لهم الرافضة إذا أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون، قال علي: ما علامة ذلك؟ قال: إنهم يسبون أبا بكر وعمر". ومنها ما أخرجه الطبراني والحاكم والمحاملي عن عويم بن ساعدة قال: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله اختارني واختار لي أصحابا وجعل فيهم وزراء وأنصارا وأصهارا، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا".

(الآثار المروية عن أهل البيت)

ومنها ما أخرجه العقيلي عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله اختارني واختار لي أصحابي وأصهاري، وسيأتي قوم يسبونهم وينتقصونهم فلا تجالسوهم ولا تشاربهوه ولا تواكلوهم ولا تناكحوهم". وزاد الشريف الجيلي: "ولا تصلوا معهم ولا تصلوا عليهم، عليهم حلت اللعنة". ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من آذى أصحابي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله". فهذه الأحاديث إن كانت الشيعة تنكرها فلا يمكن إنكار الآيات السابقة. (الآثار المروية عن أهل البيت) وأما الآثار المروية عن أهل البيت فهي أكثر من أن تحصى. ولنذكر منها المتفق عليه عند

الفريقين. منها ما روي عن أمير المؤمنين في كتاب كتبه إلى معاوية جوابا عن كتابه قال بعد ذكر أبي بكر وعمر: "ولعمري إن مكانهما في الإسلام لعظيم وإن المصاب لهما لجرح في الإسلام شديد، يرحمهما الله وجزاهما بأحسن ما عملا". وهذا الكتاب أورده شارحو نهج البلاغة. ومنها أنه قال في كلام له في النهج: "الزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب". والروافض كالخوارج رفضوا السواد الأعظم. ومنها ما في النهج أيضا أن الأمير كتب إلى معاوية: "إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان لله رضى، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإذا أبى قاتلوه على اتباع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا". وقد اجتمع المهاجرون على أربع من الصحابة وسموا كلا منهم إماما، فهم أئمة ومتبعوهم على الحق ومخالفوهم على الباطل، وهم الروافض والنواصب. ومنها ما صرح به شراح النهج أن أمير المؤمنين كتب إلى معاوية: "ألا إن للناس جماعة يد الله معها وغضب الله على من خالفها" الخ. ولا شك أن الشيعة لم يكونوا مع الجماعة. ومنها ما صرح به الشرّاح أيضا أن الأمير كتب إلى معاوية: "ما كنت إلا رجلا من المهاجرين أوردت كما أوردوا وصدرت كما صدروا، وما كان الله ليجمعهم على الضلال".

ومنها ما روى يحيى بن حمزة الزيدي في آخر كتاب طوق الحمامة في مباحث الإمامة عن سويد بن غفلة أنه قال: قلت لعلي: "إني مررت بقوم من الشيعة يذكرون أبا بكر وعمر وينتقصونهما، ولولا أنهم يرون أنك تضمر ما هم عليه لم يجترؤا على ذلك. فقال: أعوذ بالله عز وجل أن أضمر لهما شيئا إلا الحسن الجميل، ثم نهض باكيا وأخذ بيدي وأدخلني المسجد وصعد المنبر، ثم قبض على لحيته وهي بيضاء فجعلت دموعه تتحادر عليها وجعل ينظر للبقاء حتى اجتمع الناس، ثم خطب فقال: ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين، وأنا بريء مما يذكرون وعليه معاقب، صحبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجد والوفاء والجد في أمر الله، يأمران وينهيان ويغضبان ويعاقبان لله، لا يرى رسول الله كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حبا لما يرى من عزمهما في أمر الله، فقبض رسول الله وهو عنهما راض والمسلمون راضون، فما تجازوا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره في حياته وبعد موته، فقبضا على ذلك رحمهما الله، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما إلا شقي مارق، وحبهما قربة وبغضهما مروق. ثم أرسل ابن سبأ إلى المدائن لأنه أحد الطاعنين". وهذا مما يفت بأعضاد هذه الفرقة -أعني الشيعة السبية- لو ينصفون.

ومنها ما روي عن السجاد رضي الله تعالى عنه في الصحيفة أنه كان يقول في دعائه لأتباع الرسل بعد دعائه لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة: "اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذي يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا خير جزائك، الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم ومضوا في قفو آثارهم والائتمام بهداية منارهم"، ودعائه لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا: "اللهم وأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة الذين أحسنوا الصحبة وأبلوا البلاء الحسن وأسرعوا في نصره وسابقوا إلى دعوته واستجابوا له حيث أسمعهم حجة رسالته وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته"، إلى أن قال: "فلا تنس اللهم ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسلك دعاة لك واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم من سعة العيش إلى ضيقه". ومنها ما رواه صاحب الفصول المهمة أحد كبار علماء الإمامية عن ابي جعفر محمد بن علي الباقر أنه قال لجماعة خاضوا في أبي بكر وعمر وعثمان: "أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية".

(الدلائل العقلية)

ومنها ما في التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمد بن حسن العسكري: "إن الله تعالى قال لموسى: يا موسى، أما علمت أن فضل أصحاب محمد على جميع أصحاب المرسلين كفضل آل محمد على آل جميع المرسلين". ومنها ما في التفسير المذكور أيضا أن آدم لما صدر منه ما صدر قال: بمحمد وآله الطيبين وخيار أصحابه المنتجبين أن تغفر لي، قال الله تعالى: قد قبلت توبتك، ثم أوحى إليه كلاما في فضل سيد المرسلين وآله الطيبين وصحابته المنتجبين، وأخبره أن من بغضهم أو واحدا منهم يعذبه الله عذابا لو قسم على مثل خلق الله لأهلكهم أجمعين. فهذه الروايات كلها تدل على أن الشيعة من الهالكين وأنهم من المغضوب عليهم والضالين. (الدلائل العقلية) وأما الدلائل العقلية فهي كثيرة جدا أيضا. منها أن مذهب الرافضة لو كان حقا لزم الخلف في وعده سبحانه وهو محال؛ وذلك لأن عليا وأولاده لم يمكّن الله لهم دينهم الذي ارتضى، فإنهم كما زعمت الرافضة لم يزالوا خائفين من الأعداء كاتمين دينهم حتى أيام الخلافة، كما نص عليه المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء والأئمة. وكذا من يدعي اتباعهم يكتمون مذهبهم تقية. وقد حملوا كثيرا من أقوال الأئمة وأفعالهم على التقية. ويتلون القرآن الذي حرَّفه الخلفاء الثلاثة بزعمهم في الصلاة وخارجها، ولم يتمكن أمير المؤمنين مدة حياته إظهار القرآن الذي جمعه كما نزل، وكذا ولده.

(تشريع فرق الشيعة ما لم يأذن به الله)

ومنها أن جماهير الرافضة يوافقون الفرق الهالكة كالمعتزلة والخوارج في العقائد، ومن كان كذلك فهو ضال، نص عليه الحلي في المنهج. وأما سائرهم -كالغلاة- فكفرهم في الدين متفق عليه. ومنها أن الشيعة آمنون من مكر الله، فإنهم جازمون بنجاتهم من النار ودخولهم دار القرار: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}، ومن كان خاسرا فهو ضال ومذهبه باطل. ومنها أن كل فرقة منهم تخالف الأخرى في الأصول والفروع، وادعى كل منهم أن ما اعتقده هو مذهب الأئمة، ولا دليل على ما ادعوه، وكل دعوى بلا دليل باطلة، بل إن التعارض يوجب التساقط. ومنها أن الأئمة كانوا يظهرون للناس ما كانوا يخالف ما عليه الشيعة، فمذهبهم باطل. ودعوى أنهم كانوا يخفون عن الناس ما يبدون لا دليل عليها، ودون إثباتها خرط القتاد. (تشريع فرق الشيعة ما لم يأذن به الله) ومنها أن كل فرقة من فرق الشيعة شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وهو مما يدل على بطلان مذهبهم. أما الغلاة فقد شرعوا ترك العمل بالأحكام وأوّلوا النصوص. وأما الكيسانية، فالمختارية منهم تابعوا المختار فيما شرع من الأحكام ما أراد لادعائه أنه يوحى إليه، وعد أكثرهم من الغلاة، وقد قتل مع المختار أكثر من تبعه، ورجع من بقي إلى مذهب الروافض كالإمامية والزيدية وغيرهم.

(مسائل الأعياد)

وأما الزيدية فقد سبق شيء مما شرعوه، والمتأخرون منهم وافقوا أهل السنة في كثير من الفروع. وأما الإسماعيلية فقد شرعوا بعض الأحكام ووافقوا فرق الإمامية قبل خروج العبيدي وشرعوا بعض الأحكام بعده. والقرامطة والباطنية منهم أظهروا ما كان يخفيه أسلافهم فشرعوا ترك العمل بالظواهر وألحدوا في آيات الله. والحسينية والنزارية منهم أسقطوا التكاليف الشرعية. وأما الإمامية فقد شرع كل منهم في الأصول أشياء تقدم ذكر شيء منها، ولنذكر في هذا المقام شيئا يسيرا من الفروع إذ استيعابه يحتاج إلى أسفار. فنقول: (مسائل الأعياد) إنهم أوجبوا لعن الصحابة من المهاجرين والأنصار وعائشة وحفصة عقب الصلوات المكتوبة. والكتاب ناص على أنهم من أهل الجنة كما سبق. وإنهم أحدثوا عيد الغدير، وهو الثامن عشر من ذي الحجة، وفضلوه على عيد الفطر والأضحى، وسموه بالعيد الكبير. وهو لا أصل له في الشريعة ولم يروَ عن أحد من الأئمة.

وأحدثوا عيد قتل عمر، وهو التاسع من شهر ربيع الأول كما زعموا، روى علي بن مظاهر الواسطي عن أحمد بن إسحاق أنه قال: «هذا اليوم يوم العيد الأكبر ويوم المفاخرة ويوم التبجيل ويوم الزكاة العظمى ويوم البركة ويوم التسلية»، وكان أحمد هذا أول من أحدث هذا العيد، وتبعه بعد ذلك من تبعه من أصحابه. ونسبةُ هذا العيد إلى الأئمة كذب وافتراء، ولا سند لهم في ذلك. وإنهم أوجبوا تعظيم النيروز. قال ابن فهد في المهذب: «إنه أعظم الأيام»، وهو كذب.

(مسائل الطهارة)

وليس له أصل في الدين. وقد صح عن الأمير لما جاءه في هذا اليوم شخص بحلوى فسأله عن الموجب فقال: «اليوم يوم النيروز، فقال: نيروزنا كل يوم». وأنهم يجوزون [السجود] إلى السلاطين الظلمة، مع أن السجود لغير الله تعالى لا يجوز. (مسائل الطهارة) وإنهم يحكمون بطهارة الماء الذي استنجي به ولم يطهر المحل وانتشرت أجزاء النجاسة بالماء حتى زاد وزن الماء بذلك. قال ابن المطهر في المنتهى: «إن طهارة ماء الاستنجاء وجواز استعماله مرة أخرى من إجماعيات الفرقة»، مع أن هذا مخالف لنص القرآن، وهو قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} أي أكلها وأخذها واستعمالها، ولا شك في كون هذا الماء نجسا خبيثا. ومخالف أيضا لروايات الأئمة، فقد روى صاحب قرب الإسناد وصاحب كتاب المسائل عن علي بن جعفر أنه قال: «سألت أخي موسى بن جعفر عن جرة فيها ألف رطل من ماء وقع فيه أوقية بول هل يصح شربه أو الوضوء منه؟ قال: لا النجس لا يجوز استعماله».

ومن العجب أن مذهب الاثني عشرية أن الماء إذا كان أقلّ من كرٍّ ينجس بوقوع النجاسة فيه، فمقتضى هذا أن يكون نجاسة ماء الاستنجاء أولى. وإنهم حكموا بطهارة الخمر كما نص عليه ابن بابويه والجعفي وابن عقيل، وهذا الحكم مخالف لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} والرجس في اللغة أشد النجاسة، ولنصوص الأئمة الموجودة في كتب الشيعة، فقد روى صاحب قرب الإسناد وصاحب كتاب المسائل وأبو جعفر الطوسي عن أبي عبد الله أنه قال: «لا تصل في الثوب قد أصابه الخمر». وإنهم حكموا بطهارة المذي، وهو مخالف للحديث الصحيح المتفق عليه. روى

الراوندي عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي أنه قال: «سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي؟ فقال: يغسل طرف ذكره»، وقد أورد أبو جعفر الطوسي أيضا روايات صريحة في نجاسة المذي، ولكن ليس له العمل والفتوى على ذلك. وإنهم يقولون بعدم انتقاض الوضوء بخروج المذي، مع أنهم يروون عن الأئمة خلاف ذلك. روى الطوسي عن بن يقطين عن أبي الحسن أنه قال: «المذي منه الوضوء» وروى الراوندي

عن علي قال: «قلت لأبي ذر: سل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي، فسأله فقال: يتوضأ منه وضوءه للصلاة». وإنهم يقولون بطهارة الودي وهو بول غليظ جزما بإجماع الشرائع، وأنهم يحكمون بعدم انتقاض الوضوء من خروج الودي مع أنه مخالف لرواية الأئمة. روى الراوندي عن علي مرفوعا: «الودي فيه الوضوء»، وروى غيره عن أبي عبد الله مثل ذلك. وإنهم يحكمون بأنَّ تحريك الذكر ثلاث مرات استبراء له بعد البول، فما خرج منه بعد ذلك فهو طاهر غير ناقض للوضوء أيضا. وهذا الحكم مخالف لصريح الشرع إذ الخارج من السبيلين نجسٌ وناقضٌ للوضوء مطلقا. والاستبراءُ السابق لا دخل له في الطهارة اللاحقة، وعدم انتقاض الوضوء وأي تأثير في ذلك؟ وهو مخالف أيضا لروايات الأئمة. روى الصفار عن محمد بن عيسى عن أبي جعفر: «أنه كتب إليه رجل: هل يجب الوضوء إذا خرج من الذكر شيء بعد الاستبراء؟ قال: نعم». وإنهم حكموا بطهارة خرء الدجاجة، مع أن نجاسته ثبتت بنصوص الأئمة في كتبهم المعتبرة. روى محمد بن حسن الطوسي عن فارس: «أنه كتب رجل إلى صاحب العسكر يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب: لا»، وهذا مخالف لقاعدتهم في الكلية

صفة الوضوء والغسل والتيمم

وهي: «أن ذرق الحلال من الحيوان نجس»، نص عليه الحلي في المنتهى. صفة الوضوء والغسل والتيمم قالوا غسل بعض الوجه في الوضوء كاف، مع أن نص الكتاب يدل على وجوب غسله كله. قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} والوجه ما يواجه به، وهو من منبت قصاص الجبهة غالبا إلى آخر الذقن، ومن إحدى شحمتي الأذن إلى الأخرى. وهم قدروا الفرض في غسل الوجه ما يدخل بين الإبهام والوسطى إذا انجرت اليد من الجبهة إلى الأسفل. وليس لهذا التقدير أصل في الشرع أصلا، ولا فيه رواية عن الأئمة. والدليل على بطلانه أن الإبهام والوسطى لو جررناهما ممتدين من الأعلى إلى الأسفل، فإذا اتصلتا إلى الذقن لا بد أن تحيطا من الحلق ببعضه من الطرفين، فيلزم أن يكون غسل ذلك القدر من الحلق فرضا أيضا، مع أن الحلق لم يعدّه أحدٌ داخلا في الوجه؛ ولو بسطنا الإصبعين المذكورتين بمحاذاة الجبهة وقبضناهما بالتدريج، فحدُّ القبض لا يعلم أصلا. والتقديرات الشرعية تكون لإعلام المكلفين لا للإبهام عليهم. وقالوا: إن الوضوء مع غسل الجنابة حرام. وهذا مخالف لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان يتوضأ في غسل الجنابة ابتداء ثم يصب الماء على البدن في كل غسل. ومخالف لما عليه الأئمة أيضا، روى الكليني عن محمد بن مبشر عن أبي عبد الله

والحسن بن [سعيد] عن الحضرمي، عن أبي جعفر أنهما قالا: «حين سألهما شخصٌ عن كيفية غسل الجنابة: تتوضأ ثم تغسل». وقالوا: إن غسل النيروز سنة كما صرح بذلك ابن فهد. وهذا الحكم محض ابتداع في الدين، إذ لم ينقل في كتبهم أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الأئمة أنهم اغتسلوا يوم النيروز. بل لم تكن العرب تعرف ذلك اليوم لأنه من الأعياد الخاصة بالمجوس. وقالوا إن من وجب عليه القتل حدا أو قصاصا إذا اغتسل قبل القتل لا يعاد عليه الغسل بعده بل يجزئ اغتساله، كما نص عليه بهاء الدين العاملي في جامعه. وأنت خبير بأن علة الحكم قبل القتل غير متحققة البتة، فكيف يترتب الحكم

وإذا وجدت كيف لا يترتب؟ فحينئذ يلزم الانفكاك بينهما. والحال أن العلل الشرعية كالعقلية في ترتب ما يتوقف عليها ويحتاج إليها وجودا وعدما. وقالوا: يكفي للتيمم ضربة واحدة، مع أن روايات الأئمة ناطقة بخلاف هذا الحكم. روى العلاء عن محمد بن مسلم عن أحدهما قال: «سألته عن التيمم فقال: ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين». وروى ليث المرادي عن أبي عبد الله نحوه. وروى إسماعيل بن همام الكندي عن الرضا مثل ذلك. وزادوا في التيمم مسح الجبهة، ولا أصل له في الشرع أيضا. وقالوا: إن الخف والقلنسوة والجورب والنطاق والعمامة والتكة وكل ما يكون على بدن المصلي مما لا يمكن الصلاة فيه وحده يجوز الصلاة بها وإن كانت متلطخة

مسائل الصلاة

بعذرة الإنسان وغيرها من النجاسات المغلظة. وهذا الحكم مخالف لصريح الكتاب، أعني قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ولا شك أن هذه الأشياء يطلق عليها لفظ الثياب شرعا وعرفا، ولهذا تدخل في يمين تنعقد بلفظ الثياب نفيا وإثباتا. وقالوا: إن ثياب بدن المصلي -كالأزرار والقميص والسراويل- يجوز الصلاة بها وإن تلطخت بدم الجروح والقروح، مع أن الدم والصديد ونحوهما -سواء كانت من جرحه أو جرح غيره- نجسة بلا شبهة. وهذا في حق غير المبتلى بهما، وأما في حقه فمعفو عنه لتعسر الاحتراز عن ذلك حينئذ. مسائل الصلاة قالوا: يجوز استقبال غير القبلة في صلاة النافلة قائما كان المصلي أو قاعدا، وكذا في سجدة التلاوة. وهذا ابتداع في الدين، وأمر لم يأذن به الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأما حالة الركوب في السفر فمخصوصة البتة من عموم وجوب استقبال القبلة بروايات الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأئمة كما بيّن في محله. وإذا انتفى هذا العذر

لا يصح استقبال غير القبلة. قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، ولقد أنصف هذه المسألة شيخهم المقداد في كنز العرفان وحكم بمخالفة هذا الحكم لصريح القرآن. وقالوا: إنَّ مَن صلى في مكان فيه نجاسة -كبراز الإنسان يابسة لا تلتصق ليبسها ببدنه وثوبه في السجود والقعود- جازت صلاته، مع أن وجوب طهارة مكان الصلاة ضروري الثبوت في جميع الشرائع. وقالوا: إنَّ مَن غمس قدميه إلى الركبة ويديه إلى المرفقين في صهاريج بيت الخلاء الممتلئة بعذرة الإنسان وبوله ثم أزال عين ما التصق به بعد اليبس بالفرك والدلك من غير غسل وصلى صحت صلاته. وكذلك إن انغمس جميع بدنه في بالوعة مملوءة من البول والعذرة -وليس على بدنه جرم النجاسة- صحت صلاته أيضا بلا غسل. مع أن التطهير في هذه الحالات من غير غسل لا يتحقق، كما هو معلوم لكل أحد من العقلاء. وقالوا: لو وجد المصلي بعد الفراغ من الصلاة في ثوبه براز الإنسان أو الكلب أو الهرة اليابس أو المني أو الدم صحت صلاته ولا تجب عليه إعادتها، كما ذكره الطوسي في التهذيب وغيره. مع أن طهارة الثوب من شرائط الصلاة، والجهل والنسيان في الحكم الوضعي ليس بعذر.

وقالوا: إنَّ مَن صلى عاريا وقد ستر ذكره وانثييه بطين قليل -ولو من غير ضرورة- صحت صلاته. مع أن ستر العورة واجبٌ على القادر شرعا، ولا سيما في حالة الصلاة. ولهذا خالف جماعة من الإمامية جمهورهم في هذه المسألة مستدلين بالآثار المروية عن أهل البيت. وقالوا: إنَّ مَن لطخ لحيته وشاربه وبدنه وثوبه بذرق الدجاج أو أصاب لحيته وشاربه ووجهه وخده قطرات من بوله بعد ما استبرأ ثلاث مرّات تصح صلاته بلا غسل. وقالوا: يجوز المشي للمصلي في صلاته لوضع عجينة في محل لا يصل إليه كلب أو هرة، ولو كان ذلك المحل بعيدا عن مصلاه لمسافة عشرة أذرع شرعية. مع أن العمل الكثير ولا سيما إذا لم يكن مما يتعلق بالصلاة مبطل لها، لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}.

وقالوا: من قرأ في الصلاة "وتعالى جدك" تفسد صلاته. مع أن قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} في سورة [الجن] يصح قرأتها في الصلاة. وقالوا تفسد الصلاة بقراءة بعض السور من القرآن كحم تنزيل السجدة وثلاث سور أخرى، مع أن قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} يدل بمنطوقه على العموم. وهؤلاء الفرقة هم يروون عن الأئمة أن الصلاة تصح بقراءة كل سورة من القرآن، ومن العجيب أنهم يحكمون بجواز الصلاة بقراءة ما يعلمه المصلي أنه ليس من القرآن المنزل، بل هو محرّف عثمان وأصحابه، مثل أن تكون: {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}. وقالوا: يجوز الأكل والشرب في الصلاة، كما صرح به فقيههم المعتبر صاحب شرائع الأحكام في كتابه هذا، مع أن الأخبار المتفق عليها تدل على المنع من الأكل والشرب في الصلاة. وشرب الماء في صلاة الوتر لمن يريد أن يصوم غدا وعطش في تلك

الصلاة مجمع على جوازه عندهم. وقالوا: لو باشر المصلي امرأة حسناء مباشرة فاحشة وضمها إلى نفسه وألصق رأس ذكره بما يحاذي قبلها وسال المذي الكثير ولو إلى الساق جازت صلاته، كذا ذكره الطوسي وأبو جعفر وغيره من مجتهديهم. ولا يخفى أن هذه الحركات مخالفة بالبداهة لمقاصد الشرع ومنافية لحالة المناجاة. وقالوا: إنَّ المصلي لو لعب بذكره وخصيتيه بحيث سال منه المذي لا تفسد صلاته. وقال بعضهم: تجوز الصلاة إلى جهة قبور الأئمة بنية مزيد الثواب. مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم

مساجد». وقالوا: يجوز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير عذر وسفر. وذلك مخالف لقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}. وقالوا: يجوز أن تصلى الصلوات الأربع -أعني الظهر والعصر والمغرب والعشاء- متصلا بعضها ببعض لانتظار خروج المهدي. مع أن الله تعالى جعل لكل صلاة وقتا. وقالوا: لا يجوز قصر الصلاة في سفر التجارة دون إفطار الصوم. مع أنه لا فرق بين الصلاة والصوم شرعا. وقد نص على الفرق ابن إدريس وابن المعلم والطوسي وغيرهم. وروايات الأئمة تدل على عدم الفرق، ففي كتبهم الصحيحة روى معاوية بن وهب عن أبي عبد الله أنه قال: «وإذا قصرت أفطرت، وإذا أفطرت قصرت». وقالوا مَن كان في سفره أكثر من إقامته -كالمكاري والملاح والتاجر الذي يتردد [بفحص الأسواق]- فله أن يقصر صلاة النهار ويتم صلاة الليل، ولو أقام خمسة أيام

في أثناء سفره أيضا. نص عليه القاضي ابن البراج وابن زهرة وأبو جعفر الطوسي في النهاية والمبسوط. مع أن روايات الأئمة التي وصلت إليهم تدل على خلاف ذلك، ولم تفرق بين الليل والنهار. روى محمد بن بابويه في الصحيح عن أحدهما أنه قال: «المكاري والملاح إذا جدّ بهما سفر فليقصرا»، وروى [محمد] بن مسلم عن الصادق نحوه. وقالوا: إن القصر في صلاة السفر مخصوص بالسفر إلى المسجد الحرام والمدينة المنورة وكوفة وكربلاء، وهذا عند جمهورهم. وأما المختار لجمع منهم المرتضى فهو أن جميع مشاهد الأئمة لها هذا الحكم. مع أن قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} الآية يدل على جواز القصر مطلقا. وقد كان الأمير كرم الله تعالى وجهه يقصر صلاته في جميع أسفاره. ورواية ابن بابويه السابقة دالة أيضا على الإطلاق. وقالوا: إنَّ صلاة الجمعة في غيبة الإمام لا تجب، بل زعم أهل أخبارهم أنها حرام. وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ

مسائل الصوم والاعتكاف

فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} الآية من غير تقييد بحضور الإمام. مسائل الصوم والاعتكاف قالوا: إن الصائم إذا ارتمس في الماء فسد صومه، مع أن مفسداته إنما هي الأكل والشرب والجماع بالإجماع. ولهذا رجع عن هذه المسألة جمع منهم واختاروا عدم الفساد لصحة الآثار بخلافها. ومن العجيب أن الصوم لا يفسد بالإيلاج على ما ذهب إليه أكثرهم، وقد رأيت في كتاب الشرائع الذي هو أحد كتبهم المعتبرة ما نصه: «ويجب الإمساك عن تسعة: الأكل والشرب والجماع قبلا ودبرا على الأشهر، وفي فساد الصوم بوطئ الغلام تردد وإن حرم»، ثم ذكر بعد أسطر في فصل (ما يجب به الكفارة والقضاء): «تجب فيه الكفارة والقضاء على من كذب على الله ورسوله والأئمة، وفي الارتماس قولان: والأشبه أنه يجب القضاء لا الكفارة ... » الخ. فانظر هل من له عقل

يرضى بمثل هذا الكلام؟ الذي هو بعيد عن الحق بمسيرة ألف عام، وقد روى عن الأئمة خلافه، وأجمع الأمة على أن كل ما يوجب الإنزال فهو مفسد للصوم سواءٌ كان الوطئ في قبل أو دبر. وقالوا: إنَّ أكل جلد الحيوان لا يفسد الصوم، ولكن عند بعضهم. وعند بعض آخر منهم إن أكل أوراق الأشجار لا يفسد الصوم أيضا. وعند بعضهم لا يفسد الصوم أكل ما لا يعتاد أكله. ومع هذا لو انغمس في الماء يجب عليه القضاء والكفارة معا عند هذا البعض وإن لم يدخل شيء من الماء في حلقه وأنفه. وقالوا: يستحب صوم يوم عاشوراء من الصبح إلى العصر، مع أن الصوم لا يتجزأ في شريعة أصلا، بل يفسد بفساد جزء منه لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}. وقالوا: إن صيام اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة مؤكّدة، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع الأئمة لم يصوموا هذا اليوم بالخصوص ولم يبينوا ثوابه.

مسائل الزكاة

وقالوا لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد أقام فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الأئمة الجمعة. وهذا مخالف لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وقالوا: يحرم استعمال الطيب للمعتكف مع أنه مسنون لمن يدخل المساجد بالإجماع. مسائل الزكاة قالوا: لا تجب الزكاة في التبر من الذهب والفضة. وقالوا: لو كان عند رجل في ملكه نقود كثيرة مسكوكة واتخذ منها الحلي أو آلات اللهو سقط عنه زكاتها، وإن احتال بهذا قبل يوم من حولان الحول. كذلك تسقط زكاة تلك النقود إذا كسد رواجها في تلك المدة وراجت نقود أخر مكانها. وهذا مخالف لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنزونَ

مسائل الحج

الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. وحيثما ذكر وجوب الزكاة في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الأئمة جاء بلفظ الذهب والفضة لا بلفظ الدراهم والدنانير الرائجة الوقت. وقالوا: لا تجب الزكاة في أموال التجارة ما لم تصر نقدين بعد التبدل والتحول. وقالوا: لا تجب الزكاة في مال رجل أو امرأة ملكه وجعله أثاثا لنفسه أو اشترى به متاعا بنيّة الاكتساب أو الزينة أو بالعكس. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «أدوا زكاة أموالكم»، ولا شبهة في كون هذه الأشياء مالا. وقالوا: يجوز للمزكي أن يسترد مال الزكاة عن المستحق إذا زال فقره بعد ما تملكه وتصرف فيه، مع أن الصدقات لا تسترد ولا يصح الرجوع فيها بعد القبض. وأخذ مال الغير بدون إجازته لا يجوز في الشريعة أصلا، والاستحقاق وقت الزكاة شرط في وقت الأخذ لا في تمام عمره. مسائل الحج قالوا: لو ملك رجلا مالا يكفي لزاده وراحلته ونفقة عياله ذهابا وإيابا ولكن إذا ظن أنه بعد الرجوع من الحج لا يبقى عنده ما يكفيه لنفقة أكثر من شهر، لا يجب عليه الحج، نص عليه أبو القاسم في الشرائع وغيره. وقد أوجب الشارع الحج على

من استطاع إليه سبيلا، أي بالزاد والراحلة ونفقة العيال ذهابا وإيابا وصحة البدن وأمن الطريق لا غير. فانصرام النفقة بعد المجيء لا يوجب نقصا في معنى الاستطاعة. وقالوا: لا يجب سترة العورة في الحج، لكن هذا عند بعضهم. وقد قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} والروايات الصريحة عن الأئمة ناصة على خلاف ذلك. وقالوا: يجوز للحاج أن يطوفوا عراة كالجاهلية ولكن بشرط تطيين السوأتين بحيث لا يظهر لون البشرة، مع أن هذا ليس من شعائر الإسلام. ومن العجيب أن الزنا عند طائفة منهم لو وقع بعد الإحرام بالحج لا يفسده، وهذه ثمرة كشف العورة فيه. وكيف يجوز ذلك والله تعالى يقول: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ولا رفث فوق الزنا في العالم. وقالوا: لو أصطاد أحد في الإحرام مرّة متعمدا تجب عليه الكفارة، وإذا فعل ذلك مرة أخرى لا تجب، مع أن الجناية إذا تكررت تكون أعظم. ونص

مسائل الجهاد

الكتاب قاضٍ بالكفارة على العامد مطلقا، قال تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُمُ مُّتَعَمِّدا فَجَزَاءٌ .. } الآية. مسائل الجهاد قالوا: الجهاد خاص بمن كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في زمن خلافة الأمير أو الإمام الحسن قبل صلحه مع معاوية أو مع الإمام الحسين أو من سيكون مع الإمام المهدي. ولا يجوز الجهاد عندهم في غير هذه الأوقات الخمسة، مع أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والآيات الدالة على وجوب الجهاد غير مقيدة بزمان، بل تدل على أن الجهاد وفي جميع الأوقات عبادة، ومستوجب للأجر العظيم، مثل قوله تعالى: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .. } الآية فإنها نزلت في حق الخليفة الأول، وقوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ .. } الآية، فإنها نزلت في حق رفقاء الخليفة الثاني. وما وقع عندهم من الجهاد في غير الأوقات المذكورة، فهو فاسد [عندهم]، فيلزم على هذا أن تكون الغنائم في الجهاد الفاسد ليس بمشروعة القسمة، ولا تكون الجواري المأسورة [مملوكة] لأحد ولا يصح التمتع بهن. وقد استخرجوا فتوى عجيبة لتسهيل

مسائل النكاح والبيع

هذا العسير ونسبها صاحب الرقاع المزورة ابن بابويه إلى صاحب الزمان: أن تلك الجواري كلها مملوكة للإمام، وقد حلل الأئمة جواريهم لشيعتهم، فبهذه الحيلة يجوز التسري بهن، وإن كانت مأسورة في الجهاد الفاسد. وما يوجب العجب، بل يضحك المغبون أنك لو سألتهم وقلت: كيف تسرى [علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه] بخولة بنت جعفر اليمامية الحنفية التي جاء بها خالد بن الوليد مأسورة في عهد الخليفة الأول وولد منها محمد بن الحنفية، مع أن ذلك الجهاد كان بزعمهم الفاسد فاسدا؛ أجابوك بأنه قد صح عندنا أن الأمير أعتقها أولا ثم تزوجها. أولا يفقهون أن الإعتاق لا يتصور بدون الملك، فيلزم أن يملكها أولا ثم يعتقها، مع أن الإعتاق نوع من التصرف، وبه يثبت المدعى. مسائل النكاح والبيع قالوا: لا يجوز النكاح والبيع إلا بلغة العرب، مع أن اعتبار اللغات في المعاملات

مسائل التجارة

الدنيوية لم يأتِ في شريعة أصلا، ولا أن الأمير كلف أهل خراسان وفارس في عهد خلافته بأن يعقدوا معاملاتهم بلسان العرب، بل نفذ أنكحتهم وبيوعهم المنعقدة بلغتهم. وأي دخل للسان العرب في صحة العقود والمعاملات، كالنكاح والبيع والإجارة والطلاق، إذ المقصود بها إظهار ما في الضمير، وهو معين لكل قوم بلغتهم. وقالوا: إن الجد مختار في بيع مال الصغير وله الولاية عليه مع وجود الأب. وقد تقرر في الشرع عدم دخول الولي الأبعد عند وجود الأقرب في كل باب، وسقوط المدلي عن المدلى به في الولاية والميراث. مسائل التجارة قالوا: إن أخذ الربح من المؤمن في التجارة مكروه، وقد قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وقال تعالى: {إلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}، {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ}. والمؤمن وغيره سيان في هذا الباب، إذ مبنى التجارة والبيع على تحصيل النفع. وما توارثه جميع الأمة في كل الأعصار والأمصار على خلاف هذه المسألة. فلو اتجر مؤمن في دار الإسلام تجارة بالمؤمنين لا تجوز له فتصير ديار كثيرة محرومة من هذه الفائدة. وقد قرر الأنبياء والأئمة المؤمنين على تجارتهم فيما بينهم مع أخذ الربح. مسائل الرهن والدين قالوا: يجوز الرهن من غير قبض المرتهن المرهون، وقد جعل القبض في الشرع من لوازم الرهن، قال تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ولا تتحقق الفائدة المقصودة من الرهن بدون القبض، لأن المرتهن لا حق له في رقبة المرهون ولا يجوز الانتفاع بمنافعه بلا إذن الراهن، وليس له إلا القبض حتى يحصل دينه من المرهون لدى

مسائل الغصب والوديعة

الحاجة، فإذا لم يكن هذا أيضا [فلا] فائدة فيه للمرتهن. ومع هذا قد خالفوا في هذه المسألة الروايات الصحيحة عن الأئمة، روى محمد بن قيس عن الباقر والصادق أنهما قالا: «لا رهن إلا مقبوض». وقالوا: يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون، وهو ربا محض. وقالوا: إنْ أرتهن أحد أمة آخر يجوز له وطؤها، وهو زنا. وقالوا: إنَّ رهن أحد أم ولده جاز، وإن إذن للمرتهن وطأها قبلا ودبرا جاز أيضا. ولا يخفى شناعة هذه المسألة ومخالفتها لقواعد الشرع. وقالوا: لو أحال رجل دينه على آخر وهو لا يقبل، لزمت الحوالة. نص عليه أبو جعفر الطوسي وشيخه ابن النعمان. وفي هذا الحكم غاية غرابة، ولم يأتِ في باب [من أبواب] الشريعة أن يلزم دين أحد آخر بلا التزامه. ولو جرى العمل على هذه المسألة لحصل فساد عظيم، إذ يمكن لكل فقير أن يحيل دينه على الأغنياء والتجار في كل بلدة ويبرئ ذمته. مسائل الغصب والوديعة قالوا: لو غصب رجل مال غيره وأودعه غيره يجب على المودع إنكار الوديعة بعد موت المودع، مع أن الله تعالى شدد الوعيد في إنكار الأمانة، وإن كان ذلك المودع غاصبا فعليه ذنبه، ولكن كيف يجوز لهذا الأمين إنكار أمانته والحلف بالكذب؟ وقالوا: إن لم يظهر مالك ذلك المغصوب بعد التفحص سنة واحدة يتصدق به على الفقراء، مع أن التصدق من مال الغير بلا إذنه لا يجوز في الشرع لقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أدِ الأمانة

مسائل العارية

إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك»، وهو خبر صحيح نص عليه ابن المطهر الحلي. وقالوا: إن غصب أحد مال غيره وخلطه بماله بحيث لا يمكن الامتياز بينهما -كاللبن المخلوط باللبن والسمن بالسمن والبر بالبر ونحوها- يرد الحاكم ذلك المال إلى المغصوب منه. وهذا الحكم ظلم صريح لأن المغصوب منه لا حق له في مال الغاصب، ولا يعالج الظلم بالظلم. وقالوا: إن أودع رجل أمته عند آخر وأجاز له وطأها متى شاء [جاز] للأمين أن يطأها متى شاء. مسائل العارية قالوا: لو قال رجل لآخر حللت لك جميع منافع هذه الأمة، يكون وطؤها له حلالا طيبا. وإعارة فروج النساء بالخصوص أو في ضمن جميع المنافع جائزة عندهم، وكذا إعارة أم الولد للوطئ. وهذه الأحكام كلها مخالفة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ}. مسائل اللقيطة قالوا: إن وجد رجلٌ طفلا مميزا ضل عن ورثته لا يجوز له التقاطه ولا حفظه ببيته. ولا شبهة في أن ترك التقاطه موجب لهلاكه، لأنه لصغره عاجز عن دفع المؤذين عن نفسه غير قادر على كسب نفقته. فالتقاطه أوكد من التقاط الحيوانات.

مسائل الإجارة والهبة والصدقة والوقف

مسائل الإجارة والهبة والصدقة والوقف قالوا: لا تنعقد الإجارة بغير لسان العرب. وقالوا: من استؤجر لجهاد الكفار ولحراسة الطريق والشوارع من قطاع الطريق في زمن غيبة الإمام المهدي لا يكون الأجير مستحقا للأجرة، لأن الجهاد في زمن غيبة الإمام فاسد فلا تصح إجارته. وقالوا: إن جعل شيعي أم ولده أجيرا لخدمة رجل ولتدبير البيت وأحل فرجها لآخر، يكون خدمتها للأول ووطؤها للثاني. وقالوا: لا تصح الهبة بغير اللغة العربية، فلو قال رجل ألف مرة باللسان الفارسي مثلا: "بخشيدم بخشيدم" لا تكون هبة. وقالوا: إن هبة وطئ مملوكته فقط صحيحة، ويكون الفرج عارية. وقالوا: يجوز الرجوع عن الصدقة، وقد قال تعالى: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه». وقالوا: يجوز وقف الهرّة، مع أنه لا فائدة في وقفها. وقالوا: إن وقف فرج الأمة صحيح، فتلك الأمة تخرج [إلى الناس] ليستمتعوا بها وأجرة هذه المتعة حلال طيب لمن وقفت له. فلم يبقَ فرق بين الشريعة وبين أسلوب الكفار الذين لا دين لهم. مسائل النكاح قالوا: يستحب ترك النكاح مع التوقان وخوف الفتنة، مع أنه خلاف سنة الأنبياء والأوصياء. نعم لم يكن الأنبياء والأوصياء يعلمون أن شبق الجماع يمكن أن يدفع بالمتعة

وبالفروج المعارة. وقالوا: النكاح مكروه إذا كان القمر في العقرب، أو تحت الشعاع وفي المحاق. وهذا مخالف لمقاصد الشرع الذي جاء لإبطال النجوم. وقالوا: إن وطأ جارية لم يكمل لها تسع سنين حرام، وإن كانت ضخمة تطيق الجماع. ولا أصل لهذا الحكم في الشرع. وقالوا: يجوز في النكاح المباح أن يشرط النكاح مرات الجماع في زمان معين، ويكون لكل منهما مطالبة الآخر على وفق الشروط، وقد قال الله تعالى: {ولاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا}. وقالوا: يجوز وطأ المنكوحة أو المملوكة أو الأمة المعارة أو الموقوفة أو المودعة أو المستمتع بها دبرا، مع أن الله تعالى قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} وإذا حرم الله تعالى الفرج لنجاسة الحيض،

مسائل المتعة

فكيف لا يكون الدبر الذي هو معدن النجاسة حراما لتلك العلّة؟ وثانيا لو كان الوطء من الدبر جائزا لما قال: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} لا في محل الحيض هو الفرج خاصة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ملعون من أتى امرأة في دبرها»، وقالوا: «اتقوا محاش النساء» أي أدبارهن، وهو خبر صحيح متفق عليه نص عليه المقداد. مسائل المتعة زعموا أن متعة النساء خير العبادات وأفضل القربات، ويروون في فضائلها أخبارا موضوعة مفتراة وهي أنواع: قالوا: يجوز متعة الخلية بالإجماع، ومتعة المشركة والمجوسية، سواء كانت خليّة أو محصنة، إذا تحركت ألسنتهن بقول لا إله إلا الله، وإن لم يكن في قلبهن من معناها شيء. وقالوا: تجوز المتعة الدورية -وإن كان الاثنا عشرية ينكرون هذا التجويز- ولكن المحققين منهم لم ينكروها وذكروا أنها ثابتة في كتبهم. صورتها أن يستمتع جماعة من امرأة واحدة ويقرروا الدور والنوبة لكل منهم، فيجامعها من له النوبة من تلك الجماعة في نوبته، مع أن خلط المائين في الرحم لا يجوز في شريعة من الشرائع، إذ لا يثبت حينئذ نسب العلوق لأحد منهم، مع أن حفظ الأنساب هو الفارق بين الإنسان والحيوان.

مسائل الرضاع والطلاق

وإذا تأمل العاقل في أصل المتعة يجد فيها مفاسد مكنونة كلها تدافع الشرع. منها تضييع الأولاد، فإن أولاد الرجل إذا كانوا منتشرين في كل بلدة ولا يكونون عنده فلا يمكن أن يقوم بتربيتهم، فيعيشون من غير تربية كأولاد الزنا. ولو فرضنا أن أولئك الأولاد كانوا إناثا يكون المحذور أزيد والخزي أعظم، لأن نكاحهن لا يمكن أن يكون من كفوٍء أصلا. ومنها احتمال وطئ موطوءة الأب للابن نكاحا أو متعة أو بالعكس، بل يحتمل أن يطأ الرجل بنته أو بنت ابنه أو أخته أو غيرهن من المحارم في بعض الصور خصوصا في مدة طويلة، وهو من أشد المحذورات. ومنها عدم تقسيم ميراث من ارتكب المتعة كثيرا، إذ لا يكون ورثته معلومين لا عددهم ولا أسمائهم ولا أمكنتهم، فلزم تعطيل أمر الميراث، وكذلك لزم تعطيل ميراث من ولد بالمتعة، فإن آبائهم واخولَّهم مجهولون، ولا يمكن تقسيم الميراث ما لم يعلم حصر الورثة في العدد، ويمتنع تعيين سهم من الأسهم ما لم يدر صفات الورثة من الذكورة والأنوثة والحجب والحرمان. بالجملة فالمفاسد الكثيرة المترتبة على المتعة مضرة جدا، ولا سيما في الأمور الشرعية كالنكاح والميراث، فلهذا حصر سبحانه أسباب حل الوطئ في شيئين: النكاح الصحيح وملك اليمين، ليحفظ الولد ويعلم الإرث. مسائل الرضاع والطلاق قالوا: إن شرب الطفل اللبن خمسة عشرة مرة متوالية يشبع الطفل بكل منها يثبت الحرمة، وإن لم تكن متوالية لا يثبت الحرمة وإن شبع الطفل بكلّ. مع أن الحكم كان

في الابتداء عشر رضعات يحرمن، ثم نسخ وثبت ذلك بإجماع الأمة. وأما قيد التوالي وزيادة الخمس على العشرة، فلم يكن في كلام الله تعالى أصلا، بل هي من مخترعاتهم. وإبقاء الحكم المنسوخ تشريع من عند أنفسهم. مع أنهم يروون عن الأئمة أن شرب اللبن مطلقا موجب للحرمة، لأن المقام مقام احتياط. وصرح شيخهم المقداد في كنز العرفان في بحث كفارة اليمين بوجوب العمل بالأحوط في أمثال هذه المواضع. وقالوا: لا يقع الطلاق بغير اللغة العربية. وهو باطل لما قدمنا من أنه لا دخل اللغات في العقود. وقالوا: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، أو طلاق، لا يقع، ولو قال ذلك ألف مرة، وإنما يقع إذا قال: طلقتك. مع أن الشارع قد عدّ هذه الصيغ من الطلاق الصريح، وإن كان أصل وضعها للإخبار، وهم قائلون بوقوع الطلاق فيما إذا سأل رجلٌ آخرَ: هل طلقت فلانة؟ فقال: نعم، مع أن الصريح فيه الإخبار، وإلا فكيف يقع في جواب الاستفهام؟. وقالوا: لا يصح الطلاق إلا بحضور شاهدين كالنكاح، مع أن المعلوم قطعا من الشرع أن

الإشهاد في الرجعة والطلاق مستحب قطعا، للنزاع المتوقع، لا أن حضور الشاهدين شرط في الطلاق أو الرجعة كما في النكاح، وهو ما عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة. وقالوا: لا يقع الطلاق بالكنايات إن كان الزوج حاضرا، مع أنه لا فرق بين حضوره وغيبته، بل هو خلاف قاعدة الشرع، فإن الشارع لم يعتبر في إيقاع الطلاق حضور الزوج وغيبته قط. وقالوا: إن نكح المجبوب -وهو مقطوع الذكر فقط- امرأة، ثم طلقها بعد الخلوة الصحيحة لا تجب العدة عليها، مع أنهم قائلون بثبوت نسب الولد من هذا الرجل إن ولد منها. فاحتمال العلوق من هذا الرجل ثبت أيضا عندهم، فكيف لا يجب عليها عدة؟ وقالوا: لا يقع الظهار إذا أراد الزوج بإيقاعه إضرار زوجته بترك الوطئ، مع أن الشارع قصد سد باب الإضرار بإيجاب الكفارة على المظاهر. فلو لم يقع الظهار ولم يجب شيء في الإضرار لزم المناقضة في مقصود الشارع. ومع ذلك فقولهم مخالف لنص الكتاب والأحاديث والآثار، فإنها وردت بلا تقييد، وهي ثابتة في كتبهم الصحيحة. وقالوا: إن عجز المظاهر عن أداء خصال الكفارة -من تحرير رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينا- فليصم ثمانية عشر يوما، وهذا القدر من الصوم يكفيه؟ ولا يخفى أن هذا قول من تلقاء أنفسهم، وحكم لم ينزله الله تعالى.

مسائل الإعتاق والأيمان

وقالوا: يشترط في اللعان كون المرأة مدخولا بها، مع أن لحوق العار بتهمة الزنا أكثر من غير المدخول بها، وقد تقرر أن اللعان لدفع التهمة، وأنه أيضا مخالف لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} الآية فقد ورد بغير تقييد بالدخول. مسائل الإعتاق والأيمان قالوا: لا يقع العتق بلفظ العتق. ولعمري إن هذا لشيء عجاب، فأي لفظ أدل على هذا المعنى من هذا اللفظ. وقالوا لا يقع العتق بلفظ فك الرقبة أيضا، مع أنه قد وقع في عدة مواضع من القرآن التعبير بهذا اللفظ عن العتق وصار حقيقة شرعية فيه، كقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}. وقالوا: لا يصح عتق عبد أو أمة اعتقد مذهب أهل السنة أو غيرهم ممن خالف الاثني عشرية. مع أنه لا دليل لهم على هذا لا من كتاب ولا من سنة. وما ذاك إلا محض عناد وجهل بالمراد، ألا ترى أن عتق العبد الكافر صحي، فضلا عن أن يكون له مذهب. وقد ثبت إيمان أهل السنة في كتبهم. وقالوا: لو صار العبد مجذوما أو أعمى أو زمنا يعتق نفسه من غير إعتاق. وهذا

خلاف ما تقتضيه قواعد الشرع، إذ لا يخرج مال أحد عن ملكه بنفسه بعيب، لأن سبب مشروعية العتق هو نفع العبد، وقد صار ههنا لمحض ضرره وهلاكه، لأنه حينئذ لا اقتدار له على الكسب ولا نفقة له على سيده. فإن قالوا للعبد نفع بذلك بسبب استراحته من الخدمة، قلنا لا يجوز على المالك تكليف مثل هؤلاء. وقالوا: إن خرجت نطفة السيد من بطن الأمة صارت أم ولد، فعلى هذا يلزم صيرورة كلّ جارية موطوءة أم ولد لأن عادة النساء كذلك. وقالوا: لو رهن رجل أمته، ووطأها المرتهن وجاءت بولد منه صارت أم ولد له. مع أن وطأ المرتهن محض زنا، إذ لا ملك له ولا تحليل، بل إن التحليل أيضا لا يوجب كونها أم ولد عندهم. وقالوا: لا ينعقد يمين الولد بغير إذن الوالد في غير فعل الواجب وترك القبيح، وكذلك يمين المرأة بغير إذن الزوج فيهما. مع أن ذلك مخالف لقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}، وقوله سبحانه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ}. قالوا: إن نذر أحد أن يمشي إلى الكعبة راجلا يسقط عنه هذا النذر، نص عليه أبو جعفر الطوسي. مع أنه مخالف لقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}. وقالوا: يلزم النذر بقصد القلب من غير أن يتلفظ بلفظ النذر سرا وجهرا، ويسمونه نذر الضمير، مع أنه لا يلزم في الشرع شيء بقصد القلب، من جنس ما لا بد فيه القول، كاليمين والنذر والنكاح والطلاق والعتاق والرجعة والبيع والإجارة والهبة والصدقة وغيرها.

مسائل القضاء

مسائل القضاء قالوا: لا ينفذ قضاء القاضي في الحدود، بل لا بد فيها من الإمام المعصوم. فيلزم تعطيل الحدود في زمن غيبة الإمام، أو عدم تسلّط الأئمة كما كانت في الأزمنة الماضية. كذلك ولو كان موجودا في محل فمن يقيم الحدود في محل آخر. مع أن ليس في جميع العبادات والمعاملات والكفارات موقوفا على حضور الإمام، فلتكن إقامة الحدود أيضا من ذلك. وقالوا: يشترط في القضاء علم الكتابة، مع أنه لا دليل عليه. بل إن الدليل قائم على خلافه، فإن خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام كان له منصب القضاء بلا ريب، لقوله تعالى: {أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ولم يتصف بالكتابة لقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} مع أنه لم يلحقه قصور من ذلك. مسائل الدعوى قالوا: تقبل دعوى امرأة ماتت ابنتها [بأنها تركت عند ابنتها المتوفاة متاعا أو خادما بالأمانة وذلك] من غير بينة ولا شهود، نص عليه ابن بابويه. مع أنه مخالف لقوله تعالى: {لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ}، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»، وأيضا لو قبلت الدعاوى من غير بينة لفسد الدين واختل نظام المسلمين. وقالوا: لو ادعى أحد على عدوه بالزنا وليس عنده شهود على إثبات هذه الدعوى يحلّف ولا يحد بالقذف. نص عليه شيخهم المقتول في المبسوط. مع أن الحلف لا

مسائل الشهادة والصيد والطعام

اعتبار له في الحدود. ويجب حد القذف على مدعيه إذا عجز عن إقامة البينة. وكيف لا ننظر إلى العداوة التي هي سبب ظاهر للاتهام والكذب. مسائل الشهادة والصيد والطعام قالوا: تقبل شهادة الصبي الغير بالغ في القصاص، مع أن الطفل ليس له أهلية الشهادة لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ولا سيما باب القصاص الذي فيه إتلاف النفس. وقالوا: صيد أهل الكتاب حرام، وذبيحة أهل السنة ميتة، وكذا ذبيحة من لم يستقبل القبلة عند الذبح. وكل ذلك مخالف لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}. وقالوا: لو اصطاد أحد بغير المعتاد من الآلة لا يصير الصيد مملوكا، مع أنه لا فرق بين الآلة المعتادة وغيرها. وقالوا: لبن الميتة وما لا يؤكل من الحيوان حلال. وقالوا: إن الخبز الذي عجن دقيقه

مسائل الفرائض والوصايا

بماء نجس طاهر، كما ذكره الحلي في التذكرة. وقالوا: إن الطعام الذي وقع فيه ذرق الدجاج واضمحل فيه طاهر جائز أكله. وكذا لو طبخ المرق أو نحوه بماء الاستنجاء أو وقع فيه شيء من خرء الدجاج. وكذا ماء الغدير الذي استنجى فيه كثير من الناس ووقع فيه دم حيض ونفاس ومذي وودي وبال فيه كلب، فإنه طاهر يجوز استعماله لشرب وطبخ. وكذا الماء الذي كان قدر نصفه دم مسفوح أو بول حمار أو فرس. مع أن ذلك مخالف لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ}. وقالوا: إن من كان جائعا ولو غنيا فنهب طعاما من مالكه الذي يطلب عليه أزيد من الثمن المتعارف فأكله جاز له ذلك. مسائل الفرائض والوصايا قالوا: إن ابن الابن لا يرث مع وجود الأبوين. مع أن هذا مخالف لقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ} وولد الابن داخل في الأولاد بلا شبهة لقوله تعالى: {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} وقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ}، ومخالف أيضا لما ثبت عندهم

مسائل الحدود والجنايات

من الأخبار الصحيحة. وقالوا: لا يرث أولاد الأم من دية المقتول، وكذا لا ترث الزوجة من العقار. مع أن النصوص عامة. وقالوا: إن أكبر أولاد الميت يخصص من تركة أبيه بالسيف والمصحف والخاتم ولباسه من غير عوض. مع أن ذلك مخالف لنص الكتاب. وبعضهم يجعل الجدات والأعمام وأبنائهم محرومين من الإرث. وقالوا في مسائل الوصايا: إن المظروف تابع للظرف، فلو أوصى أحد لآخر بصندوق يدخل في الوصية ما فيه من النقود والمتاع. وقالوا: تصحّ الوصية بتحليل فرج الأمة لرجل إلى سنة أو سنتين. مسائل الحدود والجنايات قالوا: يجب الحد على المجنون حتى لو زنى بامرأة عاقلة. وهذا مخالف لما ثبت

عند الفريقين: «رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق .. » الحديث. وقالوا: يجب الرجم على امرأة جامعها زوجها ثم ساحقت تلك المرأة بكرا وحملت تلك البكر، وتحد البكر مائة جلدة، مع أن السحاق لم يقل أحد إنه زنا. وقالوا: يجب حد القذف على مسلم قال لآخر: يا ابن الزانية، وكانت أم المقذوف كافرة. مع أن نص القرآن يخصص حد القذف بالمحصنات، والكافرة ليست بمحصنة، بل يجب تعزيره لحرمة ولدها المسلم. وقالوا: لو قتل الأعمى مسلما معصوما لا يقتص منه، مع أن القصاص عام للأعمى وغيره. وقالوا: لو جاع شخص وعند آخر طعام لا يعطيه للجائع يجوز للجائع أن يقتله ويأخذ طعامه، ولا يجب عليه شيء من القصاص والدية. مع أن عدم إطعام الجائع لا يسوغ القتل في شريعة من الشرائع. وقالوا: لو قتل ذمي مسلما يعطى ورثة المقتول مال القاتل كله، والورثة مخيّرون في جعل الذمي عبدا لهم وفي قتله. وكذا إن كان للذمي أولاد صغار يجوز لورثة المقتول أن

يتخذوهم عبيدا وإماء. مع أن الآية تدل على القصاص فقط، ولا يجوز الجمع بين القصاص والدية، فضلا عن أن يصير القاتل عبدا أو ورثته. قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. ولنكتفِ بهذا المقدار، إذ فيه كفاية لأولي الأبصار. ولو تتبعنا هفواتهم في هذا الباب لما وسعه أمثال هذا الكتاب.

المقصد الثامن في ذكر شيء من تعصباتهم ونبذ من هفواتهم

المقصد الثامن في ذكر شيء من تعصباتهم ونبذ من هفواتهم

المطلب الأول في ذكر شيء من تعصباتهم

المطلب الأول في ذكر شيء من تعصباتهم وهي كثيرة، ويعلم مما سبق كثير منها. ويذكر شيء منها ههنا. فمنها [أنهم] أنكروا كون رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقة، قالوا وإنما هما ابنتا أخت خديجة، مات أبوهما وهما طفلتان عند خالتهما خديجة فرباهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره بعد دخوله بخديجة، ونسبوا إليه عادة العرب يومئذ أن من ربى يتيما نسب إليه، كما في قصة زيد التي حكاها الله تعالى في كتابه. ثم قالوا: على تسليم أنهما ابنتاه - صلى الله عليه وسلم - حقيقة لا فضيلة لعثمان في تزويج الرسول - صلى الله عليه وسلم - له بهما وقد زوجهما قبله كافرين، لأن رقية كانت تحت عتبة بن أبي لهب وأختها تحت أخيه عتيبة.

وقولهم هذا مردود أن كونهما ابنتيه عليه الصلاة والسلام حقيقة مقطوع به لصريح نص الكتاب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ}؛ ولما ذكر في نهج البلاغة أن عليا قال لعثمان بطريق العتاب على تغييره سيرة الشيخين: "قد بلغت من صهره ما لم ينالا" يعني أبا بكر وعمر؛ ولما روى أبو جعفر في التهذيب عن جعفر الصادق أنه كان يقول في دعائه: "اللهم صلِّ على رقية بنت نبيك، اللهم صل على أم كلثوم بنت نبيك"؛ ولما روى الكليني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تزوج خديجة وهو ابن بضع وعشرين سنة، فولد منها قبل مبعثه القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم، وبعد المبعث الطيب والطاهر .. "، إلى غير ذلك من النصوص. وكتب التواريخ المعتبرة صارحة بذلك. ثم [ما] ذكروا من أنه بعد التسليم لا فضيلة في ذلك فيه مردود، لأن الفضيلة أظهر من أن تنكر، كيف لا وقد صار ختن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله مرتين كما نطقت بذلك الأخبار وشهدت به الآثار. وتزويجهما قبله بابني أبي لهب لا ينافي الفضيلة، لأن ذلك كان قبل المبعث، ومع ذلك لم يدخلا بهما لأنهما كانا قد عقدا عليهما وقبل أن يدخلا نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} فقال لهما أبوهما: "رأسي من رأسكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد، ففارقهما ولم يكونا دخلا بهما". وكيف لا يكون في ذلك فضيلة وقد ساوى كثير من العلماء بين فاطمة وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهما. ومنها أنهم لم يعملوا بالخبر الموافق لما عليه أهل السنة ولو بلغ في الصحة ما بلغ. وقد

ذكر بعض علمائهم الشهير عندهم بشيخ الطائفة أن أكثر ما رواه الكليني وأبو عبد الله محمد بن النعمان الملقب عندهم بالشيخ المفيد شيخ الكليني وشيخ شيخه علي بن بابويه القمي متروكة العمل لموافقتها ما ذهب إليه العامة، يعني أهل السنة. ومنها أنهم يعتقدون أن من لم يقل بعصمة الأئمة وأنهم أفضل من الأنبياء وأن الصحابة قد ارتدوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب مبايعتهم أبا بكر فهو مبغض لأهل البيت. فأهل السنة عندهم هم والنواصب سواء، بل هم أنجس من اليهود والنصارى بزعمهم الفاسد. ولا يخفى أن هذا أدل دليل على جهلهم ومزيد عصبيتهم، إذ كيف يتصور ذلك وقد صرحوا في كتبهم -وهم ليسوا قائلين بالتقية- أن الله تعالى أوجب محبة أهل بيت نبيه

- صلى الله عليه وسلم - على جميع أمته. فقد روى البيهقي وأبو الشيخ والديلمي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وتكون عترتي أحب إليه من نفسه". وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحبوا أهل بيتي بحبي .. " إلى غير ذلك من الأخبار. وقالوا من ترك المودة في أهل بيت - صلى الله عليه وسلم - فقد خانه. وقد أجاد من قال: ولا تعدل بأهل البيت خلقا ... فأهل البيت هم أهل الشهادة فبغضهم من الإنسان خسر ... حقيقي وحبهم عبادة وأوجبوا الصلاة عليهم في صلواتهم. ولما سمع أبو حنيفة أن الأعمش يروي عن علي بن أبي طالب ما لا يليق بجلالة شأنه، "فمرض فدخل عليه ومعه ابن

أبي ليلى وابن شبرمة، وكان عنده شريك بن عبد الله، التفت إليه أبو حنيفة وكان أكبرهم فقال: يا أبا محمد اتق الله فإنك في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا، وقد سمعت أنك تحدث في علي بن أبي طالب بأحاديث لو سكت عنها لكان خيرا لك، فقال الأعمش: لمثلي يقال هذا؟ أسندوني، فلما أسندوه قال: حدثنا ابن المتوكل القاضي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان يوم القيامة قال الله لي ولعلي بن أبي طالب: أدخلا الجنة من أحبكما وأدخلا النار من أبغضكما، فلذلك قول الله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}، فقال: قوموا عني لا يجيء أطهر من هذا، فما خرجوا من الباب حتى مات الأعمش رحمه الله تعالى". وقد روى هذا الحديث بهذا الإسناد جمع، فهو إسناد صحيح. (¬1) وقد صحب الإمام أبو حنيفة محمد بن علي الباقر وابنه أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق وزيدا رضي الله تعالى عنهم وأخذ عنهم العلم. وقد أخذ مشائخ أهل السنة الطريقة عن الصادق، فإنه كما كان في في فروع الشريعة نظر ثاقب كان له في ¬

(¬1) [قال ابن الجوزي في الموضوعات: هذا الحديث موضوع وكذب على الأعمش، والواضع له إسحاق النخعي، وقد ذكرنا أنه من الغلاة في الرفض الكذابين".]

أصول الطريقة علامات باهرة ومقامات ظاهرة، وقد صحبه الكبراء من سادات الطريقة مثل داود بن نصير الطائي وعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وتأدبوا بآدابه، كذا ذكره الإمام الأجل الشيخ محمد بن محمود الفارساي البخاري الحافظي في الفصول. وروي أن الإمام أبا حنيفة ذهب به أبوه ثابت وهو صغير إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه فدعا له ولذريته بالبركة.

وللشافعي رحمه الله تعالى أبيات تدل على مزيد محبته لأهل البيت وولائه، وقد نسبها إليه الشيعة واعترفوا بأنها له، وهذا كاف في إيرادها، منها: يا أهل بيت رسول الله حبكم ... فرض من الله في القرآن أنزله يكفيكم من عظيم الفخر أنكم ... من لم يصل عليكم لا صلاة له ومنها: إلام وحتى ومتى ... أعاتب في حب هذا الفتى فهل زوجت فاطم غيره ... وفي غيره هل أتى هل أتى ومنها: قالوا ترفضت قلت كلا ... ما الرفض ديني ولا اعتقادي لكن توليت من غير شك ... خير إمام وخير هادي إن كان حب الوصي رفضا ... فإني أرفض العباد ومنها: يا رب بالقدم التي أوطأتها ... من قاب قوسين المحل الأعظما وبحرمة القدم التي جعلت له ... كف المؤيد بالرسالة سلما ثبت على متن الصراط تكرما ... قدمي وكن لي محسنا ومكرما واجمعها ذخرا فمن كانا له ... أمن العذاب ولا يخاف جهنما ومنها:

لو كان عبد أتى بالصالحات غدا ... وود كل نبي مرسل وولي وصام ما صام صوام بلا ملل ... وقام ما قام قوام بلا كسل وعاش في الناس آلاف مؤلفة ... عار عن الذنب معصوم عن الزلل ما كان يوم البعث منتفعا ... إلا بحب أمير المؤمنين علي ومنها: إذا ذكروا عليا أو بينه ... وجاءوا بالروايات العلية يقال تجاوزا يا قوم عنه ... فهذا من حديث الرافضة برئت إلى المهمين من أناس ... يرون الرفض حب الفاطمية ومنها: إن فتشوا قلبي رأوا وسطه ... سطرين قد خطا بلا كاتب العلم والتوحيد في جانب ... وحب أهل البيت في جانب إلى غير ذلك. وقد سبق شيء منها. ومالك بن أنس رحمه الله تعالى كان يفتخر أيضا بأخذ العلم عنهم وعمن أخذ عنهم. وكذلك أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ورضي عنه، وقد روي عنه أنه قال: "من أبغض

أهل البيت فهو منافق"، وما رواه أحد من أئمة أهل البيت عن أبيه عن جده سمى إسناده أئمة المحدثين سلسلة الذهب. وروى محمد في فضائلهم أحاديث جمة، وذكر في تاريخ نيسابور: "أن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنه دخل نيسابور وهو على بغلة وشقيق البلخي يسوقها وعليه مظلة لا يرى من ورائها، وتعرض له الحافظان أبو زرعة الرازي ومحمد بن أسلم الطوسي ومعهما من طلبة العلم والحديث ما لا يحصى، فتضرعا إليه أن يريهم وجهه ويروي لهم حديثا عن آبائه، فاستوثق البغلة وأمر غلمانه أن يكشفوا عن الظلة وأقر عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة، وكان الناس بين باك وصارخ ومتمرغ بالتراب ومقبل حافر بغلته! فصاحت العلماء معاشر الناس أنصتوا، واستملى منه الحافظان المذكوران فقال: حدثي أبي موسى الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن أبيه زين العابدين عن أبيه الحسين عن أبيه علي بن أبي طالب قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حدثني جبريل قال: سمعت رب العزة يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني ومن دخل حصني أمن عذابي». (¬1) ثم ¬

(¬1) [ضعيف الجامع 2700]

أرخى الستر وسار، فعد أهل المحابر والذين يكتبون فأنافوا على عشرين ألفا". وكذا أورده صاحب الفصول من الإمامية في تاريخ الأئمة. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لو قرأت هذه الأسانيد على مجنون لبرئ من حينه. وذكر المبرد في الكامل قال: "يروى عن رجل من قريش قال: كنت عند سعيد بن المسيب يوما فأتاه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقلت له: يا أبا عبد الله من هذا؟ قال: هذا الذي لا يسع مسلما أن يجهله، هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب". قال بعض الشعراء من علماء أهل السنة في أبيات: أنا عبد لعبد عبد علي ... غير أني أحب كل الصحابة إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى ولا يسعه قرطاس فيذكر. وقد سبق في مواضع متفرقة ثناء الصحابة على الأمير وعلى سائر أهل البيت من صغير وكبير. سوّد الله وجه الرافضة بالكذب والبهتان وعاملهم سبحانه بعدله بمزيد العذاب والخسران. ومنها أنهم قالوا إن المخالفين لهم يستحقون اللعن. قال ابن عباد وزير السلاطين الديالمة: حب علي بن أبي طالب ... هو الذي يهدي إلى الجنة إن كان تفضيلي له بدعة ... فلعنة الله على السنة

وأنت تعلم أن السنة هي أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، ومنها تقريراته. فانظر إلى هذا التجاسر العظيم والضلال الوخيم. نسأل الله العافية في الدين والدنيا. ومنها أنهم يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوّض طلاق أزواجه إلى علي، ولما قاتلته عائشة طلقها. ولا يخفى بطلان هذا على أولي النهى، وذلك لأن الله تعالى قال: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ}، والتبديل إنما يكون بعد الطلاق لحرمة الزيادة على التسع عليه - صلى الله عليه وسلم -، فقد نهاه سبحانه عن الطلاق، فكيف يفوض ذلك لعلي؟ على أن الطلاق بعد الموت مما لم يقل به أحد.

المطلب الثاني في ذكر شيء من هفواتهم

المطلب الثاني في ذكر شيء من هفواتهم (التقية) منها جواز التقية على الرسل عليهم الصلاة والسلام. روى الكليني عن أبي بصير قال: "قال أبو عبد الله: إن التقية من دين الله، قال: والله من دين الله، ولقد قال يوسف عليه السلام: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} والله ما كانوا سرقوا شيئا، ولقد قال إبراهيم: {إِنِّي سَقِيمٌ} والله ما كان سقيما". وروى ابن بابويه في الأمالي: "أنه سأله أبا عبد الله هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتاقي؟ قال: أما بعد نزول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فإنه يدل على أن النبي تجوز التقية وتجب عليه". والجواب أن هذه الروايات لا أصل لها. ونص القرآن يدل صراحة على أنهم لم يتاقوا. قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}. ومقتضى كلامهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تاقى بضعا وعشرين سنة، لأن الآية -أعني قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} - نزلت بعد الفراغ من حجة الوداع، والتقية لا تكون إلا من الخوف والجبن، فيلزم ترجيح سائر الأنبياء عليه عليه الصلاة والسلام لأنهم لا يخشون أحدا إلا الله، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم، بل آدم ومن دونه تحت لوائه.

ومنها إيجاب التقية على الأئمة الذين هم خلفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ أحكام الشريعة. وقد بالغوا في وجوبها عليهم وعلى أتباعهم حتى فسروا قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} بالأكثر تقية. وروى صاحب المحاسن عن أبي عمر قال: "قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق: با أبا عمر تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له". وكتبهم محشوة من مثل هذه الأخبار المفتراة على الأئمة في فضائل التقية. وقد حملوا أقوال الأئمة وأفعالهم التي توافق مذهب أهل السنة عليها. وروى الكليني وغيره عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله: "في قوله عز وجل: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} قال: الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة وترك التقية". والجواب أن هذا غير ثابت عن الأئمة. وقد ثبت في نهج البلاغة عن الأمير

كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت، وإني من ضلالهم الذي هم فيه والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي، وإني إلى لقاء الله وحسن الثواب لمنتظر راج". ومن كان بهذه المثابة فأي حاجة له إلى التقية حتى تجب عليه؟ على أن موت الأئمة باختيارهم كما ذكره الكليني وبوب لذلك بابا. ولأن الأمير كان يعلم قاتله ويوم موته فلأي شيء يتاقي؟ وإذا لم تجب عليه التقية فالأئمة الباقون مثله لعدم القائل بالفرق. ولأن التقية لو كانت واجة لبايع أبا بكر حين بويع له بالخلافة أول الأمر ولم يتأخر مدة تزيد على ستة أشهر كما زعموا. وروى زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم قال: "توضأ رجل فمسح على خفيه فدخل المسجد فصلى فجاء علي فوطأ رقبته فقال: ويلك تصلي على غير وضوء، فقال: أمرني عمر بن الخطاب، فأخذ بيده فانتهى به إليه فقال: انظر ما يقول هذا عنك، ورفع صوته على عمر، فقال: أنا أمرته". فلو وجبت التقية لم يطأ رقبة الرجل ولم يقل له تصلي على غير وضوء ولم يرفع صوته على عمر. وروى الراوندي شارح نهج البلاغة ومعتمد الشيعة في كتاب الخرائج

والجرائح عن سلمان الفارسي: "أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرق بساتين المدينة وفي يد علي قوس فقال: أربع على صلعتك فقال علي: إنك ههنا، ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغراً فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه، فقال عمر: اللَّهَ اللَّهَ يا أبا الحسن لا عدت بعدها في شيء، فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت، فمضى عمر إلى بيته، قال سلمان: فلما كان الليل دعاني علي فقال: سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبئه فأفضحك. قال سلمان: فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال: أخبرني عن أمر صاحبك من أين علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال: يا سلمان اقبل عني ما أقول لك، ما علي إلا ساحر والصواب أن تفارقه وتصير من جملتنا، قلت: ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا، قال: ارجع إليه فقل: السمع والطاعة لأمرك، فرجعت إلى علي فقال: أحدثك عما جرى بينكما، فقلت: أنت أعلم مني، فتكلم بما جرى بيننا ثم قال: إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت". وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضاً إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر

خوفاً منه وتقية. وروى الإمامية بطرق متنوعة منهم الكليني في الكافي أن الأئمة يعلمون ما كان وما يكون وأنهم لا يموتون إلا باختيارهم وأن الأمير يعلم قاتله. ومن يعلم عاقبة أمره ولا يموت إلا باختياره لا تجب عليه التقية لأن التقية للخوف من القتل أو مما هو دونه كالضرب والشتم وغير ذلك. وقد زال الأول لعلمهم بوقت موتهم وكونه باختيارهم.

وأما الثاني فلأن تحمل الأذى في سبيل الله عبادة كما هو شأن دعاة الله من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. قد تواتر عن أمير المؤمنين أنه كان يقول: "علامة الإيمان إيثار الصدق على الكذب النافع". وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال: "يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء، فقال: ومن النجباء يا جبريل؟ فقال: عليّ بن أبي طالب وولده، وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى علي وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتماً فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل، ثم دفعه إلى علي بن الحسين ففك خاتماً فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتماً فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتماً فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان، ففعل، ثم دفعه إلى موسى وهكذا إلى المهدي". ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبي عبد الله، وفي الخاتم الخامس: "وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى" وهذه الرواية صريحة في أن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما زعمت الشيعة.

وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال: "لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومال الناس إلى أبي بكر فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقها ودعتهم إلى نصرتها، فلم يستجب لها من جميع الناس إلا أربعة: الزبير وسلمان وأبو ذر والمقداد". وهذه الرواية أيضا تدل على عدم وجوب التقية كما لا يخفى. وذكر سليم بن قيس في كتابه الذي رواه عنه أبان بن عياش: "أن أبا بكر بعث [قنفدا إلى] علي حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال: انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فانطلق فبلغه فقال له: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتددتم، والله ما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري". وفي هذا الكتاب أيضا: "أنه لما لم يجب علي غضب عمر وأضرب النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت: يا أبتاه، يا رسول الله، فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به درعها فصاحت: يا أبتاه. فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته". وفيه أيضا أن عمر قال لعلي: "بايع أبا بكر، قال: إن لم أفعل ذلك؟ قال: إذن لأضربن عنقك. قال: كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك، أنت ألأم

وأضعف من ذلك". فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل من الإمام، إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية. وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر: "يا مغرور، إنى أراك في الدنيا قتيلا بجراحة عبد أم معمر، تحكم عليه جورا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك". ورورى أيضا "أنه قال مرة لعمر: إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا وصلبا، تخرجان من جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من ولاكما، ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادا، ثم تأتى ريح فتنسفكما في اليم نسفا". فانظر بالله عليك هل ينبغي لمن يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه أن يقول بنسبة التقية إليه؟ ومما يرد قولهم أيضا أن زكريا ويحيى والحسين ينبغي أن لا يكون لهم عند الله كرامة على ما يقتضيه مذهبهم لأنهم لم يفعلوا التقية؛ وأن يكون جميع المنافقين في أعلى المراتب من الكرامة. سبحانك هذا بهتان عظيم ووبال وخيم. وبقيت براهين أخر تدل أن من قال بوجوب التقية كفر. وفي تفسير الجد قدس الله

(التفسير)

روحه ما ليس فوقه كلام، نسأل الله أن ينشر فرائد فوائده في جميع بلاد الإسلام. (التفسير) ومنها أنهم يقولون إن معنى قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} اعصتموا بعلي؛ وأن المراد بالصراط المستقيم هو علي؛ وأن المراد بقوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} علي وآله لا غير؛ وأن المراد بالناس في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} العشرة المبشرين بالجنة عند أهل السنة غير علي؛

وأن المراد بالرب في قوله تعالى: {أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} هو علي؛ وأن المراد بالرب في قوله تعالى: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} هو علي، والكافر من غصب الخلافة؛ وأن معنى قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} لئن أشركت يا محمد في الخلافة ليحبطن عملك؛ وأن معنى قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} أي حتى يخرج المهدي؛ وأن المراد بقوله تعالى: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} الآية صورة علي؛ وأن معنى قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لا

(الكذب)

يسأل أحد من شيعة علي [عن] ذنبه لأن الحسنات في الميزان بغير ولاية علي لا تقبل بل تكون هباء منثورا وأن السيئات مع ولاية علي لا ثبات لها لأن سر ولاية علي يحول السيئات حسنات كما ذكره ابن بابويه وابن طاووس وغيرهما؛ وأن معنى قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} أي بخروج المهدي. وهذا كله مذكور في تفاسيرهم وكتب حديثهم، ومعظمها في الكافي للكليني وشيء منها في تفسير علي بن إبراهيم وتفسير ابن بابويه الذي عزاه إلى أبي محمد الحسن العسكري وحاشاه منها، وشيء منها في كتاب تنزيه الأنبياء والأئمة. ولو تتبعت تفاسيرهم لرأيت من ذلك شيئا كثيرا لا يسع المقام لذكره، وبطلانه لا يخفى على صغار المتلعمين فضلا عن العلماء العارفين، فلذا لم نتعب القلم بردها ولم نسود وجه القرطاس بسردها. (الكذب) ومنها أنهم يقولون إن عمر دبرّ على قتل علي، كما ذكر ذلك علي بن مظاهر الواسطي

(ثواب المتعة)

راويا له عن حذيفة. وهذا كذب فضيح وافتراء صريح، فإن عمر كان يحب عليا محبة عظيمة وكان يفتخر بمصاهرته وكان يصلي على أهل البيت في صلواته ويروي أحاديث فضائلهم. وفي نهج البلاغة أن الأمير كتب إلى أهل مصر وأرسل الكتاب مع مالك بن الأشتر لما ولاه إمارتها: "أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - نذيرا للعالمين ومهيمنا على المرسلين، فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يُلقى في روعي ولا يخطر على بالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده - صلى الله عليه وسلم - عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد - صلى الله عليه وسلم - فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما أو هدما تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب وكما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق الحق واطمأن الدين وتنهنه". فهذا الكلام يدل على أن ما كان عليه الشيخان حق، فإن عمر كان يحذو حذو أبي بكر، وعدل عمر مما لا ينكر، فقد ابتهج الإسلام بفتوحاته وانصرم دجى الكفر بصارم عزماته، ولم تزل مآثره مسطورة على صفحات الأيام، ولم تبرح كتب التواريخ والسير تتلو من جميل ذكره ما يغص به الكفرة الطغام. (ثواب المتعة) ومنها أنهم قالوا إن في نكاح المتعة ثوابا لا يحصى. وروى غير واحد منهم عن الأئمة: "أن من اغتسل عن جماع المتعة صارت كل قطرة تقطر من ماء الغسل ملكا يدعو

(الرقاع والتوقيعات)

للمغتسل إلى يوم القيامة". ولا يخفى كذب هذا الخبر على كل من نظر وفكر. كيف لا وقد قال تعالى: {[وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ] * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وقد سبق شيء من قبائح المتعة فتذكر. (الرقاع والتوقيعات) ومنها أنهم يروون كثيرا من مسائل مذهبهم عن الرقاع، وهي كثيرة. منها رقعة علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، فإنه كان يظهر رقعة بخط الصاحب في جواب سؤاله، ويزعم أنه كاتب أباب القاسم بن ابي الحسين بن روح أحد السفرة على يد علي بن جعفر بن الأسود أن يوصل له رقعة إلى الصاحب فأوصلها إليه، فزعم أبو القاسم أنه أوصل رقعته إلى الصاحب وأرسل إليه رقعة زعم أنها جواب صاحب الأمر له. ومنها رقاع محمد بن عبد الله بم جعفر بن حسين بن جامع بن مالك [الحميري] أبي جعفر القمي. قال النجاشي: "أبو جعفر القمي كاتبَ صاحب الأمر وسأله مسائل في أبواب الشريعة، قال: قال لنا أحمد بن الحسين: وقفت على هذه المسائل من أصلها والتوقيعات بين السطور". ذكر

تلك الأجوبة محمد بن الحسن الطوسي في كتاب الغيبة وكتاب الاحتجاج. والتوقيعات هي خطوط الأئمة بزعمهم في جواب مسائل الشريعة. ويرجحون التوقيع على المروي بالإسناد الصحيح لدى التعارض. قال ابن بابويه في الفقيه بعد ما ذكر التوقيعات الواردة من الناحية المقدسة في باب الرجل يوصي إلى الرجلين: "هذا التوقيع عندي بخط أبي محمد بن الحسن بن علي، وفي الكافي للكليني خلاف ذلك التوقيع عن الصادق. ثم قال: لا أفتي بهذا الحديث بل أفتي بما عندي من خط الحسن بن علي. " ومنها رقاع أبي العباس عبد الله بن جعفر الحميري القمي. ومنها رقاع أخيه الحسين ورقاع أخيه أحمد. فهؤلاء كلهم يزعمون أنهم يكاتبوه صاحب الأمر ويسألونه مسائل في أحكام الشريعة وأنه يكتب جواب أسئلتهم كما ذكره النجاشي وغيره. وأبو العباس هذا قد جمع كتابا في الأخبار المروية عنه وسماه قرب الإسناد إلى صاحب الأمر. ومنها رقاع علي بن سليمان بم الحسين بن الجهم بن بكير بن أعين أبي الحسن

الرازي، فإنه كان يدعي المكاتبة أيضا ويظهر الرقاع. قال النجاشي: "كان له اتصال بصاحب الأمر وخرجت له توقيعات". إلى غير ذلك مما يطول ذكره.

الخاتمة

الخاتمة اعلم أن مذهب الروافض مشابه لمذهب اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، وهم عبدة الكواكب. أما الغلاة والباطنية والسبعية والقرامطة والنزارية من الإمامية فظاهر لأنهم كفرة من غير نكير، وقد وافقوا في أكثر الاعتقادات الفرق الأربعة من الكفار. وأما مشابهة الكل مذهب اليهود فإنهم يقولون {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، وكذلك الغلاة يقولون لأولاد علي أبناء الله. واليهود يبغضون جبريل وكذلك الغرابية. واليهود يقولون نحن أحباء الله، وكذا الغلاة. واليهود يقولون ليس محمد رسول الله، وكذلك الرزامية. واليهود لعنهم الله يذمون النبي العربي، وكذلك الذمية. واليهود ينكرون نبوته عليه الصلاة والسلام، وكذلك الغرابية. وأما مشابهة مذهبهم لمذهب النصارى فلأن النصارى يقولون {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، وكذلك السبائية يقولون لأولاد علي أبناء الله. والنصارى يقولون بتعدد الآلهة، وكذلك الغلاة كما تقدم. والنصارى يقولون إن الله يحل في بعض أبناء البشر، وكذلك النصيرية والإسحاقية.

وأما مشابهة مذهبهم لمذهب الصابئية، فإن الصابئين يقولون إن العالم قديم، وكذلك الكاملية والعجلية والرزامية والقرامطة من الغلاة والنزارية من الإمامية. وإن الصابئين يقولون إن واجب الوجود متعدد زعما منهم أن الأجرام واجبة الوجود وليس لها مبدأ، وكذلك الاثنينية والخمسية والخطابية والمقنعية. وإن الصابئين يقولون إن الآلهة متعددة وهي الكواكب فإنها هي الآلهة لهذا العالم بزعمهم الفاسد ويزعمون أنه يجب لأهل العالم الأسفل أن يشتغلوا بالعبادة لها والتضرع إليها، وكذلك الفرق الأربع من الغلاة يزعمون أن الآلهة متعددة. وأما مشابهة مذهبهم لمذهب المجوس، فإن المجوس يقولون بتعدد الخالق، وكذلك الروافض كلهم. والمجوس يزعمون أن الله تعالى يتصف ببعض العوارض كالحزن والسآمة وغير ذلك، وكذلك السبائية وجمع من الخطابية والذمية والعلبائية والرزامية والغرابية. والمجوس يزعمون أن إرادة أهرمن تقع إذا أراد الشر ولا تقع إرادة يزدان إذا أراد خلاف ما أراد أهرمن، ويعنون بيزدان الله عز اسمه وبأهرمن إبليس، وكذلك الغلاة وسائر الرافضة. وأما مشابهة مذهبهم لمذهب الهنود، فإن الهنود يقولون إذا ظهر في الأرض الفساد ينزل الله تعالى في الأرض لدفعه، وكذلك السبائية يقولون إذا كثر الظلم في العالم ينزل الله تعالى من السماء فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا. والهنود يقولون إن الله تعالى له صورة، وكذلك الغلاة. والهنود يقولون إن الله تعالى يأكل ويشرب وينكح ويلد

قف على حال الإمامية من الشيعة

ويولد، وكذلك الغلاة. ومذهب الكيسانية من الفرق السبعة أقل مشابهة لهم، فإنهم لقصر مدتهم لم يبتدعوا في الدين كما ابتدع غيرهم من الفرق في أصول الدين وفروعه. وكذا الزيدية لاتباع المتقدمين منهم ما رواه الجمهور منهم عن الإمام زيد بن زين العابدين السجاد، واتباع بعض المتأخرين منهم الإمام أبا حنيفة والبعض الآخر الإمام الشافعي والبعض منهم الإمام مالك بن أنس والبعض الإمام أحمد بن حنبل والبعض سفيان الثوري والبعض ابن جرير الطبري وغيرهم من مجتهدي أهل السنة، ووافقوا الإمامية في مسائل معدودة. قف على حال الإمامية من الشيعة وأكثر فرق الرافضة مشابهة بالكفار الإمامية ولا سيما الاثنى عشرية منهم. أما مشابهتهم لليهود فإن اليهود يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، وكذلك الإمامية فإنهم لا يؤمنون بما زعموه محرفا مثل: {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} ونحو ذلك كما تقدم. واليهود يزعمون أنهم أولياء الله وأحباؤه دون غيرهم، وكذلك الإمامية. واليهود يزعمون أنه لا يصلح للنبوة إلا رجل من نسل داود، وكذلك الرافضة لا تصلح إلا لرجل من نسل علي بن أبي طالب. واليهود يقولون لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال وينزل بسبب من السماء، وكذلك الرافضة يقولون

لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينادي مناد من السماء. واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة يؤخرونها إلى ذلك الوقت. واليهود تنود في الصلاة، وكذلك الرافضة. واليهود لا ترى على النساء عدة، وكذلك الرافضة أعني الإمامية منهم. واليهود يقولون من سعى في قتل مسلم فله حسنات كثيرة، وكذلك الإمامية يزعمون أن من سعى في قتل أحد من أهل السنة فله سبعون حسنة. واليهود يقولون {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} وكذلك الروافض. أقول: وقد رأيت في كتاب الداء والدواء للعلامة الحافظ الشهير بابن القيم الجوزية قدس روحه ورضي عنه بعد كلام طويل: "فما قدر الله حق قدره من عبد معه من لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره وإن سلبه الذباب شيئا مما عليه لم يقدر على استنقاذه منه .. " إلى أن قال: "وكذلك لم يقدره حق قدره من قال إنه رفع

أعداء رسله وأهل بيته [وأعلى] ذكرهم، وجعل فيهم الملك والخلافة والعز، ووضع أولياء رسوله وأهانهم وأذلهم وضرب عليهم الذلة أين ما ثقفوا؛ وهذا يتضمّن غاية القدح في الرب -تبارك وتعالى عن قول الرافضة علوا كبيرا- وهذا القول مشتق من قول اليهود والنصارى في رب العالمين إنه أرسل ملكا ظالما فادعى النبوة لنفسه وكذب على الله تعالى ومكث زمنا طويلا يكذب عليه كل وقت ويقول قال كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا، وينسخ شرائع أنبيائه ورسله ويستبيح دماء أتباعهم [وأموالهم] وحريمهم، ويقول: الله تعالى أباح لي ذلك؛ والرب تبارك وتعالى يُظهره ويؤيده ويُعليه ويجيب دعواته ويمكنه ممن خالفه ويقيم الأدلة على صدقه ولا يعاديه أحد إلَّا ظفر به، فيصدقه بقوله وفعله وتقريره، ويحدث أدلة تصديقه شيئا بعد شيء. ومعلوم أن هذا يتضمن أعظم القدح والطعن في الرب سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته ورحمته وربوبيته - تعالى عن قول الجاحدين علوا كبيرا. فوازن بين هذا القول وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين: رضيعَي لبان ثدي أُمٍّ تقاسَما ... بأسحم داج عوض لا يتفرّق" انتهى. وإذا نظرت إليهم في زماننا هذا وجدتهم مع اليهود طبق النعل بالنعل في اللباس والمأكول والدسائس وغير ذلك مما هو ظاهر لدى كل أحد. وأما مشابهتهم للنصارى، فلأن النصارى لا يرون بأسا مما يخرج من البول في الصلاة وإن سال، وكذلك الروافض لا يرون بأسا منه [بعد] نتر القضيب ثلاثا ولو سال إلى الساق. والنصارى يجوزون الصلاة إذا أصابت الشخص نجاسة كعذرة الإنسان، وكذلك الإمامية. والنصارى يجوزون الصلاة على المكان النجس، وكذلك الإمامية. والنصارى يجوزون الصلاة إلى الجهات الأربع، وكذلك الإمامية يجوزون في النوازل استقبال الجهات الأربع. والنصارى لا يجوزون الأكل ليلة الصوم قبل طلوع الفجر، [وكذلك الإمامية].

والنصارى يتخذون بعض الأيام عيدا من تلقاء أنفسهم، وكذلك الإمامية وغيرهم من الروافض، فإنهم اتخذوا يوم قتل عمر وعثمان عيدا وكذا كثيرا من الأعياد على ما سبق. والنصارى يصورون صورة عيسى بن مريم ويضعونها في كنائسهم، وكذلك الإمامية فإنهم يصورون صور الأئمة ويعظمونها كتعظيم النصارى لما صوروه، بل نقل أنهم يسجدون لها ولقبورهم. وأما مشابهتهم للصابئين، فلأن الصابئين يزعمون أن المؤثر لا ينحصر في واحد، فإن الكواكب بزعمهم مؤثرة في عالم الكون والفساد ومدبرة له، وكذلك الإمامية وغيرهم يزعمون أن المؤثر كثير ويزعمون أن الحيوانات كلها خالقة لأفعالها. وإن الصابئين كانوا يحترزون عن الأيام التي يكون القمر فيها في العقرب أو الطريقة أو المحاق، وكذلك الإمامية وغيرهم. وإن الصابئين يعظمون يوم النيروز، وكذلك الإمامية وغيرهم. وأما مشابهتهم للمجوس، فإن المجوس يزعمون تعدد الخالق، وكذلك الإمامية وغيرهم على ما سبق. والمجوس يزعمون أنه يحصل مراد أهرمن في كثير من الأمور ولا يحصل مراد يزدان، وكذلك الإمامية يزعمون أنه يحصل مراد إبليس والشياطين من الجن والإنس ولا يحصل مراد الله على ما سبق. والمجوس يزعمون أن للعالم خالقين خالق للخير وخالق للشر، وكذلك الروافض. والمجوس يجوزون إخراج أمهات الأولاد والجواري للرجال، وكذلك الروافض. وأما مشابهتهم للهنود، فإن الهنود يجوزون في الصوم أكل بعض الأشياء، وكذلك جمع من الإمامية يجوزون فيه أكل ما ليس بمعتاد على ما سبق. والهنود يحكمون بطهارة المذي، وكذلك الإمامية وغيرهم. إلى غير ذلك من المشابهات التي لا تفي بها العبارات، ولو اطلعت على ما هم عليه لبان لك أنهم ليسوا على شيء مما جاء به النبي وأوحي إليه.

هذا آخر ما أردناه وغاية ما قصدناه من تلخيص كتاب الصواقع المنطوي على الفوائد البدائع. وحيث كانت النسخة سقيمة الخط كثيرة الغلط صححتُ غالب مباحثها على كتاب المختصر، فأظن أنه لم يبق التباس على من نظر وفكر، فإن موضوع الكتابين واحد وغالب البحث متحد وأحدهما يغني عن الآخر كما لا يخفى على من دقق النظر. وقد أبدلت كثيرا من العبارات بما هو أوضح وأقوى وألزم لدى المخاصمات، لا سيما مباحث الإمامة، فإن غالبها منقول من ترجمة التحفة بتلخيص الجد العلامة. وأسأل الله تعالى أن يجعل بها النفع العميم وأن يستخلصها لوجهه الكريم وأن يعصمنا من الزيغ والزلل ويوفقنا لصالح العمل. والحمد لله أولا وآخرا وله الشكر باطنا وظاهرا. وأفضل الصلاة وأكمل التسليم على من اصطفاه حبيبا وخصه بالخلق العظيم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وأتى بقلب سليم. وقد وقع الفراغ سنة 1303 من الهجرة.

§1/1