السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار

الشوكاني

المقدمات

المقدمات مقدمة المؤلف ... مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين أحمدك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأشكرك شكرا يليق بنعمك التي لا تحصى بلسان ولا تحصر بقلم تجرى به البنان ويبلغ إليه البيان والصلاة والسلام على رسولك الذي بين الناس ما نزل إليهم وعلى آله الكرام الذين أمرنا بالصلاة عليه وعليهم وعلى أصحابه الهداة الأعلام صلاة وسلأما يتكرران بتكرار لحظات الأيام وبعد. فإن مختصر الأزهار لما كان مدرس طلبة هذه الديار في هذه الأعصار ومعتمدهم الذي عليه في عباداتهم ومعاملاتهم المدار وكان قد وقع في كثير من مسائله الاختلاف بين المختلفين من علماء الدين والمحققين من المجتهدين أحببت أن أكون حكما بينه وبينهم ثم بينهم أنفسهم عند اختلافهم في ذات بينهم فمن كان أهلا للترجيح ومتأهلا للتسقيم والتصحيح فهو إن شاء الله سيعرف لهذا التعليق قدره ويجعله لنفسه مرجعا ولما ينوبه ذخرا وأما من لم يكن بهذا المكان ولا بلغ مبالغ أهل هذا الشأن ولا جرى مع فرسان هذا الميدان فهو حقيق بأن يقال له مإذا بعشك يا حمامة فادرجي. لا تعذر المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا هويت فعند ذلك عنف فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثريا وسنقف يا طالب الحق بمعونة الله سبحانه في هذا المصنف على مباحث تشد إليها الرحال وتحقيقات تنشرح لها صدور فحول الرجال لما اشتمل عليه من إعطاء المسائل حقها من التحقيق والسلوك فيما لها وعليها في أوضح طريق مع كل فريق. وقد طولت الكلام في مسائل المعاملات وأبرزت مع الحجج والنكات ما لم يسبق إليه

سابق لخفاء بعض دلائلها على كثير من المصنفين كما ستقف عليه إن شاء الله تعالي واختصرت الكلام في مسائل العبادات لأنها صارت أدلة مباحثها نصب الأعين ولم أترك ما يتميز به الحق في كل مقام. وأرجو من الملك العلام الإعانة على التمام وأن ينفع به المصنفين من الأعلام وينفعني به في هذه الدار وفي دار السلام. وسميته "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار".

مقدمة لا يسع المقلد جهلها

[مقدمة لا يسع المقلد جهلها فصل: التقليد في المسائل الفرعية العملية الظنية والقطعية جائز لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم منه ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة] . قوله: "مقدمة لا يسع المقلد جهلها". أقول: المقدمة بفتح الدال وكسرها كما صرح به جماعة من المحققين وليس الفتح بخلف كما قيل وهي تصدق على ما ذكره أهل الاصطلاح من جعل المقدمة منقسمة إلي قسمين مقدمة علم ومقدمة كتاب. فمقدمة العلم ما يتوقف الشروع على بصيرة عليها لأنها تكون مشتملة على الحد والموضوع والغاية والفائدة. ومقدمة الكتاب ما يوجب الشروع بها زيادة في البصيرة ولا ريب أن شروع طالب علم الفقه بهذه المقدمة يوجب له زيادة في البصيرة لأنه يعرف بمعرفتها حقيقة التقليد وما يجوز التقليد فيه وما لا يجوز ومن يجوز تقليده ومن لا يجوز ونحو ذلك. ومعلوم أن من عرف هذه الأمور يكون له زيادة في البصيرة لا يكون لمن لا يعرفها فلا يرد الاعتراض على المصنف بما قيل إن هذه المقدمة لم تشتمل على الحد والموضوع والغاية والفائدة فلا تكون مقدمة اصطلاحا لأنا نقول المقدمة تصدق على مقدمة الكتاب كما تصدق على مقدمة العلم وهذه مقدمة كتاب لما ذكرنا. وقد ذكر أئمة اللغة أن المقدمة ما يتقدم أمام المقصود ومنه مقدمة الجيش فمقدمة الكتاب مقدمة لغة واصطلاحا أما اللغة فلما ذكرنا وأما الاصطلاح فلأن أهل العلم قد ذكروا انقسام المقدمة إلي القسمين كما تقدم وكما لم يرد الاعتراض على المصنف بما تقدم لا يرد عليه الاعتراض بما قيل إن هذه المقدمة ليست مقدمة علم ولا مقدمة كتاب لما عرفناك به. إذا تقرر لك اندفاع ما اعترض به على المصنف في تسميته لما ذكره ها هنا أمام المقصود

مقدمة فاعلم أن محل الإشكال وموضع المناقشة هو قوله: "لا يسع المقلد جهلها". ووجهه أنه قد ذكر المصنف رحمه الله فيما سيأتي بعد هذا ان التقليد يختص بالمسائل الفرعية وهي التي لم تكن من أصول الدين ولا من أصول الفقه وأكثر هذه المسائل المذكورة في هذه المقدمة ليست بفرعية لا في اصطلاح المصنف ولا في اصطلاح غيره فهي مما لا يجوز التقليد فيه عنده وعندهم فكيف يصنع المقلد الطالب لمعرفة ما اشتمل عليه هذا الكتاب؟ إن قال المصنف يأخذها تقليدا فقد خالف ما رسم له من كون التقليد إنما هو في المسائل الفرعية فإنه قد ناقض نفسه قبل أن يجف قلمه ولم يتخلل بين قوله لا يسع المقلد جهلها وبين قوله التقليد في المسائل الفرعية إلا لفظة واحدة وهي قوله: " فصل ". وإن قال يأخذها اجتهادا فالمفروض أنه مقلد ليس من الاجتهاد في ورد ولا صدر ولو كلف بالاجتهاد قبل التقليد لكان بلوغه إلي مرتبة الاجتهاد موجبا لتحريم التقليد عليه لا سيما على القول الراجح من كون الاجتهاد لا يتبعض لمعرفته لما اشتملت عليه هذه المقدمة لأنه لا يعرفها اجتهادا إلا وقد صار الواجب عليه العمل بما يؤدي إليه اجتهاده فهو مستغن عن معرفة هذا الكتاب الذي جعلت هذه المقدمة مقدمة له لأنه موضوع للمقلدين لا للمجتهدين ولا واسطة بين التقليد والاجتهاد ولا بين المجتهد والمقلد اصطلاحا والمصنف وكثير من أهل الأصول قائلون بنفي الواسطة. وأما من قال إن الاجتهاد متعين وإنه لا يجوز التقليد على كل حال فهو يوجب الاجتهاد في مثل هذه المسائل المذكورة في هذه المقدمة وفي جميع مسائل هذا الكتاب ولم يكن المصنف من القائلين بتعيين الاجتهاد حتى يصح حمل كلامه هنا على ذلك على أن ثم مانعا من حمله على ذلك وهو أنه لو كان قائلا بذلك لكان تصنيفه لهذا الكتاب ضائعا ليس تحته فائدة لأنه لا ينتفع به إلا المقلدون وليس للمجتهد إليه حاجة بل يكون تصنيفه لهذا الكتاب مع قوله بتعيين الاجتهاد إيهأما للمقلدة بجواز ما لا يجوز عنده وتحليلا لما هو غير حلال في اعتقاده وحاشاه من ذلك. وما قيل من أن المراد بوضعها تعريف المقلد كراهية جهل ما ذكر فيها وبيان حسن معرفته لها بالدليل لا وجوب تعين الاجتهاد فيجاب عنه بأن هذا لا يدفع الاعتراض على المصنف لأنه لم يثبت الواسطة بين الاجتهاد والتقليد حتى يحمل كلامه على هذا. على أنه لو كان من القائلين بذلك لكان للمقصرين مندوحة عن الاحتياج إلي كتابه هذا وأمثاله لأنهم إذا قدروا على معرفة الحق في مسائل هذه المقدمة بالدليل من دون اجتهاد كانوا على معرفة الحق في المسائل المذكورة بعد هذه المقدمة أقدر لصعوبة هذه وسهولة تلك. قوله: "فصل. التقليد في المسائل الفرعية القطعية والظنية جائز لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم منه".

أقول: الكلام على هذا من وجوه: الأول: حقيقة التقليد اعلم أنه مأخوذ عند أهل اللغة من القلادة التي يقلد الإنسان غيره بها ومنه تقليد الهدى فكأن المقلد يجعل ذلك الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنق المجتهد. وأما في الاصطلاح فهو العمل بقول الغير من غير حجة فيخرج العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بالإجماع والعمل من العامي بقول المفتي والعمل من القاضي بشهادة الشهود العدول فإنها قد قامت الحجة في جميع ذلك. أما العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالإجماع عند القائلين بحجبته فظاهر وأما عمل العامي بقول المفتي فلوقوع الإجماع على ذلك وأما عمل القاضي بشهادة الشهود العدول فالدليل عليه ما في الكتاب والسنة من الأمر بالشهادة وقد وقع الاجماع على ذلك ويخرج عن ذلك أيضا قبول رواية الرواة فإنه قد دل الدليل على قبولها ووجوب العمل بها وأيضا ليست قول الرأوي بل قول المروي عنه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الهمام في التحرير التقليد العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجة وهذا الحد أحسن من الأول. وقال القفال: "هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من اين قاله". وقال الشيخ أبو حامد والأستاذ أبو منصور: "هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة". الوجه الثاني: أورد الجلال في شرحه هنا بحثا فقال وربما يتوهم أن أحكام الشرع متعلقة بالعامي وأكثرها استدلال مظنون وليس من أهل الاستدلال فيجب عليه التقليد بدلا عن الاجتهاد كالتراب بدل الماء إذ هو الممكن وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه. والجواب منع تعلق الظنيات بالعامي للاتفاق على أن الفهم شرط التكليف فهو شرط للوجوب وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب فإذن لا يتعلق بها إلا ما فهمه وليس ذلك إلا ضروريات الشرع والعمل بالضروري ليس بتقليد لأن الضرورة أعظم الأدلة ولهذا وقع الاتفاق على أن العامي يقر ما فعله ولا ينكر عليه ما لم يخرق الإجماع انتهى. ولا يخفى عليك أن هذا الكلام ساقط فاسد فإن قوله للاتفاق على أن الفهم شرط التكليف إن أراد فهم التركيب الذي وقع الخطاب به من الشارع فهذا يفهمه كل عاقل ولا يتعذر فهمه إلا على المجنون أو صبي صغير وهذا المعنى هو الذي أراده أهل العلم بقولهم الفهم شرط التكليف. وإن أراد بالفهم فهم النفع المرتب على التكليف فهذا لم يقل به أحد قط ولو فرضنا أنه قال به قائل لكان ذلك مستلزما لعدم تكليف كل كافر وجاحد وزنديق واللازم باطل بإجماع المسلمين أجمعين فالملزوم مثله.

وإن أراد غير هذين المعنيين فلا ندري ما هو ولم يقل به أحد بالجملة فهذه فاقرة عظمى ومقالة عمياء صماء بكماء فليكن هذا منك على ذكر فإنه قد كرره في مواضع من كتابه. وما ذكره الجلال رحمه الله في آخر بحثه هذا جعله كالنتيجة له من كون العامي إنما كلف بالضروريات فهو من أغرب ما يقرع الأسماع لأنه خرق للإجماع وباطل لا يقع في مثله بين أهل العلم نزاع وكل من له نصيب من علم وحظ من فهم يعلم أن هذه التكاليف الثابتة في الكتاب والسنة لازمة لكل بالغ عاقل لا يخرج عن ذلك منهم أحد كائنا من كان إلا من خصه الدليل والضروريات منها هي بالنسبة إلي جميعها أقل قليل وأندر نادر والواقعون في معاصي الله المتعدون لحدوده الهاتكون لمحارمه من العامة لو علموا بهذا البحث من هذا المحقق لقرت به أعينهم واطمأنت إليه أنفسهم وأقاموا به الحجة على من أراد إقامة حدود الله عليهم وطلب منهم القيام بشرائعه فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه فإن غالب الواجبات الشرعية والمحرمات الدينية ثابتة بالعمومات وهي ظنية الدلالة وما كان ثابتا بما هو ظني التمن أو ظن الدلالة فهو ظني لا قطعي فضلا عن أن يكون ضروريا. وإذا كانت العامة في راحة من هذه التكاليف وهم السواد الأعظم فإن الخاصة بالنسبة إليهم أقل قليل قد يوجد واحد منهم في الألف والألفين والثلاثة وقد لا يوجد فهذا هو تعطيل الشريعة. الوجه الثالث: أن قوله الفرعية يخرج الأصلية أي مسائل أصول الدين وأصول الفقه وإلي هذا ذهب الجمهور لا سيما في أصول الدين فقد حكي الأستاذ أبو إسحق في شرح الترتيب: "إن المنع من التقليد فيها هو إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف". قال أبو الحسين بن القطان "لا نعلم خلافا في امتناع التقليد في التوحيد". وحكاه ابن السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء. وقال إمام الحرمين في الشامل: "لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة". وقال الإسفراييني: "لم يخالف فيه إلا أهل الظاهر". ولم يحك ابن الحاجب الخلاف في ذلك إلا عن العنبرى وحكاه في المحصول عن كثير من الفقهاء واستدل الجمهور على منع التقليد في ذلك بأن الأمة أجمعت على وجوب معرفة الله سبحانه وأنها لا تحصل بالتقليد لأن المقلد ليس معه إلا والأخذ بقول من يقلده ولا يدرى أهو صواب أم خطأ؟. واعلم أن ذكر الفرعية يغنى عن ذكر العملية وما قيل من أن قيد العملية لإخراج الفرعية العلمية كمسألة الشفاعة وفسق من خالف الإجماع فذلك غير جيد لأن هاتين المسألتين ليستا بفرعيتين فقد خرجتا من قيد الفرعية. ودعوى أنهما فرعيتان علميتان باطلة وإن زعم ذلك بعض شراح الأزهار والأثمار وارتضاه

الأمير في حاشيته على ضوء النهار بل هما أصليتان من مسائل أصول الدين ولا خلاف في ذلك بين علماء هذين العلمين. وهذه القيود مبنية على الاصطلاح والاعتبار بما وقع عليه التواضع بين أهله. والمراد بالفرعية ما كان موضعها الفعل أو الوصف فلا يرد ما أورده الجلال على قيد العملية وكان الأولى له أن يذكر ما ذكرناه من كونه مستدركا. وهكذا قوله الظنية والقطعية فإنه قد أغنى عن ذلك قوله الفرعية لأن إطلاق الفرعية بتنأول قطعيها وظنيها. وهكذا قوله لغير المجتهد لا له ولو وقف على نص أعلم له فإن عدم تجويز التقليد للمجتهد يفيد أنه لا يجوز له بحال لا لمن هو مثله ولا لمن هو فوقه لكونه قد حصل له باجتهاده ما هو المانع من التقليد على كل حال ولكل أحد. وهكذا قوله ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة فإن هذا العملي هو من مسائل الأصول لا من مسائل الفروع فقد خرج بقيد الفرعية فلو قال المصنف هكذا: "فصل: التقليد في الفروع جائز لغير المجتهد" لكان أخصر وأظهر وأوضح معنى فإن ما زاد على هذا من القيود التي ذكرها ليس فيه إلا مجرد التكرار مع إيهام التناقض في البعض من ذلك. الوجه الرابع: في الكلام على جواز التقليد. اعلم أنه قد ذهب الجمهور إلي أنه غير جائز قال القرافي مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد وادعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد ورواه مالك وأبو حنيفة والشافعي وروى المروزي عن الشافعي في أول مختصرة أنه لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره. وقد ذكرت نصوص الأئمة الأربعة المصرحة بالنهي عن التقليد لهم في الرسالة التي سميتها "القول المفيد في حكم التقليد". والحاصل أن المنع من التقليد إن لم يكن إجماعا فهو مذهب الجمهور ومن اقتصر في حكاية المنع من التقليد على المعتزلة فهو لم يبحث عن اقوال أهل العلم في هذه المسألة كما ينبغي. وقد حكي عن بعض الحشوية أنهم يوجبون التقليد مطلقا ويحرمون النظر وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتى أوجبوه على غيرهم فإن التقليد جهل وليس بعلم. وذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا يجب على العامي ويحرم على المجتهد وبهذا قال كثير من أتباع الأربعة ولكن هؤلاء الذين قالوا بهذا القول من أتباع الأئمة يقرون على أنفسهم بأنهم مقلدون والمعتبر في الخلاف إنما هو قول المجتهدين لا قول المقلدين. والعجب من بعض المصنفين في الأصول فإنه نسب هذا القول المشتمل على التفصيل إلي

الأكثر وجعل الحجة لهم الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين. فإن أراد إجماع الصحابة فهم لم يسمعوا بالتقليد فضلا عن أن يقولوا بجوازه وكذلك التابعون لم يسمعوا بالتقليد ولا ظهر فيهم بل كان المقصر في زمان الصحابة والتابعين يسأل العالم منهم عن المسألة التي تعرض له فيروى له النص فيها من الكتاب أو السنة وهذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب طلب حكم الله في المسألة والسؤال عن الحجة الشرعية. وقد عرفت مما قدمنا أن المقلد إنما يعمل بالرأي لا بالرواية من غير مطالبة بحجة وإن أراد إجماع الأئمة الأربعة فقد عرفت أنهم مصرحون بالمنع من التقليد لهم ولغيرهم ولم يزل من كان في عصرهم منكرا لذلك أشد إنكار وإن أراد إجماع المقلدين للأئمة الأربعة فقد عرفت أنه لا يعتبر خلاف المقلد فكيف ينعقد بقولهم الإجماع وإن أراد غيرهم فمن هم فإنه لم يزل أهل العلم في كل عصر منكرين للتقليد وهذا معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم. والحاصل أنه لم يأت من جوز التقليد فصلا عمن أوجبه بحجة ينبغي الاشتغال بجوابها قط وقد أوضحنا هذا في رسالتنا المسماة بالقول المفيد في حكم التقليد وفي كتابنا الموسوم "بأدب الطلب ونهاية الأرب". وأما ما ذكروه من استبعاد أن يفهم المقصرون نصوص الشرع وجعلوا ذلك مسوغا للتقليد فليس الأمر كما ظنوه فهاهنا واسطة بين الاجتهاد والتقليد وهي سؤال الجأهل للعالم عن الشرع فيما يعرض له لا عن رأيه البحت واجتهاده المحض وعلى هذا كان عمل المقصرين من الصحابة والتابعين وتابعيهم. ومن لم يسعه ما وسع هؤلاء الذين هم أهل القرون الثلاثة الفاضلة على ما بعدها فلا وسع الله عليه. وما أحسن ما قاله الزركشي في البحر عن المزني فإنه قال يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فإن قال نعم أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال بغير علم قيل له فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج والأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة!! فإن قال أنا أعلم أني أصبت وإن لم أعرف الحجة لأن معلمي من كبار العلماء قيل له تقليد معلم معلمك أولى من تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عن معلمك كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك. فإن قال نعم ترك تقليد معلمه إلي تقليد معلم معلمه وكذلك حتى ينتهي إلي العالم من الصحابة. فإن أبى ذلك نقض قوله وقيل له كيف يجوز تقليد من هو أصغر واقل علما ولا يجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما؟. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حذر من زلة العالم وعن ابن مسعود أنه قال: "لا

يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن أمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر" انتهى وأقول: متمما لهذا الكلام وعند أن ينتهي إلي العالم من الصحابة يقال له هذا الصحأبي أخذ علمه عن أعلم البشر المرسل من الله إلي عباده المعصوم عن الخطأ في أقواله وأفعاله فتقليده أولى من تقليد الصحأبي الذي لم يصل إليه إلا شعبة من شعب علومه وليس له من العصمة شيء ولم يجعل الله سبحانه قوله ولا فعله ولا اجتهاده حجة على أحد من الناس. واعلم أن رأي المجتهد عند عدم الدليل إنما هو رخصة له بلا خلاف في هذا ولا يجوز لغيره العمل به بحال من الأحوال فمن ادعى جواز ذلك فليأتنا بالدليل وهو لا محالة يعجز عنه وعند عجزه عن البرهان يبطل التقليد لأنه كما عرفت العمل برأي الغير من غير حجة. الوجه الخامس: قال الجلال في شرحه "إن تجويز التقليد لغير المجتهد لا له تحكم لأن العامي كالمجتهد". ولا أدري ما أصل هذه الدعوى ولا ما هو الموجب للوقوع فيها فإن هذه التسوية بين من بلغ في العلم إلي أعلى مكان وبين من هو بجهله في أسفل سافلين كالتسوية بين النور والظلمة وبين الجماد والحيوان ولعله أراد إلزام من يجرى على لسانه ذلك من مقصري المقلدة. وأورد الجلال أيضا على قوله في الأزهار ولا في عملي يترتب على علمي بحثين. الأول قد أجاب عنه والثاني أن الفقه كله عملي يترتب على علمي وهو أصول الفقه. وأجاب عنه الأمير في حاشيته بأن المراد بالعلمي المذكور هو العلم بالمعنى الأخص وليس كل مسائل أصول الفقه كذلك بل المترتب منها على العلم بالمعنى الأعم أكثر وأنه شامل للظن هكذا قال. وأقول: إن الفقه مترتب على علمي بالمعنى الأخص وهو إثبات النبوة بالدليل العقلي والنقلي وكل واحد منهما علمى بلا خلاف فالمقلد في جميع ما قلد فيه قد قلد إمامة في عملي مترتب على علمي وهذا يبطل التقليد من أصله ويجتثه من عرقه. ثم أن الأمير رحمه الله في حاشيته ها هنا رجح التفصيل في جواز التقليد لمن كان بليد الفهم جامد الفكرة بعيد النظر دون من كان فيه أهلية للنظر وإدراك للمباحث ولا يخفاك أن هذا التفصيل عليل ودليله كليل فإن ذلك البليد إن بقي له من الفهم ما يفهم ما به من كلام من أراد تقليده فهذه البقية الثابتة له يقوى بها على فهم كلام من يروى له الدليل ويوضح له معناه فليس به إلي التقليد حاجة وليس فهم رأي عالم من العلماء بأظهر من فهم معنى ما جاد به الشرع فما الملجىء له إلي رأي الغير البحث وهو يجد من يروى له ما هو الشرع الذي شرعه الله لعباده؟. وإن قدرنا أنه قد بلغ من البلادة إلي حد لا يفهم معه رأى من يقلده فقد انسد عليه الباب من الجهتين وهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء وليس عليه إلا العمل بما بلغ إليه فهمه ولا يكلفه الله فوق طاقته.

[فصل وإنما يقلد مجتهد عدل تصريحا وتأويلا ويكفى المغرب انتصابه للفتيا في بلد شوكته لإمام حق لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل] قوله: "فصل: وإنما يقلد مجتهد" أقول: الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد وهو المشقة والطاقة فيختص بما فيه مشقة ليخرج عنه ما لا مشقة فيه. قال الرازي في المحصول هو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أي فعل كان يقال استفرغ ووسعه في حمل الثقيل ولا يقال استفرغ وسعه في حمل النواة وأما في عرف الفقهاء فهو استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ فيه. وهذا سبيل مسائل الفروع وكذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هكذا حال الأصول انتهى. وقد ذكرت في كتأبي الموسوم بإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول ما ذكره أهل الأصول وغيرهم في تحقيق الاجتهاد وشروط المجتهد وعقبت ذلك بما هو الراجح عندي وقد أطلت الكلام على ذلك في كتأبي الموسوم بأدب الطلب ومنتهى الأرب وذكرت فيه مراتب للمجتهدين ولما يحتاج كل واحد منهم إليه وهو تحقيق لم أسبق إليه. وقد اختلف في رسم العدالة وأحسن ما قيل في ذلك أنها ملكة للنفس تمنعها عن اقتراف الكباشر والرذائل فمن كان كذلك فهو عدل ومن لم يكن كذلك فليس بعدل لأن الإقدام على كبائر الذنوب يجعل صاحبه مظنة للتهمة فهو غير مأمون على علم الشرع وأيضا مرتكب ذلك مسلوب الأهلية فليس من المتأهلين للاقتداء به في مسائل الدين. وهكذا الإقدام على الرذائل فإنه يدل على سقوط النفس وانحطاط رتبة فاعله عن رتبة حملة العلم الذين جعلهم الله أمناء على دينه وأمر عباده بسؤالهم عند الحاجة. وقد أورد الجلال هاهنا بحثا فقال إن العدالة والاجتهاد ملكة نفسية ولا سبيل إلي الاطلاع عليها إلا بقرائن نظرية إلي أن قال فلا بد من التقليد فيهما وهما عمليان وما يترتب عليهما عملي يترتب على علمي. ويجاب عنه بأن هذا ليس من التقليد في شيء بل هو من باب قبول الرواية ممن له قدرة على معرفة هذه الملكة الاجتهادية. وأما ملكة العدالة فهي معروفة للمقصر والكامل والاعتبار إنما هو بما يدل عليها من الأفعال والأقوال ومن ترك ما ينافيها وذلك قبول رواية لا قبول رأي ثم إن مسائل الدين بأسرها مترتبة على علمي فتخصيص بعضها بإيراد الإلزام بها ليس كما ينبغي. قوله: "تصريحا وتأويلا".

أقول: هذا تفصيل لمفهوم قوله عدل وهو مستعنى عنه لأن إطلاق قوله عدل يخرج من لم يكن عدلا سواء كان ملتبسا بما ينافي العدالة على جهة التصريح أو على جهة التأويل. والحق أنه لا كفر تأويل ولا فسق تأويل ولا يدل على ذلك دليل. والكلام على المقام مبسوط في غير هذا الموضع وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلي قوله ويكفي المغرب إلي آخر الفصل عند من لا يثبت التأويل وذلك ظاهر وأيضا لا حاجة له عند من يثبته لأنه قد أغنى عنه إطلاق العدالة فإنها لا تكون عنده إلا لمن ليس من كفار التأويل ولا من فساق التأويل فلا بد من تحقيق عدم هذا المانع من ثبوت العدالة وكون الولاية لمن لا يرى جواز تقليد فاسق التأويل هو مجرد قرينة ضعيفة ولا تثبت ملكة العدالة بمثل ذلك فلو اقتصر على قوله في هذا الفصل إنما يقلد مجتهد عدل لكان أخصر وأظهر لأن التفصيل إنما أخرج فاسق التصريح وفاسق التأويل والعدالة تنتفي بمجرد ارتكاب محرم وإن لم يبلغ بصاحبه إلي الفسق بالمعنيين. وفي هذا الفصل ابحاث في ضوء النهار إذا تأملت ما ذكرناه هنا عرفت الجواب عنها. [فصل وكل مجتهد مصيب في الأصح والحي أولى من الميت والأعلم من الأورع والأئمة المشهورون من أهل البيت أولى من غيرهم لتواتر صحة اعتقادهم وتنزههم عما رواه البويطي وغيره عن غيرهم من إيجاب القدرة وتجويز الرؤية وغيرهما ولخبري السفينة وإني تارك فيكم] [مسلم "2408"] . قوله: "فصل: وكل مجتهد مصيب". أقول: اعلم أن الخلاف في هذه المسألة تختص بالمسائل الشرعية لا العقلية فلا مدخل لها في هذا وقد ذهب الجمهور ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني ومن المعتزلة أبو الهذيل وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهم إلي أن المسائل الشرعية تنقسم إلي قسمين الأول منها قطعيا معلوما بالضرورة أنه من الدين كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنا والخمر فليس كل مجتهد فيها مصيبا بل الحق فيها واحد فالموافق له مصيب والمخطىء غير معذور بل آثم. وإن كان فيها دليل قاطع وليست من الضروريات الشرعية فقيل مخطىء آثم وقيل مخطىء غير آثم. القسم الثاني المسائل الشرعية التي لا قاطع فيها فذهب كثيرون إلي أن كل مجتهد مصيب وحكاه المأوردي والروياني عن الأكثرين وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأكثر

الفقهاء إلي أن الحق في أحد الأقوال ولم يتعين لنا وهو عند الله متعين لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد للشخص الواحد حلالا وحراما. والكلام في هذه المسألة طويل وقد ذكرنا في مؤلفنا المرسوم بإرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول أقوال المختلفين في هذه المسألة وذكرنا أن كل طائفة استدلت لقولها بما لا تقوم به الحجة. وهاهنا دليل يرفع النزاع ويوضح الحق أيضاحا لا يبقى بعده تردد وهو ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة مرفوعا: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". [البخاري "7352"، ومسلم "1716"، وأحمد "4/198، 204"] . فهذا الحديث قد دل دلالة بينة أن للمجتهد المصيب أجرين وللمجتهد المخطىء أجرا فسماه مخطئا وجعل له أجرا فالمخالف للحق بعد أن اجتهد مخطىء مأجور وهو يرد على من قال إنه مصيب ويرد على من قال إنه آثم ردا بينا ويدفعه دفعا ظاهرا. وقد أخرج هذا الحديث الدارقطني والحاكم من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وبلفظ: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور" قال الحاكم صحيح الاسناد فيه فرج بن فضالة وهو ضعيف وتابعه ابن لهيعة بغير لفظه وأخرجه أحمد من حديث عمرو بن العاص بلفظ: "إن أصبت فلك عشرة أجور وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة"، وإسناده ضعيف. وما ذكره المصنف رحمه الله من أولوية تقليد الحي إلي آخر الفصل هو مبني على جواز التقليد وقد قدمنا أنه غير جائز. [فصل والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب ولا يجمع مستفت بين قولين في حكم واحد على صورة لا يقول بها إمام منفرد كنكاح خلا عن ولي وشهود لخروجه عن تقليد كل من الإمامين] . قوله: فصل: "والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب". أقول: الأولوية مغنية عن قوله ولا يجب لأن كون الشيء أولى من غيره ما يفيد أن ذلك الغير جائز مرجوح كما أن الأولى جائز راجح فلو يأت قوله ولا يجب بفائدة بل هو مستدرك. وقد أوجب جماعة تقليد إمام معين ورجح هذا القول الكيا الهراسي وقال جماعة ليس بواجب ورجح هذا القول ابن برهان والنووي.

ويالله العجب من عالم ينسب إلي العلم يحكم بأولوية التقليد لمعين جزافا فلا برهان من عقل ولا شرع. وأعجب من هذا من يوجب ذلك فإنه من التقول على الله بما لم يقل ومن إيجاب البدع التي لم تكن في عصر الصحابة ولا عصر التابعين ولا تابعيهم. وأعجب من هذا كله قول ابن المنير إن الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم فليت شعري ما هو هذا الدليل وقد صان الله أدلة الشرع أن تدل على هذا بل وصان علماء الدين من المجتهدين أن يقولوا بمثل هذا التفصيل العليل. ولعله قول لبعض المقلدة فظنه هذا القائل دليلا. [فصل ويصير ملتزما بالنية في الأصح وبعد الالتزام يحرم الانتقال إلا إلي ترجيح نفسه بعد استيفاء طرق الحكم فالاجتهاد يتبعض في الأصح أو لإنكشاف نقصان الأول فأما إلي أعلم أو أفضل ففيه تردد وإن فسق رفضه فيما تعقب الفسق فقط وإن رجع فلا حكم له فيما قد نفد ولا ثمرة له كالحج وأما ما لم يفعله ووقته باق أو فعل ولما يفعل المقصود به فبالثاني. فأما ما لم يفعله وعليه قضاؤه أو فعله وله ثمرة مستدامة كالطلاق فخلاف] . قوله: فصل: "ويصير ملتزما بالنية في الأصح". أقول: لو كان هذا التقليد المشئوم قربة من القرب الشرعية وطاعة من طاعات الله لم يكن مجرد النية قبل العمل موجبا للزومه للنأوي ومقتضيا لتحريم انتقاله عنه. والحاصل أن هذه المسائل هي بأسرها من التخبط فب البدع والتجرؤ على الشريعة المطهرة بنسبة ما لم يكن منها إليها بل بنسبة ما هو معاند لها ومضاد لما فيها إليها. وقد ذهب جماعة إلي التفصيل فقالوا إن كان قد عمل بالمسألة لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختار هذا إمام الحرمين الجويني. وقيل إن غلب على ظنه أن مذهب غير إمامه في تلك المسألة أقوى من مذهبه جاز له وإلا لم يجز وبه قال القدوري الحنفي. وقيل إن كان الذي انتقل إليه ما ينقض الحكم لم يجز له الانتقال وإلا جاز واختاره ابن عبد السلام.

وقيل يجوز بشرط أن ينشرح له صدره وألا يكون قاصدا للتلاعب وألا يكون ناقضا لما قد حكم به عليه واختاره ابن دقيق العيد. وقد ادعى الآمدي وابن الحاجب أنه يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق. وكل هذه الأقوال على فرض جواز التقليد لا دليل عليها لكنها أقل مفسدة ومخالفة للحق من إيجاب التقليد وتحريم الانتقال بمجرد النية. وفي الشر خيار. قوله: "ولاجتهاد يتبعض في الأصح" أقول: اختلف أهل العلم في ذلك فذهب جماعة إلي أنه يتجزأ وعزاه الصفي الهندي إلي الأكثرين قال ابن دقيق العيد وهو المختار لأنها قد يمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد. وذهب آخرون إلي المنع واحتج الأولون بأنه لو لم يجز تجزؤ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل واللازم منتف فإن كثيرا من المجتهدين قد سئل فلم يجب وكثيرا منهم سئل عن مسائل فأجاب في البعض وهم مجتهدون بلا خلاف. واحتج آخرون بأن كل ما يقدر جهله به يجوز تعلقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظن عدم المانع. وأجيب بأن المفروض حصول جميع ما يتعلق بتلك المسألة ويرد هذا الجواب بمنع حصول ما يحتاج إليه المجتهد في مسألة دون غيرها فإن من لا يقتدر على الاجتهاد في بعض المسائل لا يقتدر عليه في البعض الآخر وأكر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض ويأخذ بعضها بحجزة بعض ولا سيما ما كان من علومه مرجعه إلي ثبوت الملكة فإنها إذا تمت حصلت القدرة على الاجتهاد في جميع المسائل وإن نقصت لم يقتدر على الاجتهاد في شيء ولا يثق في نفسه لتقصيره ولا يثق به الغير لذلك. فإن ادعى بعض المقصرين بأنه قد اجتهد في مسألة دون مسألة فتلك الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا فإنه يورد عليه من المسالك والمآخذ ما لا يتعقله. قوله: "أو لانكشاف نقصان الأول". أقول: المقلد لا يعرف الكامل من المجتهدين ولا الناقص منهم وإنما يستروى ذلك ممن له إدراك يعرف به الكمال والنقص فهذا المقلد إن انكشف له نقص من قلده بإخبار من أخبره باجتهاده وكماله فقد أقر على نفسه أن خبره الأول المتضمن لكماله غير صحيح وإن كان انكشاف النقص بخبر غير من أخبره بالكمال فقد وقع هذا المقلد المسكين في حيرة لأنه غير متأهل للترجيح في الأخبار المتعارضة عن مثل هذا الأمر الذي لا يعرفه إلا المتأهلون. والمنهج الواضح والمهيع الآمن أن يقطع عن عنقه علائق التقليد وقد جعل الله له في الأمر

سعة بسؤال أهل العلم عن حكم الله سبحانه فيما يفرض له وتدعو حاجته إليه من عبادة أو معاملة. قوله: "فأما إلي أعلم أو أفضل ففيه تردد". أقول: لا تردد بل ينبغي أن يعمل بمزية الأعلمية والأفضلية ولا شك أنه يوجد في معاصري إمامه وفيمن قبله من هو أعلم منه وأفضل منه ثم كذلك حتى ينتهي الأمر إلي الإمام الأول الذي بعثه الله سبحانه برسالته وأنزل عليه كتابه وأمره بأن يبين للناس ما نزل إليهم فإنه منتهى الكمالات ومنشأ الفضائل ومعدن الفواضل فيأخذ دينه عنه من الكتاب الذي أنزل عليه أو السنة المطهرة التي جاء بها. قوله: "فإن فسق رفضه" إلي آخر الفصل. أقول: إن كان قد عمل عملا وهو عند نفسه مقلد لعالم من العلماء فليس انتسابه إلي ذلك العالم مسوغا به ما لم يسوغه له الشرع فإن كان موافقا للدليل فقد أجزأه وتقبله الله منه وإن كان مخالفا للدليل فلا اعتبار به ولا حكم له سواء فسق المجتهد أم لم يفسق رجع أم لم يرجع وسواء كان للفعل ثمرة مستدامة أم لا. فإن قيل قد يلحق المقلد في ذلك مشقة قلنا هو أدخل نفسه فيما لا يجوز له الدخول فيه فعلى نفسها براقش تجني. [فصل ويقبل الرواية عن الميت والغائب إن كملت شروط صحتها ولا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل طلب الناسخ والمخصص من نصوصه وإن لزم المجتهد ويعمل بآخر القولين وأقوى الاحتمالين فإن التبس فالمختار رفضهما والرجوع إلي غيره كما لو لم يجد له نصا ولا احتمالا ظاهرا. ولا يقبل تخريجا إلا من عارف دلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به ولا قياسا لمسألة على أخرى إلا من عارف بكيفية رد الفرع إلي الأصل وطرف العلة وكيفية العمل عند تعارضها ووجوه ترجيحها لا خواصها وشروطها كون إمامه ممن يرى تخصيصها أو يمنعه. وفي جواز تقليد إمامين فيصير حيث يختلفان مخيرا بين قوليهما فقط خلاف. وبتمام هذه الجملة تمت المقدمة] .

قوله: فصل: "وتقبل الرواية عن الميت والغائب إن كملت شروط صحتها". أقول: قبول الرواية ثابت في كل شيء مع كمال ما يعتبر فيها وهي أمور قد استوفيناها في إرشاد الفحول. وسواء كانت عن حي أو ميت وعن مجتهد أو مقلد في رواية أو رأي ولم يقل أحد من أهل العلم إن المقلد لا يقبل الرواية عن الميت والغائب حتى يحتاج إلي ذكر ذلك. قوله: "ولا يلزمه بعد وجود النص الصريح والعموم الشامل" الخ. أقول: إذا كان هذا غير لازم له فليعدل إلي النص الصريح والعموم الشامل من كتاب الله وسنة رسوله ويعمل بهما ولا يلزم معه طلب الناسخ والمخصص كما لم يلزمه ذلك في رأي من قلده من المجتهدين وليس في محض الرأي الذي يأخذ به المقلد زيادة سهولة أو ظهور على ما في نصوص الرواية حتى يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. قوله: "ويعمل بآخر القولين وأقوى الاحتمالين". أقول: أما آخر القولين فيمكن المقلد أن يعرفه بأن يكون في كتاب لإمامه متأخرا عن الكتاب المشتمل على القول الأول أو بالتصريح من إمامه بأن أحد القولين متأخر والآخر متقدم. وأما أقوى الاحتمالين فلا سبيل للمقلد إلي معرفة الأقوى منهما لأن القوة للقول أو الاحتمال يحتاج إلي علم لا يكون عند المقلد. نعم إذا صرح إمامه بأن أحد الاحتمالين اقوى وأرجح من الآخر أو أخبر المقلد من له قدرة على معرفة الأقوى استقام ما ذكره هنا. ولا وجه لما ذكره الأمير رحمه الله في حاشيته من أن المقلد قد يتمكن من ذلك بأسباب يعرفها لمعرفته لقوة بعض المفاهيم على بعض لأنا نقول لو عرف ذلك كما ينبغي لم يكن مقلدا في هذا الحكم الذي توصل إلي تقويته بذلك السبب. قوله: "ولا يقبل تخريجا" الخ. أقول: إن كان التخريج هو ما ذكره من كون المقلد يعرف أنه لا فرق بين مسألتين نص المجتهد على إحداهما دون الأخرى فيجعل المقلد حكم تلك المسألة الأخرى حكم هذه التي نص عليها المجتهد فيقال أولا من أين لهذا المقلد المسكين معرفة عدم الفرق بين هاتين المسألتين فإن ذلك يرجع إلي علم ليس هو من علمه. وعلى تقدير أنه عارف بدلالة الخطاب والساقط منها والمأخوذ به وأنه بهذه المعرفة ألحق مسألة أخرى فهذا القياس بعينه وإن زعم زاعم أنه غير القياس فما هو والحاصل أن جعل التخريج نوعا مستقلا مغايرا للقياس هو مجرد دعوى لا برهان عليها أصلا ثم قد عرفت عدم جواز التقليد فيما هو مسائل صريحة واضحة فعدم جوازه في مثل هذه المسائل التي هي كما قيل ليست من قول المخرج ولا من قول المخرج له أولى.

وعلى تقدير احتمال أن يكون من قول أحدهما لا على التعيين فقد علمت أن أحدهما مقلد وتقليد المقلد لا يجوز بالإجماع. وبالجملة فهذه ظلمات بعضها فوق بعض وتوسيع لدائرة التقليد المنهي عنه بالكتاب والسنة. قوله: "ولا قياسا لمسألة" الخ. أقول: إنما يعرف الأصل والفرع والعلة والحكم كما ينبغي المجتهد المطلق وأما من كان مقلدا فمعرفته لذلك مجرد دعوى لأن أصالة الأصل وفرعية الفرع وعلية العلة تستمرى من علوم لا يدري المقلد ما هي فضلا عن أن يفهمها بوجه من الوجوه. من أين له الوقوف على محل التعارض حتى يصير إلي الجمع عند إمكانه أو الترجيح عند عدمه فإنه إنما يقتدر على هذا على وجه الصحة من يقتدر على الجمع أو الترجيح عند تعارض الأدلة. وعلى تقدير أنه قد بلغ إلي هذه الرتبة ووصل إلي هذه المنزلة فهو مجتهد لا مقلد فما له وللاشتغال بكلام مجتهد مثله؟! قوله: "وفي جواز تقليد إمامين" الخ. أقول: هذا قد أغنى عنه قوله فيما تقدم والتزام مذهب إمام معين أولى ولا يجب فإن هذا يفيد جواز تقليد إمامين وأكثر ومن لازم الجواز أن يكون مخيرا بين أقوالهم مع الاختلاف فتصريحه هنا بأن في الجواز خلاف مخالف لقوله فيما تقدم ولا يجب لأن نفي الوجوب يوجب الجواز وهذا ظاهر لا يخفى.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة باب النجاسات ... [باب النجاسات هي عشر: ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل أو جلال قبل الاستحالة والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما والكلب والخنزير والكافر وبائن حي ذي دم حلته حياة غالبا والميتة إلا السمك وما لا دم له وما لا تحله الحياة من غير نجس الذات وهذه مغلظة. وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح وهذه مخففة إلا من نجس الذات وسبيلي ما لا يؤكل. وفي ماء المكوة والجرح الطري خلاف وما كره أكله كره بوله كالأرنب] .

قوله: "ما خرج من سبيلي ذي دم لا يؤكل" أقول: حق استصحاب البراءة الأصلية وأصالة الطهارة أن يطالب من زعم بنجاسة عين من الأعيان بالدليل فإن نهض به كما في نجاسة بول الآدمي وغائطه والروثة فذاك وإن عجز عنه أو جاء بما لا تقوم به الحجة فالواجب علينا الوقوف على ما يقتضيه الأصل والبراءة. وبهذا تعرف أن الاستدلال بمفهوم حديث جابر والبراء بلفظ: "لا بأس ببول ما أكل لحمه" على نجاسة بول ما لا يؤكل لحمه لا تقوم به الحجة فإن في إسناد حديث جابر عمرو بن الحصين العقبلي قال أبو حاتم ذاهب الحديث ليس بشيء وقال أبو زرعة واهي الحديث وقال الأزدي ضعيف جدا يتكلمون فيه وقال الدارقطني متروك. وفي إسناده أيضا يحيى بن العلاء أبو عمرو البجلي الرازي قال أحمد كذاب يضع الحديث وقال يحيى ليس بثقة وقال ابن عدي أحاديثه موضوعات. وأما حديث البراء ففي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك الحديث عند جميع أهل النقل وقال ابن حزم في المحلي خبر باطل موضوع. على أنه قد اختلف على سوار فيه فرواه الدارقطني عنه عن مطرف عن أبي الجهم عن البراء مرفوعا بلفظ: "ما أكل لحمه فلا بأس بسؤره". فهو بهذا اللفظ لا يدل على محل النزاع وتعرف أيضا انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة الأبوال والأزبال على العموم لأن غاية ما عولوا عليه حديث: "إنه كان لا يستنزه من بوله" [البخاري "216‘ 218، 1361، 1378، 6052"، مسلم "111/292"، أبو دأود "20"، النسائي "31"، الترمذي "70"، ابن ماجة "347"، أحمد "1/225"] ، وحديث "اسنتزهوا من البول". والأول في الصحيح والثاني صححه ابن خزيمة. وما أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا بلفظ: "اتقوا البول فإنه أول ما يحاسب به العبد في القبر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون. قالوا والبول في هذه الأحاديث عام ويجاب عنه بأنه مخصص على تقدير العموم ومقيد على تقدير الإطلاق بما ثبت في الصحيح بلفظ "من بوله". ثم هذا الدليل هو أخص من الدعوى فإنه في البول لا في الزبل. وبالجملة فكل ما استدل به القائلون بطهارة ما خرج من سبيلي ما يؤكل لحمه يدل على الأصل الذي ذكرناه ولا ينفي طهارة ما خرج من سبيلي غير المأكول. وتعرف أيضا عدم انتهاض ما استدل به القائلون بنجاسة مني الآدمي فإن حديث "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني" لا تقوم به الحجة أصلا لبلوغه في الضعف إلي حد لا يصلح معه للاحتجاج به وكذا حديث أنه صلى الله عليه وسلم "كان يغسل ثوبه من المني" [البخاري "229"، مسلم "108/286"] . ليس فيه أن ذلك لأجل كونه نجسا فإن مجرد الاستقذار بل مجرد درن الثوب مما يكون سببا لغسله وقد ثبت من حديث عائشة عند مسلم وغيره أنها كانت تفرك

المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله ولم وهو يصلي ولو كان نجسا لنزل عليه الوحي بذلك كما نزل عليه الوحي بنجاسة النعال الذي صلى فيه. وأما المذى والودى فقد قام الدليل الصحيح على غسلهما فأفاد ذلك بنجاستهما ولكنه أخرج أبو دأوود والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وقال الترمذي حسن صحيح عن سهل ابن حنيف قال كنت ألقي من المذى شدة وكنت أكثر الاغتسال منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "إنما يجزيك من ذلك الوضوء" قلت يا رسول الله فكيف بما يصيب ثوبي منه قال: "يكفيك بأن تأخذ كفا من ماء فتنضخ بها ثوبك حيث ترى أنه أصابه". فدل هذا الحديث على أن مجرد النضخ يكفي في رفع نجاسة المذى ولا يصح أن يقال هنا ما قيل في المني إن سبب غسله كونه مستقذرا لأن مجرد النضخ لا يزيل عين المذى كما يزيله الغسل فظهر بهذا أن نضخه واجب وأنه نجس خفف تطهيره. قوله: "أو جلال قبل الاستحالة". أقول: لم يرد دليل يدل على نجاسة بول الجلالة ورجيعها بل الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم هو النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس كما أخرجه أصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عباس وهو حديث صحيح. والنهي عن أكل لحمها وشرب لبنها لا يستلزم نجاسة رجيعها وبولها ولا يصح إلحاق ذلك بالقياس على الأكل والشرب لأن الحكم في الأصل تحريم الأكل والشرب وفي الفرع النجاسة وهما مختلفان وليس القياس إلا إثبات مثل حكم الأصل في الفرع. نعم إن خرج ما جلته بعينه فله حكمه الأصلي لبقاء العين وإن خرج بعد استحالة تلك العين إلي صفة أخرى حتى لم يبق لون ولا ريح ولا طعم فلا وجه للحكم بالنجاسة لا من نص ولا من قياس ولا من رأي صحيح. قوله: "والمسكر وإن طبخ إلا الحشيشة والبنج ونحوهما". أقول: ليس في نجاسة المسكر دليل يصلح للتمسك به أما الآية وهو قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90" فليس المراد بالرجس هنا النجس بل الحرام كما يفيده السياق وهكذا في قوله تعالي: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، أي حرام. وقد أنكر بعض أهل العلم ورود لفظ الرجس بمعنى النجس وجعل ما ورد منه مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" [البخاري"156"] . والركس الرجس مجازا على أن في الآية الأولى ما يمنع من حملها على أن المراد بالرجس النجس وذلك اقتران الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام فإنها طاهرة بالإجماع. وأما الاستدلال على نجاسة الخمر بحديث أبي ثعلبة الخشنى عند أبي دأود والترمذي

والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برحض آنية أهل الكتاب لما قال له إنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها لحم الخنزير فإن المراد بأمره صلى الله عليه وسلم بالغسل أن يزيلوا منها أثر ما يحرم أكله وشربه ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة كما عرفت. ولفظ الحديث "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا" وفي لفظ الترمذي "أنقوها غسلا وأطبخوا فيها" [الترمذي "1857"] . فهذا يدلك على أن الكلام في الأكل والشرب فيها والطبخ لما يطبخونه فيها تحذير من اختلاط مأكولهم ومشروبهم بمأكول أهل الكتاب ومشروبهم للقطع بتحريم الخمر والخنزير ومما يؤيد ما ذكرناه ما أخرجه أحمد وأبو دأود عن جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليهم. وأخرج أحمد عن أنس أن يهوديا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلي خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه. [أحمد "3/210 – 211"] . قوله: "والكلب" أقول: استدلوا على ذلك بحديث "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" [مسلم "280"، أحمد "4/86"، أبو دأود "74"، النسائي "1/177"، ابن ماجة "365"] الحديث. وهذا حكم مختص بولوغه فقط وليس فيه ما يدل على نجاسة ذاته كلها لحما وعظما ودما وشعرا وعرقا وإلحاق هذه بالقياس على الولوغ بعيد جدا ولا سيما مع حديث ابن عمر عند أبي دأود والإسماعيلي وأبي نعيم والبيهقي بلفظ كانت الكلاب تبول في المسجد وتقبل وتدبر زمان رسول الله فلم يكونوا يرشون شيئا وأخرجه البخاري بدون لفظ تبول ولكن ذكره الأصيلي في رواية إبراهيم بن معقل عن البخاري بزيادة لفظ تبول وهذا مما يقوي الاقتصار على إفادة حديث الولوغ وذلك لحكمة للشارع لا نعقلها والواجب علينا العمل بما دلت عليه النصوص وإن لم نعقل الحكمة التي وردت لها. ومما يدل على ما ذكرناه إيجاب التسبيع والتتريب فإنه مخالف لما ورد في غسل سائر النجاسات ومما يؤيد ما ذكرناه من الاختصاص لحكمة لا نعقلها. قوله: "والخنزير". أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} ويجاب عنه بما قدمنا من أن المراد بالرجس هنا الحرام كما يفيده سياق الآية والمقصود منها فإنها وردت فيما يحرم أكله لا فيما هو نجس فإن الله سبحانه قال: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] . أي حرام. ولا تلازم بين التحريم والنجاسة فقد يكون الشيء حرأما وهو طاهر كما في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النسائ: 23] ، ونحو ذلك واستدلوا أيضا بحديث أبي ثعلبة الخشني

المتقدم وفيه الآمر بغسل آنية أهل الكتاب معللا ذلك بأنهم يطبخون فيها لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر وقد قدمنا أن إيجاب الغسل لإزالة ما يحرم أكله وشربه لا لكونه نجسا فإن ذلك حكم آخر غير مقصود للشارع وعلى تقدير الاحتمال تنزلا فلا ينتهض المحتمل للاحتجاج به على محل النزاع. قوله: "والكافر" أقول: استدلوا بقوله تعالي: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وهذا الدليل فيه التصريح بأنهم نجس ولكنه ورد ما يدل على أن هذه النجاسة ليست النجاسة الحسية بل النجاسة الحكمية ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أنزل ثقيف المسجد قيل يا رسول الله أتنزلهم المسجد وهم أنجاس فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء إنما أنجاس القوم على أنفسهم". ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يشربوا وتوضؤا من مزادة المشركة. ومن ذلك أكله صلى الله عليه وسلم لطعام المشركين وتسويغه لوطء المشركات المسبيات قبل إسلامهن وغير ذلك. وورد في أهل الكتاب خاصة {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ونزل القرآن بحل نكاح نسائهم. وأما الاستدلال بحديث أبي ثعلبة من أمره صلى الله عليه وسلم بغسل آنيتهم فقد تقدم أن ذلك لأجل أنهم يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها الخنازير وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم وقد أخرج أحمد وابو دأود من حديث جابر قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين واسقيتهم فنستمتع بها ولا يعيب ذلك عليهم. قوله: "وبائن من حي ذي دم حلته حياة غالبا". أقول: استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة". أخرجه أحمد وأبوا دأود والترمذي [أحمد "5/218"، أبودأود "2858"، الترمذي "1480"] ، والدارمي والحاكم من حديث أبي واقد مرفوعا وأخرجه ابن ماجه والبزار والحاكم وغيرهم من حديث ابن عمر وأخرجه الطبراني من طرق أخرى عن ابن عمر وفيها عاصم بن عمر وهو ضعيف وأخرجه ابن ماجه والطبراني وابن عدي من حديث تميم الداري وإسناده ضعيف وأخرجه الحاكم عن أبي سعيد قال في البدر المنير هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الأحكام وهو مروي من طرق أربع انتهى. أقول: وبمجموعها ينتهض الحديث للاحتجاج ولكن غاية ما فيه أن ذلك البائن من الحي هو ميتة أي محرم أكله وأما أنه نجس فليس في الحديث ما يدل على ذلك وسيأتي الحديث على نجاسة الميتة. واحترز بقوله: "غالبا" عما أبين من السمك والجراد لحديث "أحل لكم ميتتان السمك والجراد" [أحمد "2/97"، ابن ماجة "3314"] ، وإذا حلت ميتتهما بجميع أجزائها حل ميتة بعضهما.

قوله: "والميتة" أقول: استدلوا على ذلك بقوله تعالي: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] ويجاب عنه بأن التحريم لا يستلزم النجاسة كما تقدم واستدلوا أيضا بقوله: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 45] وقد قدمنا أن سياق الآية والمقصود منها هو تحريم الأكل وأن الرجس هنا ليس المراد به النجس بل الخبيث الذي لا يحل أكله واستدلوا أيضا بحديث عبد الله بن عكيم عند أحمد وأهل السنن والبخاري في التاريخ والدارقطني والبيهقي وابن حبان مرفوعا: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" [أحمد "4/310، 311"، أبو دأود "4127‘ 4128"، الترمذي "1729"، النسائي "7/174"، ابن ماجة "3623"] ، وهو حديث حسن ولم يعل بما يوجب سقوط الاحتجاج به وله شاهد من حديث جابر قال الشيخ الموفق إسناده حسن وشاهد آخر من حديث ابن عمر وفي إسناده عدي بن الفضل وهو ضعيف. والمنع من الانتفاع بشيء من إهاب الميتة وعصبها يدل على نجاستها ولا ينافي ذلك تخصيص أحاديث طهارة الإهاب بالدبغ فإنه يبني العام على الخاص وهي أحاديث صحيحة وهي تقوي نجاسة مطلق الميتة لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" أبو دأود "2143"، الترمذي "1728"، النسائي "7/173"، ابن ماجة "3609"] ، يفيد أنه كان نجسا. وأما المناقشة من الجلال وغيره بأن نجس العين لا يطهر بالغسل ولا بالدباغ وإنما يطهر بذلك المتنجس والمدعي أن الميتة نجس عين لا متنجسة فهي مناقشة فروعية لم تستند إلا إلي ما قد تقرر في أذهاب بعض المتفقهة من ذلك. وأي مانع من ذهاب النجاسة العينية بالغسل والدبغ وقد قال صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة: "هلا انتفعتم بإهابها" فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة فقال: "أليس في القرظ ما يطهرها" أو قال: "يطهرها الماء والقرظ" [أبو دأود "4126"، النسائي "7/174 – 175"، أحمد "6/334"] ، الحديث. ومما يؤيد نجاسة الميتة قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا" [البخاري "3/125"] ، هو حديث صحيح فإنه يفيد أن ميتة غير المسلم تنجس. قوله: "إلا السمك وما لا دم له". أقول: أما السمك فلحديث "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" [أبو دأود "83"، أحمد "2/237، 361"، الترمذي "69"، النسائي "1/50"، ابن ماجة 386، 3246"] ، وهو حديث صالح للاحتجاج به وله طرق كثيرة قد صحح الحفاظ بعضها وقد استوفينا الكلام عليه في شرحنا للمنتقي. ولو كانت ميتة السمك نجسة لكانت حرأما لا حلالا. ومثل هذا الحديث حديث: "أحل لكم ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال" وله طرق في أسانيدها مقال وقد روى موقوفا على ابن عمر بإسناد صحيح. وبالجملة فلا خلاف في أن ميتة السمك حلال طاهرة.

وأما ما لا دم له فقد استدلوا على ذلك بحديث "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء" [البخاري "3142، 5335"، أبو دأود "3844"، ابن ماجة "3505"، أحمد "2/229 – 230"] ، وهو في اصحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي من حديث أبي سعيد وأخرجه الدرامي من حديث أنس وأخرجه أيضا البزاز والطبراني في الأوسط من حديثه. ولكن لا يخفاك أنه لا ملازمة بين جواز شرب ما وقع فيه الذباب وبين طهارته فقد يكون ذلك لعدم الاستقذار وقد يكون لتعذر الاحتراز من وقوعه في الأشربة لكثرة وجوده فالظاهر أن له حكم سائر الحيوانات في ميتته ولا ينافي ذلك تخصيصه بالتخفيف في شرب ما وقع فيه فإن ذلك تخصيص لما ورد في عموم الميتة على تقدير ورود أنه لا يحل شرب ما وقعت فيه الميتة على العموم ولكنه لم يرد ذلك إلا خصوصا لا عموما. قوله: "وما لا تحله الحياة" أقول: إذا تقرر بالدليل نجاسة مجموع الميتة فتخصيص بعض ما هو منها والحكم عليه بالطهارة محتاج إلي دليل ومجرد كونها لا تحله الحياة لا يصلح لذلك لأن الحكم بنجاسة الميتة يشمله وقد استدل في ضوء النهار على طهارته بالاتفاق فإن صح ذلك كان دليلا مخصصا عند من يرى حجية الإجماع ولكن الخلاف في المسألة معروف. وممن قال بنجاسة ما لا تحله الحياة المرتضى وأبو العباس. قوله: "وهذه مغلظة" أقول: الوصف لبعض النجاسات بالتغليظ ولبعضها بالتخفيف هو مجرد اصطلاح لا يرجع إلي دليل والواجب اتباع الدليل في إزالة عين النجاسة فما ورد فيه الغسل حتى لا يبقى منه لون ولا ريح ولا طعم كان ذلك هو تطهيره وما ورد فيه الصب أو الرش أو الحت أو المسح على الأرض أو مجرد المشي في أرض طاهرة كان ذلك هو تطهيره. وقد ثبت في السنة أن النعل الذي يصيبه القذر يطهر بالمسح وهو من المغلظة اصطلاحا وكذلك ورد في الثوب إذا أصابه القذر عند المشي على أرض قذرة أنه يطهره المرور على أرض طاهرة. والحاصل أن الشارع الذي عرفنا كيفية تطهير النجاسات هو الذي عرفنا كون هذه العين نجسة أو متنجسة والواجب علينا اتباع قوله: وامتثال أمره وطرح الشكوك الشيطانية والتوهمات الفاسدة فإن ذلك مع كونه مخالفة للشريعة السمحة السهلة هو أيضا غلو في الدين وقد ورد النهي عنه وهو أيضا إفراط ودين الله إنما يؤخذ عن الله وعن رسوله. فليكن هذا منك على ذكر فإنه يخلصك من أمور شديدة وقعت في كتب الفروع. قوله: "وقيء من المعدة ملأ الفم دفعة". أقول: قد عرفناك في أول كتاب الطهارة أن الأصل في جميع الأشياء هو الطهارة وأنه لا

ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح صالح للاحتجاج به 1 غير معارض بما يرجح عليه أو يسأويه فإن وجدنا ذلك فبها ونعمت وإن لم نجد ذلك كذلك وجب علينا الوقوف في موقف المنع ونقول لمدعي النجاسة هذه الدعوى تتضمن أن الله سبحانه أوجب على عباده واجبا هو غسل هذه العين التي تزعم أنها نجسة وأنه يمنع وجودها صحة الصلاة بها فهات الدليل على ذلك. فإن قال حديث عمار: "إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والقيء والدم والمني". قلنا هذا لم يثبت من وجه صحيح ولا حسن ولا بلغ إلي أدنى درجة من الدرجات الموجبة للاحتجاج به والعمل عليه فكيف يثبت به هذا الحكم الذي تعم به البلوى وهو لا يصلح لإثبات أخف حكم على فرد من أفراد العباد؟. فإن قال: قد ورد أنه ينقض الوضوء كما سيأتي. قلنا: فهل ورد أنه لا ينقض الوضوء إلا ما هو نجس؟. فإن قلت: نعم فأنت لا تجد إليه سبيلا وإن قلت قد قال بعض أهل الفروع إن النقض فرع التنجيس. قلنا فهل هذا القول من هذا البعض حجة على أحد من عباد الله؟. فإن قلت نعم فقد جئت بما لم يقل به أحد من أهل الإسلام وإن قلت لا قلنا فما لك والاحتجاج بما لم يحتج به أحد على أحد؟. قوله: "ولبن غير المأكول إلا من مسلمة حية" أقول: الكلام على هذا كالكلام على الذي قبله وليس في الحكم بنجاسة اللبن على العموم ولا على الخصوص أثارة من علم ولا هو مما تستقذره الطباع لا من المأكول ولا من غيره ولا قام إجماع على نجاسته. وبالجملة فالتسرع إلي تشريع الأحكام وإلزام عباد الله بها هو من التقول على الله بما لم يقل وقد ورد أنه من أشد الناس عذابا. وقد قدمنا الكلام على تلك الأشياء التي زعموا أنها نجس ذات فارجع إليه. قوله: "والدم وأخواه إلا من السمك والبق والبرغوث وما صلب على الجرح وما بقي في العروق بعد الذبح" إلي آخر الفصل: أقول: لم يصح في كون كل الدم نجسا شيء من السنة وأما الاستدلال بما في الكتاب العزيز من قوله سبحانه: {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، فقد قدمنا أن الآية مسوقة للتحريم كما هو مصرح به فيها والحكم بالرجسية هو باعتبار التحريم والحرام رجس ولا يكون بمعنى النجس إلا بدليل كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: "إنها ركس" فإن الركس والرجس معناهما واحد. ومن زعم بأن الرجس بمعنى النجس لغة متمسكا بما في الصحاح وغيرها من كتب اللغة

أن الرجس القذر فقد استدل بما هو أعم من المتنازع فيه فإن القذر يشمل كل ما يستقذر والحرام مستقذر شرعا والأعيان الطاهرة إذا كانت منتنة أو متغيرة مستقذرة طبعا. وعلى كل حال فالآية لم تسق لبيان الطهارة والنجاسة بل لبيان ما يحل ويحرم {قُلْ لا أجد فِي مَا أوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] . وإذا تقرر لك هذا وعلمت به أن الأصل طهارة الدم لعدم وجود دليل ناهض يدل على نجاسته فاعلم أنه قد انتهض الدليل على نجاسة دم الحيض لا لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] ، فإن ذلك ليس بلازم للنجاسة فليس كل أذى نجس بل بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر بغسله وبقرصه وبحته وبحكه وتشديده في ذلك بما يفيد أن يكون إزالته على وجه لا يبقى له اثر فأفاد ذلك أنه نجس فيكون هذا النوع من أنواع الدم نجسا ولا يصح قياس غيره عليه لأنه من قياس المخفف على المغلظ. وبهذا تعرف أنه لا حاجة إلي الكلام عن استثناء ما استثناه المصنف رحمه الله من تلك الدماء. [فصل: والمتنجس أما متعذر الغسل فرجس وأما ممكنه فتطهير الخفية بالماء ثلاثا ولو صقيلا والمرئية حتى تزول واثنتين بعدها أو بعد استعمال الحاد المعتاد. وأما شاقة فالبهائم ونحوها والأطفال بالجفاف ما لم تبق عين. والأفواه بالريق ليلة والأجواف بالإستحالة والآبار بالنضوب وبنزح الكثير حتى يزول تغيره إن كان وإلا فطاهر في الأصح والقليل إلي القرار والملتبس إليه أو إلي أن يغلب الماء النازح مع زوال التغير فيهما فتطهر الجوانب المداخلة وما صاده الماء من الأرشية والأرض الرخوة كالبئر] . قوله: "فصل والمتنجس أما متعذر الغسل فرجس". أقول: كان الأولى أن يقال فنجس لأن الرجس يطلق على معاني الحرام والقذر والعذاب والنجس وليس مقصود المصنف هنا إلا النجس والمراد من الكلام أن ما تعذر تطهيره فحكمه حكم نجس العين في تحريمه وعدم جواز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الفأرة: "وإن كان مائعا فلا تقربوه" [البخاري "5538"، أحمد "6/329"، أبو دأود "3841"، الترمذي 1798"، النسائي "7/178"] ، فإن النهي عن قربانه يدل على عدم جواز الانتفاع به بوجه من وجوه الانتفاع. وغير الفأرة مما هو في حكمها من الحيوانات مثلها وغير السمن من المائعات مما لا

يمكن تطهيره مثله ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر مرفوعا اطرحوها وما حولها وكلوه إن كان جامدا قالوا يا رسول الله فإن كان مائعا قال انتفعوا به. وفي إسناده عبد الجبار بن عمر قال ابن سعد ثقة وضعفه جماعة وهو لا يصلح لمعارضة حديث وإن كان مائعا فلا تقربوه فإنه أرجح من هذا الحديث وجانب الحظر مقدم على جانب الإباحة. قوله: "وأما ممكنة فتطهير الخفية بالماء ثلاثا". أقول: أعلم أن التعبد ورد بإزالة النجاسة ورفع أثرها ومحو عينها أما على جهة الاستقصاء وعدم بقاء شيء من العين أو اللون كما ورد في دم الحيض من حديث ام قيس بنت محصن الثابت عند أحمد وأبي دأود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "حكيه واغسليه بماء وسدر" وهو حديث صحيح وكما في حديث التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب فإنه قد يولغ في محو أثر اللعاب هذه المبالغة ودع عنك الاختلاف في العلة التي وقع ذلك لأجلها فإنه أمر وراء ما تعبدنا به وقد تعبدنا بأن نصنع هذا الصنع في دم الحيض ولعاب الكلب سواء عقلنا العلة وفهمناها أم لا فإن هذا هو الواجب علينا بل يجب علينا اتباع ما أمر به الشارع وإن كان مبنيا على الشك والاحتياط كما في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". [مسلم "87/278"، الترمذي "24"، النسائي "1، 161" أحمد "2/241، 382، 265، 284، 455"، ابن ماجة "393"] . فإذا قال المتفقه الذي لم يتعقل الحجة كما ينبغي إن الأصل الطهارة وعدم وقوع النجاسة في اليد بمجرد النوم قلنا هذا حكم شرعه لنا من شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج فدع عنك الرجوع إلي الأصل فإن ذلك مع ورود الدليل لا يغني من الحق شيئا. نعم لو لم يرد الدليل لكان الرجوع إلي الأصل هو الحكم الذي توجبه البراءة الأصلية حتى ينقل عنها ناقل صحيح. وأما لا على جهة الاستقصاء وذلك كحديث صب الذنوب من الماء على بول من بال في المسجد وحديث الرش من بول الغلام وهو في الصحيحين وغيرهما وكما في حديث النعل إذا رأى به قذرا ثم الأمر بالصلاة فيه وهو حديث صحيح وأحاديث إن الأرض التي فيها القذر يطهرها المروربأرض لا قذر فيها وحديث رش المذي بكف من ماء وحديث ابن عمر عند أبي دأود مرفوعا في غسل الثوب من البول مرة واحدة وفي إسناده عبد الله ابن عصيم والرأوي عنه ايوب ابن جابر أبو سليمان اليماني وقد تكلم في كل واحد منهما. ونحو ذلك مما ورد في الحت أو الحك أو المسح أو القرص أو الإماطة وكل ذلك شريعة واردة عن الصادق المصدوق لا تحل المخالفة لشيء مما ورد عنه بل الواجب علينا الاقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم في كون هذا الشيء طاهرا وهذا الشيء نجسا والاقتداء بما ورد عنه في كيفية رفع

يمكن تطهيره مثله ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر مرفوعا اطرحوها وما حولها وكلوه إن كان جامدا قالوا يا رسول الله فإن كان مائعا قال انتفعوا به. وفي إسناده عبد الجبار بن عمر قال ابن سعد ثقة وضعفه جماعة وهو لا يصلح لمعارضة حديث وإن كان مائعا فلا تقربوه فإنه أرجح من هذا الحديث وجانب الحظر مقدم على جانب الإباحة. قوله: "وأما ممكنة فتطهير الخفية بالماء ثلاثا". أقول: أعلم أن التعبد ورد بإزالة النجاسة ورفع أثرها ومحو عينها أما على جهة الاستقصاء وعدم بقاء شيء من العين أو اللون كما ورد في دم الحيض من حديث ام قيس بنت محصن الثابت عند أحمد وأبي دأود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان بلفظ: "حكيه واغسليه بماء وسدر" وهو حديث صحيح وكما في حديث التسبيع والتتريب من ولوغ الكلب فإنه قد يولغ في محو أثر اللعاب هذه المبالغة ودع عنك الاختلاف في العلة التي وقع ذلك لأجلها فإنه أمر وراء ما تعبدنا به وقد تعبدنا بأن نصنع هذا الصنع في دم الحيض ولعاب الكلب سواء عقلنا العلة وفهمناها أم لا فإن هذا هو الواجب علينا بل يجب علينا اتباع ما أمر به الشارع وإن كان مبنيا على الشك والاحتياط كما في حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده". [مسلم "87/278"، الترمذي "24"، النسائي "1، 161" أحمد "2/241، 382، 265، 284، 455"، ابن ماجة "393"] . فإذا قال المتفقه الذي لم يتعقل الحجة كما ينبغي إن الأصل الطهارة وعدم وقوع النجاسة في اليد بمجرد النوم قلنا هذا حكم شرعه لنا من شرع لنا الصلاة والزكاة والصيام والحج فدع عنك الرجوع إلي الأصل فإن ذلك مع ورود الدليل لا يغني من الحق شيئا. نعم لو لم يرد الدليل لكان الرجوع إلي الأصل هو الحكم الذي توجبه البراءة الأصلية حتى ينقل عنها ناقل صحيح. وأما لا على جهة الاستقصاء وذلك كحديث صب الذنوب من الماء على بول من بال في المسجد وحديث الرش من بول الغلام وهو في الصحيحين وغيرهما وكما في حديث النعل إذا رأى به قذرا ثم الأمر بالصلاة فيه وهو حديث صحيح وأحاديث إن الأرض التي فيها القذر يطهرها المروربأرض لا قذر فيها وحديث رش المذي بكف من ماء وحديث ابن عمر عند أبي دأود مرفوعا في غسل الثوب من البول مرة واحدة وفي إسناده عبد الله ابن عصيم والرأوي عنه ايوب ابن جابر أبو سليمان اليماني وقد تكلم في كل واحد منهما. ونحو ذلك مما ورد في الحت أو الحك أو المسح أو القرص أو الإماطة وكل ذلك شريعة واردة عن الصادق المصدوق لا تحل المخالفة لشيء مما ورد عنه بل الواجب علينا الاقتداء بقوله صلى الله عليه وسلم في كون هذا الشيء طاهرا وهذا الشيء نجسا والاقتداء بما ورد عنه في كيفية رفع

الصحابة في عصر النبوة وبعده أنهم تعرضوا لتطهير ذلك مما يقع فيه من النجاسة أو تحرزوا من المباشرة لذلك. وقد كان الصبيان يتصلون بهم وهم في صلاتهم كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل الصبية على ظهره وهو يصلي فإذا سجد وضعها وكذلك كان يحمل الحسن والحسين حال الصلاة وهما في سن الصغر. وبالجملة فالشريعة سمحة سهلة وليس لنا أن نفتح على أنفسنا ابوابا قد سكت عنها الشارع فإن ذلك عفو كما ثبت ذلك بالشرع. ومن هذا التعرض لطهارة الأفواه والأجواف فإن ذلك من التنطع والغلو في دين الله والتقول على الشرع بما ليس فيه. نعم إن أراد بطهارة الأجواف طهارة الجلالة فقد ثبت ذلك في الشريعة أخرج أحمد وأهل السنن والحاكم وابن حيان من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب لبنها حتى تحبس. قوله: "والآبار بالنضوب وبنزع الكثير" الخ. أقول: أرض الابار لها حكم سائر الأرض في طهارتها ونجاستها فلا وجه للتنصيص عليها فمن قال إنها تطهر بالنضوب قال به في أرض البئر ومن قال لا بد من صب الماء عليها قال به في أرض البئر ومن فرق بين الأرض الرخوة والصلبة كما سيأتي قال به في أرض البئر. وإن كان التنصيص على أرض البئر لكونه يتعذر تطهيرها ويشق فإن كان ذلك لأجل ما فيها من الماء فطهارة الماء بكونه مستبحرا أو غير متغير اللون والريح والطعم يوجب طهارة أرض البئر وإن كان التعذر لغير ذلك فقد تقدم حكم متعذر الغسل. وأما قوله: "وبنزح الكثير حتى يزول تغيره" فإن كان كلأما مستأنفا في طهارة ما ينجس من ماء الآبار فكان الأولى أن يأتي بعباة مشعرة بذلك فإنه لا يفهم من عبارته إلا العطف على النضوب. ثم اعلم أنه لا وجه لقوله بنزح الكثير وكان حذف لفظ الكثير أولى لأن الماء لا ينجس إلا إذا وقع فيه ما يغير ريحه أو لونه أو طعمه كما في الحديث الوارد من طرق بلفظ: "خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء" أخرجه أحمد وأهل السنن وغيرهم من حديث أبي سعيد وأخرجه غيرهم من حديث غيره وقد صححه جماعة من الأئمة ومجموع ما ورد في ذلك صالح للاحتجاج به ولا شك ولا شبهة ولا يقدح في مجموع الطرق ما قيل في بعضها من الكلام الذي لا يوجب سقوط الاحتجاج. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وتكلمنا على كل طريق على انفرادها وذكرنا ما قاله الحفاظ في ذلك.

وقد زيد في بعض الطرق زيادة بلفظ: "إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه" وهذه الزيادة وإن كان قد ضعفها كثير من الحفاظ لكنه قد وقع الاجماع على العمل بما دلت عليه فصارت من المتلقي بالقبول. وإذا تقرر لك هذا فالماء الذي في البئر ونحوها إن لم يتغير بوقوع النجاسة فيه فهو طاهر لا يحتاج إلي نزح أصلا وإن كان قد تغير لبعض أوصافه أو كلها فالواجب النزح حتى يزول تغيره سواء كان حصول زوال التغير بنزح القليل أو الكثير بل لو زال التغير بغير نزح لكان ذلك موجبا لطهارته لأنه عند ذلك يصير طهورا ويعود عليه الحكم الذي كان له قبل تغيره وسواء كان الماء الذي في البئر قليلا أو كثيرا فإنه إذا زال تغيره صار طاهرا. وأما الحكم بأنه ينزح القليل والملتبس إلي القرار أو إلي أن يغلب الماء النازح فليس ذلك إلا مجرد رأي ليس عليه اثارة من علم. [فصل ويطهر النجس والمتنجس به بالاستحالة إلا ما يحكم بطهارته كالخمر خلا والمياه القليلة المتنجسة باجتماعها حتى كثرت وزال تغيرها إن كان قبل وبالمكاثرة وهي ورود أربعة أضعافها عليها أو ورودها عليها فيصير مجأورا ثالثا إن زال التغير وإلا فأول وبجريها حال المجأورة وفي الراكد الفائض وجهان] . قوله: فصل "ويطهر النجس والمتنجس به بالاستحالة إلي ما يحكم بطهارته كالخمر خلا". أقول: إذا استحال ما هو محكوم بنجاسته إلي شيء غير الشيء الذي كان محكوما عليه بالنجاسة كالعذرة تستحيل ترابا أو الخمر يستحيل خلا فقد ذهب ما كان محكوما بنجاسته ولم يبق الاسم الذي كان محكوما عليه بالنجاسة ولا الصفة التي وقع الحكم لأجلها وصار كأنه شيء آخر وله حكم آخر. وبهذا تعرف أن الحق قول من قال بان الاستحالة مطهرة ولا حكم لما وقع من المناقشة في ذلك كما في ضوء النهار وغيره. أما حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الجلالة وشرب لبنها فذلك يقيد التحريم للأكل والشرب ولا يعترض به على كون الاستحالة مطهرة بأن يقال إن النجاسة التي أكلتها الجلالة إذا صارت لبنا فقد استحالت فكيف وقع النهي عن شرب اللبن لأنا نقول هذا حكم وارد في تحريم الشرب للبن الجلالة لا في نجاسة لبنها ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة فليست النجاسة فرع التحريم كما يقوله بعض أهل الفروع. قوله: "والمياه القليلة المتنجسة باجتماعها" الخ.

أقول: قد قدمنا لك أن الماء طاهر مطهر لا ينجسه إلا ما غير بعض أوصافه من غير فرق بين قليل وكثير. فهذه المياه القليلة لا تنجس بمجرد وقوع النجاسة فيها إلا أن يتغير بعض أوصافها على ما هو المذهب الحق والقول الراجح فإن تغيرت حال قلتها صارت متنجسة فإن زال ذلك التغير عند اجتماعها صارت طاهرة بزوال التغير وسواء كانت حال اجتماعها مستبحرة أم لا فليس المقصود الذي هو مناط الطهارة إلا زوال التغير فاحفظ هذا فإن أردت مزيد التحقيق فارجع إلي ما حررناه في سائر مصنفاتنا فإنك تقف فيها على ما لا تحتاج إلي غيره. وأما تحديد المكاثرة لورود أربعة اضعافها عليها أو ورودها عليها فليس ذلك إلا مجرد رأي بحت ليس عليه إثارة من علم. قوله: "ويجريها حال المجأورة" أقول: لم يثبت ما يدل على أن جري الماء يوجب طهارته بل إن كان مع جريه قد تغير بعض أوصافه فهو متنجس لبقاء ما هو سبب النجاسة كما تقدم. وأما النهي عن البول في الماء الدائم فليس تخصيص الدائم إلا لكون تأثير ما وقع فيه من النجاسات أكثر من تأثيرها فيما ليس بدائم. وهذا الكلام في الراكد أسفله الفائض أعلاه الاعتبار بزوال التغير ولا اعتبار بفيض أعلاه كما أنه لا اعتبار بمجرد الجري مع بقاء التغير.

باب المياه

[باب المياه فصل إنما ينجس منها مجأور النجاسة وما غيرته مطلقا أو وقعت فيه قليلا وهو ما ظن استعمالها باستعماله أو التبس أو متغيرا بطاهر وإن كثر حتى يصلح وما عدا هذه فطاهر] . قوله: باب المياه فصل "إنما ينجس منها مجأور النجاسة" أقول: هذا رأي بحت ليس عليه أثارة من علم وما ورد في حديث الفأرة إذا وقعت في السمن فإنها تلقى وما حولها إذا كان جامدا فليس ذلك لأجل النجاسة بل لأجل الاستخباث وعدم جواز الأكل. ثم هذا الحكم فيما كان جامد إلا فيما كان مائعا وقد عرفناك غير مرة أنه لا ينجس من المياه إلا ما غيرته النجاسة بنص "خلق الماء طهورا إلا أن يتغير ريحه أو لونه أو طعمه".

وهذه الزيادة قد اتفق الحفاظ على ضعفها وإن وردت من طريق ولكنهم اتفقوا على العمل بها كما نقل ذلك غير واحد من الأئمة والفقهاء وكان العمل بها متعينا من الإجماع على العمل بها لأنها تصير بذلك من المتلقى بالقبول وما كان كذلك فهو مما يجب العمل به كما تقرر في الأصول. فالحاصل أنه لا اعتبار بالمجأورة ولا هي مما يوجب الحكم بالنجاسة إلا إذا غيرت فما تغيرت أحد أوصافه كان نجسا سواء كان قريبا من النجاسة أو بعيدا. قوله: "أووقعت فيه قليلا" أقول: ليس مجرد وقوع النجاسة في القليل مقتضيا لصيرورته نجسا ولا ثبت ما يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام بل المعتبر أن تؤثر فيه النجاسة تغيرا فإن حصل ذلك فقد ضعف عن حمل النجاسة وصار متنجسا وإن لم يحصل ذلك فلا تؤثر النجاسة الواقعة فيه شيئا ويكون حكمه الحكم الذي كان له قبل وقوعها فيه وهو الطهارة فاعرف هذا. قوله: "وهو ما ظن استعمالها باستعماله" أقول: إن كان الظن هو ظن العقلاء المتشرعين فهو لا يكون إلا عند تأثير النجاسة في الماء بجرمها أو لونها أو طعمها أو ريحها وهذا لا يخالف ما قررناه بأنه لا ينجس إلا ما غيرته النجاسة. وإن كان هذا الظن هو ظن أهل الشكوك والوسوسة في الطهارة فلم يقل بذلك أحد من المسلمين أجمعين فلا مخالفة بين هذا القول والقول بأنه لا ينجس من الماء إلا ما غيرته النجاسة. وأما حديث القلتين فغاية ما فيه أن ما بلغ مقدار القلتين لا يحمل الخبث فكان هذا المقدار لا يؤثر فيه الخبث في غالب الحالات فإن تغير بعض أوصافه كان نجسا بالإجماع الثابت من طرق متعددة. وبتلك الزيادة التي وقع الإجماع على العمل بها في حديث: "خلق الماء طهورا" فيكون إطلاق حديث القلتين مقيدا بذلك حملا للمطلق على المقيد. وأما ما كان دون القلتين فلم يقل الشارع إنه يحمل الخبث قطعا وبتا بل مفهوم حديث القلتين يدل على أن ما دونهما قد يحمل الخبث وقد لا يحمله فإذا حمله فلا يكون ذلك إلا بتغير بعض أوصافه فيقيد مفهوم حديث القلتين بحديث التغير المجمع على قبوله والعمل به كما قيد منطوقه بذلك: وبهذا تعرف أنه لا مخالفة بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة وأن الجمع بينها بما ذكرناه. وأما الاستدلال بمثل حديث "دع ما يريبك إلا ما لا يريبك" [النسائي "8/327"] ، "واستفت قلبك" [أحمد "4/227 – 228"] ، فليس فيهما إلا الإرشاد إلي الورع والتوقف عند الاشتباه وتوقي

المشتبهات وليس ما نحن بصدده من ذلك القبيل لورود الشريعة الواضحة الطاهرة في شأنه وليس في مخالفتها بمجرد الشكوك والوسوسة إلا الإثم على فاعل ذلك. قوله: "أو متغيرا بطاهر". أقول: تغير الماء بالطاهر لا تأثير له في أن وقوع النجاسة فيه وهو كذلك يصيره متنجسا ولا ورد ما يدل على هذا لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح فلا يخرج عن كونه طاهرا إلا بتغير بعض أوصافه كما قررنا ذلك في كثير من هذه المسائل المتقدمة نعم إذا تغير بذلك الطاهر حتى خرج عن اسم الماء المطلق بأن يطلق عليه اسم خاص كماء الورد ونحوه فهو طاهر في نفسه غير مطهر كما سيأتي. [فصل وإنما يرفع الحدث مباح طاهر لم يشبه مستعمل لقربة مثله فصاعدا فإن التبس الأغلب غلب الأصل ثم الحظر ولا غير بعض أوصافه مما زج إلا مطهر أو سمك متوالد فيه لا دم له أو أصله أو مقره أو ممره. ويرفع النجس ولو مغصوبا والأصل فيما التبس مغيره الطهارة ويترك ما التبس بغصب أو متنجس إلا أن تزيد آنية الطاهر فيتحرى ويعتبر المخالف الانتهاء قيل ولو عامدا] . قوله: "فصل: وإنما يرفع الحدث مباح طاهر لم يشبه مستعمل" أقول: أما اشتراط كونه مباحا فلأن ملك الغير الذي لم يأذن الشرع باستعماله يكون مغصوبا وذلك ينافي التقرب به لأن بتلك القربة وهي الوضوء وما يترتب عليه يؤجر عليها الفاعل وغصب مال الغير يعاقب عليه الغاصب له والطاعة والمعصية لا يجتمعان. وقد يقال إنه يؤجر عليه من وجه ويعاقب عليه من وجه آخر. ويجاب عن ذلك بان الوجه الذي استحق به الأجر هو استعمال ذلك الماء وبهذا الاستعمال كان استهلاك ما هو ملك للغير. وعلى كل حال فقد ثبت النهي عن أكل مال الغير واستهلأكله والانتفاع به والنهي يقتضي الفساد المرادف للبطلان على ما هو الحق إذا كان النهي لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه الملازم له لا الخارج عنه. وأما المنع من التطهر بالماء الذي شيب بمستعمل فلا وجه له إذا لم يخرج بالاستعمال عن الماء المطلق.

والحاصل أن الماء طاهر مطهر فمن ادعى خروجه عن كونه طاهرا أو مطهرا لم يقبل منه ذلك إلا بدليل وهذا الأصل هو مجمع عليه فالرجوع إليه متحتم حتى ينقل عنه ناقل صحيح صالح للاحتجاج به ولا يصلح للاحتجاج ما ورد في أمور خاصة لم يصرح فيها بأن السبب هو الاستعمال كحديث النهي عن الاغتسال في الماء الدائم فإنه لم يرد البيان من الشارع بأن سبب النهي أن يصير مستعملا والمستعمل غير مطهر. وغاية ما يمكن أن يستخرج منه أن علة النهي هي أنه يفسد الماء بذلك لكونه دائما غير جار ويؤيد ذلك أنه ورد النهي عن البول في الماء الدائم كما ورد النهي عن الاغتسال فيه بل ورد النهي عن الجمع بينهما في حديث واحد فلا يصلح ذلك دليلا بمحل النزاع. وهكذا حديث "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده"، فإنه لا دلالة فيه على محل النزاع لأن النهي عن إدخال اليد في الإناء والأمر بغسلها قبل ذلك إنما هو لخشية أن تكون قد تلوثت بنجاسة حال النوم. والكلام هنا إنما هو في المستعمل لقربة لا في تطهير النجاسات. ولو قدرنا ورود دليل فيه رائحة دلالة لكان غاية ما فيه هو تخصيص ذلك الأصل المصحوب بالبراءة فيجب الاقتصار على محل النص ولكنه لم يرد ما هو بهذه المنزلة قط. وأما ما ذكره من قوله: "ولا غير بعض أوصافه مما زج" فالتحقيق أن ذلك الممازج إن خرج به اسم الماء المطلق كما يقال ماء ورد ونحوه فليس هذا الماء هو الماء الذي خلقه الله طهورا وإن لم يخرج عن اسم الماء المطلق فهو طهور وإن تغير بعض أوصافه فإن ذلك لا يضره ولا يخرجه عن كونه طهورا ولا فرق بين أن يكون ما تغير به مطهرا أو غير مطهر أو بما هو من حيواناته أو بمفرده أو بممره أو بغير ذلك. هذا يغنيك عن هذه المسائل التي ذكرها المصنف يرحمه الله وذكرها غيره من المفرعين فإنها مبنية على غير أساس. قوله: "ويترك ما التبس بغصب أو متنجس". أقول: هذا صواب فإنه بعد أن يعلم أن أحد المائين متنجس ثم يلتبس بالطاهر أو يعلم أن أحدهما مغصوب ثم يلتبس بالمباح لا يجوز له أن يتطهر بأحدهما قبل أن يرتفع اللبس لأنه متعبد برفع حدثه بما هو صالح للرفع مجزىء للرافع ومع اللبس لم يفعل ما هو مأمور به لجواز أن يتطهر بما يجزىء التطهر به والتحري إذا أمكن به أن يتعين ما يجزىء مما لا يجزىء فهو مقدم على الترك وليس من شرطه زيادة آنية الطاهر بل يجب عليه أن يقدم التحري مطلقا وإلا وجب عليه ترك الجميع وعدل إلي التيمم إذا لم يجد ماء آخر محكوما بطهارته غير ملتبس بنجس أو غصب. ووما يرشد إلي ما ذكرناه قول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". [البخاري "6858"، مسلم "1337"] .

قوله: "ويعتبر المخالف الانتهاء قيل ولو عامدا". أقول: لا يسقط ما أوجبه الله على العبد أو جعله شرطا لما أوجبه عليه إلا باليقين فإذا انكشف أنه فعل ما لا يجزىء أو ما لا يصلح لتأدية ما هو شرط فالاعتبار بذلك ولا اعتبار بما ظنه مجزئا في الابتداء فانكشف أنه غير مجزئ. ثم إذا تعمد مثلا الإقدام على ما لا يجزئ فانكشف أنه مجزئ فالاعتبار بذلك الانكشاف ولا ينافي ذلك كونه قد صار عاصيا بالإقدام على ما لا يجزئ فإنه عصى بنفس الاعتقاد وأطاع باستعمال ما هو صالح لتأدية تلك الطاعة. وبهذا يظهر لك أن الحق ما قاله صاحب هذا القيل ولا فرق بين هذه المسألة وبين سائر المسائل الشرعية فالاعتبار فيها جميعا بالانتهاء ولا اعتبار بالابتداء. [فصل ولا يرتفع يقين الطهارة والنجاسة بيقين أو خبر عدل أو ظن مقارب. قيل والأحكام ضروب ضرب لا يعمل فيه إلا بالعلم وضرب به أو المقارب له وضرب بأيها أو الغالب وضرب بأيها والمطلق وضرب يستصحب فيه الحال وضرب عكسه وستأتي [. قوله: فصل: "ولا يرتفع يقين الطهارة والنجاسة إلا بيقين". أقول: لا شك أن تيقن طهارة شيء أو نجاسته كان الواجب البقاء على ما قد تيقنه وعدم الانتقال عنه إلا بناقل صحيح واليقين هو أعظم موجبات الانتقال من اليقين الأول لأنه قد ارتفع بمثله ثم إذا ورد في الشرع ما يدل على أنه يجوز الانتقال عن ذلك اليقين بما لا يفيد إلا الظن كخبر العدل والعدلين كان ذلك ناقلا بدليله وإن كان دون اليقين الحاصل لذلك الشخص وقد دلت الأدلة على وجوب قبول خبر العدل فيما هو أعظم من هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الذين انحرفوا في صلاتهم إلي جهة القبلة لما سمعوا قائلا يقول وهم في صلاتهم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى إلي جهة القبلة وترك استقبال بيت المقدس وقد كان استقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس معلوما عندهم بيقين وهذا الحديث صحيح. وينبغي أن يقال هنا ولا يرتفع أصالة الطهارة إلا بناقل شرعي قد دل الدليل على صلاحيته للنقل وكون الأصل الطهارة مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف ثم ليس من الورع أن يسأل من عرف أن الأصل الطهارة عن وجود ما ينقل عنها بل يقف على ذلك الأصل حتى يبلغ إليه الناقل. ومما يقوي لك هذا الذي ذكرناه ويؤيده ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه

سأل صاحب المقراة قائلا يا صاحب المقراة هل ترد السباع هذه المقراة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب المقراة لا تخبره فإنه متكلف". قوله: "قيل والأحكام ضروب" أقول: أراد المصنف رحمه الله أن يتعرض ها هنا لاختلاف الأحكام باعتبار المسوغات للعمل بها وجعلها ضروبا أربعة كما تراه قاصدا لتعريف طالب هذا العلم بهذه الجملة التي ستأتي مفصلة في أبوابها من هذا الكتاب. وسنتكلم إن شاء الله على كل فرد من أفرادها في بابه الخاص فإن الكلام عليها هنا يحتاج إلي بسط طويل يخرجنا عن المقصود ولكنا نعرفك ها هنا بقضية كلية تفيدك في كل باب وهي أن الشيء إذا كان حكمه معلوما بالرجوع إلي ما هو الأصل فيه فلا يجوز الانتقال عن ذلك الأصل إلا بسموغ جعله الشارع صالحا للانتقال فإن اعتبر الشارع في ذلك المسوغ العلم فلا يصلح للنقل إلا العلم وإن اعتبر الظن كان الظن صالحا لذلك والاعتبار بما يصدق عليه مسمى الظن وأما تقسيم الظن إلي هذه الأقسام فهو مما لا يدل عليه دليل ولا ثبت في شأنه ما يصلح للتعويل عليه والرجوع إليه. ولا شك أن الظن في نفسه يكون قويا في بعض الأحوال وضعيفا في بعض آخر بحسب قوة ما أفاده وضعفه ولكن المصير في كونه ظنا أن يكون تجويزا راجحا على مقابله وبذلك يمتاز عن الشك. فما ورد فيه تجويز العمل بالظن أو إيجابه كفى فيه ما يصدق عليه أنه ظن. وأما كونه لا يجوز العمل به في بعض المواضع إلا بشرط أن يكون مقاربا للعلم ويجوز العمل به في بعض آخر وإن لم يكن كذلك فهذا لم يرد ما يدل عليه. ثم وصفه للظن بالغالب إن أراد أنه غالب بما قابله فهو لا يكون ظنا إلا بذلك لأنه إذا سأواه ولم يغلبه فهو الشك وإن أراد بالغالب مرتبة من مراتب الظن فلم يكن ذلك إلا مجرد اصطلاح لم تدل عليه لغة العرب ولا وافق اصطلاح أهل الأصول وإن كان معلوما بالدليل كان الدليل الوارد على خلاف ما دل عليه ذلك الدليل أما ناسخا إن تأخر عنه تاريخا أو مقيدا لاطلاقه أو مخصصا لعمومه إن كان أحدهما مطلقا والآخر مقيدا أو أحدهما عأما والآخر خاصا ولا يصار إلي التعارض مع إمكان الجمع بوجه مقبول معتبر. فهكذا ينبغي ان يكون الكلام في هذا المقام وأما قوله: "وضرب يستصحب فيه الحال وضرب عكسه" فاستصحاب الحال متعين عند من قال بدليل الاستصحاب والكلام في ذلك معروف في الأصول. ولا ريب أنا إذا علمنا وجود الشيء مثلا أو وجود صفة من صفاته قائمة به فليس لنا أن ننتقل عن ذلك إلا بما يفيد أنه قد صار ذلك الشيء غير موجود أو صارت تلك الصفة التي كانت قائمة به غير قائمة به. لكنه إذا ورد الدليل الدال على عدم العمل بالاستصحاب كما في حديث: "لا حتى يختلف

الصاعان" [ابن ماجة "2228"، أي صاع البائع وصاع المشتري فإن هذا الحديث قد دل على أنه لا يجوز لنا أن نبيع شيئا علمنا مقدار كيله أو وزنه حتى نعيد كيله أو وزنه ولا يعمل باستصحاب الحال وأنه باق على ذلك الكيل أو الوزن الذي وقع عند أن اشتراه من أراد أن يبيعه الآن.

باب ندب لقاضي الحاجة التواري

[باب ندب لقاضي الحاجة التواري والبعد عن الناس مطلقا وعن المسجد إلا في الملك والمتخذ لذلك والتعوذ وتنحية ما فيه ذكر الله تعالي وتقديم اليسرى دخولا واعتمادها واليمنى خروجا والاستتار حتى يهوي مطلقا واتقاء الملاعن والحجر والصلب والتهوية والكلام ونظر الفرج والأذى وبصقة والأكل والشرب واستقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما وإطالة القعود. ويجوز في خراب لا مالك له أو عرف ورضاه ويعمل في المجهول بالعري. وبعده الحمد والاستجمار ويلزم التيمم إن لم يستنج ويجزيه جماد طاهر منق لا حرمة له ويحرم ضدها غالبا مباح لا يضر ولا بعد استعماله ويجزي ضدها] . قوله: "باب ندب لقاضي الحاجة التواري". أقول: إطلاق ندبية بعض هذه الأمور مع ورود بعضها بلفظ الأمر بفعله وبعضها بلفظ النهي عن تركه ليس كما ينبغي إلا أن يوجد ما يصرف عن لمعنى الحقيقي للأمر والنهي وهو وجوب الفعل للمأمور به وتحريم الفعل للمنهي عنه. فالتواري عن الناس حال قضاء الحاجة ورد فيه الأمر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى الغائط فليستتر" [أبو دأود "35"، أحمد "2/371"] ، أخرجه أبو دأود وغيره وقال في البدر المنير بعد أن ساق اختلاف الحفاظ فيه والحق أنه حديث صحيح وقد صححه جماعة منهم ابن حبان والحاكم والنووي في شرح مسلم انتهى وحسنه الحافظ في الفتح ولفظه في سنن أبي دأود "من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أكل فما تخلل فليلفظ ومن لاك بلسانه فليبتلع من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم". [أبو دأود "35"] ، انتهى. واقتران الثلاثة الأمور بقوله "من فعل فقد أحسن" إلخ دليل واضح على الندب فقط وعدم اقتران الرابع منها يدل على أن الأمر بذلك فيه على حقيقته وأنه لم يرد ما يصرفه عن الوجوب. قوله: "والبعد عن الناس".

أقول: لم يصح في هذا إلا مجرد الفعل منه صلى الله عليه وسلم فكان للقول بندبيته فقط وجه وأما ما ورد في حديث جابر عن أبي دأود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. [أبو دأود "2"، ابن ماجة "335"] . وفي لفظ ابن ماجه لا يأتي البراز حتى يتغيب فلا يرى وهذا ليس إلا حكاية لفعله صلى الله عليه وسلم وليس فيه ما يفيد أنه من قوله صلى الله عليه وسلم كما وهم صاحب ضوء النهار. وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عبد الملك الكوفي نزيل مكة وهو صدوق كثير الوهم وقال البخاري يكتب حديثه وقال أبو حاتم ليس بالقوي. قوله: "واعتمادها". أقول: لم يرد في هذا شيء يثبت به حكم الندب وما ورد في ذلك فليس بصحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف وإثبات الأحكام الشرعية بما لا تقوم به الحجة لا يجوز. وأما تقديم اليسرى دخولا واليمنى خروجا فله وجه لكون التيامن فيما هو شريف والتياسر فيما هو غير شريف وقد ورد ما يدل عليه في الجملة. قوله: "والاستتار حتى يهوي مطلقا". أقول: أصل ستر العورة الوجوب فلا يحل كشف شيء منها إلا لضرورة كما يكون عند خروج الحاجة فالاستتار قبل حالة الخروج واجب فيكشف عورته حال الانحطاط لخروج الخارج لا حال كونه قائما ولا حال كونه ماشيا إلي قضاء الحاجة. قوله: "واتقاء الملاعن". أقول: الحق أن اتقاء الملاعن واجب وقضاء الحاجة فيها حرام لحديث أبي هريرة مرفوعا عند مسلم وغيره بلفظ: "اتقوا اللاعنين" قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلى في طرق الناس أو في ظلهم". [مسلم "269"، أحمد "2/372"، أبو دأود "25"] . ولحديث معاذ مرفوعا عند أبي دأود وابن ماجه "اتقوا الملاعن الثلاث البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل". [أبو دأود "26"، ابن ماجة "328"] . وقد حسن إسناده ابن حجر وزارد ابن حبان في حديث أبي هريرة "وأفنيتهم" وزاد ابن الجارود "ومجالسهم" وأخرج الحاكم والطبراني في الأوسط: "من سل سخيمته على طريق عامرة من طرق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وفي إسناده محمد بن عمر الأنصاري ضعفه ابن معين ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات كما قال في مجمع الزوائد وهو من مشايخ عبد الرحمن بن مهدي. وأخرج ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا: "إياكم والتعريس على جواد الطريق والصلاة عليها فإنها مأوى الحيات والسباع وقضاء الحاجة عليها فإنها الملاعن" [ابن ماجة "329"] ، وإسناده حسن.

وأخرج الطبراني في الكبير من حديث حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" وإسناده حسن. وهذه الأحاديث تفيد وجوب الترك وتحريم الفعل لا شك في ذلك فلا وجه للقول بأنه متدوب. قوله: "والجحر" أقول: قد ثبت النهي عن البول فيها كما في حديث عبد الله بن سرجس عند أبي دأود والنسائي والحاكم والبيهقي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبولن أحدكم في جحر" [أبو دأود "29"، النسائي "1/33"] ، وإسناده صحيح وكل رجاله ثقات. وأما قول الصحأبي لما سئل عن سبب ذلك فقال كان يقال إنها مساكن الجن فهذا لم يرفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم ولو قدرنا رفعه لم يصلح ذلك لصرف النهي عن حقيقته لأن كونها مساكن الجن مما يؤكد التحريم. قوله: "والصلب والتهوية به". أقول: إن كان البول في الصلب أو التهوية به مما يتأثر عنه عود شيء منه إلي البائل فتجنب ذلك واجب لأن التلوث به حرام وما يتسبب عنه الحرام حرام. قوله: "وقائما" أقول: المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبول قاعدا كما في حديث عائشة عند أحمد ومسلم والترمذي والنسائي قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول إلا قاعدا" [الترمذي "12"، النسائي "29"] ، وفي رواية عنها عند أبي عوانة في صحيحه والحاكم قالت: "ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما منذ أنزل عليه القرآن". وأخرج ابن ماجه والحاكم وعبد الرزاق وصححه السيوطي عن عمر قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبول قائما فقال: "يا عمر لا تبل قائما" فما بلت قائما بعد. [ابن ماجة "305"] . وأخرج ابن ماجه والبيهقي من حديث جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائما. [ابن ماجة 309"] وفي إسناده عدي بن الفضل وفيه ضعف. وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم مال إلي سباطة قومه فبال عليها قائما وعلل ذلك أنه كان لجرح مأبضه. ولم يثبت ذلك من وجه يصلح للعمل به وقد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وسلم لما نهى عنه نهيا عأما يكون مخصصا له وإن كان النهي خاصا بالأمة فلا يعارضه فعله صلى الله عليه وسلم بل يكون خاصا به والحاصل أن البول من قيام إذا لم يكن محرما فهو مكروه كراهة شديدة وأما إذا كان يتأثر منه ترشرش البائل بشيء من بوله فهو حرام لأنه يتسبب عنه الحرام كما تقدم. قوله: "والكلام".

أقول: حديث أبي سعيد عند أبي دأود مرفوعا "لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتيهما يتحدثان" [أبو دأود "15"، أحمد "3/36"، ابن ماجة "342"] ، فهذا النهي يدل على تحريم كشف العورة والتحدث حال قضاء الحاجة ولا سيما مع زيادة الحديث وهي قوله: "فإن الله يمقت على ذلك". فإن المقت من الله عز وجل من أعظم الأدلة على التحريم وكون في إسناده هلال بن عياض أو عياض بن هلال وقد ضعفه بعضهم لا يقدح في الاستدلال به على التحريم فإنه قد ذكره ابن حبان في الثقات. قوله: "ونظر الفرج والأذى وبصقه". أقول: نظر الفرج داخل تحت الأحاديث المانعة من نظر العورة كحديث عوراتنا يا رسول الله ما نأتي منها وما نذر؟ فقال: "إن استطعت ألا يراها أحد فافعل" فقال: الرجل يكون خاليا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أحق أن يستحيا منه" [البخاري "1/385"، أحمد "3/87"، أبو دأود "4017"، ابن ماجة "1920"، الترمذي "2769"] ، وهو حديث صحيح. وقوله: ألا يراها أحد يشمل نظر الرجل إلي عورة نفسه ولا يخص من ذلك ما دعت إليه الحاجة. وأما كراهة نظر الأذى وبصقه فهذا من أعجب ما يسمعه السامع من تسأهل أهل الفروع في إثبات الأحكام الشرعية بما لا دليل عليه فإن كان سبب ذكر ذلك هنا لكون النفس تستكرهه وتنفر عنه فليس موضوع الكتاب المكروهات النفسية بل المكروهات الشرعية ومثل ذلك الحكم بكراهة الأكل والشرب. قوله: "والانتفاع باليمنى". أقول: الأحاديث مصرحة بالنهي عن ذلك والنهي حقيقة في التحريم كما عرفت ولم يرد ما يقتضي صرف ذلك عن معناه الحقيقي. قوله: "واستقبال القبلتين والقمرين واستدبارهما" أقول: أما استقبال القبلة واستدبارها فالنهي عن ذلك ثابت عن جماعة من الصحابة رووا النهي عن استقبالها واستدبارها مرفوعا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هذه الأحاديث في الصحيحين وبعضها في غيرهما. وحقيقة النهي التحريم ولا يصرف ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك فقد عرفناك أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة إلا أن يدل دليل على أنه أراد الاقتداء به في ذلك وإلا كان فعله خاصا به وهذه المسألة مقررة في الأصول محررة أبلغ تحرير وذلك هو الحق كما لا يخفى على منصف ولو قدرنا أن مثل هذا الفعل قد قام ما يدل على التأسي به فيه لكان ذلك خاصا بالعمران فإنه رآه وهو في بيت حفصة كذلك بين لبنتين. وأما بيت المقدس فلم يكن فيه إلا حديث معقل بن أبي معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تستقبل القبلتين ببول أو غائط أخرجه أبو دأود وفي إسناده أبو زيد الرأوي له عن معقل وهو

مجهول فلا تقوم به حجة ولم يرد في بيت المقدس غيره وقد نقل الخطأبي الإجماع على عدم تحريم استقبال بيت المقدس وقيل إنه خاص بأهل المدينة ومن هو على سمتهم لأن استقبال بيت المقدس يستلزم استدبارهم للكعبة. وأما ما قيل من أن بيت المقدس يكون له حكم الكعبة بالقياس فهذا القياس من أبطل الباطلات لأنه إن كان الجامع الشرف لزم ذلك في كل محل شريف وإن تفأوت الشرف ويدخل في ذلك دخولا أوليا مسجده صلى الله عليه وسلم ومسجد قباء ونحوهما وإن كان ذلك بجامع أن بيت المقدس قد كان قبلة قبل استقبال الكعبة فقد نسخ ذلك وإن كان ذلك لكونه تستقبله اليهود فقد تقرر في الشريعة الأمر بمخالفتهم وأن ذلك شريعة ثابتة وسنة قائمة. وأما استقبال القمرين فهذا من غرائب أهل الفروع فإنه لم يدل على ذلك دليل لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف وما روي في ذلك فهو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رواية الكذأبين وإن كان ذلك بالقياس على القبلة فقد اتسع الخرق على الراقع ويقال لهذا القائس ما هكذا تورد يا سعد الإبل وأعجب من هذا إلحاق النجوم النيرات بالقمرين فإن الأصل باطل فكيف بالفرع وكان ينبغي لهذا القائس أن يلحق السماء فإن لها شرفا عظيما لكونها مستقر الملائكة ثم يلحق الأرض لأنها مكان العبادات والطاعات ومستقر عباد الله الصالحين فحينئذ يضيق على قاضي الحاجة الأرض بما رحبت ويحتاج أن يخرج عن هذا العالم عند قضاء الحاجة. وسبحان الله ما يفعل التسأهل في إثبات أحكام الله من الأمور التي يبكي لها تارة ويضحك منها أخرى. قوله: "وإطالة القعود". أقول: هذا إن كان مرجعه الشرع كما هو شأن من يتكلم في الأحكام الشرعية فلا شرع وإن كان مرجعه الطب فليس هذا الكتاب مدونا لذلك ومما يضحك منه التمسك بما روي عن لقمان الحكيم أنه يورث الباسور. فيا لله العجب ممن لا يتحاشى عن تدوين مثل هذا الكلام في كتب الهداية. ولقد أبعد النجعة من اعتمد في مثل هذه المسألة الشرعية على لقمان الحكيم. قوله: "ويجوز في خراب لا مالك له". أقول: إذا لم يكن له مالك فلا حاجة إلي بيان الجواز فإنه جائز بلا شك ولا شبهة. ولو أردنا أن نعدد الأمكنة التي يجوز قضاء الحاجة فيها لطال ذلك وإنما ينبغي الاقتصار على ذكر ما لا يجوز فيه فيعرف بذلك أنه جائز فيما عداه كما يفعله المصنفون في مثل هذه الفنون. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه ومن بعدهم يقضون الحاجة في المواطن المملوكة للغير من غير استئذان إذا كانت خالية ولم يكن وقت سقوط ثمارها وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وقضى حاجته فيه. قوله: "وندب بعده الحمد".

أقول: هذا مندوب كما قال ووجهه ما أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بإسناد صالح قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى" [ابن ماجة "301"، وأخرج نحوه النسائي وابن السني من حديث أبي ذر وإسناده صحيح. وينبغي أن يضم إلي الحمد الاستغفار لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" [أحمد "6/155"، أبو دأود "30"، الترمذي "7"، ابن ماجة "300"] ، وصححه ابن حبان وابن خزيمة والحاكم. قوله: "والاستجمار". أقول: ظاهر الأحاديث أنه واجب لاجتماع الأمر به والنهي عن تركه وظاهرها أنه يكفي ولا يحتاج بعد ذلك إلي أن يستنجي بالماء بل مجرد فعل الاستجمار بالأحجار مطهر وإن لم يذهب الأثر إذ قد فعل ما أمر به من استعمال ثلاثة أحجار. فإن عدل عن الاستجمار إلي الاستنجاء بالماء فهو أطيب وأطهر وإن جمع بينهما فقد فعل الأتم الأكمل وأما الأيتار بأحجار الاستجمار فليس ذلك إلا سنة لما في حديث "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج". قوله: "ويلزم المتيم إن لم يستنج" أقول: وكذلك يلزم غير المتيم لأن رفع أثر النجاسة واجب وهي نجاسة معلومة بالضرورة الدينية وقد جعل الشارع الاستجمار بالأحجار كافيا في رفعها فإذا لم ترتفع بالأحجار وجب رفعها بالماء وإذا لم ترتفع بالماء وجب رفعها بالأحجار. قوله: "ويجزئه جماد جامد" إلي آخر الباب. أقول: المعنى الذي وقع لأجله الأمر بالاستجمار هو قطع أثر النجاسة ورفع عينها باستعمال ما أمر به الشارع فما نهى الشارع عن الاستجمار به كان غير مجزىء وما لم ينه عنه إن كان لا حرمة له ولا يضر استعماله فهو مجزئ. وأما الحكم على بعض أضداد هذه الأمور بالإجزاء وعلى بعضها بعدمه والحكم علي بعض أضدادها بالتحريم وعلي بعضها بعدمه، فليس كما ينبغي.

باب الوضوء

[باب الوضوء شروطه التكليف والإسلام وطهارة البدن عن موجب الغسل ونجاسة توجبه] قوله: "شروطه التكليف والإسلام".

أقول: الشرط ما يؤثر عدمه في عدم المشروط كما صرح به أهل أصول الفقه وقد يكون شرطا للطلب وهو المعبر عنه في الفروع شرط الأداء. وقد يكون شرطا للمطلوب وهو المعبر عنه في الفروع بشرط الصحة وشرط الوجوب والشرط الأول هو الذي يقولون فيه تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب والثاني هو الذي يقولون فيه ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه وهو الذي يعبر عنه أهل الأصول بمقدمة الواجب. إذا عرفت هذا فالتكليف شرط الطلب أي لا يطلب فعل الوضوء إلا من مكلف وتحصيل هذا الشرط لا يجب لأنه ليس في وسع العبد ذلك والإسلام شرط للصحة أي لا يصلح الوضوء إلا من مسلم ويجب على من لم يكن مسلما تحصيل هذا الشرط بالإسلام ولا يصح منه قبل ذلك وإن كان مكلفا به بمعنى انه يعاقب على تركه لتفريطه في تحصيل شرط ما هو واجب عليه فاعرف هذا فهو واضح ظاهر ومجرد التشكيك في مثله على المقصرين والقعقعة عليهم وصوغ عبارات تبعد عن أذهانهم ليس من دأب من قصد نشر العلم ونفع عباد الله بما يؤلفه لهم ويدونه لقصد إرشادهم. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن رفع قلم التكليف عن غيرالمكلفين لا ينافي ثبوت الأجر لهم بما عملوه من خير لأن معنى رفع التكليف أنهم غير مكلفين بالأمور الشرعية وليس معناه أنهم لا يؤجرون في شيء مما يفعلونه من القربات وهكذا لا ينافي أمرهم بالصلاة وضربهم على تركها رفع التكليف عنهم فإن ذلك من باب التأديب لهم والتعويد لطبائعهم والتمرين لما يشق عليهم إذا تركوا فعله قبل وجوبه عليهم. فإن قلت قد زعمت أن الكفار مخاطبون بتحصيل شرط صحة ما شرعه الله لعباده مكلفون بذلك معاقبون على تركه فهل من دليل يدل على ذلك؟. قلت الكثير الطيب من الكتاب والسنة ولو لم يكن من ذلك إلا قوله سبحانه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 42 – 45] ، وقوله سبحانه: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7] . وقوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33، 34] . قوله: "وطهارة البدن عن موجب الغسل". أقول: لم يدل على هذا الاشتراط دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح بل الثابت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقدم الوضوء حتى لا يبقى منه إلا غسل الرجلين ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسل رجليه بعد الفراغ من غسل بدنه ثم يصلي ولا يحدث بعد ذلك وضوءا. هذا معلوم من فعله صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته ولم يثبت ما روي أنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم تقديم الغسل على الوضوء لا من وجه صحيح ولا من وجه حسن. قوله: "ونجاسة توجبه" أقول: لا وجه لهذا الاشتراط لأن خروج النجاسة التي توجب الوضوء لا يلزم منه وجوب

غسلها أو شرطيته قبل الوضوء فإن الناقض للوضوء إنما هو مجرد خروجها وقد خرجت قبل أن يشرع في هذا الوضوء الذي جعل غسلها شرطا لصحته نعم إذا كانت النجاسة في الفرجين أو أحدهما فتقديم غسلها متعين لأن لمس الفرج من نواقض الوضوء إذا كان باليد أما إذا كان غسلها بشيء غير اليد فلا بأس بأن يتوضأ ثم يزيل النجاسة من فرجيه أو أحدهما. ولا شك أن رفع هذه النجاسة واجب ولكن النزاع في وجوب تقديم رفعها على الوضوء في كون رفعها شرطا للوضوء لا يصح إلا به وهذا وإن لم تقبله أذهان أهل التقليد فليس علينا إلا أيضاح الحق وإبطال ما لم يقم عليه دليل. [فصل: "وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير ومقارنة أوله بنيته للصلاة أما عموما فيصلي ما يشاء أو خصوصا فلا يتعداه ولو رفع الحدث إلا النفل فيتبع الفرض والنفل ويدخلها الشرط والتفريق وتشريك النجس أو غيره والصرف لا الرفض والتخيير والمضمضة والاستنشاق بالدلك والمج مع إزالة الخلالة والاستنثار وغسل الوجه مستكملا مع تخليل اصول الشعر ثم غسل اليدين مع المرفقين وما حإذاهما من يد زائدة وما بقي من المقطوع إلي العضد ثم مسح كل الرأس والأذنين فلا يجزىء الغسل ثم غسل القدمين مع الكعبين والترتيب وتخليل الأصابع والأظفار والشجج] ". قوله: "فصل وفروضه غسل الفرجين بعد إزالة النجاسة". أقول: جعل الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء لم يثبت عن عالم من علماء الإسلام قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من تابعيهم ولا من أهل المذاهب الأربعة ولا من الأئمة من أهل البيت. وذكر المصنف له في كتابه هذا قد تبع فيه من تقدمه من المصنفين في الفروع من أهل هذه الديار وكلهم يجعل ذلك مذهبا للهادي وهو أجل قدرا من أن يقول به وليس في كتبه حرف من ذلك قط. ولا أظن هذه المقالة إلا صادرة من بعض الموسوسين في الطهارة وأهل العلم بأسرهم بريئون عنها كما أن الشريعة المطهرة بريئة عنها وليس في الكتاب ولا في السنة حرف يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ومن استدل لهما بما ورد في الاستنجاء بالماء فهو لا يدري كيف الاستدلال فإن النزاع ليس هو في رفع النجاسة من الفرجين بل في غسلهما للوضوء بعد زالة النجاسة كما ذكره المصنف هنا وذكره غيره.

وقد قدمنا لك أن الاستجمار بالأحجار يكفي كما دلت عليه الأدلة ودين الله غير محتاج إلي أن يبلغ شكوك أهل الشكوك في الطهارة إلي إثبات عضو زائد للوضوء الذي شرعه الله. وقد كان شكهم مرتفعا بما جزموا به من إيجاب رفع نجاستيهما بالماء وعدم الاكتفاء بالأحجار فما بالهم لم يقنعوا بذلك بل أوجبوا غسلا آخر بعد رفع النجاسة وجعلوا هذا الغسل فرضا على عباد الله وجزموا بأن الفرجين عضوين من أعضاء الوضوء وأن من ترك غسلهما للوضوء بعد غسل النجاسة فهو كمن ترك غسل أحد أعضاء الوضوء المذكورة في القرآن فيا لله العجب. قوله: "والتسمية حيث ذكرت وإن قلت أو تقدمت بيسير" أقول: حديث "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" [أحمد "2/418"، أبو دأود "101"، ابن ماجة "399"] ، وقد روي من طرق عن جماعة من الصحابة أبي هريرة وأبي سعيد وسعيد بن زيد وعائشة وسهل بن سعد وأبي عبيدة وأم سبرة وكذلك روي من طريق علي وأنس وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها. قال أبو بكر بن أبي شيبة ثبت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وقال ابن كثير في الأرشاد طرقه يشد بعضها بعضا فهو حديث حسن أو صحيح. وقال ابن حجر الظاهر أن مجموع الأحاديث تحدث منها قوة فتدل على أن له أصلا وهذه الصيغة أعني قوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" - إن كان النفي فيها متوجها إلي الذات كما هو الحقيقة دل ذلك على انتفاء الوضوء بانتفاء التسمية والمراد انتفاء الذات الشرعية. وإن كان متوجها إلي الصحة كما هو المجاز الأقرب إلي الحقيقة لأن نفي الصحة يستلزم نفي الذات دل على عدم صحة وضوء من لم يسم. وإن كان متوجها إلي الكمال الذي هو أبعد المجازين من الحقيقة لأنه لا يدل على نفي الذات ولا على نفي صحتها دل ذلك على صحة الوضوء لكن لا على جهة الكمال. فالواجب الحمل على المعنى الحقيقي فإن قامت قرينة تصرف عنه وجب الحمل على المجاز القريب من الذات وهو الصحة فإن وجدت قرينة تدل على الصحة كان النفي متوجها إلي الكمال. فاعرف هذا واستعمله فيما يرد عليك تنتفع به. وقد جعل صاحب ضوء النهار هذا النفي متوجها إلي الكمال قال قالوا حديث: "من ذكر الله أول وضوئه طهر جسده كله ومن لم يذكره لم يطهر منه إلا مواضع الوضوء" أخرجه رزين من حديث أبي هريرة انتهى. ولا يخفاك أن هذه النسبة في التخريج إلي رزين ليست كما ينبغي فرزين رجل أراد أن يجمع بين الأمهات الست في مصنف مستقل ثم وجدت في مصنفه أحاديث لم يكن لها في الأمهات أصل ولا وجدت في شيء منها ثم تصدى للجمع بين الأمهات ابن الأثير في كتابه الذي

سماه جامع الأصول وذكر تلك الأحاديث التي زادها رزين معزوة إليه فأجاد وأفاد. فما هو معزو إليه فالمراد أنه ليس في الأمهات التي تعرض رزين للجمع بينها. وقد قدح فيه بعض أهل العلم ولعمري إن ذلك قادح فادح وهو وإن كان من علماء الإسلام ولكنه فعل ما لا يفعله الثقات. إذا عرفت هذا فاعلم أن عزو الجلال للحديث إليه لا طائل تحته فليس رزين ممن يخرج الأحاديث وفي الأحاديث التي زادها تهمة ظاهرة فليس فيما ينقل عنه وينسب إليه حجة أصلا. فإن قلت فهل أخرج هذا الحديث الذي عزاه إلي رزين أحد من المخرجين للأحاديث قلت أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعيفان مرداس بن محمد ومحمد بن ابان وأخرجه الدارقطني والبيهقي أيضا من حديث ابن مسعود وفي إسناده يحيى بن هاشم السمسار وهو متروك وأخرجاه أيضا من حديث ابن عمر وفيه أبو بكر الداهري وهو متروك. قال البيهقي بعد إخراجه وهذا أيضا ضعيف أبو بكر الداهري غير ثقة عند أهل العلم بالحديث ولا يخفاك أن هذه الطرق لا تقوم بها حجة اصلا ولا يصح أن يكون من الحسن لغيره لأنها من طريق المتروكين والضعفاء بمرة فلا يقوى بعضها بعضا. وقد استدل البيهقي على عدم وجوب التسمية بحديث رفاعة بن رافع بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه" الحديث. واستدل النسائي في المجتبي وابن خزيمة والبيهقي عن استحباب التسمية بحديث أنس قال طلب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضوءا فلم يجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل مع أحد منكم ماء؟ " فوضع يده في الإناء وقال: "توضؤوا باسم الله". وأصله في الصحيحين بدون هذه الزيادة وأنت خبير بأنه لا دلالة في هذين الحديثين على ما استدلوا بهما عليه لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام. ومما يؤيد دلالة أحاديث التسمية على الوجوب بل على عدم صحة الوضوء بدونها حديث "كل أمر ذي بال لا يذكر على أوله اسم الله فهو أجذم" لا كما زعم بعضهم أن هذا الحديث يدل على عدم وجوب التسمية في الوضوء. قوله: "ومقارنة أوله بنيته للصلاة". أقول: ظاهر حديث "إنما الأعمال بالنيات" [البخاري "6689"، مسلم "155/1907"، أبو دأود "2201"، الترمذي "1647"، النسائي "75" و "3437"] ، وحديث "لا عمل إلا بنية" ونحوهما أن النية إذا عدمت عدم الوضوء وما كان هكذا فهو شرط فقول من قال إن النية شرط هو الظاهر. وأما قولهم: إن الشرط يجب استصحابه في جميع المشروط فالمراد أنه يستمر عليه ولا

يجيء بما يبطله كالوضوء فإنه شرط في الصلاة وليس معنى استصحابه فيها إلا أنه لا يقع منه حدث قبل فراغها فيبطل وضوءه. وهكذا النية في الوضوء والصلاة وغيرهما ليس المراد باستصحابها في المشروط وهو المنوي إلا مجرد البقاء عليها وعدم صرفها إلي غيره. فهذا معنى استصحاب الشرط في جميع المشروط. فإن قلت ما الدليل على أن النية إذا عدمت عدم الوضوء ونحوه من المنويات؟. قلت لأن هذا التركيب هو الذي يسميه أهل الأصول المقتضي وهو ما لا يتم معناه إلا بتقدير محذوف يتم به الكلام والمقدم تقدير المعنى الحقيقي أي إنما وجود الأعمال أو ثبوتها بالنية أو لا صلاة موجودة أو ثابتة إلا بالنية. وهذا التقدير يدل على انتفاء ذات الصلاة بانتفاء النية. لا يقال إن الذات قد وجدت فلا يصح توجه النفي إليها لأنا نقول إن المراد الذات الشرعية وتلك الذات التي وجدت غير شرعية. وعلى تقدير أن ثم مانعا يمنع من تقدير ما يدل على انتفاء الذات فالواجب تقدير أقرب المجازين إلي الذات كما قدمنا في البحث الذي قبل هذا. فيقال إنما صحة الأعمال بالنيات أو لا صحة لعمل إلا بنية. هذا يدل على أن العمل لا يصح بدون نية فقد أثر عدمها في عدم المنوي وذلك هو معنى الشرط ولا يصح ها هنا تقدير الكمال لعدم وجود دليل يدل عليه لكونه مجازا بعيدا. وأما قوله: "بنيته للصلاة" فاعلم أن الحدث مانع من فعل الصلاة فإذا نوى رفعه فقد ارتفع المانع فيصلي ما شاء من فرض ونفل فلا وجه لقوله بنيته للصلاة ولا لما بعده فإنه إذا قد ارتفع المانع لم يزل المتوضىء متوضئا حتى يعود عليه حكم الحدث فيعود المانع. وقبل عوده يصلي ما شاء عموما وخصوصا فرضا ونفلا. ولا وجه أيضا لما ذكره من قوله يدخلها الشرط فإنه إذا ارتفع المانع لم يزل مرتفعا حتى يعود ولا يصح أن يقيده بشرط لأن الوضوء إذا وقع على الصفة المشروعة مع أرادة ذلك الفعل وقصده فقد وقع مطابقا لما وقع به الأمر وذلك هو الوضوء الشرعي الرافع للحدث المانع من الصلاة. وأما ما ذكره من أنه يدخل النية التفريق أي إيقاعها عند كل عضو فإن كل ذلك بمعنى استحضار العزم الذي وقع منه عند الشروع وهو رفع المانع من الصلاة فلا بأس بذلك وإن كان المراد تكرير العزم عند كل عضو فلا يبعد أن ذلك بدعة. وأما تشريك النجس فالنجاسة إذا كانت في أعضاء الوضوء وجب تقديم غسلها حتى تزول عينها ولونها وطعمها وعرفها فإذا فرغ من ذلك غسل العضو غسل الوضوء ولا يصح أن يكون الغسل لرفع الحدث والنجس جميعا وبعد زوال النجاسة لا معنى لتشريكها. وما ذكره من الصرف والرفض والتخيير فهو مبني على ما ذكره من أنه لا بد أن ينوي

الوضوء للصلاة وقد عرفت أنه يكفي مجرد رفع المانع وهو الحدث ولا يصح صرف نفس رفع المانع ولا رفضه ولا التخيير بينه وبين شيء آخر. قوله: "والمضمضة والاستنشاق" أقول: القول بالوجوب هو الحق لأن الله سبحانه قد أمر في كتابه العزيز بغسل الوجه ومحل المضمضة والاستنشاق من جملة الوجه. وقد ثبت مدأومة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في كل وضوء ورواه جميع من روى وضوءه صلى الله عليه وسلم وبين صفته فأفاد ذلك أن غسل الوجه المأمور به في القرآن هو مع المضمضة والاستنشاق. وأيضا قد ورد الأمر بالاستنشاق والاستنثار في أحاديث صحيحة وأخرج أبو دأود والترمذي من حديث لقيط بن صبرة بلفظ "إذا توضأت فمضمض" [أبو دأود "2366"، النسائي "87"، ابن ماجة "407"، الترمذي "788"] ، وإسناده صحيح وقد صححه الترمذي والنووي وغيرهما ولم يأت من أعله بما يقدح فيه. قوله: "مع تخليل أصول الشعر". أقول: الأحاديث في تخليل اللحية وقد وردت من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة وفيها الصحيح والحسن والضعيف وقد صحح بعضها الترمذي في جامعه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والدارقطني والحاكم وابن دقيق العبد وابن الصلاح وحسن بعضها البخاري وما دون ذلك ينتهض للاحتجاج به وفي بعضها الحكاية لفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادة وهي قوله: "بهذا أمرني ربي" ومجرد الفعل المستمر يدل على أنه بيان لما في القرآن من قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية لأن اللحية والحاجبين والشارب كلها نابتة في الوجه ولم يأت من ضعف أحاديث تخليل اللحية بما يقدح في الاحتجاج وليس ذلك إلا باعتبار بعض الطرق وأما باعتبار الكل فلا وقد قامت الحجة بتصحيح من صححها وتحسين من حسنها كما ذكرنا ومن علم حجة على من لا يعلم وبهذا تعرف أن ما روي عن أحمد بن حنبل من أنه لم يثبت في تخليل اللحية حديث صحيح وأن أحسن شيء فيه حديث شقيق عن عثمان وروي مثله عن ابن أبي حاتم عن أبيه لا يعارض ما ذكرنا عن أولئك الأئمة. قوله: "ثم غسل اليدين مع المرفقين". أقول: كلام أهل اللغة والنحو في كون إلي للغاية أو بمعنى مع معروف وقد ذهب إلي كل قول طائفة وذهب قوم إلي التفصيل فقالوا إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها كما في هذه المسألة كانت بمعنى مع وإن لم يكن من جنسه كما في قوله تعالي: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلي اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، كانت للغاية فلا يدخل ما بعدها فيما هو قبلها. والحق احتمالها للأمرين فإذا ورد ما يدل على أحدهما تعين وإن لم يرد ما يدل على أحدهما كان الكلام في ذلك كالكلام في اللفظ المشترك بين معنيين وقد ورد ها هنا ما يدل على أحد المعنيين وهو أنها بمعنى "مع".

ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه توضأ حتى أشرع في العضد وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدار الماء على مرفقيه ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". وفي إسناده القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل وفيه كلام معروف. وفي رواية للدارقطني من حديث عثمان أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضوين وأخرج البزار من حديث وائل بن حجر قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثم يديه فغسل حتى جأوز المرفق. قوله: "وما حإذاهما من يد زائدة" أقول: لا وجه لاعتبار المحإذاة وليس مجرد المحإذاة للمرفقين مما يوجب أن يكون للمحإذاة من ذلك العضو الزائد حكم الأصل ولا يجب غير غسل اليد الأصلية إلا إذا كان العضو الزائد نابتا في المحل الذي يجب غسله فإنه داخل في مسمى اليد وأما النابت في غير ذلك المحل فليس بداخل في مسمى اليد التي ورد الشرع بغسلها. وأما ما ذكره من وجوب غسل ما بقي من العضو الذي يجب غسله بعد قطع بعضه فلا شك في ذلك لأن الوجوب الذي كان قبل القطع لا يرتفع بالقطع وإن كان الباقي يسيرا مهما كان مما يجب غسله. قوله: "ثم مسح كل الرأس" أقول: وجه إيجاب مسح الكل أن مسمى الرأس حقيقة هو جميعه ولكن محل الحجة ها هنا هو ما يفيده إيقاع المسح على الرأس وهو يوجب المعنى الحقيقي جزءا من أجزائه كما تقول ضربت رأسه وضربت برأسه فإنه يوجد المعنى بهذا التركيب بلإيقاع الضرب على جزء من أجزاء الرأس. ومن قال إنه لا يكون ضاربا لرأسه حقيقة إلا إذا وقع الضرب على كل جزء من أجزائه فقد جاء بما لا يفهمه أهل اللغة ولا يعرفونه ومثل هذا إذا قال القائل مسحت الحائط ومسحت بالحائط فإن المعنى للمسح يوجد بمسح جزء من أجزاء الحائط ولا ينكر هذا إلا مكابر وبهذا تعرف معنى قوله تعالي: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، ودع عنك ما أطال الناس القول فيه من الكلام في معاني الباء وفي معنى الرأس حقيقة ومجازا فإن ذلك تطويل بلا طائل. وإذا عرفت الآية الكريمة فاعلم أن السنة المطهرة تعضد ذلك وتقويه فإنه صلى الله عليه وسلم مسح جميع رأسه واقتصر في بعض الأحوال على مسح بعضه مكملا على العمامة تارة وغير مكمل عليها أخرى فكان ذلك مطابقا لما افاده القرآن ولا شك أن الأحسن والأحوط مسح كل الرأس على الهيئة التي كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما ذكر ذلك أئمة الحديث في كتبهم التي هي دوأوين الإسلام ولكن لم يقم دليل على أن ذلك واجب متعين. وكيف يقال ذلك وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالفه ودلت الآية على ما هو أوسع منه.

قوله: "والأذنين". أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسحهما مع مسح رأسه وثبت أنه مسح ظاهرهما وباطنهما كما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن منده. وأخرج أبو دأود والبزار من حديث تعليم علي بن أبي طالب وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح ظهور أذنيه وإسناده حسن. ومن ذلك حديث: "الأذنان من الرأس" [أبو دأود "134"، الترمذي "37"، ابن ماجة "444"، أحمد "5/268"] ، وهو مروي من طريق ثمانية من الصحابة وفي بعض أسانيدها مقال وهي يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها. والحاصل أن مسح ظاهرهما وباطنهما هو الهيئة الكاملة كما ذكرنا في مسح كل الرأس. وأما أن ذلك واجب متعين فلا بل يجزىء ما يصدق عليه مسمى المسح كما قلنا في الرأس. قوله: "ثم غسل القدمين مع الكعبين" أقول: قد أطال أهل العلم الكلام على القراءتين في قوله سبحانه: {وَأَرْجُلَكُمْ} ولا شك أن ظاهرهما أنه يجزئ الغسل وحده والمسح وحده وهما قراءتان صحيحتان لكنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح للرجلين قط بل الثابت عنه في جميع الروايات أنه كان يغسل رجليه وثبت عنه ما يدل على أن الغسل لهما متعين كما في حديث أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال بعد فراغه من الوضوء: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" [ابن ماجة "419"، وكان ذلك الوضوء مع غسل الرجلين وقال للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" [ابن ماجة 665] ، ثم ذكر له صفة الوضوء وفيه غسل الرجلين وثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال: "ويل للأعقاب من النار" [أحمد "6/81 و 84"، ابن ماجة "451"، مسلم "240] ، قال ذلك لما رأى جماعة وأعقابهم تلوح. ولهذا وقع الإجماع على الغسل قال النووي ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به. وقال ابن حجر في الفتح إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف ذلك إلا علي وابن عباس وأنس وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك. وبالجملة فاستمراره صلى الله عليه وسلم على الغسل وعدم فعله للمسح أصلا إلا في المسح على الخفين وصدور الوعيد منه على من لم يغسل وتعليمه لمن علمه أنه يغسل رجليه وقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" يدل على أن قراءة الجر منسوخة أو محمولة على وجه من وجوه الإعراب كالجر على الجواز أو محمولة على المسح على الخفين الثابت ثبوتا أوضح من شمس النهار حتى قيل إنه روي من طريق أربعين من الصحابة وقيل من طريق سبعين منهم وقيل من طريق ثمانين منهم. والكلام في غسل الكعبين هنا كالكلام في غسل المرفقين وقد تقدم فلا نعيده.

قوله: "والترتيب" أقول: هذه هيئة واجبة ولا يحسن جعلها من جملة فرائض الوضوء وكذلك قوله فيما بعد "وتخليل الأصابع والأظفار والشجج"، فإن جعل ذلك من جملة الفرائض فيه نوع تسأهل وقد ثبت عن الشارع فعلا وتعليما أنه غسل أعضاء الوضوء مقدما لما قدمه القرآن ومؤخرا لما أخره كذلك ثبت عن الحاكين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم والمعلمين لهم فهذا هو الوضوء الذي شرعه الله لعباده في كتاب. ومن زعم أنه يجزئ وضوء غير مرتب على ذلك الترتيب فقد خالف الجادة البيضاء والطريقة الواضحة التي لا يزيغ عنها إلا زائغ. وأما كون الوأو لا تفيد الترتيب فهذا لو لم يرد البيان النبوي وأما بعد وروده دائما مستمرا فلا. ثم قوله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وضوءا مرتبا: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وقوله للأعرأبي: "توضأ كما أمرك الله" ثم علمه الوضوء مرتبا على ما في القرآن يدلان دلالة بينة واضحة أن ذلك واجب متعين لا يجوز المخالفة له بحال ولم يصب من قال إن الإشارة بقوله: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" إلي نفس الفعل لا إلى هيئته فإن ذلك دعوى بلا دليل بل الإشارة أي إشارة كانت إلي فعل أي فعل كان إلي الفعل الذي له تلك الهيئة لا إلي الفعل مجردا عنها فإن ذلك مما لا يدل عليه عقل ولا نقل. [فصل "وسننه غسل اليدين أولا والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة وتقديمهما على الوجه والتثليث ومسح الرقبة وندب السواك قبله عرضا والترتيب بين الفرجين والولاء والدعاء وتوليه بنفسه وتجديده بعد كل مباح وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضاء] ". قوله: فصل: "وسننه غسل اليدين أولا". أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم وحكاه من حكاه من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمهم لوضوئه ومن ذلك ما هو في الصحيحين ومنه ما هو في غيرهما ولا شك في مشروعيته وأما قول من قال بالوجوب فلا وجه له لأن غسل اليدين قبل الوضوء لم يكن مما في القرآن الكريم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرأبي "توضأ كما أمرك الله" يعني في القرآن. أما حديث: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده" فهو خاص بمن قام من النوم فعلى تقدير دلالته على الوجوب لا يدل

على وجوب غسلها عند كل وضوء بل في هذه الحالة الخاصة بمن قام من النوم. واعلم أن المشروع غسلهما ثلاثا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عثمان في حكايته لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفرغ الماء على كفيه ثلاث مرات يغسلها وأخرج أحمد والنسائي من حديث أوس بن أوس الثقفي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فاستوكف ثلاثا أي غسل كفيه ثلاثا. قوله: "والجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة". أقول: كان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يزيد لفظ ثلاثا فيقول والجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما كان ينبغي له أن يقول وسننه غسل اليدين ثلاثا أولا لما تقدم في غسل اليدين وكذلك هنا لأن الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم هو الجمع بين المضمضة والاستنشاق ثلاثا بغرفة كما في اصحيح البخاري من حديث عبد الله بن زيد في تعليمه لوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض واستنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة. والروايات المطلقة عن لفظ ثلاثا ينبغي أن تحمل على هذه الرواية المقيدة بالثلاث فإن قلت قد لا يتسع الكف للجميع بين المضمضة والاستنشاق منه ثلاث مرات. قلت إذا لم يتمكن المتوضىء من ذلك أما لضيق كفه أو لعدم حفظها لما فيها فذلك مما يسوغ له أن يكرر الغرفات جامعا بين المضمضة والاستنشاق من كل غرفة. وقد ورد الفصل بين المضمضة والاستنشاق كما في حديث طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق وقد أعلوا هذا الحديث بجهالة مصرف والد طلحة ولكنه قد حسن إسناده ابن الصلاح في كلامه على المهذب وقد وثق ابنه طلحة ابن معين وأبو حاتم وكانوا يسمونه سيد القراء. قوله: "وتقديمها على الوجه". أقول: هذا هو الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم ومن حكاية الحاكين لوضوئه في الصحيحين وغيرهما ولكنه قد أخرج أحمد وأبو دأود والضياء في المختارة عن المقدام بن معد يكرب أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم تمضمض واستنشق ثلاثا ثم مسح برأسه وأذنيه. [أحمد "4/132"، أبو دأود "121"] ، الحديث. وأخرج الدارقطني عن الربيع وفيه: "ثم يتوضأ فيغسل وجهه ثلاثا ثم يمضمض ويستنشق ثلاثا" الخ الحديث وهو من طريق شيخ الدارقطني إبراهيم بن حمادة عن العباس ابن يزيد عن سفيان بن عيينة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الربيع بنت معوذ والكلام في عبد الله بن محمد بن عقيل معروف وللحديث طرق وألفاظ مدارها عليه وقد أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة. وطريقة الجمع بين هذه الأحاديث أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم أخر المضمضة في هذين الحديثين لبيان الجواز فيكون هذا في حكم المخصص لما تقدم في الترتيب بين أعضاء الوضوء.

قوله: "والتثليث". أقول: قد ورد في مشروعية التثليث أحاديث كثيرة وورد في إجزاء الوضوء مرة مرة ما أفاد أن الزيادة على المرة مسنونة غير واجبة ولكن الأحاديث الصحيحة الكثيرة أن المسح بالرأس مرة واحدة ولم يثبت في تثليثه ما يصلح للإحتجاج به فالتثليث سنة إلا في مسح الرأس وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقى وذكرت جميع ما ورد في أفراد مسحه وفي تثليثه وتعقبت كل رواية من روايات التثليث فمن أراد الاستيفاء فليرجع إليه. قوله: "ومسح الرقبة". أقول: لم يثبت في ذلك شيء يوصف بالصحة أو الحسن وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أحاديث وهي وإن لم تبلغ درجة الاحتجاج بها فقد أفادت أن لذلك أصلا لا كما قال النووي إن مسح الرقبة بدعة وإن حديثه موضوع وقال ابن القيم في الهدى لم يصح عنه في مسح العنق حديث ألبتة انتهى. وهذا مسلم ولكن لا تشترط الصحة في كل ما يصلح للحجية فإن الحسن مما يصلح للحجية وكذلك الأحاديث التي كل حديث فيها ضعيف وكثرة طرقها يوجب لها القوة فتكون من قسم الحسن لغيره. قوله: "وندب السواك". أقول: جعل السواك مندوبا مع جعل ما قبله سننا من غرائب التصنيف وعجائب التأليف فإن الأحاديث الثابتة في السواك قولا وفعلا أوضح من شمس النهار مع كونها في غاية الكثرة والصحة فكيف كان السواك مندوبا وتلك الأمور المتقدمة من أول الفصل إلي هنا مسنونة وما المقتضى لحط رتبة السواك عن رتبتها وهي دونه بمراحل وأكثرها لم يرد فيه إلا مجرد الفعل فقط وسيأتي للمصنف في كتاب الصلاة أن المسنون ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب والمستحب في اصطلاحه يرادف المندوب فكان عليه أن يحكم للسواك بأنه مسنون فقد لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به ولولا قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك" [البخاري "2/887"، مسلم "252"، أبو دأود "46"، الترمذي "22"، النسائي "7"، ابن ماجة "287"] لكانت الأوامر الواردة فيه باقية على حقيقتها وأن يحكم لمثل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة بأنه مندوب فقط. قوله: "والترتيب بين الفرجين". أقول: قد قدمنا أن عد الفرجين عضوا من أعضاء الوضوء من غرائب هذه الديار وأهلها ولم يكتف المصنف رحمه الله بذلك حتى أبان لهما هذه الهيئة الترتيبية وحكم لها بالندب. ويالله العجب من هذه الأباطيل الموضوعة من المصنفات التي يقصد بها مصنوفها إرشاد العباد إلي ما شرعه الله لهم وتسهيل حفظها عليهم فإن هذا من التقول على هذه الشريعة المطهرة بما لم يكن فيها ومن تكليف الأمة المرحومة بما لم يكلفها الله به ولا يحمل القائل بذلك

على تعمد الإتيان بالباطل بل أحسن المحامل له ولأمثاله من المشتغلين بالفروع المصنفين فيها أن يقال إنه لا إلمام لهم بالأدلة الشرعية ولا شغلوا أنفسهم بشيء منها ولهذا نفقت عندهم هذه الأباطيل وراجت على عقولهم هذه الأضاليل ولكن ما لمن كان بهذه المنزلة والتعرض للتصنيف في الأمور الدينية التي لا تؤخذ إلا عن الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة. قوله: "والولاء". أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في وضوئه ولا عمن حكى وضوءه من الصحابة أنهم فرقوا بين أعضاء الوضوء وترك الموالاة بينها بل كانوا يغسلون الأول فالأول غير مشتغلين بعمل آخر فيما بين أعضاء الوضوء ولا واقفين بين غسل الأعضاء فالتفريق بدعة مخالفة لما كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فهي رد على فاعليها ولا يخلص فاعلها عن كونه مبتدعا ما يتمسك به من فعل صحأبي قد روي عنه ذلك كما أخرجه البيهقي عن ابن عمر أنه توضأ في السوق فغسل يديه ووجهه وذراعيه ثلاثا ثلاثا ثم دخل المسجد فمسح خفيه بعد أن جف وضوؤه وصلى. قال البيهقي وهذا صحيح عن ابن عمر وقد علقه البخاري في الغسل ولا يخفاك أن فعل الصحأبي لا يقوم به الحجة في أقل حكم من أحكام الشرع فكيف بمثل هذا؟. وأخرج البيهقي أيضا أن رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وقد توضأ وترك على قدمه مثل موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارجع فأحسن وضوءك" قال البيهقي رواه مسلم [مسلم "31/243"] . وهذا ليس فيه ما يدل على جواز التفريق بل ظاهر قوله ارجع فأحسن وضوءك أنه يعيد الوضوء من أوله. وعلى تسليم أنه أراد بقوله فأحسن وضوءك غسل موضع ذلك المتروك من ظهر القدم فليس تكميل غسل العضو كترك غسله كله بعد غسل ما قبله حتى يمضي وقت فإن التفريق إنما يكون هكذا. ومثل هذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث ابن مسعود أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي يغتسل من الجنابة فيخطيء بعض جسده الماء قال: "ليغسل ذلك المكان ثم ليصل" وفي اسناده عاصم بن عبد العزيز وليس بالقوي كما قال النسائي والدارقطني وقال البخاري فيه نظر. وقد استدل صاحب فتح الباري على جواز التفريق بأن الله أوجب غسل أعضاء الوضوء فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه ويجاب عنه بأن هذا الغسل الذي أوجبه الله قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم ولم يثبت عنه التفريق من فعله الدائم المستمر طول عمره ولا جاء في قوله ما يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة. قوله: "والدعاء" أقول: لم يثبت في ذلك شيء وما روى فهو أما موضوع أو في إسناده كذاب أو متروك

والذي ثبت في الوضوء من الأذكار هو التسمية في أوله وفي آخره "أشهد أن ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" [مسلم "17/234"، الترمذي 55"، أحمد "4/145" – 146 – 153"، أبو دأود "169"، النسائي "148"، ابن ماجة "470"] ، ولم يثبت غير هذا لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف. قوله: "وتوليه بنفسه" أقول: الأمر القرآني لكل قائم إلي الصلاة أن يغسل أعضاء وضوئه يدل على أنه يجب على المتوضىء أن يغسل أعضاء وضوئه بنفسه والبيان الواقع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وضوئه وفي تعليمه لغيره يؤيد ذلك ويقويه فمن زعم أنه يجزىء العبد وضوء وضاه غيره فعليه الدليل ولا دليل يدل على ذلك أصلا. وإذا ألجأت الضرورة فلها حكمها وذلك كالمريض الذي يعجز عن غسل أعضائه أو بعضها والأشل والأقطع ونحو ذلك. وأما الصب من الغير على يد المتوضىء فذلك ثابت في السنة في الصحيحين وغيرهما من رواية جماعة من الصحابة. قوله: "وتجديده بعد كل مباح" أقول: الأولى مشروعية فعله لكل صلاة من غير نظر إلي فعل المباح أو عدمه فإنه لم يدل دليل على ربط المشروعيه بأن يفعل بعد وضوئه الأول مباحا وقد كان صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته يتوضأ لكل صلاة. ويدل على هذا ما أخرجه الترمذي من حديث بريدة وقال صحيح حسن قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة فلما كان عام الفتح صلى الصلوات كلها بوضوء ومسح على خفيه فقال عمر إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال: "عمدا فعلته" وأخرجه أيضا مسلم وأبو دأود والنسائي بنحوه وقال فيه خمس صلوات بوضوء [الترمذي "61"، مسلم "277"، أبو دأود "172"، النسائي "133"] . وأخرج البخاري والترمذي والنسائي من حديث عمر وأنس أنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة وأخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر: "من توضأ على طهر كتبت له عشر حسنات" [الترمذي "59"، ابن ماجة "512"] ، وفي إسناده عبد الرحمن الإفريقي وهو ضعيف الحفظ عن أبي غطيف وهو مجهول. وتأديته صلى الله عليه وسلم للصلوات بوضوء واحد وترغيبه في الوضوء على طهر يدلان على أن الأمر بالوضوء عند القيام إلي الصلاة محمول على الندب أو هو أمر للمحدثين. وهكذا حديث أبي هريرة عند الدرامي والترمذي وابن ماجة مرفوعا: "لا وضوء إلا من حدث" [الترمذي "74"، ابنماجة 515"] ، وفي بعض ألفاظه "لا وضوء إلا من صوت أو ريح" قال الترمذي حسن صحيح يحمل على أن معناه لا وضوء واجب جمعا بين الأدلة.

ومثله ما أخرجه أحمد وابن ماجة والطبراني وابن نافع عن السائب بن خباب مرفوعا: "لا وضوء إلا من ريح أو سماع" بأحمد "3/426"، ابن ماجة "56"] . قوله: "وإمرار الماء على ما حلق أو قشر من أعضائه". أقول: لا مستند لهذا التشريع العجيب إلا مجرد خيالات مختلة وآراء معتلة فالحكم بالندب لا يجوز إلا بدليل وإلا كان من التقول عن الشارع بما لم يقله. [فصل: ونواقضه ما خرج من السبيلين وإن قل أو ندر أو رجع وزوال العقل بأي وجه إلا خفقتى نوم ولو توالتا أو خفقات متفرقات وفيء نجس ودم أو نحوه سال تحقيقا أو تقديرا من موضع واحد في وقت واحد إلي ما يمكن تطهيره ولو مع الريق وقدر بقطرة والتقاء الختانين ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها وكل معصية كبيرة غير الأصرار أو ورد الأثر بنقضها كالكذب والنميمة وغيبة المسلم وإذاه] . قوله: "فصل: ونواقضه ما خرج من السبيلين". أقول: أما انتفاضه بالبول والغائط فبالضرورة الدينية وأما ما عداهما فما وقع النص عليه كما في حديث "حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [البخاري "137"، مسلم "361"، النسائي "160"، ابن ماجة "513"] ، وهو في الصحيح من رواية جماعة من الصحابة فهو ناقض بالنص وما لم يقع النص عليه فهو لاحق بالريح أما بفحوى الخطاب أو بلحن الخطاب ولا يحتاج مع هذا إلي الاستدلال على تعميم نقض الخارج بما لم يثبت ففي هذا كفاية وهو يشمل ما قل أو ندر أو رجع. قوله: "وزوال العقل بأي وجه". أقول: وجه النقض أن من زوال عقله بنوم أو جنون أو إغماء لم يكن على يقين من بقاء طهارته التي تعتبر في صحة الصلاة ولا سيما وتلك الحالة مظنة لاسترخاء الأعضاء وعدم القدرة على دفع ما ينتقض به الوضوء وقد ثبت في النوم حديث "العين وكاء السه" [أبو دأود "203"، ابن ماجة "477"، أحمد "1/111"] ، من رواية علي ومعأوية مرفوعا وقد حسنه جماعة من الحفاظ. فجعل النوم مظنة للنقض لأنه إذا نامت العين استطلق الوكاء كما في بعض الروايات ثم رتب صلى الله عليه وسلم على هذه المظنة الجزم على من نام بأن يتوضأ فقال: "فمن نام فليتوضأ" كما في بعض الروايات الخارجة من مخرج معمول به. ولكنها وردت أحاديث قاضية بأنه لا ينتقض الوضوء بالنوم إلا إذا نام مضطجعا وهي تقوى

بعضها بعضا كما أوضحت ذلك في شرحي المنتقى فتكون مفيدة لما ورد في نقض مطلق النوم فلا ينقض إلا نوم المضطجع. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجنون والإغماء أولى بوجود هذه المظنة فيهما فأقل أحوالهما أن يكونا مثل النوم فلا يحتاج إلي إيراد دليل عليهما بخصوصهما. ومعلوم أنه إذا استطلق الوكاء بالنوم أستطلق بما هو مثله في زوال العقل وذهاب الإحساس فكيف بما هو فوقه. وبهذا تعرف أنه لا ينقض نوم القاعدة ونحوه ممن لم يكن مضطجعا لا بخفقتين ولا بخفقات متواليات أو متفرقات. وعلى هذا يحمل ما ورد أن جماعة من الصحابة كانوا ينامون فيوقظون للصلاة فيصلون ولا يتوضئون. وأما ما ورد في بعض الروايات أنهم كانوا يضعون جنوبهم فهو لا يصلح للتمسك به في معارضة إيجاب الوضوء على نوم من نام مضطجعا ثم الاضطجاع لا يستلزم النوم فقد يضطجع منتظرا للصلاة للاستراحة فيظن من رآه كذلك أنه نائم. على ان هذا اللفظ أعنى قوله كانوا يضعون جنوبهم لم يثبت من وجه يصلح للاحتجاج به. قوله: "وقيء نجس" أقول: قد صح أنه صلى الله عليه وسلم "قاء فتوضأ" [أحمد "6/443"، أبو دأود "2381"، الترمذي "87"] ، كما أخرج ذلك أحمد وأهل السنن وهو حديث حسن ويؤيده حديث: "من أصابه قيء أو رعاف أو قلس فلينصرف فليتوضأ" وإعلاله بإسماعيل بن عياش لا يوجب ترك العمل به فإسماعيل إمام قد وثقه جماعة وضعفه آخرون بما لا يوجب سقوط حديثه وترك العمل به ولحديثه هذا شواهد تقوية. قوله: "ودم أو نحوه" الخ. أقول: قد عرفناك فيما سلف أن الأصل في الأشياء الطهارة فمن ادعى نجاسة شيء من الأشياء فعليه الدليل فإن جاء بما يصلح للنقل عن هذا الأصل المصحوب بالبراءة الأصلية فذاك وإلا فلا قبول لقوله. وهكذا من ادعى أنه ينقض الطهارة الصحيحة ناقض فعليه الدليل فإن نهض به فذاك وإلا فقوله رد عليه. وعرفناك أن الحدث مانع من الصلاة فإذا ارتفع بالوضوء كان مرتفعا حتى يعود ذلك المانع بما يوجب بطلان تلك الطهارة التي ارتفع بها ذلك المانع ولم يأت من قال بأن خروج الدم ناقض بشيء يصلح للتمسك به فإن حديث سلمان أنه رعف فقال له صلى الله عليه وسلم: "أحدث لك وضوءا" وإن أخرجه الطبراني في الكبير ففي إسناده كذاب وضاع وحديث تميم الداري بلفظ:

"الوضوء من كل دم سائل" وإن عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلي الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وحديث أبي هريرة: "ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون سائلا" وإن أخرجه الدارقطني ففي إسناده من لا تقوم به الحجة وأما حديث إسماعيل بن عياش فقد قدمنا في البحث الذي قيل هذا الكلام فيه وذكرنا أنه يؤيد ما ذكرناه من أنه صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ فلا يصلح للاحتجاج به منفردا فكيف إذا عورض بمثل أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل محاجمه أخرجه الدارقطني وفي إسناده صالح بن مقاتل ووالده وسليمان بن دأود وصالح ووالده ضعيفان وسليمان بن دأود مجهول ولكنه رواه المنذري في تخريج المهذب من هذه الطريق وقال إسناده حسن وقال ابن العربي في خلافياته إن الدارقطني رواه بإسناد صحيح هكذا حكى ذلك في البدر المنير وبما أخرجه البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة ذات الرقاع فرمى رجل بسهم فنزفه الدم فركع وسجد ومضى في صلاته وأخرجه أحمد وأبو دأود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وقد ثبت في روايات صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب فقال: "من يحرسنا الليلة؟ " فقام رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فباتا بفم الشعب فاقتسما الليلة للحراسة وقام الأنصاري يصلي فجاء رجل من العدو فرمى الأنصاري بسهم فأصابه فنزعه واستمر في صلاته ثم رماه بثان فصنع كذلك ثم رماه بثالث فنزعه وركع وسجد وقضى صلاته ثم أيقظ رفيقه فلما رأى ما به من الدماء قال له لم لا أنبهتني أول ما رمى قال كنت في سورة فأحببت أن لا أقطعها. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك ولم ينكر عليه الاستمرار في الصلاة بعد خروج الدم ولو كان الدم ناقضا لبين له ولمن معه في تلك الغزوة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقد كان الصحابة رضى الله عنهم يخوضون المعارك حتى تتلوث أبدانهم وثيابهم بالدم ولم ينقل أنهم كانوا يتوضئون لذلك ولا سمع عنهم أنه ينقض الوضوء. قوله: "والتقاء الختانين" أقول: قد ثبت أن هذا من موجبات الغسل بالأدلة الصحيحة كما سيأتي ومعلوم أن موجبات الطهارة الكبرى موجبات للطهارة الصغرى فذكر هذا هنا غفلة شديدة. قوله: "ودخول الوقت في حق المستحاضة ونحوها". أقول: ليس على هذا أثارة من علم ولا عقل فلا حاجة إلي التطويل في رده وبيان بطلانه. قوله: "وكل معصية كبيرة غير الإصرار". أقول: لم يتمسك القائلون بهذا سوى حديث أبي هريرة عند أبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مسبلا إزاره في الصلاة فأمره بإعادة الوضوء والصلاة وفي إسناده مجهول قيل هو يحيى بن أبي كثير المدني وقيل هو كثير بن جهمان السلمي وقيل غيرهما فلا تقوم به حجة ولا يصح الاستدلال به على نقض وضوء المسبل إزاره فكيف يستدل به على هذه القضية الكلية التي تعم بها البلوى.

فيالله العجب من التسرع إلي إثبات أحكام الله سبحانه بمجرد الخيالات المختلة والشبه المعتلة. وأما الاستدلال بأن الكبائر محبطة فلا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه ولو سلم لكانت محبطة لكل عمل فعل قبلها من أعمال الخير كائنا ما كان فلا ينعقد لفاعل الكبيرة عمل ولا تثبت له طاعة وهذا باطل بالإجماع وليس مراد القائلين بالإحباط إلا إحباط ثواب الطاعات المترتب على فعلها لا شك في هذا. قوله: "أو ورد الأثر بنقضها كتعمد الكذب والنميمة". أقول: لم يرد شيء قط في ذلك لا من وجه صحيح ولا حسن ولا ضعيف خفيف الضعف فإثبات مثل هذا الحكم الذي تعم به البلوى بلا شيء من كتاب ولا سنة ولا قياس ولا وجه من وجوه الاستدلال ليس من دأب المتورعين فضلا عن العلماء العاملين. ومع هذا فإقرار هاتين المعصيتين بالذكر بعد ذكر كل معصية كبيرة ليس على ما ينبغي فإنهما من الكبائر كما دلت على ذلك الأدلة وانطباق حد الكبائر عليهما على اختلاف الاصطلاحات ومثلهما غيبة المسلم. وأما القهقهة في الصلاة فأشف ما استدلوا به قصة الأعمى التي أخرجها الطبراني في الكبير عن أبي موسى قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس إذا دخل رجل فتردى في حفرة كانت في المسجد وكان في بصره ضرر فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من ضحك أن يعيدوا الوضوء والصلاة وفي إسناده محمد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم أبو جعفر الواسطي الدقيقي قد اختلف فيه حتى قال أبو دأود إنه لم يكن بمحكم العقل ورواه البيهقي عن أبي العالية مرسلا وقال أما هذا فحديث مرسل ومراسيل أبي العالية ليست بشيء كان لا يبالي عمن أخذ حديثه ورواه البيهقي أيضا من طرق ثم قال وهذه الروايات كلها راجعة إلي أبي العالية الرياحي قال الشافعي حديث أبي العالية الرياحي رياح وقال ابن عدي وأكثر ما نقم على أبي العالية هذا الحديث وكل ما رواه غيره فإن مدارهم ورجوعهم إلي أبي العالية والحديث له وبه يعرف ومن أجل هذا الحديث تكلموا في أبي العالية وسائر أحاديثه مستقيمة صالحة انتهى. وقد جزم جماعة من الحفاظ أنه لم يصح في كون الضحك ينقض الوضوء شيء فليس ها هنا ما يصلح لإثبات أقل حكم من أحكام الشرع. وقد أخرج البيهقي في سننه من طريق الدارقطني عن أبي موسى أنه كان يصلي بالناس فرأوا شيئا فضحك بعض من كان معه فقال أبو موسى من كان ضحك منكم فليعد الصلاة. قال البيهقي وكذلك رواه أبو نعيم عن سليمان بن المغيرة وليس في شيء منه أنه أمر بالوضوء. ثم أخرج عن أبي الزناد قال كان من أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إليهم منهم

سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار في مشيخة جلة سواهم يقولون فيمن رعف غسل عنه الدم ولم يتوضأ وفيمن ضحك في الصلاة أعاد صلاته ولم يعد منه وضوءه انتهى. وهؤلاء الذين ذكرهم هم الفقهاء السبعة المشهورون. ثم قال وروينا نحو قولهم في الضحك عن الشعبي وعطاء والزهري. قوله: "قيل ولبس الذكر الحرير". أقول: هذا قول لم يدل عليه دليل ولا مستند له إلا مجرد القال والقيل والعجب من قائله كيف استحل الجزم به وهكذا مطل الغنى والوديع ثم جعل النصاب لذلك أن يكون فيما يفسق غاصبه فإن كان هذا التقدير لأجل يكون فاعله فاعلا لكبيره فلا وجه لذكره مستقلا فإنه قد دخل في قوله: "وكل معصية كبيرة" فإن كان لأجل كون الفسق من نواقض الوضوء فهو لا يكون إلا بسبب التفسيق وهو فعل الكبيرة عند البعض أو المخالفة لما هو معلوم من ضرورة الدين عند آخرين مع أنه قد وقع الإجماع على أن صلاة الفاسق ووضوءه وسائر عباداته ومعاملاته صحيحة والحكم بانتقاض وضوئه بفسقه مخالف للإجماع ومن قواعد المصنف وأمثاله أنه يفسق من خالف الإجماع. وإن كان المراد تكثير المسائل على أي صفة رقع وكيفما اتفق فهذا لا يعجز عنه أحد وليس هذا بعلم بل محض إثم. والحاصل أن هذه المسائل ظلمات بعضها فوق بعض ومسكين مسكين المقلد مإذا جرى عليه من هذه الآراء التي تشعبت طرائقها وخفيت دقائقها وحقائقها اللهم غفرا. [فصل: "ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين فمن لم يتيقن غسل قطعي أعاد في الوقت مطلقا وبعده إن ظن تركه وكذا إن ظن فعله أو شك إلا للأيام الماضية. فأما الظني ففي الوقت إن ظن تركه ولمستقبله ليس فيها إن شك"] . قوله: "فصل: ولا يرتفع يقين الطهارة والحدث إلا بيقين". أقول: إذا كان أحد الأمرين متيقنا فكونه لا ينتقل عنه إلا بيقين لا يتم على ما هو الحق من التعبد بأخبار الآحاد المفيدة للظن فإذا كان الرجل مثلا متيقنا أنه قد توضأ فاستصحاب هذا اليقين والعمل عليه هو مجرد دليل ظني لا يقيني فإذا أخبره عدل بأنه شاهده يبول بعد ذلك الوقت الذي تيقن إيقاع الوضوء فيه فهذا الخبر من العدل صالح للانتقال عن ذلك الاستصحاب والعمل

به واجب وهو في الحقيقة انتقال من ظني وهو الاستصحاب بما تيقن وقوعه إلي ظني وهو خبر العدل. ولم يقع خبر هذا العدل معارضا لنفس ذلك اليقين لإيقاع الوضوء فإنه لم يقل العدل للمتوضىء المتيقن لإيقاع الوضوء أنت لم تتوضأ بل قال قد فعلت بعد الوضوء الذي تيقنته ما يبطله. وبهذا يظهر لك أن اشتراط اليقين في رفع ما تيقنه أولا ليس على ما ينبغي والاتفاق كائن بالتعبد بالظن في العبادات والمعاملات إلا ما خصه دليل وقد استدلوا على إثبات هذه القاعدة بمثل حديث: "إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركة في دبره فأشكل عليه أحدث أم لم يحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" [البخاري "137"، مسلم "361"] ، وليس في هذا ما يدل على هذه الكلية وغايته أن المصلي عند الشك لا يعمل بما لا يفيد ظنا ولا علما كالحركة التي يحسها في دبره. فالحاصل أن من يتقن الحدث وجب عليه استصحاب ذلك حتى يحصل ما يوجب الانتقال عنه وهو العلم بأنه قد رفعه أو الظن بأنه قد رفعه وذلك بخبر من يجب قبول خبره ونحوه ومن حصل له تيقن إيقاع الوضوء وجب عليه استصحاب ذلك حتى يتيقن أنه قد احدث أو يظن ذلك بخبر عدل أو نحوه. وإن شكل عليك هذا الذي قررناه فافرض المسألة في رجل يكثر شكه ويضطرب حاله ويتسارع إليه النسيان فيما يفعله فإنك عند ذلك تستوضح ما استشكلته وتستقرب ما استبعدته. وإذا عرفت هذا فاعلم أن هذه التفريعات الواقعة في هذا الفصل لم تستند إلا إلي مجرد الرأي المحض الذي لا يحل العمل به في شيء من أمور الدين وإنما رخص فيه للمجتهد عند عدم الدليل من الكتاب والسنة وذلك رخصة خاصة به لا يجوز لغيره أن يعمل بذلك الرأي الذي حصل له فلا نطول برد ما أورده من هذه التفاصيل المبنية على شفا جرف هار.

باب الغسل

[باب الغسل فصل: يوجبه الحيض والنفاس والإمناء لشهوة تيقنهما أو المنى وظن الشهوة لا العكس وتوارى الحشفة في أي فرج] . قوله: "فصل يوجبه الحيض".

أقول: هذا صواب وقد أخطأ من قال يوجبه الطهر فإن السبب الذي لأجله وجب الغسل هو الحيض لا الطهر ومعلوم أن الطهر لا يكون سببا للتطهر ولا يكون للاغتسال من السبب إلا بعد الفراغ منه وكذلك الوضوء سببه الحدث الموجب له ولا يكون إلا بعد وقوعه وهذا ظاهر لا يخفى. فما وقع في ضوء النهار من التصويب والاستدلال له ليس على الصواب وهكذا تقرير الأمير في حاشيته على ضوء النهار للتصويب والجزم بأنه الحق ليس كما ينبغي فالسبب الذي أوجب الغسل هو الحيض ولكنه لا يمكن التطهر منه إلا بعد انقضائه كسائر الأسباب. والحاصل أن الحيض إذا حدث فقد وجد المانع ولا يرتفع إلا بالغسل وهكذا النفاس والوطء فالمانع قد وجد بوجود هذه الاسباب كما أن البول والغائط ونحوهما قد وجد بوجودها المانع من الصلاة ولا يرتفع هذا المانع إلا بالضوء. وسيأتي الكلام على الحيض والنفاس في باب الحيض إن شاء الله تعالي. قوله: "والإمناء لشهوة إن تيقنهما أو المنى وظن الشهوة لا العكس". أقول: لا خلاف في وجوب الغسل بالاحتلام وما يروى عن النخعي من المخالفة في ذلك فما أظنها تصح عنه الرواية ولو صحت لكان قوله مخالفا لإجماع من قبله من المسلمين ومن بعده ولكن الاعتبار هو بوجود الماء أعنى المنى فإذا استيقظ المحتلم ووجد منيا في بدنه أو ثوبه فقد وجب عليه الغسل سواء ذكر أنه حصل ذلك لشهوة أم لا وأما إذا ذكر أنه احتلم لشهوة ولم يجد أثرا للمنى فلا اعتبار بذلك ووجهه ما أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجة من حديث عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما فقال: "يغتسل" وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل فقال: "لا غسل عليه" [أحد "6/256"، أبو دأود "236"، الترمذي "113"، ابن ماجة 612] ، وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمر العمري وفيه مقال خفيف وحديثه يصلح للاحتجاج به. ويؤيده ما أخرج أحمد والنسائي من حديث خولة بنت حكيم بنحوه وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أم سلمة أن أم سليم قالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة الغسل إذا احتلمت قال: "نعم إذا رأت الماء" [البخاري "282"، مسلم "313"] ، فأدار صلى الله عليه وسلم وجوب الغسل على رؤية الماء. قوله: "وتواري الحسفة في أي فرج". أقول: للحديث الصحيح "إذا قعد بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل" [البخاري "291"، النسائي "191"، ابن ماجة "610"] ، وهو ثابت من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغرهما وإليه ذهب الجمهور من الصحابة ومن بعدهم ولا يعارضه ما ورد من الأحاديث المصرحة بأن "الماء من الماء" [مسلم "81/343"، أبو دأود "217"] ، فإن هذا أعني أنه لا يوجب الغسل إلا الإنزال للماء كان رخصه في أول الإسلام ثم نسخ بما ورد في إيجاب الغسل

بالتقاء الختانين كما صرح بذلك أبي بن كعب أخرجه أبو دأود ورجاله ثقات وكما في صحيح مسلم عن عائشة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل". [مسلم "88/349"، أحمد "6/47"، الترمذي "108 – 109"] . وأيضا لو قدرنا عدم النسخ لكان الجمع بين هذه الأحاديث ممكن بأن نقال حديث: "الماء من الماء" دل بمفهومه على عدم إيجاب الغسل على من جامع ولم ينزل وحديث التقاء الختانين دل بمنطوقه على وجوبه ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم. [فصل: ويحرم بذلك القراءة باللسان والكتابة ولو بعض آية ولمس ما فيه ذلك غير مستهلك إلا بغير متصل به ودخول المسجد فإن كان فيه فعل الأقل من الخروج أو التيمم ثم يخرج ويمنع الصغيران ذلك حتى يغتسلا ومتى بلغا أعاد ككافر أسلم". قوله: فصل: "ويحرم بذلك القراءة باللسان". أقول: حديث علي عند أحمد وأهل السنن وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم "لم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة" [أحمد "1/83، 84، 107، 124، 134"، أبو دأود "229" الترمذي "146"، النسائي "265 – 266"، ابن ماجة "594"] ، قد صححه جماعة من الحفاظ ولم يأت من تكلم عليه بشيء يصلح لأدنى قدح ومن جملة من صححه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن السكن والبغوي وعبد الحق. وفي لفظ منه للنسائي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من الخلاء فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ولم يكن يحجبه من القرآن شيء ليس الجنابة. [النسائي "265"] . وفي بعض ألفاظ الحديث "كان يقرأ القرآن في كل حال إلا الجنابة". ولهذا الحديث شواهد تقوية وتشد من عضده وإن كان صالحا للاحتجاج به بدونها ولكن غاية ما يفيده الحديث كراهة القراءة للقرآن من الجنب ولا يفيد التحريم. نعم أخرج الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عمر مرفوعا: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن" [الترمذي "131"، ابن ماجة "595"] ، يدل على التحريم وتضعيفه بإسماعيل بن عياش مندفع لو روده من طريق غيره وهو أيضا لم يقدح فيه بما يوجب عدم صلاحية حديثه للاحتجاج به قال المنذري في تخريجه لأحاديث المهذب هذا الحديث حسن وإسماعيل تكلم فيه وأثنى عليه جماعة من الأئمة انتهى. ويؤيده ما أخرجه أبو يعلى من حديث علي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا

من القرآن ثم قال: "هكذا من ليس بجنب فأما الجنب فلا ولا آية" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون انتهى. وأما ما روى بلفظ: "لا ولا حرفا" فلم يصح رفع ذلك. إذا عرفت هذا فاعلم أنه لم يرد ما يدل على المنع من الكتابة ولا ما يدل على المنع من مس المصحف إلا ما أخرجه الطبراني في الكبير والصغير من حديث عبد الله بن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا يمس القرآن إلا طاهر" قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون وذكر له شاهدين من حديث حكيم بن حزام وحديث عثمان بن أبي العاص. قلت حديث حكيم بن حزام أخرجه الدارقطني والطبراني والحاكم والبيهقي مرفوعا بلفظ: "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر" وفي إسناده سويد بن إبراهيم العطار وأبو حاتم وهو ضعيف كما قاله بعض الحفاظ وقال ابن معين لا بأس به وقد صحح الحاكم إسناد هذا الحديث وحسنه الحازمي ووثق رواته الدارقطني. وأخرج مالك في الموطأ والدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن حزم بلفظ: "لا يمس القرآن إلا طاهر" وأخرج الطبراني من حديث عثمان بن أبي العاص بلفظ كان فيما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمس المصحف وأنت غير طاهر". قوله: "ودخول المسجد". أقول: حديث عائشة أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجوه أصحابه وبيوتهم شارعة إلي المسجد: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد" [أبو دأود "332"] ، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج إليهم فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" وهو حديث صحيح ولا وجه لتضعيف ابن حزم له بأفلت بن خليفة الكوفى فهو معروف مشهور صدوق كما صرح بذلك أئمة الحديث وليس بمجهول كما قال وأيضا قد أخرج هذا الحديث من غير طريقه ابن ماجة والطبراني عن جسرة بنت دجاجة عن أم سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته: "إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض" [ابن ماجة "645"] . وروى هذا الحديث من طرق وله شواهد فالحجة قائمة بذلك وهو يقتضى تحريم المسجد على الجنب والحائض ولا ينافيه جواز المرور فيه لعابر السبيل وهو المجتاز فيه للحاجة كما فسر الآية جماعة من الصحابة منهم أنس وابن مسعود وجابر وابن عباس وقد قيل إنه المسافر. وعلى كل حال فهذه رخصة لا تنافى مطلق التحريم وأما الحكم بمنع الصغار من دخول المسجد فلا وجه له لأن رفع قلم التكليف عنهم يقتضي أنها لا تنعقد لهم جنابة ولا يجب عليهم غسل فدخولهم المسجد لا يتنأوله دليل المنع ولا هو محظور في نفسه حتى يجب على المكلفين أن يمنعوهم منه وهذا ظاهر واضح لا يخفى.

وأما ما قيل من التعويد والتمرين لهم كما في أمرهم بالصلاة قبل بلوغهم فذلك باب آخر ومن غرائب الأقوال إيجاب الغسل عليهم إذا بلغوا فإن هذا الإيجاب لم يكن له سبب يقتضيه لما قدمنا من أنها لا تنعقد لهم جنابة ولا يتصفون بوصف الاجتناب ما داموا قبل البلوغ والاتفاق كائن على انها لا تتنأولهم الخطابات المشتملة على الأحكام التعبدية فكيف يجب عليهم عند التكليف الغسل لغير سبب شرعي وأما إلزامهم بخطابات الوضع كالجنابات ونحوها فليس ذلك من هذا القبيل فإن ما نحن بصدده لا يقول قائل بأنه من أحكام الوضع ثم يقال لهم إن كان الغسل الأول صحيحا فما وجه إيجاب الغسل عند البلوغ وإن كان غير صحيح فكيف يؤمرون بما لا يصح. وبالجملة فالتسأهل في إثبات الأحكام الشرعية يأتي بمثل هذه الخرافات ثم قياسهم على كافر أسلم غفلة عظيمة فإن الكافر مخاطب بالشرعيات فأين خطاب الصغار بها ثم لا وجه لإيجاب الغسل على الكافر لأجل اجتنابه حال الكفر فإن الإسلام يجب ما قبله وقد أوجب الشرع عليه الغسل بمجرد الإسلام وذلك تكليف وجب بالإسلام لا بالاجتناب حال الكفر. [فصل: "وعلى الرجل الممنى أن يبول قبل الغسل فإن تعذر اغتسل آخر الوقت فقط ومتى بال أعاده لا الصلاة". "وفروضه مقارنة أوله بنيته لرفع الحدث الأكبر أو فعل ما يترتب عليه فإن تعدد موجبه كفت نية واحدة مطلقا عكس النفلين والفرض والنفل وتصح مشروطة والمضمضة والاستنشاق وعم البدن بإجراء الماء والدلك فإن تعذر فالصب ثم المسح وعلى الرجل نقض الشعر وعلى المرأة في الدمين". "وندبت هيئته وفعله للجمعة بين فجرها وعصرها وإن لم تقم وللعيدين ولو قبل الفجر ويصلي وإلا أعاده قبلها ويوم عرفة وليالي القدر ولدخول الحرم ومكة والكعبة والمدينة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الحجامة والحمام وغسل الميت والإسلام"] . قوله: "وعلى الرجل الممنى أن يبول قبل الغسل". أقول: هذا تشريع بغير شرع وإيجاب لما لم يوجبه الله ولا رسوله ولا دل عليه دليل صحيح ولا حسن ولا ضعيف والذي رواه بلفظ: "إذا جامع الرجل فلا يغتسل حتى يبول" لم يكن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من قول أصحابه بل هو كلام مكذوب وباطل موضوع وقياسهم لهذا على بقاء شيء في الرحم من الحيضة إلحاق باطل بباطل وقياس ما لا أصل له على ما لا أصل له.

مع اختلاف السبب فإن إيجاب الغسل في الحيض سببه نفس الحيض مع انقطاعه وظهور الطهر وسبب الغسل من الجماع إنزال المنى ثم دعوى بقاء شيء في الرحم من الحيض بعد ظهور الطهر دعوى باطلة ثم لو سلمنا ذلك لكان الباقي بعد ظهور الطهر عفوا كما أن الباقي في الذكر من المنى بعد الإنزال والدفق عفو. وبالجملة فما هذه بأول غفلة وقعت من المتمسكين بمحض الرأي التاركين للتمسك بأدلة الشرع بل ما هي بأول جرأة اجترؤوا عليها وكلفوا عباد الله بها والدين يسر والشريعة سمحة سهلة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور في الليلة الواحدة على جميع نسائه وهن تسع ويغتسل بعد إتيانه لكل واحدة منهن كما أخرج ذلك عنه الحفاظ الموثوق بهم وبما يروونه ومعلوم أنه لا يتيسر البول بعد كل غسل حتى يبول تسع مرات في الليلة الواحدة وقد ترتب على هذا التشريع البديع ما هو من غرائب التفريع فقال: "فإن تعذر اغتسل آخر الوقت وصلى فقط ومتى بال أعاده لا الصلاة" فيا لله العجب من جري قلم التصنيف بمثل هذه الأمور التي يعرف سقوطها وعدم وجود الدليل عليها اصغر الطلبة لعلم الشرع. قوله: "وفروضه مقارنة أوله بنيته لرفع الحدث الأكبر". أقول: أما جعل النية من الفروض فخلاف ما هو الظاهر من دليلها فإنه يدل على أنها شرط كما قدمنا ذلك في نية الوضوء وأما جعل النية لرفع الحدث الأكبر فذلك صواب وقد قدمنا في الوضوء ما يوضح هذا ويقرره. ولا يعتبر غير نية رفع الحدث فإذا ارتفع فعلى ما شاء ومن العبادات التي يكون الحدث مانعا عنها لأنه قد ارتفع المانع ولا فرق بين فريضة ونافلة لكن إذا كان هذا المانع مرتفعا وأراد أن يفعل الغسل لا لرفع المانع بل لقربة من القرب كغسل الجمعة ونحوه فها هنا لا حدث أكبر تتوجه النية إلي رفعه بل ذلك الغسل لمجرد فعل تلك القربة فلا بد أن ينويها بالغسل وإلا لم يكتب له ثوابها لحديث "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى". قوله: "والمضمضة والاستنشاق" أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا متفقا عليه وهو بيان لما أجمله الله سبحانه في كتابه وقد ورد الوعيد على ترك شيء من البدن وورد الأمر ببل كل الشعر وإنقاء البشر وهما حديثان حسنان ولهما شواهد قوية ومجموع ذلك ينتهض للوجوب ومحل المضمضة والاستنشاق وإن لم يكن من ظاهر البدن ففعل النبي صلى الله عليه وسلم لهما في الوضوء والغسل يدل على أن لهما حكم ظاهر البدن. قوله: "وعم البدن بإجراء الماء والدلك". أقول: أما تعميم البدن فلا يتم مفهوم الغسل إلا به وأما الدلك فإن ثبت لغة أو شرعا انه داخل في مفهوم الغسل بحيث لا يسمى غسلا إلا به كان ذلك واجبا وفاء بما أوجبه الله من الغسل وقد ذكر نشوان في كتابه شمس العلوم ما يفيد ذلك وهو من أئمة اللغة ويؤيده

حديث وأنقوا البشر فإنه فسر صاحب المصباح الإنقاء بالتنظيف ومعلوم أن التنظيف لا يكون إلا بالدلك وأخرج مسلم من حديث عائشة بلفظ أن اسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال: "تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء" [مسلم "4/16"] ، فهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم وفيه الأمر بالدلك للرأس وهو جزء من أجزاء البدن وإن كان يستحق مزيد العناية في غسله لما فيه من الشعر. قوله: "وعلى الرجل نقض الشعر". أقول: ليس في هذا دليل صحيح يدل على وجوب ذلك وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا كما أخرجه أبو يعلى من حديث أنس ورجاله رجال الصحيح. وأخرج أحمد والبزار عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب بيده على رأسه ثلاثا فقال رجل شعري كثير قال كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر وأطيب. [أحمد "2/251"] ، ورجاله رجال الصحيح. وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه وأخرج البخاري في صحيحه من حديث جبير ابن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا" [أحمد "2/132 – 133"، البخاري "254"، ابن ماجة "276"] ، وأشار بيديه كليتهما. وأخرج البخاري أيضا عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيض على رأسه ثلاثا" [البخاري "255"] ، وقد ورد أنه كان يفيض الماء على رأسه بعد أن يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر كما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة والأحاديث بنحو هذا كثيرة ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب ذلك على النساء كما في الصحيح من حديث أم سلمة أنها قالت يا رسول الله إني امرأة شديدة عقص الرأس أفأحله إذا اغتسلت؟ قال: "إنما يكفيك أن تحثي عليه ثلاث حثيات" [مسلم "58/330"، أحمد "6/315"، أبو دأود "251"، الترمذي 105، ابن ماجة "603"، النسائي "1/131"] ، والنساء شقائق الرجال فهذا التعليم لأم سلمة يدل على أن حكم الرجال في ذلك حكم النساء ولم ينتهض دليل صحيح يدل على التفرقة بين الرجال والنساء. وأما ما أخرجه أبو دأود عن ثويان أنه حدثهم أنهم استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: "أما الرجل فلينشر رأسه فليغسله" [أبو دأود "255"] ، ففي إسناده محمد بن إسماعيل بن أبي عياش وفيه مقال وقيل إنه لم يسمع من أبيه وفي أبيه المقال المشهور ومع ذلك فلا يدل النشر على النقض لما كان مضفورا بل غايته نشر الضفائر أو نشر ما لم يكن مضفورا ولا ملبدا وقد كان الضفر والتلبيد قليلين في الصحابة وكما أنه لا دليل صحيح يدل على وجوب نقض شعر الرجل والمرأة في الجنابة لا دليل صحيح أيضا يدل على أنه يجب على المرأة نقضه في غسل الدمين وغاية ما يجب عليها ما تقدم من حديث عائشة من قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء: "ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء".

وأما ما أخرجه الدارقطني في الأفراد والخطيب في التلخيص والطبراني في الكبير البيهقي من حديث أنس مرفوعا: "إذا اغتسلت المرأة من حيضها فقضت شعرها نقضا وغسلته بخطمي وأشنان وإن غسلت من الجنابة صبت الماء على رأسها صبا وعصرته" ففي إسناده مسلم بن صبح اليحمدي وهو مجهول وهو غير أبي الضحى مسلم بن صبح المعروف فإنه أخرج له الجماعة كلهم وأيضا اقترانه بالغسل بخطمي وأشنان يدل على عدم الوجوب فإنه لم يقل أحد بوجوب الخطمي والأشنان. ثم قد وقع في رواية مسلم من حديث أم سلمة أأنقضه للحيض والجنابة؟ فقال: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين". والحاصل أنه لا يجب على الرجل ولا على المرأة نقص الشعر لا في الجنابة ولا في الحيض والنفاس فإيجابه في الجنابة على الرجل دون المرأة ثم إيجابه على المرأة في غسل الحيض والنفاس لم يستند كل ذلك إلي ما يعول عليه كما عرفت. وأشف ما استدلوا به على وجوب نقض المرأة لرأسها في الحيض هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة فشكوت ذلك إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج" [وَأَرْجُلَكُمْ بخاري "317"، مسلم "115/1211"، ابن ماجة "614"] ، واختصاص هذا بالحج لا يقتضي بثبوته غيره لا سيما وللحج مدخلية في مزيد التنظيف ثم اقترانه بالامتشاط الذي لم يوجبه أحد يدل على عدم وجوبه ثم لا يقوم على معارضة ما تقدم. ومما يدل على اختصاص هذا بالحج ما أخرجه مسلم عن عائشة أنه بلغها أن عبد الله ابن عمرو بن العاص يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن فقالت يا عجبا لابن عمرو بهذا يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن أفلا أمرهن أن يحلقن رءوسهن لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات. وقد جمع بعضهم بين الأحاديث بأن النقض مندوب فقط وجمع بعضهم بأن النقض يتعين إذا لم يصل الماء إلي أصول الشعر إلا بالنقض. قوله: "وندب هيأته". أقول: الواجب غسل البدن من قمة الرأس إلي قرار القدم فإذا قد فعل من وجب عليه الغسل ذلك فقد أتى بما عليه لأن ما فعله يصدق عليه مسمى الغسل لغة وشرعا سواء قدم غسل أسفل البدن على أعلاه أو العكس وسواء قدم الميامن على المياسر أو العكس. ولكنه ينبغي للمغتسل أن يكون اغتساله على الصفة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الهيئة المروية عنه في الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما المتضمنة تقديم أعضاء الوضوء ثم إفاضة الماء على الرأس ثم على الميامن ثم على المياسر وذلك سنة ثابتة غير واجبة. قوله: "وللجمعة بين فجرها وعصرها وإن لم تقم".

أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قاضية بالوجوب كحديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" [البخاري "2/858"، مسلم "5/846"، أبو دأود "341"، النسائي "3/93"، ابن ماجة "1089"] ، وحديث "إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل" [البخاري "877"، مسلم "844"، الترمذي "492"، النسائي"] ، ونحوهما كحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام" [البخاري "898"، مسلم "849"] . ولكنه ورد ما يدل على عدم الوجوب وهو ما أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن ماجه وابن خزيمة من حديث الحسن البصري عن سمرة مرفوعا: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" [أحمد "5/8، 11، 16، 22"، أبو دأود "354"، النسائي "1380"، الترمذي "497"] ، فإن دلالة الحديث على عدم الوجوب ظاهرة واضحة وقد أعل بما وقع من الخلاف في سماع الحسن من سمرة ولكنه قد حسنه الترمذي. ويقوي هذا الحديث أنه قد روي من حديث أبي هريرة وأنس وأبي سعيد وابن عباس وجابر كما حكى ذلك الدارقطني قال الترمذي وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأخرجه البيهقي من حديث ابن عباس وأنس وأبي سعيد وجابر. ويقويه أيضا ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم أتى في الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بين الجمعة إلي الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" [مسلم "27/857"، ابن ماجة "1090"، أبو دأود "1050"، الترمذي "498"، أحمد "2/424"] ، فإن اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الوضوء في هذا الحديث يدل على عدم وجوب الغسل فوجب تأويل حديث "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" بحمله على أن المراد بالوجوب تأكيد المشروعية جمعا بين الأحاديث وإن كان لفظ واجب لا يصرف عن معناه إلا إذا ورد ما يدل على صرفه كما فيما نحن بصدده لكن الجمع مقدم على الترجيح ولو كان بوجه بعيد. قال الترمذي في جامعه بعد أن أخرج حديث سمرة المذكور والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم اختاروا الغسل يوم الجمعة ورأوا أنه يجزىء الوضوء عن الغسل انتهى. واعلم أن حديث: "إذا جاء أحدكم إلي الجمعة فليغتسل" يدل على أن الغسل لصلاة الجمعة وأن من فعله لغيرها لم يظفر بالمشروعية سواء فعله في أول اليوم أو في وسطه أو في آخره ويؤيد هذا ما أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما مرفوعا "من أتى إلي الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل" زاد ابن خزيمة "ومن لم يأتها فليس عليه غسل" قوله: "وللعيدين ولو قبل الفجر ويصلي به وإلا أعاده قبلها". أقول: ليس في ذلك إلا حديث الفاكه بن سعد عند أحمد وابن ماجه والبزار "أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر" [أحمد "4/78"، ابن ماجة "1316"] ، وأخرج نحوه ابن

ماجه من حديث ابن عباس وأخرج نحوه أيضا البزار من حديث أبي رافع وفي أسانيدها ضعف ولكنه يقوي بعضها بعضا إلا أن جعل غسل العيدين للصلاة وغسل الجمعة لليوم من الرأي الجاري على عكس ما ينبغي وعلى خلاف ما يقتضيه الدليل. قوله: "ويوم عرفة". أقول: قد استدل على ذلك بما أخرجه ابن ماجه قال حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا يوسف بن خالد حدثنا أبو جعفر الخطمي عن عبد الرحمن بن عقبة بن الفاكهه بن سعد عن جده الفاكهه ابن سعد وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويم النحر ويوم عرفة وكان الفاكهه يأمر أهله بالغسل هذه الأيام انتهى. وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي وهو كذاب وضاع ونسبه ابن معين إلي الزندقة فالعجب من ابن ماجه كيف يروي في سننه عن مثل هذا. وأخرج في مسند الفردوس عن أبي هريرة مرفوعا: "الغسل في هذه الأيام واجب يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة" وإسناده مظلم. وذكر في جامع الأصول عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لإحرامه ولطوافه بالبيت ولوقوفه بعرفة وقال ذكره رزين انتهى. وهذه الأحاديث التي ذكرها لا يعرف أصلها ولا من خرجها فلا عمل عليها ولا تقوم بها الحجة. وأخرج مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخول مكة ولوقوفه بعرفة انتهى وهذا فعل صحأبي لا تقوم به حجة. قوله: "وليالي القدر". أقول: ليس على هذا أثارة من علم لا من كتاب ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قياس صحيح ولا من قول صحأبي وما قيل من قياسه على الجمعة إن كان لمجرد الشرف لزم القول باستحباب الغسل لكل ماله شرف من الأيام والليالي والأقوال والأفعال وهذا خرق للأجماع بل خرق للقواعد الشرعية بل تلاعب بالأحكام الدينية. وإن كان لجماع غير الشرف فلا ندري ما هو وقد استدل لذلك بعض من لا يفرق بين الغث والسمين بأنه صلى الله عليه وسلم كان يعتزل النساء في ليالي القدر ويغتسل وهذا لايصح بوجه من الوجوه. قوله: "ولدخول الحرم". أقول: لم يثبت مشروعية ذلك أصلا ولعل المصنف رحمه الله يريد بقوله لدخول الحرم فعل الإحرام فقد أخرج الترمذي وحسنه والدارقطني والبيهقي والطبراني من حديث زيد بن ثابت "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لأهلاله واغتسل" [الترمذي "830"] ،وفي إسناد الترمذي عبد الله بن يعقوب المدني لم يتكلم فيه بجرح ولا تعديل ولكن تحسين الترمذي له يدل على أنه قد عرف حاله

وقد تابعه الأسود بن عامر شإذان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه مثله والأسود ثقة من رجال الصحيحين. ويؤيد هذا الحديث ما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل ثم لبس ثيابه فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين ثم قعد على بعيره فلما استوى على البيداء أحرم بالحج وفي إسناده يعقوب بن عطاء بن أبي رياح المكي وقد ضعفه أحمد وقال أبو حاتم ليس بالقوي وقال ابن معين ضعيف لكنه وثقة ابن حيان. قوله: "ومكة" أقول: وجهه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر أنه كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل ويحدث "أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك" [البخاري "1573"، مسلم "227/ 1259"] . قال ابن المنذر الاغتسال عند دخول مكة مستحب عند جميع العلماء وليس في تركه عندهم فدية وقال أكثرهم يجزئ عنه الوضوء. قوله: "والكعبة والمدينة وقبر النبي صلى الله عليه وسلم" أقول: لا يخفاك أن الحكم بكون الشيء مندوبا هو حكم شرعي لا يستفاد من غير الشرع فإذا لم يكن في الشرع ما يفيد ذلك فهو من التقول على الله سبحانه بما لم يقل ومن التشريع للعباد بما لم يشرعه الله لهم ومن توسيع دائرة الشريعة المطهرة بمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة وليت شعري ما الحامل على هذا وما المقتضى له فإن القول بذلك ليس من الخطأ في الاجتهاد فإن هذا إنما يكون عند تعارض الأدلة وتخالف القرائن المقبولة ثم مجرد دعأوى القياس على ما في إثبات الأحكام الشرعية بغالب مسالكه من عوج لا يتم إلا بوجود أصل وفرع بعد تسليم الأصالة والفرعية ثم أمر جامع بينهما جمعا لا يدخله دفع ولا نقض ولا معارضة وما كان بدون ذلك فلا يعجز أحد أن يدعيه ويقول به ولو كان مثل ذلك سائغا لقال من شاء بما شاء وكيف شاء. ثم كان على المصنف أن يذكر من هذه التي ذكرها دخول بيت المقدس ودخول مسجد قباء ودخول قبور الأنبياء ودخول كل ما له شرف. وسبحان الله ما يفعل التسأهل في إثبات الأحكام الشرعية من الفواقر التي يبكى لها تارة ويضحك لها أخرى. قوله: "وبعد الحجامة والحمام". أقول: أما بعد الحجامة فقد استدل لذلك بما أخرجه أحمد وابو دأود والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع من الجمعة والجنابة والحجامة وغسل الميت" [أحمد "6/52"، أبو دأود "3160"، ولفظ أبي دأود "كان يغتسل" الخ وصححه ابن خزيمة وقال الدارقطني في إسناده مصعب بن شيبة وليس بالقوي ولا بالحافظ وقال النسائي

منكر الحديث ووثقه ابن معين وأخرج له مسلم وأهل السنن. وقد عورض هذا الحديث بما أخرجه الدارقطني من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يزد على غسل محاجمه وفي إسناده صالح بن مقاتل وليس بالقوي. والجمع ممكن بحمل الغسل على الندب ولا ينافي الندب الترك في بعض الأحوال. وأما الغسل بعد الحمام فليس عليه أثارة من علم ولا وجه لذكره في الأغسال المشروعة. قوله: "وغسل الميت". أقول: استدلوا على ذلك بما أخرجه أحمد وأهل السنن والبيهقي من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ" [أحمد "3/433، 454، 472"، أبو دأود "3162"، ابن ماجة "1413"، الترمذي "993"] . وفي إسناده صالح مولى التوأمة وفيه مقال ولكنه قد روي من طريق غيره فأخرجه البزار عن أبي هريرة من ثلاث طرق ولهذا حسنه الترمذي وصححه اب حبان وابن حزم وقال ابن دقيق العيد رجاله رجال مسلم وقال ابن حجر هو لكثرة طرقه اسوأ أحواله أن يكون حسنا وذكر المأوردي أن بعض أهل الحديث ذكر له مائة وعشرين طريقا. ويؤيد هذا الحديث الذي تقدم قبله أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يغتسل من أربع". وقد ورد ما يدل على أن هذا الأمر محمول على الندب كما أخرجه البيهقي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس عليكم في غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه إن ميتكم يموت طاهرا فحسبكم أن تغسلوا أيديكم"، وقد حسنه ابن حجر. وكما أخرجه الخطيب من حديث عمر كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل وقد صحح ابن حجر إسناده. وكما أخرجه الموطأ والبيهقي أن اسماء بنت عميس امرأة أبي بكر الصديق رضي الله عنه غسلته ثم قالت لمن حضر من المهاجرين إن هذا يوم شديد البرد فهل على من غسل فقالوا لا. قوله: "والإسلام". أقول: قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم بأن يغتسل لما أسلم كما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة وصححه ابن السكن ووقع منه صلى الله عليه وسلم الأمر لثمامة بأن يغتسل لما أسلم كما أخرجه أحمد وعبد الرزاق والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في الصحيحين وليس فيهما الأمر بالاغتسال ولكن فيهما أنه اغتسل والظاهر الوجوب ولا وجه لما تمسك به من قال بعدم الوجوب من أنه لو كان واجبا لأمر به صلى الله عليه وسلم من اسلم لأنا نقول قد كان هذا في حكم المعلوم عندهم ولهذا أن ثمامة لما أراد الإسلام ذهب فاغتسل كما في الصحيحين والحكم يثبت على الكل بأمر البعض ومن لم يعلم الأمر بذلك لكل من اسلم لا يكون عدم علمه حجة له.

باب التيمم

[باب التيمم فصل سببه تعذر استعمال الماء أو خوف سبيله أو تنجيسه أو ضرره أو ضرر المتوضيء من العطش أو غيره محترما أو مجحفا به أو فوت صلاة لا تقضى ولا بدل لها أو عدمه مع الطلب إلي آخر الوقت إن جوز إدراكه والصلاة قبل خروجه وأمن على نفسه وماله المجحف مع السؤال وإلا أعاد إن انكشف وجوده. ويجب شراؤه بما لا يجحف وقبول هبته وطلبها حيث لا منة لا ثمنه. والناسي للماء كالعادم] قوله: فصل: "سببه تعذر استعمال الماء". أقول: تعذر استعمال الماء كعدمه لأن وجوده مع تعذر استعماله لا يفيد شيئا فالواجد له مع تعذر استعماله غير واجد لماء يمكنه التطهر به فهو داخل تحت قوله تعالي: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة 6] ، إذ ليس المراد وجود مجرد ذات الماء ولو في قعر بئر لا يمكن الوصول إليه فإنه لا يقول بذلك أحد. ولا فرق بين أن يكون تعذر استعمال الماء لمانع في نفس الماء أو لمانع في المكلف فإن ذلك بمنزلة عدم الماء. قوله: "أو خوف سبيله". أقول: إذا خشي الضرر على نفسه أو ماله فقد جعل الله له من استعمال ذلك الماء فرجا ومخرجا فالدين يسر والشريعة سمحة سهلة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، و "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [مسلم "1337"، النسائي "5/110، 111"] . قوله: "أو تنجيسه". أقول: إذا كان استعماله للماء على تقدير يوجب تنجيسه حتى يخرج بذلك عن كونه طهورا فليست هذه صورة مستقلة ولا هذا سببا من أسباب التيمم مستقلا بل هو داخل تحت قوله تعذر استعمال الماء لأن هذا قد تعذر عليه استعمال الماء على الوجه المجزيء فوجود ذلك الماء كعدمه. قوله: "أو ضرره" أقول: إذا كان استعمال الماء يحدث للمتوضيء علة يحصل بها الضرر عليه كان ذلك موجبا لترك استعمال الماء والعدول إلي التيمم. أخرج أبو دأود وابن ماجه والدارقطني من حديث جابر قال خرجنا في سفر وأصاب رجلا

منا حجر فشجه في رأسه ثم أحتلم فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل تجدون له رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده" [أبو دأود "336"، ابن ماجة "3"] ، وقد تفرد به الزبير بن حريق وليس بالقوي وقد صححه ابن السكن وله طريق أخرى من حديث ابن عباس. ومما يدل على جواز التيمم لخوف الضرر حديث عمرو بن العاص أنه احتلم في ليله باردة فتيمم ثم بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال ذكرت قول الله عزوجل {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، فضحك صلى الله عليه وسلم ولم يقل له شيئا وهو حديث صحيح [أحمد"4/203". قوله: "أو ضرر المتوضيء من العطش". أقول: لا وجه لأفراد هذا بالذكر فإن خشية الضرر يشمل قوله أو ضرره وقوله أو ضرر المتوضيء وإذا عرفت أن تعذر استعمال الماء أو خوف تنجيسه يدخلان تحت قوله أو عدمه فكان يغنيه عن ذكر هذين السببين ما سيذكره من سببية عدم الماء لما قدمنا وعرفت أن خشية الضرر يغنى عن الضررين اللذين جعلهما سببين بل ويغني عن قوله أو خوف سبيله لأنه إذا كأن يحصل بالخوف ضرر كان مسوغا للتيمم وإلا فلا فكان يكفيه أن يقول وسببه عدم الماء أو خشية الضرر فإن الاقتصار على هذين السببين يقوم مقام الستة الأسباب. وإذا أراد زيادة الأيضاح قال سببه عدم الماء أو نحوه أو خشية الضرر. ويدخل أيضا تحت خشية الضرر قوله أو مجحفا به فإن الإحجاف ضرر عظيم ويدخل أيضا تحت عدم الماء قوله: أو فوت صلاة لا تقضى ولا بدل لها لأن وجود الماء في تلك الحال كعدمه لعدم الانتفاع به فرجعت هذه الاسباب التي ذكرها كلها إلي سببين. واعلم أن كون فوت الصلاة المذكورة سببا من أسباب التيمم لا دليل عليه بخصوصه لكن إذا نظرنا إلي قوله تعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" كان ذلك مسوغا للتيميم عند خشية فوت الصلاة بخروج وقتها سواء كانت تقضى أو لا تقضى وسواء كان لها بدل أو لا بدل لها ولا سيما مع قوله سبحانه: {إذا قُمْتُمْ إلي الصَّلاةِ} ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43، المائدة: 6] . ويمكن أن يقال إن الله سبحانه لم يتعبد المكلف بالإتيان بالصلاة المفروضة إلا بشرطها المعتد وإذا فاته الأداء وجب عليه القضاء ولا سيما إذا لم يتركها إلي ذلك الوقت الذي خشى قوتها فيه باستعمال الماء اختيارا وتعمدا كالنائم والساهي وأما إذا كانت تلك الصلاة لا تقضى ولا بدل لها فيقال لا يجب عليه الدخول فيها مع وجود الماء إلا بعد أن يأتى بالوضوء فإذا ضاق الوقت عن ذلك فلا وجوب عليه في الصلاة الواجبة كصلاة الجنازة ولا استحباب له في

غير تلك الصلاة بالوضوء فهو لا يستطيع فقد عمل بقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". قوله: "أو عدمه مع الطلب إلي آخر الوقت". أقول: ظاهر الآية الكريمة وهي قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو عَلَى سَفَرٍ أو جَاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أو لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] ، أن عدم وجود الماء قيد للمرض والسفر والمجىء من الغائط والملامسة على ما هو الراجح من أن القيد الواقع بعد جمل يعود إلي جميعها ولا يختص ببعضها إلا بدليل ولكن لما كان السبب الموجب للطهارة الصغرى هو المجىء من الغائط وما في معناه والموجب للطهارة الكبرى هو الملامسة للنساء وما في معناه من غير فرق بين مريض ومسافر وحائض كان ذلك دليلا على أن حرف التخيير في قوله: {أو جَاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بمعنى الوأو وقد ورد ذلك كثيرا في لغة العرب وذهب إليه جماعة من أئمة العربية. فيكون معنى الآية على هذا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاد أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فكان الحاصل من هذا أن المريض الذي حصل له أحد سببي الطهارة وهي المجىء من الغائط أو الملامسة لا يتيمم إلا عند عدم الماء وكذلك المسافر. لكنه قد ورد ما يدل على أن المرض سبب مستقل لجواز التيمم وإن كان الماء موجودا لما في حديث صاحب الشجة المتقدم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم" الخ ونحوه فيكون قيد عدم وجود الماء راجعا إلي المسافر وهو مجمع عليه أعني كون المسافر لا يتيمم إلا إذا لم يجد الماء ويدل عليه قصة عمرو بن العاص المتقدمة فإنه لما لم يغتسل مع وجود الماء أنكر عليه أصحابه ولم يقرره صلى الله عليه وسلم إلا حيث ذكر ما يدل على أنه خشى الضرر على نفسه واستدل بقوله تعالي: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] . ويدل على ذلك أن رخصة التيمم نزلت في السفر لما أقاموا لطلب عقد عائشة كما في الصحيحين وغيرهما وفيه أنها قالت: "وليسوا على ماء وليس معهم ماء" [البخاري "1/334"، مسلم "367"، أبي دأود "317"، النسائي "310"] ، الحديث. فإن قلت إذا كان القيد المذكور في الآية راجعا إلي المسافر فمإذا يكون في الصحيح الحاضر؟. قلت لم يكن في الآية تعرض لذلك لما قررناه لكنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تيمم في الحضر كما في الصحيحين وغيرهما ووردت الأدلة الدالة على مشروعية التيمم سواء كان حاضرا أو مسافرا صحيحا أو مريضا كما في حديث "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو إلي عشر سنين" [أبو دأود "332 و 333"، النسائي 1/171"، الترمذي "124"، أحمد "5/146، 155"] ، أخرجه

أأهل السنن وغيرهم من حديث أبي ذر وصححه أبو حاتم والحاكم وابن حيان وابن السكن وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وقد أخرجه مسلم أيضا وروي من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح. وكما في حديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" [البخاري "335، 438، 3124"، مسلم "521"] ، وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ لمسلم "وتربتها طهورا" [مسلم "4/522"، أحمد "5/383"] ، وقد ثبت اعتبار عدم الماء في السفر بالآية المذكورة فاعتباره في الحضر ثابت بفحوى الخطاب فإن السفر مطنة المشقة والتعب ولهذا شرع الله له قصر الصلاة وترك الصيام مع كون المسافر في الغالب غير عارف بمواطن الماء كما يعرفها الحاضر في وطنه وبلد إقامته. وأما إيجاب الطلب إلي آخر الوقت فلم يدل عليه دليل لا من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع. فإن قلت فما المعتبر في عدم وجود الماء؟. قلت إذا قام المصلى إلي الصلاة ولم يكن عنده ماء ولا كان قريبا منه يمكنه إدراكه ويصلي الصلاة لوقتها جاز له التيمم لأن الله سبحانه وتعالي ذكر القيام إلي الصلاة فقال: {إذا قُمْتُمْ إلي الصَّلاةِ} [المائد: 6] ثم ذكر بعد ذلك رخصة التيمم مع عدم وجود الماء فالمعتبر عدم حضور الماء عند القيام للصلاة وعدم علم المصلي بوجوده في المواضع القريبة منه وحد القرب أن يمكنه الوصول إلي الماء والتطهر به ويصلي الصلاة لوقتها فمن كان هكذا فهو واجد ومن لم يكن هكذا فهو عادم. ويدل لهذا حديث أبي سعيد قال خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعادا أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك" وقال الذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" [أبو دأود "338"، النسائي "433 – 434"] ، أخرجه أبو دأود والنسائي. وهذا الحديث يرد على أن من أوجب الإعادة إذا وجد الماء في الوقت وما ذكره من أنه يجب عليه شراء الماء وقبول هبته فلا بأس بذلك لم أراد أكمل الطهارتين وأما أنه يجب وجوبا شرعيا فلا دليل عليه وإذا لم يجب قبول الهبة فكيف يجب الطلب لها فإن الظاهر تحريم السؤال على كل حال ولهذا عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا حتى كان يسقط سوط أحدهم وهو على راحلته فينزل له ولا يسأل غيره أن ينأوله وذلك ثابت في الصحيح. وما ذكره المصنف رحمه الله من أن الناسي للماء كالعادم فهو صواب لرفع الخطاب عن الناسي وعدم المؤاخذة له بنسيانه ولا يكلف الإنسان بما لا يعلمه فإذا ذكر بعد فعل الصلاة بالتيمم فقد أجزأته صلاته ولا إعادة عليه كما تقدم في العادم.

[فصل وإنما يتيمم بتراب مباح طاهر منبت يعلق باليد لم يشبه مستعمل أو نحوه كما مر. وفروضه التسمية كالوضوء ومقارنة أولة بنية معينة فلا يتبع الفرض إلا نفله أو ما يترتب على أدائه كالوتر أو شرطه كالخطبة وضرب التراب باليدين ثم مسح الوجه مستكملا كالوضوء ثم أخرى لليدين ثم مسحهما مرتبا كالوضوء ويكفي الراحة الضرب. وندب ثلاثا وهيأته] . قوله: "فصل وإنما يتيمم بتراب" أقول: استدلوا لذلك بقوله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قالوا الصعيد الطيب هو التراب وهذا هو مسلم فإنه قال في المصباح إن الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره قال الزجاج لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في ذلك انتهى وحكى في الكشاف عن الزجاج مثل ذلك. واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا" [مسلم "4/522"] ، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره. ويجاب عنه بأنه من التخصيص بموافق العام فإن مفهوم اللقب لا يخصص به على ما ذهب إليه الجمهور ولكنه يقوى هذا قوله تعالي: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، فإنه لا يتيسر المسح ببعض الحجر ولا ببعض الشجر فتعين أن يكون الممسوح به ترابا. ولا يعارض هذا تيممه صلى الله عليه وسلم من الحائط فإنه لم يرو أنه كان معمورا من الحجر بل الظاهر أنه معمور من الطين وإذا كان كذلك فالضرب فيه لا يبعد ان يعلق باليد من تربته ما له أثر يمسح به ولا سيما وقد أخرج الشافعي أنه حته أي الحائط الذي تيمم منه بعصا وقد أخرج هذه الزيادة البيهقي من طريق الشافعي ثم قال وفي إسنادها يعني هذه الزيادة إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي عن أبي الحويرث وهو متكلم فيهما عن الأعرج عن أبي الصمة وهو يعني الأعرج لم يسمع منه. ومما يعين التراب ويفيد أنه المراد أن جماعة من أهل اللغة كصاحب القاموس وغيره فسروا الصعيد بالتراب أو بما صعد على وجه الأرض فجعلوا التراب أحد معنيي الصعيد. والروايات المصرحة بالتراب هي معينة لأحد معنيي الصعيد. ثم قد ورد ذكر التراب في غير حديث فأخرج أحمد والبيهقي من حديث على مرفوعا بلفظ "وجعل التراب لي طهورا" [أحمد "1/98"] ، وقد حسن إسناده في مجمع الزوائد وكذلك الحافظ ابن حجر في الفتح وصححه السيوطي. وقد كان التيمم في زمن النبوة بالتراب لا يعرف غير ذلك فالتعويل على ما هو محتمل من اللفظ لا ينبغي لمصنف.

قوله: "مباح" أقول: استدلوا على ذلك بقوله سبحانه: {صَعِيداً طَيِّباً} [المائدة: 6] ، وأجيب بأن الطيب المذكور مشترك بين معنيي الطهارة عن النجاسة والحل والأليق بالمقام المعنى الأول لا الثاني وأولى من هذا الجواب أن يقال المعنى الحقيقي للطيب هو الطاهر وأما الحلال فمجاز له لا حقيقة كما يفيد ذلك ما ذكره الزمخشري في أساسه. ولكنه يغني عن الاستدلال بالآية ما ورد في الكتاب والسنة من تحريم ما ليس بحلال فلا يحتاج إلي الاستدلال بدليل آخر فالآية قد دلت على اعتبار كون التراب طاهرا وأدلة تحريم ما للغير قد دلت على اعتبار كون التراب مباحا حلالا. قوله: "منبت يعلق باليد". أقول: أما كونه منبتا فلم يدل على ذلك دليل أصلا بل المراد ما يصدق عليه اسم التراب وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه تيمم من الحائط وصح عنه أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا". فكل تراب يحصل به مقصود التيمم يرفع الحدث وأما ما روي عن ابن عباس أنه قال أطيب الصعيد تراب الحرث كما أخرجه عنه البيهقي وغيره فلم يشترط القرآن ولا السنة أطيب الصعيد ولا يستلزم كون أطيب الصعيد تراب الحرث أنه لا يجزىء في التيمم إلا هو وغايته أن التيمم به أحب من غيره لكونه الأطيب وقد دل أفعل التفضيل أن غيره طيب فحصل به مقصود التيمم وقد ثبت أن المدينة سبخة وقد كانوا يتيممون منها ولم ينقل أنهم طلبوا ترابا للتيمم وهكذا كانوا يتيممون عند حضور وقت الصلاة مع عدم الماء بما يجدونه من التراب. وأما اشتراط كون التراب يعلق باليد فوجهه قوله سبحانه وتعالي: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ، وقد قدمنا ذلك. وأما اشتراط كونه لم يشبه مستعمل فليس على عدم كون المستعمل طهورا دليل صحيح لا في الماء ولا في التراب وقد أوضحنا ذلك في الوضوء فليرجع إليه. قوله: "وفروضه التسمية ومقارنة أوله بنية معينة". أقول: الكلام في التسمية والنية هنا كالكلام في الوضوء وأما كون النية هنا لا بد أن تكون معينة وأنه لا يتبع الفرض إلا نفله أو شرطه فمبنى على أنه لا يجوز بالتيمم إلا فريضة واحدة وأنه يبطل بالفراغ منها واستدلوا على ذلك بما روى عن ابن عباس أنه قال من السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا مكتوبة ثم يتيمم للأخرى كما أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده الحسن بن عمارة وهو متروك مجمع على تركه وقد روى عن غيره نحو ذلك من قوله غير مرفوع منها عن علي وفي إسناده ضعيفان وهما الحارث الأعور والحاج ابن أرطأة ومنها عن عمرو بن العاص وابن عمر ولا يقوم شيء من ذلك حجة. والعجب ممن قال إنه ينجبر ما فيها بالإجماع فإن المرفوع باطل والموقوف لا حجة فيه.

فالحق أن يستباح بالتيمم ما يستباح بالوضوء وأنه طهارة جعلها الله سبحانه بدلا عن الوضوء عند عدم الماء وللبدل حكم المبدل إلا ما خصه الدليل ولم يكن هذا مما خصه الدليل. قوله: "وضرب التراب باليدين". أقول: قد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وعلمه غيره كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنما يكفيك" وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه. [البخاري "338"، مسلم "112/368"، أبودأود "322"، النسائي "312و316"، ابن ماجة "569"] . والحاصل أن جميع الأحاديث الصحيحة ليس فيها إلا ضربة واحدة للوجه والكفين فقط وجميع ما ورد في الضربتين أو كون المسح إلي المرفقين لا يخلو من ضعف يسقط به عن درجة الاعتبار ولا يصلح للعمل عليه حتى يقال إنه مشتمل على زيادة والزيادة يجب قبولها. فالواجب الاقتصار على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وما ذكره المصنف رحمه الله من انه يجب مسح الوجه مستكملا كالوضوء إن أراد أنه يجب تمييم الوجه بالمسح فذلك متعين وإن أراد أنه يجب تخليل الشعر فليس ذلك من شأن المسح ولا لتخليل الشعر مدخلية فيه بل المراد التعبد بمسح الشعر ما كان يجب غسله بالماء ويصيب ما أصاب ويخطىء ما أخطأ. وكذا ما ذكره في مسح اليدين إن أراد به مجرد إيقاع المسح عليهما فلا بد من ذلك ولكن إلي الرسغين إلي المرفقين وإن أراد التخليل ونحوه فليس ذلك من شأن المسح ولا هو داخل في مفهومه. وأما ما ذكره من أنها بندب هيأة التيمم فلا هيئة له إلا ما اشتمل عليه حديث عمار الذي ذكرناه. [فصل: وإنما يتيمم للخمس آخر وقتها فيتحرى للظهر بقية تسع العصر وتيممها وكذلك سائرها وللمقضية بقية تسع المؤداة ولا يضر المتحري بقاء الوقت. وتبطل ما خرج وقتها قبل فراغها فتقضى] . قوله: فصل: "وإنما يتيمم للخمس آخر وقتها". أقول: الأوقات المضروبة للصلاة لا تختص بطهارة دون طهارة فطهارة التراب كطهارة الماء في أن كل واحدة منهما تؤدى بها الصلاة في الوقت المضروب لها ومن زعم أن ذلك يختص بالصلاة المؤداة بالطهارة بالماء فعليه الدليل ولا دليل أصلا. ثم قد ورد الترغيب في تأدية الصلاة لأول وقتها بأحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما حتى وقع التصريح منه صلى الله عليه وسلم "بأن أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" فمن زعم أن ذلك يختص

بالصلاة المؤداة بالطهارة بالماء فعليه الدليل ولا دليل أصلا ثم قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتيمم الذي وجد الماء بعد أن فرغ من صلاته ولم يعد الطهارة ولا الصلاة إنه قد أصاب السنة والخير كل الخير في إصابة السنة فلو كان التيمم آخر الوقت واجبا مفترضا لم يكن مصيبا للسنة لأنه صلى بالتيمم تلك الصلاة لوقتها ولم يؤخرها إلي آخر الوقت وقد وجد الماء في الوقت ولم يعد. والحاصل أنه لا دليل على ما ذكره في هذا الفصل بل هو خلاف الدليل وأعجب من هذا قوله في آخر الفصل وتبطل ما خرج وقتها قبل فراغها فتقضى فإن الأحاديث الصحيحة ناطقة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها فأي دليل دل على أن هذه الصلاة المؤداة بالتيمم لا تدرك بإدراك ركعة منها ولكن المصنف رحمه الله لما ظن أن خروج الوقت من نواقض التيمم وقع في هذا المضيق وليس على ذلك أثارة من علم بل ليس عليه أثارة من رأي مستقيم فلا رواية ولا رأي يوقعان عباد الله في مثل هذه التكاليف الشديدة وهذا الحرج العظيم اللهم غفرا. [فصل: ومن وجد ماء لا يكفيه قدم متنجس بدنه ثم ثوبه ثم الحدث الأكبر أينما بلغ في غير أعضاء التيمم وتيمم للصلاة ثم الحدث الأصغر. فإن كفى المضمضة وأعضاء التيمم فمتوضىء وإلا أثرها ويمم الباقي وهو متيمم وكذا لو لم يكف النجس ولا غسل عليه. ومن يضر الماء جميع بدنه تيمم للصلاة مرة ولو جنبا فإن سلمت كل أعضاء التيمم وضأها مرتين بنيتهما. وهو كالمتوضىء حتى يزول عذره وإلا غسل ما أمكن منها بنية الجنابة ووضأه للصلاة ويمم الباقي وهو متيمم فيعيد غسل ما بعد الميمم معه ولا يمسح ولا يحل جبيرة خشي من حلها ضررا أو سيلان دم] . قوله: فصل: "ومن وجد ماء لا يكفيه قدم متنجس بدنه". أقول: لعل وجه ذلك تحريم التلوث بالنجاسة وورود الوعيد الشديد على ذلك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ في غسله بإزالة النجاسة من فرجيه وكذلك جادت الشريعة بإزالة أثر الخارج من الفرجين بالماء أو الأحجار قبل الوضوء. ولعل الوجه في تقديم غسل متنجس الثوب على رفع الحدثين أن لهما بدلا وهو التيمم ولا بدل لستر العورة. ولعل وجه تقديم الحدث الأكبر عند من يقول إن الطهارة الصغرى تدخل تحت الطهارة

الكبرى أن الغسل يغني عن الوضوء وأما من يقول بذلك فوجهه أن الحدث الأكبر مانع من رفع الحدث الأصغر ولكن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أنه كان يقدم الوضوء على الغسل إلا غسل الرجلين فيؤخره إلي بعد الفراغ من الغسل وقد تقدم ذلك. ويمكن أن يقال إن هذا لا يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن النزاع إنما هو حيث وجد من الماء ما لا يكفي لرفع الحدثين وفعله صلى الله عليه وسلم إنما كان مع وجود ما يكفي لرفع الحدثين وقد يقال إن التأثير مع السعة ووجود ما يكفي لرفع الحدثين يدل على تأثير ما أثره مع عدم وجود ما يكفي لهما وفيه ما فيه قوله: "فإن كفى المضمضة وأعضاء التيمم فمتوضىء" الخ. أقول: قد جعل الله عز وجل رخصة التيمم ثابتة لمن لم يجد ماء يتوضأ به فمن وجد ماء يتوضأ به الوضوء الذي ورد به الشرع ويستوفى غسل أعضاء الوضوء فلا يحل له العدول إلي رخصة التيمم وإذا وجد من الماء ما يكفي بعض أعضاء الوضوء دون البعض فهو في حكم العادم لما يكفي للوضوء ولا حكم لوجود ما يكفي لبعض الوضوء فإن فاعل ذلك لا يسمى متوضأ ولا يصدق عليه أنه قد فعل ما أمره الله من الوضوء فالواجب عليه ترك غسل ذلك البعض الذي لم يجد من الماء إلا ما يكفيه ويعدل إلي التيمم ولم يرد ما يدل على خلاف هذا وهكذا من وجد ما يكفيه لغسل بعض بدنه عدل إلي التيمم وتيمم مرة واحدة وصلى ما شاء حتى يجد الماء أو يحدث ولا يغسل بعض بدنه ويترك بعضا. وهكذا من يضر الماء بدنه إذا غسل به فإنه يترك الغسل بالماء ولا يغسل شيئا منه ويعدل إلي التيمم فيتيمم مرة واحدة ويصلي ما شاء حتى يحدث أو يجد الماء وإذا وجد الماء في الوقت فليس عليه إعادة ولا غسل لأن الجنابة قد ارتفعت وكذا إذا وجده بعد الوقت فلا يغتسل لهذه الجنابة التي قد تيمم لها لأنها قد ارتفعت بالتيمم. والدليل يدل على ما ذكرناه كحديث "والتراب كافيك ولو إلي عشر حجج" وحديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". وأما ما ورد في بعض الروايات بلفظ: "إذا وجد الماء فليمسه بشرته" فليس المراد به إلا أنه إذا وجد الماء اغتسل لما يتجدد عليه من الموجبات بعد وجوده لا لما مضى فإنه قد ارتفع ولو سلمنا الاحتمال فهو لا يصلح للاستدلال. وأيضا قد ورد في هذه الرواية "فإن ذلك خير لك" يدل وهذا يدل على عدم وجوب الغسل للحدث الماضي حيث قد فعل التيمم المشروع. فإن قيل قد أخرج البخاري في صحيحه في باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء من حديث عمران بن حصين ما حاصله أنه نودي بالصلاة فصلى صلى الله عليه وسلم بالناس فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصل مع القوم فقال: "ما منعك يا فلان أن تصلي مع القوم" فقال: أصابتني جنابة ولا ماء قال: "عليك بالصعيد فإنه يكفيك" ثم سار صلى الله عليه وسلم فلما

وجد الماء أعطى الرجل الذي أصابته الجنابة إناء من ماء فقال: "اذهب فأفرغه عليك" وهذا ظاهر في أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها. وأخرجه البيهقي عن عمران بن حصين بلفظ: فقال للرجل: "ما منعك أن تصلي؟ " قال: يا رسول الله أصابتني جنابة قال: "فتيمم بالصعيد فإذا فرغت فصل فإذا أدركت الماء فاغتسل" وهذا أأصرح من الحديث الذي قبله في أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها. وفي إسناده أحمد بن عبد الجبار العطاردي قد ضعفه جماعة ولكنه قال الذهبي في المغني حديثة مستقيم انتهى والحديث الأول يشهد له ويقويه. وأخرج الطبراني في الكبير حديث أسلع خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصابته جنابة فأمره صلى الله عليه وسلم بالتيمم فتيمم ثم مروا بماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسلع! هذا أمس هذا جلدك" وهو كالحديث الأول في الدلالة على أن الغسل للجنابة التي قد تيمم لها. قلت ليس في الحدثين ما يفيد ان الأمر بالغسل للجنابة التي قد تيمم لها كما ذكرت ولو كان كذلك لأمره بإعادة الصلاة التي قد فعلها بالتيمم ولم يثبت ذلك وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ولو سلمنا ما ذكرت لكان معارضا لحديث عمرو بن العاص الصحيح أنه احتلم فصلى بأصحابه بالتيمم فشكوه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فقال سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، فقره على ذلك ولم يأمره بالغسل. وأيضا قياس الجنابة على الوضوء يدل على عدم وجوب غسل الجنابة بعد التيمم لها لما تقدم في حديث الرجلين وقوله صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد: "أصبت السنة" فإذا قوي التيمم على رفع الحدث الأصغر قوي على رفع الحدث الأكبر لاشتراكهما في منع كل واحد منهما من الصلاة. ويؤيد هذا ما تقدم من العمومات الصحيحة ومع التعارض يرجع إلي الأصل وهو أن التيمم طهارة شرعها الله عوضا عن الماء فيرتفع بها ما يرتفع بالماء. وقد يجمع بين الأدلة بأن أمره صلى الله عليه وسلم للجنب بأن يغتسل عند وجود الماء ليس لرفع الجنابة فإنها قد ارتفعت بالتيمم بل لغسل ما يتلوث به البدن من آثار الجنابة لا سيما المحتلم فإنه لا بد أن يصيب المني بعض بدنه في الغالب. [فصل: ولعادم الماء في الميل أن يتيمم لقراءة ولبث في المسجد مقدرين ونفل كذلك وإن كثر قيل ويقرأ بينهما ولذي السبب عند وجوده والحائض للوطء وتكرره للتكرار] . قوله: فصل: "ولعادم الماء في الميل أن يتيمم لقراءة ولبث في المسجد مقدرين".

أقول: قد عرفناك أن التيمم يرفع الحدث أما مطلقا أو إلي وقت وجود الماء فإذا تيمم لصلاة جاز له أن يفعل ما يفعله المتوضىء حتى يحدث وهكذا إذا تيمم لغير صلاة فإنه قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم تيمم لرد السلام وهو مجرد ذكر من الأذكار فالتيمم للقراءة ولدخول المسجد أولى وأحق فإذا تيمم لشيء من ذلك بعينه فقد ارتفع الحدث بذلك التيمم فيجوز له أن يفعل غير ما سماه حتى يحدث لأنه قد صار في حكم المتوضىء وقد قدمنا في الوضوء ما يزيدك في هذا بصيرة وليس هذا الحكم مختصا بعادم الماء بل هو ثابت لكل من يجوز له التيمم. وأما تقيدد الجواز بالعدم في الميل فهو مبني على ما تقدم من وجوب الطلب في الميل وقد قدمنا دفعه وهكذا لا وجه لقوله مقدرين لما عرفت من أن الحدث قد ارتفع ولا فائدة لذكره هنا للنفل ولذوات الأسباب فإنها صلوات يشرع لها التيمم كما شرع للصلوات الخمس. وما ذكره من أن الحائض تتيمم للوطء فذلك صواب لأن الله سبحانه يقول: {فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ، والتطهر يصدق على طهارة التراب عند عدم الماء كما يصدق على طهارة الماء. [فصل: وينتقض بالفراغ مما فعل له وبالاشتغال بغيره وبزوال العذر ووجود الماء قبل كمال الصلاة وبعده يعيد الصلاتين إن أدرك الأولى وركعة بعد الوضوء وإلا فالأخرى إن أدرك ركعة وبخروج الوقت ونواقض الوضوء] . قوله: فصل: "وينتقض بالفراغ مما فعل له" الخ. أقول: قد عرفناك غير مرة أن الطهارة بالتراب كالطهارة بالماء يفعل بها المتيمم ما يفعل بها المتطهر بالماء ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك لا من كتاب ولا من سنة ولا من رأي صحيح فلا ينتقض إلا بما تنتقض به الطهارة بالماء فدعوى انتقاضه بالفراغ مما فعل له ليس بشيء وكذلك دعوى انتقاضه بالاشتغال بغيره ليس عليه أثارة من علم. وأما دعوى انتقاضه بوجود الماء وإيجاب الأعادة للصلاة فدفع في وجه الدليل ورد لما هو الحق بالصدر والنحر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأن الذي لم يعد عند وجوب الماء قد أصاب السنة والخير كل الخير في إصابة السنة وليس وراء ذلك إلا البدعة. وأما قوله للذي أعاد: "لك الأجر مرتين" فذلك لكون الله سبحانه لا يضيع عمل عامل وقد تيمم وتوضأ وصلى مرتين ولا يستلزم ثبوت الأجر له إصابته فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت لمن أخطأ في اجتهاده أجرا فقال فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله

أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر" [البخاري "7352"، مسلم "1716"، أبو دأود "3574"، أبو دأود "3574"، ابن ماجة "2314"] ، فصرح بثبوت الأجر مع الخطأ في الاجتهاد. وهذا الذي أعاد الوضوء والصلاة قد أخطأ في اجتهاده وثبت له الأجر كما ثبت للحاكم المخطىء في اجتهاده. وأما دعوى انتقاض التيمم بخروج الوقت فلا أصل له يرجع إليه ولا دليل يدل عليه والصواب الاقتصار في هذا الفصل على قوله: "ونواقض الوضوء" وفيه ما يغني عن تكليف عباد الله ما لم يشرعه لهم بلا خلاف شرعه لهم فان هذا الكتاب وضعه المصنف رحمه الله لبيان ما ورد به الدليل لا لبيان القال والقيل.

باب الحيض

[باب الحيض هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص والنقاء المتوسط بينه جعل دلالة على أحكام وعلة في أخر. وأقله ثلاث وأكثره عشر وهي أقل الطهر ولا حد لأكثره ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة وقبل أقل الطهر وبعد أكثر الحيض وبعد الستين وحال الحمل. وتثبت العادة لمتغيرتها والمبتدأة بقرئين فإن اختلفا فيحكم بالأقل ويغيرها الثالث المخالف وتثبت بالرابع ثم كذلك] . قوله: باب الحيض: "هو الأذى الخارج من الرحم في وقت مخصوص". أقول: قد نظر المصنف رحمه الله في هذا الحد إلي ما وقع في القرآن من قوله عز وجل {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} [البقرة: 222] ، وإلي ما ذكره أهل اللغة. قال الأزهري والهروي وغيرهما الحيض جريان دم المرأة في أوقات معلومة من رحمها بعد بلوغها. وقد نوقش المصنف في هذا الحد بما يرد عليه فإن المراد التعريف بالوجه لا بالكنه. قوله: "وأقله ثلاث وأكثره عشر". أقول: لم يأت في تقدير أقل الحيض وأكثره ما يصلح للتمسك به بل جميع الوارد في ذلك أما موضوع أو ضعيف لمرة والذي ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تمكث إحداهن الليالي ذوات العدد لا تصلي"، وغاية ما ثبت في ذلك العدد ما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة قال الترمذي حسن صحيح وقال الترمذي عن أحمد والبخاري أنهما صححاه وكذلك نقل ابن المنذر عنهما من حديث حمنة بنت جحش قالت كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم

الحديث وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله كما تحيض النساء". فلو قيل إن أكثر الحيض سبعة أيام لكان لذلك وجه. قوله: "ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة". أقول: قد استدل على تعذره قبل دخول المرأة في التاسعة بالإجماع وكذلك استدل بالإجماع على تعذره قبل أقل الطهر بعد أكثر الحيض. وأما تعذره بعد الستين فاستدل عليه بأنه أكثر ما قيل في مدة الإياس فكان إجماعا. والحاصل أنه لا دليل على هذه الثلاث الحالات التي يتعذر عندها الحيض لا من كتاب ولا سنة وليس إلا مجرد الاستقراء وذلك أنه لم ينقل أن امرأة حاضت حيضا شرعيا قبل تسع سنين ولا بعد ستين سنة. وأما أقل الطهر بعد أكثر الحيض فلا خلاف في ذلك بين القائلين بتقدير مدة أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر وكل على أصله. وأما من لم يقل بذلك التقدير وجعل الاعتبار بصفات الدم لمن لم تتقرر عادتها فهو خارج عن هذا الإجماع المدعي. وأما الحالة الرابعة وهي حالة الحمل فهي محل الخلاف وقد استدل كل قائل لقوله بما لا يلزم خصمه وقد يقع لبعض النساء الحيض في أيام حملها ولكن القائل بأنها حالة تعذر لا يقول بأن ذلك حيض بل يجعله لفساد عرض للحامل في طبيعتها ولا يخفاك أنه إذا كان متصفا بصفات دم الحيض التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في دم الحيض "إنه أسود يعرف" [أبو دأود "286و304"، النسائي "1/123" و "1/185"] ، كان الظاهر مع من يقول إنه دم حيض وقد سمعنا في عصرنا بوقوع ذلك لكثير من النساء ولا يلزم من القول بأنه دم حيض أن تعتد بالحيض فإن الدليل الخاص قد دل على أن عدة الحامل بوضع الحمل ولا يلزم من ذلك أيضا أن لا يكون الحيض معرفا لخلو الرحم عن الحمل في الاستبراء لأنا نقول هو معرف إذا لم تظهر قرائن الحمل فإن ظهرت لم يكن معرفا لأن كونه معرفا قد عورض بشيء آخر. وهذه المسألة من المضائق لما يترتب عليها من ترك صلاة المرأة وصيامها على القول بأن ذلك حيض أو فعل الصلاة والصيام واعتدادها بذلك وعدم قضاء الصيام على القول بأنه ليس بحيض وليس في المقام من الأدلة الشرعية ما تسكن إليه النفس سكونا تاما. قوله: "وتثبت العادة لمتغيرتها" إلي آخره. أقول: استدلوا على ثبوت العادة بالقرائن بما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها" [أبو دأود "297"، الترمذي "126"، ابن ماجة"] . وقد تكلم في إسناد الحديث بما لا يوجب سقوطه عن درجة الاعتبار وله شواهد تقويه

قالوا فأمرها بالرجوع في العادة إلي أقرائها والثلاثة الأقراء وإن كانت أقل الجمع عند الجمهور لكن قالوا إن الثلاثة الأقراء غير معتبرة إجماعا فبقي قرآن. قلت ومما يدل على اعتبار العادة ما أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة أن أم حبيبة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم قالت عائشة فرأيت مركنها ملآن دما فقال لها رسول الله: "امكني قدر ما كانت حيضتك تحبسك ثم اغتسلي" [مسلم "65/334"، أحمد "6/187"، النسائي "1/121"، أبو دأود "279"] ، فهذا وما قبله يدلان على رجوع المستحاضة إلي العادة وأنها معتبرة وأما أنهما يدلان على أن العادة تثبت بقرائن فلا. لكن قد تقرر في كتب اللغة أن العادة مأخوذة من عاد إليه يعود إذا رجع فدل ذلك على أنه لا يقال عادة إلا لما تكرر وأقل التكرر يحصل بمرتين. [فصل: ولا حكم لما جاء وقت تعذره فأما وقت إمكانه فتحيض فإن انقطع لدون ثلاث صلت فإن تم طهرا قضت الفائت وإلا تحيضت ثم كذلك غالبا إلي العاشر فإن جأوزها فأما مبتدأة عملت بعادة قرائبها من قبل أبيها ثم أمها فإن اختلفن فبأقلهن طهرا وأكثرهن حيضا فإن عدمن أو كن مستحاضات فبأقل الطهر وأكثر الحيض. وأما معتادة فتجعل قدر عادتها حيضا والزائد طهرا إن أتاها لعادتها أو في غيرها وقد مطلها فيه أو لم يمطل وعادتها تتنقل وإلا فاستحاضه كله] . قوله: فصل: "ولا حكم لما جاء وقت تعذره" الخ. أقول: قد تقدم ما يفيد هذا وهو قوله ويتعذر قبل دخول المرأة في التاسعة إلخ وإذا كان الحيض متعذرا في تلك الحالات كان الخارج غير حيض وما كان غير حيض فلا تثبت له أحكام الحيض وهكذا لا فائدة لقوله فأما وقت إمكانه فتحيض لأن هذا الباب أعني باب الحيض إنما يراد منه ذكر أحكام ما جاء من الحيض في وقت إمكانه وذلك معلوم أنه حيض وله أحكام الحيض وهكذا لا يحتاج إلي قوله فإن انقطع لدون ثلاث صلت وما بعده لأن هذا قد عرف من قوله فيما سبق فصل وأقله ثلاث. قوله: "فإن جأوزها فأما مبتدأة عملت بعادة قرائبها من قبل أبيها" الخ. أقول: استدلوا على ذلك بحديث حمنة الذي قدمنا ذكره وهو حديث صحيح وفيه "فتحيضي ستة ايام أو سبعة أيام في علم الله كما تحيض النساء". قالوا وقرابتها أحق من غيرهن برجوعها إلي عادتهن واعلم أنه قد ورد ما يدل على

الرجوع إلي عادة النساء كهذا الحديث وورد ما يدل على الرجوع إلي صفة الدم كحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كان دم حيض فإنه أسود يعرف فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق" أخرجه أبو دأود والنسائي [أبو دأود "304" و "286"، النسائي "1/123" و "1/185"] ، وصححه ابن حبان والحاكم وورد ما يدل على رجوع المرأة إلي عادة نفسها كحديث أم حبيبة المتقدم قريبا وفيه "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي". والجمع بين هذه الأحاديث ممكن بأن يقال إن كانت المرأة مبتدأة أو ناسية لوقتها وعددها فإنها ترجع إلي صفة الدم فإن كان بتلك الصفة التي وصفها به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو دم حيض وإن كان على غير تلك الصفة فليس بحيض فإن لم يتميز لها وذلك بأن يخرج على صفات مختلفة أو على صفة ملتبسة رجعت إلي عادة النساء القرائب فإن اختلفت عادتهن فالاعتبار بالغالب منهن فإن لم يوجد غالب تحيضت ستا أو سبعا كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما إذا كانت غير مبتدأة بل معتادة عارفة لوقتها وعددها رجعت إلي عادتها المعروفة فإن جأوز عادتها رجعت إلي التمييز بصفة الدم فإن التبس عليها قدر عادتها لعارض عرض لها والتبس عليها التمييز بصفة الدم رجعت إلي عادة النساء من قرائبها فإن اختلفن فكما تقدم في المبتدأة. وبهذا يرتفع الاشكال ويندفع ما كثر وطال من القيل والقال. [فصل: ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة والوطء في الفرج حتى تطهر وتغتسل أو تيمم للعذر وندب أو تعاهد نفسها بالتنظيف وفي أوقات الصلاة أو توضأ وتوجه وتذكر الله وعليها قضاء الصيام لا الصلاة] . قوله: فصل: "ويحرم بالحيض ما يحرم بالجنابة". أقول: قد تقدم في باب الغسل بيان ما يحرم بالجنابة فينبغي الرجوع إليه وقد يحرم بالحيض ما لم يحرم بالجنابة كالصيام فإنه يجوز للجنب أن يصبح صائما ويستمر على ذلك حتى يتطهر وسيأتي تحقيق البحث في الصيام بخلاف الحائض فإنه لا يصح صومها بحال. قوله: "والوطء في الفرج" الخ. أقول: هذا معلوم بنص القرآن الكريم قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ولا خلاف في تحريم وطء الحائض وقوله: "حتى تطهر" دل عليه قوله تعالي: {حَتَّى

يَطْهُرْنَ} وقوله: "وتغتسل" دل عليه قوله تعالي: {فَإذا تَطَهَّرْنَ} وقوله: "أو تيمم للعذر" قد قدمنا الكلام عليه. قوله: "وندب أن تتعاهد نفسها بالتنظيف". أقول: غسل النجاسة من البدن والثوب بعمومات القرآن كقوله تعالي: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 4 – 5] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّأبينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، وورد في السنة ما يؤيد ذلك ويؤكده والحائض من جملة من يشمله الخطاب وأما كونه يندب لها أن تتوضأ فليس على ذلك دليل والوضوء عبادة شرعية فلا يشرع لغير ذلك وأما كونها تذكر الله تعالي فذلك داخل تحت العمومات من الكتاب والسنة القاضية بمشروعية الذكر والحائض داخله تحت عمومات الخطاب ولكنها لا تقرأ القرآن كما تقدم الكلام على ذلك. قوله: "وعليها قضاء الصيام لا الصلاة" أقول: هذا معلوم بالأدلة الصحيحة وعليه كان العمل في عصر النبوة وما بعده وأجمع عليه سلف هذه الأمة وخلفها سابقها ولاحقها ولم يسمع عن أحد من علماء الإسلام في ذلك خلاف وأما الخوارج الذين هم كلاب النار فليس هم ممن يستحق أن يذكر خلافهم في مقابلة قول المسلمين أجمعين ولا هم ممن يخرج المسائل الإجماعية عن كونها إجماعية بخلافهم وما هذه بأول مخالفة منهم لقطعيات الشريعة والعجب ممن ينصب نفسه من أهل العلم للاستدلال لباطلهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع. [فصل: والمستحاضة كالحائض فيما علمته حيضا وكالطاهر فيما علمته طهرا ولا توطأ فيما جوزته حيضا وطهرا ولا تصلي بل تصوم أو جوزته انتهاء حيض وابتداء طهر لكن تغتسل لكل صلاة إن صلت وحيث تصلي توضأ لوقت كل صلاة كسلس البول ونحوه ولهما جمع التقديم والتأخير والمشاركة بوضوء واحد وينتقض بما عدا المطبق من النواقض وبدخول كل وقت اختيار أو مشاركة] . قوله: فصل: "والمستحاضة كالحائض" الخ. أقول: قد قدمنا لك قريبا ما يدفع تحير المستحاضة ويقطع عرق شكها ويدفع جميع وسوستها. وإذا عرفت ذلك حق معرفته علمت أنها لا تكون في بعض أحوالها مجوزة لكون دمها حيضا لكونه غير حيض لأنها إذا لم يحصل لها التمييز لصفة الدم رجعت إلي عادتها إن

كانت قد استقرت لها عادة أو إلي عادة النساء من قرائبها إن لم تكن قد استقرت لها عادة ومع الاختلاف ترجع إلي غالبهن ومع عدم الغالب تحيض ستا أو سبعا كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ فلا تكون متحيرة أبدا بل هي في استحاضتها على بيان من أمرها ووضوح من حالها. وبهذا تعرف الكلام على قوله: "ولا توطأ فيما جوزته حيضا وطهرا" إلخ وإذا تقرر لك هذا علمت أن إيجاب الغسل على المستحاضة لكل صلاة مبني على ثبوت اللبس عليها ولا لبس. وقد وردت أحاديث أكثرها في سنن أبي دأود في غسل المستحاضة وقد صرح جماعة من الحفاظ بانها لا تقوم بها الحجة وعلى فرض أن بعضها يشهد لبعض فهي لا تقوى على معارضة ما في الصحيحين وغيرهما من أمره صلى الله عليه وسلم لها بالغسل إذا أدبرت الحيضة فقط. والحاصل أن مثل هذا التكليف الشاق لا يجوز الثباته بغير حجة أوضح من الشمس فكيف يجوز إثباته بما هو ضعيف لا تقوم به حجة هذا على تقدير عدم وجود ما يعارضه فكيف وقد عارضه ما هو في الصحة في أعلى المراتب مع مطابقته لما بنيت عليه هذه الشريعة المباركة من التيسير وعدم التعسير والتبشير وعدم التنفير كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" [البخاري "4344 – 4345"، مسلم "71/1773"، أحمد "4/409"] ، وقال: "إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبة" [البخاري "39"، النسائي "8/121"و "8/122"] ، وقال: "بعثت بالشريعة السمحة السهلة". ومع هذا فإثبات الغسل عليها لكل صلاة أو للصلاتين مبني على التباس الأمر عليها وقد أرشدها الشارع إلي ما يرفعه ويدفعه كما قدمنا فإن أرادت أن تعذب نفسها بالشك والوسوسة فعلى نفسها براقش تجني لأنها مع تمييز دم الحيض من دم الاستحاضة لا تكون إلا حائضا أو غير حائض وعليها ما تستطيع ويدخل في وسعها من تطهير بدنها وثوبها من دم الاستحاضة ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وكما أنه ليس في إيجاب الغسل عليها لكل صلاة وللصلاتين ما تقوم به الحجة كذلك لا دليل تقوم به الحجة في إيجاب الوضوء عليها لكل صلاة. وأما الحكم عليها بأنه ينتقض وضوءها بدخول كل وقت اختيار أو مشاركة فمن التسأهل في إثبات الأحكام الشرعية لمجرد الخيالات المختلة والآراء المعتلة. [فصل: والنفاس كالحيض في جميع ما مر وإنما يكون بوضع كل الحمل متخلقا عقيبه دم ولا حد لأقله وأكثره أربعون فإن جأوزها فكالحيض جأوز العشر ولا يعتبر الدم في انقضاء العدة به] .

قوله: "فصل والنفاس كالحيض" الخ. أقول: هذا صحيح وأما اشتراك أن يكون متخلقا عقيبه دم فإن كان النفاس معنى شرعي يفيد هذا الاشتراط فذاك وإن لم يكن له معنى شرعي فالمرجع لغة العرب فإن ثبت فيها ما يدل على ذلك كان لهذا الاشتراط وجه وإلا فلا. قوله: "وأكثره أربعون يوما" أقول: قد تعاضدت الأحاديث الواردة بالأربعين وفي بعضها "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت للنساء في نفاسهن أربعين يوما" أخرجه الحاكم وصححه وأخرجه البيهقي من طريق أخرى. وقد ذكرنا في شرح المنتقى ما ورد في الباب وأما تضعيف من ضعف حديث أم سلمة بمسة الأزدية والقول بأنها مجهولة فلا نسلم جهالة عينها فقد روي عنها كثير بن زياد والحكم بن عتيبة وزيد بن علي بن الحسين بن علي وغيرهم وقد أثنى على حديثها البخاري وصحح الحاكم إسناده فالقول بأن أكثر أيام النفاس أربعون يوما هو أعدل الأقوال وأحسنها فإذا رأت الطهر قبل ذلك طهرت وإن لم تره فهي نفساء حتى تنقضي الأربعون ثم لا حكم لما خرج من الدم بعد ذلك.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة مدخل ... كتاب الصلاة [فصل يشرط في وجوبها عقل وإسلام وبلوغ باحتلام أو إنبات أو مضي خمس عشرة سنة أو حبل أو حيض والحكم لأولهما. ويجبر الرق وابن العشر عليها ولو بالضرب كالتأديب] . قوله: فصل: "يشترط في وجوبها عقل". أقول: للإجماع على أن الصلاة وغيرها من الحكام التكليفية لا تجب على المجنون وحديث "رفع القلم عن ثلاث" [أبو دأود "4398"، النسائي "3432"، ابن ماجة "2041"] ، قد روى من طرق يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فمن لا يكون عاقلا لا يتوجه إليه خطاب الشرع ما دام غير عاقل فلا يجب عليه الصلاة فجعل العقل شرطا للوجوب صحيح وهو مطابق لما ذكره أهل الأصول في حقيقة الشرط أنه ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده لأن الصلاة لا توجد بوجود نفس العقل وإن وجد مجرد طلبها منه وإيجابها عليه وهي تنتفي

بانتفاء العقل أعني الصلاة الشرعية فلا تجب على غير عاقل ولا تطلب منه. وأما جعله للإسلام شرطا للوجوب فمخالف لما هو متقرر عنده وعنده من يقول بخطاب الكفار بالشرعيات وقد حكى بعض أهل الأصول أن ذلك إجماع أعني كونها واجبة عليهم وأنهم يعاقبون على تركها في الآخرة. وأما جعله البلوغ شرطا للوجوب فحق للأدلة الدالة على رفع قلم التكليف عن الصبيان وللإجماع على ذلك وكونه يحصل باحد الأسباب التي ذكرها صواب أيضا. واعلم أن الجلال رحمه الله قد جاء في شرحه في هذه الشروط والعلامات بمناقشات للمصنف خرجت به إلي خلاف الإجماع في غير موضع بل إلي خلاف ما هو معلوم بضرورة الشرع فلا نطيل الكلام معه في ذلك فإن بطلان ما ذكره لا يخفى على عارف وقد اعترضه الأمير رحمه الله في حاشيته بما يكشف بعض قناع ما لفقه من الهذيان الذي لم يجر على شرع ولا عقل. قوله: "ويجبر الرق وابن العشر عليها ولو بالضرب كالتأديب". أقول: أما الرق المحكوم له بالإسلام فإجباره على فعل الصلاة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيده أخص الناس بإجباره على ذلك وقد ورد الشرع بأنه يحده سيده إذا ارتكب ما يوجب حدا فهكذا يجبره سيده إذا ترك واجبا من غير فرق بين الصلاة وغيرها. وأما ابن العشر فقد ورد النص بذلك وأما الاستشكال بانه كيف يضرب وهو غير مكلف فنقول المكلف بذلك وليه والشرع قد أباح ضربه لذلك كما يباح ضربه إذا أراد الإقدام على قتل من لا يجوز قتله أو أخذ ماله. وأما قوله: "وكالتأديب" فإن أراد أن التأديب أصل وإجباره على الصلاة فرع فباطل وإن أراد تنظير أحد الأمرين بالآخر فلم يرد ما يدل على كون هذا التأديب مندوبا فضلا عن كونه واجبا. [فصل "وفي صحتها ستة: الأول: الوقت وطهارة البدن من حدث ونجس ممكني الإزالة من غير ضرر. الثاني: ستر جميع العورة في جميعها حتى لا ترى إلا بتكلف وبما لا يصف ولا تنفذه الشعرة بنفسها. وهي من الرجل ومن لم ينفذ عتقه الركبة إلي تحت السرة ومن الحرة غير الوجه والكفين وندب للظهر والهبرية والمنكب. الثالث: طهارة كل محمولة وملبوسة وإباحة ملبوسة وخيطه وثمنه المعين وفي

الحرير الخلاف فإن تعذر فعاريا قاعدا موميا أدناه فإن خشي ضررا أو تعذر الإحتراز صحت بالنجس لا الغصب إلا لخشية تلف وإذا التبس الطاهر بغيره صلاها فيهما وكذا ماءان مستعمل أو نحوه فإن ضاقت تحرى وتكره في كثير الدرن وفي المشبع صفرة وحمرة وفي السرأويل والفرو وحده وفي جلد الخز. الرابع: إباحة ما يقل مساجده ويستعمله فلا يجزىء قبر وسابله عامره ومنزل غصب إلا لملجىء أحدهما ولا ارض هو غاصبها وتجوز فيما ظن إذن مالكه وتكره على تمثال حيوان كامل إلا تحت القدم أو فوق القامة وبين المقابر ومزاحمة نجس لا يتحرك بتحركه وفي الحمامات وعلى اللبود ونحوها. الخامس: طهارة ما يباشره أو شيئا من محموله حاملا لا مزاحما وما يتحرك بتحركه مطلقا وإلا أومأ لسجوده السادس تيقن استقبال عين الكعبة أو جزء منها وإن طلب إلي آخر الوقت وهو على المعاين ومن في حكمه وعلى غيره في غير محراب الرسول صلى الله عليه وسلم الباقي التحري لجهتها ثم تقليد الحي ثم المحراب ثم حيث يشاء آخر الوقت. ويعفى لمتنفل راكب في غير المحمل ويكفي مقدم التحري على التكبيرة إن شك بعدها أن يتحرى أمامه وينحرف ويبني ولا يعيد المتحري المخطىء إلا في الوقت إن تيقن الخطأ كمخالفة جهة إمامه جأهلا. ويكره استقبال نائم ومحدث ومتحدث وفاسق وسراج ونجس في القامة ولو منخفضة. وندب لمن في الفضاء اتخاذ سترة ثم عود ثم خط"] . قوله: "وفي صحتها ستة الأول الوقت". أقول: اعلم أن الأسباب والشروط والموانع من أحكام الوضع والمرجع في حقائقها إلي ما دونه أئمة الأصول لأن البحث أصولي وقد ذكر أهل الأصول في ذلك ما اصطلحوا عليه فقالوا الشرط ما يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يؤثر وجوده في وجوه كالوضوء فإنه شرط للصلاة يؤثر عدمه في عدمها فلا تصح بغير وضوء ولا يؤثر وجوده في وجودها فإنه لا يؤثر مجرد فعل الوضوء في وجود الصلاة. وأما السبب فهو ما يؤثر وجوده في وجود المسبب وعدمه في عدمه. وإذا عرفت هذا علمت أن الوقت سبب لا شرط لأنه يؤثر وجوده في وجود المسبب وهو إيجاب فعل الصلاة ويؤثر عدمه في عدمه فإنها لا تجب الصلاة قبل دخول وقتها.

وذكر بعض أهل الأصول في حقيقة السبب أنه ما يؤثر وجوده في وجود المسبب ولا يؤثر عدمه في عدمه. قوله: "وطهارة البدن من حدث ونجس ممكن الإزالة". أقول: قد عرفناك ان الشرط هو ما يؤثر عدمه في عدم المشروط ولا يؤثر وجوده في وجوده فلا يثبت إلا بدليل يدل على أن المشروط يعدم بعدمه وذلك أما بعبارة مفيدة لنفي الذات والصحة مثل أن تقول لا صلاة لمن لا يفعل كذا أو لمن فعل كذا أو تقول لا تقبل صلاة من فعل كذا أو من لا يفعل كذا ولا تصلح صلاة من فعل كذا أو من لم يفعل كذا وأما مجرد الأوامر فغاية ما يدل عليه الوجوب والواجب ما يستحق فاعله الثواب بفعله والعقاب بتركه وذلك لا يستلزم أن يكون ذلك الواجب شرطا بل يكون التارك له آثما وأما أنه يلزم من عدمه العدم فلا. وهكذا يصح الاستدلال على الشرطية بالنهي الذي يدل على الفساد المرادف للبطلان إذا كان النهي عن ذلك الشيء لذاته أو لجزئه لا لأمر خارج عنه. إذا عرفت هذا علمت أن طهارة البدن من الحدثين شرط الصلاة لوجود الدليل المفيد للشرطية وأما طهارته من النجس فإن وجد دليل يدل على أنه لا صلاة لمن صلى وفي بدنه نجاسة أو لا تقبل صلاة من صلى وفي بدنه نجاسة أو وجد نهى لمن في بدنه نجاسة أن يقرب الصلاة وكان ذلك النهي يدل على الفساد المرادف للبطلان صح الاستدلال بذلك على كون طهارة البدن عن النجاسة شرطا لصحة الصلاة وإلا فلا وليس في المقام ما يدل على ذلك فإن حديث الأمر بالإستنزاه من البول وأن عامة عذاب القبر منه ليس فيه إلا الدلالة على وجوب الاستنزاه فيكون المصلي مع وجود النجاسة في بدنه آثما ولا تبطل صلاته. قوله: "الثاني ستر جميع العورة". أقول: الأدلة الصحيحة قد دلت على وجوب ستر العورة في الصلاة وفي غيرها ولكن هذا الدليل الدال على الوجوب لا يدل على الشرطية كما عرفناك وأما ما ورد من "أن الله لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار" [أبو دأود "641"، الترمذي "377"، أحمد "6/150، 218، 259"، ابن ماجة"655"] ، ونحوه قد عورض بما ورد من نفي قبول صلاة شارب الخمر وصلاة الآبق مع أنها تصح صلاتهما ولا وجه لهذه المعارضة لأن نفي القبول يستلزم نفي الصحة فإن ورد دليل يدل على صحة صلاة من ورد الدليل بأن الله لا يقبل صلاته كان ذلك مخصصا له فيكون نفي القبول في حقه مجازا عن عدم توفير الثواب. قوله: "وهي من الرجل ومن لم ينفذ عتقه الركبة إلي تحت السرة". أقول: العورة ينبغي الرجوع في تحقيقها وتقديرها إلي ما ورد في الشرع فإن ثبت ذلك في الشرع وجب تقديمه والرجوع إليه لأن الحقيقة الشرعية مقدمة على غيرها. وإن لم تثبت في ذلك حقيقة شرعية وجب الرجوع إلي معناها وتقديرها عند أهل اللغة

لوجوب حمل كلام الشارع على اللغة إذا لم يتقرر في ذلك عرف شرعي. وقد اتفق الشرع واللغة على أن القبل والدبر عورة من الرجل وزاد الشرع على الفخد فأخرج أبو دأود وابن ماجة والحاكم والبزاز من حديث علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلي فخذ حي ولا ميت" وفي إسناده ابن جريج عن حبيب بن أبي ثابت ولم يسمع منه قال أبو حاتم في العلل إن الواسطة بينهما الحسن بن ذكوان وفيه علة أخرى وهي أن حبيبا رواه عن عاصم ولم يسمع منه. وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه عن محمد بن جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" ورجاله رجال الصحيح غير أبي كثير وقد روي عنه جماعة وأخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه تعليقا. وأخرج الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفخذ عورة" [الترمذي "2796"] ، وفي إسناده يحيى القتات وفيه ضعيف. وأخرج أحمد وأبو دأود والترمذي عن جرهد الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "غط فخذك فإن الفخذ عورة" [أحمد "3/478"، أبو دأود "4014"، الترمذي "2798"] ، وصححه ابن حبان وعلقه البخاري في صحيحه. فهذه الأحاديث قد دلت على أن الفخذ عورة وإليه ذهب الجمهور وذهب أحمد ومالك في رواية عنه أهل الظاهر وابن جرير والإصطخري إلي أن العورة القبل والدبر وتمسكوا بأحاديث فيها دلالة على أن الفخذ ليس بعورة وذلك كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كشف فخذه في خيبر وحديث أنه كان كاشفا لفخذه ثم لما دخل عثمان غطاها ولا يصلح مثل ذلك لمعارضة هذه الأحاديث. أما الأول فقد اختلفت فيه الروايات هل هو الذي حسر الثوب عن فخذه أو انحسر الثوب بنفسه وأيضا تلك الحالة حالة حرب يغتفر فيها ما لا يغتفر في غيرها. وأما الحديث الثاني فيمكن أنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد كشفه ولهذا غطاه وليس بعد التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الفخذ عورة شيء. ولم يثبت ما يدل على أن الركبة عورة بل ورد ما يدل على انها ليست بعورة كما في حديث "إذا زوج أحدكم خادمته عبده أو أجيره فلا ينظرن إلي ما دون السرة وفوق الركبة" [أبو دأود "4113 و 4114"] ، أخرجه أبو دأود وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قوله: "ومن الحرة غير الوجه والكفين". أقول: قد دل الدليل على أن هذا يجب عليها ستره من الرجال ولا يجوز لهم النظر إليه وأما كون صلاتها لا تصح إذا كانت خالية أو مع النساء أو مع زوجها أو محارمها فغير مسلم وغاية ما ورد في ذلك حديث "إن الله لا يقبل صلاة حائض إلا بخمار" كما أخرجه أبو دأود والترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث عائشة فقد أعل بالوقف قال الدارقطني الوقف أشبه

وأعل أيضا بالإرسال كما قال الحاكم وغايته أنها لا تصح صلاتها إلا بستر رأسها لأن الخمار هو ما يستر به الرأس وليس فيه زيادة على ذلك. وأما حديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أتصل المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار فقال: "إذا كان الدرع سابغا يغطي ظهور قدميها" [أبو دأود "640"] ، أخرجه أبو دأود والحاكم وقد أعل بالوقف قال ابن حجر وهو الصواب قال أبو دأود روى هذا الحديث مالك بن أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة ولم يذكر واحد منهم النبي صلى الله عليه وسلم يروونه عن أم سلمة انتهى. فهذا الحديث لا تقوم به حجة لكونه من قول أم سلمة ولو سلمنا أن العمل على رواية من رفعه كما يقوله أهل الأصول فلا أقل من ان يكون هذا التفرد علة تمنع من انتهاضه للحجية. قوله: "وندب للظهر والهبربة والمنكب". أقول: لا دليل على ذلك فإن الندب حكم شرعي لا يجوز إثباته إلا بدليل وقد استدل على ندب ستر الظهر والمنكب بحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" [البخاري "359"، مسلم "516"، أبودأود "626"، النسائي 770"] . وهو في الصحيحين وغيرهما والعاتق هو ما بين المنكبين إلي أصل العنق فليس فيه دليل على ستر الظهر وأيضا ليس المقصود من الحديث ستر المنكبين بل المراد منه أن يأمن من استرخاء الثوب وسقوطه وقد ثبت ما يفيد هذا المعنى من حديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى في ثوب واحد فليخالف بطرفيه" [البخاري "360"، أبو دأود "628"] ، فليس المراد بالمخالفة إلا ما ذكرنا لا الستر للمنكب. وأيضا قد ثبت من حديث جابر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليت في ثوب واحد فإن كان واسعا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به" [البخاري "1/472"، مسلم "3010"، أب دأود "634"] . ويالله العجب من جعل ستر الهبريتين مندوبا فإنه لم يكن ذلك من رأي مستقيم فضلا عن أن يكون عن دليل. قوله: "الثالث طهارة محموله وملبوسه" أقول: قد قدمنا لك أن الشرطية التي يستلزم انتفاؤها انتفاء المشروط لا تثبت إلا بدليل خاص وهو ما قدمنا في طهارة البدن ولم يأت في طهارة الثياب حال الصلاة إلا ما غايته الأمر بالطهارة وذلك لا يستلزم الشرطية أصلا فجعل طهارة المحمول والملبوس شرطا من شروط الصحة ليس كما ينبغي. وأشف ما استدلوا به حديث "أنه صلى الله عليه وسلم خلع نعله في الصلاة لما أخبره جبريل بأن فيها قذرا" [أحمد 3/20، 90"، أبو دأود "650"] ، ولا يخفاك أن هذا مجرد فعل يقصر عن الدلالة على الوجوب فضلا عن الدلالة على الشرطية.

ثم القائل بأن طهارة الثياب ليست بشرط هو أحق بالإستدلال بهذا الحديث لأنه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم خلع نعله وبنى على ما قد فعله من الصلاة قبل خلعه فلو كان وجود النجاسة والملبوس والمحمول يوجب بطلان الصلاة لما بنى صلى الله عليه وسلم على ما قد كان صلى. قوله: "وإباحة ملبوسه وخيطه وثمنه المعين" أقول: تخصيص الملبوس باشتراط الحل والإباحة دون المحمول مبني على اصطلاح وقع للمشتغلين بالفقه في هذه الديار وهو خطأ وقد بني عليه الخطأ. ولا بد من ان يكون ما دخل به المصلى في صلاته مما يجعله على بدنه كائنا ما كان حلالا فإن كان مغصوبا أو بعضه فعليه إثم الغصب وأما أنها لا تصح الصلاة فيه فمبني على ورود دليل يدل على ذلك نعم قد انضم إلي إثم النصب إثم دخوله في الصلاة بما هو مأمور بخلافه وإذا صح حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد بلفظ "من اشترى ثوبا بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله عز وجل له صلاته ما دام عليه" [أحمد "98"] ، ثم أدخل إصبعه في أذنيه وقال صمتا إن لم أكن سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلا على عدم صحة صلاة من كان عليه شيء غير حلال وأما ما قيل إن ذلك تشديد كسائر ما ورد فيه الوعيد بنفي القبول من العاصي فمردود بل الواجب علينا تفسير نفي القبول بالمعنى الظاهر العربي. وإذا ورد ما يدل على صحة صلاة من ورد النص بنفي قبولها منه كان ذلك مخصصا له من العموم كما تقدم. قول: "وفي الحرير خلافة". أقول: من قال بتحريم لبسه مطلقا كان لبسه في حال الصلاة أحق بالتحريم لأنه دخل في عبادة الرب سبحانه لابسا ما حرمه وتوعد على لبسه فعليه إثم فاعل المحرم وعقوبته وأما أن صلاته تبطل فهذا يحتاج إلي دليل يدل على ذلك ولا يدل على ذلك إلا ما كان مفيدا لنفي صحة صلاة من صلى لابسا للحرير كما قدمنا بيان ذلك في أول هذا الفصل. قوله: "فإن تعذر فعاريا قاعدا موميا أدناه". أقول: قد جعل الله في الأمر سعة وفي الشريعة الواردة باليسر ما يخفف الخطب على هذا الذي لم يجد ما يستر به عورته إلا ما كان متنجسا فيدخل في الصلاة على تلك الهيئة المنكرة كاشفا سوءته ثم يترك بعض أركانها ولا شك أن الصلاة بالثوب المتنجس أهون من ذلك فتكون الصلاة في هذه الحالة في الثوب المتنجس عفوا للضرورة وللوقوع فيما هو أشد مما فر منه وقد جاز أكل الميتة عند عدم وجود ما يسد الرمق والشريعة مهيمنة على رعاية المصالح ودفع المفاسد والمعأدلة بين المفاسد إذا كان ولا بد من الوقوع في واحد منها. وهكذا تجوز الصلاة في الثوب المغصوب إذا كان لا يجد غيره من ثياب ولا شجر يستر عورته وقد اجاز الله مال الغير لسد الرمق وهذا مع عدم خشية الضرر فأما مع خشية التلف فالأمر أوضح ولا وجه للتقيد بخشية التلف وهكذا.

ولا وجه لقوله: "وإذا التبس الطاهر بغيره صلى فيهما" بل يكون اللبس مع عدم وجود غيرهما مسوغا للصلاة بأحدهما للضرورة وأما الصلاة فيهما فذلك يستلزم مفسدة عظيمة ورد النهي عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلي صلاة في يوم مرتين" [أحمد "2/19 و 41"، النسائي "2/114"، أبو دأود "579"] ، وقوله: "لا ظهران في يوم" والحديثان صحيحان. وأما التباس الماء الطاهر بالمتنجس فيعدل إلي التيمم لأن عدم تميز الطاهر كعدمه فهو غير واجد لماء يرفع به الحدث. قوله: "وفي المشبع صفرة وحمرة". أقول: هذا المقام من المعارك والحق أنه يتوجه النهي عن المعصفر إلي نوع خاص من الأحمر وهو المصبوغ بالعصفر لأن العصفر يصبغ صباغا أحمر فما كان من الأحمر مصبوغا بالعصفر فالنهي متوجه إليه وما كان من الأحيمر غير مصبوغ بالعصفر فليس جائزا وعليه يحمل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لبس الحلة الحمراء وقد أطلنا الكلام في شرحنا للمنتفى على هذا البحث وذكرنا الأحاديث المختلفة والكلام عليها والجمع بينها فليرجع إليه. وأما المشبع صفرة فلا يستدل على المنع عن لبسه بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من النهي عن لبس المعصفر لما قدمنا لك من أن المصبوغ بالعصفر يكون أحمر لا أصفر وهذا معلوم لا شك فيه ولم يرد ما يدل على تحريم الأصفر دلالة يجب المصير إليها ولا سيما وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صبغ بالصفرة ووقع التصريح في بعض الروايات بأنه صبغ بها لحيته وثيابه وكان ابن عمر يفعل ذلك اقتداء به صلى الله عليه وسلم. قوله: "وفي السرأويل والفرو وحده" أقول: أما السرأويل فقد أخرج أحمد والطبراني بسند رجاله ثقات من حديث أبي أمامة قال: قلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يتزرون فقال رسول الله: "تسرولوا واتزروا وخالفوا أهل الكتاب" [أحمد (5/264) ] وفي هذا الأذن بلبس السرأويل وهو يستر العورة سترا فوق ستر المئزر وقد وقع الخلاف هل لبسه النبي صلى الله عليه وسلم أم لا مع ثبوت أنه اشتراه وقد ذكرت ما ورد في ذلك في شرحي للمنتقى وقد استدلوا على الكراهة في الصلاة فيه وحده بما رواه أبو دأود عن بريدة قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي في لحاف يتوشح به وأن يصلي في سرأويل ليس عليه رداء" [أبو دأود "636"، وفي إسناده أبو نميلة يحيى بن واضح الأنصاري المروزي وأبو المسيب عبيد الله بن عبد الله العتكي المروزي وفيهما مقال خفيف جدا وقد وثقا وأخرجه أيضا الحاكم ورمز السيوطي لصحته فكان هذا الحديث صالحا للاحتجاج به على الكراهة في السرأويل وحده. وأما الكراهة في الفرو وحده فاستدلوا على ذلك بأنه مظنة لانكشاف العورة ولكن هذه المظنة ترتفع بأن يربطه بخيط أو يزره بشوكة ولعلهم لا يخالفون في زوال الكراهة بهذا.

قوله: "وفي جلد الخز" أقول: قد أنكر بعض المتكلمين على هذا الكتاب وجود دابة تسمى الخز وقال إنه بحث في القاموس وغيره من كتب اللغة وبحث حياة الحيوان فلم يجد ذلك وفيه نظر فإنه قال في المصباح ما لفظه الخز اسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها وقال الشيخ دأود في التذكرة في الطب ما لفظه الخز ليس هو الحرير كما ذكره ما لا يسع بل هو دابة بحرية ذات قوائم أربع في حجم السنانير ولونها إلي الخضرة يعمل من جلدها ملابس نفيسة يتدأوى بها ملوك الصين حارة يابسة في الشاتيه ينفع من النقرس والفالج وضعف الباءة والأمراض البلغمية ووبرها يبرىء الجراح ويقطع الدم وضعا ويسد الفتوق أكلا ولبسها يبرىء الجذام والحكة انتهى. فعرفت بهذا اندفاع الاعتراض على المصنف ولكن لا وجه للقول بالكراهة لأن الأصل الحل على ما هو الحق ولا سيما إذا كان هذا الحيوان بحريا لما ورد في خصوص حيوانات البحر من كون ميتها حلالا. قوله: "الرابع إباحة ما يقل مساجده ويستعمله" أقول: لا شك أن من صلى في مكان مغصوب أو استعمل شيئا مغصوبا فقد فعل محرما ولزمه إثم الحرام وأما كون ذلك يمنع من صحة الصلاة فلا بد فيه من دليل خاص كما قدمنا تحقيقه وما قيل من انه عصي بنفس ما به أطاع فغير مسلم ولو سلم لم يكن دليلا على عدم صحة الصلاة المفعولة في المكان الغصب. قوله: "فلا يجزىء قبر وسابلة". أقول: استدلوا على هذا بحديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي أعطان الإبل وفوق ظهر بيت الله" رواه عبد بن حميد في مسنده والترمذي ["346"] ، وابن ماجة ["746"] قال الترمذي وإسناده ليس بذاك القوي وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظة وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقال حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أشبه وأصح من حديث الليث بن سعد والعمري ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه انتهى كلام الترمذي. قال البخاري وابن معين زيد بن جبيرة متروك وقال أبو حاتم لا يكتب حديثه وقال النسائي ليس بثقة وصحح الحديث ابن السكن وإمام الحرمين. فأما إمام الحرمين فليس من أهل هذا الشأن وأما ابن السكن فكيف يصحح ما كان في إسناده متروك. ولكنه قد ورد في القبر ما تقوم به الحجة وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما [مسلم "98/972"، أبو دأود "3229"، الترمذي "1050"] ، من حديث أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا إلي القبور ولا تجلسوا عليها" وأخرج أحمد ["3/183" و96"] ، وأبو

دأود ["492"] ، والترمذي ["317"] ، وابن ماجة ["745"] ، وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" وأخرج مسلم ["23/532"] ، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وورد في الحمام غير حديث ابن عمر المشتمل على السبعة المواطن وهو حديث أبي سعيد المذكور قبل هذا. وورد في أعطان الإبل ما أخرجه أحمد ["2/491"] ، والترمذي ["348"] ، وصححه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل". وكان على المصنف ومن تابعه أن يذكروا مع القبر والطريق بقية تلك المواطن السبعة. قوله: "ومنزل غصب إلا لملجىء ولا أرض هو غاصبها". أقول: قد أغنى عن هذا قوله: "وإباحة ما يقل مساجده" فإنه يفيد المنع من الصلاة في المنزل الغصب وفي الأرض الغصب ولا وجه لتقييد أرض الغصب بكون المصلي هو غاصبها فلا فرق أن يغصبها هو أو يغصبها غيره لأن جميع ذلك غير مباح للمصلي ولا حلال له. وأما جواز الصلاة في الأرض التي يظن إذن مالكها فليس بصحيح لأن الظن لا يحلل مال الغير ولا يجوز به استعماله. قوله: "وتكره على تمثال حيوان كامل". أقول: قد وردت الأدلة الصحيحة القاضية بتحريم التصوير والنهي عنه وشدة الوعيد عليه وورد ما يدل على تغييره وعدم تركه في البيوت ومن ترك ذلك فقد ترك ما عليه من إنكار المنكر ولزمه من الإثم ما يلزم تارك المنكر وأما الصلاة عليه أو في المكان الذي هو فيه فلم يأتنا الشارع في ذلك بشيء ولعله وجه استثناء ما تحت القدم ما أخرجه أبو دأود والترمذي من حديث أبي هريرة "أن جبريل عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل من القرام الذي في بيت عائشة وسادتين توطآن" [أحمد "2/305" و 478"،أبو دأود "4158"، الترمذي "2807"] . قوله: "وبين المقابر" أقول: قد قدمنا الأدلة الصحيحة القاضية بالنهي عن الصلاة إلي القبر والنهي عن الصلاة في المقبرة وهي طية بين المقابر ولا وجه للفرق بين الصلاة على القبر والصلاة بين المقابر وجعل الأول مما لا يجزىء الصلاة وجعل الثاني مكروها فقط بل الكل منهي عنه ممنوع منه وإن كان في الصلاة على نفس القبر زيادة على الصلاة إليه والصلاة بين المقابر ولكن هذه الزيادة لم يعتبرها الشارع بل نهى عن الصلاة في المقبرة وذلك أعم من أن تكون الصلاة على نفس القبر أو بينه وبين قبر آخر أو إلي قبر إذ يصدق على الجميع أنه فعل الصلاة في المقبرة. وإذا عرفت هذا علمت أنه كان يغني المصنف أن يقول: "ولا يجزىء في مقبرة" ويحذف ذكر بين المقابر.

قوله: "ومزاحمة نجس لا يتحرك بتحركه" أقول: لا وجه للحكم بكراهة ذلك حيث لم يكن مما يتحرك بتحرك المصلي فإنه منفصل عنه فلا تحريم ولا كراهة وإن كان متصلا به أو يتحرك بتحركه فلا وجه لجعله مكروها فقط على مذهب المصنف بل هو محرم ولا تجزىء الصلاة معه فعرفت بهذا أنه لا وجه لذكر هذا ولا حاجة إليه على كل تقدير. قوله: "وفي الحمام". أقول: قد تقدم أن الحمام أحد السبعة المواطن التي ورد النهي عن الصلاة فيها وورد أيضا ذكر الحمام في حديث آخر كما سلف فلا وجه لجعل الصلاة على القبر وفي الطريق مما لا تجزىء الصلاة فيه وجعل الحمام مما تكره الصلاة فيه فقط فإن هذا تلاعب بالأدلة على غير صواب ولم يرد ما يصرف النهي عن الصلاة في الحمام إلي مجرد الكراهة حتى يكون ذلك وجها لكلام المصنف. وينبغي النظر فيما يصدق عليه مسمى الحمام فالظاهر أنه الذي يغتسل فيه ويوقد عليه فلا يدخل في ذلك الصلاة في مكان منفرد عنه كالمكان الذي يسميه الناس المخلع. قوله: "وعلى اللبود ونحوها". أقول: ليس على هذا أثارة من علم أصلا ولا يحتاج إلي التبرع بالأدلة الدالة على خلافه فإن ذلك إنما يكوى عند أن يكون في المسألة اشتباه وأما هذه فليست بهذه المنزلة وما هذه بأولة مسألة لم يدل عليها دليل ومن غرائب الأكابر من أهل العلم أنه روى ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهما قالا الصلاة على الطنفسة وهي البساط الذي تحته خمل محدثة وعن جابر بن زيد أنه كان يكره الصلاة على كل شيء من الحيوان ويستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض وعن عروة بن الزبير أنه كان يكره أن يسجد على شيء دون الأرض وهذه المقالة من هؤلاء لا مستند لها إلا مجرد الوسوسة والشكوك الخالية عن الدليل. وأما الإمامية وإن كانوا ليسوا بأهل للكلام معهم فمنعوا من صحة الصلاة على ما لم يكن أصله من الأرض قوله: "الخامس طهارة ما يباشره". الخ. أقول: جعل المصنف رحمه الله طهارة ملبوس المصلي ومحموله شرطا مستقلا كما سبق وجعل طهارة المكان الذي يصلي فيه شرطا آخر كما هنا وجعل طهارة البدن شرطا مستقلا كما تقدم وهذا تطويل وتكثير وشغلة للحيز فإنه جعل شروط الصحة ستة ثم جعل طهارة البدن والملبوس والمكان ثلاثة منها وكان يغنيه عن هذا كله أن يقول طهارة بدن المصلى وثيابه ومكانه ويجعل ذلك شرطا واحدا. وإذا عرفت هذا فاعلم أن الكلام هنا كالكلام على طهارة البدن والثياب فإنهم لم يستدلوا

على طهارة المكان إلا بمثل قوله تعالي: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج: 26] الآية وبقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] وقد عرفناك أن الشرط لا يثبت إلا بدليل خاص وأن دليل الوجوب لا يثبت به الشرطية وفيما أسلفناه كفاية فارجع إليه. قوله: "السادس: تيقن استقبال عين الكعبة أو جزء منها". أقول: قال الله تعالي: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ، وشطره سواء كان جهته أو نحوه أو تلقاءه أو قبله على اختلاف تفاسير السلف للشطر يدل على أن استقبال الجهة يكفي من الحاضر والغائب إلا إذا كان حال قيامه إلي الصلاة معاينا للبيت لم يحل بينه وبينه حائل إلا إذا كان في بعض بيوت مكة أو شعابها أو فيما يقرب منها وكان بينه وبين البيت حائل حال القيام إلي الصلاة فإنه لا يجب عليه أن يصعد إلي مكان آخر يشاهد منه البيت بل عليه أن يولي وجهه شطر المسجد الحرام وليس عليه غير ذلك ولم يأت دليل يدل على غير هذا. وأما ما أخرجه البيهقي في سننه عن ابن عباس مرفوعا "البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي" فمع كونه ضعيف الا ينتهض للاحتجاج به هو أيضا دليل على ما ذكرنا لأن من كان في المسجد فهو معاين المبيت ولا حائل بينه وبينه وقد جعل البيت قبلة لأهل الحرم وذلك يدل على أنه لا يجب على أهل الحرم إلا استقبال الجهة وأما غيرهم فذلك ظاهر. والمراد ما بين المشرق والمغرب فإذا توجه إلى جهة التي بينهما فقد فعل ما عليه لحديث "ما بين المشرق والمغرب قبلة" أخرجه الترمذي [342,343] وابن ماجه [1011] من حديث أبي هريرة وأخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر ولا يحتاج المصلي أن يرجع في أمر القبلة إلي تقليد أحد من الأحياء ولا إلي المحاريب المنصوبة في المساجد فمحرابه ما بين المشرق والمغرب. وكل عاقل يعرف جهة المشرق والمغرب ولا يخفى ذلك إلا على مجنون أو طفل. قوله: "ويعفى لمتنفل راكب" أقول: قد دلت على هذا الأدلة الصحيحة الثابتة في الصححيحين وغيرهما إلا أن قوله: "في غير المحمل" إن كان وقوفا مع النص وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الاستقبال لراكب الدابة إذا أراد أن يتنفل فلا شك أن الأمر كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر من كان راكبا في محمل وإن كان يصدق عليه أنه راكب للدابة وإن كان لكون من في المحمل يمكنهم الاستقبال فهذا مسلم وغيره مثله فإنه إذا تمكن الراكب من الاستقبال استقبل سواء كان في محمل أو في غير محمل وإن كان لا يتمكن من الاستقبال كان له أن يتنفل إلي غير القبلة سواء كان في محمل أو في غيره فلا وجه لهذا الاستثناء. قوله: "ولا يعيد المتحري المخطىء إلا في الوقت". أقول: حديث السرية يرد ذلك وهو ما أخرجه أبو دأود الطيالسي وعبد بن حميد

والترمذي وضعفه ابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم والعقيلي وضعفه أيضا الدارقطني وابو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن عامر بن ربيعة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما اصبحنا إذا نحن قد صلينا إلي غير القبلة فقلنا يا رسول الله صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله سبحانه {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ، فقال: "مضت صلاتكم". وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم تعرف القبلة فقالت طائفة منا القبلة ها هنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا وقال بعضنا القبلة ها هنا من الجنوب فصلوا وخطوا خطوطا فلما اصبحوا وطلعت االشمس اصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت فأنزل الله: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس بسند ضعيف نحوه وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء نحوه فهذه الأحاديث تدل على عدم وجوب الإعادة على المخطىء لا في الوقت ولا بعده وحديث أهل قباء المتفق عليه [البخاري "403 و 4491 و 4494 و 7151"، النسائي "2/61"، أحمد "2/16، 26، 105"، الترمذي "341"] ، أنهم كانوا في حال الصلاة مستقبلين بيت المقدس فلما سمعوا خبر المخبر لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استقبل الكعبة استداروا إلي الكعبة وقررهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يأمرهم بالإعادة مع أنهم قد صلوا بعض الصلاة إلي غير القبلة. قوله: "ويكره استقبال نائم ومحدث ومتحدث". أقول: استدلوا على ذلك بما رواه في جامع الأصول عن كتاب رزين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصلوا خلف النيام ولا المتحلقين ولا المتحدثين"، وقد عرفناك أن ما تفرد به رزين لا يجوز العمل به ولا يصلح للاحتجاج لأنه جعل كتابه لجمع ما في الست الأمهات ثم ذكر أحاديث ليست فيها ولا يعرف من خرجها من غيرهم وقد زعم بعضهم أن هذا الحديث أخرجه أبو دأود في سننه ["694"] ، ولم يوجد في السنن فينظر ولكنه أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيت أن أصلي خلف المتحدثين والنيام" وفي إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وفيه مقال وهو ثقة من رجال الصحيح. وأخرج ابن عدي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة خلف النائم قال ابن حجر في فتح الباري وإسناده واه. وأخرج البزار من حديث على بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي إلي رجل فأمره أن يعيد الصلاة وفي إسناده عبد الأعلى التغلبي وهو ضعيف. هذا حاصل ما في الباب والعلة في الكراهة اشتغال قلب المصلي إذا كان أمامه شيء مما

في الحديث وفي النائم قد يخرج منه شيء يؤذي المصلي وقد عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنبجانية التي بعث بها إلي بعض الصحابة "إنها ألهته في صلاته" "البخاري "373"، مسلم "61، 36/556"] ، وهو حديث صحيح وقال في قرام عائشة "أميطي عني قرامك هذا فإنه لا تزال تصأويره تعرض لي في صلاتي" وهو في الصحيح [البخاري "1/374" [، ولا جامع بين هذا وبين الأحاديث الواردة فيما يقطع الصلاة كالكلب والمرأة الحائض فإن هذا الذي نحن بصدده في كراهة استقبال الشيء المستقر في قبلة المصلي وأحاديث القطع في الشيء الذي يمر بين يديه. ويعارض ما ورد في المنع من استقبال النائم ما ثبت في الصحيح [البخاري "382"، مسلم "512" أحمد "6/126"، أبو دأود "712، 714"، النسائي "1/101 – 102"، ابن ماجة "956"] ،من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وعائشة معترضة في قبلته والظاهر من كونها معترضة أنها كانت نائمة. ولهذا أورد في لفظ في الصحيحين [البخاري "512"، مسلم "268/512"] : "فإذا أراد أن يوتر أيقظني". ولا شك أن اشتغال قلب المصلي باستقبال المرأة أكثر من اشتغاله باستقبال الرجل وأما توسيع دائرة الكلام إلي كراهة استقبال الفاسق والسراج والنجس فليس كما ينبغي ولو قال المصنف رحمه الله ويكره استقبال ما يلهي لكان ذلك أخصر وأشمل وأوفق بالأدلة. قوله: "وندب لمن في الفضاء اتخاذ سترة" الخ. أقول: هذه السنة ثابتة بالأحاديث الصحيحة الكثيرة ولا وجه لتخصيص مشروعيتها بالقضاء فالأدلة أعم من ذلك والكلام على مقدار السترة ومقدار ما يكون بينها وبين المصلي مستوفى في كتب الحديث وشرحه وأكثر الأحاديث مشتملة على الأمر بها وظاهر الأمر الوجوب فإن وجد ما يصرف هذه الأوامر عن الوجوب إلي الندب فذاك ولا يصلح للصرف قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه لا يضره ما مر بين يديه" [أحمد "2/249"، ابن ماجة "943"] ، لأن تجنب المصلي لما يضره في صلاته ويذهب بعض أجرها واجب عليه. [فصل وأفضل أمكنتها المساجد وافضلها المسجد الحرام ثم مسجد رسول الله ثم مسجد بيت المقدس ثم الكوفة ثم الجوامع ثم ما شرف عامره. ولا يجوز في المساجد إلا الطاعات غالبا ويحرم البصق فيها وفي هوائها واستعماله ما علا. وندب توقي مظان الرياء إلا من أمنه وبه يقتدى] . قوله: فصل: "وأفضل أمكنتها المساجد" الخ.

أقول: أما المساجد الثلاثة فقد ورد النص على أن الصلاة فيها أفضل من غيرها مع تفاضلها في أنفسها فأخرج أحمد ["4/5"] ، من حديث ابن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فصلاة فيه أفضل من مائة صلاة في هذا". وأخرج أيضا ابن حبان بلفظ "وصلاة في ذلك أفضل من مائة صلاة في مسجد المدينة" قال ابن عبد البر اختلفوا على ابن الزبير في رفعه ووقفه ومن رفعه أحفظ وأثبت ومثله لا يقال بالرأي. وأخرج ابن ماجه ["1406"] ،من حديث جابر مرفوعا صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ورجال إسناده ثقات ورواه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء مرفوعا: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة". قال البزار إسناده حسن. وفي الصحيحين [البخاري"1132"، مسلم "506/94"] من حديث أبي هريرة "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة". والظاهر أن الصلاة في هذه الثلاثة المساجد تكون أفضل من الصلاة في غيرها بذلك المقدار الذي بينه صلى الله عليه وسلم ولا فرق بين الفرائض والنوافل كما يدل عليه تنكير الصلاة في هذه الأحاديث فلا يرد ما أورده الجلال في شرحه من البحث الذي بحثه ولم يثبت زيادة وأفضل من ذلك كله صلاة الرجل في بيت مظلم حيث لا يراه أحد إلا الله يطلب بها وجه الله ولكنه ثبت في الصحيحين [البخاري"731، 6113، 7290"، مسلم "213/781"] وغيرهما [الترمذي "450"، أبو دأود "1044"، النسائي "3/197 – 198"، أحمد "5/182 و 184 و 186"] ، من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" قال الترمذي وفي الباب عن عمر وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وابن عمر وعائشة وعبد الله بن سعد وزيد ابن خالد وأما سائر المساجد فقد ورد ما يدل على فضل الصلاة فيها في الجملة كحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ الرجل فأحسن الوضوء ثم خرج إلي الصلاة لا يخرجه" أو قال "لا ينهزه إلا إياها لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة" أخرجه الترمذي ["103"] ، وقال حسن صحيح. وأخرج مسلم ["41/251" [، وغيره ["الترمذي "51"، النسائي "1/89"، ابن ماجة "428"] ، من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ " قالوا: بلى يا رسول الله قال: "إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلي المساجد وانتظار الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط".

وأخرج أبو دأود ["561"] ،والترمذي ["223"] عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بشر المشائين في الظلم إلي المساجد بالنور التام يوم القيامة". وورد أيضا "من حافظ على هذه الصلوات حيث ينادى لها" [مسلم "257/654"، أبو دأود "550"، النسائي "2/108"، ابن ماجة "777"] ، الحديث. وورد أيضا "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". وورد أيضا "أن منتظر الصلاة في المساجد في صلاة" [البخاري "659، 3229"، مسلم "5/166 – 167"، أبو دأود "470"] . وورد أيضا عدم الترخيص لمن سمع النداء في حضور المسجد الذي ينادى للصلاة فيه وثبت الحث على بناء المساجد والترغيب في ذلك. وحديث "أحب البلاد إلي الله مساجدها" [مسلم "671"] . وهذه أحاديث معروفة مشهورة وهي تدل على مزيد خصوصية في الفضيلة للمساجد التي يجتمع الناس إليها وينادى للصلاة فيها وهي أخص من كون كل بقاع الأرض مسجدا لحديث "جعلت لي الأرض مسجدا" فهذا هو الوجه لقول المصنف رحمه: "وأفضل أمكنتها المساجد". وأما جعل مسجد الكوفة في الشرف بعد الثلاثة المساجد فلم يثبت ذلك بدليل ولا كان للكوفة مسجد في أيام النبوة وكان الأولى أن يجعل مكان مسجد الكوفة مسجد قباء ومسجد عبد القيس بعد أن يذكر شرف البقاع التي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها. وأما شرف الجوامع فإن كان لكثرة الجماعات فيها فليس ذلك بمختص بالمساجد بل صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ثم صلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ثم كذلك كلما كثر الجمع في الجماعة كانت أزكى كما وردت السنة بذلك. وأما قوله: "ثم ما شرف عامره" فليس ذلك بمزية توجب كون المسجد أفضل من غيره فضلا عن كون الصلاة فيه أفضل منها في غيره وما اسمج ما قال الجلال رحمه الله ها هنا من أن الأرض قد جعلها الله مسجدا على السواء وهو أعظم من كل عظيم فترجيح وضع العبد على وضع الرب مما لا ينبغي أن ينسب إلي ذي فهم انتهى. ولا يخفاك أن المساجد التي جعلها العباد هي أحد بقاع الأرض التي جعلها الله مسجدا وليست غيرها ولا خارجة عنها حتى يتم ما قاله وكان ينبغي للمصنف رحمه الله أن يجعل مكان ما شرف عامره الصلاة في فلاة من الأرض فإنه قد ورد أنها بخمسين صلاة وقد ذكرنا في شرح المنتقي عند ذكر مصنفه لهذا الحديث ما ينبغي الرجوع إليه لما اشتمل عليه من الفائدة. قوله: "ولا يجوز في المساجد إلا الطاعات". أقول: هي التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما هي لذكر الله والصلاة" [البخاري"6025"، مسلم "100/284"، الترمذي "147"، النسائي "1/175"، ابن ماجة "528"، أحمد "3/110 – 111"] وفي

لفظ: "إنما بنيت لذكر الله والصلاة" والحديث في الصحيح فإن هذا الحصر يدل أنه لا يجوز غير الصلاة والذكر في المسجد إلا بدليل كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أنزل وفد ثقيف في مسجده قبل إسلامهم وثبت أنه صلى الله عليه وسلم أنزل وفد الحبشة في مسجده ولعبوا فيه بحرابهم وهو ينظر إليهم وفي كلا الفعلين مصلحة ظاهرة عائدة إلي الإسلام أما إنزال وفد ثقيف فلأجل يشاهدون عبادة المسلمين وتواضعهم لله وكثرة ذكرهم له فتلين قلوبهم وأما إنزال وفد الحبشة فلو لم يكن من ذلك إلا المكافأة لملكهم الصالح الذي هاجر إليه المسلمون فأحسن جوارهم وفعل بهم تلك الأفعال الحسنة وقد ثبت أنهم كانوا يتناشدون فيه الأشعار ولهذا قال حسان لعمر قد كنت أنشد وفيه يعني المسجد من هو خير منك. وكان غالب ما يتناشدونه ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومد الإسلام وأهله وذم الكفر وأهله وفي ذلك مصلحة ظاهرة وبهذه الخصوصية يمتنع إلحاق غيره من الأشعار به. ومما يدل على جواز تعلم العلم في المساجد وتعليمه ما أخرجه أحمد ["2/350، 418، 527"] ، وأبوا دأود وإسناد رجاله ثقات عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلي ما ليس له". ومما ورد المنع منه في المساجد الحد والقصاص لما أخرجه أحمد ["3/343"] ، وأبو دأود ["4490"] ، والدارقطني والحاكم وابن السكن والبيهقي من حديث حكيم بن حزام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد ولا يستفاد فيها" وإسناده لا بأس به. ومما ورد النهي عنه في المساجد ما في حديث أبي هريرة عند الترمذي وحسنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم من يبيع أن يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد الضالة فقولوا لا رد الله عليك". والنهي عن إنشاء الضالة ثابت في الصحيح ومن ذلك حديث واثلة الذي أخرجه ابن ماجه مرفوعا: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر" وإسناده ضعيف ولكن له شاهد عند الطبراني وغيره بسند فيه العلاء بن كثير الشامي وهو ضعيف من حديث مكحول عن أبي الورد وأبي أمامة وواثلة من حديث مكحول عن معاذ وهو منقطع ولابن عدي من حديث أبي هريرة وفيه عبد الله بن محرر وهو ضعيف. وأخرج ابن ماجة ["748"] ، من حديث ابن عمر مرفوعا قال: "خصال لا ينبغين في المسجد لا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا يقيض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيء ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه من أحد ولا يتخذ سوقا" وفي إسناده زيد ابن جبير الأنصاري وهو متروك. ومن جملة ما ثبت المنع منه في المساجد البصق فيها كحديث "البصاق في المسجد

خطيئة وكفارتها دفنها" وهو ثابت في الصحيح ولفظ البخاري ["415"] ، ومسلم ["55/552"] : "البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها" هكذا لفظ حديث أنس فيهما وفي لفظ لمسلم ["56/552": "التفل" مكان "البزاق" وفي لفظ النسائي ["2/51"] : "البصاق". وأخرج مسلم ["57/553"] ، من حديث أبي ذر مرفوعا: "وجدت في مسأوىء أمتي النخاعة تكون في المسجد لا تدفن". وأخرج مسلم ["59/552"، عن عبد الله بن الشخير قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته تنخع فدلكها بنعله اليسرى وهكذا إذا كان المسجد غير مفروش فإن كان مفروشا بالحصر أو نحوها فلا يتيسر الدفن الذي هو كفارة البصق فيكون خطيئة غير مكفرة. وقد وردت أحاديث في منع البصق في قبلة المسجد ووردت أحاديث في أنه يبصق في ثوبه إذا احتاج إلي ذلك فمن دعت حاجته إلي البصق بصق في ثوبه. قوله: "وندب توقي مظان الرياء". أقول: الرياء من معاصي الله العظيمة وهو الشرك الأصغر فإذا كان له ذريعة وإليه وسيلة فالواجب قطع تلك الذريعة ودفع تلك الوسيلة فالذريعة إلي الحرام حرام والوسيلة إلي الحرام حرام فتوقي مظان الرياء واجب والوقوع فيها حرام ومدافعة النفس عن مثل هذه المعصية من أوجب الواجبات الشرعية وتجنب الأسباب التي تفضي إليها لازم لكل مسلم فلا وجه لجعل ذلك مندوبا كما قال المصنف رحمه الله.

باب الأوقات

[باب الأوقات اختيار الظهر من الزوال وآخره مصير ظل الشيء مثله وهو أول العصر وآخره المثلان والمغرب من رؤية كوكب الليل أو ما في حكمها وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو أول العشاء وآخره ذهاب ثلث الليل. وللفجر من طلوع المنتشر إلي بقية تسع ركعة كاملة. واضطرار الظهر من آخر اختياره إلي بقية تسع العصر وللعصر اختيار الظهر إلي ما يسعه عقيب الزوال ومن آخر اختياره حتى لا يبقى ما يسع ركعة وكذلك المغرب والعشاء وللفجر إدراك ركعة ورواتبها في أوقاتها بعد فعلها إلا الفجر غالبا. وكل وقت يصلح للفرض قضاء وتكره الجنازة والنقل في الثلاثة وأفضل الوقت أوله"] .

قوله: "اختيار الظهر من الزوال" الخ. أقول: الأحاديث المبينة للأوقات كثيرة جدا اقوالا وأفعالا وتعليما وحاصلها أن أول وقت الظهر الزوال وآخره مصير ظل الشيء مثله سوى فيء الزوال وهو أول وقت العصر وآخره ما دامت الشمس بيضاء نقية وأول وقت المغرب غروب الشمس وغروبها يستلزم إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب ويستلزم ظهور النجم الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم: "شاهدا" فلا مخالفة بين هذه العلامات لدخول وقت المغرب فإنها متلازمة وآخره ذهاب الشفق الأحمر وهو أول وقت العشاء وآخره نصف الليل ولا وجه لقول المصنف "وآخره ذهاب ثلث الليل" فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم امتداده إلي نصف الليل كما هو ثابت في الصحيحين [البخاري"2/51"، [مسلم "222/640"] ، وهي زيادة يجب قبولها ويتعين المصير إليها. وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أنه لولا أن يشق على أمته لأخرها إلي نصف الليل فدل ذلك على أنها في ذلك الوقت أفضل وأنه وقت لها بل ورد ما يدل على أنه وقتها إلي أن يذهب عامة الليل أي أكثره. وأول وقت الفجر طلوع الفجر وهو يعرفه كل ذي بصر وآخره طلوع الشمس فهذه الأوقات لا ينبغي أن يقع في مثلها خلاف لأن الأدلة عليها أوضح من كل واضح وأظهر من كل ظاهر وقد كرر صلى الله عليه وسلم الأيضاح وعلمهم ما لا يحتاجون بعده إلي شيء وجعل هذه الأوقات منوطة بعلامات حسية يعرفها كل من له بصر صحيح فلا نطيل الكلام في هذا فإن الإطالة لا تأتي بطائل. قوله: "واضطرار الظهر". أقول: الشارع قد بين أول وقت كل صلاة من الصلوات الخمس وبين آخره حسب ما عرفناك ثم بين بأقواله الصحيحة ان الوقت لكل صلاة من تلك الصلوات هو ما بين الوقتين فهذه الأوقات هي التي عينها الشارع للصلوات الخمس ولم يأت عنه أن الأوقات منقسمة إلي قسمين وقت اختبار ووقت اضطرار بل غاية ما ورد عنه في بيان حالة الاضطرار أن من أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها فمن كان نائما أو ناسيا أو مغشيا عليه أو نحو ذلك وأدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها أداء لا قضاء وأما من تركها من غير عذر حتى خرج وقتها الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم فهو تارك للصلاة وإن فعلها في وقت صلاة أخرى فكيف إذا تركها حتى خرج وقت الصلاة الأخرى كمن يصلي الظهر وقت اصفرار الشمس فإنه لم يصل أصلا ولا فعل ما فرض الله عليه بل جاء بصلاته في غير وقتها بل في الوقت الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وقت صلاة المنافق. ولقد ابتلى زمننا هذا من بين الأزمنة وديارنا هذه من بين ديار الأرض بقوم جهلوا الشرع وشاركوا في بعض فروع الفقة فوسعوا دائرة الأوقات وسوغوا للعامة أن يصلوا في غير أوقات الصلاة فظنوا أن فعل الصلاة في غير أوقاتها شعبة من شعب التشيع وخصلة من خصال المحبة لأهل

البيت فضلوا وأضلوا وأهل البيت رحمهم الله براء من هذه المقالة مصونون عن القول بشيء منها. ولقد صارت الجماعات الآن تقام في جوامع صنعاء للعصر بعد الفراغ من صلاة الظهر وللعشاء في وقت المغرب وصار غالب العوام لا يصلي الظهر والعصر إلا عند اصفرار الشمس فيا لله وللمسلمين من هذه الفواقر في الدين. وسيأتيك الكلام في الجمع الذي جعله هؤلاء ذريعة إلي هذه المفاسد السارية إلي ترك الصلوات التي صرح الشارع بأنه "ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها" [أحمد "3/370، 389"، مسلم "82"، أبو دأود "4678"، النسائي "1/232"، الترمذي "2622"، ابن ماجة "1078"] . قوله: "ورواتبها في أوقاتها يعد فعلها إلا الفجر" أقول: رواتب الفرائض كثيرة جدا ومنها ما هو قبل فعل الفريضة ومنها ما هو بعد فعلها فإن أراد الرواتب التي وردت في الأحاديث الصحيحة فهي كما عرفناك وإن أراد ما ورد في حديث ابن عمر المتفق عليه [البخاري "1180 و "1172" و "1165" و "937"، مسلم "729"، أنه قال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الغداة فهذا الحديث قد دل على أنه يصلي قبل الظهر ركعتين فلا يتم قوله إلا الفجر. وإن أراد حديث أم حبيبة الثابت عند الجماعة [مسلم ""103/728"، أبو دأود "1250"، الترمذي "415"، النسائي "1796"، ابن ماجة "1141"] ، إلا البخاري قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة سجدة سوى المكتوبة بني له بيت في الجنة". ثم بينها صلى الله عليه وسلم كما في رواية بعض الجماعة فقال: "أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الفجر". فهذه فيها أربع قبل الظهر [أبو دأود "1251"، النسائي "1795"، ابن ماجة "1161"، الترمذي "424"] . وإن أراد غير هذين الحديثين فمنها ما فيه أربع قبل الظهر وأربع بعدها ومنها ما فيه أربع قبل العصر ومنها ما فيه "أن بين كل إذانين صلاة" [مسلم "838", الترمذي "185", ابن ماجه "1162"] أي بين الإذان والإقامة في جميع الصلوات. وورد في خصوص صلاة المغرب بلفظ: "بين أذاني المغرب صلاة" وورد: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين" [البخاري "1183,7368"] وهو في الصحيح. وبالجملة فالمصنفون في الفروع في هذه الديار جعلوا رواتب الفرائض ركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب وركعتين قبل الفجر ولا راتبة عندهم سوى هذه ولا موجب إلا عدم الإشراف على كتب السنة وهجرها بالمرة وجعلها من كتب الخصوم وليسوا بخصوم لأحد من أهل الإسلام بل هم الجامعون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كانوا خصوما بهذا العمل فالويل لمن كانوا خصومه.

وأعجب من هذا أنهم جعلوا الوتر ثلاث ركعات لا يزاد عليها ولا ينقص منها ولا وتر عندهم إلا ذلك لأنهم لم يعرفوا ان الوتر إنما هو إيتار صلاة الليل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غالب حالاته يوتر بركعة والمراد اشتمال آخر صلاة الليل على وتر أما بركعة منفردة أو ثلاث أو خمس أو سبع ولكنه قد ورد النهي عن الإيتار بثلاث كما أوضحته في شرح المنتقي. وأما اعتقاد أن الله شرع صلاة ثلاث ركعات متصلة بعد صلاة العشاء من دون أن يتقدمها صلاة فليس هذا إلا من الجهل البالغ بما جاءت به السنة وأقل ما يفعله من كان عاجزا غير راغب في الأجر أن يصلي ركعتين ويسلم فيهما ثو يوتر بركعة منفردة فإن هذا يصدق عليه أنه لم يصل من النافلة في الليل إلا ركعتين ثم أوترها بركعة وقد كانت صلاته في الليل صلى الله عليه وسلم تبلغ إلي ثلاث عشرة ركعة بوترها وقد يقتصر على اقل منها. قوله: "وكل وقت يصلح للفرض قضاء". أقول: استدلوا على ذلك بحديث أنس عند الشيخين [البخاري "597"، مسلم "684"] ، وغيرهما [أوب دأود "442"، أحمد "3/269" و "3/100"، ابن ماجة "696"، الترمذي "178"، النسائي "1/293، 294"] ، مرفوعا: "من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وفي رواية لغيرهما "فوقتها حين يذكرها" وقد عورض ذلك بالنهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وهو ثابت في أحاديث الصحيحين وغيرهما [مسلم "293/831"، أحمد "4/152"، أبو دأود\ "3192"، الترمذي "1030"، النسائي "1/375"، ابن ماجة "1519"] ، وقد قيل إن حديث "من نام عن صلاته" مطلق مقيد بأحاديث النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وهو ممنوع فإنا إذا سلمنا شمول أحاديث النهي للفرائض المقضية كان بين هذه الأحاديث عموم وخصوص من وجه فأحاديث النهي هي أعم من أن تكون الصلاة نافلة أو فريضة مقضية أو مؤداة. وحديث: "من نام عن صلاته" هو أعم من أن يكون قيام النائم وذكر الناسي في هذه الثلاثة الأوقات أو غيرها إلا أنه لا يخفاك أن الصلاة التي تركت لنوم أو نسيان هي مفعولة في وقت القيام من النوم أو الذكر بعد النسيان في الوقت الذي لا وقت لها سواه فهي أداء لا قضاء فيتوجه النهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات إلي النوافل لا إلي الفرائض المؤداة وقد ثبت أن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك فمن أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدركه ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك الفجر وهذه الأحاديث المصرحة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها أخص مطلقا من أحاديث النهي عن الثلاثة الأوقات وصلاة النائم والساهي لأن ذلك الوقت وقت الأداء لها فهي كسائر الفرائض المؤداة ومن زعم أنها مقضية لا مؤداة فالدليل عليه فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقتها حين يذكرها لا وقت لها سواه. قوله: "وتكره الجنازة والنفل في الثلاثة" أقول: الأحاديث الصحيحة قد وردت مصرحة بالنهي عن الصلاة في الثلاثة الأوقات وعن

قبر الموتى فيها ووردت أحاديث صحيحة مصرحة بالنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس وبعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وظاهر النهي التحريم ولم يرد ما يدل على صرفة عن معناه الحقيقي وهو التحريم إلي معناه المجازي وهو كراهة التنزيه ولم يرد ما يدل على تخصيص ذوات الأسباب من هذا العموم نعم ما ورد فيه دليل يدل على فعله من غير فرق بين وقت الكراهة وغيره كتحية المسجد فبينه وبين أحاديث النهي عموم وخصوص من وجه فيرجع إلي مرجح لأحدهما على الآخر خارج عنهما فإن كان ترجيح الحظر على الإباحة من المرجحات المعمول بها كما يدل عليه حديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه" كان المتعين ترك تحية المسجد في الأوقات المكروهة وينبغي للمتحري لدينه تجنب دخول المساجد فيها فإن دخل لحاجة فلا يقعد. قوله: "وأفضل الوقت أوله" أقول: قد كان استمرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على فعل الصلوات في أول أوقاتها وكان ذلك ديدنه وهجيراه ولا يخالف في ذلك أحد ممن له اطلاع على السنة المطهرة وورد من أقواله ما يدل على ذلك كحديث "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" [البخاري "527، 2782، 5970، 7534"، مسلم "137، 138"، و "139" و "140/85"، أحمد "1/451، 1/409 – 410" و "1/439"، النسائي "1/292"، ابن ماجة "173"] . وما ورد في معناه وجعل قوم الإسفار بالفجر أفضل ولكن كان آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم التغليس بها وورد عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تأخير صلاة العشاء إلي ثلث الليل أو إلي نصف الليل أفضل وأنه إنما ترك ذلك لئلا يشق على أمته وورد عنه صلى الله عليه وسلم رخصة الإبراد بالظهر وعلل ذلك بأن "شدة الحر من فيح جهنم" [البخارس "536"، مسلم "615"، النسائي "501"، ابن ماجة "677"، الترمذي "157"، أبو دأود "402"] . والحاصل أن أفضل الوقت أوله إلا ما خصه دليل مع بيان أنه أفضل كتأخير العشاء لا مجرد الترخيص لعذر فإنه لا يعارض أفضلية أول الوقت. والعجب من استدلال الجلال للرافضة في قولهم بتأخير صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم لحديث "لا حتى يطلع الشاهد" [مسلم "292/830"، النسائي "521"، والشاهد النجم ثم تكميل هذا الاحتجاج الساقط بقوله ولام النجم للاستغراق فيا لله العجب من وقوع هذا المحقق في مثل هذه المضايق التي يتحاشى كل عارف أن يقع في مثلها وهب أن قول والشاهد النجم ليس بمدرج وأنه من كلام النبوة فكيف يحمل على الاستغراق فيكون مدلوله أن تطلع نجوم السماء كلها حتى لا يبقى نجم وهكذا لو قال قائل لآخر لا اكرمك حتى يأتي الرجل وهو غير مريد لرجل بعينه كان مدلوله على ما زعم الجلال امتناع الإكرام حتى يأتي كل رجل في الدنيا فأي فهم يسبق إلي مثل هذا أو أي علم يدل عليه ويستفاد منه وقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صلاة المغرب حتى صلوها في يومي التعلم في وقت واحد عند غروب الشمس وكانوا يفرغون منها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طول القراءة وإن الرجل ليبصر مواقع نعله 2 كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة وقال: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا صلاة

المغرب حتى تشتبك النجوم"، وهو حديث صحيح أخرجه أحمد ["4/147"] ، وأبو دأود ["418"، والحاكم في المستدرك ورجال إسناده ثقات وابن إسحق قد صرح بالتحديث فيه. وأخرج ابن ماجه والحاكم وابن خزيمة في صحيحه هذا الحديث من حديث العباس ابن عبد المطلب بلفظ: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم". ثم أعجب من هذا أن الجلال رحمه الله أيستدل على استحباب تأخير الصلاة للمغرب بما ورد من أحاديث: "إذا حضر الطعام" فيا لله العجب أي دليل في هذا؟ فإن العلة التي صرح الشارع بتأخيرها لها حضور الطعام ولم يكن ذلك خاصا بالمغرب بل ورد في جميع الصلوات كما في الحديث الثابت في الصحيح بلفظ: "لا صلاة بحضرة طعام" وحاشا مثله أن يوقعه حب الروافض في مثل هذا التعسف الذي لا يخفى على من له أدنى عرفان ومن الروافض حتى يتبرع بمذهبهم الباطل بما هو من الباطل؟ وما كلامهم في هذه المسألة بأول عناد عاندوا به الشريعة فإنهم يخالفون كل السنن ويدافعون كل حق. [فصل "وعلى ناقص الصلاة والطهارة غير المستحاضة ونحوها التحري لآخر الاضطرار ولمن عداهم جمع المشاركة وللمريض المتوضىء والمسافر ولو لمعصية والخائف والمشغول بطاعة أو مباح ينفعه وينقصه التوقيت جمع التقديم والتأخير بإذان لهما وإقامتين ولا يسقط الترتيب وإن نسي ويصح التنفل بينهما"] . قوله: "فصل وعلى ناقص الصلاة أو الطهارة غير المستحاضة ونحوها التحري لآخر الاضطرار". أقول: هذا رأي فائل واجتهاد عن الحق مائل وقول عن دليل العقل والنقل عاطل وقد عرفناك فيما سبق ما هو الحق فيما جعلوه وقت اضطرار والمصنف ومن قاله بقوله ممن قبله أو بعده قد أوجبوا على ناقص الصلاة أو الطهارة أن يترك الصلاة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها كما صح بذلك الدليل. وبيان ما ذكرناه من إيجابهم عليه أن يترك الصلاة المفروضة هو أنه لم يرد في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا من هؤلاء يؤخر الصلاة عن وقتها المضرب لها جوازا فضلا عن أن يكون ذلك على جهة الوجوب فضلا عن أن يكون التأخير إلي آخر وقت الاضطرار حتما فإن من فعل الصلاة في هذا الوقت لغير عذر يقتضي التأخير فقد فعلها بعد خروج وقتها المضروب لها ومن فعلها بعد خروج وقتها المضروب لها فقد تركها ولا تأثير لفعلها بعده.

والأحاديث الواردة بأن من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها هي رخصة للمعذورين كالنائم والساهي لا لهؤلاء فإنهم مأمورون بفعل الصلاة في وقتها كغيرهم. فانظر هذه الفائدة التي استفادها المقلد المسكين من هؤلاء المصنفين في علم الدين. وأما قياس هؤلاء على المتيمم فقياس باطل ودعوى كون صلاة الجميع بدلية مصادرة على المطلوب لأن ذلك هو محمل النزاع. ثم لو قدرنا صحة القياس تنزلا لكان الأصل المقيس عليه وهو التيمم والمتيمم ممنوعا فإنه ليس على كونه يؤخر الصلاة إلي آخر الوقت أثارة من علم بل ذلك خلاف الأدلة الدالة على أن المتيمم كغيره يصلي في أول الوقت كما يصلي غيره. وقد قدمنا في باب التيمم ما فيه كفاية فلا أصل ولا فرع ولا عقل ولا شرع. ثم انظر كيف تلون الكلام في هذه الأحكام فإنه استثنى من ناقص الصلاة والطهارة المستحاضة ونحوها ثم أثبت لمن عداهم جمع المشاركة وهذا كله ظلمات بعضها فوق بعض وخبط يتعجب منه الناظر فيه إذا كان له أدنى تمييز. والحاصل أن هذا القول لم يسمع في أيام النبوة وقد كان فيهم الزمني وأهل العلل الكثيرة وفيهم من قال له صلى الله عليه وسلم: "صل قائما فإن لم تسطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" [البخاري "1117"، النسائي "3/224"، أبو دأود "952"، الترمذي "372"، ابن ماجة "1223"] ، ولم يسمع بأنه أمر احدا منهم بتأخير الصلاة عن وقتها ولا جاء في ذلك حرف واحد لا من كتاب ولا من سنة وهكذا لم يسمع شيء من ذلك في عصر الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم ولا في عصر من بعدهم من التابعين وتابعيهم ولم يقل بذلك أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا من سائر أهل الأرض فمثل هذه المسائل من عجائب الرأي الذي اختص به أهل أرضنا هذه. اللهم غفرا. قوله: "وللمريض المتوضىء والمسافر ولو لمعصية" الخ. أقول: أما الجمع للمسافر فقد ثبت بالأحاديث الكثيرة أما جمع التأخير فأحاديثه في الصحيحين [البخاري"1112"، مسلم "46/704"] وغيرهما وأما جمع التقديم فهو ثابت بأحاديث حسان مع مقال فيها ومع معارضتها لما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. وأما الجمع للمريض والخائف وفي المطر فلم يرد في ذلك دليل يخصه إلا ما يفهم من قول الرواة لحديث الجمع بالمدينة فإنهم قالوا من غير خوف ولا سفر ولا مطر. [مسلم "49/705"، البخاري"543"، أبو دأود "214"، الترمذي "187"، النسائي "1/290"] . وقد استدلوا على جواز الدجمع لهم بقياسهم على المسافر وليس بقياس صحيح ولو كان صحيحا لجاز لهم قصر الصلاة وقد مرض النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل إلينا أنه جمع بين الصلوات وكذلك ما نقل إلينا أنه سوغ لأحد من المرضى جمع الصلوات.

وأما ما ذكره المصنف من جواز الجمع للمشغول بطاعة فليت شعري ما هي هذه الطاعةالتي يجوز تأثيرها على الصلاة التي هي رأس الطاعات وهي أحد أركان الإسلام والتي ليس بين العبد وبين الكفر إلا مجرد تركها. وأعجب من هذا وأغرب تجويز الجمع للمشغول بمباح ينفعه وينقص في التوقيت فإن جميع الناس إلا النادر يدأبون في أعمال المعاش العائد لهم بمنفعة وإذا وقتوا فقد تركوا ذلك العمل وقت طهارتهم وصلاتهم ومشيهم إلي المساجد فعلى هذا هم معذورون عن التوقيت طول أعمارهم ولهم جمع الصلاة ما داموا في الحياة وهذا تفريط عظيم وتسأهل بجانب هذه العبادة العظيمة وإفراط في مراعاة جانب الأعمال الدنيوية على الأعمال الأخروية وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم يشتغلون بالأعمال التي يقوم بها ما يحتاجون إليه فمنهم من هو في الأسواق ومنهم من هو في عمل الحرث ونحوه ومنهم من هو في تحصيل علف ماشيته ولم يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عذر أحدا منهم عن حضور الصلاة في أوقاتها ولا بلغنا ان أحدا منهم طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له لعلمهم بأن مثل ذلك لا يسوغه. وأما التمسك بحديث جمعه صلى الله عليه وسلم في المدينة فهذا وقع مرة واحدة وتأوله كثير من الرأوين للحديث وحمله بعضهم على الجمع الصوري لتصريح جماعة من رواته بذلك. وقد افردنا هذا البحث برسالة مستقلة وذكرنا في شرح المنتقي ما ينتفع به طالب الحق رحم الله الحافظ الترمذي فإنه صرح بأن جميع ما في كتابه معمول به إلا حديثين هذا أحدهما. والحال أن كتابه قد اشتمل على ذكر ألوف مؤلفة من الأحاديث. والحاصل أن الكلام في مثل هذا البحث يطول جدا وقد وقع فيه الخبط البالغ والخلط العجيب وتكلم الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضوع بما هو حقيق بأن يضحك منه وتارة ويبكي منه أخرى بل حقيق بأن يعد في لغو الكلام وسقطه وغلطه. قوله: "بذان لهما وإقامتين". أقول: يدل على هذا ما في حديث جابر الطويل عند مسلم ["147/1218"، أبو دأود "1905"، النسائي "1/290". ابن ماجة "3074"، صلى الظهر ثم اقام فصلى العصر. وأخرج أبو دأود ["1930 و 1931"] ، ما يخالف هذا ابن عمر قال جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء يجمع بإقامة واحدة لكل صلاة ولم يناد في الأولى وفي رواية [أبو دأود "1928"] : "لم يناد بينهما ولا على إثر واحدة منهما إلا بالإقامة". وفي البخاري [أحمد "1/375"] ، عن ابن مسعود: "أنه صلاهما بإذان وإقامتين" وأخرج الدارقطني في قصة جمعه بين المغرب والعشاء فنزل فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشيء من الصلاة في السفر.

والراجح حديث جابر فإنه حكاه عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ما روي عن ابن مسعود فإنه موقوف عليه فيكون ما ذكره المصنف رحمه الله هنا موافقا لما هو الراجح.

باب الإذان والإقامة

[باب الإذان والإقامة على الرجال في الخمس فقط وجوبا في الأداء ندبا في القضاء ويكفي السامع ومن في البلد إذان في الوقت مكلف ذكر معرب عدل طاهر من الجنابة ولو قاضيا أو قاعدا أو غير مستقبل. ويقلد البصير في الوقت وفي الصحو] قوله: "على الرجال" أقول: هذه العبادة من أعظم شعائر الإسلام وأشهر معالم الدين فإنها وقعت المواظبة عليها منذ شرعها الله سبحانه إلي أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليل ونهار وسفر وحضر ولم يسمع أنه وقع الإخلال بها أو الترخيص في تركها وقد كان صلى الله عليه وسلم يأمر أمراء الأجناد في الغزو أنهم إذا سمعوا الإذان كفوا وإن لم يسمعوه قاتلوا وناهيك بهذا الحديث يجعله صلى الله عليه وسلم علامة للإسلام ودلالة على التمسك به والدخول فيه ومع هذه الملازمة العظيمة الدائمة المستمرة فقد أمر به صلى الله عليه وسلم غير مرة ومن ذلك حديث مالك بن حويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم" وهو في الصحيحين [البخاري "628"، مسلم "674"] ، وغيرهما [أحمد "5/53"، أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "634"، ابن ماجة "979"] . وفي لفظ البخاري ["630"] : "فأذنا وأقيما"، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان ابن أبي العاص: "اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" عند أحمد ["4/21، 217"] ، وأهل السنن [أبو دأود "531"، الترمذي "1013"، النسائي "2/23"، ابن ماجة "714"] ، وهو حديث صحيح. ومنها أمره صلى الله عليه وسلم لبلال: "أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة" وهو في الصحيحين [البخاري "605"، مسلم "2/378"، وغيرهما [أبو دأود "508"، الترمذي "1013"، ابن ماجة "730"، أحمد "3/103"] . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد "إنها لرؤيا حق إن شاء الله" ثم أمر بالتأذين وهو حديث صحيح صححه الترمذي ["1/359"] ، وغيره. ومنها حديث أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" أخرجه أحمد ["5/196" و "6/446"] ، وأبو دأود ["547"، والنسائي ["2/106 – 107"] ، وابن حبان وقال صحيح الإسناد. والحاصل أنه ما ينبغي في مثل هذه العبادة العظيمة أن يتردد متردد في وجوبها فإنها أشهر

من نار على علم وأدلتها هي الشمس المنيرة وما اسمج ما شكك به الجلال على الوجوب فقال ولو كان وجوبه للصلاة لزم كونه شرطا أو ركنا الخ. وأقول: يا لله العجب أي قائل قد قال إن جميع ما وجب للصلاة لا يكون إلا شرطا أو ركنا فإن الصلاة لها شروط وأركان وفروض لا شروط ولا أركان. وهذا مما لا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهو قائل به وتصرفه في كتابه هذا مناد بذلك بأعلى صوت. ثم هذا الشعار لا يختص بصلاة الجماعة بل لكل مصل عليه أن يؤذن ويقيم لكن من كان في جماعة كفاه إذان المؤذن لها وإقامته. ثم الظاهر أن النساء كالرجال لأنهن شقائق الرجال والأمر لهم أمر لهن ولم يرد ما ينتهض للحجة في عدم الوجوب عليهن فإن الوارد في ذلك في أسانيده متروكون لا يحل الاحتجاج بهم فإن ورد دليل يصلح لإخراجهن فذاك وإلا فهن كالرجال. قوله: "ويكفي السامع ومن في البلد". أقول: يمكن الاستدلال لهذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "فليؤذن لكم أحدكم" فإن هذا يدل على أنه يكفي إذان واحد من الجماعة وأما كونه يكتفي به من في البلد فيدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ المؤذن كما في حديث "واتخذ مؤذنا لا يأخذ على إذانه أجرا" والظاهر أنه يؤذن في البلدة التي هو فيها وأيضا عدم أمره لمن لم يسمع إذان مؤذنيه في المدينة بأن يؤذن دليل على عدم وجوبه على سامعه وإنما يشرع له المتابعة فقط. قوله: "في الوقت". أقول: الإذان هو دعاء إلي الصلاة ولهذا اشتمل على ألفاظ الدعاء التي منها: "حي على الصلاة حي على الفلاح" فلا يفعل في غير الوقت بل ذلك بدعة ظاهر وأما إذان بلال في ذلك الوقت الخاص فقد وضحت فيه العلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليوقظ نائمكم ويراجع قائمكم". كما ثبت في الصحيح فلم يبق ما يستدل به على جواز الإذان لنفس الصلاة قبل دخول وقتها وليس هنا ما يقتضي التعارض والترجيح. قوله: "من مكلف". أقول: هذا هو الظاهر لأن الإذان عبادة شرعية لا تجزىء إلا من مكلف بها وقد استدل الجلال في شرحه لهذا الكتاب على جواز إذان الصبي بإذان أبي محذورة للنبي صلى الله عليه وسلم ثم قال وهو صبي ولا شيء في الروايات أنه كان صبيا بل الذي في الروايات أنه كان صيتا أو قوي الصوت فلعله تصحف على الجلال الصيت بالصبي فجزم بأنه كان صبيا.

وقد وقع في بعض روايات هذا الحديث أنه كان غلأما ولفظ الغلام يطلق على الكبير والصغير قالت ليلى الأخيلية في مدح الحجاج: شفاها من الذى العضال الذب بها ... غلام إذا هز القناة سقاها وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنا الغلام القرشي المؤتمن ... أبو حسين فاعلمن والحسن وقال الأزهري سمعت العرب يقولون للمولود غلام وسمعتهم يقولون للكهل غلام. ومما يدل على أنه كان رجلا ما وقع في رواية النسائي ["633"] ، قال أبو محذورة خرجت عاشر عشرة من مكة فسمعناهم يؤذنون بالصلاة فقمنا نؤذن نستهزىء بهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت" فأرسل إلينا فأذنا رجلا رجلا وكنت آخرهم الحديث. فقوله رجلا يدل على أنه كان رجلا وقال السهيلي إنه كان أبو محذورة في أول إذانه في ست عشرة سنة. قوله: "ذكر". أقول: الإذان إعلام بدخول الوقت ودعاء إلي الصلاة فلا يكون إلا برفع الصوت والمرأة مأمورة بالستر ولم يسمع في ايام النبوة ولا في الصحابة ولا فيمن بعدهم من التابعين وتابعيهم أنه وقع التأذين المشروع الذي هو إعلام بدخول الوقت ودعاء إلي الصلاة من امرأة قط. وأما إذان المرأة لنفسها أو لمن يحضر عندها من النساء مع عدم رفع الصوت رفعا بالغا فلا مانع من ذلك بل الظاهر أن النساء ممن يدخل في الخطاب بالإذان كما قدمنا ذلك. قوله: "معرب". أقول: الإذان عبادة شرعية فينبغي أن يكون على الصفة الواردة عن الشارع ومعلوم أنه كان يؤدى معربا على ما تقتضيه لغة العرب فمن جاء به على غير تلك الصفة فهو لم يفعل ما أمر به كسائر الأذكار الواردة عن الشارع. قوله: "عدل" أقول: قد عرفت أن الإذان إعلام بدخول الوقت للصلاة ودعاء إليها ومن كان غير عدل ولا يؤمن على الوقات ولا يقبل إذا أخبر بدخولها فيفوت المقصود من جعله مؤذنا. ويؤيد هذا ما أخرجه أبو دأود ["590"] ، وابن ماجه ["726"] ، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليؤذن لكم خياركم"، وفي إسناده الحسين بن عيسى الحنفي الكوفي وفيه مقال لا يوجب عدم الاحتجاج بحديثه. وأخرج أحمد وابو دأود وابن حبان وابن خزيمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين".

وروى أيضا من حديث عائشة قال أبو زرعة حديث أبي هريرة أصح من حديث عائشة وصحح الحديثين جميعا ابن حبان. وقد أطلت الكلام على الحديثين في شرحي للمنتقي فليرجع إليه. ووصفه صلى الله عليه وسلم للمؤذن بأنه مؤتمن يدل على أنه لا بد أن يكون عدلا لأن من ليس بعدل ليس بمؤتمن. قوله: "طاهر من الجنابة". أقول: لم يأت ما تقوم به الحجة لا في كون المؤذن طاهرا من الحدث الأكبر ولا من الحدث الأصغر لأن ما هو مرفوع في ذلك لم يصح وما هو موقوف على صحأبي أو تابعي لا تقوم به الحجة وإن كان التطهر للمؤذن من الحدثين هو الأولى والأحسن فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد السلام وهو محدث حدثا اصغر حتى توضأ كما في رواية وتيمم كما في أخرى والإذان أولى بذلك من مجرد رد السلام. قوله: "ولو قاضيا أو قاعدا أو غير مستقبل". أقول: لا شك أن الإذان من المذكورين يجزىء ولكنه في القاعد وغير المستقبل مخالف للهيئة المشروعة الثابتة قوله: "ويقلد البصير في الوقت في الصحو". أقول: ليس هذا من التقليد في شيء بل هو من باب قبول الرواية لأن المؤذن العدل العارف بمداخل الأوقات ومخارجها إذا أذن فهو بإذانه مخبر بدخول الوقت ولا سيما إذا كان في محل مرتفع كالمنارة وأما مع الغيم فهو مانع من صحة الرواية لأنه يحول بين المؤذن وبين العلامات التي يستدل بها على دخول الأوقاف فلم يكن لروايته بالإذان صحة يتعين عندها القبول. [فصل "ولا يقيم إلا هو متطهرا فتكفي من صلى في ذلك المسجد تلك الصلاة ولا يضر إحداثه بعدها وتصح النيابة والبناء للعذر والإذن"] . قوله: فصل: "ولا يقيم إلا هو متطهرا". أقول: حديث: "من أذن فهو يقيم" [الترمذي "199"] ، لم يتكلم عليه إلا بأن في إسناده عبد الرحمن ابن زياد بن أنعم الإفريقي وقد وثقه جماعة ولم يقدح فيه بما يوجب عدم الاحتجاج بحديثه لكنه قد أخرج أحمد ["4/42"] ، وأبو دأود ["512"] عن عبد الله بن زيد صاحب رؤيا الإذان أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤياه قال: "القه على بلال" فألقاه عليه فأذن بلال فقال عبد الله أنا رأيته وأنا كنت أريده قال له صلى الله عليه وسلم: "فأقم أنت" وفي إسناد هذا الحديث ومتنه خلاف.

والحديث الأول متأخر لأن هذا كان عند رؤيا عبد الله بن زيد للإذان وقيل إن هذا الحديث يدل على أن تولي المؤذن للإقامة إنما هو على طريق الندب فقط. وأما كون المقيم متطهرا فلم يرد ما يدل على أن ذلك حتم وغايته ان تكون الإقامة مثل الإذان وقد تقدم الكلام فيه. قوله: "فيكفي من صلى في ذلك المسجد تلك الصلاة". أقول: مشروعية الإقامة لم تختص بشخص دون شخص ولم يرد فيها ما ورد في الإذان مما يدل على أنه يكفي إذان الواحد في البلد أو في المسجد كما قدمنا فإن ورد دليل يدل على أن إقامة الواحد تكفي غيره وتسقط بها المشروعية على كل من صلى في ذلك المسجد فلا بأس وإلا فالظاهر أن مشروعية الإقامة ثابتة على كل شخص سواء كان وحده أو في جماعة وسواء أقام غيره أو لم يقم. وأما كونه لا يضر إحداثه بعدها فظاهر لأنه قد أقام وهو متطهر بل لا يضر إحداثه حالها لعدم ورود ما يدل على أن الطهارة واجبة على المقيم. وأما كون غير المؤذن ينوب عنه في الإقامة فالظاهر أنها تجوز النيابة إذا قد حصل الرضا من المؤذن لأن تخصيصه بالإقامة إنما هو لكونه الأولى بذلك فإذا وقع الإذن جاز للغير أن يقيم سواء كان له عذر أو لا وأما البناء فإنما يكون للعذر لأن وقع الإقامة من اثنين مع عدم العذر بدعة فلو قال المصنف وتصح النيابة للإذن والبناء للعذر لكان صوابا. [فصل وهما مثنى إلا التهليل ومنهما حي على خير العمل والتثويب بدعة وتجب نيتهها ويفسدان بالنقص والتعكيس لا بترك الجهر ولا الصلاة بنسيانهما. ويكره الكلام حالهما وبعدهما والنفل في المغرب بينهما] . قوله: فصل: "وهما مثنى إلا التهليل". أقول: قد ثبت تشفيع الإذان وإيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة في الصحيحين [البخاري "605"، مسلم "2/378"] ، وغيرهما [أبو دأود "508"، الترمذي "193"، ابن ماجة "730"، أحمد "3/103"] . وثبت تربيع التكبير في أول الإذان من طرق حسنها البعض وصححها البعض وثبت التربيع في الشهادتين في صحيح مسلم ["6/379"، وغيره [أبو دأود "502"، الترمذي "193"،ابن ماجة "709"، النسائي "2/4"، أحمد "3/409"] . وروي من وجه صحيح تشفيع جميع ألفاظ الإقامة. وورد في الإقامة من وجه صحيح ما يدل على إيتارها إلا التكبير في أولها وآخرها و"قد قامت الصلاة" فإن ذلك يكون مثنى مثنى.

وروي أيضا التثويب في صلاة الصبح من وجه صححه بعض الحفاظ وتكلم فيه آخرون فإن عملنا بأصح ما ورد فهو تشفيع الإذان مع الترجيع في الشهادتين وإيتار الإقامة إلا لفظ قد قامت الصلاة والتكبير في أولها وآخرها. وإن سلكنا طريقة الجمع فيتعين العمل بالزيادة الخارجة من مخرج صحيح فيكون التكبير في أول الإذان أربعا وتكون الشهادتان مع الترجيح ثمانيا وسائر الألفاظ في الإذان مرتين مرتين إلا قول المؤذن "لا إله إلا الله" في آخره فإنه مرة واحدة ويزاد في صلاة الصبح لفظ التثويب وهو أن يقول المؤذن "الصلاة خير من النوم". وتكون الإقامة مثنى مثنى إلا قول المقيم لا إله إلا الله في آخرها فإنها مرة واحدة فهذا حاصل ما ورد في الإذان والإقامة وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلي أن الكل سنة وأيها فعله المؤذن والمقيم فقد فعل ما هو حق وسنة قال أبو عمر بن عبد البر ذهب أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه ودأود بن علي ومحمد بن جرير الطبري إلي إجازة القول بكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وحملوه على الإباحة والتخيير قالوا كل ذلك جائز لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك وعمل به أصحابه فمن شاء قال: "الله أكبر" في أول الأذان أربعا ومن شاء ثنى ومن شاء ثنى الإقامة ومن شاء أفردها إلا قوله: "قد قامت الصلاة" فإن ذلك مرتان على كل حال انتهى. وهذا الذي قالوه صواب كما قيل في التشهدات والتوجهات ولكن ذلك لا ينافي أن يختار الإنسان لنفسه أصح ما ورد أو يأخذ بالزائد فالزائد قال ابن القيم في الهدي ذاهبا إلي ما ذهب إليه أولئك الأئمة ومشيرا إلي ما اشرنا إليه ما لفظه أنه سن التأذين بترجيع وغير ترجيع وشرع الإقامة مثنى وفرادى لكن صح عنه تثنيه كلمة الإقامة قد قامت الصلاة ولم يصح عنه أفرادها ألبتة وكذلك صح عنه تكرر لفظ التكبير في أول الإذان ولم يصح عنه الاقتصار على مرتين وأما حديث أمر بلال أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة فلا ينافي الشفع بأربع وقد صح التربيع صريحا في حديث عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب وأبي محذورة. وأما أفراد الإقامة فقد صح عن ابن عمر استثناء كلمة الإقامة فقال إنما كان الإذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين والإقامة مرة مرة غير أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. وفي البخاري عن أنس أمر بلال أن يشفع الإذان ويوتر الإقامة وصح في حديث عبد الله بن زيد وعمر في الإقامة "قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة". وصح في حديث أبي محذورة تثنية كلمة الإقامة مع سائر كلمات الإذان. وكل هذه الوجوه جائزة مجزئة لا كراهة فيها وإن كان بعضها أفضل من بعض انتهى. وبما أوضحناه لك في هذا البحث ترتفع عنك الإشكالات في هذه المسألة فقد طالت ذيولها وتشعبت طرائقها.

قوله: "ومنهما حي على خير العمل". أقول: هذا اللفظ قد صار من المراكز العظيمة عند غالب الشيعة ولكن الحكم بين المختلفين من العباد هو كتاب الله وسنة رسول فما جاءنا فيهما فسمعا وطاعة وما لم يكن فيهما فإن وضح فيه وجه قياس بمسلك من المسالك المقبولة التي لا ترفع ولا تنقض كالنص على العلة أو دلالة الدليل على ثبوت الحكم في المسكوت عنه بفحوى الخطاب كان للمتمسك بذلك أن يقول به على ما فيه من خلاف. وهكذا إذا صح الإجماع على حكم ولكن دون تصحيح الإجماع مفأوز متلوية وطرائق متشعبة وعقاب شامخة كما أوضحنا ذلك في إرشاد الفحول إلي تحقيق الحق من علم الأصول. وإذا كان اختلاف المختلفين في حكم ثابت من السنة فالمرجع دوأوينها التي وضعها علماء الرواية وهي الأمهات وما يلتحق بها من المسانيد ونحوها ولم يثبت رفع هذا اللفظ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث على اختلاف أنواعها وغاية ما يروى في ذلك ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن بلال أنه كان يؤذن للصبح فيقول حي على خير العمل فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مكانها "الصلاة خير من النوم" وترك "حي على خير العمل" وفي إسناده عبد الرحمن بن عمار بن سعد وهو ضعيف وقد قال البيهقي بعد إخراجه هذا اللفظ لم يثبت فيما علم النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه انتهى. ومع هذا ففي هذا التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا أن يترك ذلك فلو قدرنا ثبوته لكان منسوخا. قوله: "والتثويب بدعة". أقول: قد رويت فيه أحاديث منها ما هو صحيح ومنها حسن ومنها ما هو ضعيف فلا وجه للقول بأنه بدعة وهو مختص بصلاة الفجر وذلك بأن يقول المؤذن بعد قوله: "حي على الفلاح" "الصلاة خير من النوم". ولقد وقع للجلال في شرح هذا الكتاب في هذا البحث وفي بحث "حي على خير العمل" من التكلف والتعسف والخروج عن طريق الحق ما يعجب الناظر فيه من قائله خصوصا إذا كان ممن يدعي الإنصاف في مسائل الخلاف وتأثير الأدلة على القيل والقال ولله الأمر من قبل ومن بعد. قوله: "وتجب نيتهما" أقول: لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وما ورد في معناه وقوله عز وجل: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29، يونس: 22، العنكبوت: 65، لقمان: 32، غافر: 14، 65، البينة: 5] . فوجه مشروعيته النية في الإذان والإقامة هو هذا لأن الأعمال المذكورة في الحديث تشمل الأقوال والأفعال. وأما ما ذكره الجلال في شرحه لهذا الكتاب من أن النية تجب لما كان يقع على وجوه كثيرة

لا ما كان يقع على وجه واحد فليس ذلك إلا مجرد رأي محض والدليل قد دل على مشروعية النية على العموم لأنه وقع التعبد بها في كل عمل كما نطق به الدليل فينوي المؤذن والمقيم أن هذا القول الذي قصد له هو ما تعبده الله به وشرعه له وبهذه النية يخلص من كل وجه من الوجوه التي لم يقصدها الشارع ولا شرع الفعل لها. وأما ما ذكره المصنف من أن الإذان والإقامة يفسدان بالنقص فوجهه أن الذي نقص بعض ألفاظ الإذان والإقامة لم يأت بالمشروع منهما فهو كمن لم يعقل ذلك وهكذا من عكس ألفاظهما. وأما ما ذكره من أنهما لا يفسدان بترك الجهر فهذا إذا أذن لنفسه أوله ولمن هو حاضر لديه يسمع إسراره وأما إذا كان المؤذن داعيا إلي الصلاة معلما بدخول وقتها فهو لم يفعل ما هو المقصود من نصبه للتأذين وإن كان قد فعل المشروع له بخصوصه من الإذان لنفسه. وأما عدم فساد الصلاة بنسيانهما فهو واضح لأنهما عبادة خارجة عن الصلاة التي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم لا شرط من شروط كالوضوء فلا تفسد الصلاة يتركهما عمدا فضلا عن نسيانهما ولكن التارك لهما عمدا قد أخل بواجبين عليه كما قدمنا من أن الأدلة قد دلت على وجوبهما. وأما كراهة الكلام حالهما فواضح لأنه اشتغال حال العبادة بما ليس منها وكذا الكلام بعدها لأن الإقامة للصلاة دعاء إليها بعد الدعاء بالإذان فالاشتغال بعد ذلك بغير الصلاة مما لا جدوى فيه من الكلام يخالف ما هو مدلول لفظ الإقامة لا سيما قول المقيم قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة فإن ذلك متضمن للإخبار بقيامها ففعل شيء بعدها من كلام أو غيره يخالف هذا الإخبار وينافيه. وأما ما ثبت في الصحيح ["624، 643"، أحمد "3/182، 205، 232"] ، من حديث أنس قال أقيمت صلاة العشاء فقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم لي حاجة فقام إليه يناجيه فهذا هو من قضاء حوائج المسلمين لا من الاشتغال بما لا يغني من الكلام الذي ذكر المصنف كراهته وقد تكون هذه الحاجة التي طلب ذلك الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم قضاءها مما لا ينبغي تأخيره ولو بمجرد ظنه صلى الله عليه وسلم كذلك عند قول القائل لي حاجة وقد يكون هذا الرجل من المؤلفين الذين لم يرسخ الإيمان في قلوبهم فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتألفه بقضاء حاجته في ذلك الوقت. قوله: "والنفل بينهما". أقول: هذا دفع في وجه الأدلة الصحيحة ورد للسنة التي هي أظهر من شمس النهار فإنه قد ثبت مشروعية النفل بين الإذان والإقامة في جميع الصلوات كحديث: "بين كل إذانين صلاة" ثم ثبت مزيد لخصوصية النفل بين إذان المغرب وإقامته فورد بلفظ: "بين إذاني المغرب صلاة" وورد بلفظ: "صلوا قبل صلاة المغرب ركعتين" وكرر ذلك ثلاثا وقال في الثلاثة "لمن شاء" وهو في الصحيحين [البخاري "1183، 7368"، مسلم "838"] ، وغيرهما. وقال الرأوي معللا

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لمن شاء" كراهية أن يتخذها الناس سنة يعني سنة لازمة لا يجوز تركها. وقد ثبت أن الصحابة كانوا إذا أذن المؤذنون للمغرب قاموا يصلون هذه النافلة حتى يظن من دخل المسجد أن الصلاة قد صليت لما يرى من كثرة ما يصلي هذه النافلة. وأما الاستدلال للكراهة بما تقدم من حديث أبي أيوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال أمتي بخير أو على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب" فليس في ذلك ما يدل على كراهة هذه النافلة فإن المقصود التأخير عن الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلها فيه وهو الذي أرشد الأمة إلي فعل هذه النافلة وأكد ذلك عليهم بالتكرير فنصب هذا الحديث في مقابلة الأحاديث التي ذكرناها ليس كما ينبغي ولا يفعله من له ملكة في الاستدلال ومعرفة بما جاءت به السنة.

باب صفة الصلاة

[باب صفة الصلاة "هي ثنائية وثلاثية ورباعية" فصل وفروضها نية يتعين بها الفرض مع التكبيرة أو قبلها بيسير ولا يلزم للأداء والقضاء إلا للبس ويضاف ذو السبب إليه. قال المؤيد بالله تكفي صلاة إمامي حيث التبس أظهر أمر جمعة فقط والمحتاط آخر ما علي من كذا والقاضي ثلاثا عما علي مطلقا وركعتان ممن لا قصر عليه لا الأربع غالبا ثم التكبير قائما لا غيره وهو منها في الأصح ويثنى للخروج والدخول في أخرى ثم القيام قدر الفاتحة وثلاث آيات في أي ركعة أو مفرقا ثم قراءة ذلك كذلك سرا في العصرين وجهرا في غيرهما. ويتحمله الإمام عن السامع وعلى المرأة أقله من الرجل وهو إن يسمع من بجنبه ثم ركوع بعد اعتدال ثم اعتدال تام وإلا بطلت إلا لضرر أو خلل طهارة ثم السجود على الجبهة مستقرة بلا حائل حي أو يحمله إلا الناصية وعصابة الحرة مطلقا والمحمول لحر أو برد وعلى الركبتين وباطن الكفين والقدمين وإلا بطلت ثم اعتدال بين كال سجودين ناصبا للقدم اليمنى فارشا لليسرى وإلا بطلت. ويعزل ولا يعكس للعذر ثم الشهادتان والصلاة على النبي وآله قاعدا والنصب والفرش هيئة ثم التسليم على اليمين واليسار بانحراف مرتبا معرفا قاصدا للملكين ومن في

ناحيتها من المسلمين في الجماعة وكل ذكر تعذر بالعربية فبغيرها إلا القرآن فيسبح لتعذره كيف أمكن. وعلى الأمي ما أمكنه آخر الوقت إن نقص ويصح الاستملاء لا التلقين والتعكيس وتسقط عن الأخرس لا الألثغ ونحوه وإن غير. ولا يلزم المرء اجتهاد غيره لتعذر اجتهاده] . قوله: "وفروضها نية يتعين بها الفرض مع التكبيرة" الخ أقول: حديث: "إنما الأعمال بالنيات" وفي لفظ: "لا عمل إلا بنية " قد دل على أن النية شرط من شروط الصلاة لوجود دليل الشرطية القاضي بعدم المشروط عند عدم الشرط فإنه إن قدر أن الذات الشرعية لا تكون إلا بالنية كما هو المعنى الحقيقي انتفت تلك الذات الشرعية بانتفاء النية وهذا هو معنى الشرط. وهكذا إن قدرت الصحة التي هي أقرب المجازين إلي الحقيقة أفاد انتفاء الصحة بانتفاء النية ولا يصار إلي تقدير الكمال إلا بدليل لأنه مجاز بعيد. إذا عرفت هذا علمت أن النية شرط من شروط الصحة وأنه لا صلاة لمن لم ينو وليست بفرض كما قال المصنف فإن الفرض لا يؤثر عدمه في عدم ما هو فرض فيه إلا إذا كان ركنا فإن الركن يؤثر عدمه في عدم ما هو ركن فيه لعدم وجود الذات المطلوبة على الصفة المقصودة إلا أن يدل دليل على أن عدم ذلك الركن لا يقدح في تلك الذات المطلوبة ولا يوجب انعدامه انعدامها. وقد تكلم الجلال ها هنا بما هو نوع من الهذيان لأنه لم يجر على مقتضى الرواية ولا على أسلوب الرأي وهكذا لا وجه لقول المصنف ولا يجب للأداء والقضاء إلا للبس فإن وجوب النية ليس لمجرد رفع اللبس بل لورود التعبد بها في كل عبادة سواء كانت مما يلتبس بغيره أم لا ولا فرق بين الصلوات الخمس وبين غيرها كالجمعة والعيد والجنازة لأن جميع ذلك عمل ولا عمل إلا بنية. والمراد بالنية قصد تأدية تلك العبادة التي شرعها الله سبحانه لعباده على الوجه المطلوب منهم فلا يصح أن تكون مترددة ولا مجملة ولا مشروطة. وبهذا تعرف الكلام على ما حكاه المصنف عن المؤيد بالله. قوله: "ثم التكبير". أقول: اعلم أن الله سبحانه أمرنا بالصلاة في كتابه العزيز أمرا مجملا فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43، 83، 110، النساء: 77، 103، الأنعام: 72، العراف: 29، يونس: 87، الحج: 78] ، وهذا أمر فما وقع في بيانه منه صلى الله عليه وسلم فهو بيان لمجمل واجب فيكون واجبا. فهذا الدليل بمجرده قد دل على وجوب جميع ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في الصلاة سواء كان

ركنا أو ذكرا أو شرطا ثم زاد هذا الدليل تأكيدا قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" [البخاري "6008"، مسلم "24/392"، أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "2/77"، ابن ماجة "979"] ، فكان هذا دليلا على وجوب جميع ما فعله في صلاته أو قاله فيها فلا يخرج عن الوجوب شيء منها إلا بدليل يدل على عدم وجوبه وذلك كحديث "المسيء صلاته" [البخاري "6251"، مسلم "397"] ، فإنه اقتصر في تعليمه على البعض مما كان صلى الله عليه وسلم يفعله في الصلاة وكان ذلك دليلا على أن ما لم يذكر فيه ليس بواجب ومن جملة ما هو مذكور فيه تكبير الافتتاح فتقرر بهذا أنه من واجبات الصلاة وزاد ذلك تأكيد قوله صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" [أحمد "1/129"، أبو دأود "618"، الترمذي "3"، ابن ماجة "275"] ، فإنه قد بين في هذا الحديث أن للصلاة تحريما وتحليلا فكان ذلك دليلا علي وجوبهما لوجوب ما هما تحريم له وتحليل. وأما المعارضة بأنه قد وقع في حديث المسيء اشياء غير واجبة فليس مجرد هذه المعارضة قادحة في وجوب ما دلت الأدلة على وجوبه لأن ذلك هو مجرد إلزام لمثل مصنف هذا الكتاب ومن قال بقوله. وقد استكثر الجلال من التمسك بمجرد هذه المعارضة في شرحه لهذا الكتاب وأسقط بها فرائض جاءت الأوامر بها وثبتت في حديث المسيء وليس هذا من داب أهل الإنصاف بل مجرد مجأدلة ومخاصمة في الحق ولا يوجب وقوع المعارضة أو المناقضة لطائفة ذهاب الحق الذي شرعه الله لعباده وهم إذا التزموا ذلك واعترفوا فالحق من وراء إلزامه لهم واعترافهم له. ونحن نقول له ما عارضتهم به أو ناقضتهم باعتبار ما قالوه وما صرحوا به هو عندنا ملتزم ونحن نقول بوجوبه حتى يدل دليل على عدم وجوبه وحينئذ يصفو مشرب الحق وترتفع ظلمة الجدال وينجلي قتام الخصام. فيا طالب الحق خذ هذه الكلية واجعلها على ذكر منك تنتفع بها في كثير من المباحث التي صارت بالتمسك بالطرائق الجدلية ظلمات بعضها فوق بعض ولم يستفد منها كثير من المطلعين عليها إلا مجرد الحيرة وعدم الاهتداء لوجه الصواب. وقد جمعت جميع طرق حديث المسيء في شرحي للمنتقي وذكرت جميع ألفاظه المختلفة فاحكم لجميع ما اشتمل عليه بالوجوب لما قدمنا من كونه بيانا لمجمل واجب ولأمره صلى الله عليه وسلم بأن نصلي كما رأيناه يصلي ولاقتصاره في تعليم المسيء على ما اشتمل عليه حتى يأتي دليل يخص بعضه بعدم الوجوب فإنك بهذا الصنع قاعد في مقعد الإنصاف قائم في مقام الحق الذي لا تزحزحه شبهة ولا يدفعه جدال ولا يضره قيل ولا قال. إذا عرفت هذا فاعلم أن تكبير الافتتاح من قعود أو بغير اللفظ الذي ثبت عن الشارع بدعة وكل بدعة ضلالة فما لنا وللتعرض لمثل هذا وأنه قد قال به فلان أو عمل به فلان وجعل ذلك ذريعة إلي الاعتراض على من قال بالحق ودان بالصواب. قوله: "والقيام قدر الفاتحة".

أقول: القيام ركن من أركان الصلاة التي لا تتم إلا به ولا ينبغي أن يقع في مثله خلاف فهو فرض ركني له مزيد خصوصية على مجرد الفرضية لتأثير عدمه في عدم الصلاة. وأما تقدير المصنف لما هو الواجب من القيام بأنه قدر الفاتحة وثلاث آيات فهذا مجرد رأي محض ليس عليه دليل ولا شبهة دليل. وأعجب من هذا وأغرب أنه يكفي القيام هذا القدر في ركعة من الركعات ولا يستقر في قيامه في سائر الركعات إلا قدر سبحان الله فإن هذه ليست الصلاة التي جاءت بها الشريعة وعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة منذ فرض الله الصلاة إلي أن قبضه الله إليه. ويا لله العجب من التجرؤ على مثل هذه العبادة التي هي رأس الدين وأساسه بمثل هذه الخزعبلات والترهات قوله: "ثم قراءة ذلك كذلك". أقول: قد ورد الأمر بالقراءة في الكتاب العزيز ثم بينت السنة بأنه "لا صلاة لمن لا يقرأ بأم القرآن" [البخاري "822"، مسلم "34/394"، أبو دأود822"، الترمذي "247"، النسائي "2/137"، ابن ماجة "837"، أحمد "5/314"] ، وفي لفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن". وقوله: "لا صلاة" يدل أن ترك قراءة الفاتحة تبطل به الصلاة لأن المراد لا صلاة شرعية فما وقع من الصلاة لم يقرأ فيه بأم القرآن فهو غير صلاة شرعية وهذا يكفي في الاستدلال على فرضية القراءة بفاتحة الكتاب بل استلزم عدمها لعدم الصلاة وهو زيادة على مجرد الفرضية وعلى فرض ورود دليل يدل على أن هذا النفي لا يتوجه إلي الذات فقد قدمنا لك أن تقدير الصحة هو أقرب المجازين إلي الذات فيتعين تقدير الصحة. هذا على فرض أنه لم يرد ما قدمنا بلفظ: "لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن" فكيف وقد ورد وثبت فإن ذلك يقطع النزاع ويرفع الخلاف ويدفع في وجه من زعم أن الذي ينبغي تقديره ها هنا هو الكمال. إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد ورد في حديث المسيء من وجه صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن يقرأ ثم قال له: "اصنع ذلك في كل ركعة" [أحمد "4/340"، أبو دأود "857، 858، 859، 861"، النسائي "2/193"] ، وهذا دليل قوي على وجوب الفاتحة في كل ركعة وقد أخرجه أحمد وابن ماجه في حديث المسيء من رواية رفاعة بن رافع بأسناد صحيح وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي بإسناد صحيح. فتقرر لك بهذا فرضية قراءة الفاتحة في كل ركعة بالأدلة الصحيحة فدع عنك القيل والقال والمجادلة بما لا يتفق من المقال عند فحول الرجال فإن كل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع. قوله: "سرا في العصرين وجهرا في غيرهما". أقول: أما قراءته صلى الله عليه وسلم في الصلوات المفروضة فقد تبين أمرها وعرف ما كان يجهر فيه منها وما كان يسر فيه لكنه لم يرد في تعليم المسيء أنه صلى الله عليه وسلم قال له: اقرأ في صلاتك كذا جهرا وفي

صلاتك كذا سرا, بل أمره بالقراءة وهي أعم من أن يأتي بها سرا أو جهرا فيكون فعله للجهر في بعض الصلوات وهي الفجر والمغرب والعشاء والإسرار في البعض الآخر وهما الظهر والعصر كالبيان لذلك الأمر للمسيء فيتم حينئذ القول بوجوب الجهر فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسرار فيما أسر فيه لا بدليل كون فعله بيانا للمجمل ولا بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" بل بما في حديث المسيء. قوله: "ويتحمله الإمام عن السامع" أقول: قوله تعالي: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا قرأ فأنصتوا" [أحمد "2/420"، أبو دأود "604"، النسائي "2/141"، ابن ماجة "846"، مسلم "63"] ، يدل على أن الإمام يتحمل القراءة عن السامع. وعلى تقدير ما قيل من عدم دلالة الآية على المطلوب وعدم انتهاض الحديث للاستدلال به فقد أغنى عن ذلك الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب" [أحمد "5/316"، أبو دأود "823"، الترمذي "311"] . وإن هذا الحديث قد أفاد فائدتين الأولى النهي عن القرآن خلف الإمام والثاني وجوب قراءة الفاتحة خلفه وهذا ظاهر واضح لا ينبغي التردد في مثله لصحته ووضوح دلالته. قوله: "وعلى المرأة أقله من الرجل". أقول: لم يرد دليل يدل على هذا إلا مجرد ملاحظة ما هو اقرب إلي الستر وأبعد من الفتنة وأقل الجهر إذا كان مجزئا للرجال فهو مجزىء للنساء بالأولى. قوله: "ثم ركوع بعد اعتدال ثم اعتدال تام وإلا بطلت إلا لضرر أو خلل طهارة". أقول: فرضية الركوع والاعتدال منه معلوم بالضرورة الشرعية وبطلان صلاة من لم يفعل ذلك أصلا أو لم يفعله حتى يطمئن معلوم بالأدلة الصحيحة كحديث المسيء فإنه صرح فيه بقوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما" الحديث، مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره" وهو حديث صحيح [الترمذي "265"، أحمد "4/122"، ابن ماجة "870"] ، وورد عند أحمد ["4/22"] ، وغيره بلفظ: "لا ينظر الله إلي صلاة عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده" وقد قال للمسيء "ارجع فصل فإنك لم تصل". وأما الاستدلال على عدم البطلان بقوله للمسيء بعد تعليمه: "إذا انتقصت من ذلك شيئا فقد انتقصت من صلاتك" فلا دلالة له على ذلك لأن انتقاصه من صلاته بترك ركن من أركانها يخرجها عن الصورة المطلوبة للشارع وقد قال لهذا المسيء نفسه "ارجع فصل فإنك لم تصل" فوجب حمل هذا الانتقاص على الإسقاط المبطل للصلاة جمعا بين الروايتين. ولأهل الرأي في عدم إيجاب الطمأنينة كلام يعرف فساده من يعرف الاستدلال ويدري بكيفيته وقد أفضى ذلك إلي أن يصلي غالب عامتهم وبعض خاصتهم صلاة لا ينظر الله إلي

صاحبها ولا تجزئه كما نطق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت هذه الرؤية النازلة بهم هي ثمرتهم المستفادة من تقليدهم. قوله: "ثم السجود على الجبهة مستقرة". أقول: قد ثبت في حديث المسيء أنه صلى الله عليه وسلم أمره بأن يمكن جبهته من الأرض وأخرج الترمذي من حديث أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سجد أمكن جبهته وأنفه الأرض وقال حسن صحيح وأخرج النسائي ["1113"] من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة لا اكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين"، وأخرجه مسلم بلفظ ["231/490"] : "على سبع ولا أكف الشعر ولا الثياب الجبهة والأنف" الحديث وفي لفظ الصحيحين [البخاري "812"، مسلم "230/490"، أبو دأود "890"، الترمذي "273"، النسائي "1093"] ، من حديث ابن عباس اقتصر علي ذكر الجبهة دون الأنف، وقد ثبت في ألفاظ الأحاديث في الصحيحين وغيرهما بلفظ أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم. [البخاري"809"] . وبهذا البيان يتضح لك ان رواية ذكر الجبهة مع الإشارة إلي الأنف لبيان أن السجود على الجبهة لا يكون تأما كاملا إلا بوضع الأنف معها. ومع هذا فقد أغنانا على ذلك ذكرهما معا في الأحاديث كما اشرنا إليه وقد اجتمع في السجود على الجبهة والأنف البيان للسجود المأمور به في القرآن المعلوم وجوبه بالضرورة الشرعية بالقول والفعل فكان ذلك كافيا في فرضية السجود على تلك الأعضاء من غير انضمام أمر الأمة بذلك فكيف وقد ثبت كما ذكرناه لك وحينئذ تعرف أنه لا وجه لما ذكره الجلال من تلك المقأولات التي هي بمعزل عن التحقيق. واعلم أن الأمر بالسجود على هذه الأعضاء لا بد أن يكون على الأرض أو على ما هو عليها من حصير أو نحوه فلا يجعل المصلي بين هذه الأعضاء وبين ذلك حائلا لا من حي ولا من غيره فإن فعل خالف ما أمر به مع كون ذلك بيانا لمجمل القرآن ولهذا حكم المصنف على من لم يسجد على هذه الأعضاء بلا حائل بينها وبين الأرض بالبطلان لسجدته ولكنه ربما يقال إن الذي سجد على هذه الأعضاء مع حائل قد سجد عليها وفعل ما أمر به فإنه يصدق عليه لغة وعرفا وشرعا أنه قد سجد عليها فكون الحائل مانعا من صحة السجود الموجود في الخارج يحتاج إلي دليل فإن جاء به صافيا عن شوب الكدر صالحا للحجية فبها ونعمت وإلا فلا نسلم أن ذلك السجود الموجود في الخارج كلاسجود مع كونه على الأعضاء التي وقع الأمر بالسجود عليها. ومما يؤيد هذا ما في الصحيحين [البخاري "385"، مسلم "191/620"] وغيرهما من حديث [النسائي "116"] ، من حديث أنس قال كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.

قوله: "ثم اعتدل بين كل سجودين". أقول: هذا فرض ركني لا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهو بيان للسجود المأمور به في القرآن وصح في حديث المسيء في الصحيحين وغيرهما بلفظ "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا". فيا عجبا لمن لم يقل بفرضية هذا الركن وتلاعب به في صلاته وترك ما هو الشرع الواضح والركن الذي لا صلاة لمن لا يأت به فيها. قوله: "ثم الشهادتان". أقول: لا وجه للاقتصار على مجرد الشهادتين لأنهم استدلوا على وجوبها بما وقع من الأوامر عنه صلى الله عليه وسلم بالتشهد فينبغي إيجاب أحد التشهدات بنفس الدليل الذي استدلوا به على وجوب الشهادتين وحاصل ما استدل به الموجبون للتشهد ما وقع من امره صلى الله عليه وسلم مع قول ابن مسعود وكنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد فإن هذا يدل على أنه فرض عليهم ولم يأت القائلون بعدم وجوبه بحجة مقبولة إلا قولهم إنه لم يذكر في حديث تعليم المسيء وصدقوا لم يذكر في حديث المسيء لكن إذا تقرر أن حديث تعليم المسيء متأخر عن مشروعية التشهد أما إذا كان حديث المسيء متقدما فلا مانع من أن يتجدد إيجاب واجبات لم يشتمل عليها فإن جهل التاريخ كان القول بالوجوب أرجح لأنه قد وجد ما يقتضي الوجوب ولم يتيقن ما يصرفه عن ذلك فوجب على الوجوب عملا بدليله. لا يقال إن الأصل البراءة للذمة لأنا نقول لا براءة بعد وجود الدليل الدال على الوجوب إلا بوجود ما يصرفه عن حقيقته. قوله: "والصلاة على النبي وآله". أقول: أدلة وجوب ذلك في الصلاة دون أدلة وجوب التشهد وقد عرفناك ما في ذلك ووجهه أن التشهد قد صرحت الأحاديث بمحله وأين يقال وأما الأحاديث الواردة بتعليم كيفية الصلاة فليس فيها ذكر إيقاع ذلك في التشهد. وأما ما ورد في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود عند ابن حبان وابن خزيمة والحاكم والبيهقي وصححوه والدارقطني أنهم قالوا كيف نصلي عليك في صلاتنا فليس فيه أن ذلك في التشهد بل هو مطلق في جنس الصلاة ومع هذا فلم يذكر الصلاة في حديث المسيء الذي هو مرجع الواجبات. وقد أطلنا البحث في هذا في شرح المنتقى فليرجع إليه. قوله: "والنصب والفرش هيئة". أقول: أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر ما روى هو أن يتورك [أحمد "5/424"، أبو دأود "730"، الترمذي "304"، النسائي "3/34"] المصلي عند قعوده لهذا التشهد وقد ورد النصب [البخاري "828"، أبو دأود "734، 967"] ، والفرش ورودا يسيرا بالنسبة إلي التورك وورد صفة ثالثة هي

أنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل قدمه اليسرى بين فخذه الأيمن وساقه [مسلم "112/ 579"] ، فلا وجه لاقتصار المصنف على هيئة واحدة وتأثيرها على ما هو أصح منها. قوله: "ثم التسليم على اليمين واليسار". أقول: أشف ما استدل به القائلون بالوجوب هو حديث تحريمها التكبير وتحليلها التسليم فإن هذا الحديث يدل على أنهما جزاءان للصلاة وعلى تسليم دلالة هذا على الوجوب فإنما يتم ذلك لو قدرنا تأخره عن حديث المسيء فإنه لم يذكر فيه السلام. وقد عرفناك أن واجبات الصلاة قد انحصرت فيه الا أن يأتي ما يدل على الوجوب ويثبت تأخره عن حديث المسيء لما تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وأما الخلاف في التسليم هل هو واحدة أو اثنتان أو ثلاث فالأدلة الصحيحة الكثيرة قد دلت على تسليمتين [أبو دأود "997"، أحمد "4/316"] ، والدليل الدال على كفاية الواحدة على تقدير صلاحيته للحجية لا يعارض أحاديث التسليمتين لأنها مشتملة على زيادة غير منافية للمزيد ولم يرد في مشروعية الثلاث شيء يعتد به. وأما ما ذكره المصنف رحمه الله من الأنحراف فلا يتم السلام المشروع إلا بالانحراف وهكذا لا يكون سلأما مشروعا إلا بالتعريف لأنه الصفة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم. وأما قصد الملائكة فلم يدل دليل على ذلك. قوله: "وكل ذكر تعذر بالعربية فبغيرها". أقول: دل على هذا ما وقع في رواية من حديث المسيء بلفظ: "فإن كان معك قرآن وإلا فأحمد الله وكبره وهلله" [أبو دأود "861"] ، ووقع في حديث ابن أبي أوفى عند أحمد ["4/353" و "4/356"] ،وأبي دأود ["832"] ، والنسائي "2/143"] ، وغيرهم أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم لا استطيع شيئا من القرآن فقال له صلى الله عليه وسلم: "قل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" وفي إسناده مقال لا يوجب سقوط الاستدلال به فمن لم يقدر على قراءة الفاتحة وما تيسر من القرآن عدل إلي هذا الذكر مع إيجاب التعلم عليه وتضييقه حتى يحفظ الفاتحة وقرآنا معها فبصلي بذلك ما فرضه الله عليه وهكذا من كان مستعجم اللسان وتعذر عليه شيء من أذكار الصلاة بالعربية كالتشهد والتوجه فله أن يأتي بمعنى ذلك بلسانه حتى يتعلم ذلك الذكر الذي تعذر عليه حال وجوب الصلاة عليه وقد جعل الله في الأمر سعة لكن مع تحتم تعلم ما شرعه الله لعباده من اذكار الصلاة خصوصا الفاتحة وما يتيسر معها من القرآن لما قدمنا من الأدلة الدالة على أنها لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب بل لا تجزىء ركعة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وأما إيجاب التأخير إلي آخر الوقت فليس على ذلك دليل وقد قدمنا الكلام على هذا في قوله: "وعلى ناقص الصلاة أو الطهارة التحري لآخر الاضطرار" قوله: "ويصح الاستملاء لا التلقين والتعكيس".

أقول: قال الله سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فالذي لا يحفظ القرآن يستملي من المصحف ويتلقن من الغير ويقرأ ما يقدر عليه ولو غير بعض تغيير. وإن كان أخرس لا يقدر على النطق ولا يسمع ما يقال له ولا يتعلم بالإشارة فليس عليه شيء فما كلف الله العباد إلا بما يدخل تحت طاقتهم ولا يكلف أحدا منهم بما لا يطيقه. قوله: "ولا يلزم المرء اجتهاد غيره لتعذر اجتهاده" أقول: إن كان مجتهدا فهو لا يحتاج إلي اجتهاد غيره قط ولا يتعذر عليه الاجتهاد من كل وجه أصلا وأقل الأحوال أن يرجع إلي البراءة الأصلية عند اشتباه الأمر ثم أقل أحوال المجتهد أن يكون مستحضرا للمرجحات التي يحتاج إليها عند تعارض الأمور أو التباس راجحها من مرجوحها. نعم إذا كان هذا المجتهد ممن يجوز للمجتهد أن يقلد غيره ولم يطق في الحال خلوصا عما ورد عليه ولا مخرجا مما نابه إلا بالعمل بقول الغير كان له ذلك ولكن ليس هذا الذي هذه صفته هو المجتهد المطلق بل هو مجتهد المذهب وهو مقلد وليس بمجتهد وهكذا من ظن أنه قد صار مجتهدا في بعض المسائل دون بعضها فإنها قد تتخبط عليه الأمور وتضطرب عليه المسائل ولكن هذا ليس هو المجتهد المطلق بل هو إلي المقلدين أقرب وبهم أشبه: فإن لم يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها [فصل وسنتها التعوذ والتوجهان قبل التكبير وقراءة الحمد والسورة في الأوليين سرا في العصرين وجهرا في غيرهما والترتيب والولاء بينهما والحمد أو التسبيح في الأخريين سرا كذلك وتكبير النفل وتسبيح الركوع والسجود والتسميع للإمام والمنفرد والحمد للمؤتم وتشهد الأوسط وطرفا الأخير والقنوت في الفجر والوتر عقيب آخر ركوع بالقرآن. وندب المأثور من هيئة القيام والقعود والركوع والسجود. والمرأة كالرجل في ذلك غالبا] . قوله: "فصل وسننها التعوذ والتوجهان قبل التكبيرة". أقول: من له حظ من علم السنة المطهرة ورزق نصيبا من إنصاف يعلم أن جميع الأحاديث الواردة في التعوذ والتوجهان مصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك بعد تكبير الافتتاح وهذا مما لا يكاد أن يشك فيه عارف أو يخالط فيه ريب وكان يتوجه بعد التكبيرة ويتعوذ بعد التوجه قبل

قبل افتتاح القراءة وقد ثبت عنه ألفاظ في التعوذ أيها فعل المصلي فقد فعل المشروع وثبت عنه توجهات أيها توجه به المصلي فقد فعل السنة ولكنه ينبغي للمتحري في دينه أن يحرص على فعل أصح ما ورد في التوجهات وأصحها حديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "2/227"، مسلم "147/598"] ، وغيرهما [أبو دأود "78"، ابن ماجة "805"، النسائي "60"، أحمد "2/231 و 494"] ، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر في الصلاة سكت هنيهة قبل القراءة فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وامي أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: "أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" فهذا أصح ما ورد في التوجهات حتى قيل إنه قد تواتر لفظه فضلا عن معناه ثم فيه التصريح بأنه كان يتوجه بهذا في صلاته ولم يقيد بصلاة الليل كما ورد في بعض التوجهات فالعمل عليه والاستمرار على فعله هو الذي ينشرح له الصدر وينثلج له القلب وإن كان جميع ما ورد من وجه صحيح يجوز العمل عليه ويصير فاعله عاملا بالسنة مؤديا لما شرع له. وأصح ما ورد في التعوذ حديث أبي سعيد عند أحمد ["3/50"] ، والترمذي ["242"] ، وأبي دأود ["775"] ، والنسائي ["2/132"] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلي الصلاة استفتح ثم يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخه ونفثه". واعلم أن المصنف ومن قال بقوله قد قسموا التوجه إلي توجهين كبير وصغير وجاءوا بما ورد في الكتاب العزيز هربا من أن يقع في الصلاة ما ليس من القرآن فكان حاصل ما اختاروه المخالفة لجميع ما جاءت به السنة. أما ما جعلوه توجها صغيرا فلم يثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قط وهو {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111] ، فهذا هو في القرآن هكذا وليس هو من التوجهات ولو كان التوجه جائزا بكل ما فيه دعاء في القرآن لكان التوجه غير مختص بما ذكروه بل بكل ما فيه دعاء أو حمد أو توحيد أو عبادة أو استعاذة. وأما التوجه الكبير فقالوا هو أن يقول وجهت وجهي للذي فطر السمأوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك امرت وأنا من المسلمين وهذا وقد ورد التوجه به من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند مسلم ["6/57"، وأحمد ["2/727"، والترمذي ["266"] ، وغيرهم [أبو دأود "760"، النسائي "2/897"] ، ولكن مع زيادة وهو قوله بعد "وأنا من المسلمين اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت" إلي آخر الحديث بطولة فكان الأولى لهم أن يتوجهوا بكل ما ورد في حديث على مع أنه مقيد في صحيح مسلم بصلاة الليل وإن اطلقه غيره فحمل المطلق على المقيد متعين. ومع هذا فالحديث قد وقع التصريح فيه في سنن أبي دأود أنه كان إذا قام إلي

الصلاة كبر ثم قال ففي هذا التوجه الذي أخذوا ببعض الفاظه وجعلوها توجها ما يدفع قولهم إنه قبل تكبير الافتتاح. قوله: "والحمد والسورة في الأوليين" أقول: هذا هو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا يكاد أن يقع فيه اختلاف أنه كان يقرأ في كل واحدة من الركعتين الأوليين الفاتحة وسورة وقد يقرأ سورتين وقد يقرأ سورة طويلة. ولكن قد عرفناك أن الأدلة قد دلت على وجوب الفاتحة في كل ركعة دلالة بينة واضحة ظاهرة. وما ذكره من كون القراءة تكون سرا في العصرين وجهرا في غيرهما فذلك هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة وقد قدمنا ما يفيد هذا. قوله: "والولاء بينهما" أقول: لم يأت في هذا دليل يخصه وقد كان صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من قراءة الفاتحة يسكت سكتة طويلة ثم يقرأ السورة وهذا مما يدفع كون الموالاة من غير فصل سنة ثم السكوت بين الفاتحة والسورة للدعاء وإن طال الفصل لا يخالف السنة فقد ندب الشارع إلي الدعاء في الصلاة مطلقا ومقيدا ببعض مواضعها فلا وجه لإدخال هذا في مسنونات الصلاة. ولو جعل المصنف مكانه إطالة الركعتين الأوليين وتخفيف الركعتين الأخريين فقد ثبت عنه أنه كان يطيل القيام في الركعتين الأوليين من الظهر ويقوم في الأخريين على النصف من قيامه في الأوليين ثم يقوم في الأوليين من العصر قدر نصف قيامه في الأوليين من الظهر وفي الأخريين من العصر على النصف من وقوفه في الأوليين منهما وكان ينبغي له أن يذكر في هذا الفصل المشتمل على ذكر سنن الصلاة السنة العظمى والخصلة الكبرى التي هي أشهر من شمس النهار وهي العلم الذي في رأسه نار وذلك سنة الرفع عند افتتاح الصلاة فإنه قد ثبت من طريق خمسين من الصحابة منهم العشرة المبشرة بالجنة. ثم سنة الرفع عند الركوع وعند الاعتدال منه ثم سنة ضم اليد اليمنى على اليسرى فإن هذه سنن ثابتة بأحاديث متواترة منها ما هو عن طريق عشرين من الصحابة ومنها ما هو اكثر من طريق عشرين ومنها ما هو من طريق نحو العشرين. ثم سنة التأمين الثابتة بالأحاديث المتواترة هذا على فرض أنه سنة فقط وإن كانت الأحاديث مصرحة بوجوبه. ثم سنة طول البقاء عند الاعتدال من الركوع والإتيان بذلك الدعاء الوارد فيه ثم سنة طول البقاء عند الاعتدال بين السجودين والإتيان بذلك الدعاء الوارد فيه لا سيما وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان قيامه فركوعه فاعتداله من الركوع فسجوده فاعتداله بين السجدتين فسجوده قريبا من السواء فإن هذه ونحوها سنن ينبغي الاعتناء بشأنها وإرشاد الأمة إلي فعلها وترغيبهم فيها وترهيبهم من تركها والتصريح لهم بأن المحروم من حرمها

فدع عنك نهبا صيح في حجراته ... وهات حديثا ما حديث الرواحل أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل قوله: "والحمد أو التسبيح في الأخريين". أقول: هذا التخيير العجيب والتشريع الغريب عبرة للمعتبرين ومغربة خبر للناظرين فإنه قد علم كل من يعرف السنة المطهرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل هذا التسبيح عوضا عن فاتحة الكتاب في شيء من صلاته المنقولة إلينا التي اشتملت عليها مجاميع السنة على اختلاف أنواعها ولا ثبت عنه أنه شرع لأحد من أمته أن يجعل هذا التسبيح عوضا عن الفاتحة أو أنه خيرهم بين الفاتحة وبينه لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف وغاية ما ورد ما قدمنا في حديث المسيء صلاته أنه إذا لم يستطع القراءة سبح وهذا أمر آخر لأنه مشروط بعدم القدرة على القراءة ثم هو رخصة في حالة التعذر مع أنه غير معذور من تعلم ما يقرأ به في صلاته فما لنا وللتخيير بينه وبين الفاتحة التي هي أشرف سورة بالنص في أشرف عبادة وهي الصلاة مع ما ورد من الأدلة الدالة على وجوب الفاتحة في كل ركعة فانظر إلي هذه المجازفة التي يتبرأ عنها قلم كل من له وزن خردلة من إنصاف. وأما القول بأن التسبيح أفضل من الفاتحة فأغرب وأعجب ولا يأتي التطويل في رده بفائدة لوضوح بطلانه لكل ناظر في علم الأدلة. والعجب من الجلال في شرحه لهذا الكتاب فإنه جعل معظم مقصده الانتصار لنفاة الأذكار كالأصم وابن علية الذين خالفوا قطعيات الشريعة الثابتة في هذه العبادة بالأدلة التي هي الجبال الرواسي. فما لك والتلدد نحو نجد ... وقد غصت تهامة بالرجال ولله الأمر من قبل ومن بعد. قوله: "وتكبير النقل". أقول: هذه السنة ثابتة من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا يشك في ذلك من له اطلاع على كتب السنة المطهرة وما وقع من ترك الجهر بة أو تركه بالمرة فمن ترك السنن وظهور البدع. قوله: "وتسبيح الركوع والسجود" أقول: وهذه السنة متواترة من فعله صلى الله عليه وسلم والتسبيح المشروع هو "سبحان ربي العظيم" في الركوع "وسبحان ربي الأعلى" في السجود وأقل ما يفعله المصلي من ذلك ثلاث تسبيحات في الركوع وثلاث تسبيحات في السجود ويختمها بقوله "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" [البخاري "4968"، مسلم "217/484"، أبو دأود "877"، ابن ماجة "889"] ، وقد ورد أنه يقول المصلي "سبحان ربي العظيم وبحمده" في الركوع وسبحان ربي الأعلى وبحمده في السجود من طرق ضعيفة.

فالاقتصار على ما ذكرناه هو الأولى وأما من قال إن التسبيح في الركوع هو أن يقول المصلي سبحان الله العظيم وبحمده وفي السجود سبحان الله الأعلى وبحمده فلا أصل لذلك وقد وردت الأحاديث الصحيحة في الأدعية التي تقال في الركوع والسجود والاعتدال من الركوع والاعتدال بين السجودين وهي ثابتة ثبوتا متواترا ومن منع الأدعية في الصلاة فقد خالف السنة مخالفة ظاهرة فإن مجموع ما وردت مشروعيته من الأدعية في الصلاة لا يفي به إلا مؤلف مستقل ولكن هجر كتب السنة يوقع في مثل هذا. قوله: "والتسميع للإمام والمنفرد والحمد للمؤتم". أقول: قد ورد ما يدل على أنه يجمع بين التسميع والحمد كل مصل إمأما كان أو مأموما أو منفردا وقد أوضحت ذلك في شرح المنتقي والزيادة مقبولة. قوله: "والتشهد الأوسط" أقول: الأوامر بالتشهد لم تخص التشهد الأخير بل هي واردة في مطلق التشهد فما قدمنا في التشهد الأخير من الاستدلال على وجوبه فهو بعينه دليل على وجوب التشهد الأوسط ومع هذا فالتشهد الأوسط مذكور في حديث المسيء الذي هو مرجع الواجبات ولم يرد ذكر التشهد الأخير في حديث المسيء فكان القول بإيجاب التشهد الأوسط أظهر من القول بإيجاب الأخير. وأما الاستدلال على عدم وجوب الأوسط بكون النبي صلى الله عليه وسلم تركه سهوا ثم سجد للسهو فهذا إنما يكون دليلا لو كان سجود السهو مختصا بترك ما ليس بواجب وذلك ممنوع. قوله: "وطرفا الأخير". أقول: الأدلة التي ثبت بها وجوب التشهد هي مشتملة على الطرفين فإيجاب البعض بها دون البعض تحكم يأباه الإنصاف ولم يرد ما يدل على تخصيص وسط التشهد الأخير بالوجوب دون طرفيه قط. قوله: "والقنوت في الفجر والوتر عقيب آخر ركوع بالقرآن". أقول: إثبات هذا في سنن الصلاة لم يأت دليل يدل عليه فإن الأحاديث الواردة في هذا مصرحة باختصاصه بالنوازل وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله إذا نزلت بالمسلمين نازلة فيدعو لقوم أو على قوم ولم يثبت غير هذا إلا الدعاء المروي عن الحسن ابن علي [أحمد "1/199"، أبو دأود ""1425"، الترمذي "464"، الترمذي 1745"، ابن ماجة "1178"] مرفوعا بلفظ: "اللهم اهدني فيمن هديت" إلخ فإن ذلك دعاء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله في الوتر فهو من جملة الأدعية الواردة في الصلاة وينبغي فعله فإنه حديث قد صححه جماعة من الحفاظ ولا مقال فيه بما يوجب قدحا ولا يفعل هذا الدعاء إلا في هذا الموضع لا كما يفعله طائفة بعد الركوع في الركعة الثانية من صلاة الفجر فإنه لم يدل على ذلك دليل. والحاصل أنه قد ورد الدعاء في النوازل في جميع الصلوات وفي بعضها وقبل الركوع وبعده.

وأما قوله: "بالقرآن" فلم يرد في هذا شيء قط وإنمكا قال به من قال لأنه سمع أن في صلاة الفجر قنوتا مع كونه يمنع الدعاء في الصلاة إلا بالقرآن فتحصل له من هذا أن يقول بما قال. قوله: "وندب المأثور من هيئات القيام والقعود والركوع والسجود". أقول: هذه الهيئات الواردة في هذه الأركان بالأحاديث الصحيحة حكمها حكم ما ثبت بأفعاله صلى الله عليه وسلم إن لم يرد فيها إلا مجرد الفعل ولها حكم ما ورد من أقواله إن ثبتت بالقول وإذا اجتمع في شيء منها القول والفعل كان حكمها حكم ما ثبت بالقول والفعل ولا وجه للحكم على جميعها بأنها مندوبة فقط لأن الندب في الاصطلاح الحادث لأهل الأصول والفروع هو رتبة قاصرة عن رتبة ما يقولون فيه إنه مسنون ثم تخصيص هيئات هذه الأربعة الأركان بالذكر دون ما عداها من الأركان والأذكار لا وجه له. والحاصل أن المقال في هذا المقال أن واجبات الصلاة إذا كانت منحصرة في حديث المسيء صلاته إلا ما ورد فيه دليل يدل على وجوبه بعده فما عدا ذلك ليس بواجب فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله أو أرشد إليه كان ذلك سنة ثابتة وطريقة نبوية فإن لازمه أو إرشدا إليه مؤكدا كان ذلك سنة لها مزيد خصوصية بما وقع لها من اعتنائه صلى الله عليه وسلم بشأنها فاحفظ هذا لتسلم به من تخليطات المخلطين وتخبطات المتخبطين الذين خلطوا الشرع الصافي بالاصطلاحات الحادثة المتواضع عليها بين طائفة من الناس. قوله: "والمرأة كالرجل في ذلك غالبا". أقول: النساء شقائق الرجال فما شرعه الله للرجال من هذه الشريعة فالنساء مثلهم إلا أن يأتي دليل على إخراجهن من ذلك الشرع العام كان ذلك مخصصا لهن وسواء كان التخصيص متضمنا للتخفيف وذلك ما اختص وجوبه بالرجال من الأحكام كالجهاد أو متضمنا لتغليظ عليهن كالحجاب. وبهذا تعرف أنه لا وجه لتخصيص هذا الموضع بالذكر لهن فإن غالب الأبواب قد تختص النساء فيه بما يخالف الرجال ولو نادرا. [فصل "وتسقط عن العليل بزوال عقله حتى تعذر الواجب وبعجزه عن الإيماء بالرأس مضطجعا وإلا فعل ممكنه ومتعذر السجود يومىء له من قعود وللركوع من قيام فإن تعذر فمن قعود ويزيد في خفض السجود ثم مضطجعا ويوجه مستلقيا ويوضئه غيره وينجيه منكوحه ثم جنسه بخرقة ويبنى على الأعلى لا الأدنى فكالمتيمم وجد الماء"] . قوله: فصل: "وتسقط عن العليل بزوال عقله".

أقول: لا وجه للتقييد بالعليل بل مجرد زوال العقل موجب لسقوط الصلاة وغيرها إذ لا يتعلق بمن لا عقل له شيء من التكاليف الشرعية وقد أورد الجلال ها هنا إشكالات زائفة ساقطة لا يرد شيء منها والعجب العجيب أنه جعل النتيجة التي تنحل بها تلك الإشكالات حمل أمر النائم والناسي والحائض بالقضاء على الندب فجاء بما يخرق الإجماع خرقا لا يرقع وبما يخالف الأدلة التي هي أوضح من شمس النهار وهكذا يقع في مثل هذه المضايق من جعل أوهام ذهنه وغلطات فكره بالمنزلة التي جعلها فيها هذا المحقق. قوله: "وبعجزه عن الإيماء بالرأس مضطجعا". أقول: قوله سبحانه وتعالي: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم" يدلان على أنه إذا أمكنه الايماء بعينيه أو بحاجبيه كان ذلك حتما عليه ولا يسقط عنه بمجرد عجزه عن الإيماء برأسه فقد تصيب الإنسان علة يعجز عندها عن الايماء برأسه كما يقع في الأمراض العصبية مع ثبات عقله وقدرته على الايماء بعينيه وحاجبيه. وأما اختيار المصنف رحمه الله لهيئة الاضطجاع وتقديمها على غيرها فمدفوع بما ثبت في البخاري ["1117"] ، وهو عند أحمد ["4/426"] وأهل السنن [أبو دأود "592"، الترمذي "302"، النسائي "1660"، ابن ماجة "1223" الأربع وغيرهم أن عمران بن الحصين كان به بواسير فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" وفي رواية للنسائي "فإن لم تستطع فمستلقيا"، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وهذا الحديث الصحيح يغني عن غيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب فإنها لا تخلو من مقام ومعلوم أن من صلى على جنب أو مستلقيا لا يتمكن إلا من مجرد الايماء فلا حاجة إلي الاستدلال على لزوم الايماء فإن هذا الحديث الصحيح يفيد ذلك ويقتضيه. قوله: "ويوضئه غيره وينجيه منكوحه". أقول: إذا بلغ المرض بصاحبه إلي هذا الحد فقد جعل الله له فرجا ومخرجا بالتيمم قال الله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية وقد قدمنا الكلام على التقيد بقوله تعالي: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} قوله: "ويبنى على الأعلى لا الأدنى فكالمتيمم وجد الماء" أقول: لا دليل على هذا أصلا والواجب عليه أن يفعل ما يمكنه فإذا كان مقعدا وأمكنه القيام أتم صلاته قائما ولا يرفض ما قد فعله فقد نهى الله سبحانه عن إبطال الأعمال فقال {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .والقياس على المتيمم مختل لما عرفناك فيما سبق في باب التيمم أن الأدلة قد دلت على أنه لا يعيد من صلى بالتيمم ثم وجد الماء لا قبل الفراغ من الصلاة ولا بعده.

[فصل "وتفسد باختلال شرط أو فرض غالبا وبالفعل الكثير كالأكل والشرب ونحوهما وما ظنه لاحقا به منفردا أو بالضم أو التبس ومنه العود من فرض فعلي إلي مسنون تركه ويعفى عن اليسير وقد يجب كما تفسد الصلاة بتركه. ويندب كعد المبتلي الأذكار والأركان بالأصابع أو الحصى. ويباح كتسكين ما يؤذيه ويكره كالحقن والعبث وحبس النخامة وقلم الظفر وقتل القمل لا إلقائه وبكلام ليس من القرآن ولا من أذكارها ومنهما خطابا بحرفين فصاعدا. ومنه الشاذة وقطع اللقطة إلا لعذر وتنحنح وأنين غالبا ولحن لا مثل له فيهما أو في القدر الواجب ولم يعده صحيحا والجمع بين لفظتين متباينتين عمدا والفتح على إمام قد أدى الواجب أو انتقل أو في غير القراءة أو في السرية أو بغير ما أحصر فيه وضحك منع القراءة ورفع الصوت إعلأما إلا للمار أو المؤتمين وبتوجه واجب خشي فوته كإنقاذ غريق أو تضيق وهي موسعة قيل أو أهم منها عرض قبل الدخول فيها وفي الجماعة والزيادة من جنسها بما سيأتي إن شاء الله تعالي"] قوله: فصل: "وتفسد باختلال شرط". أقول: هذا صواب إذا قد تقررت الشرطية بدليلها الذي يفيدها حسبما قدمنا ذلك ولتعلم أن هذا الحكم منا بعدم المشروط عند عدم شرطه ليس هو بمجرد ما ذكره أهل الأصول في حقيقة الشرط بل للأدلة الدالة على انعدام الذات أو صحتها بانعدام ذلك الشرط ولهذا جزمنا فيما تقدم بأن ما ورد فيه دليل يفيد هذا المفاد فهو شرط ولا يشكل على هذا حديث "من قاء أو رعف أو مذى فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته" [ابن ماجة "1221"] ، ووجه إشكاله أن يقال قد بطل الوضوء وهو شرط بالدليل الصحيح ولم يؤثر عدمه في عدم المشروط لقوله: "وليبن على صلاته" لأنا نقول هذا الحديث لا تقوم به حجة لأنه لم يصح رفعه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صرح بذلك جماعة من الأئمة منهم الشافعي وأحمد وأبو زرعة ومحمد بن يحيى الذهلي وابن عدي وأبو حاتم الرازي والدارقطني والبيهقي وفي إسناد المرفوع من لا تقوم به الحجة وأصح من هذا الحديث وأرجح حديث طلق بن علي أو علي ابن طلق عند أحمد ["1/86" [، وأهل السنن [أبو دأود "205"، الترمذي "1166"] ، وغيرهم: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف فليتوضأ وليعد الصلاة" وصححه ابن حبان ولا يضر تفرد جرير بن عبد الحميد بالزيادة وهي قوله وليعد الصلاة فإنه إمام ثقة. ولا يشكل على هذا أيضا حديث ذي اليدين ووجه الإشكال أنه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فأخبره ذو اليدين بأنه صلى ثلاثا فقط فقال: "أحق ما يقول ذو اليدين؟ " لأنا نقول هذا

الخروج والكلام الواقع منه صلى الله عليه وسلم هو حال اعتقاده لتمام الصلاة وعدم نقصها فالبناء على ما مضى منها هو لهذا والدليل وإن دل على أن الكلام مبطل للصلاة فهو كلام العامد لا كلام من كان ساهيا أو في حكم الساهي. قوله: "أوفرض" أقول: الحق أن الفروض لا توجب فساد الصلاة بل يأثم تاركها وتجزئه صلاته لأن الأدلة الدالة عليها إنما اقتضت وجوبها ولم تقتض أن الصلاة تنعدم بانعدامها ولو اقتضت ذلك لما كنت فروضا بل تكون شروطا. وأما إذا كان الفرض ركنا من الأركان كالركوع والسجود فالركن يختل صورة ما هو ركن فيه باختلاله فالصورة المطلوبة بكمالها غير موجودة فإن تركه عمدا بطلت الصلاة وإن تركه سهوا فعله ولو بعد الخروج من الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الرابعة بعد أن سلم من ثلاث ركعات في حديث ذي اليدين. قوله: "وبالفعل الكثير" الخ. أقول: قد خبط المفرعون في هذا المقام خبطا طويلا واضطربت آراء جماعة من الجتهدين العاملين بالأدلة المؤثرين لما صح من الرواية. والحق الحقيق بالقبول أن يقال إن الصلاة بعد انعقادها والدخول فيها لا تفسد إلا بمفسد قد دل الشرع على أنه مفسد كانتقاض الوضوء ومكالمة الناس عمدا أو ترك ركن من أركانها الثابتة بالضرورة الشرعية عمدا. فمن زعم أنه يفسدها إذا فعل المصلي كذا فهذا مجرد دعوى إن ربطها المدعي بدليلها نظرنا في الدليل فإن أفاد فساد الصلاة بذلك الفعل أو الترك فذاك وإن جاء بدليل يدل على وجوب ترك الفعل كحديث "اسكنوا في الصلاة" [مسلم "87/119"] ، فإنه حديث صحيح فيقال له هذا أمر بالسكون وغاية ما فيه وجوب السكون وترك ما لم يكن من الحركات الراجعة إلي ما لا يتم الإتيان بالصلاة إلا به فمن فعل ما ليس كذلك من الأفعال كمن يحرك يده أو رأسه أو رجله لا لحاجة فقد أخل بواجب عليه ولزمه إثم من ترك واجبا. وأما أنها لا تفسد به الصلاة فلا. فإن قلت هل يمكن الإتيان بضابط يعرف به ما لا يفسد الصلاة وما يفسدها من الأفعال قلت لا بل الواجب علينا الوقوف موقف المنع حتى يأتي الدليل الدال على الفساد. ومما يصلح سندا لهذا المنع ما ثبت في الصحيحين [البخاري "516"، "5996"، مسلم "543"] ، وغيرهما [أبو دأود "917، 918،919، 920"، النسائي "711، 1204، 1205"، أحمد "5/295، 296"] ، من حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها وفي رواية لمسلم وأبي دأود بينا نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر وقد دعاه بلال إلي الصلاة إذ خرج علينا وأمامه بنت أبي العاص بنت بنته

على عاتقه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصلاه وقمنا خلفه وهي في مكانها الذي هي فيه فكبر وكبرنا حتى إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع بها ذلك في كل ركعة حتى فرغ من صلاته. وهذا الحديث الصحيح إذا سمعه المقلد الذي قد تلقن أن الفعل الكثير من مفسدات الصلاة وتلقن أن تحريك الإصبع مثلا ثلاث حركات متوالية لا حق بالفعل الكثير موجب لفساد الصلاة خارت قواه واضطرب ذهنه فإن هذه الصبية لا تقدر على أن تستمسك على ظهره صلى الله عليه وسلم إلا وعمرها ثلاث سنين فصاعدا فأخذها من الأرض ووضعها على الظهر وكذلك إنزالها ووضعها على الأرض يحتاج إلي مزأولة وأفعال تحصل الكثرة لدى هذا المقلد بما هو ليس من ذلك بكثير. ثم مما يصلح أيضا أن يكون سندا للمنع حديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المنبر وكان إذا أراد السجود نزل عنه إلي الأرض فسجد ثم يعود وفعل كذلك حتى فرغ من صلاته والحديث في الصحيحين وغيرهما فإن كان ولا بد من تقدير الفعل الكثير المخالف لمشروعية السكون في الصلاة فليكن ما زاد على ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين فإنه فعل هذه الأفعال في صلاته الفريضة والمسلمون يصلون خلفه وهو القدوة والأسوة وإنما فعل ذلك لبيان جوازه وأنه لا ينافي ما شرعه الله في الصلاة ومن قال بخلاف هذا فقد أعظم الفرية وقصر بجانب النبوة وأوقع نفسه في خطب شديد والهداية بيد الله سبحانه. وبهذا تعرف أن ما جعله المصنف كثيرا بذاته أو بانضمام غيره إليه وإلحاق الملتبس بالكثير وذكره للعفو عن الفعل اليسير وإيجاب تارة وندب أخرى وكراهته التنزيهية في حالة وإباحته في أخرى لا مستند له إلا مجرد الرأي المحض فلا نطيل الكلام على ذلك. قوله: "وبكلام ليس من القرآن ولا من أذكارها". أقول: في الصحيحين [البخاري "1199"، مسلم "538"] وغيرهما من حديث ابن مسعود قال كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال: "إن في الصلاة شغلا" ولفظ أبي دأود ["924"] ، والنسائي ["3/19"] : "إن الله عز وجل يحدث من امره ما شاء وإن الله سبحانه وتعالي قد أحدث ألا تكلموا في الصلاة" وأخرجه عبد بن حميد وأبو بعلي وفيه: "وإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا". وأخرج البخاري ["1217"، مسلم ["36/540"] وغيرهما] ابن ماجة "1018"، النسائي "1189"، أحمد "3/334"] من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما منعني أن أرد عليك أني كنت أصلي"، وكان على راحلته متوجها إلي القبلة. وأخرج البخاري ["200"] ، ومسلم ["539"] ، وغيرهما [أحمد "4/368"، أبو دأود "949"،

الترمذي "405"، النسائي "3/18"] ،عن زيد بن أرقم قال إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلم أحدنا صاحبه بحاجته حتى نزلت {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. فقد اجتمع في هذه الأحاديث الأمر بترك الكلام والنهي عن فعله في الصلاة قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة. واختلفوا في كلام الساهي والجأهل وقد ذكرت الخلاف في ذلك وما استدلوا به في شرحي للمنتقى. ومما يستدل به على المنع من الكلام في الصلاة حديث معأوية بن الحكم السلمي عند مسلم ["33/537"] وغيره [أبو دأود "931"، النسائي "3/14 – 18"، أحمد "5/447، 448"] بلفظ: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" وفي لفظ لأحمد: "إنما هي التسبيح والتكبير والتحميد وقراءة القرآن". والمراد بقوله: "لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" أي من تكليمهم ومخاطبتهم هذا هو المعنى العربي الذي لا يشك فيه عارف وليس المراد ما زعمه المانعون للدعاء في الصلاة من أن المراد لا يصلح فيها شيء مما هو من كلام الناس الذي ليس من كلام الله فإن هذا خلاف ما هو المراد وخلاف ما دلت عليه أسباب هذه الأحاديث الواردة في منع الكلام وخلاف ما ثبت في الصلاة من ألفاظ التشهد ونحوها وخلاف ما تواتر تواترا لا يشك فيه من لديه أدنى علم بالسنة من الأحاديث المصرحة بمشروعية الدعاء في الصلاة بألفاظ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبألفاظ دالة على مشروعية مطلق الدعاء كقوله صلى الله عليه وسلم: "وليتخير من الدعاء أعجبه إليه" [أحمد "1/437"، النسائي "163"] . وبالجملة فالمنع من الدعاء في الصلاة لا يصدر إلا ممن لا يعرف السنة النبوية ولا يدري بما اشتملت عليه كتبها المعمول بها والمرجوع إليها في جميع الأقطار الإسلامية وفي كل عصر وعند أهل كل مذهب. ومن عجائب الغلو وغرائب التعصب قولهم إن القراءة الشاذة من جملة ما يوجب فساد الصلاة وجعلوها من كلام الناس وأنه لا يكون من كلام الله إلا ما تواتر وهي القراءات السبع. والحق أن القراءات السبع فيها ما هو متواتر وفيها ما هو آحاد وكذلك القراءات الخارجة عنها وقد جمعنا في هذا رسالة حافلة ونقلنا فيها مذاهب القراء وحكينا إجماعهم المروي من طريق أهل هذا الفن أن المعتبر في ثبوت كونه قرآنا هو صحة السند مع احتمال رسم المصحف له وموافقته للوجه العربي وأوضحنا أن هذه المقالة أعني كون السبع متواترة وما عداها شإذا ليس بقرآن لم يقل بها إلا بعض المتأخرين من أهل الأصول ولا تعرف عند السلف ولا عند أهل الفن على اختلاف طبقاتهم وتباين أعصارهم. قوله: "وتنحنح وأنين".

أقول: ليس هذا من كلام الناس ولا من التكلم في الصلاة ولا تشمله الأحاديث المشتملة على النهي عن الكلام ولا يحتاج إلي الاستدلال على الجواز بل الدليل على من زعم أن التنحنح والأنين من جملة المفسدات ولا دليل أصلا ولكن إذا فعله المصلي لا لسبب يقتضيه من عروض إنسداد في الصوت كما في التنحنح ولا من زيادة من الخشوع والتدبر كما في الأنين فهو لم يعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الصلاة لشغلا" [الترمذي "3/12"، ابن ماجة "2708"، أحمد "2/40"، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه تنحنح في صلاته وثبت عنه أنه كان يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. [أحمد "4/25، 26"، أبو دأود "904"، النسائي "3/13"] . قوله: "ولحن لا مثل له فيهما" أقول: الإتيان بالقراءة على الوجه العربي والهيئة الإعرأبية هو المتعين على كل قارىء سواء كان في الصلاة أو خارجها وأما أن ذلك يوجب فساد الصلاة فلا. فإنه لا بد من دليل يدل على الفساد كما عرفناك غير مرة. وهكذا الجمع بين لفظتين متباينتين عمدا فإنه لا يوجب فسادا أصلا وإن كان على غير ما ينبغي أن تكون عليه القراءة وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم على جماعة ما بين أسود وأبيض وعربي وعجمي وهم يقرأون القرآن فسره ذلك وقال: "اقرأوا فكل حسن" أحمد "5/132"، الترمذي "2944"] ، وقال لمختلفين في آيات القرآن من الصحابة مثل ذلك ونهاهم عن الاختلاف. فدعوى كون اللحن أو الجمع بين لفظين من مفسدات الصلاة دعوى عاطلة عن البرهان خالية عن الدليل. قوله: "والفتح على إمام" الخ. أقول: جعل هذا من المفسدات من جمود المفرعين وقصور باعهم وعدم اطلاعهم على الأدلة فلو قدرنا عدم ورود دليل يدل على مشروعيته لكان من التعأون على البر والتقوى فكيف وقد ورد ما يدل على مشروعيته فمن ذلك حديث "من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنما التصفيق للنساء" وهي في الصحيحين البخاري "2690"، مسلم "102/421"] وغيرهما [أبو دأود "941"، النسائي "2/82، 83"، أحمد "5/332"، 333"] ، وثبت في الصحيحين [البخاري "1203" مسلم "106"، 107، 422"وغيرهما [النسائي "1207، 1208، 1209، 1210"، ابن ماجة "1034"، الترمذي "369"، أبو دأود "939"، أحمد "2/261"] ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" وأخرج أبو دأود وابن حبان والأثرم عن المسور بن يزيد المالكي قال قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم فترك آية فقال له رجل يا رسول الله آية كذا وكذا قال: "فهلا أذكرتنيها" وإسناده لا بأس به وأخرج أبو دأود والحاكم وابن حبان من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه فلما انصرف قال لأبي هل كنت معنا قال نعم قال فما منعك ورجال إسناده ثقات وأخرج الحاكم عن أنس قال كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن حجر قد صح عن أبي عبد الرحمن السليمي أنه قال: قال علي: إذا استطعمك الإمام فأطعمه.

وأما ما أخرجه أبو دأود عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة" فهذا في إسناده من رمى بالكذب ومع ذلك ففيه انقطاع ولو كان هذا صحيحا ما صح عن علي ما ذكرنا من قوله: إذا استطعمك الإمام فأطعمه وقد ثبت في الصحيح [البخاري "684"، مسلم "102/421"] ، في قصة صلاة أبي بكر بالناس أنهم لما شاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفقوا لأبي بكر ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإعادة مع انهم فتحوا على أبي بكر بما هو غير مشروع للرجال. والحاصل أن الفتح على الإمام بالآية التي نسيها وبالتسبيح إذا وقع منه السهو في الأركان ستة ثابتة وشريعة مقدرة فالقول بأنه من المفسدات للصلاة باطل وأبطل من هذا ما ذكره المصنف من تقييده للفساد بهذه القيود التي هي مجرد خيال مختل أو رأي معتل. قوله: "وضحك منع القراءة". أقول: قد قدمنا في الوضوء أن حديث الأعمى الذي روي أنه تردى فضحك بعض من كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بإعادة الوضوء والصلاة لا تقوم به الحجة ولا يصلح للاستدلال به وذكرنا هنالك ما ورد أن الضحك يبطل الصلاة وذكرنا من قال به فارجع إلي ما ذكرناه هنالك. قوله: "ورفع الصوت إعلأما إلا للمار أو المؤتمين". أقول: لا دليل يدل على أن هذا من مفسدات الصلاة أصلا ثم مشروعية التسبيح للرجال عند الفتح على الإمام هو من رفع الصوت إعلأما بلا شك ولا شبهة وهكذا الفتح على الإمام بالآية التي أحصر فيها هو من رفع الصوت إعلأما وقد قدمنا لك الأدلة الدالة على هذا ثم استثناء المار والمؤتمين يدل على أنه لا بأس عند المصنف ومن قال بقوله برفع الصوت إعلأما إذا كان فيه مصلحة فهو يفيد جوازه في كل ما فيه مصلحة عائدة على الواحد والجماعة من المصلين فلا وجه للفرق على ما يقتضيه كلام المصنف. والحاصل أن غالب هذه الأمور التي جعلها المصنف من مفسدات الصلاة ليس لها مستند إلا مجرد الدعأوي والشكوك والوسوسة وما بمثل هذه الخرافات تثبت الأحكام الشرعية التي تعم بها البلوى والله المستعان. قوله: "وبتوجه واجب خشي فوته كإنقاذ غريق". أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما عمادان من أعمدة الشريعة المطهرة قد دل عليهما كتاب الله عز وجل في كثير من الآيات ودلت عليها السنة المطهرة في الأحاديث المتواترة التي لا شك فيها بل هذان العمادان هما أعظم أعمدة الدين ثم أعظم أنواع هذين العمادين هو ما يرجع إلي حفظ نفوس المسلمين فمن ترك مسلما يغرق وهو يقدر على إنقاذه واستمر في صلاته فقد ارتكب أعظم المنكرات وترك أهم المعروفات فلا هو عمل بالأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا عمل بما ورد في حق المسلم على المسلم

ومنها أن يحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه ومنها أن: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" [البخاري "2442"، مسلم "2580"، أبو دأود "4893"، الترمذي "1426"] ، وأي إسلام له أعظم من تركه يموت غرقا وهو بمرأى منه ومسمع وأين عمل هذا المصلي الذي آثر الاستمرار في صلاته على أخيه الذي صار في غمرات الموت بأحاديث المحبة منها "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا". [مسلم "54"، أبو دأود "5193"، الترمذي "2688"، ابن ماجة "3692"] . فالحاصل أن هذا المصلي قد ترك أعظم الواجبات وارتكب أعظم المحظورات المنكرات واستمراره في صلاته منكر عظيم وقبيح شنيع فإن الله سبحانه قد طلب منه ما هو أهم من ذلك وأعظم وأقدم وهو يؤدي صلاته إذا كان في الوقت سعة وإذا ضاق عنها ولم يدرك شيئا منها فقد جعل الله القضاء لمن فاته الأداء بل يجب على المصلي ترك الصلاة والخروج منها فيما هو دون هذا بكثير وذلك نحو أن يرى من يريد فعل منكر كالزنا وشرب الخمر وهو يقدر على منعه والحيلولة بينه وبين ما هم به من المعصية وهو إذا استمر في صلاته تم لذلك العاصي فعل تلك المعصية فالواجب عليه الخروج من الصلاة وإنكار ذلك المنكر. والحاصل أن هذه الشريعة المطهرة مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد والموازنة بين أنواع المصالح وأنواع المفاسد وتقديم الأهم منها على ما هو دونه ومن لم يفهم هذا فهو لم يفهم الشريعة كما ينبغي والأدلة الدالة على هذا الأصل من الكتاب والسنة كثيرة جدا لا يتسع لها هذا المؤلف. وقد ذكر الجلال ها هنا أبحاثا ساقطة البنيان مهدومة الأركان ليس في الاشتغال بدفعها إلا تضييع الوقت وشغلة الحير وإذا قد عرفت ما ذكرناه فيه تعرف الكلام على قوله: "أو تضيق وهي موسعة" وعلى قوله: "قيل أو أهم منها عرض قبل الدخول فيها". ومما يؤيد ما حررناه لك في هذا البحث حديث جريج الثابت في الصحيح [البخاري"2350"، أحمد "2/385"] ، أنها دعته أمه وهو يصلي فقال اللهم أمي وصلاتي وتردد أيهما أقدم فعوقب تلك العقوبة والحال أن إجابته لأمه وقضاء حاجتها لا تفوت باستمراره في صلاته وإكمالها فكيف إذا كان الاستمرار في الصلاة يحصل به هلاك مسلم وكان الخروج منها محصلا لحياته. وهذا وإن كان من شرع من قبلنا فقد حكاه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ما يخالفه في شرعنا فكان شرعا لنا كما تقرر في الأصول.

باب والجماعة سنة مؤكدة

[باب والجماعة سنة مؤكدة إلا فاسقا أو في حكمه وصبيا ومؤتما غير متخلف بغيرهم وامرأة برجل والعكس إلا

مع رجل والمقيم بالمسافر في الرباعية إلا في الأخريين والمتنفل بغيره غالبا وناقص الطهارة أو الصلاة بضده والمختلفين فرضا أو أداء أو قضاء أو في التحري وقتا أو قبلة أو طهارة لا في المذهب فالإمام حاكم. وتفسد في هذه على المؤتم بالنية وعلى الإمام حيث يكون بها عاصيا. وتكره خلف من عليه فائتة أو كرهه الأكثر صلحاء والأولى من المستويين في القدر الواجب الراتب ثم الأفقه ثم الأورع ثم الأقرأ ثم الأسن ثم الأشرف نسبا. ويكفي ظاهر العدالة ولو من قريب] . قوله: "باب والجماعة سنة مؤكدة". أقول: هذا هو الحق فإن الأحاديث المصرحة بأفضلية صلاة الجماعة على صلاة الفرادى منادية بأعلى صوت بأن الجماعة غير واجبة وموجبة لتأويل ما ورد مما استدل به على وجوبها. ومن هذه الأحاديث القاضية بعدم الوجوب ما أخرجه البخاري ["651"، ومسلم ["662"] ، وغيرهما من حديث أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام". ومنها حديث أبي بن كعب عند أحمد ["5/140"] ، وأبي دأود ["554"] ، والنسائي ["843"] ، وابن ماجه ["790"] ، مرفوعا بلفظ: "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كثر فهو أحب إلي الله عز وجل". ومن ذلك حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" وهو في الصحيحين [البخاري "645"، مسلم "249، 650"] وغيرهما [أحمد "2/65"] . ومنها حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج البخاري ["646"] ، وغيره [ابن ماجة "788"، أحمد "3/55"، أبو دأود "560"] ، عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة". فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تدل على أن صلاة الفرادى صحيحة مجزئة مسقطة للوجوب وكل ما ورد مما استدل به على الوجوب فهو متأول والمصير إلي التأويل متعين. وقد ذكرنا في شرح المنتقي ما لا يبقى بعده ريب لمرتاب فليرجع إليه ولكن المحروم من حرم صلاة الجماعة فإن صلاة يكون أجرها أجر سبع وعشرين صلاة لا يعدل عنها إلي صلاة ثوابها جزء من سبعة وعشرين جزءا منها إلا مغبون ولو رضي لنفسه في المعاملات الدنيوية

بمثل هذا لكان مستحقا لحجره عن التصرف في ماله لبلوغه من السفه إلي هذه الغاية والتوفيق بيد الرب سبحانه. قوله: "إلا فاسقا أو في حكمه". أقول: الفاسق من المسلمين المتعبدين بالتكاليف الشرعية من الصلاة وغيرها فمن زعم أنه قد حصل فيه مانع من صلاحيته لإمامة الصلاة مع كونه قارئا عارفا بما يحتاج إليه في صلاته فعليه تقرير ذلك المانع بالدليل المقبول الذي تقوم به الحجة وليس في المقام شيء من ذلك أصلا لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس صحيح فعلى المنصف أن يقوم في مقام المنع عند كل دعوى يأتي بها بعض أهل العلم في المسائل الشرعية. وما استدل به على المنع من تلك الأحاديث الباطلة المكذوبة فليس ذلك من دأب أهل الإنصاف بل هو صنع أرباب التعصب والتعنت فإياك أن تغتر بما لفقه الجلال في هذا البحث وجمع فيه بين المتردية والنطيحة وما أكل السبع فإن هذا دأبه في المواطن التي لم ينتهض فيها الدليل. ومن تتبع شرحه لهذا الكتاب عرف صحة ما ذكرناه. وإذا عرفت هذا فلا تحتاج إلي الاستدلال على جواز إمامة الفاسق في الصلاة ولا إلي معارضة ما يستدل به المانعون فليس هنا ما يصلح للمعارضة وإيراد الحجج وبيان ما كان عليه السلف الصالح من الصلاة خلف الأمراء المشتهرين بظلم العباد والإفساد في البلاد. نعم يحسن أن يجعل المصلون إمامهم من خيارهم كما أخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" وفي إسناده سلام بن سليمان المدائني وهو ضعيف. وأخرج الحاكم في ترجمة مرثد الغنوي عنه صلى الله عليه وسلم: "إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم". ولكن ليس محل النزاع إلا كونه لا يصلح أن يكون الفاسق ومن في حكمه إمأما لا في كون الأولى أن يكون الإمام من الخيار فإن ذلك لا خلاف فيه. قوله: "وصبيا". أقول: الأحاديث الواردة في أن الأولى بالإمامة الأقرأ أو من كان أكثر قرآنا شاملة للصبي ومنها حديث ابن عمرو بن سلمة الثابت في اصحيح البخاري ["631"] ، وغيره [أبو دأود "589"، النسائي "781"، مسلم "674"، الترمذي "205"، ابن ماجة "979"] أنه أم قومه وهو ابن ست سنين أو سبع أو ثمان وذلك أنه لما وفد أبوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما قال له: "وليؤمكم أكثركم قرآنا"، وكان الصبي عمرو بن سلمة أكثرهم قرآنا لأنه كان يسأل من يمر بهم من الوفد عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به فيحفظ ما يروونه له من القرآن. وقد ورد ما يدل على أنه وفد مع أبيه كما رواه الدارقطني وابن منده والطبراني.

وعلى تقدير أنه لم يفد مع أبيه فقد كانت إمامته مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل عليه ولا يقع التقرير مع نزول الوحي على ما لا يجوز. وقد استدل أهل العلم على جواز العزل بحديث جابر وأبي سعيد بأنهم فعلوا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان منهيا عنه لنهى عنه القرآن. وعلى كل حال فالصبي داخل تحت العموم فمن ادعى أن فيه مانعا من الإمامة فعليه الدليل وقد صحت الصلاة جماعة بصبي مع الإمام كما في حديث ابن عباس [البخاري "859"، مسلم "184، 763"، أبو دأود "610"، النسائي "842"، الترمذي "232"] : "أنه قام يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقف على يساره فجذبه وأقامه عن يمينه" وإذا انعقدت صلاة الجماعة مع الإمام فقط فلتنعقد صلاة الجماعة به وهو الإمام ورفع الوجوب عنه لا يستلزم عدم صحة صلاته. وقد صحت صلاة معاذ [البخاري "700"، مسلم 180"، أبو دأود "599"‘ 600"، الترمذي 583"] بقومه بعد صلاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متنفل وهم مفترضون فصحت إمامته ولا وجوب عليه إذ قد أدى الصلاة الواجبة عليه. قوله: "ومؤتما غير مستخلف". أقول: أما في حال كونه مؤتما فظاهر لحديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به" [البخاري "2/208"، مسلم "414"] ، وحديث "لا تختلفوا على أئمتكم" ومعلوم أن كون الإمام مؤتما تصير له أحكام الإمام وأحكام المؤتم فيؤدي ذلك إلي الاختلاف على إمامه يما يجب عليه الاقتداء به فيه. وأما ما ورد من ائتمام الناس بأبي بكر وائتمامه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي قاعدا في مرضه وما ورد أنه يأتم بالمتقدمين من بعدهم فالمراد أنهم يركعون بركوعهم ويسجدون بسجودهم لأنهم مطلعون على ركوع الإمام وسجوده واعتداله لقربهم منه وقد يخفى ذلك على من هو بعيد منه فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بمن هو متقدم عليهم من صفوف الجماعة. وأما المؤتم اللاحق بالإمام إذا قام لتمام صلاته منفردا فلا بأس بأن يأتم به غيره من المؤتمين الذين لم يدركوا إلا بعض الصلاة وعليه عند ذلك نية الإمامة وعليهم نية الائتمام ولا مانع من هذا والأدلة الدالة على مشروعية الجماعة تشمله. ومن ادعى أنه لا يصلح للإمامة فعليه الدليل والتعليل بكون النية المتوسطة لا تصلح ليس بشيء. قوله: "وامرأة برجل أو العكس". أقول: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في جواز إمامة المرأة بالرجل أو الرجال شيء ولا وقع في عصره ولا في عصر الصحابة والتابعين من ذلك شيء وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوفهن بعد صفوف الرجال وذلك لأنهن عورات وائتمام الرجل بالمرأة خلاف ما يفيده هذا ولا يقال الأصل الصحة لأنا نقول قد ورد ما يدل على أنهن لا يصلحن لتولي شيء من الأمور وهذا

من جملة الأمور بل هو أعلاها وأشرفها فعموم قوله: "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" كما في الصحيحين [البخاري "709"، وغيرهما [أحمد "5/47، 51"، الترمذي "2262"، النسائي "8/227"] ، يفيد منعهن من أن يكون لهن منصب الإمامة في الصلاة للرجال. وأما كون الرجل يؤم المرأة وحدها فلم يرد ما يدل على المنع من ذلك وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بحضور المساجد والدخول في جماعة الرجال وإذا جاز ذلك مع الرجال جاز أن يؤم الرجل بمرأة واحدة من محارمه ومن يجوز له النظر إليه. وقد أخرج أبو دأود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نفخ في وجهها الماء. رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نفخت في وجهه الماء"، وإسناده ثقات وظاهره أعم من أن يصليا جماعة أو فرادى. وأصرح من هذا ما أخرجه أبو دأود ["1309، 1451"] ، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استيقظ من الليل وأيقظ أهله فصليا ركعتين جميعا كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات". وأخرج الإسماعيلي في مستخرجه عن عائشة أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من المسجد صلى بنا وقال إنه حديث غريب ولكن غرابته لا تنافي صحته فإن الإسماعيلي إنما ذكر في مستخرجه ما هو على شرط الصحيح. وثبت في اصحيح البخاري] "2/184"] في ترجمة باب إنه كان يؤم عائشة عبدها ذكوان من المصحف. وأما كون المرأة تؤم النساء فالظاهر أنه لا منع من ذلك وقد أخرج أبو دأود من حديث أم ورقة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها وفي إسناده عبد الرحمن ابن خلاد وهو مجهول الحال ولكن ذكره ابن حبان في ثقاته وقد رواه معه غيره ففي رواية لأبي دأود ["591"] ، قال عن عثمان عن وكيع عن الوليد بن جميع قال حدثتني جدتي وعبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت نوفل فذكره. قوله: "والمقيم بالمسافر في الرباعية إلا في الأخريين". أقول: ما أحسن ما قيل في هذا إن المسافر إذا صلى مع المقيم أتم لما أخرجه أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم قال تلك السنة وفي لفظ لأحمد ["1/337"] : "أنه قال له موسى بن سلمة إنا إذا كنا معكم صلينا أربعا فإذا رجعنا ركعتين قال تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم"، قال في خلاصة البدر إن إسناده على شرط الصحيح انتهى قال في البدر وأخرجه الطبراني في الكبير بإسناد رجاله كلهم محتج بهم في الصحيح. وأصله في مسلم ["7/688"] ، والنسائي ["3/119""] بلفظ قلت لابن عباس كيف أصلي إذا

كنت بمكة إذا لم أصلي مع الإمام قال ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. قوله: "والمتنفل بغيره". أقول: أما صلاة المتنفل بالمتنفل فمما لا ينبغي أن يقع في صحتها خلاف لما ثبت من ائتمام غير النبي صلى الله عليه وسلم به في كثير من النوافل وهي أحاديث صحيحة ثابتة في الصحيحين وغيرهما. وأما ائتمام المفترض بالمتنفل فحديث صلاة معاذ [البخاري "700"، مسلم "465"] ، بقومه بعد صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم وتصريحه هو وغيره أن التي صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم هي الفريضة والتي صلاها بقومه نافلة لهو دليل واضح وحجة نيرة وما أجيب به عن ذلك من أنه قول صحأبي لا حجة فيه فتعسف شديد فإن الصحأبي أخبرنا بذلك وهو أجل قدرا أن يروي يروي بمجرد الظن والتخمين وقد وقع هذا في عصره صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل فلو كان غير جائز لما وقع التقرير عليه. ومما يؤيد ذلك ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف [البخاري "4136"ن مسلم "843"] ، فإنه صلى بكل طائفة ركعتين فهو في إحدى الصلاتين متنفل وهو مفترضون. وأيضا الأصل صحة ذلك والدليل على من منع منه. وأما الاستدلال بحديث: "لا تختلفوا على إمامكم" فوضع الدليل في غير موضعه فإن النهي على فرض شموله لغير ما هو مذكور بعده من التفصيل لا يتنأول إلا ما كان له أثر ظاهر في المخالفة من الأركان والأذكار وفعل القلب لا يدخل في ذلك لعدم ظهور اثر المخالفة فيه ولو قدرنا دخوله لكان مخصوصا بدليل الجواز. قوله: "وناقص الصلاة أو الطهارة بضده". أقول: الدليل على من منع من ذلك لأن الأصل الصحة وقد استدلوا على منع إمامة ناقص الصلاة بضده بالحديث الصحيح المصرح بالنهي عن الاختلاف على الإمام وفيه "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" [البخاري"722"، مسلم "86/414"، أبو دأود "603"] ، ولكن هذا لا يدل على أن كل ناقص صلاة لا يؤم بغيره كالأعرج والأشل مع كونهم يجعلونهما وأمثالهما ناقصي صلاة ثم مع هذا قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مرض موته وهي آخر صلاة صلاها بهم وكان قاعدا وكانوا قيأما فإن حمل هذا على اختصاصه به صلى الله عليه وسلم كان ذلك خلاف الظاهر وإن جعل ناسخا لم يصح الاستدلال بحديث "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" هكذا ينبغي أن يقال في ناقص الصلاة. وأما ناقص الطهارة فلا دليل يدل على المنع أصلا فيصح أن يؤم المتيمم متوضئا ومن ترك غسل بعض أعضاء وضوئه لعذر بغيره ونحوهما ولا يحتاج إلي الاستدلال بحديث عمرو بن العاص في صلاته بأصحابه بالتيمم وهو جنب فإن الدليل على المانع كما عرفت والأصل الصحة. قال في المنتقي وقد صح عن عمر أنه صلى بالناس وهو جنب ولم يعلم فأعاد ولم يعيدوا وكذلك عثمان وروي عن علي رضي الله عنهم من قوله انتهى.

وروى الأثرم عن ابن عباس أنه صلى بجماعة من الصحابة منهم عمار بن ياسر فلما فرغ من الصلاة ضحك وأخبرهم أنه اصاب من جارية له رومية فصلى بهم وهو جنب متيمم. وأخرج البخاري ["694"] وغيره من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يصلون بكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطأوا فلكم وعليهم". قول: "والمختلفين فرضا" أقول: قد ذكرنا أن الدليل على من زعم أن ثم مانعا من الصحة ولكن أما مع اختلاف الفرضين فمدعي الصحة يحتاج إلي دليل على ذلك ولم يثبت أصلا ولا سمع في ايام النبوة بمثل هذا. فالحاصل أن الفريضة إن كانت واحدة فالأصل صحة الائتمام والدليل على من ادعى عدم الصحة أما إذا كانا مفترضين فريضة فظاهر وهكذا إذا كانا متنفلين وقد قدمنا أن الأدلة على ذلك كثيرة جدا. وأما إذا كان الإمام مفترضا والمؤتم متنفلا فلحديث "ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه" أخرجه أبو دأود ["574"] ، والترمذي] "220"] ، وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم فإن الخطاب لجماعة قد صلوا فريضتهم. وأما إذا كان الإمام متنفلا والمؤتم مفترضا فلحديث معاذ المتقدم وما ورد في معناه. وأما مع الاختلاف أداء وقضاء مع اتفاق الفريضة فلم يثبت شيء من هذا في أيام النبوة ولا في أيام الصحابة. وأما مع الاختلاف وقتا فلا يحل لمن لم يكن عنده أن ذلك الوقت وقت للصلاة أن يدخل فيها لا إمأما ولا مؤتما فإن فعل فقد عصى وصلاته باطلة وإذا كان إمأما فقد صحت صلاة المؤتم به الذي يعتقد دخول الوقت لحديث "وإن أخطأ فلكم وعليهم". وأما مع الاختلاف في القبلة فلا يحل من اعتقد أن القبلة في غير جهة إمامه أن يأتم به. وأما استثناء الخلاف في المذهب فلا بأس بذلك لكن لا يجوز أن يخالفه فيما نص عليه حديث "لا تختلفوا على إمامكم". من ذلك التفصيل وإذا عرفت هذا علمت أن قوله: "وتفسد على المؤتم بالنية وعلى الإمام حيث يكون بها عاصيا" لا ينبغي أن يؤخذ كليا فإن الفساد لا يكون إلا لفوات ما دل الدليل على أن الصلاة لا تكون صلاة إلا به وقد قدمنا تحقيق هذا. ولا وجه لقوله: "وتكره خلف من عليه فائتة" لعدم وجود الدليل على ذلك والكراهة حكم شرعي لا يجوز القول به مجازفة وعلى تقدير كون التراخي عن قضاء الفائتة معصية فذلك لا يستلزم عدم صلاحيته للإمامة كما تقدم. قوله: "وكرهه الأكثر صلحاء". أقول: ما ورد فيمن أم قوما وهم له كارهون من الوعيد متوجه إلي الإمام ولم يرد في

المؤتمين شيء من ذلك بل الأحاديث القاضية بأن الأئمة في الصلاة إن اصابوا فللمؤتمين بهم ولهم وإن أخطأوا فللمؤتمين وعليهم يدل على أن صلاة المؤتمين صحيحة وأن الإمام الذي أم قوما وهم له كارهون يكون خطؤه عليه لا عليهم وظاهر الأحاديث الواردة في وعيد من أم قوما وهم له كارهون أن صلاته غير مقبولة كحديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة من تقدم قوما وهم له كارهون" الحديث أخرجه أبو دأود ["593"] وابن ماجه ["670"] وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وضعفه خفيف لا يسقط الاعتبار بحديثه. وأخرج الترمذي ["360"] ، في حديث أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تجأوز صلاتهم آذانهم" وفيه: "إمام أم قوما وهم له كارهون" قال الترمذي حديث حسن غريب انتهى وفي إسناده أبو غالب الراسبي البصري قال أبو حاتم ليس بالقوي وقال النسائي ضعيف لكنه قد صحح له الترمذي ووثقه الدارقطني وعدم قبول صلاته لا يستلزم عدم قبول صلاة المؤتمين لما تقدم فذلك عليه لا عليهم والإثم راجع إليه لا إليهم. وقد أخرج الترمذي ["358"] ، عن أنس مرفوعا بلفظ: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجلا أم قوما وهم له كارهون الحديث قال الترمذي حديث أنس لا يصح لأنه قد روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وفي إسناده أيضا محمد بن القاسم الأسدي قال الترمذي يتكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه وليس بالحافظ وضعفه أيضا البيهقي. وأخرج ابن ماجه ["971"] عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رءوسهم شبرا رجل أم قوما وهم له كارهون" الحديث قال العراقي إسناده حسن. وأخرج الطبراني في الكبير عن طلحة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه"، وفي إسناده سليمان بن ايوب الطلحي قال أبو زرعة عامة أحاديثه لا يتابع عليها وقال الذهبي في الميزان صاحب مناكير وقد وثق. وأخرج البيهقي عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "ثلاثة لا تجأوز صلاتهم رؤوسهم رجل أو قوما وهم له كارهون" الحديث. قال البيهقي هذا إسناده ضعيف. قوله: "والأولى من المستويين في القدر الواجب". أقول: ثبت في صحيح مسلم ["673"،] ، وأحمد ["3/24"] ، والنسائي ["2/77"] من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم وأحقهم بالإمامة اقرأهم". وثبت في صحيح مسلم ["673"] ، وغيره من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا" وفي رواية: "فأقدمهم سلما" أي إسلاما "ولا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه".

وفي الصحيحين [البخاري "630"، مسلم "674"، وغيرهما [أبو دأود "589"، الترمذي "205"، النسائي "2/77"] من حديث مالك بن الحويرث قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لي ولصاحب لي: "إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما". ولمسلم ["674"، وأحمد "3/436"، "وكانا متقاربين في القراءة". فهذا الترتيب النبوي هو الذي ينبغي اعتماده والعمل عليه ولم يرد شيء في تقديم الراتب على غيره وما قيل إنه قد ثبت له سلطان لكونه راتبا فذلك مجرد دعوى فإن السطان أمره بالمعروف لغة وشرعا. نعم إذا كان الرجل في بيته فقد ثبت في صحيح مسلم ["291/673"] ، وغيره أبو دأود ""582"] : "لا يؤم الرجل الرجل في أهله". وهكذا لم يرد في تقديم الأورع شيء يخصه وأما حديث ابن عباس الذي رواه الدارقطني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا أئمتكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم" فلا تقوم به الحجة لضعف إسناده. وهكذا لا دليل على تقديم الأشرف نسبا والاستدلال بمثل حديث "الناس تبع لقريش" [مسلم "1819"، أحمد "3/379"] ، ونحوه وضع الدليل في غير موضعه. وأما قوله: "ويكفي ظاهر العدالة ولو من قريب" فمبنى على اعتبار العدالة في إمام الصلاة وقد قدمنا ما فيه كفاية. [فصل وتجب نية الإمامة والائتمام وإلا بطلت أو الصلاة على المؤتم فإن نويا الإمامة صحت فرادى والائتمام بطلت وفي مجرد الاتباع تردد] . قوله: "فصل ويجب نية الإمامة والائتمام" الخ. أقول: صلاة الجماعة عمل لأن لها وصفا زائدا على صلاة الفرادى بالاجتماع والمتابعة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات" وصح عنه أنه قال: "لا عمل إلا بنية" فلا يكون الإمام إمأما ولا المؤتم مؤتما إلا بالنية فإذا لم ينويا جميعا لم تكن جماعة وصحت صلاة الجميع فرادى ومجرد الانتظار والمتابعة لا يوجبان البطلان. وهكذا إذا نويا الائتمام لم يكن ذلك موجبا لبطلان صلاتهما لأن نية الإمامة قد تضمنت نية أصل الصلاة مع نية أمر زائد عليها وهو التجميع فإذا بطل كونها جماعة لم يبطل كونها صلاة

ومن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل فكهذا ينبغي أن يكون الكلام في هذا المقام فدع عنك التسرع إلي الحكم بالبطلان فأمر الشرع لا يثبت بالترهات والخزعبلات كما وقع هنا في شرح الجلال رحمه الله من المجادلة لعدم وجوب النية من الأصل. [فصل ويقف المؤتم الواحد أيمن إمامه غير متقدم ولا متأخر بكل القدمين ولا منفصل وإلا بطلت إلا لعذر إلا في التقدم والاثنان فصاعدا خلفه في سمته إلا لعذر أو لتقدم صف سامته ولا يضر قدر القامة ارتفاعا وانخفاضا وبعدا وحائلا ولا فوقها في المسجد أو في ارتفاع المؤتم لا الإمام فيهما. ويقدم الرجال ثم الخناثا ثم النساء ويلي كلا صبيانه ولا تخلل المكلفة صفوف الرجال مشاركة وإلا فسدت عليها وعلى من خلفها أو في صفها إن علموا. ويسد الجناح كل مؤتم أو متأهب منضم إلا الصبي وفاسد الصلاة فينجذب من بجنب الإمام أو في صف منسد لا اللاحق غيرهما] . قوله: "فصل ويقف الواحد أيمن إمامه" الخ. أقول: هذا الموقف للمؤتم الواحد هو الثابت ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة وأما الحكم على من تقدم بكل القدمين أو تأخر بهما أو انفصل بقدرهما ببطلان صلاته فليس على ذلك دليل ولا شك أن تسوية الصف والتراص والزاق الكعاب بالكعاب سنة ثابتة وشريعة مستقرة ولكن البطلان لا يكون إلا بدليل يدل عليه ويفيده وإلا فالأصل الصحة بعد الدخول في الصلاة. قوله: "والاثنان فصاعدا خلفه". أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم هو هكذا كما في صحيح مسلم ["3010"، وغيره أبو دأود "634"] ، من حديث جابر أنه أقامه النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه ثم جاء آخر فقام عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأيديهما فدفعهما حتى أقامهما خلفه. وأخرج الترمذي من حديث سمرة بن جندب قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا قال ابن عساكر في الأطراف إنه حديث غريب فاجتمع القول والنقل على أن موقف الاثنين خلف الإمام هو الثابت في عصره صلى الله عليه وسلم في عصر الصحابة بعده أو عصر من بعدهم. وأما ما روي عن ابن مسعود أنه دخل عليه الأسود بن يزيد وعلقمة فأقام أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فهو موقوف عليه كما في صحيح مسلم ["26/534"] وغيره [الترمذي "1/453"، أبو دأود "868"، النسائي "2/183، 184"] .

ووقع عند أحمد ["1/414، 451، 455، 459"] ، وأبي دأود ["868"، والنسائي ["2/49، 50"] ، أن ابن مسعود قال هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع إذا كانوا ثلاثة وفي إسناد هذه الزيادة هارون بن عنترة وفيه مقال معروف قال ابن عبد البر هذا الحديث لا يصح رفعه والصحيح عندهم أنه موقوف على ابن مسعود وعلى تقدير صحة الرفع فقد ذكر جماعة من الحفاظ أنه منسوخ قالوا وإنما تعلم ابن مسعود ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تركه ومن زعم أن هذه الزيادة المقتضية للرفع في صحيح مسلم فقد أخطأ. وأما اعتبار أن يكونا في سمته فهو معنى كونهما في خلفه وأنهما لو وقفا في جانب خارج عن سمته لم يكونا خلفه وإذا عرض مانع يمنعهما من الوقوف خلفه في سمته جاز لهما الوقوف في أي مكان فلا يجب عليهما إلا ما يدخل تحت إمكانهما. قوله: "ولا يضر قدر القامة" الخ. أقول: لا يضر قدر القامة ولا فوقها لا في المسجد ولا في غيره من غير فرق بين الارتفاع والانخفاض والبعد الحائل ومن زعم أن شيئا من ذلك تفسد به الصلاة فعليه الدليل ولا دليل إلا ما روي عن حذيفة أنه أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود البدري بقميصه فجذبه فلما فرغ من صلاته قال له أبو مسعود ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال بلى قد ذكرت حين مددتني أخرجه أبو دأود ["597"] وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وفي رواية للحاكم التصريح برفعه ورواه أبو دأود ["598"] ، من وجه آخر وفيه أن الإمام كان عمار ابن ياسر والذي جبذه حذيفة ولكن فيه مجهول لأنه من رواية عدي بن ثابت الأنصاري قال حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر في المدائن فأقيمت الصلاة فتقدم عمار وقام علي وكان يصلي والناس من اسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فأتبعه عمار حتى أنزله حذيفة فلما فرغ عمار من صلاته قال حذيفة ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مكانهم" أو نحو ذلك قال عمار لذلك تبعتك حين أخذت على يدي هكذا ساقه أبو دأود ["1/399، 400"] وفي إسناده الرجل المجهول الذي ذكرناه ورواه البيهقي أيضا. ففي هذا الحديث والحديث الأول دليل على منع الإمام من الارتفاع على المؤتم ولكن هذا النهي يحمل على التنزيه لحديث صلاته صلى الله عليه وسلم على المنبر كما وقع في الصحيحين وغيرهما ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك للتعليم كما وقع في آخر الحديث فلا يفيده ذلك لأنه لا يجوز له في حال التعليم إلا ما هو جائز في غيره ولا يصح القول باختصاص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد جمعنا في هذا البحث رسالة مستقلة جوابا عن سؤال بعض الأعلام فمن أحب تحقيق المقام فليرجع إليها قوله: "وتقدم الرجال". الخ. أقول: أما تقديم الرجال على النساء فهو الثابت في جماعاته في مسجده صلى الله عليه وسلم وكذلك

ثبت عنه ذلك في صلاته في غير المسجد كما في حديث فصففت أنا واليتيم خلفه والعجوز من ورائنا وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس. وأخرج أحمد ["5/298"] ، وابو دأود ["677"] من حديث أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان فأفاد هذا تقديم الرجال على الغلمان وتقديم الغلمان على النساء وأما الخناثى فلم يرد فيهن شيء ولا وجد هذا الجنس في زمن النبوة ولا ورد ما يفيد تقديمه على النساء وإنما لما كان له نسبة إلي الرجال ونسبة إلي النساء كان متوسطا بين الجنسين. قوله: "ولا تخلل المكلفة صفوف الرجال مشاركة لهم وإلا فسدت عليها وعلى من خلفها" الخ. أقول: إذا لم تقف المرأة في موقفها الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهو وقوفها في صف النساء أو وقوفها وحدها بعد الرجال فقد صارت بذلك عاصية. وأما فساد صلاتها بذلك فلا دليل يدل عليه وهكذا لا دليل يدل على فساد صلاة الرجال لأن غاية الأمر دخول الأجنبية معهم ونظرهم إليها وذلك لا يوجب فساد الصلاة بل يكون من وقف بجنبها مختارا لذلك أو نظر إليها عاصيا وصلاته صحيحة وأما من لم يقف بجنبها ولا نظر إليها فليس بعاص فضلا عن كون صلاته تفسد بمجرد دخولها معهم في الصلاة ومشاركتها لهم في الإئتمام بإمامهم. والحاصل أن هذا التسرع إلي إثبات مثل هذه الأحكام الشرعية بمجرد الرأي الخالي عن الدليل ليس من دأب أهل الإنصاف ولا من صنيع المتورعين. قوله: "ويسد الجناح كل مؤتم أو متأهب منضم إلا الصبي وفاسد الصلاة" أقول: أما استثناء الصبي فمصادم للدليل الصحيح الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أنه صف هو واليتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم ووقفت العجوز أم سليم خلفهما ومصادم لما ثبت في الصحيحين [البخاري "859"، مسلم "184/763"] ، وغيرهما [أبو دأود "610"، والنسائي "842"، الترمذي "232"، من صلاة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم وحده بعد أن وقف عن يساره فأداره إلي يمينه ومصادم لما أخرجه النسائي في الخصائص أن عليا كان يصلي إلي جنب النبي صلى الله عليه وسلم قبل بلوغه. وأما استثناء فاسد الصلاة فليس على ذلك دليل والأصل الصحية وغاية ما هناك أن يكون فاسد الصلاة بمنزلة السارية المتخللة في وسط الصف ولم يصب من ادعى أن بينهما فرقا. قوله: "فينجذب من بجنب الإمام" أقول: أما مشروعية انجذاب من بجنب الإمام فيدل على ذلك ما تقدم في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامه عن يمينه فجاء آخر فوقف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأيديهما فدفعهما حتى أقامها خلفه.

وأما مشروعية انجذاب من في الصف المنسد لمن لحق ولم يجد من ينضم إليه فلم يثبت ما يدل على ذلك بخصوصه ولا يصح الاستدلال بما أخرجه أبو دأود في المراسيل بلفظ: "إذا انتهى أحدكم إلي الصف وقد تم فليجذ إليه رجلا يقيمه إلي جنبه" لأنه مع كونه مرسلا في إسناده مقاتل بن حيان وفيه مقال ولم يثبت له لقاء أحد من الصحابة فثم انقطاع بينه وبين الصحأبي فهو مرسل معضل. ولا يصح الاستدلال أيضا بما أخرجه الطبراني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الآتي وقد تمت الصلاة بأن يجذب إليه رجلا يقيمه إلي جنبه فإن في إسناده بشر بن إبراهيم وهو ضعيف جدا. وهكذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي عن وابصة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل صلى خلف الصف: "أيها المصلي هلا دخلت في الصف وجررت رجلا من الصف أعد صلاتك" فإن في إسناده السري بن إسماعيل وهو متروك وقد رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان من طريق اخرى ولكن فيها قيس بن الربيع وهو ضعيف ورواه ابن أبي حاتم في علله من طريق ثالثة وفي إسنادها ضعف. ولكن الانجذاب معأونة على البر والتقوى فيكون مندوبا من هذه الحيثية. [فصل وإنما يعتد اللاحق بركعة أدرك ركوعها وهي أول صلاته في الأصح ولا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع ويتابعه ويتم ما فاته بعد التسليم فإن أدركه قاعدا لم يكبر حتى يقوم. وندب أن يقعد ويسجد معه ومتى قام ابتدأ وأن يخرج مما هو فيه لخشية فوتها وأن يرفض ما قد أداه منفردا ولا يزد الإمام على المعتاد انتظارا وجماعة النساء والعراة صف وإمامهم وسط] . قوله: فصل: "وإنما يعتد اللاحق بركعة أدرك ركوعها". أقول: هذا مذهب الجمهور وخالفهم جماعة من أهل العلم وقد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة بحثت فيها مع بعض أهل العلم المائلين إلي مذهب الجمهور ثم ذكرت في شرحي للمنتقي خلاصة البحث بما لا يحتاج الناظر إلي غيره فلا نطيل الكلام في هذا المقام فإن رجوع الطالب للحق إلي ما ذكرناه يغنيه. قوله: "وهي أول صلاته في الأصح".

أقول: هذا القول الراجح والمذهب الصحيح وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عبد الرحمن بن عوف ودخل معه صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية فلما سلم عبد الرحمن قام النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعة ثم سلم وهو في الصحيحين [البخاري"182"، مسلم "105/274"] ، وغيرهما [أبو دأود "149"، أحمد "4/251"] ، وثبت في الصحيحين [البخاري "2/117"، مسلم "151، 152، 153،"] ، وغيرهما [الترمذي "327"] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" فالأمر بالإتمام يدل على أن ما أدركه مع الإمام أول صلاته. وأما ما ورد في رواية مسلم بلفظ: "وما فاتكم فاقضوا" فقد حكم مسلم على الزهري بأنه وهم في هذا اللفظ فلا متمسك لمن تمسك بهذا اللفظ الذي وقع فيه الوهم. وأيضا لو قدرنا عدم الوهم لكان تأويل هذا اللفظ الذي خالف الروايات الكثيرة الصحيحة بحمل القضاء على الإتمام فإنه أحد معانيه متعينا وقد ورد به الكتاب العزيز قال الله عز وجل: {فَإذا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي أتممتموها وقال الله عز وجل: {فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] الآية. وبهذا تعرف أنه ليس في المقام ما يصلح لمعارضة الأمر بالإتمام وتعرف صحة ما قاله المصنف من أنه لا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع وأنه يتم ما فاته بعد التسليم. وأما قوله: "فإن أدركه قاعدا لم يكبر حتى يقوم" فليس على هذا دليل بل ظاهر أمر المؤتم بالسجود إذا أدرك الإمام ساجدا أنه يكبر ويعتد بتلك التكبيرة لصلاته ولا يعتد بتلك السجدة ولفظ الحديث في سنن أبي دأود هكذا "إذا جئتم إلي الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" وقد صححه ابن خزيمة. وهكذا حديث: "إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حاله فليصنع كما يصنع الإمام" أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده إلا ما روي من هذا الوجه والعمل على هذا عند أهل العلم انتهى وفي إسناده الحجاج ابن أرطاة وفيه مقال قال ابن حجر في الفتح وينجبر ضعفه بما رواه سعيد بن منصور عن أناس من أهل المدينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على الحالة التي أنا عليها". قوله: "وأن يخرج مما هو فيه لخشية فوتها". أقول: جعل المصنف هذا الخروج مندوبا وقيده بقوله لخشية فوتها وظاهر الحديث الصحيح عند مسلم ["36/71"] ، وأحمد ["517"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1266"، النسائي "2/116"، الترمذي "421"، ابن ماجة "1151"] ، وغيرهم أن الخروج واجب إذا سمع إقامة الصلاة إن كان المراد بقوله في الحديث "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" نفس الإقامة وهي قول المؤذن قد قامت الصلاة. وإن كان المراد القيام إلي الصلاة كان الواجب عليه إذا عاين قيامه إلي الصلاة أن يخرج لأن ظاهر قوله: "فلا صلاة" نفي ذات الصلاة الشرعية فالمتنفل عند إقامة الصلاة قد بطلت صلاته فإذا

استمر فيها فقد استمر في صلاة غير شرعية وخالف ما جاء عن الشارع. وإن كان المراد المعنى المجازي في قوله: "فلا صلاة" فقد قدمنا لك أن نفس الصحة هو أقرب المجازين إلي الحقيقة فيجب الحمل عليه لأنه يستلزم انتفاء صحة الصلاة. وبهذا تعرف أنه لا وجه للتقييد بقوله لخشية فوتها ولا لجعل الخروج مندوبا فقط. قوله: "وندب أن يرفض ما قد أداه منفردا". أقول: قول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، يدل بعمومه على أنه لا يجوز إبطال عمل من الأعمال كائنا ما كان والذي قد صلى منفردا إذا رفض صلاته فقد أبطل عمله فلا يجوز المخالفة لما يقتضيه هذا العموم إلا بدليل وقد دل الدليل على أن من صلى في بيته ثم وصل إلي جماعة فإنه يدخل معهم في الجماعة ثم اختلفت الروايات أيهما النافلة هل التي قد صلاها أو التي دخل فيها مع الجماعة وثم مرجح لكون النافلة هي الأخرى وهي الأحاديث الواردة أنها "لا تصلي صلاة في يوم مرتين" [أبو دأود "579؟ "، النسائي "860"، أحمد "2/19"] ، وأنه لا ظهران في يوم فلو كانت الثانية هي الفريضة لكان قد أبطل عمله وصلى الصلاة في يوم مرتين وهذا مرجح قوي لكون الثانية نافلة والأولى فريضة ومع هذا فالحديث الذي فيه أن الأولى نافلة والثانية فريضة حديث ضعيف لا تقوم به الحجة. ويقوي ما ذكرناه من كون الفريضة هي الأولى ما تقدم في حديث معاذ أنه كان يصلي بقومه ويجعلها نافلة وكذلك حديث "ألا رجل يتصدق على هذا" فيصلي معه وقد قدمنا أنه حديث صحيح. فهذان الحديثان في الجملة يدلان على مشروعية النافلة مع الجماعة. ويؤيد ما ذكرناه أيضا أحاديث الصلاة مع أمراء الجور فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدخول في جماعتهم ويجعلها الذي قد صلى في بيته نافلة. وأظهر مما ذكرناه حديث يزيد بن الأسود في قضية الرجلين اللذين لم يصليا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأتي بهما ترعد فرائصهما فقالا قد صلينا في رحالنا فقال لهما: "إذا أتيتما مسجد الجماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة" [أبو دأود "575، 576"، النسائي "2/112، 113"] ، هو حديث صحيح. قوله: "ولا يزيد الإمام على المعتاد انتظارا". أقول: انتظار اللاحق ليدرك إمامه هو من باب قوله تعالي: {وَتَعَأونُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، فلا يحتاج إلي الاستدلال عليه بدليل يخصه بل يكفي هذا العموم ثم حديث أمر الإمام بالتخفيف لا يعارض هذا العموم إلا إذا حصل بالانتظار تطويل وهو غير مسلم فإن التطويل والتخفيف من الأمور النسبية نعم إذا كان الانتظار يحصل به تضرر من المؤتمين فإنه يخصص عموم الآية وهذا على تقدير أنه لم يرد في انتظار اللاحق دليل يخصه وقد ورد ما يخصصه وهو ما أخرج أحمد ["4/356"] ، وأبو دأود ["802"] ، والبزار عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان ينتظر في

صلاته حتى لا يسمع وقع قدم" وفي إسناده رجل مبهم ولكنه قد بين هذا الرجل المبهم المزني في الأطراف فقال إنه روى هذا الحديث أبو إسحق الخميسي عن محمد ابن حجارة عن كثير الحضرمي عن ابن أبي أوفى فذكره وكثير هذا ثقة من ثقات التابعين وذكر النووي في شرح المهذب أن بعض الرواة سمى هذا الرجل فقال طرفة الحضرمي صاحب ابن أبي أوفى وذكر في التقريب أنه مقبول من الخامسة. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى من صلاة الظهر وهكذا في صلاة الصبح وفي رواية لأبي دأود ["759"] أنه كان يطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية وهكذا في صلاة العصر وهكذا في صلاة الغداة. وفي رواية لعبد الرزاق وابن خزيمة أنه قال الرأوي ظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. قوله: "وجماعة النساء والعراة صف وإمامهم وسط". قول أما جماعة النساء فقد تقدم الكلام عليها وأما جماعة العراة فالظاهر أنهم يصلون جماعة كما يصلي غيرهم من الرجال ويتقدم الإمام ويصفون خلفه ولهم عذر ظاهر وهو كونهم عراة وعليهم غض أبصارهم. [فصل ولا تفسد على مؤتم فسدت على إمامه بأي وجه إن عزل فورا وليستخلف مؤتما صلح للابتداء وعليهم تجديد النيتين ولينتظر المسبوق تسليمهم إلا أن ينتظروا تسليمه. ولا تفسد عليه بنحو إقعاد مأيوس فيبنى ويعزلون ولهم الاستخلاف كما لو مات أو لم يستخلف] . قوله: فصل: "ولا تفسد على مؤتم فسدت على إمامه بأي وجه". أقول: هذا صواب فإن الفساد لا بد من قيام دليل يدل عليه ومجرد تعليق صلاة المؤتم بصلاة الإمام بنية الائتمام به هي ما دام الإمام إمأما فإذا بطلت صلاته فلا وجه لفساد صلاة المؤتم ثم إيجاب نية العزل عليه لا فائدة فيه لأنه قد صار بمجرد بطلان صلاة إمامه منفردا إذ لا ائتمام إلا بإمام ولا إمام فلا وجه للحكم بفساد صلاته إذا لم ينو العزل وهذا إذا كان الذي فسدت به صلاة الإمام لا اختيار له فيه كمن يحدث غير متعمد للحدث أما إذا كان الفساد وقع باختياره بسبب منه فقد قدمنا أن الإمام إذا اصاب فله وللمؤتمين به وإن أخطأ فعليه لا عليهم فلا وجه للحكم بفساد صلاة المؤتم على كل تقدير. قوله: "وليستخلف مؤتما" الخ.

أقول: أما كون هذا واجبا على الإمام فلم يدل عليه لأن صلاته قد بطلت فلم يبق إمأما وصلاة المؤتمين به إذا لم يتقدم أحدهم قد صحت فرادى. وأما حديث ائتمام الناس بأبي بكر لما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ثم تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخر أبي بكر لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت هذا في الصحيح [البخاري "684، 1201، 1218، 234، 2690، 2693، 790"، مسلم "421"، أبو دأود "940، 941، 942، النسائي "2/77، 78"] ، فغايته الدلالة على أنه إذا لم يحضر إمام الصلاة جاز للمؤتمين أن يؤمروا من يصلي بهم وإذا رجع الإمام وهم في الصلاة كان لللإمام الأول المفضول أن يتأخر ويتقدم الإمام الفاضل فيتم بهم الصلاة. وهكذا صلاة أبي بكر في مرضه صلى الله عليه وسلم ثم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وقعوده جنب أبي بكر فكان أبو بكر يقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر. فغاية ما فيه الدلالة على ما دل عليه الحديث الأول وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على وجوب الاستخلاف من الإمام الذي بطلت صلاته وأنه لا دليل على تجديد النية من الإمام والمؤتمين به فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم في تين الصلاتين بتجديد النية ولو كان ذلك واجب لأمرهم به. وأما عدم فسادها على الإمام بعروض إقعاد مأيوس فظاهر ولا يحتاج إلي ذكره ولا فرق بين الإمام والمؤتم والمنفرد أما كونهم يعزلون صلاتهم فلا وجه لذلك وقد تقدم حديث: "وإذا صلي قاعدا فصلوا قعودا" وهذا عذر عارض في وسط الصلاة فلا يكون حكمه حكم من دخل في الصلاة قاعدا. وأما كون للمؤتمين أن يستخلفوا من يتم بهم الصلاة فلا مانع من ذلك كما تقدم والحاصل أن هذه التفريعات لم تكن مبنية على رواية مقبولة ولا رأي صحيح. [فصل ويجب متابعته إلا في مفسد فيعزل أو جهر فيسقط إلا أن يفوت لبعد أو صمم أو تأخر فيقرأ] . قوله: "فصل ويجب متابعته". الخ. أقول: هذا صحيح وقد دل عليه حديث "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا" الحديث وهو في الصحيحين [البخاري "734"، مسلم "414"،وغيرهما [أبو دأود "603، 604"] النسائي "921، 142، 922"، ابن ماجة"846" من حديث أبي هريرة. وأخرج البخاري ["733"] عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تركعوا حتى يركع ولا ترفعوا حتى يرفع".

وأخرج مسلم ["112/426"] ، من حديث أنس أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف". فهذه الأحاديث ونحوها تدل على وجوب المتابعة مع ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول صورته صورة حمار". وأما كونه يعزل في المفسد فقد قدمنا في الفصل الذي قبل هذا ما فيه. وأما كونه يسكت إذا جهر الإمام فذلك فيما عدا فاتحة الكتاب وأما هي ففرض عليه قراءتها في كل ركعة كما تقدم تحقيقه. [فصل ومن شارك في كل تكبيرة الإحرام أو في آخرها سابقا بأولها أو سبق بها أو بآخرها أو بركنين فعليين متواليين أو تأخر بهما غير ما استثني بطلت أحدهما] . قوله: فصل: "ومن شارك إمامه في كل تكبيرة الإحرام". أقول: ليس في هذا ما يوجب الفساد وهكذا إذا شاركه في أولها وسبق بآخرها وأما إذا سبقه بالتكبيرة كلها أو سبقه بأولها فهذا قد خالف ما أمر به من قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا". أما كون صلاته تفسد فلا وتعليلهم بأنه دخل في الصلاة قبل دخول إمامه علة عليلة لا ينبغي جعلها مقتضية للفساد فإن الفساد لا بد له من دليل خاص يدل عليه يوجب انتفاء الصلاة بانتفاء ما تركه أو انتفاءها بفعل ما فعله. وأما الحكم بالبطلان بتقدم المؤتم على الإمام بركنين فعليين متواليين أو تأخره عليه بهما فلا شك أن الفاعل لذلك قد اثم وخالف ما هو واجب عليه لما قدمنا من الأدلة في الفصل الذي قبل هذا فإنها قاضية بالمنع من ذلك في الركن الواحد فضلا عن الركنين. وأما كون ذلك مبطلا للصلاة فلا دليل عليه يوجب البطلان وقد تابع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في الركعة الخامسة حيث صلى بهم خمسا وهي مشتملة على أركان وأذكار ولم يأمرهم بالإعادة وهكذا في حديث ذي اليدين وأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من الرباعية على ثلاث ثم تكلم وتكلموا ثم قام فكبر وصلى بهم ركعة واحدة وسلم وفي كثير من الروايات أنه سلم على ركعتين ثم قام فصلى ركعتين. وهذا مما يفيدك أن حكم أهل الفقه بالفساد في كثير من المواضع ليس على ما ينبغي ثم كان يلزمهم أن يوجبوا الفساد بمجرد التقدم بركن واحد فإنه يصدق على الفاعل لذلك إذا كان

متعمدا أنه قد خالف حديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وحديث: "فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف" ويصدق عليه حديث "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو يحول الله صورته صورة حمار".

باب سجود السهو

[باب سجود السهو يوجبه في الفرض خمسة: الأول: ترك مسنون غير الهيئات ولو عمدا. الثاني: ترك فرض في موضعه سهوا مع أدائه قبل التسليم على اليسار ملغيا ما تخلله وإلا بطلت فإن جهل موضعه نبي على الأسوأ ومن ترك القراءة أو الجهر أو الإسرار أتى بركعة. الثالث: زيادة ذكر جنسه مشروع فيها إلا كثيرا في غير موضعه عمدا أو تسليمتين مطلقا فتفسد. الرابع: الفعل اليسير وقد مر ومنه الجهر حيث يسن تركه. الخامس: زيادة ركعة أو ركن سهوا كتسليمة في غير موضعها] . باب سجود السهو قوله: فصل: "يوجبه في الفرض خمسة". أقول: قد اجتمع في مشروعية سجود السهو أقوال وأفعال وفي أقواله وأفعاله ما هو بصيغة الأمر فكان بهذا واجبا ولكن إذا كان المتروك سنة من السنن التي ليست بواجبة فالسجود لها مسنون لأن الفرع لا يزيد على أصله. قوله: "الأول نرك مسنون غير الهيئات" أقول: اعلم أن تسمية بعض ما ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم سنة وبعضه هيئة هو مجرد اصطلاح لأهل علم الفروع وليس مثل ذلك حجة بل ما تقرر ثبوته من فعله صلى الله عليه وسلم مع المدأومة عليه فهو سنة وهكذا ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم مقترنا بقرينة تدل على عدم الوجوب وهكذا ما خرج عن حديث "المسيء صلاته" فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه صفة الصلاة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إلا ما ورد بعد تعليم المسيء بدليل يدل على وجوبه فإنه مقبول معمول به فلا يصرف حديث المسيء عن الوجوب إلا ما كان من الأقوال والأفعال في الصلاة ثابتا قبل تعليم المسيء. إذا تقرر لك هذا علمت أن جعل بعض أفعال الصلاة وأقوالها سنة يسجد فيها للسهو وبعضها هيئة لا يسجد فيها للسهو لا ينبغي الالتفات إليه ولا العمل به. وقد سجد صلى الله عليه وسلم لذلك التشهد الأوسط فكان ذلك دليلا للسجود لترك مسنون ولكن قد

قدمنا لك أن التشهد الأوسط مذكور في حديث المسيء فكان ذلك دليلا على وجوبه فلا يتم هذا الاستدلال ولكن يستدل على السجود بترك المسنون بحديث ثوبان عند أبي دأود وابن ماجة [ابن ماجة "1219"، أبو دأود "1038"، أحمد "5/280"] ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل سهو سجدتان" وقد قيل إن في إسناده انقطاعا لأنه مروي عن طريق عبد الرحمن ابن جبير بن نفير عن ثوبان ولم يدركه عبد الرحمن. ويجاب عن هذا بأنه رواه أبو دأود من طريق شيخة عمرو بن عثمان الحمصي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن ثوبان فلا انقطاع. وأما تضعيف الحديث بأن في إسناده إسماعيل بن عياش فالمقال الذي فيه لا يوجب طرح حديثه. ويؤيد هذا الحديث ما رواه البيهقي من حديث عائشة بلفظ: "سجدتا السهو تجزئان من كل زيادة ونقصان". وقد قدمنا أن السجود لترك مسنون لا يكون واجبا لئلا يزيد الفرع على أصله فغايته أن يكون مسنونا كأصله ولم يرد في ترك المسنون ما يدل على وجوب سجود السهو له كما عرفت بل يختص الوجوب بما ورد الأمر به كالأحاديث التي فيها: "وليسجد سجدتين" وليس ذلك في ترك المسنون. وأما إيجاب السجود لمن ترك المسنون عمدا فهو عكس ما يدل عليه عنوان هذا الباب فإنه قال: "باب سجود السهو" وأما تعليلهم بأنه إذا وجب السجود للسهو فوجوبه للعمد أولى فليس ذلك بشيء ها هنا فإن مشروعية السجود قد عللها الشارع بأن في السجود ترغيما للشيطان وأن السجدتين مرغمتان والمتروك عمدا ليس من جهة الشيطان بل من جهة المصلى نفسه. قوله: "والثاني ترك فرض في موضعه سهوا". أقول: يدل على هذا سجوده صلى الله عليه وسلم على ركعتين كما في بعض الأحاديث وعلى ثلاث كما في بعض أخرى وسجوده لما صلى خمسا وهي أحاديث صحيحة وهي كلها تدل على وجوب السجود لمثل ذلك. وأما قوله: "مع أدائه قبل التسليم على اليسار ملغيا ما تخلل وإلا بطلت" فمردود بما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فصلى ما تركه بتكبير وتسليم مع عدم الإلغاء لما كان قد صلاه وهذا دليل أوضح من الشمس ثابت في حديث ذي اليدين وغيره ولم يرد في هذه الشريعة ما يخالف ذلك قط ولكن أبى كثير من المفرعين إلا ترجيح رأيهم المعكوس واجتهادهم المنكوس بلا برهان. وهكذا يصنع المتعمدون في إثبات الأحكام الشرعية على الرأي دون الرواية وإنها لرزية في الدين وفاقرة من فواقر المفرعين.

فإن قلت قد تبين بفعله صلى الله عليه وسلم أن تارك الركعة أو الركعتين يأتي بهما بعد تسليمه الذي وقع منه سهوا فما حكم من ترك مثلا سجدة. قلت حكمه أن يأتي بها قبل أن يسلم إن ذكرها وإن لم يذكر إلا بعد التسليم كبر وسجد وسلم اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم فيما تركه والسجود هو جزء من الركعة وللجزء حكم الكل. وما أبعد هذا من أذهان المقلدين وأنفر طبائعهم عنه. قوله: "ومن ترك القراءة أو الجهر أو الإسرار أتى بركعة". أقول: هذا رأي بحث ليس عليه أثارة من علم والعجب ممن يتجارأ على إثبات مثل هذا ويكلف الناس به ويزعم أنه الشرع الذي شرعه الله ورسوله لعباده وهو يعلم أنه ليس في ذلك حرف واحد من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح. فإن قلت فمإذا لديك في مثل هذا؟. قلت أما من ترك القراءة فقد قدمنا من الأدلة الصحيحة الكثيرة ما يدل على أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب بل قدمنا ما يدل على انه لا ركعة إلا بفاتحة الكتاب وهذا الدليل يفيد أن وجود تلك الصلاة التي لم يقرأ فيها المصلي أصلا باطلة وجودها كعدمها. وأما من ترك الجهر أو الإسرار فالأمر يسير ليس هنا ما يوجب بطلان الصلاة وغايته على تقدير ثبوت ما يدل على الوجوب أنه ترك واجبا وصلاته صحيحة وعليه أن يسجد للسهو. قوله: "الثالث زيادة ذكر جنسه مشروع فيها". أقول: هذه دعوى مجردة بل شريعة متبوعة فالصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" [مسلم "537"] ، فمن جاء بتسبيحة أو تسبيحات أو تكبيرة أو تكبيرات في الموضع الذي شرع جنسها فيه فهو زيادة في ثوابه ومضاعفة لحسناته وإن كرر ما لم يشرع فيه إلا المرة الواحدة كتكبيرة النقل إذا كبر عند الانتقال من ركن إلي ركن تكبيرتين أو ثلاثا فقد خالف السنة بذلك ولا سجود عليه لعدم الدليل على ذلك لا من قول ولا فعل. وهكذا إذا سبح في موضع التشهد ونحو ذلك. وأما الجمع بين سورتين أو سور في ركعة فقد وردت به السنة من أنكر ذلك فهو الجاني على نفسه بتركه لعلم السنة فإن قرأ في غير موضع القراءة فقد ورد النهي عن القراءة في الركوع والسجود ففاعل ذلك عمدا آثم ولا دليل يدل على أنه يسجد من فعل ذلك للسهو لأنه متعمد وعلى فرض أنه فعل ذلك سهوا وأن حديث: "لكل سهو سجدتان" يشمله فلا يلحق به إلا فعل ما هو منهي عنه في غير موضعه لا ما كان في موضعه وليس هذا مراد المصنف. وأما قوله: "إلا كثيرا في غير موضعه" فقد قدمنا الكلام في الفعل الكثير فليرجع إليه. وأما إيقاع التسليمتين في غير موضعهما فإن كان سهوا فلا يفسد به ما تقدمهما من الصلاة لما تقدم في حديث ذي اليدين وما ورد في معناه بل صلاته قبل التسليم سهوا صحيحة ويقوم يأتي بما فاته بتكبير مستأنف.

وأما كونه خروجا من الصلاة فالأمر كذلك ولو كان سهوا ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم فكبر وصلى بهم ما بقي ولو لم يكن خروجا من الصلاة ما استأنف النبي صلى الله عليه وسلم التكبير للدخول في تأدية ما تركه. وأما إذا سلم عمدا عالما بانه ترك ركعة أو ركنا فق خرج من الصلاة قبل الفراغ منها متعمدا ولم يرد البناء على ما قد فعله قبل التسليم إلا في الناسي فقط فلا يلحق به المتعمد لوجود الفارق بينهما. قوله: "الرابع الفعل اليسير". أقول: لم يرد في هذا شيء بل الوارد يخالفه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في صلاته أفعالا هي عند الفقهاء كثيرة فضلا عن أن تكون يسيرة ثم كان لا يسجد سجود السهو فمن ذلك صلاته على المنبر ونزوله منه للسجود ثم رجوعه إليه ومن ذلك حمله أمامه في صلاته ثم وضعها إذا سجد وردها إلي ظهره إذا رفع ثم أمره للمصلي بأن يقاتل الحية وهو باق في صلاته ثم حمله للحسن على ظهره ثم ما وقع منه من إدارة من يقف عن يساره إلي يمينه ودفعه للرجلين اللذين وقفا عن يمينه ويساره إلي خلفه وكذلك اتقاؤه بيده وتأخره ولعنه للشيطان لما جاء له في صلاته بسعفه من نار. والحاصل أن هذا الباب إذا تتبع حصل منه الكثير ولم يسجد في شيء من ذلك. وأما ما أخرجه مسلم ["89/ 572"، وغيره [البخاري""401"، أبو دأود "1020"] ، من حديث ابن مسعود قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإما زاد أو نقص علينا فقلنا: يا رسول الله حدث في الصلاة شيء؟ قال: "لا" فقلنا له الذي صنع فقال: "إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين" فينبغي حمل هذه الزيادة أو النقصان على الزيادة التي سجد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي زيادة الركعة الخامسة وعلى النقصان الذي سجد له وهو التسليم على ركعتين أو ثلاث أو ما يشابه ذلك لا لكل زيادة أو نقص لأمرين أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد في هذه الزيادة أو النقص في حديث ابن مسعود بعد اأن نبهوه على ذلك الأمر. الثاني: ما ذكرنا من الأحاديث التي وقعت منه صلى الله عليه وسلم ولم يسجد لها. قوله: "الخامس زيادة ركعة أو ركن سهوا". أقول: هذا صحيح أما زيادة الركعة فلسجوده صلى الله عليه وسلم لما صلى خمس ركعات وأما زيادة الركن فلكونه جزءا من الركعة فيكون حكمه حكمها ويجبر الجميع بسجود السهو. [فصل لا حكم للشك بعد الفراغ فأما قبله ففي ركعة يعيد المبتدىء ويتحرى المبتلى ومن لا يمكنه يبني على الأقل ومن يمكنه ولم يفده في الحال ظنا يعيد وأما في ركن

فكالمبتلي ويكره الخروج فورا ممن يمكنه التحري قيل والعادة تثمر الظن ويعمل بخبر العدل في الصحة مطلقا وفي الفساد مع الشك ولا يعمل بظنه أو شكه فيما يخالف إمامه وليعد متظنن تيقن الزيادة ويكفي الظن في أداء الظني ومن العلم في أبعاض لا يؤمن عود الشك فيها] . قوله: فصل: "ولا حكم للشك بعد الفراغ". أقول: الأصل صحة الصلاة التي فرغ منها فلا يعمل بما يعرض من الشكوك فإن الشك الاصطلاحي الذي هو استواء الطرفين هو مجرد تردد والتردد لا يمكن العمل بأحد طرفيه لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر وإذا لم يكن العمل بأحد طرفيه فلا يحتاج فيه إلي أن يقال لا حكم له لأنه ينفي حكم ما يمكن العمل به لا ما لا يمكن العمل به من الأصل فإنه لم يثبت بحال حتى ينفي. إذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا يجوز العمل بالشك بمعنى إذا تردد في شيء ما كان لتردده معنى وفائدة لا بعد الفراغ من الصلاة ولا قبل الفراغ منها ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الأمر باطراح الشك والبناء على اليقين وفي بعضها البناء على الأقل وورد في بعضها الأمر بتحري الصواب والجمع بين هذه الروايات ظاهر واضح وهو أن من عرض له الشك إن أمكنه تحري الصواب وذلك بأن ينظر في الأمور التي تفيده معرفة الصواب كان ذلك واجبا عليه فإن لم يفده التحري وجب عليه البناء على اليقين وهو البناء على الأقل ويجب عليه السجود لمجرد عروض هذا الشك كما صرحت به الأحاديث الصحيحة ولم يعد المصنف عروض الشك من اسباب السجود مع أنه السبب الذي ثبت ثبوتا أوضح من الشمس وذكر أسبابا قد قدمنا تزييف أكثرها فما كان أحقه بذكر هذا السبب الصحيح. وأما الفرق بين المبتدىء والمبتلي وبين الركعة والركن فليس بشيء ولا يعول على مثله من له دراية بالرواية والكل سواء في إيجاب تحري الصواب عليهم أولا ثم البناء على اليقين الذي هو الأقل ثانيا بعد اطراح الشك وعدم الالتفات إليه وللركن حكم الركعة فإنه إذا وجب اطراح الشك في الركعة كان وجوب اطراحه في الركن ثابتا بفحوى الخطاب. قوله: "ويكره الخروج فورا". أقول: الأولى أن يقال ويحرم الخروج على كال حال ووجه ذلك أن الشارع قد عرفه أنه يتحرى الصواب فإن لم يفده التحري بنى على اليقين والبناء على الأقل ممكن لكل أحد إذا كان صحيح العقل لأنه إذا تردد هل صلى ثلاثا أو أربعا أمكنه أن يبني على الثلاث. ولو قدرنا أنه اختلط عليه الأمر حتى لم يدركم صلى ولم يهتد إلي مقدار أصلا فعليه أن يبني على أنه في الركعة الأولى لأنه قد صار مصليا ولا أقل من ان يكون في الركعة الأولى وليس عليه غير ذلك فإنه هو الذي أمر به الشارع من البناء على اليقين والبناء على الأقل.

واطراح الشك هذا إذا كان المصلي من جنس العقلاء فإن كان قد انسلخ من العقل وصار مجنونا فقد رفع الله عنه قلم التكليف في الصلاة وغيرها. قوله: "قيل والعادة تثمر الظن". أقول: هب أن العادة تثمر الظن فكان مإذا فإن المقام مقام العمل باليقين ومقام البناء على الأقل فليس لمجرد الظن ها هنا فائدة يستد بها ولا يجوز العمل به فيما نحن بصدده وهكذا العمل بخبر العدل إن لم يحصل به اليقين الذي أمر به الشارع فلا اعتبار به ويغني عنه البناء على الأقل وهو ممكن كل عاقل. قوله: "ولا يعمل بظنه أو بشكه فيما يخالف إمامه". أقول: هذا صواب ولو قال المصنف رحمه الله في هذا الفصل ولا يعمل بالظن والشك مطلقا أي قبل الفراغ من الصلاة وبعده وفي صلاته منفردا أو مع الإمام لكان ذلك صوابا مغنيا عن جميع ما في هذا الفصل على مقتضى ما هو الحق كما عرفناك. قوله: "ولبعد متظنن تيقن الزيادة". أقول: الذي تقتضيه الأدلة أنه إذا تيقن الزيادة عمل على اليقين كما تيقن أنه صلى خمسا وليس عليه إلا سجود السهو كما فعله صلى الله عليه وسلم لما اخبروه أنه صلى خمسا فإنه سجد للسهو فقط ولم يعد الصلاة ولا أمرهم بالإعادة ولا اعتبار بكونه زاد تلك الزيادة متظننا فإنه لا عمل بالظن في مثل هذا ولا تأثير له على أن من صلى الخامسة لا بد له من حامل على ذلك من جهة نفسه وأقل ما يحمله على ذلك ما يحصل له من الظن أنها أربعة مثلا وقد عرفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ليس عليه إلا سجود السهو. قوله: "ويكفي الظن في أداء الظني". أقول: جاء بهذه القاعدة الكلية وهي غير مقبولة لأن الحكم الشرعي الثابت بدليل ظني قد كلف به من وجب عليه وثبت في ذمته يقينا وإن كان دليله ظنيا فكيف يكفي ظن المكلف في تأدية ما هو ثابت عليه بيقين وأين هذا الظن من ظنية دلالة الدليل على وجوب الحكم مع تعلقه بالمكلف بيقين. وإذا تقرر لك هذا في الظن فهو فيما هو أعلى منه أولى. [فصل "وهو سجدتان بعد كمال التسليم حيث ذكر أداء أو قضاء إن ترك وفروضهما النية للجبران والتكبيرة والسجود والاعتدال والتسليم وسننهما تكبير النفل وتسبيح السجود والتشهد.

ويجب على المؤتم لسهو الإمام أولا ثم لسهو نفسه قيل المخالف إن كان ولا يتعدد لتعدد السهو إلا لتعدد أئمة سهوا قبل الاستخلاف وهو في النفل ولا سهو لسهو ويستحب سجوده بنية وتكبيرة لا تسليم أحدها شكرا واستغفارا ولتلأوة الخمس عشرة آية أو لسماعها وهو بصفة المصلي غير مصل فرضا إلا بعد الفراغ ولا تكرار للتكرار في المجلس"] . قوله: فصل: "وهو سجدتان بعد التسليم". أقول: هذه المسألة قد طال فيها الخلاف وقد استوفيت الكلام في المذاهب وما استدل به لكل مذهب في شرح المنتقى وذكرت فيها ثمانية مذاهب ولاح لي ما ينبغي أن يعد مذهبا تاسعا وهو أنه يسجد لما سجد له رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل السلام كذلك ولما سجد له بعد السلام كذلك وللسهو الخارج عن المواضع التي سجد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون المصلي مخيرا إن شاء سجد قبل السلام وإن شاء بعده لأن الكل قد ثبت وهذا قول حسن وجمع جامع بين الأدلة. وأما قوله: "حيث ذكر أداء أو قضاء إن ترك عمدا فالناسي يسجد عند الذكر ويكون أداء وإن خرج وقت الصلاة التي سها فيها". ولا وجه لتقييده بالعمد فلا فرق بين العمد والسهو. وإن كان التارك عمدا قد أثم بالتراخي عن تأدية ما يجب عليه. قوله: "وفروضهما النية للجبران". أقول: قد قدمنا أن في الأدلة الدالة على النية ما يفيد أنها شرط يؤثر عدمها في عدم المشروط وأما كونها للجبران فلكونه قد لحق الصلاة بالنقص منها أو الزيادة فيها ما هو نقص ولهذا وجب سجود السهو فلا وجه لما قيل أن الزيادة ليست بنقص فتجبر. وأما فرضية التكبير فلما تقدم لأن سجود السهو قد صار كالصلاة المستقلة لتحريمه بالتكبير وتحليله بالتسليم. وأما فرضية السجدتين فلكونهما هما والاعتدال أركانا لسجود السهو. وأما فرضية التسليم فلما تقدم في تسليم الصلاة. وأما كون تكبير النقل وتسبيح السجود سنة فلكونهما في الصلاة كذلك. وأما جعل التشهد سنة فلا وجه له بل حكمه حكم تشهد الصلاة وقد تقدم الكلام في ذلك في صفة الصلاة لكنه إذا كان السجود قبل التسليم فلا تشهد بل يغني عنه تشهد الصلاة وهكذا يكفي السلام الواحد تحليلا لصلاة الفريضة ولسجود السهو لأنه لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم تسليمتين ولا تشهد تشهدين فيما سجد له قبل التسليم وأما ما سجد له بعد التسليم من الصلاة فلا بد من التشهد والتسليم. وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم تشهد في سجود السهو فأخرج أبو دأود ["1039"] ، والترمذي ["395"] ،

والترمذي وابن حبان والحاكم عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم قال الترمذي حسن غريب صحيح وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وقد ورد في التشهد في سجود السهو غير هذا الحديث وهو ما أخرجه أبو دأود ["1028"] ، والنسائي عن ابن مسعود وأخرجه البيهقي عن المغيرة وفي إسنادهما ضعف ولكن الحديث الأول على انفراده تقوم به الحجة. قوله: "ويجب على المؤتم لسهو الإمام أولا". أقول: هذا صحيح لورود الأمر بمتابعة الإمام وإن كان نقص صلاته لا يسري إلي صلاة المؤتم لما تقدم في الحديث الصحيح "أنه إذا أصاب فله وللمؤتمين وإن أخطأ فعليه لا عليهم" وأما إيجاب السجود على المؤتم لما عرض له من السهو في صلاته فذلك صواب لأن أدلة سجود السهو تتنأوله ولم يرد ما يدل على ان مجرد سجوده مع الإمام لسهو الإمام يسقط عنه السجود لسهو نفسه. والحاصل أنه إذا كان سهو الإمام في فعل أو ترك قد تابعه المؤتم في ذلك الفعل أو الترك سهوا فسجوده مع الإمام يكفي وإن كان قد وقع منه سهو غير سهو الإمام فعليه أن يسجد له لدخوله بهذا السجود في جملة الأدلة الواردة في سجود السهو. فقول المصنف قيل المخالف إن كان هو أصوب من قول القائل إنه يسجد مطلقا. قوله: "ولا يتعدد بتعدد السهو". أقول: أحسن ما يستدل به لهذا أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم كرروا السجود لتكرر السهو مع أن تكرر السهو ممكن من كل مصل وأما الاستدلال على عدم التعدد بأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على ركعتين وتكلم وسلم. ففيه أن الكلام وقع بعد الخروج من الصلاة بالتسليم ثم التسليم هو الذي تبين به أنه وقع السهو فإن قيل إنه في حكم المصلي لبنائه على ما قد فعل فيجاب عنه أنه لو كان ذلك صحيحا لكان للكلام الواقع منه في تلك الحالة حكم الكلام الواقع قبل الخروج من الصلاة. وأما قوله: "إلا لتعدد أئمة سهوا قبل الاستخلاف" فلا وجه له لأن الصلاة واحدة والأئمة المتعددون كالإمام الواحد فكما لا يتعدد السجود لسهو الإمام الواحد كذلك لا يتعدد لتعدد سهو الأئمة وسهوهم بعد الاستخلاف يخصهم لأنهم لم يكونوا أئمة في حال السهو. قوله: "وهو في النفل نفل". أقول: قد اختلف أهل الأصول في لفظ الصلاة إذا لم يقيد هل إطلاق الصلاة على الفريضة والنافلة من باب الاشتراك اللفظي أو المعنوي وإلي الثاني ذهب جمهورهم وإلي الأول ذهب الرازي والظاهر الأول فتكون الأحاديث التي ذكر فيها السجود لمن سها في صلاته شاملة للفريضة والنافلة ويكون عدم وجوب النافلة صارفا لما تدل عليه الأحاديث من الوجوب فلا يرد الاشكال الذي أورده الجلال.

قوله: "ولا سهو لسهوه" أقول: سجود السهو قد قدمنا أنه صار كالصلاة المستقلة لوجود خاصيتها فيه وهو كون تحريمهه التكبير وتحليله التسليم. وقد اتفق الجميع أنه يبطل بمبطلات الصلاة كالحدث ونحوه فلو صح ما قالوه من لزوم التسلسل لكان الحدث غير مبطل له. وإذا عرفت هذا فالسهو فيه كالسهو في الصلاة بشمول أحاديث السهو له لأنه صلاة. وأما ما قاله بعض أئمة النحو من أن المصغر لا يصغر فهو بمعزل عن علم الفقه في الدين. قوله: "ويستحب سجود بنية وتكبيرة لا تسليم أحدها شكرا". أقول: قد وردت أحاديث كثيرة بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها فيه ضعف ومجموعها مما تقوم به الحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجود شكر في مواضع ولم يرد في ذلك غير فعله صلى الله عليه وسلم فلم يكن واجبا ولم يرد في الأحاديث غير فعله صلى الله عليه وسلم للسجود ولم يرد أنه كبر ولا أنه سلم فالمشروعية تتم بمجرد فعل السجود. فإن قلت لم يرد في الأحاديث ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم في سجود الشكر فمإذا يقول الساجد للشكر. قلت ينبغي أن يستكثر من شكر الله عز وجل لأن السجود سجود الشكر. فإن قلت نعم الله على عباده لا تزال واردة عليه في كل لحظة؟ قلت المراد النعم المتجددة التي يمكن وصولها إلي العبد ويمكن عدم وصولها ولهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد إلا عند تجدد تلك النعم مع استمرار نعم الله سبحانه وتعالي عليه وتجددها في كل وقت. قوله: "واستغفارا" أقول: لم يرد في هذا شيء وليس في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في "ص" وقال: "سجدها دأود توبة ونسجدها شكرا" [النسائي "957"] ، ما يدل على مشروعية السجود للاستغفار لأن ذلك هو بيان لمشروعية سجدة التلأوة في صلي الله عليه وسلم وأن دأود عليه السلام فعلها للتوبة ولم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم للتوبة بل قال: "ونسجدها شكرا" فلم يقرر النبي صلى الله عليه وسلم سجود التوبة من دأود بل خالفه فليس ذلك من شرع من قبلنا كما زعمه البعض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرره وغاية ما في الحديث أنه يحسن السجود في صلي الله عليه وسلم شكرا عند تلأوة الآية أو سماعها. ولكنه قد ورد أن السجود هو مقام القرب من الرب سبحانه كما في الحديث الصحيح "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" [مسلم "482"] ، فمن قصد إيقاع دعائه في هذا المقام أو استغفاره فقد وفق للصواب وتعرض لنفحات الرحمن في المقام الذي أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن العبد أقرب إلي ربه فيه من سائر المقامات التي يكون العبد عليها كالقيام والقعود والاضطجاع فمن فعل السجود عند دعائه قاصدا به هذا المقصد مريدا به هذه الأرادة فنعم ما فعل.

قوله: "ولتلاوة الخمس عشرة آية". أقول: سجود التلأوة سنة ثابتة وشريعة قائمة حتى ذهب أبو حنيفة ومن تابعه إلي وجوبه والأحاديث في ذلك كثيرة. وأما اشتراط أن يكون الساجد بصفة المصلي فليس على ذلك دليل ولا حجة فيما يروي عن بعض الصحابة. وأما قول المصنف غير مصل فرضا فدفع في وجه الدليل الصحيح ورد للسنة الثابتة ولو لم يكن من ذلك إلا ما في الصحيحين [البخاري "766"،،"1074"، مسلم "578"، وغيرهما أبو دأود "1408"، النسائي "2/162": أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في الصلاة لما قرأ {إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الإنشقاق: 1] . قوله: "ولا تكرار للتكرار في المجلس". أقول: هذا التكرار لنفس الآية التي وقع السجود عند قراءتها إن كان من القارىء الذي قرأها أولا لا لفرض بل لما فرغ من السجود لها ابتدأ بها فلا سجود وإن كان من قارىء آخر أو من هذا القارىء نفسه لا لقصد التكرار كأن يقرأ سورة الانشقاق في جملة ما يتلوه ثم يقوم فيصلي بها فلا وجه لإسقاط السجود.

باب والقضاء

[باب والقضاء يجب على من ترك إحدى الخمس أو ما لا يتم إلا به قطعا أو في مذهبه عالما في حال تضيق عليه فيه الأداء غالبا. وصلاة العيد في ثانيه فقط إلي الزوال إن تركت للبس فقط. ويقضي كما فات قصرا وجهرا وعكسهما وإن تغير اجتهاده لا من قعود وقد أمكنه القيام والمعذور كيف أمكن وفوره مع كل فرض فرض. ولا يجب الترتيب ولا بين المقضيات ولا التعيين. وللإمام قتل المتعمد بعد استتابته ثلاثا فأبى] . قوله: "باب: والقضاء على من ترك إحدى الخمس". أقول: لفظ الترك يشمل الترك عمدا والترك سهوا أو نسيانا أو لنوم والأدلة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم لم ترد إلا في السهو والنسيان والنوم وقال صلى الله عليه وسلم فيها: "فوقتها حين يذكرها لا وقت لها إلا ذلك" وهذا يفيد أن ذلك وقتها أداء.

إذا لا قضاء فتكون هذه الأحاديث مخصصة لما ورد من توقيت الصلاة وتعيين أوقاتها ابتداء وانتهاء فيقال إلا الصلاة التي نام عنها المصلي أو سها عنها فإن فعلها عند الذكر هو وقت أدائها ولو بعد خروج الوقت المضروب لتلك الصلاة. وأما العمد فلا تشمله هذه الأحاديث الواردة في النوم والسهو والنسيان ولا يدخل تحتها ولا يصح قول من قال إنه ثبت القضاء مع السهو والنسيان والنوم ثبت مع العمد بفحوى الخطاب لأنا نقول ليس تأدية الصلاة التي نام عنها أو نسيها من باب القضاء بل من باب الأداء فلا يتم القياس من هذه الحيثية. ثم لا نسلم أن ذلك أولى لأن التارك عمدا قد أثم بالترك بالإجماع فإيجاب القضاء عليه لا يرفع عنه هذا الإثم. فإن قلت قد زعم قوم كدأود الظاهري وابن حزم وابن تيمية ومن تابعهم أنه لا قضاء في العمد وأنه لم يرد بذلك دليل فهل هذا صحيح؟ قلت نعم لم يرد في قضاء الصلاة المتروكة عمدا دليل يدل على وجوب القضاء على الخصوص ولكنه وقع في حديث الخثعمية الثابت في الصحيح [البخاري"1513، 1854، 1855، 4399، 6228"، مسلم "1334، 1335"، أبو دأود "1809"، النسائي "2635، 2641"، الترمذي "928"، ابن ماجة "2909"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "دين الله أحق أن يقضى" والتارك للصلاة عمدا قد تعلق به بسبب هذا الترك دين الله وهو أحق بأن يقضيه هذا التارك. وأما قول من قال إن دليل القضاء هو دليل الأداء فليس ذلك إلا مجرد دعوى ادعاها بعض أهل الأصول. وما ذكره المصنف رحمه الله من أن ترك ما لا يتم الصلاة إلا به كتركها وذلك كترك شرط من شروط صحتها أو نحو ذلك فهذا مسلم. وأما قوله: "أو في مذهبه عالما" فهذا وإن قبله المقلدون فلا بد أن يكون ذلك المتروك مما يستلزم بطلان الصلاة شرعا وإلا فلا اعتبار بالأقوال المخالفة للحق وإن قال بها من قال. وأما اعتبار أن يكون الترك في حال تضيق عليه فيه الأداء فذلك لإخراج من لا وجوب عليه كالمجنون والحائض وقد أخرج النائم والساهي والناسي بقوله غالبا. قوله: "وصلاة العيد في ثانيه فقط". أقول: هذا قد دل عليه الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد ["9/265"، بوأبو دأود ["1157"، والنسائي ["1557"، وابن ماجه ["1653"] ، وابن حبان عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: غم علينا هلال شوال فأصبحنا صيأما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد، وصححه ابن حبان وابن المنذر وابن السكن وابن حزم والخطأبي وابن حجر في بلوغ المرام.

فهذا فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يفطروا وأمرهم بالخروج لعيدهم من الغد والناس هم الموجودون إذ ذاك في المدينة وقد كان ترك الإفطار في ذلك لكون الهلال قد غم على أهل المدينة مع كون ذلك الوقت مظنة لظهوره فكان الترك من هذه الحيثية للبس عرض لهم في ذلك اليوم ثم تبين لهم الصواب. وبهذا يندفع ما وقع الاعتراض به على المصنف. وأما كون القاضي يقضي كما فات فذلك ظاهر ولكنه إذا تغير اجتهاد المجتهد قبل فعله للقضاء كان العمل على اجتهاده الآخر لا كما قال المصنف لأنه إنما انتقل عن الاجتهاد الأول لدليل قد ظهر له يجب العمل عليه ولم يكن قد فعل القضاء. وأما قوله لا من قعود وقد أمكنه القيام فصحيح لأنه قد صار قادرا على القيام قبل القضاء فوجب عليه أن يقوم لزوال عذره ومع بقاء العذر يفعل ما بلغته استطاعته. قوله: "وفوره مع كل فرض فرض". أقول: هذه دعوى مجردة بل فوره أن يفعل ما يقدر عليه وهو يقدر على أن يأتي بصلاة الأيام المتعددة في بعض يوم. قوله: "ولا يجب الترتيب ولا بين المقضيات". أقول: يريد أنه لا يجب الترتيب بين المقضية والمؤداة ولا بين المقضيات نفسها لأن الجمع قد تعلق بمن عليه القضاء ولا دليل يدل على خلاف هذا حتى يتعين المصير إليه وأما من ترك الصلاة لنوم أو نسيان فقد عرفناك أن فعلها في وقت الذكر هو أداء لا قضاء. قوله: "وللإمام قتل المتعمد" الخ. أقول: قد دل على هذا كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري"25"، مسلم "36/22"] ، وغيرهما من طرق "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة" الحديث. وصح عنه في الصحيحين [البخاري "4094"، مسلم "1064"] ، وغيرهما [أحمد "3/4"] أن خالد بن الوليد قال له في الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله اتق الله......, يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا لعله يصلي". وصح في صحيح مسلم ["134/82"] ، وغيره أبو دأود "4678"، الترمذي "2618"، ابن ماجة "1078"، أحمد "3/370، 389"] ، من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة". وثبت عند أحمد ["5/346"] ، وأهل السنن [الترمذي "2621"، ابن ماجة "1079"] ، من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، وصححه النسائي والعراقي وأخرجه ابن حبان والحاكم.

وثبت إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة وهي عديلة الصلاة بل الصلاة أدخل في الركنية للإسلام منها. فالحاصل أن تارك الصلاة عمدا كافر يستحق القتل ويجب على إمام المسلمين قتله لا كما قال المصنف وللإمام قتل المتعمد فيقال له صل فإن أبى قتل ولا وجه لتأخيره عن القتل ثلاثة ايام بل مجرد امتناعه يقتل. [فصل ويتحرى في ملتبس الحصر ومن جهل فائتته فثنائية وثلاثية ورباعية يجهر في ركعة ويسر في أخرى. وندب قضاء المؤكدة] . قوله: "فصل ويتحرى في ملتبس الحصر" الخ. أقول: إذا تيقن انها فاتته إحدى الصلوات الخمس والتبس أيها الفائتة ولم يفده التحري فلا تحصل له البراءة إلا بفعل الخمس الصلوات جميعها يقول في كل واحدة إن كانت هي فقضاء وإلا فنافلة وصحت النية المشروطة هنا للضرورة وتوقف البراءة عليها. قوله: "وندب قضاء المؤكدة". أقول: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنها فاتته الركعتان بعد الظهر فقضاهما بعد العصر وثبت عنه أنه أمر من فاته وتره بالليل أن يقضيه بالنهار وثبت عنه فيمن فاته ورده بالليل أن يقضيه بالنهار وهذا إذا لم يترك تلك النافلة المؤكدة لغرض المرض أو نحوه. أما إذا تركها لذلك فقد ورد أن الله يكتب له ثوابها.

باب صلاة الجمعة

[باب صلاة الجمعة تجب على كل مكلف ذكر حر مسلم صحيح نازل في موضع إقامتها أو يسمع نداءها وتجزىء ضدهم وبهم غالبا. وشروطها اختيار الظهر وإمام عادل غير مأيوس وتوليته في ولايته أو الاعتزاء إليه في غيرها وثلاثة مع مقيمها ممن تجزئه ومسجد في مستوطن وخطبتان قبلها مع عددها

متطهرين من عدل متطهر مستدبر للقبلة مواجها لهم اشتملتا ولو بالفارسية على حمد الله تعالي والصلاة على النبي وآله وجوبا. وندب في الأولى الوعظ وسورة وفي الثانية الدعاء لإمام صريحا أو كناية ثم للمسلمين وفيهما القيام والفصل بقعود أو سكتة ولا يتعدى ثالثة المنبر إلا لبعد سامع والاعتماد على سيف أو نحوه والتسليم قبل الإذان والمأثور قبلهما وبعدهما وفي اليوم ويحرم الكلام حالهما. فإن مات أو أحدث فيهما استأنفتا ويجوز أن يصلي غيره] . قوله: "تجب على كل مكلف". أقول: الأدلة المصرحة بأنها حق واجب على كل مسلم وبأنها واجبة على كل محتلم وبالوعيد الشديد على تاركها وبهمه صلى الله عليه وسلم بإحراق المتخلفين عنها يقتضي أنها واجبة على الأعيان. وأما ما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم قد هم بإحراق المتخلفين عن الجماعة ولم يثبت بذلك وجوبها على الأعيان فنقول قد ورد الصارف في صلاة الجماعة وهي الأدلة القاضية بصحة صلاة الفرادى ولم يرد في صلاة الجمعة ما يصرف ذلك. وأما ما قيل من أن مسجده صلى الله عليه وسلم كان يضيق عن أن يصلي فيه جميع أهل المدينة فهذه الدعوى من ضيق العطن أما أولا فالأدلة إذا قضت بالوجوب على الأعيان فلا يصرفها مثل هذا وأما ثانيا فإقامتها خارجة ممكنة وأما ثالثا فقد ورد أن الجمعة كانت تقام في غير مسجده صلى الله عليه وسلم. ثم ليس بعد الأمر القرآني المتنأول لكل فرد من قوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إلي ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، حجة بينة واضحة. وزحلقة دلالة هذه الآية عن الوجوب العيني تعصب يأباه الإنصاف. وأما استثناء من استثناه المصنف فيدل على ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث طارق ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض"، وقد وقد صححه غير واحد من الأئمة. وما قيل من أن طارق بن شهاب لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت أنه قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم قال العراقي فإذا قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح وغايته أن يكون مرسل صحأبي وهو حجة عند الجمهور إنما خالف فيه أبو إسحق الإسفراييني على أنه قد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى. ويؤيده ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرا أو عبدا أو مريضا" وفي إسناده ضعف. وفي الباب عند الطبراني في الأوسط وعن مولى لآل الزبير عند البيهقي وعن أم عطية عند

ابن خزيمة وعن أبي هريرة ذكره صاحب مجمع الزوائد وصاخب التلخيص وفيه ضعف وعن تميم الداري عند العقلي والحاكم وفي إسناده ضعف. وأما إيجاب الجمعة على المسافر إذا كان نازلا في الموضع الذي تقام فيه الجمعة أو يسمع النداء لها فهو تخصيص لقوله في الحديث: "أو مسافرا" بغير مخصص. وأما قوله: "وتجزىء ضدهم" فصواب لأن مجرد الترخيص لهؤلاء لا يدل على عدم صحة الجمعة منهم إذ الرخصة ما خير المكلف بين فعله وتركه مع بقاء سبب الوجوب والتحريم كما تقرر في الأصول وهكذا قوله وتجزىء بهم لأن صلاتهم صحيحة. قوله: "وشروطها اختيار الظهر". أقول: قد جعل المصنف الوقت هنا شرطا كما جعله في أول كتاب الصلاة وقد قدمنا الكلام على ذلك هنالك فلا نعيده. واعلم أن الأحاديث الصحيحة قد اشتمل بعضها على التصريح بإيقاع صلاة الجمعة وقت الزوال كحديث سلمة بن الأكوع في الصحيحين [البخاري "4168"، مسلم "860"] ، وغيرهما [أبو دأود "1085"، النسائي "1391"، ابن ماجة "1100"] ، قال كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس وبعضها فيه التصريح بإيقاعها قبل الزوال كما في حديث جابر عند مسلم ["29/858"] ، وغيره [أحمد "6/38‘ 39"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة ثم يذهبون إلي جمالهم فيريحونها حين تزول الشمس وبعضها محتمل لإيقاع الصلاة قبل الزوال وحاله كما في حديث سهل بن سعد في الصحيحين [البخاري "2/427"، مسلم "30/859"] ، وغيرهما [أحمد "5/336"، أبو دأود "1086"، الترمذي "525"، ابن ماجة "1099"] ، قال ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة وكما في حديث أنس عند البخاري وغيره قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم نرجع إلي القائلة فنقيل. ومجموع هذه الأحاديث يدل على أن وقت صلاة الجمعة حال الزوال وقبله ولا موجب لتأويل بعضها. وقد وقع من جماعة من الصحابة التجميع قبل الزوال كما أوضحناه في شرح المنتقي وذلك يدل على تقرير الأمر لديهم وثبوته. قوله: "وإمام عادل" الخ. أقول: ليس على هذا الاشتراط أثارة من علم بل لم يصح ما يروى في ذلك عن بعض السلف فضلا عن أن يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن طول المقال في هذا المقام فلم يأت بطائل قط ولا يستحق ما لا أصل له أن نشتغل برده بل يكفي فيه أن يقال هذا كلام ليس من الشريعة وكل ما ليس هو منها فهو رد أي مردود على قائله مضروب في وجهه. قوله: "وثلاثة مع مقيمها". أقول: هذا الاشتراط لهذا العدد لا دليل عليه قط وهكذا اشتراط ما فوقه من الأعداد.

وأما الاستدلال بأن الجمعة أقيمت في وقت كذا وعدد من حضرها كذا فهذا استدلال باطل لا يتمسك به من يعرف كيفية الاستدلال ولو كان هذا صحيحا لكان اجتماع المسلمين معه صلى الله عليه وسلم في سائر الصلوات دليلا على اشتراط العدد. والحاصل أن صلاة الجماعة قد صحت بواحد مع الإمام وصلاة الجمعة هي صلاة من الصلوات فمن اشترط فيها زيادة على ما تنعقد به الجماعة فعليه الدليل ولا دليل وقد عرفناك غير مرة أن الشروط إنما تثبت بأدلة خاصة تدل على انعدام المشروط عند انعدام شرطه فإثبات مثل هذه الشروط بما ليس بدليل أصلا فضلا عن أن يكون دليلا على الشرطية مجازفة بالغة وجرأة على التقول على الله وعلى رسوله وعلى شريعته والعجب من كثرة الأقوال في تقدير العدد حتى بلغت إلي خمسة عشر قولا وليس على شيء منها دليل يستدل به قط إلا قول من قال إنها تنعقد جماعة الجمعة بما تنعقد به سائر الجماعات. قوله: "ومسجد في مستوطن". أقول: وهذا الشرط أيضا لم يدل عليه دليل يصلح للتمسك به لمجرد الاستحباب فضلا عن الشرطية ولقد كثر التلاعب بهذه العبادة وبلغ إلي حد تقضي منه العجب. والحق أن هذه الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه وشعار من شعارات الإسلام وصلاة من الصلوات فمن زعم أنه يعتبر فيها ما لا يعتبر في غيرها من الصلوات لم يسمع منه ذلك إلا بدليل وقد تخصصت بالخطبة وليست الخطبة إلا مجرد موعظة يتواعظ بها عباد الله فإذا لم يكن في المكان إلا رجلان قام أحدهما يخطب واستمع له الآخر ثم قأما فصليا صلاة الجمعة. ولقد تضرب الجلال في هذه الشروط تضربا يأباه الإنصاف بل يأباه التحقيق ومال مع الخوارج في بعضها كما جرت عادته بالقيام في المواطن المبتدعة والأقوال المخترعة. قوله: "وخطبتان قبلها" الخ. أقول: قد ثبت ثبوتا متواترا يفيد القطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الخطبة في صلاة الجمعة قط فالجمعة التي شرعها الله سبحانه هي صلاة الركعتين مع الخطبة قبلها وقد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالسعي إلي ذكر الله والخطبة من ذكر الله إذا لم تكن هي المرادة بالذكر فالخطبة فريضة. وأما كونها شرطا من شروط الجمعة فلا. وأما قوله: "مع عددها" فقد عرفت ما فيه وهكذا اشتراط طهارتهم وطهارة الخطيب فليس على ذلك دليل بل يصح أن يخطب وهو محدث وهم محدثون ثم يقوم ويقومون فيتطهرون ويصلون صلاة الجمعة. وهكذا اشتراط عدالة الخطيب لا دليل عليه وأما استدبار الخطيب للقبلة واستقباله للحاضرين فهذه هيئة حسنة كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفعلها من بعده من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ولكن لا دليل يدل على الوجوب فإن تأدية الذكر المأمور بالسعي إليه ممكنة بدون ذلك.

وأما اشتمال الخطبة على حمد الله والصلاة على رسوله فهكذا كانت خطبته صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا استفتاحا للخطبة المقصودة ومقدمة من مقدماتها والمقصود بالذات هو الوعظ والتذكير وهو الذي يساق إليه الحديث ولأجله شرع الله هذه الخطبة ولم يشرعها لمجرد الحمد لله والصلاة على رسوله فجعل المصنف للوعظ مندوبا وللحمد والصلاة على رسول الله واجبا ليس كما ينبغي وكان عليه أن يضم إلي الحمد والصلاة الشهادتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لازمهما في خطبته كما لازم الحمد وغيره فلا وجه لإيجاب بعض ما لازمه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بعض فإن ذلك تحكم لا ينبغي من منصف وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو شيئا من القرآن وقد يأتي في خطبته بسورة كاملة والمقصود الموعظة بالقرآن وإيراد ما يمكن من زواجره وذلك لا يختص بسورة كاملة. والحاصل أن روح الخطبة هو الموعظة الحسنة من قرآن أو غيره وقد خلط المصنف خلطا عظيما بإيجابه للبعض وإهماله للبعض والقول بندبية البعض وكان عليه أن يثبت لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما واحدا وإذا أراد تخصيص البعض بحكم آكد من غيره فليجعل ما هو المقصود والمراد من الخطبة وهو الوعظ آكد من غيره وأدخل في المشروعية. والقيام في الخطبتين مع القعود بينهما هو الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف ذلك بدعة والسكتة مع عدم القعود لم تثبت ولا فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء الراشدون بل كانوا يقعدون بين الخطبتين. وأما قوله: "ولا يتعدى ثالثة المنبر إلا لبعد سامع" فلم يرد في هذا شيء فذكره في مندوبات الخطبة لا وجه له وأما الاعتماد على سيف أو نحوه فقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي عنه أيضا التسليم على الحاضرين قبل الشروع في الخطبة من طرق يقوي بعضها بعضا. قوله: "وندب المأثور قبلهما وبعدهما وفي اليوم". أقول: قد اشتملت السنة المطهرة على ذلك فمن جملة ما اشتملت عليه الإتيان إلي الجمعة بالسكينة والوقار وعدم تخطي الرقاب وترك الجلوس في مجلس قد سبق إليه سابق والتطيب بعد الاغتسال وصلاة ركعتي التحية ولو في حال الخطبة وصلاة اربع ركعات بعد الفراغ من الصلاة والتكبير إلي الجمعة وترك الاحتباء حال الخطبة وترك العبث بالحصى والتحول من المحل الذي نعس فيه إلي غيره. ومن المشروعات في اليوم الاستكثار من الدعاء لأن فيه الساعة التي لا يرد فيها الدعاء والاستكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "ويحرم الكلام حالهما". أقول: هذا هو مقتضى الأدلة كحديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "394"، مسلم "851"] ، وغيرهما [أبو دأود "1112"، الترمذي "511"، النسائي 3/104"، ابن ماجة "1110"] ، أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت"، وأخرج هذا الحديث أحمد ["6/62"، وأبو دأود "1051"] ، وأبو دأود من حديث علي وزاد فيه "ومن لغا فلا جمعة له" وفي إسناده رجل مجهول ولكنه قد أخرج معنى هذه الزيادة أحمد ["1/230"] ، وابن أبي شيبة والبزار والطبراني في الكبير من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليس له جمعة"، وفي إسناده مجالد بن سعيد وفيه مقال خفيف. وأخرج أحمد ["21184"] ، والطبراني من حديث أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ"، وفي الباب أحاديث. وأما الخطيب فيجوز له أن يجيب سؤال من سأله ويأمر من ترك ما ينبغي فعله بأن يفعله كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة. وأما قوله: "فإن مات أو أحدث استؤنفتا" فلا وجه للاستئناف إذا عرض ما يمنع من تمام الخطبة بل يبني الآخر على ما قد فعله الأول إذا لم يكن قد فعل ما هو مشروع. وقد قدمنا أنه لا دليل على اشتراط كون الخطيب متطهرا لأن المقصود من الخطبة يحصل من المحدث كما يحصل من المتطهر وما قيل من أنها بمنزلة ركعتين فلا أصل لذلك بل هي ذكر من الأذكار وموعظة من المواعظ. وأما قوله: "ويجوز أن يصلي غيره" فذلك خلاف ما جرت به السنة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب ثم يصلي بالناس مدة حياته ثم كذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم بل كان هذا هو الأمر المستمر عند أمراء الأمصار فضلا عن الخلفاء. [فصل ومتى اختل قبل فراغها شرط غير الإمام أو لم يدرك اللاحق من أي الخطبة قدر آية متطهرا أتمت ظهرا وهو الأصل في الأصح والمعتبر الاستماع لا السماع وليس لمن حضر الخطبة تركها إلا المعذورين غالبا ومتى أقيم جمعتان في دون الميل لم يعلم تقدم إحداهما أعيدت فإن علم أعاد الآخرون ظهرا فإن التبسوا فجميعا وتصير بعد جماعة العيد رخصة لغير الإمام وثلاثة. وإذا اتفق صلاة قدم ما خشي فوته ثم الأهم] . قوله: "فصل ومتى اختل قبل فراغها شرط غير الامام" الخ. أقول: قد عرفت ما أسلفنا أنه لم يصح شيء من تلك الشروط وأن إطلاق إسم الشروط عليها لم يدل عليه دليل يثبت به الوجوب فضلا عن الشرطية إلا الخطبتان فقد قدمنا أن دليلهما قد يدل على وجوبهما وبعد هذا كله تعلم أنه لا يضر اختلال شيء مما جعله مشروطا ثم حكمه على

بعض الشروط بأنه يضر اختلاله قبل الفراغ وبعضها بأنه لا يضر بعد حكمه على الجميع بالشرطية تحكم يأباه الإنصاف فإن الشرط هو ما يؤثر عدمه في العدم فكيف كان بعض الشروط مؤثرا وبعضها غير مؤثر فهذا كونه تحكما مخالف لاصطلاح أهل الأصول والفروع. وأعجب من هذا كله أنه لا دليل بيده يدل على ما ذكره لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل إيجاب رفض الجمعة وتتميمها ظهرا مخالف للدليل وهو ما أخرجه النسائي ["1425"] ، من حديث أبي هريرة بلفظ: "من أدرك من الجمعة فقد أدرك الجمعة" ولهذا الحديث اثنا عشر طريقا صحح الحاكم منها ثلاثا وقال في البدر المنير هذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث والباقي ضعاف. وأخرج النسائي ["557"، وابن ماجه "1123"] ،والدارقطني من حديث ابن عمر نحوه وله طرق قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده صحيح وقوى أبو حاتم إرساله وأخرج الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود بلفظ: "من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا"، قال في مجمع الزوائد وإسناده حسن. فهذه الأحاديث تقوم بها الحجة ويندفع بها ما قاله المصنف ويدل على ما دلت عليه هذه الأحاديث ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"، فإن صلاة الجمعة داخلة في هذا العموم ولا تخرج عنه إلا بمخصص ولا مخصص. قوله: "وهو الأصل في الأصح". أقول: الواجب يوم الجمعة الجمعة فريضة من الله عز وجل فرضها على عباده فإذا فاتت لعذر فلا بد من دليل على وجوب صلاة الظهر وقد قدمنا في القولة التي قبل هذه من حديث ابن مسعود بلفظ: "ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا" فهذا يدل على أن من فاتته الجمعة صلى ظهرا فإن كانت الأصالة من هذه الحيثية فذاك. وأما ما ذكره أهل الفروع من فوائد الخلاف في هذه المسألة فلا أصل لشيء من ذلك. قوله: "والمعتبر الاستماع لا السماع". أقول: هذا صحيح فمن وقف حيث ينتهي به الوقوف وكان لا يسمع أو كان أصم أو كان صوت الخطيب خفيفا فالمستمع كالسامع. قوله: "وليس لمن حضر الخطبة تركها" أقول: وجه هذا أنه قد ورد النهي عن الخروج من المسجد بعد سماع الدعاء إلي الصلاة والحاضر حال الخطبة داخل تحت هذا النهي وهذا يشمل المعذورين وغيرهم لأنهم قد حضروا إلا إذا كانوا يتضررون بالوقوف إلي وقت انقضاء الصلاة فما جعل الله في الدين من حرج. قوله: "ومتى اقيم جمعتان في دون الميل" الخ.

أقول: هذه المسألة قد اشتهرت بين أهل المذاهب وتكلموا فيها وصنف فيها من صنف منهم وهي مبنية على غير أساس وليس عليها أثارة من علم قط وما ظنه بعض المتكلمين فيها من كونه دليلا عليها هو بمعزل عن الدلالة وما أوقعهم في هذه الأقوال الفاسدة إلا ما زعموه من الشروط التي اشترطوها بلا دليل ولاشبهة دليل. فالحاصل أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات يجوز أن تقام في وقت واحد جمع متعددة في مصر واحد كما تقام جماعات سائر الصلوات في المصر الواحد ولو كانت المساجد متلاصقة ومن زعم خلاف هذا فإن كان مستند زعمه مجرد الرأي فليس ذلك بحجة على أحد وإن كان مستند زعمه الرواية فلا رواية. قوله: "وتصير بعد جماعة العيد رخصة لغير الإمام وثلاثة". أقول: ظاهر حديث زيد بن أرقم عند أحمد ["4/372"، وأبي دأود "1070"، والنسائي "1591" وابن ماجه "1310" بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: "من شاء أن يصلي فليصل" يدل أن الجمعة تصير بعد صلاة العيد رخصة لكل الناس فإن تركوها جميعا فقد عملوا بالرخصة وإن فعلها بعضهم فقد استحق الأجر وليست بواجبة عليه من غير فرق بين الإمام وغيره وهذا الحديث قد صححه ابن المديني وحسنه النووي وقال ابن الجوزي هو أصح ما في الباب وفي إسناده إياس بن أبي رملة قال ابن القطان وابن المنذر هو مجهول ولكنه يشهد له ما أخرجه أبو دأود ["1073"، وابن ماجه "1311"] ، والحاكم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه عن الجمعة فإنا مجمعون"، قال في البدر المنير وصححه الحاكم وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث ابن عمر بإسناد ضعيف وأخرج أبو دأود ["1071"، والنسائي "1592"،] ، والحاكم عن وهب بن كيسان قال: اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالي النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس قال: أصاب السنة, ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه أيضا أبو دأود ["1072"] ،عن عطاء بنحو ما قاله وهب بن كيسان ورجاله رجال الصحيح وجميع ما ذكرناه يدل على أن الجمعة بعد العيد رخصة لكل أحد ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنا مجمعون" فقد دلت أقواله على أن هذا التجميع منه صلى الله عليه وسلم ليس بواجب. قوله: "وإذا اتفق صلوات قدم ما خشي فوته ثم الأهم". أقول: إن كانت الصلوات متفقة في كونها جميعا واجبة كصلاة جمعة وجنازة أو متفقة في كونها جميعا غير واجبة كصلاة الكسوف والاستسقاء فيقدم ما خشي فوته ثم الأهم أما إذا كان بعضها واجبا وبعضها غير واجب فعليه أن يأتي بالواجب عليه فإن أمكن فعل غير الواجب بعده فعله وإلا فهو معذور عن فعله باشتغاله عنه بما هو واجب عليه لأن من الجائز أن يعرض له ما يمنعه عن فعل الواجب الذي أخره وفعل ما خشي فوته من غير الواجب.

باب ويجب قصر الرباعي

[باب ويجب قصر الرباعي "إلي اثنتين على من تعدى ميل بلده مريدا أي سفر بريد حتى يدخله مطلقا أو يتعدى في أي موضع شهرا أو يعزم هو ومن يريد لزامه على إقامة عشر في أي موضع أو موضعين بينهما دون ميل ولو في الصلاة وقد نووا القصر لا العكس غالبا أو لو تردد"] . قوله: "باب ويجب قصر الرباعي إلي اثنتين". أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في جميع أسفاره إلا القصر وذلك في الصحيحين وغيرهما وأظهر الأدلة على الوجوب الحديث الثابت عن عائشة في الصحيحين [البخاري "3935"، مسلم "685"] ، وغيرهما [أحمد "3/272"، النسائي "1/255"] ، بلفظ: "فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر"، فهذا اخبار بأن صلاة السفر أقرت على ما فرضت عليه فمن زاد فيها فهو كمن زاد على أربع في صلاة الحضر ولا يصح التعلق بما روي عنها أنها كانت تتم فإن ذلك لا تقوم به الحجة بل الحجة في روايتها لا في رأيها. وهكذا لم يثبت ما روي عنها أنه روت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم وقد وافقها على هذا الخبر الذي أخبرت به ابن عباس فأخرج مسلم ["687"] ، عنه أنه قال: "إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى المقيم أربعا والخوف ركعة". ومن ذلك ما أخرجه أحمد ["1/37"، والنسائي "3/11"، وابن ماجه "1064"] ، عن عمر قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام من غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله رجال الصحيح. وأخرج النسائي ["3/117"] وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن ضلال فعلمنا كان فيما علمنا أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي في السفر ركعتين. فهذه الأدلة قد دلت على أن القصر واجب عزيمة غير رخصة وأما قوله تعالي: {وَإذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، فهو وارد في صلاة الخوف والمراد قصر الصفة لا قصر العدد كما ذكر ذلك المحققون وكما يدل عليه آخر الآية ولو سلمنا أنها في صلاة القصر لكان ما يفهم من رفع الجناح غير مراد به في ظاهره لدلالة الأحاديث الصحيحة على أن القصر عزيمة لا رخصة. ولم يرد في السنة ما يصلح لمعارضة ما ذكرناه من الأدلة الصحيحة. قوله: "على من تعدى ميل بلده مريدا أي سفر بريدا". أقول: هذه المسألة قد اضطربت فيها الأقوال وكثرت فيها مذاهب الرجال وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين.

وهذا يدل على أن الخارج لسفر يقصر الصلاة إذا خرج من بلده قدر ما بين المدينة وذي الحليفة وهو ستة أميال ولكن هذا لا يدل على عدم القصر فيما دون هذه المسافة لما ثبت في صحيح مسلم ["691"] ، وغيره [أبو دأود "1201"] ، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة. والحاصل أن هذه التقديرات لا تدل على عدم جواز القصر فيما دونها مع كونها محتملة أن يكون قاصدا لسفر هو خلف ذلك المقدار وأن يكون ذلك هو منتهى سفره. فالواجب الرجوع إلي ما يصدق عليه أنه سفر وأن القاصد إليه مسافر ولا ريب أن أهل اللغة يطلقون اسم المسافر على من شد رحله وقصد الخروج من وطنه إلي مكان آخر فهذا يصدق عليه أنه مسافر وأنه ضارب في الأرض ولا يطلقون اسم المسافر على من خرج مثلا إلي الأمكنة القريبة من بلده لغرض من الأغراض فمن قصد السفر قصر إذا حضرته الصلاة ولو كان في ميل بلده وأما نهاية السفر فلم يرد ما يدل على أن السفر الذي يقصر فيه الصلاة هو أن يكون المسافر قاصدا لمقدار كذا من المسافة فما فوقها. وقد صح النهي للمرأة أن تسافر بغير محرم ثلاثة أيام وفي رواية: "مسيرة يوم وليلة" وفي رواية: "أن تسافر بريدا" فسمى النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك سفرا وأقله البريد فكان القصر في البريد واجبا ولكنه لا ينبغي ثبوت القصر فيما دون البريد إلا أن يثبت عند أهل اللغة أو في لسان أهل الشرع أن من قصد دون البريد لا يقال له مسافر وأما قول المصنف مريدا أي سفر أي سواء كان السفر طاعة أو معصية فهو صواب لأن الأدلة الأخرى لم تفرق بين سفر وسفر ومن ادعى ذلك فعليه الدليل. قوله: "أو يتعدى في أي موضع شهرا" أقول: الذي لم يعزم على إقامة مدة معينة لا يزال يقصر حتى يمضي له قدر المرة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح وفي تبوك. وقي روي أنه اقام في مكة ثماني عشرة ليلة كما في رواية أو تسع عشرة ليلة كما في رواية أخرى أو سبع عشرة ليلة كما في رواية ثالثة. وروي أنه قام بتبوك عشرين ليلة فإذا مضى للمتردد الذي لم يعزم على إقامة معينة عشرون ليلة أتم صلاته. فإن قلت: ومن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أقام أكثر من هذه المدة لأتم صلاته؟. قلت: المقيم ببلد قد حط رحله وذهب عنه مشقة السفر فلولا أنه صلى الله عليه وسلم قصر في هذه المدة لما كان القصر في ذلك سائغا فعلينا أن نقتصر على المدة التي قصر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق

عليه وعلى من معه فيها اسم السفر فقال: "أتمو يا أهل مكة فإنا قوم سفر". وقد أخرج البخاري ["1080"، وغيره [الترمذي "549"، عن ابن عباس قال لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة اقام فيها تسع عشرة ليلة فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة ليلة قصرنا وإن زدنا أتممنا فهذا حبر الأمة يقول هكذا وهو الحق اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قصر فيه مع الإقامة ورجوعا إلي الأصل وهو أن المقيم يتم صلاته فيما زاد على ذلك. قوله: "أو يعزم هو أو من يريد لزامه على إقامة عشر". أقول: قد قدمنا لك أن المقيم الذي حط رحل السفر لا يقصر إلا بدليل وقد ثبت فيمن لم يعزم على إقامة معينة ما قدمناه وأما من عزم على إقامة معينة فلم يثبت فيه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في عام حجه في أيام إقامته بمكة وهو قدم مكة صبحة رابعة من ذي الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم الثامن بمكة ثم خرج إلي منى فقد عزم صلى الله عليه وسلم على إقامة هذه الأربعة الأيام بمكة وقصر الصلاة فيها فمن عزم على إقامة أربعة ايام بمكة قصر وإن عزم على إقامة أكثر منها أتم اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم رجوعا إلي الأصل وهو أن المقيم يتم. وقد خلط الكلام الجلال في هذا المقام ووهم عدة أوهام. [فصل "وإذا انكشف مقتضى التمام وقد قصر اعاد تمأما لا العكس إلا في الوقت ومن قصر ثم رفض السفر لم يعد ومن تردد في البريد أتم وإن تعداه كالهائم"] . قوله: فصل: "وإذا انكشف مقتضى التمام وقد قصر أعاد تماما". أقول: وجه ذلك عند المصنف أنه انكشف عدم المقتضى للقصر وهو سفر البريد ووجد المقتضى للتمام وهو عدم السفر إلي البريد وأما قوله: "لا العكس" فغير صواب لأنه قد وجد مقتضى القصر والقائل بأن القصر عزيمة لا يفيده قول من قال إنه رخصة ولكنه مبني على قاعدة فروعية وهي أن المختلف فيه لا يقضى إلا في الوقت لا بعده وهو يخالف قاعدة لهم أخرى وهي أن الاعتبار بالانتهاء. وهكذا قوله: "ومن قصر ثم رفض السفر لم يعد" كأن قياس قواعدهم أن يعيد اعتبارا بالانتهاء لأن النية غير مؤثرة بمجردها. وأما قوله: "ومن تردد في البريد أتم"، فإن كان التردد في البريد مع عدم مجأوزته فلم يحصل مقتضى القصر وإن كان مع مجأوزته فقد حصل موجبه فلا وجه لقوله وإن تعداه وقياسه على الهائم غير صحيح لأن الهائم لم يقصد السفر فهو غير مسافر وهذا مسافر فإن كان هذا الذي تردد في البريد هائما فلا وجه لقوله كالهائم لأنه هائم لا كالهائم.

[فصل "والوطن ما نوى استيطانه ولو في مستقبل بدون سنة وإن تعدد يخالف دار الإقامة بأنه يصير وطنا بالنية قيل وبأن لا يقصر منه إلا لبريد وتوسطه يقطعه ويتفقان في قطعهما حكم السفر وبطلانهما بالخروج مع الإضراب"] . قوله: فصل: "والوطن هو ما نوى استيطانه". أقول: مصير المكان وطنا بمجرد النية لم يوافق رواية صحيحة ولا رأيا مقبولا وجعل النية مؤثرة في دون سنة لا في سنة فما فوقها لا يدري ما وجهه ولا من أين مأخذه وليس مثل هذا الكلام القائل والرأي العاطل مما يدون في مثل كتب الهداية التي هي لقصد إرشاد العباد إلي ما شرعه الله لهم. وهكذا ما ذكره من الفرق بين دار الوطن ودار الإقامة ليس عليه أثاره من علم وكان الأولى للمصنف أن يجعل مكان هذه الخرافات ما ورد فيمن تأهل في بلد أنه يتم الصلاة فيها لما أخرجه أحمد عن عثمان بن عفان أنه صلى بمنى أربع ركعات فأنكر الناس عليه فقال يا ايها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم" وفي إسناده عكرمة بن إبراهيم وفيه ضعف خفيف لا يوجب ترك ما رواه.

باب وشرط جماعة الخوف

[باب وشرط جماعة الخوف "من أي أمر صائل السفر وآخر الوقت وكونهم محقين مطلوبين غير طالبين إلا لخشية الكر فيصلي الإمام ببعض ركعة ويطول في الأخرى حتى يخرجوا ويدخل الباقون وينتظر في المغرب متشهدا ويقوم لدخول الباقين. وتفسد بالعزل حيث لم يشرع وبفعل كثير لخيال كاذب. وعلى الأولين بفعلها له"] . قوله: باب: "وشروط جماعة الخوف من أي أمر صائل السفر". أقول: الظاهر ثبوت مشروعية صلاة الخوف من كل أمر يخاف منه في السفر والحضر ولا يدل كونه صلى الله عليه وسلم لم يصلها إلا من خوف خاص وفي إسفاره على أنها لا تصلى من خوف من غير آدمي ولا تصلى في الحضر فإن العلة التي شرعت لها كائنة في الجميع ولا يصح التمسك بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في المدينة مع اشتداد الملاحمة والمدافعة لأنه صلى الله عليه وسلم اشتغل هو وأصحابه بمواقعة الأحزاب حتى قال له عمر يا رسول الله ما كدت اصلي العصر حتى كادت الشمس

تغرب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما صليتها"، قال جابر فقمنا إلي بطحان فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب هكذا في البخاري ["596، 598، 4112"، مسلم "631"، الترمذي "180"، النسائي "3/84"] ، من حديث جابر وفي الموطأ أن الذين فاتهم الظهر والعصر والمغرب وأنهم صلوا بعد هدوء من الليل. وأيضا قد أخرج النسائي وابن حبان من حديث أبي سعيد أن ذلك كان قبل أن ينزل قوله تعالي: {فَرِجَالاً أو رُكْبَاناً} [البقرة: 239] . وأما اشتراط أن تكون صلاة الخوف في آخر الوقت فلا دليل عليه بل تفعل في أول الوقت ووسطه وآخره على حسب ما يقتضيه الحال. وأما اشتراط كونهم محقين مطلوبين غير طالبين فلم يرد ما يدل على ذلك وقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من المواطن وهو طالب للكفار غير مطلوب. قوله: "فيصلي الإمام ببعض ركعة" الخ. أقول: قد وردت صلاة الخوف على أنحاء مختلفة وثبت فيها صفات فأيها فعل المصلون فقد أجزأهم وقد ذكرنا ما ورد فيها من الأنواع في شرحنا للمنتقي وذكرنا جملة ما صح من ذلك فليرجع إليه فإن إيراده هنا يحتاج إلي تطويل يخالف ما هو الغرض لنا من التنبيه على الصواب والإرشاد إلي الحق. وهذه الصفة التي ذكرها المصنف هي من جملة الصفات الواردة ولا وجه للاقتصار عليها فإن ذلك تضييق لدائرة قد وسعها الله على عباده. قوله: "وتفسد بالعزل حيث لم يشرع". أقول: إذا لم يوافق العزل صفة من الصفات الواردة فغاية ما هناك أنه أتى ببعض صلاته جماعة وبعضها فرادى وذلك لا يقتضي الفساد. وأما فسادها بالفعل الكثير للخيال الكاذب فقد قدمنا في الفعل الكثير ما يغني عن الإعادة. [فصل فإن اتصلت المدافعة فعل ما أمكنه ولو في الحضر ولا تفسد بما لا بد منه من قتال وانفتال ونجاسة على آلة الحرب وعلى غيرها تلقى فورا ومهما أمكن الإيماء بالرأس فلا قضاء وإلا وجب الذكر والقضاء. ويؤم الراجل الفارس لا العكس] . قوله: "فصل فإن اتصلت المدافعة فعل ما أمكنه".

أقول: يدل على هذا قول الله سبحانه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:6] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ويدل على ذلك ما أخرجه أبو دأود ["1249"] عن عبد الله ابن أنيس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي خالد بن سفيان الهذلي وكان نحو عرنة وعرفات فقال: "اذهب فاقتله" قال: وحضرت صلاة العصر فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومىء يماء نحوه فلما دنوت منه قال لي: من أنت؟ قلت: رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذلك, فقال: إني لفي ذاك فمشيت معه ساعة حتى أمكنني ثم علوته بسيفي حتى برد. ومثل هذا من هذا الصحأبي المبعوث في هذا الأمر المهم لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل على أنه يفعل ما أمكنه ولو بمجرد الايماء وإلي غير القبلة وفيه أنه لا يشترط ما تقدم من كونهم مطلوبين وفيه أن صلاة الخوف تصح أن تكون فرادى.

باب وفي وجوب صلاة العيدين خلاف

[باب وفي وجوب صلاة العيدين خلاف وهي من بعد انبساط الشمس إلي الزوال ركعتان جهرا ولو فرادى بعد قراءة الأولى سبع تكبيرات فرضا يفصل بينهما الله أكبر كبيرا إلي آخره ويركع بثامنة وفي الثانية خمس كذلك ويركع بسادسة ويتحمل الإمام ما فعله مما فات اللاحق] . قوله: باب: "وفي وجوب صلاة العيدين خلاف". أقول: هذه العبارة لا تفيد السامع ولا يحسن السكوت عليها لأنه غالب مسائل الفروع هكذا فيها خلاف ولعله لم يتقرر دليل الوجوب للمصنف كما ينبغي وكان عليه أن يقف على ما دون الوجوب ويجزم به كعادته في هذا الكتاب حتى يكون لكلامه فائدة يستفيدها المقلد. واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لازم هذه الصلاة في العيدين ولم يتركها في عيد من الأعياد وأمر الناس بالخروج إليها حتى أمر بخروج النساء العواتق وذوات الخدور والحيض وأمر الحيض أن يعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين حتى أمر من لا جلباب لها أن تلبسها صاحبتها من جلبابها وهذا كله يدل على أن هذه الصلاة واجبة وجوبا مؤكدا على الأعيان لا على الكفاية. ويزيد ذلك تأكيدا أنه صلي الله عليه وسلم أمر الناس بالخروج لقضائها في اليوم الثاني مع اللبس كما تقدم، وهذا شأن الواجباتلا غيرها. قوله: "وهي من بعد انبساط الشمس إلي الزوال". أقول: قد قدمنا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يفدوا إلي مصلاهم لما أخبره الركب برؤية الهلال.

وأخرج أبو دأود ["1135"وابن ماجه "1317"] ، أن عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر على الإمام الذي أبطأ بصلاة العيد ورجال إسناده عند أبي دأود ثقات. وأخرج أحمد بن الحسن البناء عن جندب في كتاب الأضاحي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد رمحين والأضحى على قيد رمح هكذا ذكره ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه. وأخرج الشافعي في حديث مرسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي عمرو ابن حزم وهو بنجران أن عجل الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس. قوله: "وهي ركعتان جهرا ولو فرادى". أقول: أصل كل صلاة تصح فرادى كما تصح جماعة وصلاة العيد صلاة من الصلوات فمن ادعى أنها لا تصح فرادى كان عليه الدليل ولا يصلح لذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما صلاها إلا جماعة فإن غاية ما يستفاد من ذلك أن التجميع في العيد أولى ولا شك في ذلك ومحل النزاع الصحة فمن نفاها فهو المحتاج إلي الدليل. وهكذا الجهر هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ولكنه لا ينفي صحة الإسرار. قوله: "بعد قراءة الأولى سبع تكبيرات فرضا". أقول: لم يصح في كون التكبير بعد القراءة شيء أصلا بل لم يكن في ذلك حديث ضعيف فضلا عن أن يوجد فيه حديث صحيح أو حسن وأما تقديم التكبير في الركعتين على القراءة ففيه حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى والقراءة بعدهما كلتيهما"، أخرجه أبو دأود ["1151"] ، والدارقطني وأخرجه من غير ذكر تقديم التكبير على القراءة أحمد ["6/140، 141"] ، وابن ماجه ["1279"] . قال العراقي إسناده صحيح وقال الترمذي في العلل المفردة عن البخاري إنه قال حديث صحيح. وأخرج الترمذي عن عمرو بن عوف المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في الأولى سبعا قبل القراءة وفي الثانية خمسا قبل القراءة قال الترمذي هو أحسن شيء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه الدارقطني وابن عدي والبيهقي وفي إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده قال الشافعي وأبو دأود إنه ركن من أركان الكذب وقال ابن حبان له نسخة موضوعة عن أبيه عن جده قال ابن حجر في التلخيص وقد أنكر جماعة تحسينه على الترمذي وأجاب النووي في الخلاصة على المنكرين على الترمذي فقال لعله اعتضد بشواهد وغيرها قال العراقي في شرحه للترمذي إن الترمذي إنما تبع في ذلك البخاري فقال قال في كتاب العلل المفردة سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال ليس في هذا الباب شيء أصح منه وبه أقول: انتهى. وأخرج ابن ماجه ["1277"] ، عن سعد القرظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في العيدين في

الأولى سبعا قبل القراءة وفي الأخرى خمسا قبل القراءة وفي إسناده ضعف. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وتصلح للاحتجاج بها في كون التكبير قبل القراءة وفي كون التكبير سبعا في الأولى وخمسا في الثانية. وقد وردت روايات أخر في عدد التكبير مقوية لهذه الأحاديث. قوله: "ويفصل بينهما ندبا الله أكبر" الخ. أقول: هذا الندب لا يستند إلي كتاب الله ولا إلي سنة رسول الله ولا إلي قول صحأبي ولا تابعي ومجرد أنه استحسنه فرد من أفراد العلماء لا يصلح لإثبات الندب فإن الندب هو أحد الأحكام الخمسة ولا يثبت إلا بدليل يدل عليه في هذا التسرع إلي التقول على الشرع بما لم يكن منه. والحاصل أن صلاة العيد هي أن يكبر المصلي للإحرام ثم يكبر في الأولى سبع تكبيرات ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن ثم يقوم إلي الركعة الثانية فيكبر خمسا ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن وإذا أراد أن يقتدي بالقراءة التي كان يقرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد قرأ في الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} أو قرأ في الأولى بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} وفي الثانية بـ {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} فهذا هو المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته في العيدين. وأما قوله: "ويتحمل الإمام ما فعله مما فات اللاحق" فلم يدل على هذا التحمل دليل وقد تقدم في أدلة قراءة الفاتحة في كل ركعة ما ينبغي اعتباره هنا وهكذا هذه الأحاديث المذكورة في تكبير صلاة العيدين يفعلها المؤتم كما يفعلها الإمام فلا يكون المؤتم مدركا للركعة إلا بقراءة فاتحتها والإتيان بما شرع فيها من التكبير. [فصل "وندب بعدها خطبتان كالجمعة إلا أنه لا يقعد أولا ويكبر في الأولى تسعا وفي آخرهما سبعا سبعا ومن خطبة الأضحى التكبير المأثور ويذكر حكم الفطرة والأضحية وتجزىء من المحدث وتارك التكبير وندب الإنصات ومتابعته في التكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والمأثور في العيدين"] . قوله: فصل: "وندب بعدها خطبتان كالجمعة". أقول: هذا أعني كون الخطبتين بعد الصلاة هو الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة وأما كونهما مندوبتين فلما أخرجه النسائي ["1571" وابو دأود "1155" وابن ماجه

"1290"] ، من حديث عبد الله بن السائب قال شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب"، وهذا الحديث هو من الأحاديث المسلسلة بيوم العيد وقد رويته مسلسلا بإسناد إلي النبي صلى الله عليه وسلم في مجموعي الذي سميته إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر". قوله: "إلا أنه لا يقعد أولا". أقول: هذا صواب لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قعد في خطبة العيد بل كان يفرغ من الصلاة فيقوم ثم يخطب. قوله: "ويكبر في الأولى تسعا" الخ. أقول: لم يرد في ذلك دليل صحيح للتمسك به وأما ما رواه البيهقي عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أنه قال من السنة أن تفتتح الخطبة بتسع تكبيرات تترى والثانية بسبع تكبيرات تترى فإن أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث مرسل وإن أراد سنة الصحابة فلا تقوم به الحجة إلا أن يكون إجماعا منهم قال ابن القيم وأما قول كثير من الفقهاء إنه تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيد بالتكبير فليس معهم فيها سنة من النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة والسنة تقضي خلافها وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد انتهى. وأما قوله: "وفي فصول الأولى من خطبة الأضحى التكبير المأثور" فلم يؤثر في ذلك شيء ألبتة فإن أراد أنه يستحب في فصول هذه الخطبة تكبير التشريق الذي سيأتي فهو لم يؤثر في خطبة العيد قط. قوله: "ويذكر حكم الفطرة والأضحية". أقول: أما ذكر حكم الفطرة في خطبة عيد الفطر فلم يثبت في ذلك شيء ولكنه إذا فعل ذلك الخطيب فهو من البيان الذي شرعه الله مع كون ذلك مزيد اختصاص بهذا اليوم. وهكذا ذكر حكم الأضحية وما يجزىء منها وما لا يجزىء وبيان وقتها وما ينبغي للمضحي أن يفعله في أضحيته وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه خطب يوم الأضحى فذكر مشروعية النحر بعد الصلاة وأن من نحر قبل الصلاة فليست بأضحية". وأما كون الخطبة تجزىء من المحدث فذلك صواب لعدم الدليل على أن يكون الخطيب متطهرا. وأما أنها تجزىء من تارك التكبير فتارك التكبير ابعد من البدعة من فاعله كما قدمنا. وأما كون الإنصات مندوبا فلكون سامع الموعظة ينبغي له أن يفهمها وإذا اشتغل بالكلام ولم ينصت لم يفهمها فهو إنما يحسن من هذه الحيثية لا من حيث الدليل فإنه لم يرد في خطبة العيد ما يدل على ذلك ولا ورد ما يدل على المتابعة في التكبير ولا ورد ما يدل في خصوص خطبة العيد على المتابعة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه ورد ما يدل على مشروعية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره وهم أعم من أن يكون في خطبة العيد أو في غيرها ولم يخص إلا خطبة الجمعة لوجوب الإنصات فيها.

قوله: "وندب المأثور في العيدين" أقول: من المأثور في العيدين أن تكون الصلاة في الجبانة إلا لعذر من مطر أو نحوه وأن يخالف الإمام ومن معه الطريق فيرجعون في طريق غير الطريق التي جاءوا منها ورفع الصوت بالتكبير والتهليل وتعجيل الخروج لصلاة الأضحى وتأخيره لصلاة الفطر وأن لا يغدو لصلاة الفطر حتى يطعم ويخرج لصلاة الأضحى قبل أن يطعم وأن لا يصلي قبل صلاة العيد ولا بعدها وأن يلبس أحسن ما يجد ويتطيب بأجود ما يجد وأن يخرج إلي العيد ماشيا وأن يستكثر من الموعظة للرجال والنساء ويرغبهم في الصدقة. [فصل "وتكبير التشريق سنة مؤكدة عقيب كل فرض من فجر عرفة إلي آخر أيام التشريق ويستحب عقيب النوافل"] . قوله: فصل: "وتكبير التشريق سنة مؤكدة" الخ. أقول: قد ثبت الأمر بالذكر في الأيام المعدودة قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرو: 203] ، وهي أيام التشريق وثبت عنه صلى الله عليه وسلم مطلق التكبير وفي صحيح مسلم ["11/890"] ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والحُيَّضُ يَكُنَّ خلف الناس يكبرن مع الناس". وفي البخاري ["928"] ،: أن أم عطية قالت كنا نؤمر أن نخرج الحيض فيكبرن بتكبيرهم. وثبت في الصحيح عن عمر أنه كان يكبر فيكبر من في المسجد ويكبر بتكبيرهم من في الأسواق وأنه كان يقع ذلك مرة بعد مرة في دبر الصلاة وغيرها من الأوقات. والحاصل أن المشروع في ايام التشريق الاستكثار من ذكر الله عز وجل خصوصا التكبير والمراد مطلق التكبير وهو أن يقول الله أكبر ويكرر ذلك في الأوقات ومن جملتها عقب الصلاة ولا وجه لتخصيصه بعقب الصلاة ولا لجعل يوم عرفة من جملة الأيام التي يستحب فيها تكبير التشريق فإن أيام التشريق هي أيام النحر وهي يوم النحر ويومان بعده. وأما يوم عرفة فهو من الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة التي قال الله سبحانه فيها: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] وثبت فيها كما في البخاري ["969"] ، وغيره [أحمد "1/224" الترمذي "757"، ابن ماجة "1727"، أبو دأود "2438"] ، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلي الله عز وجل من هذه الأيام"، يعني ايام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وما له ثم لم يرجع بشيء من ذلك". وأخرج مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والحمد".

باب ويسن للكسوفين حالهما ركعتان

[باب ويسن للكسوفين حالهما ركعتان في كل ركعة خمسة ركوعات قبلها ويفصل بينها الحمد مرة والصمد والفلق سبعا سبعا ويكبر موضع التسميع إلا في الخامس. وتصح جماعة وجهرا وعكسهما وكذلك لسائر الإفزاع أو ركعتين لها. وندب ملازمة الذكر حتى ينجلي ويستحب للاستسقاء أربع بتسلمتين في الجبانة ولو سرا وفرادى ويجأرون بالدعاء والاستغفار ويحول الإمام رداءه راجعا تاليا للمأثور] . قوله: باب: "ويسن للكسوفين حالهما ركعتان في كل ركعة خمس ركوعات قبلها" الخ أقول: هذا أكثر ما ورد في صلاة الكسوف فالأخذ به أخذ بالزيادة ولكن أصح ما ورد في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان فإن هذا هو الثابت في الصحيحين [البخاري "1052"، "مسلم "17/907"] ، وغيرهما [أحمد "1/298، 258، 359"، النسائي "3/146، 148"] ، من طرق ثم دون هذا في الصحة مع كونه صحيحا في كل ركعة ثلاثة ركوعات وكذا ركعتان في كل ركعة أربعة ركوعات ثم دون هذين في الصحةركعتان في كل ركعة خمس ركوعات وورد ركعتان في كل ركعة ركوع وورد أن صلاة الكسوف تكون كأحدث صلاة صلوها. فجملة ما ورد ركوع في كل ركعة وركوعان في كل ركعة وثلاثة في كل ركعة وأربعة في كل ركعة وخمسة في كل ركعة وكأحدث صلاة فهذه ست صفات وقد استشكل كثير من المحدثين وقوع مثل هذا الاختلاف مع كونه صلى الله عليه وسلم لم يصل صلاة الكسوف إلا مرة واحدة وذكروا في الجمع وجوها ليس هذا موضع ذكرها وإذا تقرر لك أن مخرج هذه الأحاديث متفقا وأن القصة واحدة عرفت أنه لا يصح ها هنا أن يقال كما قيل في صلاة الخوف أنه يأخذ بأي الصفات شاء بل الذي ينبغي ها هنا أن يأخذ بأصح ما ورد وهو ركوعان في كل ركعة لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلف البالغ. ثم أعلم أنه قد اجتمع ها هنا في صلاة الكسوف الفعل والقول ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموها كذلك فافزعوا إلي المساجد". البخاري ["1044"] . وفي رواية: "فصلوا وادعوا". والظاهر الوجوب فإن صح ما قيل من الإجماع على عدم الوجوب كان صارفا وإلا فلا.

قوله: "ويفصل بينهما الحمد مرة والصمد والفلق سبعا سبعا". أقول: كان يغني عن هذا الرأي البحث والاستحسان الصرف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يقرأ بعد كل ركوع بسورة من الطوال ولا وجه ها هنا لتكرير الحمد بعد كل ركوع بل يقرأ بعد الدخول في الصلاة ثم يقرأ بين كل ركوعين بسورة من الطوال اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "ويكبر موضع التسميع"، فهو خلاف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "1407"، مسلم "901"] ، وغيرهما [أحمد "6/168"، ابن ماجة "1263"] ، من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الارتفاع من الركوع: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وكذلك كان يقول عند الارتفاع من الركوع الثاني. وهكذا ينبغي أن يقال عند الارتفاع من سائر الركوعات لمن أراد أن يأتي بالزيادة على ركوعين في كل ركعة اقتداء بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الذي في رواية عائشة في هذا الحديث الذي فيه التسميع والتحميد هو في صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين في كل ركعة ركوعان. قوله: "وتصح جماعة وجهرا وعكسهما". أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في هذه المرة التي صلى فيها صلاة الكسوف أنه صلاها جماعة وجهر فيها بالقراءة ولكن أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة يتنأول صلاة الفرادى وصلاة الإسرار مع أنه ثبت من حديث سمرة عند أحمد ["5/16"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1184"، النسائي "3/140"] : "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم في الكسوف لا يسمعون له صوتا"، وقد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم ولكن روايات الجهر أصح وأكثر ورأوي الجهر مثبت وهو مقدم على النافي. قوله: "وكذلك لسائر الإفزاع". أقول: إذا لم تثبت الصلاة لمثل ذلك كان فعلها لحدوث الأمر المفزع بدعة من هذه الحيثية لا من حيثية كونها صلاة ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وما روي عن بعض الصحابة لم يصح ولو صح لم تقم به الحجة" قوله: "وندب ملازمة الذكر حتى تنجلي". أقول: ثبت في الصحيحين [البخاري "1044"، مسلم "901"] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الكسوف: "فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وتصدقوا وصلوا" وفي لفظ آخر فيهما [البخاري "1059"، مسلم "24/912"] ، "فإذا رأيتم شيئا من ذلك فافزعوا إلي ذكر الله ودعائه واستغفاره"، وفي لفظ لهما [البخاري "1060"، مسلم "9/904"] : "فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى تنجلي". قوله: "ويستحب للاستسقاء أربع بتسليمتين". أقول: لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى أربعا ولا أرشد إلي صلاة الأربع بل الثابت عنه أنه صلى ركعتين فقط وثبت عنه أنه خطب بعد صلاته للركعتين وثبت عنه أنه استسقى في خطبة الجمعة وثبت أنه خطب قبل صلاة الركعتين والكل سنة. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم: أنه جهر بالقراءة.

وأما قول المصنف رحمه الله ولو سرا أو فرادى فذلك رجوع إلي ما هو أصل كل صلاة أنها تصح سرا وجهرا وجماعة وفرادى. ولكن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه هو الذي ينبغي اعتماده. وأما ما ذكره من الجأر بالدعاء والاستغفار فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يدعو ويحول وجهه إلي القبلة ويرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ولا يزال في الدعاء والتضرع". وما ذكره من تحويل الرداء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حول رداءه وحول أصحابه ولا وجه لتقييد ذلك بحال الرجوع فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله حال الدعاء والخطبة. وأما قوله: "تاليا للمأثور" فلم يرد في ذلك شيء يصلح للتمسك به لا في حال الخطبة والدعاء ولا في حال الرجوع ولكنه روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب أنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار فقالوا ما رأيناك استسقيت فقال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} الآية. [فصل "والمسنون من النفل ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به وإلا فمستحب وأقله مثنى وقد يؤكد كالرواتب ويخص كصلاة التسبيح والفرقان ومكملات الخمسين. فأما الترأويح جماعة وصلاة الضحى بنيتها فبدعة"] . قوله: فصل: "والمسنون من النقل ما لازمه الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر به". الخ. أقول: مراده أنه قد تبين أن ذلك الذي لازمه وأمر به نفل بدليل يدل على ذلك ولهذا قال من النفل فلا يرد عليه باعتبار عبارته شيء ولكنه يقال له ما لازمه فقط فهو سنة وما أمر به أمرا لا يراد به المعنى الحقيقي لوجود صارف فهو سنة وما اجتمع فيه القول والفعل فلا شك أن له مزيد خصوصية فهو آكد مما لم يرد فيه إلا أحدهما فإن أراد هذا المعنى فلا وجه لجعل البعض مسنونا والبعض مستحبا لأن المستحب والمندوب عنده وعند من يوافقه من أهل الأصول والفروع لهما رتبة دون رتبة المسنون. والحق أن الكل يصدق عليه اسم السنة وإن كان بعضه آكد من بعض لكونه ثابتا بالسنة النبوية بل السنة تشمل ما ثبت وجوبه بالسنة فإن قلت هذا اصطلاح ولا مشاحة فيه قلت إذا جرى الاصطلاح على ما يخالف المعنى الشرعي فهو مدفوع من أصله. قوله: "وأقله مثنى". أقول: أما الإيتار بركعة فقد ثبت ثبوتا متواترا وذلك واضح ظاهر لكل من له أدنى اطلاع على السنة المطهرة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف صلاة النفل بالليل والنهار أنها "مثنى

مثنى" [أحمد "2/26، 51"، أبو دأود "1295"، الترمذي "597"، النسائي "1666"، ابن ماجة "1322"، وخص صلاة الوتر بالزيادة فصلاها أربعا أربعا وورد ما يدل على جواز الزيادة على أربع متصلة وخصها أيضا بالنقصان فجوز الإيتار بركعة واجتمع في ذلك قوله وفعله. قوله: "وقد يؤكد كالرواتب". أقول: رواتب الفرائض قد اجتمع فيها القول والفعل وثبت ذلك ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فهي داخلة في المسنون من النفل دخولا أوليا فأفرادها بالذكر تطويل بلا طائل. قوله: "وقد يخص التسبيح". أقول: كأنه لم يرد في النوافل دليل يخصها إلا هذه التي ذكرها وذلك من أغرب ما يقرع سمع من يعرف الأدلة فإنه قد ورد في الاثني عشر الركعة التي هي رواتب الفرائض "أن من صلاها في يوم وليلة بنى له بيت في الجنة" [مسلم "728"، أبو دأود "1250"، النسائي "3/261"، الترمذي "415"، ابن ماجة "1141". وورد في كل راتبة من هذه الرواتب بخصوصها من الترغيبات ما لا يخفى على عارف فورد في الأربع قبل الظهر والأربع بعدها "أن من صلاها حرمه الله على النار" [أحمد "6/426"، النسائي "1759"] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله امرأ صلى أربعا قبل العصر" [أحمد "1/117"، أبو دأود "1271"، الترمذي "430"] ، وقال صلى الله عليه وسلم في الركعتين قبل الفجر: "إنها خير من الدنيا وما فيها"، [مسلم "725"، أحمد "6/50"، 51"، الترمذي "414"، النسائي "1759"، وقال: "لا تدعوا ركعتي الفجر وإن طردتكم الخيل" [أبو دأود "1258"] ، بل ورد في غالب النوافل في الليل والنهار من الترغيب بالأحاديث الصحيحة ما لا يخفى على عارف بل ورد في صلاة الضحى التي جعلها المصنف بدعة ما أخرجه البخاري ومسلم [البخاري "3/56"، مسلم "721"] ، وغيرهما [أبو دأود "1432"، الترمذي "760"، النسائي "1677"] ، من حديث أبي هريرة قال: أوصاني خليل صلى الله عليه وسلم بثلاث بصيام ثلاثة أيام في كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام. وثبت في الصحيح [مسلم "720"] ، "أنه يصبح على كل سلامي صدقة وأنه يجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى". فالعجب من المصنف حيث يعمد إلي صلاة التسبيح التي اختلف الناس في الحديث الوارد فيها حتى قال من قال من الأئمة إنه موضوع وقال جماعة إنه ضعيف لا يحل العمل به فيجعلها أول ما خص بالتخصيص وكل من له ممارسة لكلام النبوة لا بد أن يجد في نفسه من هذا الحديث ما يجد وقد جعل الله في الأمر سعة عن الوقوع فيما هو متردد ما بين الصحة والضعف والوضع وذلك بملازمة ما صح فعله أو الترغيب في فعله صحة لا شك فيها ولا شبهة وهو الكثير الطيب. قوله: "والفرقان". أقول: رحم الله المصنف فإن هذه الصلاة التي جعلها مما خص بالتخصيص مكذوبة

موضوعة لم يثبت فيها حرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره من الصحابة وما روي في ذلك عن علي فلا أصل له وهكذا الاختيار والانتفاء والانتقاد، وبالجملة صنع من لا يفرق بين أصح الصحيح وأكذب الكذب. قوله: "ومكملات الخمسين". أقول: لا يعرف في السنة المطهرة استحباب مثل هذا ولا ثبت في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف وقد كان صلى الله عليه وسلم يواظب على نوافل لا يخل بها في غالب الحالات. فإن أراد المصنف ما كان يواظب عليه صلى الله عليه وسلم مضموما إلي الفرائض فهو معروف وهو دون هذا العدد وإن أراد ما أرشد إليه أو كان يفعله في بعض الحالات فهو أكثر من هذا العدد. فيا لله العجب حيث يعمد المصنف إلي مثل هذه الأمور التي لا دليل عليها أصلا فيجعلها مما خص من النوافل بمزيد مزية على غيرها فإن هذا صنع من لا يدري بالسنة أصلا. قوله: "فأما الترأويح جماعة والضحى بنيتها فبدعة". أقول: أما صلاة الترأويح فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في ليال من رمضان وائتم به جماعة من الصحابة وعلم بهم فترك ذلك مخافة أن تفترض عليهم وهذا ثابت في أحاديث صحيحة في الصحيحين [البخاري "2009"، مسلم "173/759"، وغيرهما [ابو دأود "1371"، النسائي "4/156"، الترمذي "808"، ابن ماجة "1326"، أحمد "2/281، 289، 408، 423"] ، وبهذا يتقرر أن صلاة النوافل في ليالي رمضان جماعة سنة لا بدعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتركها إلا لذلك العذر وثبت أيضا عند أحمد ["5/159، 160، 163"] ، وأهل السنن أبو دأود "1375"، النسائي ""3/83، 84"، "ابن ماجة 1327"، الترمذي 806"] ، وصححه الترمذي ورجاله رجال الصحيح عن أبي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل بنا حتى مضى سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلثا الليل ثم لم يقم بنا في السادسة وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال: "إنه من قام مع الإمام حتى يتصرف كتب له قيام ليلة" ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلث الشهر فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح, قلت له: وما الفلاح؟ قال: السحور. ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم في النافلة في ليالي رمضان جماعة فكيف تكون الجماعة بدعة كما قال المصنف ولم يقع من عمر إلا أنه لما خرج إلي المسجد فوجد الناس أوزاعا متفرقين يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارىء واحد لكان أولى ثم عزم فجمعهم على أبي ابن كعب. [البخاري "2010"] فقد كانت الجماعة موجودة في المسجد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يجمعهم عمر وبهذا كله تعرف أن التجميع في النوافل في ليالي رمضان سنة لا بدعة. وأما ما استحسنه جماعة من أهل العلم من جعل هذه الصلاة عشرين ركعة وجعل القراءة

في كل ركعة شيئا معينا فهذا لم يكن ثابتا بخصوصه لكنه من جملة ما يصدق عليه أنه صلاة وأنه جماعة وأنه في رمضان. وأما صلاة الضحى التي جعلها المصنف بنيتها بدعة فكما قال الشاعر: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل وقد ذكرت في شرحي للمنتقي الأحاديث الواردة فيها وهي شيء واسع فمن أحب الوقوف على ذلك فليرجع إليه حتى يتبين له هذا الخبط والخلط الذي وقع من المصنف فإنه جعل السنن بدعا والبدع سننا والأمر لله العلي الكبير.

كتاب الجنائز

[كتاب الجنائز فصل "يؤمر المريض بالتوبة والتخلص عما عليه فورا ويوصي للعجز ويلقن الشهادتين ويجه المحتضر القبلة مستلقيا ومتى مات غمض ولين برفق وربط من ذقنه إلي قمته بعريض ويشق أيسره لاستخراج حمل تحرك أو مال علم بقاؤه غالبا ثم يخاط". ويعجل التجهيز إلا للغريق ونحوه ويجوز البكاء والإيذان لا النعي وتوابعه] . قوله: "كتاب الجنائز". فصل: "يؤمر المريض بالتوبة والتخلص عما عليه فورا". أقول: كان الأولى أن يقول المصنف تجب على المريض التوبة والتخلص عما عليه فورا للأدلة من الكتاب والسنة على وجوب التوبة والتخلص عن الحقوق الواجبة عليه نعم إذا بلغ إلي حالة من شدة المرض لا يتذكر ما عليه إلا بتذكير فذلك من الحاضرين عنده من باب الموعظة الحسنة والأمر بالمعروف الذي ندب الله إليه العباد وأمرهم به. قوله: "ويوصى للعجز". أقول: هذا من جملة ما يؤمر به أي يؤمر المريض بالتوبة والتخلص إن أمكن حال المرض فإن لم يمكن فإنه يؤمر بأن يوصي للعجز عن التخلص في الحال. وأصل الوصية واجب في جميع الأحوال إذا لم يتمكن من التخلص ولو كان صحيحا فإن

أمكن ذلك فهو الواجب للحديث الصحيح الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: "ولا يدعها حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا" [البخاري "2748"، مسلم "92/1032"] . قوله: "ويلقن الشهادتين" أقول: قد ثبت الأمر بتلقين من حضره الموت فمن ذلك ما في صحيح مسلم ["1/916"] وغيره [أبو دأود "3117"، الترمذي "976"، النسائي "514"، ابن ماجة "1445"] ، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله" ومثله من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ["2/917"] ، وغيره وهو مروي خارج الصحيح من طريق جماعة من الصحابة منهم عائشة [النسائي "4/5"] ، وعبد الله بن جعفر [ابن ماجة ""1446"] ، وجابر وعروة بن مسعود وحذيفة ابن اليمان وابن عباس وابن مسعود قال النووي والأمر بهذا التلقين أمر ندب. قال وأجمع العلماء على هذا التلقين انتهى. وظاهر الأمر الوجوب ولا قرينة تصرفه عن ذلك وظاهر الأحاديث أن مشروعية التلقين إنما هي لهذا اللفظ أعني لا إله إلا الله ولكنه ثبت في غير هذا التلقين الأمر بمقاتلة الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كما في الصحيحين وغيرهما من رواية ابن عمر. وقد قيل إن المراد هنا بقول لا إله إلا الله التلفظ بالشهادتين لكونه صار علما على ذلك. قوله: "ويوجه المحتضر القبلة مستلقيا". أقول: استدل على مشروعية هذا التوجيه بما أخرجه أبو دأود ["2875"، والنسائي "4012"] ، والحاكم من حديث عبيد بن عمير عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله ما الكبائر قال: "هي سبع" وذكر منها: "استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا" وهذا لايدل على المطلوب لأن المراد بقوله أحياء عند الصلاة وقوله أمواتا في اللحد والكلام في توجيه الحي المحتضر وقد استدل على ذلك بما أخرجه الحاكم والبيهقي من حديث أبي قتادة أن البراء بن معرور أوصى أن يوجه إلي القبلة إذا احتضر فقال صلى الله عليه وسلم: "أصاب الفطرة" فإن صح هذا كان دليلا على مشروعية ذلك وقد ذكره في التلخيص ولم يتكلم عليه. والأولى أن يكون على شقه الأيمن لا مستلقيا لما ورد في أحاديث من الإرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلي أن يكون النوم على الشق الأيمن وقال في بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين [البخاري "7393"، مسلم "56/2710"] وغيرهما [أبو دأود "5046"، أحمد "4/290، 296"] بلفظ: "إذا أويت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن"، قال في آخره "فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة" فإن هذا فيه دليل على أنه إنما أرشد إلي ذلك لأن النائم إذا مات مات على الفطرة فينبغي أن يكون المريض عند حضور الموت على شقه الأيمن. وأخرج أحمد في المسند عن سلمى أم أبي رافع أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موتها استقبلت القبلة ثم توسدت يمينها.

والحاصل أنه لم يرد في التوجه عند الموت إلي القبلة ما يدل على مشروعيته إلا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن البراء بن معرور أصاب الفطرة" حيث أوصى بأن يوجه إلي القبلة إذا احتضر ولو كان مشروعا لأرشد إليه صلى الله عليه وسلم من مات في حياته ولم يسمع منه صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء مع كثرة الأموات من أهله وأصحابه. قوله: "ومتى مات غمض". أقول: استدل على مشروعية هذا بما أخرجه أحمد ["4/125"] وابن ماجه ["1455"] والحاكم والطبراني في الأوسط والبزار عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح وقولوا خيرا فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت" وفي إسناده قزعة بن سويد قال أبو حاتم محله الصدق وليس بذلك القوي. والأولى الاحتجاج بما ثبت في صحيح مسلم ["920"] عن ام سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قبض أتبعه البصر" قال النووي واجمع المسلمون على ذلك. والحكمة فيه أن لا يقبح منظره إذا ترك إغماضه. وأما ما ذكره المصنف من التليين برفق والربط من ذقن الميت إلي قمته فلم يرد فيه شيء لكنه عمل حسن لئلا تيبس أعضاء الميت فيصعب غسله وتكفينه ولئلا ينفتح فوه فيكون منظره قبيحا. قوله: "ويشق أيسره لاستخراج حمل تحرك أو مال علم بقاؤه غالبا". أقول: لم يرد في الشق لواحد من الأمرين شيء يعتمد عليه لكن قد علم بتحرك الحمل أنه حي فدفنه أهلاك له وقد ورد في حفظ النفوس واحترامها ما هو أشهر من ضوء النهار فإن كان مثلا ذلك الحمل المتحرك مما يظن حياته إذا خرج من البطن فإنقاذه واجب ولا يعارض هذا ما ورد من أن الميت يتألم كما يتألم الحي وأن كسر عظمه ميتا ككسره حيا [أبو دأود "3207"، ابن ماجة "1616"، أحمد "6/58، 168،169، 200، 364"] لأن حرمة الحي والحظر في أهلاكه أبلغ من ذلك وأشد. وأما من ازدرد مالا فمات وهو في بطنه فبقاؤه منكر عظيم وإضاعة للمال المنهي عن إضاعته فإخراجه متوجه والميت هو الجاني على نفسه فلا حرج في تأليمه ولا فرق بين قليل المال وكثيره لأن الكل منكر وإضاعة فلا وجه للاحتراز على مقدار ثلث ماله فإن الله سبحانه إنما جعل له ثلث ماله ليتقرب به إلي الله لا ليدسه في التراب معه. وأما كونه يخاط بعد الشق فذلك صواب لئلا يكون منظره قبيحا. قوله: "وتعجيل التجهيز إلا لغريق ونحوه". أقول: حديث الأمر بالتعجيل للتجهيز وتعليل ذلك بقوله: "فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله" أخرجه أبو دأود ["3159"] ، من حديث الحصين بن وحوح وفي إسناده

عروة بن سعيد الأنصاري ويقال عزره عن أبيه وهما مجهولان. وحديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يؤخرون الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا"، أخرجه أحمد ["1/105"، والترمذي "171"، وابن ماجه "1486"] ، وابن حبان والحاكم وفي إسناده مقال لا يقدح في صلاحيته للاحتجاج به ويشهد لهما أحاديث الإسراع بالجنازة. وأما استثناء الغريق ونحوه فظاهر لأن من كانت حياته مرجوة كان تعجيل دفنه حراما. قوله: "ويجوز البكاء والإيذان لا النعي وتوابعه". أقول: أعلم أنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من طرق في الصحيحين [البخاري"1292"، مسلم "26/932"] ، وغيرهما [النساءي "1858"] ، "أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"، وفي لفظ: "من ينح عليه يعذب بما ينح عليه" وهو في الصحيحين [البخاري"1291"، مسلم "933"، وغيرهما فهذا يدل على أن النوح والبكاء الذي يمكن دفعه حرام وأما مجرد فيضان العين وذروفها بالدموع من دون صوت ولا نوح ولا تعمد للبكاء فهو الذي حصل الإذن به وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "1303"، مسلم "62/2315"] وغيرهما "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري"1304"، مسلم "12/924"] وغيرهما لما رأى القوم بكاءه فقال: "ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلي لسانه - أو يرحم"، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "1224"، مسلم "11/923"] ، وغيرهما لما بكى عند أن رأى نفس الصبي تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". فهكذا ينبغي أن يكون الجمع بين الأحاديث المختلفة في هذا الباب. وأما الإيذان بموت الميت فقد ثبت في كتب اللغة أن النعي هو الإخبار بموت الميت وإذاعته وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "458"، مسلم "956"] ، وغيرهما [أحمد "2/353، 388"، أبو دأود "3203"] ، أنه قال لما رأى قبرا دفن ليلا فقال: "متى دفن هذا؟ " فقالوا: البارحة قال: "أفلا آذنتموني؟ " وثبت في الصحيح [البخاري "1337"،مسلم "956"، أبو دأود "1203"، ابن ماجة "1527"، أحمد "2/353"] أنه قال ذلك لما أخبروه بموت السوداء أو الأسود الذي كان يقم المسجد فدل على أن مجرد الإخبار بموت الميت من دون إذاعة ولا تفجع جائز لإنه قد ورد ما يدل على أن في كثرة المصلين عليه منفعة له وأنهم شفعاؤه وأيضا لا بد من حضور من يتولى تجهيزه وحمله ودفنه فإخبارهم بذلك مما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه الضرورة. وأما ما ذكره من توابع النعي فهي ما ورد النهي عنه من ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوة الجأهلية كما في الصحيحين [البخاري "1294، 2197"، مسلم "103"] ، وغيرهما

[الترمذي "999"، النسائي ""4/20"، ابن ماجة "1584"، أحمد "1/386، 432، 442"] ، وهكذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة"، وهو في الصحيحين [البخاري "1296"، مسلم "104"، وغيرهما [ابن ماجة " 5192"، النسائي "5/20". وهكذا قوله للميت واعضداه واناصراه واكاسباه واجبلاه واأسداه وهو منهي عنه كما ثبت في اصحيح البخاري ["4268"، وغيره [ابن ماجة "1594"، الترمذي "1003"] . [فصل ويجب غسل المسلم ولو سقطا استهل أو ذهب اقله ويحرم للكافر والفاسق مطلقا ولشهيد مكلف ذكر قتل أو جرح في المعركة بما يقتله يقينا أو في المصر ظلما أو مدافعا عن نفس أو مال أو غرق لهرب أو نحوه. ويكفن بما قتل فيه إلا آله الحرب والجورب مطلقا والسرأويل والفرو إن لم ينلها دم وتجوز الزيادة. قوله: فصل: "ويجب غسل الميت". أقول: غسل الأموات ثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا ولم يسمع في أيام النبوة أنه مات ميت غير شهيد فترك غسله بل هذه الشريعة في غسل الأموات ثابتة من لدن أبينا آدم عليه السلام إلي الآن فإنه أخرج عبد الله بن أحمد في المسند ["7/154"] ، والحاكم في المستدرك قال صحيح الإسناد. ولم يخرجاه يعني الشيخين "أن آدم عليه السلام قبضته الملائكة وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له والحدوا وصلوا عليه ثم دخلوا قبره فوضعوه فيه ووضعوا عليه اللبن ثم خرجوا من القبر وحثوا عليه التراب وقالوا يا بني آدم هذه سنتكم". وقد حكى الإجماع على وجوب الغسل للميت على الكفاية النووي والمهدي في البحر واعترض ابن حجر في الفتح على نقل النووي والإجماع على أنه فرض كفاية بأن المالكية يخالفون في ذلك وأن القرطبي منهم رجح في شرح مسلم أنه سنة ورد ابن العربي على المالكية وقال قد تواتر به القول والعمل. قوله: "لو سقطا استهل". أقول: السقط باستهلاله قد صار له حكم الأحياء من العباد ولهذا أنه يرث ويورث فالغسل له داخل في عموم مشروعية الغسل لأموات المسلمين وهذا المقدار يكفي على تقدير أنه لم يرد دليل يدل على غسل السقط فكيف وقد أخرج الترمذي ["1032"] ، والنسائي وابن ماجه ["1508"] ، من حديث جابر "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" وأخرج أيضا البيهقي والحاكم وصححه ولا مطعن فيه يوجب سقوط الاحتجاج به وأخرج أحمد ["4/248، 249"

و "252"] ، الترمذي ["1031"] ، وابن حبان والحاكم وصححوه "السقط يصلي عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة". وأخرج ابن ماجه] "1509"] ، من حديث أبي هريرة "صلوا على أطفالكم فإنهم أفراطكم". وأما ما روى أبو دأود ["3187"] ،من حديث عائشة أنها قالت مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا فلم يصل عليه فقد قال ابن عبد البر حديث عائشة هذا لا يصلح لأن الجمهور قد أجمعوا على الصلاة وراثة وعلما مستفيضا عن السلف والخلف ولا أعلم احدا جاء عنه غير هذا إلا عن سمرة بن جندب وحديثه يحمل أنه لم يصل عليه جماعة وأمر أصحابه فصلوا عليه ولم يحضرهم قال البيهقي رواية الصلاة عليه أشبه بسائر الأحاديث الصحيحة فقد ثبت عن عائشة أنها قالت "دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة" [مسلم "30/2662"] ، الحديث. وإذا قد ثبت للسقط المستهل أنه يصلى عليه فما قبل الصلاة وهو الغسل والتكفين وما بعدهما وهو الدفن كذلك. قوله: "أو ذهب أقله". أقول: الظاهر أن ثبوت المشروعية للكل يستلزم ثبوت المشروعية للبعض ولو كان اقل من النصف فلا يحتاج إلي الاستدلال على هذا بدليل مستقل وأما إذا كان الباقي هو الأكثر فهو في حكم الكل كما وقع في أمثال هذه المسألة. قوله: "ويحرم للكافر والفاسق مطلقا". أقول: أما الكافر فمسلم فإنه لم يسمع في ايام النبوة ولا بعدها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل كافر وما روي في غسل أبي طالب فلم يثبت ذلك ثبوتا يقوم به الحجة وأيضا هذا الغسل للميت هو حكم من أحكام الإسلام فلاحظ فيه لمن لم يكن مسلما. وأما الفاسق فلا وجه للقول بأنه لا يغسل ومن قال بذلك فقد غلط غلطا بينا فإن أحكام الإسلام جارية له وعليه ومعصيته لا تخرجه عن الإسلام الذي هو متصف به وأشار المصنف بقوله مطقا إلي عدم الفرق بين كفر التأويل وكفر التصريح وفسقهما ولا يخفاك أن هذا الذي يسمونه كفر التأويل لا أصل له وإنما هو أمر ناشىء عن العصبية الكائنة بين طوائف المسلمين حتى رمى بعضهم بعضا بذلك بغيا وعدوانا والخطأ في مسألة أو مسائل لا يوجب خروج المخطىء عن عصمة الإسلام بل الحق أن الخطأ في الاجتهاد من غير فرق بين مسائل الأصول والفروع يثبت لصاحبه أجر وللمصيب أجران ومن خص هذا الحديث الصحيح ببعض المسائل فهو تخصيص بلا مخصص ودعوى لا برهان عليها ولقد استفز الشيطان من أطاعه بالوقوع في هذا الخطر العظيم فإنه قد صح أن المكفر لأخيه المسلم واقع في هوة الكفر ومترد في حفرته ومتلبس بثيابه وليس ما يزعمه المكفرون بالإلزام بشيء يعتد به بل هو تعصب على تعصب وتعسف على تعسف والهداية للحق بيد هادي الخلائق.

قوله: "ولشهيد مكلف ذكر" الخ. أقول: قد وردت أحاديث قاضية بترك غسل الشهيد منها ما هو في اصحيح البخاري ["1346"] ، ومنها ما هو في غيره [ابو دأود ط3133"] ، وبهذا القدر تقوم به الحجة وقد أطال الكلام في هذا البحث في غير طائل وخبط خبطا لا يخفى على عارف. وأما اشتراط التكليف والمذكورة فلا دليل عليه بل الصبي والمرأة من جملة الشهداء إذا قتلوا قتلا يستحقون به اسم الشهادة. أما المرأة فظاهر لأنها من جملة من يكتب له الأجر ويكتب عليه الوزر وعدم وجوب الجهاد عليها لا يسلبها حكم الشهادة إذا قاتلت وقتلت. وهكذا الصبي فإن رفع قلم التكليف عنه لا يقتضي أنه لا يؤجر فيما يفعله من القرب. وأما المقتول في المصر ظلما فهو وإن كان شهيدا لكنه لم يأت ما يدل على عدم غسله وهكذا المدافع عن نفسه أو ماله ولا ملازمة بين إثبات اسم الشهادة وترك الغسل فقد وردت الأحاديث الصحيحة بإطلاق اسم الشهادة على المبطون والميت بالطاعون وبالغرق والهدم والمرأة النفاس وغير هؤلاء نحو الخمسين كما ذكره القرطبي والسيوطي في رسالته وجمعت أنا فيه رسالة فهؤلاء يستحقون أجر الشهادة وهم من جملة المسلمين في أنهم يغسلون كما يغسل غيرهم من أموات المسلمين. ويؤيد هذا ما فعله الصحابة من غسل عمر رضي الله عنه وقد قتل في المصر ظلما وكان قاتله كافرا وهكذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل في المصر ظلما وكان قاتله خارجيا من كلاب النار ولم ينقل أحد أنه دفن بلا غسل وقد نقل المهدي في البحر الإجماع على أن سائر من يطلق عليه اسم الشهيد كالطعين والمبطون والنفساء ونحوهم يغسلون فاقتضى هذا النقل أن يلحق بهم المقتول في المصر ظلما والمقتول في المدافعة عن نفسه أو ماله وأما قوله ويكفن بما قتل فيه الخ فقد استدل على ذلك بما أخرجه أبو دأود ["3134"] ، وابن ماجة ["1515"] ، عن ابن عباس قال "أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم"، وفي إسناده علي بن عاصم الواسطي وقد تكلم فيه جماعة وعطاء بن السائب وفيه مقال. وأما جواز الزيادة من الأكفان على ما قتل فيه فلم يرد ما يمنع من ذلك والأصل الجواز. [فصل وليكن الغاسل عدلا من جنسه أو جائز الوطء بلا تحديد عقد إلا المدبرة فلا تغسله ثم محرمة بالدلك لما ينظره والصب على العورة مستترة ثم أجنبي بالصب على جميعه

مستترا كالخنثى المشكل مع غير أمته ومحرمه فإن كان لا ينقيه الصب يمم بخرقة. فأما طفل أو طفلة لا تشتهي فكل مسلم ويكره الحائض والجنب] . قوله: فصل: "وليكن الغاسل عدلا من جنسه أو جائز الوطء". أقول: لم يأت دليل يدل على اشتراط العدالة ولكن الفاسق ليس بمحل للأمانة والستر على الميت إن رأى مالا يحسن إفشاؤه وقد أخرج أحمد من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غسل ميتا فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال: "ليليه أقربكم إن كان يعلم فإن لم يكن يعلم فمن ترون عنده حظا من ورع وأمانة"، وفي إسناده مقال ولكنه يشهد له حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري"2442"، مسلم "2580"] ، وغيرهما [أبو دأود "4893"، الترمذي "1426"] ،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" ولا يخفاك أن الفاسق ليس من أهل الأمانة ولا من أهل الورع فمنعه عن الغسل من هذه الحيثية. وأما كونه يغسله جنسه أو جائز الوطء فهذا هو الثابت في الشريعة فإنه كان في زمن النبوة وما بعدها في عصر الصحابة يغسل الرجل الرجال والمرأة النساء وهذا أمر أوضح من الشمس وقد دفع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته إلي النساء يغسلنها وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: "لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك"، أخرجه أحمد ["6/228"، وابن ماجة "1465"] ،والدارمي وابن حبان والدارقطني والبيهقي من حديثها. وكانت عائشة تقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه أخرجه أحمد ["6/267"، وأبو دأود "3141"، وابن ماجة "1464". وقد غسل الصديق امرأته أسماء بنت عميس رضي الله عنهما وغسل على فاطمة رضي الله عنهما فما ذكره المصنف صواب وحق. وقد وقع للجلال ها هنا من زائف الكلام وساقطه ما هو غني عن البيان وإذا ألجأت الضرورة فلم يوجد الجنس غسل الجنس غير جنسه مع ستر ما لا يجوز النظر إليه ويكون الدلك بحائل وإذا تعذر الدلك فالمسح وإذا تعذر المسح فالصب وإذا تعذر الصب ارتفع وجوب الغسل ومحارم المرأة من الرجال أقدم من سائر الرجال ومحارم الرجل من النساء أقدم من غيرهن من النساء للتخفيف بين المحارم في مقدار العورة. وأما قوله: "وأما طفل أو طفلة لا يشتهى فكل مسلم"، فالصواب أن يغسل كل جنس جنسه إلحاقا للصغار بالكبار. وأما الحائض والجنب فهما وإن كانا ممنوعين من بعض القرب فإن ذلك لا يقتضي منعهما من كل قربة بل حكمها فيما لم يرد فيه دليل المنع حكم من ليس بجنب ولا حائض.

[فصل وتستر عورته ويلف الجنس يده لغسلها بخرقة وندب مسح بطن الحامل وترتيب غسله كالحي وثلاثا بالحرض ثم السدر ثم الكافور فإن خرج من فرجه قبل التكفين بول أو غائط كملت خمسا ثم سبعا ثم يرد بالكرسف. والواجب منها الأولى والرابعة والسادسة وتحرم الأجرة ولا تجب النية عكس الحي وييمم للعذر ويترك إن تفسخ بهما] . قوله: فصل: "وتستر عورته" الخ. أقول: الأدلة الواردة في منع نظر العورة ولمسها شاملة لعورة الحي والميت فغسلها يكون بالدلك مع حائل بين اليد وبينها وأما مسح البطن فهو لخروج ما عساه يخرج بعد الغسل فهذا وإن لم يرد به دليل ولكنه من المبالغة في تطهير بدن الميت. وأما صفة الغسل فينبغي الاعتماد في ذلك على حديث أم عطية الثابت في الصحيحين [البخاري "1253"، مسلم "38/939"] ، وغيرهما [أبو داود "3142", الترمذي "990", النسائي "4/3", ابن ماجه "1458", أحمد "5/84"] قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور" وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "1255", مسلم "43/939"] وغيرهما [النسائي "4/28", أبو داود "3142"] "ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها" وفي لفظ لهما: [البخاري "1258,1259"38/939"] "اغسلنها وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن". فهذا الحديث قد دل على أن الغسل ينبغي أن يكون وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا وإذا رأى الغاسل الزيادة على ذلك زاد وينبغي أن تكون الغسلات بماء وسدر ويكون في الغسلة الآخرة كافور وأنه ينبغي أن تكون البداية في الغسل بميامن الميت ومواضع الوضوء منه. وبهذا تعرف أن التخيير بين الثلاث أو الخمس أو السبع والزيادة عليها مفوض إلي الغاسل سواء خرج خارج أو لا فلا وجه لما ذكره من قوله: فإن خرج قبل التكفين إلخ ثم خروج الخارج لا وجه لإعادة الغسل لأجله بل يغسل موضع الخروج وما أصابه من سائر البدن فإن أعي الأمر وتكرر خروج الخارج فلا بأس بهذا الفرج أن يرد بخرقة أو نحوها. وأما قوله: "والواجب منها الأولى والرابعة والسادسة"، فمبني على أن خروج الخارج يوجب الإعادة وهو ممنوع وليس الواجب إلا ما يصدق عليه مسمى الغسل كما تقدم في غسل الجنابة وما زاد على ذلك فهو سنة مفوض إلي الغاسل. وأما تحريم الأجرة فهو مبني على تحريم أخذ الأجرة على الواجب وسيأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في الإجارات. وأما عدم وجوب النية فلكونه لم يرد الأمر بها في هذا بخصوصه ولكن لا يخفاك أن غسل

الميت عمل وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الأعمال بالنيات" وصح عنه أنه قال: "لا عمل إلا بنية" ولا سيما إذا كان العمل قربة من القرب وغسل الميت واجب على الأحياء يؤجرون عليه كما يؤجرون على سائر الواجبات فلا وجه لعدم إيجاب النية. وأما أن الميت ييمم للعذر فلم يرد بذلك دليل والتيمم إنما شرعه الله للأحياء ولم يشرعه في غسل الأموات فمن تعذر مسحه خشية أن يتفسخ ثم تعذر صب عليه الماء لذلك فلا غسل له ولا واجب على الأحياء بل يدفن كما هو. [فصل ثم يكفن من رأس ماله ولو مستغرقا بثوب طاهر ساتر لجميعه مما لبسه ويعوض إن سرق وغير المستغرق يكفن مثله. والمشروع إلي سبعة وترا ويجب ما زاد من الثلث وإلا أثم الورثة وملكوه ويلزم الزوج ومنفق الفقير ثم بيت المال ثم على المسلمين ثم بما أمكن من شجر ثم تراب. وتكره المغالاة وندب البخور وتطييبه سيما مساجده ثم يرفع مرتبا ويمشي خلفه قسطا وترد النساء] . قوله: "ثم يكفن من رأس ماله بثوب" الخ. أقول: قد حصل الاتفاق على أن الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع البدن وأن ذلك مقدم على ما يخرج من التركة من دين وغيره فإن ألجأت الضرورة إلي أن يكفن في ثوب لا يستر جميع بدنه فللضرورة حكمها كما وقع في الصحيحين [البخاري "1276""، مسلم "940"] ، وغيرهما [أبو دأود "3155"، التنرمذي "3852"، النسائي "1904"] ، أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة إذا غطوا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه ويجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر. وإذا كان للميت تركة كان على المتولي لتكفينه أن يحسن كفنه كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه" [أخرجه الترمذي "995"، وابن ماجة "1474"] ، من حديث ابن قتادة وقال الترمذي إسناده حسن وأيضا رجال إسناده ثقات وهو أيضا ثابت في صحيح مسلم ["943"] ، من حديث جابر بلفظ: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه" وورد أيضا الإرشاد إلي التكفين في الثياب البيض كما أخرجه أحمد ["5/342"، وأبو دأود "3878"، والترمذي "994"،وابن ماجة 3566"] ،من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم" وصححه الترمذي ["3/320"] ، وابن

القطان وأخرجه أيضا الترمذي ["2810"] ، وصححه وابن ماجه ["3567"] ، من حديث سمرة. وأما عدد الأكفان فلم يرد في ذلك شيء يعتمد عليه إلا ما ثبت في الصحيحين [البخاري "1264"، مسلم "45/941"] ، وغيرهما [أبو دأود "3151"، الترمذي "996"، النسائي "4/35"، ابن ماجة "1469"] ، من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة ولم يثبت في تكفينه صلى الله عليه وسلم ما يخالف هذا وكل ما روي في ذلك فهو لا يصلح للمعارضة هذا مع كونه في نفسه غير صحيح لا يحل العمل به فضلا عن أن يعارض ما في الصحيحين وغيرهما ولكن هذا إنما هو فعل من حضر من الصحابة ولا تقوم به الحجة وقد قيل إن وجه الاستدلال به أن الله سبحانه لم يكن يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل ولا يخفاك أن هذا التوجيه لا تقوم به الحجة ولو سلمنا ذلك لكان أفضل الأكفان ثلاثة دروج فلا يصح قول المصنف والمشروع إلي سبعة وترا وقد اقتدى أبو بكر الصديق بكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب كما في البخاري ["1387"] وغيره. قوله: "ويجب ما زاد من الثلث وإلا أثم الورثة وملكوه". أقول: الذي أوصى بأن يكفن في زيادة على سبعة أكفان فقد أوصى بما نهى عنه صلى الله عليه وسلم من إضاعة المال وهذا إضاعة للمال بلا شك ولا شبهة فهو وصية بمحظور لا يجوز تنفيذها وإنما قلنا إنه إضاعة للمال لأنه لا ينتفع به الميت وإن كفن بألف كفن لأن ذلك يصير ترابا عن قريب ومعلوم أنه إذا كان صحيح العقل لا يقصد التزين بذلك بين أهل البرزخ فقد صاروا جميعا في شغل شاغل عن ذلك فالصواب أنه يأثم الوصي والوارث بامتثال هذه الوصية لا بردها والله سبحانه إنما جعل للميت ثلث ماله ليجعله زيادة في حسناته ويتقرب به إلي الله سبحانه لا ليضعه في موضع الإضاعة ويخالف به ما شرعه الله لعباده من عدم إضاعة المال. قوله: "ويلزم الزوج" الخ. أقول: يدل على هذا حديث عائشة الذي تقدم أنه قال لها صلى الله عليه وسلم: "لو مت قبلي لغسلتك" وكفنتك وقد كان الزوج في أيام النبوة وما بعدها يكفن زوجته ولم يسمع عن أحد منهم أنه قال قد انقطع النكاح وذهب موجب حسن العشرة كما يقول الجامدون على الرأي. وأما الفقير الذي ينفقه في حياته قريبه فهذا من تمام البر والصلة بل من أعظمها فإن أبي لم يجبر على ذلك لعدم الدليل. وأما قوله: "ثم بيت المال" فصواب فإن هذا هو بيتا مال المسلمين الموضوع لمصالحهم وقد ثبت بالدليل أن تكفين الميت واجب والإمام وبيت مال المسلمين أولى بذلك ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم فمن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلى ومن ترك مالا فلورثته"، [مسلم "43/867، 44/867"،ابن ماجة "45"، النسائي "3/188"] . وأما قوله: "ثم المسلمين" أيضا صواب لأن تكفين الميت إذا كان واجبا عليهم حرم عليهم أن يدفنوه بغير كفن لأنهم بذلك يخلون بالواجب المتعلق بهم.

وأما قوله: "ثم بما أمكن من شجر ثم تراب" فقد عرفناك أن للضرورة حكمها وليس في الإمكان غير ما قد كان. وأما قوله: "وتكره المغالاة" فهو أيضا صواب لأن المراد بالمغالاة أن يعمد إلي الثياب المرتفعة الأثمان الغالية القيمة فيكفن الميت بها مع حصول المقصود بما هو دونها وقد عرفت أن الزيادة على ما ورد به الشرع إضاعة للمال لما قدمنا وتحسين الكفن وكونه جديدا أبيض لا ينافي هذا فإن ذلك يحصل بدون المغالاة ويؤيد هذا النهي عن المغالاة في الأكفان معللا ذلك بقوله فإنه يسلب سريعا كما أخرجه أبو دأود من حديث علي. قوله: "وندب البخور وتطييبه سيما مساجده". أقول: يدل على ذلك ما أخرجه أحمد والبيهقي والبزار بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أجمرتم الميت فأجمروه ثلاثا" وأخرج نحوه من حديث جابر بلفظ: "إذا أجمرتم الميت فأوتروا" فهذا يدل على مشروعية التطيب ويدل عليه أيضا النهي عن تطييب المحرم وتحنيطه كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس فإن ذلك يدل بمفهومه على تطييب غير المحرم ولم يرد ما يدل على أن مساجد الميت أولى بالطيب من غيرها فالأعضاء مستوية في ذلك. وأما قوله ثم يرفع مرتبا فلم يرد في هذا شيء يصلح للقول للندب لأنه حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي لا بمجرد الرأي. قوله: "ثم يمشي خلفه قصدا". أقول: قد ورد ما يدل على المشي خلف الجنازة وأمامها وفي جوانبها وورد الفرق بين الراكب والماشي كما في حديث المغيرة الذي أخرجه أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها قريبا منها عن يمينها أو عن يسارها". وأخرجه أبو دأود ["3181"، وقال فيه: "والماشي خلفها وأمامها قريبا منها" وفي رواية "الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها". ومع هذا فورد النهي عن الركوب مع الجنازة وامتنع صلى الله عليه وسلم من الركوب مع الجنازة وعلل ذلك بأن الملائكة كانت تمشي وأخرج أحمد وأهل السنن عن ابن عمر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة وصححه ابن حبان وابن خزيمة وأعل بما لا يقدح في الاحتجاج وقد احتج به أحمد بن حنبل وقد ذهب الجمهور إلي أن المشي أمام الجنازة أفضل واستدلوا بهذا الحديث وذهب الآخرون إلي أن المشي خلفها أفضل واستدلوا بما أخرجه أبو دأود ["3184" والترمذي "1011"] ، وابن ماجه "1484"] ، من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي خلف الجنازة فقال: "ما دون الخبب فإن كان خيرا عجلتموه وإن كان شرا

فلا يبعد إلا أهل النار والجنازة متبوعة"، وقد ضعف إسناده جماعة من أهل الحديث ولكنه قد ثبت في الصحيحين [البخاري "47، 1325"، مسلم 945"] ، وغيرهما [الترمذي "1040"، ابن ماجة 1539"، النسائي "4/76"، أبو دأود "3168"] ، من حديث أبي هريرة مرفوعا: "من تبع جنازة مسلم" وثبت في الصحيحين [البخاري "1240"، مسلم "2162"] ، أيضا وغيرهما مرفوعا: "إن حق المسلم على المسلم ست" ومنها: "وإذا مات فاتبعه" [أبو دأود 5030"، الترمذي "2809"، النسائي "4/54"] . وهذان اللفظان ظاهران في المشي خلف الجنازة وإن كان محتملا كون المراد الخروج معه عند حمله فإنه إذا أخرج الميت من منزله ثم خرج بخروجه المشيعون له كانوا تابعين له لأنه أخرج ثم خرجوا وسواء مشوا خلفه أو أمامه. وأما قوله: "قصدا" فمراده أن يكون المشي معها متوسطا بين الإسراع والبطء ولكن قد ثبت في الصحيحين [البخاري "1315"، مسلم "944"] ، من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أسرعوا بالجنازة فإن لم تكن صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم". وثبت في صحيح البخاري ["1762"] ، وغيره من حديث محمود بن لبيد "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرع بجنازة سعد بن معاذ حتى تقطعت نعالنا"، وروى من حديث أبي بكرة قال لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد أن نرمل بها رملا. [أخرجه أبو دأود "3182"، النسائي "1913"] . فهذه الأحاديث تدل على أن الإسراع أفضل ولا يعارضها ما تقدم من قوله دون الخبب لما قدمنا من كون الحديث ضعيفا. وأما قوله: "وترد النساء" فلما ورد من المنع لهن من زيارة القبور كما أخرجه أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه وإذا منعن من الزيارة على انفراد فمنعهن من الخروج مع الجنازة مع اجتماعهن بالرجال أولى. وقد أخرج ابن ماجه والحاكم والأثرم في سننه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهن في زيارة القبور وأخرج أبو دأود ["3123"] ، والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى فاطمة ابنته فقال: "ما أخرجك من بيتك؟ " فقالت: أتيت أهل هذا الميت فرحمت على ميتهم فقال لها: "فلعلك بلغت معهم الكدى؟ " قالت معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر فقال: "لو بلغت معهم الكدى ... " فذكر تشديدا في ذلك قال الحاكم صحيح الإسناد على شرط الشيخين. وأخرج البخاري "1278"، ومسلم "34/938، 35/938"، وغيرهما [أبو دأود "3167"، ابن ماجة "1577"] ، عن أم عطية قالت نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا وفي الباب أحاديث.

[فصل "وتجب الصلاة كفاية على المؤمن ومجهول شهدت قرينه بالإسلامه فإن التبس بكافر فعليهما وإن كثر الكافر بنية مشروطة وتصح فرادى والأولى بالإمامة الإمام وواليه ثم الأقرب الصالح من العصبة وتعاد إن لم يأذن الأولى. وفروضها النية وخمس تكبيرات والقيام والتسليم وندب بعد الأولى الحمد وبعد الثانية الصمد وبعد الثالثة الفلق وبعد الرابعة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت بحسب حاله والمخافتة وتقديم الابن للأب وتكفي صلاة على جنائز وتجديد نية تشريك كل جنازة أتت خلالها فتكمل ستا لو أتت بعد تكبيرة وترفع الأولى أو تعزل بالنية ثم كذلك فإن زاد عمدا أو نقص مطلقا أعاد قبل الدفن لا بعده واللاحق ينتظر تكبير الإمام ثم يكبر ويتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع. وترتب الصفوف كما مر إلا أن الآخر أفضل ويستقبل الإمام سرة الرجل وثدي المرأة ويليه الأفضل فالأفضل"] . قوله: فصل: "وتجب الصلاة كفاية على المؤمن". أقول: الصلاة على الأموات شريعة ثابتة ثبوتا أوضح من شمس النهار فلم تترك الصلاة لا في أيام النبوة ولا في غيرها على فرد من أفراد أموات المسلمين إلا من عليه دين لا قضاء له وعلى الذي قتل نفسه مع أنه قال فيمن عليه دين: "صلوا على صاحبكم" [البخاري "5371، 6731، 2398،6763، 2399، 4781، 6745، مسلم "1619"، أحمد "2/290، 453، 287، 456، 464، 356، 527" النسائي "4/66"، الترمذي "1070"، ابن ماجة "2415"، أبو دأود "2955"] ، فعرف بهذا أنه ممن يصلى عليه وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لقصد الزجر عن أن يحصل التراخي في قضاء الديون وهكذا تركه للصلاة على قاتل نفسه فإنه للزجر عن أن يتسرع الناس في قتل أنفسهم فلا يلحق غيره من أهل المعاصي به فإنه من جملة المسلمين وممن يدخلون تحت ما شرعه الله لعباده أحياء وأمواتا هم أحق بالشفاعة من المسلمين بصلاتهم عليهم وتخصيص الصلاة بالمؤمنين من الحجر الواسع الرحمة وللتفضل الرباني وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى على ما عز والغامدية وقال الإمام أحمد بن حنبل إن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه قال النووي في شرح مسلم قال القاضي مذهب العلماء كافة الصلاة على كل مسلم ومحدود ومرجوم وقاتل نفسه وولد الزنا انتهى. وأما الصلاة على الشهيد فقد أوضحنا الكلام فيها في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. وأما مجهول الحال كمن يوجد في فلاة يمر بها المسلم والكافر فلا يصلى عليه إلا بعد وجود ما يدل على إسلامه كما ذكر المصنف لأن الصلاة على الكافر حرام وإذا علم أحد

الموجودين مسلم ولم يمكن تعيينه صلى عليه وحده وأفراده بالنية وإن كان معه كفار فإن مجرد وجودهم والصلاة إليهم لا يستلزم أن تكون الصلاة عليهم لأن النية مميزة. ولعل مراد المصنف بقوله فعليهما في الصورة لا في الحقيقة ولا يحتاج إلي أن تكون النية مشروطة بل يجعلها على المسلم من الابتداء وإنما يحتاج إلي المشروطة لو كان سيفعل الصلاة على كل واحد ولا حاجة إلي ذلك بل يجمعون جميعا في قبلته ويصلي على المسلم منهم وحده. قوله: "وتصح فرادى". أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في زمنه التجميع ولكن الأصل في كل صلاة أنها تصح فرادى وإن كانت الجمعة افضل كما قدمنا في الصلوات الخمس ويؤيد. ذلك صلاة الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فرادى فصلى عليه الرجال أرسالا حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان ولم يؤمهم أحد وهذا ثابت في كتب السير والتاريخ قال ابن عبد البر صلاة الناس عليه صلى الله عليه وسلم فرادى مجمع عليه عند أهل السير وجماعة أهل النقل لا يختلفون فيه انتهى. وأما ما روي أن صلاتهم عليه فرادى كان بوصية منه صلى الله عليه وسلم فلم يصح في ذلك شيء. قوله: "والأولى بالإمامة والإمام وواليه". أقول: هذا صحيح وحديث "لا يؤمن الرجل في سلطانه" يتنأول بعمومه كل صلاة جماعة من الصلوات الخمس وغيرها وقد اقتدى بهذه السنة الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما وقدم سعيد بن العاص يصلي على أخيه الحسن بن علي رضي الله عنه وقال لولا أنها سنة ما قدمتك كما أخرجه البزار والطراني والبيهقي وهو المنقول في كتب السير والتاريخ. وأما قوله: "ثم الأقرب الصالح من العصبة" فلم يرد بذلك دليل يدل عليه لكنه قد صار القريب أولى بقريبه في كثير من الأمور وهذا منها مع كونه أحق الناس بالشفاعة له بصلاته عليه واصدقهم نية في ذلك وأخلصهم له دعاء لما تقتضيه القرابة من التراحم والتعاطف. وأما كون الصلاة تعاد إن لم يأذن الأولى فلكون الحق له ولم يأذن به فهو باق وليس في تكرار الصلاة إلا زيادة الخير للميت ولهذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر السوداء أو الأسود حيث دفنوه ولم يؤذنوا النبي صلى الله عليه وأله وسلم مع أن المعلوم أنهم لا يدفنونه إلا وقد صلوا عليه وهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر رطب [البخاري "1340"، مسلم "954"] .هذا والذي قبله ثابت في الصحيحين وغيرهما. قوله: "وفروضها النية". أقول: لما قدمنا من الأدلة الدالة على أنها فرض بل على أنها شرط يستلزم عدمه عدم المشروط كما تفيده الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه لا عمل إلا بنية وإنما الأعمال بالنيات والنفي متوجه إلي الذات الشرعية فالموجود في الخارج ليست ذاتا شرعية فمن خالف في وجوب النية فقد أخطأ ولم يصب.

قوله: "وخمس تكبيرات". أقول: قد ثبتت الخمس في صحيح مسلم ["72/957"] ، وغيره [أبو دأود "3197"، الترمذي "1023"، النسائي "4/72"، ابن ماجة "1505"، أحمد "4/367"] ، من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى قال كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وأنه كبر خمسا على جنازة فسألته فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها وأخرج أحمد ["7/231"] ، عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمسا ثم التفت فقال: ما نسيت ولا وهمت ولكن كبرت كما كبر النبي صلى الله عليه وسلم صلى جنازة فكبر خمسا وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري وهو متكلم عليه ولكن السنة التي هي أظهر من شمس النهار المروية من طريق جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعا وهو مذهب الجماهير قال ابن عبد البر إنه انعقد الإجماع بعد الاختلاف على أربع وأجمع الفقهاء وأهل الفتوى بالأمصار على أربع على ما جاء في الأحاديث الصحاح وما سوى ذلك عندهم فشذوذ لا يلتفت إليه قال ولا نعلم أحدا من أهل الأمصار يخمس إلا ابن أبي ليلى انتهى. وأخرج البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: كل ذلك قد كان أربعا وخمسا فاجتمعنا على أربع. واعلم أنه لم يصح شيء في الزيادة على الخمس ولا في النقص عن أربع مرفوعا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ بالأربع هو الذي لا ينبغي غيره لأن تلك الرواية عن زيد بن أرقم قد صرحت بأنه كان يكبر على الجنائز أربعا فلو علم ثبوت الخمس عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنه إلي الأربع في جميع صلاته على الجنائز إلا في تلك المرة الواحدة وعلى تقدير أنه وقع منه صلى الله عليه وسلم التكبير خمسا على جهة الندور والقلة فالذي ينبغي الاعتماد على ما هو الأعم الأغلب مما ثبت عنه ولا سيما بعد إجماع الصحابة ومن بعدهم عليه. وأما ما ذكره المصنف من فرضية القيام فلكون صلاة الجنازة لا تتم إلا به وهو ركنها الأعظم وقد قدمنا أنها فرض كفاية على المسلمين فكان القيام من هذه الحيثية فرضا. وأما ما ذكره من فرضية التسليم فلكونها صلاة وقد تقدم أن الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وقدمنا وجه الاستدلال بهذا الحديث على فرضية التسليم وفيه الكفاية قوله: "وندب بعد الأولى الحمد". أقول: صلاة الجنازة صلاة من الصلوات التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فهذا يكفي في كونها فرضا في صلاة الجنازة بل في كونها شرطا يستلزم عدمها عدم الصلاة فكيف وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في صلاة الجنازة فاتحة الكتاب. وأما قوله: "وبعد الثانية الصمد وبعد الثالثة الفلق"، فلم يرد في هذا شيء وإنما هو مجرد استحسان من بعض أهل العلم ولا يثبت بمثل ذلك شرع عام ولا خاص ولا تعبد الله أحدا من

خلقه برأي أحد من أهل العلم نعم ينبغي أن يضم إلي الفاتحة قراءة ما تيسر من القرآن وينبغي أن يعمد إلي سورة قصيرة فيقرأها ثم لا يشتغل بغير الدعاء للميت بعد كل تكبيرة بما ورد وبما لم يرد فهذا هو المقصود من صلاة الجنازة. وما ذكره من كون الدعاء بحسب حال الميت فحال المذنب أنه قد أتى به إلي إخوانه من المسلمين ليشفعوا له عند ربه ويسألونه المغفرة له والتجأوز عنه وقد أمروا بإخلاص الدعاء للأموات فينبغي لكل من صلى على ميت سواء كان الميت صالحا أو طالحا أن يدعو له بالأدعية الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان نفسه لا تطأوعه على ذلك فليتجنب الصلاة على الأموات ففي غيره من المسلمين من هو أرق قلبا منه وأكثر رحمة لإخوانه. قوله: "والمخافتة". أقول: قد ورد الجهر فأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أنه صلى على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وقال لتعلموا أنه من السنة فمعلوم أن قراءته هذه لا تكون إلا جهرا حتى يعلم ذلك من صلى معه وزاد النسائي ["1988"] ، بعد فاتحة الكتاب سورة وذكر أنه جهر ولفظه هكذا فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر ويؤيد ذلك ما ثبت في صحيح مسلم ["963"] ، وغيره [النسائي "4/73"، ابن ماجة "1500" أحمد "6/23، 28"، الترمذي "1025"] ، من حديث عوف بن مالك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظنا من دعائه الحديث فإن هذا يدل على أنه جهر بالدعاء فلا وجه لجعل المخافتة مندوبة وإن وردت في حديث أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه أخرجه الشافعي في مسنده وفي إسناده اضطراب وقواه البيهقي في المعرفة وأخرج عن الزهري معناه وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر وأخرجه أيضا النسائي وعبد الرزاق قال ابن حجر في الفتح وإسناده صحيح وليس فيه قوله بعد التكبيرة ولا قوله ثم يسلم سرا في نفسه. قوله: "وتقديم الابن للأب". أقول: لا يخفى أن صلاة الجنازة من جملة الصلوات وقد تقدم في صلاة الجماعة أن لعلو السن مدخلا في التقديم فليكن هنا كذلك فإن كان الابن أعلم بالسنة كان مقدما على الأب من هذه الحيثية. قوله: "ويكفي صلاة على جنائز". أقول: الأصل أن ذلك جائز صحيح إلا أن يرد ما يمنع من ذلك ولم يرد في ذلك شيء هذا على تقدير أنه لم يصل صلى الله عليه وسلم على جماعة بعد جماعة من قتلى أحد كما جزم به المحققون فإن جميع ما ورد في الصلاة عليهم في أسانيدها ضعف وقد أطلنا الكلام على ذلك في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه.

وأما ما ذكره المصنف رحمه الله من تشريك ما وصل من الجنائز بالنية فهو صحيح إذ لا عمل إلا بنية وصلاته على كل واحد عمل وهكذا رفع ما فرغ من التكبير عليه أو عزله بالنية لأن الصلاة قد تمت على الأول وبقي منها بقية للواصل. قوله: "فإن زاد عمدا أو نقص مطلقا أعاد". أقول: قد قدمنا لك أن ما ورد في النقص من أربع والزيادة على الخمس لم يثبت ثبوتا تقوم به الحجة فالزيادة على الخمس والنقص من أربع ابتداع إن وقع ذلك عمدا إلا إذا وقع سهوا وأما كون الصلاة تفسد بذلك فلا لما عرفناك غير مرة أنه لا يدل على الفساد المرادف للبطلان إلا دليل خاص يفيد أن عدم ذلك الشيء يوجب العدم أو أن وجوده مانع من الصحة. وأما ما ذكره من كون الدفن مانعا من الصلاة فخلاف ما ثبت في السنة ثبوتا متفقا عليه وقد قدمنا الإشارة إلي ذلك. وأما قوله: "وينتظر تكبير الإمام" فلا وجه له بل يكبر عند وصوله إلي الصف كسائر الصلوات. وأما كونه يتم ما فاته بعد التسليم قبل الرفع فهو صواب لأنه لم يرد ما يدل على أن الإمام يتحمل عنه. قوله: "وترتب الصفوف كما مر إلا أن الآخر أفضل". أقول: أما ترتيب الصفوف كما مر في الصلاة فهو صحيح لأن الجنازة صلاة من الصلوات فالدليل المتقدم في الصلوات الخمس جماعة وتقديم الرجال على الصبيان والصبيان على النساء ثابت هنا. وأما كون الآخر أفضل فلا دليل عليه بل هو خلاف الدليل الوارد في صلاة الجماعة فإنه مصرح بالترغيب في الأول وبأنه يتم الصف الأول ثم الذي يليه ثم كذلك فما ثبت في صلاة الجماعة ثبت في صلاة الجنازة لأن الكل صلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم وأما تكثير الصفوف ليكونوا ثلاثة فصاعدا حتى يستحق الميت المغفرة فلا بأس به كما ورد في حديث مالك بن هبيرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا ثلاثة صفوف إلا غفر له" أخرجه أحمد ["4/79"، أبو دأود "3166" والترمذي "1028"، وابن ماجه "1490"] ، وحسنه الترمذي وله شواهد وقد كان مالك بن هبيرة الرأوي لهذا الحديث إذا قل أهل الجنازة يجعلهم ثلاثة صفوف. وورد أيضا من حديث عائشة في صحيح مسلم] "58/947"] ، وغيره [الترمذي "1029"، النسائي 1992" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه"، وثبت في صحيح مسلم ["59/948"] ، أيضا وغيره [أبو دأود "3170"، ابن ماجة "1489"] ، من حديث ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه".

قوله: "ويستقبل الإمام سرة الرجل وثدي المرأة". أقول: الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو استقبال رأس الرجل وعجيزة المرأة ولا منافاة بين رواية استقبال وسط المرأة ورواية استقبال عجيزتها فإن عجيزتها هي وسطها ولم يرد ما يصلح لمعارضة هذا فلا وجه لما قاله الجلال إن الكل واسع وما ذكره عقب هذا فهو هوس منه. وأما قوله: "ويليه الأفضل فالأفضل" فالمراد الأفضل في الجنس فيلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء وقد قدم إلي ما يلي الإمام الصبي على المرأة بمحضر من جماعة من الصحابة وشهدوا أن ذلك هو السنة كما أخرجه أبو دأود ["3193"، والنسائي "1977"] ، ورجال إسناده ثقات. وأما الأفضل باعتبار المزايا الدينية فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقدم في القبر أكثرهم قرآنا أي يكون مما يلي القبلة فلا يبعد أن يقدم عند الصلاة على رجلين أو ثلاثة فصاعدا أفضلهم في المزايا الدينية باعتبار الظاهر كأن يكون أحدهم عالما والآخر غير عالم فيكون العالم مما يلي الإمام. [فصل ثم يقبر على ايمنه مستقبلا ويواريه من له غسله أو غيره للضرورة وتطيب أجرة الحفر والمقدمات. وندب اللحد وسله من مؤخره وتوسيده نشزا أو ترابا وحل العقود وستر القبر حتى توارى المرأة وثلاث حثيات من كل حاضر ذاكرا لله تعالي ورشه وتربيعه ورفعه شبرا. وكره ضد ذلك والإنافة بقبر غير فاضل وجمع جماعة إلا لتبرك أو ضرورة والفرش والتسقيف والآجر والزخرفة إلا رسم الاسم ولا ينبش لغصب قبر وكفن ولا لغسل وتكفين واستقبال وصلاة ولا تقضى بل لمتاع سقط نحوه. ومن مات في البحر وخشي تغيره غسل وكفن وأرسب. ومقبرة المسلم والذمي من الثرى إلي الثريا فلا تزدرع ولا هواؤها حتى يذهب قرارها ومن فعل لزمته الأجرة لمالك المملوكة ومصالح المسبلة فإن استغنت فلمصالح الأحياء دين المسلمين ودنيا الذميين. ويكره اقتعاد القبر ووطؤه ونحوهما ويجوز الدفن متى ترب الأول لا الزرع ولا حرمة لقبر حربي قوله: "فصل ثم يقبر على أيمنه مستقبلا". أقول: هذا معلوم في الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلي الاستدلال عليه فما مات مسلم منذ

ظهور النبوة المحمدية إلي الآن إلا وقبر على هذه الصفة إلا لعذر كمن يموت في البحر ونحوه بل وقع منه صلى الله عليه وسلم الأمر بمواراة قتلى المشركين في يوم بدر وجعل لهم قليب دفنوا فيه والأمر أشهر من أن يذكر. قوله: "ويواريه من غسله أو غيره للضرورة". أقول: لا دليل على هذا بل الدليل على خلافه فإنه قد ثبت في البخاري ["1342"] ، وغيره أنها لما ماتت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة عثمان جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبر وقال: "هل من أحد لم يقارف الليلة؟ " فقال أبو طلحة: أنا قال: "فانزل في قبرها" وفي رواية لأحمد عن أنس أنها رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجة عثمان فقد واراها ونزل في قبرها أبو طلحة مع حضور زوجها ووالدها وأما قوله: "وتطيب أجرة الحفر والمقدمات" فلا وجه لذلك بعد جعل الدفن واجبا على الكفاية وسيأتي الكلام على ذلك في الإجارات إن شاء الله تعالي. قوله: "وندب اللحد". أقول: حديث: "اللحد لنا والشق لغيرنا" أخرجه أحمد وأهل السنن] أبو دأود "3208"] ، الترمذي "1045"، النسائي "2009"، ابن ماجة "1554"] ،عن ابن عباس مرفوعا وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر وفيه ضعف وله شاهد من حديث جرير مرفوعا بنحوه أخرجه أحمد والبزار وابن ماجه وفي إسناده عثمان بن عمير وفيه ضعف وفي الحديثين دليل على مشروعية اللحد وأنه الذي ينبغي للمسلمين. ولا ينافي هذا ما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أنس قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رجل يلحد وآخر يضرح فقالوا نبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فسبق صاحب اللحد فلحدوا له قال ابن حجر إسناده حسن وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس لأن مجرد تردد من حضر من الصحابة لا تقوم به الحجة بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" وأيضا قد اختار الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم اللحد كما في هذا الحديث وهو ثابت في صحيح مسلم ["90/966"] ، وغيره [النسائي "4/80"] ، من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص قال قال ألحدوا لى لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وسله من مؤخره". أقول: مؤخر القبر هو الذي يكون عند رجلي الميت ويدل على كون ذلك مشروعا ما أخرجه أبو دأود ["3211"] ، وسعيد بن منصور في سننه ورجاله رجال الصحيح عن أبي إسحق قال أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله يزيد فصلى عليه ثم أدخله القبر من قبل رجلي القبر وقال هذا من السنة ولا يعارض هذا ما أخرجه الشافعي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سل من قبل رأسه سلا فإن المعنى أنه سل من جهة رأسه من قبل رجلي القبر وعلى تقدير احتماله لغير هذا المعنى فلا تقوم به الحجة لأمرين الأول أنه مرسل والثاني أنه فعل بعض الصحابة ولا تقوم به الحجة كما تقدم.

وأما ما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وابن مسعود وبريدة أنهم أدخلوا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة فقد ضعف هذا الحديث البيهقي وأيضا لا تقوم به الحجة لأنه فعل لبعض الصحابة قال في البدر المنير إن ذكر أنه دخل النبي صلى الله عليه وسلم من جهة القبلة وهو غير ممكن كما ذكره الشافعي في الأم وأطنب في الشناعة على من يقول ذلك ونسبه إلي الجهالة ومكابرة الحس انتهى. وأما قوله: "وتوسيده نشزا أو ترابا وحل العقود" فلم يرد في هذا شيء والاقتداء بما ثبت في الشريعة أولى من ابتداع ما ليس فيها. وأما قوله: "وستر القبر حتى توارى المرأة" ففي ذلك ما ذكره سعيد في سننه في رواية من حديثه السابق أن عبد الله بن زيد قال أنشطوا الثوب فإنما يصنع هذا بالنساء وأخرجه الطبراني وقال إنه لم يدعهم يمدون ثوبا وقال هذا السنة ويعارضه ما رواه عبد الرزاق من حديث سعد بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر على قبر سعد بن معاذ حين دفن ولكن في إسناده مجهول فلا تقوم به الحجة وأيضا قد قيل إن سبب ذلك أن لا تظهر رائحة من جرح سعد الذي مات به. قوله: "وثلاث حثيات من كل حاضر ذاكرا". أقول: استدل لذلك بما أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثى عليه من قبل رأسه ثلاثا ورجال إسناده ثقات وأما أبو حاتم فقال في العلل هذا الحديث باطل وقال ابن حجر إسناده ظاهر الصحة لكن أبو حاتم إمام لم يحكم عليه بالبطلان إلا بعد أن تبين له قال وأظن العلة فيه عنعنة الأوزاعي وعنعنة شيخه اهـ. ويؤيده ما أخرجه البزار والدرقطني عن عامر بن ربيعة قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين دفن عثمان بن مظعون صلى عليه وكبر عليه أربعا وحثى على قبره بيديه ثلاث حثيات من التراب وهو قائم عند رأسه وزاد البزار فأمر فرش عليه الماء وقال البيهقي وله شاهد من حديث جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا وله شاهد آخر عند أبي دأود في المراسيل أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى على قبر ثلاثا وفي إسناده مجهول كما قال أبو حاتم وشاهد ثالث عند البيهقي من حديث أبي أمامة قال توفي رجل فلم نصب له حسنة إلا ثلاث حثيات حثاها على قبر فغفرت له ذنوبه وشاهد رابع أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة مرفوعا: "من حثى على قبر مسلم احتسابا كتب له بكل ثراة حسنة" قال ابن حجر: إسناده ضعيف. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فتدل على أن لذلك أصلا في الشريعة وأما ما يشرع من الذكر فأخرج أحمد ["2/27، 40، 59، 69، 127، 128"، وأبو دأود "3213"، والترمذي 1046"، وابن ماجه 1550"] ، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان إذا وضع الميت في القبر قال: "بسم الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي لفظ "وعلى سنة رسول الله" وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم.

وأخرج الحاكم والبيهقي عن أبي أمامة قال لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله" قال ابن حجر وسنده ضعيف. قوله: "ورشه". أقول: استدل على ذلك بما أخرجه الشافعي وسعيد بن منصور والبيهقي عن جعفر ابن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه إبراهيم الماء وهو مرسل وعن جابر عند البيهقي قال رش على قبر النبي صلى الله عليه وسلم الماء رشا فكان الذي رش على قبره بلال بن أبي رباح بدأ من قبل رأسه من شقه الأيمن حتى انتهى إلي رجليه ولا يصح الاستدلال بهذا لوجهين الأول أنه لا حجة في فعل بلال الثاني أن في إسناده الواقدي والكلام فيه معروف وقد تقدم ذكر الرش في حديث عامر ابن ربيعة المذكور في القول الذي قبل هذا. قوله: "وتربيعه". أقول: قد اتفق أهل العلم على جواز التربيع والتسنيم وإنما اختلفوا في الأفضل فاستدل القائلون بأن التسنيم أفضل بما أخرجه البخاري في صحيحه ["3/198"،ن 199"] عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسما واستدل القائلون بالتربيع بما أخرجه أبو دأود عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة قال قلت يا أمة بالله اكشفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة وقد عرفت أن هذا فعل لبعض الصحابة ولكن حديث أبي الهياج الأسدي عن علي قال أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته أخرجه مسلم ["969"، وأبو دأود "3218"، والترمذي 1049"، والنسائي 2031"] ، يدل على أن التربيع أفضل لأن التسنيم بعض إشراف. قوله: "ورفعه شبرا". أقول: رفع القبر هو من الإشراف الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم فلا يباح منه إلا ما ورد الإذن به وقد أخرج أبو دأود في المراسيل عن صالح بن صالح قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم شبرا أو نحو شبر وأخرج أبو بكر الآجري في صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عثيم بن بسطام المديني قال رأيت قبر النبي صلى الله عليه في إمارة عمر بن عبد العزيز فرأيته مرتفعا نحوا من أربع أصابع وقد قدمنا لك أن هذا إنما هو من فعل بعض الصحابة فلا تقوم به الحجة وقد ثبت النهي عن أن يبنى على القبور كما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر. قوله: "وكره ضد ذلك". أقول: ما دل عليه دليل مما تقدم بدون ما يقتضي الحتم ولا كراهة الترك فليس تركه مكروها وغايته أنه خلاف الأولى وأما ما لم يدل عليه دليل فتركه أولى من فعله لأن فعله ابتداع.

وأما ما ورد فيه النهي كرفع القبر فهو حرام لا كراهة تنزيه هكذا ينبغي أن يقال في أضداد هذه المذكورات. قوله: "والإنافة بقبر غير فاضل". أقول: هذا اعتزاز بما وقع من الناس لا سيما الملوك والأكابر من رفع قبورهم وجعل القباب عليها وهذا حرام بالأدلة الصحيحة الثابتة في الصحيح وغيره من طرق توجب العلم اليقين فمنها الأمر بتسوية القبور كما تقدم ومنها النهي عن البناء عليها كما تقدم أيضا ومنها النهي عن اتخاذ القبور مساجد ولعن فاعل ذلك وغير ذلك مما هو مبين في كتب السنة. وبالجملة فما هذه أول شريعة صحيحة وسنة قائمة تركها الناس واستبدلوا بها غيرها ولكن هذه البدعة قد صارت وسيلة لضلال كثير من الناس لا سيما العوام فإنهم إذا رأوا القبر وعليه الأبنية الرفيعة والستور الغالية وانضم إلي ذلك إيقاد السرج عليه تسبب عن ذلك الاعتقاد في ذلك الميت ولا يزال الشيطان يرفعه من رتبة إلي رتبة حتى يناديه مع الله سبحانه ويطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل ولا يقدر عليه سواه فيقع في الشرك. فليت شعري ما وجه تخصيص قبور الفضلاء بهذه الداهية الدهياء والمعصية الصماء العمياء فإنهم أحق من غيرهم باتباع السنة في قبورهم وترك ما حرمته الشريعة على الناس. قوله: "وجمع جماعة إلا لتبرك وضرورة". أقول: الثابت في هذه الشريعة ثبوتا قطعيا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل لكل ميت حفرة مستقلة وكان هذا معلوما لا ينكره أحد ووقع منه جمع جماعة في قتلى أحد للضرورة وتضييق الحادثة فليقتصر على الضرورة ويكون الجمع فيما عدا الضرورة خلاف الشريعة والكراهة اقل ما يتصف به. وأما الجمع للتبرك فلم يرد في هذا شيء لأن الكلام في جمع جماعة من الأموات في حفرة واحدة لا في حفر متجأورة فليس ذلك مما نحن بصدده. وأما ما ذكره من كراهة الفرش للقبر فلكون الواقع في زمن النبوة بمرأى ومسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وضع الميت على الأرض ففي فرش القبر مخالفة للسنة الثابتة مع ما في ذلك من كونه من إضاعة المال التي ثبت النهي عنها وما روي من أن بعض الصحابة وضع قطيفة حمراء في قبره صلى الله عليه وسلم فلا حجة في ذلك على أنه قد روى أنهم أخرجوها. وأما كراهة التسقيف للقبر فلكونه خلاف الشريعة الثابتة المستمرة المستقرة من أنهم كانوا بعد وضع الميت في حفرته يهيلون عليه التراب حتى يستوي على الأرض وأيضا هذا التسقيف يصدق عليه أنه بناء على القبر وهو منهي عنه كما تقدم. وأما كراهة إدخال الآجر فلم يرد بذلك دليل وهي مثل اللبن الذي كانوا يفعلونه في أيام النبوة وأصلب منه وهكذا إدخال الأحجار وجعلها على اللحد فلا وجه للقول بالكراهة. قوله: "والزخرفة إلا رسم الاسم".

أقول: الزخرفة حرام لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يجصص كما في صحيح مسلم ["970"] ، وغيره [أحمد "3/399"، أبو دأود "3225"، الترمذي "1052"، النسائي "2027"، ابن ماجة"1562"] ، وأما استثناء المصنف لرسم الاسم فمن نصب الرأي الفاسد في وجه الدليل الصحيح فقد ثبت عند الترمذي ["1052"] ، وغيره [ابن ماجة "1563"، أبو دأود "3226"، وقال صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يكتب على القبر وهكذا رواه النسائي بلفظ النهي عن أن يكتب على القبر قال الحاكم الكتابة على القبر وإن لم يذكرها مسلم فهي على شرطه. قوله: "ولا ينبش لغصب قبر ولا كفن". أقول: قد علم بالضرورة الدينية عصمة مال المسلم وأنه لا يخرج عن ملكه إلا بوجه مسوغ فمن زعم أن الدفن من مسوغات ذلك فعليه الدليل ولا دليل وقد تقدم أنه يشق بطنه لاستخراج ماله في نفسه لكون ذلك إضاعة مال فكيف لا ينبش للمال الذي اغتصبه وهو الكفن أو الأرض التي دفن فيها مع كونه إتلاف لمال محترم معصوم بعصمة الإسلام وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اغتصب شبرا من الأرض طوقه الله من سبع أرضين" [البخاري "2453"، مسلم "142/ 1612"] ، فكيف بمن اغتصب قبرا هو عدة أشبار وهكذا ينبش إذا ترك بغير غسل لأن الغسل واجب شرعي لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل هذا إذا كان يظن أن جسمه لم يتفسخ وأن غسله ممكن وهكذا التكفين لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل لأنه واجب شرعي لا يسقط إلا بمسقط شرعي. وأما مجرد الاستقبال فلم ينتهض الدليل على وجوبه حتى ينبش لتركه. وأما الصلاة فقد قدمنا ثبوت الصلاة على القبر بالأدلة الصحيحة وذلك يكفي ويسقط الواجب ويحصل به مطلوب الميت من الشفاعة. وأما قوله: "بل لمتاع سقط" فصواب لما قدمنا. ومن غرائب المصنف الفرق بين غصب القبر والكفن وبين المتاع الساقط في القبر مع كون الكل من أهلاك مال الغير وإضاعته مع اختصاص الأول بكونه غصبا. قوله: "ومن مات في البحر وخشي تغيره" الخ أقول: هذا صواب وليس في الإمكان غير ما قد كان وأما كونه لا يجوز ذلك إلا مع خشية التغير فلا وجه له ولا دليل عليه بل هو مصادم لأدلة تعجيل تجهيز الميت التي قدمنا ذكرها. قوله: "وحرمة مقبرة المسلم والذمي من الثرى إلي الثريا". أقول: مجرد الحرمة يدل عليها ما أخرجه أحمد ["5/83، 84، 224"، أبو دأود "3230"، والنسائي "4/96"، وابن ماجه "1568"] ، والحاكم وصححه من حديث بشر بن الخصاصية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يمشي في نعلين بين القبور فقال: "يا صاحب السبتيتين ألقهما" فإذا كان المشي على المقبرة بالنعال ممنوعا فازدراعها وتغيير رسمها وإذهاب قرارها ممنوع بفحوى الخطاب ولكن إلحاق مقبرة أهل الذمة بالمسلمين إن كان من جهة كونهم في أمان المسلمين

بتسليم الجزية إليهم فذلك حكم خاص بالأحياء وأما الأموات فقد خرجوا عن العهد وصاروا إلي النار فكيف تكون حرمة مقبرة الكافر الذي هو من أهل النار بالاتفاق كمقبرة المسلم وإن كان الدليل دل على ذلك فما هو؟. وأما ما ذكره تفريعا على هذه المسألة من لزوم الأجرة إلخ فهو مجرد رأي لا دليل عليه والأصل احترام مال المسلم فلا يؤخذ منها إلا بمسوغ شرعي وليس هذا بمسوغ شرعي بل قد اثم بما فعله وغاية ما يجب عليه إصلاح ما أفسده بحسب الإمكان. قوله: "ويكره اقتعاد القبر ووطؤه ونحوهما". أقول: أما الاقتعاد فلحديث أبي هريرة عند مسلم ["971"، وأحمد "2/311، 389، 444"، وأبي دأود "3228"، والنسائي "2044"، وابن ماجه "1566" قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلي جلده خير له من أن يجلس على قبر". وأخرج أحمد من حديث عمرو بن حزم قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على قبر فقال: "لا تؤذ صاحب هذا القبر". قال ابن حجر وإسناده صحيح. وأما وطء القبر فلما أخرجه مسلم "971"، وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: "لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن أطأ على قبر"، ولفظ الطبراني "أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم". وأما قبر الحربي فلا حرمة له كما ذكر المصنف لما ثبت في كتب السير والحديث [البخاري "428"، مسلم "9/524"، ابن ماجة "742"، أبو دأود "453"، النسائي "702"، أحمد "3/211، 212"، الترمذي "350"] : "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسجده على مقبرة كانت للمشركين بعد أن نبش قبورهم" وهم وإن ماتوا قبل البعثة المحمدية فقد كانوا مخاطبين بإجابة من تقدم من الأنبياء عليهم السلام. [فصل وندبت التعزية لكل بما يليق به وهي بعد الدفن أفضل وتكرار الحضور مع أهل المسلم المسلمين] . قوله: فصل: "وندب التعزية لكل بما يليق به". أقول: يدل على ذلك حديث عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة"، أخرجه ابن ماجه "1601"] ، وكل رجاله ثقات إلا قيسا ابا عمارة ففيه لين ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عزى مصابا فله مثل أجره" وأعل بتفرد علي بن عاصم بوصله وقد وثقه

جماعة واثنى عليه كثير من الحفاظ وله شواهد تقويه وينبغي أن تكون التعزية بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "5655"، مسلم "6/224"] ، وغيرهما [أحمد "5/204، 206"، النسائي "4/2، 22"] ، من حديث أسامة بن زيد قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت فقال للرسول: "ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب" وهذا لا يقتصر على السبب بل كل شخص يصلح أن يقال له وفيه ذلك ولا وجه لقوله: "وهي بعد الدفن أفضل" بل بنبغي التعزية عند الموت أو عند حضور علاماته أو بعد الموت لأن التعزية هي التسلية. وأما ما ذكره من تكرر الحضور مع أهل الميت فلم يرد في ذلك دليل يدل عليه بل أخرج أحمد ["8/94"، وابن ماجه "1612"] ، عن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا نعد الاجتماع إلي أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة وإسناده صحيح ولكنه ورد في صنعة الطعام ما أخرجه أحمد ["1/205"،وأبوا دأود "3132"،والترمذي 998"، وابن ماجه "1610"] ، عن عبد الله بن جعفر قال لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعأما فقد أتاهم ما يشغلهم" وحسنه الترمذي وصححه ابن السكن وأخرجه أيضا أحمد ["8/93" وابن ماجه "1611:"] ، والطبراني من حديث اسماء بنت عميس وهي أم عبد الله بن جعفر.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة مدخل ... كتاب الزكاة [فصل تجب في الذهب والفضة والجواهر واللالئ والدر والياقوت والزمرد والسوائم الثلاث وما انبتت الأرض والعسل من ملك ولو وقفا أو وصية أو بيت مال لا فيما عداها الا لتجارة أو استغلال] . قوله: فصل: "تجب في الذهب والفضة" الخ. أقول: أما وجوب الزكاة في الذهب والفضة فلا شك في ذلك للأدلة الصحيحة وسيأتي الكلام عليها في باب زكاة الذهب والفضة. وأما وجوبها في الجواهر المذكورة فليس على ذلك دليل ولعله يأتي تحقيق الكلام ان شاء الله عند ذكرها في باب زكاة الذهب والفضة. وهكذا يأتي تفصيل الكلام على زكاة السوائم وأما انبتت الأرض والغسل.

وأما وجوب الزكاة في الوقف والوصية وبيت المال فليس على ذلك دليل الا عمومات لا تنطبق دلالتها على محل النزاع. وهكذا يأتي الكلام على زكاة التجارة والمستغلات وإنما أراد المصنف بعقد هذا الفصل حصر ما تجب فيه الزكاة. [فصل وإنما تلزم مسلما كمل النصاب في ملكه طرفي الحول متمكنا أو مرجوا وان نقص بينهما ما لم ينقطع وحول الفرع حول أصله وحول البدل حول مبدله ان اتفقا في الصفة وللزيادة حول جنسها وما تضم اليه قيل ويعتبر بحول الميت ونصابه ما لم يقسم المال أو يكون مثليا أو يتحد الوارث. وتضيق بإمكان الأداء فيضمن بعده وهي قبله كالوجيعة قبل طلبها. وإنما تجزئ بالنية من المالك المرشد وولي غيره أو الإمام أو المصدق حيث أجبرا أو أخذا من نحو وديع مقارنة لتسليم أو تمليك فلا تتغير بعد وان غير أو متقدمة تتغير قبل التسليم. وتصح مشروطة فلا يسقط بها المتيقن ولا يردها الفقير مع اللإشكال] . قوله: فصل: "وإنما تلزم مسلما". أقول: جعل الإسلام شرطا للزوم الزكاة صواب ولا ينافيه القول بأن الكفار مخاطبون بالشرعيات لأن معنى خطابهم بها عند من قال به هو أنهم يعذبون بترك ما يجب فعله وفعل ما يجب تركه لأن ذلك مطلوب منهم في حال كفرهم ولم يذكر المصنف ها هنا اشتراط التكليف لان الزكاة من الواجبات المتعلقة بالأموال سواء كان المالك مكلفا أو غير مكلف ولكن لا يخفى عليك ان غير المكلف مرفوع عنه قلم التكليف فلا بد من دليل يدل على استحلال جزء من ماله وهو الزكاة ولم يرد في ذلك إلا عمومات يصلح ما ورد في رفع القلم عن غير المكلف لتخصيصها ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في خصوص ذلك يصلح للتمسك به ولا حجة في فعل بعض الصحابة والأموال معصومة بعصمة الإسلام فلا يحل استباحة شيء منها بمحرد مالا تقوم به الحجة لا سيما أموال الأيتام التي ورد في التشديد في أمرها ما ورد. وأما حديث: "من ولي يتيما فليتجر له ولا يتركه تأكله الصدقة" فأخرجه الترمذي ["641"] والدارقطني والبيهقي وفي إسناده المثنى بن الصباح وهو ضعيف وقال أحمد بن حنبل ليس هذا الحديث بصحيح وروى بأسانيد أخرى فيها متروكون وضعفاء.

وهكذا حديث: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة"، لا تقوم به الحجة فإنه رواه الشافعي مرسلا وروى من طرق لا تصح. وأما وجوب الفطرة على غير المكلف فليس ذلك من تكليف غير المكلف بل من تكليف ولله كما صرحت به الأدلة وأنه يخرجها من مال نفسه عنه وعمن ينفقه. وأما ما ورد في الزكاة من أنها تؤخذ من الأغنياء وترد في الفقراء فهذا متوجه إلي المكلفين كغيره من التكاليف ودعوى أن غير المكلفين داخلون في هذا مصادرة على المطلوب لأنه استدلال بمحل النزاع. قوله: "كمل النصاب في ملكه طرفي الحول" أقول: قد دلت الأدلة في كل نوع من الأنواع التي تجب فيها الزكاة على إن له نصابا معلوما يتعلق الوجوب به ويسقط الوجوب إن لم يكمل فمن زعم انه يثبت الوجوب في دون النصاب من كل نوع فقد خالف الأدلة الصحيحة فإن تمسك بعمومات أو مطلقات فقد ترك العمل بالمخصصات والمقيدات وذلك تقصير في الاجتهاد وترك لما يجب العمل به وإعمال لبعض الأدلة وإهمال للبعض الآخر. وأما ما ورد في الشريكين فسياتي أنه صلى الله عليه وسلم جعل اجتماع الغنم في المسرح والمراح بمنزلة الاجتماع في الملك. وأما قوله: "طرفي الحول" فذلك فيما كان حول الحول شرطا له لأما كان المعتبر فيه حصول نصاب منه عند حصوله كما أخرجت الأرض. ثم الظاهر انه لا بد من استمرار كمال النصاب في جميع الحول من كل نوع من الأنواع التي اعتبر فيها الحول فإذا نقص المال عن النصاب في بعض الحول ثم كمل بعد ذلك استأنف التحويل من عند كماله إذا لم يكن النقص لقصد التحيل لعدم وجوب الزكاة. وظاهر ما ورد في اعتبار الحول انه لا بد ان يكون النصاب كاملا من أوله إلي آخره كما في حديث على عند [أحمد "1/148"، وأبي دأود "1573"، والبيهقي: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". وحديث ابن عمر عند أحمد وأبي دأود والترمذي بلفظ: "من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول". وحديث علي أيضا عند أبي دأود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار" وقد نقل عن البخاري تصحيحه وحسنه ابن حجر. وقد ورد اعتبار الحول من حديث عائشة عند ابن ماجه [1792"] ، والدارقطني والبيهقي والعقيلي وفي إسناده حارثة بن أبي الرجال وفيه ضعف ومن حديث أنس عند الدارقطني وفيه

حسان بن سياه وهو ضعيف ومن حديث ابن عمر أيضا عند الدارقطني والبيهقي وفيه إسماعيل بن عياش. ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة في اعتبار الحول واعتبار ان يكون النصاب كاملا من أول الحول إلي آخره ولا يشترط أن يكون في يده بل إذا كان في يد غيره وديعة أو نحوها وكان متمكنا من اخذه متى أراده فهو في حكم الموجود لديه وهكذا إذا كان دينا على الغير وكان يتمكن منه متى أراد فهو في حكم الموجود لديه لا إذا كان لا يتمكن منه متى أراد فهو في حكم المعدوم فيستأنف التحويل له من عند قبضه ومثله المال المأيوس من رجوعه إذا رجع. قوله: "وحول الفرع حول أصله". أقول: استدلوا على هذا بما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي عن سفيان بن عبد الله الثقفي ان عمر بن الخطاب قال له تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا تأخذها ولكنه قد ثبت في المرفوع ما يدل على عدم الاعتبار بالصغار فأخرج أحمد وأبو دأود والنسائي والدارقطني والبيهقي من حديث سويد بن غفلة قال اتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول ان في عهدي انا لا نأخذ من راضع لبن وهذا يدل على ان الزكاة لا تؤخذ من راضع لبن. وظاهره عدم الفرق بين ان يكون منفردا أو مع الامهات واحاديث اعتبار الحول تدل على انه لا بد من ان يحول على الفرع وأما قوله وحول البدل حول مبدله فظاهر أحاديث الحول انه لا بد من ان يحول على البدل الحول لانه مال مستفاد وان كان بدلا عن مال اصلى فلا تأثير لذلك وهكذا لا يكون للزيادة حول جنسها بل لا بد ان يكون نصابا وحال عليها الحول فمن كان له نصاب ثم استفاد زيادة عليه فلا يجب في تلك الزيادة شيء حتى تكمل نصابا فإذا كملت نصابا فلا بد ان يحول عليها الحول عملا بظاهر الادلة وإذا لم تضم الزيادة إلي جنسها قعدم ضمها إلي غير جنسها بالأولى فلا وجه لقوله: "وما تضم اليه". وأبعد من هذا كله قول من قال إنه يعتبر لحول الميت ونصابه فإن هذا تكليف يخالف موارد الشريعة لان الميت مات ولم تجب عليه زكاة والحي صار اليه المال ودخل في ملكه بعد ان كان في ملك غيره فكيف يخاطب بزكاة مالم يستقر في ملكه الا بعض الحول. قوله: "وتضيق بإمكان الأداء". أقول: المراد انه يتضيق الوجوب على من عليه الزكاة إذا كان الوجوب قد ثبت عليه بكمال النصاب وحول الحول فيما يعتبر فيه الحول بإمكان الأداء وهو ان لايحول بينه وبين المال حائل ويحضر المصرف فإذا لم يمكن الوصول إلي المال ولاحصور المصرف فتكليف المزكي بإخراج الزكاة والحال هكذا من تكليف مالا يطاق وأما مع إمكان الأداء فلم يبق للمزكي عذر في التأخير فإن فات المال ضمنه وكون الواجبات على الفور هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة خصوصوا الزكاة التي ثبت فيها انه يقاتل من هي عليه حتى يؤديها وان عصمة ماله ودمه متوقفة

على اخراجها وثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فأنا آخذها وشطرا من ماله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالي" [أحمد"5/422"، أبو دأود "1575"، النسائي "2444"] ، وأما كونها تجزئ بالنية فلكو نها عمل من الاعمال التي يقول فيها صلى الله عليه وسلم: "إنما الاعمال بالنيات" ويقول فيها: "لا عمل إلا بنية" بل هي ركن من أركان الإسلام وضرورية من الضروريات الدينية ما ذكره المصنف بعد هذا إلي آخر الفصل فهو غني عن البيان. [فصل ولا تسقط ونحوها بالردة ان لم يسلم ولا بالموت أو الدين لادمي أو لله تعالي وتجب في العين فتمنع الزكاة وقدتجب زكاتان من مال ومالك وحول واحد] . قوله: فصل: "ولا تسقط ونحوها بالردة" أقول: الزكاة قد لزمته في حال إسلامه فخروجه من الإسلام أو موته لا يسقط هذا الواجب الذي قد وجب عليه الا بدليل ولا دليل وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "فدين الله احق ان يقضي"، [البخاري "1953"، مسلم "154/1148"] ، والزكاة من دين الله نعم إذا رجع إلي الإسلام كان حديث: "الإسلام يجب ما قبله" دليلا على سقوطها عليه لان ظاهره عدم الفرق بين ما كان في أيام كفره أو ايام إسلامه وتقييده بما كان في أيام الكفر يحتاج إلي دليل. وأما حديث: "أسلمت على ما اسلفت من خير" [البخاري "1436"، مسلم "195، 123"، أحمد "3/402"] ، فهو في الطاعات التي يفعلها الكافرفي حال كفره ثم يسلم بعد ذلك وهكذا لا تسقط الزكاة بدين على المزكي سواء كان من ديون الله سبحانه أو من ديون بني آدم لان وجوب الزكاة لا يرتفع بوجوب شيء آخر الا بدليل. قوله: "وتجب في العين فتمنع الزكاة". أقول: الثابت في أيام النبوة ان الزكاة كانت تؤخذ من عين المال الذي تجب فيه وذلك معلوم لا شك فيه وفي أقواله صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلي ذلك ويدل عليه كقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلي اليمن: "خذ الحب من الحب والشاة من الغنم والبعير من الإبل والبقرة من البقر"، أخرجه أبو دأود ["1599"، وابن ماجه "1814"، والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. وإذا عرفت هذا صار مقدار الزكاة في حكم الخارج عن ملك المزكي فلا يكمل به النصاب ولا يلزم فيه الزكاة. وأما قوله: "وقد تجب زكاتان من مال ومالك وحول واحد" فذلك غير صحيح وبيانه انهم مثلوا لذلك بمن بذر الارض بحب للتجارة قالوا فإنه عندالحصاد يلزمه زكاتان زكاة التجارة

وزكاة الحصاد ولا يخفاك ان ذلك الحب الذي كان للتجارة ان بذر به الارض بعد ان حال عليه الحول فقد وجبت الزكاة بحول الحول فإذا بذر به في الارض لم يبق للتجارة ولا وجبت زكاة الحصاد فيه بل في الخارج من الارض بعد ان صار ذلك الحب مستهلكا لا وجود له فزكاة التجارة وجبت في مال وزكاة الحصاد وجبت في مال آخر ولم تجب في مال واحد فهذه المسألة من اصلها مبنية على غير الصواب.

باب في نصاب الذهب والفضة

[باب في نصاب الذهب والفضة وفي نصاب الذهب والفضة ربع العشر وهو عشرون مثقالا ومائتا درهم كملا كيف كانا غيرمغشوشين ولو رديئين المثقال ستون شعيرة معتادة في الناحية والدرهم اثنتنان واربعون لافيما دونه وان قوم بنصاب الاخر الا على الصيرفي] . قوله: باب: "وفي نصاب الذهب والفضة ربع العشر". أقول: أما وجوب ربع العشر في نصاب الذهب الفضة المضروبين فقد دلت على ذلك الادلة الصحيحة وهو مجمع عليه وأما كون نصاب الفضة مائتي درهم فيدل على ذلك حديث أبي سعيد عند الشيخين [البخاري "1447"، مسلم "979"] ، وغيرهما [أبو دأود "1558"، أحمد "3/86"، 3/6"] ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة"، وأخرجه أيضا مسلم ["980"، النسائي "5/36"] ، من حديث جابر. قالوا ومقدار الأوقية في هذا الحديث اربعون درهما فهو موافق لما أخرجه أحمد ["1572"، وأبو دأود "8/238"، والترمذي "620"، من حديث على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهما وليس في تسعين ومائة شيء فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم". وأما كون نصاب الذهب عشرين مثقالا فالدليل على ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث علي عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عليك شيء - يعني في الذهب - حتى تكون لك عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار". وقد قيل ان المثقال هو قدر الدينار ولهذا جعل المصنف نصاب الذهب عشرين مثقالا. قوله: "كيف كانا". أقول: يريد انه لا فرق بين ما كان مضروبا من الذهب والفضة وما كان غير مضروب كالحلية وقداختلف في وجوب الزكاة في الحلية واستدل الموجبون لها فيها بما أخرجه أبو دأود ["1563"، والترمذي "637" والنسائي "5/38"] ، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن

جده ان امرأتين اتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ايديهما سواران من ذهب فقال لهما: "أتعطيان زكاة هذا؟ " قالا: لا, قال: "أيسركما أن يسوركما الله تعالي بهما يوم القيامة سوارين من نار" لكنه قال الترمذي لا يصح في الباب شيء. وأخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "ليس في أقل من خمس ذود صدقة ولا في أقل من عشرين مثقالا شيء ولا في اقل من مائتي درهم شيء" وإسناده ضعيف. ولفظ المثقال يطلق على المضروب من الذهب وعلى غير المضروب. وأخرج أبو دأود ["1564"، والحاكم عن ام سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنز هو؟ قال: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكى فليس بكنز" فهذا فيه إشارة إلي تزكية الحلية من الذهب. وأخرج أحمد ["6/460"] ، عن اسماء بنت يزيد قالت دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم وعلينا أسأور من ذهب فقال لنا: "أتعطيان زكاته؟ " فقلنا: لا قال: "أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار أديا زكاته". وأخرج البيهقي والحاكم عن عائشة انها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدها فتخات من ورق فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " فقالت: صغتهن أتزين لك بهن يا سول الله فقال: "أتؤدين زكاتهن" قالت: لا قال: "هن حسبك من النار" قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. ولا يصح استدلال من استدل على وجوب الزكاة في الحلية بما ورد من ذكر الزكاة في الورق والزكاة في الرقة في الاحاديث لانه قد ثبت في كتب اللغة الصحاح والقاموس وغيرهما ان الورق والرقة اسم للدراهم المضروبة فلا يصح الاستدلال بهذين اللفظين على وجوب الزكاة في الحلية بل هما يدلان بمفهومهما على عدم وجوب الزكاة في الحلية بما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد مرفوعا بلفظ: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" وأخرجه مسلم أيضا من حديث جابر ووجه عدم صحة الاستدلال بهذا انه قد بينه بقوله من الورق والورق هي الدراهم المضروبة كما عرفت فلا تدخل في ذلك الحلية بل مفهوم الحديثين يدل على عدم وجوبها في الحلية. وإذا عرفت هذا فقد قدمنا ان حديث السوارين قد قال الترمذي فيه أنه لم يصح في الباب شيء والحديث الذي بعده عن عمرو بن شعيب ضعيف كما تقدم فلم يبق في الباب ما يصلح للاحتجاج به ولا سيما مع ما ورد من انه صلى الله عليه وسلم لما بعث معإذا إلي اليمن امره بأن ياخذ من كل أربعين دينارا دينارا وقد كان للصحابة وأهاليهم من الحلية ما هو معروف ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالزكاة في ذلك بل كان معاذ يعظ النساء ويرشدهن إلي الصدقة أي صدقة النفل فيلقين في

ثوب بلال من حليهن كما هو ثابت في الصحيح [اليخاري "964"، "1431"، "1431"، مسلم ط884"، أحمد "1/280"، أبو دأود "1141"، "1143"، "1144"، ابن ماجة "1273"، ولو كان عليهن في ذلك زكاة لأخبرهن لأنه فعل ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وكان أمرهن بما هو واجب عليهن أقدم من أمرهن بما ليس بواجب عليهن وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" [البخاري "304، 1462"، 1951"، 2658"، مسلم "80"، النسائي "3/187"، ابن ماجة "1288"] . وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال لا نعلم أحدا من الخلق قال في الحلى زكاة وأخرج مالك أيضا في الموطأ عن ابن عمر انه كان يحلى بناته وجواريه بالذهب فلا يخرج منه الزكاة. وأخرج مالك أيضا في الموطأ والشافعي عن عائشة أنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلى فلا تخرج منه الزكاة. وروى البيهقي والدارقطني عن جابر قال ليس في الحلى زكاة وأخرج الدارقطني والبيهقي أيضا عن أنس واسماء بنت أبي بكر نحوه. وأما ما روى عن ابن عباس من إيجاب الزكاة في الحلى فقال الشافعي لا أدري أثبت عنه أم لا. وأما قوله: "غير مغشوشين" فصحيح لان غش الذهب والفضة بما ليس بذهب ولا فضة لا تتعلق به الزكاة ولا يجب فيها فيسقط قدر الغش ويزكى الخالص من الذهب والفضة سواء كان جنس الذهب والفضة جيدين أو رديئين لصدق اسم الذهب على الذهب الرديء وصدق اسم الفضة على الفضة الرديئة. قوله: "المثقال ستون شعيرة" الخ. أقول: اعلم انه إن ثبت في المثقال والدينار والدرهم ونحوها حقيقة شرعية كان الواجب الرجوع اليها والتفسير بها وان لم يثبت وجب الرجوع في تقدير هذه الاشياء إلي ما ذكره أهل اللغة ولا يصح تفسيرها بالاصطلاح الحادث لا سيما مع اضطرابها واختلافها وفي حديث: "الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة" ما يرشد إلي الرجوع اليهما في هذين الامرين والاعتبار بما كان الميزان عليه عند أهل مكة وما كان المكيال عليه عند أهل المدينة في وقت النبوة وقد أخرج هذا الحديث أبو دأود ["3340"] والنسائي ["4594"] والبزار من رواية طأووس عن ابن عمر وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وابن دقيق العيد. فالاعتبار في الوزن الذي يتلعق به الزكاة بوزن أهل مكة وكذلك الاعتبار في الكيل الذي يتعلق به الزكاة بكيل أهل المدينة عملا بهذا الحديث وهو مقدم علىما في كتب اللغة وغيرها وقد أوضح أهل العلم مقدار الكيل والوزن في مكة والمدينة في ذلك الوقت فلا نطول بذكره. وأما قوله: "لا فيما دونه وان قوم بنصاب الاخر" فهو صواب لان الزكاة متعلقة بكل

جنس عينا فلا بد ان تبلغ النصاب الذي تجب فيه الزكاة ولااعتبار بكون دون النصاب منه يبلغ نصابا من الجنس الاخر ولا فرق في هذين بين الصيرفي وغيره فلا وجه للاستثناء به. [فصل ويجب تكميل الجنس بالاخر ولو مصنوعا وبالمقوم غير المعشر والضم بالتقويم بالانفع ولا يخرج رديء عن جيد من جنسه ولوبا لصنعة ويجوز العكس ما لم يقتض الربا وإخراج جنس عن جنس تقويما ومن استوفى ينا مرجوا أو أبرئ زكاه لما مضى ولو عوض مالا يزكى الا عوض حب ونحوه ليس للتجارة] . قوله: فصل: "ويجب تكميل الجنس بالاخر" أقول: ليس على هذا اثارة من علم قط ولم يوجب الشارع فيهما الزكاة الا بشرط ان يكون كل واحد منهما نصابا حال عليه الحول والاتفاق كائن انهما جنسان مختلفان ولهذا لم يحرم التفاضل في بيع احدهما بالاخر ولو كانا جنسا واحدا لكان التفاضل حراما. وأما استدلال من استدل بحديث: "في الرقة ربع العشر" [البخاري "1454" أبز دأود"1567"، النسائي "2447"] ، زاعما انها تصدق على الذهب والفضة فقد جاء بما ليس في عرف الشرع ولالغة العرب ولا في اصطلاح أهل الاصطلاح وقد قدمنا بيان ذلك. وإذا تقرر لك عدم صحة هذا التكميل عرفت به عدم صحة قوله ولو مصنوعا وبالمقوم غير المعشروالضم بالتقويم بالانفع. قوله: "ولا يجزئ رديء عن جيد من جنسه" أقول: هذا صواب لتعلق الزكاة بالعين ولما ورد من النهي عن نحو هذا بقوله تعالي: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، والاعتبار بعموم اللفظ. وأما العكس وهو اخراج الجيد عن الرديء فقد فعل المزكي خيرا وتيمم الطيب فأخرجه عن الخبيث وليس هذا من الربا في شيء. وأما قوله: "ويجوز إخراج جنس عن جنس تقويما" فهو مبني على جواز اخراج القيمة في الزكاة وقد قدمنا الكلام على هذا. قوله: "ومن استوفى دينا مرجوا أو ابرئ زكاة لما مضى" أقول: قد قدمنا ان الدين المرجو الذي يتمكن صاحبه منه متى شاء في حكم الموجود عنده إذا كان نصابا على انفراده أو مع غيره مما يملكه المزكي من جنسه وحال عليه الحول. وأما قوله: "ولو عوض مالا يزكى" فغير مسلم الا ان يحصل التراضي على المعأوضة

حتى كان الثابت في الذمة هو النقد من الذهب والفضة فإنه عند ذلك يكون له حكم ما تراضيا عليه من النقد ويبتدئ التحويل له من وقت التراضي من غير فرق بين ان يكون المعوض حبا أو غيره لتجارة أو لغير تجارة. [فصل وما قيمته ذلك من الجواهر وأموال التجارة والمستغلات طرفي الحول ففيهن ما فيه من العين أو القيمة حال الصرف ويجب التقويم بما تجب معه والانفع] . قوله: فصل: "وما قيمته ذلك من الجواهر" أقول: ليس على وجوب الزكاة في الجواهر كاللؤلؤ والياقوت والزمرد وكل حجر نفيس اثارة من علم قط وأما الاستدلال بمثل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ، فالمراد على تسليم تنأوله للزكاة الاخذ من الأشياء التي وردا الشرع بأن فيها زكاة والا لزم ان يأخذ من كل مال ولو غير زكوى واللازم باطل والملزوم مثله. ثم لا يخفاك ان الآية في سياق توبة التائبين عن التخلف في غزوة تبوك وليس المأخوذ منهم الا صدقة النففل لا الزكاة بلا خلاف. قوله: "واموال التجارة". أقول: اشف ما استدل به القائل بوجوب الزكاة فيها حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته" بالزاي أخرجه الدارقطني عنه من طريقين. قال ابن حجر وإسناده غير صحيح مداره على موسى بن عبيدة الربذي وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج عن عمران بن أبي انيس عن مالك بن أوس عن أبي ذر وهو معلول لان ابن جريج رواه عن عمران انه بلغه عنه ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه وقال سألت البخاري عنه فقال لم يسمعه ابن جريج من عمران وله طريق رابعة رواها الدارقطني أيضا والحاكم من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام عن عمران قال وهذا إسناد لابأس به انتهى. ولا يخفاك انها لا تقوم الحجة بمثل هذا الحديث وان زعم من زعم ان الحاكم صححه فليس ذلك بمتوجه على ان محل الحجة هو قوله: "وفي البز صدقته" وقد حكى ابن حجر عن ابن دقيق العيد انه قال الذي رأيته في نسخة من المستدرك في هذا الحديث البر بضم الباء الموحدة وبالراء المهملة قال ابن حجر والداراقطني رواه بالزاي لكن طريقه ضعيفة. وقد روى البيهقي في سننه حديث أبي ذر هذا وفيه المقال المتقدم وأخرجه من حديث

سمرة بن جندب بلفظ: "أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بأن نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع" وفي إسناده مجاهيل. والحاصل انه ليس في المقام ما تقوم به الحجة وان كان مذهب الجمهور كما حكاه البيهقي في سننه فإنه قال إنه قول عامة أهل العلم والدين. قوله: "والمستغلات". أقول: هذه مسألة لم تطن على اذن الزمن ولا سمع بها أهل القرن الأول الذين هم خير القرون ولا القرن الذي يليه ثم الذي يليه وإنما هي من الحوادث اليمنية والمسائل التي لم يسمع بها أهل المذاهب الإسلامية على اختلاف اقوالهم وتباعد اقطارهم ولا توجد عليها اثارة من علم لا من كتاب ولا سنة ولا قياس وقد عرفناك ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل اخذها الا بحقها والا كان ذلك من أكل اموال الناس بالباطل وهذا المقدار يكفيك في هذه المسألة. [فصل وإنما يصير المال للتجارة بنيتها عندابتداء ملكه بالاختيار وللاستغلال أو الاكراء بالنية ولو مقيدة الانتهاء فيهما فتحول منه ويخرج بالاضراب غير مقيد ولا شيء في مؤنهما وما جعل خياره حولا فعلى من استقر له الملك وما رد برؤية أو حكم مطلقا أو عيب أو فساد قبل القبض فعلى البائع] . قوله: فصل: "وتصير للتجارة بنيتها" الخ. أقول: هذا الفصل متفرع عن وجوب الزكاة في أموال التجارة والمستغلات وقد عرفناك ما هو الحق في هذه المسائل فلا تشتغل بفرع لم يصح اصله. وأما قوله: "وما جعل خياره حولا فعلى من استقر له الملك"، فلا يخفاك ان ما جعل فيه الخيار إذا كان مما تجب فيه الزكاة فلا حكم لما مضى قبل الاستقرار للملك لانه ملك متزلزل غير مستقر فإذا استقر كان ابتداء التحويل من وقت الاستقرار وما ما رد برؤية أو عيب قبل القبض للمبيع فهو لم يخرج عن ملك البائع خروجا صحيحا لعدم القبض مع تعقب الرد بموجب للرد ولا فرق بين ان يكون الرد بحكم أو بغير حكم فلا يستأنف البائع التحويل وأما إذا كان بعدالقبض فهو تجدد ملك للبائع فيستأنف التحويل سواء كان الرد بحكم أو بغير حكم. هذا هو الاقرب إلي موافقة القواعد الشرعية.

باب زكاة الإبل

باب زكاة الإبل [فصل ولا شيء فيما دون خمس من الإبل وفيها جذع ضأن أو ثني معز مهما تكرر حولها ثم كذلك في كل خمس إلي خمس وعشرين وفيها ذات حول إلي ست وثلاثين وفيها ذات حولين إلي ست وأربعين وفيها ذات ثلاثة إلي إحدى وستين وفيه ذات اربعة إلي ست وسبعين وفيها ذاتا حولين إلي إحدى وتسعين وفيها ذاتا ثلاثة إلي مائة وعشرين ثم تستأنف ولا يجزء الذكر عن الانثى الا لعدمها أو عدمهما في الملك فابن حولين عن بنت حول ونحوه] . قوله: فصل: "ولا شيء فيما دون خمس من الإبل" أقول: هذا الذي ذكره إلي قوله: "ثم تستأنف" هو في الحديث الصحيح الثابت في البخاري ["1454"] ، وغيره [أبو دأود "1567"، النسائي "2447"، ان أبا بكر كتب لهم ان هذه فرائض الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين فيما دون خمس وعشرين من الإبل في كل خمس ذود شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلي خمس وثلاثين فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها ابنة لبون إلي خمس واربعين فإذا بلغت ستا واربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلي ستين فإذا بلغت واحدة وستين ففيها جذعة إلي خمس وسبعين فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلي تسعين فإذا بلغت واحدى وتسعين ففيها حقتان طروقتا الفحل إلي عشرين ومائة فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل اربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة. وظاهر هذا ان عدد الإبل إذا بلغ إلي هذا القدر كان في كل اربعين من مجموع الإبل التي بلغت هذا المقدار بنت لبون وفي كل خمسين منها حقة. ومثله ما في حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد ["8/207"، أبو دأود "1568"، والترمذي "621"] ، وحسنه ولفظه إلي عشرين ومائة فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة وفي كل اربعين ابنة لبون. ويؤيد هذا ما سيأتي في زكاة الغنم من ان الفريضة تستأنف على مجموع العدد وإلي هذا ذهب الجمهور وهو الحق. وفي الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات الموجود عند آل عمرو بن حزم التصريح بما ذهب اليه الجمهور فان فيه: "فإذا زادت على العشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون" هكذا أخرجه الدارقطني بهذا اللفظ من طريق محمد بن عبد الرحمن ان عمر بن عبد العزيز حين

استخلف ارسل إلي المدينة يلتمس عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقات فوجد عند آل عمرو بن حزم فذكره. وأخرج مثل هذا أبو دأود ["1570"] ، من طريق الزهري عن سالم مرسلا بلفظ فإذا كانت احدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون. قوله: "ولا يجزيء الذكر عن الانثى الا لعدمها" الخ. أقول: يدل على هذا ما تقدم من حديث أنس من قوله فان لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر. وفي لفظ منه ومن بلغت عنده صدقة ابنة مخاض وليس عنده الا ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء.

باب ولا شيء فيما دون ثلاثين من البقر

[باب ولا شيء فيما دون ثلاثين من البقر وفيها ذو حول ذكر أو أنثى إلي أربعين وفيها ذات حولين قيل كذلك إلي ستين وفيها تبيعان إلي سبعين وفيها تبيع ومسنة ومتى وجبت تبع ومسان فالمسان] . قوله: باب: "ولا شيء فيما دون ثلاثين من البقر" أقول: أما كونه لا شيء فيما دون الثلاثين فلما عرفناك غير مرة ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل شيء منها إلا بدليل يصلح للنقل عن هذه العصمة المعلومة بالضرورة الدينية وأما كونه تجب في الثلاثين ما ذكره المصنف فلما أخرجه أحمد ["5/230"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1576"، الترمذي "623"، النسائي "5/25، 26"] ، وابن حبان وصححه الدارقطني والحاكم وصححه أيضا من حديث معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة فهذا الحديث فيه التصريح بما يجب من الزكاة في الثلاثين والاربعين وهو يقتضي أنها إذا بلغت سنين كان فيها تبيعان لانه امره ان يأخذ من كل ثلاثين تبيعا إلي أربعين وياخذ مسنة ثم تكون الفريضة مع الزيادة هكذا. وفي رواية لأحمد ["5/240"] ، والبزار من حديث معاذ أن أهل اليمن عرضوا عليه ان يأخذ ما بين الاربعين إلي الخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين الثمانين والتسعين قال: فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن لا آخذ فيما دون ذلك وزعم أن الأوقاص لا شيء فيها. وأما قول المصنف: ومتى وجب تبع ومسان فالمسان فلا وجه لذلك ولم يدل عليه

دليل بل الخيار للمالك إن شاء أن يعطى من النوعين فعل وان شاء أن يعطى من أحدهما فعل والكل سنة ثابتة وشريعة قائمة فإن طلب ما هو الانفع للفقراء فذلك أمر مفوض اليه والاعمال بالنيات.

باب ولا شيء فيما دون أربعين من الغنم

[باب ولا شيء فيما دون أربعين من الغنم وفيها جذع ضأن أو ثنى معز إلي مائة واحدى وعشرين وفيها اثنتنان إلي إحدى ومائتين وفيها ثلاث إلي اربعمائة وفيها اربع ثم في كل مائة شاة. والعبرة بالام في الزكاة ونحوها وبسن الأضحية وبالأب في النسب] . قوله: باب: "ولا شيء فيما دون اربعين من الغنم". أقول: أما عدم الوجوب فيما دون الاربعين فلما قدمنا في الباب الذي قبل هذا ولما ثبت في حديث أنس بلفظ فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة واحدة فليس فيها شيء الا ان يشاء ربها. وأما ما ذكره المصنف من الواجب في الاربعين وما بعدها فهو الذي في حديث أنس المذكور بلفظ وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت اربعين ففيها شاة إلي شعرين ومائة فإذا زادت ففيها شاتان إلي مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلي ثلاثمائة فإذا زادت ففي كل مائة شاة. وفي حديث ابن عمر الذي أخرجه أحمد ["8/207"، وأبو دأود "1568"والترمذي "621"] ، وحسنه بلفظ: "وفي الغنم من أربعين شاة شاة إلي عشرين ومائة فإذا زادت شاة ففيها شاتان إلي مائتين فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلي ثلاثمائة فإذا زادت فليس فيها شيء حتى تبلغ اربعمائة فإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة". قوله: "والعبرة بالأم في الزكاة ونحوها وبالاب في النسب". أقول: المعتبر صدق ما تجب فيه الزكاة من إبل أو بقر أو غنم فإذا كان ذلك الموجود يطلق عليه انه من الغنم أو الإبل أو البقر كان من جملة الجنس الذي هو منه. وأما كون الاعتبار بالاب في النسب فإن كان هذا اعتبار اللغة فممنوع فإن العرب لا تجعل لمن امه امة ما تجعله لمن امه حرة في الانتساب إلي الاب العربي ولهذا يقول عنترة إني امرؤ من خير عبس منصبا ... شطري وأحمى سائري بالمنصل فجعل شطره منتسبا بنسب أبيه وشطره منتسبا بنسب أمه.

وكانت امه امة وان كان هذا باعتبار الشرع فمحتاج إلي دليل في نفس كون الاعتبار بالاب في النسب في الرفاعة والوضاعة لا في كونه حرا يرث ويورث ويثبت له ما يثبت للأحرار فإن هذا معلوم من الشرع ومن الشعر المنسوب إلي المأمون أو المقول على لسانه لما كانت امه امة يقال لها مراجل: لا تزرين بفتى من ان يكون له ... أم من الروم أو سوداء عجماء فإنما امهات الناس أوعية ... مستودعات وللأبناء آباء [فصل ويشترط في الانعام سوم اكثر الحول مع الطرفين فمن ابدل جنسا بجنسه فأسامه بنى والا استأنف وانما يؤخذ الوسط غير المعيب ويجوز الجنس والافضل مع إمكان العين والموجود ويترادان الفضل ولا شيء في الأوقاص ولا يتعلق بها الوجوب وفي الصغار احدها إذا انفردت] . قوله: فصل: "ويشترط في الانعام سوم اكثر الحول مع الطرفين". أقول: أما اشتراط ذلك في الغنم فلحديث أنس الثابت في الصحيح بلفظ: "وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت اربعين ففيها شاة". وفي لفظ منه آخر: "وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة واحدة فليس فيها شيء". وأما في الإبل فلما وقع في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا: "في كل إبل سائمة" [أبو دأود "1757"، النسائي "2444"] ، الحديث. وأما في البقر فلما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس ليس في البقر العوامل صدقة وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك عن ليث بن أبي سليم وهو ضعيف. ورواه من وجه آخر عنه وفيه الصقر بن حبيب وهو ضعيف ورواه من حديث جابر بلفظ: ليس في المثيرة صدقة وضعف البيهقي إسناده ورواه موقوفا وصححه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده الا انه قال الإبل بدل البقر قال ابن حجر وإسناده ضعيف. قال البيهقي: وأشهر من ذلك ما روى موقوفا من حديث أبي إسحاق عن الحارث وعاصم عن علي "ليس في البقر العوامل شيء". قال البيهقي: رواه النفيلي عن زهير بالشك في وقفه أو رفعه وروى عن زهير مرفوعا

ورواه غير زهير عن أبي إسحاق موقوفا قال ابن حجر وهو عن أبي دأود وابن حبان وصححه ابن القطان على قاعدته في توثيق عاصم بن ضمرة وعدم التعليل بالوقوف وبالرفع. هذا حاصل ما ورد في اعتبار السوم والانعام الثلاث لها حكم واحد في الزكاة فالوارد في بعضها يقوى الوارد في البعض الاخر ولا سيما مع اعتضاد ذلك بأن الاصل البراءة فلا ينقل عنها الا ناقل صحيح وقد ورد الناقل وهو ايجاب الزكاة في الانعام مقترنا بكونه في السائمة كما عرفت. ولا يخفاك ان ظاهر أحاديث اعتبار الحول التي قدمنا ذكرها يدل على انه لا بد ان يحول عليها الحول سائمة وان سامت في بعض الحول وعلفت في بعضه فالظاهر عدم الوجوب. وهكذا إذا بدل جنسا بجنسه غير قاصد للحيلة فإنه يستأنف التحويل للبدل من عند دخوله في ملكه ولا اعتبار بحول المبدل ولا يبنى عليه. قوله: "وإنما يؤخذ الوسط غير المعيب". أقول: أما كونه يؤخذ الوسط فلما أخرجه أبو دأود ["1582"] ، والطبراني بإسناد جيد من حديث عبد الله بن معأوية الفاضري من غاضرة قيس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من فعلهن طعم طعم الايمان من عبد الله وحده وانه لا إله الا الله واعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولا يعطى الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط اموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره". فإن بذلك المسالك ما هو خير مما يجب عليه طيبة به نفسه فلا بأس بذلك لما أخرجه أحمد وأبو دأود والحاكم وصححه من حديث أبي بن كعب قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا فمررت برجل فلم أجد عليه في ماله الا ابنة مخاض فاخبرته انها صدقته فقال ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر وما كنت لأقرض الله مالا لبن فيه ولا ظهر ولكن هذه ناقة سمينة فخذها فقلت ما انا بآخذ ما لم أومر به فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخرج معي وخرجنا بالناقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الذي عليك وان تطوعت بخير قبلناه منك وآجرك الله فيه" قال: فخذها فأمر رسول الله صلى الله عليه بقبضها ودعا له بالبركة وفي إسناده محمد بن إسحاق ولكنه قد صرح هنا بالتحديث وهكذا إذا قبل المصدق ما هو معيب فإنه يجزئ رب المال لما في حديث أنس الصحيح المتقدم [البخاري "1448، 1450، 1453، 1454، 1455، 2487، 3106، 5878، 6955"، أبو دأود "1567" النسائي "2447"] . ذكر بعضه بلفظ: "ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الا إن يشاء المصدق". وأما قوله: "غير المعيب"، فلما تقدم في حديث الغاصري وفي حديث أنس هذا ولما في حديث ابن عمر المتقدم ذكر بعضه بلفظ: "ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عيب من الغنم" وكما روى

في تعيين الشرار فقد ورد تعيين الخيار في حديث سفيان بن عبد الله الثقفي عند مالك في الموطأ والشافعي في مسنده ان عمر بن الخطاب قال نعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ولا نأخذها ولا تاخذ الاكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم رواه ابن أبي شيبة مرفوعا. وأما قول المصنف: "ويجوز الجنس والافضل مع إمكان العين"، فقد عرفت مما سبق جواز إخراج الافضل وأما جواز إخراج الجنس مع إمكان العين فغير مسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجوز ذلك الا بشرط عدم وجود ما هو الواجب في الملك كما في حديث أنس المتقدم وفيه ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده ابنة لبون وعنده ابنة مخاض فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه أيضا ومن بلغت عنده صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتي إذا استيسرنا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تقبل منه ويجعل معها شاتين إذا استيسرتا له أو عشرين درهما وفيه ومن بلغت عنده صدقة ابنة لبون وليست عنده الا حقة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين. وبهذه الروايات يتبين لك وجه قول المصنف: "والموجود ويتردان الفضل". قوله: "ولا شيء في الأوقاص ولا يتعلق بها الوجوب". أقول: أما كونه لا شيء في الأوقاص وهو ما بين الفريضتين فظاهر وقد صح الدليل لذلك وهو قوله في حديث أنس وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من اربعين شاة فليس فيها شيء وكما في قوله في حديث معاذ المتقدم فأمرني ان لا آخذ فيما بين ذلك وزعم ان الأوقاص لا فريضة فيها وهكذا ما ورد في الفاظ الاحاديث ولا شيء في كذا حتى يبلغ كذا فإنه تصريح بعدم الوجوب في الأوقاص. وأما كونه لا يتعلق بها الوجوب فغير مسلم بل الشاة الخارجة مثلا من الاربعين هي عن جميع الاربعين لا عن الشاة الموفية للأربعين وهكذا سائر الفرائض التي علق النبي صلى الله عليه وسلم الوجوب بها فإن المراد ان تلك الزكاة عن جميع ما وجد من الانعام لا عن الموفى للنصاب ونفي الوجوب عن الأوقاص هو ما دامت أوقاصا لا إذا بلغت إلي النصاب فإن الزكاة المخرجة هي عن جميع ذلك النصاب. قوله: "وفي الصغار احدها إذا انفردت". أقول: قد قدمنا الادلة الدالة على اعتبار الحول وقدمنا انه لا يكون حول الفرع حول اصله فهذه الصغار ان حال عليها الحول بعدانفرادها فهي إذ ذاك كبار وليست بصغار على انا قدمنا في حديث سويد بن غفلة النهي من النبي صلى الله عليه وسلم له ان لا يأخذ من راضع لبن شيئا فهذا يدل على انه لا يؤخذ منها ما دامت صغارا راضعة وأنه لا يكون حولها حول اصلها.

باب ما أخرجت الارض في نصاب فصاعدا ضم احصاده الحول

[باب " ما أخرجت الارض في نصاب فصاعدا ضم احصاده الحول وهو من المكيل خمسة أوسق الوسق ستون صاعا كيلا ومن غيره ما قيمته نصاب نقد عشره قبل إخراج المون وان لم يبذر أو لم يزد على بذر قد زكى أو احصد بعد خوزه من مباح الا المسني فنصفه فإن اختلف فحسب المؤنة ويعفى عن اليسير. ويجوز حرص الرطب بعد صلاحه وما يخرج دفعات فيعجل عنه والعبرة بالانكشاف وتجب من العين ثم الجنس ثم القيمة حال الصرف ولا يكمل جنس بجنس ويعتبر التمر بفضلته وكذلك الارز الا في الفطرة والكفارة وفي العلس خلاف. وفي الذرة والعصفر ونحوهما ثلاثة اجناس ويشترط الحصاد فلا تجب قبله وان بيع بنصاب وتضمن بعده المتصرف في جميعه أو بعض تعين لها ان لم يخرج المالك ومن مات بعده وامكن الأداء قدمت على كفنه ودينه المستغرق والعسل من الملك كمقوم المعشر"] . قوله: باب: "زكاة ما أخرجت الارض في نصاب فصاعدا ضم احصاره الحول وهو من المكيل خمسة أوسق". أقول: أما باعتبار النصاب في زكاة ما أخرجت الارض وهو ان يكون خمسة أوسق فذلك للدليل الصحيح المتلقى بالقبول من جميع طوائف أهل الإسلام فهو بين عامل به ومتأول له وهو حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" وهو في الصحيحين [البخاري "1447", مسلم "979"] وغيرهما من حديث أبي سعيد وهو حجة ظاهرة في أنه لا زكاة فيما دون الخمسة الأوسق ولم يصب من أوجبها في قليل ما انبتت الارض وكثيره عملا بالاحاديث المصرحة بأن "فيم سقت السماء والعيون العشر وفيما سقى بالنضخ نصف العشر" [البخاري "1434", الترمذي "640"] لانه عمل بالعام وترك العمل بالخاص والجمع بينهما واجب بان يبنى العام على الخاص وهذا أمر متفق عليه عند أئمة الأصول في الجملة فمن خالف ذلك في الفروع فإن كان لعدم علمه بالخاص فقد أتي من قبل تقصيره وكيف يكون مجتهدا من جهل مثل هذا الحكم وإن كان قد علم به ولم يعمل به فالحجة عليه قائمة بالدليل الصحيح. وأما قوله: "ضم أحاصده الحول" فمبنى على أان أحاديث اعتبار الحول شاملة لما خرج من الارض وليس الامر كذلك بل هي واردة في غيره وأما الخارج من الأرض فيجب إخراج زكاته عند إحصاده إن كان خمسة أوسق فصاعدا وكان مما تجب فيه الزكاة لم يسمع في أيام النبوة ولا في أيام الصحابة انه اعتبر الحول فيما يخرج من الأرض بل كانوا يزكون الخارج عند إحصاده إذا كمل نصابه. وأما كون الوسق ستين صاعا فيدل عليه أما أخرجه أحمد وابن ماجه

["1793"] ، من حديث أبي سعيد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الوسق ستون صاعا"، وأخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وأخرجه أيضا النسائي ["2486"، وابو دأود "1559"، وابن ماجه "1832"] ، من طريق اخرى عن أبي سعيد قال أبو دأود وهو منقطع لم يسمع أبو البختري من أبي سعيد وأخرج البيهقي نحوه من حديث ابن عمر وأخرج أيضا نحوه ابن ماجه من حديث جابر وإسناده ضعيف قال ابن حجر وفيه عن عائشة وسعيد بن المسيب. قوله: "وما قيمته نصاب نقد عشرة". أقول: الاحاديث الواردة في انه لا زكاة في الخضروات قد أوضحنا في شرحنا للمنتقى انه يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فهي صالحة لتخصيص العمومات كحديث: "فيما سقت السماء العشر" ونحوه. وهكذا الاحاديث الواردة في ان الزكاة لا تجب الا في اربعة اجناس البر والشعير والتمر والزبيب فإنها تنتهض بمجموعها للعمل بها كما أوضحناه هنالك. قوله: "قبل اخراج المؤن". أقول: المالك انما يزكى ما دخل في ملكه بعدحصاده ودياسه فلا يجب عليه زكاة ما خرج في المؤن التي لا يتم الحصاد والدياس الا بها وليس له ان يخرج مؤن الحرث والسقي والبذر ونحوها فإنه لم يثبت في ذلك لا في ايام النبوة ولا فيما بعدها. وأما قوله: "وان لم يبذر" فصواب إذا ثبت في الملك فليس من شرط الزكاة ان يقع من المالك البذر للأرض. وهكذا إذا لم يرد على بذر قد زكى فإنها تجب فيه الزكاة لعموم الادلة المصرحة بوجوب زكاة الخارج من الارض بل تجب الزكاة وان كان الحاصل دون البذر الذي قد زكى إذا بلغ النصاب. وأما قوله: "وإذا حصد بعد حوزه من مباح" فيدل على ذلك عموم الآية الواردة فيما أخرجت الارض وهذا مما أخرجته الارض وصار في ملك مالك تجب عليه أصل الزكاة فاخراجه عن حكم الخارج من الارض يحتاج إلي دليل. قوله: "الا المسنى فنصفه". أقول: قد صرحت الادلة الصحيحة بذلك منها حديث ابن عمر في الصحيح بلفظ: "وفيما سقى بالنضخ نصف العشر" ومثله حديث جابر في الصحيح [مسلم "981"، أيضا بلفظ "وفيما سقى بالساقية نصف العشر" قال النووي وهذا متفق عليه قال وان وجدنا ما يسقى بالنضخ تارة وبالمطر اخرى فإن كان ذلك على جهة الاستواء وجب ثلاثة ارباع العشر وهو قول أهل العلم قال ابن قدامة لا نعمل فيه خلافا وان كان احدهما اكثر كان حكم الاقل تبعا للأكثر عند أحمد والنووي وأبي حنيفة واحد قولي الشافعي وقيل يؤخذ بالتقسيط قال

ابن حجر ويحتمل ان يقال ان أمكن فصل كل واحد منهما اخذ بحسابه وعن ابن القاسم صاحب مالك العبرة بما تم به الزرع ولو كان اقل. قوله: "ويجوز خرص الرطب بعدصلاحه". أقول: قد ثبت في خرص العنب والتمر أحاديث تقوم بها الحجة بل ثبت في الصحيحين [البخاري "1481"، مسلم "15/14"] ، من حديث أبي حميدالساعدي انه صلى الله عليه وسلم خرص صديقة امرأة بنفسه وفيه قصة ولكن هذا الخرص مقيد بما أخرجه [أحمد "3/448"، وابو دأود "1605"، والترمذي "643"، والنسائي "5/42"] ، وابن حبان الحاكم وصححه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثث فدعوا الربع". وأما قول المصنف: "بعد صلاحه"، فيدل عليه ما في حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص النخل حين يطيب قبل ان يؤكل ثم يخبر يهود يأخذونه بذلك الخرص أو يدفعونه اليهم بذلك الخرص أخرجه [أحمد "9/12"، وابو دأود "3413"] . قوله: "وما يخرج دفعات فيعجل منه". أقول: المراد للمصنف هو ان الشيء الذي يخرج دفعات يخرص كل دفعة من دفعاته كالتين لانها لا تحصل الدفعة الثانية الا وقد فسدت الأولى وهذا وان كان قد دخل فيما سبق لكنه أراد ان يدفع وهم من يتوهم انه لا يخرص الا مرة واحدى وان خرج دفعات. وأما التعرض لتعجيل الزكاة فهو دخيل في المقام لا حاجة اليه لان جواز التعجيل لا يختص بهذا وحده. وأما اعتبار الانكشاف فأمر لا بد منه لما تقدم من ان الزكاة لا تجب فيما دون خمسة أوسق. قوله: "وتجب في العين ثم الجنس ثم القيمة حال الصرف". أقول: هذا صواب لما قدمنا من الادلة الدالة على وجوب الزكاة في العين فإذا تلفت العين فالعدول إلي الجنس هو اقرب إلي العين من القيمة لان جنس الشيء يوافقه في غالب الأوصاف فإذا لم يوجد الجنس اجزأت القيمة لان لذلك غية ما يمكن من التخلص عن واجب الزكاة. وأما قوله: "ولا يكمل جنس بجنس" فهذا صحيح لان اعتبار النصاب هو في كل جنس على حدة فمن زعم انه إذا حصل خمسة أوسق من جنسين وجبت الزكاة فعليه الدليل. وأما قوله: "ويعتبر التمر بفضلته" فهذا صحيح ولم يسمع في أيام النبوة ما يخالفه وهكذا الارز والعلس عند من أوجب الزكاة فيهما. وأما قوله: "وفي الذرة والعصفر ونحوهما ثلاثة أجناس"، فمبنى على وجوب الزكاة في الخضروات وفي غير الاجناس الاربعة وقد قدمنا الكلام على ذلك.

قوله: "ويشترط الحصاد" الخ. أقول: هذا معلوم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أما أوجبا لزكاة فيما قداحصد وعرف مقداره كما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" فالوجوب متعلق بالنصاب وهو الخمسة الأوسق ولا يعرف قدر النصاب الا بعدا الحصاد وأيضا ما دام ما أخرجته الارض هو معرض للجوائح بالافات السمأوية والارضية فلو وجبت الزكاة فيه قبل حصاده لكان إيجابها قبل ثبوت الملك وتقرره وهكذا الضمان لا يكون الا بعد ثبوت الملك وتقرره. وأما قوله: "ومن مات بعده قبل إمكان الأداء قدمت على كفنه ودينه المستغرق" فهو بخالف ما تقدم له من قوله وهي قبله كالوديعة قبل طلبها. قوله: "والعسل من الملك كمقوم المعشر". أقول: استدل على وجوب الزكاة في العسل بما أخرجه أحمد ["4/236"، وابو دأود "وابن ماجه "823"] ، والبيهقي قال: قلت: يا رسول الله إن لي نحلا قال: "فأد العشور" قال: قلت: يا رسول الله احم لي جبلها قال: فحمى لي جبلها وفي إسناده انقطاع لانه من رواية سليمان بن موسى عن أبي سيارة قال البخاري لم يدرك سليمان احدا من الصحابة وليس في زكاة العسل شيء يصح وقال أبو عمر بن عبد البر لا يقوم بهذا حجة. وأخرج أبو دأود ["1600"، والنسائي "2499"، ان هلالا أحد بنى متعان جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل وكان سأله ان يحمى واديا يقال له سلبة فحمى له ذلك الوادي وأخرج ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم انه اخذ من العسل العشر وفي إسناده ابن لهيعة وعبد الرحمن ابن الحارث وليس من أهل الاتقان. وأخرج الترمذي ["629"،عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في العسل كل عشرة أزقاق زق" وفي إسناده صدقة السمين وهو ضعيف الحفظ وقد خولف وقال النسائي هذا حديث منكر. وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن أبي هريرة حديثا في زكاة العسل وفي إسناده عبد الله ابن محرز وهو متروك. وأخرج البيهقي عن سعد بن أبي ذئاب ان النبي صلى الله عليه وسلم استعمله على قومه وانه قال لهم: " أدوا العشر في العسل" وفي إسناده منير بن عبد الله وهو ضعيف. واحاديث الباب يقوى بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فينتهض الاحتجاج با وقد استوفيت البحث في شرحي للمنتقى وذكرت عدم انتهاض الاحاديث للحجة لأن حديث أبي سيارة وحديث هلال ان كان غير أبي سيارة لا يدلان على وجوب الزكاة في العسل لانه حمى لهما بدل ما اخذ منهما ولكن لا يخفى انه قال في حديث أبي سيارة: "فأد العشر" وهذا تصريح

لوجوب الزكاة ولا سيما وقد وقع في رواية لأبي دأود بلفظ من كل عشر قرب قربة ووقع عندالترمذي كما تقدم في العسل في كل عشرة ازقاق زق.

باب ومصرفها من تضمنته الآية

[باب " ومصرفها من تضمنته الآية فإن وجد البعض فقط ففيه والفقير من ليس بغني وهو من يملك نصابا متمكنا أو مرجوا ولو غير زكوى واستثنى له كسوة ومنزل وأثاث وخادم وآلة حرب يحتاجها الا زيادة النفيس والمسكين دونه ولا يستكملا نصابا من جنس واحد والا حرم أو موفيه ولا يغنى بغنى منفقه الا الطفل مع الاب والعبرة بحال الاخذ. والعامل من باشر جمعها بامر محق وله ما فرض آمره وحسب العمل وتأليف كل واحد جائز للامام فقط لمصلحة دينية ومن خالف فيما اخذ لأجله رد والرقاب والمكاتبون الفقراء المؤمنون فيعانون على الكتابة والغارم كل مؤمن فقير لزمه دين في غير معصية وسبيل الله المجاهد المؤمن الفقير فيعان بما يحتاج اليه فيه ونصرف فضله نصيبه لا غيره في المصالح مع غني الفقراء وابن السبيل من بينه وبين وطنه مسافة قصر فيبلغ منها ولو غنيا لم يحضر ماله وأمكنه القرض ويردالمضرب لا المتفضل وللامام تفضيل غيرمجحف ولتعدد السبب وان يرد في المخرج المستحق ويقبل قولهم في الفقراء ويحرم السؤال غالبا] . قوله: باب: "ومصرفها من تضمنته الآية فإن وجدالبعض فقط ففيه". أقول: هذا التقييد صحيح لانه إذا وجد الكل فلكل صنف حق من مجموع الحاصل من الزكاة المجموعة بامر الامام أو من يقوم مقامه لما تقتضيه الآية فإن اللام فيها مفيدة للملك ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود ["1630"] من حديث زياد بن الحارث الصداني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فاتى رجل فقال اعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية اجزاء فان كنت من تلك الاجزاء اعطيتك"، ولا ينافى ما صرحت به الآية من المصارف الثمانية ما ورد من ان الزكاة تؤخذ من الاغنياء وترد في الفقراء فإذ ذلك محمول على انه لم يوجد في المحل الذي اخذت منه الا الفقراء أما إذا وجد غيرهم فله حق فيها كحق الفقراء فيجمع بين الادلة بهذا. وأما من اشتراط الفقر في جميع الاصناف فلا يحتاج إلي الجمع بهذا ولكن هذا الاشتراط

خلاف ظاهر القرآن وخلاف ما ثبت في السنة كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني الا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه فيهدي لك أو يدعوك"، أخرجه أحمد ["3/56"] ، ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد وابو دأود ["1636"] ، وابو يعلى والبيهقي والحاكم وصححه من حديث أبي سعيد. وفي لفظ لأبي دأود ["1636"، وابن ماجه "1841"، "لا تحل الصدقة لغني الا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه بها فأهدى منها لغني". وسيأتي الكلام على هذا الاشتراط في كل صنف اشترط فيه ذلك. قوله: "والفقير من ليس بغني". أقول: هذا هو المذكور في كتب اللغة الصحاح والقاموس وغيرهما فيحتاج في معرفة معنى الفقير إلي معرفة معنى الغني وقد جعله المصنف رحمه الله من يملك نصابا ووجه هذا ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر باخذ الزكاة من الاغنياء وردها في الفقراء فوصف ن تؤخذ منه الزكاة بالغني وقد قال: "لا تحل الصدقة لغني"، [أحمد "9/93"، أبو دأود "1633"، النسائي "2598"] ، فكأن الفقير من لا يملك نصابا وقد ذكرنا في شرح المنتفى اختلاف المذاهب في حد الغنى وذكرنا ادلتهم ومنها ما أخرجه أحمد وأبو دأود وابن حبان وصححه عن سهل بن الحنظلية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار"، قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: "قدر ما يعشيه ويغديه". ومنها ما أخرجه أحمد ["1/441"] بوأهل السنن [أبو دأود "1626"، "الترمذي "650"، ابن ماجة "1840"، النسائي "3593"] ، وحسنه الترمذي من حديث ابن مسعود مرفوعا: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش" قالوا: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: "خمسون درهما أو حسابها من الذهب". ومنها ما أخرجه أحمد ["3/907"، وأبو دأود "1628"، والنسائي "2596"] ، بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة أوقية فقد الحف". وفي الباب أحاديث ولكن لا يخفى ان هذه الاحاديث فيمن يحرم عليه سؤال الناس لا فيمن تحرم عليه الزكاة ولكن قد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اشتملت عليه هذه الاحاديث غنيا فيكون الواجد لذلك المقدار غنيا وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن الزكاة لاحظ فيها لغني" [أحمد "9/93"، أبو دأود "1633"، النسائي "2598"] ، ويجمع بين هذه الاحاديث بالأخذ بأكثرها مقدارا وهو الخمسون الدرهم. وأما قول المصنف رحمه الله: "متمكنا أو مرجوا" فقد قدمنا في المرجو انه لا بد ان يكون بحيث يأخذه متى شاء. وأما قوله ولو غير زكوى فوجه ذلك انه قد صار مالكا لقيمة النصاب الزكوى.

قوله: "واستثنى كسوة ومنزل" الخ. أقول: هذه الامور لا يخرج بها المالك لها عن كونه فقيرا مصرفا للزكاة ولم يسمع في عصر النبوة ولا فيما بعده ان ملبوس الرجل ومنزله وما يقيه الحر والبرد وسلاحه يخرجه عن صفة الفقر وقد كان الصرف في الفقراء منه صلى الله عليه وسلم ومن الخلفاء الراشدين ومعهم ما يحتاجون اليه من ذلك وهذا معلوم لا شك فيه. نعم استثناء ما كان فيه زيادة نفيس ان كان صاحبه يحتاج اليه فلا وجه للاستثناء وان كان لايحتاج اليه ويكفي ما دونه وتندفع عنه الحاجة به فلا بأس بذلك ومن جملة ما ينبغي استثناؤه الدفاتر العلمية للعالم فإن ذلك مصلحته في الغالب عامة. قوله: "والمسكين دونه" أقول: قد ثبت في الصحيحين [البخاري "1476"، مسلم "103/1039"] ، وغيرهما [أحمد "2/316"، النسائي "5/84، 85"، أبو دأود "1631"] ، من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسال الناس". وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "1479"، مسلم "1039"] ، من حديثه: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان وانما المسكين الذي يتعفف اقرأوا ان شئتم {لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273] ، فأفاد هذا الحديث ان المسكين فقير لقوله: "لا يجد غنى يغنيه" مع زيادة كونه متعففا لا يقوم فيسأل الناس ولا يفطن له فيتصدق عليه فالمسكين فقير متعفف وبهذا القيد يظهر الفرق بينهما ويندفع قول من قال انهما مستويان وقول من قال ان المسكين فوق الفقير واعلى حالا منه لما هو معلوم من ان تعففه عن السؤال وعدم التفطن لكونه فقيرا زيادة حاجة وعظم ضرورة ومما يدل على افتراقهما في الجملة ما روى عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "اللهم احيني مسكينا"، مع ما علم من تعوذه من الفقر. قوله: "ولا يستكملا نصايا من جنس" الخ. أقول: قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدفع من العطاء الذي هو مجموع من اموال الله التي من جملتها الزكاة إلي الواحد من الصحابة انصباء كثيرة كما في الحديث الصحيح انه اعطى العباس من الدراهم ما عجز عن حمله وقال لعمر لما قال له إنه يصرف عطاءه فيمن هو أفقر منه إليه: "ما جاءك من هذا المال وانت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" وهو في الصحيحين [البخاري "1473"، مسلم "1045"، وغيرهما [النسائي "2608"] ، من حديثه. وظاهر هذا الأمر انه يقبل ما جاء إليه من أموال الله وان كان انصباء متعددة وقد كان الخلفاء الراشدون ومن بعدهم يعطون الفرد من المسلمين الالوف الكثيرة وقد أخرج أحمد بإسناد صحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر لبعض من ساله بشاء كثيرة بين جبلين من شاء الصدقة، وثبت ان

النبي صلى الله عليه وسلم قال لسلمة ابن صخر: "اذهب إلي صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها اليك" [البخاري "1936" مسلم "1111"، الترمذي "3299"] . قوله: "ولا يغني بغنى منفقة الا الطفل مع الاب". أقول: هذه دعوى مجردة ليس عليها دليل فان اثبات الغنى لشخص لا يملك ما يكون به غنيا لكون منفقه غنيا لا يناسب القواعد الشرعية. وأما قوله والعبرة بحال الاخذ فصحيح لأنه اخذ ذلك وهو مصروف له وان اغناه الله عز وجل في ذلك الوقت الذي اخذ فيه الزكاة وليس مثل هذا مما يحتاج إلي التدوين لوضوحه وظهوره. قوله: "والعامل من باشر جمعها بأمر محق". أقول: من ثبت له الولاية على الناس بالمبايعة له منهم جاز العمل له في امور الدنيا والدين لان طاعته قد صارت واجبة بالبيعة وفي هذا من الايات القرآنية والاحاديث الصحيحة ما هو معروف ومن ذلك قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، وفي الحديث الصحيح [أبو دأود"4607"] : "عليكم بالطاعة وان عبدا حبشيا" الحديث. ولا يتسع المقام لبسط ما ورد في طاعة أولى الامر والنهي عن نزع الايدي من طاعتهم ما اقاموا الصلاة الا ان يظهر منهم الكفر البواح كما صرحت بذلك الاحاديث الصحيحة. فالعمل لمن صار واليا على المسلمين في الزكاة وغيرها صحيح بل واجب إذا طلب ذلك وان كان غير عادل في بعض الاحوال فيطاع في طاعة الله سبحانه ويعصى في معصيته كما صح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" [أحمد "5/66"] . وقال: "إنما الطاعة في المعروف" [البخاري "7257، 4340، 7145"، مسلم "1840"، أبو دأود "2625"، أحمد 1/94"، النسائي "7/109"] ، هذا ما تقتضيه الشريعة المطهرة وهو أوضح من شمس النهار وليس بيد من خالفه شيء يصلح للتمسك به. قوله: "وله ما فرض آمره". أقول: قد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرض لمن يعمل له في الزكاة أجرة عمله كما في الصحيحين [البخاري "7163"، مسلم "112/1045"] ، وغيرهما [أبو دأود "1647"، النسائي "5/102"، أحمد "1/52"] ، من حديث بسر بن سعيد ان ابن السعدي المالكي قال استعملني عمر على الصدقة فلما فرغت منها واديتها اليه أمر لي بعمالة فقلت انما عملت لله فقال خذ ما اعطيت فإن عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني فقلت مثل قولك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اعطيت شيئا من غير ان تسأل فكل وتصدق". وظاهر هذا انه قد فرض له ما يفيض عن أكله ويمكن التصدق منه ولا يجوز له ان يأخذ الزيادة على ما فرض له الامام أو السلطان لما أخرجه أبو دأود ["2943" بإسناد رجاله ثقات عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استعملنا على عمل فرزقناه رزقا فما اخذ بعد ذلك فهو غلول"،

وإذا لم يفرض له أجرة جاز له ان يأخذ من الزكاة بقدر عمله عليها من غير زيادة لعدم المسوغ للزيادة أما إذا كان ما فرض له آمره زائدا على مقدار عمله فإن ذلك الفرض مسوغ للزيادة لان أمر الصرف اليه وقد صرف إلي العامل المقدار الزائد على أجرته. قوله: "وتأليف كل أحد جائز للامام فقط". أقول: قد وقع منه صلى الله عليه وسلم التأليف لمن لم يخلص إسلامه من رؤساء العرب كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في اصحيح البخاري ["881، 2971" 7097"] ، وغيره انه قال: "والله إني لأعطى الرجل وأدع الرجل والذي ادع احب الي من الذي اعطى ولكني اعطى اقوأما لما ارى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل اقوأما إلي ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير". وصح عنه [مسلم "137/1060"] ، انه اعطى ابا سفيان بن حرب وصفوان بن امية وعيينة بن حصن والاقرع بن حابس وعباس بن مرداس كل إنسان منهم مائة من الإبل. وثبت في صحيح مسلم انه اعطى علقمة بن علاثة مائة من الإبل ثم قال للانصار لما عتبوا عليه: "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلي رحالكم" ثم قال لما بلغه أنهم قالوا: يعطى صناديد نجد ويدعنا "إنما صنعت ذلك لأتالفهم" [مسلم "143/1064"] فالتأليف شريعة ثابتة جاء بها القرآن وجعل المؤلفة احد المصارف الثمانية وجاءت بها السنة المتواترة فإذا كان إمام المسلمين محتاجا إلي التأليف لمن يخشى من ضرره على الإسلام وأهله أو يرجو ان يصلح حاله ويصير نصيرا له وللمسلمين كان ذلك جائزا له وهكذا يجوز لرب المال مع عدم الامام ان يتألف من يخشى منه الضرر على نفسه أو ماله أو على غيره من المسلمين ولأوجه لتخصيص الامام بذلك فإن المؤلفة مصرف من مصارف الزكاة ونوع من الأنواع التي جعلها الله لهم فكما يجوز لرب المال ان يضعها في مصرف من المصارف غير المؤلفة يجوز له أيضا ان يضعها في المؤلفة وهذا ظاهر واضح وأما إذا كان الامام موجودا فأمر الصرف اليه وليس للامام ان يتألف مع قوة يده وبسطة امره ونهيه ووجود من يستنصر به عند الحاجة لما عرف من ان علة التأليف الواقع منه صلى الله عليه وسلم هو ما تقدم عنه. وأما قول المصنف: "ومن خالف فيما اخذ لأجهله رد" فهو صواب لأن الغرض من التأليف لم يحصل فلم يكن ذلك المؤلف مؤلفا فلا نصيب له في الزكاة. قوله: "والرقاب المكاتبون الفقراء المؤمنون". أقول: ظاهر قوله سبحانه: {وَفِي الرِّقَابِ} ان هذا النصيب من الزكاة يصرف في عتق الرقاب ولو بشرائها من ذلك النصيب وعتقها ولا يختص بالمكاتبين ولا بالمتصفين بصفة الايمان بل المراد الاتصاف بالإسلام. وأما اشتراط الفقر فلا يخفى ان المملوك لا يملك شيئا من المال ولعل مراده من لم يكن عنده من المال ما يخلص رقبته من الرق أو على القول بأن العبد يملك.

قوله: "والغارم كل مؤمن فقير". أقول: هذا مصرف من المصارف المذكورة في القرأن ولأوجه لاشتراط الفقر فيه فان القرآن لم يشترط ذلك والسنة المطهرة مصرحة بعدم اشتراط الفقر فيه كما في حديث أبي سعيد بلفظ: "لا تحل الصدقة لغني الا لخمسة لعامل عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله"، أخرجه [ابو دأود "1636"، وابن ماجه "1841"] ، وأخرجه أيضا أحمد "3/56"، ومالك في الموطأ والبزار وعبد بن حميد وابو يعلى والبيهقي والحاكم وصححه فهذا الحديث فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر في الغارم ومن ذكر معه بل يعطى الغارم من الزكاة ما يقضي دينه وان كان انصباء كثيرة. وأما اشتراط كونه في غير معصية فصحيح لان الزكاة لاتصرف في معاصي الله سبحانه ولا فيمن يتقوى بها على انتهاك محارم الله عز وجل. قوله: "وسبيل الله المجاهد الفقير". أقول: قد عرفناك ان حديث أبي سعيدالمذكور قريبا فيه التصريح بعدم اشتراط الفقر فيمن اشتمل عليه من جملتهم الغازي كما سبق وفي لفظ منه: "لا تحل الصدقة لغنى الا في سبيل الله أو ابن السبيل أو جار فقير يتصدق عليه". فالسنة قد دلت على انه يصرف إلي هذا الصنف مع الغني والقرأن لم يشترط فيه الفقر فلم يبق ما يوجب هذا الاشتراط بل هو مجرد رأي بحت فيصرف اليه ما يحتاجه في الجهاد من سلاح ونفقة وراحلة وان بلغ انصباء كثيرة لأوجه لاشتراط الايمان بل كل مسلم مصرف لذلك إذا بذل نفسه للجهاد ولا سيما إذا كان له شجاعة واقدام فإنه احق من المؤمن الضعيف. قوله: "وتصرف فضلة نصيبه لا غيره في المصالح مع غنى الفقراء". أقول: لم يرد ما يدل على اختصاص هذا الصنف بصرف فضلة نصيبه في المصالح وأما حديث ام معقل الاسدية ان زوجها جعل بكرا في سبيل الله وانها أرادت العمرة فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأمر زوجها ان يعطيها وقال: "الحج والعمرة في سبيل الله" أخرجه أحمد ["6/406"] ، وأهل السنن [أبو دأود "1988"، الترمذي "939"، ابن ماجة "2993"] ، وفي إسناده رجل مجهول فلا يدل على المطلوب وهو صرف فضلة نصيبه في المصالح لان النبي صلى الله عليه وسلم وسلم جعل الحج والعمرة من سبيل الله فلا يلحق بهما غيرهما من المصالح وقد روى هذا الحديث أبو دأود من طريق اخرى ليس فيها الرجل المجهول. وقد ورد في صرف فضلة نصيب الزقاب في المصالح ما هو اصرح من هذا فأخرج البيهقي في سننه الكبرى عن يزيد بن أبي حبيب ان ابا مؤمل أول مكاتب كوتب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلي الله عليه: "اعينوا أبا مؤمل" فأعين ما أعطى كتابته وفضلت فضلة فاستفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فامره ان يجعلها في سبيل الله. قوله: "وابن السبيل" الخ.

أقول: هذا نوع من الأنواع الثمانية المذكورة في القرآن ونصيبه من الزكاة ان يعطى منها ما يرده إلي وطنه والمعتبر احتياجه في ذلك السفر وان كان غنيا في وطنه ولو امكنه القرض فان ذلك لا يجب عليه لانه قد صار مصرفا بمجرد الحاجة في ذلك المكان فيعطى حقه الذي فرض الله له وقدأخرج البخاري تعليقا وأحمد في المسند من حديث ابن لاس الخزاعي قال حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة إلي الحج وأخرجه ابن خزيمة والحاكم قال الحافظ ورجاله ثقات الا ان فيه عنعنة ابن إسحاق. ونصيب ابن السبيل من الزكاة ما يوصله إلي وطنه وان كان انصباء كثيرة وسرب عن السفر رد ما اخذ لعدم وجود السبب الذي لأجله استحق ذلك النصيب. وأما إذا فضل منه فضله بعد بلوغه إلي وطنه فالظاهر ان يصرفها في مصرف الزكاة لانه لم يبق حينئذ مصرفا. قوله: "وللامام تفضيل غير مجحف". أقول: ظاهر الآية المصرحة بمصارف الزكاة يفيد ان لكل صنف من الاصناف الثمانية نصيبا فيها وانه لا يجوز اخذ نصيب صنف لصنف آخر ويؤيد ذلك حديث زياد بن الحارث الصدائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال اعطني من الصدقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الاجزاء اعطيتك"، أخرجه أبو دأود ["630"] ، وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن انعم الافريقي وفيه مقال وقد تقدم هذا الحديث. فإذا كانت الاصناف موجودة مطالبة صرف الزكاة فيهم وجزأها بينهم وان كان بعضها احوج من بعض فضل الاحوج بما يراه لا سيما الفقراء والمجاهدين وإذا لم يوجدالا البعض صرف في الموجود وان كان صنفا واحدا ومن كان مستحقا لها من وجوه كأن يكون فقيرا غارما مجاهدا كان له من نصيب كل صنف نصيب لتعدد الاسباب الموجودة فيه لأنه يصدق عليه انه فرد من أفراد كل صنف من هذه الاصناف. قوله: "ويرد في المخرج المستحق". أقول: وجه ذلك انه قدد صار مصرفا للزكاة وذلك كان يفتقر بعدإخراجه لزكاته أو يذهب ماله لجائجة من الجوائج ولكن لا يخفى انه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عمر بن الخطاب قال حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت اشتريه وظننت ان يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشتره ولا تعد في صدقتك وان اعطاكه بدرهم فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه"، وهو أيضا في الصحيحين [البخاري "6/139"، مسلم "3/1621"، وغيرهما [أبو دأود "3539"، الترمذي "2132"، النشائي "6/265"، ابن ماجة "2377"] ، من حديث ابن عمر.

وهذا يدل على عدم جواز إرجاع صدقة المتصدق اليه إذا صار مصرفا للصدقة بل يعطى من غيرها من الصدقات التي تصدق بها غيره. قوله: "ويقبل قولهم في الفقر". أقول: لا وجه لتخصيص قبول القول بالفقر بل ينبغي ان يقال ويقبل قول من ادعى انه من مصارف الزكاة ويدل على هذا حديث زياد بن الحارث الصدائي المتقدم قريبا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي طلب منه ان يعطيه من الصدقة: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية اجزاء فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك". فهذا يدل على انه يقبل قول من ادعى انه أحد الاجزاء الثمانية ولا يعارض هذا ما في مسلم ["109/1044"] ، وغيره [أبو دأود "1640"، أحمد "3/477"،، 5/160"] ، من حديث قبيصة: "إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة" وفيه: "ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد اصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوأما من عيش" فإن هذا في جواز المسألة المحرمة بالادلة الصحيحة لافي جواز سؤال الصدقة ممن كان مصرفا للزكاة فإنه يجوز له ان يسأل ما هو حق له ولا يدخل في ادلة تحريم السؤال. قوله: "ويحرم السؤال غالبا". أقول: الاحاديث الدالة على تحريم السؤال كثيرة. فمنها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيد فمن الاحاديث المقيدة حديث: "من سأل وله قيمة أوقية" [أحمد "3/7/9"، أبو دأود "1628"، النسائي "2596"] . وحديث: "من سأل وله خمسون درهما أو حسابها من الذهب" [أحمد "1/411"، أبو دأود ""1626"، الترمذي "650"، ابن ماجة 1840"، النسائي "2593"] ، وقد قدمنا هذه الاحاديث والكلام عليها. ومنها حديث: "لا تحلا المسألة الا لثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع"، أخرجه أحمد ["3/114"، وابو دأود "1641"، وغيرهما [الترمذي "1218"، ان ماجة "2198"] . ومنها حديث قبيصة المتقدم قريبا وينبغي ان يحمل المطلق على المقيد فتحرم المسألة على كل أحد لا على هؤلاء المذكورين وينبغي ان يكون الاحتراز بقوله غالبا عنهم. [فصل ولا تحل لكافر ومن له حكمه الا مؤلفا والغني والفاسق الا عاملا أو مؤلفا والهاشميين ومواليهم ما تدارجوا ولو من هاشمي ويعطى العامل والمؤلف من غيرها

والمضطر يقدم الميتة ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارة واخذ ما أعطوه مالم يظنوه إياها ولا يجزيء أحد فيمن عليه انفاقه حال الاخراج ولا في اصوله وفصوله مطلقا ويجوز لهم من غيره وفي عبد فقير ومن اعطي غير مستحق إجماعا أو في مذهبه عالما اعاد] . قوله: فصل: "ولا تحل لكافر ومن له حكمه". أقول: الآية المشتملة على مصارف الزكاة خاصة بالمسلمين ولا يدخل فيها كافر فلم تشرع الصدقة الا لمواساة من اتصف بوصف من تلك الأوصاف من المسلمين لا لمواساة أهل الكفر فإنا مأمورون بمقاتلتهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية ومتعبدون بالاغلاظ عليهم وعدم موالاتهم ومحبتهم وهكذا من في حكمهم من الاطفال الذين هم في دار الكفر وأما إدراج كافر التأويل في قوله: "ولا تحل لكافر" فقد عرفناك غير مرة ان هذا الامر ناشيء عن التعصبات التي ليست من دأب أهل الايمان وان ذلك مجرد دعوى ليس عليها دليل الا مجرد القال والقيل. وأما استثناء المؤلف فما كان صلى الله عليه وسلم يتألف الا من دخل في الإسلام مع عدم رسوخه فيه. قوله: "الغني والفاسق". أقول: أما الغني فقد دلت الاحاديث الصحيحة على انه لاحظ له في الزكاة إذا لم يكن من أحد الاصناف التي قدمنا الادلة على عدم اشتراط الفقر في أهلها كما عرفت وأما الفاسق فهو من جملة المسلمين فإذا كان من أحد الاصناف المذكورة في الآية فمنعه من نصيبه ظلم له ولم يرد في الكتاب والسنة شيء يصلح للاستلال به على منعه. وأما استثناء العامل والمؤلف من الغني والفاسق فقد قدمنا انه لا يشترط الفقر في هذين الصنفين بل وفي غالب الاصناف كما عرفت. قوله: "والهاشميين". أقول: الادلة المتواترة تواترا معنويا قد دلت على تحريم الزكاة على آل محمد وتكثير المقال وتطويل الاستدلال في مثل هذا المقام لا يأتي بكثير فائدة وقد تكلم الجلال في شرحه في هذا الموضع بما يضحك منه تارة ويبكى له اخرى وجمع بين المتردية والنطيحة ما أكل السبع وبحثه في رسالته التي اشار اليها من جنس كلامه الذي أورده هنا وكل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع وهو رحمه الله من بني هاشم فلا جرم. وأما تحريمها على مواليهم فلحديث أبي ورافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان رسول الله قال: "إن الصدقة لا تحل لنا وان موالي القوم من أنفسهم". أخرجه [أحمد "6/8، 9" وابو دأود "1650"، والنسائي "2612" والترمذي "657"] ، وصححه أيضا ابن خزيمة وابن حيان.

وأما قوله: "ولو من هاشمي" فهو الحق لعموم الادلة. وأما الاستدلال بما رواه الحاكم في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث عن العباس قال قلت يا رسول الله انك حرمت علينا صدقات الناس فهل تحل صدقات بعضنا لبعض؟ فقال: "نعم" فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته كما ذكره الذهبي في الميزان وفيهم من لا يعرف فلا يصلح للتخصيص. قوله: "ويعطى العامل والمؤلف من غيرها". أقول: أما العامل فيدل على تحريمها عليها عليه وعدم جواز قبضه للأجرة منها حديث الفضل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب انه والفضل بن العباس انطلقا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم تكلم احدنا فقال يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ونؤدي اليك ما يؤدي الناس فقال: "إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس". أخرجه [أحمد "9/77، 88"، ومسلم "1072"] ، وغيرهما [أبو دأود "2985"، النسائي "5/105"، 106"] ، فهذا فيه دليل انه لا يجوز للعامل على الزكاة من بني هاشم ان يأخذ عمالته منها فإنهما قد بينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انهما إنما يريدان ان يعملا على الزكاة ويصيبا منها ما يصيبه غيرهما من العمال فيها وهو أجرة العمال فمنع من ذلك معللا للمنع بأنها أوساخ الناس. وأما المؤلف فهو بالمنع من ان يأخذ من الزكاة أولى من العامل لان العامل إنما ياخذ أجرة على قدر عمله والمؤلف لا عمل له على الصدقة فلا يحل تأليفه منها بل يعطى من غيرها. قوله: "والمضطر يقدم الميتة". أقول: أما هذا فتشديد عظيم فإنه قد جاز للمضطر ان يتنأول ما يسد به جوعته من مال غيره فكيف بما هو من اموال الله ولا يخفى ما في أكل الميتة من القذر الذي تنفر عنه النفوس وقد لا تسيغه غالب الطبائع فهذا الذي بلغ إلي حالة الاضطرار له في اموال الله سعة والزكاة من جملتها وإذا قدر على القضاء فعل. ولا وجه لتعليل تقديم الميتة بأن دليلها قطعي فهو ان كان قطعي المتن فهو ظني الدلالة وأيضا قد عرفناك ان الادلة على تحريمها على بني هاشم متواترة فهي قطعية المتن كالقرآن. قوله: "ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارات". أقول: ان كان لفظ الصدقة المذكور في الاحاديث يتنأول الفطرة والكفارات فهما كالزكاة وان كان لا يتنأولهما فلا دليل على تحريمهما وأما التعليل لتحريمهما بأنهما من أوساخ الناس فصدقة النفل هي من أوساخ الناس مع صدق اسم الصدقة عليها وقد ذكرت في شرحي للمنتقى الخلاف في تحريم صدقة النفل عليهم فليرجع اليه. قوله: "واخذ ما اعطوه ما لم يظنوه إياها".

أقول: هذا صحيح فلا يتعبد الإنسان بتحريم ما لم يعلم انه حرام ولا ظن انه حرام ولكن طريق الورع معروفة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل وان قيل صدقة لم يأكل [الترمذي "656"، النسائي "2613"] ، وبه الاسوة وفيه القدوة للناس خصوصا قرابته وأهل بيته. قوله: "ولا يجزئ أحد فيمن عليه انفاق حال الاخراج". أقول: الاصل الجواز ولا يحتاج المتمسك به إلي دليل بل الدليل على المانع ولا دليل فإن تبرع القائل بالجواز بإيراد الدليل على ذلك فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما حديث المرأتين اللتين سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم اتجزئ الصدقة عنهما على ازواجهما وعلى أيتام في حجرهما فقال: "لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة"، فالظاهر ان هذه الصدقة هي صدقة الفرض ولهذا أوقع السؤال عن الاجزاء اذ صدقة النفل على الرحم مجزئة وأيضا ترك الاستفصال منه صلى الله عليه وسلم يدل على انه لا فرق في هذا الحكم بين صدقة الفرض والنفل. وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي سعيد انه صلى الله عليه وآله وسلم قال لزينب امرأة عبد الله بن مسعود لما سألته عن الصدقة: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم"، فعلى تسليم الاحتمال في هذا الحديث يكون ترك استفصاله صلى الله عليه وسلم دليلا على انه لا فرق بين صدقة الفرض والنفل وهكذا ما أخرجه البخاري وغيره عن معن بن يزيد قال أخرج أبي دنانير يتصدق بها عند رجل في المسجد فجئت فأخذتها فقال والله ما إياك اردت فجئته فخاصمته إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك ما نويت يا يزيد ولك ما اخذت يا معن". ولم يقع منه صلى الله عليه وسلم الاستفصال هل هي صدقة فرض أو نفل ويؤيد هذا ما ورد من الترغيب في الصدقة على ذوي الارحام كحديث أبي ايوب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح". أخرجه أحمد ["5/416"] ، وأخرج مثله أيضا من حديث حكيم بن حزام. وأخرج أحمد ["4/17، 18، 214"، والترمذي "658"] ، وحسنه وابن ماجه والنسائي وابن حبان والدارقطني والحاكم عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة"، وفي الباب عن أبي طلحة وأبي امامة ولفظ الصدقة يشمل صدقة الفرض كما يشمل صدقة النفل. ولا يصلح لمعارضة هذا ما روى عن بعض الصحابة اجتهادا منه وأما دعوى من ادعى الاجماع على منع صرف الزكاة في الاصول والفصول فتلك احدى الدعأوي التي لا صحة لها والمخالف موجود والدليل قائم. وأما قوله: "ويجوز لهم من غيره" فلا حاجة اليه لان الجواز معلوم وهم لا يغنون بغناه وهكذا قوله: "وفي عبد فقير" لا حاجة اليه لان العبد ان كان يملك فهو كسائر المصارف من المسلمين وان كان لا يملك فإعطاؤه لسيده والاعتبار بحال السيد.

قوله: "ومن اعطى غير مستحق إجماعا" الخ. أقول: ان كان عالما بانه غير مصرف للزكاة فقد وضع ماله في مضيعة وتجب عليه الاعادة على كل حال وأما إذا لم يعلم وانكشف من بعدانه غير مصرف فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة: "أن رجلا تصدق بصدقة فوقعت في يد سارق فاصبح الناس يتحدثون بأنه تصدق على سارق فقال: اللهم لك الحمد على سارق لاتصدقن بصدقة فتصدق فوقعت في يد زانيه فأصبح الناس يتحدثون تصدق على زانية فقال: اللهم لك الحمد على زانية لاتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غنى فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال: اللهم لك الحمد على غني فقيل: أما صدقتك فقد قبلت أما الزانية فلعلها تستعف من زناها ولعل السارق يستعف عن سرقته ولعل الغنى ان يعتبر فينفق مما آتاه الله عز وجل". هكذا حكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل وفيه ما يدل على قبول الصدقة إذا وقعت في غير مصرف لها مع الجهل بأنه غير مصرف وظاهر الصدقة المذكورة اعم من ان يكون فريضة أو نافلة وقداختلف أهل العلم في الاجزاء إذا كانت الصدقة فريضة قال في فتح الباري فإن قيل ان الخبر إنما تضمن قصة خاصة وقع الاطلاع فيها على قبول الصدقة برؤيا صادقة اتفاقية فمن اين يقع تعميم الحكم فالجواب ان التنصيص في هذا الخبر على رجاء الاستعفاف هو الدال على تعدية الحكم فيقتضى ارتباط القبول بهذه الاسباب انتهى. [فصل وولايتها إلي الامام ظاهرة وباطنة حيث تنفذ أوامره فمن أخرج بعدالطلب لم تجزه ولو جأهلا ويحلف للتهمة ويبين مدعي التفريق وانه قبل الطلب والنقص بعدالخرص وعليه الايصال ان طلب ويضمن بعدالعزل الا باذن الامام أو من اذن له بالاذن وتكفي التخلية إلي المصدق فقط ولا يقبل العامل هديتهم ولا ينزل عليهم وان رضوأ ولا يبتع أحد ما لم يعشر أو يخمس ومن فعل رجع على البائع بما ياخذه المصدق فقط فنية المصدق والامام تكفي لا غيرهما] . قوله: فصل: "وولايتها إلي الامام ظاهرة وباطنة". أقول: أمر الزكاة قد كان إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا شبهة وكا يبعث السعادة لقبضها ويأمر من عليهم الزكاة بدفعها اليهم وإرضائهم واحتمال معرتهم وطاعتهم ولا يسمع في أيام النبوة ان رجلا أو أهل قرية صرفوا زكاتهم بغير اذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر لايجحده من له ادنى معرفة بالسيرة النبوية وبالسنة المطهرة.

وقد انضم إلي التوعد على الترك والمعاقبة بأخذ شطر المال وعدم الاذن لأرباب الاموال بأن يكتموا بعض اموالهم من الذين يقبضون منهم الصدقة بعد ان ذكروا له انهم يعتدون عليهم ولو كان اليهم صرف زكاة اموالهم لأذن لهم في ذلك. وأيضا جعل الله سبحانه للعامل على الزكاة جزءا منها في الكتاب العزيز فالقول بأن ولايتها إلي ربها يسقط مصرفا من مصارفها صرح الله سبحانه به في كتابه. وأما المعارضة لهذا الامر الذي هو أوضح من شمس النهار بأن خالد بن الوليد حبس ادراعه واعتاده في سبيل الله فهذا على تقدير ان حبسها عن الزكاة لا يكون منه الا باذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا صار ذلك معلوما عندالنبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم ان خالدا لا يأخذ جواز هذا التحبيس وإجزاءه عن الزكاة الا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لان مثل ذلك لا يعلم الا من الشرع والاذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرب المال بالصرف في حكم القبض للزكاة منه وأما على تقدير ان المراد بقوله انه قد حبس ادراعه واعتاده في سبيل الله ان من كان هذا فعله في التقرب إلي الله سبحانه بوقف اخص املاكه واحبها اليه مع مزيد حاجته اليها يبعد عنه ان يمنع الزكاة فلا دلالة له على مراد القائل بالمعارضة. وأما ابن جميل الذي قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنه قدمنع من دفع الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل الا انه كان فقيرا فأغناه الله" فليس فيه ما يعارض ما تقدم فإن هذا الذم له فيه اعظم دلالة على تحريم ما وقع منه من المنع وليس فيه انه صرفها إلي مصارفها وقرره صلى الله عليه وسلم على ذلك. وهكذا المعارضة بقضية ثعلبة بن حاطب لا وجه لها فإن ذلك رجل اخبر الله سبحانه انه اعقبه نفاقا في قلبه ولهذا امتنع صلى الله عليه وسلم من قبضها منه لما جاء بها بعد ذلك وكذلك امتنع من قبضها منه الخلفاء الراشدون. والحاصل انه ليس في المقام ما يدل على ان أمر الزكاة إلي ارباها في زمن النبوة قط وبه يندفع جميع ما ذكره الجلال في شرحه هاهنا فإنه لم يأت بشيء بعتد به في المعارضة. وإذا تقرر هذا فقد ثبت ان ما كان امره إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلي الائمة من بعده ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون بعدي اثرة وامور تنكرونها" قالوا: يا رسول فما تأمرنا؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم". وأخرج مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يساله فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعون حقنا ويسألون حقهم فقال: "اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" وفي الباب احاديث. وإذا عرفت هذا علمت ان الدفع إلي الامام واجب لجميع أنواع الصدقات الا ان يأذن لرب المال بالصرف جاز له ذلك وأما تغيير ذلك بكونه نافذ الامر والنهي في البلد التي فيها رب

المال فوجهه انها من جملة اموال الله التي تصرف في المصارف التي من جملتها الدفع عن البلاد والعبادة فإذا كان الامام لا ينفذ له أمر في تلك الجهة كان عاجزا عن هذا ولكنه إذا كان صحيح الولاية وقد بايعه من يعتد به من السملمين كانت طاعته واجبة على من بلغته دعوته ومن جملة الطاعة النصرة له وفدع ما أمره اليه وعليه ان يقوم بحماية أهل تلك الجهة ودفع عدوهم عنهم بما تبلغ اليه طاقته ثم هو لا يعجز عن ان يأخذ الزكاة من اغنياء تلك الجهة ويصرفها في فقرائهم كما أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "فمن أخرج بعدالطلب لم تجزئه ولو جاهلا" فلا وجه له بعدان أوضحنا لك أن أمرها إلي الامام بتلك الادلة بل من أخرج إلي غيره بغير إذنه لم تجزئه وفي حكم الاذن منه ما هو معلوم من كثير من الائمة من تفويض أهل العلم والصلاح بصرف زكاتهم في مصارفها وصار ذلك كا العادة لهم فإن هذا بمنزلة الاذن لهم وان لم يقع الاذن صريحا. وأما قوله: "يحلف للتهمة" فهذا صواب لان الامام نائب عن الله في استيفاء حقوقه فله تحليف من يتهمه بكتم البعض منها. وأما قوله: "ويبين مدعي التفريق" الخ فقد عرفت انه لا يشترط الطلب. قوله: "والنقص بعدا لخرص". أقول: وعلى الخارص ان يدع الثلث أو الربع كما في حديث سهل بن أبي حثمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان وصححاه وإنما يحتاج رب المال إلي البينة على النقص بعدالخرص إذا كان السبب خفيا أما إذا كان ظاهرا كأن يقع في الثمرة جائحة فالقول قوله إذا ادعى نقصا يعتاد مثله في تلك الجائحة. قوله: "وعليه الايصال ان طلب". أقول: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل النخل والعنب انه كا يبعث من يخرص ذلك كما وردت به الاحاديث ولم يأت البيان عن كيفية حمل ذلك إلي النبي هل كان السعادة هم الذين يوصلونه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يوصله ارباب الاموال وإذا رجعنا إلي الادلة الدالة على ان أرباب الاموال هم المخاطبون بتسليمها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعها اليه كان الستليم المطلوب منهم متوقفا على إيصالهم لها اليه. قوله: "ويضمن بعدالعزل" الخ. أقول: لا تأثير لمجردالعزل في الضمان ولا لعدمه في عدمه بل إذا حصد المالك ملكه وقبض ذلك واحرز فإن تلف بعد هذا بتفريط منه مع قدرته على حفظه ضمن زكاة قدر ما تلف وان تلف بأمر غالب ولم يقع منه التفريط فلا ضمان عليه ولا فرق بين عزل قدر الزكاة أو بقائها بين ما هي زكاة له فإن العزل وصف طردى لا تأثير له في الضمان.

وأما قوله: "ويكفى التخلية إلي المصدق فقط" فلا وجه لتخصيص ذلك بالمصدق فإن من قال بوجوب الايصال بوجبه إلي الامام وإلي من ينوب عنه وهم السعادة وإلي الفقير أيضا وسائر المصارف إذا اذن الامام لرب المال بالصرف اليهم ومن لم يقل بوجوبه كانت التخلية إلي الجميع كافية. قوله: "ولا يقبل العامل هديتهم". أقول: الاستدلال على هذا بحديث أبي حميد الساعدي في الصحيحين وغيرهما قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الازد يقال له: ابن اللتبية فلما قدم قال: هذا لكم وهذا اهدى الي فقام النبي صلى الله عليه وسلم فحمدالله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فاني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا لكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ والله لا ياخذ احدكم شيئا بغير حقه الا لقي الله تعالي بحمله يوم القيامة". لا يصلح لمنع العامل من قبول الهدية وإنما هو إنكار عليه في تخصيص نفسه بشيء منها لآنها إنما اهديت له لكونه عاملا على الزكاة لا لشيء يرجع اليه نفسه كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم. فالحاصل ان هذا الحديث يستفاد منه عدم جواز اختصاص العامل بشيء مما يهدي اليه وأما عدم جواز قبوله للهدية فمأخوذ من ادلة اخرى غير هذا الحديث وقد قدمنا حديث: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما اخذ بعد ذلك فهو غلول" ولا سيما إذا كان المقصود بها الرشوة له والتوصل بها إلي مسامحتهم في بعض ما يجب عليهم. قوله: "ولا ينزل عليهم". أقول: قد كان السعاة في زمن النبوة ينزلون عليهم إلي ديارهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أرباب الاموال بارضائهم والاحسان اليهم كما اشتملت على ذلك الاحاديث الكثيرة فلا وجه للمنع نعم إذا امتنع ارباب الاموال من ضيافتهم أو جأوزوا القدر الذي تكون فيه الضيافة أكلوا من الزكاة كما انها تكون عمالتهم منها. قوله: "ولا يبتع أحد ما لم يعشر أو يخمس". أقول: لقد قدمنا ان الزكاة واجبة من العين وانه لا يجوز العدول إلي الجنس الا مع عدم العين ولا يجوز العدول إلي القيمة الا مع عد الجنس فالقدر الذي لا يجوز بيعه هو الزكاة لا المال المزكى الذي لم يخرج زكاته فإنه لا بأس ببيعه حتى يبقى منه قدر الزكاة فإذا بقي منه قدرها حرم بيعها فلا وجه للمنع من بيع الكل. وأما الفرق بين ما اخذه المصدق وغيره في رجوع المشترى على البائع فمن غرائب الراي التي لا ترجع إلي معقول ولا منقول.

[فصل فإن لم يكن إمام فرقها المالك المرشد وولى غيره بالنية ولو في نفسه لا غيرهما فيضمن الا وكيلا ولا يصرف في نفسه الا مفوضا ولانية عليه ولا تلحقها الاجازة لكن يسقط الضمان وذو الولاية يعمل باجتهاده الا فيما عين له ولا يجوز التحيل لاسقاطها وأخذها ونحوها غالبا ولا الابراء والضيافة بنيتها ولا اعتداد بما اخذه الظالم غصبا وان وضعه في موضعه ولا يخمس ظنه الفرض] . قوله: فصل: "فإن لم يكن امام فرقها المالك المرشد" الخ. أقول: هذا معلوم لا يحتاج إلي التدوين فإن عدم الامام يوجب عدم ثبوت الحق عليهم الذي للامام لان ذلك إنما يكون لامام مووجود لا لإمام مفقود والزكاة فريضة من فرائض الشرع وركن من أركان الإسلام يجب على من هي عليه التخلص عنها بدفعها إلي الامام أو باذنه أو إلي من جعله الله مصرفا لها مع عدم الامام. وأما كون ولي الصبي والمجنون هو الذي يخرج زكاتهما فلكونهما لا يصلحان للاخراج فينوب عنهما الولي كما ينوب عنهما في غير الزكاة وقد صرح القرأن الكريم بأنه يمل عمن لا يقدر علىان يمل وليه وما ذكره من انه يجوز له ان يصرف في نفسه فذلك صحيح لآنه ليس بمالك بل متصرف عن المالك وهكذا الوكيل له إخراج زكاة الموكل له وصرفها في نفسه مع التفويض إذا كا مصرفا وقد قدمنا الكلام على زكاة الصبي والمجنون بما فيه كفاية ولا وجه لقوله ولا يلحقها الاجازة لان النية تصح متقدمة ومتأخرة ومقارنة لعدم ورود ما يمنع من ذلك فيجزئ المالك ويسقط الضمان على الذي أخرجها بغير أمر منه. وأما كون ذي الولاية يعمل باجتهاده فلتعذر وقوع ذلك من الصبي والمجنون الا فيما عين له فإنه يكون كالحاكم لنفسه فلا يعمل باجتهاد نفسه. قوله: "ولا يجوز التحيل لاسقاطها واخذها ونحوها غالبا". أقول: هذا التحيل لاسقاط فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركان الدين هو شبيه بحيلة اصحاب السبت ولا شك ولا ريب انه ضد للشريعة المطهرة ومعاندة لما فرضه الله على عباده فهو من الحرام البين الذي نهى الله عنه ونعاه على من قعله وليس من المشتبهات كما قاله الامير في حاشيته وهكذا التحيل لأخذ ما حرمه الله على العبد هو أيضا من الحرام البين. والحاصل ان كل حيلة تنصب لاسقاط ما أوجبه الله أو تحليل ما حرمه فهي باطلة لا يحل لمسلم ان يفعلها ولا يجوز تقرير فاعلها عليها ويجب الانكار عليه لانه منكر وأما إذا كانت للخروج من مأثم كما في قوله تعالي: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44] ، وكما ورد في حد المريض في زمنه صلى الله عليه وسلم يعثكول من النخل فذلك جائز وهو من الحلال البين وبين الامرين من التفأوت ما بين السماء والارض.

قوله: "ولا الابراء والاضافة بنيتها". أقول: أما الابراء فقد قدمنا ان الزكاة تجب من العين فإذا لم تكن العين موجودة جاز إخراج الجنس ثم القيمة فهذا الذي جعل الدين الذي له على الفقير من الزكاة الواجبة عليه ان كانت العين موجودة لديه صرفها إلي الفقير وردها الفقير اليه قضاء عن دينه وان لم تكن موجودة لديه كان الابراء للفقير في حكم التسليم اليه ولا مانع من ذلك ومن ادعى ان ثم مانعا فعليه الدليل. وأما الاضافة للفقير فإن كان ذلك بعين الزكاة فلا شك في جوازه وهكذا ان كان بجنسها مع عدم العين ومن ادعى ان ثم مانعا فعليه الدليل وأما التعليل بالعلل الفرعية من كون الزكاة تمليكا وكون النية لا بد ان تكون مقارنة فليس ذلك مما تقوم به الحجة بل هو في نفسه عليل. قوله: "ولا اعتداد بما اخذه الظالم غصبا وان وضعه في موضعه". أقول: هذه المسألة قد أوضح الامر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه لامته كما ثبت عنه في الصحيحين [البخاري: "7052", مسلم: "45/1843"] وغيرهما من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها"، فقالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم". وأخرج مسلم ["1846"] وغيره [الترمذي "2199"] من حديث وائل بن حجر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يسأله فقال أرأيت ان كان علينا امراء يمنعون حقنا ويسألون حقهم قال: "اسمعوا واطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"، وفي الباب أحاديث واثار كثيرة عن جماعة من الصحابة وقد جعل الله أمر الزكاة إلي الائمة عدلوا أو جاروا فرب المال قد أوجب الله عليه الدفع اليهم لان ذلك هو من الحق الذي لهم ومن تمام الطاعة الثابتة في الكتاب والسنة المتواترة فالقول بعدم الاعتداد هو مجرد شك ووسوسة اقتضى ذلك عدم الاشتغال بعلم السنة وقد قدمنا ذكر الادلة الدالة على وجوب الدفع للزكاة إلي السعاة وان جاروا وظلموا وحصول البراءة بالتسليم اليهم. وأما قوله: "ولا بخمس ظنه الفرض" فلا وجه له لأنه قد أخرج الواجب وزيادة عليه نأويا به الزكاة فوقع قدر الزكاة عنها والزائد إذا أراد استرجاعه فله ذلك لانه إنما أخرجه معتقدا لوجوبه عليه فانكشف خلافه. [فصل ولغير الوصي والولي التعجيل بنيتها الا عما لم يملك وعن معشر قبل إدراكه وعن سائمة وحملها وهو إلي الفقير تمليك فلا يكمل بها النصاب ولا يردها ان انكشف النقص

الا لشرط والعكس في المصدق ويتبعها الفرع فيهما ان لم يتمم به وتكره في غير فقراء البلد غالبا] . قوله: فصل: "ولغيرالولي والوصي التعجيل بنيتها". أقول: قد دل على ذلك حديث على ان العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك أخرجه أحمد ["1/104"] وأهل السنن [أبو داود "1624", الترمذي "678", ابن ماجه "1795"] والحاكم والدارقطني والبيهقي وذكر الدارقطني الاختلاف فيه وليس ذلك بقادح في الاحتجاج به ولا ينافي هذا ما ورد في وجوب الزكاة من العين لان الجمع ممكن بحمل حديث التعجيل على انه أخرج زكاته من العين التي ستجب عليه عند كمال الحول. ومن ادلة جواز التعجيل ما أخرجه البيهقي عن علي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن كنا احتجنا فاستلفنا من العباس صدقة عامين" قال ابن حجر ورجاله ثقات الا انه فيه انقطاعا وأخرج أبو دأودالطيالسي من حديث أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الأول". وأما قوله: "إلا عما لايملك وعن معشر قبل إدراكه" فهو صواب لما قدمنا من ان الزكاة تجب من العين وذلك المعجل قدملكه الفقير ان انكشف ان الزكاة واجبة على المالك والا رده كما اشار اليه المصنف ولا وجه لقوله والعكس في المصدق وهكذا الفرع له حكم الاصل في الرد وعدمه ولا يتمم به النصاب لما قدمنا في قوله وحول الفرع حول اصله. قوله: "وتكره في غير فقراء البلد غاليا" أقول: الاحاديث الصحيحة قد دلت على ان الزكاة تؤخذ من الاغنياء في البلد وترد في الفقراء منهم ولا ينافي ذلك انه كان السعاة يحملون اليه من الزكوات التي يقبضونها فإن مصارف الزكاة ثمانية والرد في فقراء البلد إنما هو لسهم الفقراء ومن الزكاة لا لغيره على انه لا ينافي الرد في فقراء البلد حمل بعض نصيبهم إلي النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك قد يكون لاستغناء فقراء البلد بصرف بعض نصيب الفقراء فيهم وقد يكونون اغنياء وقد لا يوجد فيهم من يستحق الصرف فيه. وبما ذكرناه تعرف الجمع بين الاحاديث ويتضح عدم التعارض بينها.

باب والفطرة تجب من فجر أول شوال إلي الغروب

[باب والفطرة تجب من فجر أول شوال إلي الغروب في مال كل مسلم عنه وعن كل مسلم لزمته فيه نفقته بالقرابة أو الزوجية أو الرق أو انكشف ملكه فيه ولو غائبا وإنما تضيق متى

رجع الا المأيوس وعلى الشريك حصته وإنما تلزم من ملك فيه له ولكل واحد قوت عشر غيرها فإن ملك له ولصنف فالولد ثم الزوجة ثم العبد لا لبعض صنف فتسقط ولا على المشتري وتحوه مما قد لزمته وهي صاع من أي قوت عن كل واحد من جنس واحد الا لاشتراك أو تقويم وانما تجزئ القيمة للعذر وهي كالزكاة في الولاية والمصرف غالبا فتجزئ واحدة في جماعة والعكس والتعجيل بعد لزوم الشخص وتسقط عن المكاتب قيل حتى يرق أو يعتق والمنفق من بيت المال وبأخراج الزوجة عن نفسها وبنشوزها أول النهار موسرة ويلزمها ان اعسر أو تمرد. وندب التبكير والعزل حيث لا مستحق والترتيب بين الافطار والاخراج والصلاة] . قوله: "باب والفطرة تجب من فجر أول شوال إلي الغروب". أقول: قد ثبت في الاحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر وفي الاحاديث الخارجة عن الصحيحين بلفظ: "صدقة الفطر واجبة على كل مسلم" وفي بعض أحاديث الصحيحين بلفظ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر فوجوبها لا شك فيه ولا شبهة ولا يقدح في ذلك ما أخرجه النسائي عن قيس بن سعد بن عبادة قال امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل ان تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله فإن في إسناده رأويا مجولا فلا تقوم به الحجة وعلى التسليم فلا دليل فيه على النسخ لان الامر الأول يكفى ولا يحتاج إلي تجديد. وقد نقل ابن المنذر وغيره الاجماع على وجوب صدقة الفطر قال في الفتح وفي نقل الاجماع نظر لأن إبراهيم بن علية وأبا بكر بن كيسان الاصم قالا ان وجوبها نسخ انتهى ولا يخفاك انهما ليسا ممن يتكلم في النسخ ولا يعتد بقولهما ولكنه قد روى عن اشهب انها سنة مؤكدة وهو قول بعض أهل الظاهر وابن اللبان من الشافعية والادلة الصحيحة ترد عليهم وتدفع قولهم. وأما كون وقت الوجوب من فجر أول شوال إلي الغروب فحديث ابن عباس قال "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فن اداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن اداها بعدالصلاة فهي صدقة من الصدقات" أخرجه أبو دأود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه يدل على انها لا تكون بعد الصلاة زكاة فطر بل صدقة من صدقات التطوع والكلام في زكاة الفطر فلا تجزئ بعدالصلاة وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "امر بزكاة الفطر ان تؤدى قبل خروج الناس إلي الصلاة". قوله: "وفي مال كل مسلم عنه وعن كل مسلم لزمته فيه نفقته بالقرابة أو الزوجية أو الرق".

أقول: هذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والانثى والصغير والكبير من المسلمين". وفي حديث أبي سعيد في الصحيحين وغيرهما قال كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من من تمر أو صاعا من اقط أو صاعا من زبيب. وأما إيجاب الاخراج على من لزمته النفقة فذلك ظاهر في العبد وأما الصبي فيخرج عنه وليه من مال الصبي وكذا المجنون وأما الزوجة فتخرج من مالها إذا كان لها مال فإن لم يكن لها ولا للصبي ولا المجنون مال فالظاهر عدم الوجوب وأما الغريب الكبير الذي ينفقه قريبة فلا وجه لايجاب ذلك على من ينفقه وأما ما روى بلفظ: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد ممن تمونون". أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا وأخرجه البيهقي من حديث علي ففي إسنادهما مقال ولا تقوم بذلك حجة. ويقوى ما ذكرناه في العبد حديث أبي هريرة مرفوعا: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة الا صدقة الفطر" أخرجه مسلم وهو في البخاري بدون الاستثناء. قوله: "وإنما تلزم من ملك له ولكل واحد قوت عشر غيرها". أقول: هذا التقرير يقوت عشر مجرد رأي محض لا دليل عليه وظاهر الاحاديث الواردة بأن زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين وهكذا مأورد من الامر بإغناء الفقراء في هذا اليوم يدلان على ان المعتبر وجود وقت هذا اليوم فمن وجده ووجد زيادة عليه أخرجها عن الفطرة ومن لم يجد الا قوت اليوم فلا فطرة عليه لانه إذا أخرجها احتاج للنفقة في هذا اليوم وصار مصرفا للفطرة. وإذا صح ما ورد من ايجابها على الغني والفقير قد عرفت ما هو الغنى فيما تقدم وعرفت ان الفقير من لا يجد ما يجده الغنى فايجاب الفطرة على الفقير لايستلزم ان يخرج قوت يومه. وأما قوله: "فإن ملك له ولصنف فالولد" الخ فقد عرفت مما تقدم انه لم يتقرر وجوب إخراج الفطرة الا عن العبد للحديث الصحيح الوارد بذلك. وأما ما ورد من تقديم النفس ثم الأهل كما في حديث جابر عند مسلم وما ورد من تقديم النفس ثم الولد ثم الزوجة ثم الخادم كما في حديث أبي هريرة عندا حمد وأبي دأود والنسائي وابن حبان والحاكم فذلك في النفقة لا في الفطرة فالتقديم في النفقة يكون هكذا وأما في الفطرة فلا بد

من دليل يدل على الوجوب ولا دليل الا في العبد ولم ينتهض حديث "ممن تمونون" للحجية كما قدمنا. وأما قوله: "لا لبعض صنف فتسقط" فالمناسب لتفريع المصنف ان تجب عليه الفطرة لمن ملك له قوت عشر من ذلك الصنف وأما جعل ذلك كعدم كمال النصاب فخارج عن البحث لا جامع بينه وبين ما نحن بصدده. وأما قوله ولا تجب على المشتري ونحوه ممن قد لزمته فوجه ذلك ان الوجوب قد ثبت على الأول. قوله: "وهي صاع من أي قوت". أقول: قد ذكرت في شرحي للمنتقى ان الاحاديث الواردة بأن الفطرة نصف صاع من الحنطة تنتهض بمجموعها للتخصيص وذكرت الكلام علىما ذكره أبو سعيد فليرجع اليه وقد ذهب إلي ذلك جماعة من الصحابة منهم عثمان وعلي وابو هريرة وجابر وابن عباس وابن الزبير وامه اسماء بنت أبي بكر كما حكى ذلك عنهم ابن المنذر قال ابن حجر باسانيد صحيحة. قوله: "وإنما تجزئ القيمة للعذر". أقول: هذا صحيح لان ظاهر الاحاديث الواردة بتعيين قدر الفطرة من الاطعمة ان إخراج ذلك مما سماه النبي صلى الله عليه وسلم متعين وإذا عرض مانع من إخراج العين كانت القيمة مجزئة لان ذلك هو الذي يمكن من عليه الفطرة ولا يجب عليه مالا يدخل تحت إمكانه. قوله: "وهي كالزكاة في الولاية والمصرف". أقول: هذه زكاة خاصة لطهرة الصائم من اللغو والرفث ولإغناء الفقراء في ذلك اليوم فمصرفه الفقراء والولاية في الصرف لمن عليه الفطرة ولم يرد ما يدل على ان الولاية للامام ولا يصح التمسك بعموم {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية والا لزم ان صدقة المتطوع يكون مصرفها الثمانية الاصناف وان الولاية فيها للإمام ولا قائل بذلك. أما قوله: "فتجزئ واحدة في جماعة والعكس" فذلك صحيح لآن الولاية له فيتحرى في الصرف ما هو الاقرب إلي سد فاقة الفقراء من غير ان يفرقها تفريقا لا ينفع. قوله: "ويجزئ التعجيل بعد لزوم الشخص". أقول: جعلها ظهرة للصائم من اللغو والرفث وكذلك التصريح باغناء الفقراء في ذلك اليوم وكذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر ان تؤدى قبل خروج الناس إلي الصلاة يدل على ان وقتها يوم الفطر قبل الخروج إلي صلاة العيد ولكنه روى البخاري وغيره من حديث ابن عمر انهم كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين فيقتصر على هذا القدر في التعجيل وقد حكى الامام يحيى إجماع السلف على جواز التعجيل فيحمل هذا الاجماع على

هذا القدر من التعجيل وهو يستفاد من حديث: "من أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة" فإن المراد القبلية القريبة لا القبلية البعيدة التي تنافي حديث: "إنها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين". [أبو دأود "1609"، ابن ماجة "1827". وأما قوله: "وتسقط عن المكاتب" فصحيح لانه قد صار متصفا بصفة هي متوسطة بين الحر والعبد فلم يكن حرا خالصا ولا عبدا خالصا ولم يرد النص الا في فطرة العبد كما تقدم. وأما قوله: "والمنفق عليه من بيت المال" فلا وجه للسقوط بل هو كغيره من المسلمين إن وجد زيادة على كفاية يومه أخرجها وان لم يجد الزيادة فلا فطرة عليه ولا تأثير لكونه منفقا عليه من بيت المال. وأما ما ذكره من سقوطها عن الزوجة باخراجها عن نفسها وبنشوزها فقد عرفت ان فطرتها واجبة عليها لاعلى زوجها. وأما قوله: "والعزل حيث لا مستحق" فذلك غاية ما يقدر عليه مع عدم المصرف. قوله: "وندب التبكير" أقول: ان أراد بالتبكير انها تجزئ قبل الخروج إلي الصلاة فذلك واجب ولا تكون فطرة الا إذا أخرجها في ذلك الوقت كما تقدم وان أراد الزيادة في التبكير حتى يكون إخراجها مثلا بعد فجر يوم الفطر فلا دليل على ذلك. قوله: "وندب الترتيب بين الافطار والاخراج والصلاة". أقول: الوارد عنه صلى الله عليه وسلم أخراج الفطرة قبل الخروج إلي الصلاة وتنأول شيء يفطر به قبل الخروج إلي الصلاة فإذا فعل ذلك فعل المشروع سواء قدم الافطار على اخراج الفطرة أو اخره عليه.

كتاب الخمس

كتاب الخمس [فصل يجب على كل غانم في ثلاثة الأول صيد البر والبحر وما استخرج منهما أو اخذ من ظاهرهما كمعدن وكنز ليس لقطة ودرة وعنبر ومسك ونحل وحطب وحشيش لم يغرسا ولو من ملكه أو ملك الغير وعسل مباح.

الثاني: ما يغنم في الحرب ولو غير منقول ان قسم الا مأكولا له ولدابته لم يقبض منه ولا تعدى كفايتهما أيام الحرب. الثالث: الخراج والمعاملة وما يؤخذ من أهل الذمة] . قوله: "كتاب الخمس يجب على كل غانم في ثلاثة الأول صيد البر والبحر". أقول: اعلم ان هذه الشريعة المطهرة وردت بعصمة اموال العباد وانه لايحل شيء منها الا بطيبة من انفسهم وان خلاف ذلك من أكل اموال الناس بالباطل وقد ثبت في الكتاب والسنة ان الله سبحانه احل لعباده صيد البر والبحر فما صادوه منهما فهو حلال لهم داخل في املاكهم كسائر ما احل الله لهم فمن زعم ان عليهم في هذا الصيد الحلال خمسة أو اقل أو اكثر لم يقبل منه ذلك الا بدليل يصلح لتخصيص الادلة القاضية بعصمة اموال الناس وينقل عن الاصل المعلوم بالضرورة الشرعية ولم يكن ها هنا دليل قط بل ايجاب ذلك سببه توهم دخول الصيد تحت عموم قوله تعالي: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] ، وهو توهم فاسد وتخيل مختل. قوله: "وما استخرج منهما أو اخذ من ظاهرهما كمعدن". أقول: قد ثبت حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جرحها جبار والبئر جبار وفي الركاز الخمس" وهو يدل على وجوب الخمس في الركاز ولكنه اختلف في تفسير الركاز فقال مالك والشافعي انه دفن الجأهلية وقال أبو حنيفة والثوري وغيرهما ان المعدن ركاز وخصص الشافعي الركاز بالذهب والفضة وقال الجمهور لا يختص الركاز بهما واختاره ابن المنذر وهذا مبحث لغوي يرجع فيه إلي تفسيره عند أهل اللغة لانه لم تثبت فيه حقيقة شرعية فقال في الصحاح والركاز دفن الجأهلية كأنه ركز في الارض ركزا انتهى فهذا يقتضي انه خاص بدفن الجأهلية وأما صاحب القاموس فقال في الركاز ما ركزه الله تعالي في المعادن أي احدثه ودفين أهل الجأهلية وقطع الفضة والذهب من المعدن انتهى. وظاهر هذا ان ما خلقه الله في المعادن فهو ركاز وان كان من غير الذهب والفضة وان ما يوجد في معادن الذهب والفضة من قطع الذهب والفضة ركاز. وقال صاحب النهاية ان الركاز عند أهل الحجاز كنوز الجأهلية المدفونة في الارض وعند أهل العراق المعادن والقولان تحتملهما اللغة لان كلا منهما مركوز في الارض أي ثابت ثم قال والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجأهلي انتهى. فهذا تصريح منه بأن الحديث إنما ورد في الكنز الجأهلي وقد اتفق عليه أهل اللغة ويقصر عليه لانه مدلول الحديث ببقين وما عداه فهو محتمل فلا يحمل الحديث عليه وان كان له مدخل في الاشتقاق فلا يجب الخمس الا في دفين الجأهلية ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود والنسائي والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل في كنز وجده في خربة: "إن وجدته في خربة جأهلية أو قرية

غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس وان وجدته في قرية مسكونة أو طريق ميتاء فعرفه". وإذا تقرر لك هذا الحديث عرفت انه لا وجه لايجاب الخمس فيما استخرج من البحر من الجواهر ونحوها ولا فيما استخرج من الارض من المعادن ونحوها بل في الكنز الذي هو من كنز الجأهلية فقط وعلى تقدير ان الركاز يتنأول زيادة على دفين الجأهلية وسلمنا الاحتجاج بالمحتمل فلا يشمل زيادة على معدن الذهب والفضة. وبهذا يتضح لك انه لا خمس فيما ذكره المصنف من الدرة والعنبر والمسك والنحل والحطب والحشيش والعسل. قوله: "والثاني ما يغنم في الحرب". أقول: هذا أمر متفق عليه كما حكاه القرطبي قال اتفقوا على ان المراد بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] . مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون وقد حكى هذا الاجماع غيره من أهل العلم والادلة من الكتاب والسنة فيه أوضح من كل واضح واجلى من كل جلي وأما حرب بغاة السملمين فقد وردت الادلة الصحيحة بعصمة اموالهم بكلمة الإسلام والقيام بأركانه فلا يحل من اموالهم الا ما دل الدليل الناقل عن تلك العصمة عليه فمن جاء به صافيا عن شوب الكدر فبها ونعمت ومن عجز عن ذلك وقف حيث أوقفه الله وكف يده ولسانه وقلمه عن الكلام فيما ليس من شأنه ولا اذن الله له به. ولا فرق في المغنوم من الكفار بين الاراضي وغيرها وأما استثناء المأكول فلا بد فيه من دليل يصلح لاخراجه من عموم الغنائم ولا يصلح لذلك ما روى انهم كانوا يأكلون ما يكفيهم من طعام ونحوه لاحتمال ان يكون ذلك بعدالقسمة أو انه محسوب عليهم من نصيبهم من الغنيمة وفي حديث الجراب الشحم المغنوم في خيبر ما يرشد إلي ما ذكرناه وهو ثابت في الصحيح [البخاري "7/481"، مسلم "72/1772"] . قوله: "الثالث الخراج والمعاملة وما يؤخذ من أهل الذمة". أقول: أما الخراج والمعاملة فأرضهما هي من الارض المغنومة من الكفار وفيها الخمس لانها المغنومة وأما ما يؤخذ منها من خراج أو معاملة فأمر وراء الغنيمة لان تلك الارض بعد تخميسها أما ان تقسم على السملمين ولكل واحد منهم ان يدعها في يد أهلها على خراج يؤدونه أو معاملة وذلك هو فائدة ارضه التي دخلت في ملكه كما يدخل في ملكه بالشراء والميراث وله ان يدعها في يد أهلها ويتصرف بها بما شاء من بيع أو غيره. وأما إذا لم تقسم تلك الارض ورضى الغانمون بأن يشتركوا فيما حصل من غلتها فليس عليهم في ذلك خمس لان الخمس قد وجب في أصل الارض. وأما الجزية وسائر ما يؤخذ من أهل الذمة فعدم الخمس فيها معلوم لانها موضوعة على أهل الذمة إلي مقابل تأمينهم وعصمة اموالهم ودمائهم وليست من الغنيمة التي تغنم في الحرب. والحاصل ان ايجاب الخمس في هذه الثلاثة الأنواع لم يكن لدليل ولا لرأي مستقيم.

وإذا تقرر لك هذا عرفت انه لا يجب الخمس الا في الغنيمة من الكفار وفي الركاز وما عدا ذلك فليس الا مجرد دعأوى لا برهان عليها من معقول ولا منقول. [فصل ومصرفه من في الآية فسهم الله للمصالح وسهم الرسول للامام ان كان والا فمع سهم الله وأولو القربى هم الهاشميون المحقون وهم فيه بالسوية ذكرا وانثى غنيا وفقيرا ويخصص ان انحصروا والا ففي الجنس وبقية الاصناف منهم ثم من المهاجرين ثم من الانصار ثم من سائر المسلمين وتجب النية ومن العين الا لمانع وفي غير المنفق] . قوله: "فصل ومصرفه من في الآية فسهم الله للمصالح وسهم الرسول للامام". أقول: قد ذكرت في تفسيري الذي سميته فتح القدير في هذا ستة مذاهب للسلف واحسن الاقوال واقربها إلي الصواب ان سهم الله سبحانه موكول إلي نظر الامام فيصرفه في الامور التي هي شعائر الدين ومصالح المسلمين. وأما سهم الرسول فلا شك انه للإمام لورود الادلة الدالة على ان ما جعله الله لرسوله فهو لمن يلي امور المسلمين بعده وعليه ان يضع ذلك في مواضعه ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لي مما أفاء الله عليكم الا الخمس والخمس مردود عليكم"، وإذا لم يوجد الامام كان لمن صلح من الملمين ان يضعه في مواضعه. قوله: "أولو القربى هم الهاشميون المحقون". أقول: قداختلف السلف في ذلك فقيل هم قريش كلها وقيل هم بنو هاشم وبنو المطلب وقيل هم بنو هاشم خاصة والحق ان بني المطلب لهم نصيب من الخمس فقد ثبت في الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم اعطاهم منه معللا ذلك بقوله: "إنما نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه" فدل ذلك على ان لهم في سهم ذوى القربى كما لبني هاشم في ذلك. وأما كونه يستوى في ذلك الذكر والأنثى والغني والفقير فينبغي تفويض ذلك إلي نظر الامام العادل الذي يقسم بالسوية ويعمل بما ثبت في الشرع ويؤثره على غيره. قوله: "وبقية الاصناف منهم". أقول: هذه دعوى مجردة وتقييدالقرآن الكريم بمجرد الرأي الذي لا دليل عليه والحق ان لليتامى على العموم سهم من الخمس وكذلك للمساكين وابناء السبيل فالقول بأن هذه الثلاثة الاسهم تصرف في سهم ذوي القربى بعيد من الحق بعدا شديدا ومخالف للنصوص القرآنية مخالفة بينة.

وأما قوله: "ثم من المهاجرين ثم من الانصار ثم من سائر المسلمين" فليس لهذا الترتيب وجه بل يستحق يتامى المهاجرين والانصار وابناء سبيلهم من هذه الثلاثة السهوم نصيبهم ولا تكون مرتبتهم مسقطة لمن كان من أهل هذه الثلاثة السهوم من غيرهم فهذا شيء قد تولى الله سبحانه قسمته في كتابه فليس لنا ان نقول بالرأي وتقييد كلامه سبحانه بمجرد الخيال ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا شيء حتى يقال انه مقيد للكتاب أو مخصص له. قوله: "وتجب النية". أقول: قد قدمنا غير مرة ان الاحاديث المصرحة بأن "الاعمال بالنيات" وبأنه "لا عمل إلا بنية" تدل على وجوب النية في كل عمل وقول ولا سيما الاقوال والافعال التي هي قرب فلا يحتاج إلي الاستدلال على ذلك في كل باب من الابواب والامر أوضح من ان يحتاج إلي تطويل الاستدلال. وأما كون الخمس يجب من العين فذلك ظاهر لقوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فأوجب الخمس في المغنوم وذلك ينصرف إلي عينه فلا يجزئ غيرها الا بدليل. وأما كون الصرف يكون في غير المنفق فقد تقدم في الزكاة ما يفيد في مصرف الخمس فارجع اليه. [فصل والخراج ما ضرب على ارض افتتحها الامام وتركها في يد أهلها على تأديته والمعاملة على نصيب من غلتها ولهم في الارض كل تصرف ولا يزد الامام على ما وضعه السلف وله النقص فإن التبس فالأقل مما على مثلها في ناحيتها فإن لم يكن فما شاء وهو بالخيار فيما لا يحول بين الوجوه الاربعة] . قوله: فصل: "والخراج" الخ. أقول: هذا البيان لماهية الخراج والمعاملة صحيح. وأما قوله: "ولهم في الأرض كل تصرف" فلا يدرى ما سببه ولا ما هو الامر الذي يقتضيه فإنها قد خرجت عن ملكيتهم باغتنام المسلمين لها فلا يقتضي ابقاؤهم عليها خراجا أو معاملة عودها إلي ملكهم اصلا فكيف يصح لهم فيها كل تصرف ومن اين جاز لهم ذلك فإن هذا لا تقتضيه القواعدالفقهية مع كون الادلة ترده فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل خيبر بعد أن صالحهم على أن لهم الشطر من ثمارها: "نقركم على ذلك ما شئنا"، وهو في الصحيحين [البخاري "5/21"، مسلم "6/1551"] ، وغيرهما [أبو دأود "3008"] .

قوله: "ولا يزد الامام على ما وضعه السلف". أقول: الامام العادل الناظر في مصالح المسلمين له ان يفعل ما فيه مصلحة لهم على وجه لا يضر بالعاملين في الارض ولا يكون وضع من قبله ما نعاله من الزيادة التي تقتضيها المصلحة كما انه لا يكون ما نعاله له من النقصان الذي تقتضيه المصلحة فله رأيه ونظره المطابق لمراد الله سبحانه وإذا اقتضى نظره نزع الارض من ايديهم نزعها وإذا اقتضى نظره وضعها في يد قوم آخرين فعل فقول المصنف ولا يزد الامام على ما وضعه السلف لا وجه له ولا دليل عليه الا مجرد ايجاب تقليدالاخر للأول وإهمال النظر في المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والاشخاص. وهذا هو في الاراضي المنتزعة من ايدي الكفار بالجهاد الذي أوجبه الله على المسلمين وأما ما صار يتمسك به بعض المقصرين المروجين للشبه المرخصين في الاموال المعصومة من ان حكم الارض المنتزعة من ايدي البغاة مثل حكم الارض المغنومة من الكفار فهذا كلام ليس من الشرع في شيء بل من التشهي والحكم بالهوى والتلاعب بالدين. وأما ما صارت الطوائف الإسلامية تترامى به من تكفير التأويل فتلك فاقرة من فواقر الدين لا ترجع إلي أصل ولا تنبنى على عقل ولا نقل لا يغتر بمثلها الا جأهل ومتعصب وكلاهما لا يستحق الكلام معه وسيأتي لهذا مزيد تحقيق عند الكلام على قوله وكل ارض اسلم أهلها. قوله: "وهو بالخيار فيما لا يحول بين الوجوه الاربعة". أقول: قد قدمنا ان له ان يعمل بما فيه مصلحة عائدة على المسلمين جارية على منهج لدين فإذا رأى المصلحة في وجه غير الوجوه الاربعة وذلك كأن يقتضي نظره ان يبيعها من أهللها أو من غيرهم عندالظفر بها ويقسم الغنيمة على الغانمين فعل ذلك وهكذا إذا اقتضى نظره تخريب الدور وتغيير رسوم الاموال وقطع الاشجار وتغوير الانهار فعل ذلك لانه ربما يغلب على الظن ان أهلها يغلبون عليها وينتزعونها من ايدي المسلمين كما يقع مثل ذلك كثيرا بين المسلمين والكفار تارة يغلب هؤلاء وتارة يغلب هؤلاء وهكذا إذا اقتضى نظره ان يخص بها بعض الغانمين دون بعض فعل إذا كان في ذلك مصلحة وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارض بني النضير فإنه خص بها المهاجرين لما لم تكن لهم اموال يعيشون بها. [فصل ولا يؤخذ خراج ارض حتى تدرك غلتها ويسلم الغالب ولا يسقطه الموت والفوت وبيعها إلي مسلم واسلام من هي في يده وان عشرا ولا يترك الزرع تفريطا] . قوله: فصل: "ولا يؤخذ خراج ارض حتى يدرك غلتها".

أقول: وجه هذه انه لو اخذ الخراج قبل ذلك وذهبت غلة الارض بجائحة كان في الاخذ ظلم على العاملين في الارض الا ان يكون بينهم وبين من إليه الخراج مواطأة على ان ذلك الخراج يسلم في كل عام أو في وقت حصول الغلة سواء زرعت الارض ام لا ادركت غلتها ام لا فإن ذلك يصير كالاجارة لنفس الارض وقدا ختاروا لأنفسهم ذلك ورضوا به والا فقد ثبت الامر بوضع الخراج وهو عام. وأما قوله: "ولا يسقط بالموت والفوت" فالأمر كذلك لأن الارض باقية والوضع عليها لا على الاشخاص. وهكذا بيعها إلي مسلم واسلام من هي في يده. وأما قوله: "ويترك الزرع تفريطا" فمبنى على ما قدمنا من التراضي وأما مع عدم ذلك فاخذ الخراج من ارض لم تزرع ظلم لا يحل للإمام والمسلمين فعله. وحكم المعاملة حكم الخراج وإنما ترك المصنف ذكر ذلك لكون المعاملة هي على نصيب من الغلة كما سبق فإذا لم تدرك الغلة وذهبت بجائحة لم يجز للامام ولا لغيره من المسلمين ان يأخذوا منهم الا بقدر ما سلم فقط. [فصل والثالث أنواع: الأول الجزية وهي ما يؤخذ من رءوس أهل الذمة وهو من الفقير اثنا عشرة قفلة ومن الغني وهو من يملك الف دينار وثلاثة آلاف دينار عروضا ويركب الخيل ويتختم الذهب ثمان واربعون ومن المتوسط اربع وعشرين وإنما تؤخذ ممن يجوز قتله وقبل تمام الحول. الثاني: نصف عشر ما يتجرون به نصابا منتقلين بأماننا بريدا. الثالث: الصلح ومنه ما يؤخذ من بني تغلب وهو ضعف ما على المسلمين من النصاب. الرابع: ما يؤخذ من تاجر حربي آمناه وإنما يأخذ إن اخذوا من تجارنا وحسب ما يأخذون فإن التبس أولا تبلغهم تجارنا فالعشر ويسقط الأول بالموت والفوت وكلها بالإسلام] . قوله: فصل: "والثالث أنواع الأول الجزية" الخ.

أقول: قد قدمنا انه لا خمس في خراج ولا معاملة ولا ما يؤخذ من أهل الذمة وأما الفرق بين الغني والفقير والمتوسط وتفسير كل واحد منهم بهذه التفاسير فليس لذلك أصل يرجع اليه ولاله دليل يعتمد عليه وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم للناس ما نزل اليهم من قوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ، فامر معاذ بن جبل ان يأخذ من كل حالم دينارا. أخرجه أحمد ["5/230"] وابو دأود ["1576", "1577", "1578"] والترمذي ["623"] والنسائي ["5/26"] وابن حبان والحاكم وصححاه وإذا نظر الامام لمصلحة راجعة إلي الدين وأهله ان يزيد شيئا من غير ظلم أو ينقص شيئا فعل. وأخرج البخاري ["6/257"] عن ابن أبي نجيح قال قلت لمجاهد ما شان أهل الشام عليهم اربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذلك من قبيل اليسار. وأما كونها لا تؤخذ الا ممن يجوز قتله فلأمره صلى الله عليه وسلم لمعاذ ان يأخذها من كل حالم. قوله: "الثاني نصف عشر ما يتجرون به" الخ. أقول: لم يات في الكتاب العزيز الا الجزية ولا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ضرب على اموال أهل الذمة شيئا ولا وجه للاستدلال بما وقع من بعض الصحابة فإن ذلك لا تقوم به الحجة لا سيما في مثل اموال المعاهدين الذين وردت السنة المطهرة بأن ظالمهم "لا يرح رائحة الجنة" [أحمد "5/46، 5/50"، أبو دأود "2760"، النسائي "8/24"] . فالحاصل انه لا يجب عليهم شيء سوى الجزية وهي مأخوذة لحقن الدماء وليس في أموالهم شيء فإن الله سبحانه إنما فرض الزكاة والفطرة في أموال المسلمين تطهرة لهم كما قال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، ولا تطهرة للكفار فهذه المسألة مبنية على غير أساس لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس. قوله: "الثالث الصلح ومنه ما يؤخذ من بني تغلب". أقول: ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مصالحة أهل البحرين وكانوا مجوسا كما ثبت في الصحيحين [البخاري "6/257-258", مسلم "6/2961"] وكذلك مصالحته لأكيدر دومة [أبو داود "3037"] وكذلك مصالحته لأهل نجران وكل ذلك جزية صالحهم على مقدارها بما روى عنه في ذلك وليس ذلك مالا آخر غير الجزية وفي ذلك دليل على ان للإمام ان يصالح عن الجزية بما فيه مصلحة. قوله: "الرابع ما يؤخذ من تاجر حربي امناه". أقول: هذا الذي يؤخذ من تجار أهل الحرب هو أيضا جزية لانه مأخوذ في مقابلة تأمينهم في بلاد السملمين وحقن دمائهم وليس ذلك شيئا آخر غير الجزية وللإمام ان يأذن لتجار أهل الحرب ان يدخلوا بتجارتهم إلي ارض المسلمين إذا كان في ذلك مصلحة. وأما كونه يؤخذ منهم بقدر ما ياخذون من تجارنا إن اخذوا وإلا فلا فهذا أيضا مما لنظر الائمة فيه مدخلا لأن الاخذ منهم مع كون أهل الحرب لا يأخذون من تجار المسلمين يؤدى إلي إنزال الضرر بتجار المسلمين.

والحاصل ان الامام المتبصر العارف بموارد هذه الشريعة ومصادرها لا يخفى عليه ما فيه المصلحة أو المفسدة فله نظره المطابق للصواب العائد على المسلمين بجلب المصالح ودفع المفاسد. قوله: "ويسقط الأول بالموت والفوت". أقول: لا وجه لهذا السقوط لانه دين قد ثبت للمسلمين بذمة الذمي الذي مات أو فات فلا يسقطه الا مسقط شرعي وقد وفى المسلمون له بالامان فاستحقوا ما جعلوه عليه في مقابلته لا شك في ذلك. وأما سقوط الجميع بالإسلام فذلك أمر ظاهر لا يحتاج إلي ذكره لان ذلك المأخوذ إنما كان لكونهم كفارا وقد صاروا مسلمين فلم يبق الموجب للأخذ والإسلام يجب ما قبله. [فصل وولاية جميع ذلك إلي الامام وتؤخذ هذه مع عدمه ومصرف الثلاثة المصالح ولو غنيا وعلويا وبلديا وكل ارض اسلم أهلها طوعا أو احياها مسلم فعشرية ويسقط بأن يملكها ذمي أو يستأجرها ويكرهان وينعقدان في الاصح وما اجلى عنها أهلها بلا إيجاف فملك للإمام وتورث عنه] . قوله: فصل: "وولاية جميع ذلك إلي الامام". أقول: قد كان أمر هذه الامور إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صار إلي الخلفاء الراشدين من بعده فأفاد ذلك ان امرها إلي الائمة ولا يحتاج إلي الاستدلال بزيادة على هذا. وأما كونها تؤخذ مع عدمه فذلك أمر واضح لانها واجبات شرعية يجب على المسلمين صرفها في مصارفها فإن لم يوجد الامام كان امرها إلي من له نهضة بالقيام بأمور المسلمين كائنا من كان. وأما قوله: "ومصرف الثلاثة المصالح" الخ فلا يخفى انها كانت معروفة في زمن النبوة وفي أيام الخلفاء الراشدين إلي مصارف معروفة فينبغي للإمام ان يتحرى ذلك ويضعها في مثل تلك المصارف بحسب ما يبلغ اليه إجتهادة ويدخل تحت قدرته وطالب الحق لا يخفي عليه وجهه وقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الواضحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا جاحد هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه ثم قال عقيبه: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين عضوا عليها بالنواجذ"، [أحمد "4/126/127"، الترمذي "2676"، ابن ماجة "43، 44"] . قوله: "وكل ارض اسلم أهلها أو احياها مسلم فعشرية". أقول: هذا هو من الوضوح بمكان يستغنى عن تدوينه فإن اراضي أهل الإسلام معصومة

بعصمة الإسلام لا يجب فيها الا ما أوجبه الله من الزكاة ومن زعم في ارض منها انها قد صارت إلي صفة غير هذه الصفة فقد خالف ما هو معلوم من الضرورة الدينية ولا يكون الا أحد رجلين أما جأهل لا يدري ما يقول أو متلاعب بالدين لأغراض نفسانية ومقاصد دنيوية كما قدمنا قريبا. واحق ارض الله سبحانه بإجراء الأحكام الإسلامية عليها ارض اليمن لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "الايمان يمان" وقد صح انهم اسلموا طوعا بغير قتال عند بلوغ البعثة النبوية اليهم فهم احق العالم بما ذكرناه وارضهم احق الارض بذلك. وأما ما تجدد من الدعأوي الفاسدة والشبه الداحضة من تكفير بعض طوائف الإسلام لبعض فذلك لا يرجع إلي دليل من عقل ولا نقل بل مجرد شهوة شيطانية اثارتها العصبية الجأهلية فإياك ان تغتر بشيء منها فإنها حديث خرافة وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الخراج جزية كما في حديث أبي الدرداء عند أبي دأود مرفوعا: "من اخذ أرضا بجزيتها فقد استقال هجرته" فهذا الوعيد ورد فيمن استأجر ارض الخراج وهو مسلم فكيف يحل لملسلم ان يحكم على السملمين بأن أرضهم خراجية وانهم يسلمون الخراج الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزية وهل يجترئ على ما دون هذا من يؤمن بالله واليوم الاخر. وأخرج أبو دأود من حديث حرب بن عبيد الله: "إنما الخراج على اليهود والنصارى وليس على المسلم خراج". وأخرج أبو دأود والترمذي من حديث ابن عباس مرفوعا: "ليس على مسلم جزية" أي خراج. قوله: "ويسقط بأن يملكها ذمي أو يستاجرها" أقول: هذا أيضا أوضح من شمس النهار ولا يحتاج إلي تدوينه في كتب الفقه فإن الزكاة إنما فرضها الله سبحانه على المسلمين لا على الكافرين ومن عجائب الزمن انه قد وقع في زمننا هذا المطالبة لليهود بزكاة ما يملكونه من الارض من كثير من المغفلين الذين لا يعرفون الشرائع فما كان المصنف رحمه الله الا كشف له عما يأتي به الزمان من الغرائب فنص على هذا الامر الواضح الجلي في كتابه هذا. وأما القول بالكراهة لتملك الذمي للأرض العشرية واستئجاره لها فراجع إلي الخلاف في ان أهل الذمة هل يجوز لهم ان يتملكوا شيئا من الاراضي الإسلامية ام لا فمن منع من ذلك لم يجعله مكروها فقط بل يجزم بمنعه وعدم تقرير أهل الذمة عليه ومن جوزه فلا وجه لجعله مكروها. قوله: "وما اجلى عنها أهلها بلا إيجاف فملك للإمام وتورث عنه". أقول: هذا مخالف لما في كتاب الله عز وجل قال الله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أهل الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] ، إلي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] ، ثم عطف عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّأوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} [الحشر: 9] ، ثم قال {وَالَّذِينَ جَاءُوا

مِنْ بَعْدِهِمْ} الحشر: 10] ، فهذه مصارف ما افاء الله على رسوله من أهل القرى فما معنى قوله: فملك للإمام وتورث عنه مع ان المصنف وغيره استدلوا على هذا الذي ذكروه بقوله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] ، فكيف قصروا الآية على مصرف من المصارف التي ذكرها الله عز وجل؟

كتاب الصيام

كتاب الصيام مدخل ... كتاب الصيام هو أنواع منها سيأتي ومنها رمضان. [فصل ويجب على كل مكلف مسلم الصوم 4 والافطار لرؤية الهلال وتواترها ومضى الثلاثين وبقول مفت عرف مذهبه صح عندي قيل جوازا ويكفي خبر عدلين قيل أو عدلتين عن ايها ولو مفترقين وليتكتم من انفرد بالرؤية ويستحب صوم يوم الشك بالشرط فإن انكشف منه امسك وان قد افطر. ويجب تجديد النية لكل يوم ووقتها من الغروب إلي بقية من النهار الا في القضاء والنذر المطلق والكفارات فتبيت. ووقت الصوم الفجر إلي الغروب ويسقط الأداء عمن التبس شهره أو ليله بنهاره فإن ميز صام بالتحري. وندب التبييت والشرط وإنما يعتد بما انكشف منه أو بعده مما له صومه أو التبس والا فلا ويجب التحري في الغروب. وندب في الفجر وتوقي مظان الافطار والشاك بحكم الاصل وتكره الحجامة والوصل ويحرم تبييته] قوله: "يجب على كل مكلف الصوم والافطار لرؤية الهلال وتواترها ومضى الثلاثين". أقول: وجوب الصيام عند حصول أحد هذه الثلاثة الاسباب معلوم بالضرورة الدينية وإجماع المسلمين والاحاديث الواردة في ذلك مصرحة بهذا مثل حديث [البخاري "4/119"، مسلم "19/108"، أحمد "2/415"، النسائي "4/733"، "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم

فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما". ومثل حديث [البخاري "4/113"، مسلم "8/108"، أحمد "2/145"، النشائي "4/134"، ابن ماجة "1654"، "إذا رأيتم الهلال فصوموا فإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما". والاحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة. قوله: "وبقول مفت عرف مذهبه صح عندي" أقول: وجه هذا ان صدور مثل هذا القول من المفتي الذي يعقل حجج الله ويعرف ما تقوم به الحجة على العباد في الصوم والافطار يدل على انه قد صح عنده مستند شرعي من المستندات المعتبرة فكأنه اخبر بوجود ذلك المستند وصحته فكلامه دليل على نفس السبب الشرعي وان لم يكن سببا شرعيا. هذا إذا كان بالمنزلة التي ذكرناها ولا يكون الا مجتهدا لأن المقلد لا يعقل الحجة ولا يدري ما هو الذي يصلح للاستناد اليه والعمل به وأما إذا لم يكتف المفتي بهذه العبارة وهي قوله: "صح عندي" بل ذكر السبب الذي قامت به لديه الحجة من شهادة شهود عدول أو كمال عدة انه قد صح عنده وجود ذلك السبب وقيام الحجة فالعمل بهذا اقرب من العمل بمجرد إطلاق الصحة بدون ذكر المستند. قوله: "ويكفى خبر عدلين قيل أو عدلتين" أقول: يدل على اعتبار العدلين ما أخرجه أحمد والنسائي بإسناد لا بأس به عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب انه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال الا اني جالست اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائلتهم وانهم حدثوني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا". وأخرج أبو دأود ["2338"] والدارقطني وصححه عن امير مكة الحارث بن حاطب قال عهد الينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما ورجاله رجال الصحيح الا الحسين بن الحارث الجدلي وهو صدوق. وأخرج أحمد ["9/256"، وابو دأود "2339"] ، عن ربعي بن حراش عن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم اعرأبيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهل الهلال امس عشية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ان يفطروا ورجاله رجال الصحيح. وأخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم عن عبيد الله بن عمير بن أنس ان ركبا جاءوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم وسلم فشهدوا انهم رأوا الهلال بالامس فأمرهم ان يفطروا وإذا اصبحوا ان يغدوا إلي مصلاهم. وورد ما يدل على الاكتفاء بشهادة الواحد فأخرج أبو دأود والدرامي والدارقطني وابن حبان والحاكم وصححاه والبيهقي وصححه أيضا عن ابن عمر قال تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول صلى الله عليه وسلم اني رأيه فصام وأمر الناس بصيامه.

وأخرج أهل السنن [أبو دأود"2340"، النسائي "2113"، الترمذي "691"، ابن ماجة "1652"] ، وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم عن ابن عباس قال جاء اعرأبي إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال: "أتشهد ان لاإله الا الله؟ " قال: نعم, قال: "أتشهد ان محمدا رسول الله؟ " قال: نعم, قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا". ولا يخفاك ان مادل على اعتبار الشاهدين يدل على عدم العمل بالشاهد الواحد بمفهوم العدد وما دل على صحة شهادة الواحد والعمل بها يدل بمنطوقه على العمل بشهادة الواحد ودلالة المنطقوق أرجح من دلالة المفهوم. وأما قوله: "عن أيها" فقد قدمنا الكلام على قول المفتي صح عندي. وأما قوله: "ولو مفترقين" فذلك صحيح فلا خلاف انه لا يعتبر ان يراه الشاهدان مجتمعين. قوله: "وليتكتم من انفرد بالرؤية". أقول: قد قدمنا وجوب العمل بخبر الواحد وأن ذلك يلزم جميع المسلمين إذا كان عدلا مقبول الشهادة فهذا الذي انفرد بالرؤية قد حصل له العلم اليقين المستند إلي حاسة البصر فلا وجه لتكتمه بالصوم ولا بالافطار بل عليه التظهر بذلك وإعلام الناس بأنه رآه فمن عمل بذلك عمل ومن ترك ترك وأما الاستدلال على هذا التكتم بحديث: "صومكم يوم يصوم الناس وفطركم يوم يفطر الناس" فمن الاستدلال بما لا مدخل له في المقام فإن ذلك إنما هو ارشاد إلي ان يكون الاقل من الناس مع السواد الاعظم ولا يخالفونهم إذا وقع الخلاف لشبهة من الشبه وأما بعد رؤية العدل فقد اسفر الصبح لذي عينين ولم يبق ما يوجب على الرائي ان يقلد غيره أو يعمل بغير ما عنده من اليقين. قوله: "ويستحب صوم يوم الشك بالشرط" أقول: الوارد في هذه الشريعة المطهرة ان الصوم يكون للرؤية أو لكمال العدة ثم زاد الشارع هذا بيانا وأيضاحا فقال: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" فهذا بمجردة يدل على المنع من صوم يوم الشك فكيف وقدا انضم إلي ذلك ما هو ثابت في الصحيحين وغيرهما من نهية صلى الله عليه وسلم لامته عن ان يتقدموا رمضان بيوم أو يومين فإذا لم يكن هذا نهيا عن صوم يوم الشك فلسنا ممن يفهم كلام العرب ولا ممن يدري بواضحه فضلا عن غامضه ثم انضم إلي ذلك حديث عمار بلفظ: "من صام يوم الشك فقد عصى ابا القاسم". أخرجه أهل السنن [أبو دأود "2334"، الترمذي "686"، النسائي "4/153"، ابن ماجة "1645"] ، وصححه الترمذي "3/70"، وهو للبخاري "4/119" تعليقا وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال ابن عبد البر هذا مسند عندهم لا يختلفون فيه. قوله: "وان انكشف منه امسك وان قد افطر".

أقول: يدل على هذا ما ثبت في الصحيحين [البخاري "4/245"، مسلم "135/135"] ، وغيرهما [النسائي "4/192"، أحمد "4/47"] ، من حديث سلمة بن الاكوع والربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من اسلم ان يؤذن في يوم عاشوراء ان كل من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم وكان إذ ذاك صيام عاشوراء واجبا فدل هذا على انه إذا انكشف ان اليوم من رمضان امسك من كان قد أكل. قوله: "ويجب تجديد النية لكل يوم وهو من الغروب إلي بقية من النهار". أقول: استدل على هذا بما قدمناه من امره صلى الله عليه وسلم لمن أكل في يوم عاشوراء فليمسك ومن لم يأكل فليصم وكان ذلك النداء والامر بالصوم في النهار فدل على ان النية تصح في نهار الصوم واستدل الموجبون للتبييت بحديث ابن عمر عند أحمد وأهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "من لم يجمع الصوم قبل الفجر فلا صيام له" وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان وصححاه وصححه أيضا الحاكم وليس فيه علة قادحة الا ما قيل من الاختلاف في الرفع والوقف والرفع زيادة وقد صحح المرفوع هؤلاء الاشمة الثلاثة ولا يخفاك ان هذا الحديث عام وانه يدل قوله: "فلا صيام له" على أنه لا يصح صوم من لم يبيت النية فيكون حديث يوم عاشوراء معمولا به فيمن لم ينكشف له ان اليوم من رمضان الا في النهار فلا معارضة بين الحديثين. وبهذا يتضح لك انه لا وجه لتخصيص القضاء والنذر المطلق والكفارات بوجوب التبييت بل هو واجب في كل صوم الا في تلك الصورة التي ذكرناها وفي صوم التطوع لما ورد انه كان صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيسألهم عن الغداء فإن لم يجده قال: "إني صائم" مع أنه يحتمل أنه كان قد بيت النية وإنما سأل عن الغداء لأنه متطوع والمتطوع امير نفسه. قوله: "ووقت الصوم من الفجر إلي الغروب". أقول: ما ذهب اليه القائلون بأن ابتداء الصوم من شروق الشمس ليس عليه دليل قط والاستدلال لهم بمثل حديث: "كلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم" لا يطابق المدعى ولا يدل عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الناس بأن بلالا يؤذن بليل ثم علل ذلك بقوله: "ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم"، [البخاري "2/103"، مسلم "1093"] ، فإذانه كان في بقية من الليل لهذه العلة وكان الفجر الحقيقي هو عند إذان ابن ام مكتوم وكما ورد انه كان لا ينادي حتى يقال له اصبحت اصبحت أي دخلت في وقت الصباح والدخول في وقت الصباح يكون بطلوع الفجر وليس المراد انه كا يؤخر الإذان عن وقت طلوع الفجر بل كان ينتظر من يخبره بطلوع الفجر وكيف يصح الاستدلال لهم بمثل هذه الامور وقد صح انه صلى الله عليه وسلم كان يتسحر ثم يخرج إلي صلاة الفجر وكان بين سحوره وصلاته مقدار خمسين آية كما ثبت التقدير بهذا وقد ثبت انه صلى الله عليه وسلم كان يصلى صلاة الفجر بغلس وكان آخر الامرين التغليس.

والحاصل ان هذا المذهب هو من جملة المذاهب الساقطة المخالفة لما هو المعلوم من الشريعة. قوله: "ويسقط الأداء عمن التبس شهره أو ليله بنهاره". أقول: هذا اللبس يرفع الوجوب عنه لأن تكليفه بالصوم لرمضان مع عدم علمه بأن الشهر شهر رمضان تكليف بما لا يطيقه ولا يدخل تحت وسعه وهكذا تكليفه بصوم وقت لا يدري اهو ليل أو نهار تكليف بصيام وقت لم يتبين انه من نهار رمضان. ولا شك ان الوجوب مع هذا اللبس منتف وأما وجوب القضاء فذكر المصنف لسقوط الأداء يفيد انه يجب القضاء بعد ذهاب اللبس العارض ولا وجه لايجاب القضاء عليه الا إذا كان سبب اللبس لنوع من أنواع المرض كالأعمى فإنه يدخل تحت قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] . وأما قوله: "فإن ميز صام بالتحري" فظاهر لأن الخطاب قد توجه اليه بما حصل له من التمييز. وأما قوله: "وندب التبييت" فقد قدمنا انه واجب ولا وجه لندبيته مع التمييز ولكنه إذا انكشف أنه صام غير رمضان فلا يسقط عنه الوجوب. وأما إيجاب التحري في الغروب فلكون الاصل بقاء النهار ولكن هذا إذا كان ثم سبب يقتضى التحري كالغيم ونحوه وإلا فوقت المغرب واضح لا يحتاج إلي تحر الا عند من حرمه الله العمل بمشروعية تعجيل الافطار الثابت بالسنة الصحيحة. وأما كون التحري في الفجر مندوبا فذلك مع عروض ما يقتضي التحري وإلا فهو وسوسة ليست من الشرع في شيء. وأما قوله: "وندب توقي مظان الافطار فالظاهر" أن اجتناب ما هو مظنة للإفطار واجب لأن البقاء على الصوم واجب والخروج منه حرام والذريعة إلي الحرام حرام. وأما كون الشاك يحكم بالاصل فذلك صواب فلا ينتقل عنه الا بدليل يصلح للنقل. قوله: "وتكره الحجامة". أقول: بمجرد كراهة التنزيه يجمع بين الاحاديث الواردة في ان الحجامة يفطر بها الصائم وبما ورد من الترخيص في ذلك فمن كانت الحجامة تضعفه كانت مكروهة في حقه وقدأخرج البخاري عن ثابت البناني انه قال لأنس اكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا إلا من اجل الضعف وأخرج الدارقطني بإسناد رجاله ثقات عن أنس قال أول ما كرهت الحجامة للصائم ان جعفر ابن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أفطر هذان" ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم وقد ثبت في الصحيح [البخاري "4/174"] ، انه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. قوله: "والوصل يحرم بنيته".

أقول: وجهه انه ثبت النهي عنه في الاحاديث في الصحيحين وغيرهما والنهي حقيقة في التحريم ولا ينافي هذا مواصلته صلى الله عليه وسلم فقد بين العلة في ذلك لما قالوا له إنك تواصل فقال: "لست كهيتئكم إني يطعمني ربي ويسقيني" فاقتضى هذا أن الجواز خاص به لهذه العلة ولو لم يكن ذلك محرما على غيره لما واصل بهم حين لم ينتهوا وقال: "لو مد لنا الشهر لواصلت وصالا يدع به المتعمقون تعمقهم" وفي البخاري أنه واصل بأصحابه لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال فواصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر لزدتكم" كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا. [فصل ويفسده الوطء والامناء لشهوة في يقظة غالبا وما وصل الجوف مما يمكن الاحتراز منه جاريا في الحلق من خارجه بفعله أو سببه ولو ناسيا أو مكرها الا الريق من موضعه ويسير الخلالة معه أو من سعوط الليل فيلزم الاتمام والقضاء ويفسق العامد فيندب له كفارة كالظهار قيل ويعتبر الانتهاء] . قوله: "فصل ويفسده الوطء" أقول: لا يعرف في مثل هذا خلاف وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان المجامع في رمضان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: هلكت يا رسول الله قال: "وما أهلكك؟ " قال وقعت على امرأتي في رمضان فأمره بالكفارة وفي رواية لأبي دأود وابن ماجه انه صلى الله عليه وسلم قال له: "وصم يوما مكانه" وهذه الزيادة مروية من اربع طرق يقوى بعضها بعضا ويدل على تحريم الوطء على الصائم صيأما واجبا مفهوم قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلي نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] . قوله: "والامناء لشهوة في يقظة" أقول: ان وقع من الصائم سبب من الاسباب التي وقع الامناء بها بطل صومه وان لم يتسبب بسبب بل خرج منيه لشهوة ابتداء أو عند النظر إلي ما يجوز له النظر اليه مع عدم علمه بأن ذلك مما يتسبب عنه الامناء فلا يبطل صومه وما هو باعظم ممن أكل ناسيا كما سيأتي. قوله: "وما وصل الجوف مما يمكن الاحتراز منه" الخ. أقول: هذا معلوم بالضرورة الدينية فمن ادخل مأكولا أو مشروبا من فمه إلي جوفه بطل صومه إذا كان له في ذلك اختيار ولا فرق بين مفطر ومفطر ولا بين مأكول ومشروب معتاد ونادر أما إذا لم يكن له اختيار فلا يبطل صومه لورود الدليل فيمن أكل أو شرب ناسيا وهو ما

ثبت في الصحيحين [البخاري "4/155"، مسلم "171/155"] ، وغيرهما [أحمد "2/425"، أبو دأود "2398"، الترمذي "721"، ابن ماجة "1673"، من حديث أبي هريرة قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فانما اطعمه الله وسقاه". وفي لفظ للدارقطني من هذا الحديث بإسناد صحيح "فإنما هو رزق ساقه الله اليه ولا قضاء عليه". وفي لفظ لابن خزيمة وابن حبان والحاكم من هذا الحديث: "من أفطر يوما من رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة"، قال ابن حجر وهو صحيح. وأخرج الدارقطني من حديث أبي سعيد مرفوعا: "من أكل في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه" قال ابن حجر وإسناده وان كان ضعيفا لكنه صالح للمتابعة فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة ان يكون حسنا يصلح للاحتجاج به انتهى. وقد ذهب إلي العمل بهذا الجمهور وهو الحق ومن قابل هذه السنة بالراي الفاسد فرأيه رد عليه مضروب به في وجهه وكثيرا ما يتمسك المصنفون بمقالات اصولية اصلها مبني على الراي فيرجعون إلي الرأي من حيث لا يشعرون ولهذا الفت كتأبي في الاصول. الذي سميته ارشادا لفحول إلي تحقيق الحق من علم الاصول واعلم ان من فعل شيئا من المفطرات كالجماع ناسيا فله حكم من أكل أو شرب ناسيا ولا فرق بين مفطر ومفطر ولا حاجة لذكر ما استثناه المصنف فعدم كونه مفطرا معلوم. وأما قوله: "والقضاء" فخلاف ما ورد به الدليل كما ذكرنا. وقوله: "ويفسق العامد فيندب له كفارة كالظهار". أقول: أما الفسق فلكونه اجترأ على كبيرة من الكبائر العظيمة وأما مشروعية الكفارة له فظاهر الدليل ان ذلك واجب حتما ولا ينافيه صرفها فيه وقوله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأطعمه أهلك"، فإنه انما سوغ له ذلك لمزيد فقره وشدة حاجته وعدم قدرته على الصوم فيلحق به من هو مماثل له وأما القادر على احدالأنواع فهي واجبة عليه. [فصل ورخص فيه للسفر والاكراه وخشية الضرر مطلقا ويجب لخشية التلف أو ضرر الغير كرضيع أو جنين ولا يجزئ الحائض والنفساء فيقضيان وندب لمن زال عذره الامساك وان قد افطر ويلزم مسافرا ومريضا لم يفطرا] قوله: فصل: "ورخص فيه للسفر". أقول: قد رخص في ذلك كتاب الله عز وجل فقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ

فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث في الصحيحين وغيرهما انه صام في السفر وأفطر وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما انه قال لحمزة الاسلمي: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر"، وأما قوله صلى الله عليه وسلم للصائمين في السفر: "ليس من البر الصوم في السفر"، فانما قال ذلك لما رأى زحأما ورجلا قد ظلل عليه فقال: "ما هذا"؟ فقالوا صائم هكذا في الصحيحين فمن بلغ به الصوم إلي مثل ذلك الضرر فليس صومه من البر لان الله سبحانه قد رخص له في الافطار وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف يصوم ويصومون حتى إذا بلغ الكديد افطر وأفطروا. وفي الصحيحين من حديث أنس قال: كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد قال سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر فلا يعيب بعضهم على بعض والاحاديث في هذا الباب كثيرة. قوله: "والاكراه". أقول: أما من اكره على الافطار ولم يقدر على الدفع ولا بقي له فعل ف وجه للحكم عليه بأنه قد افطر بل صومه باق ولا قضاء عليه وهذا المكره إلي هذا الحد أولى بان يقال فيه لا يفطر من الناسي وأما إذا بقي له قدرة على الدفع حتى لا يفطر فذلك واجب عليه لان إكراهه على الافطار منكر يجب إنكاره. وأما قوله: "وخشية الضرر مطلقا" فإذا خشى وقوع ضرر عليه في بدنه أو ماله ان لم يفطر جاز له الافطار والظاهر انه لا يبطل صومه بهذا الافطار الذي خشى إذا لم يفعله الضرر لانه مستكره وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رفع عن امتي الخطأ والسنيان وما استكرهوا عليه"، وله طرق يقوى بعضها بعضا. هذا إذا كان الضرر الذي يخشاه صادرا من جهة الغير أما إذا كان صادرا من جهة نفسه لعدم القدرة على الصوم وحدوث الضرر أن فعل فالافطار جائز له لانه قد صار بذلك في حكم المريض وعليه القضاء كما قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ، ووجوب الافطار لخشية التلف علوم من قواعدالشريعة كلياتها وجزئياتها كقوله تعالي: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 6] . "وإذا امرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم". وحفظ النفس واجب ولم يتعبد الله عباده بما يخشى منه تلف الانفس وقد رخص لهم في الافطار في السفر لانه مظنة المشقة فكيف لا يجوز لخشية التلف أو الضرر.

قوله: "أو ضرر الغير كرضيع أو جنين". أقول: هذا قد دل عليه حديث أنس بن مالك الكعبي عندأحمد وأهل السنن ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إن الله وضع عن المسافر الصم وشطر الصلاة وعن الحبلى والمرضع الصوم" وحسنه الترمذي وقال لا يعرف لابن مالك هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث الواحد وقال ابن أبي حاتم في علله سألت أبي عنه يعني الحديث فقال اختلف فيه والصحيح عن أنس بن مالك القشيري انتهى. والمسمون بأنس بن مالك خمسة هذا احدهم. وقد ذهب إلي ما دل عليه هذا الحديث الجمهور ونقل بعض أهل العلم الاجماع على عدم جواز صوم الحامل والمرضع إذا خافتا على الجنين أو المرضع قال الترمذي العمل على هذا عند أهل العلم. قوله: "ولا يجزئ الحائض والنفساء فيقضيان". أقول: هذا أمر متفق عليه بين أهل الإسلام وبه عمل من كان في عصر النبوة ومن بعدهم إلي هذه الغاية ولا يسمع عن أحد من المسلمين انه خالف في هذا قط الا ما يروى عن الخوارج ولهذا قالت ام المؤمنين عائشة للقائلة لها ما بال الحائض تقضى الصيام ولا تقضى الصلاة احرورية انت أي اخارجية انت لانهم كانوا يسمون الخوارج حرورية فالعجب ممن يميل إلي هذه المقالة الباطلة مستمسكا بالشبه الداحضة ويخالف أهل الإسلام اجمع اكتع ويختار ما ذهب اليه الخوارج كلاب النار. قوله: "وندب لمن زال عذره الامساك وان قد افطر". أقول: قد قدمنا الدليل على هذا عند قول المصنف رحمه الله فإن انكشف منه امسك الخ وهذا الذي زال عذره قد صار حكمه حكم الصحيح فالامساك لحرمة الشهر منه كإمساك من انكشف له في بعض اليوم انه من رمضان بجامع ان كل واحد منهما كان معذورا عن الصوم ثم زال عذره. وأما قوله: "ويلزم مسافرا ومريضا لم يفطرا" فوجهه ظاهر لانه قد زال عذره الذي يجوز له الافطار لأجله فهو كأهل العوالي الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان صائما منهم فليتم صومه وقد قدمنا الجمع بين حديث تبييت النية وبين حديث أهل العوالي. [فصل وعلى كل مسلم ترك الصوم بعد تكليفه ولو لعذر ان يقضى بنفسه في غير واجب الصوم والافطار ويتحرى في ملتبس الحصر.

وندب الولاء فإن حال عليه رمضان لزمته فدية مطلقا نصف صاع من أي قوت عن كل يوم ولا تتكرر بتكرر الاعوام فإن مات آخر شعبان فمحتمل] . قوله: فصل: "ويجب على كل مسلم ترك الصوم بعد تكليف ولو لعذر ان يقضى بنفسه في غير واجب الصوم والافطار". أقول: أما من افطر ناسيا فقد قدمنا انه لا قضاء عليه وأما من افطر لعذر المرض أو السفر فقد دل على وجوب القضاء عليه الكتاب العزيز. وأما الحائض والنفساء فقد دل على وجوب القضاء عليهما السنة المطهرة والاجماع. وأما من افطر عامدا فقد قدمنا في حديث المجامع في رمضان أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "صم يوما مكانه"، وذكرنا انه صالح للاحتجاج والظاهر انه كان عامدا ولهذا قال هلكت وأهلكت وسمى المحترق. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب انه جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال اني افطرت يوما من رمضان فقال: "تصدق واستغفر وصم يوما مكانه". وهو مرسل. ويؤيد القضاء الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله أحق أن يقضى". ولا ينافى وجوب القضاء على العامد ما أخرجه أهل السنن وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أفطر يوما من رمضان من غير رخصةلم يجزه صيام الدهر"، فإن هذا إنما هو بيان لعظم جرمه وغلظ معصيته وانه قد فعل ما لا يمكن تلافيه. وأما كونه يقضي بنفسه فظاهر لان الوجوب متعلق به فإن مات ولم يقض فقد ثبت في الصحيح حديث: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه". وأما كونه يكون القضاء في غير واجب الصوم فلكون ذلك الوقت قد تعين صومه لسبب آخر فلا يكون الصوم للقضاء في وقت متعين للأداء وإذا ساغ له الافطار لعذر كا لسفر لم يجز له ان يفعل فيه غير ما رخص فيه لأجله. وأما كون القضاء في غير واجب الافطار كالعيدين وأيام الشتريق وأيام الحيض والنفاس فالأمر أوضح من شمس النهار والادلة على المنع من الصوم في ذلك ثابتة ثبوتا لا يخفى والتعويل على الشبه الداحضة ليس من دأب أهل الانصاف بل من دأب ارباب التعصب والاعتساف. وأما كونه يتحرى في ملتبس الحصر فذلك غاية ما يقدر عليه من عرض له اللبس. قوله: "وندب الولاء". أقول: لا يخفى ان المطلوب من العبد قضاء ما فات من رمضان بعدد الايام التي افطرها فإذا جاء بها متفرقة فقد فعل ما طلب منه كما لو جاء بها مجتمعة لان كل يوم عبادة مستقلة بنية وإمساك في وقت معين من الفجر إلي الغروب فمن قال بوجوب التتابع فقد أوجب بصفة زائدة

وعليه الدليل الدال على ذلك ولم يأت من الادلة على وجوب التتابع ما تقوم به الحجة بل الادلة التي وردت في عدم وجوب التتابع انهض من الادلة التي استدل بها الموجبون للتابع وان كان الجميع لا تقوم به الحجة نعم إذا جاء بأيام القضاء متتابعة فقد سارع إلي التخلص عما عليه وبادر إلي امتثال الامر فهو من هذه الحيثية مندوب كما قال المصنف. قوله: "فإن حال عليه رمضان لزمته فدية مطلقا". أقول: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ما تقوم به الحجة ولا حجة فيما روى عن بعض الصحابة والذي طلبه الله سبحانه ممن افطر رمضان أو بعضه هو ان يقضيه حيث قال: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ومن قضى رمضان بعد مضي عام أو عامين أو اكثر فقد فعل ما أوجبه الله سبحانه وهو العدة من ايام اخر ولم يقيد الله سبحانه هذه العدة بايقاعها في العام الذي فات فيه الصوم ولا أوجب على المتراخي كفارة. [فصل وعلى من افطر لعذر مأيوس أو ايس عن قضاء ما افطره كالهم ان يكفر بنصف صاع عن كل يوم ولا يجزى التعجيل ويجب الايصاء بها ويحمل عليه على صوم لا صوموا عني وتنفذ في الأول من رأس المال والا فمن الثلث] . قوله: فصل: "وعلى من افطر لعذر مأيوس أو أيس عن قضاء ما افطره ... ". أقول: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سلمة بن الاكوع قال لما نزلت هذه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ، كان من أراد ان يفطر يفتدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها. وأخرج أحمد وابو دأود عن معاذ نحوه وفيه ثم انزل الله تعالي: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فأثبت الله سبحانه صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الاطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام فثبت بهذا ان الآية كانت للتخيير بين الصوم والفدية لكل الناس ثم نسخت وبقي الترخيص للشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصيام ويجب عليه الفدية ولا يخالف هذا ما روى عن ابن عباس حيث قال إنها ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان ان يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا أخرجه عنه البخاري لأنه قد جعلها للشيخ الكبير والشيخة. وأما قوله: "لم تنسخ" فغير صحيح فإن الله سبحانه قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ، ولم يقل وعلى الذين لا يطيقونه.

وأخرج الدارقطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس انه قال رخص للشيخ الكبير ان يفطر ويطعم كل يوم مسكينا فلا وجه لقول من قال ان الكبير الذي لا يقدر على الصوم لا فدية عليه. وأما قوله: "أن يكفر بنصف صاع من أي قوت عن كل يوم" فالأولى ما روى عن الصحابة من ان الكفارة إطعام مسكين لان ذلك في حكم التفسير للآية وقولهم مقدم على قول غيرهم في تفسير الكتاب العزيز. ولا ينافي هذا ما ورد في حديث كعب بن عجرة في الصحيحين مرفوعا انه يصوم ثلاثة ايام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع فإن هذا في كفارة الاذى. وأما ما ذكره من عدم إجزاء التعجيل فصحيح لعدم وجود السبب وهكذا ما ذكره من وجوب الايصاء لأنه قد لزمه دين لله ودين الله احق ان يقضى. قوله: "ويحمل عليه على صوم لا صوموا عني". أقول: ظاهر الادلة الصحيحية ان الولي مأمور بالصوم عن الميت إذا مات وعليه صوم كما في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه". وفي الصحيحين من حديث ابن عباس ان امرأة قالت: يا رسول الله ان امي ماتت وعليها صوم نذر فأصوم عنها فقال: "أرأيت لو كان على امك دين فقضيته اكان ذلك يودى ذلك عنها" قالت: نعم قال: "فصومي عن أمك". وأخرج مسلم نحوه عن بريدة مرفوعا. وقد ذهب الجمهور إلي انه لا يجب الصوم على الولي وبعضهم قال لا يصح والسنة ترد عليهم أما إذا أوصى الميت بأن يكفر عنه من ماله فربما يقال انه قد اختار ذلك لنفسه وارتفع الوجوب عن الولي ويحمل على هذا حديث ابن عمر عندالترمذي وابن ماجه "من مات وعليه صوم فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا"، على ضعف في إسناد هذا الحديث فإن فيه عمر بن موسى بن وجيه وهو ضعيف جدا والرأوي ابراهيم بن نافع وهو أيضا ضعيف وقال الترمذي الصحيح انه عن ابن عمر موقوفا وكذا قال الدارقطني والبيهقي. وأما ما ذكره من الفرق ما بين ما يخرج من رأس المال ومن الثلث فلا وجه له بل هو مجرد رأي ولا يعلول عليه.

باب وشروط النذر بالصوم

[باب وشروط النذر بالصوم ما سيأتي وان لا يعلق بواجب الصوم الا ان يريد غير ما وجب

فيه ولا الافطار الا العيدين والشتريق فيصوم غيرها قدرها وما تعين ما هو فيه اتمه ان أمكن والا قضى ما يصح منه فيه الانشاء وما تعين لسببين فعن الأول إن ترتبا وإلا فمخير ولا شيء للآخر ان عينه لهما كالمال] . قوله: باب "وشروط النذر بالصوم منها ما سيأتي وان لايعلق بواجب الصوم والافطار". أقول: هذا صحيح لأنه إذا نذر بصوم رمضان لسبب آخر أو يصوم العيدين وأيام التشريف فقد نذر بمعصية الله وبمالا يملك لأنه قد صار الصوم والافطار في ذلك لله بسبب آخر وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نذر في مصعية الله ولا فيما لا يملك العبد" وإذا ورد دليل على وجوب الكفارة على مثل هذا النذر فعلى بابه ولا ينافى ذلك عدم صحة النذر به وأما إذا أراد غير ما وجب فيه الصوم والافطار كأن ينذر بصوم اليوم الذي يقدم فيه غائبه فيقدم في رمضان أو في أيام العيدين والشتريق فقد كان القدوم في يوم لا يجوز فيه الصوم عن النذر فسقط الأداء وإذا سقط لم يجب القضاء الا بدليل يدل على ذلك. وبما ذكرناه تعرف انه لا وجه لقول المصنف الا العيدين وأيام الشتريق فيصوم غيرهما قدرها. وأما قوله: "ومتى تعين ما هو فيه أتمة" فهذا صحيح فإنه إذا قدم وهو صائم على القول بعدم وجوب تبييت النية اتمه بنية النذر وأما إذا كان قد افطر فلا يجب القضاء الا بدليل لأنه لم يجب عليه الأداء. وأما قوله: "وما تعين لسببين فعن الأول" فصحيح لانه قد صار بتقديمه أولى مما تأخر عنه ومع عدم التقدم نحو ان يقول نذرت بصوم اليوم الفلاني ان قدم فيه الغائب وبصومه ان شفى الله المريض فليس عليه الا صوم ذلك اليوم للسببين جميعا لأنه بصومه قد وفى بالنذرين جميعا. [فصل ولا يجب الولاء الا لتعيين كشهر كذا فيكون كرمضان أداء وقضاء أونية فيستأنف ان فرق لعذر ولو مرجوا زال ان تعذر الوصال فيبنى لا بتخلل واجب الافطار فيستأنف غالبا ولا تكرار الا لتأبيد ونحوه فإن التبس المؤيد صام ما تعين صومه أداء أو قضاء قيل ثم يقهقر اليه ويستمر كذلك] . قوله: فصل: "ولا يجب الولاء الا لتعيين" الخ. أقول: هذا أمر قد أوجبه على نفسه فوجب الوفاء بما نذر وأما في القضاء فقد قدمنا انه

يجوز تفريق قضاء رمضان فتفيق قضاء النذر بالأولى وهكذا إذا نوى ان يتابع ما نذر به من الصوم فقد لزمه بالنية لانها المؤثرة فإذا فعل الصوم مفرقا فلم يفعل النذر الذي نذر به ويتسأنف حتى يفى بنذره وأما مع العذر فلا شك انه مسوغ لا يجب معه الاستئناف وهكذا تخلل واجب الصوم والافطار له حكم العذر فلا يستأنف وبما ذكرناه يعرف الكلام على بقية هذا الفصل.

باب الاعتكاف وشروطه

[باب الاعتكاف وشروطه النية والصوم واللبث في أي مسجد أو مسجدين متقاربين واقله يوم وترك الوطء والايام في نذره تتبع الليالي والعكس الا الفرد ويصح استثناء جميع الليالي من الايام لا العكس الا البعض ويتابع من نذر شهرا أو نحوه ومطلق التعريف للعموم ويجب قضاء معين فات والايصاء به وهو من الثلث وللزوج والسيد ان يمنعا ما لم يأذنا فيبقى ما قد أوجب في الذمة وان يرجعا قبل الايجاب] . قوله: "باب الاعتكاف وشورطه النية". أقول: قد اصاب المصنف رحمه الله هنا حيث جعل النية شرطا فإن الادلة الدالة عليها تفيد انه يؤثر عدمها في عدم الفعل الذي شرعت فيه وما كان كذلك فهو شرط لا فرض. قوله: "والصوم". أقول: من ادعى ان الصوم شرط لصحة الاعتكاف فالدليل عليه لانه اثبت شرطا متنازعا فيه والوقوف في موقف المنع والقيام في مقام عدم التسليم يكفي من لم يقل بالشرطية ولم يصح في اشتراطه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قيل انه مرفوع لم يصح وما كان موقوفا على بعض الصحابة فلا حجة فيه فإن تبرع من لم يقل بالشرطية بالدليل فله ان يقول صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما انه اعتكف في غير رمضان وثبت في الصحيحين وغيرهما ان عمر بن الخطاب قال يا رسول الله اني نذرت في الجأهلية ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، ولم يرو من وجه صحيح يصح العمل به انه صلى الله عليه وسلم صام ايام اعتكافه في شوال ولا صح انه أمر عمر بالصوم. وأما ما أخرجه أبو دأود عن عائشة انها قالت السنة على المعتكف الا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الا لما لا بد منه ولا اعتكاف الا بصوم ولا اعتكاف الا في مسجد جامع فقد أخرجه في الموطأ والنسائي وليست فيه قالت السنة قال أبو دأود غير عبد الرحمن بن اسحاق ولا يقول فيه قالت السنة وجزم

الدارقطني بأن القدر المرفوع من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها وكذلك قال البيهقي كما ذكره ابن كثير في الارشاد وأما ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وقال صحيح على شرط مسلم انه لا اعتكاف الا بصوم فقد صحح الدارقطني والبيهقي وابن حجر انه موقوف على ابن عباس وأيضا قد أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا وصححه انه قال صلى الله عليه وسلم: "ليس على المعتكف صيام" ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه على ابن عباس فتعارضت الرواية عن ابن عباس كما ترى ولا حجة في قوله. قوله: "واللبث في مسجد أو مسجدين متقاربين". أقول: مفهوم الاعتكاف الشرعي هو اللبث في المسجد فلا توجد هذه الماهية الا بذلك والا لزم أن يكون الاعتكاف في الدور والاسواق والصحراء صحيحا واللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله ومعلم الشرائع صلى الله عليه وسلم الذي جاء بمشروعية الاعتكاف لم يفعله الا في المسجد ولم يشرعه لأمته الا في المساجد وهذا القدر يكفى ومن ادعى انها توجد ماهية الاعتكاف الشرعية في غير مسجد فالدليل عليه. وإذا عرفت هذا لم تحتج إلي الاستدلال بما روى "أنه لا اعتكاف إلا في مسجد" أو لا اعتكاف الا في مسجد جماعة ولا للاحتجاج يقول سبحانه: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . قوله: "واقله يوم". أقول: لم يأتنا عن الشارع في تقدير مدة الاعتكاف شيء يصلح للتمسك به واللبث في المسجد والبقاء فيه يصدق على اليوم وبعضه بل وعلى الساعة إذا صحب ذلك نية الاعتكاف وأما حديث: "من اعتكف فواق ناقة فكأنما اعتق نسمة من ولد إسماعيل" فلم يثبت من وجه يصلح للاستدلال به قل في البدر المنير هذا حديث غريب لا أعرفه بعد البحث الشديد عنه. قوله: "وترك الوطء" أقول: قد دل على هذا الكتاب العزيز قال الله تعالي: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، ودل عليه إجماع الامة فدل ذلك على ان الوطء لا يجامع الاعتكاف وان عدم الترك وهو فعل الوطء يؤثر عدمه في عدم الاعتكاف فكان شرطا من هذه الحيثية. وأما قول المصنف: "والايام في نذره تتبع الليالي والعكس ويصح استثناء جميع الليالي من الايام لا العكس إلا البعض" فمبنى على ما ذكره من اشتراط الصوم ومن ان اقل الاعتكاف يوم وقد عرفت ما هو الحق. وأما قوله: "ويتابع من نذر شهرا أو نحوه" فلا بد ان يكون نأويا للتتابع لأنه لو أراد الاعتكاف عدد أيام الشهر مع التفريق صح ذلك ويعتكف ثلاثين يوما من اشهر وهكذا قوله ومطلق التعريف للعموم لا بد من ان يريد به ذلك لأن معاني التعريف مختلفة ولا مانع من ان يريد بالمعرف غير العموم بل الاصل في التعريف العهد كما صرح بذلك المحقق الرضى وكلام أهل الاصول والبيان في ذلك معروف.

وأما قوله: "ويجب قضاء معين فات" فهذا يحتاج إلي دليل وقد قدمنا في صوم النذر ما يكفي. وهكذا وجوب الايصاء بما فات مبنى على انه قد لزم وتعين بالنذر ووجب قضاؤه وذلك ممنوع. وأما كونه من الثلث فمبني على الرأي الذي قدمنا الاشارة اليه. وأما كون للزوج والسيد المنع من هذه الطاعة فذلك صحيح للأدلة الدالة على طاعة الزوج والسيد عموما وخصوصا ولا وجوب ها هنا عليهما حتى يقال ليس للزوج والسيد المنع من الواجب بل هما اختارا الدخول في ذلك بأنفسهما وهما مخاطبان بما هو اهم منه. [فصل ويفسده الوطء أو الامناء كما مر وفسادالصوم والخروج من المسجد لا لواجب أو مندوب أو حاجة في الاقل من وسوط النهار ولا يقعد ان كفى القيام حسب المعتاد ويرجع من غير مسجد فورا وإلا بطل ومن حاضت خرجت وبنت متى طهرت. وندب فيه ملازمة الذكر] . قوله: فصل: "ويفسده الوطء والامناء لشهوة كما مر". أقول: أما الوطء فقد تقدم وأما الامناء فإن كان عن مباشرة فله حكم الوطء لدخوله تحت قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [القرة: 187] ، وإلا فلا وجه لاقتضائه الفساد. وأما قوله: "وفساد الصوم" فمبني على ما تقدم من انه لا اعتكاف الا بصوم. قوله: "والخروج من المسجد" الخ. أقول: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخل البيت الا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفا فهذا يفيد انه لا يجوز الخروج من المسجد الا لحاجة الإنسان لا لغيرها من القرب ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو دأود من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسال عنه ولكن في إسناده ليث ابن أبي سليم وقدأخرجه مسلم وغيره عن عائشة من فعلها قال ابن حجر والصحيح عن عائشة من فعلها في الصحيحين وغيرهما عنها قالت ان كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما اسأل عنه الا وأنا مارة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن صفية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا

فأتيته لأزوره ليلا فحدثته ثم قمت لانقلب فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار اسامة بن زيد. وأخرج أبو دأود عن عائشة انها قالت السنة على المعتكف الا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الا لما بدمنه وقد قدمنا ان النسائي أخرجه بدون قوله من السنة وكذلك مالك في الموطأ وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها لا يخرج وما عداه ممن دونها. والحاصل انه يجوز الخروج لحاجة الإنسان ولما لا بد منه كما فعله صلى الله عليه وسلم من خروجه مع صفية وهذا الخروج للحاجة لا يختص بوقت دون وقت بل يجوز في الليل والنهار في أوله وآخره ووسطه. وأما كونه لا يقعد ان كفى القيام فذلك صحيح لأن الحاجة إذا قضيت من قيام كان القعود لغير حاجة وقد تقرر ان الخروج لا يكون الا لحاجة. وأما كونه يرجع من غير مسجد فورا فصواب لأن التراخي خارج عن قدر الحاجة المتنوعة. وأما كونه يبطل الاعتكاف فغير مسلم فإن الاعتكاف الأول قد صح ولا يعود عليه التراخي بالبطلان لما عرفناك ان الاعتكاف يصح في الوقت اليسير وإذا عاد إلي المسجد عاد له حكم الاعتكاف. وأما كون الحائض تخرج من المسجد فللأدلة الداله على منعها منه. وأما المستحاضة فهي في غير وقت الحيض كمن ليست بحائض فلهذا ثبت من حديث عائشة في البخاري انها اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه وهي مستحاضة ترى الدم فربما وضعت الطشت تحتها من الدم. وأما كونه يندب في الاعتكاف ملازمة الذكر فلكون هذا المعتكف قد فرغ نفسه لعبادة الله في المساجد فينبغي له ان يشتغل بما فيه قربة وطاعة من صلاة وذكر وتلأوة وتفكر واعتبار فقد صار هذا الوقت من هذه الحيثية اخص بذلك من سائر الأوقات وان كان ذلك مندوبا في جميع الأوقات. [فصل وندب صوم غير العيدين والتشريق لمن لا يضعف به عن واجب سيما رجب وشعبان وأيام البيض وأربعاء بين خميسين والاثنين والخميس وستة عقيب الفطر وعرفة وعاشوراء ويكره تعمدالجمعة والمتطوع امير نفسه لا القاضي فيأثم الا لعذر وتلتمس ليلة القدر في تسع عشرة وفي الأفراد بعدالعشرين من رمضان] .

قوله: فصل: "وندب صوم الدهر" الخ. أقول: حديث لا صام من صام الابد في الصحيحين من حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص وكذلك حديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال: قيل: يا رسول الله كيف بمن صام الدهر؟ قال: "لا صام ولا أفطر" أو "لم يصم ولم يفطر" معناهما أنه لما خالف الهدى النبوي الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم كان بمنزلة من لم يصم صوما مشروعا يؤجر عليه ولا أفطر فطرا ينتفع به ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبدا لله بن عمرو وقد كان أراد أن يصوم الدهر فقال: "صم من كل شهر ثلاثة أيام"، فقال: إني أقوى من ذلك فلم يزل يرفعني حتى قال: "صم يوما وأفطر يوما فإنه افضل الصيام وهو صوم أخي دأود". هكذا في الصحيحين وغيرهما من حديثه. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة الذين قال: أحدهم أنه يصوم ولا يفطر وقال الثاني أنه يقوم الليل ولا ينام وقال الثالث إنه لا ياتي النساء فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". فهذا الحديث الصحيح يدل على أن صيام الدهر من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحق فاعله ما رتبه عليه من الوعيد فمن رغب عن سنتي فليس مني وقد أخرج أحمد وابو دأود وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي اخبره أنه يصوم الدهر: "من أمرك أن تعذب نفسك" ولا ينافي هذا ما ورد في صوم ايام البيض أن صيامها كصيام الدهر وكذلك ما ورد فيمن صام رمضان واتبعه ستا من شوال أنه كمن صام الدهر لأن التشبيه لا يقتضي جواز المشبه به فضلا عن استحبابه وإنما المراد حصول الثواب على تقدير مشروعية صيام ثلاثمائة وستين يوما ومن المعلوم أن المكلف لا يجوز له صيام كل السنة فلا يدل التشبيه على افضلية المشبه به من كل وجه ومع هذا فقد ورد الوعيد على صوم الدهر فأخرج أحمد وابن حبان وابن خزيمة وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا" وقبض كفه ولفظ ابن حبان "ضيقت عليه جهنم هكذا" وعقد تسعين وأخرجه أيضا البزار والطبراني قال في مجمع الزوائد ورجاله رجال الصحيح فهذا وعيد ظاهر وتأويله بما يخالف هذا المعنى تعسف وتكلف والعجب ذهاب الجمهور إلي استحبابه كما حكاه عنهم ابن حجر في الفتح وهو مخالف للهدى النبوي وهو أيضا أمر لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما "كل أمر ليس عليه امرنا فهو رد" وهو أيضا من الرغوب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن رغب عن سنته فليس منه وهو أيضا من التعسير والتشديد المخالف لما استقرت عليه هذه الشريعة المطهرة قال الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "يسروا ولا تعسروا" [البخاري "4344، 4345، 4342"، مسلم

"71/1733"] ، أحمد "4/409"] ، وقال: "لن يشاد الدين أحد الا غلبه"، وقال: "أمرت بالشريعة السمحة السهلة". فالحاصل ان صوم الدهر إذا لم يكن محرما تحريما بحتا فأقل احواله ان يكون مكروها كراهة شديدة هذا لمن لا يضعفه الصوم عن شيء من الواجبات أما من كان يضعف بالصوم عن بعض الواجبات الشرعية فلا شك في تحريمه من هذه الحيثية بمجردها من غير نظر إلي ما قدمنا من ادلة. قوله: "سيما رجب". أقول: لم يرد في رجب على الخصوص سنة صحيحية ولا حسنة ولا ضعيفة ضعفا خفيفا بل جميع ما روى فيه على الخصوص أما موضوع مكذوب أو ضعيف شديد الضعف وغاية ما يصلح للتمسك به في استحباب صومه ما ورد في حديث الرجل البأهلي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صم أشهر الحرم" ورجب من الاشهر الحرم بلا خلاف وهذا الحديث أخرجه أحمد وابو دأود وابن ماجه ولكنه لا يدل على شهر رجب على الخصوص كما يفيد تنصيص المصنف وكان الأولى له ان يقول ويستحب صوم الاشهر الحرم سيما المحرم وذلك لورود الدليل الدال على استحباب صومه على الخصوص كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصيام بعد رمضان افضل فقال: "شهر الله المحرم". وأما ما أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب ففي إسناده ضعيفان زيد بن عبد الحميد ودأود بن عطاء ولكنه على ضعفه اقوى مما روى في استحباب صومه. وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ان عمر كان يضرب اكف الناس في رجب حتى يضعوها في الجفان ويقول كلوا فإنما هو شهر كان يعظمه الجأهلية. وأخرج ابن ابن أبي شيبة أيضا من حديث زيد بن اسالم قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم رجب فقال اين انتم من شعبان وهو مرسل. قوله: "وشعبان". أقول: أما هذا الشهر فقد جاءت فيه الادلة الصحيحية حتى قالت عائشة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرا اكثر من شعبان فانه كان يصومه كله هكذا في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ فيهما من حديثها ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه الا قليلا بل كان يصومه كله وفي لفظ من حديثها ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط الا شهر رمضان وما رأيته في شهر اكثر منه صيأما في شعبان.

وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث ام سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم من السنة شهرا تأما الا شعبان يصل به رمضان ولفظ ابن ماجه كان يصوم شعبان ورمضان وحسنه الترمذي. قوله: "وايام البيض". أقول: قد ورد في مشروعية صومها أحاديث كثيرة منها حديث أبي قتادة عند مسلم وغيره قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلي رمضان فهذا صيام الدهر كله"، وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وابن حبان وصححاه من حديث أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة ايام فصم ثلاث عشرة واربع عشرة وخمس عشرة"، وأخرجه النسائي وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة وأخرجه النسائي أيضا من حديث جرير قال ابن حجر وإسناده صحيح وفي الباب أحاديث قد ذكرناها في شرح المنتقى. قوله: "واربعاء بين خميسين". أقول: تحتمل هذه العبادة ان يريد انه يصوم يوم الخمس ثم يصوم بعده يوم الاربعاء ثم يصوم بعده يوم الخميس وذلك يمكن في ثمانية ايام ويحتمل ان يريد انه يصوم أول خميس من الشهر ثم يصوم أحد ايام الاربعاء من ذلك الشهر ثم يصوم آخر خميس منه وكل هذا لا دليل عليه قط فإن ما ورد من استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر على تقدير احتماله لغير ايام البيض لا يفيد هذا التخصيص والتعيين وكذلك لا يفيد هذا ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والاحد والاثنين ومن الشهر الاخر الثلاثاء والاربعاء والخميس فإن هذا إنما فعله صلى الله عليه وسلم للمدأولة بين ايام الاسبوع وعدم تخصيص بعضها بالصوم دون بعض فكان يصوم بعضها من شهر وبعضها من شهر آخر نعم ورد ما يدل على استحباب صوم الاربعاء مع الخميس عند أبي دأود والترمذي من حديث مسلم القرشي قال: سألت أو سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر فقال: "إن لأهلك عليك حقا فصم رمضان والذي يليه وكل اربعاء وخميس فإذا انت قد صمت الدهر" وأخرج أبو دأود والترمذي أيضا من حديث عبد الله بن عمر بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم امره ان يصوم كل اربع وخميس ولكن هذا هو غير ما ذكره المصنف. قوله: "والاثنين والخميس". أقول: يدل على ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعرض اعمال العباد كل اثنين وخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" وأخرج أحمد والنسائي هذا المعنى من حديث أسامة بن زيد وأخرج أحمد والنسائي والترمذي [ (745) ]

وابن ماجه وابن حبان وصححه من حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس وأخرجه أيضا أبو دأود من حديث أسامة بن زيد. وورد في صوم الاثنين على الخصوص ما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي قتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذلك ولدت فيه وأنزل على فيه" قوله: "وست عقيب الفطر" أقول: يدل على ذلك ما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي ايوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم اتبعه ستا من شوال فذاك صيام الدهر" وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والزبار من حديث جابر وفي إسناده عمرو بن جابر وهو ضعيف. وأخرج أحمد والنسائي ابن ماجه والدارمي والبزار من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام رمضان وستة أيام بعدالفطر كان تمام السنة" {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وفي الباب احاديث. قوله: "وعرفة". أقول: يدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي ايوب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صيام عرفة كفارة سنتين" وفي بعض الروايات الثابتة في السنن "أنه يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" وفي الباب أحاديث ولم يصح في النهي عن صومه شيء وإنما تركه صلى الله عليه وسلم بعرفة للاشتغال باعمال الحج على ان مجرد الترك لا يرفع استحباب صومه الثابت بالقول المرتب عليه الأجر العظيم ولا سيما وهو أحد أيام العشر التي ورد أنه: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في عشر ذي الحجة" كما في الحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "969"، وغيرهما أحمد "1/224"، الترمذي "757"، ابن ماجة "1727"] . قوله: "وعاشوراء". أقول: الاحاديث الصحيحة الكثيرة قد دلت على مشروعية صومه ونسخ وجوبه لا نسخ استحبابه لما في حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الايام الا هذا اليوم يعني يوم عاشوراء ولاشهرا الا هذا الشهر يعني رمضان وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان أهل الجأهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء وان رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل ان يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن يوم عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه"، وفي الصحيحين أيضا من حديث معأوية بن أبي سفيان نحوه وفي مسلم وغيره انه لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

"ان يوم عاشوراء يوم تعظمه اليهود، قال: "لئن بقيت إلي قابل لأصومن التاسع"، وفي لفظ له من حديث ابن عباس: "إذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع"، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية "صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود". فينبغي لمن أراد ان يصوم يوم عاشوراء ان يصوم اليوم الذي قبله. قوله: "ويكره تعمد الجمعة". أقول: قد ثبت في الصحيحين من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة ثم ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا يوم الجمعة الا وقبله يوم أو بعده يوم"، فهذا الحديث المقيد يقيد به إطلاق الحديث الأول ثم ثبت في صحيح مسلم وغيره التقييد بقوله: "إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم" فالحاصل أن صوم يوم الجمعة منهي عنه إلا أن يصوم يوما قبله أو بعده أو يوافق صوما كان يصومه وقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على جويرية لما دخل عليها وهي صائمة يوم الجمعة فقال لها: "أصمت أمس؟ " قالت: لا قال: "أتصومين غدا؟ " قالت: لا قال: "فأفطري" كما في البخاري وغيره ويجمع بين هذه الاحاديث وبين ما روى انه صلى الله عليه وسلم كان يصومه بما تقدم في الحديثين. وورد أيضا النهي عن صوم يوم السبت كما في حديث عبد الله بن بسر عن اخته واسمها الصماء ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا يوم السبت الا فيما افترض عليكم فإن لم يجد احدكم الا عود عنب أو لحاء شجر فليمضغه" أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والطبراني والبيهقي وصححه ابن السكن فكان على المصنف ان يذكر يوم السبت مع يوم الجمعة وقدتقدم جواز صومه مع صوم يوم الجمعة فيكون النهي مقيدا بهذا القيد ويحمل عليه ما روى من صومه صلى الله عليه وسلم يوم السبت. قوله: "والمتطوع امير نفسه". أقول: قد ثبت في اصحيح البخاري وغيره ان سلمان أمر ابا الدرداء بأن يفطر من صوم كان متطوعا فيه في قصة قال في اثرها فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق سلمان". وأخرج أحمد والترمذي والدارقطني والطبراني والبيهقي انه صلى الله عليه وسلم قال: "لأم هانئ المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وأن شاء أفطر"، وفي إسناده سماك بن حرب وفيه مقال. وأخرج أبو دأود والنسائي عن عائشة انه اهدى لحفصة طعام وكانتا صائمتين

فأفطرتا ودخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا عليكما صوما مكانه يوما آخر"، وفي إسناده زميل وفيه مقال وأخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم من شيء" فقلت لا فقال: "إني صائم" ثم أتانا يوما آخر فقلت: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال: "أرنيه فلقد أصبحت صائما" فأكل وزادالنسائي ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل المتطوع مثل رجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها". وأما قوله: "لا القاضي فيأثم" فقد أخرج أحمد وأبو دأود في رواية من حديث أم هاني المتقدم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شرابا فنأولها لتشرب فقالت إني صائمة ولكن كرهت ان ارد سؤرك فقال: "إن كان قضاء من رمضان فاقضى يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي وإن شئت فلا تقضي"، وفيه دليل على جواز إفطار القاضي ويقضى يوما مكانه وإن كان فيه المقال المتقدم ولكن الدليل على من قال انه لا يجوز إفطار القاضي. قوله: "ويلتمس القدر". أقول: الكلام في هذا البحث يطول وقد ذكرت في شرحي للمنتقى في ذلك سبعة واربعين مذهبا ورجحت منها القول الخامس والعشرين فليرجع إلي ذلك ففيه ما يشفي ويكفي ولا يحتاج الناظر فيه إلي ان ينظر في غيره والمقام لا يتسع لبعض ذلك.

كتاب الحج

كتاب الحج مدخل ... كتاب الحج [فصل انما يصح من مكلف حر مسلم بنفسه ويستنيب لعذر مأيوس ويعيد إن زال] . قوله: "كتاب الحج انما يصح من مكلف حر". أقول: حديث ابن عباس إن امرأة رفعت إلي النبي صلى الله عليه وسلم صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر"، أخرجه مسلم وغيره وفيه دليل ثبوت الحج للصبي. ويؤيده ما أخرجه البخاري "1858، وغيره أحمد "3/925"، الترمذي "925"، من حديث

السائب بن يزيد قال حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا ابن سبع سنين. وما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث جابر قال حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم وفي إسناده اشعث بن سوار وهو ضعيف وما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس انه بعثه صلى الله عليه وسلم في الثقل وكان اذ ذاك صبيا ولكن حديث ابن عباس الذي أخرجه الحاكم مرفوعا وصححه والبيهقي وابن حزم وصححه بلفظ: "أيما غلام حج به أهله ثم بلغ فعليه حجة أخرى" يدل على ان هذه الحجة الواقعة من الصبي وان ثبت له أجرها لا تسقط عنه حجة الإسلام إذا بلغ وأخرج ابن خزيمة هذا الحديث عن ابن عباس موقوفا وقال الصحيح الموقوف وقال البيهقي تفرد برفعه محمد بن المنهال ولكنه قد تابع محمد بن المنهال على رفعه الحارث بن شريح كما أخرجه الاسماعيلي والخطيب ويؤيد الرفع ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس انه قال احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس فذكره وهو ظاهر في الرفع. ويشهد لحديث ابن عباس هذا ما أخرجه أبو دأود في المراسيل وأحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله عن محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما صبي حج به أهله فمات اجزأت عنه فإن ادرك فعليه الحج وأيما رجل مملوك حج به أهله فمات أجزأت عنه فإن اعتق فعليه الحج"، وفي إسناده رأو منهم. ويؤيد عدم إجزاء حج الصبي عن حجة الإسلام ما ورد في رفع قلم التكليف عنه ولا تلازم بين ثبوت الأجر له وصحة حجة عن حجة الإسلام الواجبة عليه. وأما العبد البالغ فهو داخل في مثل قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] والاستطاعة في حقه على قول من قال إنه يملك كسائر المكلفين من الاحرار وهكذا إذا وجد من يقوم بمؤنته كسيده فإن ذلك استطاعة وان كان لا يملك فإذا انتهض الدليل على ان ذلك الحج لا يجزئ عن حجة الإسلام فذاك وإلا فالظاهر أنها تجزئه هذه الحجة عن حجة الإسلام. وأما قوله: "مسلم" فلكون الكافر متلبسا بمانع من صحة حجه فلا يصح حتى يزول المانع كسائر الامور الشرعية. وأما كونه مخاطبا بالشرعيات بمعنى انه يعذب على تركها فذلك لا يستلزم صحة وقوعها منه مع بقاء المانع الذي هو مقدور له رفعه وهو الكفر وقدتقدم تحقيق هذاالمقام. قوله: "وتستنيب لعذر مأيوس ويعيده إن زال". أقول: الدليل لم يرد بجواز مطلق الاستنابة بل ورد في الولد كما في حديث ابن عباس في الصحيحين [البخاري "3/678، 4/66، 4/67، 8/105، 11/8"، مسلم "1334، 1335"، وغيرهما [الترمذي "928"، أبو دأود "1809"، النسائي "2635، 2641"، ابن ماجة 2909"] أن امرأة من خثعم

قالت يا رسول الله إن أبي ادركته فريضة الحج شيخا كبيرا لا يستطيع ان يستوى على ظهر بعيره قال: "فحجي عنه"، وأخرج نحوه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي من حديث أبي رزين العقيلي انه اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال: "حج عن أبيك وأعتمر". وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين اكنت قاضيته" الحديث. وورد في حج الاخ عن اخيه والقريب عن قريبه كما في حديث ابن عباس عند أبي دأود وابن ماجه وابن حبان والبيهقي وصححاه ان النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال: "من شبرمة؟ " قال أخ لي أو قريب لي قال: "حججت عن نفسك؟ " قال لا قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، فلا يصح إلحاق غير القرابة بالقرابة للفرق الظاهر ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟ " ويقول للجهينية: "أرأيت لو كان على أمك دين؟ " ثم قال بعد ذلك: "فدين الله احق أن يقضى". وأما إيجاب القضاء عليه إن زال عذره فمحتاج إلي دليل لأن الحج عنه قد وقع صحيحا مجزئا في وقت مسوغ للاستتابة. [فصل ويجب بالاستطاعة في وقت يتسع للذهاب والعود مضيقا الا لتعيين جهاد أو قصاص أو نكاح أو دين تضيقت فيقدم والا اثم وأجزأ. وهي صحة يستمسك معها قاعدا وأمن فوق معتاد الرصيد وكفاية فاضلة عما استثنى له وللعول وللذهاب متاعا ورحلا وأجرة خادم وقائد للأعمى ومحرم مسلم للشابة في بريد فصاعدا ان امتنع الا بها والمحرم شرط أداء ويعتبر في كل اسفارها غالبا ويجب قبول الزاد من الولد لا النكاح لأجله ونحوه ويكفي الكسب في الأوب الا ذا العول] . قوله: فصل: "ويجب بالاستطاعة في وقت يتسع للذهاب والعود مضيقا". أقول: معنى الآية اعني قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمرا: 97] ، أوضح من الشمس فمن كان مستطيعا عند حضور وقت الحج والسفر له من دياره بأن يجد ما يكفيه لذهابه وايابه ويحمله ويحمل زاده ما يحتاج اليه فهذا مستطيع يجب عليه الحج وان

كان في ذلك الوقت غير مستطيع فلا وجوب عليه ولا يشترط ان يبقى معه ما يصير به مستطيعا زمانا كثيرا أو قليلا بل المراد من وجود ما ذكرنا عند حضور وقت الحج فإن استمر معه كل السنة وتلف عند حضور وقت الحج فليس بمستطيع ولا يجب عليه الحج وهذا معنى ظاهر واضح لا يحتاج إلي مزيد بيان ولا تدل الآية الكريمة على غيره. وأما الخلاف في كون الحج على الفور والتراخي فمرجعه ما وقع في الاصول من الخلاف في صيغة الايجاب هل هي للفور أو للتراخي؟ وقد دل على الفور عند الاستطاعة الاحاديث الواردة في الوعيد لمن وجد زادا وراحلة ولم يحج وإن كان فيها مقال فمجموع طرقها منتهض. واستدل القائلون بالتراخي بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من تأخير حجة إلي سنة عشر مع كون فرض الحج نزل في سنة خمس أو ست على خلاف في ذلك وقد روى في تفسير الاستطاعة المذكورة في القرآن ما أخرجه الدارقطني والحاكم وقال صحيح على شرطهما والبيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال: قيل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة". وأخرج ابن ماجه والدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الزاد والراحلة" يعني قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال ابن حجر: وسنده ضعيف. وفي الباب عن ابن عمر عند الشافعي والترمذي وحسنه وابن ماجه والدارقطني وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزي قال فيه أحمد والنسائي انه متروك الحديث. وعن علي وابن مسعود وعائشة وعبد الله بن عمرو عندالدارقطني من طرق كلها ضعيفة. وأما قوله: "إلا لتعيين جهاد" الخ فلكون هذه الامور قد تضيقت وتعين القيام بها ولكنه أما يستقيم هذا على تقدير ان الحج لم يتضيق عليه فإن كان قد تضيق عليه كما تضيقت فوجه تقديم الجهاد ان مصلحته عامة. ووجه تقديم القصاص والدين انه حق لآدمي قد تعلق بمن أراد الحج ويخشى فوته بعروض عارض له من موت أو نحوه. ووجه تقديم النكاح انه إذا خشي الوقوع في المعصية كان ذلك متعينا عليه. وأما كونه يأثم إذا قدم الحج على هذه الامور فلأنه قد اخل بما يجب عليه تقديمه وكان اثمة لذلك ولا يستلزم هذا الإثم عدم صحة حجة لأن متعلق الإثم هو أمر غير الحج. قوله: "وهي صحة يستمسك معها قاعدا". أقول: هذا لا بد منه والا كان من لا يقدر على الاستمساك معذورا عن الحج بنفسه ويجوز له الاستنابة كما تقدم وقد تقدم تفسيره صلى الله عليه وسلم للاستطاعة وهو لا ينافى هذا لأن من لا يستمسك على الراحلة لا ينفعه وجودها.

وهكذا قوله وامن فوق معتادالرصد لأن من كان خائفا على نفسه أو ماله لا يجوز له ان يقدم على ما يخشى منه التلف أو الضرر في البدن أو المال ويدل على ذلك الادلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة. وهكذا كفايته ذهابا وايابا وكفاية من يحتاج اليه في سفره وكفاية أهله حتى يعود لأنه إذا لم يكن كذلك فقد ضيع نفسه وأهله وهو مخاطب بحفظ نفسه والقيام بمؤنة أهله ثم ذكر المتاع والرحل وهو موافق لتفسير الاستطاعة الذي تقدم. وأما أجرة الخادم لمن اعتاده وعجز عن القيام بمؤنة نفسه فذلك من كمال الاستطاعة. وأما قائد الاعمى فذلك مما تمس اليه الحاجة إذا أراد الاعمى ان يحج والظاهر ان عماه عذر له عن الحج وانه غير مستطيع وان وجد قائدا وزادا وراحلة وقياس الحج على صلاة الجماعة قياس مع الفارق الذي هو أوضح من الشمس. قوله: "ومحرم مسلم للشابة". أقول: لورود النهى لها عن السفر بغير محرم وأقل المسافة التي قيد بها النهي هو البريد فيجب اعتبار المحرم فيه ولا ينافيه ما ورد مما فيه زيادة على ذلك لأن المنع من سفر البريد قد دل على ذلك بمنطوقه وهو ارجح مما دل عليه بمفهومه فالمرأة ممنوعة من السفر بغير محرم شرعا فلا يتم استطاعتها الا به وإذا امتنع الا بأجرة لم تتم استطاعتها الا بالتمكن من أجرته وقد عرفت ان الاستطاعة شرط للوجوب فالتمكن من المحرم هو من شروط الوجوب لا من شروط الأداء ولا فرق بين شابة وغيرها فإنه لم يرد في الادلة التقييد بالشابة وبهذا تعرف انه لا بد من المحرم في سفر الحج وغيره. قوله: "ويجب قبول الزاد من الولد". أقول: الاستطاعة تحصل بوجود ما تقدم بما ذكر في تفسيرها فإذا حصل ذلك في ملك الاب وجب عليه الحج وإذا وهب له الولد فذلك مال رزقه الله إياه من غير حصول منه فلا يجوز له رده ولا سيما مع ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك"، فإن هذا الحديث يدل على انه يصير مستطيعا بمجرد وجود ما تحصل به الاستطاعة في مال ولده وهكذا يجب قبول الهبة من السلطان لورود الامر بقبولها كما في الحديث الصحيح بلفظ: "ما أتاك من هذا المال وانت غير مستشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك" وهكذا لو رزقه الله مالا بهبة أو نذر أو نحوهما من غير منه ولا وصمة في دين فقبول ذلك واجب ليؤدى به ما افترضه الله عليه فاعرف هذا ودع عنك ما يقال تحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب ونحو ذلك من القواعد المؤسسة على الرأي الفائل والاجتهاد المائل فإنه كثيرا ما يقع الغلط في مثل هذا والمغالطة. وأما قوله: "لا النكاح لأجله" فصحيح لأن المرأة بالزواج تدخل نفسها في واجبات تجب عليها لزوجها ولا يجب عليها الدخول في مثل ذلك.

وأما قوله: "ويكفي الكسب في الأوب" فهو غير صحيح فإن الاستطاعة إنما تكون بوجود الزاد للذهاب والاياب حتى يعزم وهو على ثقة من نفسه بعدم الضياع ونفس الكسب ووجود من يكتسب ما يحتاج اليه معه إحالة على معدوم لا يدرى هل يوجد من بعد أولا يوجد ولا فرق بين ذي العول وغيره وقد عرفت مما سبق انه لا بد من وجود ما يكفي من يعوله إلي رجوعه وبالجملة فالاتكال على الكسب قريب من الاتكال على السؤال الذي نزل في شأنه قوله تعالي: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] . [فصل وهو مرة في العمر ويعيده من ارتد فأسلم ومن احرم فبلغ أو اسلم جده ويتم من عتق ولا يسقط فرضه ولا تمنع الزوجة والعبد من واجب وإن رخص فيه كالصوم في السفر والصلاة أول الوقت الا ما أوجب معه لا بإذنه الا صوما عن الظهار أو القتل وهدى المتعدى بالاحرام عليه ثم على الناقض] . قوله: فصل: "وهو مرة في العمر". أقول: هذا الحكم قد صار من المعلومات بالضرورة الشرعية وليس في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، الا الدلالة على المرة الواحدة وقد زاد ذلك أيضاحا ما وقع من السؤال للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابه بأنه لا يجب لا مرة وقد اجمع على ذلك جميع المسلمين سابقهم ولا حقهم ولا يعرف في ذلك مخالف من أهل الإسلام. قوله: "ويعيده من ارتد فأسلم". أقول: عوده إلي الإسلام توبة والله سبحانه قابل التوبة وهو الذي لا يضيع عمل عامل وقد قيد الاحباط في كتابه العزيز بالموت على الكفر فقال: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام: "أسلمت على ما اسلفت من خير" لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجأهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم فيها أجر. فإذا كانت الاعمال الصالحة في الجأهلية مكتوبة لفاعلها إذا أسلم فكتبها للمسلم الذي عملها في حال إسلامه ثم ارتد ثم عاد إلي الإسلام ثابت بفحوى الخطاب. وأما ما قوله: "ومن احرم فبلغ" الخ فقد قدمنا قريبا الكلام في الصبي والكافر والعبد وفيه ما يغني عن الاعادة هنا ولا يخفاك ان ايجاب التمام على العبد مع عدم اسقاطه للفرض من غرائب الرأي المبنية على الخيال. قوله: "ولا يمنع الزوجة والعبد من واجب".

أقول: قد أوجب الله سبحانه على كل واحد منهما واجبات له عز وجل وواجبات للزوج والسيد وعليهما القيام بجميع ذلك وليس للزوج والسيد المنع لهما مما هو واجب عليهما لله عز وجل وليس لهم الاشتغال بغير ما أوجب الله عليهما من واجبات الزوج والسيد فليس لهما ان يوجبا على انفسهما بنذر أو نحوه ما يشغلهما عما يجب عليهما للزوج والسيد فإن فعلا كان للزوج والسيد المنع من ذلك لأن إيجاب ما أوجبه الله عليهما للزوج والسيد سابق على وجوب ما أوجباه على انفسهما وذلك ليس لهما وبهذا يتضح لك الصواب في اطراف هذه المسألة. [فصل ومناسكه عشرة الأول الاحرام] . وقوله: فصل: "ومناسكه عشرة الأول الاحرام". أقول: الحج الذي طلبه الله من عباده قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فحج باصحابه وقال لهم: "خذوا عني مناسككم"، فالحج الذي فرضه الله سبحانه في كتابه على عبادة هو مجموع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم معلما لأمته ومن ادعى ان شيئا مما فعله غير واجب احتاج إلي الدليل وأما ما شكك به الجلال في شرحه في هذا الموضع من ان الحج القصد في لسان العرب وانه لا ينصرف إلي مالا وجود له فيقال له واصل الصلاة تحركي الصلوين والزكاة النماء والصيام الامساك عن الكلام فكيف يصح انصرافها إلي ما لا وجود له وكل متشرع يعلم ان الله سبحانه ارسل رسوله ليبين للناس ما نزل اليهم وقد فعل جزاه الله عن امته خيرا وقد اتفق أهل الإسلام أولهم وآخرهم سابقهم ولاحقهم على ان هذه التكاليف التي هي أركان الإسلام فضلا عن غيرها وقعت في الكتاب العزيز مجملة وتوقف وقوعها بالفعل من العباد على البيان النبوي ولا خير في هذا ولا موجب للشك فيه والتشكيك على المقصرين الا مجرد الخبط في أودية الرأي وتأثيره على الواضحة التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لا يزيغ عنها إلا جاحد"، ومن جملة ما شمله البيان النبوي الاحرام بل وقع الامر به في السنة المطهرة على الخصوص فمالنا وللرجوع إلي مثل قولهم احرم كمعنى اتهم وانجد وأي مقتض لمثل هذا الكلام الزائف. [فصل ندب قبله قلم الظفر ونتف الابط وحلق الشعر والعانة ثم الغسل أو التيمم للعذر ولو حائضا ثم لبس جديد أو غسيل وتوخى عقيب فرض والا فركعتان ثم ملازمة الذكر

والتكبير في الصعود والتلبية في الهبوط والغسل لدخول الحرم ووقته شوال وذو القعدة وكل العشر. ومكانه الميقات ذو الحليفة للمدني والجحفة للشامي وقرن المنازل للنجدي ويلملم لليماني وذات عرق للعراقي والحرم للمكي ولمن بينها وبين مكة داره وما بإزاء كل من ذلك وهي لأهلها ولمن ورد عليها ولمن لزمه خلفها موضعه ويجوز تقديمه عليها الا لمانع] . قوله: "وندب قبله قلم الظفر" الخ. أقول: هذه الامور لم يرد فيها ما يدل على مشروعيتها عند الاحرام بل وردت فيها أحاديث قاضية بأنها من السنن مطلقا ولعل المصنف رحمه الله لما وقف على ما ورد من مشروعية الغسل والتطيب للاحرام جزم بندبية هذه الامور لانها من كمال التنظيف وأما ما ذكره من ندبية الغسل فقد ورد في ذلك ثلاثة احاديث. الأول: حديث زيد بن ثابت عندالترمذي وحسنه والطبراني والدارقطني والبيهقي ان النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لاحرامه واغتسل وقدنقل ابن حجر عن العقيلي انه ضعفه ولم يذكر الوجه وفي تحسين الترمذي له كفاية. الحديث الثاني: أخرجه الدارقطني عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد ان يحرم يغسل رأسه بحطمي واشنان. الحديث الثالث: أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس قال اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لبس ثيابه فلما اتى ذا الحليفة صلى ركعتين وفي إسناده يعقوب بن عطاء قال ابن حجر وهو ضعيف وقد قال ابن القيم في الهدى انه صلى الله عليه وسلم لما أرادا الاحرام اغتسل غسلا ثانيا لاحرامه غير الغسل الأول للجنابة. وأما قول المصنف أو التيمم للعذر فلا وجه له فليس التيمم يصلح بدلا لمثل هذه الاغسال المندوبة ولا ورود ما يدل على ذلك وأيضا المراد بالغسل للإحرام التنظيف والتيمم يخالف ذلك. وأما مشروعيته للحائض فقد أخرج أبو دأود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن النفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير ان لا تطوف بالبيت"، وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وقد ضعفه جماعة من قبل حفظه مع كونه صدوقا ويؤيده ما في صحيح مسلم من أمره صلى الله عليه وسلم لاسماء بنت عميس ان تغتسل بذي الحليفة حين نفست بمحمد بن أبي بكر. وأما قوله: "وليس جديد أو غسيل" فلم يرد ما يدل على ذلك من قول ولا فعل ولكنه من كمال التنظيف.

قوله: "وتوخى عقيب فرض". أقول: يدل على هذا ما أخرجه أبو دأود والنسائي من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته فلما علا على جبل البيداء أهل"، ورجاله رجاله رجال الصحيح الا اشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة وما أخرجه أحمد وأهل السنن من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم: "أهل في دبر الصلاة "وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وقدتقدم انه ضعيف الحفظ صدوق وقد أخرجه الحاكم من وجه آخر. وأما قوله: "وإلا فركعتان" فلحديث ابن عباس عند أحمد وأبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج حين فرغ من ركعتيه". قوله: "ثم ملازمة الذكر والتكبير في الصعود والتلبية في الهبوط". أقول: لم يرد في التكبير مطلقا في هذا الموطن ما يصلح للتمسك به لا عندالصعود ولا عند غيره وأما التلبية فقد ثبت عند مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث خلاد بن السائب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فأمرني أن أمر أصحأبي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية" قال الترمذي: هذا حديث صحيح وصححه ابن حبان والحاكم فهذا يفيد مشروعية رفع الصوت بالتلبية في هذا الموطن من غير فرق بين صعود وهبوط. وأما قوله: "والغسل لدخول الحرم" فقد ثبت من حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله. قوله: "ووقته شوال" الخ. أقول: هذا وقت الاحرام كما ان مكانه الميقات فلا يجوز ولا يجزئ فعل الاحرام قبل وقته وفي غير مكانه ومن زعم انه يجوز ذلك أو يجزئ لم يقبل منه الا بدليل وبهذا تعرف عدم صحة قول المصنف ويجوز تقديمه عليهما. وأما ما قيل من ان معنى قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] ، بان يحرم لهما من دويرة أهله فقد عورض هذا التفسير بغيره فقيل المراد بقوله وأتموا الحج والعمرة ائتوابهما تامين وهذا التفسير هو الذي يقتضيه ظاهر النظم القرآني. وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب انه قال في قوله تعالي: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} قال: إتمامهما ان يفرد كل واحد منهما عن الاخر وان يعتمر في غير اشهر الحج. قال ابن عبد البر وأما ما يروى عن عمر وعلى ان تمام الحج والعمرة ان تحرم لهما من دويرة أهلك فمعناه ان تنشيء لهما سفرا تقصده من البلد كذا فسره ابن عيينه فيما حكاه أحمد

عنه والحاصل ان تفاسير الصحابة لا تقوم بها الحجة لا سيما مع اختلافها ومعنى التمام في لسان العرب واضح ظاهر فالواجب البقاء عليه والتمسك به فلا يجوز ولا يجزي الاحرام قبل اشهر الحج ولا قبل الوصول إلي الميقات المضروب للإحرام. وأما قوله: "ذو الحليفة للمدني" إلخ فهكذا ورد الدليل كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال: "وقت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم قال فهن لهن ولمن اتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها ". وفي الصحيحين [البخاري "1525"، مسلم "5/125"، عن ابن عمر مرفوعا نحوه. وأما ذات عرق فأخرج البخاري عن ابن عمر قال لما فتح هذان المصران يعني البصرة والكوفة اتوا عمر بن الخطاب فقالوا يا امير المؤمنين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وإنه جور عن طريقنا وإنا إذا اردنا ان نأتي قرنا شق علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق ولكنه قد ورد ما يدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حدها لأهل العراق ذات عرق فأخرج أبو دأود والنسائي عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق. ولا يضر تفرد المعافي بن عمران به فهو ثقة. وأخرج مسلم عن أبي الزبير انه سمع جابرا سئل عن المهل فقال سمعت احسبه رفعه إلي النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ومهل أهل العراق ذات عرق. وأخرج أحمد وابن ماجه عن جابر مرفوعا من غير شك وفي إسناد أحمد ابن ربيعة وفي إسناد ابن ماجه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهما ضعيفان. وفي الباب عن الحارث بن عمرو السهمي عندأبي دأود وعن أنس عند الطحأوي وعن ابن عباس عند ابن عبد البر وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد وهذه الاحاديث يقوي بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج بها بأن ذات عرق وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق. [فصل وإنما ينعقد بالنية مقارنة لتلبية أو تقليد ولو كخبر جابر ولا عبرة باللفظ وإن خالفها ويضع مطلقة على ما شاء الا الفرض فيعينه ابتداء وإذا التبس ما قد عين أو نوى كإحرام فلان وجهله طاف وسعى مثنيا ندبا نأويا ما احرم له ولا يتحلل ثم يستأنف نية معينة للحج من أي مكة مشروطة بأن لم يكن احرم له يستكمل المناسك كالمتمتع ويلزمه بدنة وشاة ودمان ونحوهما لما ارتكب قبل كمال السعي الأول ويجزيه للفرض ما التبس نوعه لا

بالفعل والنذر ومن احرم بحجتين أو عمرتين أو ادخل نسكا على نسك استمر في احدهما ورفض الاخر وأداه لوقته ويتعين الدخيل للرفض وعليه دم ويتثنى ما لزمه قبله] . قوله: فصل: "وإنما ينعقد بالنية مقارنة لتلبية أو تقليد". أقول: الاحرام هو مصير الشخص من الحالة التي كان يحل له فيها ما يحرم عليه بعدها إلي الحالة التي يحرم عليه فيها ما كان يحل له فيها ولو لم يكن الا مجرد الكف عن محظورات الاحرام لكان ذلك معنى معقولا لكل عاقل كالصوم فإنه ليس الا الكف عن تنأول المفطرات فمن قال انه لا يعقل معنى الاحرام وانه ليس هناك الا مجرد النية وان النية لا تنوى والا لزم التسلسل فقد اخطأ خطأ بينا ومعلوم ان الشريعة المطهرة بعضها أوامر وبعضها نواه والتعبد في النواهي ليس الا بالكف فيلزمه ان يطرد هذا التشكيل الركيك في شطرالشريعة. وأما ايجاب النية فقد عرفناك غير مرة ان كل عمل يحتاج إلي النية والعمل يشمل الفعل والترك والقول والفعل وعرفناك ان ظاهر الادلة يقتضى ان النية شرط في جميع ما تقدم من العبادات لدلالة أدلتها على ان عدمها يؤثر في العدم وهذا هو معنى الشرط عند أهل الاصول. وأما كون النية تقارن التلبية فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دوأوين الإسلام من غير وجه انه أهل ملبيا وقد قدمنا لك ان افعاله واقواله في الحج محمولة على الوجوب لانها بيان لمجمل القرآن وامتثال لأمره صلى الله عليه وسلم لأمته ان يأخذوا عنه مناسكهم فمن ادعى في شيء منها انه غير واجب فلا يقبل منه ذلك الا بدليل. وأما كونها تقارن التقليد فلما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية: "انه لما كان بذي الحليفة قلد الهدى وأشعره واحرم بالعمرة"، [البخاري " 3/544"، أبو دأود "1754"، أحمد "4/323"] . قوله: "ولو كخبر جابر" أقول: هو حديث أخرج معناه أحمد من طريقين ورجاله رجال الصحيح وأخرجه البزار أيضا ومضمونه انه بعث صلى الله عليه وسلم بهدي إلي الحرم ثم نزع قميصه وقال: "إني أمرت بهدي ان يقلد ويشعر فلبست قميصي ونسيت". ويخالفه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت انا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء احله الله له حتى نحر الهدي ويمكن الجمع بتعدد القصة ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي من حديث جابر انهم إذا كانوا حاضرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعث الهدى فمن شاء أحرم ومن شاء ترك وقد كان ابن عباس وابن عمر يبعثان بالهدى ويمسكان عما يمسك منه المحرم وقال ابن المنذر قال علي وعمر وقيس بن سعد وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون من ارسل الهدي واقام حرم عليه ما يحرم على المحرم وقال آخرون لا يصير بذلك محرما.

قوله: "ولا عبرة باللفظ وان خالفها". أقول: هذا صحيح فالنية هي عقدالقلب واللفظ لادخل له في ذلك ولا اعتبار به فإذا وقع مخالفا لما عقد عليه القلب فهو لغو. قوله: "ويصنع مطلقه على ما شاء". أقول: قد قدمنا ان الاحرام غير النية فإذا اطلقه ولم يعين النوع الذي احرم له كان ذلك مفوضا اليه واقعا على اختياره. وأما قوله وإذا التبس ما قد عينه الخ فأقول: إذا وقع اللبس على وجه يتعذر معه الاهتداء إلي ما يرفعه فلا يجب عليه بمجرد ذلك التعيين شيء ولا يجب عليه شيء مما ذكره المصنف بل له ان يعين بعد ذلك ما شاء ولا يلزمه من أحكام التعيين المنسي شيء هكذا ينبغي ان يقال مطابقة لقواعد الشريعة الكلية والجزئية وقد ثبت في الكتاب العزيز: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أو أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وثبت في الصحيح أن الله سبحانه قال عقب كل دعوة من الدعوات التي هذه منها قد فعلت فثبت بهذا عدم المؤاخذة بالنسيان ويؤيده حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" فإنه حديث قد تكاثرت طرقه حتى صلح للاحتجاج به وتأويله بأن المراد رفع الإثم غير مقبول وبهذا تعرف انه لا وجه لهذه التفاصيل التي ذكرها المصنف. قوله: "ومن احرم بحجتين" الخ. أقول: هذا الذي احرم بالحجتين ان أراد بذلك في عام واحد فهو متلاعب وهذه النية باطلة لا حكم لها ولا يلزمه وينوي بعد ذلك ما شاء ووجود تلك النية الباطلة كعدمها وان أراد في عامين فكأنه الزم نفسه بحجة مع هذه الحجة فيفي بذلك في عام آخر وأما إدخال النسك على النسك فقد لزم الأول وذكر الثاني لغو باطل لا يلزم ولا يحتاج إلي رفض لأنه وقع عند وجود المانع منه وهو النسك الأول ولا يلزمه للدخيل شيء ولا ينبني عليه ما لزمه من الدماء وهذا ظاهر واضح ولكن التفاريع المبنية على غير اساس تأتي بمثل هذه الخرافات. [فصل ومخطوراته أنواع منها الرفث والفسوق والجدال والتزين بالكحل ونحوه ولبس ثياب الزينة وعقد النكاح لا الشهاد والرجعة ولا توجب الا الإثم. ومنها الوطء ومقدماته وفي الامناء أو الوطء بدنة وفي الامداء أو ما في حكمه بقرة وفي تحرك الساكن شاة قيل ثم عدلها مرتبا. ومنها لبس الرجل المخيط مطلقا الا اصطلاء فإن نسي شقه وعليه دم وتغطية رأسه

ووجه المراة بأي مباشر غالبا والتماس الطيب وأكل صيدالبر وفيها الفدية شاة أو إطعام ستة أو صوم ثلاث وكذلك في خضب كل الاصابع أو تقصيرها أو خمس منها وفي إزالة سن أو شعر أو بشر منه أو من محرم غيره يبين اثره في التخاطب وفيما دون ذلك وعن كل إصبع صدقة وفيما دونها حصته ولا تتضاعف بتضعيف الجنس في المجلس ما لم يتخلل الاخراج أو نزع اللباس ونحوه. ومنها: قتل القمل مطلقا وكل متوحش وان تأهل مأمون العذر بمباشرة أو تسبيب بما لولاه لما انفتل الا المستثنى والبحري والأهلي وان توحش والعبرة بالام وفيه مع العمد ولو ناسيا الجزاء وهو مثله أو عدله ويرجع فيما له مثل إلي ما حكم به السلف والا فعدلان وفيما لا مثل له إلي تقويمهما. وفي بيضة النعامة ونحوها صوم يوم أو إطعام مسكين وفي العصفور ونحوه القيمة وفي افزاعه وإيلامه مقتضى الحال والقملة كالشعرة. وعدل البدنة اطعام مائة أو صومها والبقرة سبعون والشاة عشرة ويخرج عن ملك المحرم حتى يحل وما لزم عبدا اذن بالاحرام فعلى سيده ان نسي أو اضطر والا ففي ذمته ولا شيء على الصغير] . قوله: فصل: "ومحظوراته أنواع منها الرفث والفسوق والجدال". أقول: هذه الثلاثة على تفسير الرفث بفحش الكلام هي محظورة في غير الحج وعلى غير المحرم فذكرها بقوله تعالي: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، يدل على مزيد اثم فاعلها فيه وانها اشد تحريما على الحاج من غيره. قوله: "والتزين بالكحل ونحوه". أقول: لم يثبت ما يدل على ان الكحل والدهن من محظورات الاحرام ولا من مكروهاته والاصل الحل وليس لنا ان نثبت ما لم يثبت من المحظورات ويؤيد الجواز وان كان لا يحتاج إلي دليل لأنه الاصل ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم ادهن غير مقتت"، قال الترمذي بعد إخراجه هذا حديث غريب لا نعرفه الا من حديث فرقد السبخي عن سعيد بن جبير وقد تكلم يحيى بن سعيد في فرقد وقد روى عنه الناس انتهى ومن عدا فرقدا من رجال اسناده فهم ثقات. وأما إذا كان الكحل أو الدهن مطيبا فسيأتي البحث عن الطيب والمطيب والمقتت ما طبخ فيه الرياحين أو خلط بأدهان مطيبة. وأما قوله: "ولبس ثياب الزينة" فهذا حكم لا يرجع إلي رواية ولا رأي صحيح والذي ثبت تحريمه على المحرم من اللباس هو معروف مصرح به في الاحاديث وسيأتي.

قوله: "وعقد النكاح". أقول: قد صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما [مسلم "41/1409"، أحمد "1/69"، أبو داود "1841"، الترمذي "840"، النسائي "5/192"، ابن ماجة 1966"] ، النهي عن ذلك فقال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" كما في حديث عثمان بن عفان وروى النهي أيضا من حديث ابن عمر أخرجه أحمد وفي إسناده أيوب بن عتبة وقد وثق وروى مالك في الموطإ والدارقطني عن أبي غطفان عن أبيه عن عمر بن الخطاب ان رجلا تزوج وهو محرم ففرق بينهما ولا يعارض هذا ما في الصحيحين [البخاري "4/51"، مسلم "47/1410"، وغيرهما [أحمد "1/266"، أبو داود "1844"، الترمذي "842"، النسائي "5/191"، ابن ماجة "1965"] ، من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم لوجهين الأول انه أخرج أحمد والترمذي من حديث ميمونة نفسها انه تزوجها وهو حلال وبنى بها وهو حلال. وأخرجه أيضا مسلم وابن ماجه بلفظ تزوجها وهو حلال وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي رافع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما وأخرج أبو دأود ان سعيد بن المسيب قال وهم ابن عباس في قوله تزوج ميمونة وهو محرم فهذه رواية ميمونة ورواية أبي رافع وهو السفير بينهما ارجح من رواية ابن عباس لانهما اخبر بالقصة. والوجه الثاني ان حديث ابن عباس غاية ما فيه على فرض انه ارجح لكونه في الصحيحين ان ذلك جائز لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون خاصا به والنهي خاصا بالامة كما تقرر في الاصول ان فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة وعلى تقدير شمول النهي له فيكون فعله مخصصا له. وأما قوله: "إلا الشهادة والرجعة" فوجهه ان النهي إنما ورد في النكاح. قوله: "ولا يوجب إلا الإثم". أقول: هذا صحيح لان الاصل البراءة عن لزوم شيء في المال حتى يأتي الدليل الدال عليه ولم يرد في هذه المذكورات دليل يدل على انه يلزم فاعلها شيء فيجب التوقف في الايجاب على ما ورد وقد عرفناك غير مرة ان اموال المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا يحل اخراج شيء منها عن ملكهم الا بناقل يصلح للنقل والا كان ذلك من أكل اموال الناس بالباطل. قوله: "ومنها الوطء ومقدماته" الخ. أقول: أما كون المحرم ممنوعا من الوطء فظاهر لا سيما بعد حمل قوله: {فَلا رَفَثَ} على الجماع وأما كونه يجب عليه بدنة وفي الامذاء وما في حكمه بقرة وفي تحرك الساكن شاة فليس في هذا شيء في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمأما روى من اجتهادات بعض الصحابة فقد عرفت انها لا تقوم بها الحجة فيما هو دون هذا واعجب من هذا ما سياتي من ان الوطء يفسد الحج ويجب الاستمرار فيه والقضاء له وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.

قوله: "ومنها لبس الرجل المخيط". أقول: الاحاديث الصحيحة قد وردت بمنع المحرم من لبس القميص والسرأويل ثم قالوا انه صلى الله عليه وسلم قد نبه بذلك على المنع من كل مخيط ولا أرى هذا صحيحا فإن ورد ما يدل على تحريم لبس المخيط على العموم فذاك ولكنه لم يرد فينبغي التوقف على المنع مما سماه النبي صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري "3/401"، مسلم "1177"] ، وغيرهما [أبو داود "1824"، الترمذي "833" النسائي "5/131، 132"، ابن ماجة 2929"] ، إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما يلبس المحرم فقال: "لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين". وأخرج البخاري "4/52"، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين". وأخرج أحمد وأبو دأود عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ينهى النساء في الإحرام عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب وزاد أبو دأود والحاكم والبيهقي ولتلبس بعد ذلك ما احبت من الثياب معصفرا أو خزا أو حليا أو سرأويل أو قميصا. والأحاديث في الباب كثيرة والحاصل ان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد بين أكمل بيان مالا يجوز للمحرم لبسه فما عدا ذلك جاز له لبسه سواء كان مخيطا أو غير مخيط. وأما قوله: "فإن نسي شقه" فغير صحيح فإن هذا إضاعة للمال وقد رود النهي عنها ولكن ينزع الجبة أو القميص كما في حديث يعلى بن امية ان رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم وهو متضمخ بطيب فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل احرم في جبة بعدما تضمخ بطيب فنظر اليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فجاءه الوحي ثم سرى عنه فقال: "أين الذي سألني عن العمرة آنفا؟ " فالتمس الرجل فجيء به فقال: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في العمرة كل ما تصنع في حجك"، هكذا في الصحيحين [البخاري "9/9"، مسلم "8/1180"، وغيرهما [أبو داود "1819"، الترمذي "836"، النسائي "5/142، 143"] ، وأما ما ذكره من وجوب الدم في لبس المخيط فليس على ذلك دليل والاصل البراءة فلا ينقل عنها الا دليل صحيح يصلح للنقل. قوله: "وتغطيه رأس الرجل ووجه المرأة". أقول: أما تغطيه رأس الرجل فلما أخرجه مسلم "99/1206، 100/1206"، وغيره [البخاري "1851، 1267"، أحمد "1/328، 1/215"، النسائي "5/195، 5/197"] ، من حديث ابن عباس ان رجلا وقصته ناقته وهو محرم فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا وجهه ولا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا"، وهذا التعليل بقوله فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا يدل على ان العلة في عدم التغطية هو الاحرام قال النووي في شرح مسلم أما

تخمير الرأس في حق المحرم الحي فمجمع على تحريمه وأما وجهه فقال مالك وأبو حنيفة هو كرأسه وقال الشافعي والجمهور لا إحرام في وجهه وله تغطيته وأنه يجب كشف الوجه في حق المرأة. والحديث حجة عليهم وهكذا حكى المأوردي الاجماع على تحريم تغطية الرأس ومما يدل على منع الرجل من تغطية رأسه ما في الصحيحين وغيرهما من نهيه صلى الله عليه وسلم من لبس العمامة والبرنس كما تقدم. وأما تغطية وجه المرأة فلما روى ان إحرام المرأة في وجهها ولكنه لم يثبت ذلك من وجه يصلح للاحتجاج وأما ما أخرجه أحمد "6/30"، وابو دأود "1833"، وابن ماجه "2935"، من حديث عائشة قالت كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت احدانا جلبابها من راسها على وجهها فإذا جاوزنا كشفناه وليس فيه ما يدل على ان الكشف لوجوههن كان لأجل الاحرام بل كن يكشفن وجوههن عند عدم وجود من يجب سترها منه ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه وهكذا ما رواه الحاكم وصححه من حديث أسماء بنحوه فإن معناه معنى ما ذكرناه فليس في المنع من تغطية وجه المرأة ما يتمسك به والاصل الجواز حتى يرد الدليل الدال على المنع. قوله: "والتماس الطيب" أقول: اعلم ان تحريم الطيب على من قد صار محرما مجمع عليه والاحاديث القاضية بتحريمه عليه كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما وليس الخلاف الا في استمرار المحرم على طيب كان قد تطيب به قبل ان يحرم ثم لم يغسله عنه عند الاحرام فظاهر حديث عائشة الثابت في الصحيحين [البخاري "10/370"، مسلم "36، 37/1189"] ، انها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إحرامه بأطيب ما اجد. وفي لفظ [مسلم "44/99"] ، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد ان يحرم تطيب بأطيب ما يجد ثم أرى وبيص الطيب في رأسه ولحيته بعد ذلك انه يجوز الاستمرار على الطيب الواقع قبل الاحرام ولا يجب غسله وإلي هذا ذهب الجمهور. وفي لفظ لمسلم "39/1190"، وغيره [البخاري "3/396"، أبو داود "1746"، من حديثها كأني انظر إلي وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم وأخرج أبو دأود "1830"، عن عائشة قالت كنا نخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلي مكة فنضمخ جباهنا بالسك المطيب عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينهانا ورجال إسناده ثقات الا الحسين بن الجنيد شيخ أبي دأود وقد قال النسائي لا بأس به وقال ابن حبان في الثقات إنه مستقيم الامر. فالحاصل ان الممنوع من الطيب إنما هو ابتداؤه بعدالاحرام لا استدامته والاستمرار عليه إذا وقع قبل الاحرام وقد حققت هذا البحث في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلي زيادة عليه.

قوله: "وأكل صيد البر". أقول: الاحاديث الواردة في صيد البر قد بينت معنى قوله سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] ، وقد جمعت بينها في شرحي للمنتقى بما حاصله انه يحرم صيدالبر على المحرم إذا صاده بنفسه أو صاده محرم آخر أو صاده حلال لاجل المحرم لا إذا صاده حلال لآ لأجل المحرم فإنه يحل له إذا لم يعنه عليه أحد من المحرمين وبهذا يحصل الجمع بين حديث أبي قتادة [البخاري "6/98"، مسلم "58/1196"، أبو داود ":1852"،، اليترمذي "847"، النسائي "5/182"، ابن ماجة "3093"، أحمد "5/182"] ، وحديث الصعب بن جثامة وسائر ما ورد في الباب فارجع إلي ذلك فإنه بحث نفيس. قوله: "وفيها الفدية" الخ. أقول: لم يرد في هذه المذكورات ما يدل على لزوم الفدية والاصل البراءة فلا ينقل عنها الا ناقل صحيح وقد ورد القرآن الكريم بلزوم الفدية للمريض ومن به اذى من رأسه إذا حلق رأسه كما يفيده أول الآية فيقتصر على ذلك والتشبث بالقياس غير صحيح. وهكذا قوله وكذلك في خضب كل الاصابع إلي آخر البحث لا دليل يدل على لزوم الفدية في شيء من ذلك وبالجملة فلم يرد في إيجاب الفدية في شيء من هذه الامور كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع بل لم يرد في الحكم بحظرية بعضها على المحرم ما يصلح للتمسك به وإيجاب ما لم يوجبه الله هو من التقول على الله بما لم يقل. قوله: "وقتل القمل مطلقا". أقول: لم يرد ما يدل على ان هذا من محظورات الاحرام والتعويل على القياسات التي هي مجرد دعأوى على القياس لا تثبت الحجة بمثلها وقد أذن صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة كما في الصحيحين [البخاري "1816"، مسلم "85/1201"] ، وغيرهما [أبو داود "1856"، الترمذي "953"، النسائي "5/194"، 195"] ، ان يحلق رأسه بعد ان رأى القمل بتناثر على وجهه وأوجب عليه الفدية لأجله لا لأجل القمل فإنه لم يأمره بشيء في ذلك ومعلوم ان جميع ما كان في رأسه من القمل قد ذهب عنه بذهاب الشعر وهلك بالقائه على الارض وهكذا لا وجه لقوله وقتل كل متوحش فإنه لا يصدق عليه انه صيد حتى يندرج تحت قوله سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] ، ولا وجه لايجاب الجزء في ذلك مع أن غالب المتوحش من الحيوانات أنه يخشى منه الضرر وقد نبه صلى الله عليه وسلم على علة النهي عن قتل الخمس المستثناة بما ورد في رواية صحيحة من الحاق "السبع العادي" بها فقال والسبع العادي والوصف بالمشتق مشعر بالعلية وقتله لاجل عدوه وكل ما يعدو له حكمه. والظاهر انه صلى الله عليه وسلم نبه باستثناء الخمس المستثناة عن كل ضار وان العلة في جواز قتلها هو كونها ضارة فيدخل في ذلك كل ضار والقمل من جملة ما يتضرر به الإنسان فضلا عما له مدخلية في الضرر زائدة على القمل.

قوله: "وهو مثله أو عدله" الخ. أقول: الجزاء واجب في قتل الصيد لا فيما تقدم مما ليس بصيد فلا شك انه المماثل لما صاده لقوله تعالي: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، ولكنه ينبغي أن تكون المماثلة في اخص الأوصاف إذا لم تكن في غالبها لا في الوصف الذي لا مدخل له في المماثلة كما قيل إنه يجب في الحمامة شاة لأنهما متماثلان في العب للماء فإن هذا الوصف لا اعتبار به في الحكم بالمماثلة اصلا بل يقال ان في النعامة بدنة وفي الوعل بقرة وفي الارنب جدي وفي الظبي عنز ونحو ذلك. وأما الرجوع إلي حكم السلف فلا وجه له الا إذا لم يوجد في الحال من يمكنه الحكم لأن الله سبحانه قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ، والخطاب لكل قوم اتفق فيهم مثل ذلك إلا أن يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في ذلك كان العمل به واجبا ولا يجوز المصير إلي خلافه وهكذا إذا فرض ان السلف اتفقوا على حكم من الأحكام وبهذا المقدار يتبين لك الكلام على بقية ما ذكره المصنف في هذا الفصل فإن قلت من حكمه صلى الله عليه وسلم في الجزاء ما أخرجه أبو دأود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد والحاكم في المستدرك عن جابر قال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشا وجعله من الصيد قال الترمذي سألت البخاري عنه فصححه وكذا صححه عبد الحق وقد ذكرت فيما سبق ان ما كان من الوحش لا يصدق عليه اسم الصيد قلت الضبع صيد يحل أكله كما سيأتي الدليل على ذلك فلا يرد النقض به. [فصل ومحظور الحرمين قتل صيدهما كما مر والعبرة بموضع الإصابة لا بموضع الموت وفي الكلاب القتل أو الطرد في الحرم وان خرجا أو استرسلا من خارجه. الأول: قطع شجر اخضر غير مؤذ ولا مستثنى اصله فيهما نبت بنفسه أو غرس لبيقى سنة فصاعدا وفيهما القيمة فيهدي بها أو يطعم وتلزم الصغير وتسقط بالاصلاح وصيدهما ميتة وكذا المحرم وفي حق الفاعل اشد. الثاني: طواف القدوم داخل المسجد خارج الحجر على طهارة ولو زائل العقل أو محمولا أو لابسا راكبا غصبا وهو من الحجر الأسود ندبا جاعل البيت عن يساره حتى يختم به اسبوعا متواليا ويلزم دم لتفريقه أو شرط منه عالما غير معذور أن لم يستأنف ولنقص أربعة منه فصاعدا وفيما دون ذلك عن كل شرط صدقة ثم ركعتان خلف مقام

إبراهيم عليه السلام فإن نسي فحيث ذكر قيل من ايام التشريق. وندب الرمل في الثلاثة الأول لا بعدها وان ترك فيها والدعاء في أثنائه والتماس الأركان ودخول زمزم بعد الفراغ والاطلاع على مائه والشرب منه والصعود منه إلي الصفا من بين الأصطوانتين واتقاء الكلام والوقت المكروه. الثالث: السعي وهو من الصفا إلي المروة شرط ثم منها اليه كذلك اسبوعا متواليا وحكمه ما مر في النقص والتفريق وندب على طهارة وان يلي الطواف ويشترط الترتيب والا فدم وللرجل صعود الصفا والمروة والدعاء فيهما والسعي بين الميلين: الرابع الوقوف بعرفة وكلها موقف الا بطن عرنة ووقته من الزوال في عرفة إلي فجر النحر فإن التبس تحرى ويكفي المرور على أي صفة كان ويدخل في الليل من وقف في النهار والا فدم وندب القرب من مواقف الرسول وجمع العصرين فيها وعصر التروية وعشائه وفجر عرفة في منى والافاضة من بين العلمين. الخامس: المبيت بمزدلفة وجمع العشاءين فيها والدفع قبل الشروق. السادس: المرور بالمشعر وندب الدعاء. السابع: رمي جمرة العقبة بسبع حصيات مرتبة مباحة طاهرة غير مستعملة ووقت ادائه من فجر النحر غالبا إلي فجر ثانية عند أوله يقطع التلبية وبعده يحل غير الوطء. وندب الترتيب بين الذبح والتقصير ثم من بعد الزوال في الثاني إلي فجر ثانية يرمى الجمار بسبع سبع مبتدئا بجمرة الخيف خاتما بجمرة العقبة ثم في الثالث كذلك ثم له النفر فإن طلع فجر الرابع وهو غير عازم على السفر لزم منه إلي الغروب رمى كذلك وما فات قضى إلي آخر أيام التشريق ويلزم دم وتصح النيابة فيه للعذر وحكمه ما مر في النقص وتفريق الجمار وندب على طهارة وباليمنى وراجلا والتكبير مع كل حصاة. الثامن: المبيت بمنى ثاني النحر وثالثة وليلة الرابع ان دخل فيها غير عازم على السفر وفي نقصه أو تفريقه دم. التاسع: طواف الزيارة كما مر بلا رمل ووقت ادائه من فجر النحر إلي آخر أيام الشتريق فمن اخره فدم وإنما يحل الوطء بعده ويقع عنه طواف القدوم إن أخر والوداع بغير نية ومن اخر طواف القدوم قدمه. العاشر طواف الوداع كما مر بلا رمل وهو على غير المكي والحائض والنفساء ومن فات حجة أو فسد وحكمه ما مر في التقصي والتفريق ويعيده من أقام بعده أياما] .

قوله: فصل: "ومحظور الحرمين قتل صيدهما كما مر". أقول: أما حرم مكة فلما ثبت في الصحيحين [البخاري "1587"، 1834، 2783، 2825، 3189"، مسلم "1353"، وغيرهما [أبو داود "2018"، أحمد "1/226، 255، 259"، النسائي "5/203، 204"] ، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرام لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده"، الحديث ومثله في الصحيحين [البخاري "4/346"، مسلم "447/1355"، وغيرهما [أبو داود "2017"] ، أيضا من حديث أبي هريرة. وأما حرم المدينة فلما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أيضا من حديث عباد بن نميم عن عمه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة". وفي الصحيحين [البخاري "4/81"، مسلم "1370"، أيضا من حديث علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرم ما بين عير إلي ثور وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى". وفي صحيح مسلم "458/1362"، من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها". وأخرج مسلم "1374"، أيضا من حديث أبي سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني حرمت المدينة حرام ما بين مأزمنيها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف". وفي البخاري "4/81"، من حديث أنس بلفظ: "لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث"، وفي الباب احاديث. فهذه الأدلة تدل على تحريم ما اشتملت عليه ومن جملة ذلك الصيد وإذا حرم مجرد تنفيره كان تحريم قتله ثابتا بفحوى الخطاب. وأما قوله والاعتبار بموضع الإصابة لا بموضع الموت فصحيح ولا ينبغي أن يقع في مثله خلاف وهكذا الاعتبار في الكلاب المرسلة للصيد ان يكون من الحرم الا إذا اسلها من غيره غير قاصد لدخولها الحرم. قوله: "الثاني قطع شجر اخضر غير مؤذ ولا مستثنى". أقول: أما تحريم قطع الشجر فقد دلت عليه الادلة التي ذكرنا بعضها في البحث الذي قبل هذا وقد ورد فيها الترخيص في الاذخر وفي علف الدواب منها فهذان الصنفان هما المستثنيان من النبات النابت في الحرم وأما الشجر المؤذي فلم يرد دليل يدل على الترخيص فيه لكن إذا كان نابتا في الطريق مثلا على وجه لا يمكن المرور الا بحصول ضرر منه فقواعدالشريعة تدل على جواز قطع ما كان ضارا وقد جاز قتل الحيوان لضرره فكيف لا يجوز قطع النبات. وما ورد

في رواية بلفظ: "لا يعضد شوكها" فمحمول على ما يمكن المحرم تجنبه الا إذا الحت الضرورة إلي المرور عليه والوقوف فوقه فإن قطعه لدفع ضرره أولى من تركه مع حصول الضرر منه وقد أذن صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة أن يحلق رأسه لضرر ما فيه من القمل وقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ، فالترخيص للمريض إنما هو لمجرد تضرره بالمرض وكذلك من به أذى من رأسه فإن ذلك إنما رخص فيه لما يحصل به من الضرر. وأما قوله: "نبت بنفسه أو غرس ليبقى سنة" فلا وجه لهذا التقييد ولا ورد ما يدل عليه ولكن الأمر المستمر من أهل الحرمين في سالف الزمان وإلي الان انهم يزرعون الزرائع ويغرسون الغروس فلعل هذا الشيء ثبت لهم كأن يكون الأمر في عصر النبوة وعصر الصحابة هكذا فإنه إذا كان هكذا كان ذلك دليلا على الجواز. قوله: "وفيهما القيمة". أقول: أما قتل صيدالحرم فقد صرح القرأن الكريم بأن من قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم وقد تقدم تحقيق ذلك وأما القيمه في الصيد فلا دليل يدل على لزومها وهكذا لم يرد دليل يدل على وجوب الجزاء أو القيمة في قطع شجر الحرم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم" 64] ، والاصل براءة الذمة وعصمة أموال المسلمين حتى يرد الدليل الصحيح الناقل عن ذلك ولكنه ورد في قطع شجر حرم المدينة كما أخرجه مسلم وغيره من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص ان سعدا ركب إلي قصره بالعقيق فوجدا عبدا يقطع شجرا ويخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه ان يرد عليه أو عليهم ما اخذ من غلامهم فقال معاذ الله ان ارد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي ان يرد عليهم. وأخرج أحمد وابو دأود من حديث سليمان بن أبي عبد الله قال رأيت سعد بن أبي وقاص اخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلبه ثيابه فجاء مواليه اليه فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال: "من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه"، فلا أرد عليك طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ان شئتم أعطيتكم ثمنه أعطيتكم وأخرجه الحاكم وصححه. قوله: "الثاني طواف القدوم". أقول: قد عرفناك ان النبي صلى الله عليه وسلم علم الناس مناسك حجهم الذي أمر به الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} آل عمران: 97] ، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، فكل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو واجب بالقرآن وبالسنة وليست المناسك الا هذه المأخوذة من فعله ولم يعلم الناس بها إلا منه فما قيل انه لا بد أن يعرف أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو منسك فهو غلط أو مغالطة. وإذا تقرر لك هذا فقد ثبت ثبوتا متواترا إن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجته الذي علم الناس كيف يحجبون طواف القدوم فدل ذلك على أنه منسك واجب لمن كان حجه مثل حجه صلى الله عليه وسلم

والقائل بعدم الوجوب عليه الدليل الموجب لتخصيص ما قدمنا من القرآن والسنة المبينين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وكان طوافه صلى الله عليه وسلم داخل المسجد خارج الحجر وهذا يكفي في الاستدلال على هذه الصفة مع ما يفيده ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من الحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "8/170"، مسلم "399/1333"] ، وغيرهما [أحمد "6/176، 177"، النسائي "5/214، 215"] ، أنه قال: "الحجر من البيت". قوله: "على طهارة". أقول: إنما يثبت وجوب هذه الطهارة إذا ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم طاف طاهرا أي متوضئا وضوء الصلاة أو أمر الطائفين بذلك ولا يدل على هذا الوجوب منعه صلى الله عليه وسلم للحائض ان تطوف بالبيت فإن المانع من ذلك إنما هو حيضها فلا يدل الا على ان الحائض ممنوعة من البيت بل فيه ما يفيد عدم وجوب كون الطواف على طهارة لأنه لم يأمرها الا بانتظار انقطاع حيضها ولم يأمرها بأن تتوضأ للطواف وهكذا لا يدل على ذلك حديث: "الطواف بالبيت صلاة" فإنه ليس المراد انه كالصلاة في جميع أحكامه التي من جملتها الطهارة فإنه لم يقع فيه شيء من أركانها ولا من أذكارها فكيف يستدل به على وجوب ما هو خارج عنها وهو الطهارة وأما الاستدلال بكون آخر الطواف ركعتي الطواف وهما لا يصحان الا من متطهر فهذا الاستدلال إنما يتم على تقدير وجوب الموالاة بين الركعتين وبين الطواف بحيث لا يفصل بينهما فاصل يتسع للطهارة ولم يرد ما يدل على هذا الا ان يقال إنه صلى الله عليه وسلم وإلي بينهما فدل ذلك على انه طاف متوضئ نعم قد ثبت من حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ان أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة انه توضأ ثم طاف بالبيت فهذا هو الدليل على وجوب كون الطواف على طهارة وقد تقرر ان الأصل في كل أفعاله في الحج الوجوب. وأما كونه يجزى طواف زائل العقل لذلك للعذر العارض له لا سيما من استمر عليه ذلك كمن غلبه المرض وخشي ان يفوته الطواف وليس هذا بمناقض لما تقدم من إيجاب الطهارة فللأعذار حكمها. وأما قوله: "ولو محمولا أو لابسا أو راكبا غصبا". فلا شك ان لابس المغصوب أو راكب المغصوب قد اثم اثم فاعل الحرام وأما كون هذا يبطل به الطواف فيحتاج إلي دليل يدل عليه. قوله: "وهو من الحجر الاسود ندبا". أقول: قد عرفناك غير مرة ان افعاله صلى الله عليه وسلم في الحج محمولة على الوجوب لانها بيان لمجمل قوله تعالي: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، ولمجمل قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" وفي الطواف خاصة لمجمل قوله تعالي: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وقد صح انه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة اتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا وهكذا يجب التسبيع للطواف كما وردت بذلك الاحاديث الكثيرة الصحيحة وهي بيان لمجمل القرآن والسنة كما عرفت وهكذا التوالي بين الاشواط على الحد الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل هذه الأفعال فريضة على كل من يحج البيت.

قوله: "ويلزم لتفريقه دم أو شوط منه" الخ. أقول: ليس على هذا دليل يدل عليه وأما ما استدلوا به من حديث ابن عباس بلفظ من ترك نسكا فعليه دم فلم يصح رفعه قال ابن حجر في التلخيص لم اجده مرفوعا وقد اعل ابن حبان الرفع بأن في إسناده مجهولين أحمد بن علي المروزي وعلي بن أحمد المقدسي فالعجب من الزام عباد الله بأحكام ليست من الشرع في شيء ولا قام عليها دليل ولا شبهة دليل وقد قرن الله سبحانه في كتابه العزيز بين الشرك وبين التقول عليه بما لا يعلمه المتقول فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] . قوله: "ثم ركعتان خلف مقام إبراهيم". أقول: قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان لمجمل القرآن والسنة وفي حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حج النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلي مقام إبراهيم قرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] ، فصلى ركعتين فقرا فيهما فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد [مسلم "147/1218"، النسائي "2961"] . فقراءته صلى الله عليه وسلم للاية يدل على انها واردة في صلاة هاتين الركعتين فيكون ذلك دليلا قرآنيا عليهما بخصوصهما والناسي لهما يقضيهما عند الذكر في أيام التشريق أو غيرها لاكما ذكره المصنف هذا إن ورد دليل يدل على القضاء والا فالنسيان عذر مسوغ للترك وعدم المؤاخذة به كما قدمنا تحقيق ذلك في غير موضع. قوله: "وندب الرمل في الثلاثة الأول" الخ. أقول: هذا مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فكان من جملة فرائض الحج على ما قدمنا تقريره وقد انضم إلي هذا الفعل الذي وقع بيانا للكتاب والسنة ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم امرهم ان يرملوا الاشواط الثلاثة لما بلغه ان المشركين قالوا: إنها قد وهنتهم حمى يثرب ولا يقال إنه يزول الوجوب بزوال سببه لأن فرائض الحج قد ثبتت وإن زالت اسبابها وحكى النووي في شرح مسلم عن ابن عباس أنه قال: الرمل ليس بسنة قال النووي هذا مذهبه وخالفه جميع العلماء من الصحابة والتابعين وأتباعهم ومن بعدهم انتهى. قوله: "وندب الدعاء في أثنائه". أقول: لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وصححه من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالي"، وقد عرفت أن هذه مناسك واجبة ولم تشرع الا للدعاء فالدعاء واجب بهذا الدليل ثم قد ثبت انه صلى الله عليه وسلم دعا في طوافه فكان ذلك بيانا لمجمل القرآن والسنة فكان

واجبا والمراد مطلق الدعاء والذكر فإن أمكن فعل المروى في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أتم وأكمل وقد أخرج أحمد "12/67"، وابو دأود "1892"، والنسائي "وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث عبد الله بن السائب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر الاسود: " {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وقد رويت في أدعيته صلى الله عليه وسلم في الطواف أحاديث وفي بعضها ضعف. قوله: "والتماس الأركان". أقول: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم الا استلام الركن اليماني والركن الاسود كما في الاحاديث الصحيحة ولم يثبت انه استلم غيرها قط ثم ثبت عنه في الركن الاسود انه قبله وثبت عنه انه وضع يده عليه ثم قبلها وثبت عنه انه استلمه بمحجن ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الركن اليماني الا مجرد الاستلام لا التقبيل الا في رواية رواها البخاري في تاريخه عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني قبله ورواه أيضا أبو يعلى والدارقطني وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف وزاد الدارقطني في هذا الحديث انه صلى الله عليه وسلم كان يضع خده عليه ولكن الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلمه فقط ورواية التقبيل ووضع الخد لم تثبت كما عرفت. قوله: "ودخول زمزم بعد الفراغ". أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر وغيره فهو من الأفعال المشتملة على بيان مجمل الكتاب والسنة كما عرفت ولا وجه لجعله وجعل الاستلام مندوبين فقط وأما الاطلاع على ماء زمزم فلم يثبت فيه دليل لا صحيح ولا حسن وأما الشرب منه فلو لم يكن فيه الا ما ثبت في صحيح مسلم: "أنه طعام طعم وشفاء سقم" لكان ذلك كافيا مع ان حديث: "ماء زمزم لما شرب له" هو عند أحمد وابن ماجه وقد صححه المنذري والدمياطي وحسنه ابن حجر وهو مروي من طريق جماعة من الصحابة. وأما قوله والصعود إلي الصفا الخ فقد ثبت هذا من فعله صلى الله عليه وسلم فله حكم سائر أفعاله في الحج. قوله: "واتقاء الكلام والوقت المكروه". أقول: أما اتقاء الكلام فقد قدمنا حديث "إنما جعل الطواف والسعي ورمي الجمار لإقامة ذكر الله سبحانه" والكلام بغير ما فيه ذكر الله مكروه من هذه الحيثية. وأما اتقاء الوقت المكروه فلم يرد ما يدل على كراهة الطواف في الأوقات المكروهة وأما حديث: "الطواف بالبيت صلاة" فقد قدمنا انه لا يدل على إثبات أركان الصلاة وأذكارها اللذين هما ماهية الصلاة فكيف يدل على ما هو خارج عنها مع انه قد أخرج أحمد "4/80"، وأهل

السنن ل [أبو داود "1894"، الترمذي "868"، النسائي "5/223"، ابن ماجة "1254"] ، من حديث ابن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا احدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء"، وقد صححه الترمذي وابن حبان وهو يرد القول بكراهة الطواف في الأوقات المكروهة ويدل على انه لا يكره فعل ركعتي الطواف في الأوقات وقد كان بعض السلف يؤخرها إذا صادف فراغه من الطواف في وقت مكروه. قوله: "الثالث السعي". أقول: هذا نسك ثابت بفعله صلى الله عليه وسلم الذي وقع بيانا لمجمل القرآن والسنة مع ما ورد من حديث حبيبة بنت أبي تجراه قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي تدور به إزاره وهو يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليك السعي"، أخرجه أحمد والشافعي وفي إسناده عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف ولكن قد روى من طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة والطبراني من حديث ابن عباس. وأخرج أحمد "6/421، 422"، من حديث صفية بنت شيبة ان امرأة خبرتها انها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب الله عليكم السعي فاسعوا"، وفي إسناده موسى ابن عبيدة وهو ضعيف. وقد أخرج النسائي "2972"، عنه صلى الله عليه وسلم انه استلم الركن ثم خرج فقال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدأوا مما بدأ الله به". وأخرج مسلم "84/1780"، من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم لما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا الحديث. قوله: "وهو من الصفا إلي المروة شوط ثم منها اليه كذلك". أقول: هذا هو الحق ومن خالف في ذلك فقد غلط غلطا بينا وعلى هذا سلف هذه الامة وخلفها وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه بدأ بالصفا كما قدمنا قريبا >و ثبت عنه في الصحيحين [البخاري "3/502"، مسلم "231، 1261"، وغيرهما "الترمذي "2960"، ابن ماجة 2974"] ، أنه طاف بين الصفا والمروة سبعا وهذا فيه غاية البيان فلو كان السعي من الصفا إلي المروة ثم منها اليه شوطا لكان قد طاف بين الصفا والمروة اربع عشرة مرة لا سبعا فقط. وأما كونه متواليا فهذا كان سعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وأما قوله: "وحكمه في النقص والتفريق ما مر" فقد قدمنا انه لم يدل على ذلك دليل لافي الطواف ولا في السعي وأما كونه على طهارة فلم يدل على ذلك دليل وأما اشتراط الترتيب بين الطواف والسعي فكهذا كان فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه من تقديم الطواف على السعي. وأما كون عدم الترتيب يوجب دما فلا دليل على ذلك وقد قدمنا لك الكلام على حديث: "من

ترك نسكا فعليه دم" وأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حجة في قول غيره ولكنه ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمرو وانه قام إلي النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال كنت احسب ان كذا قبل كذا ثم قام اليه آخر فقال كنت احسب ان كذا قبل كذا حلقت قبل ان انحر نحرت قبل ان ارمي وأشباه ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افعل ولا حرج لهن كلهن"، فما سئل يومئذ عن شيء الا قال: "افعل ولا حرج"، وفي الباب أحاديث وليس في شيء منها ذكر تقديم السعي على الطواف الا ان يكون مثل ذلك داخلا في مثل هذا العموم وأما ما وقع في حديث اسامه عند أبي دأود بلفظ: سعيت قبل أن أطوف, فقد قال الحفاظ انه ليس بمحفوظ. قوله: "وللرجل صعود الصفا والمروة والدعاء فيهما". أقول: قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه اتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلي البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو ما شاء ان يدعو وهكذا ثبت في الصحيح من حديث جابر وفيه فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ثم قال في آخره ثم نزل إلي المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا وقد قدمنا حديث: "إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا ورمى الجمار لإقامة ذكر الله"، ولم يرد ما يدل على تخصيص الرجال بصعود الصفا والمروة. وأما مشروعية السعي بين الميلين فقد قدمنا ما يدل على ذلك قريبا. قوله: "الرابع الوقوف بعرفة". أقول: الدليل على ان هذا منسك من مناسك الحج ما قدمناه من فعله صلى الله عليه وسلم الذي وقع بيانا لمجمل الكتاب والسنة مع ما انضم إلي ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، كما في حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي. وأخرج أحمد "4/15"، وأهل السنن [أبو داود "1950"، الترمذي "891"، النسائي "264"، ابن ماجة "316"، وصححه الترمذي "3/239"، من حديث عروة بن مضرس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه"، وقضى تفثه ورجال إسناده رجال الصحيح ومحمد بن اسحاق قد صرح فيه بالتحديث وقد صححه جماعة من الحفاظ. وأما قوله وكلها موقف الا بطن عرنة فلما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر انه صلى الله عليه وسلم قال: "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف"، يعني المزدلفة.

وأما استثناء بطن عرنة فيدل عليه حديث جابر مرفوعا عندابن ماجه وفيه التصريح باستثناء بطن عرنة قال ابن حجر وفيه القاسم بن عبد الله بن عمر العمري كذبه أحمد ثم ذكر له شواهد لايخلو كل واحد منها عن مقال شديد. قوله: "ووقته من الزوال في عرفة إلي فجر النحر". أقول: قد نقل كثير من الائمة الاجماع على هذا الوقت وما روى عن أحمد بن حنبل من ان النهار من يوم عرفة كله وقت للوقوف فهو مسبوق بالاجماع. وأما استدلالة بما تقدم من حديث عروة بن مضرس من قوله وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد قيد مطلق النهار الاجماع بأنه من الزوال. قوله: "فإن التبس تحرى". أقول: هذا مبني على حصول اللبس من كل وجه أما إذا قداتفق السواد الاعظم وجمهور الحاج على يوم الوقوف فلا لبس بل الرجوع اليهم يكفي ويرفع اللبس. وأما قوله ويكفي المرور على أي صفة كان فغير مسلم بل لا بد ان يفعل ما يصدق عليه مسمى الوقوف فإن هذا هو النسك الاعظم فلا بد من حصول مدلوله وإذا قد فعل هذا فلا وجه لقوله ويدخل في الليل من وقف في النهار ولا دليل يدل على ذلك وهكذا لا دليل على قوله والا فدم لما قدمناه لك. قوله: "وندب القرب من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم". أقول: هذه الفضيلة لا تنافي ما قاله صلى الله عليه وسلم من ان عرفة كلها موقف فان تتبع آثاره والوقوف في مواقفه في حج وغيره هو من اعظم مواطن التبرك التي تكون ذريعة إلي الخير وصلة إلي الرشد وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يبالغون في مثل هذا ويتنافسون فيه حتى كان عبد الله بن عمرو إذا وصل إلي السباطة التي بال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فعل كفعله وبال قائما مع ما في ذلك من التعرض لمخالفة النهى ان يبول الرجل قائما فكيف مالا يخالفه شيء. وأما قوله: "وجمع العصرين فيها" فلم يثبت في هذا ما يصلح للاستدلال به والذي في حديث جابر الطويل المتضمن لبيان حجه صلى الله عليه وسلم انه نزل بنمرة حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت فركب حتى اتى بطن الوادي فخطب الناس ثم اذن بلال ثم اقام الصلاة فصلى الظهر ثم اقام فصلى العصر ولم يصل بينهما وهكذا لم يثبت انه صلى الله عليه وسلم جمع بين عصرى التروية وأما صلاته صلى الله عليه وسلم في منى الصلوات الخمس فقد وقع ذلك كما في حديث جابر وهكذا الإفاضة من بين العلمين. قوله: "الخامس المبيت بمزدلفة". أقول: قد صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم من فعله الواقع بيانا لمجمل الكتاب والسنة كما قدمنا غير مرة وانضم إلي ذلك ما تقدم في حديث عروة بن مضرس. وأما قوله: "وجمع العشاءين فيها" فقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث جابر الطويل انه صلى الله عليه وسلم

اتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بإذان واحد واقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر الحديث وفي الباب أحاديث في الصحيحين [البخاري "3/523"، مسلم "287"، 288، 1286"] ، وغيرهما [أبو داود "1926"، الترمذي "887"، النسائي "3033"] . وهكذا الدفع منها قبل الشروق وقد ثبت في حديث جابر المذكور انه صلى الله عليه وسلم بعد ان صلى الفجر ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام وفي الباب احاديث. والحاصل ان الادلة قد دلت على وجوب المبيت بمزدلفة وعلى جمع العشاءين بها وعلى صلاة الفجر فيها وعلى الدفع منها قبل شروق الشمس فهذه واجبات من واجبات الحج وفرائض من فرائضه لا سيما صلاة الفجر بمزدلفة لقوله في حديث عروة بن مضرس المتقدم "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" فإن هذه العبارة تفيد انه لا يتم حج من لم يصل الفجر بالمزدلفة. قوله: "السادس المرور بالمشعر". أقول: هذا قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم انه ركب القصواء حتى اتى المشعر الحرام ولا ينافي كونه منسكا من مناسك الحج قول من قال إنه من المزدلفة أو المزدلفة فلا مانع من ان يجتمع في موضع واحد منسكان فمبيته صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة نسك واتيان المشعر الحرام بعد صلاة الفجر نسك وقد أيد كونه نسكا الامر القرآني بالدعاء عنده حيث قال تعالي: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، فإن قلت كان يلزم على هذا ان يكون في المزدلفة نسكات متعددة المبيت بها وجمع العشاءين فيه وصلاة الفجر بها والمرور بالمشعر الحرام والدعاء عنده قلت هذا ملتزم وما المانع من ذلك وهذا الذكر المشروع قد بينه صلى الله عليه وسلم فإنه لما اتى المشعر الحرام استقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا حتى اسفر جدا هكذا في الحديث الثابت في الصحيح وبه يظهر انه لا يكفى مجرد المرور بالمشعر بل لا بد من الوقوف فيه كما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "السابع رمي جمرة العقبة". أقول: رمى الجمار قد صح من قبله صلى الله عليه وسلم على الصفة الثابتة في الاحاديث المشتملة على بيان حجه صلى الله عليه وسلم فكان رميها رميها منسكا من مناسك الحج لما قدمنا من ان فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل الكتاب والسنة ومن جملة ذلك ما في حديث جابر الثابت في الصحيح قال رمى النبي صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى وأما بعد فإذا زالت الشمس وثبت أيضا من فعله صلى الله عليه وسلم أنه رمى الجمرة الكبرى بسبع حصيات والمراد بالجمرة هنا وبالجمرة الكبرى جمرة العقبة. وأما اشتراط كونها طاهرة مباحة فللأدلة الواردة في المنع من استعمال النجاسات وملابستها وما ورد فهي تحريم مال الغير الا باذنه وأما كونها غير مستعملة فلم يدل عليه دليل والاصل الجواز والدليل على المانع.

قوله: "ووقته من فجر النحر إلي فجر ثانية". أقول: الثابت عنه صلى الله عليه وسلم انه رمى ضحى كما تقدم وأخرج أحمد "1/234، 311"] ، وأهل السنن [أبو داود "1940"، ابن ماجة "3025"، النسائي "5/270، 272"، الترمذي "892"] ، من حديث ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم نهى أغيلمة بني عبد المطلب ان يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس وصححه الترمذي "3/239، 240"، وابن حبان وحسنه ابن حجر في الفتح. وهكذا أخرج الترمذي "893"، من حديثه انه صلى الله عليه وسلم نهى ضعفه أهله ان يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس فدل ما ذكرناه على ان أول وقت الرمي من طلوع الشمس لا من فجر النحر ولا يعارض هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ام سلمة انها رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح لانها استدلت على ذلك بقولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن للظعن" فكان ذلك خاصا بهن. وهكذا لم يدل دليل تقوم به الحجة على امتداد الوقت إلي فجر ثاني النحر فالذي ينبغي التعويل عليه في هذا الوقت هو فعله صلى الله عليه وسلم من رميه ضحى مع انضمام النهي عن الرمي قبل طلوع الشمس اليه فيكون وقته من طلوع الشمس في يوم النحر إلي آخر الوقت الذي يطلق عليه انه ضحى. وأما ما أخرجه البخاري "3/559"، وغيره [أبو داود "1983"،النسائي "272"، ابن ماجة "3050"، من حديث ابن عباس انه ساله رجل فقال: رميت بعدما امسيت فقال: "افعل ولا حرج"، ففيه الترخيص لمن جهل الوقت لا لمن علمه. قوله: "وعند أوله يقطع التلبية". أقول: لحديث ابن عباس في الصحيحين [البخاري "3/404"، مسسلم "167، 1281"، وغيرهما أبو داود "1815"، الترمذي " 918"، ابن ماجة "3040"، النسائي "3081"] . ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي بمنى حتى رمى جمرة العقبة ولكن هذا يحتمل انه قطع التلبية عند الشروع في الرمي ويحتمل انه تركها عند الفراغ منه ويؤيد هذا ما روى من حديث الفضل بن عباس عند النسائي "4086/والبيهقي انه صلى الله عليه وسلم قطع التلبية مع آخر حصاة. وأما قوله: "وبعده يحل غير الوطء" فلحديث أنس عند مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم اتى منزله بمنى ونحر ثم قال للحلاق: "خذ" وأشار إلي جانبه الايمن ثم الايسر. ولما أخرجه أحمد "1/234"، أبو داود "1978"، النسائي "3084"، ابن ماجة "3041"، من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء الا النساء"، فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس: أما أنا فقد رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ راسه بالمسك أفطيب هو؟ قال في البدر المنير: وإسناده حسن. وفي الصحيحين من حديث عائشة قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ان يحرم ويوم النحر قبل ان يطوف بالبيت.

ولفظ النسائي "2687"، "طيبت رسول الله صلي الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله بعد ما رمي جمرة العقبة ثبل أن يطوف بالبيت". وأما قوله: "بين الذبح والتقصير" فيدل عليه تقديم النبي صلى الله عليه وسلم للرمي وفعل الذبح بعده ثم الحلق بعدالذبح كما هو ثابت في الصحيح والاحاديث الواردة بالتصريح بنفي الحرج لمن قال حلقت قبل ان ارمي ولمن قال حلقت قبل ان انحر ولمن قال افضت قبل ان احلق انه يجوز تقديم البعض على البعض حتى قال ابن عباس في حديثه الثابت في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: "لا حرج" وقال ابن عمرو في حديثه الثابت في الصحيحين وغيرهما فما سئل يومئذ عن شيء الا قال: "افعل ولا حرج". قوله: "ثم من بعد الزوال في الثاني" الخ. أقول: يدل على هذا ما أخرجه أحمد وابو دأود وابن حبان والحاكم من حديث عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلي مني فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى وعند الثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. وأخرج أحمد "12/218"، والترمذي "898"، وابن ماجه "3054"، من حديث ابن عباس قال رمى رسول الله صلى الله عليه وآله الجمار حين زالت الشمس وأخرج نحوه مسلم في صحيحه من حديث جابر. وأما الابتداء بجمرة الخيف والختم بجمرة العقبة فلما ثبت في البخاري وغيره من حديث ابن عمر انه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمى الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمى الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. قوله: "فإن طلع في الرابعة" الخ. أقول: يدل على هذا حديث عائشة المتقدم قريبا انه صلى الله عليه وسلم مكث بمنى ليالي أيام التشريق الحديث وقد تقدم ان رميه صلى الله عليه وسلم إنما كان وقت الزوال فلا يدخل وقت الرمي الا هذا الوقت لا عند طلوع الفجر كما ذكر المصنف. قوله: "وما فات قضى إلي آخر أيام التشريق". أقول: لم يرد ما يدل على هذه الكلية وأما حديث عاصم بن عدي عند أحمد "5/450"، وأهل السنن [أبو داود "1975"، ابن ماجة "3037"، الترمذي " 955"، النسائي "3069"، ومالك

والشافعي وابن حبان والحاكم وصححه الترمذي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة من بعدالغد ليومين ثم يرمون يوم النفر فهو على فرض ان بعض هذا الرمي وقع قضاء مختص بأهل الاعذار نعم حديث: "فدين الله أحق أن يقضى" يدل بعمومه على وجوب القضاء ولكل عبادة ورد بها الشرع الا ما خصه دليل. وأما قوله: "ويلزم دم" فقد قدمنا انه لا دليل على ذلك الا قول ابن عباس ان صح وقد عرفت ان قول الصحأبي ليس بحجة على أحد من العباد. وأما قوله: "وتصح النيابة للعذر" فهو وان لم يرد ما يدل على ذلك ولكن الاعذار مسوغة للاستنابة الا ان يقال ان العذر مسقط للوجوب من الاصل لأنه لا وجوب على معذور الا ان يكون مثل رعاء الإبل. وأما قوله: "وحكمه ما مر في النقص وتفريق الجمار" فقد قدمنا الكلام على ذلك هنالك. وأما قوله: "وندب على طهارة" فليس على ذلك دليل. وأما قوله: "وباليمنى" فيدل عليه أحاديث التيامن فإنها تشتمل على مثل هذا. وأما قوله: "وراجلا" فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الرمي راكبا وراجلا فكان الكل سنة ولا وجه لتخصيص أحد الامرين بالندب. وأما التكبير مع كل حصاة فقد قدمنا انه كان صلى الله عليه وسلم يكبر مع كل حصاة. قوله: "الثامن المبيت بمنى" الخ. أقول: قد ثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم الواقع بيانا لمجمل القرآن والسنة فافاد ذلك فرضيته ويؤيد ما تقدم من ترخيصه للرعاء في البيتوتة فإن الترخيص لهم يدل على انه عزيمة على غيرهم وهكذا ترخيصه صلى الله عليه وسلم للعباس فإنه يدل على انه عزيمة على غيره وبذلك تتأكد الفرضية. وأما قوله: "وليلة الرابع إن دخل وهو غير عازم على السفر" فليس في هذا دليل تقوم به الحجة. وأما قوله: "وفي نقصه وتفريقه دم" فقد قدمنا ان إيجاب هذا الدم في هذه المناسك من التقول على الشرع بما لم يقل. قوله: "التاسع طواف الزيارة". أقول: هو المسمى بالافاضة وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فكان نسكا ويؤكد ذلك وقوع الاجماع عليه قال النووي في شرح مسلم وقد اجمع العلماء ان هذا الطواف وهو طواف الافاضة ركن من أركان الحج لا يصح الحج الا به واتفقوا على انه يستحب فعله يوم النحر بعدالرمي والنحر والحلق فإن آخره عنه وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه بالاجماع فإن أخره إلي بعد أيام التشريق وأتى به بعدها أجزأه ولا شيء عليه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال أبو حنيفة ومالك إذا تطاول لزم معه دم انتهى. وقد حكى مثل هذا الاجماع الذي حكاه النووي في الطوافين المهدي في البحر قيل

وطواف الافاضة هذا هو المأمور به في قوله تعالي: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28] . وأما كونه بلا رمل فلعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الطواف. وأما قوله: "ووقت أدائه من فجر النحر إلي آخر أيام التشريق" فلما صح عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر انه صلى الله عليه وآله وسلم أفاض يوم النحر وهكذا في صحيح مسلم من حديث جابر. وأما امتداده إلي آخر ايام التشريق فهو مجمع عليه كما تقدم. وأما قوله فمن أخره فدم فلا دليل على ذلك كما قدمنا. وأما قوله: "ويقع عنه طواف القدوم" إن أخر والوداع بغير نية فلا دليل على هذا الوقوع ولا يدل عليه ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك"، لأن غاية ما في هذا انه لا يجب الا طواف واحد وليس فيه وقوع طواف عن طواف وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه طاف ثلاثة طوافات طواف القدوم وطواف الافاضة وطواف الوداع فما ورد مما يخالف هذا عن صحأبي أو غيره لم تقم به حجة. وأما قوله: "ومن أخر طواف القدوم فدم"، فهذا صحيح لأن طواف القدوم من جملة مناسك الحج وقد قدمه صلى الله عليه وسلم على طواف الافاضة فإذا أخره عن وقت قدومه قدمه قبل طواف الافاضة وفاء بما شرعه صلى الله عليه وسلم لأمته. قوله: "العاشر طواف الوداع". أقول: هذا الطواف قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم المبين لمجمل القرآن والسنة ويزيده تأكيدا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه أمر الناس ان يكون آخر عهدهم بالبيت. وأما كونه بلا رمل فلكون ذلك لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم. وأما كونه على غير الحائض والنفساء فلثبوت الترخيص منه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح [البخاري "1/407"، مسلم "119/1211"] . وأما كونه على غير المكي فلكونه غير مودع للبيت. وأما كون حكمه ما مر في النقص والتفريق فقد قدمنا الكلام على ذلك. وأما كونه يعيده من اقام بعده ايأما فلأمره صلى الله عليه وسلم للناس ان يكون آخر عهدهم بالبيت. [فصل ويجب كل طواف على طهارة وإلا أعاد من لم يلحق بأهله فإن لحق فشاة الا الزيارة فبدنة عن الكبرى وشاة عن الصغرى قيل ثم عدلهما مرتبا ويعيد إن عاد فتسقط البدنة إن أخرها ويلزم شاة والتعري كالأصغر وفي طهارة اللباس خلاف] .

قوله: "فصل ويجب كل طواف على طهارة". أقول: قد قدمنا في طواف القدوم انه صلى الله عليه وسلم ثبت عنه انه توضا ثم طاف فالحاق سائر الطوافات به إلحاق صحيح لعدم الفارق ولكن المصنف رحمه الله خبط في هذا الفصل فإن قوله وإلا أعاده من لم يلحق بأهله لا يناسب ما ذكره من وجوب الطهارة لأن الاعادة فرع البطلان والبطلان لا يكون الا لخلل شرط أو ركن والطهارة واجبة في الطواف كما قال وليست بشرط ولا ركن ثم قوله فإن لحق بأهله فشاة لا دليل عليه كما قدمنا ثم إيجابه على من فاته طواف الزيارة بدنة عن الكبرى وشاة عن الصغرى لا دليل عليه ولا يوافق الرأي الذي بني عليه لأن الطهارة إذا كانت شرطا بطل طواف الزيارة بعدمها ما تقرر ان الشرط يؤثر عدمه في العدم وإذا بطل طواف الزيارة فهو عنده ركن من أركان الحج الثلاثة وذلك يقتضي أن يبطل الحج ببطلانه وقد جرى على هذا في الفصل الذي بعدهذا فما ذكره هنا من أن يجبره الدم لا يناسب مجرد الرأي فضلا عن الرواية وإذا عرفت عدم لزوم الدم عرفت عدم صحة قوله ثم عدلهما. وأما قوله ويعيده إن عاد فهو مخالف لما سيأتي له من قوله فيجب العود له ولأبعاضه وهكذا قوله فتسقط البدنة الخ فإنه مبني على لزومها ولا لزوم كما عرفت وهكذا على التعري بأنه كالحدث الاصغر لا دليل عليه وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا يطوفن بالبيت عريان"، [البخاري "3/483"، مسلم "135/1347"، وظاهر هذا ان من طاف عريانا فلا طواف له. وأما اشتراط طهارة اللباس فلا دليل عليه ولا يفيد حديث "الطواف في البيت صلاة" لما قدمنا. [فصل ولا يفوت الحج الا بفوات الاحرام أو الوقوف ويجبر ما عداهما دم الا الزيارة فيجب العود له ولأبعاضه والايصاء بذلك] . قوله: "فصل ولا يفوت الحج" الخ. أقول: أما فوات الحج بفوات الاحرام فلا دليل يدل على ذلك الا إذا ثبت ما يدل على انه شرط فيما هو ركن من أركان الحج كالوقوف وطواف الزيارة. وأما فوات الحج بفوات الوقوف فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك"، [أبو داود "1949"، الترمذي "889"، النسائي "5/156"، ابن ماجة 3015"، أحمد "4/335"] ، وصح عنه انه قال: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة. ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه"، وفي ذلك دليل يدل على ان الحج يفوت بفوات الوقوف بعرفة.

وأما طواف الزيارة فقد قدمنا نقل الاجماع على انه ركن من أركان الحج يفوت بفواته ولا يصح الا به. وأما كونه يجبر ما عدا الاحرام والوقوف فقد قدمنا انه لا دليل على وجوب هذه الدماء. وأما وجوب العود لطواف الزيارة فهو مناسب للإجماع على ركنيته وإذا لم يتمكن من ذلك لم يتم حجه. وأما وجوب الايصاء به على انفراده فغير مسلم بل إذا مات قبل تأديته فكأنه لم يحج فمن أوجب الوصية بالحج على من لم يحج أوجبها عليه وسيأتي الكلام على هذا.

باب العمرة

باب العمرة ... [باب والعمرة إحرام وطواف وسعي وحلق أو تقصير ولو اصلع وهي سنة لا تكره الا في اشهر الحج والتشريق لغير المتمتع والقارن وميقاتها الحل للمكي وإلا فكالحج وتفسد بالوطء قبل السعي فيلزم ما سيأتي إن شاء الله] . قوله: "باب والعمرة إحرام وطواف وسعي" الخ؟. أقول: أفرد المصنف هذا الباب للعمرة المفردة فلا يرد عليه ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لعائشة: " طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك" وقد تقدم ولا يرد عليه ما سيأتي من ان القارن يكفيه طواف وسعى واحد لهما. وأما كون ماهية العمرة هي هذه الاربعة فلثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في عمرته المفردة ويؤيده حديث يعلى بن امية المتقدم فإنه قال: "واصنع في عمرتك ما انت صانع في حجك" وهو في الصحيحين [البخاري "9/9"، مسلم "8/1180"، وغيرهما [أبو داو "1819"، الترمذي "836"، النسائي "5/142، 143"] . وأما قوله: "وهي سنة" فلعدم ورود دليل صحيح يدل على وجوب العمرة المفردة وما ورد مما فيه دلاله على الوجوب فلم يثبت من وجه تقوم به الحجة. وأما قوله تعالي: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، فليس هذا في المفردة بل العمر التي مع الحج وقد لزمت بالدخول فيها والنزاع في وجوب العمرة المفردة من الاصل ويؤيد عدم الوجوب ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة واجبة هي قال: "لا"، وفي إسناده الحجاج بن ارطاة وفيه ضعف ويؤيد عدم الوجوب قوله تعالي: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، ولم يذكر العمرة

وفي الاحاديث الصحيحية التي فيها بيان أركان الإسلام الاقتصار على الحج ولم يذكر العمرة. قوله: "ولا تكره الا في اشهر الحج". أقول: كان أهل الجأهلية يكرهون العمرة في أشهر الحج فلما جاء الإسلام أبطل ذلك واعتمر في أشهر الحج كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر اربع عمر في ذي القعدة الا التي اعتمر مع حجته وفي حديث عائشة عند أبي دأود ان النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين عمرة في ذي القعدة وعمرة في شوال. فالحاصل انها مشروعة في جميع السنة ولا تكره في وقت من الأوقات وما كان يحسن من المصنف رحمه الله ان يعتمد على هذه السنة الجأهلية ويذكرها في كتابه هذا. قوله: "وميقاتها الحل للمكي". أقول: استدل لذلك بما في الصحيحين [البخاري "3/606"، مسلم "1211"، وغيرهما [أبو دتاود "1778"، ابن ماجة "2963"، النسائي "2764"، من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلي التنعيم ويعمرها منه وقد اجاب من قال إنه يصح لمن كان في مكة ان يحرم للعمرة من مكة كما يحرمون للحج منها بأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمر بذلك تطييبا لقلب عائشة بأن تدخل إلي مكة من الحل كما دخل ازواجه كذك وهذا الجواب خلاف الظاهر. والحاصل انه صلى الله عليه وسلم لم يقع منه تعيين ميقات للعمرة وقد ثبت عنه تعيين ميقات الحج لأهل كل جهة فإن كانت العمرة كالحج في هذه المواقيت فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها"، وهو في الصحيحين [البخاري "3/384، 3/387، 3/388، 4/59"، مسلم "8/1180"] وغيرهما [أبو داود "1737"] ، بل وقع التصريح في حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما بعد ذكر المواقيت لأهل كل محل انه قال صلى الله عليه وسلم: "فهن لأهلن ولمن اتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة"، فصرح في هذا الحديث بالعمرة. وأما قوله: "ويفسد بالوطء قبل السعي" فقد عرفت ما مر في كونه يفسدالحج وفي ذلك ما يغني عن إعادة البحث هنا وسيأتي قول المصنف فصل ولا يفسد الاحرام الا الوطء.

باب المتمتع

باب المتمتع ... [باب والمتمتع من يريد الانتفاع بين الحج والعمرة بما لا يحل للمحرم الانتفاع به وشروطه ان ينويه وان لا يكون ميقاته داره وان يحرم له من الميقات أو قبله وفي اشهر الحج وان يجمع حجة وعمرة سفر وعام واحد] .

قوله: "باب والمتمتع هو من يريد الانتفاع بين الحج والعمرة بما لا يحل للمحرم الانتفاع به". أقول: قد ثبت ان أنواع الحج ثلاثة تمتع وقران وأفراد فهذا الرسم لبيان ماهية حج التمتع وتمييزه من النوعين الاخرين فلا يرد عليه من هذه الحيثية اعتراض والمراد انه توصل بالعمرة إلي ان يحل له مالا يحل لمن يحج كحجه. قوله: "وشرطه أن ينوى". أقول: التمتع بالعمرة إلي الحج عمل وانما الاعمال بالنيات ولا عمل الا بنية كما صح ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصاب المصنف بجمل النية شرطا ها هنا فهو الحق في جميع الاعمال وقد قدمنا تقرير ذلك وأما قوله وان لا يكون ميقاته داره فقد استدل عليه بقوله تعالي: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أهلهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، على ان الاشارة إلي التمتع وهو الظاهر لا إلي الهدى ويؤيد هذا المجي بصيغة الاشارة إلي البعيد ويؤيده أيضا قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] ، فإنه خطاب للمحصرين لا لأهل مكة فإنهم لا يحصرون عن البيت. وأما قوله: "وأن يحرم له من الميقات أو قبله" فمعناه انه يشترط لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ان يحرم من الميقات وقد تقدم في باب العمرة ما يوضح المراد ويبين الصواب. وأما قوله: "وفي اشهر الحج" فليس عليه دليل تقوم به الحجة. وأما قوله: "وأن يجمع حجه وعمرته سفر وعام واحد" فلكونه لا يظهر معنى التمتع الا بجمع الحج والعمرة في عام واحد ثم الواقع ممن حج تمتعا من الصحابة في عام حجة صلى الله عليه وسلم كان هكذا ولكن قد عرفناك ان الدليل الذي يصلح للاستدلال به على الشرطية لا بد ان يكون مقتضيا لتاثير عدم الشرط في عدم المشروط كما سبق غير مرة. [فصل ويفعل ما مر الا انه يقدم العمرة فيقطع التلبية ندبا عند رؤية البيت ويتحلل عقيب السعي ثم يحرم للحج من أي مكة وليس شرطا ثم يستكمل المناسك مؤخرا لطواف القدوم ويلزمه الهدى بدنة عن عشرة وبقر ةعن سبعة مقترضين وان اختلف وشاة عن واحد فيضمنه إلي محله ولا ينتفع قبل النحر به غالبا ولا بفوائده ويتصدق بما خشى فساده إن لم يتبع وما فات ابد له فإن فرط فالمثل والا فالواجب فإن عاد خير ويتصدق بفضله الأفضل

ان نحر الادون فإن لم يجد فصيام ثلاثة ايام في الحج أخرها يوم عرفة فإن فاتت فأيام التشريق ولن خشي تعذرها والهدى تقديمها منذ احرم بالعمرة ثم سبعة بعد التشريق في غير مكة ويتعين الهدى بفوات الثلاث وبإمكانه فيها لا بعدها الا في أيام النحر] . قوله: "فصل ويفعل ما مر الا انه يقدم العمرة" أقول: هو لا يكون متمتعا الا بتقديم العمرة كما سلف وأما الخلاف في قطع التلبية متى يكون فقد قدمنا ما ورد في قطعها وفي أي وقت يقطع. وأما قوله: "ويتحلل عقيب السعي" فهذا شأن المتمتع ولم يتمتع الا لهذا. وأما كونه يحرم للحج من أي مكة فصحيح وإذا أراد ان يحرم من غيرها فله ذلك. وأما قوله: "ثم يستكمل المناسك مؤخرا لطواف القدوم" فليس على من قدم مكة متمتعا الا طواف عمرته ولا يجب عليه طواف آخر للقدوم. قوله: "ويلزمه الهدى". أقول: لما في القرآن الكريم من قوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وقد وقع الاجماع على وجوب الهدى على المتمتع. وأما كون البدنة عن عشرة والبقرة عنس سبعة فترده الاحاديث الصحيحية كما في حديث جابر في الصحيحين وغيرهما قال امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة وفي لفظ لمسلم انه قيل لجابر ايتشرك في البقر ما يشترك في الجزور فقال ماهي الا من البدن فدل على استواء البقرة والبدنة وان كل واحد منهما عن سبعة واليه ذهب الجمهور ولا يعارض هذا ما روى عن ابن عباس قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الاضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه وحسنه الترمذي فإن هذا في الأضحية وهي باب آخر غير باب الهدى. وهكذا لا يعارض هذا ما في الصحيحين من حديث رافع بن خديج انه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير فإن هذا في القسمة وهي باب آخر. وأما قوله فيضمنه إلي محله فلا دليل عليه بل إذا خاف هلاكه فعل ما أمر به صلى الله عليه وسلم من سأله عن الهدى إذا خاف صاحبه عطبه فإنه قال له: "انحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم خل بينها وبين الناس يأكلونها" أخرجه أحمد "4/334"، وابو دأود "1762"، وابن ماجه "3106"، والترمذي "910"] ، وصححه وهو في صحيح مسلم بلفظ: "انحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها انت ولا أحد من أهل رفقتك" ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بتعويضها. وأما قوله: "ولا ينتفع قبل النحر به" فمخالف بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين

[البخاري "3/536"، مسلم "1323"] ، من حديث أنس انه أمر صاحب البدنة ان يركبها وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر انه سئل عن ركوب الهدى فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف إذا الجئت إليها حتى تجد ظهرا". وأخرج أحمد "13/42، 43"] ، عن علي انه سئل يركب الرجل هديه فقال لا بأس به قدكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالرجال يمشون فيأمرهم بركوب هديه وفي إسناده محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ضعفه جماعة وثقه ابن حبان. وكما انه لا دليل على المنع من الانتفاع بالهدى فلا دليل أيضا على المنع من الانتفاع بفوائده. وأما قوله: "ويتصدق بما خشى فساده" فهذا صواب لكن قوله ان لم يبتع لا وجه له وهكذا لا وجه لقول وما فات ابدله لعدم الدليل على ذلك ولما قدمنا من انه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بذلك من عطب هديه وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وأما قوله: "فإن فرط فالمثل" فإذا كان التفريط بغير وجه مسوغ فهو لم يفعل ما امره الله به بقوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، من الهدى فعليه ان يفعل ما يصدق عليه مسمى الهدى وان كان دون الذي فرط فيه فلا وجه لقوله فالمثل بل لا يجب عليه الا الواجب الاصلي. وأما قوله: "فإن عاد خير" فصواب لأنه لم يجب عليه الا الهدى وهو يحصل بالوفاء بأحدهما ولا وجه لقوله ويتصدق بفضلة الافضل إن نحر الادون لما عرفناك. قوله: "فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام". أقول: لنص الكتاب العزيز على ذلك وظاهر قوله تعالي: {فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] . انها تصام في أيام الحج أو مع أعمال الحج. وأما قوله فإن فاتت فأيام التشريق فمبني على ان القرآن قد خصص ما ورد في النهي عن صومها وفيه نظر لأن أحد الامرين ليس بأولى بالتخصيص من الاخر فكما قيل إن القرآن هنا قد خصص السنة يمكن ان يقال هنا إن السنة هنا قد خصصت القرآن ولا ينتهض لنسخ النهي عن صومها ما ورد عن بعض الصحابة نعم إن صح ما رواه الطحاوي والدارقطني والحاكم عن عبد الله بن حذافة مرفوعا: "إن هذه أيام أكل وشرب وذكر لله فلا صوم فيهن الا صوما في هدى"، كان هو التخصيص لما ورد في النهي عن صومها. وأما قوله: "ويجوز لمن خشي تعذرها والهدى تقديمها منذ احرم بالعمرة" فهذا محتاج إلي دليل يدل عليه. وأما قوله: "ثم سبعة بعد التشريق في غير مكة" فكان الأولى ان يقول وسبعة إذا رجع إلي أهله فإنه اتم وأكمل. وأما قوله: "ويتعين الهدى بفوات الثلاث" فلا دليل على هذا التعيين بل الظاهر أنه إذا حصل التعذر لم يلزمه شيء لا الصوم ولا غيره فإن قيل قد وجب القضاء بقوله صلى الله عليه وسلم:

"فدين الله أحق أن يقضى"، فيجاب عنه بان يقضى صوم الثلاث لأنها هي التي صارت واجبة عليه عند تعذر الهدى ولا وجه لقوله وبإمكانه فيها لأنه قد صار معه معذورا عن الهدى ووجب عليه الصيام بالدخول فيه ولا فرق بين أيام النحر وغيرها.

باب القارن

باب القارن ... [باب والقارن من يجمع بنية إحرامه حجة وعمرة معا وشرطه ان لا يكون ميقاته داره وسوق بدنة وندب فيه وفي كل هدى التقليد والايقاف والتجليل ويتبعها واشعار البدنة فقط] . قوله: "باب والقارن من يجمع بنية إحرامه حجة وعمرة معا". أقول: هذا الرسم بين به ماهية حجالقرىن وإنما سمى قرانا لأنه قرن فيه بين الحج والعمرة ولكن ليس من شرطه ان ينويهما جميعا بل يجوز ان يحرم بالحج مفردا ثم يدخل العمرة على الحج كما وقع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون قارنا وقد وقع الاتفاق على انه صلى الله عليه وسلم حج قرانا مع ما جاءت به الاحاديث الصحيحية من انه صلى الله عليه وسلم لبى بالحج أولا ثم بالعمرة بعد ذلك. وأما قوله وشرطه ان لا يكون ميقاته داره فلا دليل على ذلك ولا يصح قياس القرآن على التمتع لعدم وجود الجامع الصحيح الذي لا يتم القياس بدونه. قوله: "وسوق بدنة". أقول: قد ساق صلى الله عليه وسلم هديا في حجه الذي بين فيه للناس ما نزل اليهم وقد قدمنا انه بيان لمجمل القرآن والسنة المقتضيين للوجوب فكان واجبا وما قيل من انه يلزم القائلين بوجوب سوق الهدى بفعله صلى الله عليه وسلم أن يوجبوا التقليد والاشعار فهو ملتزم وان ابوه ولا يلزمهم ان يكون الهدى قدر هديه صلى الله عليه وسلم لأنه قد وجد مسمى الهدى والسوق في الهدى الواحد. ويؤيد هذا ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلد ولم يشعر الا بدنة واحدة فدل ذلك على انها على انفرادها هديه دون غيرها وما ذكره المصنف من التقليد والتجليل والاشعار فهو ثابت بالاحاديث الصحيحة. وأما إيقاف الهدى في المواقف لم يرد من وجه تقوم به الحجة وما يدل على ان السوق في هذا النوع من أنواع الحج شرط قوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى" [البخاري "3/504"، مسلم "141/1216"، أبو داود "1785، 1789"، أحمد "3/320"] ، وهو حديث صحيح فجعل صلى الله عليه وسلم سوق الهدى هو المقتضى لبقائه قارنا.

[فصل ويفعل ما مر إلا انه يقدم العمرة إلي الحل ويتشنى ما لزمه من الدماء ونحوها قبل سعيها] . قوله: "فصل ويفعل ما مر". أقول: هذه العبارة صحيحية على ما تقتضيه الادلة وإن كانت غير مناسبة لما هو المقرر عند المصنف ومن قال بقوله فقد ثبت في الصحيحين [البخاري "1557"، مسلم "111/1211"] ، وغيرهما من حديث عائشة: "أن الذين جمعوا بين الحج والعمرة إنما طافوا طوافا واحدا". وثبت في صحيح مسلم "133/1211"] وغيره [أحمد "6/124"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك". وفي مسلم "133/1211"، أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك". وفي صحيح البخاري "1558/1559"] ، عن ابن عمر أنه طاف لحجه وعمرته طوافا واحدا بعد أن قال إنه سيفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد "2/67"، وابن ماجه "2975"، وسعيد بن منصور عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرن بين حجه وعمرته أجزأه لهما طواف واحد". وأخرج الترمذي "948"، بلفظ: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد لهما حتى يحل منهما جميعا"، وحسنه. وأما قوله: "إلا انه يقدم العمرة إلي الحل" فليس على هذا دليل وقد عرفت انه يكفي لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد فلا تقديم ولا تأخير. وأما قوله: "ويتثنى ما لزمه من الدماء ونحوها قبل سعيها" فمبنى على وجوب طوافين وسعيين هو مندفع بما قدمنا. [فصل ولا يجوز للآفاقي الحر المسلم مجأوزة الميقات إلي الحرم الا بإحرام غالبا فإن فعل لزم دم ولو عاد إن كان قد احرم أو عاد من الحرم فإ فاته عامه قضاه ولا يداخل غيره] . قوله: "فصل ولا يجوز للآفاقي" الخ. أقول: لم يرد على هذا دليل يصلح للتمسك به ولا حجة في اجتهاد بعض الصحابة ولا فيما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصح ولو كان هذا شرعا ثابتا لما خفي دليله فقد كان الداخلون إلي مكة من الافاق في أيام النبوة كثيرين جدا ولم يسمع عن أحد منهم انه أمره صلى الله عليه وسلم

بالإحرام وإذا عرفت بطلان إيجاب الاحرام لمجرد المجأوزة عرفت بطلان إيجاب الدم على من جاوز بغير إحرام وبطلان إيجاب القضاء للإحرام المتروك عند المجاوزة. والحاصل ان هذا الفصل مبني على غير أساس. [فصل ويفعل الرفيق فيمن زال عقله وعرف نيته جميع ما مر من فعل وترك فيبي ان أفاق وإ مات محرما بقي حكمه فإن كان قد احرم وجهل فكناس ما احرم له ومن حاضت اخرت كل طواف ولا يسقط عنها الا الوداع وتنوى المتمتعة والقارنة رفض العمرة إلي بعدا لتشريق وعليهما دم الرفض] . قوله: "فصل وبفعل الرفيق فيمن زال عقله". أقول: زوال العقل لا تصح معه عبادة ولا معاملة فمن زعم انها تصح منه هذه العبادة وان مجرد فعل رفيقه به ما شرعه الله لعباده من اعمال الحج تكفي ويسقط عنه الوجوب فهو مطالب بالدليل المخصص لهذه العبادة من بين سائر العبادات ولا دليل اصلا ولم يتفق مثل هذا في زمن النبوة ولا له مأخذ من كتاب ولا سنة ولا قياس والعجب من قوله ويبنى إن أفاق فإن هذا الذي زال عقله قد من الله عليه برجوع عقله وأمكنه ان يأتي بما أوجبه الله عليه عاقلا صحيحا فكيف يدع هذا ويجترئ بما فعل به حال جنونه وإذا عرفت هذا عرفت عدم صحه ما ترتب عليه. قوله: "ومن حاضت اخرت كل طواف". أقول: قد ثبت انه صلى الله عليه وسلم أمر عائشة لما أخبرته انها قد حاضت بأن تغتسل ثم تهل بالحج ففعلت ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وبالصفا والمروة وثبت في الصحيح انه صلى الله عليه وسلم قال لها: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك"، وثبت في الصحيح أيضا انه صلى الله عليه وسلم قال لها: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك". وأما قوله: "ولا يسقط عنها الا طواف الوداع" فقدت تقدم انه صلى الله عليه وسلم رخص فيه للحائض. وأما قوله: "وتنوى القارن والمتمتعة رفض العمرة إلي ما بعد ايام التشريق" فليس على هذا دليل بل هو خلاف الدليل الصحيح وهكذا لا وجه لقوله وعليهما دم الفرض. [فصل ولا يفسد الاحرام الا الوطء في أي فرج على أي صفة وقع قبل التحلل برمي جمرة

العقبة أو بمضي وقته أداء وقضاء أو نحوهما فيلزم الاتمام كالصحيح وبدنة ثم عدلها مرتبا وقضاء ما أفسد ولو نفلا ومالا يتم قضاء زوجة اكرهت ففعلت الا به وبدنتها ويفترقان حيث افسدا حتى يحلا قوله: "فصل ولا يفسد الاحرام الا الوطء" أقول: قد قدمنا طرفا من الكلام على هذا وقدا ستدل من قال بالفساد بقوله تعالي: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، وهذا الاستدلال غير صحيح. أما أولا: فللاحتمال في معنى الرفث والمحتمل لا تقوم به الحجة. وأما ثانيا: فلو سلمنا ان الرفث هو الوطء لكان المنع منه لا يستلزم بطلان الحج لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام وغايته ان فاعله إذا تعمد اثم إثم فالح الحرام فمن اين يلزم بطلان حجه. وأما ثالثا: فلو كان الرفث مبطلا للحج لزم ان يكون الجدال مبطلا له واللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله وإذا عرفت انه لادليل على ان الجماع عمدا مبطل للحج فكيف يبطل الجماع سهوا أو جهلا. وأما قوله: "قبل التحلل برمي جمرة العقبة" فقد قدمنا حديث ابن عباس بلفظ: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". والحاصل ان ما رتبه المصنف على فسادا لحج بالوطء وجعله متفرعا عليه من لزوم إتمامه كالصحيح ولزوم قضائه ولو نفلا كلام لا دليل عليه وتكليف لعبادالله بما لم يكلفهم الله به وهكذا من اعتمد في اثبات الأحكام الشرعية على خيالات الرأي وزائف الاجتهاد ياتي بمثل هذه الخرافات التي لا ثمرة لها الا إتعاب العباد في غير شرع. ومن هذا الكلام الوارد على خلاف مناهج الشرع وأساليب الدين الحنيف قوله وما لا يتم قضاء زوجة اكرهت الا به ففعلت ويفترقان من حيث افسدا حتى يحلا وبطلان جميع هذا غني عن البيان وليته اقصتر على دعوى فساد الحج بالوطء ثم يقول وعليه ان يحج عن فرضه الذي افسده بالوطء في عام آخر فإن هذا وإن كان لا دليل عليه ولكنه أهون الشررين وأقل الضررين. [فصل ومن احصره عن السعي في العمرة أو الوقوف في الحج حبس أو مرض أو خوف أو انقطاع زاد أو محرم أو مرض من يتعين امره أو تجدد عدة أو منع زوج أو سيد لهم ذلك بعث بهدي وعين لنحره وقتا من ايام النحر في محله فيحل بعده فإن انكشف حله قبل

أحدهما لزمته الفديه وبقي محرما حتى يتحلل فإن زال عذره قبل الحل في العمرة والوقوف في الحج لزمه الاتمام فيتوصل اليه بغير مجحف وينتفع بالهدي إن ادركه في العمرة مطلقا وفي الحج إن ادرك الوقوف وإلا تحلل بعمرة ونحره ومن لم يجد فصيام كالمتمتع وعلى المحصر القضاء ولا عمرة معه] . قوله: "فصل ومن احصره عن السعي في العمرة أو الوقوف في الحج" الخ. أقول: احسن ما يستدل به على اثبات حكم هذا الحصر ما أخرجه مسلم وغيره عن ابن عباس ان ضباعة بنت الزبير قالت: يا رسول الله إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فكيف تأمرني أهل؟ فقال: "أهلي واشترطي أن محلى حيث حبستني". وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بن الزبير فقال لها: "لعلك أردت الحج؟ " قالت: والله ما أجدني الا وجعة فقال لها: "حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني". وقد أخرج أحمد "3/450"، من حديث ضباعة نفسها وفي الباب عند أنس عند البيهقي وعن جابر عنده أيضا وعن ابن مسعود وأم سلمة عنده أيضا وعن ام سلمة عند أحمد والطبراني في الكبير وعن ابن عمر عند الطبراني في الكبير. فهذه الاحاديث قد دلت على ثبوت حكم الحصر وان من اشترط هذا الاشتراط لم يثبت عليه حكم الحصر ومن لم يشترط ثبت عليه وقد ذهب جماعة من الصحابة منهم على وعمر وابن مسعود وجماعة من التابعين اليه ذهب أحمد واسحاق وابو ثور إلي انه لا يجوز التحلل مع عدم الاشتراط وذهب أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين إلي انه لا يصح الاشتراط وهذه الاحاديث ترد عليهم. وإذا تقرر هذا فقد ثبت انه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه احصروا بالحدييية ونزل قوله تعالي: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، فدل هذا على ان ما يلزم هذا المحصر الذي لم يشترط هو ما استيسر له فقول المصنف رحمه الله: "بعث بهدي" ما استيسر له وهذا إذا أمكنه البعث بالهدي فإن تعذر عليه ذلك لخوف طريق أو نحوه نحره حيث احصر وإن كان في الحل فقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحديبية وهي من الحل ولهذا تلكأ اصحابه ولم ينحروا حتى نحر ولم يحلقوا حتى حلق وهذه الآية وإن كان سببها خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ كما تقرر في الاصول فيقيد بها ما ورد مطلقا كحديث: "من كسر أو عرج فقد حل" وأما ما ذكره من لزوم الفدية إذا انكشف حله قبل احدهما فلا دليل عليه كما انه لا دليل على قوله فإن زال عذره قبل الحل في العمرة والوقوف في الحج لزمه الاتمام الخ بل الظاهر

ان من احصر وقد اشترط فإنه يصير حلالا والأمر مفوض اليه إن شاء حج مع زوال عذره وإن شاء ترك وحج في عام آخر وهكذا من لم يشترط وبعث بالهدي فإنه بعد بعثه بالهدى باختيار نفسه إذا زال عذره ولا قضاء عليه إذا لم يحج بل الفرض باق عليه متى استطاع وجب عليه الاتيان به فهذا حاصل ما ينبغي اعتماده في هذا البحث ولم يرد ما يخالفه الا مالا تقوم به الحجة ومالا تقوم به الحجة وجوده كعدمه. [فصل ومن لزمه الحج لزمه الايصاء به فيقع عنه والا فلا وإنما ينفذ من الثلث الا ان يجهل زيادة الوصي المعين فكله وإن علم الاجير وإذا عين زمانا أو مكانا أو نوعا أو مالا أو شخصا تعين وإن اختلف حكم المخالفة الا فالأفراد ومن الوطن أو ما في حكمه وفي البقية حسب الامكان] . قوله: "فصل ومن لزمه الحج لزمه الايصاء به". أقول: لم يكن في هذا دليل يصلح للتمسك به بل من لزمه الحج ووجد السبيل اليه وجب عليه تأديته لقوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ، فإن لم يفعل فقد باء بالإثم ولم يسمع في أيام النبوة ان رجلا أوصى بان يحج عنه بعدموته استدراكا لما فاته من فريضة الحج ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم شيء في الوصية بالحج بل ثبت عنه حج الولد عن أبيه وأمه وحج الاخ عن اخيه وابن عمه وقريبه وقد قدمنا الكلام على هذا والاصل في العبادات البدنية انها لاتصح الا ممن وجبت عليه ولا تصح من غيره الا بدليل وقد دل الدليل في الحج على ما ذكرنا فيقتصر عليه وكذلك ورد في الصوم: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه" كما قدمنا فيقتصر على ذلك وما عدا ما ورد به الدليل فالأصل المنع ولم يات من قال بأن الوصية مسوغة لحج غير الموصى عنه بما يصلح للاحتجاج به وأما عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فدين الله احق ان يقضي" فمعناه صحيح وان من فاته شيء من العبادات فعليه القضاء. وأما كونه يصح ان يقضيه عنه غيره فمتوقف على ورود الدليل بذلك فما ورد به الدليل صح ومالا فلا ولا سيما مع ما ثبت من قوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وقوله: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عنه كل شيء الا صدقة جارية أو علم ينفع به أو ولد صالح يدعو له". [مسلم "1631"، الترمذي "1376"، النسائي "6/251"، أحمد 2/372"، أ [وداود "2880"] . فالحاصل ان المتعين الوقوف على موارد النصف في كل شيء يقال إنه يلحق الميت ويناله ثوابه أو يسقط عنه فرضا من فرائض الله عليه وقد اطلنا البحث في هذا في شرحنا للمنتقى

وذكرنا جميع ما ورد من الادلة الدالة على تخصيص هذه الادلة المقتضية لاختصاص كل عامل بعمله فليرجع اليه. وبهذا القدر تعرف لأكلام على ما جعله المصنف متفرعا على لزوم الوصية بالحج إلي آخر الفصل فلا تشتغل بالكلام عليه. [فصل وإنما يستأجر مكلف عدل لم يتضيق عليه حج في وقت يمكنه أداء ما عين فيستكمل الأجرة بالاحرام والوقوف وطواف الزيارة وبعضها بالبعض وتسقط جميعا بمخالفة الوصي وإن طابق الموصى وبترك الثلاثة وبعضها بترك البعث ولا شيء في المقدمات الا لذكر أو فساد عقد وله ولورثته الاستنابة للعذر ولو لبعد عامة إن لم يعين وما لزمه من الدماء فعليه الا دم القران والتمتع] . قوله: "فصل وإنما يستأجر مكلف" الخ. أقول: هذا فصل مبني على صحة الاسئجار وصحة الوصية به وقد قدمنا الكلام على ذلك فلا حاجة لنا في الكلام على هذا الفصل فإنه متفرع على ما أوضحنا عدم ورود دليل يدل عليه وعلى تقدير صحة الاستئجار وصحة الوصية فما ذكره المصنف من اشتراط التكليف والعدالة في الاجير أمر لا بد منه فإن غير المكلف لا يصح منه عمل نفسه فكيف يصح منه عمل غيره ومن لا عدالة له فهو غير مأمون ان يستأجر على تأدية فريضة الله وركن من أركان الإسلام. وأما قوله: "لم يتضيق عليه الحج" فصحيح إن قلنا بصحة الاستئجار لأنه مع التضييق قد صار مخاطبا بفريضة نفسه فلا يجوز له الاشتغال بغيرها مما هو فرض على غيره ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "حج عن نفسك ثم عن شبرمة" وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث. وهكذا لا بد ان يكون الاستئجار للأجير في وقت يمكنه أداء ما استؤجر له وأما كونه يستحق الأجرة بالاحرام والوقوف وطواف الزيارة فلكونها أركان الحج التي يتم بفعلها وقد قدمنا الكلام على ذلك. وأما كون الأجرة تسقط جميعها بمخالفة الوصي وإن طابق الموصى فهو خلاف ما يختاره المصنف في سائر الابواب من ان الاعتبار بالانتهاء. وأما كونه لا شيء في المقدمات فصحيح لأنه لم يفعل المقصود لو بعضه الا ان يذكرها فقد اشترط لنفسه لا لفساد العقد فإن فساده لا يكون سببا لاستحقاق الأجرة على غير المقصود.

وأما كون له ولورثته الاستنابة فمحتاج إلي دليل لأن الوجوب عند من قال بصحة الاجارة متعلق بذمة الميت لا بذمة الاجير. [فصل وأفضل الحج الإفراد مع عمرة بعد التشريق ثم القران ثم العكس] قوله: "فصل وافضل أنواع الحج الأفراد". أقول: نوع الأفراد هو أحد الأنواع التي ثبتت بالسنة المطهرة وبه حج بعض من كان معه صلى الله عليه وسلم من الصحابة. وأما قوله: "مع عمرة بعد ايام التشريق" فليس لهذا وجه ابدا وجعل العمرة بعد أيام التشريق مبني على ما تقدم للم صنف من ان العمرة لا تكره الا في اشهر الحج وأيام الشتريق وقد عرفناك فيما سبق أن القول بهذه الكراهة كانت سنة جأهلية أبطلها الإسلام. واعلم ن حجة صلى الله عليه وسلم وان اختلفت الأحاديث في بيان نوعه فقد تواتر انه حج قرانا وبلغت الاحاديث في ذلك زيادة على شعرين حديثا من طريق سبعة شعر صحأبيا ولم يرد ما يصلح لمعارضته بعض هذه الاحاديث فضلا عن كلها فمن جعل وجه التفضيل لاحد أنواع الحج هو انه صلى الله عليه وسلم حج بنوع كذا وان الله سبحانه لا يختار لرسوله الا ما كان فاضلا على غيره فقد كان حجه صلى الله عليه وسلم قرانا فيكون القران افضل أنواع الحج ولكنه قد ثبت من حديث جابر في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدى وجعلها عمرة"، فدل على ان التمتع افضل من القران وقد سقت المذاهب والادلة في شرحي للمنتقى مما لا يحتاج الناظر فيه إلي الرجوع إلي غيره فالاحالة عليه أولى لأن المقام طويل الذيول وكل أنواع الحج شريعة صحيحية وسنة ثابتة فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل". [فصل ومن نذر أن يمشي إلي بيت الله أو ما في حكمه لزمه لأحد النسكين فيؤدى ما عين وإلا فما شاء ويركب للعجز فيلزم دم وبأن يهدي شخصا حج به أو اعتمر إن أطاعه

ومؤنه وجوبا وإلا فلا شيء وبعبده أو فرسه شرى بثمنه هدايا وصرفها من حيث نوى وبذبح نفسه أو ولده أو مكاتبه ذبح كبشا هنالك لا من له بيعه فكما مر. ومن جعل ماله في سبيل الله تعالي صرف ثلثه في القرب لا هدايا ففي هدايا البيت والمال للمنقول وغيره ولو دينا وكذا الملك خلاف م بالله في الدين] . قوله: "فصل ومن نذر ان يمشي إلي بيت الله لزمه لأحد النسكين" أقول: أما لزوم الوفاء فلما ورد من الوفاء بالنذر إذا كان في غير معصية الله. وأما كونه يلزمه لاحد النسكين فلا دليل على هذا وقد قدمنا انه لا دليل على عدم مجاوزة الحرم الا بإحرام. وأما جواز الركوب للعجز ولزوم الدم فلحديث عقبة الثابت في الصحيحين [البخاري "4/87"، مسلم "11/1644"] ، وغيرهما [أبو داود "3299"، النسائي "3814"، أحمد "4/152"] ، ان اخته نذر بالحج ماشية وأنها لا تطيق ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله عن مشى أختك لغني فلتركب"، وأخرج أبو دأود نحوه من حديث ابن عباس وزاد فيه "ولتهد بدنة". وأما قوله: "ومن نذر ان يهدي شخصا" فإن أراد بالإهداء الإيصال فلا باس بأن يحج به ويعتمر إن اطاعه ولكن لا دليل على ذلك فإن غاية ما يجب عليه إيصاله إلي حيث نذر وإن أراد بالاهداء جعل الشخص هديا فهذا نذر في يمعصية الله وهو باطل. وهكذا لا يصح نذر من نذر بذبح نفسه لأنه نذر في معصية الله. وأما قوله: "ومن نذر بعبده أو فرسه" الخ فإذا كان قصده من ذلك لزمه وإن كان له قصد آخر كان ينذر بعبده لخدمة الحرم وبفرسه لركوب من يلي الحرم عليه أو نحو ذلك كان صحيحا وإن قصد جعلهما هدايا فلا يصح النذر بالعبد لأنه في معصية الله ويصح بالفرس فينحرها حيث ينحر الهدى لأن الراجح ان أكلها حلال كما سياتي. وأما قوله: "ومن جعل ماله في سبيل الله" الخ فهذا سيأتي الكلام عليه في النذر إن شاء الله تعالي. وأما قوله: "لا هدايا ففي هدايا البيت" فهو صحيح لأن الهدايا لا تكون الا كذلك. وأما قوله: "والمال للمنقول وغيره" الخ فهذا هو معنى المال لغة الا ان يتجدد اصطلاح يقصره على البعض كان الاصطلاح مقدما لأن الرجل يتكلم باصطلاح قومه فيحمل ماتكلم به عليه. [فصل ووقت دم القران والتمتع والإحصار والإفساد والتطوع في الحج أيام النحر اختيارا

وبعدها اضطرارا فيلزم دم التأخير ولا توقيت لما عداها واختياري مكانها مني ومكان دم العمرة مكة واضطراريهما الحرم وهو مكان ما سواهما الا الصوم ودم السعي فحيث شاء. وجميع الدماء من رأس المال ومصرفها الفقراء كالزكاة الا دم القران والتمتع والتطوع فمن شاء وله الأكل منها ولا تصرف الا بعد الذبح وللمصرف فيها كل تصرف] . قوله: "فصل ووقت دم القرآن" الخ. أقول: إن كان جعل أيام النحر وقت اختيار لدليل يدل على ذلك فما هو فإن الثابت عنه صلى الله عليه وسلم انه نحر هديه يوم النحر وامر من معه بالنحر في يوم النحر فكان ينبغي ان يكون يوم النحر هو وقت الاختيار ثم إذا خرج هذا الوقت كان إجزاء النحر فيما بعده محتاجا إلي دليل وليس كل عبادة تقضى لكن يقال ان لأعذار حكمها وان من تعذر عليه النحر في يوم النحر كان الوقت ممتدا في حقه كامتداد وقت الأضحية لحديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيام التشريق ذبخ"، أخرجه أحمد "4/82"، وبان حبان في صحيحه والبيهقي وأخرج نحوه ابن عدي من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف وأخرج نحوه أيضا ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد وهو ضعيف. وأما كون وقت الاضطرار بعد أيام التشريق فهذا يحتاج إلي دليل لأنه تعيين وقت لعبادة من العبادات وذلك لا يثبت بمجرد الرأي فإن قام الدليل على ذلك فلا وجه لايجاب دم التأخير وقد قدمنا البحث عن هذا. وأما قوله: "ولا توقيت لما عداها" فإذا قد ثبت وجوب الدم غير مقيد بوقت فالأمر كذلك وهكذا لا دليل لجعل مكانين اختياري واضطراري لدم العمرة بل مكان جميع الدماء مني وفجاج مكة ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إن منى كلها منحر وإن فجاج مكة طريق ومنحر". وأما استثناء الصوم فإن كان المراد به الذي قال الله سبحانه فيه: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، فظاهر وإن كان سائر أنواع الصوم التي تلزم من لم يجد الدم فلم يرد دليل يدل على تعيين وقتها. وأما دم السعي فحكمه حكم سائر الدماء زمانا ومكانا ولا وجه لاستثنائه. وأما كون جميع الدماء من رأس المال فهكذا ينبغي ان يكون لانها لزمت من هي عليه فوجب تخليصها من ماله ولا وجه لاخراجها من الثلث فإن الامور التي وردت ان مخرجها من الثلث هي امور مخصوصة معروفة لزمت بالوصية أو لنذر أو نحوهما. قوله: "ومصرفه الفقراء كالزكاة". أقول: الظاهر عدم الفرق بين هذه الدماء ودم القران أو التمتع أو التطوع انه يجوز الأكل منها لمن هي عليه لقوله تعالي: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] ، وقوله تعالي:

{وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، وقد ثبت في الاحاديث الصحيحية ان النبي صلى الله عليه وسلم أكل مما أهداه وأطعم أصحابه ونساءه فهذا الكتاب العزيز والسنة المطهرة قد دلا على جواز الأكل منها وصرفها في مصارفها ودعوى التفرقة بين الدماء يحتاج إلي دليل ولم يثبت ما يقتضى ذلك وإن كان السبب خاصا فلا يتقيد الحكم بالسبب. وأما كونها لا تصرف الا بعد الذبح فلكون الحكم المتعلق بها لا يسقط الا بنحرها وأما كون للمصرف يها كل تصرف فظاهر.

كتاب النكاح

كتاب النكاح مدخل ... كتاب النكاح [فصل يجب على من يعصى لتركه ويحرم على العاجز عن الوطء من تعص بتركه وعارف التفريط من نفسه مع القدرة وينعقد مع الإثم ويندب ويكره ما بينهما ويباح ما عدا ذلك وتحرم الخطبة على خطبة المسلم بعد التراضى وفي العدة الا التعريض في المبتوتة. وندب عقده في المسجد والنثار وإنتهابه والوليمة وإشاعته بالطبول لا التدفيف المثلث والغناء] . قوله: "يجب على من يعصى لتركه". أقول: قد علم بنصوص الكتاب والسنة وبإجماع الامة ان الزنا حرام وكذلك ما يؤدي اليه وما هو مقدمة له فمن خشي على نفسه الوقوع في هذا وجب عليه دفعه عن نفسه فإن كان لا يندفع الا بالنكاح وجب عليه ذلك وإن كان يندفع بمثل الصوم أو السفر أو التقليل من طعامه وشرابه أو أكل غير ما فيه دسومة من الاطعمة لم يجب عليه النكاح لإمكان دفع المعصية بدونه. قوله: "ويحرم على العاجز عن الوطء من تعصى لتركه". أقول: هذا التحريم لا وجه له ولا يلزم الإنسان ترك ما احل الله له بل ما امره به ورغبه فيه بتجويز وقوع المعصية من غيره فذنب كل مذنب عليه لا يتعداه إلي غيره وهذه المرأة قد جعل الله لها فرجا ومخرجا وأوجب عليها ان تدع ما حرمه عليها وتشكو امرها إلي حكام الشريعة كما وقع ذلك من المراة التي شكت زوجها إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إنما معه كهدية الثوب [البخاري "5/249"، مسلم "111/1433"، أبو داود "2309"، الترمذي "1118"، النسائي "6/148"، ابن ماجة 1932"، أحمد "6/42"، 46"] ، فإذا كان إمساكه لها مع عجزه عن أن يعفها ويكسر

سورة شهوتها فذلك من الامساك لها ضرارا وقد قال الله سبحانه {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [البقرة: 230] ، وهو أيضا من المضارة لها وقد قال تعالي: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] . وهذا مضار لها وفي الشريعة المطهرة ما يدل على جواز الفسخ بمجرد الكراهة كما في حديث: "أتردين عليه حديقته" وفيها أيضا جواز الفسخ للاعواز عن النفقة وبهذا تعرف انه لا وجه للحكم بهذا التحريم بادئ بدء وهكذا لا وجه للحكم بالتحريم على عارف التفريط من نفسه فإنه قد يتحول الحال وقدترضى المرأة بتفريطة وبعد هذا كله فالطلاق بيده إذا استمر على هذا السجية المذمومة والطبيعة الناقصة وأيضا لها ان تطلب الخلاص منه لما قدمنا. قوله: "ويندب ويكره ما بينهما ويباح ما عدا ذلك". أقول: النكاح من آكد السنن وقد أمر الله سبحانه به في كتابه العزيز وثبت في السنة الصحيحية في الصحيحين [البخاري "4/119"، مسلم "1400"] ، وغيرهما [أبو داود "2046"، الترمذي "1081"، النسائي "4/169، 6/56، 57" ابن ماجة "1845"، أحمد "1/4"] ، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" وصح عنه في الصحيحين [البخاري "9/117"، مسلم "4/129"] ، وغيرهما النهي عن التبتل وقال فيما صح عنه في الصحيحين [البخاري "9/104"، مسلم "1401"، وغيرهم "لكني أصوم وأفطر واصلي وانام واتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني". والحاصل ان النكاح سنة مؤكدة فلا وجه لجعل بعض اقسامه مباحا فإن ذلك دفع في وجه الادلة ورد للترغيبات الكثيرة في صحاح الاحايث وحسانها وقد ذكرنا بعضا من ذلك في شرحنا للمنتقى نعم من كان فقيرا لا يستطع القيام بمؤنة الزوجية فله رخصة في ترك هذه السنة الحسنة لقوله عز وجل: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ} [النور: 33] ، الآية على ما في تفسيرها من الاختلاف. قوله: "وتحرم الخطبة على خطبة المسلم بعد التراضي". أقول: الاحاديث الصحيحية الواردة الثابتة في الصحيحين وغيرهما عن عقبة بن عامر وأبي هريرة وابن عمر قد صرحت بالنهي عن ان يخطب الرجل على خطبة اخيه إلي غاية هي قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى ينكح أو يترك"، وفي حديث آخر بلفظ: "حتى يترك الخاطب أو يأذن له الخاطب" فوقوع الخطبة مقتض لتحريم خطبة الآخر إلي هذه الغاية وبمجرد وقوع الخطبة الأولى يحصل التحريم سواء علم الاخر بالرضا من المرأة ام لم يعلم لكن وإذا انتهى الحال إلي عدم وقوع الرضا منها فتلك الخطبة كأنها لم تكن لعروض مانع من ثبوتها وهو عدم الرضا ولا يقال انها لا تحرم الخطبة على الاخر الا إذا علم بالرضا بل تحرم عليه ما لم يعلم بعدم الرضا عملا بالنهي ووقفا على حكمه ولا منافاة بين الاحاديث القاضية بتحريم الخطبة وبين ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من المشورة على فاطمة بنت

قيس بأن تنكح اسامة بن زيد بعد ان خطبها أبو جهم ومعأوية لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخطبها لأسامة بل أشار عليها به بعد ان استشارته وبين لها ان معأوية صعلوك وأبا جهم لا يضع عصاه عن عاتقه وانه ضراب للنساء والامر اليها في ذلك. وفي رواية في صحيح [مسلم "36/1480" أبو داود "2284"، الترمذي "1135"، النسائي "6/75 – 76"، ابن ماجة "1869"، أحمد "6/411"، 412"] ، وغيره ان اسامة قد كان خطبها معهما وان الثلاثة خطبوها فأشار عليها النبي صلى الله عليه وسلم به وهذا يوضح لك عدم الاختلاف بين هذا الحديث واحاديث تحريم الخطبة على الخطية. قوله: "وفي العدة الا التعريض في المبتوتة". أقول: يدل على هذا قوله عز وجل: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] ، فإنه يفيد انه لا يجوز التصريح بالخطبة ويجوز التعريض ثم نهاهم عن أن يواعدوهن سرا فقال: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} على ما في معنى هذه المواعدة من الاختلاف ثم استثنى من هذا فقال: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً} [البقرة: 235] . فالحاصل انه لم يبح سبحانه الا التعريض والقول المعروف فكان التصريح بالخطبة للمعتدة أو ذكر شيء مستهجن في مكالمتها غير جائز وقد كان هذا امرا متقررا معروفا عندهم كما يدل عليه ما أخرجه الدارقطني عن سكينة بنت حنظلة قالت استأذن على محمد بن علي ولم تنقض عدتي مهلكة زوجي فقال قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من علي وموضعي من العرب قلت غفر الله لك يا أبا جعفر إنك رجل يؤخذ عنك وتخطبني في عدتي فقال إنما اخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال: "لقد علمت أني رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرته من خلقه وموضعي من قومي" أكانت تلك خطبة؟. ثم اعلم أنه لا فرق في المنع من التصريح للمعتدة بالخطبة بين ان تكون في عدة طلاق رجعي أو بائن أو في عدة الوفاة ولا وجه للتعليل بأن الرجعية لم ينقطع حق زوجها بخلاف غيرها لان الدليل لم يفصل بين عدة وعدة. قوله: "وندب عقده في المسجد". أقول: إن انتهض حديث: "واجعلوه في المساجد" للحجية فأقل احوال هذا الامر الندب والا فالمساجد إنما بنيت لذكر الله والصلاة فلا يجوز فيها غير ذلك الا بدليل يخصص هذا العموم كما وقع من لعب الحبشة بحرابهم في مسجده صلى الله عليه وسلم وهو نيظر وكما قرر من كانوا يتناشدون الاشعار فيه. قوله: "والنثار وانتهابه". أقول: لم يثبت في هذا شيء والحديث المروي في ذلك قد تكلمنا عليه في كتابنا الذي سميناه الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة وقد ذكره ابن حجر في التلخيص وعزاه إلي

البيهقي وقال في إسناده ضعف وانقطاع قال ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة عن معاذ نحوه وفيها بشر بن إبراهيم انتهى قلت وكان متهما بوضع الحديث ورواه الغزالي والرازي والقاضي حسين أحد اصحاب الشافعي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر في إملاك فأتى باطباق عليها جوز ولوز وتمر فنثرت فقبضنا ايدينا فقال: "ما بالكم لا تأخذون؟ " فقالوا: لأنك نهيت عن النهية فقال: "إنما نهيت عن نهبى العساكر خذوا على اسم الله فجاذبنا وجاذبناه" وهذا موضوع لا شك فيه وهؤلاء الذين رووه ليسوا من أهل الرواية وانتهاب النثار إذا لم يكن حرأما لصدق النهي عليه فأقل الاحوال ان يكون مكروها. قوله: "والوليمة". أقول: قد دلت على مشروعيتها الاحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما وقد صح انه صلى الله عليه وسلم أولم على نسائه وصح انه أمر من تزوج بالوليمة كما قال لعبد الرحمن بن عوف أولم ولو بشاة وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس. وأما قوله: "واشاعته بالطبول لا التدفيف المثلث والغناء" فقد ثبت الترخيص في طرف من اللهو في العرسات وقد ذكر صاحب المنتقى الادلة على ذلك وتكلمت في شرحي له عليها ومن خالف في ذلك فقد خالف ما كان ثابتا معلوما ومن جوز اللهو في غير هذا الموطن فقد خالف ما يدل عليه الكتاب العزيز والسنة المطهرة وسيأتي استيفاء البحث عن هذا في كتاب الحدود. [فصل ويحرم على المرء اصوله وفصوله ونساؤهم وفصول اقرب اصوله وأول فصل من كل أصل قبله واصول من عقد بها لا فصولها ولا هما من المملوكة الا بعد وطء أو لمس لشهوة ولو بحائل أو نظر مباشر ولو خلف صقيل لافي مرآة والرضاع في ذلك كالنسب غالبا والمخالفة في الملة والمرتدة والمحصنة والملاعنة والمثلثة قبل التحليل الصحيح والمعتدة والمحرمة والخامسة والمتلبسات بالمحرم منحصرات والخنثى المشكل والامة على الحرة وان رضيت ولحر الا لعنت لم يتمكن من حرة وامرأة مفقود أو غريق قبل صحة ردته أو طلاقه أو موته أو مضى عمره الطبيعي والعدة ويصح بعدها فإن عاد فقد نفذ في الأوليين لا الاخريين فيبطل وتستبرئ له فإن مات أو طلق اعتدت منه أيضا وله الرجعة فيهما لا الوطء في الأولى ولا حق لها فيهما ولا يتداخلان ويحرم الجمع بين من لو كان احدهما ذكرا حرم على الاخر من الطرفين فإن جمعهما عقد حرتين أو امتين بطل كخمس حرائر أو

إماء لا من يحل ويحرم فيصح من يحل وكل وطء لا يستند إلي نكاح أو ملك صحيح أو فاسد لا يقتضى التحريم] . قوله: "فصل ويحرم على المرء أصوله وفصوله". أقول: هذا معلوم بالكتاب والسنة وبإجماع المسلمين اجمعين وهكذا تحريم نساء الأوصل والفصول هو منصوص عليه في الكتاب العزيز وهكذا تحريم فصول أقرب الاصول فإنهم الاخوة والاخوات وابناء الإخوة وأبناء الإخوات وتحريمهم في الكتاب العزيز وهكذا يحرم على الرجل أصول من عقد بها بالكتاب العزيز حيث قال عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ، وظاهره انه لا فرق بين ان يكون قد وقع الدخول ام لا ولكنه قرأ جماعة من الصحابة منهم علي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير: {وأمهات نسائكم التي دخلتم بهن} فإن صحت هذه القراءة كانت دليلا على انها لا تحرم الا ام المدخولة وادعى بعض أهل العلم ان قوله سبحانه: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يعود إلي قوله: {مِنْ نِسَائِكُمْ} وإلي قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وفي ذلك الخلاف المعروف في الاصول في القيد إذا جاء بعد متعدد ولكنه يقوى عود هذا القيد إلي الجميع القراءة المذكورة. ويدل على خلاف هذا التقييد ما أخرجه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "من نكح امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها حرمت عليه أمها ولم يحرم عليه ابنتها" وهذا لو صح لكان نصا في محل النزاع ولكنه حديث ضعيف وفي إسناده ضعيفان هما المثنى بن الصباح وابن لهيعة فإن صح إسناد تلك القراءة فهي ارجح من هذا الحديث وإن لم يصح إسنادها كان العمل بما يقتضيه قوله تعالي: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} من شموله للمدخولة وغيرها هو المتعين. قوله: "ولا هما من المملوكة" الخ. أقول: الامة لا تصير من نساء سيدها الا بوطئها بخلاف الحرة فإنه اتصير من نساء زوجها بالعقد عليها ولا يحتاج إلي قياس الامة على الحرة بل هي داخلة في عموم قوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} فإن ترجيح تقييد هذا العموم بتلك القراءة لم تحرم اصول الامة الموطوءة ولا فصولها الا بعد الدخول بها وان لم يترجح التقييد فقد عرفت ان الامة لا تكون من نساء سيدها الا بالدخول فهي قبل الدخول ليست من نسائه فلا تحرم اصولها ولا فصولها الا بدخولها ولهذا اتفقوا على انها لا تحرم ام الامة ولا ابنتها الا بعدالدخول واختلفوا في الزوجة. وأما قوله: "أو لمس لشهوة ولو بحائل" فلا يتم الا بعد تسليم انه يصدق عليه مسمى الدخول شرعا وهو بعيد وابعد منه قوله: "أو نظر مباشر ولو خلف صقيل". والحاصل انه إذا لم يصدق على هذا اللمس وهذا النظر انه وطء ولا دخول شرعا فصدق ذلك لغة ابعد وأبعد وقد عرفناك ان الامة لا تكون من نساء سيدها الا بالوطء لا بمجرد الشراء ولا بما لا يصدق عليه مسمى الوطء.

قوله: "والرضاع في ذلك كالنسب". أقول: قد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة في الصحيحين وغيرهما انه قال: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم"، [اليخاري "5/253، مسلم "12/1447"] ، وفي لفظ فيهما: "ما يحرم من النسب" [البخاري "5/253"، مسلم "13/1447"] وفي لفظ فيهما: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة"، فالواجب التوقف على ما تدل عليه هذه الاحاديث بعمومها ولا يخص منها الا ما خصصه دليل صحيح صالح للتخصيص. وإذا عرفت هذا كفاك عن الخبط والخلط الواقع في هذه المسألة لكثير من المتكلمين فيها وعليك ان تلاحظ مع ملاحظتك لهذه الادلة انه صلى الله عليه وسلم لم يقل يحرم من الرضاعة ما يحرم من الصهارة فلا يحرم من اصهار أهل الرضاعة الا ما جاء النص بتحريمه والا فهو حلال وقد ذكرت في شرحي للمنتقى ما يهتدي به الناظر إلي صوب الصواب. قوله: "والمخالفة في الملة". أقول: ما كان ينبغي للمصنف ومن قال يقوله ان يتركوا ما دل عليه الكتاب العزيز بالخصوص ويتمسكوا بالعام فإن قوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، مخصص لعموم قوله سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، على تقدير تحقق الاشراك في اليهود والنصارى فإن هذا حكم الله عز وجل في كتابه العزيز فكيف يبلغ التعصب بصاحبه إلي اهمال الدلائل القرآنية التي هي أوضح من شمس النهار ولهذا فإن السلف لم يظهر بينهم خلاف في جواز نكاح الكتابيات ولا أنكر أحد منهم على فاعله ومع هذا فقد وقع الاجماع على حل وطء المسبيات من المشركين ولم يخالف في ذلك مخالف فكما كان هذا المخصص لعموم الكتاب معمولا به عندهم يكون ما هو اظهر منه وأوضح دلالة وهو قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فلا يدخل تحته الا من كان من أهل الكتاب ولم يبق على دين الانبياء الذين انزل الله عليهم كتابه الا اليهود والنصارى فيخرج من هذا المخصص المجوس ولكنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فكان لهم حكمهم في حل نسائهم ونحو ذلك من الامور الثابتة لأهل التاب ولم يصح الاستثناء المروي في هذا الحديث وهو قوله: "غير آكلي ذبائحهم وناكحي نسائهم"، فكان للمجوس حكم أهل الكتاب في جميع ما اثبته شرعنا لهم. وأما قوله: "والمرتدة" فلا وجه لأفرادها بالذكر فهي كافرة من جملة الكوافر ومخالفة في الملة من جملة المخالفات والكلام فيها كما قدمنا. وأما قوله: "والمحصنة" فتحريمها ثابت بنص القرآن وإجماع المسلمين وهكذا الملاعنة أبدا والمثلثة حتى تنكح زوجا غيره وهكذا المعتدة بنص القرأن والاجماع.

وأما قوله: "والمحرِمة" فما كان ينبغي إدخالها ها هنا لانها لا تعقد نكاح نفسها واغذا عقد لها ولى حلال وهي محرمة فما بذلك من بأس وقد قدمنا اختلاف الادلة في عقدالمحرم للنكاح. قوله: "والخامسة". أقول: أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على أربع بقوله عز وجل: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، فغير صحيح كما أوضحته في شرحي للمنتقى ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفي وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه وإن كان في كل واحدم منهما مقال ولكن الاجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل وقد حكى الاجماع صاحب فتح الباري والمهدي في البحر والنقل عن الظاهرية لم يصح فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو اعرف بمذهبهم وأيضا قد ذكرت في تفسيري الذي سميته فتح القدير تصحيح بعض هذه الاحاديث واطلت المقال في ذلك فليرجع اليه. قوله: "والملتبسات بالمحرم منحصرات". أقول: ليس على هذه المسألة دليل يخصها وليس فيها الا الرجوع إلي قواعد مقررة وهي ان الاصل في الفروج التحريم وان الحظر مقدم على الاباحة والبراءة الاصلية وإنكانت مستصحبة لكن قد عورضت بمثل ذلك فإن ينتهض دليل على تقديم الحظر على الاباحة في مثل الفروج فذاك والا فلا ناقل ينقل عن البراءة الاصلية المعلومة بالادلة الكلية والجزئية. قوله: "والخنثى المشكل". أقول: إن صح وجود هذا في العالم اعني المشكل الذي لا يتميز فالتحريم محتاج إلي دليل ولا دليل الا مجرد استبعادات ولا تقوم بمثلها الحجة لا عقلا ولا نقلا وأما وجود من له فرج كفرج الرجل وفرج كفرج المرأة مع التمييز بان يكون الفرج الذي له القوة وبه الانتفاع بالبول ونحوه أو بمجرد السبق فهو محكوم له بالفرج الذي هو كذلك وما اقل جدوى تحرير مثل هذه المسائل في كتب الهداية. قوله: "والامة على الحرة وإن رضيت". أقول: ليس في هذا وفي قوله ولحر الا لعنت لم يتمكن من حرة الا ما دل عليه قوله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] ، الآية وهذا الذي تحته الحرة قدا ستطاع طولا بالحرة التي تحته وأما الحر الذي لم يتمكن من حرة فلم يستطع طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات ولا يشترط ان يكون عنتا بل مجرد عدم التمكن من الحرة يكفي وليس في السنة ما تقم الحجة به في هذا لان ما روى مرفوعا لم يصح وما روى غير مرفوع لا تقوم به الحجة. قوله: "وامرأة مفقودا". الخ. أقول: قد أمر الله سبحانه بإحسان عشرة الزوجات فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ،

ونهى عن إمساكهن ضرارا فقال: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [البقرة: 231] ، وأمر بالامساك بالمعروف أو التريح بإحسان فقال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، ونهى عن مضارتهن فقال: {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فالغائب ان حصل مع زوجته التضرر بغيبته جاز لها ان ترفع امرها إلي حكام الشريعة وعليهم ان يخلصوها من هذا الضرار البالغ هذا على تقدير ان الغائب ترك لها ما يقوم بنفقتها وانها لم تتضرر من هذه الحيثية بل من حيثية كونها لا مزوجة ولا أيمة أما إذا كانت متضررة بعدم وجود ما تستنفقه مما تركه الغائب فالفسح بذلك على انفراده جائز ولو كان حاضرا فضلا عن ان يكون غائبا وهذه الايات التي ذكرناها وغيرها تدل على ذلك. فإن قلت هل تعتبر مدة مقدرة في غيبة الغائب قلت لا بل مجرد حصول التضرر من المراة مسوغ للفسخ بعدالاعذار إلي الزوج إن كان في محل معروف لا إذا كان لا يعرف مستقره فإنه يجوز للحاكم ان يفسخ النكاح بمجرد حصول التضرر من المراة ولكن إذا كان قد ترك الغائب ما يقوم بما نحتاج اليه ولم يكن التضرر منها الا لأمر غير النفقة ونحوها فينبغي توقيفها مدة يخبر من له عدالة من النساء بأن المراة تتضرر بالزيادة على تلك المدة وأما إذا لم يترك لها ما تحتاج اليه فالمسارعة إلي تخليصها وفك اسرها ودفع الضرار عنا واجب ثم إذا تزوجت بآخر فقد صارت زوجته وان عادالأول فلا يعود نكاحه بل قد بطل بالفسخ فلا تشتغل بهذه التفاصيل التي ذكرها المصنف رحمه الله. قوله: "ويحرم الجمع بين من لو كان احدهما ذكرا" الخ. أقول: هذه الكلية محتاجة إلي دليل تقوم به الحجة ولم يرد الا فيما هو اخص من ذلك كالجمع بين الاختين وبين المرأة وعمتها والمراة وخالتها أما الجمع بين الاختين فبنص الكتاب العزيز وأما الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فبالسنة الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما المروية من طريق جماعة من الصحابة وقد أبعد من رام دفع هذا الحكم الثابت بهذه السنة الصحيحية بمجرد الخيالات المختلة والعلل المعتلة وقد حكى بعض أهل الاجماع على التحريم ومثل الروافض والخوارج من فرق الضلال ليسوا ممن ينبغي ان يشتغل بشانهم ولا بتدوين مقالاتهم الباطلة ولا يقدح خلافهم في إجماع الامة الإسلامية ولكن التعصب يتشعب شعبا كثيرة قد يقع الواقع فيها بل في أشدها ضررا واعظمها خطرا وهو لا يدري كما أوضحت ذلك في كتأبي الذي سميته ادب الطلب ومنتهى الأرب. واعلم أن الله سبحانه قد انزل في كتابه العزيز فيما يحل ويحرم من المناكح الكثير الطيب ثم ان النبي صلى الله عليه وسلم بين للناس ما نزل اليهم وبالغ في البيان والأيضاح فيس بنا حاجة إلي التعويل على ما يذكره أهل الفروع إذا جاءوا بما لم يرد به دليل. وأما الحكم ببطلان العقد الذي وقع فيه الجمع بين حرتين أو امتين فهو صواب إن كان قد وردالدليل المقتضى للمنع من ذلك لأن الفاعل لذلك فعل مالا يبيحه الشرع وما ليس عليه

امر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو رد ورده هو عدم الاعتداد به ولا يراد بالبطلان الا ذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بالبطلان فيما هو دون هذا فقال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل" فهذا حكمه صلى الله عليه وسلم كونه لا مانع من نكاح المرأة بل هو حلال مطلق ولكنه لم يوجدا الاذن ممن هو ولي لها فأين هذا الامر من العقد على من هي محرمة بنص الشرع. وأما قوله: "كخمس حرائر أو إماء" فقد تقدم الكلام عليه ولكن المصنف أراد مجرد النظير والتمثيل. وأما قوله: "لا من يحل ويحرم فيصح من يحل" فهو ظاهر واضح لا يحتاج إلي ذكر. وأما قوله: "وكل وطء لا يستند إلي نكاح" الخ فصواب لأن الحكم بالتحريم يحتاج إلي دليل ولا دليل وقد قال بالتحريم الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق ولم نقف لهم على ما يصلح للتمسك به. [فصل ووليه الأقرب فالأقرب المكلف الحر من عصبة النسب ثم السبب ثم عصبته مرتبا ثم سببه ثم عصبته كذلك ثم الوصى به لمعين في الصغيرة ثم الامام والحاكم قيل ثم الوصي به في الكبيرة ثم توكل ويكفي واحد من أهل درجة الا الملاك ومتى نفتهم غريبة حلفت احتياطا وتنتقل من كل إلي من يليه فورا بكفره وجنونه وغيبته منقطعة وتعذر مواصلته وخفاء مكانه وبادنى عضل في المكلفة الحرة ولا يقبل قولها فيه] . قوله: "ووليه الاقرب فالأقرب" الخ. أقول: لما أمر الله سبحانه بإنكاح النساء {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، وقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] ، كان أولياء المرأة ممن دخل في هذا الخطاب دخولا أوليا فكانوا احق بإنكاحها من هذه الحيثية ثم جاءت السنة الصحيحية بأنه لا نكاح الا بولي وان النكاح بغير ولي باطل وثبت عنه صلى الله عليه وسلم بأن الأولياء "إذا اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" فتبين بذلك ان المراد بما في القرآن هم خصوص الأولياء ومعلوم ان الاقرب اليها اخص من الأبعد من جهة كون ولايته على المرأة لها مزيد خصوصية بالقرب وقد ذهب إلي اعتبار الولي جمهور السلف والخلف حتى قال ابن المنذر انه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وسيأتي والكلام على هذا في شروط النكاح وليس المراد هنا الا كون الأولياء الذين اليهم ولا ية النكاح هم هؤلاء الذين ذكرهم المصنف مرتبين على هذا الترتيب وقد ذهب إلي هذا الجمهور وروى عن أبي حنيفة انه اثبت الولاية في النكاح للقرابة الذين ليسوا من العصبات.

وأما ما قيل من ان الولاية في النكاح مقيسة على الميراث فلا وجه له بل هي ثابتة بالادلة المتقدمة فلا تحتاج إلي القياس الا ان يقال ان كون الولاية مرتبة على هذا الترتيب هو بالقياس على الميراث ولكنه لا يتم لأنه قد ثبت الميراث لمن لا ولاية له في النكاح كالاخوة لأم وأيضا قد يكون الميراث مستحقا لغير من اليه العقد الاخوة لأب والاعمام وأبناء الاعمام إذا كان في ذوي السهام من ياخذ جميع الميراث كالبنات مع الاخوات لأبوين. وقيل العلة في كون هؤلاء الأولياء للنكاح ان الغضاضة تلحق بهم دون غيرهم وهو غير مسلم فإن الغضاضة قد تلحق مثلا بالاخوة لأم لحوقا زائدا على الاعمام وأبناء الاعمام وسيأتي لنا ان شاء الله في البيع تحقيق للأولياء في النكاح وفي البيع شرعا ولغة فلينظر. وأما إثبات الولاية للمعتق فلحديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب" وهو حديث لامطعن فيه وله شواهد كما ذكره صاحب التلخيص. وظاهر هذا التشبيه انه يثبت له ما يثبت لذي النسب وأما اثباتها لعصبة المعتق فلكون التشبيه المذكور يدل على ان عصبة المعتق يقومون مقامه إذا لم يوجد أحد من عصبة النسب ثم معتق المعتق وعصبته لهم مدخل في ذلك التشبيه فلهذا ذكرهم المصنف. وأما اثبات الولاية لوصي من اليه الولاية فلا اراه صحيحا لأن الولاية إنما هي للأولياء الاحياء ومن مات منهم انقطعت ولايته بموته فلا تثبت ولاية لوصيه في النكاح وأما اثبات الولاية للأمام ولمن يلي من جهته فلحديث عائشة عند أحمد وأبي دأود والترمذي وحسنه وابن حبان والحاكم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر لما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له"، ولهذا الحديث طرق وفيه انه لا ولاية للسلطان الا عند اشتجار الأولياء وإذا ثبتت له الولاية مع وجودهم مشتجرين فثبوتها مع عدمهم أولى. قوله: "ثم توكل". أقول: هذا لم يسمع في أيام النبوة ولا روى الإذن به ولهذا انه صلى الله عليه وسلم لما بعث يخطب ام سلمة قالت ليس أحد من أوليائي شاهدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك"، فقالت لابنها قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه رواه أحمد "6/295، 213، 214، 217، 218"، والنسائي "3254"، وقد اعل هذا الحديث بما ذكرنا في شرح المنتقى ولم يأمرها صلى الله عليه وسلم لما قالت ليس أحد من أوليائي شاهدا ان توكل ولا أذن لها بذلك ولكنه إذا عدم الأولياء والسلطان ومن يلي من جهته صارت الحالة ضرورية للحاجة إلي معرفة رضاها بالزوج ثم العقد له ولعله يتوجه على من صلح لذلك ان يفعله من غير وكالة منها إذا قد رضيت بالزوج ولا سيما مع حديث: "لاتزوج المراة المراة ولا تزوج المراة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها"، أخرجه ابن ماجه "1882"، والدارقطني من حديث أبي هريرة. قال ابن حجر رجاله ثقات وقدا أعل بالوقف لكن لا في جميعه بل في قوله: "فإن الزانية"

الخ والموكلة لمن يزوجها مزوجة لنفسها لكنه أخرج أبو دأود عن عقبة بن عامر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ "، قال: نعم, وقال للمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانا؟ "، قالت: نعم فزوج أحدهما صاحبه والحديث رجاله ثقات الا عبد العزيز بن يحيى وهو صدوق يهم فقد يقال ان هذا توكيل من المراة ويمكن ان يقال انه صلى الله عليه وسلم إنما قال لها ذلك لمعرفة رضاها بالزوج المذكور وهو أولى بالمؤمنين من انفسهم. قوله: "ويكفي واحد من أهل درجة". أقول: هذا صحيح لأن الولي المعتبر في النكاح يكفي فيه الواحد وإذا تشاجروا فالولاية للسلطان كما تقدم. وأما كونه لا يكفي في الملاك للأمة فلكون لكل واحد نصيب من المملوكة واذنه معتبر فيما هو ملك له لا يغنى عنه غيره. وأما قوله: "وينتقل" الخ فهذا صحيح لأن الكافر مسلوب الأهلية ولهذا تزوج صلى الله عليه وسلم ام حبيبة وعقد لها غير أبيها أبي سفيان لأنه لم يكن قد سلم اذ ذاك. وهكذا إذا كان الولي غائبا غيبة يضر بالمرأة انتظار عوده وأما مع تعذر مواصلته وخفاء مكانه فلا شك في ذلك إذا كان لا يرجى عوده وظهوره قبل مضى مدة تتضرر المرأة بالانتظار له فيها وهكذا إذا وقع منه عضل فإنه قد آذن بابطال حقه مع تعرضه لمخالفة النهي القرآني ولا بد من تقرر ذلك بوجه شرعي لا بمجرد قول المرأة [فصل وشروطه أربعة: الأول: عقد من ولي مرشد ذكر حلال على ملتها بلفظ تمليك حسب العرف لجميعها أو بعضها أو إجازته قيل ولو عقدها أو عقد صغير مميز أو من نائبه غيرها وقبول مثله من مثله في المجلس قبل الاعراض ويصحان بالرسالة والكتابة ومن المصمت والأخرس بالاشارة واتحاد متوليهما مضيفا في اللفظين والا لزمه أو بطل ويفسده الشغار والتوقيت قيل بغير الموت واستثناء البضع والمشاع وشرط مستقبل ويلفو شرط خلاف موجبه غالبا. الثاني: اشهاد عدلين ولو اعميين أو عبديهما أو رجل وامرأتين وعلى العدل التتميم حيث لاغيره وعلى الفاسق رفع التغرير وتقام عند المكتوب اليه وفي الموقوف عندالعقد. الثالث: رضى المكلفة نافذا الثيب بالنطق بماض أو ما في حكمه والبكر بتركها حال

العلم بالعقد ما يعرف به الكراهة من لطم وغيره وان امتنعت قبل العقد أو تثيبت الا بوطء يقتضى التحريم أو غلط أو زنا متكررين. الرابع: تعيينها بغشارة أو وصف أو لقب أو بنتى ولا غيرها أو المتوطأ عليها ولو حملا فإن تنافى التعريفان حكم بالاقوى] . قوله: "فصل وشروطه أربعة الأول عقد من وليى" الخ. أقول: الاحاديث الواردة في اعتبار الولي قد سردها الحاكم من طريق ثلاثين صحأبيا وفيها التصريح بالنفي كحديث أبي موسى عندأحمد وأبي دأود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه بلفظ: "لا نكاح الا بولي" فأفاد انتفاء النكاح الشرعي بانفاء الولي وما افاد هذا المفاد اقتضى أن ذلك شرط لصحة النكاح لأن الشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط كما تقرر في الاصول فكيف وقدا خرج أحمد وابو داود والترمذي وابن ماجه حديث عائشة الذي قدمناه وفيه: "أيما امرأة نكحت بغي إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل" وقد قدمنا حديث أبي هريرة: "أن المرأة لا تزوج المراة ولا تزوج المرأة نفسها" فالولي شرط من شروط النكاح التي لا يصح الا بها إذا كان موجودا والا فولاية ذلك إلي السلطان على ما تقدم وقد قدمنا أيضا ان ابن المنذر قال إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف في اعتبار الولي. وأما قوله: "مرشد" فلكون غير المرشد لا يصلح لأمر نفسه فكيف يصلح لأمر غيره؟ وقد قدمنا في حديث ام سلمة انها امرت ابنها ان يزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها حيث لم يحضر هنالك أحد من أوليائها وكان اذ ذاك صغيرا جدا ولكنه قد قيل انه لا أصل لهذه الزيادة اعني قولها لابنها يا عمر قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما اشتراط كون الولي ذكرا فلما قدمنا من حديث: "لا تزوج المراة المرأة ولا المرأة نفسها"، مع انه لا يشملها لفظ الولي المذكور في الاحاديث. وأما اشتراط كونه حلالا فقد تقدم تحقيقه في الحج. وأما كونه على ملتها فلكون الأحكام منقطعة بين المسلم والكافر في الميراث والولاية وغيرهما ولهذا زوج ام حبيبة من النبي صلى الله عليه وسلم غير أبيها أبي سفيان لأنه كان اذ ذاك مشركا. قوله: "بلفظ تمليك". أقول: ينبغي ان يكون هذا اللفظ الذي وقع به العقد بلفظ النكاح أو التزويج أو ما يفيد هذا المفاد مما يتعارف به الناس بينهم ولو لم يكن يفيد التمليك وما يفهم من الاعراف المصطلحة بين قوم مقدم على غيره لأن التفاهم بينهم هو باعتبار ذلك الاصطلاح ولم يأت في الكتاب والسنة ما يدل على انه لا يجزئ في هذا الا لفظ أو الفاظ مخصوصة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال في الواهبة نفسها له لمن زوجه بها: "ملكتكها بما معك من القرأن"، [البخاري "9/190"،

مسلم "76/1425" أحمد "5/330"، 336"، أبو داود "2111"، النسائي "6/123"، الترمذي "1114"، ابن ماجة "1889"] ، وروى بلفظ: "زوجتكها"، [مسلم "77/1425"، وبلفظ: "زوجناكها"، [البخاؤري "9/90، 91"] ، وبلفظ: "أنكحناكها" [أحمد "5/330"] . وأما قوله: "أو إجازته" فغير مسلم بل الظاهر ان العقدالواقع من غير الوي غير صحيح في نفسه فلا يصححه الاجازة وأما عقدالنكاح من نائب الولي فصحيح لان عقد نائبه كعقده فقد وقع على وجه من الابتداء. قوله: "وقبول مثله". أقول: لا يتم العقدا لا بالايجاب والقبول ولكن إذا تقدم السؤال كان مغنيا عن القبول كما في حديث: زوجنيها يا رسول الله, قال: "زوجتكها" وقد كان مثل هذا هو الغالب في أيام النبوة. وأما قوله: "في المجلس قبل الاعراض" فلكون التراخي عن القبول حتى يتفرقا من المجلس يدل على عدم الرضا وهكذا إذا وقع الاعراض ولكنه إذا قبل بعدالمجلس أو بعد أن اعرض ولم يحصل من المتكلم بالايجاب ما يدل على رجوعه عن إيجابه فهو مقبول لعدم وجود دليل من شرع أو عقل يدل على انه لا حكم لما وقع بعدالمجلس أو بعد الاعراض إذا لم يرجع المتكلم بالايجاب عن ذلك. وأما صحة العقد بالرسالة والكتابة ومن المصمت والاخرس بالاشارة فلا نزاع في مثله ولم يرد ما يدل على أنه لا بد ان يكون لفظا. وأما كونه يصح اتحاد متوليهما مضيفا فلعدم ورود ما يدل على المنع من ذلك وأيضا قد قدمنا حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ " قال: نعم, وقال لمرأة: "أترضين أن أزوجك فلانا؟ " قالت نعم فزوج احدهما صاحبه. قوله: "ويفسده الشغار". أقول: الأحاديث الصحيحية الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة فيها التصريح بالنهي عن الشغار وفيها التفسير له بأنه أن يزوج الرجل ابنته أو أخته من الرجل على أن يزوجه ابنته أو أخته وليس بينهما صداق وهذا التفسير روى موقوفا ومرفوعا والنهي حقيقة في التحريم المقتضى للفساد المرادف للبطلان. وما ذكره من الفرق بين النهي لذات الشيء أو لجزئه أو لأمر خارج عنه هو مجرد رأي بحث ودعوى محضة بل كلها نهى عنه الشارع فقد منع العباد من قربانه والتلبس به وذلك هو معنى كونه غير مأذون فيه وغير شرعي وما كان كذلك فليس من أمره صلى الله عليه وسلم وما لم يكن من امره فهو رد وهذه التفرقة بين أقسام النهي صارت عصا يتوكأ بها من يريد دقع الدليل بمجرد القال والقيل وصارت ذريعة للمغالطة والمراوغة والهرب من الحق على أنه قد ورد ها هنا التصريح بنفي هذا النكاح كما في صحيح مسلم من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا شغار في

الإسلام" والنفي يتوجه إلي الذات حقيقة ولا مانع من ذلك لأن المراد الذات الشرعية وعلى تقدير وجود مانع فأقرب المجازين اليها نفي الصحة وبنفي الصحة يحصل المطلوب. ولا يختص الشغار بالبنات والاخوات بل حكم غيرهن من القرائب حكمهن وقد حكى النووي الاجماع على ذلك. قوله: "والتوقيت". أقول: اعلم ان النكاح الذي جاءت به هذه الشريعة هو النكاح الذي يعقده الأولياء للنساء وقد بالغ الشارع في ذلك حتى حكم بأن النكاح الواقع بغير ولي باطل وكرر ثلاثا ثم النكاح الذي جاءت به هذه الشريعة هو الكاح الذي أوجب الشارع فيه إشهاد الشهود كما ثبت ذلك بالاحاديث ثم النكاح الذي شرعه الشارع هو النكاح الذي يحصل به التوارث ويثبت به النسب ويترتب عليه الطلاق والعدة وإذا عرفت هذا فالمتعة ليست بنكاح شرعي وإنما هي رخصة للمسافر مع الضروروة ولا خلاف في هذا ثم لا خلاف في ثبوت الحديث المتضمن للنهي عنها إلي يوم القيامة وليس بعد هذا شيء ولا تصلح معارضته بشيء مما زعموه وما ذكروه من انه استمتع بعض الصحابة بعدموته صلى الله عليه وسلم فليس هذا ببدع فقد يخفى الحكم على بعض الصحابة ولهذا صرح عمر بالنهي عن ذلك وأسنده إلي نهيه صلى الله عليه وسلم لما بلغه ان بعض الصحابة تمتع فالحجة إنما هي فيما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما فعله فرد أو أفراد من الصحابة وأما المرأوغة بان التحليل قطعي والتحريم ظني فذلك مدفوع بأن استمرار ذلك القطعي ظني بلا خلاف والنسخ إنما هو للاستمرار لا لنفي ما قد وقع فإنه لا يقول عاقل بأنه ينسخ ما قد فرغ من فعله ثم قد اجمع المسلمون على التحريم ولم يبق على الجواز الا الرافضة وليسوا ممن يحتاج إلي دفع اقوالهم ولا هم من يقدح في الاجماع فإنهم في غالب ما هم عليه مخالفون للكتاب والسنة ولجميع المسلمين قال ابن المنذر جاء عن الأوائل الرخصة فيها يعني المتعة ولا أعلم اليوم احدا يجيزها الا بعض الرافضة وقال القاضي عياض اجمع العلماء على تحريمها الا الروافض وقال ابن بطال واجمعوا الان على انه متى وقع يعني المتعة ابطل سواء كان قبل الدخول أو بعده وقال الخطابي تحريم المتعة كالاجماع الا عن بعض الشيعة. قوله: "واستثناء البضع والمشاع". أقول: العقد إذا وقع على وجه الصحة فهذا الاستثناء الذي يتضمن تحريم الحلال لاحكم له ولا عمل بما يقتضيه بل هو مدفوع ممنوع كما لو قال بعدالفراغ من العقد ولا يطؤها أولا ينظر اليها أو نحو هذه الامور التي لا ثبات لها في الشرع بل هي من افعال الجأهلين لسر الشريعة ولا فرق بين الاستثناء والشرط فإن الكل إذا تضمن تحليل الحرام أو تحريم الحلال كان باطلا ولهذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، [البخاري "4/369، 370"، مسلم "1504"، أبو داود "3929"، النسائي "6/164 – 165، 7/305، 306"، الترمذي"21424"، ابن ماجة "2512"، أحمد "6/81، 82، 183، 206، 213، 271، 272"] ، فعرفت بهذا انه لا وجه لقوله واستثناء البضع والمشاع وشرط مستقبل وقد اصاب حيث قال: ويلغوا شرط

خلاف موجبه وليست هذه الشروط هي التي أمر الله بالوفاء بها كما في حديث "أحق الشروط:ن تفوا به ما استحللتم به الفروج" [البخاري "5/323"، مسلم "63/1418"، أحمد "4/144، 150"، أبو داود "2139"، الترمذي "1127"، النسائي "6/92، 93"، ابن ماجة "1954"] ، فإن هذا في الشروط التي لا تحلل حرأما ولا تحرم حلالا كأن يشترط لها ان يكون لها من الطعام كذا أو من الكسوة كذا أو شرط لها ان لا يكلفها شيئا من الاعمال ونحو ذلك. قوله: "الثاني اشهاد عدلين". أقول: في الباب أحاديث يقوى بعضها بعضا منها عند أحمد والدارقطني والبيهقي وشار اليه الترمذي وفي إسناده ابن محرر وهو متروك ولفظه: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ومنها عن عائشة مرفوعا بهذا اللفظ أخرجه الدارقطني والبيهقي ووفي إناده مقال ومنها عن ابن عباس بنحوه وقد روى مرفوعا وموقوفا ومنها عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا عندالبيهقي بلفظ: "لا نكاح إلا بأربعة: خاطب وولي وشاهدين" وفي إسناده ضعيف ومنها عن عائشة غير حديثها الأول عند الدارقطني بلفظ: "لا بد في النكاح من أربعة الولي والزوج والشاهدين" وفي إسناد مجهول وروى نحوه البيهقي في الخلافيات عن ابن عباس موقوفا وصححه ورواه ابن أبي شيبة عنه أيضا ومنها عن أنس أشار اليه الترمذي ومنها عن ابن عباس عند الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البغايا اللاتي ينكحن انفسهن بغير بينة"، ومنها عندالشافعي عن الحسن مرسلا كحديث عمر ان بن حصين ومنها عن أبي الزبير المكي ان عمر بن الخطاب اتى بنكاح لم يشهد عليه الا رجل وامراة فقال هذا نكاح السر ولا اجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمت أخرجه مالك في الموطأ وظاهر الاحاديث المقتضية للنفي ان الاشهاد شرط للنكاح لا يصح بدونه لما قدمنا ان النفي حقيقة يتوجه إلي الذات الشرعية فيفيدارتفاعها بارتفاعه وذلك معنى الشرط وعلى فرض وجود قرينة تدل تمنع من اعتبار المعنى الحقيقي فنفي الصحة أقرب المجازين إلي الذات وذلك يفيدالشرطية أيضا قال الترمذي والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم قالوا لا نكاح الا بشهود لم يختلفوا في ذلك من مضى منهم الا قوم من المتأخرين من أهل العلم وإنما اختلف أهل لعلم في هذا إذا شهد واحد بعد واحد فقال اكثر أهله العلم من الكوفة وغيرهم لا يجوز النكاح حتى يشهد الشاهدان معا عند عقدة النكاح وقد روى بعض أهل المدينة إذا شهد واحد بعد واحد فإنه جائز إذا اعلنوا ذلك وهو قول مالك ابن أنس وغيره وقال بعض أهل العلم يجوز شهادة رجل وأمرتين في النكاح وهو قول لأحمد وإسحاق انتهى كلام الترمذي. وأما قوله: "وعلى العدل التتميم" فمبني على ان ذلك فرض كفاية على العدول ولا دليل يدل على ذلك. وأما قوله: "وعلى الفاسق رفع التغرير" فلتصريح الاحاديث باعتبار العدالة فلا يجوز لمن علم من نفسه انه غير عدل ان يشهد على النكاح.

وأما كونها تقام عند المكتوب اليه وفي الموقوف عند العقد فلكون هذين المقامين هما اللذان ينجز عندهما النكاح ولا يضر توقف الموقوف على شيء آخر وهو الاجازة. وقوله: "الثالث رضاء المكلفة" الخ أقول: قد دلت الاحاديث الصحيحة على انه لا يتم نكاح الا برضا المنكوحة كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "9/191"] ، وغيرهما [أبو داود "2092"، الترمذي "1107"، النسائي "6/85"، ابنن ماجة "1871"، أحمد "2/250، 279، 425، 434، 475"] ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تسأذن"، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت"، وفي مسلم وغيره من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثيت احق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها"، وأخرج البخاري "9/194"، وغيره أبو داود "2101"، النسائي "6/86"، ابن ماجة"1870"] ، عن خنساء بنت خدام الأنصارية ان أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها والاحاديث في هذا الباب كثيرة وهي تفيد انه لا يصح نكاح من لم ترض بكرا كانت أو ثيبا. قوله: "الرابع تعيينها" الخ. أقول: هذا أمر لا بد منه ولولا ذلك لم يكن العقد على شيء يعقد ولا يسمى عقدا أو لا تثبت له أحكامه ويكون التعيين مما يفيد ذلك من ذكر اسم المنكوحة أو نسبها أو وصفها أو الاشارة اليها أوسبق التواطؤ عليها. وإذا تنافى التعريفان كان العمل على الاقوى منهما كما قال المصنف الا ان يعرف بقرينة حال أو مقال ان مطلوب الزوج هو ما تضمنه التعريف الاضعف فإن ذلك اليه ولا اعتبار بمجردا لالفاظ ونحوها إذا خالفت ما في النفس. قوله: "ويصح موقوفا حقيقة أو مجازا". أقول: العقد مثلا إذا وقع من الولي فزوج الخاطب ولم يكن قد وقع الرضا من المرأة فهذا عقد في الصورة إن أجازته كان عقدا صحيحا يستباح به وطؤها وإن لم تجزه كان وجوده كعدمه وهكذا إذا زوج الخاطب غير الولي. والمراد من صحة كونه موقوفا على الاجازة انه لا يحتاج عندالاجازة إلي تجديد عقد آخر بل يكفي مجرد وقوعها وكان الظاهر ان العقدا لواقع بغير رضاء المرأة أو من دون ولي باطل لا حكم له ولا ينعقد من اصله وانه لا بد من عقدآخر عند رضاء المرأة أو عقد آخر من الولي ولكنه ثبت ما قدمناه عند البخاري وغيره من حديث خنساء بنت خدام الانصارية ان أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها فإن قوله فرد نكاحها يدل على ان العقد الذي قد كان وقع يسمى نكاحا وأنها لو رضيت به لم يحتج إلي تجديد. ومن ذلك ما أخرجه أحمد "4/155"، وابو دأود "2096"، وابن ماجه "1875"،

والدارقطني بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عباس أن جارية بكرا اتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا التخيير يدل على أن العقدا لواقع قدن نفذ بإجازتها ولا يحتاج إلي تجديد. ومن ذلك ما أخرجه أحمد باسناد رجاله ثقات وأخرجه أيضا الدارقطني عن ابن عمر قال توفي عثمان بن مظعون وترك ابنة له من خولة بنت حكيم بن اميه بن حارثة الأوقصى وأوصى إلي اخيه قدامة بن مظعون فخطبت إلي قدامة بن مظعون فزوجنيها ودخل المغيرة بن شعبة إلي امها فأرغبها في المال فحطت اليه وحطت الجارية إلي هوى امها فترافعوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هي يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها". وكما تدل هذه الأحاديث على أن العقد يكون موقوفا على إلاجازة فهي تدل أيضا على ما ذكره المصنف من تخيير الصغيرة إذا بلغت ولا تحتاج في إثبات خيارها إلي قياسها على بريرة حيث خيرها النبي صلى الله عليه وسلم لما عتقت بين البقاء تحت زوجها أو فسخه. ولا يقال أن ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث هو كان قبل الدخول لأنا نقول الصغيرة لا حكم للرضا منها قبل بلوغها ولا يكون الدخول بها دليلا على أنها قد رضيت. وإذا ظهر ذلك هذا عرفت أنه لا وجه لقوله إلا من زوجها ابوها كفئا لا يعاف فإن هؤلاء النساء المذكورات في هذه الأحاديث الثلأثة زوجهن اباؤهن بأكفانهن فإن العرب أكفاء لبعضهم البعض. وأما الاستدلال على هذا الاستثناء بحديث: "أنت ومالك لأبيك" فغير مطابق لمحل النزاع ومما ينبغي أن يذكر ها هنا مع تلك الثلاثة الأحاديث حديث عبد الله بن بريرة عن أبيه قال جاءت فتاة إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أن أبي زوجني ابن اخيه يرفع بن خسيسته قال فجعل الأمر اليها فقالت قد اجزت ما صنع ولكني اردت أن اعلم النساء أن ليس إلي الأباء من الأمر شيء أخرجه ابن ماجه برجال الصحيح وأخرجه أيضا أحمد والسنائي من حديث عبد الله بن بريدة عن عائشة وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر اليها ولم يكن ذلك لعدم الكفاءة كما يفيده قولها ليرفع بي خسيسته فإن أباها قد زوجها بابن اخيه وهو كفء لها وإنما جعله اليها لعدم الرضا منها ولهذا نفذ العقد بإجازتها. وأما قوله: "وكذا الصغير في الاصح" فقد استدل لهذا إلالحاق بالقياس وهو قياس قوي لاشتراكهما في كثير من الأحكام ولكنه يقال ها هنا فارق اقوى من هذا الجامع الذي كان به إلالحاق وهو أن الصغير عند بلوغه يملك الطلاق ويقدر على تخليص نفسه به بخلاف الصغيرة عند بلوغها فإنه لا مخرج لها من عقدة نكاح من صارت في عقده إلا بالفسخ. وأما قوله: "ويصدق مدعي البلوغ بإلاحتلام فقط محتملا" فوجهه أنه لا يمكن إقامة البينة على هذا السبب المعدود من اسباب البلوغ بخلاف غيره من الأسباب فإن الحيض يمكن أن

تشهدالعدلة والعدلات على خروج لدم من الفرج وكذلك الانبات فإنه أمر يمكن مشاهدته والشهادة عليه وهكذا مقدار العمر فإنه يمكن قيام الشهادة عليه بأنه مولود في سنة كذا وان عمره إلي وقت التنازع كذا وهكذا الحبل فإن عظم البطن حركة الجنين فيه مما يمكن إقامة البيئة عليه فهذا وجه تخصيص المصنف للاحتلام مع الاحتمال. [فصل ومتى انفق عقدا وليين مأذونين مستويين لشخصين في وقت واحد أو أشكل بطلا مطلقا وكذا إن علم الثاني ثم التبس الا لإقرارها بسبق احدهما أو دخول برضاها] قوله: "فصل ومتى اتفق عقدا وليين" الخ. أقول: لا وجه لبطلانهما بل ينبغي ان يقال إن الامر مفوض إلي المرأة فمن اجازت عقده كان صحيحا وبطل الاخر ويدل على هذا ما قدمنا من الاحاديث في الفصل قبل هذا ويدل عليه أحاديث الاستئمار واحاديث الثيب احق بنفسها من وليها ولا ينافي هذا كونها قد أذنت لهما لأن من المعلوم أن إذنها لا ينصرف إلي ان يزوجها برجلين فإن ذلك معلوم البطلان. وهكذا الكلام في قوله: "وكذا إن علم الثاني ثم التبس" وأما إذا علم المتقدم من العقدين فإنه يصح ويبطل الثاني ويدل على ذلك "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول" كما أخرجه أبو دأود من حديث سمرة [فصل والمهر لازم للعقد لا شرط وإنما يمهر مال أو منفعة في حكمة ولو عتقها مما يسأوي عشر قفال خالصة لا دونها ففاسدة فيكمل عشرا وينصف كما سيأتي ولها فيه كل تصرف ولو قبل القبض والدخول والابراء من المسمى ملطقا ومن غيره بعد الدخول ثم إن طلق قبله لزمها مثل نصف المسمى ونحو ذلك وفي رده بالرؤية والعيب اليسير خلاف وإذا تعذر أو استحق فقيمته منفعة كان أو عينا] . قوله: فصل: "والمهر لازم للعقد لا شرط". أقول: لم يرد ما يدل على ان المهر شرط من شروط العقد أو ركن من أركانه وأما قوله سبحانه: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ،فالمراد ان المهر واجب

للمنكوحة لا يجوز مطلها منه ولو كان العقد لا يصح الا بالمهر لم يقل الله عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] ، فإن هذه الآية تفيد ان العقد قد يقع قبل فرض المهر ويؤيد هذا ما أخرجه أبو دأود وابن ماجه من حديث عائشة قالت امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ادخل امراة على زوجها قبل ان يعطيها شيئا قال البيهقي وصله شريك وأرسله غيره ومثله ما أخرجه أبو دأود من حديث عقبة بن عامر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج امرأة من رجل ممن شهد بدرا ولم يفرض لها صداقا حتى إذا حضرته الوفاة قال إن زوجتي فلانة لم افرض لها صداقا وإني اشهدكم اني قد أعطيتها سهمي في خيبر فباعته بعدموته بمائة الف. وأما ما أخرجه أبو دأود والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس قال لما تزوج على فاطمة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطها شيئا"، قال ما عندي شيء قال: "أين درعك الحطمية؟ "، وفي رواية لأبي داود ان النبي صلى الله عليه وسلم منعه حتى يعطيها شيئا فليس فيه ذكر المهر ولا ان هذا من المهر والا لزم ان لا يحل الدخول الا بعد تسليم المهر أو تسليم شيء منه وهو خلاف الاجماع. قوله: "وإنما يمهر مال أو منفعة في حكمه". أقول: أما المال فظاهر واليه ينصرف ما في الايات القرآنية والاحاديث النبوية وأما المنفعة فقد دل على ذلك حديث سهل بن سعدالثابت في الصحيحين وغيرهما انها جاءت امراة إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك وفيه أنه قام رجل فقال زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ "، فقال ما عندي الا إزاري هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اعطيتها إزارك جلست لا ازار لك فالتمس شيئا"، فقال: ما أجد شيئا فقال: "التمس ولو خاتما من حديد"، فالتمس فلم يجد شيئا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل معك من القرآن شيء؟ "، قال: نعم سورة كذا وسورة كذا لسور يسميها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد زوجتكها بما معك من القرآن". وأما ما رواه ابن أبي شيبة مرسلا عن أبي النعمان الازدي قال زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على سور من القرأن فقال: "لا يكون لاحد بعدك مهرا"، فهو مع كونه مرسلا ففي إسناده من لا يعرف كما ذكره ابن حجر في الفتح. وفي الباب عن أبي هريره عند أبي داود والسائي وعن ابن مسعود عند الدارقطني وعن ابن عباس عند أبي الشيخ وعن ضميرة عند الطبراني وعن أنس عند البخاري وعن أبي أمامة عند تمام في فرائده وعن جابر عند أبي الشيخ وكلها متضمنة لما في حديث سهل بن سعد. قوله: "ولو عتقها"، أقول: هذا شرع ثابت وفيه حديث أنس في الصحيحين [اليخاري "1/480"، مسلم

"84/1365"] ، وغيرهما أبو داود "2054"، الترمذي "1115"، النسائي "6/114"، ابن ماجة "1957"] ، ان النبي صلى الله عليه وسلم اعتق صفية وتزوجها فقال له ثابت ما اصدقها قال نفسها اعتقها وتزوجها وفي لفظ للبخاري وجعل عتقها صداقها. قوله: "مما يساوي عشر قفال" الخ. أقول: لم يثبت في هذا شيء تقوم به الحجة وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمس ولو خاتما من حديد"، فينبغي ان يكون ما في هذا الحديث هو اقل المهر ويؤيده ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عامر بن ربيعة ان امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ " قالت: نعم, فأجازه. وأخرج أحمد وابو دأود من حديث جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعأما كانت له حلالا"، وفي إسناده موسى بن مسلم وقيل مسلم بن رومان وهو ضعيف. وبهذا يتضح لك انه لا وجه لجعل تسمية ما دون العشر فاسدة ولا لوجوب التكميل عشرا وأما ما ذكره من جواز تصرفها فيه وابرائها منه فلكونه قد صار ملكا لها وهذا شأن كل ملك يملكه الإنسان والفرق بين عموم التصرف وخصوص الابراء مجرد رأي يرجع إلي قواعد قد ذكروها ليس عليه أثارة من علم. وأما رد المهر بالرؤية والعيب فلها ذلك لأنه مال استحقته بالشرع فلا يلزمها قبوله على غير الصفة التي ترتضيها ما لم يكن الرد تعنتا بلا سبب فليس لها ذلك وإذا تعذر أو استحق حتى لم يمكن الظفر بالعين ولا بما يماثلها فليس لها الا القيمة وذلك غاية ما يمكن فلا يجب عليه غيره. [فصل ومن سمى مهرا تسمية صحيحية أو في حكمها لزمه كاملا بموتهما أو احدهما بأي سبب وبدخول أو خلوة الا مع مانع شرعي كمسجد أو عقلي فيهما أو فيها مطلقا أو فيه يزول ونصفه فقط بطلاق أو فاسخ قبل ذلك من جهته فقط لا من جهتهما أو من جهتها فقط حقيقة أو حكما فلا شيء ومن لم يسم أو سمى تسمية باطلة لزمه بالوطء فقط مهر مثلها في صفاتها من قبل أبيها ثم امها ثم بلدها وللأمة عشر قيمتها وبالطلاق المتعة ولا شيء بالموت الا الميراث ولا بالفسخ ملطقا] .

قوله: فصل: "ومن سمى مهرا تسمية صحيحة" الخ. أقول: حديث أن امراة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقا ولم يكن دخل بها فقال عبد الله بن مسعود ارى لها مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الاشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع ابنة واشق بمثل ما قضى أخرجه أحمد وأهل السنن والحاكم وابن حبان والبيهقي وصححه الترمذي وابن مهدي وغيرهما فيه دليل على ثبوت المهر بالموت بطريق الأولى لأنه إذا ثبت مع عدم التسمية يثبت معها بفحوى الخطاب فهذا الحديث يكفي في الاستدلال به على ان الموت يجب به المهر والميراث. وأما قوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فلا معارضة بينه وبين هذا الحديث لأن هذا الحديث في الموت والاية في الطلاق وقياس الموت على الطلاق قياس في مقابلة النص وهو فاسد الاعتبار والحديث صحيح وله شواهد ولم يصب من اعله بالاضطراب وبين الاضطراب بأنه روى مرة عن معقل بن سنان ومرة عن رجل من اشجع أو ناس من اشجع وقيل غير ذلك قال البيهقي قد سمى فيه معقل بن سنان وهو صحابي مشهور والاختلاف فيه لا يضر فإن جميع الروايات صحيحة وفي بعضها ما دل على ان جماعة من اشجع شهدوا بذلك. وأما ما روي عن الشافعي انه قال إن صح حديث بروع بنت واشق قلت به فقد قال الحاكم قال شيخنا أبو عبد الله لو حضرت الشافعي لقمت على رءوس الناس وقلت قد صح الحديث فقل به. قوله: "وبدخول أو خلوة". أقول: أما الدخول فظاهر ولا خلاف فيه والنصوص متطابق عليه وأما الخلوة فلم يكن في المقام ما ينتهض للاحتجاج به ولم يصح من المرفوع ما تقوم به الحجة وأما اقوال بعض الصحابة فلا حجة فيها ولاس يما مع اضطرابها واختلافها وقد قال عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فإن كان المراد بالمس الجماع فظاهر ان الخلوة ليست بجماع وإن كان المس اعم من الجماع وهو وضع عضو منه على عضو منها فليست الخلوة المجردة مسا وإن أرخى عليها مائة ستر ونظر إليها ألف نظرة. وإذا عرفت هذا فلا حاجة بنا إلي التكلم على الخلوة الصحيحة والفاسدة. قوله: "ونصفه بطلاق أو فاسخ قبل ذلك". أقول: أما استحقاق النصف بالطلاق فبقوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وأما استحقاقه بالفسخ فقيل قياسا على الطلاق بجامع العقد والتسمية وفي النفس من هذا القياس شيء ثم في النفس أيضا من كون الموجب لذلك

هو الفسخ من جهته فقط ويمكن ان يقال إن الزوج لما اختار إخراجها عن عقد نكاحه بالفسح كان ذلك كالطلاق منه بخلاف ما لو كان الفسخ من جهتها أو جهتهما معا. قوله: "ومن لم يسم أو سمى تسمية باطلة لزمه بالوطء فقط مهر مثلها في صفاتها". أقول: أما لزوم المهر بالوطء فأمر أوضح من شمس النهار لأنه بما استحل من فرجها وأما كون اللازم مهر المثل فقد قدمنا في حديث معقل بن سنان في أول هذا الفصل ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بأن لها مثل نسائها حيث لم يفرض لها زوجها صداقا وهو دليل قوى ومستند سوى ومتمسك جلي ولفظ نسائها يقتضي ان الاعتبار بمهر قرائبها لأنهن اخص من يضاف اليها واخصهن قرائبها من قبل الاب ثم من قبل الام ثم سائر النساء المماثلات لها في المنصب والمسكن والقبيلة لان بينها وبينهن ملابسة مصححة للإضافة. وقوله: "وللأمة عشر قيمتها". أقول: ليس هذا مرجع إلي رواية صحيحة ولا رأي مقبول وما قبل من انه قياس على مهر بناته صلى الله عليه وسلم وزوجته وكان جملة مهر كل واحدة خمسمائة درهم وهو عشر الدية فلزم للأمة عشر قيمتها فهذا غلط فإن الدية عشرة آلاف درهم وعشرها الف لا خمسمائة فالظاهر انه يرجع في مهور الاماء إلي مهر امثالهن إن وجدن والا فالرجوع إلي نصف مهر غالب الحرائر أولى لوقوع التنصيف للعبيد والاماء في كثير من الأحكام. قوله: "وبالطلاق المتعة". أقول: تمتيع المطلقة قبل الدخول ثابت بقوله عز وجل: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] ، فهذه الآية فيها الامر بالمتعة للمطلقة قبل الدخول فأفاد ذلك الوجوب ودل على ذلك أيضا قوله تعالي: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 237] ، قدره فهذا الامر يدل أيضا على الوجوب فمن قال بأن المتعة لا تجب الا للمطلقة قبل الدخول إذا لم يفرض لها الزوج فريضة لا إذا فرض لها فريضة فإنها تستحق نصف ما فرض لها بقوله تعالي: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ، فعلله أراد الجمع فيكون هذا جمعا بين هذه الايات. وأما قوله سبحانه: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ، فظاهرها إيجاب المتعة لكل مطلقة مدخولة أو غير مدخولة مع الفرض ومع عدمه وقد ذهب إلي ذلك جماعة من السلف ووجهه انها عامة لكل مطلقة والتنصيص على غير المدخولة التي لم يفرض لها صداق تنصيص على بعض أفراد العام فلا ينافى بقية الأفراد ويمكن ان يجيب عن هذا من خصص الوجوب بغير المدخولة التي لم يفرض لها صداق بأن الايتين قد اشتملتا على قيدين لهما مفهوم معمول به فيقيد بهما هذه الآية العامة ومجموع هذه الايات قد دلت على

وجوب المتعة دلالة واضحة بينة بالامرين في الايتين الأوليين وبقوله: {حَقّاً} في الآية الثالثة. ولم يبق بيد من قال بعدم الوجوب الا مجرد المرأوغة والمغالطة. قوله: "ولا شيء بالموت الا الميراث". أقول: قد قدمنا في أول هذا الفصل حديث معقل بن سنان الاشجعي وهو نص في محل النزاع ودلالته على وجوب مهر المثل كاملا والميراث إذا مات الزوج قبل الدخول أوضح من شمس النهار ولم يأت من ذهب إلي خلافه بشيء يعتد به والمصير إلي القياس مع وجود النص مدفوع بلا خلاف بين طائفتي المثبتين للقياس والنافين للعمل به. قوله: "ولا الفسخ مطلقا". أقول: أي لا مهر ولا متعة ولا ميراث أما عدم ايجاب المهر فلأن الله سبحانه إنما شرعه للمطلقات وأما عدم المتعة فلتصريح الايات القرآنية بأنها للمطلقات وأما عدم الميراث فلكون حديث معقل واردا في الموت فمن قال بإيجاب شيء من هذه في الفسخ لم يكن له دليل الا مجرد القياس على الطلاق وعلى صحة هذا القياس فهو لا يكون الا في الفسخ من جهة الزوج لأنه وقع بالفسخ التسريح كما يقع بالطلاق ولكن الآية التي اثبتت نصف المهر بالطلاق قبل الدخول مصرحة بوقوع الفريضة فقال عز وجل: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] ، وهذه المفسوخة لم يفرض لها. والحاصل انه لا بد من وجود المقتضى للإيجاب على الزوج سالما عن شوائب الدفع والمنع والنقص ومن لم يقل بالشيء لعدم وجودا لدليل فقد سلك الطريق البينة والمهيع الواضح. [فصل وتستحق كل ما ذكر في العقد ولو لغيرها أو بعده لها ويكفي في المراز ذكر القدر والناحية وفي غيرها الجنس فيلزم الوسط وما سمى بتحيير تعين الاقرب إلي مهر المثل غالبا وبجمع تعين وإن تعدى مهر المثل ومن مريض لم يتمكن بدونه فإن بطل أو بعضه ولو غرضا وفيت مهر المثل كصغيرة سمى لها غير أبيها دونه أو كبيرة بدون رضاها ولو ابوها أو بدون ما رضيت به أو لغير من اذنت بالنقص له مع الوطء في الكل قيل والنكاح فيها موقوف لا ينفذ الا باجازة العقد غير مشروط يكون المهر كذا وكالشرط اجزنا العقد لا المهر وكالاجازة التمكين بعد العلم] . قوله: فصل: "وتستحق كل ما ذكر في العقد ولو لغيرها أو بعده لها". أقول: قد دل على هذا ما أخرج أحمد "2/182"،وابو دأود "2129"،والنسائي

"6/120"،وابن ماجه "1955"] ، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت على صداق أو حباء أو عدة قبل عصمة النكاح فهو لها وما كان بعد عصمة النكاح فهو لمن أعطيه وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنته وأخته"، وليس في هذا الحديث مقال الا ما يروى في قول عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقد وقع العمل بحديثه في كثير من الأبواب وحسنه من حسنه في مواضع ومن دون عمرو بن شعيب ثقات وفيه دلالة على ان جميع ما ذكر قبل العقد أو حاله يكون مستحقا للمرأة وأما بعده فيكون لمن جعل له من الأولياء إذا لم يجعل للمرأة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: "وأحق ما يكرم عليه الرجل ابنته وأخته"، وما كان للمصنف رحمه الله ان يخص ذكر المراز من بين أنواع الارض وكان ينبغي له ان يقول ويكفي في الارض. وأما لزوم الوسط فظاهر وهكذا لزوم الاقرب إلي مهر المثل فيما سمى بتخيير وهكذا لزوم الجميع فيما سمى بجمع لأن ذلك هو مقتضى الصيغة الجامعة ولا فائدة للتنصيص على نفوذه من المريض فإن تصرفه في ماله باق ما دام حيا أما من الجميع أو من الثلث ولا وجه للزوم مهر المثل إذا بطل المسمى أو بعضه بل يلزم قدر قيمة المسمى سواء كان فوق مهر المثل أو دونه لأن الولي والمرأة إنما رضيا بالمسمى فكان الرجوع إلي قيمته هو المتعين. وأما الصغيرة التي سمى لها غير أبيها دون مهر المثل فلا شك ان لها المطالبة بالتوفية اليه الا ان يكون ذلك لمصلحة راجحة لها في الحال كأن تكون محتاجة إلي النفقة أولا يوجد من يقوم بمالها الا بدون مهر المثل فإنه لا يجوز لها المطالبة بعد ذلك بالتوفية إلي مهر المثل وأما إذا لم يكن ذلك لمصلحة فلها المطالبة ولو كان الذي زوجها بدون مهر المثل هو ابوها فالمدار في هذا على المصلحة. وأما الكبيرة إذا سمى لها وليها دون مهر المثل بغير رضاها أو بدون ما رضيت أو لغير من اذنت بالنقص له فهي على حجتها ولها المطالبة بالتوفية إلي مهر المثل وهذا ظاهر ولا وجه لقوله مع الوطء في الكل بل لها المطالبة على كل حال ولكنه بنى على ما تقدم له من ان مهر المثل مع عدم التسمية لا يستحق الا بالوطء ولا وجه لقول من قال إن النكاح في هذه الصورة موقف ولا لما تفرع عليه. [فصل ولها الامتناع قبل الدخول برضا الكبيرة وولى مال الصغيرة حتى يسمى ثم حتى يعين ثم حتى يسلم ما لم يؤجل وما سماه ضمنه وناقصه حتى يسلم لا الزيادة الا بجنايته أو تغلبه فإن وطيء قبله المصدقة جهلا لزمه مهرها ولا حد ولا نسب ولا تصير ام ولد

وتخير بين عينيهما أو قيمتهما ومهر المثل ثم إن طلق قبل الدخول عادت له انصفاهما فيعتق الولد ويسعى بنصف قيمته لها] . قوله: فصل: "ولها الامتناع" الخ. أقول: المهر من الاموال التي استحت بها الفروج وقد وصانا المصدوق الصادق بالوفاء بها للنساء فلا شك ولا ريب ان لها الامتناع حتى يسلم اليها لأن المطالبة بهذا مطالبة بحق لا بباطل وهو من تمام الامساك بمعروف ولا يمنع حصول الرضا منها بالتأجيل جواز المطالبة بالتسليم فذلك حق لها وحصول الرضا منها في وقت لا يمنع من المطالبة من بعد وإذا كان هذا في الرضا منها فلها المطالبة فيما رضى الولي بتأجيله بلا شك ولا شبهة لأنه لا يجوز للولي ان يقطع عليها حقا هو لها الا إذا كان ذلك لمصلحة كما قدمنا وسيأتي الكلام على لزوم التأجيل إذا كان في عقد وفيه ما سيأتي إن شاء الله. ولا شك في ضمان الزوج لما نقص من المسمى وأما ما حصل من زيادة فيه كالنتاج والغلة فهو لديه كالوديعة لا يضمن الا بجناية أو تفريط أو غصب. وأما وطء المصدقة جهلا فله حكم الوطء لشبهة وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالي. [فصل ولا شيء في افضاء الزوجة صالحة بالمعتاد لا بغيره أو غيرها كارهة فكل الدية ان سلس البول الا فثلثها مع المهر لها وللمغلو بها ونحوهما ونصفه لغيرهما مكرهة بكرا بالمعتاد وبغيره كله. قوله: فصل: "ولا شيء في إفضاء الزوجة" الخ. أقول: وجهه ان الشارع قدا ذن بمطلق الوطء للأزواج فمن وطيء صالحة بالعضو المعتاد فهو لم يفعل الا ما اذن له به الشرع وليس فيما اذن به الشرع مغرم الا بدليل ولا دليل لكن لا بد ان تكون المباشرة على الوجه المعتاد أما إذا كانت على وجه لا يفعله الازواج فهو معتد بمجرد ذلك. وأما التقييد بكونها صالحة فلكونه قد علم من مقاصد الشرع ان من كانت في سن صغيرة بحيث لا يحتمل مثلها الوطء انه لا يجوز للزوج مباشرتها لما ورد من المنع من الضرار وتأليم الغير واحترام بدنه الا بحقه ولم يكن جماع الصغيرة من الحق المأذون به. وأما التقييد لذلك بكونه بالعضو المعتاد فظاهر لأن ذلك هو المعروف الذي وقع الاذن به دون ما عداه.

وأما إيجاب الدية لمن وقع الافضاء بها بغير المعتاد من الزوجات أو لمن كانت من غير الزوجات فلكون ذلك جناية ولزوم ارشها داخل في العمومات ولكن كون الارش الدية مع سلسل البول والثلث مع عدمه هو مجرد رأي لم يدل عليه دليل وسيأتي الكلام في كتاب الجنايات إن شاء الله. وفي ايجاب المهر لغير الزوجة مع الارش نظر وأما إيجابه للمغلوط بها ونحوها فظاهر لأنه قد استحل فرجها لشبهة فكان عليه ما يلزم في الفروج الحلال ولا وجه لايجاب النصف لغير الزوجة والمغلوط بها بل ذلك زنا يوجب الحد على الفاعل وهي مع الكراهة لا حد عليها وأما إذا كان إدهاب بكارتها بغير وطء فذلك جناية ولها حكمها. [فصل ويترادان على التراخي بالتراضي والا فبالحاكم قبل الرضا بالجنون والجذام والبرص وان عمهما وبالرق وعدم الكفاءة ويردها بالقرن والرتق والعفل وترد بالجب والخصى والسل وإن حدثت بعد العقد لا بعد الدخول الا الثلاثة الأول ولا يرجع بالمهر الا على ولي مدلس فقط ويفسخ العنين بعد إمهاله سنة شمسية غير ايام العذر. قوله: فصل: "ويترادان على التراخي بالتراضي" الخ. أقول: من قال إنه يجوز للزوج تسريح زوجته وأخراجها عن عقدة نكاحه بهذا السبب الذي هو الفسخ فهو محتاج إلي دليل يدل على ذلك وهكذا من قال إن للمرأة ان تخلص نفسها من عقد الكاح الواقع عليها بهذا السبب الذي هو الفسخ لم يقبل منه ذلك الا بدليل. أما الطرف الأول فلم يثبت في ذلك مرفوعا إلي النبي صلى الله عليه وسلم الا ما أخرجه أحمد من حديث كعب بن زيد أو زيد بن كعب ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امراة من بني غفار فلما دخل عليها فوضع ثوبه وقعد على الفراش ابصر بكشحها بياضا فانحار عن الفراش ثم قال خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئا وأخرجه سعيد بن منصور في سننه وقال عن زيد بن كعب بن عجرة ولم يشك وقد أخرجه على الشك ابن عدي والبيهقي وأخرجه من حديث كعب بن عجرة الحاكم في المستدرك وأخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر وكذلك أخرجه البيهقي وفي إسنادالحديث الأول جميل بن زيد وهو ضعيف قال جميل بن زيد حدثني شيخ من الانصار ذكر انه كانت له صحبة يقال له كعب بن زيد أو زيد بن كعب فعلى تقدير ان هذه الاحاديث يشهد بعضها لبعض ليست بنص في محل النزاع فإن لفظ: "خذي عليك ثيابك" أو الحقي بأهلك هما يصلحان للطلاق ويحتملانه والمحتمل لا تقوم به الحجة. وأما ما رواه الدارقطني عن عمر بن الخطاب انه قال: "أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو

أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها وصداق الرجل على من غره" وأخرجه مالك في الموطأ والشافعي من طريق مالك وابن أبي شيبة قال ابن حجر في بلوغ المرام ورجاله ثقات فلا يخفاك انه قول صحأبي لا تقوم بمثله الحجة ومثله ما رواه سعيد بن منصور عن علي بن أبي طالب. وأما الطرف الثاني فليس فيه الا حديث بريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم خيرها لما عتقت وكان زوجها عبدا وهو حديث صحيح وغايته الدلالة على جواز فسخ الامة إذا عتقت لنكاح زوجها إذا كان عبدا لأنها عند ذلك قد ملكت نفسها والحاق غيرها بها الحاق مع الفارق. وبهذا تعرف انه لا حاجة بنا إلي الكلام على هذه العيوب المذكورة في هذا الفصل وهكذا الفسخ بالعته لم يكن فيه شيء من المرفوع ولا تقوم الحجة بقول الصحابة. [فصل والكفاءة في الدين ترك الجهاز بالفسق ويلحق الصغير بأبيه فيه وفي النسب معروف وتغتفر برضا الاعلى والولي قيل الا الفاطمية ويجب تطليق من فسقت بالزنا فقط ما لم تتب] . قوله: فصل: "والكفاءة في الدين ترك الجهاز بالفسق". أقول: الكفاءة في الدين معتبرة اتفاقا كما حكاه ابن حجر في الفتح ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وقوله تعالي: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] ، ويدل عليه أيضا ما أخرجه الترمذي وحسنه عن أبي حاتم المزني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير"، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه"، ثلاث مرات. ونقل المنأوي عن البخاري انه لم يعده محفوظا وعده أبو دأود في المراسيل واعله ابن القطان بالارسال وضعف رواته ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب اليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إن لا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد عريض"، وفي الحديثين دليل على ان ما لا برضى دينه لا يزوج وذلك هو معنى الكفاءة في الدين والمجاهر بالفسق ليس بمرضى الدين. قوله: "وفي النسب معروف". أقول: استدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه ابن ماجه بإسناد رجاله رجال

الصحيح من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه ان فتاة جاءت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ان أبي زوجني ابن اخيه ليرفع بي خسيسته قال فجعل الامر اليها فقالت قداجزت ما صنع أبي ولكن اردت ان اعلم النساء انه ليس إلي الاباء من سبيل وأخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة ومحل الحجة منه قولها ليرفع بي خسيسته فإن ذلك مشعر بانه غير كفء لها 2 ولا يخفى ان هذا إنما هو من كلامها وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الامراليها لكون رضاها معتبرا فإذا لم ترض لم يصح النكاح سواء كان المعقود له كفء أو غير كفء وقد قدمنا الكلام في اعتبار الرضا وأيضا هو زوجها ابن اخيه وابن عمر المراة كفء لها. واستدل على اعتبار الكفاءة في النسب بما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة مرفوعا: "إن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال"، وبما أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو الحاكم من حديث سمرة مرفوعا: "الحسب المال والكرم التقوى"، ويحتمل ان يكون المراد ان هذا هو الذي يعتبره أهل الدنيا كما صرح به في حديث بريدة وان هذه حكاية عن صنيعهم واغترارهم بالمال وعدم اعتدادهم بالدين فيكون في حكم التوبيخ لهم والتقريع. وأما ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر انه صلي الله عليه وسلم قال: "العرب أكفاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة وحي لحي ورجل لرجل الا حائك أو حجام"، فقد ذكر الحافظ أنهموضوع وقد أوضحنا الكلام عليه في كتابنا في الموضوعات الذي سميناه الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة. وأما ما أخرجه الترمذي عن علي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفئا"، فليس في هذا الحديث ما يدل على اعتبار الكفاءة في النسب بل يحمل على ان المراد إذا وجدت لها كفءا ترضى خلقه ودينه كما في الحديثين السابقين. وما حديث: "خياركم في الجأهلية خياركم في الإسلام"، [البخاري "6/525"، مسلم "2838"] ، فليس فيه دلالة على المطلوب لأن إثبات كون البعض خيرا من بعض لا يسلتزم ان الادنى غير كفء للأعلى. وهكذا حديث: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم" فإن هذا الاصطفاء لا يدل على ان الادنى غير كفء للأعلى وقد ثبت أنه صلي الله عليه وسلم زوج مولاء زيد بن حارثة بزينب بنت جحش القرشية وزوج أسامة بن زيد بفاطمة بنت قيس القرشية وزوج عبد الرحمن بن عوف بلالا بأخته وأخرج أبو دأود أن أبا هند حجم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني بياضة أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه"، وأخرجه أيضا الحاكم وحسنه ابن حجر في التلخيص. وأخرج البخاري "9/131"، وغيره النسائي "6/63، 64"، أبو داود "2061" عن عائشة ان أبا

حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه ابنة اخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة وهو مولى امرأة من الانصار. وإذا تقرر لك هذا عرفت ان المعتبر هو الكفاءة في الدين والخلق لا في النسب لكن لما اخبر صلى الله عليه وسلم بان حسب أهل الدنيا المال وأخبر صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح "مسلم "3/45"، عنه ان في امته ثلاثا من أمر الجأهلية الفخر بالاحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة كان تزويج غير كفء في النسب والمال من اصعب ما ينزل بمن لا يؤمن بالله واليوم الاخر ومن هذا القبيل استثناء الفاطمية من قوله ويغتفر برضا الاعلى والولي وجعل بنات فاطمة رضي الله عنها أعظم شرفا وأرفع قدرا من بنات النبي صلى الله عليه وسلم لصلبه فيا عجبا كل العجب من هذه التعصبات الغريبة والتصلبات على أمر الجأهلية. واعجب من هذا كله ما وقع للجلال من نقل الاكاذيب المفتراة في شرحه لهذا الموضع وهو مصداق ما اخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ان تلك الخصال المذكورة في الحديث السابق كائنة في أمته وانها لا تدعها امته في جأهلية ولا إسلام كما وقع في الصحيح وإذا لم يتركها من عرف انها من امور الجأهلية من أهل العلم فكيف يتركها من لم يعرف ذلك والخير كل الخير في الانصاف والانقياد لما جاء به الشرع ولهذا أخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهقال: "أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس". قوله: "ويجب تطليق من فسقت بالزنا ما لم تتب". أقول: إذا كان الاستمرار على نكاح الزانية كابتدائه كان قوله عز وجل: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] ، دليلا على تحريم إمساك من زنت ووجوب تطليقها ولكن في الحديث الصحيح "ابن ماجة 1851"، الترمذي "1163"، "واتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم"، حتى قال: "إلا ان يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"، بدل على جواز إمساك الزانية بعد هجرها وضربها لأن الظاهر ان الفاحشة المبينة هي الزنا. وأما ما أخرجه أبو دأود والنسائي من حديث ابن عباس ان رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي لا ترد يد لامس فقال: "غربها" فقال: أخاف أن تتبعها نفسي قال: "فاستمتع بها إذن"، فعلى تقدير ثبوت الحديث وصلاحيته للحجية وان المراد بقوله: لا ترد يد لامس الكنابة عن الزنا يكون دليلا على جواز الامساك مع مزيد محبة الزوج لها وعدم صبره على فراقها. فإن قلت فما الجمع بين هذه الآية المصرحة بالتحريم وبين ما في هذين الحديثين قلت باحد وجهين أما حمل الآية على ابتداء النكاح دون الاستمرار عليه وأما تخصيص تحريم امساك بمن لا ينجع فيها هجر ولا ضرب ولا تتبعها نفس زوجها وهذا كله إنما هو في الزوجات وأما الاماء المملوكات فقد ثبت في الصحيح "البخاري"4/369"، مسلم "1703"، الترمذي "4470، 4471"،

عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا زنت امة احدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم قال في الثالثة: فليبعها ولو بحبل من شعر". [فصل وباطله ما لم يصح إجماعا أو في مذهبهما أو احدهما عالما ويلزم فيه بالوطء فقط مع الجهل الاقل من المسمى ومهر المثل ويلحق النسب بالجأهل وإن علمت ولا حد عليه ولا مهر وفاسده ما خالف مذهبهما أو احدهما جأهلين ولم يخرق الاجماع وهو كالصحيح الا في الاحلال والاحداد والاحصان واللعان والخلوة والفسخ والمهر] . قوله: فصل: "وباطله" الخ. أقول: باطل النكاح ما جاء الشرع بابطاله كما في المرأة المنكوحة بغير إذن وليها وبغير وقوع الرضا منها أو وقع التصريح في الكتاب أو في السنة الصحيحية بتحريمه ولا اعتبار بمذهب الزوجين أو احدهما فإن ذلك مما لا تعويل عليه بل الاعتبار بما تقرر في الشرع. لا في المذهب وأما الفرق بين الفاسد والباطل فاصطلاح مجرد لا يجوز ان ينبني عليه أحكام الشرع. وأما لزوم المهر فهو بما استحله من فرجها. وأما لحوق النسب فلا بد من دليل على ذلك الا إذا جعل الجهل مثبتا للفراش مع كون الوطء وطء شبهة. وأما عدم وجوب الحد فلكونه يدرأ بالشبهات والجهل شبهة. وهذا الفصل مبني على مجرد الرأي الذي ليس عليه اثارة من علم والحق الحقيق بالقبول هو ما ذكرناه. [فصل وما عليها الا تمكين الوطء صالحة خالية حيث يشاء في القبل ولو من دبر ويكره الكلام حاله والتعري ونظر باطن الفرج وعليه مؤن التسليم والتسوية بين الزوجات غالبا في الانفاق الواجب وفي الليالي والقيلولة في الميل وللأمة نصف ما للحرة وتؤثر الجديدة الثيب بثلاث والبكر بسبع إن لم يتعداها برضاها واليه كيفية القسم إلي السبع باذنهن ويجب قضاء ما فات ويجوز هبة النوبة والرجوع والسفر بمن شاء والعزل عن الحرة برضاها

وعن الامة مطلقا ومن وطيء فجوز الحمل ثم مات ربيبه ولا مسقط للإخوة لأم أو لا حاجب لها كف حتى يتبين] . قوله: فصل: "وما عليها الا تمكين الوطء"، أقول: لا ريب ان نساء الصحابة في أيامه صلى الله عليه وسلم كن يقمن بعمل البيوت واصلاح المعيشة بل قد كان نساؤه صلى الله عليه وسلم كذلك ووردت هذه الشريعة بتقرير ذلك ولو كان غير جائز لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه إتعاب لهن وإتعاب النفس المعصومة بعصمة الإسلام غير جائز ومع هذا فقد أمر به صلى الله عليه وسلم ابنته البتول المطهرة لما شكت اليه مشقة ما تزاوله من الطحن وحمل القربة وطلبت منه خادما يعينها على ذلك حين جاء اليه صلى الله عليه وسلم الخدم فقال: "اتق الله يا فاطمة واعملي عمل أهلك"، هذا معنى ما في الصحيحين [البخاري "7/71"، مسلم "8/2727"، وغيرهما "احمد 1/136"، أبو داود " 5062"، وارشدها إلي ان تسبح الله ثلاثا وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتكبره اربعا وثلاثين وقال لها ان هذا الذكر خير لها من خادم. وقد قدمنا ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للفزارية التي تزوجت على نعلين: "أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ "، فقالت نعم فاجازه فإنه يدل على ان المرأة قد صارت نفسها ومالها تحت حكم الزوج فضلا عن مجرد اعمالها في بيته. وأما اعتبار كونها صالحة للوطء فأمر لا بد منه لأن جماع غير الصالحة له حرام على الزوج وحرام على الولي ان يمكنه منها أو يامرها بذلك وهكذا اعتبار خلو الزوجين عن حضور حاضر فإن ذلك لا بد منه ولا يلزم الزوجة ان تمكن الزوج من نفسه في غير خلوة ولا يجوز له ان يطلب منها ذلك. وأما جواز ان يكون الوطء حيث يشاء الزوج فذلك حق له يفعله اينما أراد مع عدم المانع ولا يكون الا في القبل ولو من دبر يعني الايلاج لا يكون الا في القبل. وأما جواز الاستمتاع في غيره كا لفخذين وعلى ظاهر الاليتين ونحو ذلك فلا شك في جوازه وقد وردت به السنة الصحيحة وأما الوطء في نفس الدبر فأقل ما ورد في منعه يفيد تحريمه وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى وفي التفسير بما لا يحتاج المطلع عليه إلي النظر في غيره فليرجع اليهما. قوله: "ويكره الكلام حاله". أقول: الكراهة حكم من أحكام الشرع لا تثبت الا بدليل ولا دليل وأما التعري الذي يستلزم ظهور العورة التي لا يتم االجماع بدون كشفها في ذلك حديث: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إن استطعت أن لا يرها أحد فافعل"، فقال فالرجل يكون خاليا؟ قال: "الله أحق أن يستحي منه من الناس" وهو حديث صحيح قد قدمنا ذكره وأخرج ابن ماجه عن عتبة بن عبد السلمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجرد تجرد العيرين"، وأخرج الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والتعري فإن معكم من لا

يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلي أهله"، وفي إسناده ضعيفان. وأما نظر باطن الفرج فليس فيه ما يدل على كراهته وأما ما روى بلفظ: "إذا جامع الرجل امرأته فلا ينظر إلى فرجها" فلا أصل له. وأما يجاب مؤن التسليم على الزوج فليس عليه دليل لكن لما وجب عليه نفقتها وكسوتها وجميع ما تحتاج اليه جعلوا هذا لاحقا بذلك لكون الاعراف مقتضية له ومتطابقة عليه. قوله: "والتسوية بين الزوجات"، أقول: قد اشار إلي هذا القرآن قال الله سبحانه: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129] ، وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وصح عنه صلي الله عليه وسلم "القسمة بين نسائه ولم يفضل بعضهن على بعض"، فكان هذا كافيا في أصل التسوية وأما دليل الوجوب فحديث: "إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل" أخرجه أحمد وأهل السنن وغيرهم وإسناده صحيح فإن وقوع هذا يوم القيامة بهذا السبب يدل على وجوبه ولو لم يكن واجبا لما عوقب عليه هذه العقوبة. وأخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم, قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت إن انسا رفعه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى هذا الحديث جماعة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح ابن حبان وصحيح ابن خزيمة وصحيح أبي عوانة وسنن البيهقي ومستخرج لاسماعيلي وهكذا رواه الدارمي والدارقطني. وأما تخصيص التسوية بالانفاق الواجب والليالي والقيلولة فبعيد فإن حديث أبي هريرة عندأحمد وأهل السنن والدارمي وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط اشيخين وصححه أيضا الترمذي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت له امرأتان يميل لأحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا"، يدل على وجوب التسوية فيما هو أعم من الانفاق الواجب مما يملكه العبد لا مما لا يملكله كالمحبة ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيم تملك ولا أملك" أخرجه أهل السنن [أبو داود "2134"، النسائي "7/64"، الترمذي "1140"، ابن ماجة "197"، والدارمي وبن حبان والحاكم وصححاه. وأما كون للأمة التي هي زوجة نصف ما للحرة فقد استدل لذلك بما أخرجه البيهقي عن علي بن أبي طالب أنهقال من السنة ان للحرة يومين وللأمة يوما وقداحتج بهذا الامام أحمد بن حنبل ويقوى هذا ما وقع في كثير من المسائل من التنصيف للعبد والامة. وأما تأثير الجديدة الثيب بثلاث والبكر بسبع فلحديث أنس المتقدم وما ورد في معناه ويدل على أن حق التأثير يبطل بمجاوزة المقدار المحدود ما في صحيح مسلم "41/1460" وغيره [أبو داود "2122"، ابن ماجة "1917"، أحمد "6/292"] ، من حديث ام سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم لما

تزوجها اقام عندها ثلاثة ايام وقال: "إنه ليس بك على أهلك هوان فإن شئت سبعت لك وإن سبعت سبعت لنسائي". وأما قوله: "واليه كيفية القسم إلي السبع" فلا وجه له ولا دليل يدل عليه بل اليه كيفية القسم كيف شاء ما لم يستلزم ذلك ضرارا للنساء. وأما قضاء ما فات فلكون ما هو لها قد استحقته وصار في حكم الدين على الزوج قوله ويجوز هبة النوبة أقول: لما ثبت في الصحيحين وغيرهما ان سودة بن زمعه وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة وقد ثبت في الصحيحين أيضا عن عائشة انها قالت في قوله تعالي: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} [النساء: 128] ، هي المراة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها تقول له امسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وانت في حل من النفقة علي والقسم لي فذلك قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . وأما قوله: "ولها الرجوع عنها" فوجهه ان تلك الهبة وقعت منها بلا عوض أما إذا كانت بعوض فإن رضيت بترك ما صار اليها من العوض فلها الرجوع سواء كان العوض مالا أو منفعة ولا يمنع من الرجوع مثل حديث: "العائد في هبته كلاعائد في قيئه" لان ذلك خارج مخرج التكريه للرجوع فهو دليل على الجواز مع الكراهه وهذا هو الصواب لا ما ذكره ابن القيم في الهدى من ابطال الرجوع لكون الهبة خرجت مخرج المعأوضة وقد سماها الله تعالي صلحا فيلزم كما يلزم ما صالح عليه من الحقوق والاموال لأنا نقول قد رضيت بإرجاع ما صار اليها عوضا عن هبتها لنوبتها. قوله: "والسفر بمن شاء". أقول: الحق أنهلا بد من القرعة بينهن كما ثبت في الصحيحين [البخاري"5/218"، مسلم "7/138"، وغيرهما أبو داود "2138"، ابن ماجة " 1970"، أحمد "6/114، 117، 195، 197"، ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه وهذا شرع منه صلى الله عليه وسلم فهو لأمته وليس لهم تركه وما قيل من انه قد سقط القسم مع السفر فنقول نعم لكنها لم تسقط القرعة فليس للزوج ان يسافر بمن شاء منهن بل يجب عليه الاقراع بينهن ولولا ذلك لم يكن عادلا بين سائه ولا عاملا بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "والعزل عن الحرة برضاها". أقول: اختلفت الاحاديث في جواز العزل فمنها ما هو محتمل للجواز ولعدم الجواز كحديث أبي سعيد في الصحيحين [البخاري "3/390"، مسلم "1438"، وغيرهما أبو داود "2172"،، أحنمد "3/68"، قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من العرب

فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله عز وجل قد كتب ما هو خالق إلي يوم القيامة"، ومنها ما هو مصرح بالمنع كحديث أبي سعيد أيضا عندأحمد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العزل: "أنت تخلقه أنت ترزقه أقره قراره فإنما هو ذلك القدر"، وحديث ااسامة بن زيد عند مسلم وغيره ان رجلا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني اعزل عن امرأتي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم تفعل ذلك؟ "، فقال الرجل: أشفق على أولادها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان ضارا ضر فارس والروم"، وحديث جدامة بنت وهب الاسدية قالت: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ـناس وهو يقول: "لقد هممت أن أنهي عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم شيئا" ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الوأد الخفي" {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] . ومنها ما فيه دلالة على الجواز كحديث جابر كنا تعزل والقرآن ينزل وهو في الصحيحين وغيرهما زاد مسلم كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه ذلك فلم ينهنا وكحديث أبي سعيد عند أحمد وأبي دأود والترمذي والنسائي بإسناد رجاله ثقات قال قالت اليهود العزل الموءودة الصغرى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذبت يهود إن الله عز وجل لو أراد أن يخلق شيئا لم يستطع أحد أن يصرفه"، وأخرج نحوه النسائي من حديث أبي هريرة وقداختلف أهل العلم في هذه الاحاديث فمنهم من جمع بحمل حديث جدامة وما ورد في معناه على التنزيه ومنهم من رجح أحاديث الجواز لصحتها وكثرتها والطريقة الأولى ارجح. وأما تقييد الجواز بكونه برضا الحرة فقداستدل على ذلك بما أخرجه أحمد وابن ماجه عن عمر بن الخطاب قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نعزل عن الحرة الا بإذنها وفي إسناده ابن لهيعة وفيه مقال معروف ويشهد له ما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس قال نهى عن عزل الحرة الا باذنها ويؤيده ما حكاه ابن عبد البر من الاجماع على أنهلا يعزل عن الزوجة الحر الا بإذنها ووافقه على نقل الاجماع ابن هبيرة كما قال ابن حجر في الفتح. وأما جواز العزل عن لامة مطلقا فلما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر ان رجلا اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل وانا اطوف عليها واكره ان تحمل فقال: "اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها". وأما قوله: "ومن وطيء مجوز الحمل" الخ فهو رأي بحث ليس عليه اثارة من علم.

[فصل ويرتفع النكاح بتجدد اختلاف الملتين فإن اسلم احدهما فمع مضي عدة الحربية مدخولة والذمية مطلقا أو عرض الإسلام في الثاني فينتظر بلوغ الزوج وتستأنف المدخولة ويتجدد الرق عليهما أو على احدهما ويملك احدهما الاخر أو بعضه نافذا وبرضاع صيرها محرما قوله فصل ويرتفع النكاح بتجدد اختلاف الملتين] . أقول: لقد قيل إن هذا إجماع ويدل عليه قوله عز وجل: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ، وقوله: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . وأما كونه إذا اسلم احدهما فمع مضي عدة الحربية الخ فقد أخرج في الموطإ عن ابن شهاب قال لم يبلغنا ان امرأة هاجرت إلي الله وإلي رسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر الا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها الا ان يقدم زوجها مهاجرا قبل ان تنقضي عدتها وأنهلم يبلغنا ان امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها وأخرجه أيضا ابن سعد في الطبقات. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان المشركون على منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقاتلونه ومشركي أهل عهد لايقاتلهم ولا يقاتلونه وكان إذا هاجرت المراة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر فإذا طهرت حل لها النكاح وإذا جاء زوجها قبل ان تنكح ردت اليه. وأخرج مالك في الموطأ وابن سعد في الطبقات ان امرأة صفوان بن امية اسلمت وهو كافر فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما حتى أسلم صفوان واستقرت عنده بذلك النكاح قال ابن شهاب وكان بين إسلام صفوان وبين إسلام زوجته نحو من شهر وهكذا امراة عكرمة بن أبي جهل فإنها اسلمت وزوجها كافر فلما اسلم ثبتا على نكاحهما. والحاصل أنهلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهفرق بين رجل وزوجته إذا اسلمت دونه حتى تنقضي عدتها وإذا اسلم وهي في العدة كانت باقية في عقد نكاحها ولا تحتاج إلي تجديد عقد هذا هو الثابت بلا خلاف. وأما ما روى من طرق صحيحة أنه صلي الله عليه وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول لم يحدث شيئا وكان اسلامه بعد سنتين وقيل بعد ست سنين فهو وإن كان اصح من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد ونكاح جديد كما أخرجه ابن ماجه وفي إسناده حجاج بن ارطاة وهو ضعيف لكن لا بد من تأويل حديث ابن عباس لوقوع الاجماع على عدم جواز تقرير المسلمة نحت الكافر إذا تأخر إسلامه عن إسلامها حتى انقضت عدتها وممن نقل هذا الاجماع ابن عبد البر فقيل في تأويله إنه لم يكن قد نزل تحريم نكاح المسلمة على الكافر وقيل غير ذلك وقد ذكرنا ذلك في شرحنا للمنتقى.

والأولى ان يقال إن النكاح موقوف فإن اسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته وإن انقضت عدتها فلها ان تنكح من شاءت وإن احبت انتظرته وإذا اسلم كانت زوجته من غير حاجة إلي تجديد نكاح وليس في هذه الشريعة ما يخالف هذا وقد ذهبت اليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم. وإذا عرفت هذا لم تحتج إلي ما ذكره المصنف وغيره في هذا المقام. قوله: "ويتجدد الرق عليها أو على أحدهما" أقول: المسبية قد صارت ملكا للسابي لها من المسلمين ولم يبق لزوجها عليها يد ولا لكونها كانت زوجته تأثير وهكذا الزوج إذا سبي صار عبدا لا يجوز له ان يتزوج الا باذن سيده السابي له ولا حكم لما كان فيه في الجأهلية إذا سبيا معا فهذا هو مراد الصمنف بقوله: "ويتجدد الرق" عليهما الخ ولكنهما إذا سبيا معا ورضى السابي لهما بأن يبقيا على نكاحهما فالظاهر ان مجرد هذا الاذن يكفي ولا يحتاج إلي تجديد عقد كما تقدم في الاحرار. قوله: "ويملك احدهما الاخر". أقول: المراة إذا ملكت زوجها كان لها الخيار كما كان لبريرة لأنها حرة وزوجها عبد فإذا اختارت الفسح فلها ذلك فإن بريرة فسخت نكاحها لما كان زوجها عبدا فإذا ملك الزوج زوجته كان له الخيار أما بقي على النكاح الذي كان بينهما إذا كان ممن يجوز له التزوج بالأمة وأما اختار فسخ النكاح ويكون لها حكم المملوكات يطأها بالملك ويتصرف فيها كيف شاء. وبهذا تعرف أنهلا ينفسخ النكاح بمجرد ملك احدهما الاخر بل هو موقوف على اختياره وليس في المقام ما يقتضى تطويل الكلام. وأما إذا كانا مملوكين ثم اعتق احدهما وملك الاخر فظاهر لأنه تجددت له الحرية ثم تجدد له ملك الاخر وأما إذا كان احدهما حرا والاخر مملوكا ثم ملك الحر المملوك فإن كان الحر الذي ملك الاخر هو الرجل فلا شك في أنه يختار ما أراد من البقاء على العقد أو الوطء بالملك لأن الملك يقتضى ذلك وإن كان الحر هو المرأة وملكت الزوج فعلى تقدير رضاها به في الابتداء قد تجدد لها بملكه ما يقتضى ثبوت الخيار لها لأن ملكها له قد اثبت لها حقوقا عليه يجوز لها بسببها فسخ النكاح ولا يصح فرض المسألة على انهما كانا حرين لأن الحرية لا تنتقل إلي الرقية الا بالسبي كما تقدم فإذا قدرنا انهما كانا حرين وأسلم احدهما وسبى الاخر فالكلام فيه كما تقدم في تجدد الرق. قوله: "وبرضاع صيرها محرما". أقول: لأنه "يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب" كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فإذا رضع أحدهما رضاعا قام الدليل، الصحيح على أنهيقتضي التحريم صار ذلك موجبا لانفساخ النكاح وسيأتي في الرضاع إن شاء الله ما هو المقتضى للتحريم على مقتضى الادلة.

[فصل ويصح نكاح العبد ولو اربعا حرائر بإن مالكه المرشد ومطلقه للصحيح وواحدة فقط وبإجازته مستمر الملك ومنها السكوت وطلق وبعتقه قبلها وبعقده له ولو كارها وما لزمه فعلى سيده الا تدليسه ففي رقبته والفاسد والنافذ بعتقه ففي ذمته ويلحق الولد بامه فلا حق له عليه ويصح شرط حريته لأ تملكه ويبطل بخروجها عن ملك سيدها قبل العلوق وطلاقه والعدة منه كالحر] . قوله: فصل: "ويصح نكاح العبد ولو اربعا حرائر". أقول: القائلون بأنه يجوز للعبد ان يتزوج اربعا جعلوه داخلا فيما ورد من تسويغ الاربع للعباد وهو من جملتهم لا يخرج عنه الا بمخصص يخصصه كما في سائر الخطابات. والقائلون بأنهلا يجوز الا اثنتان وهم جمهور السلف ومن بعدهم قاسوا نكاحه على طلاقه فلم يجوزوا له الا اثنتين كما أنهلا يملك من الطلاق الا اثنتين بالدليل الاتي إن شاء الله تعالي وكذلك قاسوه على الحدود الثابت تنصيفها عليه بنص القرأن في الاماء وإلحاق العبد بهن بعدم الفارق وبالاجماع. وليس في المقام نص يتعين الرجوع اليه ودعوى إجماع الصحابة على ما قاله الجمهور يزيده قوة فإنها مرجح قوي ولم يثبت القل عن فرد من أفرادهم مما يخالف ذلك. وأما توقف الجواز على اذن مالكه فلا بد منه لأنه المالك لرقبته ومنافعه فلا يصح تصرفه في شيء منها الا بإذنه ولا سيما مثل النكاح فإنه يستغرق كثيرا من منافعه المستحقة للسيد ويعرض سيده لايجاب نفقة الزوجة أو الزوجات. ومع هذا فحديث: "أيما مملوك نكح بغير إذن مولاة فهو عاهر" كما في رواية وفي أخرى: "فنكاحه باطل" قد حسنه الترمذي وصححه الحاكم من حديث جابر وأخرج نحوه ابن ماجه من حديث ابن عمر وفي إسناده ضعف ولكنه يزيد حديث جابر قوة. وأما كون مطلق الاذن يكون للصحيح ولواحدة فقط فيكون مدلول اللفظ يصدق بالواحدة ويحمل على الصحيح وهذا على تقدير أنهليس في اللفظ ما يدل على زيادة على واحدةأما لو كان فيه ما يدل على ذلك فله حكمه وهو غير مراد المصنف. وأما كونه ينفذ بإجازة السيد فلأن العقد الواقع بغير إذن موقوف على إذن السيد فإذا وقعت منه الاجازة فهي إذن إذا كان ملكه للعبد باقيا لا إذا كان قد خرج عن ملكه فلا حكم لاجازته. وليس من الاجازة مجردا لسكوت لأنه كما لا يشعر بالرضى لا يشعر بالكراهة الا ان يصحبه ما يفيد الرضا كأن يفعل فعلا لا يفعله الا من هو راض. وأما جعله قول السيد للعبد طلق من الاجازة فمن جعل ما هو مناف للشيء مثبتا له وهو خلاف المعقول وأما كون الامر بالطلاق قد اشعر بالاعتداد بما وقع منه من النكاح فشيء لا

ينبغي الالتفات اليه ولا التعويل عليه الا ان يرد بذلك دليل. وأما نفوذ نكاح العبد بعتقه قبل الاجازة فلا وجه له لأن مصيره إلي ملك نفسه لا يصحح ما كان باطلا فعليه ان يجددالعقد بعد العتق. وأما عقدالسيد له فهو إجازة لعقده الأول بلا شك لإشعاره بالرضا له به. وأما كون ما لزمه من مؤن النكاح لازم لسيده فلكونه قد اختار ذلك بالاذن أو ما في حكمه ولو لم يرض بما لم يعلم بحقيقته ولهذا كان تدليس العبد في رقبته لأنه كالجنابة منه. وأما قوله: "والفاسد النافذ بعتقه ففي ذمته" فهذا إذا لم يحصل من السيد إذن به ولا إجازة له وإلا فلا فرق بينه وبين الصحيح وانصراف الاذن إلي الصحيح لا ينافي الرضا بالفاسد والرضا هو مناط اللزوم. وأما قوله: "ويلحق الولد بأمه" الخ فهذا محض رأي ليس عليه اثارة من علم والأولى ان اللحوق في العبيد كاللحوق في الاحرار رجوعا إلي أصل الشرع فإن لم يرد فيه دليل كان التشريع العام كافيا. قوله: "وطلاقه والعدة منه كالحر". أقول: يدل على هذا ان الاصل في العبيد والاماء ان لهم حكم الاحرار وانهم داخلون في الخطابات العامة والتشريعات الشاملة ولا يخرجون عن ذلك الا بدليل يقتضى التخصيص وقد ثبت كتابا وسنة ان الطلاق ثلاث والعدة ثلاثة قروء فهذا الاستدلال يكفي مع عدم وجود ما ينتهض للتخصيص فكيف وقد أخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه عن عمر بن معتب ان أبا حسن مولى بني نوفل اخبره أنهاستفتى ابن عباس في مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم عتقا هل يصلح له ان يخطبها قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وثق أبا الحسن هذا أبو حاتم وابو زرعة وأما عمر بن معتب ففيه مقال ولكن هذا الحديث على كل حال انهض من حديث ابن عمر مرفوعا: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان" فإن في إسناده ضعيفين وقال الدراقطني الصحيح أنه موقوف وقد أخرج أبو دأود من حديث عائشة "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان" وفي إسناده مظاهر بن اسلم وهو ضعيف. وليس في الباب غير هذين الا روايات موقوفة لا تقوم بها الحجة ومثل هذا لا ينتهض لتخصيص عموم ما ثبت كتابا وسنة فكيف وقد عورضت هذه المخصصات بحديث ابن عباس السابق. وإلي ما ذكرناه من استواء الحر والعبد في عدد الطلاق واستواء الامة والحرة في العدة ذهب جماعة من الصحابة منهم ابن عباس وجابر وأبو سلمة وابو قتادة.

[فصل وفي الامة بعقدالمالك المرشد ووكيل المالكة وولي مال الصغير أو نائبهم أو إجازته كما مر الا السكوت وبعتقها قبله ويكرهها على التمكين غالبا لا العبد على الوطء وله المهر وإن وطئت بعدالعتق الا في النافذ به والنفقة مع التسليم المستدام ويصح شرطها مع عدمه والعكس] . قوله: فصل: "وفي الامة بعقد المالك المرشد". أقول: لا فرق بين الامة والعبد لان الكل مال لمالكهما ولكن لما كان العبد ممن يصلح ان يعقد لنفسه عقد النكاح كان إذن المالك له يكفي في صحة نكاحه ولما كانت الامة لا تنكح نفسها كان الامر إلي سيدها وإذا كان المالك لها امرأة فقد تقدم انها لا تزوج المرأة المرأة فتوكل من يعقد لامتها وإذا كانت الامة لصغير وكان في تزويجها مصلحة له كان ذلك إلي وليه كسائر تصرفات الولي في مال الصغير ونحوه ولهؤلاء ان يوكلوا من يعقد النكاح ويتنوب عنهم في الاجازة ممن له ولاية أو نيابة تكفي. وأما السكوت فقد قدمنا أنهلا يكفي في اجازة نكاح العبد والامة مثله فلا فرق بينهما وأما كونه ينفذ عقد الامة بعتقها قبلها فلا وجه له كما قدمنا في عتق العبد. وأما إكراهها على التمكين للزوج فله ذلك كما يجوز له ان يكرهها على غيره من الاعمال لانها ماله ومنافعها له وهكذا ان يكره العبد لهذه العلة إذا كان قادرا على ذلك. وأما استحقاق سيد الامة لمهرها فلكون ذلك لفائدة حصلت من ماله. وأما إذا عتقت قبل الوطء فالظاهر ان المهر لها لأنه عوض عن بضعها وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء وذكر مهورهن فقال: "إنها احق الامور بالوفاء بها لانها استحلت بها الفروج"، [البخاري "9/217"، مسلم "1418"، أحمد "4/150"، أبو داود "2139"، النسائي "6/92، 93"] ، فلا فرق بين العتق المطلق والعتق الذي نفذ به النكاح فإن المهر لها فيهما. وأما استحقاق السيد لنفقة الامة مع التسليم لها اليه فذلك ظاهر لأنه زوج وهي زوجة وحكمهما في ذلك حكم غيرهما وإذا شرط الزوج ان لا نفقة عليه ورضى بذلك السيد وجب الوفاء بالشرط وهكذا إذا شرط السيد النفقة على الزوج مع عدم التسليم ورضى بذلك لزم الوفاء بالشرط فالمؤمنون عند شروطهم. [فصل وللمالك فيها كل تصرف الا الوطء ومنع الزوج ومتى عتقت خيرت ما لم تمكن

عالمة بالعتق وثبوت الخيار كحرة نكحت على امة ولا ينفسخ نكاح الامة ومتى اشتراها لم تعد ام ولد بما قد ولدت ويطأها بالملك ولو في عدة طلاقه الا التثليث فبعد التحليل بما سيأتي فقط وأما المكاتبة فبرضاها وام الولد به بعد عتقها والمهر لهما وولاية الوقف إلي الواقف ويراضي المصرف والمهر له] . قوله: فصل: "وللمالك فيها كل تصرف"، أقول: هذه الكلية معلومة لانها ماله فيتصرف بها كيف شاء وإنما ذكر هذا ليستثنى منه قوله الا الوطء ومنع الزوج فإن هذين الامرين لا يجوزان له لأنه رضى بتزويجها فليس له ان يفعل ما يخالف ما يوجبه ما رضى به. وأما كونها إذا عتقت خيرت فذلك ثابت بحديث بريرة والخلاف في كونها تفسخ نفسها مطلقا أو حيث كان زوجها عبدا كما كان زوج بريرة عبدا معروف. وقد قررنا البحث في شرحنا للمنتقى بما يكتفى به الناظر فيه وإذا اختارت البقاء في عقدة النكاح فالأمر اليها ولا يبطل خيارها الا إذا وقع منها الرضا المحقق. وأما قوله: "كحرة نكحت على الأمة" فلم يرد المصنف أنهأصل والامة التي عتقت مقاسة عليه وإنما أراد تنظير المسألة بالمسألة في الفسخ كما جرت عادته في مواضع بمثل هذا ولا أرى لجواز فسخ الحرة المنكوحة على الامة وجها مقبولا فضلا عن دليل يدل عليه لان الحرج في ذلك على الزوج كما في قوله تعالي: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] ، فإذا نكح الحرة فقد وجد السبيل اليها واستطاع الطول المبلغ إلي نكاح الحرائر وكون مجرد الغضاضة اللاحقة للحرة بنكاحها على الامة مسوغا للفسخ لا دليل عليه وقد قدمنا في فصل العيوب التي جعلوها مقتضية للفسخ ما فيه كفاية. وأما قوله: "ولا ينفسخ نكاح الامة" فصواب لأنه دخل فيه في وقت يجوز له الدخول ولم يتجدد ما يدل على البطلان وغاية الامر أنهمع التمكن من الحرة يجب عليه تسريح الامة وأما أنهيبطل فلا. وهكذا وقوله: "ومتى اشتراها لم تصر ام ولد بما قد ولدت" لأنها ولدت له وهي زوجته لا مملوكته والتي تصير ام ولد بما ولدت إنما هي الموطوءة بالملك. وأما قوله: "ويطأها بالملك ولو في عدة طلاقه" ففيه نظر لأنه وإن كان أصل مشروعية العدة لبراءة الرحم وعدم الاختلاط في الانساب لكنها قد صارت بعد ثبوتها تعبدية ولهذا وجبت على الصغيرة والايسة والحامل. وأما كونه لا يطأها بعد التثليث حتى تنكح زوجا غيره فلأنها كانت لديه زوجة داخلة تحت عموم قوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، ولم يرد ما يدل على تخصيصها من هذا العموم.

وأما المكاتبة وأم الولد فقد حصل لها سبب من اسباب الحرية وإن توقف نفوذه على الوفاء بمال المكاتبة في المكاتبة وعلى موت السيد أو تنجيزه لعتقها في أم الولد فلا بد من رضاهما والمهر لهما لعدم بقاء الملك المستقر عليهما وأما كون ولاية الوقف من العبيد والاماء إلي الواقف فمبني على ما سيأتي والظاهر انها إلي الموقوف عليه لأنه المتصرف بالمنافع والنكاح من جملة ما يحصل له به منفعة ولهذا كان المهر له فإن كان الوقف على مسجد أو نحوه فإلي من اليه الولاية في وقف ذلك المسجد ونحوه وإلا فالأمر إلي الامام والحاكم. [فصل ومن وطيء امته فلا يستنكح اختها وله تملكها ولا يجمع بين اختين ونحوهما في وطء وإن اختلف سببه ومن فعل اعتزلهما حتى يزيل احدهما نافذا ومن دلست على حر فله الفسخ ولزمه مهرها ولحقه ولدها وعليه قيمته إن سلمت بجنايتها فإن أباها فالزائد على قيمتها وهو له في ذمتها ويسقط إن ملكها فإن استويا تساقطا. الاختلاف إذا اختلفا فالقول لمنكر العقد وفسخه وفساده ومنه وقع في الكبر ولم ارض وقال في الصغر فيلزم لا في الصغر فافسخ وقال في الكبر ورضيت ولمنكر تسمية المهر وتعيينه وقبضه وزيادته على مهر المثل ونقصانه والابعد عنه زيادة ونقصانا فإن ادعت اكثر وهو أقل أو المثل فبينا حكم بالأكثر والا فللمبين ونحوه ثم مهر المثل وللمطلق قبل الدخول في قدره وإذا اختلفا في معين من ذوي رحم لها عمل بمقتضى البينة فإن عدمت أو تهاترا فلها الاقل من قيمة ما ادعت ومهر المثل ويعتق من اقر به مطلقا وولاء من انكرته لبيت المال والبينة على مدعي الاعسار وبعض الاخذ مع اللبس] . قوله: فصل: "ومن وطيء امة فلا يستنكح اختها". أقول: عموم قوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] ، يشملهما لأنه قد وجد الجمع بينهما ووجدت الاخوة فيهما والظاهر ان الآية تتنأول الجمع بين الاختين الحرتين في عقدالنكاح وفي الوطء فكما لا يجوز الجميع بنهما في الوطء لا يجو ز الجمع بينهما في عقدالنكاح وهكذا لا يجوز له ان يعقد عقدة النكاح على اختين امتين ولا يجوز له ان يجمع بينهما في الوطء لتناول العموم لذلك. وأما الجمع في مجرد الملك فهو وإن صدق عليه أنهجمع بين ختين لكنه ليس بنكاح ولا وطء والمقصود تحريم النكاح والوطء وإذا وطيء احدى الأمتين الاختين كان تحريم النكاح

على الاخرى وتحريم وطئها داخلا تحت عموم الآية لأن الوطء مقصود ومجرد عقدالنكاح مقصود وهذه الآية لم يرد ما يعارضها أو يخصصها. وأما قوله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ، فالمراد به جواز ما جوزه الشرع ولهذا وقع الاجماع على أنه لا يجوز للمالكة ان يطأها مملوكها ولا للمالك ان يطأه مملوكه وقد حكى ابن عبد البر اجماع الصحابة والتابعين ان هذه الآية خاصة بالرجال دون النساء ثم قوله عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} مدنية وقوله سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] مكية. وأما قوله: "ومن فعل اعتزلهما حتى يزيل أحدهما نافذا" فلكونه لا يخلص عن الجمع المحرم الا بذلك ولا بد ان يكون على وجه يمتنع منه جواز وطئها ما دامت اختها في ملكه موطوءة له. وأما قوله: "ومن دلست على حر فله الفسخ" فوجه ذلك أنه لم يرض بأن تكون زوجه الا على انها حرة لما عليه من التبعة في أولاده بلحوقهم بامهم حيث هي امة مملوكة عند القائل بذلك ولا سيما إذا كان يستطيع نكاح الحرة فإن تدليسها عليه قد أوقعه فيما لا يجوز له. وأما لزوم مهرها فهو بما استحل من فرجها وهكذا لحوق ولدها به لأنه لم يرض بنكاحها أمة حتى يلحق الأولاد بها ولا وجه لتسليم قيمة الولد إلي السيد. وأما كون الامة تصير اليه بجنايتها فإن اختار السيد ذلك فهو إليه لأن جناية المماليك متعلقة برقابهم لكن هذا مبني على أنه قد لحقه غرم بتدليسها وهو تسليم قيمة الولد إلي السيد ولا دليل يدل على ذلك. قوله: "الاختلاف إذا اختلفا فالقول لمنكر العقد". أقول: لان المدعى لوقوعه هو مدعي ما هو خلاف الاصل من عدم الوقوع وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: "أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" وإذا اتفقا على وقوع العقد وادعى احدهما أنه تعقب ذلك وقوع الفسخ له فهو يدعى خلاف ما هو الظاهر وبهذا القدر يصير مدعيا ويصير المنكر منكرا وعلى المدعى البينة وعلى المنكر اليمين. وهكذا الكلام فيمن ادعى فساده بعد الاتفاق على وقوعه وأما كون البينة علىمن تدعى ان العقد من أبيها وقع عليها في الكبر وأنها لم ترض فوجهه انها قد ادعت شيئين الاصل يخالفهما الأول منهما ان العقد عليها وقع بعد ان انتقلت من صفة الصغر إلي صفة الكبر. والثاني: انها لم ترض. لا يقال الاصل عدم الرضا فيكون القول قولها لأنا نقول الظاهر يدفعه لأنها قد ادعت وقوع العقد في الكبر وكونها لم ترض هو خلاف ما هو الظاهر. وأما قوله: "لا في الصغر فافسخ" الخ فوجهه ما قدمنا من ان الاصل عدم الانتقال من صفة الصغر إلي صفة الكبر.

وأما قوله ولمنكر تسمية المهر الخ فلكون الاصل عدم حصول هذه التسمية فيكون القول قول النافي لأنه المنكر والبينة على المدعى فيندرج ذلك تحت حديث: "على المدعى البينة وعلى المنكر اليمين". وأما قوله: "فإن ادعت أكثر" الخ فوجهه ان مدعي الاكثر هو الذي أوجب عليه الشارع البينة ولم يوجبها على من ادعى الاقل لأنه منكر وإن جعل كلامه في صورة الدعوى ومع انفراد احدهما بالبينة يحكم للمبين كما قال المصنف لقيام البرهان المقتضي لصدق قوله. وأما قوله: "وللمطلق قبل الدخول في قدره" فلا وجه له بل الظاهر ان القول لمنكر الزيادة ولا تأثير للدخول وعدمه في مثل هذا. وأما قوله: "وإذا اختلفا في معين من ذوي رحم لها" فالظاهر ان القول قولها في إنكار علمها لكونه رحما لها وفي إنكار رضاها به على تقدير انهما اختلفا في نفس وقوع الرضا منها لأن رضاها بمن يعتق عليها هو خلاف الظاهر ومجرد أنه قد يتعلق لها غرض بعتقه عليها لا يسأوي ما تطلبه النفوس من المال فإن هذا آثر من الأول في الطباع فلا وجه لتعويل المصنف على البيينة بادئ بدء فإن ها هنا رتبة مقدمة على ذلك وهي ان القول قول المنكر والبينة على المدعى وإذا بينا فالعمل على بينة المدعى لما قدمنا ولا وجه للحكم للتهاتر ولا للرجوع إلي الاقل من قيمة ما ادعت ومهر المثل. وأما قوله: "ويعتق من اقر به مطلقا" فلا وجه له لأن اقراره بذلك مقيد بكونه مهرا لها وهي لم تقبل الاقرار مقيدا بهذا القيد فلا يخرج عن ملك الزوج ويكون ولاؤه إذا اعتقه له لا لبيت المال. وأما قوله: "والبينة على مدعي الاعسار للاسقاط" فلكونه يدعي امرا يريد به إسقاط حق عليه فلا يقبل الا ببينة. وهكذا إذا ادعى الاعسار ليحل له مالا يحل الا لمعسر فهو وإن كان الظاهر عدم الغنى لكنه يريد بذلك استحلال ما يتوقف تحليله على صحة الدعوى.

باب على واهب الأمة وبائعها استبراء غير الحامل

باب على واهب الأمة وبائعها استبراء غير الحامل ... [باب وعلى واهب الامة وبائعها مطلقا استبراء غير الحامل والمزوجة والمعتدة الحائض بحيضة غير ما عزم فيها ومنفطعته لعارض بأربعة اشهر وعشر وغيرهما بشهره وعلى منكحها للعقد ومن تجدد له عليها ملك لا يد للوطء بذلك وبالوضع والعدة وكالبيعين المتفائلان والمتقاسمان بالتراضي فقط ولهم الاستمتاع في غير الفرج الا مشتريا ونحوه يجوز الحمل وتجوز الحيلة] .

قوله: "باب وعلى واهب الامة وبائعها" الخ. أقول: ليس على هذا اثارة من علم قط وما ذكروه من الاقيسة فهي ظلمات بعضها فوق بعض والعجب كل العجب من ايجابه على كل بائع ولو كانت امرأة وفي كل امة مبيعة أو موهوبة ولو كانت صغيرة فإن كان المقصود بهذا معرفة براءة الرحم فالصغيرة والبكر هذه البراءة كائنة فيهما ثم ايجاب الاستبراء على المشتري والمتهب تحصل به هذه البراءة فما الموجب لايجاب ذلك على البائع على ان إيجابه على المشتري ونحوه إنما يثبت بالقياس على المسبية فإنها مورد النص ولكن لما كانت المشتراة ونحوها تشاركها في العلة التي وجب استبراؤها لها كان قياسها عليها صحيحا من هذه الحيثية لما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي الدرداء ان النبي صلى الله عليه وسلم اتى على امرأة محج على باب فسطاط فقال: "لعله يريد أن يلم بها؟ " فقالوا: نعم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟ " والمحج الحامل فإن مثل هذه العلة كائنة في المشتراة ونحوها وقد قال صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس: "لا توطا حامل حتى تضع ولا حائض حتى تستبرأ بحيضة"، أخرجه أحمد وابو دأود والحاكم وصححه. ويشهد له ما عند الدارقطني من حديث ابن عباس وما عند الترمذي من حديث العرباض ابن سارية وما عندأبي شيبة من حديث علي مع ان ظاهر هذا العموم يشمل المشتراة ونحوها وكونه في سبايا أوطاس لا يوجب تقييده بذلك لما تقرر من ان الاعتبار بعموم الفظ لا بخصوص السبب. وقد ورد ما يدل بعمومه على استبراء المشتراة ونحوها فأخرج أحمد والطبراني من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره"، ولكن إسناده ضعيف قال في مجمع الزوائد في إسناده بقية والحجاج ابن ارطاة وكلاهما مدلس انتهى ولكنه يشهد له ما أخرجه أحمد وابو دأود وابن أبي شيبة والدارمي والطبراني والبيهقي والضياء المقدسي وبان حبان وصححه والبزار وحسنه من حديث رويفع بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستقنى ماءه ولد غيره"، فإنه يشمل الامة المشتراة ونحوها وإن كان في لفظ في هذا الحديث عن الترمذي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها"، وفي لفظ لأحمد: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض"، فإن هذا التقييد لاينافي عموم قوله: "فلا يسقيا ماءه ولد غيره"، والحاصل ان مجرد قياس المشتراة ونحوها على المسبية على تقدير عدم شمول الدليل لها واضح الوجه للاشتراك في تلك العلة. وأما إيجاب الاستبراء على البائع ونحوه فلا ينبغي ان ينسب إلي عالم وهكذا ايجاب استبراء الصغيرة والبكر فإنه لم يدل دليل على وجوبه على السأبي ولا على المشتري ونحوه والتعليل بتلك العلة ينافي الايجاب فيهما.

وهكذا التصريح في تلك الرواية بلفظ الثيبت وقد ذهب إلي وجوب الاسبتراء على المشتري ونحوه الجمهور ولم يخالف في ذلك الا دأود والبتي. وإنما استثنى المصنف الحامل والمزوجة والمعتدة لانهن لا يوطأن أما الحامل فإذا كان حملها من زنى فإنه يجوز بيعها ولا توطأ حتى تضع ولا يستقيم في الحامل من غير زنى لانها تصير بالحمل مع الوضع ام ولد. وأما المزوجة فظاهر لانها إذا بقيت بعد بيعها تحت زوجها فهي لا توطأ وإن لم تبق تحته فلا بد من العدة ولا توطأ الا بعد انقضائها. وهكذا المعتدة لا توطأ الا بعد انقضاء عدتها هذا على تقدير صحة الوجوب على البائع ونحوه وقد عرفت أنه لا أصل له. وما زعموه من ان ذلك تعبد فهو مجرد دعوى لا أصل لها فالتعبد إنما يثبت بدليل والا كان من التقول على الله بما لم يقل وقد قال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، فجعل التقول على الله بما لا يعلمه الإنسان عديلا للشرك وما قبله والله الهادي. وأما قوله: "الحائض بحيضة غير ما عزم فيها" فبراءة الرحم تتحقق بتلك الحيضة التي هي فيها ولكن ما قاله صلى الله عليه وسلم: "ولا غير حامل حتى تحيض حيضة"، دل على أنه لا بد من حيضة كاملة يجب الاستبراء بها على السأبي والمشتري ونحوه لا على البائع ونحوه فلا يجب حيضة ولا بعض حيضة كما قدمنا. وأما قوله: "ومنقطعته لعارض بأربعة اشهر وعشر" فقد عرفناك أنه لا استبراء على البائع ونحوه لكن إذا اشتراها مشتر وتجدد عليها ملك لمالك بأي سبب من سبي أو هبة أو ميراث أو نحو ذلك فكيف يكون اسبتراؤها الذي يعرف به براءة الرحم مع عدم ورود دليل يدل على هذ الصورة بخصوصها والظاهر أنه يحال ذلك على ما يعرف به انها غير حامل ولا يخفى مثل ذلك على غالب النساء. وأما التحديد باربعة اشهر وعشر فلا وجه له قط ومن توهم صحة قياسها على المتوفي عنها فلم يصب ومن زعم ان هذا المقدار هو اكثر العددالمشروعة فكانت لاحالة عليه لتيقن البراءة فهو أيضا لم يأت بطائل. وهكذا لا وجه لقوله وغيرهما بشهر لما قدمنا وهكذا قوله وعلى منكحها للعقد لا وجه له لما تقدم. وأما قوله: "ومن تجدد له عليها ملك" الخ فصواب لكن على التحقيق الذي قدمناه فلا نعيده هنا. وأما قوله: "والحامل بالوضع" للدليل المتقدم.

وأما المعتدة فقد علم باعتدادها براءة رحمها لكن ظاهر الدليل أنه لا بد من استبرائها بحيضة عند سبيها أو ملكها فإن بقي من العدة قدر حيضة فذلك هو استبراءها وكمال عدتها وإن لم يبق من العدة قدر حيضة فلا بد من حيضة. وأما قوله: "وكالبيعين" الخ فلا فائدة فيه لأنه إن صدق عليه أنه من تجدد الملك فقد اغنى عنه ما تقدم وإن لم يصدق عليه ذلك فلا وجه له الا ان يكون قد وقع من المشتري قبل الاقالة والفسخ وطء. وأما ذكر جواز الاستمتاع فلا حاجة اليه لأن الممنوع هو الوطء الذي يسقي به زرع غيره لا غيره. قوله: "ويجوز الحيلة". أقول: هذه الحيلة التي جوزها قد استند فيها إلي ما يحكى في كتب التواريخ من قصة وقعت لأبي يوسف مع الرشيد وما بمثل هذاتؤكل الكتف ولا يجوز لمسلم ان يجترئ على مخالفة الادلة الثابتة من كون الحائض تستبرأ بحيضة والنهي منه صلي الله عليه وسلم عن ان يسقي ماء الرجل ولد غيره ومعلوم ان هذه الحيلة لا تخلص من مثل هذا مع كون براءة الرحم التي هي العلة في وجوب الاستبراء غير حاصلة بل لا براءة اصلا فكيف يقال بجواز هذه الحيلة الفاسدة الكاسدة وابو يوسف قد ربح مالا كثيرا من الرشيد ومن الجارية فما بال من لم يربح بها الا شغلة الحيز في قرطاسه بمداد يصدرها في كتابه هذا الذي وضعه لهداية المقصرين وإرشاد المقلدين اللهم غفرا. هذا إذا أراد ان هذه الحيلة البائسة والذريعة الخاسرة تسقط الاستبراء على المشتري والبائع كما هو الواقع من أبي يوسف. أما إذا أراد انها تسقطه على البائع فقد عرفناك أنه لااستبراء عليه ولا حاجة له في تطلب الحيل فالشرع لم يوجب عليه ذلك حتى يحتاج إلي التخلص عنه بالتحيلات التي لا تنصب في الغالب الا لردأحكام الله واخراج المكلفين مما كلفهم الله إخراجا طاغوتيا عنادا لله وتجرؤا عليه والامر لله العلي الكبير. [فصل ومن وطيء امة ايما له ملك في رقبتها ثبت النسب وإن لا ملك فلا إلا امة الابن مطلقا واللقيطة والمحللة والمستأجرة والمستعارة للوطء والموقوفة والمرقبة المؤقتة ومغصوبة شراها مع الجهل فيهن ومهما ثبت النسب فلا حد والعكس في العكس الا المرهونة والمصدقة قبل التسليم مع الجهل والمسبية قبل القسمة والمبيعة قبل التسليم مطلقا والولد

من الأول حر وعليه قيمته غالبا ومن الاخر عبد ويعتق إن ملكه ولهن المهر الا المبيعة] . قوله: فصل: "ومن وطيء امة ايما له ملك في رقبتها ثبت النسب". أقول: الحكم في ولدالمشتركة سيأتي وغالب ما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الفصل ظلمات بعضها فوق بعض واعتماد على القيل والقال والرأي الذي ليس له إلي منهج الحق سبيل أما ثبوت النسب فلا يثبت الا بدليل يدل على ذلك لا بمجرد دعوى شبهة لا أصل لها فإن غالب هؤلاء الاماء المذكورات وطؤها وطء زنا بلا شك ولا شبهة والولد ولد زنى لا يلحق بالزاني الا بدليل. وأما سقوط الحد فإن وجدت شبهة يدرأ بها الحد فذاك كوطء المسبية قبل القسمة لان الواطيء من جملة الغانمين فله ملك في رقبتها ويكون حكم ولدها حكم ولد المشتركة وسيأتي. وأما المبيعة قبل التسليم فقد صارت ملكا له بالعقد وليس وطؤها من وطء الشبهة بل من وطء الملك الحلال وولدها لاحق بهذا المشترى وليس مجرد التسليم الا لتمام العقد ونفوذه ولا اعتبار بخلاف من يخالف في هذا. والعجب من المصنف رحمه الله حيث يجعل اللقيطة والمحللة والمستأجرة والمستعارة للوطء من جملة الموطوءات لشبهة فإنه لا شبهة هنا اصلا بل الواطيء زان والولد ولد زنا. وأما أمة الابن إذا وطئها الاب والموقوفة إذا وطئها الموقوف عليه والمرقبة إذا وطئها المرقب والمغصوبة إذا اشتراها مشتر فوطئها فها هنا شبهة مع الجهل لا مع العلم وغاية هذه الشبهة سقوط الحد لا لحوق النسب فالولد ولد زنا. وأما الموهوبة فهي خامسة الاربع المتقدمات وكذا المصدقة هي سادستهن فلا شبهة ها هنا في هؤلاء الست ولا تأثير للجهل في لحوق النسب وأما قول المصنف والولد من الأول حر الخ فنقول الولد من الجميع ولد زنا الا ما دل عليه دليل ولا دليل الا في وطء المشتركة وتلحق بها المسبية قبل القسمة لما قدمنا وأما المبيعة قبل التسليم فما ينبغي جعلها في عداد المتردية والنطيحة وما أكل السبع لما عرفناك. وأما المهر فمتى وجب على الواطىء الحد في وطئها فلا مهر وإذا لم يجب فإن كانت راضية مطأوعة غير مكرهة فلا وجه لايجاب المهر لها لأنه إنما يجب في النكاح الشرعي وما يلحق به. [فصل وتستهلك امة الابن بالعلوق فيلزم قيمتها ولا عقر والا فالعقر فقط قوله فصل وتستهلك امة الابن بالعلوق] .

أقول: إن كان حديث انت ومالك لأبيك شبهة يسقط بها الحد فلا وجه للحقوق النسب ولا للزوم قيمتها ولا للزوم مهرها لان الاب زان اندفع عنه الحد والولد ولد زنى فلا تصير الامة ام ولد ولا يلحق ولدها باحد. هذا على تقدير أنه قد علم ان الولد من وطء الاب والا فالولد للفراش إن ثبت لها فراش. [فصل ولا توطأ بالملك مشتركة فإن وطيء فعلقت فادعاه لزمه حصة الاخر من العقر وقيمتها يوم الحبل وقيمته يوم الوضع إلا لأخيه ونحوه فإن وطئا فعلقت فادعياه معا تقاصا أو ترادا وهو ابن لكل فرد ومجموعهم اب ويكمل الباقي فإن اختلفوا فللحر دون العبد م بالله ولو مسلما ثم للمسلم] . قوله: فصل: "ولا توطا بالملك مشتركة". أقول: هذا معلوم بالضرورة الدينية. وأما قوله: "فإن وطيء تعلقت" الخ فوجهه انها قد صارت ام ولد للواطيء فصارت حرة وبطل ملك الشريك فهو كما لو اعتقها فإنها تعتق ويزلمه حصة شريكة ولا وجه لايجاب حصة شريكة من العقد لأنه ضمن له قيمة نصيبه ولا يجب عليه غير ذلك. وهكذا لا يجب عليه حصة شريكه من قيمة الولد لأنه قد صار لاحقا به وبسببه كان الاستهلاك للأمة فلا يجب عليه الا حصة شريكه من قيمتها فقط ولا وجه للاستثناء في قوله الا لأخيه ونحوه لأنه لم يملك حتى يعتق عليه بل هو ولد للواطيء ولو قدرنا أنه يملكه الواطيء كان عتقه بكونه رحما له لأنه المالك ولا ملك لأخيه هذا على تقدير أنه تضمن حصة الشريك من قيمة الولد إذا كان غير اخ له وقد عرفناك أنه لا وجه لذلك. قوله: "فإن وطئا فعلقت" الخ. أقول: ينبغي العمل في مثل هذا بحديث زيد بن ارقم الذي أخرجه أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه قال اتى علي وهو باليمن في ثلاثة وقعوا على امراة في طهر واحد فسأل اثنين فقال اتقران لهذا بالولد قالا لا ثم سأل اثنين اتقران لهذا بالولد فقالا لا فجعل كلما سأل اثنين اتقران لهذا بالولد قالا لا فأقرع بينهم فألحق الولد بالذي اصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه وفي إسناده يحيى بن عبد الله الكندي المعروف بالاجلح قيل لا يحتج بحديثه ووثقة يحيى بن معين والعجلي وقال ابن عدي مستقيم الحديث وضعفه النسائي وقد روى مرسلا وصوبه النسائي.

فهذا الحديث يدل على ان الحكم في الامة المشتركة هو هذا الحكم العلوي مع هذا التقرير المصطفوي والقرعة قد ثبت العمل بها في السنة في مواضع كثيرة كما أوضحنا ذلك في شرح هذا الحديث من شرحنا للمنتقى. وأما ما ذكره المصنف فهو مجرد رأي لا يجمل الرجوع اليه مع ورود اقل دليل وأبعد مستند.

باب الفراش

[باب الفراش إنما يثبت للزوجة بنكاح صحيح أو فاسد امكن الوطء فيهما أو باطل يوجب المهر غالبا تصادقا على الوطء فيه مع بلوغهما ومضى اقل مدة الحمل وللأمة بالوطء في ملك أو شبهته مع ذينك والدعوة] . قوله: باب: "الفراش إنما يثبت للزوجة بنكاح صحيح أو فاسد امكن الوطء فيهما" الخ. أقول: هذا الذي ذكره المصنف صحيح وقد افرط من قال إنه لايعتبر إمكان الوطء وان العقد بمجرده يكفي فإن هذا إثبات للفراش بما لا يصدق عليه اسم الفراش لا لغة ولا شرعا وفرط من قال إنه لا بد من العلم بالدخول فإن معرفة هذا متعسرة جدا فاعتباره يؤدي إلي بطلان كثير من الانساب فالتوسط بين الافراط والتفريط هو الحق وهو ما ذكره المصنف الا ان قوله أو باطل يوجب المهر تصادقا على الوطء فيه لا وجه له بل يكفي فيه مجرد الامكان كما كفى في الصحيح والفاسد لأن الدخول فيه مع العقد وجهل المبطل يصير به في حكم العقد الشرعي في ثبوت الفراش ولحوق النسب. وأما فيما عدا ذلك فقد قدمنا الكلام فيه وأما مضى اقل مدة الحمل فامر لا بد منه لانها إذا ولدت قبل مضيها كان ذلك كاشفا عن كون المولود هذا كائنا من غير هذا الفراش. قوله: "وللأمة بالوطء في ملك أو شبهته مع ذينك والدعوة". أقول: ثبوت فراش الامة هو مورد النص كما في حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة بن أبي وقاص عهد إلي أنه ابنه انظر إلي شبهه وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله ولد على فراش أبي فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي شبهه فرأى شبها بينا بعنبة, فقال: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة".

وفي لفظ للبخاري أنه قال: "هو أخوك يا عبد". فهذا الحديث قد دل على ثبوت الفراش للأمة ودل على ثبوت افراش الحرة بفحوى الخطاب وتمسك المشترطون للدعوة بهذه الدعوة الواقعة في الحديث ولكن هذا انما اتفق في هذه الحادثة وليس فيه ما يدل على ان ذلك شرط لا يثبت النسب بدونه فقد كان الصحابة في زمنه صلى الله عليه وسلم يطأون الاماء ويحدث لهم منهن الأولاد ويصيرون أولادا لهم ولم يسمع أنه صلى الله عليه وسلم اخبرهم بأنه لا بد من الدعوة ولا ورد ذلك في شيء من المرفوع ولا سمع عن صحأبي أنه قال باشتراط ذلك وهكذا من بعد الصحابة. فالحاصل ان فراش الامة يثبت بما يثبت به فراش الحرة وثبوت الملك عليها بمنزلة العقد على الحرة فلا يعتبر معه الا ما يعتبر في فراش الحرة من إمكان الوطء. [فصل وما ولد قبل ارتفاعه لحق بصاحبه قيل وإن تعدد كالمشتركة والمتناسخة في طهر وطئها كل فيه قبل بيعه وصادقهم الاخر وادعوه معا فإن اتفق فراشان مترتبان فبالاخر إن امكن والا فبالأول إن امكن والا فلا يهما واقل الحمل ستة اشهر واكثره اربع سنين] . قوله: فصل: "وما ولد قبل ارتفاعه لحق بصاحبه". أقول: وجهه ان السبب وهو الفراش لما كان باقيا كان المسبب وهو لحوق الولد ثابتا وأما قوله: "وإن تعدد كالمشتركة والمتناسخة" فالحكم في هاتين الامتين هو الحكم الذي قضى به على رضيى الله عنه وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "فإن اتفق فراشان مترتبان" الخ فهذا هو غاية ما يجب من التحري في حفظ الانساب وعدم التسأهل في إثباتها فإن تعذر على كل حال لم يجز حمل النسب على الغير بغير مسوغ لان ذلك ظلم له وللولد. قوله: "واقل الحمل ستة أشهر وأكثره أربع سنين". أقول: لم يات دليل قط لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف مرفوع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ان اقل الحمل كذا ولم يستدلوا الا بقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] ، مع قوله سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] . ويقوى هذه الدلالة الايمائية أنه لم يسمع في المنقول عن أهل التواريخ والسير أنه عاش مولود لدون ستة اشهر وهكذا في عصرنا لم يسمع بشيء من هذا بل الغالب ان المولود لستة اشهر لا يعيش إلا نادرا لكن وجود هذا النادر يدل على أن الستة الاشهر اقل مدة الحمل وقد كان من جملة من ولد لستة اشهر من المشهورين عبد الملك بن مروان الخليفة الاموي وهكذا لم

يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف مرفوع إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اكثر مدة الحمل اربع سنين ولكنه قداتفق ذلك ووقع كما تحكيه كتب التاريخ غير ان هذا الاتفاق لا يدل على ان الحمل لا يكون اكثر من هذه المدة كما ان اكثرية التسعة الاشهر في مدة الحمل لا تدل على أنه لا يكون في النادر اكثر منها فإن ذلك خلاف ما هو الواقع. والحاصل أنه ليس هناك ما يوجب القطع بل إذا كان ظاهر بطن المرأة ان فيه حملا كأن يكون متعاظما ولا علة بالمراة تقتضي ذلك وحيضها منقطع وهي تجد ما تجده الحامل فالانتظار متوجه ما دامت كذلك وإن طالت المدة أما إذا كان ثم حركة في البطن كما يكون في بطن الحامل فلا يقول بأنها إذا مضت الاربع السنين لا يكون له حكم الحمل الا من هو من أهل الجمودالذين لا يميزون فإن الحمل ها هنا قد صار متيقنا بوجود الحركة التي لا تكون الا من جنين موجود في البطن ولا يجوز المصير إلي تجويز ان ذلك المتحرك غير جنين. وأما إذا لم يكن البطن متعاظما وليس الا مجرد دعوى المراة على الحمل بانقطاع حيضها أو بغيره من القرائن التي لا تظهر وتحس فيجب الانتظار إلي انقضاء المدة الغالبة وهي التسعة الاشهر فإن مضت ولم يظهر في بطنها ما يدل على الحمل من التعاظم والحركة فلا انتظار بعدها لأن هذه المدة الغالبة لاتنقضي والبطن كما هي في غير الحامل فهذا هو الذي ينبغي اعتماده في مثل هذه المسألة. [فصل وإنما يقر الكفار من الانكحة على ما وافق الإسلام قطعا أو اجتهادا فمن اسلم عن عشر واسلمن معه عقد بأربع إن جمعهن عقد والا بطل ما فيه الخامسة فإن التبس صح ما وطيء فيه فإن التبس أو لم يدخل بطل فيعقد وقيل يطلق ويعقد فيختلف حكمهن في المهر ولميراث] . قوله: فصل: "وإنما يقر الكفار من الانكحة" الخ. أقول: الاصل في هذا ما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه والشافعي وصححه ابن حبان وغيره وحسنه الترمذي من حديث الضحاك بن فيروز عن أبيه قال اسلمت وعندي امراتان اختان فأمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أطلق إحداهما ولفظ الترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "اختر أيتهما شئت". وهكذا حديث غيلان الثقي أنه اسلم عن عشر واسلمن معه فامره رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يختار منهن أربعا وقد قدمنا تخريجه وتصحيحه. وفي هذين الحديثين دليل على أنه لا يقر الكفار من انكحتهم الا على ما يوافق الإسلام أي

يوافق ما هو متقرر في الشريعة الإسلامية لا في اجتهادات المجتهدين من أهلها إن كان الاجتهاد مخالفا للدليل فإن مثل ذلك لا يصلح للرد اليه ولا للتعويل عليه. وأما قوله: "عقد بأربع" فلا وجه له بل يكفيه ان يختار منهن اربعا بغير عقد فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما امره بذلك وفي رواية أنه قال: "أمسك منهن أربعا" وقال في حديث الضحاك المذكور: "اختر أيتهما شئت". وإذا تقرر لديك أنه لا وجه لتجديد العقد عرفت عدم الحاجة إلي الكلام على ما جعله المصنف متفرعا على ذلك إلي آخر البحث.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق [باب إنما يصح من زوج مختار مكلف غالبا قصد اللفظ في الصريح وهو مالا يحتمل غيره إنشاء أو إقرارا أو نداء أو خبرا ولو هازلا أو ظانها غير زوجته أو بعجمي عرفة واللفظ والمعنى في الكتابة وهو ما يحتمله وغيره كالكتابة المرتسمة وإشارة الاخرس المفهمة وعلى أو يلزمني الطلاق وتقنعي وانت حرة وانا منك حرام لا طالق. وسنيه واحدة فقط في طهر ولا وطء منه في جمعيه ولا طلاق ولا في حيضته المتقدمة وفي حق غير الحائض المفرد فقط وندب تقديم الكف شهرا ويفرق الثلاث من أرادها على الاطهار أو الشهور وجوبا ويخلل الرجعة بلا وطء ويكفي في نحو انت طالق ثلاثا للسنة تخليل الرجعة فقط. وبدعيه ما خالفه فيأثم ويقع ونفي احدالنقيضين إثبات للاخر وإن نفاه كلا لسنة ولا لبدعة. ورجعيه ما كان بعد وطء على غير عوض مال وليس ثالثا وبائنه ما خالفه مطلقه يقع في الحال ومشروطه يترتب على الشرط نفيا واثباتا ولو مستحيلا أو مشيئة الله تعالي. وآلاته إن وإذا ومتى وكلما ولا يقتضى التكرار الا كلما م ومتى غالبا ولا الفور الا ان في التمليك غير إن وإذا مع لم ومتى

تعدد لا بعطف فالحكم للأول وإن تأخر وقوعه إن تقدم الجزاء فإن تأخر أو عطف المتعدد بأو أو بالوأو مع إن فلواحد. وينحل وبالوأو لمجموعه] . قوله: "كتاب الطلاق إنما يصح من زوج". أقول: الايات القرآنية والاحاديث النبوية الواردة في الطلاق هي كلها مصرحة بأن الطلاق هو الواقع من الازواج ولم يرد غير هذا حتى يحتاج إلي الكلام عليه فمن ادعى أنه يصح طلاق من غير زوج فعليه البرهان فإن نهض به والا كانت دعواه ردا عليه. وأما ما ورد في التخيير والتوكيل فهو كائن من جهة الزوج فأنه إذا خير زوجته فقد جعل الامر الذي هو اليه اليها وهكذا إذا وكل وكيلا يطلق زوجته. وإذا تقرر لك هذا عرفت أنه لا حاجة إلي الاستدلال على كون الطلاق إنما يصح من الزوج بالاحاديث التي لا تقوم بها حجة كحديث: "الطلاق لمن أمسك بالساق" "ابن ماجة 2081". نعم يجب على الزوج إذا امره ابوه ان يطلق امرأته ان يطيعه ويطلقها لما أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح من حديث ابن عمر قال كان تحتي امراة احبها وكان أبي يكرهها فأمرني ان اطلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك"، فهذا الحديث فيه أنه يجب على الزوج ان يطلق امرأته إذا امره ابوه بذلك وفيه أيضا دليل على أنه لا يصح الطلاق الا من الزوج فإنه لو كان يصح من غيره لكان الاب احق بذلك فإذا لم يصح من الاب لم يصح من غيره بفحوى الخطاب. وأما ما روى عن ابن عباس أنه يقع طلاق السيد على عبده فهو قول صحأبي لا تقوم به حجة مع أنه قد روى هو نفسه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف قوله هذا في حديث العبد الذي قال يا رسول الله سيدي زوجني امته وهو يريد ان يفرق بيني وبينها فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق"، أخرجه ابن ماجه والدارقطني والطبراني وابن عدي وفي إسناده ابن لهيعة. قوله: "مختار". أقول: الأقوال والأفعال الصادرة على وجه الاكراه قد دلت ادلة الشرع الكلية والجزئية على أنه لا يترتب عليها شيء من الأحكام فإن الله سبحانه لم يجعل من كفر مكرها كافرا فقال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] ، وإذا كان الاكراه مبطلا للكفر بالله والاشراك فما ظنك بغيره وقال الله سبحانه: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما دعاه عباده بهذه الدعوات قال: "قد فعلت". فالمكره لو كلف بما أكره به ويثبت عليه أحكامه لكان قد حمل مالا طاقة له به ومن هذا

القبيل حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن له طرقا يشهد بعضها لبعض ولذلك حسنه من حسنه. والمراد بالرفع رفع الخطإ بذلك وترتب أحكامه عليه وهذا المقدار يكفي في الاستدلال على عدم صحة طلاق المكره على تقدير عدم وجوب ما يدل عليه بخصوصه فكيف وقد دل عليه خصوصا حديث: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" فإن ابن قتيبة والخطأبي وابن السيد حكوا عن ائمة اللغة أنهم فسروه بالاكراه ولا ينافي ذلك تفسير بعضهم له بالغضب وبعضهم له بالتضييق على ما في هذين التفسيرين من الضعف البين والمخالفة لما هو الظاهر. قوله: "مكلف". أقول: للانفاق على ان الصبي والمجنون غير مكلفين بالأحكام الشرعية ولكون ما صدر منهما لم يكن صادرا عن قصد أما المجنون فظاهر اذ لا قصد له صحيح اصلا وأما الصبي فلأن قصده كلا قصد لنقصان إدراكه. ومما يدل على عدم الوقوع حديث: "رفع القلم عن ثلاثة"، [أحمد "6/100، 101 144"، أبو داود "4398"، النسائي "6/156" ابن ماجة "2041"] ، ولا وجه لاستثناء السكران بقوله غالبا لأنه إذا ذهب إدراكه كان لاحقا بالمجانين وله حكمهم. وأما قول من قال إنه يقع طلاقه عقوبة له فقد ورد الشرع بأن عقوبته الحد وليس لنا ان تجعل له عقوبة من جهة انفسنا ونرتب عليها أحكاما لم يأذن الله بها وقد سكر حمزة رضي الله عنه قبل تحريم الخمر وقال للنبي صلى الله عليه وسلم ولعلي رضي الله عنه لما دخلا عليه وهو سكران: هل أنتم الا عبيد لأبي, فلو كان لكلام السكران حكم لكان هذا الكلام كفرا. وقد أطلنا الكلام على طلاق السكران في شرحنا للمنتقي فليرجع اليه ففيه مالا يحتاج الناظر فيه إلي غيره. قوله: "قصد اللفظ في الصريح". أقول: هذا من غرائب الاجتهاد وعجائب الراي وكيف يؤاخذ من قصد التكلم باللفظ غير مريد لمعناه بما هو مدلول ذلك اللفظ مع أنه غير مقصود ولا مراد واي تكليف ورد بمثل هذا واي شرع أو لغة أو عرف دل عليه فإن الالفاظ إنما هي قوالب المعاني ولا تراد لذاتها اصلا لا عند أهل اللغة ولا عند أهل الشرع فالمتكلم بلفظ الطلاق الصريح في معناه إذا لم يرد المعنى الذي وضع له ذلك اللفظ وهو فراق زوجته فهو كالهاذي الذي يأتي في هذيانه بألفاظ لا يريد معانيها ولا يقصد مدلولاتها. فالحاصل ان من لم يقصد معنى اللفظ لم يؤاخذ به وإن تكلم به الف مرة ومن زعم غير هذا فقد جاء لما لم يعقل ولا يطابق شرعا ولا عقلا ولا رايا قويا نعم إذا جاء في لفظه بما هو طلاق صريح وقال إنه لم يقصد معناه ولا أراد مدلوله كان مدعيا لخلاف الظاهر لأنه ادعى ما لا

يفعله العقلاء في غالب الاحوال ولكن لما كان القصد لا يعرف الا من جهته كان القول قوله مع يمينه إن خاصمته في ذلك امرأته أو احتسب عليه محتسب. وأما قوله: "إنشاء كان أو إقرارا أو نداء أو خبرا" فكل هذه إذا وقعت من الزوج قاصدا بها معانيها كان ذلك طلاقا بلا شك ولا شبهة لا إذا لم يقصدها كما عرفناك. قوله: "ولو هازلا". أقول: الهازل هو الذي تكلم باللفظ قاصدا لمعناه المراد منه ولكن أوقعه على طريقة الهزل ولم يوقعه على طريقة الجد أما لو لم يقصد به المعنى بكل تكلم باللفظ من غير قصد قط فإن هذا لا يصدق عليه أنه هازل وهذا ظاهر مكشوف ووجه وقوع الطلاق من الهازل ورود الشرع بذلك وهو ما أخرجه أحمد وأبو دأود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وأخرجه أيضا الدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة". وما قيل من أن في إسناده عبدا لرحمن بن حبيب بن اردك وقد قال النسائي إنه منكر الحديث فهو مدفوع بأنه قد وثقه غيره قال ابن حجر فهو على هذا حسن. وأخرج الطبراني من حديث فضالة بن عبيد بلفظ: "ثلاث لا يجوز فيهن اللعب الطلاق والنكاح والعتق" وفي إسناده ابن لهيعة. وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن عبادة بن الصامت بلفظ: "لا يجوز اللعب فيهن الطلاق والنكاح والعتاق فمن قالهن فقد وجبن" وإسناده منقطع. وأخرج عبد الرزاق عن أبي ذر "من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز" وفي إسناده انقطاع أيضا. وأخرج عبد الرزاق نحوه عن علي وعمر موقوفين. فالحديث المتقدم وما في معناه قد دل على وقوع هذه الثلاثة من الهازل ولولا ورود ذلك لم يقع بها شيء لأنه لم يخرجها مخرج القصد الصحيح والعزم المعتبر كما قال عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] . قوله: "أو ظانها غير زوجته". أقول: هذا بناء على ان مجرداللفظ يكفي كما سلف وقد عرفت أنه لا بد ان يقصد باللفظ أي لفظ كان فراق زوجته فالقاصد لغيرها فانكشف انها هي هو غير قاصد لفراق زوجته فلا يقع طلاقه عليها فإنه لم يوقعه عليها بل أوقعه على غيرها. وأما قوله: "أو بعجمي عرفه" فصحيح إذا كان عارفا بمعناه وقصد به فرقتها فليس الطلاق مختصا بألفاظ العرب. وأما قوله: "واللفظ والمعنى في كناية" فقد عرفت أنه لا فرق بين اللفظ الصريح والكناية لأنه إذا لم يكن قاصدا لمعناه لم يقع به الطلاق ولا فرق بين ان تكون الكناية بلفظ أو إشارة أو

كتابة إذا ليس المراد الا الافهام وهو يقع بجميع ذلك ولم يصب من قال إنه لا يقع الطلاق بالكناية. والحاصل أنه يقع الطلاق لكل لفظ أو نحوه يدل على الفرقة كائنا ما كان حيث كان مريدا للفرقة به فلا فائدة في تعداد الالفاظ. قوله: "وسنيه واحدة فقط في طهر". أقول: أما اشتراط كونها واحدة فليس في الاحاديث الصحيحية ما يدل عليه وأما ما روى من حديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ في كل قرء طلقة فلم يثبت ولا تقوم بمثله الحجة وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما طلق ابنه عبد الله امرأته وهي حائض: "مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا"، فقوله: "ثم ليطلقها" يدل على جواز الطلاق منه في تلك الحال كيف شاء واحدة أو أكثر. وهكذا سائر روايات الصحيحين فإنها مصرحة بلفظ الطلاق وهو لا يختص بالواحدة فله ان يطلقها في ذلك الطهر ثم يراجعها ثم يطلقها اخرى. وثبت في حديثه في الصحيحين [البخاري "5332" مسلم "1471"، وغيرهما [أبو داود "2179"، الترمذي "1175"، النسائي "6/137، 141"] ، أنه قال له: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها"، فدل على أنه إذا وقع الطلاق في الحيض فلا بد في طلاق السنة من ان تطهر في هذه الحيضة ثم ينقضى هذا الطهر والحيض بعده ويطلقها في الطهر الثاني فإن طلقها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها فيها لم يكن سنيا كما قال المصنف وفي طهر لا وطء فيه ولا طلاق ولا في حيضته المتقدمة الا ان اشتراط ان لا يكون وطؤها في هذا الحيض ليس في الادلة ما يدل عليه فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما عرف بان لا يطلقها في الطهر الذي وقع بعدالحيضة التي طلقها فيها. وأما قوله: "في حق غير الحائض المفرد فقط" فوجهه ان الذي انكره النبي صلى الله عليه وسلم هو ايقاع الطلاق في الحيض وهذه ليست بحائض ولم يدل دليل على كيفية الطلاق السني في حقها فكان ايقاع الطلاق عليها في أي وقت كان موافقا للسنة. وأما اشتراط ان تكون واحدة فقد قدمنا أنه لا يدل دليل على ذلك في الحائض ولا ورد ما يدل على اشتراطه في طلاق السنة في غير الحائض. ولا وجه لقوله: "وندب تقديم الكف شهرا" لأن الندب حكم شرعي فلا يثبت الا بدليل. وأما قوله: "ويفرق الثلاث" الخ فمبني على ان الطلاق لا يكون على السنة الا إذا كان مفردا وليس على ذلك دليل. وأما قوله: "وتخلل الرجعة". وقوله: "ويكفي في نحو انت طالق ثلاثا للسنة تخليل الرجعة" فمبني على ان الطلاق لا يتبع الطلاق وسيأتي البحث عنه إن شاء الله. قوله: "ويدعيه ما خالفه فياثم ثم يقع".

أقول: الذي دل على هذا الطلاق المسمى بطلاق السنة هو حديث ابن عمر الذي قدمنا ذكر بعض طرقه وقد ورد فيه في رواية في الصحيحين [البخاري "4908، 7160"، مسلم "4/1471"] ، وغيرهما [أحمد "2/26، 58، 81، 130"، الترمذي "1176"] : وكان عبد الله طلق تطليقة فحسبت من طلاقها. وفي رواية لمسلم وأحمد والنسائي أن ابن عمر كان إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم أما إن طلقت امرأتك مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم امرني بهذا وإن كنت قد طلقت ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت الله عز وجل فيما امرك به من طلاق امرأتك. وفي لفظ في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مره فليراجعها". وفي لفظ للبخاري عن ابن عمر أنه قال: "حسبت علي بتطليقه". فهذه الروايات تدل على وقوع البدعي وقد ذهب إلي ذلك الجمهور واستدل القائلون بعدم وقوعه بما أخرجه أحمد وأبو دأود والنسائي عن ابن عمر بلفظ فردها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئا ورجال هذا الحديث رجال الصحيح قال ابن حجر وإسناده هذه الزيادة على شرط الصحيح وقال ابن القيم إن هذا الحديث صحيح قال الخطابي قال أهل الحديث لم يرو أبو الزبير انكر من هذا الحديث وقد يحتمل ان يكون معناه ولم يرها شيئا يحرم معه المراجعة ولم يرها شيئا جائزا في السنة ماضيا في الاختيار. وقال ابن عبد البر قوله لم يرها شيئا منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله فكيف إذا خالفه من هو أوثق منه ولو صح فمعناه عندي والله أعلم ولم يرها شيئا مستقيما لكونها لم تكن على السنة. وقال أبو دأود بعد إخراجه لهذه الزيادة روى هذا الحديث عن ابن عمر جماعة واحاديثهم على خلاف ما قال أبو الزبير. وبهذا تعرف ان القول بوقوع البدعي ارجح ويؤيد هذا أنه أخرج ابن وهب في مسنده عن ابن أبي ذئب أنه قال في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وهي واحدة"، وقال ابن أبي ذئب وحدثني حنظلة بن أبي سفيان سمع سالما يحدث عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأخرجه الدارقطني عن يزيد بن هرون عن بن أبي ذئب وأبي اسحق جميعا عن نافع عن أبي عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هي واحدة". وأخرج الدارقطني أيضا من رواية سعيد عن أنس بن سيرين عن ابن عمر في القصة فقال عمر: يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: "نعم". وقد حررت هذا البحث في رسالة مستقلة. قوله: "ونقى أحد النقيضين إثبات للآخر". أقول: يعني حيث نفاهما معا فإن نفى الأول يكون اثباتا للآخر فإذا قال هي طالق لا

لبدعة ولا للسنة طلقت للسن والعكس للبدعة وانت خبير بأن هذا إن كان رجوعا إلي مدلول ما تكلم به فقد تكلم بما يفيد عدم وقوع الطلاق على كل حال لأنه قال لا كذا ولا كذا ومعنى هذا عدم الوقوع في كلا الحالتين وعلى كلا الوصفين المتقابلين وإن كان رجوعا إلي شيء آخر غير مدلول الكلام الذي تكلم به فما هو وللرجل ان ينفي الطلاق عن نفسه بأي عبارة أراد فكيف يكون نفيه البالغ المتضمن لرفع النقيضين أو الضدين موجبا لوقوع الطلاق. قوله: "ورجعيه ما كان بعد وطء على غير عوض مال وليس ثالثا". أقول: هذا الرسم للرجعي صحيح الا اشتراط الوطء ففيه ما فيه فإن الخلوة توجب العدة وكونه لا يثبت لزوجها عليها الرجعة فيها محتاج إلي دليل. وأما المختلعة فهي افتدت نفسها فلو كان له مراجعتها من جهة نفسه بدون اختيارها لكان ذلك خلاف ما هو مقصوده من الافتداء. وأما المثلثة فبنص القرآن وهكذا قوله وبائنه ما خالفه فإن الكلام فيه هكذا. قوله: "ومطلقه يقع في الحال وشروطه يترتب على الشرط". أقول: أما وقوع المطلق في الحال فظاهر لا يحتاج إلي ذكره لان تجرد اللفظ عن التقييدات يوجب ان يكون زمانه زمان التكلم به اذ هو مقتضى اللفظ ولا صارف يصرف عنه. وأما كون مشروطه يترتب على الشرط فظاهر ومن شكك في وقوع الطلاق المشروط فهو لم يأت في تشكيكه بطائل فإن التقييد بالشروط في الكتاب والسنة لا يحيط به الحصر فضلا عن كلام العرب وليس هذا التشكيك مختصا بالطلاق بل يجري في جميع الابواب وفي كل شرط مستقبل في اللغة العربية باسرها وهذا دفع للشرع بالصدر فضلا عن كونه ردا للغة العرب. قوله: "أو مشيئة الله". أقول: قد جاءت السنة الصحيحة بأن التقييد بالمشيئة يوجب عدم وقوع ما علق بها كمن حلف ليفعلن كذا إن شاء الله فإنه لا يلزمه حكم اليمين في هذا أو غيره فالمعلق للطلاق بالمشيئة إن أراد هذا المعنى لم يقع منه الطلاق وان أرادا لطلاق إن كان الله سبحانه يشاؤه في تلك الحال فإن كان ممسكا بها بالمعروف وهي مطيعة له فالله سبحانه لا يشاء طلاقها. وإن كان غير ممسك بالمعروف فقد أراد الله سبحانه منه في تلك الحالة ان يسرحها بإحسان كما قال في كتابه العزيز فمراده هو ما في كتابه من التخيير بين الامساك بالمعروف والتسريح بالاحسان. وإن أراد ما يريده غالب الناس من لفظ التقييد بالمشيئة فإنهم يريدون تأكيد وقوع ما قيدوه بها في الاثبات وتأكيد عدم وقوع ما قيدوه بها في النفي وقع الطلاق المقيد بالمشيئة لأنه قد أراد الفرقة بعبارة مؤكدة. وأما قوله: "وآلاته" الخ فالمصنف رحمه الله إنما اقتصر على هذه لكونها أمهات الات الشرط كما صرح هو بذلك.

قوله: "ولا يقتضي التكرار الا كلما". أقول: لهذا صحيح لانها تقتضيه لذاتها بخلاف عيرها فا متى لا تدل على تكرار كما يعلم من قول القائل متى جئتني اكرمتك فإنه لا يراد بهذا أنه يكرمه في كل وقت من أوقات مجيئه وأما كلما فإنها دالة على التكرار دلالة بينة واضحة ولا ترد لغيره الا لقرينة تصرفها عما هو اصلها وأما تكرر المعلق على علة بتكررها فهذا بحث آخر ليس المصنف بصدد بيانه. قوله: "ولا يقضتي الفور الا إن في التمليك". أقول: إن كان هذا الاقتضاء من هذا الحرف فهو محتاج إلي نقل عن أهل اللغة وإن كان ذلك بخصوص كونها في التمليك فلا شك أنه لم يرد ما يدل على الفور في مثل قول الرجل لامرأته طلقي نفسك إن شئت فإن المشيئة منها كما يصح اعتبارها في الحال يصح اعتبارها في الاستقبال وكذا قوله وغير ان وإذا مع لم فإنه لم يرد ما يدل على هذه الدعوى من شرع ولا لغة وان كان هذا الاقتضاء هو مجرد اصطلاح للمصنف وأهل محله فلا مشاحة في الاصطلاحات. قوله: "ومتى تعدد لا بعطف فالحكم للأول" الخ. أقول: ايقاع القيود بعدالكلام يوجب ان يكون كلها قيودا له فيقول القائل انت طالق إن أكلت إن شربت هو كقوله انت طالق إن أكلت انت طالق إن شربت فيقع الطلاق بواحد منهما فإن أكلت طلقت وإن شربت طلقت ولا فرق بين المتقدم في كلامه والمتأخر بل الاعتبار بما تقدم وقوعه من المرأة هكذا ينبغي ان يكون الكلام في هذا المقام. وأما مع العطف فيما اقتضاه العاطف من جمع أو ترتيب كان العمل عليه وهو ظاهر فالقائل انت طالق إن أكلت وشربت لا يقع طلاقه الا بمجموع الأكل والشرب وإن قال إن أكلت ثم شربت فلا يقع طلاقه الا بوقوع الأكل أولا ثم الشرب ثانيا وهكذا في التخيير تطلق بواحد منهما. [فصل ويصح التعليق بالنكاح والطلاق نفيا وإثباتا لواحدة أو اكثر وبالوطء فيقع بالتقاء الختانين والتتمة رجعة في الرجعي وبالحبل قيل ويكف بعد الانزال حتى يتبين وبالولادة فيقع بوضع متخلق لا وضع الحمل فبمجموعه وبالحيض فيقع برؤية الدم إن تم حيضا قوله فصل ويصح التعليق بالنكاح والطلاق] الخ. أقول: لا حاجة لذكر هذا الفصل فإنه يغني عنه ما تقدم من تجويز الطلاق المشروط ووقوعه عنه وقوع شرطه وهذه الصورة المذكورة في هذا الفصل هي داخلة تحت ذلك العموم فإن قول

الزوج إن نكحت فلانة أو طلقتها فأنت طالق وكذا قوله إن وطئتها وكذا قوله إن ولدت فأنت طالق وإن حضت فأنت طالق هي طلاقات مشروطة فهي داخلة فيما تقدم ولعله أراد ان يبين ما ذكره من ان التتمة رجعة في الرجعى وان الولادة تكون بوضع مولود متخلق ووضع الحمل لا يكون وضعا الا بوضع المجموع ولكن لا يخفاك ان بيان مثل هذه الامور لا يلجىء إلي هذا التكرار الطويل مع وضوح الامر في هذه الاشياء وعدم خفائها حتى يقتضي ذلك بيانها. [فصل وما علق بمضي حين ونحوه قيل وقع بالموت ومنه إلي حين ويقع بأول المعين وأول الأول إن تعدد كاليوم غدا ولو بتخيير أو جمع غالبا ويوم يقدم ونحوه لوقته عرفا وأول آخر اليوم وعكسه لنصفه أمس لا يقع وإذا مضى يوم في النهار لمجيء مثل وقته وفي الليل لغروب شمس تاليه والقمر لرابع الشهر إلي سبع وعشرين والبدر لرابع عشر فقط والعيد وربيع وجمادي وموت زيد وعمرو لأول الأول وقبل كذا للحال وبشهر لقبله به وقبل كذا وكذا بشهر لقبل أخرهما به ويدخله الدور ولا يصح التحبيس وهو متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا ومهما لم يغلب وقوع الشرط لم يقع المشروط وما أوقع على غير معين كإحداكن أو التبس بعد تعينه أو ما وقع شرطه أوجب اعتزال الجميع فلا خيرجن الا بطلاق فيجبر الممتنع فإن تمرد فالفسخ ولا يصح منه التعيين ويصح رفع اللبس برجعة أو طلاق] . قوله: فصل: "وما علق بمضى حين ونحوه" الخ. أقول: إن كان الحين مشتركا بي ما يطلق عليه من الحصص الزمانية فلا بد ان يريد واحدة منها ولا تطلق بمجرد وقوع اللحظة اليسيرة لانها أحد معاني الحين فهي كغيرها لا مرجع لها على ما هومن جملة معاني الحين حقيقة وإن كان لاحين حقيقة في واحد منها مجازا فيما عداه لم تطلق الا بالحين الحقيقي الا ان يكون مريدا للمجاز فله أرادته. وإن كان الحين مطلقا في أفراده يتنأولها على جهة البدل كرجل فإن أراد واحدا منها كان الطلاق واقعا بمضية وان لم يرد وقع الطلاق بما يصدق عليه ذلك المطلق وأول ما يصدق عليه اللحظة من الزمان. وأما قول المصنف: "ومنه إلي حين" فليس مراده ما يدل عليه لفظ إلي من كون الطلاق مغيا بغاية هي مضي الحين فإن هذه الأرادة لا تصدر من متشرع فضلا عن عالم فليس مراده الا ان إلي هنا بمعنى مع فكأنه قال انت طالق مع مضي حين فإذا مضى طلقت.

وأما قوله: "ويقع بأول المعين" فصحيح لان ذلك الوقت قد صار زمانا لوقوع الطلاق وليس بعضه أولى من بعض فتطلق لدخول ذلك الوقت المعين حيث لم يكن متعددا وبأول وقت يدخل من المتعدد وإن كان الظاهر أنه قد جعل المتعدد وقتا للطلاق فيرجع إلي أرادته إن كان له أرادة كان العمل عليها وإن كان لا أرادة له فكما قدمنا أنه في حكم الواحد فيقع بدخول جزء من الوقت. وأما التخيير فالظاهر أنه لا جزم بوقوع الطلاق في احدهما فإذا قال: أنت طالق اليوم أو غدا فإن كان له أرادة كان العمل عليها وإن لم تكن له أرادة فلا يقع بمضي اليوم طلاق بل لا يقع الا بدخول جزء من الغد لعدم استقرار الكلام مع حرف التخيير فإنه إنما يكون للشك أو التشكيك. وما الجمع نحو ان يقول انت طالق اليوم وغدا فإنه قد صار الجمع كالوقت الواحد لما يقتضيه حرف الجمع ويقع بدخول جزء من اجزاء الأول. وأما قوله: "ويوم يقدم ونحوه لوقته عرفا" فهذا صحيح إن كان ثم عرف وإلا فالظاهر انها تطلق بأول جزء من اليوم الذي قدم فيه ويكون قدومه كاشفا عن وقوع الطلاق في أول اليوم. وأما قوله: "وأول آخر اليوم وعكسه لنصفه" فالظاهر أن آخر اليوم وهو آخر اجزائه فتطلق في أول هذا الجزء ولا يتحقق وقوع هذا الطلاق الا بانقضاء اليوم كله وتطلق في العكس عند مضى جزء من أول اليوم. لانه يصدق بمضي ذلك الجزء أنه آخر أول اليوم. وأما كون امس لا يقع فظاهر لأنه قد انقضى فلم يبق منه ما يكون وقتا لوقوع الطلاق. وأما قوله: "وإذا مضى يوم في النهار فلمجيء مثل وقته" فالظاهر أنه لا بد من مضي يوم مستقل من غير اعتبار الكسر لان هذا هو المعنى الحقيقي فلا تطلق الا بمضي اليوم المستقبل كله كما لو قال ذلك وهو في الليل. وأما قوله: "والقمر لرابع الشهر" الخ فإن كان هذا مدلوله اللغوي فلا باس به وإلا فالظاهر أن يقال له قبل الكمال هلال وهكذا اختصاص البدر بليلة رابع عشر إن كان ذلك مدلولا لغويا فلا بأس والا فالظاهر أنه يقال له بدر ما بقي كاملا: توفي البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل وأما قوله: "والعيد وربيع وجمادي" الخ فليس لذكر هذا فائدة يعتد بها بعد قوله ويقع بأول المعين وأول الأول. وأما قوله: "وقبل كذا للحال" فصحيح لأن وقت التكلم هو أول الأوقات القبلية وليس المراد القبلية المطلقة والا لزم ان لا يقع الطلاق بل يكون كقوله انت طالق امس ووجهه أن هذه القبلية لذلك الامر الذي سماه كائنة قبل التكلم. وأما قوله: "وقيل كذا وكذا بشهر لقبل آخرهما به" فالظاهر ان القبلية المنسوبة إلي الشيئين

المذكورين تكون قبل أولهما ولا وجه لجعلها مختصة بقبلية الاخر فإذا دخل أولهما وقد مضى من وقت التكلم شهر فصاعدا كشف عن وقوع الطلاق قبله الشهر وأما إذا دخل أولهما قبل مضى شهر فالظاهر عدم وقوع الطلاق كما لو قال انت طالق امس. قوله: "ويدخله الدور". أقول: الدور هو عدم تناهي التوقفات في أمور متناهية كأن يتوقف كل واحد من الامرين على الاخر مثلا فلا ينجز واحد منهما لأنه متوقف على الاخر والاخر متوقف عليه فهذا المطلق الذي جاء في طلاقه بما يقتضي الدور لم يرد ايقاع الطلاق فلا يقع طلاقه لعدم أرادته ولعدم اقتضاء ما جاء به من الدور للوقوع فمن قال إنه يقع الطلاق المشتمل على الدور فهو لم يصب لأنه إن أراد وقوعه من حيث الصيغة فهي متمانعة كما هو شأن الدور وإن أراد وقوعه من حيث الأرادة فهو بحث آخر. وأما قوله: "ولا يصح التحبيس" فهو راجع على ما قدره من أنه يدخله الدور بالنقض لأنه صادق على التحبيس معنى الدور فإن قوله في مثاله وهو تى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا قد جعل هذا الطلاق متوقفا على وقوع الثلاث ووقوع الثلاث متوقفا على وقوع الطلاق وهذا هو الدور لصدق حقيقته التي قدمنا ذكرها عليه فلا عذر لمن قال بأنه يدخل الطلاق احدهما ان يقول بعدم دخول الاخر. ومن قال بعدم دخول الطلاق احدهما ان يقول بدخول الاخر والحاصل ان الطلاق الذي وقع على هذه الصفة ينبغي الرجوع إلي مدلول لفظه وقد وجدنا اللفظ الذي جاء به متمانعا لا يقع بعضه الا بوقوع البعض الاخر فلا يجوز لنا ان نحكم بالوقوع لأنه حكم على الزوج بغير ما تكلم به وتفويت لزوجته وإخراج لها من عقد نكاحه بغير صدور ما يدل على ذلك منه فالحكم بالوقوع فيه ظلم له من هذه الحيثية. وأما استدلال من ابطل الدور والتحبيس بأن ذلك بدعة وأنه على غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يلزم منه ان يمتنع منه إيقاع الطلاق عليها دائما وهو مأذون به فهو استدلال لشيء آخر وقد عرفت ان الله سبحانه جعل الطلاق بيد الازواج فلهم ان يطلقوا متى شاءوا ولهم ان لا يطلقوا ابدا وهذا الذي جاء بالدور قد أراد ان لا يطلق أبدا فما المانع من هذا؟ قوله: "ومهما لم يغلب وقوع الشرط لم يقع المشروط". أقول: الاصل عدم الوقوع فلا يقع الطلاق الا إذا تيقن وقوع الشرط ولا يكفي مجرد الظن وإنما اعتبره المصنف هنا لما سيأتي من أنه يكفي الظن الغالب في النكاح تحريما ولكن الذي ينبغي ها هنا ان لا ينتقل عن الاصل الذي هو عدم وقوع الشرط الا بعلم لا بظن. قوله: "وما أوقع على غير معين" الخ. أقول: هذه الصور ينبغي تحقيق الكلام فيها بما يظهر به الصواب إن شاء الله. أما الصورة الأولى أعني قوله: "وما أوقع على غير معين فإحداكن" فالمتكلم بهذا اللفظ مخاطبا به زوجاته قد أراد ايقاع الطلاق على واحدة منهن غير معينة ولم يجعل لنفسه في الامر

سعة فلا وسع الله عليه قد صارت احداهن طالقا بيقين وكل واحدة يحتمل ان تكون هي المرادة وان تكن غير المرادة فلا تحل له واحدة منهن الا بعد رجعة في الطلاق الرجعى لكل واحدة وللواحدة التي ابهمها ولكن تحسب هذه طلقة على كل واحد ولا وجه ها هنا للرجوع إلي البراءة فقد وقع منه طلاق واحدة بيقين وعدم تعينها لا يستلزم عدم وقوع ذلك الطلاق لا عقلا ولا شرعا ولا لغة ولا عرفا. وهكذا الكلام في الصورة الثانية أعني قوله: "أو التبس بعد تعيينه" بل الوقو في هذه الصورة اظهر من الوقوع في الصورة التي قبلها لانها قد طلقت واحدة منهم معينة بيقين. وأما الصورة الثالثة اعني قوله: "وما وقع شرطه" فإن كان ذلك الشرط دائرا بين نقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان وهي القضية المانعة للجمع والخلو معا نحو ان يقول لشبح رآه إن كان هذا حيوانا فزينب طالق وإن كان غير حيوان ففاطمة طالق والتبس بعد ذلك ما هو فمعلوم أنه قد وقع الطلاق على إحداهما وتكون هذه الصورة مثل الصورتين الأوليين. وأما إذا كان ذلك الشرط دائرا بين شيئين غير متناقضين كأن يقول إن كان هذا الطائر غرابا فزينب طالق وإن كان حدأة ففاطمة طالق فلا يقع الطلاق ولا يجب عليه الاعتزال لأنه يجوز ان يكون ذلك الطائر غير الغراب وغير الحدأة. ولعل المصنف لا يريد الا المثال الأول في هذه الصورة لا المثال الثاني فعرفت بهذا صحة ما ذكره من وجوب الاعتزال وصحة قوله فلا يخرجن الا بطلاق وهكذا لا يرجعن إلي نكاحه الا برجعة لمن وقع عليها الطلاق أو لكل واحدة إذا كان الطلاق رجعيا أو بعقد على المبهمة أو على كل واحدة إذا كان الطلاق بائنا. وأما قوله: "فيجبر الممتنع فإن تمرد فالفسخ" فصواب لانهن قد صرن معلقات عن النكاح مع حصول الاضرار بهن بالاعتزال فإذا لم يطلق كان الفسخ من الحاكم هو الواجب عليه دفعا لما صرن فيه من الضرار مع حبسهن عن الازواج. وأما قوله: "ولا يصح منه التعيين" فإن كان هذا التعيين لامر اقتضى ارتفاع اللبس فكيف لا يقبل منه التعيين عند حصول مقتضيه وزوال مانعه هـ وإن كان التعيين منه لا لارتفاع سبب اللبس بل مجرد التشهي فلا وجه له ولا يصح بحال. وأما قوله: "ويصح رفع اللبس برجعة أو طلاق" فظاهر. [فصل ولا يجوز التحليف به مطلقا ومن حلف مختارا أو مكرها ونواه حنث المطلق ليفعلن بموت أحدهما قبل الفعل والمؤقت بخروج آخره متمكنا من الحنث والبر

ولم يفعل ويتقيد بالاستثناء متصلا غير مستغرق ولو بمشيئة الله تعالي أو غيره فيعتبر المجلس وغير وسوى للنفي والا له مع الاثبات وقيل الا ان للفور] . قوله: فصل: "ولا يجوز التحليف به مطلقا". أقول: لا يجوز التحليف به ولا بغيره والحلف إنما هو بالله عز وجل وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله وأمر بالحلف به والاحاديث في هذا الباب كثيرة. وأما قوله: "ومن حلف مختارا أو مكرها ونواه حنث" فاعلم ان إيقاع الطلاق على الزوجة قد يكون بإنشاء لفظ يدل عليه أو بالاخبار عن وقوع طلاق منه متقدم أو بالشرط نحو إن دخلت الدار فأنت طالق. وأما قول القائل: عليه الطلاق أو يلزمه الطلاق ونحو ذلك فليس من ذلك في شيء ولم يجعله الله على رجل طلاقا ولا ألزمه احدا من عباده به ولا يصح من العبد ان يجعل على نفسه غير ما جعله الله عليه ويلزمها غير ما الزمه الله به وهو لم يكن مريدا بالحلف بالطلاق فراق زوجته وإخراجها من حباله حتى يكون هذا اللفظ بمنزلة كنايات الطلاق بل هو لم يرد الا تأكيد وقوع ما حلف على وقوعه أو تأكيد نفي ما حلف على نفيه فمن قال عليه الطلاق ليفعلن كذا أو عليه الطلاق ما فعل كذا أو يلزمه الطلاق ليفعلن أو ما فعل فليس المراد له والمقصود منه عند التكلم بهذا الكلام الا وقوع ذلك الامر أو عدم وقوعه ولكنه أراد ان يشعر السامع بحرصه وتكالبه على الوقوع أو عدمه. وإذا تقرر لك هذا علمت ان وقوع الطلاق بمجرد الحلف به في حيز الاشكال لأنه إلزام نفسه بما لا يلزمها لا من جهة الشرع ولا من جهة الشخص نفسه ولم يكن في لفظه ما يدل على الفرقة ولا ظهر منه حال الحلف أنه مريد للطلاق بهذا اللفظ الذي جاء به حال التكلم به ولا أنه مريد له في المستقبل لأنه بصدد الاخبار بحرصه على وقوع ما حلف عليه بالطلاق أو عدم وقوعه. وبالجملة فليس في الشرع ما يدل على وقوع هذا الطلاق ولا في اللفظ ولا في القصد فتدبر هذا. قوله: "ويتقيد بالاستثناء". أقول: هذا صحيح ولا يحتاج إلي التنصيص عليه فكل كلام إذا قيد بقيد كان ذلك القيد معتبرا من غير فرق بين الاستثناء وغيره ولا بد ان يكون الاستثناء متصلا غير مستغرق كما قال. وأما قوله: "ولو بمشيئة الله تعالي" فقد قدمنا الكلام على ذلك وهكذا التعليق بمشيئة غير الله سبحانه فإن الاعتبار بما يختاره حال التكلم بهذا الكلام والتشكيك في مثل هذا هذيان لا يلتفت اليه. وأما قوله: "وغير وسوى للنفي" فمسلم ان أراد الدلالة المنطوقية لا إذا أراد مطلق الدلالة

فإنهما يدلان بمفهومها على إثبات المقدار الذي توجها إلي نفي ما عداه وإن كانت دلالة الا أوضح من دلالتهما على ذلك. وأما قوله: "قيل: وإلا للفور" فغير مسلم لان الصيغة لا دلالة لها على ذلك وأما مجرد الأرادة والاعراف فباب آخر. [فصل ويصح توليته أما بتمليك وصريحه ان يملكه مصرحا بلفظه أو يأمر به مع إن شئت ونحوه والا فكنابة كأمرك أو امرها اليك أو اختاريني أو نفسك فيقع واحدة بالطلاق أو الاختيار في المجلس قبل الاعراض الا المشروط بغير إن ففيه وبعده ولا رجوع فيهما ولا تكرار الا بكلما وأما بتوكيل منه ان يأمر به لا مع إن شئت ونحوه فلا يعتبر رالمجلس ويصح الرجوع قبل الفعل ما لم يحبس الا بمثله ومطلقه لواحدة على غير عوض ويصح تقييده وتوقيته والقول بعد الوقت للأصل في نفي الفعل لا حاله فللوكيل] . قوله: فصل: "ويصح توليته" الخ. أقول: الطلاق لما كان إلي الزوج كان له ان يجعله بيد غيره ولا مانع من ذلك لا من شرع ولا من عقل ولا من لغة فله ان يأمر من يطلق عنه بأي لفظ كان ومن ذلك ان يقول لزوجته امرك اليك أو يقول لغيرها امرها اليك أو يقول للمرأة اختاريني أو نفسك وقد ثبت أصل التخيير في كتاب الله سبحانه فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 28،29] ، ثم لما نزلت هذه الآية خير النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته وخاطب كل واحدة منهن بذلك كما في الصحيحين [البخاري "9/367"، مسلم "27/1477"] ، وغيرهما [أبو داود "2203"، الترمذي "1179"، النسائي "6/161"، ابن ماجة "2052"] . وأما كونه لا يقع واحدة بالطلاق ممن جعل الزوج الامر اليه أو بالاختيار من الزوجة فظاهر لأن المطلق ينصرف إلي ذلك ويصدق بالواحدة الرجعية. وأما اشتراط ان يكون ذلك في المجلس فلا دليل يدل عليه بل الظاهر أنه يصح وإن طال الوقت ما لم يحصل الاضراب المشعر بعدم القبول. وأما كونه لا يصح الرجوع من الزوج فلكونه قد صرف عن نفسه امرا هو اليه فصار الغير مسلطا عليه ويمكن ان يقال إنه إذا رجع قبل الفعل فالرجوع صحيح إلا أن يمنع عنه مانع شرعي أو عقلي ولا مانع هنا ولم يكن قد وقع الفعل فكان الرجوع في محله.

وأما قوله: "ولا تكرار الا بكلما" فلما قدمنا قريبا. وأما قوله: "وأما بتوكيل ومنه ان يأمر به لامع إن شئت ونحوه" فلا يعتبر المجلس فلا يخفاك أنه لا فرق بين التمليك والتوكيل في عدم اعتبار المجلس ولا يظهر للفرق وجه يعتد به. وأما قوله: "فيصح الرجوع" فوجهه ان للموكل عزل الوكيل متى شاء الا ان يأتي بما يمنع لرجوع كالتحبيس. وأما كون مطلقه لواحدة على غير عوض مال فلما قدمنا. وأما كونه يصح تقييده وتوفيته فظاهر لان للموكل ان يامر الوكيل بما أراده وأما كون القول بعدالوقت للأصل في نفي الفعل فلكون الاصل عدمه لا في الوقت فإن الظاهر مع الوكيل.

باب الخلع

[باب الخلع أما يصح من زوج مكلف مختار أو نائبه بعقد على عوض مال أو في حكمه صائرا أو بعضه إلي الزوج غالبا من زوجته صحيحة التصرف ولو محجورة ناشزة عن شيء مما يلزمها له من فعل أو ترك أو من غيرها كيف كانت مع القبول أو ما في حكمه في مجلس العقد أو الخبر به قبل الاعراض فيهما كأنت كذا على كذا فقبلت أو الغير أو طلقني أو طلقها على كذا فطلق أو شرطه كإذا كذا أو طلاقك كذا فوقع ولو بعد المجلس فيجبر ملتزم العوض في العقد والزوج على القبض فيهما ولا ينعقد بالعدة ولا تلحق الاجازة الا عقده] . قوله: باب: "الخلع إنما يصح من زوج". أقول: أما كونه لا يصح الا من زوج مكلف مختار فظاهر لما قدمناه وكذلك يصح من نائبه لما سلف. وأما قوله: "بعقد" فليس لهذا حاجة بل المراد حصول التراضي بأي لفظ كان وعلي أي صفة وقع. وأما كونه على عوض مال أو في حكمه فلما تقدم في المهور لانها تفتدى نفسها بما صار اليها أو بعضه كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "ردي عليه حديقته" [البخاري "9/395"] . وأما اشتراط النشوز منها فلقوله عز وجل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، فقيد سبحانه حل الافتداء بمخافتهما الا يقيما حدود الله وظاهر الآية ان الخلع لا يجوز

إلا بحصول المخافة منهما جميعا بأن يخاف الزوج ان لا يمسكها بالمعروف وتخاف الزوجة أن لا تطيعه كما يجب عليها. ولكنه لما ثبت حديث ابن عباس عند البخاري وغيره ان امراة ثابت بن قيس بن شماس جاءت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني ما اعتب عليه في خلق ولا دين ولكني اكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته"، قالت نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"، دل ذلك على ان المخافة لعدم إقامة حدود الله من طريقها كافية في جواز الاختلاع. ولا ينافي جواز الاختلاع الاحاديث الواردة في اثم المختلعات فإن ذلك محمول على الكراهة فقط لتصريح القرأن الكريم والسنة بجواز ذلك. وأما قوله: "أو من غيرها كيف كانت" فوجهه ان العوض لما كان من غيرها لم يشترط فيها ما يشترط حيث العوض منها ولكن كون هذا خلعا تثبت به أحكامه غير مسلم. وأما قوله: "مع القبول أو الامتثال أو ما في حكمه" فالمراد ما يشعر بالرضا بذلك كما تقدم. وأما المعاقدة العرفية والمحافظة على ما يفيدها فليس ذلك الا مجرد رأي فلا تشتغل بالكلام على ما تفرع على هذا إلي آخر الفصل. [فصل ولا يحل منها أكثر مما لزم بالعقد لها ولأولادها منه صغار ويصح على ذلك ولو مستقبلا وعلى المهر أو مثله كذلك فإن لم يكن قد دخل رجع بنصفه ونحو ذلك] . قوله: فصل: "ولا يحل منها أكثر مما لزم بالعقد" الخ. أقول: ظاهر القرآن يدل على هذا فإنه سبحانه قال: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229] إلي آخر الآية فإنها واردة في اخذ الزوج لشيء مما اتاها فإذا اخذ منها زيادة على ما أتاها فقد خالف ما في الكتاب العزيز. ويدل على هذا أيضا ما أخرجه ابن ماجه بإسناد رجاله رجال الصحيح الا ازهر بن مروان وهو مستقيم الحديث من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال لامرأة ثابت بن قيس: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم وازيده فامره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ حديقته ولا يزداد وأخرجه أيضا النسائي "6/169"، والبيهقي. وأخرج الدارقطني عن أبي الزبير ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "أما الزيادة فلا ولكن حديقته".

قالت: نعم فاخذها قال الدارقطني وقد سمعه أبو الزبير من غير واحد انتهى وإسناده إلي أبي الزبير صحيح. ولا يعارض الدلالة القرآنية وما ذكرناه عنه صلى الله عليه وسلم ما روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال كانت اختي تحت رجل من الانصار فارتفعا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "أتردين عليه حديقته؟ "، قالت: وأزيده فخلعها فردت عليه حديقته وزادته فإن إسناد هذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة مع كونها زادته من قبل نفسها فلا حجة في ذلك. وأما قوله: "ولأولاد منه صغار" فوجهه أنه من جملة ما أتاها ولكن لا يخفى ان المراد بما أتاها ما جعله صداقا لها فقط فلا يدخل في ذلك ما سلمه لسبب آخر من نفقة أو كسوة لها أو لأولادها أو أجرة حضانة أو نحو ذلك. وأما قوله: "ويصح على ذلك..... إلي آخر الفصل" فظاهر. [فصل ويلزم بالتغرير مهر المثل ولا تغرير إن ابتدأ أو علم وحصة ما فعل وقد طلبته ثلاثا أولها وللغير حسب الحال وقيمة ما استحق وقدر ما جهلا سقوطه أو هو وهي المبتدئة وينفذ في المرض من الثلث ولها الرجوع قبل القبول في العقد لا في الشرط ويلغو شرط صحة الرجعة] . قوله: "ويلزم بالتغرير مهر المثل". أقول: الزوجة إذا غررت على زوجها كأن تقول له طلقني على ما في هذا المكان فطلقها عليه ثم انكشف أنه لم يكن في ذلك المكان شيء فالطلاق غير واقع لأنه أوقعه مقيدا بقيد وهو العوض الذي غررت به ولم يوقعه مطلقا فلا يصح في هذا طلاق خلع ولا غير خلع ولو قدرنا أنه قد صح الطلاق ولزمها ما غررت به لم يكن للرجوع إلي مهر المثل وجه بل ينبغي الرجوع إلي المقدار الذي يكون به الاختلاع في العرف الغالب لأنه المقصود لهما. وأما قوله: "ولا تغرير إن ابتدأ" فغير مسلم لأنه إذا كان الابتداء منه مقتضيا لعدم التغرير منها فإنه إنما طلق إلي مقابل مال في ظنه فلا يقع الطلاق إذا لم يكن ثم مال كما تقدم. وأما إذا علم بأنه لاشيء فقد رضي لنفسه بايقاع الطلاق بلا عوض. وأما قوله: "وحصة ما فعل وقد طلبته ثلاثا" فظاهر وهكذا ما بعده. وأما قوله: "وينفذ في المرض من الثلث" فسيأتي البحث في الوصايا وهو شامل لهذه المختلعة ولغيرها.

وأما قوله: "ولها الرجوع" الخ فإذا لم يقع الرضا من الزوج كان لها ذلك وهكذا إذا لم يكن قد ظهر منه ما يدل على الرضا فلها ذلك من غير فرق بين عقد وشرط. وأما قوله: "ويلغو شرط صحة الرجعة" فلكون مقتضى الخلع هو عدم صحة الرجعة وان الامر مفوض إلي اختيار المراة لانها لم تفتد بمالها الا لهذا المقصد ولو علمت أنه يفارقها في هذا الوقت ويراجعها في الوقت الثاني شاءت ام ابت لم ترض بما افتدت به فإن ذلك لا يفعله عاقل فليس هذا من الشروط الشرعية بل من الشروط التي يراد بها المخادعة والمخالفة لما شرعه الله. [فصل وهو طلاق بائن يمنع الرجعة والطلاق ولفظه كناية ويصير مختله رجعيا غالبا ويقبل عوضه الجهالة ويتعين أوكس الجنس المسمى ويبطل الخلع ببطلانه غير تغرير لا الطلاق قوله فصل وهو طلاق بائن] الخ. أقول: قد استدل على كونه طلاقا بما تقدم عند البخاري من حديث ابن عباس بلفظ وطلقها تطليقة ومعلوم ان هذه الطلقة الواقعة منه لها حكمها ولا ينافي ما في هذا الحديث ما وقع من حديث الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لثابت بن قيس: "خذ الذي لك عليها وخل سبيلها"، كما أخرجه النسائي بإسناد صحيح لان تخلية السبيل كناية عن الطلاق فلا اشكال من هذه الحيثية وإنما الاشكال فيما قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: "أنها تعتد بحيضة"، كما في حديث الربيع المذكور فإنه صلى الله عليه وسلم: "أمرها ان تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها"، وكذلك في حديث ابن عباس عند أبي دأود والترمذي وحسنه وفيه فأمرها صلى الله عليه وسلم ان تعتد بحيضة وهكذا في حديث آخر عن الربيع أخرجه الترمذي وفيه: فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة. فهذه الاحاديث تدل على أنه فسخ لا طلاق لأن الطلاق حكمه ما ذكره الله سبحانه بقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، ومن جملة ما استدلوا به على أنه فسخ لا طلاق قوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، ثم ذكر سبحانه الافتداء ثم عقبه بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، قالوا: ولو كان الافتداء طلاقا لكان الطلاق الذي لا تحل فيه الا بعد زوج هو الطلاق الرابع. والذي ينبغي الجمع به هو ان عدة هذه الخلع حيضة لا غير وليس غير سواء كان بلفظ الطلاق أو بغيره مما يشعر بتخلية السبيل أو بتركها وشأنها من دون ان يجرى منه لفظ قط ويكون الوارد في هذا الطلاق الكائن في الخلع مخصصا لما ورد في عدة المطلقة فتكون عدة الطلاق

ثلاثة قروء الا إذا كان الطلاق مع الافتداء فإنه حيضة واحده لا تحسب عليه طلقة الا إذا جاء بلفظ الطلاق أو بما يدل عليه لا إذا لم يقع منه لفظ البتة بل تركها وشأنها فإن هذا لا يحسب عليه طلاقا. وبهذا التقرير تجتمع الادلة ويرتفع الاشكال على كل تقدير. وأما كونه يمنع الرجعة فلما قدمنا في الفصل الأول فلا نعيده. وأما كونه يمنع الطلاق فمبنى على أنه طلاق وعلى ما سيأتي من ان الطلاق لا يتبع الطلاق وستعرف ما هو الحق في ذلك إن شاء الله. وأما كون لفظه كناية إذا قال به لزوجته من دون مال منها فإذا أراد به الطلاق كان طلاقا لعدم انحصار الصيغ التي يكون بها الطلاق. قوله: "ويصير مختله رجعيا". أقول: ليس المعتبر في صحة الخلع الا ما ذكره الله عز وجل من وقوع المخافة من الزوجين ان لا يقيما حدود الله فإذا حصل ذلك ووقع منها الافتداء طيبة به نفسها فهذا هو الخلع الذي شرعه الله عز وجل وإذا وقع على غير هذا الوجه كأن تكون الزوجة مكرهة أو الزوج مكرها أو كان احدهما صغيرا فهذا ليس هو الخلع الذي اذن الله به فلا يصح من الاصل ولا يصير رجعيا لان ايقاع الطلاق إنما كان إلي مقابل المال الذي افتدت به المراة فإذا وجد مع كونهما مكلفين مختارين خائفين ان لا يقيما حدود الله فهو خلع بأي صيغة كان وعلي أي صفة وقع وإن أختل أحد هذه الامور فلا يكون خلعا ولا يثبت به طلاق لا بائن ولا رجعي. ولا يعتبر في صحة الخلع صدور النشوز من المراة بالفعل أو عدم إحسان العشرة من الزوج بالفعل بل المراد حصول مجرد المخافة فإن كان قد وقع ما خافاه أو احدهما وجازت المخالعة بفحوى الخطاب. وأما قوله: "ويقبل عوضه الجهالة" فإذا خالعها على شيء مجهول القدر أو الجنس ورضيا بذلك ثبت الخلع ويلزمها تسليم أوسط الجنس المسمى لا اعلاه ولا أدناه فهذا هو الذي ينبغي اعتماده ولا يتم العدل بينهما الا به. وأما قوله: "ويبطل الخلع" الخ فقد تقدم له ما يغني عن ذكره هنا. [فصل والطلاق لا يتوقت ولا يتوإلي متعدده بلفظ أو الفاظ ولا تلحقه الاجازة لكن يتم كسره ويسرى وينسحب حكمه ويدخله التشريك والتخيير غالبا ويتبعه الفسخ لا العكس ويقع المعقود وعلى غرض بالقبول أو ما في حكمه في المجلس قبل الاعراض ولا ينهدم الا ثلاثة

ولا شرطه الا معها فينهدم ولو بكلما ولا ينهدمان الا بنكاح صحيح مع وطء في قبل ولو من صغير مثله يطأ أو مجبوب غير مستأصل أو في الدمين أو مضمر التحليل وينحل الشرط بغير كلما م ومتى بوقوعه مرة ولو مطلقة] . قوله: فصل: "والطلاق لا يتوقت". أقول: مراده أنه لا يصح إيقاع الطلاق مؤقتا بوقت محدود كأن يقول انت طالق شهرا أو سنة لا إذا قال: أنت طالق في الشهر الفلاني أو في أول سنة كذا فإن هذا صحيح. وأما قوله: "ولا يتوإلي متعدده" فاعلم ان البحث في هذه المسألة يطول إذا اردنا استيفاء ما احتجت به كل طائفة وما اجيب به عليها وقد افردنا ذلك برسالة مستقلة وذكرنا في شرحنا للمنتقى ما ينتفع به الناظر فيه وينشرح له قلبه. والحاصل ان ها هنا حجة تأكل الحجج ودليلا لا يقوم له شيء مما أورد في هذا المقام وهو حديث ابن عباس الثابت في صحيح مسلم وغيره قال كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه اناة فلو امضيناه عليهم فأمضاه عليهم. فإذا كان هذا هو الطلاق الكائن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به الصحابة من بعده زيادة على اربع سنين فأي دافع يدفع هذه الحجة واي معارض يقوم بمعارضتها. وجميع ما جاءوا به من الاجوبة قد دفعناه في شرحنا المشار اليه ولكن لما كان القول بالتتابع هو الذي ذهب اليه أهل المذاهب الاربعة وقع الاستكثار من المجأولة والمجادلة والامر اقرب من ذاك والحق بين المنار واضح السبيل على ان الادلة الدالة على ما في حديث ابن عباس هذا هي ارجح وأصرح من الادلة المخالفة له كما يعرف ذلك من انصف ولم يتعسف. وأما ما قيل من التشكيك في لفظ التوالي الواقع في عبارة المصنف فهذيان غريب. وأما قوله: "ولا تلحقه الاجازة" فلا وجه له بل الظاهر ان قول الزوج عند سماع الطلاق لزوجته من فضولي اجزت ذلك هو بمنزلة ابتداء الطلاق وقد عرفناك ان الطلاق يقع بأي لفظ كان وعلى أي صيغة وقع إذا أراد به الزوج الفرقة. وأما تعليلهم لعدم الوقوع بأن الاجازة لا تلحق الاستهلاكات فدعوى على دعوى ورأى بحث على راى بحث ولا يغني ذلك من الحق شيئا. قوله: "لكن يتم كسره". أقول: إذا قال: أنت طالق نصف طلقة وأراد إيقاع هذا القدر عليها فقط فلا يقع الطلاق اصلا لأنه لم يرد الطلاق الشرعي الذي اذن الله به ولا أراد الفرقة الخالصة التي هي معنى الطلاق فالحكم عليه بالطلاق لم يستند إلي لفظ تكلم به ولا إلي قصد قصده.

وهكذا قوله: "ويسرى" لا وجه له لمثل ما ذكرنا وهكذا ما ذكره من الانسحاب فإنه ابعد عن صوب الصواب. وأما قوله: "ويدخله التشريك" فإن أراد أن إحدى زوجتيه مشاركة للأخرى التي أوقع عليها الطلاق وان ذلك الذي أوقعه مشترك بينهما فقد عرفت ما قلناه في كسر الطلاق وهذا منه. وإن أراد ان الاخرى طالق مع الأولى أو كما طلق الأولى فهذا صحيح لانه قد جاء بما يدل على فراق الأولى قاصدا لفراقها ثم تكلم آخرا بما يفيد ان االاخرى قد فارقها كما فارق الأولى. وأما قوله: "والتخيير" فلا حكم له لأن التخيير في الطلاق بين هذه أو هذه لم يستقر على واحده منهما معينة ولا مبهمة فلا يقع بخلاف ما قدمنا في قوله وما أوقع على غير معين كإحداكن فإنه جازم هنا بطلاق واحدة مبهمة فقد صارت أحداهن مطلقة وهكذا ما التبس بعد تعيينه وبهذا تعرف الفرق بن هذا التخيير وبين ما تقدم. وأما كونه يتبعه الفسخ فمحتاج إلي دليل لان المحل قد صار غير قابل فلا فرق بين الطرد والعكس. وأما اعتبار المجلس في المعقود على مال فقد عرفناك ما هو الصواب فيما تقدم. قوله: "كولا ينهدم الا ثلاثة". أقول: وجه تخصيص الانهدام بالثلاث لا بما دونها انها مورد النص فإن الله سبحانه قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، أي فإن طلق مرة ثانية من طلقها مرتين فلا تحل له بعد هذا التثليث حتى تنكح زوجا غيره فإن نكحت زوجا غيره حلت له والظاهر انها تحل له حلا مطلقا فيملك عليها من الطلاق ما يملكه لو نكحها ابتداء. وإذا عرفت ان التثليث هو مورد النصف فاعلم أنه لم يرد في شيء من الكتاب والسنة ما يدل على انها إذا نكحت زوجا غيره بعد طلقة أو تطليقتين ان الطلقة أو الطلقتين يكون لها حكم الثلاث في الانهدام لكن ها هنا قياس قوي هو القياس الذي يسمونه قياس الأولى وتارة يسمونه فحوى الخطاب فإنه يدل على ان انهدام ما دون الثلاث مأخوذ من الآية بطريق الأولى ويعضد هذا ان الاحتساب بما وقع من طلاق الزوج عليها بعد ان نكحت زوجا غيره خلاف ما يوجبه الحل المفهوم من قوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] ، فإن ظاهره انها تحل له الحل الذي يكون للزوج على زوجته لو تزوجها ابتداء. وأما انهدام الشرط فالظاهر أنه ينهدم بنكاحها للغير سواء كان ذلك بعد طلاق الثلاث أو بعد اقل منها لانها لما تزوجت بالغير كان هذا الشرط في حكم العدم ودخلت تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل نكاح"، [أبو داود "2190"، الترمذي "1181"، ابن ماجة "1/660"، أحمد "2/189، 190، 207"] ، ولو قلنا إنه يقع الطلاق بوقوع الشرط إذا صادف كونها زوجة له بعد نكاح زوج آخر لها لكان هذا مما يصدق عليه أنه من الطلاق قبل النكاح وإن كان تعليقه وهي زوجة له لكنها قد

انمحت تلك الزوجية وصار وجودها كعدمها فكأنه قال لأجنبية إن دخلت الدار بعد ان اتزوجها فهي طالق. وأما كونهما لا تنهدمان الا بنكاح صحيح فليس المراد بهذه الصحة هو ما يصطلح عليه المفرعون بل المراد الصحة الشرعية وهي الواقعة على الصفة التي كانت تقع عليها انكحة الإسلام. وأما قوله: "مع وطء" فالاية وإن كانت تتنأول العقد كما تتنأول الوطء على القول بأن لفظ النكاح مشترك بين العقد والوطء اشتراكا لفظيا لكن حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت جاءت امراة رفاعة القرظي إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقالت كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب قال: "أتريدين أن ترجعي لرفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، يدل على ان المراد بالنكاح في الآية الوطء لا العقد ومعلوم أنه لا يكون وطء الا بعد عقد ولا سيما مع ما أخرجه أحمد والنسائي وأبو نعيم في الحلية من حديث عائشة أيضا قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العسيلة هي الجماع". وأخرج أيضا أحمد والنسائي عن ابن عمر قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ويتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل ان يدخل بها هل تحل للأول قال: "لا حتى يذوق العسيلة"، ولفظ النسائي: "لا تحل للأول حتى يجامعها الاخر"، وأما قوله: "في قبل" فلأن ذلك هو النكاح الذي اذن الله به وهو العسيلة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما صحة وطء الصغير إذا كان مثله يطأ فلأنه يصدق عليه أنه نكحها وأنه وطئها وإن لم يكن له من اللذة ما يكون للكبير. وأما المجبوب فلا بد ان يصدق على وطئه أنه وطء والا فلا اعتبار بذلك. وأما قوله أو في الدمين فلكون ذلك مما يصدق عليه مسمى الوطء. قوله: "أو مضمر التحليل". أقول: هذا الذي اضمر التحليل أو واطأ عليه هو الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والترمذي وصححه وصححه أيضا ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له وهو الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث علي بن أبي طالب عند أحمد وأبي دأود والترمذي وابن ماجه وصححه ابن السكن قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له, وهو الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ "، قالوا: بلى يارسول الله, قال: "هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له"، أخرجه "1936"، ابن ماجه والحاكم وفي إسناده مقال وأخرج ابن ماجه "1934"، نحوه من حديث ابن عباس وأخرج أحمد "2/323"، والبيهقي

والبزار وابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه وحسنه البخاري. واللعن على الذنب يدل على أنه ذنب كبير شديد ولا تحل لزوجها الأول بهذا التحليل لأن الله سبحانه قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} البقرة: 230] ، والمراد النكاح الشرعي وهذا ليس بنكاح شرعي بل نكاح ملعون فاعله والمفعول لأجله. وأما قوله: "وينحل الشرط بغير كلما" الخ فقد قدمنا الكلام في كلما ومتى ولا شك ان الشرط ينحل في غيرهما بمرة واحده لأن الشرط مطلق والمطلق يصدق بالمرة ولو وقع الشرط مطلقة انحل بذلك لأنها وقت دخولها غير صالحة لوقوع الطلاق عليها على قول من يقول إن الطلاق لا يتبع الطلاق كما تقدم فقد وجد ها هنا مانع من وقوع الطلاق عليها وهو كونها مطلقة.

باب العدة

[باب العدة هي أما عن طلاق فلا تجب الا بعد دخول أو خلوة بلا مانع عقلي ولو من صغير مثله يطأ فالحامل بوضع جميعه متخلقا والحائض بثلاث غير ما طلقت فيها أو وقعت تحت زوج جهلا فإن انقطع ولو من قبل تربصت حتى يعود فتبنى أو تيأس فتستأنف بالاشهر ولو دمت فيها فإن انكشفت حاملا فبالوضع ان لحق والا استأنفت والضهيا والصغيرة بالاشهر فإن بلغت فيها فبالحيض استأنفت به والا بنت والمستحاضة الذاكرة لوقتها تحرى كالصلاة والا تربصت] . قوله: باب: "العدة هي أما عن طلاق فلا تجب الا بعد دخول أو خلوة". أقول: لأن من طلقت قبل الدخول والخلوة فهي التي قال الله سبحانه فيها: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الطلاق: 4] ، وقد قدمنا طرفا من الكلام على الخلوة في النكاح فارجع إليه. وأما قوله: ولو من صغير مثله يطأ فصحيح لأنه يصدق عليه أنه زوج وأنه ناكح والعدة لم تشرع لبراءة الرحم فقط ولو كان ذلك المقصود لكانت الحيضة كافية بل شرعت لأمور منها البراءة ومنها انتظار الرجعة ومراعاة حق الزوج لكونه الاحق بها. وعلى كل تقدير فهي أمر تعبد الله به النساء عند مفارقة أزواجهن بطلاق أو فسخ أو موت. قوله: "فالحامل بوضع الحمل". أقول: هذا مجمع عليه وهو نص الكتاب العزيز والمراد وضع ما يصدق عليه أنه حمل من غير فرق بين حي وميت تام الخلق أولا نفخ فيه الروح أم لا ولا بد من وضعه

جميعه كما قال المصنف لأنه ظاهر قوله: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فلو ولدت أحد التوأمين لم يصدق عليها انها وضعت حملها بل وضعت بعضه. قوله: "والحائض بثلاث حيض". أقول: هذا هو الحق وإن كان لفظ القرء في لسان العرب مشتكرا بين الطهر والحيض أو حقيقة في أحدهما مجازا في الاخر لكن لما كان الشارع لا يستعمله الا في الحيض كما نقله المحققون كان ذلك كالحقيقة الشرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية وقد انكر صاحب الكشاف إطلاق القرء على الطهر. قال ابن القيم إن لفظ القرء لم يستعمل في كلام الشارع الا للحيض ولم يجيء عنه في موضع واحد استعماله للطهر إلي أن قال: فإذا ثبت استعمال الشارع للقرء في الحيض علم ان هذا لغته فتعين حمله عليها في كلامه قال ويدل على ذلك ما في سياق الآية من قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] ، وهذا المخلوق هو الحيض والحمل عند عامة المفسرين قال وبهذا قال السلف والخلف ولم يقل أحد إنه الطهر وأيضا فقد قال سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] ، فعلق الحكم بعدم الحيض لا بعدم الطهر وقد اطال ابن القيم رحمه الله في تحقيق هذا البحث وأطاب. وإذا تقرر لك ان الاستعمال النبوي واستعمال السلف والخلف للقرء في الحيض لا في الطهر وجب حمل ما في الآية من قوله عز وجل: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} على الحيض لا على الاطهار. ويدل على هذا ما أخرجه ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات عن عائشة قالت: أُمرت بريرة ان تعتد بثلاث حيض هذا مع ما في حديث ابن عباس عند أحمد والدارقطني ورجاله رجال الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة فاختارت نفسها وامرها ان تعتد عدة الحرة فكانت عدة الحرة هي الثلاث الحيض. ومما يدل على ما ذكرناه ما أخرجه الترمذي وأبو دأود من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان"، وفيه مقال معروف وقد قدمنا بيانه. وشهد له ما أخرجه ابن ماجه والدارقطني من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة اثنتان وعدتها حيضتان". وقد قدمنا في حديث امراة ثابت بن قيس بن شماس ان النبي صلى الله عليه وسلم امرها ان تعتد بحيضة. وقد قدمنا أيضا في سبايا أوطاس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا حائض حتى تستبرأ بحيضة"، والاستبراء هو عدة مختصرة فكان النص على الحيض فيه معنويا لكون عدة الحرائر بالحيض لا بالطهر.

وأما قوله غير ما طلقت فيها فوجهه ان هذه التي طلقت وهي فيها هي بعض حيضة لا حيضة كاملة والاعتبار بالحيضة الكاملة ليصدق قوله سبحانه: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] . وأما قوله: "أو وقعت تحت زوج جهلا" فوجهه أن الله سبحانه أوجب عليها أن تعتد بثلاثة قروء في غير نكاح وهذه وقعت حيضتها وهي في نكاح زوج اخر وإن لم يكن نكاحا صحيحا لكن كان الجهل فارقا بينه وبين الزنا. قوله: "فإن انقطع ولو من قبل تربصت حتى يعود" الخ. أقول: هذه المسألة قد اضطربت فيها الاقوال وتفرقت فيها المذاهب وسبب ذلك ان الله سبحانه بين في كتابه العزيز اقسام المعتدات فجعلهن اربعا الحائض والحامل والتي لم تحض اصلا والايسة وهذه التي انقطع حيضها بالعلة ليست واحدة منهن ولم يثبت في السنة المطهرة ما يدل على عدة هذه وكل مسألة لم يوجد عليها النص ولا الظاهر في الكتاب ولا في السنة كانت عرضة لاراء الرجال وموطنا لاختلاف الاقوال. وقد حاول بعض أهل العلم إدراج هذه تحت الايسة فلم يصب فإن معنى الاياس عن الحيض لم يحصل لهذه لأنه انقطع حيضها وهي في وقت إمكانه فإن قدرنا أنه حصل الاياس من عود الحيض فهي ايسة ولكن حصول الاياس لها بعيد جدا فإن اسباب انقطاع الحيض كثيرة كما صرح بذلك الحكماء في تصانيفهم في العلل وأسبابها. والحاصل ان اليأس إن كان كما ذكر كثير من المحققين إنه هو المقابل للرجاء والطمع كان المعتبر في حق هذه هو عدم وجود الرجاء منها لرجوع الحيض وعدم طمعها في عوده فإذا حصل لها ذلك كانت مندرجة تحت قوله سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] . وأما إذا كان اليأس هو القطع بعدم العود فلا تندرج تحت هذه الايسات الا بعد حصول القطع لها بعد معاودة الحيض. والموجود في كتب اللغة أن اليأس القنوط فإن تقرر ثبوت حقيقة شرعية للياس كانت مقدمة وإن لم يتقرر ذلك كان الرجوع إلي المعنى اللغوي هو المتوجه. ولا يقدح في وجوب الرجوع إلي المعنى اللغوي ورود الاستعمال في الكتاب أو السنة للياس بمعنى عدم مجرد الطمع في الحال فإن ذلك يكون مجازا أما إذا كثر الاستعمال حتى صار مفيدا لكونه الحقيقة الشرعية فهو مقدم كما تقدم. وإذا عرفت هذا فها هنا بحث آخر ينبغي ان تمعن النظر فيه وتتدبره وهو ان هذه التي انقطع حيضها قبل عدتها أو حال عدتها مندرجة تحت قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فإنها يصدق عليها عند هذا الانقطاع انها من اللائي لم يحضن فتكون عدتها كعدتهن وليس في الآية ما يدل على أن المراد انهن لم يحضن اصلا بل المراد عدم وجود الحيض عند العدة كما تقول من لم يأتك

من الرجال فلاتعطه فليس المراد الا عدم إتيانه اليه حال العطاء لا عدم إتيانه اليه دائما بحيث لو كان قد اتاه مرة في عمره لكان مستحقا للعطاء وقد وقع الاتفاق على ان الصغيرة التي لم تبلغ من التكليف هي من اللائي لم يحضن ومعلوم أنه لا يراد عدم حيضها في جميع الازمنة ماضيها ومستقبلها للقطع بانها إذا بلغت وحاضت ولم يكن ذلك مبطلا لعدتها التي اعتدتها حال صغرها بالاشهر ومعلوم أيضا ان المرأة إذا حاضت مرة واحده صدق عليها انها حاضت فإذا تخلف عنها الحيض يصدق عليها انها لم تحض وإذا عرفت هذا علمت ان المراة إذا وجبت عليها العدة وحيضها منقطع لعارض فهي من اللائي لم يحضن وهكذا إذا انقطع عنها وهي في وسط عدتها فهي من اللائي لم يحضن فعدتها ثلاثة اشهر كعدة اللائي لم يحضن فإن انكشف ان ذلك الانقطاع للحمل فعدتها تنقضي بوضعه وإن استمر الانقطاع ولم يكن سببه الحمل حتى مضت عليها ثلاثة اشهر فقد انقضت عدتها بالثلاثة الاشهر فإن عاد حيضها قبل مضي الثلاثة الاشهر كشف ذلك انها حائض وهي باقية في العدة فتستأنف العدة بالحيض على أنه لو قيل انها تحتسب بما قد مضى من الاشهر وتجعل كل شهر في مقابل حيضة فإذا عاد عليها الحيض وقد مضى عليها شهران اكتفت بحيضة لم يكن هذا بعيدا عن الصواب وأي مانع منه فإنها امراة ادركتها عدتها وهي غير حائض فاعتدت بالاشهر كما أمر الله سبحانه اللائي لم يحضن وإذا عادت عليها الحيضة صارت من النساء الحيض فكملت عدتها بالحيض وهذا وإن بعد فهمه ونبا عن اذهان المقلدين فله وجه صحيح وتوجيه صبيح. وبعد هذا كله فاعلم ان هذا التعسير الشديد الذي أوجبوه على هذه المراة من انها تنتظر إذا لم يعد اليها الحيض إلي ان تيأس من عوده وذلك ببلوغها سن الاياس فيه مخالفة عظيمة لهذه الشريعة المطهرة التي جاءت بالتيسير دون التعسير وبالتبشير دون التنفير فإن المراة إذا انقطع حيضها وهي شابة فانتظرت حتى تكون عجوزا كان في ذلك من التعسير عليها والمضارة لها ما لا يجوز نسبته إلي هذه الشريعة السمحة السهلة فإنها تصير ممنوعة من الازواج طول عمرها. وإذا كانت ممن تجب نفقتها على زوجها الذي طلقها كان في ذلك من التشديد عليه والتغريم له مالا يبيحه الشرع فإنه صار ينفق ماله على امرأة قد أخرجها من نكاحه ما دامت غير عجوز وربما بمضي عليها من السنين العدد الكثير والدهر الطويل فإن من النساء من لا يفارقها الحيض الا وهي في ستين سنة فما زاد عليها فهل سمعت اذناك بأشد من هذا التشريع على هذه المسكينة وزوجها المسكين مع ان الله سبحانه قيد ما شرعه لعباده بالاستطاعة فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وقال اصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". قوله: "والضهيأ والصغيرة بالاشهر". أقول: لأن كل واحده منهما يصدق عليها انها من اللائي لم يحضن أما الضهيأ فظاهر لانها لم تحض اصلا وأما الصغيرة فلكونها وقت وجوب العدة عليها ليست من ذوات الحيض. وأما حكم العجوز التي قد بلغت سن تعذر الحيض فهي غير داخلة في هاتين اللتين ذكرهما

لانها إذا كانت من ذوات الحيض ووقع عليها طلاق زوجها وهي عجوز فقد نص الله سبحانه في كتابه ان عدتها ثلاثة اشهر. ولعل المصنف رحمه الله اكتفى بما قدمه في منقطعة الحيض لعارض من وجوب انتظارها إلي سن الاياس ثم تعتد بالاشهر وما كان يحسن منه هذا الصنع فإنه ادرج من نص القرأن الكريم على عدتها في الكلام على من وقع في عدتها ذلك الاضطراب الشديد. وأما قوله: "والمستحاضة الذاكرة لوقتها" فقد قدمنا في الحيض مالا يحتاج إلي إعادته هنا. [فصل وفي عدة الرجعى الرجعة والارث والخروج بإذنه والتزين والتعرض لداعي الرجعة والانتقال إلي عدة الوفاة والاستئناف لو راجع ثم طلق ووجوب السكنى وتحريم الأخت والخامسة والعكس في البائن وما عن وفاة فبأربعة اشهر وعش كيف كانا والحامل بها مع الوضع ولا سكنى ومتى التبست بمطلقة بائنا مدخولتين فلا بد لذات الحيض من ثلاث معها من الطلاق ولهما بعد مضى اقصر العدتين نفقة واحده فقط كغير مدخولتين في الكل فإن اختلفتا فقس وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن غالبا] . قوله: فصل: "وفي عدة الرجعي الرجعة". أقول: ثبوت الرجعة للزوج في الطلاق الرجعي مجمع عليه قال ابن حجر في الفتح وقد أجمعوا على ان الحر إذا طلق الحرة بعد الدخول بها تطليقة أو تطليقتين فهو احق برجعتها ولو كرهت المرأة ذلك فإن لم يراجع حتى انقضت العدة فتصير اجنبية فلا تحل له إلا بنكاح مستأنف انتهى. ومستند هذا الاجماع قوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ، وهذه الآية وإن كانت منسوخة بقوله تعالي: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، الآية كما أخرجه أبو دأود والنسائي من حديث ابن عباس قال كان الرجل إذا طلق امرأته فهو احق برجعتها وإن طلق ثلاثا فنسخ ذلك: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال خفيف فالمنسوخ منها إنما هو استحقاق الرجعة بعدا لمرتين لا كون بعولتهن احق بردهن قبل التثليث. وقد أخرج الترمذي نحوه من حديث عائشة وروى موقوفا على عروة قال الترمذي وهذا أصح.

ومن الأدلة الدالة على ثبوت الرجعة في الطلاق الرجعي قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "مره فليراجعها"، وقد تقدم وما أخرجه أبو دأود والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث ابن عباس عن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لركانة: "ارتجعها" [أحمد "1/265"] . قوله: "والارث". أقول: إذا صح ثبوت الاجماع على ثبوت الميراث في الطلاق الرجعي فلا بد من مستند والحجة عند من لا يقول بحجيته مستنده لا هو وقد وقعت المسألة في زمن الصحابة فأخرج الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي بكر ان رجلا من الانصار يقال له حبان بن منقذ طلق امرأته وهو صحيح وهي ترضع ابنته فتباعد حيضها ومرض حبان فقيل له إنك إن مت ورثتك فمضى إلي عثمان وعنده على وزيد ابن ثابت فسأله عن ذلك فقال لعلي وزيد بن ثابت ما تريان؟ فقالا: نرى انها إن ماتت ورثها وإن مات هو ورثته لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ولا من اللواتي لم يحضن فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة قورثها عثمان وأخرجه من هذه الطريق البيهقي وأخرجه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى ابن حبان انها كانت عند جده حبان منقذ امرأتان هاشمية وانصارية فطلق الانصارية وهي ترضع فمرت بها سنة ثم هلك عنها ولم تحض فقالت انا ارثه فاختصما إلي عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال لها: ابن عمك أشار بهذا يعني على ابن أبي طالب وأخرجه من هذه الطريق البيهقي أيضا. وأخرج البيهقي بسند صحيح ان علقمة طلق امرأته طلقة أو طلقتين فحاضت حيضة ثم ارتفع حيضها سبعة اشهر وفي لفظ سبعة عشر شهرا ثم مات فاتى ابن مسعود فقال حبس الله عليك ميراثها وورثة منها. ومما يدل على ثبوت الميراث قوله عز وجل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] ، فسماهم بعولا والاصل الحقيقة وقال سبحانه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] ، وقال: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} الاية. قوله: "والخروج بإذنه". أقول: وجهه انها لم تنقطع الزوجية بينهما فقد بقي له طرف منها وبقي لها طرف منه وذلك إذا تراجعا ومعلوم انها إذا كانت باقية لديه غير مطلقة انها لا تخرج الا باذنه لأنها قد تدعو حاجته اليها وهي خارجة عن البيت وقد يكون عليه في خروجها ما يلحق به غضاضة أو تعتريه بسببه غيره ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه"، فإذا كان هذا في الصوم الذي هو من اعظم القرب فكيف بالخروج! وإذا عرفت هذا عرفت أنه ينبغي لها في أيام عدة الرجعة ان لا تخرج الا باذن زوجها لأنه إذا كان

عازما على رجعتها لحقه من الغضاضة والغيرة ما يلحقه عليها قبل طلاقها الا ان يكون الخروج للحاجة فقد ثبت تجويز ذلك للمطلقة ثلاثا مع عدم تجويز الرجعة كما في حديث جابر عند مسلم وغيره قال: طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد نخلا لها فلقيها رجل فنهاها وأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها: "أخرجي فجدي نخلك لعلك ان تصدقي منه أو تفعلي خيرا". قوله: "والتزين". أقول: لا وجه لهذا الا إذا كانت تقدر اطلاع الزوج عليها في تلك الحال بأن يصل اليها لمراجعتها فيكون في تزينها زيادة في الترغيب له في مراجعتها فإن بقاءهما على النكاح ورجوعهما إلي ما كانا عليه مع عدم ما يقتضي الفرقة هو من الامور المندوب اليها فيكون فيما يرغب اليه طرف من الندب ونوع من القربة وهكذا التعرض منها لداعي الرجعة بان تذكره بحسن العشرة وثنى عليه بما يقتضى عطفه عليها ومراجعته لها وتنشر محاسنه التي عرفتها منه عند من يبلغه ذلك فإن هذا من أعظم ما يدعوه إلي مراجعتها. وليس المراد بالتعرض لذلك هو بروزها له والتعرض لرؤيته لها فإن ذلك أمر قد منع منه الطلاق. قوله: "والانتقال إلي عدة الوفاة". أقول: ليس على هذا دليل ولا هو رأي مستقيم فإنه مات من كان زوجها وهي في عدة طلاقه ولم يتجدد له ولا لها ما يخالف ذلك حتى يكون وجها للانتقال من هذه العدة المتيقنة إلي مالا يوجبه عليها شرع ولا عقل وكونها ترثه إذا مات وهي في هذه العدة لا يستلزم ان يتجدد عليها عدة اخرى لانها إنما ورثته بكونها باقية في عدة طلاقه الرجعي فتستمر على تمام عدتها وليس عليها غير ذلك. وأما وجوب استئناف العدة لو راجع ثم طلق فهذا أمر معلوم لا يحتاج إلي ذكره لأنها قد رجعت بالرجعة إلي نكاح جديد بعد ان خرجت من الأول بتلك الطلقة التي هي محسوبة عليه فإذا خرجت من نكاحه بطلقة اخرى توجه عليها ما شرعه الله للمطلقات بنصوص الكتاب والسنة ومن خالف في هذا فقد جاء بما يخرق الاجماع ويخالف الأدلة القطعية. قوله: "ووجوب السكنى". أقول: يدل على هذا ما أخرجه أحمد والنسائي من حديث فاطمة بنت قيس قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إن زوجي فلانا ارسل الي بطلاق وإني سألت أهله النفقة والسكنى فابوا على فقالوا يا رسول الله إنه ارسل اليها بثلاث تطليقات قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة"، وفي إسناده مجالد بن سعيد وفيه ضعف وقد تابعه في روايته ضعيف وذلك يقوى رواية مجالد. ويؤيد هذا الحديث ما في صحيح مسلم "44/480"، وغيره [أحمد "6/411، 412، أبو داود

"2288، 2289"، النسائي:"6/210"، ابن ماجة "2035، 2036"] ، من حديث فاطمة بنت قيس أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم في المطلقة ثلاثا قال: "ليس لها سكنى ولا نفقة"، فإن كون هذا في المطلقة ثلاثا يدل على ان الرجعية بخلافها. ويدل على هذا أيضا قوله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ، فإن السلف فهموا من هذه الآية انها في الرجعية لقوله عز وجل في آخر الاية {َلعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} وليس الامر الذي يرجى إحداثه الا الرجعة لا سوى. ومع هذا كله فوجوب السكنى للرجعية مجمع عليه. وأما قوله: "وتحريم الأخت والخامسة" فوجهه ما قدمنا في الارث. قوله: "والعكس في البائن". أقول: أما عدم ثبوت الرجعة في الطلاق البائن فلقوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فإن هذه الآية فسخت ما كانت الجأهلية تفعله من مراجعة النساء بعد التثليث كما قدمنا وقدمنا أيضا في المختلعة ما يدل على عدم ثبوت الرجعة لها وقد وقع الاتفاق على عدم ثبوت الرجعة للمطلقة قبل الدخول والخلوة كما وقع الاجماع على عدم ثبوت الرجعة للمثلثة. وأما عدم ثبوت الميراث فلكونها قد انقطعت بينهما علاقة الزوجية ولا يصدق عليها بعده انها زوجة وهكذا خروجها بغير إذنه فإنها لما لم تكن أحكام الزوجية باقية عليها كان لها الخروج بغير إذنه وقد قدمنا حديث جابر في خالته المثلثة وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره ان النبي صلى الله عليه وسلم اذن لفاطمة بنت قيس عند ان طلقها زوجها الطلقة الثالثة ان تخرج من بيته بغير إذنه وتنتقل إلي عند ابن ام مكتوم. وأما عدم التزين والتعرض لداعي الرجعة فظاهر لأنه قد زال الغرض الذي يفعلان لأجله وهو رجاء الرجعة. وأما عدم انتقالها إلي عدة الوفاة فقد قدمنا أنه لا دليل يدل على ان الانتقال المذكور في الرجعية فكيف في البائنة. وأما عدم وجوب السكنى فللدليل الثابت في الصحيح كما قدمنا وأما عدم تحريم الأخت والخامسة فلكونها قد انقطعت بينهما علاقة الزوجية. قوله: "وأما عن وفاة فبأربعة اشهر وعشر". أقول: هذا مما لا ينبغي ان يقع فيه خلاف لأنه نص القرأن الكريم وأما إذا كانت المتوفى عنها حاملا فقد ذهب الجمهور إلي ان عدتها بوضع الحمل وإن وضعت ليلة موت زوجها وذهب آخرون إلي ان عدتها بآخر الاجلين فلا بد ان تضع حملها ويمضي عليها اربعة اشهر وعشر ووجه هذا القول انهم نظروا في الايتين الكريمتين فإن قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 240] ، الآية عام في كل من مات عنها زوجها سواء كانت حاملا أو غير حامل وقوله تعالي: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، عام يشمل المطلقة والمتوفى عنها فجمعوا بين

العمومين بقصر الآية الثانية على المطلقة بقرينة ذكر عدد المطلقات كالايسة والصغيرة قبلها ولم يهملوا ما تنأولته من العموم فعملوا بها وبالتي قبلها في حق المتوفى عنها ولكن قد جاء ها هنا ما يوجب ترك هذا التعارض وعدم الاشتغال بشأنه وهو ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ام سلمة ان امرأة من اسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفي عنها وهي حامل فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت ان تنكحه فقال والله ما يصلح ان تنكحي حتى تعتدي آخر الاجلين فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفست ثم جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "انكحي" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث سبيعة نفسها بمعناه. وفي الباب أحاديث وآثار عن الصحابة فلم يبق بيد من قال تعتد بآخر الاجلين ما يوجب الاشتغال به لأن هذه الأدلة قد بينت أوضح بيان ودلت اظهر دلالة على ان الاعتبار بوضع الحمل وان قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] ، خاص بغير الحوامل. قوله: "ولا سكنى". أقول: الايات التي فيها ذكر السكنى كقوله تعالي: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] ، وقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] , ظاهر السياق فيها اختصاصها بالرجعيات فلا ينتهض الاحتجاج بذلك على وجوب السكنى للمتوفى عنها. وأما حديث الفريعة الذي أخرجه أحمد ومالك في الموطأ والشافعي وأهل السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم أنها قالت: خرج زوجي في طلب اعلاج له فأدركهم في طرف القدوم فقتلوه فأتاني نعيه وانا في دار شاسعة من دور أهلي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت:إن نعى زوجي اتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع لي نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له فلو تحولت إلي أهلي وإخوتي لكان ارفق بي في بعض شأني فقال تحولي فلما خرجت إلي الحجرة دعاني فقال: "امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه اربعة اشهر وعشرا قال فأرسل إلي عثمان فاخبرته فأخذ به. فهذا الحديث وإن كان صحيحا ولم يأت من قدح فيه بشيء ينبغي الالتفات اليه لكن غاية ما فه انها تعتد في المنزل الذي أتاها فيه نعي زوجها وليس فيه ان سكناها في مدة عدة الوفاة من مال الزوج وقد صرحت أنه لا منزل لزوجها فقالت: وليس المسكن له فعرفت بهذا أنه لا دليل في الحديث على إيجاب السكنى للمتوفى عنها من مال زوجها ولكن يجب عليها ان تعتد في المنزل الذي كانت فيه عند موت زوجها سواء كان لها أو للزوج أو لغيرهما ولا يبعد ان أجرة المنزل إذا كان للغير لازمة لها بل هو الظاهر بل لا يبعد ان المنزل إذا كان لزوجها فلورثته أن يطالبوها بالكراء فهذا حكم تعبد الله به المعتدة ولم يوجبه على زوجها ومع هذا فقد قدمنا

حديث فاطمة بنت قيس الذي أخرجه أحمد والنسائي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة"، وفي لفظ آخر: "إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة فإذا لم تكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى"، وهذا نص في محل النزاع وفيه مقال كما تقدم قريبا مع أنه لا حاجة لمن نفي وجوب السكنى بالاستدلال على عدم الوجوب بل يكفيه ان يقف موقف المنع حتى يأتي الدليل الذي تقوم به الحجة وإلا كان التمسك بالبراءة الاصلية يكفيه. ويؤيد عدم الوجوب ما أخرجه النسائي وأبو دأود عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة 240] ، نسخ ذلك بآية الميراث بما فرض الله لها من الربع أو الثمن ونسخ اجل الحول ان جعل اجلها اربعة اشهر وعشرا وفي إسناد أبي دأود علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال خفيف ولكنه رواه النسائي من غير طريقه وقد دل على أنه ليس للمتوفى عنها الا الميراث لا نفقة ولا سكنى ولا وصية. قوله: "ومتى التبست بمطلقة بائنا" الخ. أقول: ووجهه ان المطقة البائنة قد أوجب الله سبحانه عليها العدة ثلاثة قروء والمتوفى عنها أوجب الله عليها العدة بأربعة اشهر وعشر فمع اللبس لا تخرج كل واحده منهما مما أوجبه الله عليها بيقين الا بالعدتين. وأما ما ذكره من ان لهما بعد مضي اقصر العدتين نفقة الخ فالحق أنه لا نفقه للمتوفى عنها ولا للبائنة كما سيأتي بيانه في باب النفقات إن شاء الله. قوله: "وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن". أقول: العدد المبينة في الكتاب والسنة وهي للمطلقات والمتوفى عنهن وثبت في المختلعة انها تعتد بحيضة وقد قدمنا ان الخلع فسخ لا طلاق فالقول بأن عددالفسخ كعددالطلاق البائن يحتاج إلي دليل ولا دليل فوجب الرجوع إلي ما ثبت في نوع من أنواع الفسخ وهو الخلع مع ما يؤيد ذلك من كون المسبية تستبرئ بحيضة كما تقدم النص على ذلك في الحائض وان الحامل تستبرئ بوضع الحمل فينبغي ان تكون عدة الفسخ حيضة إن كانت حائضا أو وضع الحمل إن كانت حاملا لأن براءة الرحم تتحقق بذلك ولم يرد ما يدل على زيادة ذلك والبراءة الاصلية تقتضي عدم ايجاب العدة عليها لان التعبد بغير دليل من التقول على الله بما لم يقل. وهكذا لا يجب للمفسوخة نفقة ولا سكنى لعدم الدليل على ذلك بل لورود النص بان النفقة والسكنى إنا هي للمطلقة رجعيا كما قدمنا لكن ها هنا إشكال وهو ما أخرجه أحمد والدراقطني ورجاله رجال الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة فاختارت نفسها وامرها ان تعتد عدة الحرة. وأخرج ابن ماجه بإسناد رجاله ثقات عن عائشة قالت امرت بريرة ان تعتد بثلاث حيض.

ويمكن ان يجمع بين الاحاديث بان ما ورد فيه النص كالخلع وفسخ الامة إذا عتقت يوقف على محله ويبقى ما عدا ذلك من الفسوخات على البراءة الاصلية ولا يجب الا ما يحصل به براءة الرحم وهي الحيضة في الحائض وإن كانت حاملا فوضع الحمل لما ورد في الاستبراء وأما دعوى المصنف الاجماع فمن اغرب ما يقرع الاسماع. [فصل وهي من حين العلم للعاقلة الحائل ومن الوقوع لغيرها وتجب في جميعها النفقة غالبا واعتدادالحرة حيث وجبت ولو في سفر بريد فصاعدا ولا تبيت الا في منزلها الا لعذر فيهما وعلى المكلفة المسلمة الاحداد في غير الرجعى وتجب النية فيهما لا الاستئناف لو تركت أو الاحداد وما ولد قبل الاقرار بانقضائها لحق ان امكن منه حلالا في الرجعى مطلقا وفي البائن لاربع فدون وكذا بعده بدون ستة اشهر لابها أو بأكثر الا حملا ممكنا من المعتدة بالشهور للياس] . قوله: فصل: "وهي من حين العلم للعاقلة الحائل ومن الوقوع لغيرها". أقول: هذه التفرقة لا يدري ما اصلها ولا ما مقتضيها وما استدلو به من ان الله سبحانه ذكر التربص في عدة ذوات الاقراء فقال: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وان ذلك يدل على انها لا بد ان تكون قاصدة للدخول في العدة فتسليم ذلك غايته ان تقصد عندالعلم ولا ينافي ذلك الاعتداد بما قد مضى قبل العلم ومع هذا كان يلزم ان تكون عدة الوفاة من وقت العلم لان الله سبحانه قال فيها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] ، فلم يبق وجه لهذا الفرق بل العدة للحامل والحائل العاقلة على سواء وأما الصغيرة والمجنونة فلا علم لها فالعدة فيهما لاحقة بالعدة للعقالة إن كانت من وقت الوقوع كانت لهما من وقت والوقوع وإن كانت من وقت العلم كانت لهما من الوقت الذي يحصل العلم فيه لوليهما. والحاصل ان هذه التفرقة لا تنبنى على شرع مقبول ولا على رأي معقول ولم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على انها لا تعتد الا من وقت العلم بل ظاهر اطلاقات الكتاب والسنة ان العدة من عند وقوع الموت أو الطلاق وإن تأخر العلم بهما لان هذه المدة التي مضت بعد الوقوع وقبل العلم هي مدة من المدة المتعقبة لموت الزوج أو طلاقه فمن زعم أنه لا يحتسب بها فعليه الدليل فإن عجز عنه فهي من جملة العدة ولس على المراة إحداد ولا غيره حتى تعلم لانها لا تكلف بلوازم العدة الا بعد علمها والا كان ذلك من تكليف الغافل وهو مجمع على عدم التكليف به.

هذا على تقدير أن هذا الحكم تكليفي اعني كون الموت والطلاق سببين للعدة فإن كانا وضعيين فالامر اظهر. والحاصل ان العدة من وقت الوقوع على كل حال ولكل معتدة ومن ادعى غير هذا فهي دعوى مجردة لا يعول على مثلها. قوله: "ويجب في جميعها النفقة". أقول: الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ان النفقة لا تجب للمطلقة ثلاثا لما ثبت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المطلقة ثلاثا: "ليس لها نفقة ولا سكنى". وثبت في صحيح مسلم "41/1480"، وغيره أحمد "6/414، 415، أبو داود "2290"، النسائي"3552"، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "لا نفقة لك الا ان تكوني حاملا". وهكذا لا نفقة ولا سكنى للمختلعة لما قدمنا من ان ذلك فسخ لا طلاق ولم يرد ما يدل على لزوم النفقة في الفسخ على أنه لو كان طلاق لكانت كالمثلثة بجامع عدم جواز المراجعة لهما. وهكذا لا نفقة ولا سكنى للمتوفى عنها زوجها لعدم الدليل على ذلك وقد مات الزوج وانتقل حقها إلي تركته فليس لها الا الميراث وأما ما ورد من انها تعتد في منزلها الذي يلغها فيه موت زوجها فذلك تعبد لها لا لزوجها وقد قدمنا تحقيقه. وأما المطلقة رجعيا فقد ورد الدليل الدال على وجوب النفقة والسكنى لها حسبما قدمنا وأما المطلقة عن خلوة فلا عذر لمن جعل الخلوة كالدخول من ان يجعلها كالمدخولة فيما يجب لها ويحرم عليها وقد قدمنا كلأما في الخلوة فليرجع اليه ولعله يأتي مزيد بحث في باب النفقات إن شاء الله. وقد قررنا الكلام في هذه المباحث في شرحنا للمنتقى بما لا يبقى بعده حاجة إلي غيره بل افردنا هذه الابحاث برسالة مستقلة. قوله: "واعتداد الحرة حيث وجبت". أقول: قد قدمنا ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للمثلثة نفقة ولا سكنى وعلى تقدير أنه يجب عليها ان تعتد في المنزل الذي وقع الطلاق وهي فيه كما يدل عليه ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها: ألم ترى إلي فلانة بنت الحكم طلقها زوجها البتة فخرجت؟ فقالت عائشة: بئسما صنعت فقال: ألم تسمعي إلي قول فاطمة بنت قيس - يعني أنه لم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجها نفقة ولا سكنى فقالت عائشة: أما إنه لا خير لها في ذلك, فذلك تكليف عليها لا على زوجها كما قلنا في المتوفى عنها جمعا ين الأدلة ويحمل تجويز الخروج لها على الخوف وعدم الامن.

ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري وغيره عن عائشة انها قالت: كانت فاطمة بنت قيس في مكان فخيف على ناحيتها فلذلك أرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخرجه مسلم وغيره من حديث فاطمة بنت قيس قالت: قلت: يا رسول الله زوجي طلقني ثلاثا وأخاف أن يقتحم على فأمرها فتحولت وثبت في صحيح مسلم وغيره من حديثها ان النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تنتقل عند ابن أم مكتوم. وأما المتوفي عنها فقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في المنزل الذي أدركتها فيه وفاة زوجها بعد أن أخبرته ان المنزل ليس لزوجها فدل ذلك على انها متعبدة بذلك كما سلف. وأما المطلقة رجعيا فقد قدمنا ان سياق قوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] ، وقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] ، يدل على ان المراء المطلقة رجعيا مع ما قدمنا من حديث فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة" وقد قدمنا أيضا انها لا تخرج من البيت الذي يسكنها فيه الا باذنه فقوله ولو في سفر بريد فصاعدا ولا تبيت الا في منزلها صحيح. وهكذا يجب عليها في النهار ان تقعد في منزلها الا لحاجة أو خوف ولهذا قال المصنف رحمه الله: الا لعذر فيهما وقد قدمنا إذنه صلى الله عليه وسلم لفاطمة بالانتقال لذلك العذر وقدمنا أيضا حديث جابر عند مسلم وغيره أنه قال طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد نخلا لها فلقيها رجل فنهاها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "اخرجي فجدي نخلك لعلك أن تصدقي أو تفعلي خيرا". قوله: "ويجب على المكلفة المسلمة الاحداد على غير الرجعي". أقول: أما وجوبه على المتوفى عنها فالاحاديث في ذلك كثيرة صحيحة وقد تضمن انها لا تكتحل ولا تتطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب ولا تختضب ولا تلبس الحلى ولا تمتشط. وأما المطلقة رجعيا فلا احداد عليها بالاجماع وأما المطلقة بائنا فلا إحداد عليها عند الجمهور وهو الحق لعدم ورود دليل يدل على ذلك فيجب البقاء على البراءة الاصلية ولا يخرج منها الا من ورد النص بالوجوب عليه وهو المتوفى عنها فقط نعم ورد ما يدل على جواز الاحداد على الميت وإن كان غير زوج لكن ثلاثة أيام فقط كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ام حبيبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الاخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"، وهو في الصحيحين أيضا من حديث زينب بنت جحش وهو في الصحيحين أيضا من حديث أم سلمة. قوله: "ويجب النية فيهما".

أقول: أما وجوب النية في العدة فلكونها عملا "وإنما الاعمال بالنيات" كما صح عنه صلى الله عليه وسلم وأما الاحداد فكذلك لكونه عملا تعبد الله به المتوفى عنها وأما عدم وجوب الاستئناف للعدة لو تركت المعتدة النية فلكونها قد وقعت العدة الواجبة بالحيض وهكذا لو تركت الاحداد لانها قد وقعت العدة وإخلالها بواجب عليها لايستلزم بطلان عدتها وسيأتي لنا في فصل الرجعة ما ينبغي اعتبار مثله هنا عند قول المصنف ويصح وإن لم تنو. قوله: "وما ولد قبل الاقرار بانقضائها" الخ. أقول: مهما كان الفراش ثابتا شرعا كان الولد لاحقا قطعا ولا شك ان المطلقة رجعيا تجوز مراجعتها من زوجها وإن طالت المدة ولهذا لحق ولدها مطلقا لثبوت فراشها مع كونها رجعية لم تقر بانقضاء عدتها. وأما البائنة فلا ريب أنه يمكن تجويز وطئها من زوجها في الساعة التي طلقها فيها فإذا جاءت بولد لأربع سنين فما دون عند من جعل هذه المدة أكثر مدة الحمل فقد جاءت به لاحقا بأبيه وقد عرفناك ما هو الذي ينبغي اعتماده في أقل مدة الحمل وأكثرها فارجع اليه. وأما إذا كانت المطلقة قد أقرت بانقضاء العدة فقال المصنف إنها إن جاءت به لدون ستة اشهر من عند الاقرار بالانقضاء لحق وإلا فلا والظاهر أنه لا وجه للتقييد بهذه المدة وأن المطلقة المقرة بانقضاء عدتها إن كان الطلاق رجعيا لحق بزوجها لجواز أنه راجعها قبل إقرارها بالانقضاء بلحظة ولا يكون إقرارها حجة عليه في إبطال نسب ولده منه وإبطال نسبه عن ولده مع إمكان بقاء الفراش والحكم بكذب الاقرار أولي من الحكم بإبطال نسب لم يرتفع فيه الفراش ارتفاعا معلوما. وأما المطلقة بائنا فتجويز وطء زوجها لها لا ينبغي المصير اليه وعلى فرض إمكانه فهو ممنوع منه شرعا فلا يثبت به الفراش وإذا لم يثبت الفراش لم يلحق النسب فلم يلحق النسب بعد إقرار البائنة بالانقضاء الا بدون ستة اشهر لأنه لا يحتمل ان يكون حملا حادثا بعدالاقرار بالانقضاء فيحمل على أنه حمل من الزوج قبل ايقاع الطلاق ولكن كان ينبغي ان لا يقع التقييد بدون الستة الاشهر بل ينبغي ان يقال إنه يلحق به وإن طالت المدة إلي انقضاء اربع سنين عندهم من وقت الطلاق لان عدم العمل باقرارها بالانقضاء أولى من حملها على الزنا وإبطال نسب لم يأذن الشرع بإبطاله ولا جاء به برهان. وأما عندي فإذا كانت قرائن الحمل ظاهرة فلا حكم للإقرار بالانقضاء مطلقا ويلحق به لفوق اربع سنين لأن ظهور القرائن تدل على كذب اقرارها مع احتمال الوهم منها بل يجب حملها على الوهم بوجود ما يدفعه من القرائن مصاحبا له. وأما استثناء حمل المعتدة بالشهور للبائن فوجهه انها إذا حبلت فقد تبين انها غير آيسة فلا حكم لاقرارها بالانقضاء وقد عرفناك عند قوله فإن انقطع ولو من قبل تربصت حتى يعود ما ينبغي ان تضمه إلي هذا ملاحظا لثبوت الفراش وان ارتفاعه لا يكون الا بأمر يوجب القطع.

[فصل ولا عدة فيما عدا ذلك لكن تستبرأ الحامل من زنى للوطء بالوضع والمنكوحة باطلا والمفسوخة من اصله وحربية اسلمت عن كافر وهاجرت كعدة للطلاق الا ان المنقطعة الحيض لعارض اربعة اشهر وعشرا وأم الولد عتقت بحيضتين وندبت ثالثة للموت والمعتقة للوطء بالنكاح بحيضة ولو لمعتق عقيب شراء أو نحوه] . قوله: فصل: "ولا عدة فيما عدا ذلك". أقول: وجه هذا عدم ورود دليل يدل على غير من قد وقع نص الكتاب والسنة بالعدة عليهن لان ذلك حكم شرعي فلا يجوز اثباته الا بحجة شرعية. وأما قوله: "لكن تستبرأ الحامل" الخ فهو استثناء منقطع لأن الاستبراء هو شيء غير العدة شرعه الله سبحانه لبراءة الارحام ولدفع اختلاط الاموال ولم يرد ما يدل على خصوص استبراء الحامل من زنا الا ما قدمنا من الأدلة الدالة على استبراء المسبية والمشتراة ونحوهما فقد ذكرنا هنالك من الأدلة ما يدل بعمومه وإطلاقه على مشروعية الاستبراء إذا كانت تلك العلة موجودة وهي موجودة في الحامل من زنا لكن اقتصاء المصنف على الحامل غير مناسب بل يقال في الزواني لا توطأ منهن حائض حتى تستبرأ بحيضة ولا حامل حتى تضع حملها كما قال صلى الله عليه وسلم فيما ذكرناه سابقا. ومن جملة الاحايث العامة الشاملة للحامل من زنا حديث أبي هريرة عند أحمد والطبراني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره". ومنها حديث رويفع الذي تقدم بلفظ: "من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يسقى ماءه ولد غيره"، وهو حديث صحيح. وأما المنكوحة باطلا فهي داخلة تحت الأدلة التي اشرنا اليها كما صلت فيها الزانية. والشبهة في هذه لا تنتهض لايجايب العدة الشرعية عليها وغاية ما فيها أنه يسقط بها الحد وقد قدمنا تحقيق الكلام في هذه وأمثالها وأما المفسوخة من اصله فقد قدمنا ما يغني عن إعادته هنا. وأما الحربية التي أسلمت عن كافر وهاجرت فقد قدمنا الاحاديث المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين المهاجرات وازواجهن الباقين على الكفر الا بعد انقضاء عدتهن ومن اسلم زوجها وهي في العدة أقرها على نكاحها الأول كما وقع منه صلى الله عليه وسلم في ابنته زينب مع زوجها أبي العاص بن الربيع. وأخرج مالك في الموطأ عن الزهري أنه قال لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلي الله روسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل ان تنقضي عدتها ولم يبلغنا ان امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها. وأما قوله: "إلا ان المنقطعة الحيض لعارض" الخ فقد قدمنا تحقيق الكلام فيه وتخصيص

هذا الموضع بهذا الحكم لهذه المنقطعة لا وجه له بل ينبغي من المصنف ان يجعل حكمها واحدا في عدة واسبتراء. قوله: "وأم الولد عتقت بحيضتين". أقول: تخصيص ام الولد بهذا الحكم من التحكم الذي لا وجه له ولا دليل عليه ولو قال هذا من يقول إن عدة الامة حيضتان كان لذلك وجها الحاقا لها بالاماء المنكوحات وأما المصنف فإنه لا يفرق بين عدة الحرة والامة فما باله جاء بهذا الحكم في أم الولد وكان عليه ان يجعل عليها العدة الكاملة كما يجعله على الامة المنكوحة والحرة أو يجعل عليها الاستبراء الذي يعرف به براءة الرحم وهو حيضة كما تقدم في الاماء وأما هذه العدة المتوسطة بين العدتين فمن غرائب الرأي وعجائب التحكم والاحسن إلحاق هذه أم الولد بالامة المزوجة إذا عتقت ثم خيرت فاختارت نفسها وقد قدمنا في حديث بريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم امرها ان تعتد عدة الحرة ثلاثة حيض بجامع ان كل واحدة منهما كانت امة منكوحة ثم عتقت وصارت في يد نفسها. وأعجب من هذا الذي ذكره المصنف من اعتدادها بحيضتين ما ذكر عقيبه من قوله وندبت ثالثة للموت فإنه جاء أولا بكلام هو هرولة بين عدة الحرائر والاماء وجاء ثانيا بكلام هو هرولة أيضا بين الوجوب وعدمه مع كون العدة عدة وفاة وليس بعد هذا من التسأهل في اثبات الأحكام الشرعية شيء. وأما قوله: "والمعتقة للوطء بالنكاح بحيضة" فهذا وإن كان رأيا معقولا الحاقا لها بالاماء اللات تجدد عليهن الملك وقد تقدم ما في ذلك من الأدلة لكنه مدفوع بما ذكرناه من امره صلى الله عليه وسلم لبريرة ان تعتد بثلاث حيض عدة الحرة فإن هذه امة عتقت وتلك امة عتقت فالحاق المعتقة بمن عتقت أولى من الحاقها بمن لم تعتق ولا فرق بين ان يكون الذي أراد وطئها بالنكاح هو المعتق أو غيره. [فصل ولمالك الطلاق فقط إن طلق رجعيا ولما يرتد احدهما مراجعة من لم تنقض عدتها ويعتبر في الحائض كمال الغسل أو ما في حكمه وتصح وإن لم ينو أما بلفظ العاقل غالبا أو بالوطء أو أي مقدماته لشهوة مطلقا ويأثم العاقل إن لم ينوها به وبلا مراضاة ومشروطة بوقت أو غيره ومبهمة ومولاة ولو لها وفي إجاتها نظر ويجب الاشعار ويحرم الضرار] . قوله: فصل: "ولمالك الطلاق فقط إن طلق رجعيا" الخ. أقول: هذا صحيح فالرجعة بيد من بيده الطلاق ولكنه يجوز له ان يوكل من يراجع عنه كما يجوز له أن يوكل من يتزوج له أو يطلق عنه.

وأما تقييد ذلك بقوله: ولما يرتد احدهما فلا حاجة اليه لأن المرتد منهما ان استمر على ردته فإن كان الزوج هو الذي ارتد فمعلوم أنه لا يجوز للكافر نكاح المسلمة لا بإذنها ولا بغير إذنها بل تتربص حتى تنقضي عدتها ثم تنكح من شاءت وإن كانت المرتدة هي الزوجة فكذلك لا يجوز للزوج ان يراجعها وهي كافرة كما قال تعالي: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . وأما إذا ارتد احدهما بعد طلاق ثم رجع إلي الإسلام قبل انقضاء العدة فقد عرفناك فيما سبق ان الفرقة قد وقعت بالطلاق وأنها لا يتبعها الفسخ لان المحل غير قابل لذلك ما تقدم في كون الطلاق لا يتبع الطلاق. قوله: "ويعتبر في الحائض كمال الغسل" الخ. أقول: قد ذهب إلي هذه جماعة من الصحابة ولكن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو الرجوع إلي انقضاء العدة التي شرعها الله للمعتدات فإذا انقضت الحيضة الثالثة انقضت العدة وليس الغسل الا لجواز مثل الصلاة والتلأوة ودخول المسجد لا لأمر يرجع إلي العدة فإنها قد انقضت ومضت ولم يبق لها حكم. وأما قوله: "وتصح وإن لم تنو" فإن أراد ان النية غير واجبة في الرجعة فمدفوع بانها عمل وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الاعمال بالنيات"، وإن أراد انها واجبة ولا تبطل الرجعة بتركها بناء على ان الرجعة التي شرعها الله قد وقعت واثم التارك للنية لا يستلزم بطلان الرجعة فهذا له وجه ولكن كيف يتصور ان تقع الرجعة من الفاعل ولم ينوها فإن نفس القصد إلي الرجعة يستلزم حصول النية لأن النية هي القصد وقد وقع فإن قدرنا مثلا أنه جاء بلفظ يفيد الرجعة وهو غير قاصد للرجعة فليست هذه برجعة اصلا لأن تلفظ المتكلم بما لا يريده لاحكم له بل هو من اللغو الباطل والهذيان البحت. وهكذا لو قدرنا أنه وطئها لا بنية الرجعة فإن هذا الوطء ليس برجعة شرعية بل هو بالزنا اشبه ولعل الذي حمل المصنف على هذا المشي على ما قدمه من قوله ويجب النية لا الاستئناف فيهما ولكن هذا يرد عليه هنالك كما يرد عليه هنا. قوله: "أما بلفظ العاقل أو بالوطء" الخ. أقول: أما اللفظ فظاهر ان الله سبحانه شرع للأزواج الرجعة وليس المراد بها إلا أن يراجعها إلي نكاحه بان يقول قد ارجعتك أو راجعت فلانة أو يؤذنها بأنها تعود إلي ما كانت عليه أو يامرها بأن تدخل إلي المكان الذي كانا يجتمعان فيه وهي غير مطلقة وهو يعلم انها تفهم من ذلك الرجعة. وأما مراجتها بالوطء باديء بدء بأن لا تشعر الا وقد اقتحم عليها وأخذ برجلها ونكحها فهذا وإن كان رجعة لأنه لا يفعله الا من أراد الرجوع فيما كانا فيه من النكاح ومجرد القصد إلي هذا قبل صدوره منه يفيد الرجعة ولكن هذه الرجعة دوأبية لا إنسانية فضلا عن ان تكون شرعية

وإنما يفعل مثل هذا الفعل الزناة ولم يكن له إلي ذلك حاجة فإنه كان يكفيه ان يناديها من وراء الباب للمنزل الذي هي فيه أنه قد راجعها ثم يدخل بعد ذلك سريعا ويطأها كيف شاء وعلى أي صفة أراد فيكون قد وقع منه الاشعار وفعل ما يعفله المتشرعون ولم يفت عليه قضاء حاجته والبلوغ إلي شهوته. وأما قوله: "ويأثم الفاعل إن لم ينوها به" فهذا مع عدم النية لم يرد الرجعة بل أراد الزنا وليست هذه رجعة شرعية. وأما كونها تصح بلا مراضاة فصحيح لان الله سبحانه أباح ذلك للأزواج ولم يعتبر رضا الزوجات. وأما كونها تصح مشروطة فللزوج ذلك وقد يكون له في الشرط فائدة تحت الزوجة على كمال الطاعة وهكذا تصح الرجعة المبهمة ويرجع اليه في التعيين فإن عين من هي المقصود له تعينت وإن لم يعين حتى مات فإحداهما زوجة تستحق الميراث ويكون الميراث بينهما ويجب عليهما العدة. وأما قوله: "ومولاة" فصحيح كما قدمنا في أول هذا الفصل ولا وجه لقول المصنف فقط فإنه إن أراد إخراج رجعة من لم يكن بزوج مع عدم رضا الزوج فذلك معلوم لا يحتاج إلي ذكره وإن أراد أنه لا يصح منه التوكيل بها ونحوه فهو مخالف لما هنا فإن التولية نعم التوكيل. وأما قوله: "وفي إجازتها نظر" فلا وجه لهذا النظر لأن إجازة الرجعة رجعة. قوله: "ويجب الاشعار". أقول: لا شك في ان هذا واجب على الزوج للزوجة ولا سيما إذا كان ترك الاشعار لها يؤدي إلي ان تقع في محظور من إجابة خطبة من يخطبها أو الدخول في نكاح من يريد نكاحها بل الظاهر وجوب الاشعار لمن يتصل به ويجأوره لئلا يظنوا به مالا يحل واجتناب ذلك واجب بل قد ورد ما يدل على وجوب الاشهاد فأخرج أحمد وابن ماجه والطبراني والبيهقي بسند صحيح عن عمران بن الحصين أنه سئل عن الرجل يطلق امراته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجتها فقال: طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة اشهد على طلاقها وعلى رجتها ولا تعد فإن قوله: لغير سنة يدل على أنه قد عرف من السنة ما يفيد الاشهاد فهو كقول الصحأبي من السنة كذا. ومما يؤيد هذا: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، فإنه وارد عقب قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ، وقد وقد الاجماع على عدم وجوب الاشهاد في الطلاق واتفقوا على الاستحباب. قوله: "ويحرم الضرار". أقول: الضرار محرم على كل حال وهو اشد تحريما لمن وصى الله بهن عباده كما تقدم ولمن قال في حقهن {وَلا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، ولمن قال في حقهن {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ

تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وقد قدمنا ان قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، نزل في الرجل الذي قال لامرأته والله لا اطلقك فتبيني ولا أويك ابدا قالت وكف ذلك قال اطلقك فكلما همت عدتك ان تنقضي راجعتك فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الاية [الترمذي "1192". [فصل والقول لمنكر البائن غالبا ولتمتنع منه مع القطع ولمنكر وقوعه في وقت مضى وفي الحال إن كان الزوج ولمنكر تقييده وحصول شرطه ممكن البينة ومجازيته وللزوج في كيفيته ولمنكر الرجعة بعد التصادق على انقضاء العدة لا قبله فلمن سبق في المعتادة وللزوج في النادرة ولمنكر مضيها غالبا فإن ادعاه الزوج حلفت في دعوى انقضاء الحيض الاخر كل يوم مرة وفي إنكارها الجملة كل شهر مرة وتصدق من لا منازع لها في وقوع الطلاق وانقضاء عدتها. قوله: فصل: "والقول لمنكر البائن". أقول: الاصل عدم البينونة فمدعيها مدع ومنكره منكر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن البينة على المدعي واليمين على المنكر"، فهذا فرد من الأفراد المندرجة تحت هذا الحديث العام والشرع الشامل. وأما قوله: "ولتمتنع منه مع القطع" فلما هو معلوم من ان تمكينها من نفسها منكر في اعتقادها حيث هي قاطعة بالبينونة قطعا بمستند شرعي لا بمجرد الخيال ولا بمجرد فتأوى المقصرين. وأما قوله: "ولمنكر وقوعه في وقت مضى" فلكون الاصل عدمه وموافق الاصل منكر ومدعى خلاف الاصل مدع وعلى المدعى البينة وعلى المنكر اليمين. وأما قوله: "وفي الحال إن كان الزوج" فصحيح لأن الاصل وقوع الطلاق بخلاف ما إذا كان الزوج ينوي المدعى فإنه يصح منه إنشاء الطلاق في الحال. وهكذا قوله لمنكر تقييده لان الاصل عدم التقييد وهكذا منكر حصول شرطه لان الاصل عدم حصوله ولا وجه للتقييد بقوله وممكن البينة لان كل شرط يمكن البينة عليه الا ان يجعل الشرط امرا يرجع إلي ضميرها وما في نفسها مثلا فإن ذلك لا يعرف الا من جهتها. وهكذا يكون القول لمنكر مجازيته لان المجاز خلاف الاصل والاصل الحقيقة. وأما قوله: "وللزوج في كيفيته" فغير مسلم بل إن كانت تلك الكيفية خلاف ما هو المتبادر

كان القول قول منكرها والبينة على مدعيها وإن كانت هي المتبادرة من العرف والاصطلاح فالقول قول مدعيها. وهكذا القول قول منكر الرجعة لأن الاصل عدمها ولا وجه لقوله بعد التصادق على انقضاء العدة الخ لأن الاصل العدم ملقا وإذا ادعت المرأة انقضاء عدتها وأنكر الزوج فعليها البينة فإن النساء العوارف يفرقن بين الطهر والحيض وبين دم الحيض وغيره وإذا كان هذا الامر المتعلق بالفروج يمكن البينة عليه فغيره بالأولى حسبما حققنا ذلك فيما مضى. وأما تصديق من لا منازع لها فظاهر لا يحتاج إلي ذكره وتدوينه. والحاصل ان هذا الفصل معلوم مما سيأتي في كتاب الدعأوى وإنما يتعرض المصنف في الابواب لمن القول قوله ولمن البينة عليه لقصد مزيد الأيضاح وتكثير الافادة.

باب الظهار

[باب الظهار صريحة قول مكلف مختار مسلم لزوجة تحته كيف كانت ظاهرتك أو انت مظاهرة أو يشبهها أو جزءا منها بجزء من امه نسبا مشاع أو عضو متصل ولو شعرا أو نحوه فيقع ما لم ينو غيره أو مطلق التحريم وكنايته كأمي أو مثلها أو في منازلها وحرام فيشترط النية وكلاهما كناية طلاق ويتوقت ويتقيد بالشرط والاستثناء الا بمشيئة الله في الاثبات ويدخله التشريك والتخيير] . قوله: باب: "الظهار فصل صريحة قول مكلف". أقول: اشتراط كون الزوج مكلفا مختارا وجهه ان غير المكلف لا يصلح لايقاع هذا ولم يؤذن له به وهكذا المكره لا حكم لفعله ولا يعتد به لان الاختيار شرط لصحة كل إنشاء. وأما قوله: "مسلم" فوجهه ان ما في الكتاب والسنة متضمن لما شرعه الله لعباده المسلمين وأما الكفار فهم وإن كان فيهم الخلاف في التكليف بالشرعيات فليس ذلك إلا باعتبار العقوبة عليهم في تركها لا باعتبار وجوب تنجيزها عليهم حال الكفر ولا باعتبار صحتها منهم. وأما كونه لزوجة تحته فلأنه لا يكون ظهارا إلا ما كان كذلك لأنه نوع من أنواع الفرقة فلا يقع على اجنبية لعدم المقتضى ووجود المانع وقد صح أنه: "لا طلاق قبل نكاح" كما تقدم فهكذا ما يؤول أمره إلي ما يؤول إليه الطلاق ولو في بعض أحواله وأما اعتبار كونها تحته فلأن المطلقة قد وقعت عليها الفرقة بنفس الطلاق ولا يتبع الطلاق الطلاق كما قدمنا ولا ما هو في معنى الطلاق لأنه تحصيل للحاصل ولا يشترط في الزوجة شيء مما يشترط في الزوج لانها إنما هي مكان للإيقاع عليها وذلك يصح كيف كانت.

قوله: "ظاهرتك وانت مظاهرة". أقول: إن الظهار الذي نص عليه القرآن الكريم المراد به ما كانت توقعه الجأهلية ويجعلونه طلاقا وكانوا يقولون انت على كظهر امي فتصير المرأة بذلك مطلقة فمعنى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] يوقعون عليهن ما كانت توقعه الجأهلية على نسائهم فمن أراد هذا المعنى بلفظ يدل عليه كقوله ظاهرتك وانت مظاهرة أو انت الظهار كان ذلك صحيحا والأرادة جارية على مقتضى اللغة كما لو قال في الطلاق انت الطلاق ونحو ذلك ولا يمنع من هذا شرع ولا عقل ولا لغة. قوله: "أو يشبهها أو جزءا منها بجزء من امه نسبا". أقول: هذا صواب لأن اجزاء الام متفقة فلا فرق بين الظهر وغيره وأما تشبيه مثل الزوجة بابنته واخته أو جزء منها بجزء منها فهذا خارج عن معنى النص وإن كان معنى الحرمة موجودا والقول بالقياس لا يكون الا بجامع الحرمة وجامع الحرمة موجود في الاجنبيات فضلا عن القرائب فإن أريد التحريم المؤبد لزم ذلك في مثل الملاعنة. والحاصل ان هذا القياس لا ينبغي ان يقال به ها هنا فإن الله سبحانه قد وصف المظاهرين بانهم: {لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} [المجادلة: 2] ، فلا ينبغي توسيع دائرة ما هذا شأنه بل يقصر على موردا لنص وهن الامهات من النسب وقد استرسل بعض أهل العلم في هذا القياس حتى قال: إن مجرد تحريم الوطء المطلق ظهار وهو باطل من القول وغلط في الاستدلال. وأما اعتبار ان يكون ذلك الجزء مشاعا فظاهر لأنه يدخل فيه كل جزء من أجزاء البدن بقدر ما سمى. وهكذا قوله أو عضو متصل فإنه لا يشترط ان يكون الذي سماه هو الفرج أو ما يدخل فيه الفرج أو جزء منه ليكون موردالنص هو تشبيه الزوجة بظهر الام وهو غير الفرج ولا يدخل فيه شيء منه. وأما قوله: "ولو شعر أو نحوه" فمبني على أنه يعود على مسمى العضو وهو يتخالف كما في كتب اللغة. قوله: "فيقع ما لم ينو غيره". أقول: قد الزم رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الظهار من ظاهر في الإسلام وهو لم يرد الا ما كانت تريده الجأهلية ولم يكن قد تبين حكم الظهار في الإسلام حتى يكون مرادا له وقد ورد الإسلام بنسخ كون الظهار الذي كانت تفعله الجأهلية طلاقا وأوجب فيه الكفارة ولا يخفى ان من نوى الظهار ما كانت تنويه الجأهلية به وهو الطلاق فقد صار مظاهرا ولزمته أحكام الظهار التي بينها الكتاب والسنة لأن السبب وارد فيمن أراد ظهار الجأهلية وهو الطلاق فقوله فيقع مالم ينو غيره غير مسلم بل يقع ولو نوى به الطلاق. وأما إذا نوى اليمين فقد نوى به غير معناه اللغوي والشرعي وليس هذا اللفظ من ألفاظ

اليمين فلا يقع ظهارا لعدم نيته له ولا للطلاق ولا يقع يمينا لان الجأهلية لم تستعمله في ذلك ولا فيه ما يفيد اليمين. وأما إذا أراد تحريم العين فهو يصدق عليه أنه قد أراد ما كانت عليه الجأهلية فإنهم لا يريدون بقولهم للنساء هن عليهم كظهور امهاتهم الا التحريم الذي يستلزم الفرقة لان الشرع اقر أرادة التحريم وإن جعلها منكرا من القول وزورا ورتب عليها ما رتب من التكفير. ومما يؤيد هذا ما أخرجه أهل السنن [أبو داود "2221"، الترمذي "1199"، ابن ماجة "2065"، النسائي "3475"] ، وصححه الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها, فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال: "ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ " فقال: رأيت خلخالها في ضوء القمر, فقال صلى الله عليه وسلم: "فلا تقربها حتى تفعل ما امرك الله"، فإن قوله قبل ان اكفر يفيد أنه أراد الظهار الشرعي وأنه وقع منه ذلك بعد ورودالشرع به فوجب عليه ما وجب على المظاهر وهذا إذا أراد تحريم العين بما جاء به من لفظ الظهار وأما إذا قال حرمتها أو هي حرام فليس شيء لأنه حرم على نفسه ما لم يحرمه الله عليه وليس له ان يشرع لنفسه ما لم يشرع الله لها ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل امراته فهي يمين يكفرها, وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ، وقد اطلنا المقال في هذا البحث في شرحنا للمنتقى فليرجع اليه. وأما قوله: "وكنايتها كأمي ومثلها" الخ فصحيح لأن اللفظ إذا احتمل معنيين أو معاني لم ينصرف إلي احدهما الا بالنية من المتكلم. وأما قوله: "وحرام" فليس بشيء كما عرفت. وأما قوله: "وكلاهما كناية طلاق" فقد قدمنا لك ان الشرع نسخ ما كانت تفعله الجأهلية من الظهار مريدين به الطلاق وظاهر هذا أنه لا يقع به الطلاق اصلا وإن أراده لأنه أراد ما لم يصح في الشريعة. قوله: "ويتوقت". أقول: لما أخرجه أحمد "4/37، 5/436"، وابو دأود "2213"، والترمذي "1198، 3299"، وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن الجارود والحاكم من حديث سلمة بن صخر قال كنت امرءا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرتي حتى ينسلخ رمضان الحديث وهو يدل على صحة توقيت الظهار وقد اثبت النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الظهار كما في بقية الحديث وفيه طول وفيه أنه واقعها قبل انقضاء رمضان وأما قوله: "ويتقيد بالشرط والاستثناء" فظاهر لعدم المانع من ذلك. وأما قوله: "إلا بمشيئة الله" يعني فإنه لا يصح تقييده بها لان الله سبحانه لا يشاؤه لوصفه

له بأنه منكر من القول وزور فإذا قيده بمشيئته لم يقع وأيضا الاحاديث الواردة في مطلق التقييد بالمشيئة تدل على ان ما قيد بها لا يلزم لا في اليمين ولا غيرها كما قدمنا. وأما كونه يدخله التشريك والتخيير فوجهه ما قدمنا في الطلاق. [فصل ويحرم به الوطء ومقدماته حتى يكفر أو ينقضي وقت الموقت فإن فعل كف ولها طلب رفع التحريم فيحبس له إن لم يطلق ولا يرفعه الا انقضاء الوقت أو التكفير بعدالعود وهو أرادة الوطء ولا يهدمه الا الكفارة وهي عتق كما سيأتي فإن لم يجد فصوم شهرين في غير واجب الصوم والافطار لم يطأها فيهما ولا وإلا استأنف الا لعذر ولو مرجوا زال فيبنى فإن تعذر البناء على الصوم قيل اطعم للباقي فإن لم يستطعه فاطعام ستين مسكينا أو تمليكهم كاليمين وياثم إن وطيء فيه قيل ولا يستأنف ولا يجزئ العبد الا الصوم ومن امكنه الاعلى في الادنى استأنف به والعبرة بحال الأداء وتجب النية الا في تعيين كفارتي متحد السبب ولا تتضاعف الا بتعدد المظاهرات أو تخلل العود والتكفير] . قوله: فصل: "ويحرم به الوطء ومقدماته حتى يكفر" أقول: لأن هذا التحريم هو مدلول الظهار الذي ورد به الكتاب والسنة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر في الحديث المتقدم عنه ان لا يقربها حتى يفعل ما امره الله وهو حديث صحيح كما قدمنا ولم يأت من اعله بما يصلح لدعواه. وأما قوله: "أو ينقضي وقت المؤقت" فبمني على ان انقضاء الوقت بمثابة العود والوطء وأما قوله: "فإن فعل كف" يعني حتى يكفر وليس عليه في هذا الوطء كفارة غير الكفارة التي وجبت للظهار لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض على من وطيء قبل ان يكفر الا بكفارة واحدة كما تقدم وقد أخرج الترمذي وحسنه ابن ماجه من حديث سلمة بن صخر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظاهر بواقع قبل أن يكفر قال: "كفارة واحدة"، قال الترمذي والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم. وأما قوله: "ولها طلب رفع التحريم" الخ فصواب لان الاستمرار على التحريم مضاره لها وقدنهى الله سبحانه عن ذلك ولا اعتبار بما يقوله المقلدون بأنه لا حق لها في الوطء فكيف تطلب رفع التحريم نعم إذا كان لا يريد إمساكها سرحها بإحسان كمال قال الله سبحانه. قوله: "ولا يرفعه الا انقضاء الوقت أو التكفير بعد العود" الخ. أقول: أما كونه يرفعه انقضاء الوقت بدون تكفير فغير مسلم وأما كونه يرفعه التكفير بعد

العود فصحيح كما صرح به الكتاب العزيز قال الله عز وجل: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] ، واختلفوا هل العلة في وجوبها العود أو الظهار بعد اتفاقهم على انها تجب الكفارة بعد العود؟. فذهب قوم إلي الأول وذهب آخرون إلي الثاني وذهبت طائفة ثالثة إلي ان العلة مجموع العود والظهار ثم اختلفوا في العود ما هو فقيل إنه أرادة المس لما حرم بالظهار وقيل بل هو إمساكها بعد الظهار وقتا يسع الظهار ولم يطلق وقيل هو العزم على الوطء فقط وإن لم يطأ وقيل هو الوطء نفسه وقيل إعادة لفظ الظهار. والظاهر ان المراد به العود من الحالة التي هو فيها وهي التحريم بالظهار إلي الحالة التي كان عليها وهو كون الوطء حلالا بموجب عقد النكاح وهذا هو الذي تقتضيه اللغة وتنطبق عليه الأدلة كما لا يخفى فإنه إذا عزم الرجل على شيء فقال إنه قد عاد عما عزم عليه كان المفهوم من هذا العود هو الرجوع من العزم على ذلك الشيء إلي عدم العزم عليه فالعائد هو هذا. قوله: "ولا يهدمه الا الكفارة". أقول: هذا صحيح وهو الذي ذكره الله سبحانه وجاءت به السنة المطهرة ومن قال إنه يهدمه غير الكفارة فهو إنما نظر إلي أنه قد حصل موجب للتحريم أما مطلقا أو مقيدا وليس الكلام في هذا إنما الكلام في الشيء الذي يصير به منهدما حتى يكون وجوده كعدمه. وأما مثل الطلاق ونحوه مما تحصل به الفرقة فذلك لا يوجب رفع ما كان قد اقترفه من أمر الموجب لما أوجبه الله من الكفارة عند ان يريد عودها إلي نكاحه. قوله: "وهي عتق" الخ. أقول: التقييد لإجزاء الصوم بعدم وجود رقبة يعتقها ثم تقييد إجزاء الاطعام بعدم الاستطاعة للصوم هو الذي صرح به الكتاب العزيز وصرحت به السنة المطهرة في مظاهرة أوس بن الصامت لزوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة. وأما قوله: "لم يطأ فيهما" فهو أمر مجمع عليه كما حكاه ابن القيم وغيره فإنه قال لا خلاف في تحريم وطئها في زمن الصوم ليلا ونهارا. وأما اشتراط ان يكون الصوم متتابعا فلذكر التتابع في الكتاب العزيز والسنة المطهرة وظاهر ذلك ان من لم يتابع لم يفعل ما أمر الله سبحانه ولا صام الصوم الذي شرعه الله فيستأنف وأما إذا كان ترك التتابع لعذر مسوغ فذلك لتقييد ما أوجبه الله سبحانه بالاستطاعة وهذا لم يستطع فلا يجب عليه الاستئناف. وأما قوله: "فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا" فهذا هو الذي صرح به القرآن والسنة وأما قوله: "أو تمليكهم كاليمين" فمراده ان يدفع اليهم ما يأكولنه وذلك هو إطعام إذ لا فرق في صدق مسمى الاطعام بين ان يهيء لهم طعأما يأكلونه أو يدفع إلي كل واحد من الطعام ما يأكله وقد ورد في الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر"، كما

في حديث أوس بن الصامت وورد في حديث سلمة ابن صخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا فقال: "أطعمه ستين مسكينا". وظاهر القرآن والسنة أنه يطعم ستين مسكينا مرة واحدة أما ان يهيء لهم طعأما يأكلونه عنده أو بأن يدفع إلي كل واحد ما يأكله ولا يجب الاطعام مرتين ولا دليل علي ذلك. قوله: "وياثم إن وطيء فيه". أقول: وقع في الكتاب العزيز التقييد بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ، في العتق والصوم ولم يقع التقييد به في الاطعام فالظاهر عدم الإثم في الاطعام وعدم الاستئناف لأن ترك التقييد فيه مشعر بان احكمه غير حكم ما وقع التقييد فيه إعمالا للكتاب العزيز ورجوعا إلي البراءة الاصلية ومن زعم ان الاطعام لاحق بالعتق والصوم بالقياس بعدم الفارق فزعمه هذا رد عليه فإن التنصيص في الكتاب العزيز على البعض دون البعض دليل على الفرق وإن لم يعلمه {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] ، {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . على أنه قد قيل إن عدم وجوب الاستئناف في الاطعام مجمع عليه وهذا الاجماع إن صح يندفع به القياس وتبطل معه دعواه. وأما قوله: "ولا يجزء العبد الا الصوم" فمبنى على ان العبد لا يملك فلا يجب عليه ما هو مال وأما قوله: "ومن أمكنه الاعلى في الادنى استأنف به" فلا وجه له فإنه فعل ما هو الواجب عليه ودخل فيه حال كونه لا يجب عليه غيره فتجدد الوجوب عليه بعد التلبس بما هو الواجب عليه تكليف له بما لم يكلف به. وأما كون العبرة بحال الأداء فصحيح لان اعتبار غيرها مع استمرار الوجوب عليه يحتاج إلي دليل. وأما كونها تجب النية فظاهر لان التكفير عمل والاعمال بالنيات ولو كان ذلك في كفارتي متحدي السبب فإن التعيين بالنية واجب لأن كل واحدة منهما عمل والاتحاد لا يبطل ذلك ولا يرفع الوجوب. وأما قوله: "ولا تتضاعف الا لتعدد المظاهرات" فصحيح لان الله سبحانه لم يوجب في الظهار الا كفارة واحدة فمن زعم أنه يجب غير ذلك فقد ادعى مالا دليل عليه وقد قدمنا الدليل على عدم تعود الكفارة وأنه مذهب الجمهور. وهكذا تعدد الكفارة إذا تخلل العود والتكفير بين الظهارين لأن كل واحد منهما أوجب الشرع فيه كفارة وإن كانت المظاهرة واحدة ومثل هذا ظاهر لا يحتاج إلي التنصيص عليه.

باب الايلاء

[باب الايلاء من حلف مكلفا مختارا مسلما غير اخرس قسما لا وطيء ولا لعذر زوجة تحته كيف كانت أو اكثر لا بتشريك مصرحا أو كانيا نأويا مطلقا أو مؤقتا بموت ايهما أو بأربعة اشهر فصاعدا أو بما يعلم تأخره عنها غير مستثنى الا ما تبقى معه الاربعة رافعته بعدها وإن قد عفت إن رجعت في المدة وكلهن مع اللبس لا ولي غير العاقلة فيحبس حتى يطلق أو بفيء القادر بالوطء والعاجز باللفظ ويكلفه متى قدر ولا إمهال الا بعد مضى ما قيد به يوما أو يومين ويتقيد بالشرط لا الاستثناء الا ما مر ولا يصح التكفير الا بعد الوطء ويهدمه لا الكفارة والتثليث والقول لمنكر وقوعه ومضى مدته والوطء وسنة ثم سنة إيلاءان لاسنتان] . قوله: باب: "الايلاء فصل يوجبه حلف مكلف" الخ. أقول: وجهه ان حلف غير المكلف لا ينعقد ولا يلزم لرفع قلم التكليف عنه وهكذا حلف المكره لأن فعله لم يصدر على وجه يتعلق به حكمه. وأما اشتراط ان يكون مسلما فلكون هذه الشريعة واردة لما شرعه الله لأهل الإسلام وأما خطاب الكفار بما اخلوا به من الواجبات في الدنيا عند الحساب يوم القيامة فذلك بحث آخر لأن عقوبتهم عليها في الاخرة لا يستلزم صحتها منهم في الدنيا. وأما اشتراط ان يكون غير اخرس فظاهر لان هذا بحث لفظي والاخرس لا يقدر على الكلام. وأما اشتراط ان يكون الحلف قسما فزيادة قد افادها قوله من حلف لأن مطلق الحلف ينصرف إلي القسم بالله أو بصفاته. وأما قوله: "لا وطيء ولا لعذر" فصحيح لأن الحكم مترتب على الحلف وقد وقع سواء كان سبب الحلف عذرا أو غير عذر وأما كون المحلوف عليه هو وطء الزوجة فظاهر لأنه لا يقال للحلف إيلاء الا إذا كان كذلك وإلا كان يمينا من سائر الايمان. وأما كونها تحته كيف كانت فالكلام فيه كالكلام في الظهار وقد تقدم. وهكذا قوله لا بتشريك فإنه لا يصح مجرد التشريك بل لا بد من الحلف من كل واحدة لان معنى هذا الباب لا يوجد الا بالحلف ولا حلف من الاخرى. وأما قوله: "مصرحا أو كانيا نأويا" فظاهر لأن المراد ما يفهم به المراد وهو يحصل بالكناية كما يحصل بالتصريح وأما النية فلا بد منها في الصريح والكناية كما قدمنا ذلك غير مرة وهكذا لا فرق بين ان يكون الحلف مطلقا أو مقيدا بوقت لأن الكل حلف يصدق عليه مسمى الايلاء. وأما كون التوقيت بالموت أو بأربعة اشهر فصاعدا أو بما يعلم تأخره عنها فالوجه في ذلك

كله ان الله سبحانه قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] ، فإذا وقت بالموت فهو غاية ماله من الحياة ولكن بعد مضى الاربعة ترافعه وإذا وقت بما فوق الاربعة رافعته عند انقضاء الاربعة وهذا مبني على أنه لا يصح التوقيت بدون الاربعة وأنه لا يكون ايلاء الا بذلك والاية غير واردة في هذا المعنى بل واردة في معنى مدة الامهال للمولى وانها تجوز للمرأة المرافعة بعد الاربعة الاشهر لما في الزيادة عليها من الاضرار بها. وقد ثبت في الصحيح [البخاري "9/300"، مسلم "25/1085"] ، ان النبي صلى الله عليه وسلم أقسم ان لا يدخل على نسائه شهرا فلو كان ما في القرآن بيانا للمدة التي لا يجوز ان يكون وقت الايلاء دونها لم يقع منه صلى الله عليه وسلم الايلاء شهرا فعرفت بهذا ان هذه المدة ليست الا لعدم جواز التوقيت بزيادة عليها وأنه يجوز للمرأة المرافعة بعدها. وأما قوله: "وكلهن مع اللبس" فظاهر لأنه قد جاء بما يحتمل ان كل واحده منهن محلوف منها على انفرادها فلا يجوز قربان إحداهن الا بعد انجلاء اليمين وأما كونه يحبس حتى يطلق أو يفيء فوجهه أنه لا يرتفع الضرار عن الزوجة الا بذلك وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال إذا مضت اربعة اشهر يوقف حتى يطلق ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق قال البخاري ويذكر ذلك عن عثمان وعلى وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أحمد بن حنبل عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر انهم قالوا يوقف المولى بعد الاربعة فأما ان يفيء وأما ان يطلق. وأخرج الدارقطني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال سألت اثني عشر رجلا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل يولى قالوا ليس عليه شيء حتى تمضي اربعة اشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق. قوله: "والقادر بالوطء" الخ. أقول: الظاهر ان قوله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] ، معناه الرجوع كما يفيد ذلك اللغة فمعنى فاءوا رجعوا إلي ما كانوا عليه وحللوا ما وقع منهم من اليمين بالتكفير عنها وذلك أمر يكفي فيه العزم عليه والقصد اليه ولا يعتبر وطء ولا لفظ وبهذا يعرف أنه لا وجه لقول المصنف رحمه الله ويكلفه متى قدر ولا إمهال الخ. وأما قوله: "ويتقيد بالشرط" فصحيح لأنه يمينه هذه كلام من جملة الكلام الذي يقبل التقييد بالشرط والاستثناء ولا مانع من ذلك. وأما كونه لا يصح التفكير الا بعدالوطء فوجهه ان الكفارة تلزم بالحنث والمحلوف عليه هو الوطء فلاتلزمه الكفارة الا بعد الحنث بفعل ما حلف عليه أنه لا يفعله. وأما قوله: "ويهدمه لا الكفارة التثليث" فلا وجه له إذ لا مدخل للتثليث في رفع هذه اليمين إلا أن يريد أنها لا ترافعه إذا انقضت الاربعة الاشهر وقد صارت مثلثة فهذا صحيح لأنه

هنا قد حرم وطؤها بسبب آخر وهو التثليث فليس لها المطالبة بشيء قد صار محرما عليها وعلى زوجها. فإن قيل انها تطالبه بأن يفيء باللفظ لترفتع الغضاضة عنها فقد عرفناك ان الفيء الرجوع إلي النكاح وقد ارتفع فلا يصح الرجوع اليه الا بعد ان تنكح زوجا غيره ومتى رجعت اليه بعد نكاح غيره فوطئها لزمته الكفارة. وما أقل جدوى هذا الانهدام الذي ذكره المصنف لا سيما مع اعترافه بأنها لاتنهدم الكفارة وأما قوله: "والقول لمنكر وقوعه ومضى مدته والوطء" فظاهر لأن الاصل عدم هذه الثلاثة فالقول لمنكرها وعليه اليمين وعلى مدعيها البينة. وأما قوله: "وسنة ثم سنة إيلاءان" فلا وجه له بل هو إيلاء واحد تعلقت به تلك اليمين فلا فرق بين قوله سنة ثم سنة وبين قوله سنتان نعم إذا قال والله لا وطئتك هذه السنة ثم قال والله لا وطئتك السنة التي بعدها كان ذلك إيلائين فترافعه في السنة الأولى بعد مضي اربعة اشهر وكذلك في السنة الثانية.

باب اللعان

[باب اللعان يوجبه رمي مكلف مسلم غير اخرس لزوجة مثله حرة ممكنة الوطء تحته عن نكاح صحيح أو في العدة بزنا في حال يوجب الحد ولو قبل العقد أو نسبة ولده منها إلي الزنا مصرحا قيل ولو بعد العدة وثم إمام ولا بينة ولا اقرار فيهما ومنه يا زانية] . قوله: باب: "اللعان فصل يوجبه" الخ. أقول: المراد بالايجاب التسويغ والجواز مع ثبوت ذلك ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يعظ الملاعنين ويخوفهما من الاقدام عليه. وأما اشتراط كون الزوج مكلفا مسلما فلما تقدم غير مرة. وأما كونه غير اخرس فلكون اللعان لا يكون الا باللفظ لا بالاشارة ولا بالكناية. وأما اعتبار كون الزوجة مثل الزوج فلأنها تحلف كما يحلف وتثبت ما ينفي الزوج وتنفي ما يثبت وذلك لا يكون الا من مكلفة مسلمة غير خرساء. وأما اشتراط ان تكون الزوجة حرة فلكون ذلك مورد النص ولكن المفسدة كائنة في الامة كالحرة والأحكام تدور بدوران عللها. وأما كونها ممكنة الوطء فلأن اللعان لا يكون الا بالرمي بالزنا أو النفي للولد وهو يستلزم الزنا فن كانت رتقاء أو عذراء فلا يتيسر ذلك منها.

وأما كونها تحته عن نكاح صحيح فلا وجه له بل يكفي ان تكون تحته عن نكاح شبهة يوجب لحوق النسب لأن ذلك هو المقتضى للعان ومعلوم ان نفي اللاحق بشبهة يترتب عليه من الفائدة ما يترتب على نفي اللاحق بنكاح صحيح. وأما قوله: "في العدة" فصحيح لأن لحوق الولد به في العدة ثابت لثبوت الفراش فالغرض باللعان موجود وهو نفي الولد. وأما قوله: "بزنا في حال يوجب الحد" فهذا صحيح إن كان الغرض من اللعان دفع الحد وأما إذا كان الغرض منه نفي الولد فهذا صحيح وإن كان الحد ساقطا لشبهة كما تقدم واضافة الزنا منها إلي قبل عقده بها صحيح لان الغرض الذي يكون لاجله اللعان موجود. وهكذا يقوم مقام رميه بالزنا نسبة ولده منها إلي الزنا لأن ذلك يستلزم الزنا. وأما قوله: "ولو بعد العدة" فإنما يتم إذا كان الولد لاحقابه بعدها لا إذا لم يلحق به فلا فائدة في اللعان وأما أعتبار ان يكون في الزمان إمام فلا وجه لذلك بل الصالح لتنفيذ أحكام الله سبحانه من هذه لامة يقوم بما تقوم به الائمة في جميع الامور من غير فرق بين الحدود وغيرها كما تدل على ذلك الايات القرآنية والاحاديث النبوية. وأما قوله: "ولا بينة ولا إقرار فيهما" فصحيح لأن اللعان إنما يصح مع التناكر والتدافع وأما قوله: "ومنه يا زانية" فلا حاجة اليه بعد قوله بزنى. [فصل ويطلبه الزوج للنفي وإسقاط الحق وهي للنفي والقذف فيقول الحاكم بعد حثهما على التصادق فامتنعا قل والله إني لصادق فيما رميتك به من الزنا ونفي ولدك هذا اربعا ثم تقول والله إنه لمن الكاذبين في رميه ونفيه كذلك والولد حاضر مشار اليه فإن قدمها اعاد ما لم يحكم ثم يفسخ ويحكم بالنفي إن طلب فيسقط الحد وينتفي النسب وينفسخ النكاح ويرتفع الفراش ويحرم مؤبدا لا بدون ذلك مطلقا ويكفي لمن ولد بعده لدون ادنى الحمل ويصح الرجوع عن النفي فيبقى التحريم فإن رجع بعد موت المنفي لم يرثه قبل وإن لحقه ولده ولا نفي بعد الاقرار أو السكوت حين العلم به وإن له النفي ولا بدون حكم ولعان ولا لمن مات أو أحد ابويه قبل الحكم ولا لبعض بطن دون بعض ولا لبطن ثان لحقه بعد اللعان ويصح للحمل إن وضع لدون ادنى مدته لا اللعان قبل الوضع. وندب تأكيده بالخامسه والقيام حاله وتجنب المسجد] .

قوله: فصل: "ويطلبه الزوج" الخ. أقول: الطلب من كل واحد منهما يكون لاحد غرضين أولهما معا الأول انتفاء نسب الولد من الزوج وغرض الزوج من ذلك أنه لا يلحق به من هو من غيره وغرضها ان يكون ابنا لها على الاستقلال. الثاني دفع الحد فغرض الزوج باللعان ان لا يحد حد القذف وغرضها ان لا تحد حد الزنا. وأما كون من أغراض الزوج إسقاط الحق من نفقة عدة ونحوها فذلك لا يتم الا على القول بوجوب النفقة ونحوها لكل مطلقة رجعيا كان أو بائنا وقد عرفت ما قدمنا من أنه لا نفقة ولا سكنى للمطلقة بائنا فالزوج يمكنه ان يسقط عن نفسه ذلك بطلاق بائن من غير اقتحامه لهذه العقبة الكوود. قوله: "فيقول الحاكم بعد حثهما على التصادق". أقول: قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال لهما: "إن عذاب الدنيا اهون من عذاب الاخرة" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "5312"، مسلم "1493"] ، وغيرهما [أبو داود "2257"، النسائي "6/177"، أحمد "4587"] ، أنه قال لهما: "الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ". وأما قوله: "قل: والله إني لصادق فيما رميتك به من الزنا" فقد علمنا الله سبحانه كيف يقول المتلاعنان فلا حاجة إلي الزيادة على ذلك ولا في إحضار الولد. وأما قوله: "فإن قدمها أعاد ما لم يحكم" فوجهه أن القرأن قدم إيمان الزوج على إيمان الزوجة فتقديمها مخالف لما علمنا الله به وأرشدنا إليه وهكذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان الواقع لديه الرجل على المراة وأيضا قولها والله إنه لكاذب جواب عن قوله إنه لصادق والجواب لا يتقدم على ما هو جواب عليه. قوله: "ثم يفسخ ويحكم بالنفي". أقول: قد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للزوج: "لا سبيل لك عليها" وفي الدارقطني من حديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرق بين المتلاعنين وقال: "لا يجتمعان أبدا"، وهكذا روى من حديث ابن عباس [أبو داود "2256"] ، ومن حديث علي وابن مسعود. وأما نفي الولد فثبت في الصحيحين [البخاري "5315"، مسلم "8/1494"، وغيرهما [أبو داود "2259"، الترمذي "1203"، النسائي " 6/178"، أحمد "2/7، 38، 64، 71"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين والحق الولد بالمرأة. وأما ما ذكره من سقوط الحد فلا ينبغي ان يقع فيه خلاف لأن ذلك هو موجب اللعان وهكذا كونه ينفي النسب لأن ذلك موجب اللعان أيضا وهكذا كونه ينفسخ النكاح بمجرد اللعان لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سبيل لك عليها".

وأما ما ثبت في الصحيحين [البخاري "5308"، مسلم "1492"] ، من ان عويمرا العجلاني لما فرغا من اللعان قال كذبت عليها يا رسول الله إن امسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يامره رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس في ذلك حجة الا أنه ثبت في الصحيحين وغيرهما عن الزهري أنه قال فكانت سنة المتلاعنين وفي الصحيحين وغيرهما أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذاكم التفريق بين كل متلاعنين"، وفي لفظ لمسلم وغيره أحمد "وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين". وأخرج أبو دأود بإسناد رجاله رجال الصحيح عن سهل بن سعد في خبر المتلاعنين قال: فطلقها ثلاث تطليقات فانفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند النبي صلى الله عليه وسلم سنة والحاصل أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق ما بينهما قبل الطلاق كما تقدم فالفرقة بتفريق الحاكم مغنية عن الطلاق فإن وقع الطلاق فذلك تأكيد للقرعة ولا تتوقف الفرقة عليه وإنما نسبه إلي السنة لكونه وقع بحضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينكره. وأما كونه يرتفع الفراش فلكونها قد حرمت عليه تحريما مؤبدا كما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم بلفظ: "لا يجتمعان أبدا". وأما قوله: "لا بدون ذلك مطلقا" فصحيح لكونه لم يكمل السبب. وأما قوله: "ويكفي عن ولد بعده" الخ فلكونه حملا واحدا لا يصح النفي لبعضه دون البعض. قوله: "ويصح الرجوع عن النفي" الخ. أقول: الرجوع عن النفي رجوع عن اللعان وإقرار ببطلان أيمانه وأنه مفتر عليها وقاذف لها فبطل اللعان من اصله ولا يبقى شيء من أحكامه لا تحريم ولا غيره ولا فرق بين ان يرجع قبل موت الولد أو بعده وتجويز ان يكون رجوعه طمعا في الميراث لا يدفع ما هو الظاهر فيرثه ويلحقه ولده. وأما كونه لا يصح نفي الولد بعد الاقرار فظاهر لان الاقرار يكذب النفي. وأما مجرد السكوت مع علمه بأن له النفي فلا وجه لجعله مبطلا لان له حقا في النفي لا يبطل الا بابطاله باقرار صحيح أو ما يقوم مقامه. وأما قوله: "فلا يصح النفي بدون حكم ولعان" فلكون الطريق الشرعية إلي ذلك هو اللعان فمن جاء من طريق غيرها فقد جاء بخلاف الشرع. وأما قوله: "ولا لمن مات أو أحد ابويه قبل الحكم" فلا وجه له بل إذا أمكن اللعان فالسبب الذي يكون به النفي موجود سواء كان الولد حيا أو ميتا وأما إذا كان الميت أحد الزوجين قبل أن يقع اللعان فقد بطل السبب وهو اللعان بموته.

وأما إذا مات بعد اللعان قبل الحكم فقد حصل السبب وهو اللعان لأنه فرقة بمجرده كما تقدم ولو كان الحكم شرطا لما كانم موت احدهما مانعا له لأنه يمكن الحاكم ان يحكم بعد موت احدهما بما يقتضيه اللعان من نفي الولد. وأما قوله: "ولا لبطن ثان لحقه بعد اللعان" فلا وجه له لانها قد حرمت عليه ابدا فلا يمكن بعد ذلك ثبوت الفراش وقد صرح فيما تقدم بأنه يرتفع الفراش وعرفناك ان التحريم المؤبد وارتفاع الفراش يحصلان بمجرد اللعان سواء وقع الحكم من الحاكم ام لا. وأما قوله: "ويصح للحمل إن وضع لدون أدنى مدته" فلا وجه لهذا التقييد بل يصح للحمل مهما كان ممكنا ان يكون للفراش الذي كان بينهما. وأما قوله: "لا اللعان" فوجهه أنه قد يكون غير حمل لعلة من العلل ولا وجه لهذا لأن مرجع اللعان هو ان يشاهدها تزني فإن وقع له ذلك لاعنها ونفى ولدها إن وجد ولا يضره إن لم يوجد. والحاصل ان هذه مسائل مظلمة لم يدل عليها دليل ولا كانت مبنية على رأي معقول. قوله: "وندب تأكيده بالخامسة". أقول: الخامسة منصوص عليها في الكتاب العزيز وأمر بها صلى الله عليه وسلم في اللعان الواقع لديه فلها حكم الاربع الشهادات ولا يبعد ان تكون آكد منها ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها الموجبة"، فإن هذا يشعر بأن تمام اللعان وصحته وإبجابه لما يوجبه يتوقف عليها فكان الأولى الحكم عليها بما يدل على انها آكد من الاربع الشهادات وأدخل منها في اقتضاء حكم اللعان. وأما قوله والقيام حاله فيرشد اليه ما وقع في وصف اللعان الواقع بين يديه صلى الله عليه وسلم أنه قام الرجل فقال: وقامت المرأة فقالت. وأما قوله: "ويجنبه المسجد" فلا وجه له بل هو خلاف ما روى من وقوع اللعان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد عند المنبر

باب الحضانة

[باب الحضانة الأم الحرة أولى بولدها حتى يستغنى بنفسه أكلا وشربا ولباسا ونوما ثم امهاتها وإن علون ثم الاب الحر ثم الخالات ثم امهات الاب وإن علون ثم امهات أب الام ثم الاخوات ثم بنات الخالات ثم بنات الاخوات ثم بنات الاخوة ثم العمات ثم بناتهن ثم بنات العم ثم عمات الاب ثم بناتهن ثم بنات اعمام الاب ويقدم ذو السببين ثم ذو الام وينتقل من كل إلي من يليه بالفسق والجنون ونحوه والنشوز والنكاح الا بذي رحم له "م" وتعود بزوالها ومضى

عدة الرجعى فإن عدمن فالاقرب الاقرب من العصبة المحارم ثم من ذوي الرحم المحارم ثم بالذكر عصبته غير محرم ثم من ذوي رحم كذلك] . قوله: باب: "الحضانة الام الحرة أولى بولدها". أقول: قال الله عز وجل: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 232] فجعل الرضاع اليهن واثبت الحق لهن لا ينزع ذلك عنهن نازع الا مع التعاسر كما في قوله عز وجل: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 2] . ويؤيد ثبوت الحق لهن وتقديمهن على غيرهن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي"، وهو حديث حسن لا مطعن في إسناده ويؤيده حديث: "لا توله والدة بولدها" وستأتي الاحاديث الدالة على المنع من التفريق ولا يزال الحق ثابتا للأم حتى يبلغ الصبي إلي سن الاستقلال فإذا بلغ ذلك ووقع النزاع بين الام والاب كان العمل على حديث تخيير الصبي الذي أخرجه أحمد وابو دأود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للغلام: "هذا أبوك وهذه أمك فاتبع أيهما شئت"، فتبع أمه فالجمع بين الحديثين ظاهر مكشوف ولا ينافي ذلك كون الاب اعرف بمصالح المعاش وادرى بما فيه المنفعة للصبي في حاله وماله فإن النظر منه في ذلك ممكن مع كون الصبي عند امه وفي حضانتها ولا وجه لرد الاحاديث بمجرد هذا الخيال ثم لا فرق بين الحرة والامة لعموم الأدلة ولاستوائهما في الحنو على الصبي ورعاية ما يصلحه ودفع ما يضره فإن لم يقع الاختيار من الصبي أو تردد في الاختيار وجب الرجوع إلي الاقراع بينهما لثبوت ذلك في حديث أبي هريرة عند أبي شيبة بلفظ: "استهما فيه" وصححه ابن القطان. قوله: "ثم امهاتها وإن علون". أقول: ليس على هذا دليل الا مجرد القياس على الامهات وغيره من طرق النص الذي لا يجوز معه التعلق بالاقيسة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الخالة أم"، [البخاري "2699"] ، قال ذلك عند وقوع التخاصم في الحضانة فإذا عدمت الأم أو بطل حقها فالخلالة أقدم من الجدات وهي مع الأب كالام معه يثت بينهما التخيير للصبي والاستهام عليه ولم يأت من خالف هذا بشيء يعول عليه أو يصلح للرجوع اليه. وأما قوله: "ثم أمهات الأب" إلي آخر المعدودات فلا دليل على شيء من ذلك بل مجرد رأي بحت وجهه النظر إلي من هو مظنة للحنو على الصبي. والحاصل ان الحق في الحضانة للأم ثم للخالة فإن عدما فالأب أولى بولده يضعه حيث يشاء من قرائبه أو غيرهن وإذا وقع النزاع بينه وبين الام أو الخالة كان الحكم ما تقدم في الاحاديث كما بينا وإذا كان الاب لا يحسن حضانة ولده أو ليس ممن يقوم برعاية مصالحه كان للحاكم أن يعين من يحضنه من قرائبه أو غيرهن وهكذا إذا كان الاب غير موجود.

وما ذكره من تقديم ذوي النسبين على ذوي النسب ومن تقديم ذوي الام على غيرهم فوجهه ما قدمنا من تقديم من هو مظنة للحنو والحياطة. قوله: "وينتقل من كل إلي من يليه بالفسق". أقول: ليس على هذا دليل فإن العدالة معتبرة فيما اعتبره الشرع لا في كل أمر من الامور واعتبارها في هذا الموضع حرج عظيم وتعسير شديد فان غالب النساء التسأهل في كثير من الامور الدينية ولو كانت العدالة معتبرة فيهن ومسوغة لنزع أولادهن من ايديهن لم يبق صبي بيدامه الا في اندر الاحوال وأقلها فيكون في ذلك اعظم جناية على الصبيان بنزعهم عمن يرعى مصالحهم ويدفع مفاسدهم وجناية أيضا على الام بتولها بولدها والتفريق بينها وبينه ومخالفة لما عليه أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم. وأما انتقال الولاية بالجنون فظاهر لأنها لا تقدر على تدبير نفسها فضلا عن ان تقدر على تدبير غيرها وأيضا يخشى على الصبي ان تدعه يموت جوعا وعطشا أو تهلكه عند ثوران جنونها واستحكام تخليطها. وأما النشوز فلا وجه لجعلها من أسباب الانتقال ولا مقتضى لذلك بل حقها ثابت بالنص فلا يسقطه الا مسقط شرعي بدليل مرضي. وأما الانتقال بالنكاح فلقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي". وقوله: "إلا بذي رحم له" يدل عليه قصة التنازع في ابنة حمزة فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بها للخالة كما تقدم وهي كانت تحت جعفر بن أبي طالب ولم يجعل نكاحها بذي رحم للصبي وهو جعفر عم الصبية مبطلا لحقها. وأما القول بأنه يعودالحق للمرضعة بزوال سبب الانتقال فصحيح لأن المانع قد زال فلم يبق وجه لجعله مانعا بعد زواله. وأما قوله: "فإن عدمن فالأقرب الاقرب" الخ فليس ذلك وجه بل ينبغي الرجوع إلي حاكم الشرع فيضعه عند من رأى فيه صلاحا من هؤلاء فإن كان غيرهم اصلح منهم وضعه عنده إذ لا حق لهؤلاء في الحضانة ولا ورد بذلك دليل يرجع اليه. [فصل وللأم الامتناع إن قبل غيرها وطلب الأجرة لغير ايام اللبإ ما لم تبرع وللأب نقله إلي مثلها تربية بدون ما طلبت وإلا فلا والبينة عليه وليس للزوج المنع من الحضانة حيث لا أولى منها وعلى الحاضنة القيام بما يصلحه لا الاعيان والرضاع يدخل تبعا لا العكس

وتضمن من مات لتفريطها عالمة غالبا وإلا فعلى العاقلة ولها نقله إلي مقرها غالبا والقول لها فيما عليه] . قوله: "وللأم الامتناع إن قبل غيرها". أقول: الحق لها كما تقدم ولها تركه متى شاءت وعليها حق للطفل فلا يجوز لها ان تتركه في حال يتضرر بتركه فيها ومن جملتها عدم قبول الصبي لغيرها. وأما الأجرة فقد صوغها لها القرآن الكريم قال الله عز وجل: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وأما استثناء ايام اللبإ فلا وجه له لأن الله سبحانه اطلق استحقاق الأجرة ولم يقيده بما يخرج هذ الايام وتعليلهم ذلك بأن الصبي لا يعيش بدونها باطل فكم من صبي تموت امه في النفاس ولم يرضع منها ويعيش بلبن غيرها من النساء بل ولبن غيرهن وكم من امرأة تضع ولا لبن لها ولا يرى فيها اللبن الا بعد أيام فيرضع الصبي في هذه ايام اللبإ من لبن غيرها وهذا معلوم يعرفه كل احد. قوله: "وللأب نقله إلي مثلها تربية بدون طلب". أقول: الله سبحانه قد أمر الازواج بان بعطوهن اجورهن فقال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وأوجب ذلك على الزوج بالامر القرأني وأكد ذلك بقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، ولفظ على ظاهر في الوجوب فان كانت الام راضية بالأجرة المتعارفة المتوسطة في عرف الناس فليس له نقل الرضيع إلي غيرها وإن تبرع الغير بإرضاعه بدون أجرة فضلا عن ان يرضى بدون ما رضيت الام وقد اخبرنا صلى الله عليه وسلم بأن الامهات احق بأولادهن وأوجب لهن الأجرة فنزعهم عنهن مخالف للقرآن والسنة وظلم بين فإن طلبت فوق الأجرة المتعارفة وكان الزوج يتعاسر ذلك فلا بأس بأن ينقله منها لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] . وبهذا تجتمع الأدلة وتجرى على نمط واحدة ويوافق بعضها بعضا ومما يومئ إلي هذا الجمع الذي ذكرناه قوله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] , فإن تقييد ذلك بالمعروف مشعر بأنه الذي على الزوج لها فليس عليه ان يزيد عليه ولا عليها ان ترضع بدونه ويوميء إلي ذلك أيضا لفظ التعاسر المذكور في الاية. وأما قوله: "وليس للزوج المنع من الحضانة" الخ فمبني على أنه لم يوجد غيرها فإن وجد من يرضعه لم يتعين الوجوب عليها وجاز للزوج منعها من ذلك لوجوب طاعتها له في غير معصية الله. وأما قوله: "وعلى الحاضنة القيام بما يصلحه" فمعلوم لا يحتاج إلي النص عليه لأن ذلك هو معنى الحضانة وأما الاعيان التي يحتاج اليها الرضيع فذلك على أبيه وقد أوجب الله عليه أجرتها فضلا عما يحتاج اليه ولده.

وأما قوله: "والرضاع يدخل تبعا" فمن هذيان المفرعين. وأما كونها من مات لتفريطها عالمة فمعلوم لأن ذلك جناية توجب الضمان ومع عدم العلم هي قاتلة خطأ والكلام فيها كالكلام على قاتل الخطا وسيأتي إن شاء الله تعالى. قوله: "ولها نقله إلي مقرها". أقول: هذا اقتضاه إثبات اخصيتها به بالنص النبوي فلها ان تنقله إلي مقرها ولا سيما إذا كان عليها ضرر في بقائها في غير مقرها وقد كانت الحواضن الاجنبيات في أيام النبوة وأيام الصحابة ينقلن الاطفال المدفوعين اليهن للرضاع إلي مساكنهن وقرى قومهن ومن جملة من وقع له هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن حليمة السعدية لما استرضعت له نقلته إلي دار قومها وإذا جاز هذا للأجنبيات مع عدم ثبوت الحق لهن. فكيف لا يجز للأمهات ومن يلتحق بهن مع ثبوت الحق لهن. وأما قوله: "والقول لها فيما عليه" فخروج عن مقصود الباب والحكم فيه ان على المدعى البينة وعلى المنكر اليمين لأن كون الاب هو القائم بمصالحه يقوى كون ما عليه له وكونه في يد الام يقوى كون ما عليه لها وسيأتي بسط الكلام في هذا في الدعأوي إن شاء الله. [فصل ومتى استغنى بنفسه فالأب أولى بالذكر والأم بالانثى وبهما حيث لا اب فإن تزوجت فمن يليها فإن تزوجن خير بين الام والعصبة وينقل إلي من اختار ثانيا] . قوله: فصل: "ومتى استغنى بنفسه فالاب أولى بالذكر والام أولى بالانثى". أقول: هذا رجوع إلي مجرد الرأي وعمل بالاستحسان مع قطع النظر عن الأدلة والواجب على المتشرع العمل بالدليل وترك القال والقيل وقد قدمنا حديث التخيير وان النبي صلى الله عليه وسلم قال لصبي: "هذا أبوك وهذه أمك فاتبع أيهما شئت"، وقدمنا أيضا حديث الاستهام ويعضد ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي عن عبد الحميد بن جعفر الانصاري ان جده اسلم وأبت امرأته ان تسلم فجاء بابن صغير له لم يبلغ وفي رواية انها صبية فاجلس النبي صلى الله عليه وسلم الاب ها هنا والام ها هنا وخيره وقال: "اللهم اهد قلبه"، فمال إلي أمه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهده"، فمال إلي أبيه فأخذه. فهذا التخيير وقع بين ابوين احدهما مسلم والاخر كافر وفي الحديث الأول وقع بين ابوين مسلمين ومعلوم ان مصير الصبي أو الصبية إلي يد الكافر فيه عند أهل الرأي مفسدة اعظم من المفسدة المجوزة إذا صار الذكر إلي الام المسلمة أو الانثى إلي الاب المسلم لأن اعظم ما يخشى على الصبي الصائر إلي الكفار أو الكافرة ان يرغباه في دينهما ويحبباه إليه ولهذا ورد في الصحيح

[البخاري "1292- 1293"] ، "ولكن أبواه يهودانه وينصرانه"، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يراع في حكمه الذي هو الشرع الواجب قبوله على كل مسلم مثل هذه المصلحة والمفسدة فكيف ساغ لأهل الرأي المتلاعبين بالأدلة ان يؤثروا ما هو دونها بمراحل على الدليل الواضح الظاهر فانظر إلي شؤم الرأي وما يجلبه على أهله. وأما قوله: "فإن تزوجت فمن يليها" فذلك معلوم فإن انتقالها إلي من له حق في الحضانة وهي الخالة ثم الاب كما قدمنا أولى من انتقاله إلي من لا حق له وقد عرفناك ان الحاكم يعين باجتهاده مع الاختلاف أو مع عدم من له الحق من يرى فيه صلاحا. وأما قوله: "فإن تزوجن خير بين الام والصعبية" فلا وجه له بل حق الام قد بطل بالنكاح ولا حق للعصبة في الحضانة فيرجع في تعيين من يرضعه إلي الحاكم فهو أولى برعاية المصالح. وأما قوله: "وينقل إلي من اختار ثانيا" فوجه ذلك أنه قليل التمييز ولكن قد جعل الشارع الاختيار موجبا لثبوت الحق لمن اختاره فكونه يبطل باختيار آخر يخالفه محتاج إلي دليل.

باب النفقات

[باب النفقات فصل على الزوج كيف كان لزوجته كيف كانت والمعتدة عن موت أو طلاق أو فسخ الا بحكم غالبا أو لامر يقتضى النشوز ذنب أو عيب كفايتها كسوة ونفقة وإدأما ودواء وعشرة دهنا ومشطا وسدرا وماء ولغير البائنة ونحوها منزلا ومخزنا ومشرفة تنفرد بها والاخدام في التنظيف بحسب حالهما فإن اختلفا فبحاله يسرا وعسرا ووقتا وبلدا الا المعتدة عن خلوة والعاصية بنشوز له قسط ويعود المستقبل بالنوبة ولو في عدة البائن ولا يسقط الماضي بالمطل ولا المستقبل بالابراء بل بالتعجيل ولا تطلب إلا من مريد الغيبة في حال وهو تمليك في النفقة غالبا الا الكسوة ولا يتبرع الغير إلا عنه ولا رجوع وينفق الحاكم من مال الغائب مكفلا والمتمرد ويحبسه للتكسب ولا فسخ ولا تمتنع منه مع الخلوة إلا لمصلح والقول لمن صدقته العدلة في العشرة والنفقة ونفقتها على الطالب وللمطيعة في نفي النشوز الماضي وقدره وفي غير بينة بإذنه في الانفاق قيل ومطلقة ومغيبة وتحلف] . قوله: باب: "النفقات فصل يجب على الزوج كيف كان لزوجته كيف كانت". أقول: قد ثبت الاجماع على وجوب نفقة الزوجات على الازواج ولم يرد في ذلك خلاف والأدلة على ذلك كثيرة منها حديث معأوية القشيري عند أبي دأود والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححه أيضا الدارقطني في العلل قال:

أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما تقول في نسائنا؟ قال: "أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن". وفي لفظ من حديثه هذا عند أحمد وأبي دأود وابن ماجه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل ما حق المرأة على الزوج؟ قال: "تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت". ومنها ما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذوي قرابتك". ومنها حديث عائشة في الصحيحين [البخاري "5364"، مسلم "5/5، 5/3"] ، وغيرهما أبو داود "3533"، النسائي "8/246، 247"، أحمد "6/39، 50، 206"] : أن هندا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم قال: "خذي ما يكفيك ووندك بالمعروف". قوله: "والمعتدة عن موت أو طلاق أو فسخ". أقول: أما المطلقة رجعيا فقد قدمنا ما يدل على وجوب النفقة لها والسكنى وأما المطلقة ثلاثا فحديث فاطمة بنت قيس نص في محل النزاع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في المطلقة ثلاثا: "ليس لها نفقة ولا سكنى"، وهو في الصحيحين وغيرهما كما تقدم وقال لها أيضا: "إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة" وقد تقدم. وأما المخالعة فقد قدمنا ان الخلع فسخ وقد قدمنا ان العدة فيه حيضة وقدمنا أيضا أنه لا نفقة لها. وأما المعتدة عن وفاة فقد قدمنا أيضا لا نفقة لها ولا سكنى وذكرنا الأدلة هنالك. وأما المعتدة عن فسخ فقد قدمنا أيضا عند قوله وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن ما يغني عن تكريره هنا. فالحاصل انها لا تجب النفقة للمعتدة إلا إذا كانت حاملا لقوله عز وجل: {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، أو كانت مطلقة طلاقا رجعيا وقد تقدم تحقيق هذا في مواطنه بما لا يحتاج إلي زيادة. وأما ما ذكره من تنويع الفسخ إلي ما هو بحكم وبغير حكم ولأمر يقتضى النشوز ولأمر لا يقتضى النشوز فليس على ذلك أثارة من علم وليس في جميع ذلك عدة بل يجب الاستبراء فقط الحائض بحيضة والحامل بوضع الحمل إلا ما ورد فيمن عتقت خيرت وقد قدمنا الكلام عليه وعلى الجمع بين الأدلة عند قوله وأما عن فسخ من حينه فكالطلاق البائن. وأما قوله: "كفايتها كسوة ونفقة وإداما" فصحيح مع التقييد بقوله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ} [الطلاق: 7] .

وأما إيجاب الدواء فوجهه ان وجوب النفقة عليه هي لحفظ صحتها والدواء من جملة ما يحفظ به صحتها. وأما قوله: "وعشرة دهنا ومشطا وسدرا وماء" فليس في هذه الامور دليل يدل على أنها تلزم الزوج ولا هي مما تدعو اليه الضرورة. وأما قوله: "ولغير البائنة ونحوها" الخ فقد قدمنا لك انها لا تجب السكنى الا للمطلقة رجعيا فقط. وأما قوله: "والاخدام في التنظيف" فليس في الأدلة ما يدل على إيجاب ذلك على الزوج وإن كان مما يدخل حسن العشرة وتحت الامساك بمعروف وتحت قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] ، ولكن ليس ذلك بحتم على الزوج على تقدير ان الزوجة ممن تعتاد ذلك. قوله: "بحسب حالهما وإن اختلفا فبحسب حاله" الخ. أقول: الوجوب على الزوج فينبغي ان يكون الاعتبار بحاله وهو المخاطب ولقوله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، فإذا كان الزوج موسعا عليه انفق نفقة موسعة وإن كان مضيقا عليه انفق بحسب قدرته وما تبلغ إليه استطاعته وليس عليه غير ذلك ولا اعتبار بحال المرأة أبدا فإذا كان مضيقا عليه وهي من أهل الرفاهية وممن يعتاد التوسع في المطعم والمشرب ونحوهما توسعت من مال نفسها إن كان لها مال وإلا صبرت على ما رزق الله زوجها فهو القابض الباسط. والحاصل ان الانفاق يكون بالمعروف كما أرشد اليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، والمعروف بين أهل الغنى والسعة وبين أهل الفقر والشدة لا يخفى على من له خبره بأحوال الناس في مصره وعصره. وأما قوله: "إلا المعتدة عن خلوة" ففيه ما قدمنا في العدة وهم يوجبون نفقة البائنة فهذه إن كانت بائنة كما ذكروا فيما سبق ان رجعية ما كان بعد وطء على غير عوض مال وبائنة ما خالفه فما بالها لم تجب نفقتها كسائر البائنات وإن كان طلاقها رجعيا لا بائنا فالرجعية قد أوجبوا لها النفقة والسكنى وأوجبهما لها الدليل وقد جعلوا الخلوة موجبة للمهر فما بالها لم توجب النفقة. قوله: "والعاصية بنشوز له قسط". أقول: لم يرد في الأدلة ما يدل على ان الزوجة إذا عصت زوجها سقطت نفقتها ويمكن ان يقال إن الله سبحانه قد أمرهن بالطاعة وبالغ النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غاية المبالغة حتى قال: "لو جاز السجود لغير الله لامرت الزوجة ان تسجد لزوجها" [الترمذي "1159"] ثم ورد تقييد عدم البغي عليهن بالطاعة كما في قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] ، فإذا حصلت المعصية منها لزوجها جاز له أن يعاقبها بقطع النفقة حتى تعود إلي طاعته لانها تركت ما هو حق عليها من الطاعة فجاز له ان يترك ما هو حق عليه من النفقة.

وأما ما ذكره انها تعود بالتوبة فظاهر لارتفاع المانع فلا يبقى له حكم المنع بعد ارتفاعه. قوله: "ولا يسقط الماضي بالمطل". أقول: وجهه انها قد وجبت نفقة الزوجة على زوجها بالنص والاجماع فمن ادعى أنه إذا مطلها وعصى الله بمطلها وخالف ما أوجبه الله عليه يكون ذلك مسقطا لما هو واجب عليه بيقين فقد ركب شططا وقال غلطا وأخذ بطرف من تحسين الكلام وترويق العبارة كما فعله ابن القيم في الهدى وتابعه على ذلك من اطلع على كلامه ثم هذه المراة المسكينة الممطولة مما فرضه الله لها وجعله حقا على زوجها لا يخلو أما ان تنفق على نفسها في أيام المطل من مالها وذلك مما لم يوجبه الشرع عليها على تقدير ان لها مالا أو تنفق على نفسها دينا من مال غيرها فكيف يجب عليها قضاء ما هو حق على الزوج بالشرع الواضح والاجماع الصحيح؟. قوله: "ولا المستقبل بالابراء". أقول: إن استمرت على ذلك طيبة به نفسها سقط بلا شك ولا شبهة لأنه حق لها ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وليس هو أيضا من أكل اموال الناس بالباطل كما قال تعالي: {وَلا تَأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، بل هو من أكل اموال الناس بالحق. وأيضا هو مثل ما قال الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] ، ولكنهم عللوا عدم السقوط بالابراء بعلة عليلة فقالوا إنه إسقاط قبل الاستحقاق وليس هذا بشيء نعم إذا لم تستمر طيبة نفسها وطلبت النفقة كان لها ذلك من الوقت الذي تبين فيه انها لم تطب بالابراء نفسا. وأما ما ذكره من التعجيل فصحيح لانها قداخذت ما تستحقه مؤجلا معجلا وذلك ادخل في الوفاء. وأما قوله: "ولا تطلب الا من مريد الغيبة في حال" فعدم جواز الطلب صحيح لأنه ليس عليه الا القيام بنفقتها في كل يوم بسحب الحاجة فإن أراد سفرا كان لها ان تطالبه بما تحتاج اليه مدة غيبته. وأما قوله: "وهو تمليك في النفقة لا الكسوة" فهما مستويان ليس لها من النفقة إلا ما استنفقته وما بقي منها فللزوج كما أنه ليس لها من الكسوة الا ما لبسته وما بقي منها فللزوج ولكن قواعد الرأي المبنية على غير شيء تأتي بمثل هذا. وأما قوله: "ولا يتبرع الغير إلا عنه" فصحيح لأنه إذا اعطاها تبرعا من نفسه فهو متصدق عليها ولا يسقط بهذه الصدقة عليها ما هو حق لها وإذا تبرع عن الزوج وقبلت ذلك فقداستوفت حقها ياختيارها ولا يلزم الزوج ذلك إلا إذا كان عن امره وإن اسقط حقا عليه. قوله: "وينفق الحاكم من مال الغائب". أقول: هذا صحيح إن طلبت منه ذلك المرأة لان الحاكم يجب عليه القيام بالتخلص مما

أمر الله سبحانه به عباده من حقوق أوجبها عليهم وحق الزوجة من جملة ذلك وهو أيضا من باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن أهل الامر القادرين على نهي عن المنكر احق الناسب بالقيام به ومعلوم إن ترك الزوج لانفاق زوجته وماله بمرأى منها ظلم عظيم ومنكر بالغ فلا فسحة لمن يقدر على إنصافها من القيام بذلك وقد أمر الله سبحانه الحكام ان يحكموا بالحق والعدل وهذا من الحكم بالحق وبالعدل وكما يجب ذلك على الحكام في حق الزوج الغائب كذلك يجب عليهم في حق الزوج الحاضر الممتنع ما أوجب الله عليه فيأخذ الحاكم من ماله ما يقوم بنفقة زوجته شاء ام أبي. قوله: "ويحبسه للتكسب". أقول: الأولى ان يقال ويأمره بالتكسب إذا كان يجد له مكسبا يعيش به وهو ومن يعول ولم يتركه لعذر بل تركه بطرا أو كسلا أو ضرارا لنفسه ولأهله كما يفعل ذلك من ابتلى بالحمق وقد ارشد النبي صلى الله عليه وسلم إلي التكسب حتى أمر بعض من لم يتكسب ان يبيع ما يجد ثم امره ان يشترى فأسا ثم امره بأن يذهب ويحتطب وقال الله عز وجل: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ، فإن أبي وصمم على ذلك مع إمكانه وكان فيتركه ما يضره أو يضر من يعول فلا بأس ان يمسه بعقوبة تحمله على طلب ما فيه مصلحة له ولمن يعول ودفع مفسدة عنه وعنهم وأي مفسدة اعظم من قعود رجل في بيته بلا عذر وأبوب المكاسب مفتحة وأسباب الرزق منتشرة وأطفاله يتضاغون من الجوع وامرأته المحجبة تقاسي شدائد الفاقة وتمارس اهوال المسغبة. قوله: "ولا فسخ". أقول: قد ذهب الجمهور كما حكاه ابن حجر في فتح الباري إلي ثبوت الفسخ إذا لم يجد الرجل ما ينفق على أمراته وهو الحق لقوله عز وجل: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [البقرة: 231] ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الاصول وأي ضرار اعظم من ان يبقيها في حسبه وتحت نكاحه بغير نفقة فإن هذا ممسك لها ضرارا بلا شك ولا شبهة بل ممسك لها مع اشد أنواع الضرار فإن قوام الانفس لا يكون الا بالطعام والشراب ولقول الله عز وجل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، فخير الازواج بين الامرين فليس لهم فسحة في المعاملة للزوجات باحدهما فمن لم يمسك بمعروف كان عليه التسريح باحسان فإن لم يفعل كان على حكام الشريعة ان يوصلوا الممسكة ضرارا بحكم الله عز وجل فيفسخون نكاحها. وأين الامساك بمعروف من رجل ترك زوجته في مضايق الجوع ومتألف المخمصة وعرضها للهلاك وحبسها عن طلب رزق الله عز وجل وأراد ان تكون له فراشا وهي بهذه الحالة المنكرة والصفة المستشنعة وكل من يعرف الشريعة يعلم ان هذا منكر من منكراتها ومحرم من محرماتها ولقوله عز وجل ولا تضاروهن وهذا من اعظم أنواع الضرار وأشدها كما سلف.

وأيضا قد شرع الله سبحانه بعث الحكمين بين الزوجين عند مجرد الشقاق وفوض اليهما ما فوضه إلي الازواج فإذا كان لهما التفرقة بمجرد وجود الشقاق فكيف لا يكون لحاكم الشريعة الفسخ بعد وصول المراة اليه تشكو اليه ما مسها من الجوع ونزل بها من الفاقة لشديدة. والحاصل ان بعض ما ذكرناه يصلح مستندا لفسخ النكاح في هذه الحالة فكيف وقد أخرج الدراقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: "يفرق بينهما" وقد اعله من اعله ودفع الاعلال الحافظ محمد بن ابراهيم الوزير وعلى كل حال فها هنا ما يفي عن هذا الحديث كما عرفت. وأما استدلال المانعين من الفسخ بقوله سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، فيجاب عنه بأنا لا نكلفه بان ينفق زيادة على ما آتاه بل دفعنا الضرار عن المراة وخلصناها من حباله لتذهب تطلب لنفسها رزق الله عز وجل بالتكسب أو تتزوج آخر يقوم بمطعمها ومشربها. وأما قوله: "ولا تمتنع منه مع الخلوة الا لمصلحة" فوجهه وجوب طاعتها له وامتثال ما يامر به ويطلبه منها إذا كان ممسكا لها بمعروف والا كان لها الامتناع حتى تخلص من حباله. وما ذكره من ان القول لمن صدقته العدلة فذلك صحيح إذا حصل التناكر والاختلاف وطلبا من يرفع إلي الحاكم بحقيقة الحال. وأما قوله: "وللمطيعة في نفي النشوز الماضي" فصحيح لأن الاصل عدم النشوز مع وجود الطاعة عنها في حال الاختلاف فيكون على الزوج البينة في إثباته وإذا اختلفا في قدر مدة النشوز فالبينة على مدعى الزيادة لأن الاصل عدمها لا كما قاله المصنف. وإذا اخلتفا هل انفق عليها في الماضي ام لا فا كانت في بيته فالقول قوله لأنها تدعى خلاف الظاهر وإن لم تكن في بيته فالقول قولها وإنما قيده المصنف بالاذن لانها إذا كانت في بيته بغير إذنه فذلك بمجرده نشوز وإذا كانت مطلقة أو كان زوجها غائبا فالقول قولها لأن الاصل عدم الانفاق مع يمينها والبينة على الزوج. [فصل ونفقة الولد غير العاقل على أبيه ولو كافرا أو معسرا له كسب ثم في ماله ثم على الام قرضا للأب والعاقل المعسر على ابويه حسب الارث إلا ذا ولد موسر فعليه ولو صغيرا أو كان الوالد كافرا ولا يلزم ان يعفه ولا التكسب الا للعاجر ولا يبيع عنه عرضا إلا باذن الحاكم وعلى كل موسر نفقة كل معسر على ملته يرثه بالنسب فإن تعدد الوارث فحسب الارث غالبا وكسوته وسكناه وإخدامه للعجز ويعوض ما ضاع ويسقط الماضي بالمطل.

والموسر من يملك الكفاية له وللأخص به إلي الدخل والمعسر من لا يملك قوت عشر غير ما استثنى والبينة عليه. وعلى السيد شبع رقه الخادم وما يقيه الحر والبرد أو تخلية القادر وإلا كلف إزالة ملكه فإن تمرد فالحاكم ولا يلزم ان يعفه ويجب سد رمق محترم الدم م ولو بنية الرجوع وذو البهيمة يعلف أو يبيع أو يسيب في مرتع وهي ملكه فإن رغب عنها فحتى تؤخذ وعلى الشريك حصته وحصة شريكه الغائب والمتمرد فيرجع وإلا فلا وكذلك مؤن كل عين لغيره في يده باذن الشرع غالبا والضيافة على أهل الوبر] . قوله: فصل: "ونفقة الولد غير العاقل على أبيه". أقول: قد ثبت كتابا وسنة وإجماعا مشروعية صلة الرحم وورود التأكيد في شأنها بأن من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله وهذا يشمل كل قريب متحقق القرابة صادق عليه اسم الرحم وورد في خصوص الابوين حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال رجل يا رسول الله أي الناس احق مني بحسن الصحبة؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك". وفي لفظ لمسلم أنه قال: "من أبر"، وورد في خصوص الأولاد حديث عائشة في الصحيحين وغيرهما ان هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما اخذت منه وهو لا يعلم فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". وورد ما هو اعم مما تقدم كحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي دأود والحاكم قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك" قلت: ثم من؟ قال: "أمك" قلت: ثم من؟ قال: "أمك" قال: قلت: ثم من؟ قال: "أباك ثم الاقرب فالاقرب". وأخرج النسائي وابن حبان والدارقطني وصححاه الحديث عن طارق المحاربي كما في بلوغ المرام ولعله سقط الصحأبي على الناسخ قال قدمت المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب الناس على المنبر وهو يقول: "يد المعطي العليا وابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك". وأخرج أبو دأود والطبراني والبيهقي بإسناد لا بأس به عن كليب بن منفعة عن جده أنه اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة". وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك تصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن ذوي قرابتك فهكذا وهكذا". وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا" قال رجل: عندي دينار, قال: "تصدق به على نفسك"، قال: عندي دينار آخر قال: "تصدق به على زوجتك" قال عندي دينار آخر قال: "تصدق به على ولدك" قال: عندي دينار آخر قال: "تصدق به على خادمك"، قال: عندي دينار آخر قال: "أنت أبصر به"، وأخرجه أيضا أبو دأود لكنه قدم الولد على الزوجة. والاحاديث في هذا الباب كثيرة جدا وحديث إذنه صلى الله عليه وسلم لهند ان تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف يدل على وجوب نفقة الأولاد على أبيهم لكن لا مطلقا إذا لم يكن لهم مال أما إذا كان لهم مال فلا وجه لوجوب النفقة من مال غيرهم وقد دل على ذلك ما جاء في القرآن الكريم من تفصيل الكلام في أموال اليتامى وإنفاقهم منها وجواز ان يأكل المنفق لهم من مالهم بالمعروف. وأما قوله: "ولو كافرا" فذلك إذا رافعه الابن إلي الشريعة الإسلامية قضينا عليه بما فيها. وأما قوله: "أو معسرا له كسب" فلا بد ان يفضل من كسبه فضله تكون مالا حتى ينفق منها ولده وأما إذا كان لا يحصل له من الكسب إلا ما يكفيه فقط فليس عليه إنفاق أولاده بل ينفق ذلك على نفسه كما تقدم في الاحاديث ورزق أولاده على خالقهم. وقد عرفت مما سبق أنه لا وجه لقوله: "ثم في ماله" وان إنفاقه من ماله مقدم على إنفاقه من مال أبيه. وأما قوله: "ثم على الام قرضا للأب" فإذا كانت غنية فعليها النفقة لأولادها لأن الخطاب في الاحاديث السابقة إن كان للرجال فللنساء حكمهم كسائر الخطابات التي في الكتاب والسنة بصيغة خاصة بالذكور فإن النساء شقائق الرجال ولا يخرجهن من ذلك إلا دليل يخصصهن من الواجبات على الرجال فلا وجه لقوله قرضا للأب. قوله: "والعاقل المعسر على ابويه حسب الارث"، أقول: لما قدمنا من الأدلة ولا سيما إذا كان قوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، شاملا للكبار فإن من جملتهم إذا ذاك معاوية وقد كان كبيرا لأنه اسلم عام الفتح وكان عمره عند إسلامه ثماني وعشرين سنة فقد كان عند الهجرة في ثماني عشرة سنة. والحاصل ان هذه النفقات التي هي مما يصدق عليه أنه صلة للارحام إذا لم يوجد دليل ناهض ينتهض على وجوبها فهي من افضل القرب واعظم الطاعات المقربة إلي الله عز وجل كما قدمنا. وأما قوله: "إلا ذا ولد موسر فعليه" فوجه ذلك ان وجوب الاحسان من الأولاد لابائهم آكد من وجوب الاحسان من الاباء لابنائهم كما قال الله سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة: 83، النساء: 36، الأنعام: 151، الإسراء: 23] ، وكما ورد في الحديث: "أنت ومالك لأبيك"، وهو حديث حسن أخرجه أحمد وابو دأود وابن خزيمة وابن الجارود ومثله حديث: "إن أطيب ما أكل الرجل

من كسبه وولده من كسبه فكلوا من أموالهم"، أخرجه أحمد "6/31، 41، 127، 162، 173، 193، 201، 203"] ، وأهل السنن [أبو داود "3528"، النسائي "4449"، ابن ماجة "2290"، الترمذي "1358"] ، وابن حبان والحاكم وصححه أبو حاتم وأبو زرعة. وأما قوله: "ولو صغيرا" فلما ذكره الله سبحانه في القرأن في أموال اليتامى والاباء احق من يقوم على اموالهم ويستنفق منها بالمعروف. وبالجملة فعموم قوله عز وجل: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ، وقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] ، يدخل تحته الزوجات والاباء والابناء دخولا أوليا وتتنأول سائر القراب. ة وأما قوله: "ولو كان صغيرا" فلعموم ما قدمنا. وأما قوله: "أو كافرا" فإذا ترافعوا إلي المسلمين وجب الحكم على الكافر بما في الشريعة الإسلامية. وأما قوله: "ولا يلزمه أن يعفه" فلكون ذلك مما لا يدخل في مسمى النفقة إلا ان يبلغ الحد إلي التضرر البالغ كان من باب التدأوي لحفظ النفس وقد تقدم حديث: "أنت ومالك لأبيك" وتقدم قوله تعالي: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وهذا من الاحسان. وهكذا قوله: "ولا التكسب إلا للعاجز" فإنه إذا قعدالأب وعجز عن الكسب وولده قوى سوى وأبواب المكاسب متيسرة له ولم يكسب على والده فهو لم يحسن اليه كما امره الله سبحانه ولا بره كما أوجب ذلك عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما إذا كانا قادرين على التكسب تكسب كل واحد منهما لنفسه فإن قدر الولد ان يكفي والده مؤنة التكسب فهو من تمام البر به والاحسان اليه. والحاصل أنه إذا كان البر والاحسان واجبين على الولد لوالده كما تدل عليه الأدلة لزمه مالا يتم البر إلا به ولا يخرج عن ذلك الا ما خصه الدليل وأيضا هو أقرب قربا وأمس رحما فالأدلة الدالة على صلة الارحام تتنأوله أوليا كما قدمنا الاشارة إلي ذلك والامهات احق بهذا البر والاحسان والصلة من الاباء للأحاديث المتقدمة في أول الفصل ولغيرها كما أخرجه البخاري في الادب المفرد وأحمد وابن حبان والحاكم وصححاه مرفوعا بلفظ: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بأمهاتكم ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب". وأما قوله: "ولا يبيع عنه عرضا إلا باذن الحاكم" فالعرض من جملة المال الذي جعله الشارع للأب وأمره صلي الله عليه وسلم بالأكل منه. قوله: "وعلى كل موسر نفقة كل معسر" الخ. أقول: لا دليل يدل على وجوب هذا الانفاق وما استدلوا به من قوله تعالي: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ، فوضع للدليل في غير موضعه فان الآية واردة في غير هذا المعنى لان الله سبحانه قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ

مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ، أي وارث المولود له وفي الآية احتمالات كما أوضحنا ذلك في تفسيرنا وهذا المعنى هو الظاهر منها ولا يصح الاحتجاج بمحتمل مسأو فكيف بمحتمل مرجوح. والحاصل ان الأدلة التي قدمنا في أول الفصل تدل على مشروعية الاحسان إلي القرابة الدين هم غير الاباء الابناء وهم داخلون فيما ورد في صلة الارحام وأما كون ذلك حتما لازما فلا دليل على ذلك يتعين الاخذ به. وأما تقييد ما ذكره من وجوب انفاق الاقارب المذكورين بالارث بالنسب فلا وجه له بل صلة الارحام ثابتة ومشروعيتها عامة والاقرب احق بها من الابعد وهكذا تندرح في مشروعية صلة الرحم كسوته وإخدامه للعجز. قوله: "ويسقط الماضي بالمطل". أقول: أما النفقة الواجبه كنفقة الابن لأبويه والاب لأولاده فالكلام فيها كالكلام في نفقة الزوجة وقد قدمنا تحقيق ذلك وهكذا نفقة الارقاء لانها واجبة حتما. وأما نفقة سائر القرابة فقد عرفناك أنه لا دليل يدل على وجوبها بل هي من باب صلة الارحام ولا يجب على الإنسان قضاء مالا يجب عليه ولكنه ينبغي ان يسلك في هذه الصلة المسلك الذي ارشداليه الشارع في الاحاديث المتقدمة بقوله: "الأقرب فالأقرب" وبقوله: "ثم أدناك أدناك". وأما ما ذكره من رسم الايسار والاعسار فلا دليل عليه ولكن الذي ينبغي اعتماده هو ما اشار اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال للرجل الذي قال عنده دينار فإنه أمر ان يتصدق به على نفسه ثم قال عندي دينار آخر قال تصدق به على زوجتك إلي آخر الحديث المتقدم وما ورد في معناه وقد قدمنا في تفسير الغني الذي يحرم عليه الزكاة ما فيه كفاية وليس المقصود هنا ان يحصل مسمى الغنى بل المقصود وجود الكفاية التي يصير ما زاد عليها في حكم الفضلة التي لا تدعو اليها حاجة راجعة إلي النفقة والكسوة والمنزل والفراش وما يقي البرد والحر فإذا وجدا لرجل هذا لنفسه ولمن تجب عليه نفقته وهم من قدمنا ذكرهم وصل ارحامه الاقرب فالأقرب بما احب إن أراد الخير وأحب الثواب وإلا يكون من القاطعين للأرحام فيعرض نفسه للقطيعة من الله سبحانه. قوله: "وعلى السيد شبع رقه الخادم وما يقيه الحر والبرد". أقول: هذا واجب على السيد من واجبات الشريعة وقد كرر صلى الله عليه وسلم التوصية بالارقاء وامر بإطعامهم مما يطعم سيدهم والباسهم مما يلبس وأمر بإطعام المماليك وكسوتهم بالمعروف هذا كله ثابت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين. وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته".

أخرج أحمد وابو دأود والنسائي وابن ماجه بأسانيد بعضها رجاله رجال الصحيح قال كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه الصلاة وما ملكت ايمانكم وهو مجمع على وجوب نفقة الارقاء. وأما قوله: "أو تخلية القادر" فلا وجه له لأنه مهما بقي في ملكه كان الوجوب ثابتا عليه ولا نيفعه تخليته فإنه تخلص مما أوجبه عليه الشرع بغير مخلص شرعي بل يجبر على ينفعه أو إنفاقه أو عتقه ولا عذر له من أحد هذه الثلاثة الامور لأن علاقة وجوب إنفاقه عليه هي كونه مملوكا له فمهما بقي الملك فالعلاقة موجودة والسبب حاصل. وأما كونه لا يلزمه ان يعفه فظاهر. قوله: "ويجب سد رمق محترم الدم" أقول: قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "أن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" وأي إسلام له ابلغ من ان يدعه يموت جوعا وهو يجد ما يسد رمقه ويبقى حياته. وثبت أيضا في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فهذا الذي ترك اخاه يموت جوعا وهو يجد ما ينعشه ويدفع عنه ما نزل به من الضر ليس بمومن وواجب على كل مسلم ان لا يفعل ما يسلب عنه الايمان أو يترك ما يكون سببا لذهاب إيمانه وأيضا قد أوجب الله سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما العمادان العظيمان لهذا الدين ومعلوم ان سد رمق من نزل به الموت من الجوع من اعظم المعروف وتركه من اقبح المنكر وقد قال الله سبحانه وتعالي: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وسد رمق المضطر من اعظم أنواع البر والتقوى وتركه من اعظم الإثم والعدوان. والحاصل ان كليات الكتاب والسنة وجزئيائتهما تدل على وجوب مثل هذا وجوبا مضيقا ومن استدل على هذا الوجوب بما ورد في الضيافة فقد ابعد النجعة. وأما ما ذكره عن المؤيد بالله من ان له ان ينوى الرجوع على من سد رمقه فهذا مخالف للقواعد الشرعية فإن المطعم قام بواجب عليه هو من اعظم الواجبات فليس له ان يرجع في ذلك على ذلك المضطر. قوله: "ودواء البهيمة" الخ. أقول: أما الأجر على إنفاقها فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث بأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ بهذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم امسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له"، قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا؟ فقال: "في كل كبد رطبة

أجر"، فإن قول السائل: وإن لنا في البهائم أجرا؟ يشمل كل بهيمة من أهلي ووحشي وجوابه صلى الله عليه وسلم "في كل كبد رطبة أجر"، يتناول الجميع. وأما إثم من حبس البهائم فلم يطعمها ولا تركها فلما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي اطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض"، وهو ثابت في الصحيحين أيضا من حديث أبي هريرة. وإذا كان هذا في هرة فغيرها من البهائم التي يملكها الناس ولا يحل أكلها أولى بذلك واحق ولا شك أنه يخلص من الإثم باخراجها عن ملكه إلي ملك غيره ببيع أو نحوه. وأما التسييب فلا بد من تقييده بكون تلك البهيمة مما يأكل ويشرب بنفسه ويقدر على ذلك أما إذا كانت لا تقدر على ذلك كما في كثير من البهائم فلا يبرأ بتسييبها وهكذا لا بد ان تكون لها قدرة على حماية نفسها من السباع وإلا كا نمخرجا لها من الهلاك إلي الهلاك ومسلما لها إلي يد المعاطب والمتالف. وأما كونها لا تخرج ع ملكه بالتسييب إلا ان يرغب عنها فيأخذها غيره فظاهر وهكذا حكم من في يده تلك البهيمة وهي لغيره بإذنه حكم المالك في وجوب القيام بما يحتاج إليه حتى يرجعها لمالكها وله الرجوع عليه بما أنفق. وهكذا الشريك فيها إذا غاب شريكه أو تمرد فإنه يجب عليه القيام بما يحتاج إليه ويرجع بما انفقه على حصة شريكه. قوله: "والضيافة على أهل الوبر". أقول: الضيافة حق على من نزله ضيف سواء كان من أهل المدر أو الوبر ولا وجه لتخصيصها بأهل الوبر ولم يصح في ذلك شيء. وأما ما يروى من ان الضيافة على أهل الوبر فهو باطل موضوع كما بينت ذلك في المؤلف الذي سميته الفوائد المجموعة في الاحاديث الموضوعة. والأحاديث الواردة في مشروعية الضيافة كثيرة ومنها ما في الصحيحين [البخاري "10/531"، مسلم "14/48"] ، وغيرهما [أبو داود "3748"، الترمذي "1967، 1968"، ابن ماجة "3675"، أحمد "4/31، 6/385"] ، عنه صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته"، قالوا: وما جائزته؟ قال: "يومه وليلته". ومما يدل على الوجوب حديث عقبة بن عامر في الصحيحين [البخاري"1/532"، مسلم "1727"، وغيرهما [أبو داود "3752"، الترمذي "1589"، ابن ماجة "3676"، أحمد "4/149"] : قالوا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى؟ فقال: "إن أمروا لكم بما ينبغي للضيف

فاقبلوا وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم"، فإن إذنه صلى الله عليه وسلم بالاخذ يدل على الوجوب على من نزل به ضيف.

باب الرضاع

[باب الرضاع ومن وصل جوفه من فيه أو انفه في الحولين لبن آدمية دخلت العاشرة ولو ميتة أو بكرا أو متغيرا غالبا أو مع جنسه مطلقا أو غيره وهو الغالب أو التبس دخول العاشرة لا هل في الحولين ثبت حكم البنوة لها ولذي اللبن إن كان وإنما يشاركها من علقت منه ولحقه حتى ينقطع أو تضع من غيره أو يشترك الثلاثة من العلوق الثاني إلي الوضع وللرجل فقط بلبن من زوجتيه ولايصل إلا مجتمعا ويحرم به من صيره محرما ومن انفسخ نكاح غير مدخولة بفعله مختارا رجع بما لزم من المهر عليه إلا جأهلا محسنا] ي. قوله: باب: "الرضاع فصل من وصل جوفه من فيه أو انفه" الخ. أقول: اعلم ان الرضاع المقتضى للتحريم ورد مطلقا كما في قوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه: "يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم"، وفي لفظ: "من النسب" ونحو ذلك من الاحاديث الواردة بهذا المعنى ثم ورد تقييد هذا الرضاع المطلق بقيود وردت بها السنة. فمنها حديث عائشة عند مسلم "7/1450"، وغيره [أحمد "6/96"، أبو داود "2063"، النسائي "6/101"، الترمذي "1150"، ابن ماجة "1940"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم المصة والمصتان". وأخرج مسلم وغيره من حديث ام الفضل ان رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم اتحرم المصة فقال: "لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان"، وفي لفظ لمسلم "18/1451"، وغيره [النسائي "6/100، 101"، أحمد "6/340"] ، من حديثها قالت دخل اعرابي إلي نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتي فقال: يا نبي الله إن كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثى رضعة أو رضعتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان". وأخرج أحمد والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الزبير ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم من الرضاعة المصة والمصتان"، قال الترمذي الصحيح عن أهل الحديث من رواية ابن الزبر عن عائشة كما في الحديث الأول ورواه النسائي من حديث أبي هريرة.

فهذه الاحاديثت تدل على ان المصة والمصتين لا تقتضيان التحريم فهذا التقييد الأول مما قيدت به تلك الاطلاقات. التقييد الثاني ما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه من حديث أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الامعاء في الثدي وكان قبل الفطام"، ومعنى فتق الامعاء في الثدي أي في أيام الثدي وذلك حيث يرضع الصبي منها. وأخرج سعيد بن منصور والدارقطني والبيهقي وابن عدي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين". وأخرج أبو دأود الطيالسي في مسنده من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام". فهذه الاحاديث تدل على ان الرضاع الواقع بعدالحولين لا حكم له ولا يقتضى التحريم. التقييدالثالث ما ثبت في الصحيحين [البخاري "9/146"، مسلم "32/1455"] ، وغيرهما [أحمد "6/94"، أبو داود "2058"، النسائي "6/102"، ابن ماجة "1945"] ، من حديث عائشة قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: "من هذا" قلت اخي من الرضاعة فقال: "يا عائشة انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة"، فهذا الحديث يدل على ان الرضاع إذا وقع لغير مجاعة من الصبي لم يثبت حكمه. التقييد الرابع ما أخرجه أبو دأود من حديث ابن مسعود مرفوعا: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم"، ولكن في إسناده مجهولان فلا تقوم به حجة. التقييد الخامس وعليه تدور الدوائر وبه يجتمع شمل الاحاديث مطلقها ومقيدها وهو ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرا من القرآن وله الفاظ. وقد أخرج البخاري من حديثها نحوه وأخرج مالك في الموطأ وأحمد من حديثها ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهلة في قصة سالم: "أرضعيه خمس رضعات"، فهذا يدل على انها لاتحرم إلا خمس رضعات ولا يعارضه أحاديث: "لاتحرم المصة والمصتان" لأن غاية ما فيها الدلالة بالمفهوم على ان ما فوقها يحرم وحديث الخمس يدل بمفهومة على ما دون الخمس لا يحرمن وكلاهما مفهوم عدد ولكنه يقوى حديث الخمس أنه مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قرآن يتلى ويقويه أيضا أنه قد ذهب جماعة من ائمة البيان كالزمخشري إلي أن الاخبار بالجملة الفعلية المضارعية يفيد الحصر ومفهوم الحصر ارجح من مفهوم العدد ويقويه أيضا ما أخرجه ابن ماجه من حديثها بلفظ: "لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس"، وهذه الصيغة تقتضي الحصر بلا خلاف. وإذا عرفت رجحان ما دل على أنه لا يحرم إلا الخمس وأن العشر منسوخة فلا يعارضه ما

دل على اعتبار الحولين بل يجمع بينه وبينه بأن الخمس في الحولين. ولا يعارضه ما دل على ان الرضاعة من المجاعة بل يجمع بينهما ان يرضع الخمس في وقت حاجة اليها. ولا يعارضه أيضا حديث: "الرضاع ما فتق الامعاء"، لأن من المعلوم ان الخمس الرضعات بفتقها بعضها. ولا يعارضه أيضا حديث: "لا رضاع إلا ما انشر العظم وانبت اللحم"، على فرض صحته لان الخمس الرضعات لمن هي طعامه وشرابه تؤثر في ذلك وإن لم يظهر للعيان >و إذا تقرر لك هذا الجمع بين شمل الاحاديث فاعلم ان حديث زينب بنت ام سلمة قالت قالت ام سلمة لعائشة إنه يدخل عليك الغلام الايفع الذي ما احب ان يدخل علي فقالت عائشة أما لك في رسول الله اسوة حسنة وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء قال صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه حتى يدخل عليك"، أخرجه مسلم "29/1453"، وغيره أحمد "6/38، 39، 6/201"، النسائي "6/104، 105، 6/105"، ابن ماجة "1943"] ، وهذا الحديث قد رواه امهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة ورواه الجمع الجم من التابعين وهكذا من بعدهم حتى قال بعض الائمة إن هذه السنة بلغت رواتها نصاب التواتر. والحاصل أنه خاص يوقف على من عرضت له تلك الحاجة واحتاج ان يدخل على امراته من لا يتسغنى عن دخوله بيته وتردده في حاجاته ومصالحه ومن رده بلا برهان فقد انتصب للرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الشريعة المطهرة ومن قصره على سالم فقط فقد جاء بمالا يعقل ولا يوافق القواعد المقررة في الاصول. وبهذا التحقيق تعرف الكلام على ما ذكره المصنف. وأما قوله: "لبن آدمية" فاحتراز عما لا يقع إلا في ذهن مغفل ولا يسبق إلي فهم أبله فإن الكلام في بني آدم والبانهم لا في ألبان الدواب. وأما قوله: "دخلت العاشرة" فلكون ذلك المقدار هو من أوائل مظنة البلوغ وقد تقدم له في الحيض أنه يتعذر قبل دخول المراة في التاسعة فكان عليه ان يمضي في الموضعين على نمط واحد فإن التسع إذا كانت مظنة للحيض كانت مظنة للحبل الذي يتاثر عنه اللبن. وأما قوله: "ولو ميتة" فغير صحيح فإن الأحكام المتعلقة بها وبلبنها قد انقطعت بالموت فلم يبق لذلك حكم ولم يصدق عليها انها مرضعة كما في قوله تعالي: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] . وأما قوله: "أو بكرا" فصحيح لأن بعض الابكار قد يخرج منها لبن ولا سيما إذا كانت مربية لرضيع وأرضعته من ثديها مرة بعد مرة.

وأما قوله: "أو متغير" فلا بد ان يكون اللبن الخالص بحيث يصدق عليه أنه لبن وكل على اصله في اعتبار مجرد الوصول إلي الجوف أو اعتبار ثلاث رضعات أو اعتبار خمس رضعات. وهكذا الكلام في قوله: "أو مع جنسه أو غيره وهو الغالب". وأما قوله: "أو التبس دخول المرأة في العاشرة" فقد تقدم ان دخول العاشرة عندالمصنف من جملة الشروط التي لا يصح الرضاع إلا بها فكان عليه ان يحكم مع اللبس بعدم ثبوت الرضاع لأن الاصل عدم الدخول. وأما قوله: "لا هل في الحولين" فصحيح لأن الاصل بقاؤه في الحولين وعدم انتقاله عنهما. قوله: "ثبت حكم النبوة لها ولذي اللبن". أقول: هذا هو الحق وقد ثبتت النصوص المصرحة بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة وهذان اللفظان في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس وعائشة وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة رضي الله عنه فقال: "إنها لا تحل لي إنها ابنة اخي من الرضاعة. وفي الصحيحين وغيرهما "النسئي "6/103"، أحمد "6/23، 37، 117، 271"، ابن ماحة "1948"، أيضا من حديث عائشة ان افلح اخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد ان نزل الحجاب وقالت فأبيت ان آذن له فلما جاء رسول صلى الله عليه وسلم اخبرته بالذي صنعت فامرني أن آذن له ولم يأت من لم يجعل للرجل حقا في اللبن شيء يصلح لمعارضة ما ذكرناه ولا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حرف واحد. وأما مجرد الاجتهاد من بعض الصحابة فلا تقوم به حجة ولا سيما والذاهب إلي ما قضت به هذه الأدلة التي ذكرناها هم الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم. وأما قوله: "وإنما يشاركها من علقت منه" الخ فصحيح لأنه لا يصدق عليه الابوة من الرضاع إلا بذلك. وأما قوله: "ويشترك الثلاثة" ألخ فلا وجه لأن دخولها في نكاح الاخر يقطع العلاقة بينها وبين الأول فلا يبقى له حق في اللبن كما أنه لم يبق له حق في المراة ولا يجوز له النظر اليها وإنما أوقع المصنف في مثل هذا التفريع اشتغاله بجمع آراء القائلين وإن كانوا من الواقعين تحت اسر التقليد فإنه رحمه الله اختصر هذا الكتاب من التذكرة للفقيه حسن النحوي والفقيه حسن النحوي جمع فيها ما قاله الفقهاء من الهدوية الذين يقال لهم المذاكرون في عرف هذه الطائفة وهؤلاء لم يبلغ الاجتهاد منهم الا النادر وغالبهم لا يعرفون إلا مسائل الفروع المختصة بمذهبهم ولهذا اجتمع في هذا الكتاب المتردية والنطيحة وما أكل السبع. قوله: "وللرجل فقط بلبن من زوجتيه لا يصل إلا مجتمعا". أقول: لا يقتضى التحريم إلا الرضاع من امراة واحدة رضاعا يوجب التحريم كما قدمنا ولا

حكم لما لا يكون مجموعه إلا من اثنتين أو ثلاثا أو اكثر ولا يثبت به حكم الرضاع لا للرجل ولا للنساء فمن يعتبر خمس رضعات لا بد ان تكون جميعا من امرأة واحدة فلو رضع من كل واحدى رضعة أو رضع الخمس من ثلاث أو اثنتين لم يكن لذلك حكم ولا يثبت به رضاع. وهكذا لو لم يصل الجوف عند من يعتبر مجرد الوصول إلي الجوف إلا لبن امرأتين أو اكثر فإنه لا يثبت بذلك حكم عنده وإن قال إنه يثبت به الحكم كما قال المصنف فقد عول على مجرد رأي زائف واجتهاد زائغ. وأما قوله: "ويحرم به من صيره مرحما" فقد ذكرنا في شرحنا للمنتقى عددالمحرمات بالرضاع فليرجع اليه. وأما قوله: "ومن انفسخ نكاح غير مدخولة لفعله" الخ فوجهه ان ذلك جناية تسبب عنها تغريم الزوج بما غرمه من المهر ولم يستوف ما في مقابلته وهو الوطء فتغرم المرضعة ما غرم بسبب جنايتها ولا وجه لقوله إلا جأهلا محسنا لأن مجردالجهل والاحسان لا يسقطان الضمان لأن ضمان الجناية من أحكام الوضع فلتزم الجأهل كما تلزم العالم وتلزم المحسن كما تلزم المسيء وتلزم المجنون والصبي كما تلزم العاقل المكلف ومثل هذا لا يخفى على المصنف ولكنه بصدد جمع انظار المقلدين كما قدمنا قريبا. [فصل وإنما يثبت حكمه في إقراره أو ببينتها ويجب العمل بالظن الغالب في النكاح تحريما فيجبر الزوج المقر به وبإقراره وحده يبطل النكاح لا الحق والعكس في إقرارها إلا المهر بعد الدخول] . قوله: فصل: "وإننا يثبت حكمه بإقراره أو ببينتها" الخ. أقول: إذا اقر أو قامت عليه البينة بإقراره أو بمشاهدة الارضاع للرضيع فليس في ذلك نزاع ومن جملة البينة إخبار مرضعته لما ثبت في اصحيح البخاري وغيره ان عقبة ابن الحارث تزوج ام يحيى بنت أبي إهاب فجاءت امة سوداء فقالت قد ارضعتكما قال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عني قال فتنحيت فذكرت ذلك له فقال: "وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما"، فنهاه عنها وفي رواية للبخاري وغيره "دعها عنك"، وهذا النهي والأمر يدلان أوضح دلالة على وجوب العمل بقول المرضعة ولم يصب من تكلف لرد هذه السنة بما لا يسمن ولا يغني من جوع. وأما قوله: "ويجب العمل بالظن الغالب في النكاح تحريما" فصواب لأن الله سبحانه قد تعبدنا بالعمل بالظن ولا سيما في النكاح الذي يترتب عليه الخطر العظيم من استحلال فرج حرمه الله ولحوق نسب بغير من هول له.

وقد ثبت التعبد بالعمل باخبار الاحاد وهي لا تفيدا لا الظن ولا وجه لتقييدالظن هنا بالغالب بل يجب العمل بكل ظن يصدق عليه مسمى الظن إذا لم يكن مجرد شكوك ووسوة ومقتضى العمل بالظن هو إخبار الزوج المقر بحصول الظن له. وأما قوله: "وبإقراره وحده يبطل النكاح" فصحيح لأن التسريح إليه والطلاق بيده وقد أقر بما يقتضى ذلك فبطل ما هو إليه ولا يستلزم ذلك بطلان الحق للزوجة. وأما قوله: "والعكس في إقرارها" فلا وجه له لأنه إذا لم يبطل به النكاح لم يبطل به حق عليها تستحقه بالنكاح لأن النكاح باق شاءت أم أبت. إلي هنا انتهي النصف الأول من هذه التعليقة المسماة السيل الجرار المتدفق علي حدائق الأزهار في نهار يوم الاثنين لعله حادي عشر شهر جمادي الآخرة من شهور سنة أربع وثلاثين بعد مائتين وألف من الهجرة الشريفة بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما. تم إملاء علي جماعة من الطلبة في شهر ذو القعدة سنة 1239.

كتاب البيع

كتاب البيع مدخل ... كتاب البيع [فصل شروطه أيجاب مكلف أو مميز مختار مطلق التصرف مالك أو متول بلفظ تمليك حسب العرف وقبول غيره مثله متطابقين مضافين إلي النفس أو ما في حكمهما غير مؤقت ولا مستقبل أيهما ولا مقيد لما يفسدهما ولا تخللهما في المجلس إضراب أو رجوع في مالين معلومين يصح تملكهما في الحال وبيع أحدهما بالآخر والمبيع موجود في الملك جائز البيع ويكفي في المحقر ما اعتاده الناس] . قوله: فصل: "شروطه إيجاب مكلف أو مميز". أقول: أعلم أن البيع الذي أحله الله سبحانه وجعله مقتضيا لانتقال الأملاك من مالك إلي مالك لا يعتبر فيه إلا مجرد التراضي وطيبة النفس بأي لفظ وقع وعلى أي صفه كان ولو بمجرد إشارة أو كتابة فإذا حصل هذا المناط وتفرق البائع والمشتري من المجلس راضيين بالبيع طيبة به نفساهما فقد انتقل ذلك المبيع من ملك البائع إلي ملك المشتري إذا كان المبيع مما أحل الشرع بيعه وجوز التعامل فيه.

وأما اعتبار كون المالك مكلفا فأمر لا بد منه لأن نفوذ التصرفات موقوف على بلوغ المتصرف إلي سن التكليف وهي أول مظنات الرشد وأما من دون التكليف فقد عرفت أن الله سبحانه أمر الولي بأن يمل عنه وجعل تصرفاته إليه وإذا أذن له بالتصرف كان المعتبر هو هذا الإذن الصادر من الولي لا مجرد تصرف غير المكلف ولعله إن شاء الله تعالي يأتي في باب المأذون زيادة تحقيق للمقام. وأما اشتراط أن يكون مختارا فأمر لا بد منه لأن المناط هو التراضي وطيبة النفس كما سلف والمكره لا رضا منه ولا طيبة نفس وأما اشتراط كون البائع مطلق التصرف فلأن المحجور محبوس عن التصرف فهو كالمحكوم عليه بعدم التصرف في المال الذى تنأوله الحجر إذا وقع من متأهل للحكم وصادف سببا يقتضي الحجر وسيأتي الكلام إن شاء الله على الحجر وأما كونه ملكا أو متوليا عن غيره بولاية شرعية فأمر لا بد منه فإن من لم يكن مالكا ولا متوليا كذلك لا حكم لبيعه لأن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وقد قال سبحانه: {وَلا تَأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] . وأما كونه بلفظ تمليك إلخ فقد عرفناك أن المعتبر هو التراضي وطيبة النفس فما أشعر بهما ودل عليهما فهو البيع الشرعي وهكذا القول المعتبر فيه ذلك فقط فما أشعر به فهو الشراء الشرعي فلو قال البائع بعت هذا منك بكذا فأخذه المشتري ولم يتكلم ولا أشار وتفرقا من المجلس كان ذلك بيعا شرعيا موجبا لانتقال المبيع من ملك البائع إلي ملك المشتري وهكذا لو قال المشتري اشتريت منك هذا بكذا فسلمه البائع إليه ولم يصدر منه لفظ ولا إشارة وتفرقا من المجلس كان ذلك كافيا فيما ذكره من التطابق وما بعده إنما هو مراعاة لجانب الألفاظ ولا اعتبار لذلك. وأما قوله: "غير مؤقت" فصحيح لأن اللفظ الدال على التوقيت قد أشعر بخلاف موجب البيع وهو مصير البيع إلي ملك المشتري من غير تقييد وأما قوله ولا مستقبل أيهما فيقال إذا أشعر لفظ الاستقبال بالرضا وطيبة النفس بانتقال الملك في الحال فلا يضر كونه مستقبلا ولا يقدح في الصحة بل لا مانع شرعا ولا عقلا بأن يكون مرادهما ما دل عليه لفظ الاستقبال فيكون البيع ناجزا ثابتا عند حصول أول وقت من أوقات المستقبل وهو اللحظة المتعقبة لما تكلما به فيكون بيعا صحيحا وتجارة عن تراض وأي مانع من هذا بل لو قال بعت منك هذا بعد سنة كان بيعا شرعيا إذا حصل التراضي وطيبة النفس ويخرج من ملك البائع إلي ملك المشتري بعد مضي السنة وأما قوله غير مقيد بما يفسدهما وإن كان ذلك المفسد هو مدلول اللفظ مع تحقق الرضى وطيبة النفس فلا حكم له وإن كان باعتبار شرط من الشروط فسيأتي الكلام عليه في باب الشروط المقارنة للعقد. قوله: "ولا تخللهما في المجلس إضراب ولا رجوع". أقول: وجهه أن الإضراب قد دل على عدم الرضى وطيب النفس وكذلك الرجوع واعتبار المجلس قد ورد به الشرع كما سيأتي في الحديث الصحيح: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، [البخاري

"4/326"، مسلم "47/1532"] . وأما اعتبار أن يكون في مالين معلومين فغير مسلم فإنه إذا حصل الرضى وطيبة النفس ببيع المجهول تفصيلا المعلوم جملة كان البيع صحيحا إذا لم يكن في نوع من أنواع الغرر التى ورد النهي عن البيع مع وجودها كما سيأتي وأما اعتبار كونهما مما يصح تملكه في الحال فظاهر لأن الشيء الذي لا يثبت عليه الملك لا يصح بيعه إذ المانع الشرعي من تملكه مانع من بيعه لأن البيع مترتب على ثبوت الملك وأثر من آثاره وهكذا الكلام إذا كان الثمن لذلك المبيع لا يصح تملكه وسيأتي للمصنف التصريح بأن بيع كل ذي نفع حلال جائز. وأما قوله: "وبيع أحدهما بالآخر" فوجهه إخراج بيع الربا وما فيه مظنة له وسيأتي الكلام عليه في بابه وأما قوله والمبيع موجود في الملك فوجهه ما سيأتي من النهي عن أن يبيع البائع ما ليس عنده وأما قوله جائز البيع فصحيح لأن ما لا يجوز بيعه يمنع الشرع عنه لا يجوز الدخول فيه وليس هذا تكريرا لما سبق من قوله يصح تملكهما فقد يرد النهي عن بيع شيء مع الإذن بتملكه في بيع الربا فإن كل واحد من المبيع والثمن يجوز لكل واحد من البائع والمشتري تملكه مع ورود النهي عن بيع أحدهما بالآخر وهكذا بيع الرطب بالتمر وأمثال ذلك كثير وليس فيه أيضا تكرير لقوله وبيع أحدهما بالآخر فإن التفريق بين ذوي الأرحام المحارم بالبيع غير جائز مع كونه يصح بيعهم من غير تفريق بما يقع التراضي عليه من الثمن وهكذا لا يجوز بيع ما اشتمل على نوع من أنواع الغرر مع كونه يصح بيعه مع عدم اشتماله على ذلك. قوله: "ويكفي في المحقر ما اعتاده الناس". أقول: المناط ما قدمنا لك من التراضي وطيبة النفس في الحقير والكثير فإذا حصل ذلك صح به كل بيع وإن لم يوجد ذلك فلا وقد قدمنا لك أن تلك الشروط التى ذكرها المصنف لا دليل على غالبها ولكنه لما جعلها شروطا ووجد الناس في المحقرات يكتفون بمجرد التراضي وإن لم تحصل تلك الشروط جعل هذه العادة مخصصة لما زعم أنها شروط شرعية وقد ذكر المتكلمون في الفقه أن المراد بهذا المحقر هو ما جرت عادة الناس أنهم لا يعقدون عليه لحقارته لا للتسأهل فيه فخصصوا العادة ببعض ما يقع من أهلها فكان ذلك ظلمات بعضها فوق بعض. [فصل ويصحان من الأعمى ومن المصمت والأخرس بالإشارة وكل عقد إلا الأربعة ومن مضطر ولو غبن فاحشا إلا للجوع ومن المصادر ولو بتافه ومن غير المأذون وكيلا ولا عهدة عليه وبالكتابة ولا يتولى الطرفين واحد أو في حكمه]

قوله: "ويصحان من الأعمى" أقول: الأصل صحة تصرف كل مكلف عاقل والأعمى والمصمت والأخرس من جملتهم والإشعار بالرضى وطيبة النفس اللذين هما المناط لصحة البيع وسائر التصرفات الشرعية ممكن منهم أما الأعمى فظاهر وأما المصمت والأخرس فبالإشارة التي يصح بها مراده ومن ادعى أن ثم مانعا في أحدهم فعليه بيان ذلك المانع واعتبار اللفظ عند معتبريه مخصوص بمن يمكنه النطق فيصح منهم كل عقد وكل إنشاء كائنا ما كان] . وأما استثناء الأربعة التي أشار إليها المصنف وهي الشهادة والإقرار بالزنا والقذف ويمين الإيلاء واللعان فهو عائد إلي المصمت والأخرس ولهذا أعاد لفظ من لأن الشهادة من الأعمى صحيحة إلا فيما لا تتم الشهادة فيه إلا بالرؤية كما سيأتي للمصنف فإن شهادته على ما لا يفتقر إلي الرؤية صحيحة مقبولة وكذلك سائر الأربعة تصح منهم الشهادة وأما المصمت والأخرس فلا تصح منهما الشهادة إلا إذا كانت الإشارة تقوم مقام النطق لوضوحها وأما الإقرار بالزنا وإنشاء القذف فهما وإن كان المراد منهما يفهم بالإشارة لكن لما كان الحد يسقط بالشبهة كان عدم قدرته على النطق الصريح شبهة له لا سيما في الإقرار بالزنا عند من يشترط أن يكون الإقرار أربع مرات ولا تصح منهما اليمين لأنها لا تكون إلا باللفظ ولا وجه لتخصيص اللعان والإيلاء بل جميع الإيمان كذلك. قوله: "ومن مضطر" الخ. أقول: هذا رد لما ثبت من النهي عن بيع المضطر ولا فرق بين أنواع الاضطرار بل كل مضطر لا يحل لمسلم أن يغتنم اضطراره إلي البيع فيشتريه منه بدون قيمته بل هو بالخيار أما أوفاه قيمته المتعارفة زمانا ومكانا أو ترك شراءه ومن كان مضطرا لسد فاقته أو لما يخشاه من نزول الضرر به من المصادر له فهو مضطر مشمول بالنهي. قوله: "ويصح من غير المأذون وكيلا ولا عهدة عليه". أقول: لا وجه لهذه الصحة ولا يترتب عليها أثر من آثار البيع بل الاعتبار بحصو الرضى من المالك فإن رضي بالبيع كان مجرد هذا الرضى هو البيع الذى أحله الله سبحانه بقوله {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، وإن لم يقع الرضى فلا حكم لبيع الفضولي وإن كان فيه مصلحة للبائع وأما إذا كان وكيلا فبيع الوكيل صحيح إذا باع بما يرضى به البائع لأن وقوع التوكيل قد حصل به المناط الشرعي مع المطابقة كما سيأتي في كتاب الوكالة إن شاء الله وأما ما ذكره من صحة البيع بالكتابة فصحيح لأنها من جملة المشعرات بالرضى وطيب النفس كما قدمنا وهكذا الإشارة من القادر على النطق. وأما قوله: "ولا يتولى الطرفين واحد أو في حكمه" فمبنى على ما قدمه من اشتراط الإيجاب والقبول وقد عرفناك أن المناط هو الرضى فيصح أن يتولى ذلك واحد وقد ثبت

عنه صلى الله عليه وسلم أنه تولى عقد النكاح للزوجين كما قدمنا تحقيقه والحاصل أن الأصل عدم المانع فمن إدعى وجود فعليه البيان. [فصل ويلحق بالعقد الزيادة والنقص المعلومان في المبيع والثمن والخيار والأجل مطلقا لا الزيادة في حق الشفيع وأول مطلق الأجل وقت القبض] . قوله: فصل: "ويلحق بالعقد الزيادة والنقص" الخ. أقول: هذا صحيح إذا حصل في هذه الزيادة والنقص المناط المعتبر وهو الرضى ولا وجه لذكر هذا فإن الزيادة اللاحقة هى تجارة عن تراض ولكنهم لما جمدوا على اعتبار الألفاظ المقيدة بتلك القيود وجعلوها عقودا احتاجوا إلي ذكر مثل هذا مع أن مثل هذا ينقض عليهم بتلك الشروط والإعتبارات لأنه يقال لهم هذه الزيادة إن كانت مالا فلا بد فيها مما اشترطموه في المزيد لأن كل واحد منهما يصدق عليه اسم المال فما وجه ذكرها ههنا وهكذا النقص لأنه في حكم الزيادة لما وقع له وإن لم يكن مالا عندكم بأن يكون مما لا قيمة له فهو خلاف ما تقولونه فإنكم لا تقيدون ذلك بما لا قيمة له وإن كانت هذه الزيادة من المحقرات عندكم فلا بد فيها من مثل ما ذكرتم في المحقرات. وأما قوله: "والزيادة في الخيار والأجل" فصحيح لأن مرجع ذلك التراضي ولا حجر على بائع أو مشتر أن يزيد في الخيار والأجل كما أنه لا حجر عليه في إبطالهما وليس للتنصيص على مثل هذه الأمور كثير فائدة لأنها معلومة. وأما قوله: "لا للزيادة في حق الشفيع" فوجهه أنها تستلزم لحوق غرم على الشفيع فإذا قال المشتري للبائع قد زدتك في ثمن المبيع كذا صح ذلك وملكه البائع ولا يلزم الشفيع من ذلك شيء. وأما قوله: "وأول مطلق الأجل وقت القبض" للمبيع فلا وجه له بل الاعتبار بالعقد الذي هو التراضي وإن تأخر القبض والتأجيل وقع عنده فالاعتبار بوقته لا بوقت القبض وأما كونه يتلف من مال البائع قبل القبض فبحث آخر سيأتي الكلام عليه. [فصل والمبيع يتعين فلا يصح معدوما إلا في السلم أو في ذمة مشتريه ولا يتصرف فيه

قبل القبض ويبطل البيع بتلفه واستحقاقه ويفسخ معيبه ولا يبدل والثمن عكسه في ذلك غالبا والقيمي والمسلم فيه مبيع أبدا وكذلك المثلى غير النقدين إن عين أو قوبل بالنقد وإلا فثمن أبدا كالنقدين] . قوله: فصل: "والمبيع يتعين فلا يصح معدوما". أقول: هذا وإن كان تكريرا لقوله والمبيع موجود في الملك ولكنه أراد هنا أن يتوصل بذكره إلي ذكر ما لا يشترط فيه الوجود وأعلم أن الشارع قد نهى عن بيع المعدوم على العموم فقال لحكيم بن حزام لما قال له يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال له صلى الله عليه وسلم: "لا تبع ما ليس عندك"، أخرجه أحمد "3/401، 403"، وأهل السنن أبو داود "3503"، الترمذي "1232"، النسائي "4613" ابن ماجة "2187"] ، وقال الترمذي حسن صحيح وأخرجه ابن حبان في صحيحه قال الترمذي وقد روي من غير وجه عن حكيم وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم النهي عن صور من صور البيع والعلة فيها كونه معدوما وسيأتي بيان كل منها في موضعه اللائق به وأما قوله: "إلا السلم"، فسيأتي دليله الخاص به وهو وإن كان نوعا من أنواع البيع فإن ما ورد في صحته على الصفة المذكورة فيما سيأتي يكون مخصصا لعموم النهي عن بيع ما ليس بموجود. قوله: "أو في ذمة مشتريه". أقول: هذا الذى في ذمة المشتري هو غير موجود عند البائع فهو داخل تحت النهي عن بيع المعدوم فإن كان إخراجه من عموم الدليل بدليل فما هو فإنه لا دليل ها هنا من كتاب ولا سنة ولا قياس وهذا على تقدير حضور الثمن أما إذا كان غير حاضر فهو مندرج أيضا تحت نهي آخر وهو ما أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه على شرط مسلم من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكاليء بالكاليء وهو وإن كان في إسناده موسى بن عبيدة الربذي فقد شد من عضده ما يحكى من الإجماع على عدم جواز بيع الكاليء بالكاليء وقد أخرجه أيضا الطبراني من حديث رافع بن خديج. قوله: "ولا يتصرف فيه قبل قبضه". أقول: لحديث جابر عند مسلم وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ابتعت طعأما فلا تبعه حتى تستوفيه"، وأخرج مسلم "40/1528"، نحوه أيضا من حديث أبي هريرة وورد النهي على العموم من غير اقتصار على الطعام فأخرج أحمد عن حكيم ابن حزام قال قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه" وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي وقد وثقه ابن حبان وأخرج أبو دأود والدارقطني والحاكم وابن حبان وصححاه من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلي رحالهم وفي الصحيحين بالبخاري "4/347"، مسلم "38/1527"، وغيرهما من حديث ابن عمر

قال: كانوا يبتاعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع طعأما فلا يبعه حتى يستوفيه"، قال ابن عباس ولا أحسب كل شيء إلا مثله وهذا الحسبان من ابن عباس قد دل عليه حديث حكيم بن حزام وزيد بن ثابت الذى ذكرناه. فالحاصل أن بيع الشيء قبل قبضه منهى عنه وليس في الأحاديث إلا النهي عن البيع فلا يلحق به سائر التصرفات فلا وجه لقول المصنف ولا يتصرف فيه قبل قبضه فإن قيل إنها مقاسة عليه فهو قياس مردود بوجود الفارق وأما قوله ويبطل المبيع بتلفه فظاهر لأنه إذا تلف لم يبق ما هو متعلق به وشرط له أو ركن وهكذا استحقاقه لأنه انكشف أنه ملك لغير بائعه فلا نفوذ لما وقع منه وأما كونه يفسخ بالعيب فلما سيأتي في العيوب وأما كونه لا يبدل فلأن التراضي وقع عليه لا على غيره وذلك بيع آخر وإنما ذكر هذه الأمور ليبين أن الثمن لا يكون كذلك فالفصل معقود للفرق بين الثمن والمبيع. قوله: "والثمن عكسه في ذلك". أقول: وجهه أنه لم يرد فيه ما ورد من الأدلة في البيع من النهي عن أن يكون معدوما وان يباع قبل قبضه وإذا بطل الثمن فالمبيع باق وهو الذى اعتبروا فيه ما اعتبروا وقيم النقود متسأوية فإذا عدم شيء منها فمثله موجود بخلاف البيع فإن الغرض يتعلق بما وقع التراضي عليه وليست الأعيان المتفقة في الجنس والنوع متسأوية كتسأوي النقود بل مختلفة غاية التخالف والأعراض مختلفة فقد يكون قيمة هذه العين مثل عشر قيمة غيرها مع كون الجنس واحدا والنوع واحد ثم إن التراضي حال البيع على ثمن هو كذا من الدراهم أو الدنانير وليس المقصود للبائع إلا دفع ذلك العدد من ذلك النقد المتعامل به في البلد ولا يتعلق له عرض بغيره ولا بهذا منه دون هذا مع الاتحاد وعدم التفأوت ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد وأهل السنن وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي من حديث ابن عمر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فقال: "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء"، وهو صريح في جوز البيع بأحد النقدين وأخذ الآخر عوضا عنه وجواز التصرف بالثمن المسمى قبل قبضه. قوله: "والقيمي والمسلم فيه مبيع أبدا". أقول: اعلم أنه لا مستند لهذا إلا مجرد الرأي الراجع إلي اصطلاح حادث وعادات جارية والشرع أوسع من هذا وهكذا لغة العرب فإذا قال أحد المتبايعين للآخر بع مني هذه العين بهذه العين فباعها وتراضيا على ذلك كان هذا بيعا شرعيا ولغويا سواء كانا قيميين في اصطلاح أهل الفروع أو مثليين أو أحدهما قيميا والآخر مثليا إذا لم يكونا مما يحرم بيع أحدهما بالآخر مطلقا أو مشروطا بالتسأوي والمقايضة وقد رتبوا على هذا الاصطلاح أن المثلى لا يضمن إلا بمثله والقيمي لا يضمن إلا بقيمته وهو رأي بحت لم يقم به دليل ومنقوض أيضا بما ثبت في حديث

المصراة الصحيح المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وسلم: "ردها وصاعا من تمر"، فها هنا قد ضمن المثلي وهو اللبن بغير مثله ومنقوض أيضا بما ثبت: أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أهدت له وهو عند عائشة صحفة فيها طعام فكسرتها عائشة فرد النبي صلى الله عليه وسلم للمهدية صحفة عائشة [أحمد "6/148" 277"، أبو داود النسائي 3957"] ، فها هنا قد ضمن القيمي بمثله لا بقيمته. [فصل ويجوز معاملة الظالم بيعا وشراء في ما لم يظن تحريمه والعبد أو المميز فيما لم يظن حجرهما وهو بالخطر وولي مال الصغير إن فعل لمصلحة وهو أبوه ثم وصيه ثم جده ثم الإمام والحاكم ومنصوبهما والقول له في مصلحة الشراء وبيع سريع الفساد والمنقول وفي الإنفاق والتسليم لا الشراء من وارث مستغرق باع لا للقضاء وينفذ بالإيفاء أو الإبراء وبيع كل ذي نفع حلال جائز ولو إلي مستعمله في معصية غالبا أو واجب كالمصحف ومن ذي اليد ولا يكون قبضا إلا في المضمون غالبا ومؤجر ولا تنفسخ إلا أن يباع لعذر أو من المستأجر أو بإجازته والأجرة للمشتري من العقد ومجهول العين مخيرا فيه مدة معلومة وميراث علم جنسا ونصيبا ونصيب من زرع قد استحصد وإلا فمن الشريك فقط قيل وكامن يدل فرعه عليه وملصق كالفص ونحوه وإن تضرر غالبا ويخيران قبل الفصل وصبرة من مقدر كيلا أو وزنا أو عددا أو ذرعا مستو أو مختلف جزافا غير مستئنن إلا مشاعا أو مختارا أو كل كذا بكذا فيخير لمعرفة قدر الثمن أو على أنه مائة بكذا أو مائة كل كذا بكذا فإن نقص أو زاد في الآخرتين فسد في المختلف مطلقا وفي غيره بخير في النقص بين الفسخ والأخذ بالحصة إلا المذروع في الأولى فبالكل إن شاء وفي الزيادة ردها إلا المذروع فيأخذها بلا شيء في الأولى وبحصتها في الثانية أو يفسخ وبعض صبرة مشاعا أو مقدرا ميز في المختلف قبل البيع وعينت جهته في مختلف المذروع وكذا إن شرط الخيار مدة معلومة لا منها كذا بكذا إن نقصت أو كل كذا بكذا مطلقا فتفسد وتعين الأرض بما يميزها من إشارة أو حد أو لقب] . قوله: فصل: "ويجوز معاملة الظالم بيعا وشراء فيما لم يظن تحريمه". أقول: قد ثبت وقوع المعاملة منه صلى الله عليه وسلم لمن يفد إلي المدينة من الأعراب الباقين على الشرك إذ ذاك وهكذا معاملة أصحابه رضي الله عنهم لهم بمرأى منه صلى الله عليه وسلم ومسمع وهم في حال جأهليتهم مرتطمون في المحرمات مرتكبون للظلم وغالب ما في أيديهم مما يأخذونه قهرا وقسرا

وغضبا من أموال بعضهم بعضا مع كونهم مستمرين على ربا الجأهلية الذي هو الربا المحرم بلا خلاف وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يعاملون اليهود من أهل المدينة وممن حولها وهم مستحلون لكثير ما حرمه شرعنا وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يعامل هو وأصحابه أهل مكة قبل الهجرة ومن يرد إليها من طوائف الكفار ولم يسمع على كثرة هذه المعاملة وتطأول مدتها أنه صلى الله عليه وسلم قال: هذا كافر لا تحل معاملته ولا قال أحد من الصحابة كذلك وإذا كان هذا في معاملة الكفار الذين هذا حالهم وملكهم فكيف لا تجوز معاملة من هو من المسلمين مع تلبسه بشيء من الظلم فإن مجرد كونه مسلما يردعه عن بعض ما حرمه الله عليه وإن وقع في بعض المحرمات تنزه عن بعضها فغاية الأمر ما في يده قد يكون مما هو حرام وقد يكون مما هو حلال ولا يحرم على الإنسان إلا ما هو نفس الحرام وعينه. وأما طريقة الورع فلا شك أن الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات" [البخاري "1/126"، 4/290"، مسلم "3330"، الترمذي "1205"، النسائي "4453"، ابن مكاجة "3984"] ، والمؤمنون وقافون عند الشبهات ولكنه قال لو كان هذا أعني معاملة الظالم من هذا القبيل لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله أصحابه مع علمه لذلك وتقريره له وإذا كان هذا في المعاملة بالبيع والشراء ونحوهما كان في قبول عطائهم وهباتهم كذلك فقد كان الصحابة بعد انقراض خلافة الخلفاء الراشدين يقبضون العطاء والجوائز والهبات ممن بعدهم مع تلبسهم بشيء مما لا يبيحه الشرع وعدم توقفهم على ما يسوغه الحق ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون عأما ثم تكون ملكا عضوضا". وأما قوله: "والعبد المميز فيما لم يظن حجرهما" فوجهه أن الأصل فيما في أيديهما وقوع الإذن لهما بالتصرف فيه عملا باليد الثابتة عليه ومع ظن الحجر لهما ينتفي ذلك الأصل وإذا انكشف أنهما غير مأذونين كان الضمان متعلقا برقبة العبد ومال الصبي لأنه جناية منهما وهي مضمونة عليهما ولهذا قال وهو بالخطر فإنه تحذير للمعامل لهما لأنه قد لا يكون للصبي المميز مال وقد تكون رقبة العبد قاصرة عن الوفاء بجنايته وقد تقع أمثال هذه الجناية والجميع متعلق برقبته فلا يحصل للفرد من المعاملين له إلا النزر اليسير. قوله: "وولي مال الصغير إن فعل لمصلحة". أقول: وجهه أن الحاجة لمثل الصغير والمجنون قد تدعو إلي بيع شيء من ماله أو شراء شيء له لحاجة لا عذر عنها وهو صغير لا يصلح لذلك لعدم بلوغه سن الرشد والمجنون لا يدرك شيئا ولا يفرق بين المصلحة والمفسدة فلا بد من أن يتولى التصرف عنهما غيرهما ولكن إن فعل ذلك لمصلحة وإلا كان تصرفه ردا عليه والمصلحة هى على الحد الذى ذكره الله سبحانه في أموال اليتامى وأما قوله وهو أبوه فاعلم أن الله سبحانه قد ذكر الولي في كتابه العزيز فقال: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} فجعل الأمر في هذا الذي لا يستطيع أن يمل إلي وليه واكتفى باملاله عنه فكان هذا دليلا من الكتاب العزيز على أن الولي ينوب عمن لا يستطيع أن يفعل كما يفعله غيره في

التصرفات والإقرارات والإنشاءات إلحاقا لغير هذا الفرد المنصوص عليه بعد لعدم الفارق وتقييد ما في الآية بقوله بالعدل مرشد إلي ما تقدم من قول المصنف إن فعل لمصلحة فإن إيقاع الأمر على وجه العدل هو المصلحة التي ليس وراءها مصلحة وكما ثبت في الكتاب العزيز ذكر الولي الذي يتصرف عن غيره ثبت أيضا في السنة ذكر الولي في النكاح بما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل"، [أحمد "6/47، 165"، أبو داود "2083"، ابن ماجة "1879"، الترمذي "1102"، فإن هذا ولي جعل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عقد النكاح للمرأة وقد كان يعقد نكاح النساء في زمن النبوءة قرابتهن وكان يقدم الأقرب فالأقرب فإذا كان الأب موجودا كان ذلك إليه كما كان من أبي بكر وعمر في تزويجهما عائشة وحفصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما كان منه صلى الله عليه وسلم من تزويج بناته وهكذا كان عمل سائر الصحابة ثم إذا عدم الأب تولى ذلك الأقرب إلي المرأة فعرف بهذا أن الولي في النكاح هم القرابة مع تقديم الأقرب فالأقرب فكان ذلك كالتفسير للولي المذكور في الآية فيلي أمر الصغير ونحوه أبوه فإن عدم الأب فالأقرب فالأقرب ممن له عليه مزيد حنو ورأفة فإن ذلك أقرب إلي رعاية مصلحته وعلى كل حال فعليه أن يتحرى العدل كما ذكره الله سبحانه في تلك الآية هذا إذا أردنا معرفة الولي شرعا فإن ما ذكرناه يدل عليه ومعلوم أن الأب هو الأقرب والأكثر حنوا ورأفة ويليه الجد فإنه كالأب في مزيد حنوه ورأفته على ابن ابنه وقد يزيد على الأب في ذلك ثم الإخوة والأعمام ثم الأقرب فالأقرب فمهما وجدت القرابة كانت صالحة لجعلها مناطا لثبوت كون صاحبها وليا مع عدم وجود من هو أقرب منه ومما يقوي ما ذكرناه قول الله عز وجل: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال 75] ، فهذه الآية أثبتت بعمومها الأولوية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولو رجعنا إلي اللغة لدلت على ما ذكرناه فإن الولي القريب والولي القرب والدنو وقد ذكر أهل اللغة للولي غير هذا المعنى ولكنه لا يناسب المقام وإذا تقرر لك هذا فأعلم أنه لا وجه لإثبات الولاية لوصي الأب ووصي الجد أصلا لأن الموصي إليهما قد انقطعت ولايته بموته مع كون الحنو والرأفة اللذين هما سبب جعل الولي وليا معدومين فيهما وأما الإمام والحاكم فلهما ولاية عامة تشمل هذه الولاية فمن هذه الجهة العامة لهما ولاية وأما مع وجود الولي الخاص فهو أقدم منهما ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذى قدمناه في النكاح: "فإن اشتجر الأولياء فالسلطان ولي من لا ولي له"، فجعل ثبوت ولايته في النكاح مشروطة بأشتجار الأولياء فأفاد ذلك أنه لا ولاية للإمام والحاكم مع وجود الأولياء إذا لم يشتجروا. قوله: "والقول له في مصلحة الشراء وبيع سريع الفساد والمنقول". أقول: قد قررنا أن لمن كان وليا على الصفة التى حررناها ولاية شرعية وموجب هذه الولاية أن يكون القول قوله في ذلك لأنه متصرف بأمر الشرع ومأمور بالعدل فلو عاد خصما مخاصما وكلف البينة على تصرفاته لكان ذلك مخالفا للولاية الشرعية وأما ما قيل من أن الأصل في الأولياء عدم الصلاح فمجرد رأى بحت بل الأصل فيهم الصلاح وفي تصرفاتهم الصحة ومن

ادعى غير ذلك فهو مدع لخلاف الظاهر فإن جاء ببرهان يقتضي صحة دعواه فذاك وإلا فلا قبول لمجرد دعواه. وأما قوله: "وفي الإنفاق" فكذلك أيضا لأن الله سبحانه قد جعل الأمر في أموال اليتامى مناطا بالأولياء فلا وجه لعدم قبول قولهم فيما أنفقوه عليهم لأنهم باشروا ما باشروه منها بأمر الله عز وجل والمفروض أنهم من أهل الأمانة ومن المتصرفين بالعدل أما إذا تقرر أنهم من أهل الخيانة ومن المتصرفين بالجور منهم لم لا يتوقفوا على ما أمرهم الله به فيضمنون ما تصرفوا فيه بغير ما أمر الله به. وأما قوله: "في التسليم" فلا بد من تقييد ذلك بأمرين. الأول: أن يكون اليتيم ونحوه حال النزاع قد بلغ سن الرشد لقوله عز وجل: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، فلو لم يكن قد بلغ تلك السن كان الولي متعديا بتسليم المال إليه ومع كونه مخالفا لما أمر الله به لا يكون القول قوله لأن الولاية الشرعية تقتضي أن لا يدفع إليه ماله إلا مع إيناس الرشد فدعواه أنه دفعه إليه قبلها يوجب بطلان ولايته والقدح في عدالته وهو لم يقبل قوله إلا لمجموع الولاية والعدالة. الأمر الثاني: أن يشهد على تسليم ماله إليه كما أمره الله سبحانه بقوله: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] ، فإذا لم يشهد فقد أخل بواجب عليه فعليه أن يأتي بما يصدق قوله أو يصحح دعواه. وأما قوله: "ولا الشراء من وارث مستغرق باع لا للقضاء" فإن فعل ذلك عمدا بعد عمله باستغراق التركة بالدين وأن البائع باع لهما للقضاء فهذه خيانة منه فلا ينفذ تصرفه وإن فعل ذلك جأهلا فولايته باقية وعليه الإستدراك بحسب الإمكان فإن تعذر ذلك فلا ضمان عليه لأنه قد فعل ما يظنه صلاحا وهو أمين ولم يحسن ولا فرط وسواء وقع الإيفاء أو الإبراء أو لم يقع واحدا منهما. قوله: "وبيع كل ذي نفع حلال جائز". أقول: قد أراد المصنف بهذا الإشارة إلي ما هو جائز للبيع وإلي ما لا يجوز بيعه فكل ما كان يتعلق به منفعة يحلها الشرع فبيعه جائز وكل ما كان لا منفعة له أصلا وكانت تلك المنفعة غير جائزة فبيعه غير جائز لأن الوسيلة إلي الحرام حرام ولكن لا بد أن يكون النفع في ذلك الشيء لا يكون في حرام على كل حال أما لو كان مما يمكن أن يكون نفعه حلالا في حالة وحرأما في حالة أو مما يستعمله هذا في حرام وهذا في حلال فإن علم البائع أن ذلك المشتري لا يستعمله إلا في حرام لم يحل بيعه وإن علم أنه يستعمله في حلال حل بيعه وإن بقي الأمر ملتبسا مع إمكان استعماله في الحلال والحرام جاز بيعه لأنه لم يوجد المانع من البيع ومجرد التردد مع عدم الترجيح لا اعتبار به. فإن قلت وما الدليل الذى دل على المنع مما نفعه حرم قلت ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في

الصحيحين [البخاري "2236"، مسلم "1581"، وغيرهما [أحمد "3/324، 326"، أبو داود "3486"، الترمذي "1297"، النسائي "7/309، 310"، ابن ماجة "2167"] ، من حديث جابر قال إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس, فقال: "لا هو حرام"، فصرح صلى الله عليه وسلم بأن بيع ذلك حرام مع بيانهم لوجوه الانتفاع به ثم قال بعد ذلك: "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه" وأخرج أحمد وأبو دأود بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه"، فصرح صلى الله عليه وسلم بأن الحرمة مانعة من البيع والتحريم كما يكون في أعيان الأشياء يكون أيضا في منافعها ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا القينات المغنيات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام"، فجعل صلى الله عليه وسلم ثمنهن حرأما لأن الغالب أنهن لا يبعن إلا للغناء مع كون الانتفاع بهن في غيره ممكنا كالوطئ والخدمة أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال غريب انتهى ولكن له شواهد تقويه. فالحاصل أنه إذا كان الغالب في الانتفاع بالمبيع هو المنفعة المحرمة فلا يجوز بيعه وكانت هذه الغلبة توجب حصول الظن للبائع بأن المشتري ما أراد بشرائه لتلك العين إلا تلك المنفعة المحرمة وأما إذا لم تكن ثم غلبة فالأمر كما قدمنا ومن هذا بيع العنب والتمر إلي من يغلب على الظن أنه يتخذه خمرا وبيع آلات الملاهي إلي من يلهو بها فإن ذلك غير جائز لأن تلك المنفعة حرام وكل حرام يحرم بيعه والمنفعة هى المقصودة لا مجرد العين من غير نظر إلي وجه من وجوه الانتفاع بها فما كان للمصنف أن يقول ولو إلي مستعمله فإن البيع إليه مع العلم والظن بأنه يستعمله في معصية لا يجوز لما تقدم بل يحرم مثلا بيع الحمار الأهلي إذا علم البائع أو ظن أن المشتري اشتراه ليأكله لأن هذا البيع وسيلة إلي الحرام وذريعة إلي ما لا يحل ووسائل الحرام حرام وقد أخرج الطبراني والبيهقي من طريق محمد بن أحمد بن أبي خيثمة عن بريدة مرفوعا: "من حبس العنب آيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو من نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة" زاد البيهقي: "أو ممن يعلم أنه يتخذه خمرا" وحسنه ابن حجر في بلوغ المرام. قوله: "أو واجب كالمصحف". أقول: المصحف هو آكد لتلأوة القرآن وأما تعلم ما يجب على الإنسان تعلمه فلا دخل للمصحف في ذلك لأنه يتعلمه من المعلم كالفاتحة وسورة فإن العامي لو أخذ المصحف وأراد أن يتعلم ذلك لم يدر ما يقول حتى يتعلم ذلك مشافهة وأما ما روي عن بعض السلف من المنع عن بيع المصحف فليس عليه أثاره من علم وأي شراء أطيب من شراء من يستعمل تلك العين المشتراة في طاعة الله سبحانه كالمجاهد يشتري السيف ليقاتل به الكفار ويجاهد به في سبيل الله ومعلوم أن الجهاد أعظم فرائض الإسلام فلو كان بيع الشيء الذي يستعمله مشتريه في

واجب غير جائز كما قال ذلك البعض لحرم ببيع ما يحتاجه المجاهد للجهاد وما يتجهز به للحج وما يلبسه للصلاة وما يتسحر به للصيام وما ينفقه على ما يجب عليه انفاقه. قوله: "ومن ذي اليد" الخ. أقول: إذا ما حصل مناط البيع وهو التراضي المذكور في الكتاب العزيز صار ذلك المبيع ملكا للمشتري وليس هذا من بيع البائع لما ليس عنده حتى يدخل في النهي المتقدم قريبا بل يد الأمين يد من أئتمنه ويكفي المشتري ما وقع من التراضي فإنه قد سلطه بذلك على قبض العين التى لديه وأما إذا كانت العين في يد غاصب لها ممتنع من ردها فقد يندرج ذلك تحت بيع البائع لما ليس عنده فيدخل تحت النهي لأن الغاصب قد حال بينه وبينها باستيلائه عليها عدوانا فلا بد من قبضها منه ثم بيعها إليه. والحاصل أن إيجاب تحديد القبض والفرق بين المضمون وغير المضمون من غرائب الرأي وعجائب الاجتهاد وليس ذلك بمستنكر من الجامدين على ما وجدوه في كتب الفروع. قوله: "ومؤجر ولا تنفسخ إلا أن يباع لعذر" الخ. أقول: إذا أخرج المالك تلك العين من ملكه فقد بطل ما فعله من التأجير فيها لأن إجارته إنما تصح ما دام مالكا للعين وبعد خروجها عن ملكه قد صارت ملكا للمشتري وهو بالخيار أما رضي بتأجيرها من ذلك المستأجر أو نزعها من يده فكونه لا ينفذ له تصرف بالبيع في ملكه مع تأجير منافعها لا يصلح مانعا لأن تسليط المستأجر على الانتفاع بالعين هو إلي مقابل أجرة وقد اختار المالك أن يخرجها عن ملكه وهو محكم في ملكه ولم يرد ما يدل على أن هذا التأجير من موانع البيع حتى يقال اقتضى ذلك الدليل وعلى فرض ورود ما يدل على لزوم الاستمرار على ما اقتضاه عقد الإجارة فهو مقيد ببقاء الملك ولم يبق ها هنا فالظاهر جواز بيع العين المؤجرة سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر وسواء كان من المستأجر أو غيره وسواء رضي المستأجر أم لم يرض ومع هذا فكل بائع لا يبيع العين المؤجرة إلا وقد وجد البيع أنفع له من الاستمرار على التأجير وهذا عذر وأيضا هو بالبيع قد زال الغرض الذى كان له في عقد الإجارة وسيأتي أن من أسباب انفساخ الإجارة الصحيحة العذر الزائل معه الغرض بعقدها وهذا قد زال غرضه من الإجارة بترجيح جانب البيع. قوله: "ومجهول العين مخيرا فيه مدة معلومة". أقول: وجه الصحة أن الخيار في الاختيار رافع للجهالة باعتبار الانتهاء وإن كان مجهولا في الابتداء فلا غرر حينئذ عند انجاز البيع وهو وقت الاختيار ومن منع من ذلك نظر إلي أنه وقع البيع لشيء مجهول وإرتفاع الجهالة من بعد لا يقتضي الصحة والقول بالصحة أرجح لأن المانع منها مع التخيير لا يصلح للمانعية وقد ثبت في الصحيحين [البخاري "4/326، 4/327"، مسلم "43/1531"] ، وغيرهما [أبو داود "3454، 3455"، الترمذي "1245"، النسائي "7/248، 249"، ابن ماجة "2181"، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا

أو يقول أحدهما لصاحبه اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع الخيار" وفي لفظ لهما: "أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" وفي لفظ لهما أيضا: "كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار" ولا يخفاك أن بيع مجهول العين مع التخيير داخل في ذلك وفي الباب أحاديث. قوله: "وميراث علم جنسا ونصيبا". أقول: لا شك ولا ريب أن قول القائل مثلا بعت منك نصيبي مما ورثته من فلان وهو الثلث أو الربع أو نحوهما من الأراضي أو الدور أو البقر أو الغنم أو نحو ذلك مجهول الكمية والكيفية وما كان كذلك فهو مجهول الكنه. ومن جملة ما يصدق عليه بيع الغرر الذى ورد النهي عنه في الأحاديث الصحيحة بيع المجهول بأي نوع من أنواع الجهالة كما يفيد ذلك أقوال أئمة اللغة فالعلم بالجنس والنصيب لا يرفع الجهالة فلا يكون ذلك مسوغا للبيع. والحاصل أن أدلة النهي عن بيع الغرر قد تنأولت هذا وما فوقه في الجهالة وما هو دونه فلا يخرج عن ذلك إلا ما خصصه الدليل من هذا العموم كبيع الغائب وبيع الجزاف كما سيأتي ولا وجه لقول المصنف وميراث بل كل شيء معلوم الجنس والنصيب الكلام فيه كالكلام فى الميراث المعلوم جنسا ونصيبا. قوله: "ونصيب من زرع قد استحصد". أقول: وجهه ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة وما أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد ولكن هذين الحديثين إنما يدلان على النهي من البيع إذا كان الزرع قد سنبل حتى يبيض وإذا كان الزرع قد صار حبا حتى يشتد وأما بيعه قبل أن يسنبل ويظهر فيه الحب وهو الذى يقال له بيع القصيل فقال ابن رسلان في شرح سنن أبي دأود واتفق العلماء المشهورون على جواز بيع القصيل بشرط القطع وخالف سفيان الثوري وابن أبي ليلى فقالا لا يصح بيعه بشرط القطع قال وقد اتفق الكل على أنه لا يصح بيع القصيل من غير شرط القطع وخالف ابن حزم الظاهري فأجاز بيعه من غير شرط القطع انتهى ولا يصدق على بيع القصيل أنه بيع المخاضرة الذى ورد النهي عنه لأن في كتب اللغة ما يدل على أن بيع المخاضرة بيع الثمار قبل بدو صلاحها والثمار هى حمل الشجر فلا يتنأول الزرع كما في كتب اللغة أيضا وقد قسر بعض أهل العلم المحاقلة ببيع الزرع قبل أن يغلظ سوقه فإن صح ذلك كان دليلا على المنع وإلا كان الظاهر ما قاله ابن حزم من

جواز بيع القصيل مطلقا ولا وجه لقول المصنف وإلا فمن الشريك فقط لأنه تخصيص للحديثين المذكورين بغير مخصص وأما توهم أن الشريكين لا يقسمان الزرع إلا عند الحصاد فغير صحيح فإنه قد يتعلق لهما غرض بالقسمة قبل ذلك على أن مثل هذا لو صح لم يصح مخصصا لجواز تلف الزرع قبل بلوغ وقت الحصاد وذلك هو العلة في النهي عن البيع. قوله: "قيل: وكامن يدل فرعه عليه". أقول: إن كانت هذه الدلالة بحيث تتميز عند البائع والمشتري ويعرفان كيفيته وكميته كان ذلك خارجا عن بيع الغرر المنهى عنه وإن كانت هذه الدلالة قاصرة عن ذلك فلا يحل بيعه حتى يخرج ذلك الكامن من الأرض ويحصل الإطلاع عليه ومعرفته بالكنه ومن جوز ذلك مستدلا بما جرت عليه عادة الناس فلم يصب فإن مثل ذلك لا يصلح لتخصيص الأدلة وأما قوله وملصق كالفص ونحوه فإن كان مجرد الإلصاق لا يوجب الجهالة فالبيع صحيح وإلا فلا لأنه من بيع الغرر وأما الفصل للفص فمرجعه تراضيهما فإن تراضيا على ذلك صح سواء حصل التضرر أم لم يحصل وأما تخييرهما قبل الفصل فوجهه أنه إذا كان في الفصل مضرة على الملصق أو الملصق به ولم يحصل التراضي عليه كان ذلك في حكم تعذر تسليم المبيع وسيأتي أنه من الخيارات المذكورة في باب الخيارات. قوله: "وصبرة" إلي قوله: "جزافا". أقول: جاز بيع الجزاف بالدليل الذى خصصه من أحاديث النهي عن بيع الغرر وهو ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال كانوا يبتاعون الطعام جزافا على السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه قال ابن قدامة يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها انتهى. وإنما قلنا إن الدليل الوارد بجواز بيع الجزاف مخصص لأحاديث النهي عن بيع الغرر لأن في بيع الجزاف غررا في الجملة إذ الجزاف هو ما لم يعلم قدره على التفصيل. وأما قوله: "غير مستثن إلا مشاعا" فوجهه أن الاستثناء يزيد في الجهالة الكائنة في الصبرة زيادة على الجهالة التى خصصها الدليل فلا يدخل بعد هذه الجهالة في التخصيص وأما إذا كان المستثنى جزءا مشاعا فلا بأس به فإنه لا يوجب مزيد جهالة وهكذا مع الاختيار لما قدمنا قريبا. وأما ما ذكره من قوله: "أو كل كذا بكذا" أو ما بعده من الصور فإن كان وقوع ذلك يرفع من مطلق الجهالة شيئا فهو وإن كان بيع جزاف لكنه قد توصل إلي تفصيله من وجه والتخيير لمعرفة مقدار الثمن صحيح لأنه عند هذا التفصيل جهل المشتري ما يلزمه من الثمن وأما الصورة الثانية والثالثة فالأولى عدم الحكم بالفساد مع الزيادة والنقص بل مجرد إثبات الخيار يكفي كالصورة الأولى وبهذا تعرف عدم الحاجة إلي الكلام على بقية ما في هذا الفصل فإن ما ذكرناه يبصرك بما ينبغي أن يقال في كل ذلك.

[فصل ولا يجوز مطلقا بيع الحر فيؤدب العالم ويرد القابض إلا الصبي ما أتلف فأن غاب منقطعة فالمدلس ويرجع وإلا فلا ولا أم الولد والنجس وماء الفحل للضراب وأرض مكة وما لا نفع فيه مطلقا] . قوله: "فصل: ولا يجوز مطلقا بيع الحر". أقول: تحريم هذا من قطعيات الشريعة وإجماع أهل الإسلام على التحريم معلوم ولا يحتاج إلي الاستدلال على مثله والتعرض بما يستحقه الفاعل لهذا الحرام غير مناسب للمقام بل الذى يستحقه من العقوبة هو سخط الله عليه وغضبه وأليم عقابه ولم يرد على ذلك في الشريعة عقوبة معينة في الدنيا ولا هو من الأمور التى يجب الحد على فاعلها فقول المصنف فيؤدب العالم كلام في غير موضعه وعلى غير قانون الشرع وأما كونه يرد البائع ما قبضه من قيمة الحر فواضح لا يحتاج إلي ذكره. وقوله: "إلا الصبي ما أتلف" فلا يخفى أن ذلك جناية منه على المشتري والصبي يضمن ما جناه لأن ذلك من أحكام الوضع لا من أحكام التكليف فلا وجه لإسقاط الضمان عنه سواء باع نفسه أو غيره. وأما قوله: "فإن غاب منقطعة فالمدلس" فكان الأولى أن يقول فإن لم يمكن الرجوع عليه فعلى المدلس ولا وجه للتنصيص على مجرد الغربة الموصوفة بالانقطاع فإن افتقاره وموته ولا مال له كذلك ووجه تضمين المدلس أنه مشارك بتدليسه في الجناية الواقعة من البائع. قوله: "ولا أم الولد". أقول: استدل المانعون بحديث ابن عباس عن ابن ماجه والدارقطني والبيهقي قال ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعتقها ولدها"، وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف قال البيهقي وروى عن ابن عباس من قوله ورواه البيهقي من حديث ابن لهيعة عن عبيد الله بن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال لأم إبراهيم: "أعتقك ولدك"، وهو معضل ورواه ابن حزم من طريق قاسم بن أصبغ عن محمد بن مصعب عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس فذكره وقال صح هذا بسند رواته ثقات يعني هذا السند الذى ذكره وتعقبه ابن القطان بأن قوله عن محمد بن مصعب خطأ وإنما هو عن محمد وهو ابن وضاح عن مصعب وهو ابن سعيد المصيصي وفيه ضعف. وأخرج أحمد وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عند دبر منه"، وفي إسناده حسين بن عبد الله الهاشمي وهو ضعيف كما تقدم ورجع جماعة وقفه وأخرج الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد وقال: "لا يبعن ولا يوهبن

ولا يورثن يستمتع بها السيد ما دام حيا وإذا مات فهي حرة"، قال البيهقي وعبد الحق والصحيح وقفه على عمر وقد رواه مالك في الموطأ والدارقطني من طريق أخرى عن ابن عمر عن عمر ورواه أحمد في مسنده عن الخطاب بن صالح عن أمه قالت حدثتني سلامة بنت معقل قالت كنت للحباب ابن عمرو ولي منه غلام فقالت لي امرأته الآن تباعين في دينه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "من صاحب تركة الحباب بن عمرو؟ " قالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو فدعاه فقال: "لا تبيعوها وأعتقوها فإذا سمعتم برقيق قد جاءني فأتوني أعوضكم"، ففعلوا واختلفوا فيما بينهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم: أم الولد مملوكة لولا ذلك لم يعوضكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قوم: هي حرة قد أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي كان الاختلاف وقد أخرجه أبو دأود بإسناد صالح وذكر البيهقي أنه أحسن شيء في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا جملة ما استدل به المانعون من البيع ولا احتمال في حديث سلامة بنت معقل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بإعتاقها ونهاهم عن بيعها وذلك هو محل الاستدلال وأما ما وعدهم به من العوض فذلك من حسن أخلاقه الشريفة ومن كرمه الفياض وجمله ما ذكرناه من الأحاديث يقوي بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فينتهض للاستدلال به على عدم جواز بيع أمهات الأولاد ويؤيد ذلك ما ثبت في اصحيح البخاري وغيره عن أبي سعيد قال جاء رجل من الأنصار فقال يا رسول الله إنا نصيب سبيا فنحب الأثمان فكيف ترى في العزل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنكم لتفعلون ذلك لا عليكم أن لا تفعلوا"، الحديث فإن قول السائل ونحب الأثمان فيه إشارة إلي أنهن إذا ولدن لم يجز بيعهن وأما ما أخرجه أحمد وابن ماجه والشافعي والبيهقي عن جابر أنه قال كنا نبيع أمهات أولادنا والنبي صلى الله عليه وسلم حتى لا نرى بذلك بأسا وما أخرجه أبو دأود وابن حبان والحاكم عن جابر أيضا قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فأنتهينا فليس في حديثه هذا المروي من الطريقين عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلع على ذلك وقد حكى ابن قدامة إجماع الصحابة على المنع وقد حكى القول بالجواز عن علي وابن عباس وابن الزبير وروى عنهم الرجوع كما حكى ابن رسلان في شرح السنن وأخرج عبد الرزاق عن علي بإسناد صحيح أنه رجع عن الجواز إلي المنع وإلي المنع ذهب الجمهور من أهل العلم وقد قيل أنه إجماع وهو غير مسلم. قوله: "والنجس". أقول: أراد المصنف بهذا ما هو عنده نجس كما تقدم في النجاسات فيشكل مثل الكلب والخنزير والخمر والنجاسة العينية كالعذرة وماله حكمها وقد جاءت الأدلة الصحيحة في تحريم بيع أمور أما لكونه نجسا في نفسه أو لكونه يحرم الانتفاع به فمن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، وفي الصحيحين [البخاري "4/424"، مسلم "71/1581"] ، وغيرهما من حديث أبي جحيفة أنه اشترى حجأما فأمر فكسرت محاجمه وقال: إن

رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي وفي الصحيحين [البخاري "4/426"، مسلم "39/1567"، وغيرهما [أبو داود "3481"، الترمذي "1267"، النسائي "7/309"، ابن ماجة "2159"، أحمد "4/118، 119، 120"] ، أيضا من حديث أبي مسعود البدري عقبة بن عمر وقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلو ان الكاهن وأخرج أحمد وأبو دأود بإسناد رجاله ثقات عن ابن عباس قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب وقال: "إن جاء يطلب ثمن الكلب فملأ كفه ترابا"، وفي صحيح مسلم وغيره عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور وقد نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على تحريم بيع الخمر وحكى صاحب فتح الباري الإجماع على تحريم بيع الخنزير وذهب الجمهور إلي تحريم بيع الكلب وهو الحق وأما استثناء كلب الصيد فقد استدل له بما أخرجه النسائي من حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد قال في الفتح: ورجال إسناده ثقات إلا أنه طعن في صحته انتهى وفي إسناده الحسن بن أبي جعفر قال يحيى بن معين ليس بشيء وضعفه أحمد وقال ابن حبان لا أصل له وأخرج نحوه الترمذي من حديث أبي هريرة وفي إسناده أبو المهزم وهو ضعيف بل متروك فلم يصح الاستثناء بدليل تقوم به الحجة وإذا عرفت هذا فبيع تلك الأعيان المنصوص عليها في الأحاديث حرام باطل ومن جادل في ذلك وألزم بإلزامات مذهبية فهو منتصب للرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا ولكون فلان لم يعمل بكذا أو ترك العمل بكذا فلزمه كذا فإن هذه المباحثة بالجهل أشبه منها بالعلم واستعمال القواعد الجدلية عند الكلام على الأدلة الشرعية من التلاعب الذى لا يرضاه متدين وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ولم يضع أهل العلم تلك القواعد الجدلية المذكورة في علم المناظرة إلا لتدريب أذهان المتنازعين في علم الرأي ورياضة أفهامهم ولا يستجيز مسلم أن يثبت بها أحكام الشرع أو يبطلها ومن زعم خلاف هذا فمن قصوره أتي ومن تفريطه أصيب وأما تحريم بيع العذرة وماله حكمها من النجاسات فهو مجمع عليه. قوله: "وأما الفحل للضراب". أقول: لما في اصحيح البخاري "4/461"، وغيره [أبو داود "3429"، الترمذي "1273"، النسائي "7471"، أحمد "2/14"] ، من حديث ابن عمر قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل ولما في مسلم وغيره من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ضراب الفحل وفي الباب أحاديث والنهي حقيقة في التحريم وإلي التحريم ذهب الجمهور وهو الحق وأما ما أخرجه الترمذي من حديث أنس أن رجلا من بني كلاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل فنهاه فقال: يا رسول الله إنا نطرق الفحل فنكرم فرخص له في الكرامة قال الترمذي: حديث حسن غريب فغاية ما فيه أنه يجوز لصاحب الفحل أن يقبل ما أهدي إليه من غير اشتراط ولا مبايعة فلا ينافي أحاديث النهي ولا يصرفها عن معناها الحقيقي.

قوله: "وأرض مكة". أقول: أعلم أن الأصل في كل شيء أنه يجوز للمالك أن يتصرف فيه بما شاء من أنواع التصرفات كما يفيده قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] ، وإذا كانت هذه الأعيان المخلوقة الموجودة في الأرض لنفع الناس جاز لهم تملكها والتصرف فيها كيف شاؤا حتى يقوم الدليل الصحيح الناقل عن حكم الأصل فيجب الرجوع إليه والعمل به ولم يستدل المانعون من بيع أرض مكة إلا بقوله عز وجل: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] ، وهذه الآية محتملة لأمرين أحدهما أن يراد المسجد فلا يكون فيها دليل للمستدل والأمر الثاني أن يراد ما هو أعم من ذلك والمحتمل لا يصلح الاستدلال به ولا تقوم به الحجة لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه [البخاري "1588، 2058، 4282"، مسلم "439، 440/1351"] ، أن أسامة بن زيد قال للنبي صلى الله عليه وسلم أين تنزل غدا يا رسول الله؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع" فلو كان البيع باطلا لأبطله صلى الله عليه وسلم ولم ينفذه. والحاصل أن البيع هو الذى كان عليه عمل أهل الجأهلية ثم عمل عليه أهل الإسلام بعدهم حتى قيل إن الجواز أمر مجمع عليه بين الصحابة لا يختلفون فيه فالقائلون بعدم الجواز إن جاؤا بدليل ينتهض للاحتجاج ويخلص عن شائبة الاحتمال فذاك ولكنهم لم يأتوا بشيء وأما ما يروى من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع رباع مكة وعن إجارتها فعلى المستدل به أن يصححه وإلا كان وجوده كعدمه ومع ما ذكرنا مع أن البيع كان عليه عمل أهل الجأهلية الذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم تقريره وعدم إنكاره وعمل الصحابة رضي الله عنهم في عصره صلى الله عليه وسلم وبعد عصره فهو أيضا الذي عليه العمل من أهل الإسلام قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر فكيف يقبل في مثل هذا الأمر ما لا تقوم به الحجة ولا ينتهض لمعارضته ما هو دون ذلك بمسافات. قوله: "وما لا نفع فيه مطلقا". أقول: هذا قد أغنى عنه ما تقدم من قوله وبيع كل ذي نفع حلال جائز ولكنه أراد هنا أن يستوفي بيان ما لا يجوز بيعه مع أنه أخل بأشياء كثيرة وردت بالمنع من بيعها الأدلة الصحيحة ثم وجه عدم جواز بيع ما لا نفع فيه مطلقا هو كونه من أكل أموال الناس بالباطل ومن إضاعة المال وقد ورد النهي عن الأول في الكتاب العزيز وورد النهي عن الثاني في الأحاديث الصحيحة والاعتبار بالغالب فإن كان الغالب من الناس لا ينتفع بتلك العين لم يبعها فإن قلت قد تدعو حاجة البائع إلي البيع وحاجة المشتري إلي الشراء في الشيء الذى لا نفع فيه عند غالب الناس؟ قلت: قد صار بهذه الحاجة إلي بيعه وشرائه ذا نفع فيجوز بيعه وليس في هذا من الدور الذى زعمه الجلال في شرحه شيء لأن جواز البيع ترتب على الحاجة ولم تترتب الحاجة على جواز البيع وهكذا ترتب عدم جواز بيعه على عدم نفعه ولم يترتب عدم نفعه على عدم جواز بيعه ومعلوم أن الدور هو عدم تناهي التوقفات في أمور متناهية وأين هذا منها.

[فصل ولا يصح في ملك لا قيمة له أو عرض ما منع بيعه مستمرا كالوقف أو حالا كالطير في الهواء ولا في حق أو حمل أو لبن لم ينفصلا أو ثمر قبل نفعه أو بعده قبل صلاحه قيل إلا بشرط القطع ولا بعدهما بشرط البقاء ولا فيما يخرج شيئا فشيئا ويصح استثناء هذه مدة معلومة والحق مطلقة ونفقه مستثنى اللبن على مشتريه ويمنع إتلافه ولا ضمان إن فعل إلا في فعل إلا في مستثنى الثمر ولا في جزء غير مشاع من حي ولا في مشترى أو موهوب قبل قبضة أو بعده قبل الرؤية في المشترك إلا جميعا ومستحق الخمس والزكاة بعد التخلية إلا المصدق ومتى انضم إلي جائز البيع غيره فسد إن لم يتميز ثمنه] . قوله: "ولا يصح في ملك لا قيمة له". أقول: إن كان مع كونه لا قيمة له لا نفع فيه فقد دخل فيما تقدم وإن كان فيه نفع فلا يصح قوله لا قيمة له لأنه كل ذي نفع يتعلق به الغرض وما تعلق به الغرض فلا بد أنه يبذل صاحب الغرض المتعلق به فيه من القيمة ما يقابله ويسأويه وإن كان ذلك يسيرا فليس لذكر مثل هذه الصورة فائدة. قوله: "أو عرض ما منع بيعه مستمرا كالوقف". أقول: إنما سمي الوقف وقفا لكونه يبقى ولا يخرج عن المصرف الذى صرف فيه فما هية الوقف بذاتها تدل على عدم جواز التصرف فيه ببيع أو نحوه ومع هذا فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "2737"، مسلم "1632"، وغيرهما [أبو داود "2878"، الترمذي "1375"، النسائي "3599"، ابن ماجة "2396"، أحمد "2/12، 13،55، 125"] ، أن عمر قال له: يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منها فما تأمرني؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" ومن هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من يشتري بئر رومه فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة"، فاشتراها عثمان وجعلها كذلك أخرجه البخاري تعليقا والنسائي والترمذي وقال حديث حسن ومن ذلك حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد يدعو له"، أخرجه مسلم "13/2682"، وغيره أبو داود "2880"، الترمذي "1376"، أحمد "2/372"، ووصف هذه الصدقة بأنها جارية لا تنقطع يدل على أن الوقف كذلك ولو جاز بيعه لكان خلاف موجبه وقد ثبت في رواية للدارقطني مرفوعة في وصف الوقف: "أنه حبيس ما دامت السموات والأرض" وفي رواية للبيهقي مرفوعة: "تصدق بثمره وحبس أصله لا يباع ولا يورث" ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين [البخاري "1468"، مسلم ط11/983"، وغيرهما [أبو داود "1623"، النسائي "2464"، أحمد "2/322"] ، من قوله صلى الله عليه وسلم: "أما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله"، والأمر في هذا أوضح من أن

نطول الكلام فيه وأما تسويغ بيعه لأصلح منه أو عند خشية تلفه أو عند الانتفاع به فسيأتي الكلام عليه. قوله: "أو حالا كالطير في الهواء". أقول: قد ثبت بالأحاديث الصحيحة النهي عن بيع الغرر وهذا من أعظم أنواعه وقد أثبت صلى الله عليه وسلم الغرر فيما هو دون هذا فأخرج أحمد "3/541"،من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر"، وشراء العبد الآبق من جملة أنواع الغرر وقد ورد النهي عنه في حديث أبي سعيد عند أحمد "3/42"، وابن ماجه "2196"، والبزار والدارقطني وفي إسناده مقال ولكن هو مندرج تحت الأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهي عن بيع الغرر لأن ما كان يتعذر تسليمه حال البيع أو الاطلاع على كنهه فهو غرر كثير وقد نقل صاحب نهاية المجتهد انفاق الفقهاء على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز على أن القليل يجوز. قوله: "وفي حق". أقول: المنافع المتعلقة بالأعيان لا وجود لها مستقر بل هى معدومة فبيع مجرد المنفعة دون ما هى متعلقة به وهو الذي يقال له في عرف الفقهاء الحق وهو مندرج تحت بيع المعدوم الذى تقدم النهي عنه فلا يصح بيعه إلا بدليل يخصه وقد ورد تجويز الإجارة وهي في الحقيقة متعلقة بالحق ولكن هذا التخصيص للعموم يقصر على محله ويبقى النهي عما عداه كما هو شأن العام والخاص على تقدير دخول هذا الخاص تحت النهي عن بيع المعدوم وهو غير مسلم فإن الإجارة باب من أبواب المعاملات كالبيع فالعجب ممن جعل ما ورد في تجويز الإجازة مخصصا لبيع المعدوم ثم ألحق بيع سائر الحقوق بها وجعل ذلك أصلا يقاس عليه وهذا خبط وجوابه ما قدمناه وحاصله أنا نمنع دخول الإجارة تحت النهي عن بيع المعدوم حتى يقال أنها مخصصة بدليلها منه ثم نمنع ثانيا جواز إلحاق بيع الحقوق بهذا الفرد المخصوص على تسليم الدخول والتخصيص فإن هذا إهمال لدلالة العموم بمجرد الخيار المختل. قوله: "أو حمل أو لبن لم ينفصلا". أقول: المنع من هذا قد دخل تحت أدلة النهي عن بيع الغرر وهذا منه لأنه لا يحاط بكنههما قبل خروجهما وقد دخلا أيضا تحت بيع المعدوم لأنهما معدومان وقد دخل أيضا المنع من بيع الحمل تحت الأحاديث المصرحة بالنهي عن بيع الملاقيح والمضامين ودخلا جميعا تحت حديث أبي سعيد عند أحمد وابن ماجة والبزار والدارقطني قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع وعن بيع ما في ضروعها إلا بكيل ودخل اللبن تحت حديث ابن عباس عند الطبراني والدارقطني والبيهقي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع ولو لم يرد في المنع من بيع هذين وأمثالهما إلا الأحاديث الصحيحة في النهي عن بيع الغرر وفي النهي عن بيع المعدوم لكان في ذلك ما يغني عن غيره فليت شعري ما هو الحامل للجلال على التلاعب بالأدلة والتكلف لردها بما هو سراب بقيعة وهباء في الهواء

فإن كان ذلك لمحبته للاعتراض على ما قد وقع تدوينه في هذا الكتاب فهذا أمر لا يعجز عنه أحد ولكن الرزية كل الرزية أنه صدر نفسه للتكلم على أدلة الكتاب والسنة المتعلقة بهذه المسائل ثم تجرأ على درها بما هو أوهن من بيت العنكبوت وخبط وخلط وركب الشطط وجاء بأقبح الغلط فكان ذلك جناية على الشرع والشارع اللهم غفرا. قوله: "أو ثمر قبل نفعه أو بعده قبل صلاحه". أقول: الأدلة المصرحة بالنهي عن بيع الثمار قبل صلاحها ثابتة في الصحيحين [البخاري "4/394"، مسلم "49/1534"، وغيرهما [أبو داود "3367"، الترمذي "1226"، النسائي "4519"، ابن ماجة "2214"، ثبوتا أوضح من شمس النهار حتى وقع التأكيد لهذا النهي بزيادة لفظ نهى البائع والمبتاع ثم ورد بيان الصلاح عن الشارع في حديث أنس في الصحيحين [البخاري "2197، 2198"، مسلم "1555"] : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى تزهى قالوا وما تزهى قال: "تحمر"، ثم أكد ما ورد من النهي بما وقع في حديث أنس هذا في الصحيحين [البخاري "4/404"، مسلم "15/1555"] ، من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك"، فجاء بهذا الاستفهام المتضمن للتقريع والتوبيخ للبائع وأنه يستحل مال أخيه إذا باع قبل الصلاح ومنع الله الثمرة بغير ما يحل به وما قاله الدارقطني من أن هذه الزيادة مدرجة من قول أنس مردود بأنه قد ثبت من حديث جابر عند مسلم "14/1554": "إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق"، وقد أوضحت هذا في الشرح المنتقى وكل هذا ظاهر في أن النهي للتحريم وأما مشروعية وضع الجوائح فباب آخر لأن وضع الجائحة عند وقوعها لا ينافي ما دلت عليه هذه الأحاديث من تحريم المبايعة وتحريم الدخول فيها قبل الصلاح. وأما قوله: "قيل إلا بشرط القطع" فلا وجه له لأن مثل هذا لا يرفع التحريم الثابت بالأدلة وأما قوله: ولا بعدهما بشرط البقاء, فلم يرد ما يدل على أن هذا الشرط مانع من البيع الذى أذن فيه الشارع وجعله غاية للنهي ومجرد الشرط لا يوجب ذلك ولا يقتضيه وقد ثبت في الصحيحين [البخاري "5/49"، مسلم "80/1543"،] ، وغيرهما أبو داود "3433"، الترمذي "1244"، النسائي "4636"، ابن ماجة "2211"، أحمد "2/9، 82، 150"] ، عنه صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلا قبل أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع"، فإذا كان هذا الشرط غير مؤثر في بيع النخل فكذا في بيع الثمر. قوله: "ولا فيما يخرج شيئا فشيئا". أقول: لا وجه لإطلاق المنع بل يجوز بيع الخارج الأول بعد صلاحه إلا أن يتعذر ذلك بوجه من الوجوه أو يتداخل الحاصل بحيث لا يتميز ما قد صلح منه مما لم يصلح فإنه بيع ذلك لا يصح لوجهين الأول أنه من بيع الغرر المنهى عنه كما قدمنا والثاني أنه لم يحصل شرط صحة بيع الثمار وهو الصلاح لعدم تميز الصالح.

وأما قوله: "ويصح استثناء هذه" يعني ما تقدم من قوله: "وفي حق" إلي هنا ووجه ذلك أن الاستثناء هو تبقيها في ملك بائعها وذلك يصح لعدم ورود ما يدل على منعه لأنها كانت للبائع قبل بيع ما هي متعلقة به وبقيت بالاستثناء على ملكه وإنما احتاجت إلي الاستثناء لئلا يقال قد دخلت تبعا للمبيع ومما يدل على صحة الاستثناء في الجملة ما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع"، وأخرج نحوه ابن ماجه "2213"، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند من حديث عبادة بن الصامت وفي إسناده انقطاع. وأما قوله: "مدة معلومة والحق مطلقا" فوجه التقييد بكون المدة معلومة في غير الحق تتسبب عنها الخصومة والاختلاف وأما جواز الاستثناء في الحق مطلقا فلكون استثنائه لا يؤدي إلي ذلك بل يصير للبائع مطلقا وهذا الفرق بين الحق وغيره معقول ولكن الشأن في كون ما يؤدي إلي الخصومة يكون سببا وأما مجرد الشرط فسيأتي في الشروط المقارنة ما يصح منها وما لا يصح. وأما قوله: "ونفقة مستثنى اللبن على مشتريه" فظاهر لأنه المالك للعين وهكذا ويمنع اتلافه لأنه سيتلف بإتلاف ما هو له شيئا مستحقا لغيره. وأما قوله: "ولا ضمان إن فعل" فلا وجه له بل يجب عليه ضمان مقداره إلي وقت انقضاء المدة المعلومة كما في مستثنى الثمر وما أدعوه من الفرق بين الأعيان والمنافع فهو مجرد رأي ليس عليه دليل فالذي أتلف الدابة التي لبنها مستحق لغيره إلي مدة معلومة قد جنى جناية توجب الضمان كما لو أتلف الثمر المستثنى إلي مدة معلومة. وأما قوله: "ولا في جزء غير مشاع من حي" فوجهه أنه لا يوقف على مقداره فيكون ذلك من بيع الغرر المنهى عنه كما تقدم. قوله: "ولا في مشترى أو موهوب قبل قبضه". أقول: أما في الطعام فالأحاديث في ذلك كثيرة في الصحيحين وغيرهما وقد قدمنا بعضا من ذلك وأما في غيره فأخرج أحمد والطبراني في الكبير عن حكيم ابن حزام قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم على؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه" وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي وقد وثقه ابن حبان وأخرج أبو دأود والدارقطني والحاكم وابن حبان وصححاه من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يجوزها التجار إلي رحالهم فهذان الحديثان يكفيان في التعميم على أن قياس سائر المبيعات على الطعام يكفي لعدم الفارق وأما ذكر المصنف للموهوب مع المشتري فلعله يخصصه بما إذا كانت الهبة بمعنى البيع كما سيأتي في الهبات وإلا لزمه إلحاق مثل التمليك والنذر والصدقة

قوله: "أو بعده قبل الرؤية في المشترك إلا جميعا". أقول: عللوا ذلك بتفريق الصفقة بالبيع على من يريد الفسخ بخيار الرؤية وليس هذا مانعا شرعيا ولا ورد ما يدل على منع أحد الشركاء من البيع في مثل هذه الصور فللمالك أن يتصرف بملكه كيف شاء ولغيره من الشركاء أن يرد نصيبه بخيار الرؤية وسيأتي للمصنف في الخيارات كلام في الاختلاف بين المشركين في الشرك إذا رده بخيار الرؤية بعضهم دون بعض والكل مبني على مجرد الرأي وليس عليه أثارة من علم. قوله: "ومستحق الخمس والزكاة" الخ. أقول: هذا التضرب من المصنف رحمه الله عجيب فإنه أولا ذكر المشتري والموهوب ثم قيده بذلك القيد الذى لا دليل عليه ثم خصص ها هنا مستحق الخمس والزكاة ولا وجه لهذا التخصيص إلا مجرد الاعتماد على الرأي البحت الذي لا تأثير له والذي يحسن من مثله أن يقف على ما يقتضيه الدليل من تخصيص ذلك بالمبيع قبل قبضه أو يعتمد على القياس لسائر أسباب الملك بالبيع فيشترط القبض في جميعها وإن كان هذا القياس غير معمول به ها هنا ولكنه صار يعتمد على ما هو دون هذا ثم تخصيص المصدق بأن التخلية إليه تكفي هو من ذلك الرأي الذى ذكرنا لك وقد عرفناك غير مرة أن المصنف رحمه الله في هذا الكتاب مقصوده جمع ما دونه المذاكرون من المسائل الفقهية على أي صفة كان ذلك والعجب من مثل الجلال في شرحه لهذا الكتاب فإنه إذا رأى المصنف قد دل على كلامه الدليل زحلفة بالرأي وإن رآه قد جاء بكلام لا دليل عليه بل هو مجرد رأي بحت مشى في الغالب معه وقد يعارضه برأي مثل ذلك الرأي وتأمل هذه المسائل في هذا الفصل فقط حتى يتضح لك ما ذكرناه وغالب عمله في شرح هذا الكتاب هكذا. قوله: "ومتى انضم إلي جائز البيع" الخ. أقول: لا وجه لهذا الفساد إلا مجرد الرجوع إلي رأي قائل واجتهاد عن طريق الحق مائل والحق أنه يصح بيع ما يصح بيعه لأنه تجارة عن تراض فقد وجد المصحح وهو التراضي ولم يوجد مانع شرعي ووجود المانع في أحد العينين لا يستلزم وجوده في الأخرى والتعليل باستلزام الصحة فما يصح والبطلان فيما يبطل لتفريق الصفقة تعليل عليل مبني على رأي كليل. [فصل وعقد غير ذي الولاية بيعا وشراء موقوف ينعقد قيل ولو فاسدا أو قصد البائع عن نفسه مع بقاء المتعاقدين والعقد بإجازة من هى له حال العقد غالبا أو إجازتها بلفظ أو فعل يفيد التقرير وإن جهل حكمه لا تقدم العقد ويخير لغبن فاحش جهله قبلها قيل ولا

تدخل الفوائد ولو متصلة ولا يتعلق حق بفضولي غالبا وتلحق آخر العقدين وينفذ في نصيب العاقد شريكا غالبا] . قوله: "فصل وعقد غير ذي الولاية" الخ. أقول: البائع لمال غيره بغير إذنه لا يسمى بيعه شرعيا ولا هو البيع الذي أذن الله به بقوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النسائ: 29] ، بل هو واقع على صورة تدخل تحت قوله سبحانه: {وَلا تَأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، فإذا وقعت الإجازة له كانت هي على ما قد عرفناك أنه التراضي وطيبة النفس وأنه لا يعتبر غير ذلك وأما الاستدلال بشراء عروة البارقي فمن وضع الدليل في غير موضعه فإن مأذون بالشراء وقد فعل وزاد خيرا وأما ما نحن بصدده فلا إذن فيه من المالك أصلا وغاية ما يدل عليه حديث عروة أنه يجوز للوكيل المأذون أن يطلب ما فيه مصلحة إذا كان يعرف أن المالك يرضى بذلك ومعلوم أن كل عاقل يرضى بمثل هذا العمل الواقع من عروة ويطلبه إن أمكن لأنه أرجع الثمن وجاءه بالمطلوب مع كونه مأذونا له في الجملة وبهذا تعرف أن عقد الفضولي لا يصح من أصله لأن رضاه ليس هو الرضا المعتبر في قوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، فكان فعله كالعدم ووقوع البيع عند حصول الرضا من المالك المدلول عليه بالأجازة وقد قدمنا لك أنه لا يعتبر شيء من تلك الألفاظ التي جعلوها شروطا للبيع. وأما قوله: "ولو فاسدا أو قصد البائع عن نفسه" فمن التصلب في التفريع على ما هو باطل من أصله ومردود من أوله وأما قوله مع بقاء المتعاقدين والعقد فلا يخفاك أنه لا عقد ولا متعاقدين بل البيع لم يحصل بشيء مما وقع بغير إذن المالك لعدم وجود الرضا المعتبر في تلك الحالة وعند وجوده بالإجازة هو البيع الشرعي. وأما قوله: "بإجازة من هى له حال العقد" فقد عرفناك أن هذه الإجازة هى العقد الشرعي الذي جاء به القرآن ولا حكم لشيء مما تقدمها لوقوعه على غير ما أعتبره الشرع وهذا الكلام الذي قررناه وإن كانت أذهان المقلدين تنبو عنه فهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة فإذا وقع من البائع لفظ أو فعل يشعر بالرضا فقد وقع منه البيع الشرعي فإن وقع الرضا بذلك من المشتري فقد وقع منه الشراء الشرعي وأما قوله وإن جهل حكمه فلا وجه له بل لا بد أن يعلم أن قوله هذا وفعله هو الذي يخرج له المبيع عن ملكه بذلك الثمن الذي وقع التراضي عليه وإلا كان من أكل أموال الناس بالباطل وهكذا. قوله: "لا تقدم العقد" لا وجه له بل مجرد وقوع المشعر بالرضا منه هو البيع الشرعي والعقد المتقدم وجوده كعدمه سواء علمه أو جهله وأما قوله ويخير لغبن فاحش جهله قبلها فقد عرفناك أن البيع الشرعي هو الإجازة فلا بد أن يعلم بمقدار الثمن عندها حتى تكون تجارة عن تراض وأما ما ذكره من عدم دخول الفوائد للمالك ولو يقع منه البيع ولا حكم لعقد الفضولي ولا يؤثر في خروج الفوائد ولا في دخولها وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين

وغيرهما من حديث ابن عمر: أن من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن ابتاع عبدا فما له للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع. وأما قوله: "ولا يتعلق حق بفضولي" فصحيح لأنه لا حكم لما وقع منه فلا يتعلق به شيء ولا يترتب على فعله فائدة على ما قررناه. وأما قوله: "وتلحق آخر العقدين" فهي كما عرفناك وعرفت لا تلحق أولها ولا آخرهما. وأما قوله: "وينفذ في نصيب العاقد شريكا" فصحيح لأنه قد حصل منه المناط الشرعي وهو الرضا ولم يحصل من شريكه فمتى حصل من شريكه كان هو البيع لا ما وقع من بيع الشريك عنه. [فصل والتخلية للتسليم قبض في عقد صحيح غير موقوف ومبيع غير معيب ولا ناقص ولا أمانة مقبوض الثمن أو في حكمه بلا مانع من أخذه في الحال أو نفعه ويقدم تسليم الثمن إن حضر المبيع ويصح التوكل بالقبض ولو للبائع ولا يقبض بالتخلية والمؤن قبل القبض عليه كالنفقة والفصل والكيل لا القطف والصب ولا يجب التسليم إلي موضع العقد غالبا أو منزل المشتري إلا لعرف ولا يسلم الشريك إلا بحضور شريكه أو إذنه أو الحاكم وإلا ضمن إن أذن والقرار على الآخر إن جنى أو علم ولا ينفذ في المبيع قبل القبض إلا الوقف والعتق ولو بمال ثم إن تعذر الثمن فللبائع فسخ ما لم ينفذ واستسعاؤه في النافذ بالأقل من القيمة أو الثمن ويرجع على المعتق ومن أعتق ما اشتراه من مشتر ولم يقبض صح إن أعتقه بعد القبض بأذن الأولين أو الثاني موفرا للثمن وإلا فلا وما اشترى بتقدير وقع قبل اللفظ أعيد لبيعه حتما إلا المذروع ويستحق القبض بإذن البائع مطلقا أو توفير الثمن في الصحيح فلا يمنع منه إلا ذو حق كالمستأجر لاالغاضب والسارق] . قوله: "والتخلية للتسليم" الخ. أقول: هذه التخلية بين المشتري وبين ما باعه البائع منه هي غاية ما يجب على البائع لعدم ورود دليل يدل على أنه يجب عليه زيادة على ذلك فإذا أتلف المبيع بعد ذلك تلف من مال المشتري لأن البائع قد أخرجه عن ملكه وفعل ما يجب عليه من تخليته للمشتري وعلى المشتري إذا أراد أن يبيعه أن ينقله للأدلة التى ذكرناها عند قوله: "ولا يتصرف فيه قبل قبضه" فالحاصل أن التخلية قبض باعتبار سقوط الضمان على البائع ولا يكون قبضا يجوز للمشتري التصرف في المبيع بعدها إلا مع النقل وأما اشتراط أن يكون العقد صحيحا فكلام لا يترتب عليه

فائدة عند من لم يعتبر ما يعتبرونه من الألفاظ ونحوها لأن المراد التراضي المدلول عليه بأي دلالة فإذا قد حصل كان البيع صحيحا وترتب عليه أحكامه وإن لم يحصل فلا بيع وما ذكره من أشتراط أن يكون غير موقوف لا وجه له لأن الإجازة قد حصلت من مالكه فهي البيع لما قدمنا وإن لم يحصل فلا بيع ولا حكم للتخلية أصلا ولا يترتب عليها حكم قط. وأما قوله: "في مبيع غير معيب ولا ناقص" فإن لم يعلم بذلك المشتري فهو من بيع الغرر وهو باطل والرضا المتقدم لا حكم له لأنه رضي بما لم يعلم بعيبه ولا نقصه فلم يصح البيع من الأصل فضلا عن أن تصح التخلية وأما قوله ولا أمانة فلا وجه له لأن البائع إذا باع من المشتري عينا هى أمانة عند المشتري انتقلت بالبيع إلي ملك المشتري وكونها في يده يغني عن المقابضة ولكن هذه من المصنف وأمثاله دندنة حول قواعد فرعية هي على شفا جرف هار لم ترتبط بدليل شرعي ولا عقلي وهكذا قوله مقبوض الثمن أو في حكمه فإنه لا وجه له لأن مجرد التراضي على المعاوضة هو المصحح الشرعي فإذا قد وقع بريء البائع من عهده الضمان بالتخلية بين المشتري وبين العين وإن أمهله بالثمن زمانا طويلا. وأما قوله: "بلا مانع من أخذه في الحال" فصحيح لأن وجود المانع من القبض يقتضي عدم ثبوت حكمه فلا يتبرأ البائع من عهدة الضمان بذلك. قوله: "ويقدم تسليم الثمن إن حضر المبيع". أقول: إذا تشاجرا في التقديم فلا شك أن المبيع في ملك البائع فلا يجب عليه تسليمه إلا بعد قبض عوضه وهو الثمن والمشتري مالك الثمن فلا يجب عليه تسليمه إلا بتسليم العوض وهو المبيع وليس أحدهما بأولى من الآخر في تقديم تسليم ما يملكه قبل أن يسلم الآخر ما يملكه فلم يبق وجه للترجيح وحينئذ ينبغي أن يكون الحكم بينهما بأن يكون التسليم من كل واحد منهما عند التسليم من الآخر وتكون المقابضة يدا بيد في المنقولات وتكون في غيرها بأن يقر البائع عند الشهود أن تلك الأرض أو الدور قد باعها من المشتري بالثمن المقبوض عند ذلك الإقرار. وأما قوله: "ويصح التوكل بالقبض" فصحيح لأنه لم يمنع من ذلك مانع شرعي ولا عقلي فهذه الصورة مندرجة تحت أدلة الوكالة. وكذلك قوله: "ولو للبائع" ويكون التغاير باعتبار جهتي البيع والشراء اعتباريا وقد تقدم ما شهد لهذا من توليه صلى الله عليه وسلم لطرفي عقد النكاح وقد قدمنا هناك أيضا عند قوله ولا يتولى الطرفين واحد ما يقوي هذا وأما قوله ولا يقبض بالتخلية فتخصيص بغير مخصص منقول ولا معقول. وأما قوله: "والمؤن قبل القبض عليه" فلا وجه له لأنه إذا قد حصل المناط في البيع وهو التراضي فقد صار المبيع ملكا للمشتري ولكن البائع لا يخرج عن عهدة الضمان إلا بالتسليم إلي المشتري أو التخلية الصحيحة وأما أنه يلزمه أن ينفق عليه أو يقوم بسائر مؤنه فلا إلا أن يكون

التراخي في التسليم من جهته مع طلب المشتري لذلك فإنه كالجاني على نفسه بذلك وأما ذكره من مؤنة الفصل والكيل والفرق بينهما وبين القطف والصب فهذا شيء لم يبن على شرع بل على عرف فقط والأعراف مختلفة فيتبع في كل جهة عرفها في هذا وأمثاله لأن العرف الجاري المستمر الذي يعلم به البائع والمشتري هو في حكم التراضي عليه وإن لم ينطقا به ولا ذكراه ولهذا قال ولا يجب التسليم إلي موضع العقد أو منزل المشتري إلا لعرف. وأما قوله: "ولا يسلم الشريك إلا بأذن شريكه" الخ فصحيح إذا كان لا يمكنه تمييز نصيبه عن نصيب الشريك فإنه حينئذ يصير بالتسليم لنصبيه مسلما لنصيبه شريكه وذلك جناية على الشريك فلا بد من حضوره أو إذنه أو إذن الحاكم وإلا ضمن نصيب الشريك إذا أتلف بهذا التسليم لأن ذلك منه جناية على مال الشريك ولا يكون ذلك إلا مع العلم بأن في ذلك المبيع نصيبا لغيره لا إذا كان جأهلا لذلك فإنه لا يكون بالتسليم جانيا وأما لو جهل ثبوت الضمان عليه بالتسليم مع علمه بأن فيه نصيبا للغير فلا تأثير لهذا الجهل في سقوط الضمان. قوله: "ولا ينفذ في المبيع قبل القبض إلا الوقف والعتق". أقول: الأدلة التى ذكرناها عند قوله ولا يتصرف فيه قبل قبضه ليس فيها إلا المنع من البيع وليس في شيء منها المنع من غيره من سائر التصرفات فالوقف والعتق وغيرهما باقيان على أصل الإباحة وإلحاقهما بالقياس على البيع قياس مع الفارق لما في البيوعات للأشياء الربوية من مظنة الربا ولهذا كان أكثر النصوص الدالة على المنع من البيع قبل القبض واردة في الطعام كما تقدم. وأما قوله: "فإن تعذر الثمن فللبائع فسخ ما لم ينفذ" فلا وجه له لأن البائع أحق بمبيعه إذا أفلس المشتري عن الثمن ولو كان نفذ قبضه المشتري فكيف لا يكون أحق به وهو باق لديه لم يقبضه المشتري وقد دلت السنة الصحيحة بأن من وجد سلعته عند مفلس فهو أحق بها ولا حكم للعتق والوقف الواقعين من المشتري لأنه لم يتم له الملك ولا فرق بين النافذ وما لم ينفذ ولا يجب على العبد شيء بل هو باق في ملك بائعه وكل هذه التفاريع وما بعدها منهارة لم ترتبط بدليل نقل ولا عقل. قوله: "وما اشترى بتقدير وقع قبل اللفظ أعيد لبيعه حتما". أقول: وجه هذا ما أخرجه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري وأعل هذا الحديث بأن في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه أحد الأعلام وهو ضعيف الحفظ ولكنه قد روي من طريق غير هذه منها عند البزار عن أبي هريرة بإسناد حسن وعن أنس وابن عباس عند ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدا كما قال ابن حجر ومعنى الحديث أن من أراد بيع الطعام الذى يملكه فلا بد أن يكيله عند البيع ويكيله المشتري عند الشراء وأخرج أحمد "1/62، 75"، وعبد الرزاق والشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي عن عثمان قال: كنت أبتاع

التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عثمان إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل"، قال في مجمع الزوايد إسناده حسن انتهى وقد أخرج البخاري "4/343، 344"، منه كلام النبي صلى الله عليه وسلم بغير إسناد ومعنى الحديث هذا من اشترى طعأما بكيل ثم أراد أن يبيعه فلا يكفيه الكيل الواقع عن شرائه بل لا بد أن يكيله عند بيعه منه إلي مشتر يشتريه منه وسبب هذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم المخافة من الوقوع في مظنه الربا إذا وقع البيع بعد البيع وكان مثلا من بيع الطعام بالطعام لتجويز النقص بأي سبب وأيضا مجرد تجويز النقص من غير نظر إلي مظنة الربا يكفي لأنه يصير جزءا من بيع الغرر ولهذا وجب على نفس المتبايعين أن يكيله كل واحد منهما وإن لم يبعه إلي آخر كما في الحديث الأول وقد ذهب الجمهور إلي أن من اشترى شيئا مكايلة وقبضه ثم باعه إلي غيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا. وأما قوله: "إلا المزروع" فإن كانت العلة هى تجويز النقص فذلك كائن في المذروع كما هو كائن في المكيل وإن كان التجويز في المكيل أكثر وإن كانت العلة مظنة الربا فلا وجود لها في المذروع والقياس الوقوف على محل النص وهو المكيل لعدم وجود ما يقتضي الإلحاق بالقياس إلحاقا صحيحا. قوله: "ويستحق القبض بإذن البائع" الخ. أقول: يستحق القبض بوقوع المناط الشرعي وهو التراضي لأنه بذلك قد خرج عن ملك بائعه ودخل في ملك مشتريه ولكن للبائع حبسه بيده حتى يستوفي ثمنه ولا وجه للتفرقة بين صحيح وفاسد فإن المعتبر المناط المذكور. وأما قوله: "ولا يمنع منه إلا ذو حق" فقد عرفناك فيما تقدم أن الإجارة تبطل البيع. وأما قوله: "لا الغاصب والسارق" فيدهما يد عدوان وعليهما رده إلي يد من قد استقر الملك له.

باب الشروط المقارنة للعقد

باب الشروط المقارنة للعقد [فصل يفسده صريحها لا الحالي ومن عقدها ما أقتضى جهالة في البيع كخيار مجهول المدة أو صاحبه أو في البيع كعلي إرجاحه أو كون البقرة لبينا ونحوه أو في الثمن كعلي إرجاحه ومنه على حط قيمة كذا من الصبرة لا كذا من الثمن وعلى أن ما عليك من خراج الأرض كذا شرطا لا صفة فخالف ومنه شرط الإنفاق من الغلة ولو لمعلومين أو رفع موجبه غالبا

كعلي أن لا تنتفع ومنه بقاء المبيع ولو رهنا لا رده وبقاء الشجرة المبيعة في قرارها مدتها وعلى أن يفسخ إن شفع أو علقه بمستقبل كعلي أن تغل أو تحلب كذا لا على تأدية الثمن ليوم كذا وإلا فلا بيع أو لا تعلق له به كشرطين أو بيعين في بيع ونحوهما مما نهي عنه غالبا] . قوله: "باب: الشروط المقارنة للعقد فصل يفسده صريحها لا الحالي". أقول: كون الشرط مفسدا للبيع للواقع عن تراض لا بد فيه من دليل عليه ولم يثبت في ذلك إلا حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد وأبي دأود والنسائي والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع"، الحديث قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن خزيمة والحاكم ومعنى هذا الحديث هو أن يقول البائع بعت منك هذا بكذا إن كان نقدا وبكذا إن كان نسيئة ووجه كون هذا الشرط لا يحل ما يستلزمه من عدم استقرار البيع والتردد بين الطرفين. ومن هذا القبيل حديث النهي عن الثنيا إلا أن تعلم أخرجه النسائي "3879"، 3880"، والترمذي "1290، 1313"] ، وصححه وأصله في صحيح مسلم "85/1536"، بلفظ نهي عن الثنيا ومعناه أن يقول بعت منك كذا واستثنى بعضه فإن كان ذلك البعض معلوما كان البيع صحيحا وإن لم يكن معلوما لم يصح البيع للنهي عنه وهذا وإن لم يكن بلفظ الشرط فوقوع الثنيا التى لم تعلم تفيد عدم الاستقرار للبيع والتردد فيما هو داخل في المبيع وخارج عنه وذلك نوع من أنواع الغرر المنهي عنه ومما يستلزم الجهالة وإذا عرفت أنه لم يرو إلا هذان الحديثان فينبغي الحكم لما دل عليه بعدم الصحة ويلحق بهما ما له تأثير في الغرور والجهالة وما عدا هذا فلا تأثير له هذا على فرض أنه لم يرد في الشروط الخارجة عما ذكرناه دليل فكيف وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر: أنه كان يسير على جمل قد أعيا فأراد أن يسيبه قال: ولحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه فسار سيرا لم يسر مثله فقال: "بعنيه"، فقلت: لا ثم قال: "فبعنيه" فبعته واستثنيت حملانه إلي أهلي وفي لفظ لأحمد والبخاري: وشرطت ظهره إلي المدينة فهذا الحديث يدل على أن الشروط الواقعة من جهة البائع صحيحة إذا لم تستلزم الغرر والجهالة ومن ذلك حديث بريرة المشهور كما في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترطوا ولاءها فذكرت عائشة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق وإن اشترطوا مائة شرط"، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة نحو حديث عائشة ففي هذا الحديث دليل على عدم تأثير الشروط المخالفة لما يوجهه العقد ويقتضيه وأنها باطلة في أنفسها لا تصح بوجه ومما ورد في الشروط الجائزة حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري

"4/337"، مسلم "1533"، وغيرهما أبو داود "3500"، النسائي "4484"، أحمد "5036، 5405، 5271، 5515، 5561، 5854"] ، قال: ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع, فقال: "ما بايعت فقل: لا خلابة"، فإن هذا وإن لم يكن بلفظ الشرط ففيه معنى الشرط فيصح هذا الشرط ولا يبطل به البيع فعرفت بمجموع ما ذكرناه أن الشروط الواقعة في العقد لا تقتضي الفساد بل هي أما باطلة في نفسها لكون ذكرها كعدمها أو صحيحة معمول بها هي والعقد إلا ما كان منها مقتضيا للوقوع في الغرر الذي يحصل عنده التردد وعدم العلم بالحقيقة فإن ذلك لا يتحقق معه التراضي الذي هو المناط في المعاملات الشرعية وليس عدم الصحة لمجرد الشرط بل لاقتضائه الوقوع في بيع الغرر المنهي عنه حسبما قدمنا. وبهذا تعرف أن لا فرق في الشروط بين صريحها ومستقبلها وحاليها وعقدها فإن كل ما سلم منها من الجهالة الموقعة في بيع الغرر فهو غير مؤثر في المناط الذى هو التراضي ولا منع من أن يحصل التراضي على انتقال الملك من ملك البائع إلي ملك المشتري بعد شهر أو سنة أو أكثر إذا كان مما لا يجوز فيه المصير إلي صفة غير الصفة التي كان عليها عند التراضي كالأراضي ونحوها من الأعيان التى لا تتغير بمضي مدة من الزمان عليها فإن هذا تجارة عن تراض أباحها الشرع ولم يرد ما يدل على المنع منها لا من شرع ولا عقل وهذا التحقيق يبصرك في جمع ما ذكره المصنف رحمه الله من الصور والأمثلة فما كان منها مستلزما للجهالة في المبيع الموجبة لبيع الغرر فهو ممنوع وما لم يكن كذلك فلا اعتبار به بل هو أما باطل في نفسه غير مؤثر في البيع كالشروط المستلزمة لرفع موجب العقد المخالفة لما يقتضيه كما يفيد ذلك حديث بريرة أو هو صحيح في نفسه مع صحة العقد وهو ما يرجع إليه منها إلي حديث جابر وحديث ابن عمر في شرط عدم الخداع فلا نطول الكلام على هذه الصورة التي ذكرها المصنف فإن في هذا البحث ما يغني عن ذلك. قوله: "كشرطين في بيع أو بيعتين في بيع". أقول: أما الشرطان في بيع فقد قدمنا ما ورد في النهي عنه وأما البيعتان في بيع فلحديث أبي هريرة عند أحمد "2/432، 475"، 503"] ، وأبي دأود "3461" والنسائي "4632"، والترمذي "1231"، وصححه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع بيعتين في بيعة فله أو كسهما أو الربا"، وفي لفظ: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة. وأخرج أحمد بإسناد رجاله ثقات كما قال في مجمع الزوائد من حديث ابن مسعود قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة قال سماك الراوي للحديث: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسا بكذا أو ينقد بكذا وقد وافق سماك على هذا التفسير أحمد والشافعي فيكون معنى البيعتين في بيعة والصفقتين في صفقة هو معنى الشرطين في بيع كما قدمنا وقد روي عن الشافعي تفسير آخر فقال هو أن تقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا ووجه الفساد هو ما قدمنا في شرطين في بيع من استلزام ذلك للجهالة الموجبة للغرر.

[فصل ويصح منها ما لم يقتضي الجهالة من وصف للبيع كخيار معلوم أو للمبيع كعلى أنها لبون أو تغل كذا صفة في الماضي ويعرف بأول المستقبل مع انتفاء الضار وحصول ما تحتاج إليه أو للثمن كتأجيله أو يصح أفراده بالعقد كأيصال المنزل ومنه بقاء الشجرة مدة معلومة وما سوى ذلك فلغو وندب الوفاء ويرجع بما حط لأجله من لم يوف له به] . قوله: "ويصح منها ما لم يقتضي الجهالة". أقول: هذا صحيح لما قدمنا وما ذكره من الأمثلة صحيح أيضا وكذلك قوله وما سوى ذلك فلغو ووجه كونه لغوا هو ما قدمناه في أول الباب هذا وأما قوله وندب الوفاء فالظاهر من دليل مطلق الشروط حيث قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم"، أبو داود "3594"ن أحمد "2/366"] ، أنه يجب الوفاء بها جميعها إلا ما استثناه الحديث من قوله: "إلا شرطا أحل حرأما أو حرم حلالا"، وأما كونه يرجع بما حط لأجله من لم يوف له به فظاهر لأن ذلك الحط مقيد بحصول الشرط.

باب الربويات

باب الربويات [فصل إذا اختلف المالان ففي الجنس والتقدير بالكيل والوزن يجوز التفاضل والنساء وفي أحدهما أو لا تقدير لهما التفاضل فقد إلا الموزون بالنقد فكلاهما ونحو سفرجل برمان سلما فإن اتفقا فيها اشترط الملك والحلول وتيقن التسأوي حال العقد والتقابض في المجلس وإن طال أو انتقل البيعان أو أغمى عليهما أو أخذ رهنا أو إحالة أو كفالة ما لم يفترقا إلا المتدرك وما في الذمة كالحاضر والحبوب أجناس وكذلك الثمار واللحوم أجناس وفي كل جنس أجناس والألبان تتبع اللحوم والثياب سبعة والمطبوعات ستة فإن اختلف التقدير اعتبر بالأغلب في البلد فإن صحب إحدى المثلين غيره ذو قيمة غلب المنفرد ولا يلزم إن صحبهما ولا حضور المصاحب ولا المصاحبين غالبا] . قوله: "باب: الربويات إذا اختلف المالان في الجنس والتقدير بالكيل والوزن يجوز التفاضل والنساء". أقول: قد أشار المصنف ها هنا إلي ثبوت الربا في كل مالين اتفقا جنسا وتقديرا ثم خص

التقدير بالكيل والوزن وهذا هو أحد الأقوال في تعيين العلة التى تقتضي الربا مع الاتفاق في الجنس وقد قيل إنه قال بهذا العترة جميعا وحكى عن أبي حنيفة واصحابه واستدلوا على ذلك لذكر النبي صلى الله عليه وسلم للوزن كما في حديث أبي سعيد عند مسلم "77/1584"، وغيره أحمد "2/53، 61" بلفظ: "لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء"، ومثل هذا عند مسلم "91/1891"، وغيره "أحمد 2/262"، النسائي "4569"، من حديث أبي هريرة قال فيه: "الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل"، وهكذا في حديث فضالة بن عبيد بن مسلم وغيره قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن"، وورد ذكر الكيل في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام وورد في حديث آخر: "لا صاعين بصاع" ولا يخفاك أن ذكره صلى الله عليه وسلم للكيل والوزن في الأحاديث لبيان ما يتحصل به التسأوي في الأجناس المنصوص عليها فكيف كان هذا الذكر سببا لإلحاق سائر الأجناس المتفقة في الكيل والوزن بهذه الأجناس الثابتة في الأحاديث وأي تعدية حصلت بمثل ذكر ذلك وأي مناط استفيد منها مع العلم أن الغرض بذكرها هو تحقيق التساوي كما قال: "مثلا بمثل سواء بسواء" وقال الشافعي ومن وافقه إن العلة هي الاتفاق في الجنس والطعام واستدلوا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث معمر بن عبد الله قال كنت اسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل"، وكان طعامنا يومئذ الشعير وأقول: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الطعام فكان ماذا وأي دليل دل على أنه أراد بهذا الذكر الإلحاق وأي فهم يسبق إلي كون ذلك هو العلة المعدية حتى تركب على ذلك القناطر وتبنى عليه القصور ويقال هذا دليل على أن كل ما به طعم كان بيعه ما به طعم متفاضلا ربا مع أن أول ما يدفع هذا الاستدلال ويفت في عضده الذهب والفضة اللذان هما أول منصوص عليه في الأحاديث المصرحة لذكر الأجناس التى يحرم فيها الربا ومما يدفع القولين جميعا أنه قد ثبت في الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر العددي كما في حديث عثمان عند مسلم بلفظ لا تبيعوا الدينار بالدينارين وفي رواية من حديث أبي سعيد: "ولا درهمين بدرهم" ولم يعتبر العدد أحد من أهل هذين القولين ولا من غيرهم وقد وافقت المالكية الشافعي في الطعام وزادت عليه الإدخار والاقتيات فوسعوا الدائرة بما ليس بشيء. والحاصل أنه لم يرد تقوم به الحجة على إلحاق ما عدا الأجناس المنصوص عليها بها ولكنه روى الدارقطني والبزار عن الحسن بن عبادة وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل ذلك فإذا اختلف النوعان فلا بأس به"، وقد ذكره ابن حجر في التلخيص ولم يتكلم عليه وفي إسناده الربيع بن صبيح قال أحمد لا بأس به وقال يحيى بن معين في رواية عنه: إنه ضعيف وفي أخرى ليس به بأس ربما دلس وقال ابن

سعد والنسائي ضعيف وقال أبو زرعة شيخ صالح وقال أبو حاتم رجل صالح انتهى ولا يلزم من وصفه بالصلاح أن يكون ثقة في الحديث وقال في التقريب صدوق سيء الحفظ ولا يخفاك أن الحجة لا تقوم بمثل هذا الحديث لا سيما في مثل هذا الأمر العظيم فإنه حكم بالربا الذى هو من أعظم معاصي الله سبحانه على غير الأجناس التى نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يستلزم الحكم على فاعله بأنه مرتكب لهذه المعصية التى هى من الكبائر ومن قطعيات الشريعة ومع هذا فإن هذا الإلحاق قد ذهب إليه الجمع والجم والسواد الأعظم ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية فقط. وأعلم أن من أعظم الربا وأشده ربا الجأهلية الذى وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلت عليه الأحاديث الصحيحة وثبت إجماع الأئمة جميعا على تحريمه وهو أن يحضر أجل الدين فلا يرده من هو عليه فيزيد عليه من هو له شيئا ويمهله إلي أجل آخر فهذا ربا ثابت وإن لم يكن التبايع الكائن في تلك الأجناس المنصوص عليها ثم أعلم أنه لا ينافي ثبوت ربا الفضل في تلك الأجناس ما ثبت في الصحيحين [البخاري "2187"، مسلم "101، 102، 103/1596"] وغيرهما [النسائي: "4580، 4581"، ابن ماجة "2257"، أحمد "5/200"] ، من حديث أسامة بن زيد مرفوعا بلفظ: "إنما الربا في النسيئة" زاد مسلم في رواية عن ابن عباس: "لا ربا فيما كان يدا بيد" لأنه وقع الاختلاف في الجمع بين هذا الحديث وبين الأحاديث المصرحة بالربا في الأجناس المنصوص عليها إذا لم يكن مثلا بمثل سواء بسواء فقيل إن حديث أسامة هذا منسوخ ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال ولعل القائل بالنسخ لما بلغه رجوع ابن عباس عن العمل به ظن أنه منسوخ وقيل معنى قوله إنما الربا في النسيئة الربا الأغلظ الشديد التحريم فيكون من الحصر الادعائي وهو خلاف الظاهر والأولى أن يقال إن حديث: "إنما الربا في النسيئة" دل بمفهومه على نفي ربا الفضل في الأجناس المنصوص عليها وفي غيرها وأحاديث ربا الفضل المنصوص عليه في الأجناس المنصوص عليها مخصصة لهذا العموم وأيضا الأحاديث الدالة على تحريم ربا الفضل تدل على ذلك بمنطوقها ودلالة المنطوق أرجح من دلالة المفهوم. وأما رواية مسلم عن ابن عباس بلفظ: "لا ربا فيما كان يدا بيد" فلم يثبت ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان ثابتا لبقي عليه ابن عباس ولم يرجع عن قوله وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على تحريم ربا الفضل وقال حفظا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أحفظ ولو سلمنا ثبوت تلك الزيادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان عمومها المدلول عليه بالنكرة الواقعة في سياق النفي مخصص بأحاديث ربا الفضل في تلك الأجناس المنصوص عليها ولو سلمنا التعارض تنزلا لكانت الأحاديث المصرحة بربا الفضل أرجح لثبوتها في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قال الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد المصرح بالأجناس المثبت لربا الفضل وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي وهشام بن عامر والبراء بن أرقم

وفضالة بن عبيد وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء وبلال وبما ذكرناه يرتفع الإشكال على كل تقدير وقد وقع للجلال في هذا المقام من شرحه لهذا الكتاب من الهذيان الذى جرت به عادته ما لا يخفي بطلانه إلا على فاقد الفهم غير نافذ العرفان ولا ناقد لزائف الكلام. قوله: "وفي أحدهما أولا تقدير لهما التفاضل فقط". أقول: أما الأجناس الربوية إذا اختلف فيدل على جواز التفاضل فيها دون النساء ما أخرجه مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله س وسلم قال: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد"، وفي لفظ لأبي دأود والنسائي وابن ماجة: وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا والإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأصناف"، الخ يدل على أنه يجوز فيها مع الاختلاف التفاضل دون النساء فلا يجوز مثلا بيع الطعام بالدراهم إلا إذا كان يدا بيد وقد استدل من جوز ذلك بما صح في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة قالت اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعأما بنسيئة وأعطاه درعا له رهنا ولا معارضة بين هذا وبين حديث عبادة لإمكان الجمع بأن هذا مخصص لاشتراط التقابض بمثل هذه الصورة إذا سلم المشتري رهنا في الثمن وقد استدل بعضهم بالإجماع على جواز ذلك من غير تقابض إذا كان الثمن نقدا فإذا صح هذا الإجماع كان حجة عند من يرى حجيته. وأما قول الجلال إنها زيادة تفرد بها عبادة فليس من جنس كلام أهل العلم فإن الزيادة الخارجة من مخرج صحيح مقبولة بالإجماع وتفرد الصحأبي بالرواية حجة عند جميع المسلمين كيف وقدمنا حديث ابن عمر الثابت عند أحمد وأهل السنن مع تصحيح الحاكم له أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إني أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير فقال: "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء"، وأخرجه ابن حبان والبيهقي ولم يأت من أعله بحجة مقبولة وسماك إمام حجة وأما جواز التفاضل فيما لا تقدير له بكيل أو وزن فقد ثبت عند أحمد ومسلم وأهل السنن من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين وثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى صفية بسبعة أرؤس من دحية الكلبي وما أظنه يخالف في جواز التفاضل في هذا إذا كان يدا بيد أحد من أهل العلم. وأما جواز النساء فيه فقد أخرج أحمد وأبو دأود والدارقطني من حديث عبد الله ابن عمر وقال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبعث جيشا على إبل كانت عندي قال فحملت الناس عليها حتى نفدت الإبل وبقيت بقية من الناس وقلت: يا رسول الله الإبل قد نفدت وقد بقيت بقية من الناس لا ظهر لهم فقال لي: "ابتع علينا إبلا بقلائص من إبل الصدقة

إلي محلها حتى تنفذ هذا البعث" فلما جاءت إبل الصدقة أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إسناده محمد بن إسحق وهو إمام وإن كان قد تكلم فيه بعض أهل العلم فذلك بغير حق وقد رواه البيهقي من غير طريقه وقوى ابن حجر في الفتح إسناد هذا الحديث ولكنه قد عارض هذا الحديث ما أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وابن الجارود من حديث الحسن عن سمرة قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ورجال إسناده ثقات إلا ما هو مشهور من الخلاف في سماع الحسن من سمرة وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند من حديث جابر بن سمرة مثله وأخرج البزار والطحأوي وابن حبان والدارقطني من حديث ابن عباس نحو حديث سمرة قال في الفتح ورجاله ثقاة إلا أنه اختلف في وصله وإرساله فرجح البخاري وغيره إرساله وقد ذهب الجمهور إلي جواز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة متفاضلا مطلقا وشرط مالك أن يختلف الجنس ومنع من ذلك مطلقا مع النسيئة أبو حنيفة وأحمد بن حنبل وحمل الشافعي المنع على النسئية من الطرفين لأنه من بيع الكاليء بالكاليء وهو لا يصح عند الجميع وعلى فرض عدم إمكان الجمع فأحاديث النهي أرجح واصح ولم يصب من حمل النهي على المضامين وهي ما في بطون الأنعام كما فعل الجلال فإنه حمل الأحاديث على أندر صورة وقد ورد النهي عن بيع الملاقيح والمضامين على حدته وهو أعم من أن تشتري بنقد أو عرض ولكن محبة الإغراب تأتي بمثل هذا العجاب. وأما قوله المصنف: "إلا الموزون بالنقد فكلاهما" فقد قدمنا الكلام عليه قريبا. وأما قوله: "ونحو سفرجل برمان سلما" فليس ها هنا ما يدل على المنع من بيع السفرجل بالرمان على أي صفة كان ولا مدخل للربا في ذلك بوجه لكونهما لم يكونا من الأجناس التي نص عليها الشارع ولا اتفق التقدير فيهما بالكيل أو الوزن ولا اعتبار عند المصنف بالعدد ولا عند غيره. قوله: "فإن اتفقا فيهما اشترط الملك" الخ. أقول: هذا كله صحيح وأما اشتراط الملك فلكون التصرف في مال الغير بغير إذنه من أكل أموال الناس بالباطل لا من التجارة عن تراض وأما اشتراط الحلول فللأحاديث المصرحة باشتراط أن يكون يدا بيد ولحديث: "إنما الربا في النسيئة" وأما تيقن التسأوي حال العقد فللأحاديث المصرحة باشتراط أن يكون مثلا بمثل سواء بسواء وأما التقابض في المجلس فلقوله يدا بيد ونحو ذلك وإن كان قد أغنى عن هذا القيد قوله الحلول فإنه عدم التأجيل ولا يتحقق عدم التأجيل إلا بالتقابض وأما قوله وإن طال فما دأما في المجلس فلا فرق بين أن يقفا فيه وقوفا طويلا أو قصيرا. وأما قوله: "أو انتقل البيعان" فمشروط بأن لا يتفرقا أما لو انتقلا متفرقين فقد انقضى المجلس الأول وهما غير متقابضين فلم يكن ذلك القبض الواقع في المجلس الآخر مما يدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا يدا بيد". وقوله: "إلا هاء وهاء".

وأما قوله: "أو أغمى عليهما أو على أحدهما" فصحيح لأن ذلك عذر مسوغ. وأما قوله: "أو أخذ رهنا أو إحالة أو كفالة" فباطل مخالف للأدلة مدفوع بها إن أراد أن أحد هذه الأمور يغني عن القبض وإن أراد أنه يكفي ذلك ما دأما في المجلس كما يفيده قوله ما لم يفترقا فلا حاجة إلي هذه الأمور مع البقاء في المجلس لأن التقابض فيه يكفي من غير توسيط هذه الأمور والتعرض لذكر مفارقة المستدرك لهما مما لا حاجة إله ولا مدخل له. قوله: "وما في الذمة كالحاضر". أقول: هذه الكلية وإن كان ظاهرها المخالفة للأدلة المشروطة للتقابض المحقق فيمكن أن يستشهد لصحتها بالقرض فإن المستقرض دفع مثل الثابت في ذمته مع عدم وجوده حال القضاء فكان ما في ذمته كأنه حاضر ولكن لا بد أن يكون ما في الذمة باعتبار أحد المتبايعين والمقابل له حاضر وإلا كان من بيع الكاليء بالكاليء كما تقدم. وأما قوله: "والحبوب أجناس" إلي قوله: "فإن اختلف التقدير" فلا يخفاك أنه لا بد أن يصدق على ما قيل بجنسيته أن أهل اللغة يطلقون عليه ذلك الاسم أو يثبت أنه جنس عند أهل الشرع وأما مجرد الأعراف والاصطلاحات فلا يتعلق ببيانها كثير فائدة ولا يترتب عليها ثمرة إلا في مثل الأيمان وما يلتحق بها فإن كل حالف أو متكلم بكلام لا يقصد في الظاهر إلا عرف قومه واصطلاح أهل بلده والمقام مقام ثبوت الربا أو عدمه فلا يتكل فيه على ما لا يسمن ولا يغني من جوع. قوله: "فإن اختلف التقدير اعتبر بالأغلب في البلد". أقول: هذا العرف الغالب لا يثبت به شيء من الأمور الشرعية مثلا لو جرى عرفهم أن الذهب والفضة يكالان لم يكن الكيل مصححا لبيع الجنس بجنسه حتى يقع الوزن لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الذهب بالذهب وزنا بوزن مثلا بمثل والفضة بالفضة وزنا بوزن مثلا بمثل"، وهكذا لو جرى عرفهم أن البر أو الشعير يوزنان لم يجز بيع الجنس بجنسه حتى يعرف التسأوي بينهما بالكيل ومن قال إن الاتفاق في التقدير بالكيل والوزن موجب لثبوت الربا كما سبق لم يكن مجرد كيل بلد أو وزنها مقتضيا لذلك لأنه قد رتب على هذا أمر شرعي ولو كان مثل ذلك مسوغا لإثبات الأحكام الشرعية لكان الربا في الشيء ثابتا في بلد وغير ثابت في أخرى وإنما يثبت بذلك حمل ما يصدر من أهل البلد في المجأوزة عليه لأنه الذي يتعلق به القصد لهم وأما مثل صاع الفطرة وأوساق الزكاة فالاعتبار بمكيال المدينة في المكيل وهكذا الاعتبار في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "في خمس أواق صدقة"، وفي الدية ونصاب السرقة ونحو ذلك بميزان مكة لما أخرجه أبو دأود والنسائي والبزار وابن حبان والدارقطني وصححاه من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة"، ورواه أيضا أبو دأود من حديث ابن عباس وأخرجه أيضا الدارقطني عن ابن عباس من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان عن خنظلة عن طأوس عنه وأخرجه عنه ومن طريق أبي نعيم عن الثوري عن حنظلة عن سالم بدل طأوس قال الدارقطني أخطأ أبو أحمد فيه.

وإذا تقرر لك أن الاعتبار في الأمور الشرعية بمكيل المدينة ووزن مكة عرفت أنه لا اعتبار بما يخالف ذلك وأن أطبق عليه الأكثر أوالأغلب بل يعتبر في الأمور العرفية ما جرى به العرف في البلد فإن اختلف كان الاعتبار بالأغلب لما تقدم فكلام المنصف لا يصح إلا من هذه الحيثية وبهذا الاعتبار فمن حلف مثلا لا أكل موزونا لم يحنث إلا بما هو موزون في بلدة لأنه المقصود له عند حلفه ولا يتصور غيره. قوله: "فإن صب أحد المثلين إلي آخر الفصل". أقول: هذا المسائل التي يسمونها مسائل الاعتبار مردودة مدفوعة بالنسبة الصحيحة الصريحة دفعا أظهر من شمس النهار وأجل من عمود الصباح أما أولا فبالأحاديث المتواترة المشتملة على أن تلك الأجناس لا تباع إلا مثل بمثل سواء بسواء فانضمام ما ليس من جنس واحد المتسأويين إلي أحدهما لا يسوغ أن يكون الجنس المقابل له أكثر قدرا منه ولو بلغ في القيمة ما بلغ ووصل في النفاسة وارتفاع الجنس إلي أبلغ غاية وأما ثانيا فحديث القلادة الذى أخرجه مسلم وغيره وصححه جماعة من الأئمة من حديث فضالة بن عبيد قال اشتريت قلادة يوم خيبر بأثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يباع حتى يفصل"، وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حتى تميز بينه وبينه"، فقال: إنما أردت الحجارة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تميز بينهما"، وقد أخرجه الطبراني في الكبير من طرق كثيرة جدا يدل أبلغ دلالة على أن هذه المسائل مخالفة للشريعة المطهرة مضادة لها وتنادى بأعلى صوت أن مثلها يستلزم تحليل ما حرم الله من الربا الذى توعد عليه بالحرب منه واتفق المسلمون على تحريمه وأنه من كبائر الذنوب والعجب ممن يزعم من أهل الإنصاف كالمقبلي أنها إذا طابت أنفس المتعاملين لذلك ورضيا به كان من البيع المأذون فيه فإن هذه غفلة عظيمة للعلم لأن الله سبحانه لم يجعل للتراضي فيما هو ربا أو وسيلة إلي الربا حكما يحلل هذا الحرام البحت والكبيرة العظيمة وأما تأويل حديث القلادة هذا بأنه وجد فيها ذهبا أكثر من شرائها به فلم يكن المنفرد غالبا كما فعل الجلال في شرحه لهذا الكتاب فتأويل زائف وقد ذهب إلي العمل بحديث القلادة كثير من السلف الصالح وإليه ذهب مالك والليث وأحمد وإسحق وغيرهم وهو الحق الذى لا شك فيه ولا شبهة. [فصل ويحرم بيع الرطب والتمر والعنب بالزبيب ونحوهما والمزابنة إلا العرايا وتلقي الجلوبة واحتكار قوت الآدمي والبهيمة الفاضل عن كفايته ومن يمون إلي الغلة مع الحاجة

وعدمه إلا مع مثله فيكلف البيع في القوتين فقط والتفريق بين ذوي الأرحام المحارم في الملك حتى يبلغ الصغير وإن رضي الكبير والنجش والسوم على السوم والبيع على البيع بعد التراضي وسلم أو سلف وبيع وربح ما اشترى بنقد غصب أو ثمنه وبيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء وبأقل مما شرى به إلا من غير البائع أو منه غير حيلة أو بغير جنس الثمن الأول أو بقدر ما انتقص من عينه وفوائده الأصلية] . قوله: "ويحرم بيع الرطب بالتمر". أقول: وجهه ما أخرجه أحمد "1/175"، وأهل السنن أبو داود "3359"، الترمذي "1225"، النسائي "4545، 4546"، ابن ماجة "2264"، وصححه الترمذي "3/528"، وابن خزيمة والحاكم كلهم وصححه أيضا قبلهم ابن المديني من حديث سعد بن أبي وقاص قال سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال لمن حوله: "أينقص الرطب إذا يبس؟ "، قالوا: نعم فنهى عن ذلك. وأما قوله: "والعنب بالزبيب" فلما سيأتي في الحديث المتفق عليه من تحريمه صلى الله عليه وسلم لبيع الكرم بالزبيب والمراد بالكرم العنب ولا علة للمنع من ذلك إلا تجويز النقص وكونه في شجرة لا تأثير له فكان محرما بالنص لا بالقياس على التمر بالرطب وأما قوله ونحوهما فالمراد به كل جنس ربوي إذا كان بعضه أخضر وبعضه يابسا أو بعضه مبلولا وبعضه غير مبلول لعدم العلم بالتساوي فمنعه داخل تحت النصوص المصرحة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا مثلا بمثل سواء بسواء". قوله: "والمزابنة إلا العرايا". أقول: المزابنة بيع التمر في النخل بالتمر كما وقع تفسيرها بذلك في الصحيحين [البخاري "4/384"، مسلم "72/154"] ، وغيرهما أبو داود "3361"، النسائي "7/266"، ابن ماجة "2265"، أحمد "2/5"، بلفظ: "وهي بيع التمر على رؤوس النخل كيلا وبيع الكرم بالزبيب كيلا"، وهذا التفسير إن صح رفعه قامت به الحجة في تفسير المزابنة وإن كان مدرجا كما قيل فهو يدل على معناه ما في الصحيحين [البخاري "5/50"، مسلم "70/81540"] ، وغيرهما أحمد "4/140"، من حديث رافع بن خديج وسهل ابن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة بيع الثمر بالثمر إلا أصحاب العرايا والثمر بالثاء المثلثة وقوله بالتمر بالتاء المثناة الفوقية والمراد بالثمر بالمثلثة هو ما كان في النخلة فلا يقال له ثمرا إلا ما دام فيها وهكذا في الصحيحين وغيرهما من غير حديثهما وقد صرح بذلك مسلم في رواية له فقال ثمر النخلة وفي الصحيحين أيضا في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام نهى عن ذلك كله فتقرر بهذا أن المزابنة بيع ثمر النخلة ما دام فيها ومثل ذلك بيع العنب في أصوله وبيع الزرع قبل قطعه بأجناس هذه الثلاثة الأجناس التي قد جفت ويبست فإن كل ذلك مزابنة ووجه المنع عدم العلم بالتساوي في الجنس الربوي وأما العرايا فأصلها أن العرب كانت تتطوع على من لا ثمر له كما

يتطوع صاحب الشاة أو الإبل بالمنيحة وهي عطية اللبن دون الرقبة قال الجوهري في الصحاح العرية هي النخلة التى يعريها صاحبها رجلا محتاجا بأن يجعل له ثمرها عأما من عراه إذا قصده انتهى فرخص صلى الله عليه وسلم لمن لا نخل لهم أن يشتروا الرطب على النخل بخرصها تمرا كما وقع في الصحيحين [البخاري "4/387، مسلم "67/1540"، وغيرهما أبو داود "3663"، الترمذي"1303"، النسائي "7/268"، من حديث سهل بن أبي حثمة وكذا في البخاري وغيره من حديث زيد بن ثابت وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "4/377، مسلم "61/1539"] ، من حديثه: "رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا"، وفي لفظ لهما من حديثه: "ولم يرخص في غير ذلك" فهذا جائز والذي أخبرنا بتحريم الربا ومنعنا من المزابنة هو الذي رخص لنا في العرايا والكل حق وشريعة واضحة وسنة قائمة ومن منع من ذلك فقد تعرض لرد الخاص بالعلم ولرد الرخصة بالعزيمة ولرد السنة بمجرد الرأي وهكذا من منع من البيع وجوز الهبة كما روى عن أبي حنيفة ولكن هذه الرخصة مقيدة بأن يكون الشراء بالوسق والوسقين والثلاثة والأربعة كما وقع في حديث جابر عند الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم فلا يجوز الشراء بزيادة على ذلك. قوله: "وتلقي الجلوبة". أقول: لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما ثبت في الصحيحين [البخاري"4/373"، مسلم "15/518" [، وغيرهما [أحمد "1/430"، ابن ماجة "2180"، الترمذي "1220"] ، من حديث ابن مسعود نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي البيوع وفي لفظ من حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الجلب فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق والنهي ثابت في الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر وابن عباس وقد اختلف أهل العلم هل هذا البيع صحيح أم باطل واستدل من قال بأنه صحيح بإثبات الخيار المذكور في الحديث فإنه يدل على انعقاد البيع وقالوا أيضا النهي هنا لأمر خارج لا لعين البيع ولا لوصفه ونقول هذا التلقي حرمه الشارع على فاعله بنهيه الثابت بلا خلاف فمن زعم أن ما ترتب على هذا الحرام صحيح فقد خالف مقاصد الشرع بمجرد رأي حرره أهل الأصول لا يستند إلي ما تقوم به الحجة وأما إثبات الخيار فهو دليل على أن هذا البيع موكول إلي اختيار صاحبه إن أمضاه مضى وإن لم يمضه فوجوده كعدمه فهو حجة عليهم لا لهم لأن هذا الإمضاء هو الذي وقع به التجارة عن تراض وما تقدم منه من الرضا فقد أبطله انكشاف الأمر على غير ما وقع من تغرير المتلقي وليس المراد بقوله سبحانه: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، مثل هذا الرضا الناشيء عن التغرير والتلبيس بل الرضا المحقق بلا تغرير وطيبة النفس الصحيحة. قوله: "واحتكار قوت الآدمي والبهيمة".

أقول: لما ثبت في صحيح مسلم "129/1605"، وغيره [أبو داود "3447"، الترمذي "1267"، ابن ماجة "2154"، أحمد "6/400"] ، من حديث معمر بن عبد الله العدوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحتكر إلا خاطيء"، ولحديث معقل بن يسار عند أحمد والترمذي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يعقده بعظم من النار يوم القيامة"، ورجاله رجال الصحيح كما قال في مجمع الزوائد إلا زيد بن مرة أبو المعلا قال ولم أجد من ترجمة ولحديث ابن عمر عند ابن ماجه وإسحق بن راهويه والدارمي وأبي يعلى والعقيلي والحاكم بلفظ: "الجالب مرزوق والمحتكر معلون" وفي إسناده ضعف ولحديث ابن عمر عند أحمد وابن أبي شيبة والبزار وأبي يعلى والحاكم بلفظ: "من احتكر الطعام أربعين يوما فقد برئ من الله وبرئ الله منه" وفي إسناده أصبغ بن زيد وكثير بن مرة والأول مختلف فيه والثاني كذلك وقد وثق الأول النسائي ووثق الثاني أو سعيد وفي الباب أحاديث والاحتكار والحكرة قد فسرا بحبس السلع عن البيع وهذا يدل على تحريم الاحتكار لكل ما تدعو إليه حاجة الناس ويؤيد هذا حديث: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين" فإنه يعم كل ما له سعر فلا يكون التنصيص على الطعام في بعض الأحاديث مقتضيا لتخصيص تحريم الاحتكار لأن ذلك من التنصيص على بعض أفراد العام وأيضا إذا كانت العلة الإضرار بالمسلمين فهو يشمل كل ما يتضررون باحتكاره وتدعو حاجتهم إليه وإن كان التضرر باحتكار الطعام أكثر لمزيد الحاجة إليه ويدخل في ذلك قوت الدواب. وأما قوله: "الفاضل عن كفايته ومن يمون إلي الغلة" فقد حكى ابن رسلان في شرح السنن الإجماع على جواز ذلك فقال ولا خلاف في أن ما يدخره الإنسان من قوت وما يحتاجون إليه من سمن وعسل وغير ذلك جائز لا بأس به انتهى ويدل على ذلك ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي كل واحدة من أزواجه مائة وسق من خيبر قال ابن رسلان في شرح السنن وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنتهم من تمر وغيره. وأما قوله: " مع الحاجة" فهذا القيد لا بد منه لأن إدخار ما لا حاجة للناس إليه لا يضربهم إلا إذا كان فعله لذلك يقضي إلي الغلاء فإنه يتنأوله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليغليه عليهم". قوله: "فيكلف البيع". أقول: هذا صحيح لأنه فاعل لما هو من محرمات الشريعة مع مزيد أن فيه إضرارا بالمسلمين فلا يجوز تقريره على الحرام ولا يجوز ترك المسلمين يتلهفون من الجوع صيانة لهذا المحتكر الخاطيء المضار للمسلمين ولهذا عاقبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بتحريق طعامه وأما قول الجلال ها هنا إلي المنكر هو ما كان دليله قطعيا بحيث لا خلاف فيه فمن ساقط الكلام وزائفه فإن إنكار المنكر لو كان مقيدا بهذا القيد لبطل هذا الباب وانسد بالمرة وفعل من شاء ما شاء إذ لا محرم من محرمات الشريعة في الغالب إلا وفيه قول لقائل أو شبهة من الشبه وسيأتي في هذا الكتاب في السير أنه لا إنكار في مختلف فيه على ما هو مذهب وهو أيضا باطل من القول وإن كان أقل مفسدة من هذا الكلام.

قوله: "إلا التسعير في القوتين". أقول: يدل على عدم جواز التسعير القرآن الكريم قال الله عز وجل: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، فمن وقع الإجبار له أن يبيع بسعر لا يرضاه في تجارته فقد أجبر بخلاف ما في الكتاب وهكذا يدل على عدم جواز التسعير قوله سبحانه وتعالي: {وَلا تَأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] ، فإن من أكره على بيع ماله بدون ما يرضى به فقد أكل ماله بالباطل وهكذا يدل على عدم جواز التسعير قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه"، ويدل على عدم جوازه على الخصوص ما أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجه والدارمي والبزار وأبو يعلى وصححه الترمذي وابن حبان من حديث أنس إن السعر غلاء فقالوا يا رسول الله سعر لنا فقال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال"، قال ابن حجر وإسناده على شرط مسلم. ويدل على عدم جوازه على الخصوص أيضا ما أخرجه أحمد وأبو دأود من حديث أبي هريرة قال جاء رجل فقال: يا رسول الله سعر, فقال: "بل أدعو الله" ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله سعر فقال: "بل الله يخفض ويرفع" قال ابن حجر وإسناده حسن. ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه ابن ماجة والبزار والطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد بنحو حديث أنس قال ابن حجر وإسناده حسن أيضا قال وللبزار نحوه من حديث علي وعن ابن عباس في الطبراني في الصغير وعن أبي جحيفة في الكبير وأغرب ابن الجوزي فأخرجه في الموضوعات عن علي وقال إنه حديث لا يصح انتهى وظاهر هذه الأدلة عدم الفرق بين القوتين وغيرهما لأن الكل يتأثر عنه عدم طيبة النفس ويقع على خلاف التراضي المعتبر ولا فرق بين أن يكون في التسعير الرد إلي ما يتعامل به الناس أو إلي غيره فإن الفرق بمثل هذا الفرق هو مجرد رأي وملاحظة مصلحة في شيء يخالف الشرع وقد أشار صلى الله عليه وسلم في حديث أنس السابق إلي ما يفيد أن في التسعير مظلمة فلا خير ولا مصلحة في مظلمة بل الخير كل الخير والمصلحة كل المصلحة في العمل بما ورد به الشرع. قوله: "والتفريق بين ذوي الأرحام والمحارم". أقول: لحديث أبي أيوب عند أحمد والترمذي وحسنه والدارقطني والحاكم وصححه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"، ولحديث أبي موسى عند ابن ماجه والدارقطني بإسناد لا بأس به قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالد وولده وبين الأخ وأخيه ولحديث علي عند أبي دأود والدارقطني أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع وقد أعله أبو دأود بالانقطاع ولكنه أخرجه الحاكم وصحح إسناده ورجحه البيهقي لشواهده ولحديث علي أيضا عند ابن ماجه والدراقطني وصححه ابن خزيمة وابن الجارود

وابن حبان والحاكم والطبراني وابن القطان قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين فبعتهما وفرقت بينهما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أدركهما فارتجعهما ولا تبعهما إلا جميعا"، ولحديث أنس أيضا عند ابن عدي بلفظ: "لا يولهن والد عن ولده"، وفي إسناده مبشرين عبيد وهو ضعيف ورواه من طريق أخرى فيها إسماعيل ابن عياش عن الحجاج بن أرطاه وقد تفرد به إسماعيل وهو ضعيف في غير الشاميين ولحديث أبي سعيد عند الطبراني بلفظ: "لا توله والدة بولدها"، وأخرجه البيهقي. وهذه الأحاديث تدل على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها وبين الوالد وولده وبين الأخوين وقد قيل إنه مجمع على تحريم التفريق بين الوالدة وولدها ومن عدا من هو مذكور في هذه الأحاديث فقيل إنه يحرم بطريق القياس وظاهر الأحاديث أنه يحرم التفريق بالبيع وغيره. وأما قوله: "حتى يبلغ الصغير وأن رضى الكبير" فقد استدل على ذلك بما أخرجه الدارقطني والحاكم من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لا يفرق بين الأم وولدها" قيل: إلي متى؟ قال: "حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية" وفي إسناده عبد الله بن عمرو الواقعي وهو ضعيف وقد رماه علي بن المديني بالكذب ولكن لم يبق بعد البلوغ ما يحصل به التضرر التام كما في من كان صغيرا وقد حكى المصنف في الغيث الإجماع على جواز التفريق بعد البلوغ. قوله: "والنجش". أقول: النجش في اللغة تنفير الصيد وإثارته من مكان ليصاد يقال نجشت الصيد أنجشه وفي الشرع الزيادة في السلعة فيعطي بها الشيء وهو لا يريد شراءها ليقتدي به السوام فيعطون بها أكثر مما كانوا يعطون لو لم يسمعون نجشه وقد ثبت النهي عن ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر وعند مسلم من حديث عقبة بن عامر وفي الباب غير ذلك وقد نقل ابن بطال الإجماع على أن الناجش عاص بفعله قال واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع إذا وقع على ذلك وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك وهو المشهور عند الحنابلة وهو وجه للشافعية قلت وهو الحق لاقتضاء النهي لذلك. قوله: "والسوم على السوم". أقول: لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من النهي عنه من حديث أبي هريرة وغيره كما ثبت النهي عن السوم على السوم ثبت النهي عن البيع على البيع في الصحيحين [البخاري "2140"، مسلم "1515"، وغيرهما أبو داود "3443"، من حديث أبي هريرة أيضا وثبت في غير الصحيحين من غير حديثه وصورة السوم أن يأخذ الرجل سلعة ليشتريها فيقول له قائل رده لأبيعك خيرا منه أو مثله بأرخص منه أو يقول للبائع رده لأشتريه منك بأكثر وأما صورة البيع على البيع والشراء على الشراء فهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار أفسخ لأبيعك بأنقص أو

يقول للبائع: أفسخ لأشتري منك بأزيد قال ابن حجر في الفتح وهذا مجمع عليه فعرفت بهذا أن صورة السوم على السوم غير صورة البيع على البيع وأن تقييد المنع بكونه بعد التراضي هو الصواب وأما بيع المزايدة فقد دل على جوازه ما أخرجه أحمد وأبو دأود والنسائي والترمذي وحسنه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم باع قدحا وحلسا فيمن يزيد وفي لفظ لأبي دأود أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى على قدح وحلس لبعض أصحابه فقال رجل هما علي بدرهم قال آخرهما علي بدرهمين وحكى البخاري عن عطاء أنه قال أدركت الناس لا يرون بأسا ببيع المغانم فيمن يزيد وقال الترمذي بعد إخراجه لحديث أنس المذكور والعمل على هذا عند بعض أهل العلم لم يروا بأسا ببيع من يزيد في المغانم والمواريث قال ابن العربي لا معنى لاختصاص الجواز بالغنيمة والميراث فإن الباب واحد والمعنى مشترك. قوله: "وسلم أو سلف وبيع". أقول: قد ثبت النهي عن السلف والبيع بما أخرجه أحمد وأبو دأود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم من حديث عبد الله ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل سلف وبيع"، الحديث قال أحمد هو أن يقرضه قرضا ثم يبايعه عليه بيعا يزداد عليه وهو فاسد لأنه إنما يقرضه على أن يحأبيه في الثمن وقد يكون السلف بمعنى السلم وذلك مثل أن يسلم إليه في شيء ويقول إن لم يتهيأ المسلم فيه عندك فهو بيع لك وهذه الصورة داخلة تحت الأحاديث المشتملة على النهي عنه أن يبيع الإنسان ما ليس عنده وداخلة تحت الأحاديث المشتملة على النهي عن بيع الشيء قبل قبضه فهذه الصورة التى ذكرها المصنف قد منع الشارع عنها وكل ما منع الشارع عنه فهو باطل ولا فرق بن منع ومنع ولا بين نهي ونهي إلا أن تقوم قرينة تدل على أن المراد من ذلك مجرد الكراهية فقط القاصرة عن رتبة التحريم وما اعتل به الحامدون على الرأي من قولهم هذا نهي عنه لذاته وهذا نهي عنه لوصفه وهنا نهى عنه لأمر خارج عنه كما وقع ذلك في كتب الأصول فقد عرفناك غير مرة أن هذه التفرقة مبنية على رأي بحت لم تربط بدليل عقل ولا نقل ولا شك أنه لم يذكر كثيرا من المناهي ولها حكم هذه المذكورة. قوله: "وربح ما اشترى ينقد غصب أو ثمنه". أقول: إنما تعرض المصنف لذكر الربح هنا مع كونه في مناهي البيع لأن ذلك مترتب على الشراء بنقد الغصب أو ثمنه فهو من ذيول مباحث البيع والشراء من هذه الحيثية على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر عدم حل هذا الربح مقترنا بمناهي البيع كما في حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك"، أخرجه أحمد وأبو دأود والنسائي والترمذي وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم وقد تقدم طرف منه قريبا. قوله: "وبيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسا".

أقول: يمكن الاستدلال لهذا المنع بما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، وبما أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صفقتين في صفقة قال سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسا بكذا وهو ينقد بكذا وكذا قال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات فهذان الحديثان قد دلا على أن الزيادة لأجل النسا ممنوعة ولهذا قال: "فله أوكسهما أو الربا" والأعيان التي هي غير ربوية داخلة في عموم الحديثين وقد أفردت هذا البحث في رسالة مستقلة سميتها شفاء العلل في حكم زيادة الثمن لأجل الأجل والكلام في المقام يطول وقد ذهب الجمهور إلي جواز بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسا ونازعوا في دلالة الحديثين المذكورين على محل النزاع. قوله: "وبأقل مما اشترى به" الخ. أقول: إذا كان المقصود التحيل فلا فرق بين بيعه من البائع أو غيره وبين أن يكون بجنس الثمن الأول أو بغير جنسه فالأولى أن يقال وبأقل مما شرى به حيلة فإن ذلك يغني عن هذا التطويل الذي ذكره المصنف ووجه المنع من ذلك ما فيه من التوصل إلي الربا لأن الغالب في مثل هذا أن يريد الرجل أن يزيد له المستقرض زيادة على ما أقرضه فيتوصل إلي تحليل ذلك بهذه الحيلة الباطلة وهي أن يبيع منه عينا بأكثر من قيمتها ثم يشتريها منه بأقل من ذلك فتبقى هذه الزيادة في ذمة المشتري وهي في الحقيقة زيادة في قدر ما استقرضه وهنا البيع هو بيع العينة الذى ورد الوعيد عليه بما أخرجه أحمد وأبو دأود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم"، ولفظ أبي دأود: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه حتى ترجعوا إلي دينكم" وأخرجه أيضا الطبراني وابن القطان وصححه قال ابن حجر في بلوغ المرام ورجاله ثقات وقال في التلخيص إنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر انتهى ولا يخفاك أن الحديث بعد تصحيح ذلك الإمام والحكم على رجاله بأنهم ثقات قد قامت به الحجة والأصل عدم ما ذكره من الاحتمال فلو كان مجرد الاحتمال الذي في مثل هذا مبطلا للاستدلال لمذهب شطر السنة بالدعأوى ودفع من شاء ما شاء والأعمش إمام حافظ ثقة حجة فأقل أحواله أن يحمل ما يرويه على الصحة حتى يتبين ما يخالف ذلك ولكنه قال المنذري في مختصر السنن إن في إسناده إسحق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني نزل مصر لا يحتج بحديثه وفيه أيضا عطاء الخراساني وفيه مقال انتهى قال الذهبي في الميزان إن هذا من مناكيره انتهى قال أبو حاتم في إسحق بن أسيد لا يشتغل به شيخ ليس بالمشهور وقال ابن عدي مجهول.

وفي التقريب في ضعيف وأما عطاء الخراساني فقد ضعفه بعض أهل الحديث ووثقه ابن معين وأبو حاتم وقال ابن حجر في التقريب صدوق يهم كثيرا ويدلس انتهى قلت إذا كان كلام ابن حجر في الرجلين هكذا ولم يرو الحديث من طريق غيرهما فكيف يحكم على رجال إسناده بأنهم ثقات ولا يخفاك أن عطاء الخراساني من رجال مسلم قد أخرج له في صحيحه فجاز القنطرة وقد عقد البيهقي لطرق هذا الحديث بابا وقال ابن كثير إنه روي من وجه ضعيف عن عبد الله بن عمر بن العاص مرفوعا. ويشهد لحديث الباب ما أخرجه الدارقطني عن أبي إسحق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم فقالت يا أم المؤمنين إني بعت غلأما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة وإني ابتعته منه بستمائة نقدا فقالت لها عائشة بئس ما اشتريت وبئس ما شريت إن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بطل إلا أن يتوب. والحاصل أن مجموع ما في الباب تقوم به الحجة ولا سيما وهذه حيلة من الحيل الباطلة التى جاءت الشريعة بإبطالها وأيضا قد استلزمت أن يرد المستقرض زيادة على ما استقرضه وذلك ربا مجمع على تحريمه فلو لم يرد في الباب شيء لكان ما ورد في تحريم هذا الربا كافيا مغنيا عن غيره قال الجوهري في الصحاح العينة بالكسر السلف قال في القاموس وغيره أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو أعطى بها قال والتاجر باع سلعته بثمن إلي أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن انتهى قال الرافعي وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلي المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقدا أقل من ذلك العقد وقد ذهب إلي عدم جواز بيع العينة مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم وهو الحق وجوز ذلك الشافعي وأصحابه واستدلوا بما لا دلالة فيه على المطلوب.

باب الخيارات

[باب الخيارات هى ثلاثة عشر نوعا لتعذر تسليم المبيع وهو لهما في مجهول الأمد وللمشتري الجأهل في معلومة ولفقد صفة مشروطة وللغرر كالمصراة وصبرة علم قدرها البيع فقط وللخيانة في المرابحة والتولية ولجهل قدر الثمن أو المبيع أو تعيينه وهذه على التراخي وتورث غالبا ويكلف التعيين بعد المدة ولغبن صبي أو متصرف عن الغير فاحشا وبكونه موقوفا وهما على تراخ ولا يورثان وللرؤية والشرط والعيب] . قوله: "هى ثلاثة عشر نوعا". أقول: قد بلغ استقراء المصنف لأسباب الخيارات إلي هذا المقدار وليس مراده إلا أن

الخيار له أسباب يضاف إلي كل واحد منها وسنوضح لك إن شاء الله الكلام في كل واحد منها. قوله: "لتعذر تسليم المبيع". أقول: قد قدمنا لك أن البيع والشراء هو حصول التراضي من البائع والمشتري فالمشتري رضي بالعين المبيعة والبائع رضي بالثمن المقابل لها وإذا تعذر تسليم العين المبيعة ارتفع التراضي المعتبر فلا بيع ولا شراء بل وجود التراضي المتقدم كعدمه لأنه قد انكشف عدم وجود متعلقه الذي كان التراضي عليه والثمن إنما يلزم بعد وجود عين المبيع ومصيرها إلي المشتري فمثل هذا لا ينبغي أن يجعل من أنواع الخيار بل ينبغي أن يعد في مبطلات البيع هذا إذا تعذر تسليمه مطلقا أما إذا تعذر في مدة ثم أمكن فقد دخل البائع في بيع منهي عنه لأنه باع ما ليس عنده فكان من هذه الحيثية غير صحيح وإذا لم يصح التبايع فعند عود المبيع إذا شاء اتبايعا وإلا فهو باق على ملك البائع الأول ولا حكم لما وقع منهما من التبايع مع تعذر التسليم وبهذا تعرف أنه لا فائدة لقوله وهو لهما في مجهول الأمد وللمشتري الجأهل في معلومة. قوله: "ولفقد صفة مشروطة". أقول: هذا نوع من خيار الغرر لأن المشتري لم يقف على حقيقة المبيع كما ينبغي مع مزيد الغرر باشتراطه لتلك الصفة في المبيع وانكشاف عدمها فلا وجه لعدة خيارا مستقلا. قوله: "وللغرر كالمصراة". أقول: هذا نوع من أنواع الغرر لأن البائع قد غرر المشتري بالتصرية فلم يقف على حقيقة المبيع وما هو الغرض الحامل على شرائه وهذا النوع قد ثبت النص عليه بالسنة الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المصراة: "فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين من بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر"، وقد بسطنا القول على هذا الحديث في شرحنا للمنتقي وبسطنا الكلام في الرد على من خالفه والمقام لا يتسع لبعض ذلك. قوله: "وصبرة علم قدرها البائع فقط". أقول: وهذا أيضا نوع من أنواع خيار الغرر فإنه إذا لم يقف البائع على قدرها ولا عرف حقيقتها فبالأولى المشتري والخيار ثابت لهما جميعا ولا وجه لجعله لأحدهما دون الآخر وقد قدمنا أن هذا أعنى بيع الصبرة الذى هو نوع من بيع الجزاف قد خصصه دليله من أحاديث النهي عن بيع الغرر وما لم يبطل من بيوع الغرر فالخيار ثابت فيه كما في بيع الصبرة والمصراة ونحوهما. قوله: "وللخيانة في التولية والمرابحة". أقول: هذا سبب من أسباب الخيار لأن الخيانة خديعة وقد ثبت في الصحيحين [البخاري

"4/337"، مسلم "48/1533"، وغيرهما [أبو داود "3500"، النسائي "7/252"، أحمد "5036، 5405، 5271، 5515، 5561، 5854"] ، من حديث ابن عمر قال ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال: "من بايعت فقل لا خلابة"، والخلابة الخديعة فإذا انكشف أن البائع أو المشتري خدع أحدهما الآخر بنوع من أنواع الخديعة التي من جملتها الخيانة فالخيار ثابت أما إذا اشترط أحد المتبايعين ذلك فظاهر وأما إذا لم يشترط فالبيع مشتمل على الغرر الذى هو المناط الأعظم في الخيارات وقد ثبت في حديث عند البخاري في التاريخ وابن ماجه والدارقطني أنه صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل الذي كان يخدع في البيوع: "ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها"، فهذا من جملة ما خصص بيع الغرر من أحاديث النهي مع ثبوت الخيار. قوله: "ولجهل قدر الثمن أو المبيع". أقول: هذا أيضا من جملة أنواع الغرر لعدم الإحاطة بالمجهول من المبيع أو الثمن فإن ورد دليل يدل على صحة هذا التبايع مع ثبوت الخيار فذاك وألا فالظاهر أنه بيع باطل لاشتماله على ما نهى عنه الشرع من الغرر وأيضا التراضي الذى هو المناط في صحة البيع والشراء ليس بمتحقق مع الجهالة فلم يوجد ما هو المعتبر في هذه المعاملة. قوله: "أو تعيينه". أقول: الغرر في هذا ظاهر واضح فأن جعل البائع للمشتري الخيار في الاختيار فقد دلت السنة الصحيحة أنه يصح كما في حديث: "أو يقول لصاحبه اختر" في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر"، وربما قال: "أو يكون بيع الخيار" وأما إذا لم يقع الخيار فلا يصح البيع من أصله لأنه من بيع الغرر المنهي عنه ولكونه لم يتحقق التراضي الذى هو مناط البيع والشراء. قوله: "وهذه على التراخي". أقول: لا وجه لهذا لا من دليل صحيح ولا من رأي مستقيم أما الدليل فقد دل على أن الخيار في المصراة وفي الخديعة ثلاثة أيام وخيار التعيين مطلق حتى يختار وباقي الخيارات المتقدمة ينبغي أن يكون إلي الوقت الذي يطلع فيه صاحبه على ما لا بد من الاطلاع عليه فإذا وقع منه ذلك ولم يفسخ فلا خيار له. قوله: "ويورث". أقول: إذا كان الخيار ثابتا للبائع أو المشتري بدليل شرعي فاخترمته المنية قبل أن يقع منه الخيار وقبل أن تنقضي مدة الخيار المؤقت شرعا والمؤقت بتراضي البائع والمشتري فلا شك أن هذا الحق الثابت يكون حقا لوارثه فيثبت له ما ثبت له كسائر الحقوق وهكذا سائر الخيارات الآتية وما قيل فيه بأنه لا يورث منها فذلك رأي بحت مخالف لما أثبته الكتاب العزيز والسنة من ميراث الأملاك والحقوق ولم يأتوا في الفرق بشيء إلا بما هو هباء أو سراب بقيعة.

قوله: "ويكلف التعيين بعد المدة". أقول: قد قدمنا أنه لا يصح البيع مع عدم التعيين إلا بشرط الخيار فإذا شرطه كان الاختيار موكولا إلي نظر من له الخيار إن وقع منه الاختيار نفذ البيع وإن لم يقع منه الاختيار فلا بيع وبهذا تعرف أنه لا وجه لتكليفه للتعيين بل يقال له اختر أو اترك فإذا سكت حتى مضت المدة فلا بيع لأن ذلك ترك للاختيار وهو يكفي من غير ما ذكره المصنف من التكليف. قوله: "ولغبن صبي أو متصرف عن الغير فاحشا". أقول: خيار الغبن قد أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمنا من حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع فقال: "من بايعت فقل: لا خلابة"، وأخرجه أحمد "3/217"، وأهل السنن [أبو داود "3501"، الترمذي " 1250"، النسائي "7/252"، ابن ماجة "2354" وصححه الترمذي "3/552"، من حديث أنس أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يبتاع وكان في عقدته يعني في عقله ضعف فدعاه ونهاه فقال: يا رسول الله إني لا أصبر عن البيع فقال: "إن كنت غير تارك للبيع فقل ها وها ولا خلابة"، وأخرجه البخاري في تاريخه وابن ماجه والدارقطني عن محمد بن يحيى بن حبان قال هو جدي يعني الرجل الذي كان يخدع في البيوع وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه وكان لا يدع على ذلك التجارة وكان لا يزال يغبن فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: "إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها". فظهر بهذا أن من كان غير عارف بحقائق الأمور قاصر الفكرة عن معرفة مقادير أثمان المبيعات وما يصلح منها وما لا يصلح فله الخيار حتى يستشير من له خبرة بذلك وذلك ثلاث ليال فيلحق به كل من باع شيئا أو اشتراه وهو غير عارف به وبمقدار قيمته وإن كان مكلفا والنساء في هذا البيع أكثر وقوعا من غيرهن لنقص عقولهن وعدم كمال تمييزهن فإذا وقع الاشتراط من الرجل المتصف بالصفة التى ذكرناها أو من المرأة كما وقع من حبان بن منقذ فهذا خيار أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر مدته رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من خيار المغابنة وأما إذا لم يقع الاشتراط فمعلوم أن البيع الذى مناطه التراضي لا يتم إلا بالرضا المحقق فإن كان البائع قد رضي بما دفع إليه من الثمن مع علمه أن ذلك هو دون ثمن مثله فلا خيار له بعد ذلك وإن لم يعلم وكان معتقدا أن ذلك هو الثمن الذى تباع به تلك العين فقد كشف ظهور أن العين فوق ذلك الثمن أو أن الثمن فوق تلك العين على أن المشتري أو البائع لم يحصل منهما أو من أحدهما الرضا المحقق وطيب النفس وذلك موجب لعدم حصوله المناط الشرعي بلا يتم التبايع بينهما فإذا حصل الاختلاف فقال البائع قد تبين له أن قيمة مبيعه أكثر أو قال المشتري قد تبين له أن الثمن الذي دفعه أكثر من ثمنه وجب على القاضي أن يرفع الخصومة بينهما بتفويض الأمر إلي العدول الذين لهم خبرة بذلك المبيع ويعمل على قولهم. وأما إذا كان البائع وكيلا للمالك أو وليا للصبي أو المجنون فالخيار ثابت بطريق الأولى لكن لا مطلقا بل إذا أخبر العدول بالغبن على البائع أو المشتري ووجه ذلك واضح لأنه لم

يرض المالك إلا بما هو المعتاد في الأعيان والأثمان وإذا قال الصبي بعد تكليفه أو المجنون بعد صحته إنه مغبون كان على القاضي أن يأمر العدول بتقويم العين المبيعة وقت بيعها فإن تقرر الغبن ثبت الخيار لأنه انكشف بالغبن أن الولي لم يتصرف بالعدل كما قال الله سبحانه فلا حكم لتصرفه ولا للرضا الواقع منه فلا بد من حصول الرضا منهما عند زوال المانع من الصغر والجنون ولا بد أن يكون هذا الغبن مما لم تجر للناس عادة باختصار مثله والتسأهل في المعاملات به فهذا هو الغبن الفاحش وذلك يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ولا وجه لتقديره بمقدار معين ولا لحده بحد معلوم. قوله: "وبكونه موقوفا". أقول: قد عرفناك فيما سبق أن عقد الفضولي لا حكم له ولا اعتبار به بل إن أجازه المالك كان البيع الشرعي بها لأن التراضي المعتبر لم يحصل إلا عندها وإن لم يجزه كان وجوده كعدمه فليس هذا من بيع الخيار في شيء فلا فائدة لقوله وهما على تراخ ولا يورثان لأنه إذا لم يوجد الأصل وهو الخيار لم يوجد ما هو فرع له ومترتب عليه. وأما قوله: "وللرؤية والشرط والعيب" فما أراد المصنف بذكر هذه الثلاثة على هذه الصفة إلا تكميل عدد ما أفتتح به الباب من الخيارات وسنتكلم على كل واحد منها إن شاء الله في فصله. [فصل فمن اشترى غائبا ذكر جنسه صح وله رده عقيب رؤية مميزة بتأمل لجميع غير المثلى إلا ما يعفى ويبطل بالموت والإبطال بعد العقد وبالتصرف غير الاستعمال وبالتعيب والنقص عما شمله العقد غالبا وجس ما يحبس وبسكوته عليها وبرؤية من الوكيل لا الرسول ولبعض يدل على الباقي ومتقدمة فيما لا يتغير وله الفسخ قبلها وفرعية ما قبض وإن رد والقول له في نفي المميزة والبائع في نفي الفسخ] . قوله: "فمن اشترى غائبا ذكر جنسه صح". أقول: لا يخفاك أنه قد صح النهي أن يبيع البائع ما ليس عنده كما قدمناه وبيع البائع للغائب هو من بيع ما ليس عنده وصح أيضا النهي عن بيع الغرر وهو ما لم يقف المشتري على حقيقته والغائب عن المشتري الذي لم يكن قد رآه هو غير واقف على حقيقته فلا بد أن يأتي دليل يخصص هذا البيع من النهيين ولم يثبت في ذلك شيء تقوم به الحجة فإن حديث: "من اشترى ما لم يره فله الخيار" في إسناده من هو مهتم بالوضع كما قال ابن حجر في التلخيص وقد تفرد بروايته مرفوعا الدارقطني والبيهقي وقالا المعروف أن هذا من قول ابن سيرين وأيضا

قد روي من طريق مرسلة وفيها أيضا من لا يقوم به الحجة فلم يبق في الباب ما يصلح للتعويل عليه ومع هذا فقد عرفناك غير مرة أن البيع الشرعي هو التراضي فعلى تقدير أنهما تراضيا على بيع الغائب فلمن وجده على غير الصفة التي رضي بها أن يتركه لإنكشاف عدم الرضى المحقق وهذا هو معنى خيار الرؤية عند المثبتين له ولكنهم يقولون قد انعقد البيع بنفس العقد ونحن نقول إن إنكشافه على خلاف الصفة التي وقع التراضي عليها قد عاد على التراضي السابق بالنقض فكأنه لم يكن وإذا حصلت الرؤية وحصل الرضا عندها فهذا هو البيع والشراء لا ما تقدمه. وأما قوله: "ويبطل بالموت" فهو غير مستقيم على قواعدهم التي يعملون عليها لأن الخيار حق ثابت لصاحبه ومجرد موته لا يصلح سببا لبطلانه على وارثه والحق كالملك في انتقاله عن الميت إلي وارثه فلا بد من وجود مخصص لهذه الكلية الثابتة بعمومات الكتاب والسنة وبالإجماع على الجملة وأما بطلانه بالإبطال بعد العقد فوجهه أن حق له وهو مفوض فيه وأما كونه يبطل بالتصرف فلكونه مشعر بالرضا به ولا وجه للفرق بين التصرف به والاستعمال لأن كلا منهما مشعر بالرضا بالمبيع وهكذا لا وجه لبطلانه بالتعيب والنقص عما شمله العقد إلا أن يكون ذلك بفعل من له الخيار فإنهما يشعران بالرضا بالمبيع ولا فائدة لقوله وجس ما يجس لأن ذلك قد دخل تحت قوله بتأمل لجميع غير المثلى والتأمل هو كل شيء يجسه وبما يهتدي به إلي معرفته والجس هو بمعنى التأمل لما يجس. وأما قوله: "وسكوته عقبها" فوجهه أنه مشعر بالرضا به وفيه ما فيه كما قدمنا في نظائره وأما الرؤية من الوكيل لها فلأنه ينكشف بها ما ينكشف برؤية الموكل إذا كان الوكيل له خبرة بمثل ذلك المبيع بخلاف الرسول المرسل لقبض المبيع فإنه غير قاصد للاطلاع على حقيقته ولا هو مبعوث من مرسله لهذا المقصد وأما ما ذكره من الرؤية للبعض يدل على الباقي فوجهه أن الشيء المتفق تقوم رؤية بعض أجزائه مقام الرؤية لجميعها وهكذا الرؤية المتقدمة فيما لا يتغير فإن الرائي قد وقف على حقيقته وليس المراد من الرؤية حال العقد وبعده إلا ذلك. وأما قوله: "وله الفسخ قبلها" فخبط على غير قياس فإن المناط عندهم هو أن يوجد المبيع غير مطابق لغرض المشتري وقبل الرؤية لا حصول لهذا المعنى. وأما قوله: "وفرعية ما قبض وإن رد" فلا وجه له لأن الرد قد كشف أن المبيع باق على ملك البائع وفوائده تابعة لأصله وما عللوا به لمثل هذا غير صالح لتسويغ مال الغير بغير طيبة من نفسه. وأما قوله: "والقول له في نفي المميزة وللبائع في نفي الفسخ" فوجهه أن الأصل عدم الرؤية وعدم كونها مميزة وعدم وقوع الفسخ فهذا حاصل ما ينبغي أن يقال على كلامهم في هذا الفصل تصحيحا وتسقيما والحق عندنا ما قررناه في أول الفصل فاعرفه فإنه مشى مع الدليل لا مع القال والقيل.

[فصل ويصح ولو بعد العقد لا قبله شرط الخيار مدة معلومة لهما أو لأحدهما أو لأجنبي فيتبعه الجاعل إلا لشرط ويبطل بموت صاحبه مطلقا فيتبعه المجعول له وبإمضائه ولو في غيبة الآخر وهو على خياره عكس الفسخ وأي تصرف لنفسه غير تعرف كالتقبيل والشفع والتأجير ولو إلي المشتري غالبا وبسكوته لتمام المدة عاقلا ولو جأهلا حتى انقضت] . قوله: "ويصح ولو بعد العقد لا قبله شرط الخيار". أقول: هذا الخيار قد جاءت به السنة الصحيحة منها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصحابه اختر" وربما قال: "أو يكون بيع الخيار"، وفي لفظ لهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يخبر أحدهما الآخر فإن خير أجدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع" وفي لفظ لهما أيضا: "المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار" ففي هاتين الروايتين قد جعل الخيار قسيما للتفرق فإذا تفرقا فقد وجب البيع إلا أن يكون بينهما خيار فإنه لا يجب البيع إلا بالاختيار وإن تفرقا. وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في هذا الاستثناء كما أوضحناه في شرح المنتقى على ثلاثة أقوال وأحسنها ثالثها وهو أن المراد بهذا الاستثناء أنهما بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يتخايرا ولو قبل التفرق وإلا أن يكون البيع بشرط الخيار ولو بعد التفرق قال ابن حجر في الفتح وهو قول يجمع التأويلين الأولين انتهى وفي الباب أحاديث كلها تدل على ثبوت خيار الشرط ومنها قصة حبان بن منقذ التي قدمنا ذكرها فإنها مصرحة بإثبات خيار الشرط بعد التفرق. وأما قوله: "مدة معلومة" فوجهه عدم استقرار البيع مع جهالة مدة الخيار والظاهر أنه يصح مع جهالة المدة وإذا تراخى من له الخيار عن الاختيار كان للآخر مطالبته لذلك وعند ذلك يستقر البيع أو يبطل. وأما قوله: "لهما أو لأحدهما أو لأجنبي" فصحيح لأن الأمر مفوض إليهما أو إلي من له الخيار. قوله: "ويبطل بموت صاحبه". أقول: عللوا هذا البطلان بما لا يصلح له فإن الحق الذي لصاحب الخيار يثبت لوارثه لأنه من جملة ما ينقل إلي الوارث كما قدمنا وعلى تقدير أنه لم يطلع على ما يختاره مورثه فله أن يختار ما يوافقه بحكم الخلافة منه لمورثه وانتقال الحق إليه. وأما قوله: "ويبطل بامضائه" فصحيح ولكن جعل هذا من المبطلات خلاف المعقول فإنه إذا أمضى البيع فهو معنى ما جعل له من الخيار لأنه تفويض له أن يختار أحد الأمرين أما

الفسخ أو الإمضاء أو هذا المبيع أو هذا فهو بالإمضاء قد فعل ما جعل له ولم يبطله فإن أرادوا أن معنى بطلان الخيار أنه لا يصح منه أنه يختار الفسخ بعد اختيار الإمضاء فهذا معلوم ولكنه شيء غير بطلان الخيار بل معناه أنه قد صح خياره وفعل أحد الأمرين فليس له أن يرجع عما قد فعله من الاختيار للإمضاء وما ذكره من الفرق بين الإمضاء والفسخ من اشتراط كون الثاني في وجه الآخر دون الفسخ لا وجه له من رواية ولا رأي. وأما قوله: "وبأي تصرف لنفسه" الخ فوجهه أن ذلك مشعر باختيار الإمضاء كما قدمنا. وهكذا قوله: وسكوته لتمام المدة لإشعاره بذلك على ما في هذا الإشعار من عوج فإن نسبة الدلالة إلي مجرد السكوت لا يكون إلا عند عوارض مشعرة بعدم تيسر النطق ولو بمجرد الحياء كما في قوله صلى الله عليه وسلم: في البكر "إذنها صماتها". وأما قوله: "وبردته حتى انقضت" فلا وجه له بل ينتقل هذا الخيار إلي من ينتقل إليه مال المرتد. [فصل وإذا انفرد به المشتري عتق عليه وشفع فيه وتعيب وتلف في يده من ماله فيبطل وإلا فالعكس والفوائد فيه لمن استقر له الملك والمؤن عليه وينتقل إلي وارث من لحق وولي من جن وصبي بلغ ويلغو في النكاح والطلاق والعتاق والوقف ويبطل الصرف والسلم إن لم يبطل في المجلس والشعفة] . قوله: "وإن انفرد به المشتري عتق عليه". أقول: المشتري بخيار شرط لا يدخل المبيع في ملكه إلا باختياره وهو قبل اختياره باق في ملك بائعه استصحابا للحال أو عملا باليد الأصلية فلا يعتق عليه ولا شفع ولا يتعيب ويتلف من ماله وإن كان في يده فهذه اليد غير مستقرة بل مشروطة بالاختيار للإمضاء وهكذا لا تكون المؤن عليه بل على البائع حتى يستقر ملك المشتري وهكذا الفوائد تكون للبائع حتى يستقر ملك المشتري وإذا استقر كانت له من وقت الاستقرار. أما قوله: "وينتقل إلي وارث من لحق وولي من جن وصبي بلغ" فصحيح أما وارث من لحق فلما قدمنا في مواضع من كون الخيار بجميع أقسامه يورث وأما انتقاله إلي ولي من جن فلقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282] . وأما انتقاله إلي صبي بلغ فلكونه صاحب الحق على الحقيقة وقد صار صحيح التصرف. قوله: "وبلغو في النكاح". أقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به

الفروج" إلا أن يشترط عليه ما يرفع موجب النكاح ويخالف مقتضاه وأما في الطلاق والعتاق والوقف فوجه عدم صحة الخيار في هذه الأمور أنه تقييد لإنشاء فاعلها والإنشاء لا يتقيد ولا أرى هذا التعليل صحيحا فإنه إذا قال طلقت فلانة إن اختارت ذلك أو أعتقت العبد إن اختار ذلك أو وقفت هذا على فلان إن قبل كان هذا التقييد بالشروط المذكورة للإنشاء المذكور صحيحا فكيف لا يصح أن يقيدها فاعلها باختيار نفسه إلي وقت يردد فيه فكره ويصحح فيه رأيه ولا يصح قياس هذا على نفوذ ما ينفذ منها من الهازل كما وردت السنة بذلك حسبما قدمنا لأن الهزل باب آخر والشرط وخياره باب آخر وقيل إن خيار الشرط لم يثبته الشارع إلا في البيع فيكون خاصا به لا بسائر المعاملات والإنشاءات ولكنه يقال إن كانت العلة المعأوضة لحق بالبيع ما فيه معأوضة وإن كانت العلة كون البيع فيه وجهتان لحق به ما كان كذلك ومن أثبت مثل هذا القياس في غير هذا الموضع فلا عذر له من القول به هنا. قوله: "ويبطل الصرف والسلم". أقول: علله المصنف باشتراط التقابض في المجلس والباب واسع من هذه فإنه قد تقدم في الربويات فإن اتفقا فيما اشترط الملك والحلول فعلى هذا أن خيار الشرط يبطل كل ما كان التقابض في المجلس شرطا فيه مع أن نفس اشتراط الخيار لا يستلزم عدم التقابض فإذا تقابضا وشرط الخيار لهما أو لأحدهما لم يكن ذلك مبطلا للصرف والسلم ولا لما هو في حكمهما في اشتراط التقابض بل إذا اختار من له الخيار الفسخ رد كل واحد منهما تلك العين التي قبضها كما هى أما إذا كان شرط الخيار مضمونا إليه تأخر قبض أحد البدلين كان باطلا إن لم يبطل في المجلس وكذلك المعاملة باطلة لما فيها من النسيئة التي يقول فيها صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة"، ولكن هذا البطلان ليس لشرط الخيار بل لتأخير القبض. وأما قوله: "والشفعة" فمبني على أنها تبطل بالتراخي وسيأتي إنشاء الله الكلام على هذا في كتاب الشفعة. [فصل وما ثبت أو حدث في المبيع قبل القبض وبقي أو عاد مع المشتري وشهد عدلان ذوا خبرة أنه عيب ينقص القيمة رد به ما هو على حاله حيث وجد المالك ولا يرجع بما أنفق ولو علم البائع] . قوله: "وما ثبت أو حدث في المبيع قبل القبض" الخ. أقول: الأصل في ثبوت خيار العيب والرد به ما أخرجه أحمد "6/80، 116"، وأبو دأود "3510"، وابن ماجة "2243"، من حديث عائشة أن رجلا ابتاع غلأما فاستغله ثم وجد به عيبا

فرده بالعيب فقال البائع غلة عبدي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الغلة بالضمان" وفي لفظ من حديثهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان وأخرجه بهذا اللفظ أحمد "6/49، 161، 208، 237"، وأهل السنن [أبو داود "3508"، الترمذي "1285"، النسائي "7/354، 255"، ابن ماجة "2242"] ، وصححه الترمذي "3/852"، وابن حبان وابن الجارود والحاكم وابن القطان ومن جملة من صححه ابن خزيمة كما حكى ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام وحكي عنه في التلخيص أنه قال لا يصح وقد ضعفه البخاري وقد ثبت الحديث بتصحيح هؤلاء الأئمة له وله في سنن أبي دأود ثلاث طرق اثنتان منهما رجالهما رجال الصحيح ومعنى قوله: "الخراج بالضمان" أن فوائد المبيع يملكها المشتري بسبب ضمانه للمبيع إذا أتلف عنده فالباء سببية وظاهر الحديث أن العيب الذي حصل به الرد هو عيب كان عند البائع والاعتبار بكونه عيبا في عرف الناس وعند أهل الخبرة منهم سواء كان ينقص القيمة أم لا. وأما قوله: "رد به ما هو على حاله" فالظاهر أنه يرد به على كل حال وسيأتي الكلام على ذلك وأما قوله: "ولا يرجع بما أنفق" فوجهه أنه أنفق على ملكه كما قالوا وفيه نظر لأن البائع إذا باع ما فيه عيب فقد حصل منه الغرر على المشتري فهو غرم لحق المشتري بسبب تغريره ولا سيما إذا كان عالما هو عاص ببيع المعيب مخالف للشريعة كما في حديث: "لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه له"، أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني والحاكم والطبراني من حديث عقبة من عامر قال ابن حجر في الفتح وإسناده حسن وأخرج أحمد وابن ماجة والحاكم في المستدرك من حديث واثلة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لأحد أن يبيع شيئا إلا بين ما فيه ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه"، وفي إسناده مقال وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعأما فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال: "من غشنا فليس منا"، وأخرج الترمذي والنسائي وأبي ماجة وابن الجارود عن العداء بن خالد بن هوذة قال: كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا: "هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبدا أو أمة لأداء ولا غائلة ولا خبثه بيع المسلم المسلم". وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان"، فقد قدمنا أن المراد به ضمان المبيع إذا تلف فكل ما انتفع به من فوائد المبيع فهو إلي مقابل هذا الضمان لا إلي مقابل الإنفاق. [فصل ولا رد ولا أرش إن تقدم العلم ولو أخبر بزوال ما يتكرر أو رضي ولو بالصحيح منه أو طلب الإقالة أو عالجه أو زال معه أو تصرف بعد العلم بأي تصرف غالبا أو تبرأ البائع

من جنس عينه أو قدر منه وطابق لا مما حدث قبل القبض فيفسد] . قوله: "ولا رد ولا أرش" الخ. أقول: هذا صحيح لأن تقدم علم المشتري بالعيب وإقدامه على الشراء بعد العلم يدل على أنه قد رضي به دلالة بينة واضحة. وأما قوله: "أو أخبر بزوال ما يتكرر" فلا بد أن يعلم أن ذلك العيب مما يتكرر أو يبين له البائع ذلك وإلا ثبت له الرد وأما إذا رضي بالعيب فليس بعد الرضي شيء. وأما قوله: "ولو بالصحيح منه" فغير مسلم فإن الرضا بالصحيح دون المعيب لا يستلزم الرضا بالمعيب ولا يكون تفريق الصفقة موجبا لعدم الرد وإذا كان على البائع في التفريق ضرر كان المانع هو هذا لا مجرد تفريق الصفقة فيما لا ضرر في تفريقه وقد قدمنا عند قول المصنف ومتى انضم إلي جائز البيع غيره فسد ما قد عرفته. وأما ما ذكره من طلب الإقالة والمعالجة والتصرف بعد العلم ففي بطلان الرد الثابت شرعا بهذه الأمور نظر لأن إشعار هذه بالرضي بالعيب غير مسلم بل قد بطلت الإقالة محاسنه وطلبا لرضاء البائع بدون خصومه وقد يعالجه لرجاء أن يذهب فلا يرده فإذا لم يذهب فهو على حجته وهكذا التصرف بشيء من فوائده فإن ذلك مما أباحه له الشرع كما تقدم في الحديث. وهكذا إذا تصرف بالعين نفسها ثم ردت عليه بذلك العيب فحقه في الرد ثابت بالشرع ولا يمنع عنه إلا دليل من الشرع أو الرضا المحقق أو ما يشعر بالرضا المحقق وهو تقدم العلم بالعيب وهكذا إذا تبرأ البائع من عيب معين أو من جنس من أجناس العيوب فإن المشتري إذا قبل ذلك فقد رضي لنفسه إذا لم يكن العيب الموجود إلا ما تبرأ منه البائع لا إذا انكشف زائدا عليه ثبت له الرد بالزيادة. وأما قوله: "لا مما حدث قبل القبض" فيفسد ففيه نظر لأن المشتري رضي لنفسه وهو بالغ عاقل والرضا هو المناط الشرعي في البيع فليس لنا أن نقول لا حكم لهذا الرضا لأنه منع لمناط شرعي بغير دليل وأما تعليل ذلك بأنه شرط مقارن للعقد فيقضي فساد عقد البيع فقد عرفت مما قدمنا في الشروط ما يندفع به هذا التعليل. [فصل ويستحق الأرش لا الرد بالرضا بتلفه أو بعضه في يده ولو بعد امتناع البائع عن القبض أو القبول مع التخلية وبخروجه أو بعضه عن ملكه قبل العلم ولو بعوض ما لم يرد عليه بحكم وبتعيبه معه بجناية يعرف العيب بدونها ممن تضمن جنايته وفي عكسها يخير بين أخذه وأرش القديم أو رده وأرش الحديث إلا عن سبب قبل القبض فلا شيء فإن زال

أحدهما فالتبس أيهما تعين الأرش ووطؤه ونحوه جناية وبزيادته معه ما لا ينفصل بفعله وفي المنفصل يخير بين أحد الأرش أو القلع والرد فإن تضرر بطل الرد لا الأرش ولو كان الزائد بها ثمن المعيب قيميا سليما لم تبطل واستحق قيمة الزيادة كلو تضررت الزيادة وحدها فيها وأما بفعل غيره فيرده دون الفرعية مطلقا وكذا الأصلية إلا بحكم فيضمن تالفها] . قوله: "ويستحق الأرش لا الرد إلا بالرضا بتلفه أو بعضه في يده". أقول: أما تلفه فظاهر لأن الأرش هنا غاية ما يمكن بعد تلف المبيع وأما إذا تلف بعضه فله رد الباقي وأخذ أرش التالف لأن الشرع قد أثبت له رد المعيب كله فرد بعضه بالأولى وما عللوا به من تفريق الصفقة لا وجه له. وأما قوله: "ولو بعد امتناع البائع عن القبض أو القبول مع التخلية" فظاهر لأن المشتري قد استحق الرد مع البقاء والأرش مع التلف فلا فرق بين أن يكون التلف بعد الرد أو قبله ولا بين رضا البائع بالرد أو امتناعه. قوله: "وبخروجه أو بعضه عن ملكه قبل العلم ولو بعوض". أقول: إذا خرج عن ملكه قبل العلم بالعيب فهو على حجته وقد أثبت له الشرع رد المعيب وخروجه عن ملكه قبل علمه بعيبه لا يبطل حقه الثابت بالشرع فله استرجاعه ورده بعينه بذلك العيب ولم يمنع من الرد رواية صحيحة ولا رأى مستقيم وأما إذا أخرجه عن ملكه بعد العلم بالعيب فإن رد عليه لذلك العيب فله رده على البائع منه وأن طولب من المشتري الآخر بالأرش فله أن يرجع به على البائع منه لأنه غرم لحقه بسببه وإن رضي به المشتري منه ولم يطالبه برد ولا أرش فقد صح البيع ولم يلحقه نقص بسبب العيب فلا يطالب البائع منه بشيء والحاصل أن مثل هذه المسائل مما يقضي منه العجب لأنها مبنية على غير أساس وأعجب من هذا من يدعي الإجماع على مثل هذه الخرافات. قوله: "وبجناية يعرف العيب بدونها ممن يضمن جنايته". أقول: الجناية مضمونة على الجاني سواء كان المشتري أو غيره وذلك غير مانع من الرد فيرده للمشتري مع الأرش اللازم وكأنها وقعت الجناية على المبيع وهو في ملك البائع ولا يكون مثل هذا مبطلا لحق المشتري الثابت بالشرع وليس ها هنا رواية ولا رأي صحيح يصلحان للمنع من الرد. وأما قوله وفي عكسها يخير الخ فهذا صحيح لأن الحق للمشتري فما رضي به لزمه ولزم البائع قبوله إلا أن يختار رد المبيع إليه بلا أرش فله ذلك. وأما قوله: "إلا عن سبب قبل القبض فلا شيء" فوجهه أن ذلك التعيب كان لهذا السبب ولا اختيار للمشتري في لكونه عن السبب المتقدم على العقد. وأما قوله: "فإن زال فالتبس أيهما تعين الأرش" يعني على البائع للمشتري والأولى أن

يقال تعين الرد للمبيع على بائعه بالدليل الصحيح وإذا نقص عن قيمته وقت الشراء بسبب من المشتري كان للبائع المطالبة بأرش النقص إلا أن يختار المشتري بقاءه لديه وأخذ الأرش فله ذلك. وأما قوله: "ووطؤه ونحوه جناية" فصحيح ولكنه إذا أوقع الحمل امتنع الرد لوجود سبب العتق وله أن يرجع بالأرش لأن المفروض أنه وطيء قبل العلم بالعيب وأما إذا لم يقع الحبل فله الرد ويسلم أرش النقص إن حصل بذلك نقص. قوله: "وبزيادته معه ما لا ينفصل". أقول: لا وجه لجعل هذه الزيادة مبطلة للرد بل نقول للمشتري الرد بالدليل المتقدم وهذه الزيادة مضمونة على البائع لأنه غره ببيع المعيب منه وإن اختار المشتري الأرش فله ذلك وأما الزيادة المنفصلة فإن شاء المشتري أخذها ورد المبيع وإن شاء تركها ورد المبيع وليس له أن يطالب بالأرش لأن الزيادة ها هنا منفصلة ولا مانع له من أخذها إلا يكون قد حدث في المبيع نقص من جهة أخرى فله إذا اختار بقاءه لديه أن يطالب بالأرش. وأما قوله: "فإن تضرر بطل الرد لا الأرش" فلا وجه لبطلان الرد بل المشتري بالخيار إن شاء رده بزيادة وإن شاء أخذ الأرش إن كان في المبيع ما يقتضي النقص الموجب للأرش. وأما قوله: "ولو كان الزائد بها" إلي آخر الفصل بلا يخفاك أنه خروج عن البحث ولكن الكلام في هذه الزيادة كالكلام في الزيادة في المبيع بلا نطول البحث بما لا طائل تحته. [فصل وفسخه على التراخي ويورث وبالتراضي وإلا فبالحكم بعد القبض ولو مجمعا عليه وهو ينوب عن الغائب والمتمرد في الفسخ والبيع لتوفير الثمن أو خشية الفساد وفسخه إبطال لأصل العقد فترد معه الأصلية ويبطل كل عقد ترتب عليه وكل عيب لا قيمة للمعيب معه مطلقا أوجب رد جميع الثمن لا بعد جناية فقط فالأزش فقط وإن لم يعرف بدونها ومن باع ذا جرح يسري فسرى فلا شيء على الجارح في السراية به إن علما أو أحدهما والعكس إن جهلا وتلف أورد بحكم وهو عيب وإذا تعذر على الوصي الرد من التركة فمن ماله] . قوله: "وفسخه على التراخي" أقول: وجه ذلك أن الرد بالعيب حق ثابت للمشتري بالشرع فما دام المعيب موجودا أو العيب ظاهرا كان الرد ثابت وإن طالت المدة إلا أن يرضى به أو يسقطه ولا وجه لتقييد مدة هذا الخيار بثلاثة أيام استدلالا بما في حديث المصراة وفي حديث حبان بن منقذ لأن الأول من خيار فقد الصفة والثاني من خيار الخديعة والغرر وهكذا يورث عنه كما قدمنا غير مرة لأن ما كان

للمورث فهو ثابت للوارث ومنتقل إليه بالأدلة الثابتة في الكتاب والسنة وأما كون فسخه بالتراضي وإلا فبالحكم فظاهر لأنه إذا حصل التراضي أغني عن التشاجر وإذا لم يحصل ووقع التشاجر احتاجا إلي رفع الخلاف ودفع الخصومة بالحاكم ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل القبض أو بعده ولا بين أن يكون بالعيب مجمعا عليه أو مختلفا فيه وأما كون الحاكم ينوب عن الغائب والمتمرد في الفسخ فظاهر لأنه لو لم يكن ذلك له لحصل الإضرار بمن له الفسخ وهو منكر ودفع المنكر واجب والحاكم أقدر الناس عليه ولكن كان الأولى أن يقول المصنف وهو يحكم على الغائب والمتمرد بالفسخ إذ لا معنى للنيابة ها هنا وسيأتي تكميل الكلام في باب القضاء. وكما يحكم عليه بالفسخ يحكم عليه بالبيع لتوفير الثمن أو لخشية الفساد وأما كون فسخ الحاكم إبطالا لأصل العقد فصحيح إذا كان الحكم بوجه الحق ولا وجه للتقييد بقوله ويرد معه الأصلية بل لا يرد معه الأصلية ولا الفرعية لأن الخراج بالضمان كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما كونه يبطل كل عقد ترتب عليه فظاهر لأن صحة المتأخر مشروطة بصحة المتقدم. قوله: "وكل عيب لا قيمة للمعيب معه" الخ. أقول: هذا كلام قليل الجدوى لأن مجرد وجود العيب سوغ به رد المبيع وإن لم ينقص به القيمة كما قررنا فيما سبق أو نقصت به كما تقدم للمصنف ورد المعيب على كل حال يوجب رد جميع الثمن. وأما قوله: "لا بعد جناية فالأرش فقط" فقد تقدم له في الفصل الذي قبل هذا ما يغني عنه. وأما قوله: "وإن لم يعرف بدونها" فقد جعله فارقا بين الكلام ها هنا وبين ما تقدم وليس لهذا الفرق به ومن منقول ولا من معقول وقد قدمنا ما هو الصواب. قوله: "ومن باع ذا جرح يسري فسري" الخ. أقول: لا يخفاك أن الجاني على ملك الغير قد لزمه أرش الجناية بالشرع فلا يسقط عنه إلا بإسقاط لا بمجرد بيع المالك أو شراء المشتري منه فإن هذا لا يصلح مسقطا لما هو لازم هذا إذا كان الجاني على ذلك أجنبيا أما إذا كان الجاني هو المالك الأول ثم باعه إلي آخر وهذا باعه إلي مشتر فلا شك أن سراية الجناية عيب ثابت من عند البائع الأول فالرد به ثابت فإن علم المشتري منه بالسراية واشتراه منه بهو كما قدمنا في تقدم العلم بالعيب وهكذا إذا علم المشتري منه بأن مثل هذا الجرح يسري فهو كذلك فلا رد ولا أرش وإن جهلا كان لكل واحد منهما الرد بذلك العيب وهو السراية فإن تعذر الرد بوجه فالأرش وبالجملة فهذه المسائل أكثرها تطويل بلا طائل مع كون غالبها على شفا جرف هار وقد تقدم ما يغني عن هذا فإن قوله ولا رد ولا أرش إن تقدم العلم يشمل كل عيب ومنه الجرح الذى يسري ويغني عن قوله والعكس إن جهلا وتلف قوله في الفصل المتقدم قبل هذا ويستحق الأرش لا الرد بتلفه الخ وكون المسألة مفروضة في بائعين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أو زيادة على ذلك لا يقتضي شغله الحيز وإتعاب الطلبة بإن البحث واحد.

قوله: "وإذا تعذر على الوصي الرد من التركة فمن ماله". أقول: لا وجه لهذا من معقول ولا من منقول فالوصي لا جناية منه ولا تفريط ولا تغرير ولا تدليس فبأي وجه حل تغريمه بإنه إذا تعذر عليه الرد من التركة لثمن ما باعه كان صاحب ذلك الثمن من جملة من يتعلق له حق بتركة الميت ويصير كأحد الغرماء يصير له من الأسوة بقدر ما هو له من الثمن إذا لم يمكن أن يوجد في التركة ما يقوم بجميع الثمن هذا على تقدير أن العين المبيعة التي اشتراها منه الوصي قد تلفت أما لو كانت باقية كان أحق بها كما حكم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "من وجد سلعته عند مفلس فهو أحق بها"، والميت الذى صارت تركته مستغرقة بالدين له حكم المفلس ولتركته حكم ما في يد المفلس. [فصل وإذا اختلف المشتريان فالقول في الرؤية لمن رد وفي الشرط لمن سبق والجهة واحدة فإن اتفقا فالفسخ لمن رضي ويلزمه جميعا وله أرش حصة الشريك] . قوله: "والقول في الرؤية لمن رد". أقول: وجه ذلك أنه قد ثبت له حق الرد ولا يلزمه رضا صاحبه وكذلك صاحبه لا يلزمه عدم رضا شريكه به فكان لمن اختار الفسخ استيفاء حقه بالرد فإن وافقه الراضي فذاك وإن اختار عدم الفسخ كان له ذلك إلا أن يكون في رد البعض وإمساك البعض ضرر على البائع فإنه يجب دفع الضرر عنه بإجبار الشريكين على الاتفاق أما فسخا أو رضا وهكذا الكلام في خيار الشرط ولا وجه للفرق ولا دل عليه دليل عقل ولا نقل والحكم في السبق والاتفاق منهما واحد لا تأثير لأحدهما في الترجيح لأحد الجانبين أصلا وهكذا الكلام في العيب لكل واحد منهما اختياره إلا فيما يضر بالبائع والحاصل أن هذه المسائل مبنية على خيالات مختلة وعلل معتلة وما بمثل هذه الأمور الزائفة تثبت أحكام الله عز وجل.

باب ما يدخل في المبيع

باب ما يدخل في المبيع [فصل يدخل في المبيع ونحوه للمماليك ثياب البذلة وما تعورف به وفي الفرس العذار فقط وفي الدار طرقها وما ألصق بها لينفع مكانه وفي الأرض الماء إلا لعزف والسواقي

والمساقي والحيطان والطرق المعتادة إن كانت وإلا ففي ملك المشتري إن كان وإلا ففي ملك البائع إن كان وإلا فعيب ونابت يبقى سنة فصاعدا إلا ما يقطع منه إن لم يشترط من غصن وورق وثمر ويبقى للصلاح بلا أجرة فإن اختلط بما حدث قبل القبض قيل بسد العقد لا بعده فيقسم ويبين مدعي الزيادة والفضل وما استثنى أو بيع مع حقه بقي وعوض والقرار لذي الأرض وإلا وجب رفعه ولا يدخل معدن ولا دفين ولا درهم في بطن شاة أو سمك والإسلامي لقطة إن لم يدعه البائع والكفري والدرة للبائع والعنبر والسمك في سمك ونحوه للمشتري] . قوله: "باب: ما يدخل في المبيع وتلفه واستحقاقه يدخل في المبيع ونحوه للمماليك" الخ. أقول: هذا وإن كان ردا إلي مجرد العادة فهي في مثل هذا متبعة لأنها كائنة في ضمير كل واحد من المتبايعين فإذا قال بعت منك العبد أو الأمة فمعلوم لكل واحد منهما أنه لا بد أن يكون عليهما ما يستر عورتيهما ويواري ما جرت عادة الناس في مماليكهم بمواراته على اختلاف في ذلك بين أعراف أرباب بالمناصب والحشمة والثروة وبين غيرهم فقد يسمح الغني ومن له رياسة بما لا يسمح به الفقير ومن هو من أهل الحرف الدنية والأعراف الجارية بين الناس التى لا يخالف الشرع قد أمر الله سبحانه في كتابه العزيز بالرد إليها كما في قوله في غير موضع بالمعروف عل أنه قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر بلفظ: " ومن ابتاع عبدا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع". ولكن الباب مبني على الأعراف ومن المرجوع إليه في الأعراف بيع الحيوانات الفرس وغيرهما فما كان متعارفا به كان في حكم المنطوق به ولا وجه لقول المصنف وفي الفرس العذار فقط بل المتوجه الرد إلي العرف كائنا ما كان وعرف أهل بلد لا يلزم أهل بلد آخر إذا تخالفت أعرافهم. وأما قوله: "وفي الدار طرقها" فليس دخول الطرقات لمجرد العرف بل هو للضرورة التى لا يمكن الانتفاع بالمبيع إلا بها فلو باع الدار من دون طرقها كان في منع المشتري من الطريق التى لا يمكن دخول الدار إلا منها إبطال لفائدة الدار وقد تقدم أن بيع ما لا نفع فيه لا يصح وهكذا قوله وما ألصق بها لينفع مكانه فإن ذلك داخل في مسمى الدار لاشتمالها على جميع أبوابها وطاقاتها ونحوها حال البيع لمن أدعى أن شيئا من ذلك خارج عن المبيع لم يقبل منه إلا ببرهان وهكذا قوله وفي الأرض الماء الخ فإنه وإن كان العقد واقعا على مجرد الأرض فدخول ما لا يمكن الانتفاع بها إلا به هو من لوازم البيع ومعلوم أن سواقي الأرض ومساقيها والماء الذى تشرب منه تابع للأرض وإذا جرت الأعراف بما يخالف هذا كان ذلك في حكم الاستثناء لتلك الأمور أو لبعضها وهكذا طرق الأرض تابعة لها ويتوقف الانتفاع بها عليها كما

تقدم في الدار فإن اشترى الأرض ولا طريق لها عالما بذلك فقد رضي بالعيب ولا رد ولا أرش وإن كان جأهلا كان له فسخها لأن ذلك عيب من أعظم العيوب بل لم ينعقد البيع من الأصل لأنه لم يرض بأرض لا طريق لها فقد كشف عدم وجود الطريق على أن الرضا السابق كلا رضا فلم يوجد المناط الشرعي الذى هو قوله عز وجل: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، بلا وجه لقوله ففي ملك المشتري إن كان وإلا ففي ملك البائع إن كان بل الأعتبار لما ذكرناه من علم المشتري بعدم الطريق أو عدم علمه. قوله: "وثابت يبقى سنة فصاعدا". أقول: ما كان هكذا فالظاهر أنه داخل في بيع الأرض غير مستثنى ولهذا ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع"، فأفاد أن ثمرة النخل قبل أن يؤبر للمشتري وإذا كان هذا في نفس الثمرة فبالأولى الشجر الثابت الذى يراد به البقاء فلا يقال إنه دخل بالعرف بل بنفس العقد على الأرض وأما ما يقتطع منه من غصن وورق وثمر فينبغي إلحاقه بثمر النخلة فإن كان قد وقع من البائع فيه عمل كالعمل الواقع بالتأبير فهو للبائع وإلا فهو للمشتري وإذا قد فعل فيه البائع عملا كذلك فهو له ويستحق بقاءه حتى يصلح ولا يلزمه أجرة للمشتري لأن الشرع قد جعل ذلك له فلا بد من بقائه حتى يصلح لأن ذلك من تمام كونه له وإذا اختلط هذا الذي قد صار للبائع بالعمل فيه بغيره مما لا عمل له فيه كان الرجوع في ذلك إلي أهل الاختيار فإن ميزوا بينهما فذاك وإن لم يميزوا جعلوا للبائع بقدر ما يكون في أمثال ذلك المبيع وقت البيع وللمشتري ما عدا ذلك فإن التبس الأمر من كل وجه فكما قال المصنف يقسم ويبين مدعي الزيادة. قوله: "وما استثنى أو بيع من حقه" الخ. أقول: هذا مرجعه التراضي بين البائع والمشتري فإن تراضيا على مقدار البقاء لزم ما تراضيا عليه وإن لم يتراضيا فإن جرى عرف بين أهل بلدها بالبقاء أو عدمه كان العمل على ذلك وإن لم يحصل التراضي ولا وجد العرف رفع المستثني ما استثناه ولا حق له في البقاء وأما ما بيع مع حقه فيبقى الحق ثابتا للمشتري وإذا تلف فإن جرت الأعراف باستمرار ثبوتها للمشتري وتعويضها إذا تلفت أو بعضها كان للمشتري ذلك لأن العرف معلوم لكل واحد منهما عند العقد وإن لم يكن منها بل من التي ينتفع بها ما دامت باقية فليس للمشتري التعويض والأعراف في هذا الباب محكمة كما قدمنا وأما كون القرار لذي الأرض فشيء معلوم لا يحتاج إلي النص عليه. وأما قوله: "وإلا وجب رفعه" فقد عرفت مما قدمنا أنه لا بد من التفصيل. قوله: "ولا يدخل معدن". أقول: وجه هذا أن البائع لو علم به لم تطب نفسه بالثمن الذى تراضيا عليه فقد كشف ذلك عن اختلال التراضي الذي هو المناط في نقل الأملاك وإذا اختل فلا بيع فلا بد بعد

انكشاف المعدن والدفين ونحوهما من التراضي عن البيع بثمن تطيب به نفساهما فإن وقع منهما ذلك كان بيعا جديدا وهكذا الكلام فيما وجد في بطن الشاة والسمك أنه مستحق للبائع وأما التفصيل بين كونه إسلاميا أو كفريا فلا دخل له في الباب بل ذلك حكم أخر يعمل البائع فيه بما يقتضيه الشرع وهكذا حكم العنبر في سمك ونحوه والحاصل أن من عرف أن مناط أحكام البيع الشرعية هو التراضي لم يستبعد هذا ومن خفي عليه فمن نفسه أتي. [فصل وإذا تلف المبيع قبل التسليم النافذ في غير يد المشتري وجنايته فمن مال البائع قيل وإن استعمله فلا خراج وإن تعيب ثبت الخيار وبعده من مال المشتري ولو في يد البائع وإذا استحق رد لمستحقه فبالإذن أو الحكم بالبية أو العلم يرجع بالثمن وإلا فلا وما تلف أو استحق منه ما ينفرد بالعقد فكما مر فإن تغيب به الباقي ثبت الخيار] . قوله: "وإذا تلف المبيع قبل التسليم النافذ" الخ. أقول: أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بأنه إذا حصل التفرق من مجلس العقد فقد وجب البيع ومعلوم أن وجوب البيع يقتضي دخوله في ملك المشتري وخروجه من ملك البائع وإذا قد دخل في ملك المشتري صار له غنمه وعليه غرمه كسائر أمواله فيتلف من ماله ولم يأت دليل يدل على أنه لا بد من القبض وأنه لا يدخل في ملكه إلا به ولم ترد الأدلة إلا في نهي البائع عن أن يبيع ما لم يكن في قبضه وما ليس عنده إذا تقرر لك أن التفرق من مجلس العقد موجب للبيع كما صرحت بذلك الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما وأنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن من ذلك إلا بيع الخيار فكيف يقال إن المبيع يتلف من مال البائع بعد البيع قبل القبض فإن هذا من غرائب الأحكام ومع كونه مخالفا للدليل فهو أيضا مخالف للرأي المستقيم الجاري على نمط الاجتهاد لأن تلف ما قد صار في ملك لا يتلف إلا من ملكه وتضمين غير المالك ظلم له. فالحاصل أنا نمنع أولا كونه يتلف من مال البائع بعد التفرق من مجلس العقد مسندين هذا المنع إلي الدليل الناطق بأنه وجب البيع بالتفرق ثم نمنع ثانيا كون القبض شرطا فلا عذر للقائل بأنه يتلف من مال البائع أخذا من الدليل المنتهض لما منعناه فإن قلت قد ثبت فى صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بعت من أخيك تمرا فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك بغير حق"، وفى لفظ لأحمد وأبى دأود والنسائى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الجوائح قلت قد ثبت فى الصحيحين وغيرهما من حديث أنس ما يدل على تقييد هذا الوضع بما إذا وقع البيع قبل الصلاح ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم

نهى عن بيع الثمرة حتى تزهى, قالوا: وما تزهى؟ قال: "تحمر" وقال: "إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ " فهذا الوضع قد ترتب على بيع منهي عنه وما كان منهيا عنه فهو غير صحيح والكلام هنا في بيع صحيح وجب بالتفرق وهذا فارق واضح لا يصح معه القياس ويؤيد هذا ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبى سعيد قال أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه" فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" ولم يوجب صلى الله عليه وسلم على البائع منه للثمار أن يرد الثمن الذى قبضه منه ولو سلمنا تنزلا لكان وضع الجوائح مختصا بما تلف بالآفات السمأويه كما تقدم فى حديث أنس بلفظ: "إذا منع الله الثمرة" وأما إذا تلف المبيع بجناية فإن كانت من المشتري فقد جنى على ماله وأتلفه وإن كان الجاني غيره كان ضمانة عليه سبب الجناية سواء كان الجاني هو البائع أو غيره. قوله: "وإذا استحق رد لمستحقه" الخ. أقول: هذا أمر قد قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرج أحمد وأبو دأود والنسائي من حديث سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به ويتبع البيع من باعه"، وفي لفظ أحمد وابن ماجه: "إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه فوجده بيد رجل بعينه فهو أحق به ويرجع المشتري على البائع بالثمن"، ورجال إسناد الحديث ثقات وهو من سماع الحسن عن سمرة وفيه خلاف ولكن الحسن إمام لا يروي ما لم يثبت وهذا مبني على أنه قد حصل التصادق على أنه ملك ذلك المدعي له أما إذا وقع الخلاف فلا بد من قيام الشهادة على ذلك ولهذا قال المصنف فبالإذن أو الحكم بالبينة أو العلم يرجع الثمن وإلا فلا. وأما قوله: "وما تلف أو استحق.." الخ فإذا أمكن رد البعض المستحق فهو الواجب وإن تعذر بوجه من الوجوه اختص به أحدهما وسلم للآخر قدر نصيبه من القيمة وإن اختلفا قرع بينهما وأما تلف بعض المبيع قبل التسليم فقد عرفت الكلام في تلف المبيع قبل التسليم وهو أعم من أن يكون التالف كله أو بعضه. [فصل ومن اشترى مشارا إليه موصوفا غير مشروط صح وخير في المخالف مع الجهل فإن شرط فخالف ففي المقصود فسد وفي الصفة صح مطلقا وخير في الأدنى مع الجهل وفي الجنس فسد مطلقا وفي النوع إن جهل البائع وإلا صح وخير المشتري فإن لم يشر وأعطي خلافه ففي الجنس سلم البائع المبيع وما قد سلم مباح مع العلم قرض فاسد مع

الجهل وفي النوع خير في الباقي وترادا في التالف أرش الفضل مع الجهل وحيث يخير المشتري في الأدنى وقد بذر جأهلا فله الخيارات] . قوله: "من اشترى مشارا إليه موصوفا" الخ. أقول: هذا قد تقدم ما يغني عنه وإذا كان المبيع على غير الصفة التى ذكرها البائع ثبت للمشتري خيار فقد الصفقة وهو كما قدمنا نوع من أنواع خيار الغرر وما ذكره من قيد الجهل فلا بد منه لأنه لو علم كان العلم بكونه على غير تلك الصفة مبطلا للخيار فلا رد ولا أرش. وأما قوله: "فإن شرط فخالف ففي المقصود فسد" فالظاهر أنه لا عقل أصلا ولا اعتبار بالواقع لأن التراضي الذي هو المناط للبيع وقع مقيدا بذلك الشرط فمع عدمه انكشف عدم التراضي ولا فرق بين أن يكون موافقا للمقصود أو مخالفا له وهذه الفروق لا ترجع إلي دليل ولا شبهة دليل فلا تشغل نفسك بها وهكذا لا فرق بين جنس ونوع فالحاصل أن عدم وجود الصفة مع كونها مشروطة يوجب بطلان البيع ومع عدم الشرط يوجب ثبوت الخيار إلا أن يعلم بعدمها والإشارة لا تأتي بفائدة قط ولا يترتب عليها حكم وإثبات الأحكام بالخيالات يكون هكذا والمقلد المسكين يظن أن هذه الخرافات في أم الكتاب اللهم غفرا.

باب البيع غير الصحيح

باب البيع غير الصحيح [فصل باطله ما اختل فيه العاقد أو فقد ذكر الثمن أو المبيع أو صحة تملكهما أو العقد والمال في الأول غصب وفي التاليين كذلك إلا أنه يطيب ربحه ويبرأ من رد إليه ولا أجرة إن لم يستعمل ولا يتضيق الرد إلا بالطلب وفي الرابع مباح بعوض فيصح فيه كل تصرف غالبا وارتجاع الباقي وفيه القيمة وليس بيعا وفاسده ما اختل فيه شرط غير ذلك ويجوز عقده إلا مقتضي الربا فحرام باطل وما سواه فكالصحيح إلا أنه معرض للفسخ وإن تلف ولا يملك إلا بالقبض بالإذن وفيه القيمة ولا يصح فيه الوطء والشفعة والقبض بالتخلية] . قوله: "باطله ما اختل في العاقد". أقول: قد تقدم للمصنف في شروط البيع وما يجوز منه وما لا يجوز وما يصح منه وما لا يصح ما يغني عن أفراده لهذا الباب فكأنه أراد مزيد الفائدة بالتكرار مع التذكر لما سلف وذكر ما لكل واحد من الصحيح والباطل والفاسد من الأسباب وما يترتب على ذلك من الأحكام التى

ذكرها ها هنا ولا شك أن العاقد إذا اختل باختلال ما هو معتبر فيه صار وجود العقد منه كعدمه لأنه فاقد للحقائق إن كان صبيا أو مجنونا فلا يوجد منه الرضا المعتبر وهكذا إن كان غير مالك للمبيع ولا مأذون ببيعه فما فعله كالعدم وقد قدمنا في عقد الفضولي مما فيه كفاية وهكذا إذا لم يذكر بين المتبايعين ثمن فإنه لا يوجد التراضي المعتبر لأن البائع لا بد أن يرضى بالعوض المعلوم من الثمن والمشتري لا بد أن يرضى بذلك المبيع في مقابلة ما دفعه من الثمن وهكذا إذا لم يذكر بينهما مبيع معروف فإن ذلك التبايع منهما إنما هو من باب العبث واللعب وليس لذكر مثل هذه الأمور فائدة فأنها معلومة للعامي فضلا عمن لديه نصيب من علم. وأما قوله: "أو صحة تملكهما" فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى بل وقدمنا الكلام على غيره مما هو مذكور ها هنا. قوله: "والعقد". أقول: هو ما اجتمع فيه عند المصنف ما تقدم في أول البيع وقد عرفناك أن البيع الذي ثبت في الكتاب والسنة هو حصول التراضي وكررنا لك هذا تكريرا كثيرا لدفع ما يذكرونه مما يخالفه والبيع الذي يسمونه بيع المعاطاة ويجعلونه غير مملك هو الثمرة المستفادة لهم من تلك التى دونوها بغير دليل من عقل ولا نقل وهذه المعاطاة التي تحقق معها التراضي وطيبة النفس هى البيع الشرعي الذي أذن الله به والزيادة عليه هي من إيجاب ما لم يوجبه الشرع ولا دليل عليه وأما الاستدلال لهذا العقد الذي يعتبرونه على الصفة التى ذكروها بمثل ما ورد في النهي عن بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة فمن الغلط البين فإن النهي عن هذه الأمور لكونها من بيع الغرر ولعدم استقرار البيع معها وعدم تحقق المناط الشرعي وهو التراضي وهكذا الاستدلال بمثل ما كان يقع في أيام النبوة من قول البائع بعت منك هذا أو نحوه فإنا لا ننازع في دلالة مثل هذا اللفظ على التراضي إنما ننازع في كونه لا يدل على التراضي إلا ما كان على تلك الصفات التى ذكروها فإن هذا من تحجر الواسع وقد قدمنا أن كل مشعر بالتراضي يحصل به البيع والشراء الشرعيان حصولا لا يخفى على عارف ولو كان بالإشارة من قادر على النطق أو بالكتابة أو بمجرد التقابض من غير لفظ أصلا إذا عرف من ذلك التراضي. قوله: "والمال في الأول غصب...." الخ. أقول: لا بد من تقييد الأول بأن قابض المال علم أن البائع منه ممن لا يصح بيعه أولا حكم لمن وقع منه من الرضا فلا يتحقق الاستيلاء على مال الغير عدوانا الذى هو معنى الغضب عند المصنف إلا بهذا وأما في الثاني والثالث فإذا كان القبض مأذونا فيه من جهة مالكه فلا يكون بطلان البيع مستلزما للغصب بل يكون في يد القابض كما يكون في يده ما هو مأذون له بقبضه وأما أنه يطيب له ربحه فلا لأنه مال الغير والربح ربح ما لم يضمن وقد صح النهي عنه كما قدمنا وأما كونه يبرأ من رد إليه فذلك لظاهر اليد الثابتة له وأما كونه لا يتطبق الرد إلا بالطلب فظاهر لأن الشيء في يده بأذن مالكه وهكذا عدم لزوم الأجرة له مع عدم الاستعمال لأن يده ليست يد عدوان.

وأما قوله: "وفي الرابع ... " الخ فقد عرفنا أن ذلك بيع شرعي مع وجود المناط فلا وجه لما ذكره. قوله: "وفاسده ما اختل فيه شرط غير ذلك". أقول: قد قدمنا أن هذا مجرد اصطلاح تواضعوا عليه فجعلوا اختلال بعض ما ذكروه في شرط البيع مقتضيا لبطلانه وبعضها مقتضيا لفساده وكل هذا تلاعب بالكلام ولكن هذا التلاعب قد رتبوا عليه أحكاما شرعية فالعجب من ترتيب أحكام الله على الاصطلاح الذي هو مجرد تلاعب والحاصل أن الصحيح هو ما أذن الله به من قوله: {تِجَاْرَةً عَنْ تَرَاْضٍ} ولم ينه عنه الشارع ولا ثبت عنه ما يدل على عدم جواز التعامل به وما عدا هذا فهو باطل رد على فاعله لأنه لم يكن عليه أمر الشارع كما قال كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد لا يجوز لمسلم أن يدخل فيه فإن فعل فلا حكم لفعله ولا فرق بين ما يقتضي الربا وما لا يقتضيه وإن كان ما يقتضي الربا أشد تحريما وأعظم خطرا. وأما قوله: "وما سواه فكالصحيح" فمن أغرب ما يقرع الإسماع له زاجر من ورع فضلا عن وازع من علم يعلم أن هذه التسوية باطلة هى وما يترتب عليها من الأحكام المستثناه إلي آخر الفصل فأياك أن تغتر بشيء منها فإنها سراب بقيعة وظلمات بعضها فوق بعض. [فصل والفرعية فيه قبل الفسخ للمشتري والأصلية أمانة وتطيب بتلفه قبلها وبفسخه بالرضا فقط ويمنع رد عينه الاستهلاك الحكمه هو قولنا: وقف وعتق وبيع ثم موهبة ... غرس بناء وطحن ذبحك الحملا طبخ ولت وصبغ حشو مثل قبا ... نسج وغزل وقطع كيف ما فعلا ويصح كل عقد ترتب عليه كالنكاح ويبقى والتأجير ويفسخ وتجديده صحيحا بلا فسخ] . قوله: "والفرعية فيه قبل الفسخ" الخ. أقول: الفرعية والأصلية فيه لمالكه وهو البائع لأن هذا البيع مما لم يأذن الله به فإن أتلف شيئا ومنها ضمنه ولا يطيب له شيء منها إلا إذا رضي المالك وطابت به نفسه فذلك محلل لمال الغير في كل باب. وأما قوله: "ويمنع رد عينه الاستهلاك الحكمي" فأقول: قد عرفناك أنه باق على ملك مالكه وأن البطلان والفساد شيء واحد إذا وقع على غير وجه الصحة الذي أذن الله به فلا حكم لوقف ما دل الشرع على أنه غير ملك له ولا لعتقه ولا لبيعه ولا لهبته ولا لغرسه ولا

لصبغه ولا لحشوه ولا لنسبحه ولا لغزله ولا لقطعه فإن أذن له مالكه بشيء من ذلك كان وكيلا له وإذا غرم رجع بالغرم مع الآذن لا مع عدمه. وأما قوله: "ويصح كل عقد ترتب عليه" فينبغي أن يقال ويبطل كل عقد ترتب عليه لأن المترتب على الباطل باطل. وأما قوله: "ويصح تجديده صحيحا" فهذا التجديد هو نفس البيع إذا حصل التراضي فيه وخلا عن المانع منه.

باب المأذون

باب المأذون [فصل ومن أذن لعبده أو صبيه أو سكت عنه في شراء أي شيء صار مأذونا في شراء كل شيء وبيع ما شرى أو عومل ببيعه لا غير ذلك إلا بخاص كبيع نفسه ومال سيده] . قوله: "ومن أذن لعبده أو صبيه أو سكت عنه في شراء أي شيء صار مأذونا في شراء كل شيء" الخ. أقول: كل مالك لا يجوز التصرف في أي ملك من أملاكه إلا بأذن يخصه أو يعمه هو وغيره فمن أذن للعبد أو الصبي في شراء شيء خاص أو بيع شيء خاص لم يجز تصرفه في غيره ولا يكون مأذونا به لا شرعا ولا لغة وهذا ظاهر وهذا واضح في الإذن الصريح فكيف بالسكوت فإنه يحتمل عدم الرضا ببيعه والإجازة له وقدمنا في مواضع المنع من كون السكوت إجازة ومن الإذن العام أن يدفع إليه سلع التجارة للبيع وبأمره بالاتجار في جنس أو أجناس ويستمر ذلك وإذا قصره على الأتجار في جنس لم يجز له أن يتعداه فقد تعرف أنه يحسن التجارة في هذا الجنس دون هذا فإذا أذن له إذنا خاص لم يكن ذلك إذنا له في بيعه ولا في إجارته ولا في تأجير نفسه. [فصل وللمأذون كل تصرف جرى العرف لمثله بمثله وما لزمه بمعاملة فدين يتعلق برقبته وما في يده فيسلمها للمالك أو قيمتها ولهم استسعاؤه إن لم يفده فإن هلك لم يضمنه ولو

بعد تمرده وإن استهلكه فبغير البيع لزمته القيمة وبه الأوفى منها ومن الثمن ولهم النقض إن فوته معسرا وبغصب أو تدليس جناية تعلق برقبته فقط فيسلمها أو كل الأرش الخيار له ويتعين إن اختارها أو استهلكها عالما وتلزم الصغير عكس المعاملة ويستويان في ثمنه وغر ماؤه أولى به من غرماء مولاه ومن عامل محجورا عالما أو جأهلا لا لتغرير لم يضمن الكبير في الحال ولا الصغير مطلقا وإن أتلف] . قوله: "وللمأذون كل تصرف جرى العرف لمثله بمثله". أقول: هذا كالتخصيص لما تقدم من كونه يصير مأذونا في شراء كل شيء فلا يحوز للعبد مثلا أن يتصرف بما لم يجر للعبيد المأذونين عادة بالتصرف فيه وكذلك الصبي. وأما قوله: "وما لزمه بمعاملة فدين يتعلق برقبته وما في يده" فيقال هذه المعاملة إن كانت داخله في عموم الإذن له فلا وجه لتعلقها برقبته بل هى مضمونة على السيد من ماله وإن كانت غير داخلة فالعبد متعد بالدخول فيها فتتعلق برقبته ولا وجه لتعلقها بما في يده من مال سيده ولا من مال غيره لأن الدخول في ذلك جناية من العبد لم يكن للسيد فيها سبب فلا يتعلق بغير رقبته ولا معنى لتعلقه بما بيده أصلا إلي على قول من يقول إن العبد يملك فلا شك أنه يتعلق بما هو ملك له ثم ليس على السيد إلا تسليم رقبته وبعد ذلك أهل الدين بالخيار إن شاؤا صار ملكا لهم يتصرفون به كيف شاءوا وإن قنعوا باستسعائه وإرجاعه لسيده فلهم ذلك. وأما كون السيد له أن يفديه ففيه نظر لأنه قد صار استغراقه بما عومل به جانبا فصاروا أحق به وهكذا يقال فيما سيأتي في الجنايات. وأما قوله: "فإن هلك لم يضمنه" فصحيح لأن الرقبة التي تعلق بها الدين قد تلفت بغير جناية منه فإن كان ذلك بجناية منه لزمته قيمته ولا حكم لبيعه له لأنه قدر صار ملكا لأهل الدين الذي عليه إلا أن يأذنوا له بذلك فإذا أذنوا كان كالوكيل لهم لا مع عدم الإذن فالبيع غير صحيح ولا يحتاج إلي نقض بل يقال لهم استرجاعه من يد المشتري له. وأما قوله: "وبغصب أو تدليس" الخ فهذان قد أوجبا تعلق ضمان ما جناه أو دلسه برقبته ولكن لا فرق بينهما وبين ما أخذه برضا أربابه معاملة ثم أتلفه فإن الكل قد انتهى إلي التعلق برقبته كما قدمنا وعند التعلق برقبته يصير أهل الدين أولى به من سيده فإن قلت ملك السيد لرقبة العبد متيقن فكيف لم يكن أولى بالتخيير له بين تسليمه أو قيمته في الطرف الأول وبين تسليمه أو كل الأرش في هذا الطرف قلت هذه الأولوية قد ارتفعت بما تعلق برقبة العبد بسبب جنابته على مال الغير فصار أرباب الأموال محكمين فيها وقد يكون الغرض لهم بالرقبة أتم وأكمل فليس للسيد أن يمنعهم من ذلك وأما كونه ملكه متيقنا فقد تعقبه استحقاق الغير لها بدينه وإلا فلا معنى للتعلق بالرقبة بهذا تعرف أن الخيار لا يكون للسيد لما قدمنا ولا لأهل الدين لأنهم لا يستحقون إلا رقبة العبد وليس لهم المطالبة بقيمتها وإلا بكل الأرش وتعرف أنه لا وجه لقوله

ويلزم الصغير وعكس المعاملة لما قررناه من أن الكل جناية ولا فائدة في قوله وغرماؤه أولى من غرماء مولاه لأن رقبته قد خرجت عن ملك مولاه. قوله: "ومن عامل محجور" الخ. أقول: إن كان هذا المحجور هو من لا يصح تصرفه لكونه صغيرا أو مجنونا أو عبدا فلا شك أن المعامل له قد خاطر بماله ووضعه في مضيعة وأما إذا كان محجورا لثبوت ديون عليه مع كونه مكلفا عاقلا فلا يكون مجرد العلم بحجره مبطلا لتعلق الضمان به بل يكون هذا المال من جملة ديونه ولصحابه أسوته ما دام المال في يده وإنما ذكرنا هذا لإطلاق عبارته فإنها تتنأول الحر المكلف المحجور لأجل ديونه بحجر الحاكم فإن كان مراد المصنف غير هذا فقد رفعنا ما توهمه العبارة. [فصل ويرتفع الإذن بحجره العام وبيعه ونحوه وعتقه وإباقه وغصبه حتى يعود وبموت سيده والجأهل يستصحب الحال وإذا وكل المأذون من يشتريه عتق في الصحيح بالعقد وفي الفاسد بالقبض ويغرم ما دفع الولاء للسيد والمحجور بإعتاق الوكيل إن شاء ويغرم ما دفع بعده والولاء له] . قوله: "فصل: ويرتفع الإذن بحجرة العام". أقول: هذا صحيح لأنه قد بطل المقتضي لجواز معاملته وهو الإذن له بحجرة من كل تصرف وهكذا البيع لأنه لم يبق للإذن بعد خروجه من ملك المالك الذي أذن له تأثير إذ قد صار ملكا للغير وانقطعت العلاقة بينهما وأما العتق فهو وإن صار بعتقه حرا لكن لا يرتفع به الإذن السابق لأنه في حكم التوكيل للحر أقوى إلا أن يجري عرف أن من أعتق عبده رفع يده عن التصرف بماله كان العرف محكما في مثل هذا وأما إباقة فوجهه أنه قد صار عاصيا لسيده خارجا عن طاعته والإذن مقيد بالطاعة وهكذا إذا غصبه الغير لأنه قد صار محكوما عليه من الغاصب ولم يبق لسيده قدرة على استنفاذ ذاته فضلا عن أن تكون له قدرة على ما يتعلق بتلك الذات من التصرفات وأما عود ما تقدم من الإذن له بعوده من إباقة أو من يد غاصبه فصحيح لأن الإذن لم يبطل بل وجب التوقف فيه حتى يزول هذا العارض فإذا زال فالإذن الأول باق والمانع عارض فلا يكون مانعا دائما بل ما دام الإباق والغصب. وأما ارتفاع الإذن بموت سيده فظاهر وقد دخل في قوله ونحوه لأن الانتقال بالإرث كالانتقال بالبيع. وأما قوله: "والجأهل يستصحب الحال" فصواب ولا سيما مع ما اخترناه سابقا من أن ما

لزم العبد كان متعلقا برقبته لا بما في يده من مال سيده فلا بد في كل سبب من هذه الأسباب التى يرتفع بها الحجر من العلم بحصوله. قوله: "وإذا وكل والمأذون من يشتريه". أقول: إن جرى عرف بأن الإذن للعبد بالتصرف بتنأول التصرف بنفسه فلا بد أن يعلم السيد أن المشتري للعبد من وكيل للعبد أما إذا كان الإذن لا يتنأول ذلك أو كان يتنأوله وجهل السيد أن العبد هو الذى وكل ذلك الوكيل ليشتريه منه فلا ينفذ هذا البيع بل هو من بيع الغرر المنهي عنه وهو أيضا لم يقع عن تراض لأن المالك لم يعلم بأن عبده هو الذى اشترى نفسه ولا سيما على القول بأنه لا يملك العبد لأنه إن دفع الثمن بما في يده فهو من مال سيده ولم يبق له رقبة يتعلق بها قيمته لأن المفروض أنه قد ملك نفسه فهذا التوكيل الذى وقع من العبد من المخادعة لسيده والتحيل عليه وذلك ليس من الشرع في شيء ورضا السيد بخروجه عن ملكه إلي الغير لا يستلزم الرضا بخروجه إلي يد نفسه ومصيره حرا بذلك لما فيه من الإضرار به فهو بهذه الحيلة الباطلة لا يخرج من العبودية فلا صحة لما تفرع على هذا التعامل.

باب المرابحة

باب المرابحة [هى نقل المبيع بالثمن الأول وزيادة ولو من غير جنسه أو بعضه بحصته وزيادة بلفظها أو لفظ البيع وشروطها ذكر كمية الربح ورأس المال أو معرفتهما أو أحدهما إياها حالا تفصيلا أو جملة فصلت من بعد كبر قم صحيح يقرأ وكون العقد الأول صحيحا والثمن مثليا أو قيميا صار إلي المشتري وربح به] . قوله: "باب: المرابحة هي نقل المبيع بالثمن الأول وزيادة". أقول: هذا بيع أذن الله سبحانه به بقوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، وبقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] ، وهذا يشمل كل بيع كائنا ما كان إذ لم يصحبه مانع شرعي أو يفقد فيه التراضي فجعل هذا النوع بابا مستقلا بشروط مستقلة ليس كما ينبغي وأما اشتراط لفظ المرابحة أو البيع فقد عرفناك أنه لا اعتبار بالألفاظ ولا بما ذكروه من الصفات المتعلقة بها بل المعتبر حصول التراضي المدلول عليه بأي لفظ كان ولو بإشارة من قادر على النطق أو مجرد مقابضة مشعرة بذلك أو غيرهما مما فيه إشعار بهذا المناط وأما اشتراط ذكر كمية الربح ورأس المال الخ فإذا تعرض البائع لذكر ربحه ورأس ماله وانكشف أن الأمر بخلاف ما قال فللمشتري الخيار لأنه غره بذلك فإن شاء أمسك وإن شاء ترك. وأما قوله: "كون العقد الأول صحيحا" فوجهه ما قد قرروه أن المبيع في العقود الفاسدة.

إنما يملك بالقيمة وهذه قاعدة لم تبن على أساس ولا نظر فيها إلي شيء مما يسوغ به إثبات أحكام الشرع وأضعف من هذا الاشتراط اشتراط كون الثمن مثليا أو قيميا قد صار إلي المشتري ورابح به فإنه لا اعتبار بشيء من ذلك بل إذا ذكر له رأس ماله وربحه كان ذلك كافيا وإن تفأوت باختلاف الأزمنة والأمكنة لأن الاعتبار بوقت الشراء الذي شرى به البائع له الآن فإذا ذكره فقد خلص عن عهده التغرير والتدليس. [فصل ويبين وجوبا تعيبه ونقصه ورخصه وقدم عهده وتأجيله وشراه ممن يحأبيه ويحط ما حط عنه ولو بعد عقدها وتكره فيما اشترى بزائد رغبة ويحوز ضم المؤن غالبا ومن أغفل الوزن اعتبر في رأس المال بموضع الشراء وفي الربح بموضعه وهو بين الشركاء حسب الملك لا الدفع وللكسر حصته] . قوله: "فصل: ويبين وجوبا تعيبه". أقول: هذا لازم لكل بائع بالسنة الثابتة كما قدمنا ذلك في خيار العيب وهكذا يجب عليه أن يبين نقصه وإلا كان من بيع الغرر كما تقدم. وأما بيان رخصه وقدم عهده فوجه ذلك أنه قد يشتريه برخص أو في زمان قديم والسعر لذلك الشيء رخيص وليس لوجوب ذكر مثل هذين وجه صحيح. وهكذا بيان شرائه ممن يحأبيه وتأجيله وأما كونه يحط ما حط عنه فصواب لأن ترك ذكر ذلك تغرير منه وأما كونه تكره المرابحة فيما اشترى بزائد رغبة فيه فلا وجه للحكم بهذه الكراهة وأما كونه يجوز ضم المؤن فصحيح لكن مع بيانه لمقدار المؤن بعد بيانه لمقدار رأس المال وإلا كان في ذلك غرر وأما كون الربح بين الشركاء حسب الملك فظاهر. [فصل والتولية كالمرابحة إلا أنها بالثمن الأول فقط ويجوز ضم المؤن كما مر والخيانة في عقدهما توجب الخيار في الباقي وفي الثمن والمبيع والمسأومة كذلك والأرش في التالف] . قوله: "فصل: والتولية كالمرابحة".

أقول: هذا توسيع لدائرة أحكام الشرع بمجرد فاسد الرأي وزائف الاجتهاد والحاصل أن المرابحة والتولية بيع من بيوع الشرع ونوع مما أذن الله سبحانه به فإن تعرض البائع لذكر رأس ماله فلا بد أن يكون صادقا في قوله وإلا كان ذلك من بيوع الغرر وإن يتعرض لذلك كفاه البيع الشرعي ولا يحتاج إلي ذكر شيء ولو كان الشراء بأحقر ثمن فالبائع هو الذي أوقع بنفسه في هذا المضيق بتعرضه لذكر ما اشتراه به كما لو أوقع نفسه في مضيق وصفه بصفة كما تقدم في خيار فقد الصفة وأما كون الخيانة في عقدهما توجب الخيار في الباقي فصحيح لأنه يصير بالتعرض لذكر ذلك مع عدم المطابقة للواقع مغررا مخادعا خائنا وهكذا الخيانة في الثمن والمبيع فما كان باقيا رده وإذا تلف كله أو بعضه فله الرجوع بالأرش لأن ذلك غاية ما يمكن به استدراك خيانة الخائن ولا يبعد أن يقال إن الخيانة كشفت عن عدم حصول المناط الشرعي وهو التراضي فيكون المبيع المصحوب بها باطلا غير نافذ لعدم وجود المناط الشرعي فإذا تلف المبيع أو بعضه تلف من مال البائع الخائن.

باب الإقالة

[باب الإقالة إنما تصح بلفظها بين المتعاقدين في مبيع باق لم يزد بالثمن الأول فقط ولو سكت عنه ويلغو شرط خلافه ولو في الصفة وهي بيع في حق الشفيع فسخ في غيره فلا يعتبر المجلس في الغائب ولا تلحقها الإجازة وتصح قبل القبض والبيع قبله بعدها ومشروطة وتولى واحد طرفيها ولا يرجع عنها قبل قبولها وبغير لفظها فسخ في الجميع والفوائد للمشتري] . قوله: "باب الإقالة". أقول: هذا الباب قد ورد الترغيب فيه من الشارع بحديث أبي هريرة الذي صححه جماعة من الحفاظ بلفظ: "من أقال نادما" وفي لفظ: "مسلما أقال الله عثرته يوم القيامة" فكان على المصنف أن يعنون الباب بما يدل على ندبية الإقالة لا بما هو سراب بقيعة من قوله: إنما يصح بلفظها فإن هذا من جنس ما يكرره هو وأمثاله من الدندنة حول الألفاظ التي لم يرد باعتبارها شرع ولا عقل فإن مجرد رد الثمن أو طلب رد البيع إقالة تامة محصلة للأجر مبطلة للتبايع مع عدم وجود لفظها ولا لفظ آخر يدل عليها وأما اشتراطه بقاء المتعاقدين أنه إذا مات من يريد الإقالة لم يوجد من حصل له الندم على تلك الصفقة ولكن إذا كان وارثه نادما على صفقة مورثة فله حكمه لوجود السبب الذي لأجله شرعت الإقالة وأما قوله في مبيع باق فوجهه أنه إذا كان المبيع قد تلف لم يبق للإقالة معنى إلا أن يتعلق بذلك غرض للمشتري ينتفع به من غير لحوق ضرر للبائع.

وأما قوله: "لم يزد" فلا وجه له لأن الزيادة إن كان يمكن فصلها فصلها المشتري وأرجع المبيع وإن كان لا يمكن فصلها فإن رضي البائع بتسليم قدر قيمتها فذاك وإلا كان المشتري مخيرا بين رد المبيع بزيادة أو ترك الاستقالة ويدع الندم على الصفقة وأما قوله بالثمن الأول فقط فوجهه أن الإقالة لا تكون إلا هكذا ولو كانت بثمن آخر لكان ذلك بيعا جديدا وأما إذا حصل التراضي بالزيادة أو النقص بينهما فذلك باب لا يحتاج إلي ذكره لأن التراضي هو المحلل لأموال بعض العباد لبعض. قوله: "وهي بيع في حق الشفيع". أقول: جعلها بيعا في هذه الصورة الخاصة مما يقضي منه العجب وأعجب من هذا دعوى الإجماع على مثل هذه الخرافة كما حكى ذلك عنه وإن كان لم يذكر في الغيث شرحه لهذا الكتاب إلا قوله لا يختلف السادة في كونها بيعا في حق الشفيع انتهى وهو يريد بالسادة المتكلمين منهم في فروع الزيدية في هذه الديار ولم يرد غيرهم من السادة في سائر أقطار البلاد الإسلامية فضلا عن أن يريد إجماع أهل الإسلام على ذلك وأظن أنه لم يقل بهذه المقالة أحد من علماء الدنيا لأنها مع كونها لم تبن على رواية هى أيضا لم تبن على رأي مستقيم فإن كونها بيعا مجرد دعوى عاطلة عن البرهان بجميع أقسامه ومجرد تخصيص كونها بيعا في حق الشفيع فقط ترتيب دعوى على دعوى فهم فضلا عن أدنى علم ثم الفرق بينها وبين البيع بقوله فلا يعتبر المجلس في الغائب ولا يلحقها الإجازة الخ من تفريع الباطل على الباطل ومن التقول على الشريعة المطهرة بما ليس فيها. وأما قوله: "والفوائد للمشتري" فوجهه أنها حصلت في ملكه".

باب القرض

[باب القرض إنما يصح في مثلي أو قيمي جماد أمكن وزنه إلا ما يعظم تفأوته كالجواهر والمصوغات غالبا غير مشروط بما يقتضي الربا وإلا فسد] . قوله: "باب: القرض إنما يصح في مثلي أو قيمي جماد أمكن وزنه". أقول: هذا باب وردت السنة بالترغيب فيه وتعظيم أجر فاعله ولا خلاف بين المسلمين في مشروعيته وهذا الترغيب وعموم المشروعية لا ينبغي قصره على بعض ما ينتفع به الناس ويطلبون الأجر في قرضه إلا بدليل يدل على ذلك ويقتضي تخصيص العمومات فإن لم يقم دليل على ذلك لم يجز لأحد أن يتقول على الشرع ما ليس فيه ويسد بابا فتحه الله لعباده وجعله نفعا للمحأويج المستقرضين وأجرا للأغنياء المقرضين وأما مجرد تعللهم بأن القرض باب من أبواب

البيع فلا يجوز إلا فيما يجوز فيه فنقول ما بالهم منعوه فيما هو جائز البيع بلا خلاف وشرطوا أن يكون مثليا جمادا يمكن وزنه ثم ما بالهم منعوه فيما جوزه الشرع وثبتت به السنة الصحيحة الصالحة لتخصيص كل عموم للبيع كما في صحيح مسلم "118/1600"، وغيره "أبو داود "3346"، الترمذي "1318"، النسائي "4617"، ابن ماجة "2285"، أحمد "6/390"، من حديث رافع بن خديج قال استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكرا فجاءت إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره فقلت إني لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا قال: "أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء"، وهو في الصحيحين [البخاري "4/482"، مسلم "1601"، وغيرهما الترمذي "1316، 1317"، النسائي "4618"، من حديث أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: "أعطوه"، فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها فقال: "أعطوه"، فقال أوفيتني أوفى الله بك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خيركم أحسنكم قضاء"، فقد دلت السنة الصحيحة على جواز قرض الحيوان مع كونه مما يعظم فيه التفأوت فدل ذلك على أنه لا وجه لجعل عظم التفأوت مانعا هذا تبرع بالدليل وإن كان الدليل على من ادعى تخصيص ما دل على عموم المشروعية كما قدمنا وجواز القرض في الحيوانات هو مذهب الجمهور. وأما قوله: "غير مشروط بما يقتضي الربا" فلا ينافي ما قدمنا عنه صلى الله عليه وسلم من أنه قضى من أقرضه سنا فوق سنة وأحسن منها لأن ذلك وقع لا على طريق الشرط بل على طريق التفضل والإحسان وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني فإن قلت قد ورد ما يدل على أن المقرض لا يقبل من المستقرض هدية أو نحوها كما أخرجه ابن ماجه من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك"، قلت في إسناده يحيى بن أبي إسحق الهنائي وهو مجهول وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد الضبي وهو ضعيف وقد حققنا البحث في شرح المنتقي فليرجع إليه. [فصل وإنما يملك بالقبض فيجب رد مثله قدرا وجنسا وصفة إلي موضع القرض ولا يصح الإنظار فيه وفي كل دين لم يلزم بعقد وفاسده كفاسد البيع غالبا ومقبض السفتجة أمين فيما قبضا ضمين فيما استهلك وكلاهما جائز إلا بالشرط] . قوله: "فصل: وإنما يملكه بالقبض". أقول: يملكه بقبضه ملكا مستقرا ويملكه أيضا قبل قبضه إذا وقع التراضي على ذلك فإن

التراضي هو المناط في نقل الأموال من بعض العباد إلي بعض وكررنا ذلك في غير موضع وأما كونه يجب رد مثله قدرا وجنسا وصفة فنعم هذا هو الواجب عند أن يترك المستقرض التفضل والإحسان بالزيادة فإن فعل فذلك إليه بما تقدم من الأدلة. وأما كونه يجب الرد إلي موضع القرض فصحيح لأن المقرض محسن فعلى المستقرض أن يرد ماله إليه إلي الموضع الذي قبضه منه فيه. قوله: "ولا يصح الإنظار فيه". أقول: المستقرض قبض المال على التأجيل فلا يجب عليه قضاؤه إلا عند انقضاء الأجل وتمامه وتأجيل الدين قد ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز فقال: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] ، وليس فائدة الكتابة إلا حفظ قدر الدين وقدر أجل تسليمه ومما يدل على لزوم التأجيل حديث: "المؤمنون عند شروطهم"، [أبو داود "6594"، أحمد "2/366"] ، وقد ورد في الكتاب العزيز في آيات كثيرة وجوب الوفاء بالعقود وهي ما يحصل عليه التراضي فليس لمن أقرض قرضا مؤجلا أن يطلب قضاءه قبل حلول أجله وهكذا في سائر الديون التي لم تلزم بعقد فإن الدخول في التأجيل يجب على من وقع من جهته الوفاء به. وأما قوله: "وفاسده كفاسد البيع" فلا وجه له في المشبه ولا في المشبه به لما عرفناك أن مناط البيع وغيره التراضي فإن وقع البيع أو القرض على غير ما يسوغه الشرع فلا يثبت حكمه من الأصل. وأما قوله: "ومقبض السفتجة" الخ فهذا حكم يرجع إلي باب الأمانة والضمانة والتراضي يسوغ هذا وغيره فلا فائدة في التكلم على مثله وهو معروف في أبوابه وإنما ذكره المصنف هنا لئلا يتوهم أنه من القرض الذي يجر منفعة. [فصل وليس لمن تعذر عليه استيفاء حقه حبس حق خصمه ولا استيفاؤه إلا بحكم غالبا وكل دينين استويا في الجنس والصفة تساقطا والفلوس كالنقدين] . قوله: "وليس بمن تعذر عليه" الخ. أقول: إذا كان الحق ثابتا شرعا قطعا وبتا وتعذر الوصول إليه من جميع الوجوه إلا من هذا الوجه وذلك لامتناع من هو عليه عن تأديته فعمومات الكتاب والسنة قد دلت على جواز ذلك ولا يعارض هذه العمومات حديث: "أد الأمانة إلي من ائتمنك ولا تخن من خانك"، أخرجه أبو دأود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة وفي الباب عن أنس عند الحاكم مرفوعا وعن أبي بن كعب عند الدارقطني والطبراني وعن رجل من الصحابة عند

أحمد "3/414"، وأبي دأود "3534"، والبيهقي وصححه ابن السكن وعن الحسن مرسلا عند البيهقي وفي إسناد كل واحد من هذه مقال حتى قال أحمد هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح وقال ابن الجوزي لا يصح من جميع طرقه ولا يخفاك أن وروده من هذه الطرق مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها وتحسين إمام ثالث منهم لبعضها مما يصير به الحديث منتهضا للاحتجاج به ولكن خاص بالأمانة فلا يجوز خيانة من خان إذا كان مال الذي للخائن عند من وقعت عليه الخيانة أمانة ويؤيد هذا الكلام أئمة اللغة ويدل على أن الخيانة إنما تكون في الأمانة كما في القاموس وغيره والحاصل أن مال المسلم معصوم بعصمه الإسلام وكذلك دمه وعرضه كما يدل على ذلك القرآن والسنة وهذا عموم مخصص بما كان على طريقة المكافأة كما في قوله سبحانه: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] ، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وهذه الآيات مخصصه بالخيانة في الأمانة فلا يجوز على طريقة المكافأة وما يؤيد الجواز الحديث الصحيح المتقدم في إذنه صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان أن تأخذ لها ولولدها من مال زوجها ما يكفيهابالمعروف. وأما قوله: "وكل دينين" الخ فهذا معلوم بالعقل أنه لا يتعلق بعدم التساقط فائدة فمن ثبت له دينار مثلا على من كان له عليه دينار تساقط ولا يحتاج مثل هذا إلي أن يدون في الكتب العلمية وهكذا قوله والفلوس كالنقدين. [فصل ويجب رد الرهن والقبض والغصب والمستأجر والمستعار والحق المعجل والمؤجل والكفالة بالوجه إلي موضع الابتداء غالبا لا المعيب والوديعة والمستأجر عليه وكل دين لم يلزم بعقد والقصاص فحيث أمكن ويجب قبض كل معجل مساو أو زائد في الصفة لا مع خوف ضرر أو غرامة ويصح التعجيل بشرط حط البعض] . قوله: "فصل: ويجب رد الرهن" الخ. أقول: وجه أن المقرض محسن وما على المحسنين من سبيل فلو كان عليه أن يتجشم مشقة لرد قرضه لكان ذلك منافيا لإحسانه وأما الرهن فليس في رواية ولا رأي صحيح أنه يكون الوجوب على أحدهما لأن كلاهما منتفع بالرهن من جهة وأما الغصب فوجهه أن الغاصب ظالم متعد فعليه رفع ظلامته عن نفسه أن برد ما غصبه من الموضع الذي غصبه منه بل وإلي حيث استقرار المغصوب عليه وإن كان بعيدا عن وضع الغصب وأما المستأجر فوجهه أنه الطالب للانتفاع بالعين فيردها إلي الموضع الذي أخذها منه ويمكن أن يقال إن المؤجر منتفع بالأجرة

كما ينتفع المستأجر بالمنافع المتعلقة بالعين فلا يكون المستأجر بالرد إلي موضع الابتداء أولى من المؤجر وأما المستعير فوجهه أن المعير محسن كما تقدم في القرض وأما الحق المؤجل والمعجل فوجهه أن من هو عليه لا يخلص ذمته عما هو عليه إلا برده إلي يد من هو له ومثل ذلك الكفالة بالوجه هذا غاية ما يمكن في توجيه كلام المصنف وكان الأولى له أن يعقد الفصل على وجوب الرد إلي المالك من غير نظر إلي موضع الابتداء فيقول مثلا يجب الرد إلي المالك في القرض الخ حتى يكون ذلك عملا بحديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، أخرجه أحمد وأبو دأود والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث الحسن عن سمرة وفي سماع الحسن من سمرة فقال معروف فإن هذا الحديث يدل على وجوب التأدية لكل ما أخذته اليد ولا تأدية إلا إذا كانت إلي المأخوذ منه ومثل هذا الحديث الذي تقدم بلفظ: "أد الأمانة إلي من ائتمنك"، فإن التأدية في الأمانات لا يكون إلا بدفعها إلي مالكها وبهذا تعرف أنه لا وجه لقول المصنف لا المعيب والوديع الخ وأما كون يجب قبض كل معجل فوجهه أن لمن هو عليه أن يبريء ذمته بالرد فليس لمن هو له أن يمتنع من ذلك مع عدم المانع من خوف ضرر أو غرامة. قوله: "ويصح شرط حط البعض". أقول: إذا حصل التراضي على هذا فليس في ذلك مانع من شرع ولا عقل لأن صاحب الدين قد رضي ببعض ماله وطابت نفسه عن باقيه وهو يجوز أن تطيب نفسه عن جميع ذلك المال وتبرأ ذمته من هو عليه فالبعض بالأولى وقد ثبت في الصحيح [البخاري "471، 457، 2418، 2424، 2710" مسلم "1558"، أبو داود "3595"، ابن ماجة "2429"، النسائي "8/244"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلين يتخاصمان في المسجد وقد ارتفعت أصواتهما وكانت تلك الخصومة في دين لأحدهما على الآخر فأشرف عليهما النبي صلى الله عليه وسلم وأشار بيده إلي من له الدين أن يضع الشطر فكان هذا دليلا على جواز التعجيل بشرط حط البعض. [فصل ويتضيق رد الغصب ونحوه قبل المراضاة والدين بالطلب فيستحل من مطل وفي حق الله الخلاف ويصح في الدين قبل القبض كل تصرف إلا رهنه ووقفه وجعله زكاة أو رأس مال سلم أو مضاربة وتمليكه غير الضامن بغير وصية أو نذر أو إقرار أو حوالة] . قوله: "فصل: ويتضيق رد الغصب ونحوه قبل المراضاة". أقول: وجه ذلك أنه مطالب بالرد في كل وقت فإذا لم يحصل الرضا فوجوب الرد ثابت متضيق عليه.

وأما قوله: "والدين بالطلب فيستحل من مطل" فوجهه أنه مع طلب القضاء قد وجب عليه ذلك إلا كان ظالما إذا كان متمكنا لما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "لَيُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته". وأما قوله: "في حق الله الخلاف" فهو الخلاف المعروف في الأصول هل هو على الفور أو التراخي وفي المسألة طول وليس هذا مقام بسط الكلام فيها. وأما قوله: "ويصح في الدين قبل قبضه كل تصرف إلا رهنه" فوجهه اشتراط التقابض في الرهن وليس هذا الوجه بوجيه فإنه يصح رهن ما في الذمة ويقبضه المرتهن عند حلول أجله فيصير رهنا في يديه وهكذا يصح وقفه ولا مانع من ذلك وهكذا يصح جعله زكاة رأس مال مضاربة ولا مانع من هذه الأمور إلا مجرد تخيلات مختلة وعلل معتله وأما عدم صحة جعله رأس سلم فوجهه أن يكون من بيع الكاليء بالكاليء وقد قدمنا النهي عنه وهكذا يصح تمليكه غير الضامن ولا مانع من شرع ولا عقل ولو بغير وصية أو نذر أو إقرار أو حوالة.

باب الصرف

[باب الصرف هو بيع مخصوص يعبر فيه لفظه أو أي ألفاظ البيع وفي متفقي الجنس والتقدير ما مر إلا الملك حال العقد فإن اختل أحدهما بطل أو حصته فيترادان ما لم يخرج عن اليد وإلا فالمثل في النقدين والعين في غيرهما ما لم يستهلك فإذا أرادا تصحيحه ترادا الزيادة وجددا العقد وما في الذمة كالحاضر] . قوله: "باب: الصرف هو بيع مخصوص فيعتبر لفظه أو أي ألفاظ البيع". أقول: قد عرفت مما قدمنا في البيع أن اعتبار اللفظ المخصوص لا أصل له وأن البيع المأذون فيه بقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] ، هو ما ذكره في قوله: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، فإذا حصل التراضي فقد وجد المناط الشرعي ولو بمجرد المقابضة من غير لفظ أو أشارة من قادر على النطق. وأما قوله: "ويعتبر في متفقي الجنس والتقدير ما مر" فصحيح للأدلة الدالة على تحريم التفاضل والنساء فيما كان كذلك. وأما قوله: "إلا الملك حال العقد" فلا بد من تقييد ذلك بحصول التقابض في محل العقد قبل التفرق وإلا كان ذلك نساء وهو ربا كما تقدم في حديث: "إنما الربا في النسيئة"، وفي

حديث: "إذا كان يحصل يد بيد" وفي حديث: "إذا لم تتفرقا وبينكما شيء". وقول المصنف: "فإن اختل أحدهما بطل أو حصته" صحيح لأنه ربا كما عرفت وإذا حصل التراد ودفع المثل ففيه استدراك لما فرط منهما من الدخول في الربا. قوله: "وما في الذمة كالحاضر". أقول: هذه الكلية محتاجة إلي دليل يدل على تخصيص ما ورد من الأحاديث الصحيحة المصرحة بمثل قوله: "إلا يدا بيد" ومثل قوله: "إلا ها وها" وسائر ما ورد في هذا المعنى هذا مع الاتفاق في الجنس والتقدير ومع الاختلاف كالذهب بالفضة ونحو ذلك ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد"، ولم يثبت ما يدل على خلاف ذلك فالواجب الوقوف على ما تقتضيه الأدلة وعدم التخصيص لها بمجرد الرأي القائل والاجتهاد العاطل وهذا على تقدير أن أحد البدلين أما لو كانا جميعا في الذمة كان ذلك من بيع الكاليء بالكاليء وقد تقدم النهي عنه. [فصل ومتى انكشف في أحد النقدين رديء عين أو جنس بطل بقدره إلا أن يبدل الأول في مجلس الطرف فقط والثاني فيه مطلقا أو مجلس الرد إن رد ولم يكن قد علمه فيلزم أو شرط رده فافترقا مجوزا له أو قاطعا فيرضى أو يفسخ فإن كان لتكحيل فصل إن أمكن وبطل بقدره وإلا ففي الكل] . قوله: فصل: "ومتى انكشف في أحد النقدين رديء عين أو جنس" الخ. أقول: الأدلة قد أوجبت التقابض في المجلس مع الاتفاق كالذهب بالذهب والفضة بالفضة من غير فرق بين جيد ورديء فإذا انكشف لأحد المتصارفين بعد المجلس رداءة ما صار إليه فله فسخه بخيار العيب بدليله السابق فيرد القابض للجيد ما يقابل ذلك الرديء من الجيد الذى قبضه من صاحب الرديء إذا كان الذى انكشفت رداءته هو بعض ما صار إليه فإن كان رديئا كله فله رده كله بالعيب ويرد صاحب الرديء جميع ما قبضه من الجيد ويبطل الصرف الواقع بينهما هكذا ينبغي أن يقال في هذا الفصل وبه يتضح ما هو الصواب وإذا أراد إبدال الرديء بجيد فلا يجوز ذلك إلا في مجلس الصرف من غير فرق بين رديء العين والجنس فإن تفرقا وقد قبض صاحب الرديء رديئه أو بعضه وترك جيده عند المصارف له فقد وقعا في الربا ولا استدراك إلا بالتراد ثم التصارف والتقابض في المجلس.

[فصل ولا تصححه الجريرة ونحوها إلا مسأوية لمقابلها ولا يصح في متفقي الجنس والتقدير قبل القبض حط ولا إبراء ولا أي تصرف ويصح حط البعض في المختلفين لا التصرف ولا يصح الربا بين كل مكلفين في أي جهة ولا بين العبد وربه] . قوله: "فصل: ولا تصححه الجريرة". أقول: هذا صحيح وقد تقدم الكلام عليه عند قول المصنف فإن صحب أحد المثلين غيره ذو قيمة. وأما قوله: "ولا يصح في متفقي الجنس والتقدير" الخ فهذا معلوم لأنه يؤدي إلي صرف الجنس بجنسه متفاضلا وذلك ربا والاعتبار بالمجلس فلا حكم لما وقع قبله من حط أو إبراء أو تصرف. وأما قوله: "ويصح حط البعض في المختلفين" فيدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد"، فإنه صلى الله عليه وسلم جوز التفاضل ومنع النساء وقد قدم المصنف رحمه الله في باب الربويات ما يغني عن هذا وإنما أعاده تكميلا لمباحث الصرف. وأما قوله: "ولا يحل الربا بين كل مكلفين في أي جهة" فهذا معلوم أما المسلمون فظاهر وأما الكفار فلما تقدم من أنهم مخاطبون بالشرعيات أي معذبون على فعل ما يحرم وترك ما يجب ولا فرق بين دار الحرب وغيرها لأن ما حرمه الله حرام في كل زمان ومكان وتخصيص دار الحرب بأحكام لا يقتضي تخصيصها بتحليل الربا فيها. قوله: "ولا بين العبد وربه". أقول: هذا الربا غير معقول لأنه إذا أعطى الفقير درهما عن دراهم تواطئا على أنها في ذمة الغني المذكر للفقير المصروف إليه فهذه إنما هى حيلة باطلة ودلسة عاطلة لا نفوذ لها ولا قبول ومعلوم أنه لو واطأ الفقير على أن يبيع منه ما في ذمته من الزكاة وهي ألوف مؤلفة بدرهم واحد أو بدونه لقبل منه ذلك وفي الحقيقة أنه لم يقع عن الزكاة إلا هذا الدرهم ولا يبعد أن لا يقع عن الزكاة لما شابه من القصد الباطل والإضمار المخالف للحق.

باب السلم

[باب السلم لا يصح في عين أو ما يعظم تفأوته كالحيوان والجواهر واللآلئ والفصوص والجلود ومالا ينقل وما يحرم فيه النساء فمن أسلم جنسا في جنسه وغير جنسه فسد في

الكل ويصح فيما عدا ذلك بشروط الأول ذكر قدر المسلم فيه وجنسه ونوعه وصفته كرطب وعتق ومدته وقشر زيت ولحم كذا من عضو كذا سمنه كذا وما له طول وعرض ورقة وغلط بينت مع الجنس ويوزن ما عدا المثلى ولو أجرا أو حشيشا الثاني معرفة إمكانه للحلول وإن عدم حال العقد فلو عين ما يقدر تعذره كنسج محلة أو مكيالها بطل الثالث كون الثمن مقبوضا في المجلس تحقيقا معلوما جملة أو تفصيلا ويصح بكل مال وفي انكشاف الرديء ما مر الرابع الأجل المعلوم وأقله ثلاث ورأس ما هو فيه لآخره وإلا فلرؤية هلاله وله إلي آخر اليوم المطلق ويصح التعجيل كما مر الخامس تعيين المكان قبل التفرق وتجويز الربح والخسران] . قوله: "باب: السلم لا يصح في عين". أقول: هذا الباب قد وقع إجماع المسلمين إلي جوازه إلي ما وقع في رواية عن ابن المسيب كما حكى ذلك في فتح الباري والبحر الزخار للمصنف وثبت بالسنة الصحيحة كما في الصحيحين [البخاري "2240، 2241"، مسلم "127/1604"، وغيرهما [أبو داود "3463"، الترمذي "1311"، النسائي "4616" ابن ماجة "2280"، أحمد "1/217، 222، 282، 358"] ، من حديث ابن عباس قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلي أجل معلوم"، والسلف الشرعي بيع موصوف في الذمة ببدل يعطي عاجلا وقد دل على هذا قوله: "من أسلف فليسلف" فإنه يدل أن المسلم فيه غير حاضر في ذمة المسلم إليه ويؤده قوله إلي أجل معلوم والتصريح يكون المسلم فيه معلوما والأجل معلوما يفيد أنه لا يصح السلم في غير معلوم ولا يصح أن يكون الأجل مجهولا قال فتح الباري واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس انتهى ومراد المصنف لقوله لا يصح في عين أي في حاضر والحديث قد دل على هذا فمن زعم أنه يصح في حاضر فقد تمسك بغير دليل ولا ينفعه الاستدلال بما ورد في السلم من غير ذكر التأجيل لأن المطلق يحمل على المقيد وأيضا لفظ يفيد ذلك فلا يطلق على ما كان حاضرا. وهكذا قوله: "أما من يعظم تفأوته" فإن قوله في الحديث: "في كيل معلوم ووزن معلوم" يدل على أنه لا يصح السلم فيما يعظم تفأوته لعدم ضبطه بضابط يصح به وصفه يكون معلوما ومن أدعى أنه يمكن ضبطه بمضابط فقد أبعد فإن الحيوان والجواهر واللآلئ والفصوص مختلفة غاية الاختلاف فمنها ما تكون قيمته الدينار والدينارين ومنها ما يكون قيمته الألف والألفين وهكذا لا يصح السلم فيما لا ينقل كالأراضي والدور لأنه لا يكون إلا حاضرا وهكذا لا يصح فيما يحرم فيه النساء من الأجناس الربوية لأنها ربا. وأما قوله: "فمن أسلم جنسا في جنسه وغير جنسه فسد في الكل" فمبني على ما تقدم له من أنه إذا انضم إلي جائز البيع غيره وقد قدمنا ما فيه.

قوله: "ويصح فيما عدا ذلك بشروط الأول ذكر قدر المسلم فيه وجنسه" الخ. أقول: هذا صحيح لأنه لا يكون معلوما إلا بذلك وقد اشترط الشارع المعلومية كما تقدم وأما قوله: "الثاني: معرفة إمكانه للحلول" فوجهه أنه لو ذكر في السلم وصفا يدل على عدم إمكانه لكان ذلك عائدا على الغرض المقصود من السلم بالنقص وأما وإن عدم حال العقد فيدل عليه ما أخرجه أحمد والبخاري عن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلي أجل مسمى قيل أكان لهم زرع أو لم يكن قالا ما كنا نسألهم عن ذلك وفي رواية كنا نسلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر وما نراه عندهم أخرجه أحمد وأبو دأود والنسائي وابن ماجه والسكوت تقرير. قوله: "الثالث: كون الثمن مقبوضا في المجلس". أقول: هذا الشرط لا بد منه ولا يتم السلم إلا به وإلا كان من بيع الكاليء بالكاليء وقد قدمنا النهي عنه وأما كونه يصح بكل مال فلكون الأدلة لم تدل إلا على اشتراط أن يكون ثمن السلم معلوما للمسلم والمسلم إليه وذلك ممكن في كل الأمور. وأما قوله: "في انكشاف الرديء ما مر" فوجهه أنه عيب وقد دل الدليل على أنه يرد على صاحبه وقد تقدم في خيار العيب وفي الصرف ما يغني عن الإعادة هنا. وأما قوله: "الرابع: للأجل المعلوم" فقد دل عليه الدليل الصحيح المتقدم فلا يصح السلم بدون تأجيل بل ينقلب بيعا كما قدمنا ولا يصح بأجل مجهول وأما تعيين أقل مدته أو أكثرها فلم يثبت فيه ما يصلح للاحتجاج به لكنه إذا لم يوجد في الأجل المعلوم فقد أخرج مالك في الموطأ وأبو دأود من حديث ابن عمر أن رجلا أسلم في نخل فلم يخرج في تلك السنة شيئا فاختصما إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلي الله عليه وسلم: "بم تستحل ماله اردد عليه ماله" ثم قال: "لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه"، وفي إسناده رجل مجهول فإن أبا دأود رواه عن محمد بن كثير عن سفيان عن أبي إسحق عن رجل نجراني عن ابن عمر فلا يصلح للاحتجاج به. وأما قوله: "الخامس: تعيين المكان" فليس على هذا الشرط دليل لا صحيح ولا عليل وهكذا تجويز الربح والخسران. [فصل ومتى بطل الفسخ أو عدم جنس لم يؤخذ إلا رأس المال أو مثله أو قيمته يوم قبض إن تلف ولا يبتع به قبل القبض شيئا إلا لفساد فيأخذ ما شاء ومتى توافيا فيه

مصرحين صار بيعا وإلا جاز الارتجاع ولا يجدد إلا بعد التراجع ويصح إنظار معدم الجنس والحط الإبراء قبل القبض غالبا وبعده ويصح بلفظ البيع كالصرف لا هو بأيهما ولا أيهما بالآخر] . قوله: فصل: "ومتى بطل بفسخ أو عدم جنس لم يؤخذ إلا رأس المال". أقول: هذا صحيح لأن المسلم إليه معذور بالفسخ أو عدم الوجود فلا يطالب بغير رد رأس المال أما مع الفسخ فظاهر وأما مع عدم الجنس فلعدم قدرته على إيجاد المعدوم فيرد رأس المال بعينه وإن كان قد تلف فمثله إن كان مثليا وإلا فقيمته. وأما قوله: "ولا يبيع به قبل القبض شيئا" فوجهه ما تقدم من النهي عن أن يبيع الرجل ما ليس عنده وفي خصوص السلم حديث أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلي غيره"، أخرجه أبو دأود وابن ماجه وفي إسناده عطية العوفي ولا يحتج بحديثه ولكنه يشهد له ما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف شيئا فلا يشترط على صاحبه غير قضائه" وفي لفظ: "من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله". وأما قوله: "لا لفساد فيأخذ ما شاء" فأقول: قد عرفناك غير مرة أنه لا وجه للتفرقة بين البطلان والفساد إلا مجرد الرأي فإذا بطل السلم بمبطل شرعي بطل حكمه وليس للمسلم إلا رأس ماله فقط فلا يصح ما رتبه على هذا بقول: "ومتى توافيا فيه" الخ. وأما قوله: "ويصح إنظار معدم الجنس" فصحيح لأن المسلم محكم فيما أسلم فيه إن اختار إرجاع رأس ماله كان له ذلك وإن اختار الإنظار كأن يمهله إلي عام آخر كان له ذلك إلي هذا ذهب الجمهور وهكذا يصح الحط والإبراء قبل القبض وبعده ويصح للبعض وللكل ولا حجر على فاعله لأنه ملكه يتصرف به كيف يشاء ولا مانع شرعيا يمنع من ذلك. وأما قوله: "ويصح بلفظ البيع" الخ فالحق أنه يصح بكل لفظ يدل على التراضي كما قدمنا في البيع والصرف مع ملاحظة كونه معلوما والأجل معلوما وإذا تقرر لك ما ذكرناه في الباب علمت أنه لا يعتبر فيه إلا ما صرح به الحديث الصحيح الذى ذكرناه في أوله. [فصل وإذا اختلف البيعان فالقول في العقد لمنكر وقوعه وفسخه وفساده والخيار والأجل وأطول المدتين ومضيها وإذا قامت بينتا بيع الأمة وتزويجها استعملتا فإن حلفا أو نحوه ثبتت للمالك لا بينتا العتق والشراء والعتق قبل القبض وبعده إن أطلقتا وفي

المبيع لمنكر قبضه وتسليمه كاملا أو مع زيادة وتعيبه وأن ذا عيب وقبل القبض فيما يحتمل والرضا قبل وأكثر القدرين لبائع لم يقبض الثمن في نفي إقباضه وللمسلم إليه في قيمة رأس المال بعد التلف فأما من جنس المبيع وعينه ونوعه وصفته ومكانه ولا بينة فيتحالفان ويبطل غالبا فإن بينا فللمشتري إن أمكن عقدان وإلا بطل وفي الثمن لمدعي ما يتعامل به في البلد ثم للبائع في نفي قبضه مطلقا إلا في السلم ففي المجلس فقط وفي قدره وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع لا بعده فللمشتري] . قوله: " فصل: وإذا اختلف المبيعان فالقول في العقد لمنكر وقوعه". أقول: هذا قد دل عليه الحديث الصحيح المصرح بأن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين وهاهنا المنكر للوقوع القول قوله مع يمينه وعلى مدعي الوقوع البينة لكن قد أخرج أحمد وأبو دأود والنسائي من حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة أو يترادان" وزاد فيه ابن ماجه "والبيع قائم بعينه"، وذكر معنى هذه الزيادة أحمد بلفظ: "والسلعة كما هى"، وفي لفظ للدراقطني: "إذا اختلف البيعان والبيع مستهلك فالقول قول البائع"، وفي لفظ لأحمد والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر البائع أن يستحلف ثم يخير المبتاع إن شاء أخذ وإن شاء ترك والحديث له طرق وقد اختلف فيه على إسماعيل بن أمية ثم على ابن جريج واختلف أيضا في سماع أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود من أبيه ولكنه قد رواه الشافعي عن عون بن عبد الله بن عتبه عن ابن مسعود وفيه انقطاع لأن عونا لم يدرك ابن مسعود وقد روى من غير طريقهما عن عبد الله بن مسعود كما بيناه في شرح المنتقى وأوضحنا طرقه وألفاظه وقد صحح بعض طرقه الحاكم وابن السكن وصحح بعضا منها الحاكم وحسنها البيهقي وهذا الحديث لو سلم من المعارض الناهض لكانت طرقه يشهد بعضها لبعض ويقوي بعضها بعضا ولكنه عارضه الحديث الصحيح المتفق عليه "أن البينة على المدعي واليمين على المدعي عليه"، وبين الحديثين عموم وخصوص من وجه فيتعارضان في مادة الاجتماع وهي حيث يكون البائع مدعيا فإن قوله: "فالقول ما يقول رب السلعة" يدل على أن القول قوله مع يمينه وحديث: "البينة على المدعي" يدل على أنه لا يكون القول قوله بل عليه البينة ومعلوم أن الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق أرجح فالمصير إليه متعين ولا تعارض في مادتي الافتراق وهما حيث يكون البائع منكرا وحيث يكون غير البائع مدعيا فإن الحديثين كلاهما يدلان على أن القول البائع المنكر مع يمينه ويدلان على أن البينة على المدعي الذى ليس ببائع وبهذا تستريح مما وقع فيه الغير من التعب والنصب في الجمع بين الحديثين فتقرر لك بهذا أن القول قول منكر وقوع البيع ومنكر فسخه ومنكر فساده ومنكر الخيار والأجل ومنكر أطول المدتين ومضيها مع يمينه والبينة على المدعي في ذلك كله. قوله: "وإذا قامت بينتا بيع الأمة وتزويجها استعملتا".

أقول: وجهه إمكان الجمع بين الأمرين بأن يزوجها منه أولا ثم يبيعها ثانيا وإذا لم يكن استعمال البينتين بأن يضيفا إلي وقت واحد بطلتا ورجع إلي الأصل وهو بقاء ملك البائع إلا أن يدعي البيع فإنه ها هنا مقر بخروجها عن ملكه ومدعي النكاح ناف لملكها فتصير لبيت مال المسلمين لكن إذا كان البائع مقرا بأستيفاء ثمنها أما إذا كان مطالبا به فإقراره مشروط بتسليم الثمن فلا تخرج عن ملكه إلا به وإلا بقيت في ملكه وأما إذا حلف فقد تضمنت يمين البائع وفي إنكاحها وتضمنت يمين مدعي التزويج نفي بيعها فتبقى في ملك البائع إلا أن يكون البائع مع إنكار إنكاحها مدعيا لبيعها فهو ناف لملكها والكلام فيه كما تقدم في المبينتين. وأما قوله: "ولا بينتا العتق والشراء" فالعتق قبل القبض والشراء بعده فوجهه أن بينة المشتري قبل القبض ضعيفة بالنسبة إلي بينة العتق لأنها قوية مع بقاء الأمة في يد معتقها ولا أرى هذا المرجح راجحا بل ينبغي الترجيح بين نفس البينتين فإن تسأويا من كل وجه بطلتا وبقيت الأمة لمالكها هذا إذا أطلقتا كما ذكر المصنف أو أرختا بوقت واحد وأما إذا اختلف التاريخ فالحكم للبينة الأولى فإن شهدت بالبيع لم يصح العتق وإن شهدت بالعتق لم يصح البيع. قوله: "ولبائع لم يقبض الثمن في نفي اقباضه". أقول: وجهه أن الأصل عدم قبض المشتري للمبيع وأما بعد أن يقبض البائع الثمن فلا يكون القول قوله والظاهر أنه لا فرق بين قبض الثمن وعدمه وأن بقاء المبيع في يد البائع يوجب أن يكون القول قوله في نفي الاقباض على كل حال لأن الأصل عدمه وبقاؤه في يد البائع قرينة مقوية للأصل. وأما قوله: "وللمسلم إليه قيمة رأس المال" فلا وجه له لأنه لا أصالة ها هنا ولا ظهور فينبغي أن يكون القول قول منكر الزيادة والبينة على مدعيها. قوله: "وأما في تعيين جنس المبيع" الخ. أقول: هذه الأمور الخمسة لا يترجح فيها أحد الجانبين بل يستويان فمن بدأ بالدعوى منهما فيها كان هو المدعي وعليه البينة ومن أنكر كان هو المدعى عليه وعليه اليمين فإن ادعى كل واحد منهما بأن يقول هو هذا الجنس ويقول الآخر هو هذا أو هو هذه العين ويقول الآخر هو هذه وكذا في النوع والصفة والمكان فتطلب من كل واحد منهما البينة على ما ادعاه ويعمل على ما قامت عليه وإن بينا جمعيا فقال المصنف إن بينة المشتري أرجح لأنها خارجة إن أمكن عقدان وإلا بطل البيع وهذا مسلم مع استواء البينتين وعدم وجود مرجح يرجح أحداهما على الأخرى بوجه من وجوه الترجيح الآتية وهكذا إذا تخالفا مع عدم البينة لأن المفروض أن كل واحد منهما مدع من جهة ومنكر من أخرى فلا يكون أحدهما أرجح حيث كانا متفقين على أنه لم يقع المبيع إلا لشيء واحد. وأما قوله: "وفي الثمن لمدعي ما يتعامل به في البلد" فصحيح لأنه السابق إلي الأذهان فالظاهر مع من ادعاه وأنكر ما سواه وأما كون القول للبائع في نفي قبض الثمن فوجهه أن الأصل

عدم ذلك وأما ثمن السلم فلما كان قبضه في مجلس عقده شرطا لئلا يكون من بيع الكاليء بالكاليء كان القول قول المنكر قبضه في المجلس لا بعده ولا وجه له إلا ما يذكرونه من أنه إذا احتمل العقد وجهي صحة وفساد كان جانب الصحة أرجح ولا أرى هذا مرجحا بل يتوجه الرجوع إلي حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين. وأما قوله: "وللبائع في قدره وجنسه ونوعه وصفته قبل تسليم المبيع" فلا وجه لهذا إلا ما يذكرونه من أن اليد للبائع قبل التسليم ولا أرى هذا مرجحا بل القول في القدر لمنكر الزيادة وأما في الجنس أو النوع أو الصفة فكما تقدم في المبيع من غير فرق بين أن يكون الاختلاف قبل تسليم المبيع أو بعده.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة [فصل تجب في كل عين ملكت بعقد صحيح بعوض معلوم مال على أي صفة كانت لكل شريك مالك في الأصل ثم الشرب ثم الطريق ثم الجار الملاصق وإن ملكت بفاسد أو فسخ بحكم بعد الحكم بها إلا لكافر على مسلم مطلقا أو كافر في خططنا ولا ترتيب في الطلب ولا فضل بتعدد السبب وكثرته بل بخصوصه ويجب بالبيع وتستحق بالطلب وتملك بالحكم أو التسليم طوعا] . قوله: "كتاب الشفعة فصل يجب في كل عين". أقول: قد حكى الإجماع على مشروعية الشفعة كثير من المحققين فخلاف أبي بكر الأصم لم ينبغي الاعتداد به ولا الالتفات إليه فإنه كما هو مخالف للإجماع من المسلمين هو أيضا مخالف لما تواتر من السنة وأراد المصنف بقوله في كل عين إخراج الشفعة في المنافع فإنها إنما تكون تبعا لملك الأعيان وإذا وقع تصييرها إلي الغير بإجارة أو نحوها فهي باقية في ملك مالكها والشفعة إنما هى فيما خرج من مالك إلي مالك خروجا تأما فالعجب ممن أثبتها في الإجارة ونحوها وأدخلها تحت عموم أدلة الشفعة زاعما بأن ذلك هو الحق وتبعه من تبعه وهو خارج عن معنى الشفعة ومضمونها وفائدتها وأما استدلاله بمثل عموم قضائه صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فهو عليه لا له فإن القسمة من خواص الأعيان لا منافعها فلا معنى لقسمتها لأنها متعلقة بالعين تابعة لها ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في تمام هذا الحديث: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا

شفعة"، فأي حدود بمجرد الحقوق وأي تصريف لطرقها وفي حديث آخر وفي الصحيح بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط وبهذا تعرف أن أطلاق الشيء كما في حديث "الشفعة في كل شيء"، [أبو داود "3513، 3514"، الترمذي "1370"،النسائي "4646"، ابن ماجة "2492، 2493"، أحمد "3/296، 272"، مقيد بالشيء الذي ينتقل من ملك إلي ملك ويمكن قسمته وضرب الحدود له وتصريف الطرق إليه كما صرحت بذلك الأحاديث والحاصل أنا أولا نمنع أنها شيء ونمنع ثانيا ثبوت الشفعة في شيء باق على ملك مالكه بمجرد تسليطه للغير على الانتفاع به والقيام في مقام هذين المنعين لا ينقل عنه إلا ما ينتهض للحجية من الدليل لا مجرد المرأوغة بالقال والقيل. وأما قوله: "بعقد صحيح" فقد عرفناك أن العقود الصحيحة هى التي حصل فيها المناط الشرعي وتجردت عن المانع الشرعي فما كان كذلك ثبت في نفسه وثبتت فيه الشفعة وما لم يكن كذلك لم يثبت في نفسه فضلا عن أن يثبت ما ترتب عليه وأما كونها بعوض مال معلوم فقد تقدم في البيع أنه لا يكون إلا كذلك والشفعة مترتبة عليه. وأما قوله: "على أي صفة كانت" فوجهه عموم أدلة الشفعة ووجود ما علل ثبوتها من دفع الضرر. قوله: "لكل شريك مالك في الأصل" الخ. أقول: أحاديث ثبوت الشفعة لمطلق الجار قد قيدتها الأحاديث الواردة بأن الشفعة في كل ما لم يقسم وأنها إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فإفاد هذا التقييد بأنه لا شفعة للجار الملاصق الذي لا خلطة بينه وبين شريكه ودعوى الإدراج في قوله فإذا وقعت الحدود الخ غير مقبولة فإنها ثابتة من حديث جابر عند البخاري وغيره وقد أخرجها أبو دأود وابن ماجه بإسناد رجاله ثقات بلفظ: "إذا قسمت الدار وحدث فلا شفعة"، ومع هذا فأصل الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما بلفظ أنه قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم وفي لفظ قضى بالشفعة في كل شركة لم يقسم يدل على أنه لا شفعة فيما قد قسم وهذا هو معنى هذه الزيادة فمن أعلها بالإدراج ورتب على ذلك ثبوت شفعة الجار الملاصق بعد القسمة مردود عليه بأصل الحديث وأما حديث: "الشفعة في كل شيء"، على فرض ثبوته فهو مطلق مقيد بالأحاديث المصرحة بعدم القسمة وبأنها إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وأما حديث الشريد بن سويد قال: قلت: يا رسول الله أرضي ليس لأحد فيها شرك ولا قسم إلا الجوار فقال: "الجار أحق بسقيه ما كان" أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه فقد أعل بالاضطراب والإرسال وعلى كل حال فهو لا يصلح لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما وأما حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جار الدار أحق بالدار من غيره". أخرجه أحمد "5/8:12"، وأبو دأود "3517"،والترمذي "1368"،وصححه والبيهقي والطبراني والضياء فهو من طرق الحسن عن سمرة وفي سماعه منه المقال المتقدم على أنه مقيد بما في الصحيحين وغيرهما وبحديث جابر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بشفعة

جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا". أخرجه أحمد "3/303"، وأبو دأود "3518"،وابن ماجه "2494"،والترمذي "1369"،وحسنه ومع الاشتراك في الطريق فالشركة باقية وعدم القسمة كائن ولم تصرف الطرق. فعرفت بمجموع ما ذكرناه أن مجرد الجوار بعد القسمة وتصريف الطرق لا تثبت به الشفعة. فالحاصل أنه لا سبب للشفعة إلا الخلطة وهي أعم من أن تكون في أرض أو دار أو طريق أو في ساقية للشرب أو في شيء من المنقولات. وأما قوله: "وإن ملكت بفاسد أو فسخ بحكم" فقد قدمنا أنه إذا وجد ما يبطل عقد البيع بطل ما يترتب عليه وأما إذا كان قد حصل التراضي فهو المقتضى فإذا انضم إليه عدم المانع وهو أن لا يكون البيع من البيوع المنهي عنها فلا يضره ما يدعي أنه مفسد ولا يضره عروض التفاسخ الذي لم يكن السبب موجبا لإبطال البيع من أصله. قوله: "إلا لكافر على مسلم" الخ. أقول: الكافر المعصوم الدم بالذمة الإسلامية إذا طلب شفعة له من مسلم ورافعه إلي الشريعة الإسلامية وجب علينا الحكم له كما تدل على ذلك الآيات القرآنيه ولم يثبت في السنة ما يدل على إخراج أهل الذمة من هذا الحكم الذى شرعه الله لعباده وقد جازت المعاملة لهم للبيع ونحوه وإذا كان الذمي الطالب للشفعة في جزيرة العرب فلا شك أنا مأمورون بإخراجه وإخراج أمثاله منها لكن إذا لم نفعل وقررناهم فيها كان ذلك موجها للحكم بالشريعة الإسلامية ما داموا فيها كما يجوز البيع منهم لاتحاد البيع والشفعة في كونهما موجبين لانتقال الملك مع تحريم المضارة لهم بوجه من وجوه الضرر فلهم ما للمسلمين فيما توجبه الشريعة من دفع المفاسد وجلب المصالح إلا ما خصه دليل ولا يصلح لمثل هذا الاستدلال بقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو"، فإنه ها هنا لم يكن له سبيل على المؤمنين بشريعته ولا من جهة نفسه بل بشريعة الإسلام ولم يعل لدفع الضرر عن نفسه بها وأما ثبوت التشافع في ذات بينهم فالأمر أظهر. قوله: "ولا ترتيب في الطلب". أقول: إذا ترك الطلب من له حق في الشفعة وقت العلم بالبيع لظنه أن غيره أولى بها منه كان ذلك عذرا له كما سيأتي هذا على تقدير أن الطلب على الفور وأن التراخي مبطل. وأما قوله: "ولا فصل بتعدد السبب" فصحيح لأن المراد وجود ما تستحق به الشفعة والواحد والكثير مستويان في هذا وهكذا الاعتبار بكثرته. وأما قوله: "بل بخصوصه" فقد عرفناك أن السبب ليس إلا الخلطة وهي شيء واحد فلا يتم الخصوص إلا على الفور بتعدد أسباب الشفعة كما تقدم للمصنف ومعنى قوله ويجب البيع أنه يصير من له الشفعة مستحقا للمطالبة بها وأما كونها تستحق بالطلب فمعناه أن الشفيع إذا طلب فذلك هو السبب في الاستحقاق فإن رضي المشتري صار المشفوع فيه ملكا له بمجرد

ذلك ويجب عليه دفع ما دفعه من الثمن وإن لم يرض مع عدم المانع الشرعي صار آثما لأنه امتنع من حق واجب عليه وعلى حاكم الشرع إجباره بتسليم ما أوجبه عليه الشرع وأما كونها تملك بالحكم أو التسليم طوعا فظاهر. [فصل وتبطل بالتسليم بعد البيع وإن جهل تقدمه إلا لأمر فارتفع أو لم يقع بتمليكها الغير ولو بعوض ولا يلزم وبترك الحاضر الطلب في المجلس بلا عذر قيل وإن جهل استحقاقها وتأثير التراخي لا ملكه السبب أو اتصاله وبتولي البيع لا إمضائه وبطلب من ليس له طلبه أو المبيع بغيرها أو بغير لفظ الطلب عالما أو بعضه ولو بها غالبا إن اتحد المشتري ولو لجماعة ومن جماعة وبخروج السبب عن ملكه باختيار قبل الحكم بها وبتراخي الغائب مسافة ثلاث فما دون عقيب شهادة مطلقا أو خبر يثمر الظن دينا فقط عن الطلب والسير أو البعث بلا عذر موجب قدرا يعد به متراخيا فلو أتم نفلا ركعتين أو قدم التسليم أو فرضا تضيق لم تبطل] . قوله: "فصل: وتبطل بالتسليم بعد البيع". أقول: لأن ذلك حق للشفيع فإذا أبطله بطل وأما قوله وإن جهل تقدمه فغير مسلم لأنه لا بد أن يعلم ثبوت الحق له ثم يبطله وأما قبل أن يعلم بتقدم العقد فيمكن أنه أبطله لعلمه أنه لا يبطل بإبطاله قبل المبيع فهو من جملة ما يصدق عليه قوله إلا لأمر فارتفع فإنه أبطله لظنه أمرا وهو عدم تقدم العقد فارتفع بانكشاف تقدم العقد والوجه فيه أنه أسقط لظنه أمرا فانكشف خلافه فلا تطيب نفسه بذلك الإسقاط والحق له حكم الملك في إنه لا يحل للغير إلا بطيبة من نفس من هو له والكل يصدق عليه اسم المال والفرق إنما هو مجرد إصطلاح للفقهاء وهكذا إذا ظن وقوع أمر فانكشف أنه لم يقع فإنه كظنه الأمر الذى ارتفع. وأما قوله: "وتمليكها الغير" الخ فغير مسلم فإنه لم يرض بإسقاط حق نفسه إلا بشرط هو مصيره إلي من ملكه فإذا لم يصر إليه فهو على حجته وأما تعليل هذا التمليك لكونه نوعا من التراخي فسيأتي الكلام على التراخي وأما كون العرض لا يلزم فغير صحيح لأنه مال أمريء مسلم طابت به نفسه فحل لمن صار إليه مع تراضيهما على ذلك وكان تجارة عن تراض. قوله: "ويترك الحاضر الطلب في المجلس بلا عذر". أقول: قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة أن الشفعة حق ثابت لمن له سبب يستحقها به فمن زعم أنه يشترط فيها الفور وأن التراخي يبطلها فعليه الدليل فإن جاء به صافيا عن

شرب الكدر فبها ونعمت وإن عجز عن ذلك كان الحق الثابت بالدليل الصحيح باقيا غير باطل بترك الفور وحصول التراخي ولم يأت المدع للبطلان بشيء يصلح للتمسك به أصلا فإن حديث: "الشفعة كحل العقال" قد قال ابن حبان لا أصل له وقال أبو زرعة منكر وقال البيهقي ليس بثابت وأما الاستشهاد له بحديث: "الشفعة لمن واثبها" فهذا إنما رواه من لا معرفة له بعلم الرواية من الفقهاء كأبي الطيب الطبري وابن الصباغ صاحب الشامل في الفقه والمأوردي وهؤلاء ليس من رجال الرواية ولا يرجع إلي مثلهم في ذلك فليس هذا بحديث لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا هو في كتاب حدثني فمن اغتر به وزعم أنه يشهد للحديث الأول ويفيد أن لهما أصلا في الجملة فقد أخطأ فإن الحديث الأول منكر غير ثابت وإن أخرجه ابن ماجه ففي كتابة السنن الكثير من أمثاله وأما الآخر فليس بحديث ومما يؤيد ما ذكرناه ما تقدم في حديث جابر بلفظ: "ينتظر بها وإن كان غائبا"، وهو حديث حسن كما تقدم. وإذا تقرر لك هذا عرفت أن من تراخى جأهلا لاستحقاقها أو يكون تراخيه مؤثرا للبطلان لا تبطل شفعته بالأولى فإنها إن لم تبطل بالتراخي لغير عذر كان عدم بطلانها بالتراضي بعذر مثل هذا من باب فحوى الخطاب. وأما قوله: "لا ملك السبب واتصاله" فتكرير لقوله إلا لأمر فارتفع أو لم يقع فإن هذين قد أفادهما ذاك. وأما قوله: "وتولى البيع" الخ فمبني على ما تقدم من بطلانها بالتراخي وقد عرفت ما فيه فلا فرق بين تولي البيع وبين إمضائه وقد أكثروا من التعسفات فى إبطال هذا الحق الثابت بالشرع كقوله ويطلب من ليس له طلبه أو المبيع بغيرها أو بغير لفظ الطلب فإن جعل هذه المبطلات للشفعة مجرد دعأوي لم تعضد ببرهان ولا دل عليها نقل ولا عقل ومجرد قولهم إن الاشتغال بذلك مع العلم تراخ فنقول لهم هذا الأصل الذى بنيتم عليه هذه القناطر قد هدمناه وأرحناكم من التعب في تقويمه وهكذا قوله أو بعضه ولو بها إلي آخر البحث فإنه مبني على ذلك الأصل المهدوم. قوله: "وبخروج السبب عن ملكه" الخ. أقول: وجه ذلك أنه رضي بإبطال شفعته بإخراج ما هو سبب لثبوتها عن ملكه قبل مصيرها إليه فبطلت. وأما قوله: "وبتراخي الغائب" الخ فلا وجه لهذا التحديد وقد تقدم في حديث جابر بلفظ: "ينتظر بها وإن كان غائبا" وظاهره أنه ينتظر سواء طالت المدة أو قصرت وسواء كان في مسافة ثلاث أو أكثر وكلام المصنف هذا وما بعده إلي آخر الفصل مبني على أن الشفعة تبطل بالتراخي وقد عرفت ما فيه فلا نطيل الكلام في غير طائل.

[فصل ولا تبطل بموت المشتري مطلقا ولا الشفيع بعد الطلب أو قبل العلم أو التمكن ولا بتفريط الولى والرسول ولا بالتقائل مطلقا ولا بالفسخ بعد الطلب ويمتنعان بعده ولا بالشراء لنفسه أو للغير ويطلب نفسه ولا يسلم إليها] . قوله: "فصل: ولا تبطل بموت المشتري مطلقا". أقول: لأن الحق للشفيع قد ثبت بنفس البيع فموت المشتري لا يؤثر في بطلان حق شرعي. وأما قوله: "ولا الشفيع بعد الطلب" فالظاهر أنه الشفعة لا تبطل بموت الشفيع مطلقا من غير فرق بين قبل الطلب وبعده لأنه حق يورث عنه كما تورث سائر الحقوق ودفع الضرر غير مختص لمن كان موجودا عند الشراء لأن وارثه يتضرر كما يتضرر وإذا مات الشفيع قبل أن يعلم بالبيع أو قبل أن يتمكن من الطلب فلوارثه ما كان له وهكذا لو مات بعد العلم أو بعد التمكن من الطلب كما قدمنا لك من عدم اشتراط الفور في الطلب وأما كونها لا تبطل بتفريط الولي والرسول فلكون صدور ذلك من جهة أنفسهما وهما إنما أمرا بإيقاع الطلب فلا يبطل بتفريطهما ما هو حق لغيرهما. قوله: "ولا بالتقائل مطلقا". أقول: إذا أقال المشتري البائع رجع المبيع له وكأن البيع لم يكن وهكذا إذا أقال البائع المشتري أو أقال كل واحد منهما الآخر فلم يتم البيع تمأما شرعيا فلا وجه لما قاله المصنف وهكذا لا وجه لما تقدم له من أن الإقالة بيع في حق الشفيع وهكذا لا وجه لقوله ولا بالفسخ بعد الطلب لأنه بفسخ قد عاد على أصل البيع الذى هو سبب استحقاق الشفعة بالبطلان وهكذا لا وجه لقوله ويمنعان بعده. والحاصل أن هذه تفريعات على أصول منهارة وأن كونها لا تبطل بالشراء لنفسه فلعدم ورود ما يدل على أن ذلك مبطل لحقه من الشفعة إذا قام يشفع غيره مما له استحقاق لها وهكذا لا تبطل للشراء لغيره ولكن لا بد عند من يوجب الفور أن يطلب نفسه كما قال المصنف وأما كونه لا يسلم إليها فلأنه مأمور بإدخال المبيع في ملك موكله لا بإخراجه عن ملك فإن ذلك لا يقتضيه التوكيل. [فصل وللمشتري قبل الطلب الانتفاع والإتلاف لا بعده لكن لا ضمان للقيمة ولو أتلف

ولا أجرة وإن استعمل إلا بعد الحكم أو التسليم باللفظ وللشفيع الرد بمثل ما يرد به المشتري إلا الشرط ونقض مقاسمته ووقفه وعتقه واستيلاده وبيعه فإن تنوسخ شفع بمدفوع من شاء فإن أطلق فبالأول ويرد ذو الأكثر لذي الأقل وعليه مثل الثمن النقد المدفوع قدرا وصفة ومثل المثلى جنسا وصفة فإن جهل أو عدم بطلت فيتلف المشتري أو ينتفع حتى يوجد وقيمة القيمي وتعجيل المؤجل وغرامة زيادة فعلها المشتري قبل الطلب للنماء ولا للبقاء وقيمة غرسه وبنائه وزرعه قائما لإبقاء له إن تركه أو أرش نقصانها إن رفعه أو بقاء الزرع بالأجرة وله الفوائد الأصلية إن حكم له وهي متصلة لا منفصلة فللمشتري إلا مع الخليط لكن يحط بحصتها من الثمن إن شملها العقد وكذا في كل ما نقص بفعله أو فعل غيره وقد اعتاض] . قوله: "فصل: وللمشتري قبل الطلب الانتفاع والإتلاف لا بعده". أقول: هذا صحيح لأنه هالك تصرف في ملكه قبل أن يتعلق به حق للغير وبعد الطلب قد تعلق به حق للشفيع فلا يجوز له إبطاله بالتصرف. وأما قوله: "لكن لا ضمان للقيمة وأن أتلف" فوجهه أنه أتلف ملكه وإن عصى بتفويت الحق على الشفيع وهكذا لا وجه للزوم الأجرة له إذا استعمل المبيع لأنه استعمل ملكه قبل أن يخرج عنه وإنما يضمن القيمة وتلزمه أجرة الاستعمال إذا أتلف أو استعمله بعد أن انتقل إلي ملك الشفيع بحكم أو بالتراضي وهذا كله من تكثير الكلام بما لا تدعو إليه حاجة ولا يتعرض دونه إشكال. قوله: "وللشفيع الرد بمثل ما يرد به المشتري". أقول: هذا صحيح لأن المبيع انتقل إليه بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فله أن يرده على مشتريه بما أثبته له لشرع ولا ينافي ذلك كونه يأخذه من يد مشتريه وإن كره انتقاله إليه لأن مثل هذا ليس بمانع شرعي لما سوغه الشرع ولا فرق بين سبب وسبب من أسباب الرد المتقدمة ولا مانع من أن يجعل لنفسه خيار الشرط في هذا الأمر الذى أثبته له الشرع فيقول للمشتري إن رغبت في انتقال هذا المبيع إلي بحق الشفعة في مدة كذا وكذا وإلا فهو رد عليك وليس للمشتري أن يمتنع من قبول هذا الشرط وهذا ونحوه وإن أبته المقلدة فهو لا يأباه من وفى الاجتهاد حقه. وأما قوله: "ويقض مقاسمته" الخ فوجهه أن إيقاع المشتري لهذه الأمور لا تبطل الحق الثابت في تلك العين للشفيع لأنها مسبوقة بحقه الذى أثبته له الشرع وموقوفة على إبطاله أو بطلانه بمتقض للبطلان. قوله: "فإن تنوسخ شفع بمدفوع من شاء". أقول: الشفعة وجد سببها بالعقد الأول فإذا انضم إليه الطلب وبذل ما دفعه المشتري من الثمن فلا حكم للعقود التى ترتبت على هذا العقد الذى كان هو السبب للشفعة بل تبطل كلها

ويتراجع أهلها بما دفعوه من الأثمان سواء زادت على ما دفعه المشتري الأول أو نقصت عنه فإن قلت: إن حق الشفيع يثبت بكل واحد منها على حد ثبوته بالعقد الأول فما المانع للشفيع من أن يشفع ما شاء منها؟ قلت: إذا كان حق الشفيع ثابت في العقد الأول فلا يصح ما ترتب عليه ولا يشفع إلا به وإن كان قد أبطل شفعته فيه أو بطلت بمبطل شرعي كان العقد الثاني بمنزلة عقد أول فليس له أن يشفع إلا به لا بما ترتب عليه ثم هكذا الكلام في بقية العقود وأما الحكم لجميعها بالصحة وتفويض الشفيع إلي ما يقترحه ويريده فخارج عن مسلك العدل والعقل فإنه يؤدي إلي تغريم بعض البائعين بعد أن باع ملكه بيعا أذن الله له به وأحل له ما قبضه من الثمن بمجرد هذا التشهي المجعول للشفيع خبطا وجزافا. وأما كون عليه مثل الثمن فمعلوم لا تدعو إليه حاجة إلي ذكره. وأما كونها تبطل مع جهل الثمن أو عدمه فإن استمر ذلك ولم يتبين القدر أو لم يوجد فوجه البطلان أن المشتري لا يجب عليه إخراج المبيع من ملكه إلي ملك الشفيع إلا بالثمن الذى دفعه والمفروض أنه قد طرأ ما أوجب جهالته أو تعذر وجوده فلا يجوز أن يكلف بإخراجه من ملكه لأنه هجوم على ما لا عدل فيه والعدول إلي القيمة قد يكون مخالفا لغرض مالكه فالشفيع مخير بين أن يدفع له بما يرضى به حتى يكون ذلك تجارة عن تراض أو يدع الشفعة. وأما قوله: "وتعجيل المؤجل" فلا وجه له لأنه صار إليه البيع بالحق الثابت له بالشرع فلا يلزمه إلا ما لزم المشتري ولا يجب عليه دفع الثمن إلا في الوقت الذى يجب على المشتري دفعه فيه. قوله: "وغرامة وزيادة" الخ. أقول: ما غرمه المشتري في المبيع مما يحصل به زيادة فيه من حرث أو غرس أو بناء ونحوها كان له الرجوع بقيمة ذلك على الشفيع لأنه فعله في ملكه قبل أن يستحق عليه بالشفعة وأما بعد أن يعلم أن الشفيع قد صار مطالبا بالشفعة مضيقا في مصير المبيع إليه فليس له أن يفعل فيه شيئا إلا بإذن الشفيع فإن فعل بغير إذنه والحال هكذا كان له رفع ما يمكن رفعه ولا يرجع بما لا يمكن رفعه وللمشتري الفوائد الحادثة في المبيع بعد البيع قبل طلب الشفيع سواء كانت أصلية أو فرعية لأنها فوائد ملكه فإن اختلط بما كان منها موجودا قبل البيع كان له بقدر ما حدث بعد البيع قبل الطلب وإذا حصل في المبيع نقص بعد البيع قبل طلب الشفع فإن كان بفعل المشتري أو تفريطه كان مضمونا عليه للشفيع وإن كان لا بفعله ولا تفريطه فليس عليه وذلك كرخص السعر والهزال بلا سبب والآفات السمأوية والأمر الغالب من غيرها والحاصل أن المشتري لا يضمن إلا ما كان بجنايته أو تفريطه فإن كانت بجناية الغير على المبيع رجع عليه الشفيع بما قبضه من الجاني إن كان قد قبض الأرش منه وإلا كان للشفيع مطالبة الجاني بأرش جنايته هكذا ينبغي أن يقال في الزيادة والنقص.

[فصل وإنما يؤخذ المبيع قسرا بعد الحكم فهو كالأمانة أو التسليم والقبول باللفظ فهو كالمبيع فيؤخذ من حيث وجد ويسلمه من هو في يده وإلا فغصب إلا لقبض الثمن ولو بائعا مستوفيا وهي هنا نقل في الأصح ويحكم للموسر ولو في غيبة المشتري ويمهل عشرا ولا تبطل بالمطل إلا لشرط وللملتبس مشروطا بالوفاء لأجل معلوم وللحاضر في غيبة الأولى ومتى حضر حكم له وهو معه كالمشتري مع الشفيع وللوكيل وإن طلب المشتري يمين الموكل الغائب في نفي التسليم أو التقصير لا للمعسر وإن تغيب حتى أيسر والحط والإبراء والإحلال من البعض قبل القبض يلحق العقد لا بعده ولا الهبة ونحوها مطلقا والقول للمشتري في قدر الثمن وجنسه ونفي السبب وملكه والعذر في التراخي والحط وكونه قبل القبض وللشفيع في قيمة الثمن العرض التالف ونفي الصفقتين بعد اشتريتهما وإذا تداعيا الشفعة حكم للمبين ثم الأول ثم المؤرخ ثم تبطل] . قوله: "فصل: وإنما يؤخذ المبيع قسرا" الخ. أقول: إذا وقع الطلب من الشفيع وصح سببه الذى يستحق به الشفعة وبذل تسليم الثمن كان على المشتري تسليم المبيع إليه فإن أبى لا لموجب شرعي كان غاصبا وإذا تلف تلف من ملكه وإن لم يحصل منه الامتناع من التسليم بل هو باذل لتسليمه ومنع من التعجيل مانع معقول فقد صار في ملك الشفيع ويتلف من ملكه. وأما قوله: "وهي نقل في الأصح" فلا يخفاك أن الشفعة حق للشفيع ثبت بالشرع فمصيره إليه هو بما أوجبه الشرع على المشتري من قبول حكم الله عليه فهذا هو الذى أوجب الملك للشفيع ونزعه من يد البائع وأما التعبير بكونه نقلا وفسخا فاصطلاح متجدد لا يحل أن يترتب عليه شيء من أحكام الشرع. وأما قوله: "ويحكم للموسر" الخ فصحيح لأنه إذا رافع من له هذا الحق الشرعي إلي حاكم الشرع وجب عليه أيضا له به كما يحكم على الغائب في سائر ما يجب عليه التخلص منه. وأما ما ذكره من أنه يمهل عشرا فهذا ليس عليه دليل ولا هو رأي مستقيم والذى ينبغي أن يقال إنه يمهله إن كان يحتاج في تحصيل الثمن إلي بيع من أملاكه أو نحو ذلك مدة يتمكن فيها من ذلك سواء كانت أقل من العشر أو أكثر ولا تبطل شفعته إن مطل زيادة على المدة المجعولة له ومجرد الشرط لا يسقط حقه الثابت بالشرع إلا أن يرضى بذلك لنفسه وإلا فهو شرط مخالف ما يقتضيه الشرع لكنه إذا عرف منه تعمد المطل ومضارة المشتري بعدم تسليم الثمن أجبره الحاكم على التسليم إلا أن يختار ترك الشفعة. وأما قوله: "وللملتبس مشروطا بالوفاء" فلا يحتاج إلي هذا الشرط لأنه مشروط من جهة

الشرع أن يدفع الشفيع مثلما دفعه المشتري فإن لم يفعل فلا شفعة. وأما قوله: "ويحكم للحاضر" الخ فصحيح لأنه طالب بحق له أثبته الشرع لوجود سببه والاعتبار بالانتهاء إذا كان ثم شفيع أحق منه بالشفعة وهكذا يحكم لوكيل الشفيع إن وجد السبب المقتضي لذلك. قوله: "لا للمعسر وإن تغيب حتى أيسر". أقول: هذا هو الحق الثابت بالشرع إذ لا بد أن يكون الشفيع متمكنا من تسليم مثل الثمن ولا يشترط في هذا أن يكون متمكنا منه في ملكه بل إذا تمكن منه بالقرض ثبتت شفعته ولو كان فقيرا لا يملك شيئا لأنه قد حصل المقصود برد مثل الثمن ولا يجب غير ذلك. وأما الحكم ببطلانها بمجرد الإعسار فدفع للشرع بالصدر بغير برهان. وأما كون الحط والإبراء والإحلال من البعض يلحق العقد قبل القبض فصحيح لأنه لا يجب على الشفيع أن يدفع إلا ما دفعه المشتري. وأما بعد القبض فوجهه أنه قد يكون ذلك بمقصد خارج عن التبايع من مكارمة أو صداقة أو نحوهما والظاهر أن ما كان راجعا إلي ذلك العقد الواقع بينهما فهو لا حق له وكونه بمقصد آخر خلاف الظاهر لأن كونه مضافا إلي ثمن المبيع يوجب للشفيع مثلما وقع للمشتري إلا أن يتقرر ببرهان شرعي أن ذلك كان لسبب آخر فله حكمه. وأما الهبة ونحوها فلا مانع منها إذا كانت لمقصد صحيح لا لمجرد الحيلة على الشفيع والفرق بين ما كان بلفظ الهبة ولفظ الحط ونحوه لا يخفى أنه مجرد ملاحظة للألفاظ التي لا اعتبار بها في الشرع كما عرفناك غير مرة فينبغي في الجميع الرجوع إلي ما يقتضيه الظاهر وتوجبه المقاصد. قوله: "والقول للمشتري في قدر الثمن وجنسه". أقول: ينبغي أن يكون القول قول النافي للزيادة في القدر والنافي لكون الجنس أعلى وأكثر قيمة والبينة على مدعي الأمرين وأما الجزم بأن القول للمشتري فيهما مطلقا فخلاف الصواب بل خلاف قواعدهم المألوفة في غير هذا الباب ومعلوم أن الشفيع لا يقع منه إنكار أصل الثمن ولا إنكار كونه على جنس من الأجناس إنما يقع منه إنكار الزيادة والنفاسة ونحوهما. وأما كون القول قوله في نفي السبب فصحيح لأن الأصل عدمه وهكذا القول له في إنكار اتصاله بالمبيع أي كونه سببا يصح له التشافع على ما قدمنا تقريره وهكذا القول له في نفي الحط لا الأصل عدمه وسواء كان المشتري يدعي أنه قبل القبض أو بعده. وأما قوله: "وللشفيع في قيمة الثمن العرض التألف" فلا يخفاك أنه ليس أحدهما أولى من الآخر لكون القول قوله فيكون فيه كما قدمنا في قدر الثمن وجنسه. وأما كون القول قول الشفيع في نفي الصفقتين فظاهر لأن الأصل عدم كون البيع وقع دفعات ولا فرق بين أن يكون المشتري قد قال اشتريتهما أم لا.

وأما قوله: "وإذا تداعيا الشفعة حكم للمبين" فظاهر. وأما قوله: "ثم الأول" فلا وجه له بعد وقوع التخاصم. وأما قوله: "ثم للمؤرخ" فلا وجه له لأن التاريخ منه التخاصم. وأما قوله: "ثم يبطل" فلا وجه بل ينبغي أن يقال إن كل واحد منهما مدع ومدعي عليه فإذا لم توجد البينة حلف كل واحد منهما على نفي دعوى الآخر فيكون ثبوت كل واحد منهما على ما تحت يده بهذه الطريقة لا بمجرد الحكم بالبطلان بادئ بدء.

كتاب الإجارة

كتاب الإجارة مدخل ... كتاب الإجارة [فصل تصح فيما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه ونماء أصله ولو مشاعا وفي منفعة مقدورة للأجير غير واجبة عليه ولا محظورة وشرط كل مؤجر ولايته وتعيينه ومدته أو ما في حكمها وأول مطلقها وقت العقد وأجرته وتصح منفعة وما يصح ثمنا ومنفعته إن اختلفت وضررها ويجوز فعل الأقل ضرا وإن عين غيره ويدخلها الخيار والتخيير والتعليق والتضمين غالبا ويجب الرد والتخلية فورا وإلا ضمن هو وأجرة مثله وإن لم ينتفع إلا لعذر ومؤنهما ومدة التخلية عليه لا الإنفاق] . قوله: "كتاب الإجارة فصل تصح فيما يمكن الانتفاع به". أقول: ثبوت الإجارات في هذه الشريعة قطعي لا يكاد ينكر أصل الجواز والصحة إلا من لا يعرف الكتاب والسنة ولا يعرف ما كان الأمر عليه في أيام النبوة وأيام الصحابة وقد أجر النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما في البخاري "4/441"، وغيره ابن ماجة "2149"، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسم أنه قال: "ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم"، فقال أصحابه وأنت؟ قال: "نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استأجر كما في اصحيح البخاري وغيره من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم استأجر رجلا من بني الديل هاديا خريتا الحديث المذكور في وصف هجرته صلى الله عليه وسلم وقد كان أكابر الصحابة يؤجرون أنفسهم في الأسواق وغيرها وهذا معلوم لا يشك فيه أحد. وأما التكلم في لزوم عقدها فمن فضول الكلام الذى لا يدعو إليه حاجة لأن الأجير إن

أراد الأجرة فلا يستحقها إلا بالوفاء بما تراضيا عليه وإن رغب عن الأجرة فلا يلزمه الوفاء ولهذا يقول شعيب عليه السلام لموسى عليه السلام {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] ، فذكر له القدر الذى يستحق به أن ينكحه إحدى ابنتيه ثم ذكر له الزيادة على جهة المكارمة والتفضل فمعلوم أنه لا يلزم موسى عليه السلام الدخول في هذا العقد ابتداء ثم لو رغب عن الأجرة واختار الترك في وسط المدة لم يكن عليه التمام شاء أم أبى وهكذا سائر الإجارات فلزوم عقدها هو من هذه الحيثية وهو مفوض إلي الأجير إن شاء مضى فيه واستحق الأجرة وإن شاء تركه وترك المطالبة بالأجرة. وأما اشتراط كون الإجارة فيما يمكن الانتفاع به فلا بد من ذلك وإلا كان البحث خارجا عن الإجارة. وأما قوله: "ونماء أصله" فلا يدري ما هو الموجب لهذا الاشتراط ولا ثبت ما يمنع منه من شرع ولا عقل فاستئجار الشجرة للانتفاع بثمرها واستئجار الحيوان للانتفاع بما يخرج منه من صوف ولبن جائز صحيح ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل. وأما قوله: "ولو مشاعا" فصحيح لأن المالك لبعض الشيء له أن يتصرف به كيف يشاء كالمالك للشيء جميعه إلا أن يتصرف في نصيبه بما يضر شريكه فإن ذلك ممنوع بالأدلة الواردة في المنع من الضرار. وأما قوله: "في منفعة مقدورة للأجور" فلا بد منه فإن ما لا يقدر عليه لا ينتفع به فيه. قوله: "غير واجبه عليه". أقول: الأدلة الواردة في تحليل الإجارة على العموم وفي تحليل مطلقها من غير تقييد يقتضي أنه لا يصح القول بعدم جواز نوع خاص من أنواعها إلا بدليل يدل عليه يصلح لتخصيص العموم أو تقييد المطلق وقد استدلوا على عدم جواز الاستئجار على ما هو واجب على الأجير بما أخرجه ابن ماجه والبيهقي من حديث أبي بن كعب قال علمت رجلا القرآن فأهدى لي قوسا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أخذتها أخذت قوسا من نار" فرددتها. قال البيهقي وابن عبد البر وهو منقطع يعني بين عطية العوفي وأبي بن كعب وكذلك قال المزني وتعقبهم ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأعله ابن القطان بالجهل يحال عبد الرحمن بن سلم الرأوي عن عطية وله طرق عن أبي قال ابن القطان لا يثبت منها شئ قال ابن حجر وفيما قال نظر وذكر المزي في الأطراف له طرقا وشهد له ما أخرجه أبو دأود وابن ماجه من حديث عبادة ولفظه قال علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله عز وجل لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتيته فقلت يا رسول الله رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليس بمال وأرمي عليها في سبيل الله فقال: "إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها"، وفي إسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي وقد تكلم فيه جماعة ووثقه وكيع ويحيى بن معين ولكنه قد روي عن عبادة من

طريق أخرى عند أبي دأود "3417"، بلفظ ما ترى فيها يا رسول الله فقال: "جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها"، وفي إسناد هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة ووثقه الجمهور وقد روي حديث أبي السابق الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي بنحوه وهذه الروايات يقوي بعضها بعضا فتقوم بها الحجة وكونها واردة في خصوص الهدية لا يمنع من الاستدلال بها على تحريم الأجرة لأنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر ما يدل على تحريم أخذ العوض عن ذلك كما في هذه الروايات وقد تركوا الاستدلال على التحريم بما هو أصرح من هذه الأحاديث وهو ما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات والبزار من حديث عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقرأوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به"، وما أخرجه أيضا أبو دأود من حديث جابر قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعرأبي والعجمي فقال: "اقرأوا فكل حسن وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه"، وأخرجه أبو دأود أيضا من حديث سهل بن سعد. ومما له دخل في منع أخذ الأجرة على ما هو طاعة ما تقدم في الإذان من قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: " اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا"، وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلي أنها تحل الأجرة على تعليم القرآن وأجابوا عن حديث أبي وعبادة وما في معناهما بأجوبة منها أنها واقعات عينية فتحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنهما فعلا ذلك خالصا لله فكره أخذ العوض عنه وقد استوفيت ما أجابوا به وما أجيب عليهم في شرحي للمنتقى ومن جملة ما استدل به المجوزون ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال هل فيكم من راق فإن في الماء رجلا لديغا أو سليما فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فجاء بالشاء إلي أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت على كتاب الله أجرا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله"، فإن هذا العموم يدل على جواز أخذ الأجرة على القرآن على كل وجه من وجوه الإجارات وقد خصص بالأحاديث المتقدمة فيقتصر المنع على ما اشتملت عليه. قوله: "ولا محظورة". أقول: يدل على هذا ما ورد في الأحاديث من النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن فإن العلة في المنع من هذه ونحوها هى كونها محرمة فيلحق بذلك كل محرم للاستواء في علة المنع. وأما قوله: "وشرط كل مؤجر ولايته" فوجهه أنه لا يجوز استعماله إلا بإذن مالكه أو من ينوب عن المالك وإلا كان ذلك من باب الغصب لا من باب الإجارة وهكذا لا بد من تعيين ما أستأجره أو استؤجر عليه وإلا كان الانتفاع به متعذرا وهكذا لا بد من تعيين مدته ويصح أن تكون الإجارة غير مشتملة على مدة معلومة وذلك كان يستأجره على كذا في كل يوم بكذا أو في شهر بكذا فإن هذه الإجارة صحيحة ولم يرد ما يدل على امتناعها وهما بالخيار أحدهما ترك ذلك كان له من غير حرج وأما اشتراط تعيين الأجرة فيدل عليه ما أخرجه أحمد

"3/59، 68، 71"، من حديث أبي سعيد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره قال في مجمع الزوائد ورجال أحمد رجال الصحيح إلا أن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي سعيد فيما أحسب انتهى وأخرجه أيضا عبد الرزاق وإسحق في مسنده وأبو دأود في المراسيل والنسائي في المزارعة غير مرفوع ولفظ بعضهم: "من استأجر أجيرا فليسم له أجرته" وأخرجه أيضا البيهقي. وأما قوله: "ويصح منفعة" فصحيح لأن الاعتبار بما وقع عليه التراضي في الأجرة من عين أو منفعة وما صح أن يكون ثمنا في المبيعات صح أن يكون أجرة في الإجارت. وأما قوله: "ومنفعته أن اختلفت وضررها" فصحيح لأن الاحتمال لمنافع من غير تراض على تسليط المستأجر على كل منفعة يكون سببا لتوقف الانتفاع الذى هو المقصود من الإجارة. وأما قوله: "يجوز فعل الأقل ضرا وأن عين غيره" فغير مسلم بل يجب عليه الاقتصار على المنفعة التى وقع التراضي عليها فقد يكون في فعل غيرها وإن كان أقل ضررا مفسده على المؤجر وقد يكون مخالفا لغرضه فلا يجوز فعل غير ما تراضيا على تعيينه. قوله: "ويدخلها الخيار". أقول: وجهه أن الأغراض في المنافع مختلفة كاختلافها في الأعيان فللمسلط على منافع العين مدة من الزمان أن يفسخها بما يفسخ به المبيع إذا كان لذلك وجه مقبول يلحقه يفوت الغرض في الأعيان وهكذا يدخلها التخيير فإنه إذا جاز في البيع كما تقدم في الأحاديث الصحيحة فدخوله في المنافع من باب فحوى الخطاب وهكذا يدخل الإجارة التعليق بوقت مستقبل نحو أن يقول أجرت منك هذه العين في شهر كذا من الشهور المستقبلة ولا يمنع من هذا شرع ولا عقل وما قيل من أنه يخالف ما سيأتي من قوله ولا يدخل عقد على عقد فوهم ولو صح هذا الوهم لما كان في هذه المخالفة لما هو مبني على مجرد الرأي للبحث بما يقدح في هذا التعليق وقد عرفناك غير مرة أن المناط في تحليل الأموال أعم من أن يكون أعيانا أو منافع هو التراضي إلا أن يرد الشرع الذى يقوم به الحجة بمنع التراضي في ذلك بخصوصه كما ورد في النهي عن مهر البغي وحلوان الكاهن ونحوهما وأما كونه يدخل الإجارة التضمين للعين فوجهه أن المستأجر لها رضي لنفسه بذلك فكان هذا الرضا الصادر منه محللا لماله الذى دفعه في ضمانها ولا حجر في مثل هذا ولا وجه لقوله من قال إنه لا يصح. قوله: "ويجب الرد" الخ. أقول: وجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، وقد قدمنا ذكره من باب القرض وبيان من خرجه فهذا المستأجر للعين قد أخذ العين من مالكها للانتفاع بها بأجرة فكان عليه تأديتها إلي مالكها ولا نزاع في دخول المستأجر تحت هذا العموم فقول المصنف: "وإلا ضمن" صحيح يصدق عليه قوله في الحديث: "على اليد ما أخذت" فإن المراد به على اليد ضمان ما أخذت حتى تؤديه.

[فصل وإنما تستحق أجرة الأعيان باستيفاء المنافع أو التخلية الصحيحة فإن تعذر الانتفاع لعارض في العين سقط بحصتها وعلى المالك الإصلاح فإن تعذر في المدة سقط بحصتها وإذا عقد لاثنين فللأول إن ترتبا وإجازته عقد المالك لنفسه فسخ لا إمضاء ثم للقابض ثم للمقر له وإلا اشتركا إلا لمانع وللمستأجر القابض إلي غير المؤجر لمثل ما أكترى وبمثله وإلا فلا إلا بإذن أو زيادة مرغب ولا يدخل عقد على عقد أو نحوه إلا في الأعمال غالبا وما تعيب ترك فورا ولو خشي تلف ماله لا نفسه وإلا كان رضا ومنه نقصان ماء الأرض الناقص للزرع لا المبطل له أو لبعضه فتسقط كلها أو بحصته وإذا انقضت المدة ولما يحصد الزرع وينقطع البحر بلا تفريط بقي بالأجرة] . قوله: "فصل: وإنما تستحق أجرة الأعيان باستيفاء المنافع". أقول: وجهه أن الأجرة هى إلي مقابل المنفعة المتعلقة بالعين فلا يستحقها من هى له إلا بانتفاع المستأجر لها بها ولكنها إذا كانت المنافع مما يتجدد الانتفاع به في الأوقات كان للمؤجر أن يطالب المستأجر بقدر أجرة ما قد انتفع به ولا يلزمه أن يمهله حتى يستوفي كل ما تراضيا عليه إلا أن يتراضيا على تأجير تسليم الأجرة إلي استيفاء جميع ما تعلق به الإجارة من المنافع كان ذلك لازما لهما. وأما قوله: "والتخلية الصحيحة" فمبني على أن التأجير إذا وقع لمدة كان الدخول في الإجارة بمثابة الرضا بدفع ما تراضيا عليه من الأجرة وإن لم يشرع في الانتفاع كما تقدم في البيع ولكن بين البأبين بون بعيد فإن المشتري بمجرد قبضه للمبيع صار ملكا له يتصرف به كيف يشاء وأما الإجارة فالمنافع لمالك العين وليس للأجير إلا الانتفاع في وقت من الزمان فإلزامه بتسليم أجرة ما لم ينتفع به غير معقول وربما يتعذر الانتفاع لعارض في العين كما ذكره المصنف هنا فإنه يسقط بحصتها من الأجرة فكيف يكلف المستأجر بالتسليم للجميع مع الاحتمال. وأما قوله: "وإذا عقد لاثنين فللأول" فظاهر لأنه قد صار من تقدم العقد له أحق بها كما تقدم في البيع. وأما قوله: "وإجازته عقد المالك لنفسه فسخ لا إمضاء" فوجهه أنه قد رضي بذلك بعد أن صار مستحقا للمنفعة فكأنه فسخ العقد الذى كان في يده وإذا علم ترتب العقدين ثم التبس كان القابض للعين التى تعلقت بها المنفعة أولى بالمنفعة لأن ذلك دليل على تقدم عقدة وفيه نظر لأنه يمكن أن يسبق إلى القبض من تأخر عقده ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال وهكذا يكون إقرار البائع لأحدهما بتقدم عقده مفيد التقدمة وفيه نظر على قواعدهم لأن هذا الخبر من المالك فيه

تقرير لفعله وهم يجعلون ذلك قادحا كما سيأتي في الشهادات. وأما قوله: "وإلا اشتركا" فوجهه عدم وجود مرجح لأحقية أحدهما والأولى أن يقال إن هذا اللبس من كل وجه يقتضي بطلان إجارة كل واحد منهما فيؤجره مالكه ممن شاء لأن الرضا الذى هو المناط الشرعي غير متحقق مع اللبس. قوله: "وللمستأجر القابض التأجير إلى غير المؤجر". أقول: المالك للعين مالك لمنافعها ومجرد الإذن لمن يستعمله مدة من الزمان بأجرة لا يدل على جواز صرفها إلى غيره لاختلاف الأشخاص والأغراض والمقاصد وبهذا تعرف أنه لا يجوز للمستأجر أن يؤجرها ولا حق له في ذلك بل حقه مختص باستيفائه للمنافع المأذون له بانتفاعه بها فإن قلت أما كان له في استحقاقه لمنافع العين ما يسوغ له تأجيرها من غيره قلت هذا الاستحقاق سببه إذن المالك له بالانتفاع بها إلى مقابل الأجرة فإخراجها إلى غيره وتسليطه للانتفاع بها لم يتناوله الإذن وأما إذا أذن له مالك العين بذلك فظاهر. وأما قوله: "أو زيادة مرغب" فلا وجه له فإنه لا يجوز ذلك إلا إذا رضي بذلك المرغب إلى مقابل إخراج العين إلى مستأجر آخر ولا يصح أن يكون مجرد وجود زيادة المرغب مصححا لتأجير المؤجر شاء المالك أم أبى فإن ذلك من الافتيات عليه في ملكه وفيما أمره إليه. قوله: "ولا يدخل عقد على عقد إلا في الأعمال". أقول لا مانع من هذا الإدخال لا من شرع ولا عقل ولا وجه لقياس الإجارة على البيع لما قد عرفناك من الفرق بينهما وأيضا قد قدمنا في البيع ما قد عرفته والحاصل أن المناط في الكل التراضي المدلول عليه بقوله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، فمن زعم تقييد هذا التراضي بقيد لم يدل عليه دليل فهو رد عليه وهكذا قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] ، فمن زعم أنه لا يحل كذا من البيوع بغير دليل فهو رد عليه وإذا كان هذا في البيع الذى هو نقل الأملاك نقلا منجزا فكيف بالتجارة في المنافع الباقية على ملك مالكها ببقاء العين في ملكه والعجب من الفرق بين الأعيان والأعمال مع أن الكل منفعة فإن إجارة الأعيان تسليط المستأجر على الانتفاع بها والإجارة في الأعمال تسليط العامل لصاحب العمل على منافعه. قوله: "وما تعيب ترك فورا ولو خشي تلف ماله لا نفسه". أقول: ظهور العيب يقتضي ثبوت الرد به ولا يبطل إلا بمطل شرعي أو حصول الرضا المحقق به وأما هذا الذى جعلوه رضا شاء أم أبى وإن أدى إلى تلف ماله فمن غرائب الرأي وعجائب الاجتهاد ثم التفرقة بين تلف المال والنفس أغرب وأعجب ولا شك أن حفظ النفس مقدم على حفظ المال ولكن إضاعة المال منكر وحرمته مقترنة بحرمة النفوس كما حديث: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". وأما قوله: "ومنه نقصان ماء الأرض" الخ فمن التفريع المستغنى عنه.

[فصل وإذا اكترى للحمل فعين المحمول ضمن إلا من الغالب ولزم إبدال حامله إن تلف بلا تفويت غرض والسير معه ولا يحمل غيره وإذا امتنع المكتري ولا حاكم فلا أجرة والعكس إن عين الحامل وحده إلا لشرط أو عرف في السوق فيتبعه ضمان الحمل ولا يضمن بالمخالفة إلى مثل الحمل أو المسافة قدرا وصفة فإن زاد ما يؤثر ضمن الكل وأجرة الزيادة فإن حملها المالك فلا ضمان ولو جهلا فإن شورك حاص وكذا المدة والمسافة ولا بالإهمال لخشية تلفهما ومن اكترى من موضع ليحمل من آخر إليه فامتنع أو فسخ قبل الأوب لزمت للذهاب إن مكن فيه وخلي له وإلا فلا] . قوله: "فصل: وإذا اكترى" الخ. أقول: مجرد استئجاره على أن يحمل له شيئا على دابته أو على ظهره ليس فيه ما يدل على تضمينه لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام ولا ورد بذلك شرع ولا دل عليه رأي صحيح ولا عقل بل غاية ما يجب على هذا الأجير هو إيصاله إلى المكان الذي عينه المالك ولا يضمن إلا إذا حصلت منه جناية أو تفريط فإن التضمين حكم شرعي يستلزم أخذ مال مسلم معصوم بعصمة الإسلام فلا يجوز إلا بحجة شرعية وإلا كان ذلك من أكل أموال الناس بالباطل وإذا عرفت أن الإجارة إنما هى على إيصال الشيء المحمول إلى المكان الذي وقع التواطؤ عليه فقد صار ذلك واجبا على الأجير سواء كان على حامل واحد أو أكثر وإذا تلف الحامل لزمه إبداله وله أن يستنيب من يسير مع الدواب الحاملة ولا وجه لإيجاب السير وله أن يحمل غيره على تلك الدابة أو غيرها ولا وجه لمنعه من ذلك ولا يستحق الأجرة إلا بإيصاله إلى المكان المعين فإن تلف الحمل دونها بغير جناية منه ولا تفريط استحق حصة ما قد قطعه من المسافة ولا فرق بين أن يكون المعين هو الحامل أو المحمول فإن الكلام في الجميع هو ما ذكرناه ولا وجه للفرق إلا مجرد خيالات لا يحل بناء أحكام الشرع عليها إلا أنه إذا استأجر الدابة لحمل ذلك الحمل المعين إلى المكان المعين فليس لمالكها أن يحمل عليها غيره لأن منافعها قد صارت مستحقة للمستأجر ولكنه لا يحمل فوقها غير ما عينه فإن خالف وتلفت بسبب المخالفة ضمن الدابة بسبب جنايته عليها بالزيادة. وأما قوله: "من اكترى من موضع" الخ فصحيح فإن المستأجر بسبب امتناعه من التحميل أو فسخه للإجارة قد لزمه قدر ما قد فعله الأجير بإذنه إذا لم يصدر منه ما يكون سببا للتفاسخ على وجه التعدي.

باب وإجارة الآدميين

باب وإجارة الآدميين [فصل إذا ذكرت المدة وحدها أو متقدمة على العمل فالأجير خاص له الأجرة بمضيها إلا أن يمتنع أو يعمل للغير والأجرة له ولا يضمن إلا لتفريط أو تأجير على الحفظ ويفسخ معيبه ولا يبدل وتصح للخدمة ويعمل المعتاد والعرف لا بالكسوة والنفقة للجهالة والظئر كالخاص فلا تشرك في العمل واللبن وإذا تغيبت فسخت إلا أنها تضمن ما ضمنت] . قوله: "فصل: إذا ذكرت المدة وحدها". أقول: إذا ذكرت المدة وحدها صار الأجير فيما مستحق المنافع للمستأجر فليس له أن يعمل للغير. وأما قوله: "وله الأجرة بمضيها" فلا وجه له لأنه خلاف مقصود المستأجر إنما أراد استئجاره على عمل في تلك المدة المعينة لا مجرد كونه أجيرا له بغير عمل فيها فإذا لم يعمل لم يستحق شيئا وإن عمل وفرط في العمل فلم يعمل إلا بعض ما يقدر عليه من العمل في العادة فليس له إلا قدر أجرة عمله وأما إذا ذكر العمل مع المدة فذكره معها قريبة دالة على أن المراد عمل ذلك العمل المسمى فإذا فرغ منه في بعض اليوم فقد انقضت الإجارة وسواء تقدم ذكر العمل أو تأخر وإذا تلفت العين التي استؤجر على فيها فلا ضمان عليه إلا لجناية أو تفريط على ما قررناه قبل هذا الباب. وأعلم أن الفرق بين تقديم العمل أو تأخيره كما في هذا الفصل والفصل الذي بعده وجعل ذلك مقتضيا لتسميته أجيرا خاصا أو أجيرا مشتركا هو كله ظلمات بعضها فوق بعض وتلاعب بأحكام الشرع بلا سبب لا من شرع ولا من لغة ولا من عقل ولا من رأي صحيح وحاصل ما ينبغي الاعتماد عليه في هذا أن استئجار الأجير على عمل يقتضي استحقاقه للأجرة المسماة بفراغه منه إلا أن يشترط عليه التمام للعمل في مدة معينة وإلا فلا أجرة فإن رضي لنفسه لذلك لزمه حكم ما رضي به وإن لم يرض استحق الأجرة بتمام العمل سواء طالت المدة أو قصرت وإذا عرفت هذا هان عليك ما ذكره المصنف وغيره من هذه التفاصيل والتفاريع التي لا يفوح منها رائحة من روائح العلم ولا يلوح عليها نور من أنوار الشرع فأضرب بما ذكره من الفرق بين تقديم العمل على المدة وتأخيره عليها ومن الفرق بين الخاص والمشترك ومن الفرق بين تعريف العمل وتنكيره وبين الأربعة ومن عداهم وجه من جاءك محتجا به معتقدا أنه من هذه الشريعة الواضحة التي ليلها كنهارها وقل له من استأجر أجيرا على عمل كان عليه أجرته وعلى الأجير

عمل ما استؤجر عليه على الوجه الذي وقع التراضي به والتواطؤ عليه وما ذكره الأجير أو المستأجر فيما فيه زيادة على ذلك من تعيين مدة أو اشتراط كون العمل على صفة معروفة أو نحو ذلك كان ما تراضيا عليه لازما لهما لا يجوز لهما المخالفة له ولا الخروج عما يقتضيه وقد قدمنا لك أنه لا يضمن إلا لجناية أو تفريط أو شرط عليه ورضا به وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استأجر على عمل واستؤجر عليه كما قدمنا ومن استئجاره صلى الله عليه وسلم على عمل ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر فأتينا مكة فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه ثم رجل يزن بالأجر فقال له: "زن وأرجح" وصححه الترمذي وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه أيضا من حديث أبي صفوان بن عمير. [فصل فإن قدم العمل فمشترك ويفسد إن نكر مطلقا أو عرف إلا في الأربعة وتصح إن أفرد معرفا إلا فيها فيذكران معا وهو فيهما يضمن ما قبضه ولو جاهلا إلا من الغالب أو بسبب من المالك كإناء مكسور أو شحن فاحشا وله الأجرة بالعمل وحبس العين لها والضمان بحالة ولا تسقط إن ضمنه مصنوعا أو محمولا وعليه أرش يسير نقص بصنعته وفي الكثير يخير المالك بينه وبين القيمة ولا أرش للسراية عن المعتاد من بصير والذاهب في الحمام بحسب العرف [ [فصل وللأجير الاستنابة فيما لا يختلف بالأشخاص إلا لشرط أو عرف ويضمنان معا والفسخ إن عتق أو بلغ ولو لعقد الأب في رقبته لا ملكه وإذا شرط على الشريك الحفظ ضمن كالمشترك] . قوله: "وللأجير الاستنابة فيما لا يختلف بالأشخاص". أقول: إن عرف من مقصد المستأجر أنه لا يريد إلا تحصيل ذلك العمل على صفة يستوي في تحصيلها الأجير وغيره كان للأجير الاستنابة من هذه الحيثية وأما إذا كان الأجير أحسن صناعة من غيره ولا يلحق غيره به فيها فاستئجار على ذلك العمل قرينة تدل على أن المراد تولى العمل بنفسه وجعله على الصفة التى لا يحسنها غيره وهكذا إذا كان بمكان من الدين رفيع

فاستأجره المستأجر على شيء من الأمور الدينية فإنه لا يجوز الاستنابة لغيره لأن استئجاره على ذلك العمل قرينة كما تقدم وهذا مع عدم الشرط أما إذا شرط عليه أنه لا يستنيب فلا يجوز له الاستنابة ولو استناب من هو أحسن منه صناعة أو أكثر دينا وأتم عدالة. هكذا العرف إذا جرى في المحل فإنه محكم لأنه مقصود لهما كما تقدم في غير موضع. وأما قوله: "ويضمنان معا" فقد عرفت أنه لا يضمن إلا لجناية أو تفريط كما قدمنا لأنه إنما استؤجر على العمل في الشئ ولم يستأجر على حفظه وأما كون لمن عتق أو بلغ الفسخ فظاهر لان العبد قد ملك نفسه فلا يلزمه ما ألزم به وهو في الرق والصبي قد انتقل الحكم إليه بعد بلوغه فلا يلزمه ما وقع بالولاية عليه لأن المانع قد زال والمقتضى قد حصل إلا ما كان من تصرف الأولياء في ماله فإنه يلزم بموجب الولاية التى لهم مع المصلحة ولا وجه لتخصيص ذلك بالأب. قوله: "وإذا شرط على الشريك الحفظ" الخ. أقول: ذكر في هذا الباب غير مناسب ومحله - كتاب الشركة لأنه كلام في شرط الضمان من أحد الشريكين على الآخر وبالوجه أنه إذا قبل الشرط لزمه الحفظ ولزمه الضمان وأما قوله كالمشترك فلا وجه لما عرفت في الأجير المشترك من أنه أجير على العمل لا على الحفظ. [فصل والأجرة في الصحيحة تملك بالعقد فيتبعها أحكام الملك وتستقر بمضي المدة وتستحق بالتعجيل أو شرطه أو تسليم العمل أو استيفاء المنافع أو التمكن منها بلا مانع والحاكم فيها يجبر الممتنع ويصح بعض المحمول ونحوه بعد الحمل قيل لا المعمول بعد العمل وفي الفاسدة لا يجبر ولا تستحق وهي أجرة المثل إلا باستيفاء المنافع في الأعيان وتسليم العمل في المشترك] قوله: "فصل: والأجرة في الصحيحة تملك بالعقد". أقول: ليس على هذا أثارة من علم والأجير المتسأجر على عمل لا يستحق أجره إلا بالعمل الذى استؤجر عليه هذا معلوم بالعقل ولم يرد في الشرع ما يخالفه بل ورد ما يقويه ويعضده فأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره"، فقوله: فاستوفى منه يدل على أن الأجرة إنما تستحق باستيفاء العمل

فيما استؤجر عليه وأخرج أحمد والبزار من حديث أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان"، قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر قال: "لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله"، فقوله: "إنما يوفى أجره إذا قضي عمله" دليل على ما ذكرناه فلا وجه لقوله فتتبعها أحكام الملك وما بعده لأنه تفريع على أصل منهار. وأما قوله: "أو تسليم العمل واستيفاء المنافع" فصحيح وهكذا قوله أو التمكن منها بلا مانع لأن المؤجر لها قد فعل ما يجب عليه فإذا أفرط المستأجر فقد أتى من قبل نفسه إلا أن يكون تركه رغوبا عن الدخول في الإجارة ولم يكن قد حصل على المؤجر نقص ولا استغراق مدة فله ذلك. وأما قوله: "والحاكم فيها يجبر الممتنع" فقد عرفناك أن الأجير والمؤجر إنما يستحقان الأجرة إذا فرغ الأجير من عمله وفرغ المستأجر من استيفاء المنفعة التي أستأجر العين لأجلها فإذا ترك فلا أجره ولا إجبار. قوله: "ويصح بعض المحمول ونحوه بعد الحمل". أقول: الحكم بصحة هذا ظاهر لعدم المانع من ذلك لا شرعا ولا عقلا. وأما قوله قيل لا المعمول بعد العمل فقد استدل على ذلك بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث أبي سعيد قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان قال ابن تيمية في المنتقى وقد فسر قوم قفيز الطحان بطحن الطعام بجزء منه مطحونا لما فيه من استحقاق طحن قدر الأجرة لكل واحد منهما على الآخر وذلك متناقض وقيل لا بأس به مع العلم بقدره وإنما المنهى عنه طحن الصبرة لا يعلم كيلها بقفيز منها وإن شرط حدا لأن ما عداه مجهول فهو كبيعها إلا قفيزا منها، انتهى. والتفسير الأول أقرب وعليه اقتصر صاحب النهاية ولكن الحديث في إسناده هشام أبو كليب قال ابن القطان لا يعرف وكذا قال الذهبي وزاد وحديثه منكر وقال ابن تيمية حفيد مصنف المنتقى إنه حديث ضعيف بل باطل فإن المدينة لم يكن فيها طحان ولا خباز لعدم حاجتهم إلى ذلك انتهى ولكنه قال مغلطاي إن هشاما المذكور ثقة وأورده ابن حبان في الثقات فليس الحديث بعد هذا يضعف فضلا عن أن يكون باطلا والرجوع إلى العمل به أولى من ظلمات الرأي وتخبطات الاجتهاد ويقاس المحمول على المعمول لأن العلة كائنة في المحمول كما في المعمول ولا عذر لمن عمل بمثل هذا القياس وبما هو أضعف منه من العمل به ها هنا. وأما قوله: "وفي الفاسد...." الخ فقد عرفناك غير مرة أن تخصيص ما يسمونه فاسدا بأحكام مخصوصة هو من باب ترتيب الباطل على الباطل وتفريع ما لا أصل له على ما لا أصل له وقد أوضحنا هذا في مواضع من هذا الكتاب.

[فصل ولا تسقط بجحد المعمول فيه في الصحيحة مطلقا وفي الفاسدة إن عمل قبله وتسقط في الصحيحة بترك المقصود وإن فعل المقدمات وبعضها بترك البعض ومن خالف في صفة للعمل بلا استهلاك أو في المدة لتهوين أو عكسه فله الأقل أجيرا وعليه الأكثر مستأجرا] . قوله: "فصل: ولا يسقط بجحد المعمول فيه" الخ. أقول: هذا مبني على ما تقدم له من أن الأجرة تستحق بالعقد وقد عرفناك أنها لا تستحق إلا بالعمل وهو الذي دل عليه الدليل وأما الفرق بين الصحيحة والفاسدة فمن الأمور التي لم تدل عليها رواية ولا رأي. وأما قوله: "ويسقط في الصحيحة بترك المقصود" فوجهه أن المستأجر لم يقصد بالاستئجار ودفع الأجرة إلا ذلك فإن فات لم يبق مقيض لاستحقاق الأجرة ولا فرق بين الصحيحة والفاسدة فلا وجه لقوله في الصحيحة وأما المقدمات فليس من العدل أن يهمل عمل الأجير فيها لأنه عمل بأمر المستأجر ولا سيما إذا كانت تلك المقدمات لا يمكن الوصول إلى المقصود إلا بها فللأجير أجرة ما فعله بحسب ما يقدره من له خبرة بذلك العمل وليس ها هنا ما يدل على سقوط الأجرة عليها فوجب الرجوع إلى كونها مفعولة بأمر المستأجر فكان عليه الأجرة وإلا كان ذلك من إتعاب الغير واستغراق منافعه بلا شيء وذلك ظلم وأما استحقاق بعض الأجرة بفعل البعض من المقصود وسقوط بعضها بترك البعض فظاهر. قوله: "ومن خالف في صفة للعمل". أقول: الأجير إذا خالف ففعل غير ما أمره به المستأجر فلا يستحق أجره في عمله لأنه لم يفعل ما أمره به وإذا حصل في العين بسبب المخالفة نقص كان على الأجير الأرش إن حصل بالمخالفة زيادة لم يكن على المستأجر شيء بل يأخذ العين بزيادتها إذا لم يمكن فصلها لتعديه ومخالفته وأما المخالفة من المستأجر للعين بأنه يلزمه أجرة الزيادة في المسافة أو الحمل أو نحوهما هكذا ينبغي أن يقال لا كما قال المصنف. [فصل ولكل منهما فسخ الفاسدة المجمع على فسادها بلا حاكم والصحيحة بأربعة للرواية والعيب وبطلان المنفعة والعذر الزائل معه الغرض بعقدها ومنه مرض من لا يقوم به إلا الأجير والحاجة إلى ثمنه ونكاح من يمنعها الزوج ولا تنفسخ بموت أيهما

غالبا ولا بحاجة المالك إلى العين ولا بجهل قدر مسافة جهة وكتاب ذكر لقبهما للبريد والناسخ. قوله: فصل: "ولكل منهما فسخ الفاسدة" الخ. أقول: إذا حصل التراضي على مدة معلومة بأجرة معلومة فهذه هي الإجارة الصحيحة وهي من هذه الحيثية داخلة تحت قوله سبحانه: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وإذا لم يحصل هذا التراضي فلا إجارة من الأصل وإذا عرفت أن حاصل هذا التراضي هو جعل الأجرة في مقابل تلك المنفعة في تلك المدة مع كون العين ومنافعها باقية في ملك المالك فإذا قال المالك بعد أن وقع الاستغراق لبعض المنافع قد رغبت عن هذه الأجارة أو قال مستأجر العين أو المؤجر لنفسه قد رغبت عن ذلك فهل من دليل يدل على إلزام من رغب بالوفاء فإن الرغوب إن كان من جهة المالك فقد رضي بترك الأجرة المقابلة لما بقي من الأجرة ولا يصح قياس الإجارة على البيع فإن المتراضي في البيع قد خرج به المبيع عن إلى ملك مشتريه بالثمن المتواطئ عليه وها هنا لا خروج بل المنفعة باقية في ملك مالك العين واستحقاق الأجرة إنما هو بحسب ما قد استغرقه من المنافع في وقت بعد وقت فإذا لم يدل دليل على لزوم الاستمرار من الجهتين جاز لكل واحد تركها متى شاء وقد أخذ صاحب العين ما يقابل منفعته من الأجرة وأخذ من عليه الأجرة ما يقابل الأجرة اللازمة له من منفعة العين وإن كان ثم دليل على لزوم الاستمرار فما هو وإذا عرفت هذا هان عليك الخطب وسهل عليك التخلص من هذه التفريعات المبنية على شفا جرف هار المؤسسة على السراب المسندة إلى الهباء ومما يؤيد هذا البحث ويشد من عضده ما قدمنا لك من أن الأجرة إنما تستحق بالعمل في كل إجارة وإذا جاز التتارك بلا سبب في الإجارة الصحيحة فجواز الترك لرؤية أو عيب أو بطلان منفعة أو زوال غرض أو عروض عذر أو موت أو حاجة المالك إلى العين أولى وأحرى. وأما قوله: "ولا بجهل قدره مسافة جهة" الخ فمن غرائب الاجتهاد فإن ذكر اللقب لا يرفع الجهالة للمقدار فكيف لا يجوز لأجير أن يترك الإجارة لهذا الجهل الذي يسوغ به ما هو أشد لزوما من الإجارة كما قدمنا في الخيارات. [فصل وتنفذ مع الغبن الفاحش من رأس المال في الصحة وإلا فالغبن من الثلث ولا يستحقها المتبرع ولا الأجير حيث عمل غيره لا عنه أو بطل عمله قبل التسليم كمقصور ألقته الريح في صبغ أو أمر بالتسويد فحمر ويلزم من ربى في غصب مميزا أو حبس فيه

بالتخويف ومستعمل الصغير في غير المعتاد ولو أبا ويقع عنها إنفاق الولي فقد بنيتها م ولو لم تقارن إن تقدمت ومستعمل الكبير مكرها والعبد كالصغير ويضمن المكره مطلقا ومحجور انتقل راضيا] . قوله: فصل: "وينفذ مع الغبن الفاحش" الخ. أقول: هذا وقد لاحظ المصنف فيه ما يأتي في الوصايا من الفرق بين تصرف المالك حال صحته وحال مرضه والذي ينبغي اعتماده هنا أن الرضا بالزيادة المسماة غبنا قد صيرها بمنزلة الدين في تركه الميت وموته راضيا بها يؤكد كونها دينا وأما الفرق بين تصرف وتصرف وجعل التصرف في المرض المخوف موجبا لخروج ذلك من الثلث فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله وأما كونه لا يستحق الأجرة المتبرع ومن عمل غيره لا عنه فظاهر لأنه لم يوجب السبب الذي يستحق به الأجرة وهكذا إذا بطل عمل الأجير فإنه صار بذلك وجوده كعدمه وهكذا من فعل غير ما أمر به. وأما قوله: "وتلزم من ربي في غصب مميزا" فوجهه أنه مع التمييز صار هو الغاصب وقبل التمييز يكون الرجوع على من رباه ولكن كون هذا الحكم يلزم من لم يبلغ التكليف يحتاج إلى دليل وإذا كان الغصب كالجناية لزمت المميز وغير المميز. وأما قوله: "أو حبس فيه بالتخويف" فذلك مبني على أنه لا يخاف من ذلك التخويف تلفا ولا ضررا ولا خرج به عن حد الاختيار وإلا كان الضمان على الحابس. وأما قوله: "ومستعمل الصغير في غير المعتاد" فظاهر لأنه فعل باستعماله في غير ما يعتاده ما لا يبيحه الشرع فلزمته أجرته والظاهر أنه تلزم في المعتاد لأنه لم يأذن الشرع بذلك إلا إذا كان أبا وفعل ذلك على طريقة التدريب للصبي وتعليمه ما يعود عليه نفعه فلا أجرة عليه لأنه مأذون له من جهة الشرع وبه جرت عادة أهل الإسلام قرنا بعد قرن وأما كونه يقع عنها إنفاق الولي فذلك لمكان الولاية الشرعية. وأما قوله: "ومستعمل الكبير مكرها" فوجهه ظاهر. وأما قوله: "والعبد كالصغير" فالأولى أن يكون له حكم الدابة إذا استعملها غير مالكها بغير إذنه فإنها تلزم الأجرة. وأما قوله: "ويضمن المكره مطلقا" فوجهه أنه صار غاصبا لمنافع من أكرهه. وأما قوله: "ومحجورا انتقل ولو راضيا" فينبغي أن يقال إن مستعمل العبد يضمن ما يقابل ذلك العمل من الأجرة سواء كان راضيا أم لا انتقل أو لم ينتقل لأنه أقدم على ملك الغير بغير إذنه وأي فائدة تتعلق برضا العبد أو انتقاله وهو ملك لغيره وهكذا لا فرق بين أن يكون محجورا أو غير محجور ولكن هذه التفاصيل سببها الرجوع إلى قواعد هي عن القيام بالحجة قواعد.

[فصل ويكره على العمل المكروه وتحرم على واجب أو محظور مشروط أو مضمر تقدم أو تأخر غالبا فتصير كالغصب إلا في الأربعة إن عقدا ولو على مباح حيلة وإلا لزم التصدق بها ويعمل في ذلك بالظن فإن التبس قبل قول المعطي ولو بعد قوله على المحظور] . قوله: " فصل: ويكره على العمل المكروه". أقول: قد جعل بعض أهل العلم من العمل المكروه أجرة الحجام فإنه نهى عنها صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة عند أحمد "2/299، 332، 247، 415، 500"، بإسناد رجاله رجال الصحيح وسماه النبي صلى الله عليه وسلم: "خبيثا" كما في حديث رافع بن خديج عند أحمد "3/464، 465"، وأبي داود "3421"، والترمذي "1275"، وصححه وسماه صلى الله عليه وسلم: "شر المكاسب" كما في رواية للنسائي من حديث رافع هذا وزجر صلى الله عليه وسلم سيد العبد الحجام عن كسبه ورخص له أن يعلفه ناضحه كما في حديث محيصة بن مسعود عند أحمد "5/435، 436"، برجال الصحيح وأخرجه أيضا أبو داود "3422"، والترمذي "1277"، وقال حسن وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه حجمه أو طيبة وأعطاه صاعين من طعام وكلم مواليه فخففوا عنه وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت أيضا في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم حجمه عبد لبني بياضة وأعطاه أجره وكلم سيده فخفف عنه من ضريبته فيجمع بين هذه الأحاديث بأن الأجرة على الحجامة مكروه ولكنه يبعد منه صلى الله عليه وسلم أن يفعل المكروه أو يقرر صاحبه عليه وأما كونها تحرم على واجب أو محظور فقد تقدم دليله عند قول المصنف غير واجبة عليه ولا محظورة وأما تقييد ذلك بالشرط أو الإضمار فلا يظهر له وجه صحيح وأما كون الأجرة تصير كالغصب فوجهه أنه حرام فلا يحل لمن صار إليه أن ينتفع به بوجه من الوجوه. وأما قوله: "إلا في الأربعة" فهي التي تقدمت في البيع حيث قال المصنف لكنه يطيب ربحه وتبرئ من رد إليه والأجرة إن لم يستعمل ولا يتضيق الرد إلا بالطلب وقد قدمنا الكلام عليها هنا لك. وأما قوله: "إن عقد" فلا وجه له لأن الحرام على كل حال. وأما قوله: "وإلا لزم التصدق بها" فلا وجه له بل يجب الرد لمالكه فإن امتنع من قبوله وجب عليه أن يخلي بينه وبينه فإن شاء قبضه وإن شاء تركه لأن التصدق بمال الغير بغير إذنه لا يجوز وأما كونه يعمل بالظن عند اللبس فظاهر ولكن عروض اللبس في مثل هذا قليل الوقوع لأن المقاصد لا تخفي فإن كان في الذي دفع إليه المال ما يحتمل أن يكون دفعه إليه لوجه جائز ولوجه غير جائز فالمؤمنون وقافون عند الشبهات.

وأما قوله: "ولو بعد قوله عن المحظور" فليس بعد هذا القول شيء في الدلالة على مقصد المعطي فكيف يجوز الرجوع إلى الظن بعد أن وضح الأمر وأسفر الصبح لذي عينيين. [فصل والبينة على مدعي أطول المدتين ومضي المتفق عليها وعلى المعين للمعمول فيه وعلى المشترك في قدر الأجرة ورد ما صنع وأن المتلف غالب إن أمكن البينة عليه وعلى المالك في الإجارة والمخالفة غالبا وقيمة التالف والجناية كالمعالج وعلى المدعي إباق العبد بعض المدة إن قد رجع والقول للمستأجر في الرد والعين وقدر الأجرة قيل فيما تسلمه ومنافعه وإلا فللمالك ولمدعي المعتاد من العمل بها ومجانا وإلا فللمجان] . قوله: " فصل: والبينة على مدعي أطول المدتين". أقول: وجهه أنه يدعي خلاف الظاهر لأن الأصل عدم الزيادة وهكذا مدعي مضى المتفق عليها لأنه الأصل عدم المضي وهكذا المعين للعموم فيه لأنه صار بالتعيين مدعيا. وأما قوله: "وعلى المشترك في قدر الأجرة" فلا فرق بينه وبين الخاص في أيجاب البينة وقد عرفناك فيما سبق ما هو الحق الذي ينبغي اعتماده في تقسيم الأجير إلى خاص ومشترك فلا نعيده وهكذا البينة على مدعي أن المتلف غالب لكونه ادعى ما يخالف الظاهر والأولى أن يقال إن الأصل عدم الضمان كما قدمنا فالبينة على مدعي ما يوجب الضمان من جناية أو تفريط وأما كون البينة على الممالك في الإجارة والمخالفة وقيمة التالف والجناية ومدعي إباق من قد رجع فظاهر لأن المدعي لذلك كله يدعي خلاف ما هو الظاهر. وأما قوله: "والقول للمستأجر في الرد والعين وقدر الأجرة" فخلاف الصواب لأنه يدعي خلاف ما هو الأصل والظاهر فالبينة عليه والاستدلال على ذلك بكونه أمينا تركيب دعوى على دعوى وأما كون القول لمدعي المعتاد من العمل بأجرة أو بغير أجرة فصحيح لأن المادة مقصودة للمتعاملين بها فمن أدعى خلافها فعليه البينة. وأما قوله: "وإلا فللمجان" فوجهه أنه إذا لم تكن عادة تعين الرجوع إلى الأصل وهو عدم الأجرة. [فصل ولا يضمن المستأجر والمستعير والمستلم مطلقا والمشترك الغالب إن لم يضمنوا

ويضمن المشترك غير الغالب والمتعاطي والبائع قبل التسليم والمرتهن والغاصب وإن لم يضمنوا وعكسهم الخاص ومستأجر الآلة ضمن أثر الاستعمال والمضارب والوديع والوصي والوكيل والملتقط وإذا أبريء البصير من الخطأ والغاصب والمشترك مطلقا برئوا لا المتعاطي والبائع قبل التسليم والمتبريء من العيوب جملة والمرتهن صحيحا] . قوله: " فصل: ولا يضمن المستأجر" الخ. أقول: قد عرفناك فيما سبق أن الأصل المعلوم بالشرع عصمة أموال العباد وأنها لا تحل إلا بوجه أوضح من شمس النهار فالحكم بالضمان على من لم يحكم عليه الشرع وهو من أكل أموال الناس بالباطل ومن الأمر بالمنكر ومن عكس ما جاءت به كليات الشريعة وجزئياتها وليس في المقام إلا مثل حديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" وحديث: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وقد قدمنا تخريجهما والكلام عيهما والتأدية واجبة في كل مأخوذ فإن فعل بريء وإن لم يفعل ضمن إن تسبب سبب يوجب الضمان من جناية أو تفريط لا إذا كان التلف بغير هذين الوجهين فإنه لم يرد ما يدل على تضييق إيجاب التأدية على أن يقال إنه قد تعدى بالتراخي أو فرط بعدم الرد فورا بل التفريط أن يترك الدابة مثلا في مكان تدخله السباع أو ينتابه اللصوص مع وجود موضع يحفظها فيه وما يشابه ذلك من الأمور التي يتحقق فيها التفريط. وأما قوله: "إن لم يضمنوا" فصحيح لأنهم إذا رضوا بذلك وقبلوه فمن أنفسهم أتوا وفي سوء اختيارهم وقعوا وأما المتعاطي فهو جر إلى نفسه الضمان بسبب تعاطيه لأنه كان في غنى عن ذلك وإقدامه على ما لا بصر له فيه جناية وخيانة وأما البائع قبل التسليم فقد تقدم الكلام عليه وأما المرتهن فسياتي الكلام عليه إن شاء الله وأما الغاصب فظاهر وسيأتي أيضا. وأما قوله: "وإن لن يضمنوا" فلكون الضمان إذا قد ثبت بالشرع لم يحتج إلى التضمين. وأما قوله: "وعكسهم الخاص" الخ فهؤلاء لا فرق بينهم وبين من تقدم في أول الفصل أنها تجب عليهم التأدية ولا يضمنون إلا لجناية أو تفريط وإذا ضمنوا ضمنوا لأنه قد اختاروا ذلك لأنفسهم والتراضي هو المناط في تحليل أموال العباد. وأما قوله: "وإذا بريء البصير من الخطأ" الخ فوجهه ظاهر فإن الإبراء يسقط ضمان المخطيء والغاصب فضلا عن المشترك لأنه قد رضي لنفسه بإسقاط ما يلزم له بالشرع وذلك سبب محلل لماله ومسوغ لغيره أن يتملكه ومبطل لضمان الجناية بخطأ البصير ولكن كون البصير يضمن ما وقع من الخطأ فيه ما فيه لأن بصره يدفع عنه معرة التضمين بما أخطأ فيه فلا يحتاج إلى إبراء. وأما قوله: "لا المتعاطي والبائع قبل التسليم" فغير ظاهر لأن الإبراء كما قدمنا محلل مخلص لمن عليه الضمان من الضمانة وأما ما عللوا به المنع من إبراء المتعاطي بأنه عامد فإن كان العمل الذي تعاطى فيه مما لا يستباح بالإجابة فلا بأس وأما ما عللوا به عدم صحة إبراء البائع قبل التسليم من الضمان بقولهم إنه لا يصح إسقاط ضمان الأعيان فما أبرد هذا التعليل

وأبعده عن قواعد الشرع فإن مالك العين إذا طابت نفسه عنها حلت وهي باقية بعنيها فكيف لا يحل الإبراء من ضمانها وسيأتي إن شاء الله في باب الإبراء ما يدفع هذا الخيال ويبدد شمل هذا الإشكال وأما عدم صحة إبراء المتبريء من العيوب جملة فمن غرائب الرأي وساقط الاجتهاد لا سيما إذا كان المبريء ممن يعرف العيوب ويتعلقها فالإبراء من جميعها كالإبراء من كل واحد منها وأعجب من هذا وأغرب عدم صحة إبراء المرتهن فإنه لا يوجد لهذا المنع وجه يقبله من له عقل فضلا عمن له علم والحاصل أن العالم العارف بقواعد الشرع إذا مرت به هذه المسائل المدونة في هذه الفصول وأمثالها لم يسعه إلا تكرير الاسترجاع وربما يقوم في وجهه من يريد تقويم الباطل فيقول له لا إنكار في مسائل الاجتهاد فيقال له ومتى فوض الله من يدعي الاجتهاد على الشريعة التي أنزلها على رسوله وجعله حاكما فيها بما شاء وعلى ما شاء فإن هذه نبوة لا إجتهاد وشريعة حاثه غير الشريعة الأولى ولم يرسل الله سبحانه إلى هذه الأمة إلا رسولا واحدا وأما ما تقدم للمصنف في المقدمة من أن كل مجتهد مصيب فقد قدمنا بيانه وذكرنا مراد القائل به وأما ما سيأتي للمصنف في السير من أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه فتلك مقالة تستلزم طي بساط غالب الشريعة وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان بطلانه.

باب المزارعة

باب المزارعة [فصل صحيحها أن يكري بعض الأرض ويستأجر المكتري بذلك الكراء أو غيره على عمل الباقي مرتبا أو نحوه مستكملا لشروط الإجارة وإلا فسدت كالمخابرة الزرع في الفاسدة لرب البذر وعليه أجره الأرض أو العمل ويجوز التراضي بما وقع به العقد وبذر الطعام الغصب استهلاك فيغرم مثله ويملك غلته ويعشرها ويطلب له الباقي كما لو غصب الأرض والبذر له أو غصبهما] . قوله: "فصل: صحيحها أن يكري بعض الأرض" الخ. أقول: المزارعة هي تأجير الأرض فالعجب من المصنف رحمه الله حيث جعل صحيحها هذه الصور الخاصة التي لم يرد بها شيء من الأدلة مع كثرة ما ورد في المزارعة فإن منها تأجير الأرض بالذهب والفضة كما في حديث رافع بن خديج في الصحيحين [البخاري "5/15"، مسلم "117/1547"، وغيرهما أبو داود "3392"، النسائي "3932"، قال: كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم

تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الورق فلم ينهنا, وفي لفظ للبخاري: فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ, وكان الأولى للمصنف أن يتكلم على ما لا يصح منها ثم يقول ويصح ما عدا ذلك وأعلم أن الكلام في تأجير بجزء مما يخرج منها يطول جدا وقد أفردنا ذلك برسالة مستقلة لكثرة الأحاديث واختلافها وذكرنا في شرح المنتقى ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره بعد إمعان النظر فيه والحاصل أنه قد ثبت في الصحيحين [البخاري "5/13"، مسلم ط5/1551"، وغيرهما أبو داود "3409"، الترمذي "1383"، النسائي "7/53"، ابن ماجة "2467"، أحمد "2/17، 22، 30، 37، 149، 157"، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع وفي لفظ له فيهما: "ولهم نصف الثمرة" وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخل قال: "لا"، فقالوا" تكفوننا العمل ونشرككم في الثمرة فقالوا سمعنا وأطعنا وفي الباب أحاديث في ثبوت الاستئجار بجزء من الخارج من الأرض ثم ثبت ما يدل على استمرار هذا التأجير بجزء مما يخرج من الأرض حتى قال البخاري قال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون علىالثلث والربع ثم ثبت بعد هذا النهي عن المخابرة كما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة وفسرها جابر بالمثلث والربع وورد أن المنهي عنه إنما هو ما كان فيه جهالة كما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث رافع بن خديج قال كنا أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك وفي لفظ لمسلم من حديثه إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ويسلم هذا ويهلك هذا ولم يكن للناس كرى إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به وفي لفظ للبخاري من حديثه نحوه وفي لفظ للبخاري أيضا من حديثه قال حدثني عماي أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء وبشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فهذا الحديث يدل على أن سبب النهي هو هذا ووجه ذلك الجهالة وتجويز عدم حصول ما ينبت في المكان الذي كان التأجير على ما يخرج منه وعليه يحمل ما ورد من طلق النهي عن المخابرة كما في حديث جابر وفي بعض روايات حديث رافع أو تحمل النهي على الكراهة كما يفيد ذلك حديث ابن عباس عند البخاري وغيره عن عمرو بن دينار قال قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال إن أعلمهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي لم ينه عنها وقال: "لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من

أن يأخذ عليها خراجا معلوما" وأخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس أيضا أن النبي صلى الله علي وآله وسلم لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه"، قال صاحب المنتقى بعد ذكره لحديث أبي هريرة هذا وبالإجماع تجوز الإجارة ولا تجب الإعارة فعلم أنه أراد الندب انتهى وبهذا تعرف الكلام على قول المصنف وإلا فسدت كالمخابرة. وأما قوله: "والزرع في الفاسدة لرب البذر وعليه أجرة الأرض أو العمل" فوجه استحقاق الباذر للزرع إذا كان هو الأجير أنه بذر بإذن المالك ومجرد كون المزارعة فاسدة لا يبطل الإذن الذي ساغ به البذر وصار له لأجله الزرع وأما إذا كان بغير أذن فالزرع لصاحب الأرض كما في حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زرع أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته"، [أحمد "3/65، 4/141، أبو داود "3403"، ابن ماجة "2466"، وسيأتي هذا الحديث والكلام عليه في الغصب وأما إذا كان الباذر هو مالك الأرض فالظاهر أن الزرع له وعليه أجرة العمل للعامل لأنه عمل بإذنه. وأما قوله: "ويجوز التراضي بما وقع به العقد" فظاهر لا يحتاج إلى التدوين لأن التراضي يصحح كل معاملة إلا ما كانت محرمة في نفسها وهكذا قوله وبذر الطعام الغصب استهلاك فيغرم مثله ووجهه أنه لا يمكن بعد هذا الاستهلاك إرجاع العين فيعدل إلى المثل إن وجد وإلا فالقية وأما كونه يملك غلته فلا بد أن يكون الغاصب له بذر به في أرض نفسه لا في أرض غيره كما تقدم في حديث رافع بن خديج فلا وجه لتشبيهه بقوله كما لو غصب الأرض والبذر له فإن غاصب الأرض لا يستحق من زرعها شيئا وله قيمة بذره وسيأتي الكلام على هذا في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى. [فصل والمغارسة الصحيحة أن يستأجر من يغرس له أشجارا يملكها ويصلح ويحفر مدة بأجرة ولو من الأرض أو الشجر أو الثمر الصالح معلومات وإلا ففاسدة وإن اختلف الحكم وكذلك ما أشبهها إلا ما خصه الإجماع وما وضع بتعد من غرس أو غيره ثم تنوسخ فأجرته وإعناته على الواضع لا المالك في الأصح وإذا انفسخت الفاسدة فلذي الغرس الخياران وفي الزرع الثلاثة] . قوله: "فصل: والمغارسة الصحيحة" الخ. أقول: المغراسة نوع من أنواع الإجارات فإذا حصل التراضي على غرس أشجار معلومة

حتى تبلغ إلى حد معلوم صح أن يكون ذلك بأجرة معلومة من غير الأرض أو بجزء من الأرض أو من الشجر وأما جعل الأجرة من الثمر فلا بد أن يكون قد بلغ إلى حد الصلاح لأن علة النهي المتقدمة في البيع حاصلة هنا وأما اشتراط ذكر الإصلاح والحفر فلا حاجة إليه لأن نبات الشجر لا بد أن يكون بحفر وسقي وإصلاح فهو من لازم إطلاق المغارسة ويغني عن ذلك ما قدمنا من ذكر بلوغ الشجر المغروسة إلى حد معلوم فإن لم يذكر هذا لم يكن للغارس إلا ما غرمه في الغرس والإصلاح لأن استحقاق الأجرة المسماة لا يكون إلا على عمل معلوم لا مجهول. وأما قوله: "إلا ما خصه الإجماع" فهو استثناء من قوله: يملكها أي إلا ما أجمع عليه الناس من عدم اشتراط كون رب الأرض يملك تلك الأعيان ومراده بالإجماع إجماع أهل تلك الناحية التي وقعت فيها المغارسة لا الإجماع الأكبر. وأما قوله: "وما وضع بتعد" الخ فوجهه ظاهر لأن الغاصب هو الواضع فيده هي اليد العدوانية ولا فعل من مالك المتاع يوجب ضمانه وسواء تنوسخ أو بقي في ملك مالكه الأول. وأما قوله: "وإذا انفسخت الفاسدة" الخ فهذا مبني على أنه حدث ما يمنع المضي في المغارسة أو اختار الترك وإلا فلا فساد ولا انفساخ بغير أحد الأمرين المذكورين. [فصل والمساقاة الصحيحة أن يستأجر لإصلاح الغرس كما مر والقول لرب الأرض في القدر المؤجر ونفي الإذن ولذي اليد عليها في البذر] . قوله: "فصل: والمساقاة الصحيحة" الخ. أقول: إذا كان الغارس مالك الأرض ثم أستأجر من يصلح له ذلك الغرس بالسقي إلى أن يبلغ حدا معلوما فهذه الإجارة يسميها أهل الفروع مساقاة. وأما قوله: "والقول لرب الأرض في القدر" فلا وجه له بل القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وأما في بقاء الإذن فالقول قول المالك لأن الأصل بقاؤه وأما إذا أدعاه الأجير فلا يكون القول قوله لأن المالك ينكره في الحال وهو صاحب الإذن وأما إذا ادعاه الأجير في وقت قد مضى فالقول قوله لأن الأصل عدم ارتفاعه قبل الاختلاف. وأما قوله: "ولذي اليد عليها في البذر" فوجهه أن ثبوت اليد يكون الظاهر مع صاحبه لأن بذرها نوع من من تصرفاته إلى تصرف فيها عند ذلك الثبوت.

باب الإحياء والتحجر

باب الإحياء والتحجر [فصل وللمسلم فقط الاستقلال بإحياء أرض لم يملكها ولا تحجرها مسلم ولا تعلق بها حق وبإذن الإمام فيما لم يتعين ذو الحق فيه وإلا فالعين غالبا] . قوله: "باب: الإحياء والتحجر فصل وللمسلم الاستقلال بإحياء أرض" الخ. أقول: الأصل في ثبوت الإحياء وأيجابه للملك ما أخرجه أحمد "3/304، 338"، وأبو داود "3073"، والنسائي "3129"، والترمذي "1379"، وصححه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضا ميتة فهي له"، وفي لفظ لأحمد "5/12، 21"، وأبي داود "3077"، من هذا الحديث: "من أحاط حائطا على أرض فهي له" وما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود من حديث سمرة بلفظ من أحاط حائطا على أرض فهي له وما أخرج أبو داود والناسئي والترمذي عن سعيد بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق"، وقد حسنه النسائي وأعله بالإرسال ورجع الدارقطني إرساله وأخرج البخاري وغيره من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها" وأخرج أبو داود والضياء في المختارة من حديث أسمر بن مضرس قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له"، قال فخرج الناس يتعادون يتخاطون فهذه الأحاديث وما ورد في معناها تدل على أن من أحيا الأرض التي هي ميتة غير مملوكة لأحد فهو أحق بها وتصير ملكا له أما إذا كان قد سبق إليها أحد من المسلمين أو كانت ملكا لذمي فلا يجوز أحياؤها كما يدل عليه لفظ أحد من حديث عائشة وكما يفيده لفظ ميتة في هذه الأحاديث فأن الأرض المملوكة للذمى ليست بميتة. وأما قوله: "من سبق إلى ما لا يسبق إليه مسلم" فهو من التنصيص على بعض أفراد العام لأنه قد انمحى عنه المعنى الاشتقاقي وصار كالجوامد وأما اشتراط أن لا يكون قد تحجرها مسلم فوجهه أنه قد صار أحق بها لسبقه إليها كما في حديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم" وهذا قد سبق بوضع الأعلام ونحوها. وأما قوله: "وبإذن الإمام" فليس من الأدلة ما يدل على اشتراطه ولكن إذا كانت الأرض غير ميتة ولم يعرف من هي له صار النظر فيها إلى إمام المسلمين كسائر أموال الله فإن التصرف فيها إليه. وأما قوله: "وإلا فالمعين" فلا دخل له في هذا الباب لأنه إذا أذن لغيره بإحياء ما هو حق له كان ذلك من باب الهبة ونحوها.

[فصل ويكون بالحرث والزرع أو الغرس أو امتداد الكرم أو إزالة الخمر أو التنقية أو اتخاذ حائط أو خندق قعير أو مسنا للغدير من ثلاث جهات وبحفر في معدن أو غيره ويعتبر قصد الفعل لا التمليك ويثبت به الملك ولا يبطل بعوده كما كان ولا يصح فيه وفي نحوه الاستئجار والاشتراك والتوكيل بل يملكه الفاعل في الأصح] . قوله: "فصل: ويكون بالحرث والزرع" الخ. أقول: هذه الأنواع الي ذكرها للإحياء يصدق على كل واحد منها مفهوم الإحياء وهو شيء واضح فالتطويل بذكر هذه الصور لا يأتي بطائل والحاصل أن ما صدق عليه أنه إحياء لغة أو شرعا كان سببا لملك الأرض الميتة. وأما قوله: "ويعتبر قصد الفعل" فمعلوم أن العامل لا يعمل عملا إلا لغرض وإلا كان فعله عبثا لا ينبغي حمل أفعال العقلاء عليه. وأما قوله: "يثبت به الملك" فهو الذي دلت عليه الأحاديث الواردة في الإحياء كما تقدم. وأما قوله: "ولا يبطل بعوده كما كان" فوجهه أن الملك لا يزول بعد ثبوته. وأما قوله: "ولا يصح فيه وفي نحوه الاستئجار" الخ فوجهه أنه يصير الأجير هو المحيي فتكون الأرض له كما تدل عليه الأدلة المتقدمة وفيه نظر فإن المباشرة للفعل يختلف باختلاف الأغراض والمقاصد فإذا كان المباشر للإحياء مأمورا من جهة غيره أجيرا له صح ذلك وكان عمله هذا داخلا في أنواع الإجارات ولا مانع من ذلك وهكذا إذا كان المباشر وكيلا فإنه لم يحيي الأرض لنفسه بل أحياها لموكله وليس هذا من الأملاك القهرية التي تدخل في ملك مالكها شاء أم أبى وهكذا يجوز الاشتراك فيها لأنه بعد وقوع الإحياء من كل واحد منهما بمنزلة المواهبة ولا مانع من ذلك من شرع ولا من عقل. [فصل والتحجر بضرب الأعلام في الجوانب يثبت به الحق لا الملك فيبيح أو يهب لا بعوض وله منعه وما حاز ولا يبطل قبل مضي ثلاث سنين إلا بإبطاله ولا بعدها إلا به أو بإبطال الإمام ولا بإحيائه غصبا قيل والكراء لبيت المال والشجر فيه وفي غيره كلاء ولو مسبلا وقيل م فيه حق وفي الملك ملك وفي المسبل يتبعه وفي غيرها كلاء] . قوله: "فصل: والتحجر بضرب الأعلام في الجوانب".

أقول: من سبق إلى الأرض فوضع عليها أي علامة كانت تدل على سبقه إليها فهو أحق بها كما في الحديث المتقدم بلفظ: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له"، فالشرع قد أثبت أنه له وذلك هو معنى الملك فلا يرجع إلى مجرد الاصطلاح مع وجود الشرع ولا إلى المفاهيم اللغوية على تقدير أن فيها ما يدل على التفاوت بين الحق والملك وبهذا تعرف أنه لا فرق بين الإحياء والتحجر في ثبوت الملك بهما وأنه يصدق على كل واحد منهما أنه إحياء وليس المراد بالإحياء العمل في نفس الأرض بحرث أو غرس أو نحوها وقد تقدم في الأحاديث: "من أحاط حائطا على أرض فهي له" فإن الحائط ليس بعمل في نفس الأرض بل هو من باب التحجر لها عن أن يدخل إليها داخل فهو في الدلالة على السبق كضرب الأعلام في الجوانب ولا وجه لجعل أحدهما من باب الإحياء والآخر من باب التحجر كما فعل المصنف ولا للفرق بين أحكام الإحياء وأحكام التحجير فلا تشتغل بالكلام عليه ففي هذا كفاية. قوله: "والشجر فيه وفي غيره كلأ". أقول: ولا وجه لقول المصنف والشجر فيه الخ لأن الذي حكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مشترك بين الناس هو الكلأ والشجر ليس بكلأ فإنه عند أهل اللغة يطلق على الحشيش ولعل المصنف يريد بهذه العبارة أن الشجر له حكم الكلأ وهذا يحتاج إلى دليل فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع الماء والنار والكلأ"، كما أخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة بإسناد صحيح وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلأ والنار"، أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي خراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا ورجال إسناده ثقات وأخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس وزاد فيه: "وثمنه حرام" وصححه ابن السكن وفي الباب أحاديث. فالحاصل أن هذه الثلاثة الأشياء مشتركة بين الناس وأما الشجر النابت في الأرض المملوكة فهو لمالكها وفي غير المملوكة ملك لمن سبق إليه وليس في الأحاديث ما يدل على أنه مشترك بين الناس ومما يؤيد الاشتراك في الكلاء والماء ما ثبت في - الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ"، وفي لفظ لمسلم: "لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ" وفي لفظ للبخاري: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ" وأخرج أحمد وابن ماجه عن عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمنع نقع البئر وأخرج أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من منع فضل مائة أو فضل كلئه منعه الله عزوجل فضله يوم القيامة"، وأخرج مسلم "34/1565"، من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء وأخرج نحوه أهل السنن [أبو داود "3478"، النسائي "7/307"، الترمذي "1271"، وصححه الترمذي "3/570"، من حديث إياس بن عبد وقد ورد بزيادة المالح كما أخرجه الخطيب من حديث ابن عمر وإسناده ضعيف ورواه الطبراني

بإسناد حسن عن زيد بن جبير عن ابن عمر وله عنده طريق أخرى وأخرج ابن ماجه عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح والماء والنار" وإسناده ضعيف وأخرج الطبراني في - الصغير من حديث أنس: "خصلتان لا يحل منعهما الماء والنار" قال أبو حاتم: هذا حديث منكر.

باب المضاربة

باب المضاربة [فصل شروطها الإيجاب بلفظها أو ما في حكمه والقبول أو الامتثال على التراخي ما لم يرد بين جائزي التصرف على مال من أيهما إلا من مسلم لكافر معلوم نقد يتعامل به حاضر أوفى حكمه وتفصيل كيفية الربح ورفض كل شرط يخالف موجبها] . قوله: "باب المضاربة" أقول: لا شك في وقوع التعامل بها في زمن الصحابة رضي الله عنهم وقد فعلها جماعة من أكابرهم وحكى صاحب - النهاية المجتهد أنه لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وأنه مما كان في الجاهلية وأقره الإسلام انتهى وقال أبن حجر في - التخليص إنه إجماع صحيح قال والذي يقطع أنه كان في عصره صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره ولولا ذلك لما جاز. قوله: "فصل: وشروطها الإيجاب بلفظها أو ما في حكمه". أقول: لا يشترط فيها إلا مجرد التراضي فقد على التعامل وقدر الربح فإذا وقع ذلك فهذه المضاربة داخلة تحت قوله تعالى: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، وقد عرفناك في كتاب البيع وما فيه من الأبواب وما بعده أن هذا الاشتراط للألفاظ ليس عليه أثارة من علم وأما كونها بين جائزي التصرف فلا بد من ذلك لأن من لا جوز تصرفه لا حكم لصدور الرضا منه. وأما قوله: "على مال من أيهما" فمستغنى عنه لأن مفهوم المضاربة ومعناها لا يوجد إلا بذلك وأما كون المال معلوما فذلك لا بد منه وإلا كانت جهالته ذريعة إلى اختلاط رأس المال بالربح فيكون معاملة مختلة وإذا كانت المضاربة في عروض فلا بد أن يتميز ما هو قيمة لها حتى يعلما أن الزائد عليه ربح ولا وجه لاشتراط كون رأس مالها مما يتعامل به الناس فإنها تصح في كل شيء يقع فيه البيع والشراء لأنها بيع منظور فيه إلى الربح مع بقاء رأس المال ولا يشترط حضور المال إذا كان معلوما عندهما وأما تفصيل كيفية الربح فأمر لا بد منه لأن ذلك هو الغرض من هذه المعاملة.

وأما قوله ورفض كل شرط يخالف موجبها فصحيح لأن ذكر هذا الشرط يعود على ما هما بصدده من هذه المعاملة بالنقض. [فصل ويدخلها التعليق والتوقيت والحجر عما شاء المالك غالبا فيمتثل العامل وإلا ضمن التالف وله مطلقها كل تصرف إلا الخلط والمضاربة والقرض والسفتجه فإن فوض جاز الأولان وإن شارك الثاني في الربح لا الآخران لعرف] . قوله: "فصل: ويدخلها التعليق". أقول: قد عرفناك أنه لا مانع من دخول التعليق والتوقبت مع حصول المناط المعتبر في المعاملات وهو التراضي فلا حجر علي المتعاملين في تعليق التعامل لوقت مستقبل وتوقيته بمدة معيتة وهكذا الحجر عما شاء المالك لأن له أن يشترط في ملكه مالم يكن رافعا لما يقتضبه المعاملة وإذا لم تمثل العامل كان متعديا ضامنا لما خالف فيه لأنه تصرف في ملك غيره بغير إذنه. وأما كون العامل في مطلق المضاربة كل تصرف فظاهر لكن لابد من تقييد هذا العموم بالتصرفات الجارية علي نمط تصفات العارفين بما قي جلب نفع أو دفع ضر، ولا وجه لمنع الخلط إذا رأي العامل في ذلك صلاحا وأما المضاربة من العامل لغيره فلا يجوز إلا بإذن المالك لأنه ضاربه ولم يضارب غيره ولا تكون مضاربة إلا وللعامل الآخر نصيب من الربح فربما يفضي ذلك إلي ما فيه ضرر علي المالك بنقص في الربح أو حدوث خسر وهكذا ليس له أن يقرض مال المرابحة لأنه خلاف ما هو المقصود منها وهو الربح وقد يعرض للمستقرض إخسار يمتنع منه القضاء. وأما السفتجة، فإن كان فيها ما يعود علي مال المضاربة بمصلحة فلا بأس بها. وأما قوله: "فإن فوض جاز الأولان ... الخ"، فلا يخفي التفويض إنما ينصرف إلي ما فيه مصلحة تعود علي المال وصاحبه فليس له أن يفعل ما لا مصلحة فيه أو فيه مظنة مفسدة وتفويض العاقل لا ينصرق إلي ما فيه ضرر أصلا فطلب النفع مقصود مع التفويض لأنه الغرض الذي تقتضيه هذه المعاملة ويوجبه العقل. [فصل ومؤن المالك كلها من ربحه ثم من رأسه وكذلك مؤن العامل وخادمه المعتادة في

السفر فقط مهما اشتغل بها ولم يجوز استغراق الربح وفي مرضه ونحوه تردد فإن أنفق بنية الرجوع ثم تلف المال بين وغرم المالك وصدقه مع البقاء ولا ينفرد بأخذ حصته ويملكها بالظهور فيتبعها أحكام الملك يستقر بالقسمة فلو خسر قبلها وبعد التصرف آثر الجبر وإن انكشف الخسر بعدها] . قوله: " فصل: ومؤن المال من ربحه" الخ. أقول: الاعتماد في مثل هذا على ما حصل عليه التراضي فلو تراضيا على أن يكون المؤن من نصيب العامل من الربع لم يكن بذلك بأس وهكذا العكس وأما تقييد ذكل بعد تجويز استغراق الربح فوجهه أن تجويز استغراقه يذهب بالغرض المقصود منها ولكنه يقال التراضي يحلل ذلك ويسوغه والأصل عدم المانح والدليل على مدعيه. وأما قوله: "فإن أنفق بينة الرجوع" الخ فلا بد من إذن المالك له بذلك وإلا فلا وجه للرجوع إلا أن يقتضي ذلك الحادثة وتوجبه الضرورة. وأما قوله: "ولا ينفرد العامل بأخذ حصته" فلا وجه له لأن هذه المعاملة بينهما قد اقتضت بأن لكل واحد منهما أن يأخذ نصيبه إلا لشرط. وأما قوله: "ويملكها بالظهور" فغير مسلم فإن مجرد الظهور مع عدم القبض معرض للذهاب بخسر أو بأي سبب من أسباب التلف فكيف تتعلق بهذا الربح الذي لم يحصل منه إلا مجرد الظهور أحكام الملك من وجوب الزكاة وقضاء الدين منه ونحو ذلك مع وجود مقتضى الرجاء وعدمه ومظنه سلامته وتلفه. [فصل وللمالك شراء سلع المضاربة منه وإن فقد الربح والبيع منه إن فقد لا من غيره فيهما والزيادة المعلومة على مالها ما لم يكن قد زاد أو نقص والإذن باقتراض معلوم لها ولا يدخل في مالها إلا ما اشتري بعد عقدها بنيتها أو بمالها ولو بلا نية ولا تلحقه الزيادة والنقص بعد العقد إلا لمصلحة ولا ينعزل بالغين المعتاد وشراء من يعتق على المالك أو عليه أو ينفسخ نكاحه والمخالفة في الحفظ إن سلم وإعانة المالك له في العمل ولا بعزله المال عرض يجوز الربح فيه] . قوله: "فصل: وللمالك شراء سلع المضاربة" الخ. أقول: العامل إنما هو بمنزلة الوكيل لصاحب المال والوكالة أمرها إلى الموكل فمتى أراد

عزل الوكيل عزله مع استحقاقه لما قد حصل من نصيبه من الربح إلى وقت العزل فليس ها هنا ما يوجب تسليط العامل على المال حتى يقال إن اشترى المضاربة منه بل ها هنا ما هو أقرب مسافة وأقل مؤنة وهو أن يأخذ المالك سلع المضاربة لأنها ملكه وإذا كانت قد اشتملت على ربح أعطاه نصيبه منه وأما بيع المالك لها من العامل فيها فلا بأس بذلك لأنه باع ملكه إلى غيره وليس من شرط صحة هذا البيع فقدان الربح لأنه يمكن الوقوف على مقداره بتقدير العدول فيكون ذلك خارجا عن البيع. وأما قوله: "لا من غيره فيهما" فقد عرفناك أن له عزلة متى شاء مع تسليم قدر حصته مما قد ظهر من الربح. وأما قوله: "والزيادة والنقص المعلومة على مالها" فلا بأس بذلك ولا وجه لتقييده بقوله ما لم يكن قد زاد أو نقص فإن الزيادة المعلومة لا تمنع منها زيادة الأصل أو نقصانه وتعليلهم ذلك بأنه يؤدي إلى جبر خسر كل واحد منهما بربح الآخر تعليل في غاية السقوط فإن المال واحد والمالك واحد والعامل واحد والزيادة لهما والخسر عليهما وأما إذن المالك للعامل باقتراض مال معلوم فلا مانع منه. وأما قوله: "ولا يدخل في مالها" الخ فلا يخفاك أن الظاهر في كل ما اشتري بمال المضاربة أنه داخل في المضاربة من غير فرق بين أن ينوي كون ذلك المشتري لها أو لم ينو وما اشترى بغير مالها فهو غير داخل في المضاربة به سواء كان ذلك قبل عقدها أو بعده فإن تراضيا بإلحاق شيء بمال المضاربة من ملك رب المال كان ذلك من الزيادة فيه كما تقدم. وأما قوله: "لا ينعزل بالغبن المعتاد" فظاهر لأن هذا شأن هذه المعاملة تارة يحصل الربح وتارة يحصل الخسر. وأما قوله: "وشراء من يعتق عليه" فقد عرفناك أن المال باق على ملك المالك فلا بد أن يأذن بذلك المالك وإلا فلا ينفذ الشراء لأنه خسر محض بغير إذن فلا وجه لعتق من يعتق على العامل إلا أن يكون قد ملك جزءا من مال شراء العتق وضمن وهكذ لا ينفذ شراء من ينفسخ ناكحه إلا بإذن من المالك. وأما قوله: "والمخالفة في الحفظ إن سلم" فلكون تلك المخالفة لم يظهر لها أثر وقد عرفناك أنه يعزله متى شاء فذكر هذه الأمور مبني على لزوم ما وقع بينهما عند الدخول في هذه المعاملة وهكذا لا ينعزل بإعانة المالك له في العمل. وأما قوله: "ولا يعزله والمال عرض يجوز الربح فيه" فلا وجه له بل يعزله ويأخذ نصيبه من الربح إذا كان قد ظهر وإن لم يكن قد ظهر وليس إلا مجرد التجويز فلا يلزم للعامل شيء.

[فصل وفسادها الأصلي يوجب أجرة المثل مطلقا والطاريء الأقل منها ومن المسمى مع الربح فقط ويوجبان الضمان إلا للخسر] . قوله: "فصل: وفسادها الأصلي" الخ. أقول: قد عرفناك غير مرة أن حكم هؤلاء على المعاملات بالفساد يرجع إلى فوات أمور لفظية لا تقتضي خلل المعاملات قط ولا يتعلق بها حكم فإذا حصل التراضي بين صاحب المال والعامل على أن يتصرف بماله على نصيب من الربح معلوم فهذه مضاربة صحيحة وإذا لم يحصل هذا فهي باطلة وجودها كعدمها ولا وجه لجعل أمر ثالث بين الصحة والبطلان وإثبات أحكام له مخالفة للأحكام الكائنة في جانبي الصحة والبطلان وقد عرفناك أيضا أن لصاحب المال عزل العامل متى شاء فإذا عزله استحق ما سماه له من الربح إذا كان قد حصل الربح وإذا لم يحصل بل هو باق في أعيان المضاربة كان للعامل ما يقدره العدول من الربح فإذا قدروا جملة سلم له صاحب المال نصيبه هكذا ينبغي أن يقال وإذا اختار العامل الترك فالأمر هكذا وأما ما ذكره من الضمان فقد قدمنا الكلام عليه في الفصل الذي عقده لمن يضمن ومن لا يضمن في آخر كتاب الإجارات. [فصل وتبطل ونحوها بموت المالك فيسلم العامل الحاصل مننقد أو عرض تيقن أن لا ربح فيه فورا وإلا ضمن ولا يلزمه البيع ويبيع بولاية ما فيه ربح ولا يلزمه التعجيل وبموت العامل وعلى وارثه وله كذلك فإن أجملها الميت فدين وإن أغفلها حكم بالتلف وإن أنكرها الوارث أو أدعى بتلفها معه فالقول له لا مع الميت أو كونه ادعاه فيبين والقول للمالك في كيفية الربح ونفيه بعد هذا مال المضاربة وفيه ربح وفي أن المالك قرض أو غصب لا قراض وللعامل في رد المال وتلفه في الصحيحة فقط وفي قدره وخسره وربحه وأنه من بعد العزل وفي نفي القبض والحجر مطلقا ولمدعي المال وديعة منهما] . قوله: "فصل: وتبطل ونحوها بموت المالك" الخ. أقول: المناط الذي جاز للعامل التصرف في مال غيره به هو الإذن من المالك والتراضي الواقع بينهما فإذا مات صاحب المال صار ذلك المال لغيره فإن قرر المضاربة كما كانت عليه في حياة مورثه كانت هذه مضاربة مستقلة حاصلة بينهما بمجرد التراضي وإذا لم يقرر المضاربة

كما كانت عليه كان على العامل إرجاع ماله إليه وياخذ نصيبه من الربح وأما الأعراض التي قد صار فيها ربح فله من ربحها ما قدره العدول. وأما قوله: "فورا وإلا ضمن" ففيه نظر لأنه لا يتضيق الرد إلا بالطلب ولم تكن يده بد عدوان إلا بترك الرد مع الطلب وأما كونه لا يلزمه البيع فواضح لأن صاحب المال قد مات وصار المال إلى وارثه فلم يبق له ولاية التصرف فضلا عن أن يلزمه بيع ما لا ربح فيه وهكذا لا يلزمه بيع ما فيه ربح إلا بإذن من المالك وما كان أحق هذه الأمور بعدم شغلة الحيز بها وإتعاب الطلبة بدرسها فإنها أمور واضحة قد لا تلتبس على العامي فكيف بمن له بعض فقاهة وهكذا تبطل المضاربة بموت العامل لأن الإذن من المالك لم يكن إلا له ولا يلزم وارثه إلا ما يلزم العامل ولو مات المالك لكن على الوجه الذي ذكرناه. قوله: "فإن أجملها الميت فدين". أقول: ينبغي أن يقال إن الميت إذا قال عنده لفلان مال مضاربة هكذا على جهة الإجمال طولب وارثه بتعيينه فإن أنكر معرفته فليس عليه إلا اليمين وعلى مالك المال البينة على تعيينه فإن عجز عن ذلك كله كان ما تضمنه ذلك الإجمال ثابتا في تركه الميت وإذا لم يمكن تعيين مقداره رجع إلى أوساط ما يتعامل به الناس في المضاربات. وأما قوله: "فإن أغفلها حكم بالتلف" فمن غرائب التفريعات وعجائب الاجتهادات فإن مجرد هذا الإغفال لا يكون حجة على رب المال بل يرجع إلى البينة من رب المال أو اليمين من الوراث هذا على تقدير أنه لم يتقرر أصل التعامل أما إذا تقرر فعلى الوارث البينة بأن مورثه قد رد مال المضاربة أو أنه قد تلف بسبب لا يوجب الضمان ومن منكرات التفريعات قول المصنف إن الوارث إذا ادعى تلفها معه فالقول له وإن ادعى تلفها مع الميت فعليه البينة فإنه قلب للشريعة. قوله: "والقول للمالك في كيفية الربح". أقول: البينة على مدعي الزيادة سواء كان العامل أو رب المال. وأما قوله: "ونفيه" فوجهه أن الأصل عدمه فيكون القول قول النافي منهما. وأما قوله: "وفي أن المال قرض أو غصب لاقراض" فلا يخفاك أن ثبوت اليد يقتضي أنه بمسوغ شرعي فالبينة على مدعي الغصب وأما الاختلاف في كونه قرضا أو قراضا فالبينة على مدعي القراض وهو العامل لأنه يدعي ثبوت حق له في الربح وإلا عدمه. وأما قوله: "وللعامل في رد المال وتلفه" في الصحيحة فقط فقد عللوا ذلك بأنه أمين وقد عرفناك أن الدليل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من أئتمنك ولا تخن من خانك"، يدلان عن وجوب الرد عليه وحديث: "البينة على من المدعي واليمين على المدعي عليه" يدل على أن على العامل البينة فيما ادعى رده وهكذا فيما أدعى تلفه لأن التلف خلاف الأصل. وأما قوله: "وفي قدره" فلا وجه له بل القول قوله نافي الزيادة والبينة على مدعيها لأن

الأصل عدمها وهكذا في الخسر والربح يكون القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وهكذا القول قول نافي حدوث الربح بعد العزل وبعد القبض والبينة على مدعيها وأما نافي الحجر فالقول قوله لأن الأصل عدمه. وأما قوله: "والمدعي المال وديعة منهما" فوجهه أن مدعي كونه مضاربة يثبت لنفسه حقا في الربح والأصل عدمه هذا إذا كان المدعي هو العامل وأما إذا كان المدعي المالك فإن كان يريد بهذه الدعوى تضمين العامل فالأصل عدم الضمان والحاصل أن هذه المسائل ظلمات بعضها فوق بعض وقد كشفنا عنها ما يحول بينك وبين عدم إدراكها بعين البصيرة. [فصل وإذا اختلطت فالتبست أملاك الأعداد أو أوقافها لا بخالط قسمت وبين مدعي الزيادة والفضل إلا ملكا بوقف قيل أو وقفين لآدمي ولله فيصيران للمصالح رقبة الأول وغلة الثاني وبخالط متعد ملك القيمي ومختلف المثلى لزمته الغرامة والتصدق بما خشي فساده قبل المراضاة وضمن المثلى المتفق وقسمه كما مر] . قوله: "فصل: وإذا اختلطت فالتبست أملاك الأعداد" الخ. أقول: إذا كان الاختلاط بغير خالط ممن يتعلق به الضمان وذلك كالاختلاط بالسيل أو الربح أو نحوهما فإذا لم يمكن الوقوف على نصيب كل واحد بوجه من الوجوه لم يبق طريق من طرق العدل إلا القسمة على رؤوس المتنازعين وبين مدعي الزيادة في القدر أو الجنس ولا وجه للاستثناء بقوله إلا ملكا بوقف أو وقفين بل يقسم ويجعل الوقف بمنزلة المنازع من المالكين فيكون له نصيب كنصيبه وأما الجزم بإبطال ملك المالك ومصير الكل للمصالح فمن الظلم البين للمالك في ملكه المعصوم بعصمة الشرع بغير سبب يوجبه الشرع بل بمجرد المجازفة وأي دليل يدل على تأثير ما هو وقف على ما هو ملك وعلى نزع ملك المالك مع إمكان السلوك به في طريق من طرائق العدل. قوله: "ويخالط متعد" الخ. أقول: الخلط على وجه التعدي جناية مضمونة فغاية ما يلزمه أرش النقص الحاصل بالخلط ولا وجه لقوله ملك القيمي ومختلف المثلى بل الملك باق لمالكه والتعليل بأن فعله قد صار استهلاكا فنحن نمنع أن يكون هذا استهلاكا ثم نمنع أن يكون الاستهلا مقتضيا لخروج الملك عن مالكه والحاصل أنه إذا أمكن التمييز كان ذلك واجبا على الخالط وإن تعذر فليس عليه إلا الأرش الذي نقص به ذلك المخطوط بالخلط وإذا عرفت هذا عرفت عدم صحة ما رتبه المصنف عليه فلا تطول برده.

كتاب الشركة

كتاب الشركة مدخل ... كتاب الشركة [فصل هي نوعان في المكسب والأملاك فشرك المكاسب أربع المفاوضة وهي أن يخرج حران مكلفان مسلمان أو ذميان جميع نقدهما السواء جنسا وقدرا لا فلوسهما ثم يخلطان ويعقدان غير مفضلين في الربح والوضيعة فيصير كل منهما فيما يتعلق بالتصرف فيه وكيلا للآخر وكفيلا له ماله وعليه ما عليه مطلقا وفي غصب استهلك حكما وكفالة بمال عن أمر الأصل خلاف] . قوله: "المفاوضة وهي أن يخرج مكلفان" الخ. أقول: أعلم أن أصل الشركة ثابت بالسنة المطهرة وعليه أجمع المسلمون فيما وردت به السنة في مطلق الشركة حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما". أخرجه أبو داود والحاكم وصححه ومنها ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث السائب بن أبي السائب أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية وفي بعض ألفاظ الحديث أنه كان شريك النبي قبل البعثة فجاء يوم الفتح فقال: "مرحبا بأخي وشريكي لا يداري ولا يماري". وللحديث ألفاظ وقد وقعت الشركة بين جماعة من الصحابة وهي مما قرره الإسلام مما كان في الجاهلية ولكن هذه الأنواع التي ذكرها أهل الفروع وقالوا مفاوضة عنان أبدان وجوه ليست إلا أسامي اصطلحوا عليها وجعلوا لكل واحد منها ماهية وقيدوها بقيود وليس هذا العلم علم مواضعة ولا علم اصطلاح بل هو علم يبين ما فيه ما شرعه الله لعباده من العبادات والمعاملات والشركة الشرعية توجد بوجود التراضي بين اثنين أو أكثر على أن يدفع كل واحد منهم من ماله مقدارا معلوما ثم يطلبون به المكاسب والأرباح على أن لكل واحد منهم بقدر ما دفعه من ماله مما حصل لهم من الربح وعلى كل واحد منهم بقدر ذلك مما لزم في المؤن التي تخرج من مال الشركة فإذا قد حصل التراضي الذي هو المناط في كل المعاملات فليس من شرط هذه الشركة أن يكون مال كل واحد منهم مساويا لمال من شاركه فإن العلم بنصيب كل واحد منهم وإن كان بعضا حقيرا وبعضا كثيرا يحصل به المطلوب من التحاصص في الغنم والغرم وهكذا لا وجه لاشتراط المال باديء بدء وخلطه في تلك الحال ولكن المقصود أن يحصل الاتجار بمجموعه حتى لو شرى أحدهم بنقده نوعا من أنواع العروض وفعل الأخرون مثله وقد حصل التراضي على أن أرباح تلك العروض المشتراة يكون للجميع بحسب الحصص والخسر على الجميع كانت هذه شركة صحيحة شرعية وهكذا لو أخرج

كل واحد منهم عروضا وقد عرف مقدار قيمة كل نوع من أنواع هذه العروض التي أخرجها كل واحد منهم وتراضوا على الاشتراك فيما حصل في المجموع من الأرباح والأغرام كانت هذه شركة صحيحة وهكذا لو حصل التراضي بين اثنين أو أكثر أن يتطلبوا أسباب الرزق وما حصل من مجموع ما رزقهما الله سبحانه كان بينهما على كذا فإن هذه شركة صحيحة ولو اتجر بعضهم في مشارق الأرض وبعضهم في مغاربها. وقد اشترك ابن مسعود وعمار بن ياسر وسعد ابن أبي وقاص فيما يصيبونه من المغانم في يوم بدر كما أخرجه ذلك أبو داود والنسائي وابن ماجه ومعلوم أن مثل هذه الشركة في مثل هذا اليوم مع قلة الصحابة لا يخفي على النبي صلى الله عليه وسلم بل ورد ما يدل على أنه كان يقع ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كما أخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن رويفع بن ثابت قال إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح وهذا الحديث وإن كان في بعض طرقه مجهول فقد أخرجه النسائي من غير طريقة بإسناد رجاله كلهم ثقات. وإذا تقرر لك هذا أغناك عن هذا الكلام المدون في هذا الكتاب في شرك المكاسب وبه تعرف صواب ما ذكروه من الشروط والقيود من خطئه والحاصل أن التراضي على الاشتراك سواء تعلق بالنقود أو العروض أو الآبدان هو كله شركة شرعية ولا يعتبر إلا مجرد التراضي مع العلم بمقدرا حصة كل واحد من الربح والخسر فإن كان الربح والخسر باعتبار مقادير مال الشركة أو مقادير قيمة العروض فلا بد من معرفة المقدار لترتيب الربح عليه فإن حصل التراضي على الاستواء في الربح مع اختلاف مقادير الأموال كان ذلك جائزا سائغا ولو كان مال أحدهم يسيرا ومال غيره كثيرا وليس في مثل هذا بأس في الشريعة فإنه تجارة عن تراض ومسامحة بطيبة نفس وأما كون كل واحدة من هذه الشركة تنفسخ بما ذكره من الفسخ فذلك معلوم لأن كل واحد من المشتركين له فسخ الشركة متى شاء وأما الجحد فإذا لم يمكن دفعه بوجه كان رافعا للشركة وأما الردة فهو مبني على ما قدمه من أنها لا تصح بين المسلم والكافر ولا وجه لذلك وأما الانفساخ بالموت فظاهر لأن المال قد ينتقل من مالك إلى مالك وأما دخول التعليق والتوقيت فيها فصحيح لعدم المانع.

باب شركة الأملاك

باب شركة الأملاك [فصل يجبر رب السفل الموسر على إصلاحه غالبا لينتفع رب العلو فإن غاب أو أعسر

أو تمرد فهو ويحبسه أو يكريه أو يستعمله بغرمه ولكل أن يفعل في ملكه ما لا يضر بالآخر من تعلية وبيع وغيرهما ويضمن ما أمكنه دفعه من إضرار نصيبة وإذا تداعيا السقف فبينهما والفرس للراكب ثم لذي السرج والثوب للابس والعرم للأعلى] . قوله: "فصل: ويجبر رب السفلى الموسر على اصلاحه". أقول: وجه هذا الأجبار أنه قد ثبت لرب العلو حق في السفل وهو استقرار بنائه عليه فإذا اختل السفل وترك مالكه إصلاحه كان ذلك سببا لذهاب هذا الحق ولكن لا يخفاك أن إجبار المالك على إصلاح ملكه لينتفع به من له حق متعلق به يحتاج إلى دليل فإن هذا مخالف لا جرت عليه القواعد الشرعية من وجهين الوجه الأول أن المالك إذا رغب عن ملكه كان ذلك له فكيف يجبر على إصلاحه الثاني أن مال رب السفل معصوم بعصمة الإسلام فال يحل إلا بشرع يخصص هذه العصمة الثابتة بأدلة الكتاب والسنة ولا سيما وهذا الإجبار واستهلاك المال لغرض يعود على الغير ونفع لا ينتفع به المالك أما إذا علم أن رب السفل راغب في إصلاح ملكه ولكنه كان معسرا أو غائبا بنيابة رب العلو عنه في الإصلاح وله أن يطالبه بما غرم فإن سلم له ذلك فذاك وإن لم يسلم له كان له حبسه أو تأجيره من الغير أو استعماله بقدر ما غرم وأما إذا تمرد ورغب عن إصلاح ملكه فالكلام فيه كما قدمنا. قوله: "ولكل أن يفعل في ملكه ما لا يضر بالآخر" الخ. أقول: هذا صحيح لأن موجب الملك يقتضي أن يفعل فيه ما يريده وموجب الأدلة الدالة على عدم المضارة لا سيما للجار يمنع من أن يفعل ما يضر بشريكه وكلام المصنف هنا أولى مما سيأتي له من قوله فلكل أن يفعل في ملكه ما شاء وإن قصر الجار وأما تعرض شيوخ الفروع للفرق بين الموضعين فمن الهذيان الذي لا وجه له وهكذا قوله ويضمن ما أمكن دفعه من إضرار نصيبه لأنه فرط بترك الدفع فكان ذلك منه جناية على ملك شريكه. قوله: "وإذا تداعيا السقف فبينهما". أقول: السقف إنما يجعل في الغالب لتغطية ما هو موضوع فوقه وأيضا لا يكمل ما تحته منزلا حتى يوضع عليه السقف وهذا يفيد أنه مع التدعي للأسفل فيكون القول قوله مع يمينه لأن الظاهر معه وعلى رب العلو البينة أن ذلك السقف له ببيع أو استثناء أو قسمة لأنه يدعي خلاف الظاهر وأما كون الفرس للراكب فوجهه أن الراكب في الغالب هوالمالك والراجل خارج السرج الذي يقودها الغالب أن يكون خادما للراكب وهكذا يد الراكب على السرج أقوى من يد الراكب خارج السرج لأن الغالب أن المالك هو الذي يثبت على السرج ويردف غيره ممن أراد إردافه خلفه وهكذا الثوب للابس لأنه لا يلبس الثوب في الغالب إلا مالكه وهكذا العرم للأعلى لأنه يوضع لحفظ الماء في العلو وليس لصاحب الأسفل تعلق به وأما إذا لم يكن ثم علو وسفل بل كان العرم منصوبا بين الملكين فهو لهما ولا يكون أحدهما أحق به من الآخر لأنه لنفع كل واحد من الملكين.

[فصل ولا يجبر الممتنع عن إحداث حائط بين الملكين أو عن قسمته غالبا بل على إصلاحه ولا يفعل أيهما فيه غير ما وضع له من سترة وتحريز وحمل ولا يستبد به إلا بإذن الآخر فإن فعل أزال ولا يثبت حق بيد وإذا تداعيا فلمن بين ثم لمن اتصل ببنائه ثم لذي الجذوع ثم لمن ليس إليه توجيه البناء ثم لذي التزيين والتخصيص أو القمط في بيت الخص ثم بينهما وإن زادت جذوع أحدهما] . قوله: "فصل: ولا يجبر الممتنع عن إحداث حائط بين الملكين". أقول: وجه هذا ظاهر لأن إحداث الحائط بين الملكين يستغرق جزءا من كل واحد من الملكين أما إذا كان لا يندفع الضرر بين الشريكين إلا به أجبر الممتنع للأدلة الواردة في عدم جواز المضارة والأخذ على يد من أرادها وأما كونه لا يجبر على قسمته فذلك يستقيم إذا كان لا يمكن قسمته أو تضره القسمة أما إذا كانت ممكنة بحيث ينتفع كل واحد بنصيبه أو طلبها المنتفع أجبر شريكه على ذلك ولا سيما إذا كان يندفع بها ضرار بينهما. وأما قوله: "بل على إصلاحه" فإن كان الإصلاح لدفع ضرار مجوز فذلك وجه صحيح وإن كان لأجل أن ينتفع به الشريك مع رغوب الآخر عن إصلاح ملكه فالكلام فيه كما تقدم في شركة العلو والسفل وأما كونه لا يفعل أحدهما فيه غير ما وضع له فوجهه ظاهر إذا كان وضعه لنفع خاص تواطآ عليه لا إذا كان وضعه لمطلق النفع من غير تقييد وهكذا ليس لأحدها أن يستبد به لأن في ذلك افتيات على شريكه واستغراق لحقه الثابت وأما مع الإذن فظاهر أنه يجوز للمأذون أن يفعل غير ما وضع له وأن يستبدله. قوله: "ولا يثبت حق بيد". أقول: ثبوت اليد على ما هو من الحقوق التابعة للأملاك يفيد الثابت ظهورا يكون به القول قوله مع يمينه والبينة على غريمه لأنه يدعي خلاف الظاهر فهذه الكلية التي جاء بها المصنف لا يعرف لها وجه فإنه صار يجعل القول قول من شهد له الظاهر في كل باب فما باله ها هنا خالف عادته بل سيأتي له في الدعاوى أن المدعي من معه خفي الأمرين ولا شك أن ثابت اليد على الحق معه ظاهر الأمرين ومع من لم يكن ثابت اليد عليه أخفى الأمرين وأما تعليل هذا النفي بأنه قد يتسامح في الحقوق فلا يفيد شيئا لأنه قد يتسامح في بعض الأملاك كما يتسامح في بعض الحقوق على أن هذا التسامح لا ينافي الظهور الذي هو المطلوب من تأثير ثبوت اليد على الحق. وأما قوله: "وإذا تداعيا الجدار" الخ فوجهه أن هذه قرائن يستفاد بها الظهور والقول قول من معه الظاهر فإذا لم يكن ثم قرينة يفيد ذلك اشتركا فيه إذا لم يبق سبيل إلى ما يصلح مستندا للحكم به لأحدهما.

[فصل ولا يضيق قرار السكك النافذة ولا هواؤها بشيء وإن اتسعت إلا بما لا ضرر فيه لمصلحة عامة بإذن الإمام أو خاصة فيما شرعوه كالميزاب والساباط والروشن والدكة والمسيل والبالوعة ولا المسندة إلا بإذن الشركاء ويجوز الطاقات والأبواب والتحويل إلا إلى داخل المنسدة بغير إذن أهله وفي جعل بيت فيها مسجدا أو نحوه نظر] . قوله: "فصل: لا يضيق قرار السكك النافذة". أقول: الوجه في هذا أنه قد صار الحق للمارة ففي تضييقها إبطال لبعض ما هو حق لهم وقد يفضي ذلك إلى الإضرار بهم بالازدحام إذا كثر المارون بها وهذا في المسيلة ظاهر وأما المشروعة بين الأملاك الخاصة فالحق لهم إذا تراضوا على تضييقها كان لهم ذلك. وأما قوله: "إلا بما لا ضرر فيه" فغير ظاهر لأن المفروض أنها قد صارت حقا عاما لمن يمر بها فكيف يجوز تضييقها للمصحلة العامة بإذن الإمام فإن مجرد التضييق يحصل به مفسدة على المارة ولو في بعض الأحوال ودفع المفاسد مقدم على جلب المصالح بالاتفاق ثم نفي الضرر لا يستلزم نفي ما هو دونه من التأذي بالتضييق فإن أراد به نفي الضرر وما هو دونه على كل حال وفي كل وقت فلا بأس لعدم وجود المفسدة حينئذ. وأما قوله: "أو خاصة فيما شرعوه" فلا بد من تقييده بوقوع الإذن من جميع المالكين الشارعين بها بين أملاكهم ولا فرق بينها وبين المنسدة في الاحتياج إلى الإذن من المالكين في كل واحد منهما ولا مدخل لإذن الإمام في ذلك لوجود من له الملك أو الحق. وأما قوله: "ويجوز فتح الطاقات" الخ فوجهه أنه لا يحصل لذلك ضرر على المارة وأما استثناء داخل المنسدة فوجهه أن الحق فيها مشترك بين أهلها فلا يجوز إحداث شيء فيها إلا بإذنهم. وأما قوله: "وفي جعل بيت فيها مسجدا أو نحوه نظر" فلا وجه لهذا النظر لأنه إن حصل الإذن من جميع أهل المسندة جاز جعل بيت فيها اصطبلا فاضلا عن مسجد وإن لم يإذنوا لم يجز لأنه يؤدي إلى كثرة استطراق تلك المنسدة إليه ولا سيما وهو لا يكون مسجدا إلا إذا فتح بابه إلى ما الناس فيه على سواء كما سيأتي في الوقف. [فصل وإذا التبس عرض الطريق بين الأملاك بقي لما تجتازه العماريات اثنا عشر ذراعا ولدونه سبعة وفي المسندة مثل أعرض باب فيها ولا يغير ما علم قدره وإن اتسع وتهدم

الصوامع المحدثة المعورة لا تعلية الملك وإن أعورت فلكل أن يفعل في ملكه ما شاء وإن ضر الجار إلا عن قسمة] . قوله: "فصل: وإذا التبس عرض الطريق بين الأملاك" الخ. أقول: ينبغي أن يقال هنا ترك ما لا يضر بمن يعتاد المرور فيها فإن مآرة الطريق تختلف فقد لا يمر فيها شيء من الدواب لا محملة ولا غير محملة فيترك حينئذ ما لا يضر بمن يمر فيها فإن كانت معتادة لمرور الدواب فيها ترك ما لا يضر بها عند مرورها ولا وجه لما ذكره المصنف من المقادير فقد يحتاج المارة فيها إلى زيادة على ما ذكره كالطرق المعتادة لمرور الجيوش فيها خيلا ورجلا وقد يكفي ما هو دون ما ذكره كالطرق التي لا يمر فيها إلا بنو آدم وصغار الدواب فإنه يكفي فيها دون السبعة الأذرع وهكذا لا وجه لتقييد المنسدة بأعرض باب فيها فقد يعتاد أهلها دخول الدواب إليها بأحمالها ولكنه قد ثبت في الصحيحين [البخاري "2473"، مسلم "1613"، وغيرهما [أحمد "2/228"، أبو داود "3633"، الترمذي "1355"، من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع"، وهو ما يدل على الرجوع إلى هذا المقدار في كل طريق وقد ورد تقييد هذا المطلق بما أخرجه عبد الرزاق من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "إذا اختلفتم في الطريق الميتاء فاجعلوها سبعة أذرع"، وكذا في حديث عبادة عند الطبراني وحديث أنس عند ابن عدي وفي إسناد كل واحد منها مقال. وأما قوله: "ولا بغير ما علم قدره" الخ فتكرار لما تقدم من قوله ولا يضيق قرار السكك. قوله: "وتهدم الصوامع المحدثة" الخ. أقول: إن كان إحداثها في موضع يختص بمحصورين فلا بد من إذنهم لأن لكل واحد منهم حقا في ذلك الموضع الخاص بهم وإن كان إحداثها في مكان لا يختص بمحصورين ولا تضييق فيها على المارة ولا على أهل الحق العام وليس إلا كونها مرتفعة على البيوت ويمكن أن يكون المؤذن غير عدل في الباطن فهذه مفسدة يمكن دفعها بما يتعذر معه النظر منها إلى المحلات التي يقع الاطلاع عليها مع رعاية المصلحة العامة لهم بسماع الأذان إذا كانوا في مكان بعيد عن الأمكنة التي يؤذن فيها فإن هذه مصلحة خالصة بعد دفع تلك المفسدة فلا ينبغي إطلاق هدمها كما فعل المصنف بل لا بد من التقييد بما ذكرنا. وأما قوله: "لا تعلية الملك وإن أعورت" فمبني على ما عقبه به من قوله فلكل واحد أن يفعل في ملكه ما شاء وإن ضر الجار وهذه الكلية الشاملة لما في السياق وغيره تقشعر لها الجلود وترجف عندها الأفئدة فإن التوصية بالجار كتابا وسنة والأوامر النبوية بالإحسان إليه ودفع ما يضره حتى قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بوائقه"، [البخاري "6016"، مسلم "46"، أحمد "2/288"] ، لو تعرض متعرض لجمعها لجاءت في مصنف مستقل وناهيك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"، كما في الصحيحين البخاري

"5/110"، مسلم "136/1609"، وغيرهما [أبو داود "3634"، الترمذي "1353"، ابن ماجة "2335"] ، من حديث أبي هريرة ولا يقال إن في منعه من أن يفعل في ملكه ما شاء إضرار به لأنا نقول هو لم يمنع من أن يفعل في ملكه ما شاء بل ممنوع من أن يضر جاره كما أن جاره ممنوع من أن يضر به فما يقتضيه الملك من جواز الانتفاع به كيف يريد مالكه مقيد بعدم الضرار وقد ثبت له على جاره مثلما ثبت له عليه ولم يجعل التقييد خاصا بأحدهما وقد حرم القرآن الكريم الضرار في عدة آيات مع اختلاف الموارد فكيف لا يثبت مثله في حق الجار مع قوله سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة: 83] ، إلى قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] ، وأما استثناء المصنف من هذه الكلية قوله إلا عن قسمة فما أبرد هذا الاستثناء فإنه لم يرد دليل يدل على مزيد اختصاص المجاورة عن قسمة بحكم زائد على المجاورة لا عن قسمة ولكن تفريع أحكام الشرع إذا كان غير منظور فيها إلى ما ورد به الشرع بل إلى ما دونه الراجعون إلى محض الرأي كان على هذه الصفة. [فصل وإذا اشترك في أصل النهر أو مجاري الماء قسم على الحصص فإن تميزت وإلا مسحت الأرض وأجرة القسام على الحصص ولذي الصبابة ما فضل عن كفاية الأعلى فلا تصرف عنه ومن في ملكه حق مسيل أو إساحة لم يمنع المعتاد وإن ضر وعليه إصلاحه ويمنع المحبي لحريم العين والبئر والمسيل والدار إلا المالك لا من جر ما في ملك غيره من ملك نصيبه أو سقى بنصيبه غير ذات الحق إلا لإضرار] . قوله: "فصل: وإذا اشترك في أصل النهر" الخ. أقول: القسمة لما يتعلق به ملك أو حق ثابتة لأن ذلك يحصل العدل بين الشركاء ويصل كل ذي حق بحقه من غير تظالم فلا وجه للاعتراض على المصنف سواء أراد قسمة المجاري والقرار أو قسمة الماء الذي هو الغرض المقصود وذلك بأن يكون لبعض الشركاء هذا المجرى وللآخر هذا أو يكون لأحدهم الماء النابع من النهر في يوم وللآخر كذلك وإذا لم يمكن الوقوف على قدر الحصص مع ثبوت أصل الاشتراك فالقسمة تكون على قدر الأموال التي ثبت استحقاقها للسقي من ذلك النهر وهذا كلام ظاهر واضح لا غبار عليه. قوله: "ولذي الصبابة ما فضل عن كفاية الأعلى". أقول: وجه هذا ما أخرجه ابن ماجة وعبد الله بن أحمد والبيهقي والطبراني من عنادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل من السيل إلا الأعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء إلى الأسفل الذي يليه ثم كذلك حتى تنقضي الحوائط أو

يفنى الماء وفي هذا الحديث انقطاع ولكنه يقر به ما أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل قال ابن حجر في الفتح إن إسناده حسن وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك وصححه من حديث عائشة وأخرجه أيضا أبو داود وابن ماجة من حديث ثعلبة بن أبي مالك وأخرجه أيضا عبد الرزاق في مصنفه عن أبي حاتم القرظي عن أبيه عن جده ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة فيكون امساك الأعلى للماء إلى أن يبلغ الكعبين ثم يرسله وقد ثبت في الصحيحين [البخاري"5/34، 5/38، 5/39، 5/309، 8/254"، مسلم "129/2357"] ، وغيرهما [أبو داود "3637"، أحمد "4/4 – 5"، الترمذي 1363"، النسائي "8/245"، ابن ماجة "15"] ، من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الأنصاري سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: "أسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك"، فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير: "اسق يا زبير ثم احبس حتى يرجع الماء إلى الجدر"، زاد البخاري في رواية فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى في صريح الحكم وفي رواية للبخاري قال ابن شهاب فقدرت الأنصار والناس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين فكان هذا الحديث الصحيح موافقا للأحاديث المتقدمة فثبت أن الأعلى يمسكه حتى يبلغ الكعبين ثم يرسله وأن الأحق بالسقي الأعلى فالأعلى. قوله: "ومن ملكه حق مسيل" الخ. أقول: وجه هذا أن الحق لما تعلق بملكه كان عليه البقاء على ما يوجبه الحق الثابت المستمر فليس له أن يمنع المعتاد ولا لصاحب الحق أن يطلب زيادة عليه وأما كون إصلاحه على من هو في ملكه فهذا مبني على أنه قد تقدم ما يوجب ذلك عليه من التراضي بينهما فإن لم يتقدم بينهما شيء فصاحب الحق هو الذي يصلح ما توصل به إلى استيفاء حقه وليس على صاحب الملك إلا بذل ملكه لإمرار الماء المعتاد فقط. قوله: "ويمنع المحيي تحريم العين" الخ. أقول: وجه هذا سبق الحق مع جري العادات بين الناس لذلك فكان المالك للعين والبئر والمسيل والدار مستحقا لما يجاورها مما يتركه الناس في أعرافهم لمن هو مالك لأحد هذه الأمور ويكون الرجوع في المقدار إلى الأعراف الغالبة إذ ليس في المقام ما يصلح للاحتجاج به والاستناد إليه وأما استثناء المصنف للمالك فليس فية كثير فائدة لأنه إنما يمنع غير صاحب الحق لا صاحبه فله أن يصنع به ما شاء. قوله: "لا من جر ماء في ملك غيره من ملك نفسه".

أقول: وجه هذا أنه حفر في ملكه فانسياق الماء إليه فضل من الله عزوجل فليس لمن كان الماء في ملكه أن يخاصمه لأنه لا يجد عليه سبيلا يقتضي الخصومة وهكذا من سقى بنصيبه غير ذات الحق فإنه لما كان مستحقا للسقي جاز له أن يصرفه حيث شاء ويسقي به من أراد من أملاكه حيث لا مجاوزة للمقدار المستحق وإلا كان ممنوعا من الزيادة التي زادها في السقي لغير ذات الحق ولهذا استثنى المصنف بقوله إلا الإضرار فهذا الاستثناء صواب. [فصل ويملك الماء بالنقل والإحراز أو ما في حكمهما فتتبعه أحكام الملك وهو مثلي في الأصح وما سوى ذلك فحق لمن سبق إليه قدر كفايته ولو مستخرجا من ملك في الأصح لكن يأثم الداخل إلا بإذن والأخذ على وجه يضر] . قوله: "فصل: ويملك الماء بالنقل والإحراز". أقول: قد قدمنا في باب الإحياء الأدلة الدالة على اشتراك الناس في تلك الأشياء التي من جملتها الماء ويقدم ما فيه التصريح بأنه من الأشياء التي لا يحل منعها فاقتضت هذه الأدلة أنه مشترك بين العباد ليس بعضهم أولى به من بعض فهذا هو النوع الأول من الأدلة الواردة في الماء. النوع الثاني من الأدلة: النهي عن منع فضل الماء كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ"، وفي لفظ لمسلم: "لا يباع فضل الماء ليباع به الكلأ"، وفي لفظ للبخاري: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلإ" وفي الباب أحاديث المجموع منها يدل على المنع من بيع فضل الماء ليتوصل بمنعه إلى المنع من الكلأ وظاهرها أنه يجوز منع غير الفضل يوجوز منع الفضل لغير منع الكلأ. النوع الثالث: ما قدمناه قريبا من أنه يجوز للأعلى أن يمسك الماء في أرضه إلى الكعبين ثم يرسله إلى من تحته فحصل من مجموع الأدلة الواردة في الماء بعد تقييد بعضها ببعض أنه يجوز للسابق إلى الماء المتقدم حقه فيه أن يمنع ما تدعو حاجته إليه ويرسل ما فضل لمن ينتفع به إما لسقي أرض أو لسقي دوابه أو للشرب منه أو للتطهر به ويزداد الإثم إذا منعه لغرض منع الكلاء فإنه قد جمع بين المنع لشيئين قد أثبت الشرع الاشتراك فيهما بين الناس وهما الماء والكلاء فالحاصل أن كل ماء موجود على ظهر الأرض فالأصل فيه الشركة بين العباد إلا قدر ما يحتاجه السابق الأحق فإن ذلك قد استثناه له الشرع وسوغه له وأما ما زاد على قدر الحاجة فليس له منعه ولا يملكه بإحراز ولا غيره بل هو متعد

بإحرازه لا لحاجة ومن دعت له إليه حاجة فهو أولى به وإن أحرزه بعد حرز فإن قلت قيد منع فضل الماء بأن يكون لمنع فضل الكلاء وظاهره أنه يجوز منع فضل الماء بغير منع فضل الكلاء قلت عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حبس الماء للأعلى حتى يبلغ الكعبين حقا ثابتا ثم أوجب عليه إرسال ما فضل عن ذلك ولم يسوغ له حبس هذا الفاضل وكذلك صرح بأن الناس شركاء في تلك الأمور التي من جملتها الماء وأنه لا يحل منعه فجمعنا بين الأحاديث بأن السابق إلى الماء أو المستخرج له من منابعه أحق بما تدعو إليه حاجته منه وليس له غير ذلك ولم كان منع فضل الماء لمنع الكلاء من جملة الصور الممنوعة بل من أشدها لجمعه بين منكرين وعارض هذا التقييد غيره مما هو أدل على المقصود منه لم يكن صالحا للتقييد به فلا يجوز منع الفضل على كل حال وإذا تقرر لك هذا عرفت الكلام على جميع ما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الفصل.

باب القسمة

باب القسمة [فصل يشترط في الصحيحة حضور المالكين أو نائبهم أو إجازتهم إلا في المكيل والموزون وتقويم المختلف وتقدير المستوى ومصير النصيب إلى المالك أو المنصوب الأمين واستيفاء المرافق على وجه لا يضر أي الشريكين حسب الإمكان وأن لا تتناول تركة مستغرق بالدين وفي الإجبار توفية النصيب من الجنس إلا في المهايأة وأن لا تتبعها قسمة إلا بالمراضاة فيهما] . قوله: "فصل: يشترط في الصحيحة" الخ. أقول: ما كان مشتركا بين جماعة من ميراث أو غيره كل واحد منهم مالك بقدر نصيبه منه فإن قسموه قسموه على قدر الأنصباء فإن كان ذلك المشترك من المكيل أو الموزون أو المذروع أو المعدود مع الاتفاق في الجنس والصفة فأمر القسمة في هذا ظاهر لا يحتاج إلى كلفة وإن كان من غير ذلك فلا يتم العدل في القسمة إلا بمعرفة القيمة ليذهب التغابن ولا بد عند القسمة من حضور كل مالك ليأخذ نصيبه أو حضور من ينوب عنه فإن كانوا لا يتهمون من حضر بخيانه من غاب كفى حضور بعضهم ولا بد أن يصير إلى كل واحد منهم ما ينتفع به بلا ضرر عليه إلا أن تلجيء الضرورة إلى ذلك بأن يكون المشترك بينهم شيئا واحدا لا يمكن انتفاع كل واحد منهم بنصيبه فسيأتي أنها تكون قسمته بينهم بالمهايأة والحاصل أن مثل هذا الباب مرجعه إلي

التراضي لأنه من باب استيفاء الأملاك والحقوق فإن اختصموا في شيء قطع الخصومة بينهم حكام الشريعة بما هو أقرب إلى العدل. [فصل وهي في المختلف كالبيع في الرد بالخيارات والرجوع بالمستحق ولحوق الإجازة وتحريم مقتضى الربا وفي المستوى إفراز] . قوله: "فصل: وهي المختلف كالمبيع". أقول: وجه هذا أن لكل واحد منهم نصيبا في كل عين من الأعيان المشتركة فإذا تعين بعضها لبعضهم والبعض الآخر للآخر فكأن كل واحد باع ماله في ذلك الصائر إلى غيره ممن صار إليه بعوض وهو ما صار إلى هذا الآخر من النصيب وقد عرفت أن المناط في البيع وغيره من المعاملات هو التراضي فكذا هنا فإن رضا كل واحد بما صار إليه موجب لملك الآخر لما صار إليه وأما ما ذكره من الرد بالخيارات فمبني على وجود ما يقتضي الرد في نصيب أحدهم فقط أما لو كان المقسوم بينهم معينا جميعه فليس لأحدهم أن يرد نصيبه لأن نصيب غيره كنصيبه في ذلك وأما ما ذكره من الرجوع بالمستحق فلا شك فيه لأن هذا الاستحقاق اقتضى بقاء نصيب من أخذ ذلك المستحق في أصل التركة إذ ليس هو منها. وأما قوله: "ولحوق الإجازة وتحريم مقتضى الربا" فظاهران. وأما قوله: "في المستوى إفراز" فغير ظاهر لأن العلة التي صار لها غير المستوى كالبيع حاصلة في المستوى إذ نصيب كل واحد من الشركاء ثابت في كل أجزاء المستوى كما هو ثابت في كل أجزاء المختلف ثم أعلم أن هذا التشبيه لها بالبيع هو خاص بهذه الأحكام التي ذكر المصنف في هذا الفصل فلا يكون كالبيع في غيرها وقد بين ذلك أوضح بيان بقوله هي في المختلف كالبيع في كذا وكذا الخ فلا يرد عليه الاعتراض بغير ما قد بينه هنا. [فصل ولا يجابون إن عم ضرها ولا رجوع إن فعلوا فإن عم نفعها أو طلبها المنتفع أجيبوا ويكفي قسام وعدلان والأجرة على الحصص وبها يأما تضره ويحصص كل جنس في الأجناس وبعض في بعض في الجنس وإن تعدد للضرورة أو الصلاح وإذا اختلفت الأنصباء في أرض أخرج الاسم على الجزء وإلا فمخير ولا يدخل حق لم يذكر

فيبقى كما كان ومنه البذر والدفين ولا يقسم الفرع دون الأصل والثابت دون المنبت والعكس إلا بشرط القطع وإن بقي أو الأرض دون الزرع ونحوه ويبقى بالأجرة وعلى رب الشجرة أن يرفع أغصانها عن أرض الغير ولا تملك بمجرد الشرط فإن ادعى الهواء حقا فالبينة عليه وهي على مدعي الغبن والضرر والغلط وتسمع من حاضر في الغبن] . قوله: "فصل: ولا يجابون إن عم ضررها". أقول: لأن الضرر ممنوع شرعا فطلب الجميع للضرر وإن كان كل واحد قد رضي بضرار نفسه لكن لا حكم لرضائه بضرار غيره بل الظاهر انه لا يجاب طالب الضرار فيما يضر نفسه فقط لما ورد في الضرار عموما وخصوصا كتابا وسنة وبهذا تعرف أنه لا وجه لقوله ولا رجوع إن فعلوا بل لهم دفع الضرار عن أنفسهم ودفع ما يحل نزوله بهم ما لم يحدث بهذا الرجوع ضرار كالضرار الأول أو أشد منه. وأما قوله: "فإن عم نفعها" فمسلم أنهم يجابون إلى ذلك. وأما قوله: "أو طلبها المنتفع أجيبوا" فإن كان انتفاعه يستلزم إنزال الضرر بغيره فلا يجاب بل ينظر في وجه يكون به الخلاص من ضرار غيره من إيصاله إلى نفع نفسه إما ببيع للمشترك من الغير وقسمة ثمنه أو بمصيره إلى أحد الشركاء وتسليم حصته الآخر ثمنا لا عينا. قوله: "ويكفي قسام وعدلان". أقول: إن تشاجروا فلا يقطع خصومتهم إلا قسام يقسم بينهم ويوصل كل ذي حق بحقه وعدلان يقومان ما يحتاج إلى التقويم وأما إذا لم يتشاجروا وتراضوا فيما بينهم فلا يحتاج إلى قسام ولا إلى عدول للتقويم لأن التراضي هو كما عرفناك المناط المقتضي لتحليل بعض أموال العباد لبعض وليس لبعضهم أن يطلب من بعد غير ما قد رضي به. وأما قوله: "والأجرة على قدر الحصص" فإذا لم يتورع القسام ويترك طلب الأجرة للحديث الوارد في الزجر عن ذلك فأخذ الأجرة من كل واحد من المشتركين على قدر نصيبه أعدل من أخذها على خلاف هذا الوجه. قوله: "ويها يأما تضره القسمة". أقول: إن وقع الرضا من الشركاء بذلك فلا بأس وإن طلبوا ما هو أقطع للشركة وأنفع لأهلها من مصير تلك العين التي تضرها القسمة إلى واحد منهم ولو بالقرعة وتسليم حصة الآخرين من الثمن كان لهم ذلك وهكذا بيعها من الغير وقسمة ثمنها بينهم والحاصل أنه ينبغي السعي فيما فيه الصلاح لهم وقطع الخصومة الكائنة بينهم فإن بقاء الشركة مظنة لحدوث ما عساه ينتهي إلى الشجار والضرار. وأما قوله: "ويحصص كل جنس" الخ فوجهه أن لكل واحد منهم نصيبا في ذلك الجنس فإذا طلب مصيره إليه كان طالبا لحق ما لم يحصل بذلك ضرار للشركاء أو لبعضهم وهكذا

الجنس الواحد لكل واحد أن يطلب نصيبه منه إلا إذا كان ذلك يوجب ضررا فإنه يقسم بعضه في بعض كما قال المصنف للضرورة أو الصلاح. والحاصل أن دفع ما فيه مفسدة على الشركاء أو بعضهم وجلب ما فيه مصلحة لهم متعين على متولي القسمة بينهم ومن طلب منهم ما فيه مفسدة أو ذهاب مصلحة كان حقيقا بالعقوبة حتى يرجع عن ذلك. وأما قوله: "وإن اختلف الأنصباء أخرج الاسم على الجزء" فهذا وجه ما فيه رعاية المصلحة لهم ودفع المفسدة عنهم أو عن بعضهم وإذا أمكن ما هو أصلح من هذا فعله. قوله: "ولا يدخل حق لم يذكر" الخ. أقول: القسمة هي إيصال كل شريك بنصيبه من الملك وما يتبعه فلا وجه لقوله ولا يدخل حق لم يذكر بل كل حق يتبع ما هو متعلق به وإلا كان ذلك مقتضيا لخلل القسمة لأنه لم يحصل الإيصال التام والانفصال الحاسم للخصام فيتبع كل أرض طرقها وسواقيها وصباباتها وشربها ويتبع كل دار طرقها ونحوها فإن كان بعض الحقوق تؤدي قسمته إلى الضرار لم تجز قسمته وبقي مشتركا بينهم وينتفع كل واحد منهم به بقدر نصيبه لكن من هذه الحيثية لا من الحيثية التي ذكرها المصنف وهي أنه لا يدخل حق لم يذكر وأما البذر والدفين فإن كان مشتركا بين المقتسمين فلا وجه لبقائه بل يقسم بينهم على قدر الأنصباء إن كانا لواحد منهم أو لغيرهم فليسا مما نحن بصدده وتكون قسمة البذر يتعين نصيب مما يخرج منه لكل واحد منهم بقدر نصيبه وأما الدفين فيستخرج ويقسم كائنا ما كان. قوله: "ولا يقسم الفرع دون الأصل" الخ. أقول: لما في ذلك من الضرار والقسمة إنما شرعت لدفعه وهكذا قسمة النابت دون المنبت وهكذا العكس في الأمرين لأن ذلك كله موجب للخصومة المفضية إلى الضرار بالبعض أو الكل وشرط القطع وإن خفف شيئا من هذه المفسدة لكن لا ينبغي جعله مسوغا وهكذا الأرض دون الزرع لاستلزامه لذلك في الغالب ولكون القسمة غير تامة لعدم استيفاء ما يحتاج إلى استيفائه. وأما قوله: "وعلى رب الشجرة أن يرفع أغصانها عن أرض الغير" فوجهه ظاهر لأنها إذا خرجت الأرض في نصيب أحد الشركاء وخرجت الأرض المجاورة لها التي فيها الشجرة في ملك الآخر كان في إظلالها لأرض صاحب الأرض ضرر عظيم عليه فإن ذلك يؤدي إلى أنها لا تزرع ولا تصلح لغرس الشجر وهكذا غير الشركاء المقتسمين فإنه يجب على رب الشجرة أن يرفع أغصانها عن ملك غيره لما قدمنا من حصول الضرر بذلك ولا يجوز إقرار ما استرسل من الشجر على هواء أرض الغير إلا إذا وقع التراضي والتسامح فإن ادعى رب الشجر أن الهواء حق له فهو يدعي خلاف الظاهر فعليه البينة وأما كون البينة على مدعي الغبن والغلط والضرر فظاهر لأن كل واحد منهم يدعي خلاف الظاهر وأما كونها لا يسمع للدعوى من حاضر في الغبن

فوجهه أن حضوره يدل على خلاف ذلك ولكن لا وجه للمنع من سماع دعواه إذا برهن على ذلك وغاية ما يستفاد من حضوره أن لا يكون القول قوله وأن تكون البينة عليه ولعل المصنف جعل الحضور في القسمة كتولي الملكف للبيع بنفسه وقد تقدم أنه لا يسمع منه دعوى الغبن وقد قدمنا هنا لك ما ينبغي الرجوع إليه والتذكرة له.

كتاب الرهن

كتاب الرهن [شروطه القعد بني جائزي التصرف ولو معلقا أو مؤقتا ويلغو شرط خلاف موجبه وفيه الخيارات والقبض في المجلس أو غيره بالتراضي ويستقر بثبوت الدين قيل وبحلوله قيل وبفوات العين وكونه مما يصح بيعه إلا وفقا وهديا وأضحية صح بيعها والمؤجرة والمزوجة من غيرهما وغير عبديهما والفرع دون الأصل والنابت دون المنبت والعكس إلا بعد القطع وجزءا مشاعا إلا كله فيصح ولو رهن من اثنين فيقتسمان أو يتهايئان حسب الحال ويضمن كل منهما كله ويبقى ضمان المستوفي لا المبريء أو واحد فيضمن كله ويحبسه حتى يستوفي منهما فإن طرأ الشياع فسد] . قوله: "شروطه العقد بين جائزي التصرف". أقول: لا سبب هنا يتقضي اشتراط العقد كما يفعلونه في الأبواب التي توجب انتقال الملك لأنه لا انتقال هنا بل الرهن باق على ملك مالكه وغاية ما يعتبر هو التراضي بين الراهن والمرتهن على الرهينة وأما كونه بين جائزي التصرف فلا بد من ذلك لتوقف صحة التراضي عليه. وأما قوله: "ولو معلقا" فلا مانع من ذلك من شرع ولا عقل. وأما قوله: "ويلغو شرط خلاف موجبه" فوجهه أن موجبه أن يبقى بيد المرتهن حتى يستوفي دينه من الراهن فإذا شرط ما يخالف ذلك فقد شرط ما يرفع موجب الرهن وهو البقاء بيد المرتهن وهكذا كان رهنه صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعا له عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله وفي الصحيحين [البخاري "5/145"، مسلم "7/288"، وغيرهما ابن ماجة "2437"، أحمد "3/133"، من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى

طعاما من يهودي إلى أجل ورهنه درعا من حديد وفي لفظ لهما [البخاري "2916"، مسلم "1603"] ، توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير وأما كون فيه الخيارات فوجهه أن الراهن قد يمطل في الدين او يفلس فيصير الرهن للمرتهن بهذا السبب فله أن يرده بالعيب ونحوه وقد يكوب سبب ما يوجب الخيار فيه ناقصا عن الوفاء بدين المرتهن فيطلب إبداله بما يفي بدينه. وأما قوله: "والقبض في المجلس" فوجهه أنه لا يكون الرهن رهنا إلا بقبض المرتهن له لأنه باق على ملك الراهن فلا يثبت به الحق للمرتهن إلا بالتراضي مع القبض ولا يحتاج مثل هذا إلى الاستدلال لأن ماهية الرهينة لا توجد إلا بذلك وأما اعتبار المجلس فلا وجه له إلا مجرد الخيال بما يزعمونه من اشتراط العقد وقد أحسن المصنف بتعقيبه بقوله أو بعده مع التراضي فإن الرهن ليس هو إلا التراضي مع القبض حتى يثبت تعلق الحق للمرتهن به وليس في حديث: "الرهن يركب ودره يشرب وعلى الذي يركب ويشرب نفقته" ما يدل على عدم اشتراط القبض لأن الرهن غير مراد بهذا الحديث لكونه ملكه وعلى المالك إنفاق ملكه فكيف جعل عليه النفقة في مقابل الشرب والركوب وأيضا ورد في لفظ من ألفاظ هذا الحديث عند أحمد: "إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها" وأما كونه يستقر ثبوت الدين فوجهه أنه لا يصدق عليه مسمى الرهن إلا بذلك لأنه لا يكون إلا في مقابلة دين ثابت على الراهن فقبل ثبوته عليه ليس برهن وإنما هو مهيأ للرهنية. وأما قوله: "وبفوات العين" فلا وجه له بل يستقر رهنا بمجرد قبض الراهن لتلك العين التي وقع الرهن لها فليس للراهن استرجاعه إلا برد العين وهذا هو المعنى الاستقراري استقرار الرهينة وتسلط المرتهن على حبس الرهن وأما الضمان فباب آخر وأما اشتراط كون الرهن مما يصح بيعه فلا وجه له بل ينبغي أن يقال وكونه مما يصح تملكه حتى إذا عجز الراهن عن الوفاء أو أفلس صار الرهن ملكا للمرتهن ولو قال المصنف هكذا لم يحتج إلى قوله: إلا وقفا الخ وقد طول المقال في الصور المستثناة. [فصل ولا يصح في عين إلا بعد التضمين ويكفي طلبه من المستعير والمستآم لا الوديع والمستأجر ولا في وجه وجناية عبد وتبرعا بغير أمر وإضافة وكل فوائده رهن مضمون لا كسبه ومؤنه كلها على الراهن فإن اتفق المرتهن فكالشريك] . قوله: " فصل: "ولا يصح في عين" الخ. أقول: إذا كان المطلوب من المراهنة هو أن يتوثق المرتهن بما صار من ماله عند الراهن فلا

فرق بين عين ودين لوجود الغرض من المراهنة فيهما ومن ادعى أنه لا يكون إلا في دين فعليه الدليل ولا ينفعه ورود الرهن في الدين فإن ذلك لا ينفي صحته في العين ولا يصلح للمانعية ثم ما ذكره من الاكتفاء بطلب الرهن في التضمين للمستعير والمستام دون الوديع والمستأجر لا وجه له ولا يرجع إلى رواية ولا رأي صحيح وقد قدمنا الكلام على هذا في الفصل الذي عقده في الإجارة لمن يضمن ومن لا يضمن. وأما قوله: "ولا في وجه" فظاهر لأنه لم يكن قد تعلق بذمة كفيل الوجه ما يقتضي الاستيثاق منه بالرهن. وأما قوله: "وجناية عبد" فلا وجه للمنع منه لأنه قد تعلق أرش تلك الجناية بمال السيد وإن اختار تسليم رقبة العبد لأنها مال من جملة ماله ولا منافاة بين تعلقها برقبة العبد وبين كونها متعلقة بمال السيد وإنما هذه الفروقات والتفريعات كثيرا ما تقع مبنية على غير أساس. وأما قوله وتبرعا بغير أمر وإضافة فصحيح لأنه مع عدم الأمرين لا يكون رهنا عن الذي عليه الدين أما لو أمره أو أضافه إليه وأجاز فظاهر أن ذلك يصح. قوله: "وكل فوائده رهن مضمون". أقول: قد قدمنا ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة"، وقد قدمنا أنه ثبت في رواية بلفظ: "إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقته"، فكانت هذه الرواية معينة للمراد بالحديث وهو أن الفوائد للمرتهن والمؤن عليه ومما يؤيد هذا أنه لا معنى لكون الراهن يركب ويشرب إلى مقابل النفقة فإن الرهن ملكه فلا ينفق على ملكه بعوض ولا يعارض هذا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه"، أخرجه الشافعي والدارقطني وحسن إسناده والحاكم والبيهقي وابن حبان في صحيحه وله طرق ولكن محل الحجة منه قوله: "له غنمه وعليه غرمه"، وقد اختلف في رفع هذه الزياد ووقفها وصرح ابن وهب راوي هذا الحديث بأن هذه الزيادة من قول سعيد بن المسيب وهكذا صرح أبو داود في المراسيل أنه من كلام سعيد بن المسيب فالرجوع إلى الحديث الأول مع صحته هو المتعين فتكون الفوائد المنصوص عليها في الحديث للمرتهن ويلحق غيرها من الفوائد بها بالقياس بعدم الفارق والكسب من جملتها فلا وجه للفرق بينه وبينها فتكون كلها للمرتهن والمؤن عليه من نفقة وغيرها مما تدعو إليه حاجة الرهن. [فصل وهو كالوديعة إلا في جواز الحبس وأنه في العقد الصحيح ولو مستأجرا أو مستعارا لذلك ولم يخالف المالك مضمون كله ضمان الرهن إن تلف بأوفر قيمه من القبض إلى التلف

والجناية إن أتلف وفي نقصان بغير السعر يسيرا الأرش غالبا وكثيرا التخيير ويساقط الدين إلا لمانع وعلى مستعمله منهما إلا بإذن الآخر الأجرة وتصير رهنا ولا تصرف للمالك فيه بوجه إلا بإذن المرتهن فإن فعل نقض كالنكاح إلا العتق والاستيلاد على الخلاف] قوله: "فصل: وهو كالوديعة". أقول: يرد أنه كالوديعة في أمر خاص وهي عدم جواز انتفاع المرتهن به وتصرفه فيه لا في جواز حبسه له حتى يستوفي دينه فإن ذلك هو موضع الرهن. وأما قوله: "وفي أنه في العقد الصحيح" فمبني على أنه لا بد من العقد وقد عرفناك أنه لا وجه لذلك. وأما قوله: "ولو مستأجرا أو مستعارا لذلك" فظاهر أنه لا فرق بين كون الرهن ملكا للراهن أو أنه استأجره أو استعاره ليرهنه فإن الكلام واحد في ضمان المرتهن عند من قال بضمانه وإن اختلف الحال فيما بين الراهن ومن استأجر منه الرهن أو استعاره منه. وأما قوله: "مضمون كله ضمان الرهن إن تلف بأوفر قيمة من القبض إلى التلف" فمن ساقط التفريع وزائف الرأي وخبط الاجتهاد يا لله العجب كيف يكون هذا الضمان المشدد المؤكد الذي جاوز حد كل ضمان في الأبواب التي قد حصل فيها سبب من أسباب الضمان الشرعية كالغصب فلو أن رجلا ارتهن عينا وتوثق ببقائها لديه حتى يستوفي دينه ثم تلف بغير جناية ولا تفريط بأمر سماوي فهل يسوغ هذا شرع أو يقبله عقل أو يستحسنه رأي وقد عرفناك أن أموال العباد معصومة بعصمة الإسلام لا يحل لمسلم أن يحلها لغيره أو يستحلها بغير شرع واضح وإلا كان من أكل أموال الناس بالباطل أو تأكيلها وإذا عرفت هذا فلا ضمان على المرتهن إلا لجناية أو تفريط لأنه قد تسبب بذلك إلى تلفها ولا يضمن غير ذلك كائنا ما كان لأنه أخذها بإذن مالكها في حق أثبته له الشرع وهو التوفق ببقائها لديه في دينه الذي انتفع به مالكها. وأما قوله: "وعلى مستعمله منهما" الخ فقد عرفت ما تقدم في فوائد الرهن والركوب استعمال للرهن وقد تقدم النص عليه في الحديث وأما استعماله على وجه ينقص به كلبس الثوب فلا يجوز ذلك للمرتهن فإن فعل لزمه أرش النقض فيما نقص بالاستعمال وأما الراهن فلا يجوز له ذلك لأن الرهن في حبس المرتهن فإن فعل فلا شيء عليه لأنه استعمل ملكه وأما كونه لا ينفذ للمالك فيه تصرف فظاهر لأن تصرفه فيه ببيع أو نحوه يخالف موجب الرهن فإن أذن المرتهن فقد رضي لنفسه بترك حقه المتعلق بالرهن من الحبس له حتى يستوفي دينه فإن فعل كان للمرتهن نقضه وأما استثناء العتق والاستيلاد فالظاهر أنهما لا ينفذان في الحال لأن حق المرتهن سابق لهما فإن انتهى الحال إلى رجوع الرهن للراهن نفذ وإلا فلا يثبت للعبد أو الأمة حكم الحرية ولا تصير أم الولد أم ولد بذلك.

[فصل وإذا قارن التسليط العقد لم ينعزل إلا بالوفاء وإلا صح بالموت أو اللفظ وإيفاء البعض أمارة ويد العدل يد المرتهن غالبا وإذا باعه غير متعد للإيفاء أو لرهن الثمن وهو في غير يد الراهن فثمنه وفاء أو رهن مضمون وهو قبل التسليم مضمون غالبا] . قوله: "فصل: وإذا قارن التسليط العقد" الخ. أقول: مجرد وقوع التسليط مسوغ للمرتهن أن يبيع الرهن في الوقت الذي عينه له أو مطلقا مع عدم التعيين واشتراط المقارنة ليس إلا لمراعاة الأمور اللفظية التي قد عرفناك غير مرة أنها لا تراعى ولا تؤثر بل التراضي هو المناط الشرعي في المعاملات وما ترتب عليها من التصرفات فإذا قال الراهن للمرتهن إذا لم أوفك بدينك في وقت كذا فالرهن لك به كان ذلك موجبا لثبوت ملكه للرهن ولا يشترط غير ذلك وهكذا إذا قال له إذا لم أوفك بالدين إلى وقت كذا فقد سلطتك على بيع هذا الرهن واستوف من ثمنه دينك كان هذا صحيحا والزائد والناقص يتراجعان فيه وبهذا تعرف أنه لا فرق بين التسليط المقارن للعقد أي لوقت الرهن وبين المتقدم عليه والمتأخر عنه فالكل تجارة عن تراض وإذا سلم الراهن بعض الدين وقبضه المرتهن فقد رضي لنفسه بعدم التسليط على ما يقابل ذلك القدر الذي قبضه فلا يجوز له بيع ما يقابله من الرهن وله بيع ما يقابل الباقي من الدين إذا لم يسلم الراهن ما بقي عليه من الدين. وأما قوله: "ويد العدل يد المرتهن" فينبغي أن يقال إن يده يد لهما فإن تراضيا على أن الفوائد تكون له إلى مقابل نفقة الرهن ونحوها فذاك وإن لم يتراضيا فالفوائد للمرتهن والمؤن عليه على ما قدمنا ولا يجوز له تمكين أحدهما منه إلا بعد تسليم الدين لأن ذلك هو الذي يقتضيه وضعه له على يد العدل. وأما قوله: "وإذا باعه غير متعد للإيفاء أو لرهن الثمن فثمنه وفاء أو رهن مضمون" فظاهر لأنه إذا بيع الإيفاء صار ثمنه مكان دين المرتهن وإن بيع لسبب موجب لبيعه ليكون الرهن هو ثمنه فحكم هذا الثمن حكم الرهن الذي هو ثمن له في الرهنية وليس لهذا الكلام كثير فائدة لا سيما على ما قررناه في هذا البحث. [فصل ولا يضمن المرتهن إلا جناية العقور إن فرط وإلا فعلى الراهن إن لم تهدر ولا يخرجه عن صحة الرهنية والضمان إلا أن يجب القصاص أو التسليم والمالك متمكن من الإيفاء أو الإبدال وكذا لو تقدمت العقد ويخرجه عنهما الفسخ وسقوط الدين بأي وجه

وزوال القبض بغير فعله إلا المنقول غالبا ط ويعود إن عاد ولا يطالب قبله الراهن ومجرد الإبدال عند م ومن الضمان فقط بمصيره إلى الراهن غصبا أو أمانة أو أتلفه وعليه عوضه لا تعجيل المؤجل وهو جائز من جهة المرتهن وتصح الزيادة فيه وفيما هو فيه والقول للراهن في قدر الدين ونفيه ونفي الرهنية والقبض والإقباض حيث هو في يده والعيب والرد والعين غالبا ما لم يكن المرتهن قد استوفى ورجوع المرتهن عن الإذن بالبيع وفي بقائه غالبا وللمرتهن في إطلاق التسليط والثمن وتوقيته وقدر القيمة والأجل وفي أن الباقي الرهن وبعد الدفع في أن ما قبضه ليس عما فيه الرهن أو الضمين وفي تقدم العيب غالبا وفي فساد العقد مع بقاء الوجه كرهنيته خمرا وهي باقية] . قوله: "فصل: ولا يضمن المرتهن إلا جناية العقور إن فرط". أقول: هذا صحيح وقد قدمنا أنه لا يضمن إلا ما جنى أو فرط فإذا فرط في حفظ العقور كان هذا التفريط أحد السببين الموجبين لثبوت الضمان عليه وإذا لم يحصل منه تفريط فضمان ما جناه العقور على مالكه وهو الراهن لأن كونه عقورا يوجب ثبوت الضمان عليه وإذا كان الرهن عبدا فجنى ما يوجب القصاص وجب تسليمه للقصاص وإذا اختار المجني عليه الأرش كان متعلقا برقبة العبد ووجب تسليمها إليه. وأما قوله: "والمالك متمكن من الإيفاء أو الإبدال" فوجهه أنه قد تعلق بهذا الرهن حق المرتهن فيحسبه حتى يستوفي دينه أو يبدله الراهن برهن آخر فإن لم يتمكن الراهن من أحد الأمرين استسعى العبد بما تلعق برقبته حتى يوفي ما عليه من أرش الجناية ويبقى رهنا هذا أعدل ما يقال وأحسن ما يقضى به ويكون تعلق المرتهن به مسوغا لمثل ذلك ليحصل الوفاء بالحقين ولا ظلم على العبد فهو إنما استسعي بجناية. وأما قوله: "ولو تقدمت العقد" فلا وجه له فإن تقدم الجناية على الرهن قد أوجب تعلقها برقبة العبد فكان المجني عليه أحق بها ولم يكن إذ ذاك قد عارض هذا الحق في رقبته ما هو حق للمرتهن فالراهن عند رهنه له كأنه رهن ما هو لغيره وأما تعليل ما ذكره بأنه بقي للسيد في العبد تصرف فهذا التصرف الذي بقي على تقدير التسليم لا يبلغ إلى هذا الحد المقتضي لخلاف ما توجبه الجناية المتعلقة بالرقبة. قوله: "ويخرجه عنهما الفسخ". أقول: هذا صحيح لأن المرتهن قد رضي بإسقاط حقه من حبس هذه العين المرهونة إن كان الفسخ بالتراضي وإن كان بالحكم فقد لزمه ما حكم به الحاكم ويجب على الراهن إبدال الرهن أو تسليم الدين وهكذا سقوط الدين بأي وجه لأنه قد زال السبب الذي استحق به المرتهن حبس الرهن. وأما قوله: "وزوال القبض بغير فعله" فوجه ذلك أن الرهن إذا زال قبض المرتهن له بما لا

يوجب ضمانة عليه فقد خرج الرهن بذلك عن الرهينة ووجب على الراهن إبداله أو تسليم الدين فإن عاد قبل تسليم الدين عاد عليه حكم الرهن ويرد المرتهن ما أبدله به الراهن إلا أن يتراضيا على رهنية البدل عاد الرهن المبدل إلى ماكله ولا فرق بين المنقول وغيره في هذا فلا وجه لقوله إلا المنقول وبهذا تعرف صحة قول أبي طالب ويعود إن عاد وعدم صحة قوله ولا يطالب قبله الراهن وأما ما حكاه عن المؤيد بالله من أن الرهن يخرج عن الرهنية والضمان بمجرد الإبدال فصحيح إذا تراضيا على ذلك. وأما قوله: "ويخرج عن الضمان فقط بمصيره إلى الراهن غصبا أو أمانة" فقد عرفناك أن المرتهن لا يضمن إلا ما جنى أو فرط لأنه صار إليه بإذن الشرع فإذا لم يحصل أحد هذين السببين فالرهن خارج عن ضمانة من الأصل وإن حصل منه أحدهما فالضمان ثابت عليه إلا أن يصير إلى المالك باختياره وعلمه فقد صارت العين إلى مالكها وسيأتي في الغصب أنه يسقط الضمان بمثل هذا ولعله يأتي هنالك إن شاء الله ما يزيد المقام وضوحا وأما كونه يخرج عن الضمان إذا أتلفه الراهن فصحيح وعليه عوضه برهن آخر لأن المرتهن قد استحق حبس الرهن حتى يستوفي دينه فإذا أتلفه الراهن فقد ألزم نفسه العوض ولا يلزمه تعجيل الدين المؤجل لأن له حقا في الأجل الذي تراضيا عليه. وأما قوله: "وهو جائز من جهة المرتهن" فظاهر لا يحتاج إلى ذكره لأنه إذا أسقط حقه من الحبس سقط بل إذا أسقط دينه من الأصل سقط. قوله: "والقول للراهن في قدر الدين". أقول: القول لمنكر الزيادة والبينة على مدعيها ولا وجه لإطلاق كون القول للراهن في القدر وأما كون القول للراهن في نفي الرهنية فصحيح لأن الأصل عدمها لكن إذا كان الرهن قد صار في يد المرتهن كان الظاهر معه والظاهر عندهم مقدم على الأصل وهكذا يكون القول قول الراهن في نفي العيب ونفي الرد لأن الأصل عدمهما. وأما قوله: "وفي العين ما لم يكن المرتهن قد استوفى" فوجه ذلك أن الأصل عدم رد العين المرهونة إلا أن يكون المرتهن قد استوفى دينه فإن ذلك قرينة على عدم بقاء الرهن لديه فيكون الظاهر معه وهكذا يكون القول قول الراهن في نفي رجوع المرتهن عن الإذن بالبيع مع اتفاهما على أصل وقوع الإذن لأن الأصل عدم الرجوع وهكذا يكون القول قول الراهن في بقاء الرهن وعدم تلفه لأن الأصل البقاء. وأما قوله: "وللمرتهن في إطلاق التسليط" فوجهه أن التقييد بوقت معين زيادة والأصل عدمها وأما في التوقيت أي في قدر الوقت فالقول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وهكذا في قدر القيمة وقدر الأجل القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها وهكذا يكون القول قول

المرتهن في أن الباقي هو الرهن لأن الأصل بقاؤه على الحالة التي كان عليها والتلف خلاف الأصل وهكذا يكون القول قول المرتهن إذا كان له على الراهن دينان أحدهما فيه رهن أو ضمين والآخر ليس كذلك فقبض أحدهما واختلفا هل المقبوض ما فيه الرهن أو الضمين أو الآخر فإن القول قول المرتهن لأن الراهن يدعي ارتفاع الرهنية أو الضمانة والأصل عدم ذلك. وأما قوله: "وفي تقديم العيب" فغير ظاهر بل الأصل عدم التقدم فالبينة على مدعي التقدم وهكذا ألا يكون القول قول المرتهن في دعوى فساد العقد لأن الأصل عدم ذلك مع كونه يريد بهذه الدعوى إسقاط حق عليه ولكن إذا كان وجه الفساد موجودا فالظاهر معه ويمكن أن يقال إن الأصل عدم وجود هذا الوجه المفسد للرهن قبل التراهن كما تقدم في تقدم العيب.

كتاب العارية

كتاب العارية [فصل هي إباحة المنافع وإنما تصح من مالكها مكلفا مطلق التصرف ومنه المستأجر والموصى له لا المستعير وفيما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه وإلا فقرض غالبا ونماء أصله وإلا فعمرى وهي كالوديعة إلا في ضمان ما ضمن وإن جهله ووجوب الرد ويكفي مع معتاد وإلى معتاد وكذا المؤجرة واللقطة لا الغصب والوديعة] قوله: "كتاب العارية هي إباحة المنافع". أقول: هذا هو معنى العارية لغة وشرعا واصطلاحا فمن أباح لغيره الانتفاع بملكه فقد أعاره إياه كونها إنما تصح من مالكها فغير محتاج إلى ذكره لأن ما كان بإباحة غير المالك ليس بعارية بل غصب وأما كونه مكلفا مطلق التصرف فصحيح لأن الصبي والمجنون لا يصح منهما العارية وهكذا المحجور عليه لا تصح منه العارية وكان قيد إطلاق التصرف يغني عن قيد التكليف لأن الصبي والمجنون غير مطلقي التصرف وقيد ماكلها يغني عن قوله ولو مستأجرا لأن المستأجر مالك للمنافع ويخرج به أيضا قوله لا المستعير لأنه ليس بمالك لها فلا يحتاجان إلى التنصيص عليهما لأن أحدهما دخل بالمنطوق والآخر خرج بالمفهوم وأما اشتراط أن يكون فيما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه فلا يصدق مسمى العارية إلا على ما كان كذلك لأن ما لا يمكن الانتفاع به أصلا لا فائدة في عاريته وما أمكن الانتفاع به مع إتلاف عينه ليس بعارية بل هبة أو نحوها وأما اشتراط نقاء نماء أصله فلا وجه له بل يكون عارية مع أذنه للمستعير بالانتفاع بالنماء مدة

مؤقتة وسيأتي في العمري والرقبى أن المقيدة منها عارية تتناول إباحة الأصلية مع الفرعية. قوله: "وهي كالوديعة إلا في ضمان ما ضمن". أقول: العارية والوديعة لا يضمن المستعير والوديع إلا لجناية منه أو تفريط فإذا أراد صاحبهما تضمينه ورضي لنفسه بذلك فمجرد هذا الرضا مسوغ للتضمين وأما ما يروى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان على مؤتمن"، كما رواه الدارقطني وفي رواية أخرى للدارقطني بلفظ: "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان"، ففي إسناد اللفظ الأول من لا يقوم به الحجة وأما اللفظ الثاني فقال الدارقطني إنما يروى عن شريج غير مرفوع وفي إسناده أيضا ضعيفان ومع هذا فنحن نقول بموجبهما أنه لا ضمان عليهما لكن إذا جنيا كان الضمان من الجناية وإذا فرطا كان الضمان عليهما من جهة التفريط وذلك جناية لصاحبهما فيصدق على كل واحد منهما أنه مغل وأما حديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، كما أخرجه أحمد "5/8، 12، 13"، وأبو داود "3561"، والترمذي "1266"، وابن ماجه "2400"، وصححه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة فلا شك في دلالة الحديث على وجوب الرد وأما دلالته على الضمان على تقدير أن المعنى على اليد ضمان ما أخذت فغير مسلم بل الظاهر أن المعنى على اليد تأدية ما أخذت كما يدل عليه آخر الحديث حتى تؤديه ويمكن أن يكون التقدير على اليد حفظ ما أخذت حتى تؤديه وترك الحفظ تفريط يوجب الضمان كما تقدم إذا كان ممكنا والا فلا تفريط وهكذا حديث: "أد الأمانة إلى من أئتمنك" كما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الحاكم وصححه من حديث أبي هريرة فإنه يدل إلا على مجرد التأدية وأما كونه يضمن إذا ضمن ورضي بذلك فالمناط هو مجرد حصول الرضا فإذا لم يقبل ذلك لم يصح تضمينه ويدل على هذا ما أخرجه أحمد "3/401"، وأبو داود "3562"، والنسائي والحاكم من حديث صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدرعا فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة"، قال فضاع بعضها فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها فقال أنا اليوم في الإسلام أرغب وأما قول المصنف وإن جهله فلا وجه له وأما وجوب الرد فهو كائن فيهما كما عرفت. وأما قوله: "ويكفي مع معتاد" وإلى معتاد فلا فرق بينهما أيضا أنه يكفي في ردهما ذلك. وأما قوله: "وكذا المؤخرة والقطة لا الغصب والوديعة" فاستطراد لما هو خارج عن الباب وقد تقدم بيان من يجب عليه الرد ومن لا يجب عليه وفي الجميع الرد من أحد هؤلاء بنفسه بل رسوله يكفي ومن زعم خلاف ذلك فعليه الدليل. والحاصل أن المعتبر ما يصدق عليه اسم التأدية المذكورة في الحديث السابق بقوله حتى يؤديه ولا شك أن رد ذلك مع معتاد للرد معه وعلى معتاد للرد إليه يصدق عليه أنه تأدية لأن يد الرسول يد مرسلة ويد من ينوب في العادة عن المالك بقبض أملاكه يد له.

[فصل وتضمن بالتضمين والتفريط والتعدي في المدة والحفظ والاستعمال وإن زال لا ما ينقص بالانتفاع ويصح فيها مطلقا وعلى الراجع في المطلقة والمؤقتة قبل انقضاء الوقت للمستعير في الغرس والبناء ونحوهما الخياران وفي الزرع الثلاثة إن قصر وتأبد بعد الدفن والبذر للقبر حتى يندرس وللزرع حتى يحصد إن لم يقصر وتبطل بموت المستعير وتصير بشرط النفقة عليه إجارة ومؤقتها بموت المالك قبل انقضاء الوقت وصية والقول للمستعير في قيمة المضمونة وقدر المدة والمسافة بعد مضيهما وفي رد غير المضمونة وعينها وتلفها وأنا إعارة لا إجارة] . قوله: "فصل: ويضمن بالتضمين". أقول: قد قدمنا الكلام على هذا قريبا وفي الفصل الذس عقده المصنف لذلك في الإجارات وأما كونها تضمن بالتفريط فلما قدمنا من أن ذلك جناية وخيانة ومن جملته التعدي في المدة والحفظ والاستعمال فإن هذا كله تفريط وكان الاقتصار عليه يغني عن هذا التطويل وأما كونه لا يضمن ما ينقض بالانتفاع فلأن ذلك هو موضوع العارية فلو كان مضمونا لم يكن عارية وأما صحة الرجوع فيها فلكونها من باب التكرم والمسامحة وهي ملكه متى شاء استرجعها ولم يوجب فيها ولا في منافعها حقا لازما للغير. قوله: "وعلى الراجع في المطلقة والمؤقتة قبل انقضاء الوقت" الخ. أقول: إن كان المستعير مأذونا بالغرس والبناء ونحوهما فلا شك أن المعير قد غره بذلك وأوقعه في الغرم فله الخياران أو الخيارات وإن لم يأذن له بذلك بل أعاره عارية مطلقة أو ذكر له مطلق الانتفاع فلا ينصرف مثل ذلك إلى الغرس والبناء ونحوهما بل إلى الانتفاع بالشجر الموجودة ونحوهما في الأرض عند عاريتها وإن لم يكن فيها شجر ولا ينتفع بها إلا بالزرع كان الإذن المطلق منه متصرفا إلى الزرع إذ لا وجه يحمل عليه العارية ويوجد فيه مطلق الانتفاع في الأرض إلا بالزرع فيثبت للمستعير ما ذكره من الخيارات لأنه مغرور من جهة المعير هكذا ينبغي أن يقال في هذا البحث وأما إطلاق إثبات الخيارات فيما لا يقتضيه الإذن بالانتفاع من غرس أو بناء أو حلية أو ما يشبه ذلك فغير سديد. وأما قوله: "وتأبد بعد الدفن" فلا بد من تقييده بأن المالك أعارة لذلك وأذن له به فإنه بالإذن قد رضي لنفسه ببقاء ذلك القبر في ملكه إذ العرف العام أن الإذن يقتضي ذلك وأما لو أعاره للانتفاع فوقع منه الدفن فينقل الميت من المحل لأن الإذن المطلق لا ينصرف إليه.

وأما قوله: "وللبذر حتى يحصد" فقد قدمنا الكلام في الزرع حيث أعاره الأرض للانتفاع بها ولم يوجد وجه للانتفاع بها إلا بالزرع وكلام المصنف ها هنا مبني على الفرق بين دخول الزرع في مطلق الإذن وبين الإذن للمستعير بالبذر مع تقييد الطرف الأول بالتقصير وهذا الطرف بعدمه والأولى ما قدمه من الخيارات في الصورتين جميعا لأنه غاية العدل بين المعير والمستعير لكن إذا حصل التقصير من المستعير حتى تأخر حصاد الزرع عن المدة المسماة كان عليه أجرة بقاء الزرع وأما كونها تبطل بموت المستعير فظاهر لأن المعير أباح منافع ملكه وله ولم يبحها لغيره وأما كونها تصير شرط النفقة عليه إجارة فوجهه أن العارية هي إباحة المنافع بلا عوض وهذا الشرط قد اقتضى العوض ولكن الأعراف قديما وحديثا أن المستعير ينفق على العين المستعارة ويقوم بما يحتاج إليه ما دامت في يده فيكون هذا مقتضيا لبقائها إعارة وعدم مصيرها إجارة. وأما قوله: "ومؤقتها بموت المالك قبل انقضاء الوقت وصية" فوجهه أن قد فعل ذلك وهو مالك للعين وتصرفه نافذ فيها فيكون له حكم ما فعله في أملاكه من النفوذ ولكن لا وجه لقوله وصية بل قد نفذ ذلك في وقته واستحقه المستعير إلا أن يكون في وقت لا ينفذ فيه تصرفاته إلا من باب الوصايا أو أضاف ذلك إلى بعد موته. قوله: "والقول للمستعير في قيمة المضمونة". أقول: القول في ذلك قول نافي الزيادة والبينة على مدعي الزيادة لأن الأصل عدمها وهكذا قدر المدة والمسافة القول قول نافي الزيادة من غير فرق بين المضي وعدمه لأن المعير وإن كانت دعواه تستلزم أن يكون المستعير غاصبا فدعوى المسعير تلزم إثبات حق له في ملك الغير والأصل عدمه فالرجوع إلى الأصل وهو عدم الزيادة أولى وهذا على تقدير أن المعير ما أراد الرجوع بهذه الدعوى أما لو أراده كان ذلك له من غير تداع. وأما قوله: "وفي رد غير المضمون" فوجهه أنه أمين فيما لا ضمان فيه فيكون القول قوله بخلاف المضمون فإنه فيه ليس بأمين فعليه البينة وهكذا يكون القول قول المستعير في رد عين العارية لأنه أمين وهكذا في تلفها. وأما قوله: "وأنها إعارة لا إجارة" فمع النزاع بينهما في ذلك لا يصح أن يقال إن المدعي للإعارة أمين وحينئذ فهو يدعي إثبات حق له في تلك العين ومدعي الإجارة يدعي إثبات الأجرة عليه فكل واحد منهما مدع ومدعي عليه وليس أحدهما بقبول قوله أولى من الآخر فيرجع إلى البينة أو التحالف.

كتاب الهبة

كتاب الهبة [فصل شروطها الإيجاب والقبول أو ما في حكمه في المجلس قبل الإعراض وتلحقه الإجازة وإن تراخي وتكليف الواهب وكون الموهوب مما يصح بيعه مطلقا وإلا فلا إلا الكلب ونحوه ولحم الأضحية والحق ومصاحب مالا تصح هبته فيصح وتمييزه بما يميزه للبيع. قوله: فصل: "وشروطها الإيجاب والقبول" الخ. أقول: الهبة هي أن يتكرم على غيره بنصيب من ماله عن طيبة نفس فإذا وقع هذا فهي الهبة الشرعية ولا يشترط في ذلك إيجاب ولا قبول ولا مجلس بل إن قبله الموهوب له ورضي بمصيره إليه ولو بعد مدة مهما كان الواهب باقيا على ذلك العزم فهذه هبة صحيحة وليس في الشرع ما يدل على ألفاظ مخصوصة ولا على مجلس ولا على قبض ومن زعم أن في الشريعة ما يدل على شيء من ذلك فهو مطالب بالدليل وأما كونه الهبة تلحقها الإجازة فهذه الإجازة على نفس الهبة لما عرفناك غير مرة أن تصرف الفضولي لا يصح وإن أجازة المالك لما فعله هو نفس التصرف الذى اقتضى نقل الملك ما مالك إلى مالك وأما اشتراط تكليف الواهب فأمر لا بد منه لأن الهبة تصرف في المال والتصرف فيه لا يصح إلا من جائز وجائز التصرف لا يكون إلا مكلفا وأما كون الموهوب مما يصح بيعه فليس المراد إلا أن يكون مما يصح تملكه للموهوب له وأما استثناء الكلب فلا وجه له لأنه مما لا يصح تملكه فلا يصح بيعه ولا هبته ولا وجه لاستثناء لحم الأضحية لأن يصح تملكه وتمليكه كما في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لأهل الضحايا: "كلوا وادخروا وائتجروا"، [البخاري "5569"، مسلم "28/1971"] . وأما قوله: "والحق" فقد عرفناك فيما سبق أن الفرق بين الحقوق والأملاك وجعل كل واحد منهما مختصا بشيء مما تحت يد الثابت عليه إنما هو مجرد اصطلاح من بعض أهل الفروع وإذا عرفت ذلك هان عليك الخطب ولم تحتج إلى الاشتغال بما في ذلك من التفاريع والتفاصيل. وأما قوله: "ومصاحب ما لا يصح هبته" فقد قدمنا أنه إذا انضم إلى جائز البيع غيره صح بيع ما يجوز بيعه وبطل بيع لا يجوز بيعه وأنه لا وجه لتعدي البطلان مما لا يصح بيعه إلا ما يصح بيعه. وأما قوله: "وتمييزه بما للبيع" فالمعتبر بأن يكون معلوما عند الواهب والموهوب له جملة أو تفصيلا فلو وهبه شيئا مجهولا عندهما ثم فسره من بعد كانت الهبة صحيحة.

[فصل ويقبل للصبي وليه أو هو مأذونا لا السيد لعبده ويملك ما قبله وإن كره] . قوله: "فصل: ويقبل للصبي وليه" الخ. أقول: هذا صحيح لأن الهبة للصبي فيها مصلحة له إذا لم تشتمل على مفسدة راجحة على المصلحة وأما ما وهب للعبد فهو في الحقيقة هبة لسيده عند من يقول إن العبد لا يملك وأما عند من يقول إنه يملك فالقبول إليه لا إلى سيده وأما كونه يملك السيد ما قبله العبد وإن كره فذلك مبني على القول الأول ولكن إذا كره لم تصح الهبة وترجع لمالكها لأن هذا الباب مبني على التراضي. [فصل وتصح بعوض مشروط مال فتكون بيعا ومضمر وغرض فيرجع لتعذرهما وفورا في المضمر وله حكم الهبة لا البيع إلا في الربا وما وهب لله ولعوض فللعوض وليس على الراجع ما أنفقه المتهب] . قوله: "مثل ويصح بعوض مشروط". أقول: الهبة شرعا ولغة هي التي تكون على جهة المكارمة إذا وقعت المكافأة عليها فذلك أيضا على جهة المكارمة وأما إذا كانت مشروطة بعوض فليس هذه هبة شرعية ولا لغوية بل هذه مبايعة خارجة عن باب الهبة داخلة في باب البيع فتكون كما قال المصنف بيعا فإذا لم يحصل العوض المشروط كان ذلك كعدم تسليم ثمن المبيع فترجع العين لمالكها لفقدان التراضي الذي هو المناط الشرعي كما تقدم وهكذا إذا كان العوض مضمرا وغرضا فإنه إذا لم يحصل رجع الملك لمالكه لأن ذلك كشف على عدم التراضي وطيبة النفس وأما اشتراط الفور فلا جه له لأنه مهما لم يحصل العوض المضمر ولا وقع منه الرضا بمصيره إلى الموهوب له بغير عوض فالملك باق له لفقدان المناط الشرعي وهو التراضي وأما كون للموهوب على عوض مضمر حكم الهبة لا حكم البيع فمن بناء أحكام الشرع على الخيال تارة هكذا وتارة هكذا تأثيرا لمجرد الألفاظ. قوله: "وما وهب لله ولعوض فللعوض". أقول: لا مانع من جعل بعض الشيئ هبة خالصة لا عوض فيها وبعضها هبة بعوض فيكون للبعض الأول أحكام الهبة وللبعض الآخر أحكام البيع وأما استدلال من استدل لكلام المنصف بحديث: "إن الله يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك"، فليس المراد بهذا إلا أنه لا يقبل

من الأعمال ما كان على جهة الرياء وليس من هذا هبة بعض الشيء خالصا لله وهبة البعض الآخر بعوض فإن الله سبحانه لم يشاركه غيره فيما هو له ولا فرق بين جعل كل الشيء أو بعضه هبة ولا ورد ما يدل على المنع من ذلك. أما قوله: "وليس على الراجع ما أنفقه المتهب" فلا وجه له لأنه غرم لحقه بسببه وقد بطل المطلوب من تملك الموهوب فيرجع عليه بما أنفق لأنه انكشف أنه أنفق على مالك الواهب وقد أثم الراجع عن الهبة وصار "كالكلب يعود في قيئة" [البخاري "5/216"، مسلم "5/1622"، أبو داود "3538"، الترمذي "1298"، النسائي "6/265"، ابن ماجة "2387" أحمد "1/217"] ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل ما وقع منه من التغريم للموهوب له نعم إذا كان الموهوب له قد علم بأنها لا تطيب نفس الواهب إلا بالعوض المضمر أو كان العوض مشروطا وحصل منه عدم الوفاء بالعوض فهو الجاني على نفسه بعدم تسليم العوض وبالانفاق على ما لم يخلص له ملكه. [فصل وبلا عوض فيصح بالرجوع مع بقائهما في عين لم تستهلك حسا أو حكما ولا زادت متصلة ولا وهبت لله أو لذي رحم محرم أو يليه بدرجة إلا الأب في هبة طفله وفي الأم خلاف وردها فسخ وتنفذ من جميع المال في الصحة وإلا فمن الثلث ويلغو شرط ليس بمال ولا غرض وإن خالف موجبها والبيع ونحوه ولو بعد التسليم رجوع وعقد] . قوله: "فصل: وبلا عوض فيصح الرجوع فيها". أقول: قد قدمنا حكم الهبة بعوض وأنها لا يحل للموهوب له إلا بالعوض المشروط أو المضمر وإلا كانت ردا على الواهب لأن الرضا الذي هو المناط الشرعي مقيد بحصول العوض ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه "2387"، عن عب الله بن موسى عن إبراهيم بن إسماعيل ابن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة مرفوعا: "الواهب أحق بهبته ما لم يثبت منها"، قال ابن حجر والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن عمر قال البخاري هذا أصح ورواه الدارقطني من هذا الوجه ورواه البيهقي من حديث ابن وهب عن حنظلة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر عن عمر: "من وهب هبة يرجو ثوابها فهي رد على صاحبها ما لم يثبت منها"، قال البيهقي ورواه عبد الله بن موسى عن إبراهيم ابن إسماعيل عن حنظلة مرفوعا قال ابن حجر صححه الحاكم وابن حزم. وأما الهبة بلا عوض فاعلم أن أصل معنى الهبة عدم انقضاء العوض لأنها من باب المكارمة فلو لم يرد فيها ما يدل على امتناع الرجوع فيها لكان هذا الأصل يكفي فكيف وقد

يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "2621"، مسلم "7/1622"] ، وغيرهما [النسائي "6/266"، ابن ماجة "2385"ن أحمد "1/280، 342"] ، من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه"، وفي لفظ للبخاري "5/234"، "ليس لنا مثل السوء"، فإن هذا الحديث المشمل على هذا التشبيه المفيد للتكريه للرجوع بأبلغ ما يكرهه الإنسان وأعظم ما تنفر عنه نفوس بني آدم يدل أبلغ دلالة على عدم جواز الرجوع فيها ومما يدل على عدم جواز الرجوع ما أخرجه أحمد "2/27، 78"، وأهل السنن [أبو داود "3539"، الترمذي "2132"، النسائي "3703"، ابن ماجة "2377"، وصححه الترمذي "4/442"، وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس وابن عمر رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده"، والحلال ضد الحرام كما ثبت في اللغة فالرجوع عن الهبة حرام إلا هبة الوالد لولده فإن الشرع قد سوغ له الرجوع كما في هذا الحديث ويؤيده حديث عائشة عند أحمد وأهل السنن "ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا"، وصححه حبان وأبو زرعة ويؤيده أيضا ما أخرجه أحمد وأبو دواد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال: "أنت ومالك لوالدك إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئا"، وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن الجارود ويؤيده أيضا ما أخرجه ابن ماجه "2291"، من حديث جابر أن رجلا قال يا رسول الله إن لي مالا وولدا وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال: "أنت ومالك لأبيك"، قال ابن القطان إسناده صحيح وقال المنذري رجاله ثقات وفي الباب أحاديث قال ابن حجر في الفتح وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب الجمهور إلا هبة الوالد لولده قال الطبري يخص من عموم الحديث من وهب بشرط الثواب ومن كان والدا والموهوب له ولده والهبة لم تقبض والتي ردها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار باستثناء كل ذلك انتهى. ومن الهبة التي يراد بها العوض وإن لم تذكر هبة الفقير للغني فإنه لا يراد بمثل ذلك المكارمة عرفا بل استجلاب الفائدة بزيادة على ما يحصل للفقير لو باعها وأما هبة الغني للفقير فملعوم أنه لا يراد بها العوض فلا يكون له الرجوع وهكذا الهبة الواقعة بين المتماثلين غنى وفقرا. أما قوله: "مع بقائهما" فظاهر لا يحتاج إلى تعليل عند مثبتي الرجوع وأما عند غيرهم فبطريق الأولى وهكذا قوله لم تستهلك حسا أو حكما أو زادت زيادة متصلة. وأما قوله: "ولا وهبت لله" فليس في هذا مزيد تأثير لامتناع الرجوع وإن كان المصنف قد ادعى الإجماع عليه. وأما قوله: "أو لذي رحم" فليس في هذا التخصيص من المرفوع شيء ما روي عن بعض الصحابة لا تقوم به الحجة فالحق امتناع الرجوع على كل حال بالأدلة التي قدمنا ذكرها إلا الأب في الهبة لولده فإنه يجوز له الرجوع فيها كما قدمنا ولا فرق بين أن يكون الولد صغيرا أو كبيرا. وأما قوله: "وفي الأم خلاف" فلا يخفاك أن الحديث المشتمل على الاستثناء هو بلفظ

الوالد فإن كان يصدق على الأم كما يصدق الولد على الأنثى فالأم كالأب وإن كان لا يقال على الأم إلا بطريق التغليب فهي داخلة في الاستثناء ويؤيد هذا ما في المصباح قال الوالد الأب وجمعه بالواو والنون والوالدة الأم وجمعها بالألف والتاء والوالدان الأب والأم للتغليب انتهى ويؤيده أيضا الحديث المتقدم بلفظ: "أنت ومالك لأبيك". قوله: "وردها فسخ". أقول: هذا مبني على أنه قد وقع العقد إيجابا وقبولا كما تقدم للمصنف فإذا ردها بعد هذا كان الرد فسخا للعقد الواقع بينهما أما لو ردها ابتداء فلا يقال لهذا الرد فسخ لأنه لم يتقدم شيء يصدق عليه مسمى الفسخ بل هذا الرد يوجب عدم ثبوت مقتضى الهبة من الأصل أما عند المصنف فلعدم القبول الذي هو أحد جزئي العقد وأما عندنا فلعدم التراضي من الجهتين الذي هو المناط الشرعي في نقل الأملاك. قوله: "وينفذ من جميع المال في الصحة وإلا فمن الثلث". أقول: الهبة إخراج قطعة من المال لمن وهبها له مالكه والكلام في نفوذها مع عدم المانع لا شك فيه وأما التفصيل بين ما كان منها في الصحة وما كان في المرض فمبني على أن الهبة في المرض لها حكم الوصية كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "الثلث والثلث كثير"، ولكن تنزيل غير الوصية من التصرفات منزلة الوصية إذا وقعت حال المرض سيأتي الكلام فيه في الوصايا إن شاء الله تعالى والظاهر نفوذ تصرف المالك في ملكه صحيحا أو مريضا من جميع ماله وينبغي له مع هذا أن لا يدع ورثته عالة يتكففون الناس كما ورد في الحديث فلا يجوز له أن يتصرف بكل ماله لأنه إذا فعل ذلك فقد خالف قوله صلى الله عليه وسلم: "لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، وهو في الصحيحين [البخاري "3/164"، مسلم "5/1628"، وغيرهما [أبو داود "2864"، الترمذي "2116"، النسائي "6/241، 242"، ابن ماجة "2709"، أحمد "1/179"، من حديث سعد بن أبي وقاص والقصة معه ولكن هذا الحديث ليس فيه إلا مجرد بيان ما هو الأولى والأفضل وليس بعزيمة ومثله حديث: "خير الصدقة ما كان على ظهر غنى"، كما في الصحيحين [البخاري "1427"، مسلم "1034"، وغيرهما [النسائي "3543"، أحمد "3/402، 403، 434"] ، من حديث حكيم بن حزام وفي الباخري من حديث أبي هريرة نحوه. وأما قوله: "ويلغو شرط ليس بمال ولا عرض وإن خالف موجبها" فلا يخفاك أن يقال الشرط من الواهب يدل على أن الرضا منه منوط بحصول ذلك الشرط فإذا لم يحصل كشف ذلك عن عدم الرضا وإن كان ليس بمال ولا عرض وإن رفع موجبها. وأما قوله: "والبيع ونحوه" الخ فمبني على ما قدمه المصنف من جواز الرجوع في الهبة بغير عوض وقد قدمنا رد ذلك بالأدلة المتقدمة.

[فصل والصدقة كالهبة إلا في نيابة القبض عن القبول وعدم اقتضاء الثواب وامتناع الرجوع فيها وتكره مخالفة التوريث فيهما غالبا والجهاز للمجهزإلا لعرف والهدية فيما ينقل تملك بالقبض وتعوض حسب العرف وتحرم مقابلة لواجب أو محظور مشروط أو مضمر كما مر ولا تصح هبة عين لميت إلا إلى الوصي لكفن أو دين والقول للمتهب في نفي الفساد غالبا وشرط العوض وإرادته في التالف وفي أن الفوائد من بعدها إلا لقرينة وأنه قبل إلا أن يقول الشهود بها ما سمعناه أو الواهب وهبت فلم تقبل واصلا كلامه عند "م" أي المؤيد بالله] . قوله: "فصل: والصدقة كالهبة إلا في نيابة القبض عن القبول". أقول: القبض ينوب عن القبول في الهبة كما ينوب في الصدقة وأصل الهبة أنها لا تقتضي الثواب كما قدمنا فإن اقتضته فذلك لشرط مظهر أو مضمر ويخرج عن باب الهبة ويصير من باب البيع. قوله: "وتكره مخالفة التوريث فيهما". أقول: الأدلة القاضية بتحريم تخصيص بعض الأولاد بشيء دون البعض الآخر أوضح من شمس النهار فمن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم في هبة بشير لولده النعمان دون سائر أولاده قال: "له إخوة؟ "، قال: نعم قال: "فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ "، قال: لا قال: "فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق"، وهكذا اللفظ في صحيح مسلم "19/1624"، وغيره وفيه التصريح بأن ذلك لا يصلح في الشريعة المطهرة وهو معنى بطلانه وفيه أيضا التصريح بأنه غير حق وغير الحق باطل وفي لفظ عند أحمد من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشهدني على جور"، فسماه جورا والجور باطل وهذه الألفاظ هي في حديث جابر الذي حكى فيه قصة هبة النعمان من أبيه بشير وفي الصحيحين [البخاري "5/211"، مسلم "9/1623"، وغيرهما [أحمد "4/168"، أبو داود "3542"، الترمذي "1368"، النسائي "6/258، 259"، ابن ماجة "2375"] ، من حديث النعمان نفسه قال إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ " قال: لا, قال: "فأرجعه"، ففي هذا الأمر بإراجاع الهبة وليس على هذا زيادة وقد تكلف المجوزون لتخصيص بعض الأولاد بالهبة دون بعض بأجوبة أجابوها من عشرة وجوه ذكرناها في شرح المنتقي ودفعنا ما يستحق الدفع منها فليرجع إليه والحاصل أنه ليس في المقام ما يدفع ما ذكرناه من الروايات الدالة على تحريم التخصيص وأنه باطل مردود غير حق. قوله: "والجهاز للمجهز إلا لعرف". أقول: هذا صحيح لأن خروج الشيء عن ملك مالكه لا يكون إلا بما يقتضي خروجه من وجود التراضي بينه وبين من خرج إليه فإن لم يحصل ذلك فالملك باق وإذا جرت الأعراف بأن ما

وقع التجهيز به يصير ملكا لمن وقع التجهيز له فهذا العرف هو في حكم المقصود لهما المتراضى عليه بينهما فكأنه عند التجهيز قد أخرج ذلك عن ملكه بطيبة من نفسه إذا كان هذا عرفا عاما بحيث لا يوجد عرف يخالفه. قوله: "والهدية فيما ينقل تملك بالقبض". أقول: الهدية تملك بالتراضي وطيبة النفس وإن كانت باقية في يد المهدي ولو بقيت في يده أعواما فإنها قد صارت في يد المهدي إليه ولا فرق بين منقول وغيره ويجوز له التصرف فيها وهي يد المهدي إلا بما يشترط في القبض كما تقدم في النهي عن بيع الرجل ما ليس عنده ولما لم يكن في قبضه ومن قال إنه يشترط في ملك الهدية القبض فعليه الدليل والحاصل أنه لا فرق بين الهبة والهدية في عدم اشتراط القبض وأما ما أخرجه الحاكم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى النجاشي بهدية فمات النجاشي قبل وصولها إليه فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصلح للاستدلال به على اشتراط القبض لأناقد عرفناك أن الهدية إنما تملك بالتراضي من الجهتين فهي قبل أن تبلغ إلى المهدي إليه باقية على ملك المهدي حتى يبلغ خبرها إلى المهدي إليه ويرضى بها فتصير حينئذ ملكا له والنجاشي مات قبل أن تصل إليه الهدية وقبل أن يبلغه خبرها ويرضى بها. قوله: "ويعوض حسب العرف". أقول: لما كانت المهاداة مبنية على المكارمة واستجلاب المودة كان من تمام ذلك أن تقع المكافأة عليها فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثبت عليها وإذا كان المهدي طالبا للمكافأة قاصدا بها ذلك كما يكون في كثير من الحالات من الفقراء إلى الأغنياء فهذه ليست هدية يراد بها ما يراد بالهدايا من استجلاب المودة واتحاد القلوب كما في حديث أبي هريرة عند البخاري في الأدب المفرد والبيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا"، قال ابن حجر في التلخيص وإسناده حسن وأخرجه مالك في الموطأ من حديث عطاء الخراساني مرفوعا وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة إنما هي ذريعة إلى استجلاب الإحسان من الأغنياء والملوك فيكون لها حكم الهبة بعوض مظهرا أو مضمرا وقد تقدم والمهدي إليه بالخيار إما ردها أو كافأ عليها مكافأة يرضى بها صاحبها كما أخرجه أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح وابن حبان وصححه من حديث ابن عباس أن أعرابيا وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها قال: "أرضيت؟ " قال: لا, قال: فزاده قال: "أرضيت؟ " قال: لا فزاده قال: "أرضيت؟ " قال: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي"، وأخرجه أبو داود "3537"، والنسائي "6/279، 280"، من حديث أبي هريرة بنحوه وطوله والترمذي "3945"، وذكر أن الثواب كان ست بكرات وكذا رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم وبعض ألفاظ هذا الحديث ورد بلفظ الهدية وبعضها بلفظ الهبة وفي لفظ لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وأيم الله لا أقبل هدية بعد يومي هذا من أحد إلا أن يكون مهاجرا قرشيا أو أنصاريا أو دوسيا أو ثقفيا"، وأما كون الهدية تحرم على واجب أو محظور فظاهر والوجه في ذلك ما تقدم في حلوان الكاهن وفي مهر البغي وما ورد في تحريم

الرشوة وفي هدايا الأمراء فإن الهدية للأمير والقاضي وكذلك الهبة له رشوة وإن كانت مسماة باسم الهدية والهبة وأما كونها لا تصح هبة عين لميت فوجهه فقدان ما قدمنا من وقوع التراضي من الجهتين وهكذا لا يصح إسقاط الدين عنه بل إسقاطه عنه إسقاط عن ورثته لأنه قد تعلق بعد موته بتركته وأما التبرع بالالتزام به عن الميت كما وقع من امتناعه صلى الله عليه وسلم من الصلاة على المديون حتى التزم عنه بعض الحاضرين فوجه ذلك أن الإثم الذي كان لاحقا للميت بترك القصاء قد قام به غيره فسقط عنه ما كان عليه من العقوبة ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "الآن بردت عليه جلدته"، ولا فائدة لقوله إلا إلى الوصي لكفن أو دين لأن هذا إن كان هبة للوصي ليكفن به الميت أو ليقضي دينه فلا شك أن ذلك صحيح لأن الموهوب له حي يقبل الهبة ويرضى بها وإن كان المراد أن الهبة تصح للميت بوساطة الوصي فلا يصح ذلك لأن تمليك الميت باطل سواء كان بواسطة أو بغير واسطة. قوله: "والقول للمتهب في نفي الفساد". أقول: لأن الأصل عدمه بعد وجود المناط الشرعي وهو التراضي وهكذا القول قوله في نفي شرط العوض لأن الأصل عدم الشرط وعدم إرادته وأما تقييد المصنف لذلك بالتالف فلا وجه له بل لا فرق بين أن يكون الموهوب باقيا أو تالفا لأن الأصالة المذكورة متحققة فيهما وأما كون القول قوله في أن الفوائد من بعد الهبة إلا لقرينة فينبغي أن يقال إن كانت تلك الفوائد مما لا يمكن حدوثها بعد الهبة كان القول للواهب وإن كانت مما لا يمكن وجودها قبل الهبة كان القول للمتهب وإن حصل الاحتمال فثبوت يد المتهب عليها موجب لكون القول قوله. وأما قوله: "وأنه قبل" فلا وجه له بل ينبغي أن يكون القول قول الواهب في نفي القبول على ما تقدم للمصنف من اعتبار العقد سواء قال الشهود ما سمعنا أو لم يقولوا وسواء وصل والواهب كلامه أو فصله لأن الأصل عدم القبول. [فصل والعمرى والرقبى مؤيدة ومطلقة هبة يتبعها أحكامها ومقيدة عارية تتناول إباحة الأصلية مع الفرعية إلا الولد إلا فوائده والسكنى بشرط البناء إجارة فاسدة ودونه عارية يتبعها أحكامها. قوله: "فصل: والعمرى والرقبي" الخ. أقول: الأحاديث الواردة في العمرى والرقبى تدل على أنها هبة للمعمر والمرقب وتورث عنه فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرى ميراث لأهلها"، أو قال:

"جائزة" وفي الصحيحين [البخاري"5/238"، مسلم "25/162"، أيضا من حديث جابر قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له وفي صحيح مسلم وغيره نم حديث جابر: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا"، وأخرج وأبو داود والنسائي من حديث زيد بن ثابت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعمر عمرى فهي لمعمره محياه ومماته لا ترقبوا من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث"، وأخرجه أيضا ابن ماجه "1381"، وابن حبان وفي لفظ لأحمد "3/302" والنسائي "6/274"، من هذا الحديث: "جعل الرقبى للذي أرقبها"، وفي لفظ لأحمد "3/302"، "جعل الرقبي للوارث"، وأخرج أحمد "1/250"، والنسائي "3710"، من حديث ابن عباس بإسناد صحيح العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها وأخرج أحمد والنسائي أيضا بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته"، فهذه الأحاديث تدل على أن العمرى المؤبدة والمطلقة وكذلك الرقبي تقتضي الملك وتورث عمن جعلت له وورد ما يدل على أن العمرى التي تكون للمعمر ولعقبه هي التي يقال فيها: "له ولعقبه" كما في لفظ من حديث جابر: "من أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها وهي لمن أعمر وعقبه" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه وفي لفظ لأبي داود والنسائي والترمذي وصححه من حديث جابر: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبله فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"، وفي لفظ لأحمد ومسلم وأبي داود عن جابر قال إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقول هي لك ولعقبك فأما إذا قال هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها وفي رواية للنسائي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى أن يهب الرجل للرجل ولعقبه الهبة ويستثنى إن حدث بك حدث ولعقبك فهي إلي وإلى عقبي أنها لمن أعطيها ولعقبه وأخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث جابر أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا نحن فيه شرع سواء قال فأبى فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم ميراثا فهذه الروايات كلها عن حديث جابر ومن قوله قد اختلفت كما ترى فإن الروايات الأولى عنه دلت على أن العمرى التي تورث هي ما قيل فيها له ولعقبه والحديث الآخر المروي من طريقة في الرجل الذي جعل لأمه الحديقة حياتها فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها لورثتها تدل على خلاف ذلك. فالحاصل أنه إذا قيل في العمرى والرقبى لك ولعقبتك كانت تمليكا لمن وقعت له ولمن بعده وإن قال أعمرتك أو أرقبتك فظاهر الأحاديث التي ذكرناها أنها تمليك له وتورث عنه وما روى عن جابر فقد اختلف ما هو مرفوع منه وما كان مدرجا فلا حجة فيه فيجب الرجوع إلى سائر الأحاديث وهي كما عرفت مصرحة بأنها ملك له ولورثته فكان حكم هذه المطلقة عن ذكر العقب حكم ما ذكر فيها العقب وهكذا المؤيدة إذا قال أعمرتك أبدا أو أرقبتك أبدا فإنها

تمليك كما يدل عليه لفظ التأبيد وأما إذا كانت مقيد بمدة معلومة كأن يقول أعمرتك أو أرقبتك هذا عشر سنين أو عشرين سنة فإنه لا يستحق إلا ذلك المقدار لأنها لم تطب نفسه إلا بذلك القدر وهكذا لو اشترط كان يقول أعمرتك هذا ما عشت فإذا مت رجع إلي فإنه يرجع إليه عند موت المعمر أو المرقب فهذا حاصل ما ينبغي أن يقال في العمرى والرقبى والعمرى المؤقتة يستحق صاحبها جميع الفوائد الحاصلة في العين ولا وجه لاستثناء المصنف للولد إلا أن يستثنيه من وقعت منه أو يجري عرف يكون في حكم المنطوق به وأما السكنى بشرط البناء فإذا وقع التراضي على ذلك كان صحيحا ولا يقدح في الصحة مجرد الجهالة لأن لكل واحد منهما أن يتركها متى شاء كما تقدم تقريره وأما بدون هذا الشرط فلفظ الإشكال قد تضمن إباحة المنافع وهذه الإباحة عارية وقد تقدمت أحكامها.

كتاب الوقف

كتاب الوقف [فصل يشرط في الواقف التكليف والإسلام والاختيار والملك وإطلاق التصرف وفي الموقوف صحة الانتفاع به مع بقاء عينه ولو مشاعا ينقسم أو جميع مالي وفيه ما يصح وما لا كأم الولد وما منافعه للغير وما في ذمة الغير ولا يصح تعليق تعيينه في الذمة ولا تلحقه الإجازة كالطلاق وإذا التبس ما قد عين في النية بغيره فبلا تفريط صار للمصالح وبه قيمة أحدهما فقد وفي المصرف كونه قربة تحقيقا أو تقديرا وفي الإيجاب لفظه صريحا أو كناية مع قصد القربة فيهما وينطلق بها أو بما يدل عليها مع الكناية] . أعلم أن ثبوت الوقف في هذه الشريعة وثبوت كونه قربة أظهر من شمس النهار ولهذا قال الترمذي لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين انتهى وأما ما يروي عن أبي حنيفة من أن الوقف لا يلزم فقد خالفه في ذلك جميع أصحابه إلا زفر وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال لو بلغ أبا حنيفة لقال به انتهى وقد قرر صلى الله عليه وسلم وقف عمر [البخاري "5/354"، مسلم "15/1632"، أبو داود "2878"، الترمذي "1375"، النسائي "3599"، ابن ماجة "2396"، أحمد "2/12، 13، 55، 125،"] ، ورغب الصحابة في وقف بئر رومة فاشتراها عثمان ووقفها [البخاري "5/29"، النسائي "3608"، الترمذي "2703"] ، وأمر أبا طلحة [البخاري "1461"، مسلم "42/998"، أحمد "3/141"، الترمذي "2997"، أن

يجعل أحب أمواله إليه في الأقربين وقال صلى الله عليه وسلم: "أما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله"، [البخاري "3/331"، مسلم "11/983"، أحمد "2/2/322"، أبو داود "1623"،النسائي "2464"] ، وقال: "إذا مات الإنسان انقطع علمه إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"، وهذه أحاديث صحيحة معروفة وثبت وقوع الوقف من جماعة من الصحابة بعد موته فالعجب مما قام في وجه هذه الشريعة الواضحة والسنة القائمة بما يحكى عن ابن عباس أنه قال لا حبس بعد نزول سورة النساء مع أن هذا لم يثبت عنه من طريق معتبرة وما قيل من أنه أخرجه عنه البيهقي في الشعب ففي إسناده من لا تقوم به الحجة ومع هذا فهو اجتهاد صحابي ليس بحجة على أحد على أن مراده شيء آخر غير الوقف وهو أنها لا تحبس فريضة عمن أعطاها الله سبحانه كما يدل عليه قوله لا حبس بعد نزول سورة النساء ولو قدرنا أنه يريد الوقف لكان محجوبا بالأدلة الصحيحة وبإجماع الصحابة. قوله: "فصل: يشترط في الواقف التكليف والإسلام". أقول: أما اشتراط التكليف فلكون غير المكلف محجورا عن التصرف في ماله بما فيه عوض كالبيع ونحوه فكيف بما لا عوض فيه وأما اشتراط الإسلام فقد تقرر أن الوقف قربة من القرب الموجبة لعظيم الثواب والكافر غير متأهل لذلك فإن فعل فليس هذا الذي فعله هو الواقف الشرعي الذي نحن بصدده وليس الكلام إلا الوقف الشرعي وأما اشتراط أن يكون الموقوف مما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه فلكونها لا توجد ماهية الوقف إلا فيما كان كذلك لأن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل فوائده. وأما قوله: "ولو مشاعا" فظاهر لأن الأصل عدم المانع وقد طول جماعة الكلام في وقف المشاع استلالا وردا وكله في غير طائل وهكذا تصح الصورة التي ذكرها وهي وقف جميع المال وفيه ما يصح ولا لا يصح لأن وجود ما لا يصح وقفه فيما تناوله الوقف لا يصلح أن يكون مانعا لصحة وقف ما يصح وقفه فيصح ما يصح ويبطل ما يبطل كما قدمنا على قوله ومتى انضم إلى جائز البيع غيره فسد. وأما قوله: "ولا يصح تعليق تعيينه في الذمة" فوجهه عدم استقرار ما وقع الوقف عليه وليس مثل هذا ينبغي أن يكون مانعا من الصحة فإنه إذا قال وقفت أرضا من الأراضي التي أملكها كان متقربا واقفا بمجرد صدور هذا منه وبعد ذاك التعيين إليه في أي أرض أراد من أملاكه ومن زعم أن في هذا الوقف مانعا يمنع من صحته فالدليل عليه وإن لم يكن إلا مجرد الرأي المبني على الهباء فرأيه رد عليه. وأما قوله: "ولا تلحقه الإجازة" فلا وجه له لأن الإجازة نفسها هي التي حصل بها الوقف كما قدمنا مثل هذا في غير موضع. وأما قوله: "وإذا التبس ما قد عين في النية" الخ فوجهه أن ذلك الغير الذي وقع

الالتباس به قد صار أحد محتملات ما تعلقت به القربة فصارا جميعا للمصالح وهذا الوجه غير وجيه بل ينبغي أن يقال اختياره الذى كان عند إنشاء الوقف هو باق الآن معه فيعين أيهما شاء بعد الالتباس وليس هذا الالتباس موجبا لخروج ملكه المتقين المعصوم بعصمة الإسلام وقد قدمنا على قوله ومتى اختلطت فالتبست أملاك الأعداد ما فيه كفاية. قوله: "وفي المصرف كونه قربه" الخ. أقول: هذا الوقف الذي جاءت به الشريعة ورغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هو الذي يتقرب به إلى الله عزوجل حتى يكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع عن فاعلها ثوابها فلا يصح أن يكون مصرفه غير قربة لأن ذلك خلاف موضوع الوقف المشروع لكن القربة توجد في كل ما أثبت فيه الشرع أجرا لفاعله كائنا ما كان فمن وقف مثلا على إطعام نوع من أنواع الحيوانات المحترمة كان وقفه صحيحا لأنه قد ثبت في السنة الصحيحة "أن في كل كبد رطبة أجرا" ومثل هذا لو وقف على من يخرج القذاة من المسجد أو يرفع ما يؤذي المسلمين في طرقهم فإن ذلك وقف صحيح لورود الأدلة الدالة على ثبوت الأجر لفاعل ذلك فقس على هذا غيره مما هو مساو له في ثبوت الأجر لفاعله وما آكد منه في استحقاق الثواب وأما الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله عزوجل فهو باطل من أصله لا ينعقد بحال وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله بل أراد المخالفة لأحكام الله عزوجل والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني فليكن هذا منك على ذكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة وهكذا وقف من لا يحمله على الوقف إلا محبة بقاء المال في ذريته وعدم خروجه عن أملاكهم فيقفه على ذريته فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عزوجل وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف به كيف يشاء وليس أمر غناء الورثة ولا فقرهم إلى هذا الوقف بل هو إلى الله عزوجل وقد توجد القربة في مثل هذا الوقف على الذرية نادرا بحسب اختلاف الأشخاص فعلى الناظر أن يمعن النظر في الأسباب المقتضية لذلك من هذا النادر أن يقف على من تمسك بطرق الصلاح من ذريته أو اشتغل بطلب العلم فإن هذا الوقف ربما يكون المقصد فيه خلاصا والقربة متحققة والأعمال بالنيات ولكن تفويض الأمر إلى ما حكم الله به بين عباده واتضاه لهم أولى وأحق. قوله: "وفي الايجاب لفظه" الخ. أقول: المعتبر ما فيه دلالة على هذه القربة وعلى طيبة النفس بصرف ذلك المال إلى هذا الوجه بأي لفظ كان وعلى أي صفة وقع ولو بإشارة من قادر على النطق كما قد قررنا هذا في غير موضع من هذا الكتاب. وأما قوله: "مع قصد القربة" فهو الركن الأعظم الذي تدور عليه دوائر الصحة أو البطلان

وليس النطق بالقربة معتبرا بل المراد القصد لذلك عند إرادة فعل هذه الخصلة الصالحة والصدقة الجارية والحبسة الدائمة والثواب المستمرة النفع. [فصل ولا يصح مع ذكر المصرف إلا منحصرا ويخصص أو متضمنا للقربة ويصرف في الجنس ويغني عن ذكره ذكر القربة مطلقا أو قصدها مع التصريح فقط ويكون فيهما للفقراء مطلقا وله بعد تعيين المصرف وإذا عين موضعا للصرف أو للانتفاع تعين ولا يبطل المصرف بزواله] . قوله: "فصل: ولا يصح مع ذكر المصرف إلا منحصرا". أقول: مقصود الوقف الذي يصح عنده هو قصد التقرب إلى الله عزوجل فإذا كان المصرف توجد فيه أو في بعضه القربة بالصرف إليه فالوقف صحيح ويصرف في الذي فيه القربة لا فيمن لا قربة فيه ولا وجه لاشتراط الانحصار أصلا فإن القربة إذا كانت موجودة في غير المنحصر لم يبق شك في صحة الوقف وعدم وجود المانع من صحته فإن أراد بهذا الكلام أنه لا يصح الوقف مع ذكر المصرف وعدم ذكر القربة إلا إذا كان منحصرا لأنه إذا كان المنحصر في الحال لا قربة فيه كالأغنياء فقد توجد القربة بافتقار من يفتقر منهم أو انتقاله عنهم إلى من بعدهم ممن ليس بغني فإن كان مراده هذا فما أقل فائدة هذا الكلام مع عدم دلالة كلامه عليه. وأما قوله: "ويخصص" فوجهه أنه قد صار لكل واحد من المصرف المنحصرين حق في ذلك الوقف. وأما قوله: "أو مضمنا للقربة" فظاهر كأن يقول وقفت هذا على الفقراء أو على المجاهدين ويصرف في حبس المتصفين بتلك الصفة وقد أطال المصنف في غير طائل وكان يغنيه عن هذا كله أن يقول ولا يصح إلا مع قصد القربة ويخصص في المنحصر. وأما قوله: "ويكون فيهما للفقراء مطلقا" فلا وجه له بل يكون لأي صنف من الأصناف التي توجد فيهم القربة أو في الأفراد من كل هذه الأصناف أو بعضها للقطع بأن الصرف في المجاهدين أو فك أسرى المسلمين إذا لم تكن القربة فيه أظهر من مطلق الفقراء فهو مثله. وأما قوله: "وله بعد تعيين المصرف" فظاهر لأنه مع عدم التعيين في الابتداء مفوض في صرف وقفه في أي مصرف شاء وهكذا قوله وإذا عين موضعا للصرف أو الانتفاع تعين لأن له أن يختار لنفسه ما أراد ولا حجر عليه. وأما قوله: "ولا يبطل المصرف بزواله" فيرجع في ذلك إلى ما يعرف من قصده فإن عرف من قصده أن هذا الموضع المعين إذا زال صرف في موضع آخر مماثل له فلا يبطل المصرف

بزواله كمن يقف على إطعام من يرد من الغرباء إلى مكان كذا فإنه ينقل إلى إطعام من يرد منهم إلى موضع آخر مماثل له وإن عرف من قصده أنه إذا لم يبق ذلك الموضع عاد لورثته فإنه يعود إليهم فإن التبس علينا مقصده فالأولى أن يصرف إلى المصرف في موضع آخر مماثل لذلك الموضع لأن في هذا الصرف بقاء الوقف واستمرار النفع للواقف. [فصل ويصح على النفس والفقراء لمن عداه إلا عن حق فلمصرفه والأولاد مفردا لأول درجة بالسوية ومثنى فصاعدا بالفاء أو ثم لهم ما تناسلوا ولا يدخل الأسفل حتى ينقرض الأعلى إلا لأمر يدخله كالواو عند "م" [أي: المؤيد بالله] ومتى صار إلى بطن بالوقف فعلى الرؤوس ويبطل تأجير الأول ونحوه لا بالإرث فحبسه ولا يبطل والقرابة والأقارب لمن ولده جد أبويه ما تناسلوا والأقرب فالأقرب لأقربهم إليه نسبا والأستر للأورع والوارث لذي الإرث فقط ويتبع في التخصيص وهذا الفلاني المشار إليه وإن انكشف غير المسمى] . قوله: "فصل: ويصح على النفس". أقول: إن ذكر بعد نفسه ما يكون قربة كأن يقول على نفسه ثم على الفقراء أو نحو ذلك فهذا صحيح ويحمل في وقفه على نفسه على مقصد صالح له وذلك بأن يقصد منع نفسه من بيع ذلك الذي جعله وقفا حتى يكون وقفا متقربا به إلى الله ولا يحصل مثل هذا القصد بإضافته للوقف إلى بعد موته ولأنه قد يعرض له من الحاجة ما يسوغ له بيعه مع عدم نجاز الوقف ومع هذا فقد تكون القربة متحققة بوقفه على نفسه فقط وذلك بأن يقصد استمرار الانتفاع به ما دام في الحياة وقصر نفسه على أن يبيعه ويحتاج إلى الناس بعد بيعه. قوله: "والفقراء لمن عداه". أقول: هذا هو الظاهر في المحاورات بين الناس ومخاطبات بعضهم لبعض وإن كان جمهور أهل الأصول قائلين بدخول المخاطب في خطاب نفسه. وأما قوله: "إلا عن حق فلمصرفه" فوجهه ظاهر لأن ذكر الحق مشعر بأن المراد بالوقف الصرف في مصارف ذلك الحق. وأما قوله: "والأولاد مفردا لأول درجة بالسوية" فوجهه أن ذكره لأول درجة يدل على استوائهم في ذلك فيقسم بينهم بالسوية ويصير ما بيد كل واحد إلى ورثته سواء عينهم أو أطلق إلا أن يقصد أنه يكون لهم حتى ينقرض للآخر منهم ثم يعود لورثتهم فإنه لا حق للورثة إلا بعد انقراض الآخر ثم يصير لورثتهم جمعيا فأعرف أنه لا بد من القصد في مثل هذا ولا تغتر بما

يذكره المفرعون في هذا المقام من أن الوقف على المعينين من الأولاد كل واحد منهم بموته ويقال لهذا وقف عين وأن الوقف على أولاده من غير تعيين تبقى فيهم حتى ينقرض الآخر ويعود لورثتهم ويقال لهذا وقف جنس. وأما قوله: "ومثنى فصاعد بالفاء أو ثم لهم ما تناسلوا" فلا بد أن يقيد هذا بأنه عرف من قصده أنه أراد الأولاد ثم أولادهم ثم من بعدهم طبقة بعد طبقة أما لو قال أولادي ثم أولادهم واقتصر على هذا فإنه لا يتناول من بعد هاتين الطبقتين بل تشترك فيه الطبقة الأولى ثم الطبقة الثانية يصير نصيب كل واحد إلى ورثته كما قدمنا والعموم الكائن في قوله: ثم أولادهم هو باعتبار أهل تلك الطبقة المضافة إلى الأولاد باعتبار كل من يحدث من الطبقات الكائنة بعدهم. قوله: "والقرابة والأقارب لمن ولده جد أبويه". أقول: القرابة والأقارب معروفان في لغة العرب مدونان في كتب اللغة فإن كان ثم عرف تعين عليه حمل كلام الواقف فهو مقدم لأن كلامه لا يكون إلا على العرف الجاري بين أهل عصره وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربي المذكور في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ، بني بتين هاشم وبني المطلب فعاتبه بعض بني أمية في إدخال بني المطلب في القسمة وإخراج بني أمية مع كونهم في القرابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا لهم وجه التخصيص لبني المطلب بأنهم لم يفارقوه في جاهلية ولا إسلام فكان هذا هو المقتضي لدخولهم مع بني هاشم ولم يدخلوا لكونهم من ذوي القربى. [البخاري "3140"، أحمد 4/81، 83، 85،"، أبو داود "2978"، النسائي "4136"، ابن ماجة "2881"] . وأما قوله: "والأقرب فالأقرب لأقربهم إليه نسبا" فوجهه أن هذا العطف الكائن بين صيغتي التفصيل يدل على اعتبار الأقرب إلى الواقف ثم الأقرب فيقدم أقربهم إليه ثم من يليه ثم كذلك. وأما قوله: "والأستر للأورع" فوجهه أن التمسك بالورع قد أخذ بأعلى أنواع الستر إلا أن يجري عرف يحمل عليه كلام الواقف بخلاف ذلك فهو مقدم. وأما قوله: "والوارث لذي الإرث" فظاهر لأنه لا يريد إلا من يرثه بغير واسطة فإن قصد ما هو أعم من ذلك وجرى به عرفه وعرف أهل بلده حمل كلامه عليه. وأما قوله: "وهذا الفلاني" الخ فلا وجه له وإن كانت الإشارة أقوى لكن المقاصد هي المعتبرة فإن قصد المسمى ولم يرد غيره فلا يتناول هذا التركيب من أشار إليه لأنه لا يخرج ماله عن ملكه إلا بطيبة من نفسه فلا يكون إلا لمن قصده. [فصل ويعود للواقف أو وارثه بزوال مصرفه ووارثه أو شرطه أو وقته وتورث منافعه

ويتأبد مؤقته ويتقيد بالشرط والاستثناء فيصح وقف أرض لما شاء ويستثنى غلتها لما شاء ولو عن أي حق فيهما وإلا تبعت الرقبة قيل ولا تسقط ما أسقطت وله أن يعين مصرفها] . قوله: "فصل: ويعود للواقف أو وارثه بزوال مصرفه ووارثه". أقول: الوقف تحبيس مؤيد ورجوعه إلى الواقف ووارثه عند انقطاع مصرفه يخالف التحبيس والتأبيد فإن قلت إذا زال مصرفه الذي وقفه عليه الواقف فماذا يكون وإلى أين يصير قلت ينبغي أن يصرف في مصرف مماثل لذلك المصرف الذي كان الصرف إليه كما يقتضيه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها"، [البخاري "5/354"، مسلم "15/1632"، وفي لفظ: "حبس أصلها وسبل ثمرتها"، فبقاء العين الموقوفة على ما يوجبه الوقف هو معنى التحبيس وزوال مصرفه لا يرفع هذا التحبيس لأنه تحبيس مطلق ولو كان مقيدا ببقاء المصرف لم يكن وقفا وسيأتي للمصنف أن رقبة الوقف النافذ وفروعه ملك لله محبسة للانتفاع فكيف يعود ما قد صار ملكا لله للواقف أو وارثه وهكذا لا يعود بزوال شرطه لأن هذا شرط يخالف موجب الوقف ويرفعه وهكذا لا يصلح قوله أو وقته لأن التوقيت يخالف ما يقتضيه الوقف من التحبيس المؤبد وقد حمل هذا على وقت الصرف لا وقت الوقف لما سيأتي للمصنف من قوله ويتأبد مؤقته وهكذا لا تورث منافعه لأن منافع ما قد صار محبسا لله عزوجل تحبيسا مؤبدا هي لله عزوجل. وأما قوله: "ويتأبد مؤقته" فظاهر ولا يكون وقفا إلا بذلك. وأما قوله: "ويتقيد بالشرط" فمعناه أنه إذا قيد إيقاع الوقف منه بشرط تقيد كأن يقول إن شفى الله مريضي فقد وقفت كذا وهكذا يتقيد بالاستثناء لأنه ملكه فيخرج منه بالاستثناء ما شاء ومن هذا قوله ويصح وقف أرض لما شاء ويستثني غلتها لما شاء وبعد أن يستوفي المصرف الذي استثنى الغلة له ما هو عليه من زكاة أو مظلمة أو نحوهما أن يعين مصرف الوقف ولا مانع من ذلك. [فصل ومن فعل في شيء ما ظاهره التسبيل خرج عن ملكه كنصيب جسر وتعليق باب في مسجد لا نحو قنديل ولا اقتطاع أو شراء بنيته له ومتى كملت شروط المسجد صح الوقف عليه وهي أن يلفظ بنية تسبيله سفلا وعلوا أو يبنيه ناويا ويفتح بابه إلى ما الناس فيه على سواء مع كونه في ملك أو مباح محض أو حق عام بإذن الإمام ولا ضرر فيه ولا

تحول آلاته وأوقافه بمصيره في قفر ما بقي قراره فإن ذهب عاد لكل ما وقف وقفا] . قوله: "فصل: ومن فعل في شيء ما ظاهره التسبيل خرج عن ملكه". أقول: ليس بمثل هذا تخرج أموال العباد المعصومة بعصمة الإسلام عن أملاكهم ولا قائل يقول إن مجرد القرينة يقتضي الأملاك وغاية ما في هذا حصول قرينة أنه قد وقف ذلك الشيء الذي فعله في المسجد ونحوه من مصحف أو نحوه فلا بد أن يعلم أنه قد أخرج ذلك علن ملكه وتقرب به وإلا فهو باق على ملكه والأصل عدم الوقف وعدم التسبيل ومثل هذا نصب الجرس وتعليق الباب في المسجد وهكذا تعليق القنديل حكمه حكم تعليق الباب ولا وجه للفرق بينهما وأما اقتطاع الخشب بينة كون ذلك وقفا وهكذا شراء شيء بنية كون ذلك وفقا فالظاهر أنه قد صار بهذه النية وقفا لأن النية هي التي يصير بها الوقف وقفا ولا اعتبار بالألفاظ كما قدمنا غير مرة فإذا أقر بوقوع هذه النية منه لم يقبل منه الرجوع عنها. قوله: "ومتى كملت شروطا لمسجد صح الوقف عليه". أقول: يصح الوقف عليه ولو قبل كمال شروطه بل ولو قبل أن يعمر لأن التعليق للوقف بوقت مستقبل صحيح ولا مانع عنه من شرع ولا عقل وغايته أنه يتوقف نجاز الوقف على تمام المسجد. وأما قوله: "وهي أن يلفظ بنية تسبيله سفلا وعلوا" فلا وجه لاشتراط اللفظ بل المعتبر حصول التراضي بمصيره مسجدا مسبلا ولو كان الدليل على هذا الرضا مجرد إشارة من قادر على النطق أو كتابة دالة على ذلك. والحاصل أن اشتراط الألفاظ المخصوصة في هذا وغيره جمود لا وجه له من رواية ولا رأي وقد اصاب المصنف حيث قال أو يبنيه ناويا فإن هذه النية هي التي لا تعتبر غيرها وأما اشتراط أن يفتح بابه إلى ما الناس فيه على سواء فمبني على أنه لا يكون مسجدا إلا ما كان هكذا وليس على هذا الاشتراط أثارة من علم بل المسجد الذي يعمر خاصا بأهل قرية أو بعض قرية أو ملك الباني ليصلي فيه هو وأهله هو مسجد وحكمه حكم غيره من المساجد وإن كانت الصلاة فيه الجماعات أكثر ثوابا بالحديث: "صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أفضل كذلك ما كثرت الجماعة"، ومعلوم أن هذه الفضيلة لا تستلزم أن ما دون هذا المسجد الذي تكثر فيه الجماعات لا يكون مسجدا لا شرعا ولا عقلا ولا عادة. وأما قوله: "مع كونه في ملك" فلا بد من ذلك لأن الإنسان لا يتقرب بغير ما هو مملوك له ومثله المباح الذي لا يتعلق به حق لأحد لأن بناء المسجد فيه تحجر له وقد قدمنا أن التحجر يفيد الملك كما يفيده الإحياء وأما الحق العام فلا بد من وجود المصلحة الراجحة وعدم وجود مفسدة على أهل الحق فإذا كان كذلك جاز للإمام أن يأذن له ببنائه وإلا فلا. قوله: "ولا تحول آلاته وأوقافه" الخ.

أقول هذا جمود يخالف ما فيه المصلحة للواقف وما فيه المصلحة للمصرف فإن مصير المسجد إلى هذه الحالة وهو كونه في قفر لا يصلي فيه أحد يكون بقاء آلاته فيه واستمرار أوقافه عليه من إضاعة المال التي صح النهي عنها ومن إحرام الواقف ما يصل إليه من الصدقة الجارية ومن إحرام طائفة من المسلمين للانتفاع بهذه الآلات وبهذه الأوقاف في مسجد آخر مماثل لهذا المسجد فالعجب من استحسان مثل هذا الرأي والجزم به في المؤلفات التي هي دواوين علم الشرع. وأما قوله: "فإن ذهب قراره عاد لكل ما وقف وقفا" فقد عرفناك فيما سلف عند قوله ويعود للواقف ما هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه إلى غيره. [فصل ولكل إعادة المنهدم ولو دون الأول ونقضه للتوسيع مع الحاجة وظن إمكان الإعادة ولا إثم ولا ضمان وإن عجز ويشرك اللحيق في المنافع وللمتولي كسب مستغل بفاضل غلته ولو بمؤنة منارة عمرت منها ولا يصير وقفا وصرف ما قيل فيه للمسجد أو لمنافعه أو لعمارته فما يزيد في حياته كالتدريس إلا ما ما قصره الواقف على منفعة معينة وفعل ما يدعو إليه وتزيين محرابه وتسريحه لمجرد القراءة ونسخ كتب الهداية ولو للناخ لا لمباح أو خاليا ومن نجسه فعليه أرش النقص وأجرة الغسل ولا يتولاه إلا بولاية فإن فعل لم يسقطا] . قوله: "فصل: ولكل اعادة المنهدم" الخ. أقول: عقل كل عاقل يستحسن هذا فكيف بما يدل عليه قواعد الشرع الكلية المبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد فإن ترك المنهدم على أنهدامه مفسدة ظاهرة على الواقف وعلى من يقصد ذلك المسجد من المسلمين وعمارته مصلحة واضحة لهم فإن وجد في أوقاف هذا المسجد ما يقوم بعمارته أو عمارة ما هو دونه فذلك متوجه على من إليه ولاية أوقافه وسيأتي للمصنف أنها تصرف غلة الوقف في إصلاحه وإذا لم يكن في أوقاف هذا المسجد ما يمكن عمارته فلا شك أن عمارته وإعادته إلى حالته أو دونها قربة ومثوبة وأقل أحول ذلك الندب لا كما تدل عليه عبارة المصنف من مجرد الجواز. وأما قوله: "ونقضه للتوسيع مع الحاجة" فهذا وإن كان فيه مصلحة من جهة ففيه مفسدة من جهة أخرى هي كون الواقف أراد بالوقف أن يكون الثواب خاصا به وقد صار الآن مشتركا بينه وبين غيره لأنه قد صار مشتركا معه في أوقافه وأيضا تزداد هذه المفسدة بأن يكون

الذي أراد التوسيع ممن يظن عجزه عن التمام وماذا يفيد الواقف الأول مجرد ظنه لإمكان الإعادة. وأما قوله: "وللمتولي كسب مستعمل بفاضل غلته" فهذا وجهه ظاهر لكن ينبغي أن يكون ذلك وقفا كأصله فإنه يصدق على هذا أنه من فروع الوقف وسيأتي للمصنف أن رقبة الوقف النافذ وفروعه ملك لله محبسة للانتفاع. وأما قوله: "ولو بمؤنة منارة" الخ فما كان أغنى المصنف عن التعرض لهذه الصورة النادرة فإنه إنما يحسن ذكر ما يترتب على ذكره فائدة لا ما كان معلوما من الكلام مفهوما منه أوضح انفهام. قوله: "وصرف ما قيل فيه هذا للمسجد" الخ. أقول: هذا صحيح إذا لم يفهم من قصد الوقف أنه أراد شيئا معينا ولهذا قال المصنف إلا ما قصره الواقف على منفعة معينة. وأما قوله: "وفعل ما يدعو الناس إليه" فلا شك أن في ذلك مصلحة يعود على الواقف بتكثير ثوابه لكن بشرط أن لا يكون ذلك مما لا يجوز لا كما قال المصنف وتزيين محرابه فإن هذا التزيين هو من المباهاة التي وردت في حديث أنس عن أحمد "3/134، 145، 152، 230، 283"، وأبي داود "449"، والنسائي 689"، وابن ماجه 739"، مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد"، ولفظ النسائي "689"، من هذا حديث: "من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المسجد"، وهو أيضا من الزخرفة التى ورد فيها أنها من صنيع اليهود والنصارى وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أمرت بتشييد المساجد"، قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى, ومما يدل على كراهة تزيين قبلة المسجد على الخصوص بشيء يلهي المصلي ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عثمان بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه بعد دخوله الكعبة فقال: "إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي". وأما قوله: "وتسريحه ... " الخ فقد أفاده ما تقدم من قوله ما يزيد في حياته كالتدريس فإن التسريح يزيد في حياته بجلب الناس إليه للقطع بأن الناس إلى مسجد فيه سراج أرغب منهم إلى مسجد مظلم وقد أذن صلى الله عليه وسلم ببعث زيت لتسريح مسجد بيت المقدس كما في سنن أبي داود "457". قوله: "ومن نجسه فعليه أرش النقص وأجرة الغسل". أقول: هذا صحيح لأنه معتد للتنجيس وإن كان الأمر أوسع من هذا لحديث الأعرابي الذي دخل المسجد فبال فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صبوا عليه ذنوبا من ماء"، وهو في صحيح ولو يقل قم يا اعرابي فاغسل بولك وأما كونه لا يتولى ذلك إلا بولاية فهذا تشدد في غير موضعه

والأمر أيسر من ذلك وقد زاد المصنف في التشديد فقال فإن فعل لم يسقط فإن هذا المنجس للمسجد قد فعل ما عليه وأصلح ما أفسد فكيف لا يسقط عنه أرش النقص وأجرة الغسل. [فصل وولاية الوقف إلى الواقف ثم منصوبة وصيا أو واليا ثم الموقوف عليه معينا ثم الإمام والحاكم ولا يعترضا من مر إلا لخيانة أو بإعانة وتعتبر الدالة على الأصح ومن اعتبرت فيه ففسق عادت ولايته الأصلية بمجرد التوبة كالإمام والمستفادة كالحاكم بها مع تجديد التولية والاختبار م إلا الوصي قبل الحكم بالعدل فكالإمام وتبطل تولية أصلها بموته ما تدارجت وإن بقي الوسائط لا العكس ومن صلح لشيء ولا إمام فعله بلا نصب على الأصح] . قوله: "فصل: وولاية الوقف إلى الواقف" الخ. أقول: وجه هذا أنه لما قصد بذلك الوقف أن يكون صدقة جارية له وثمرة يستفيد ثوابها حيا وميتا كانت هذه العلاقة التي هي الثمرة المستفادة من الوقف مقتضية لأن يكون للواقف ومن يلي من جهته مدخلا فيما فيه جلب مصلحة للوقف ودفع مفسدة عنه ولا نيافي ذلك كون الرقبة قد صارت لله محبسه للانتفاع بها كما قررناه فيما سبق لأن هذه العلاقة التي للواقف ومن يلي من جهته هي مقدمة على من له ولاية عامة من إمام أو حاكم وأما ولاية الموقوف عليه فلكونه المستحق لمنافع الوقف فجلب مصالحه ودفع مفاسده هو أخص الناس به فلا يبعد أن يقال إن هذه العلاقة للموقوف عليه مقدمة على العلاقة التي للواقف فإن الثواب الصائر إلى الواقف هو أثر من أثار هذه الفوائد الصائرة إلى الموقوف عليه وإذا لم يوجد واقف ولا موقوف عليه أو وجدا وهما لا يصلحان لذلك فالنظر إلى الإمام والحاكم وإذا لم يعلم الواقف عليه على ما تقتضيه المصلحة ويوجبه العدل فلهما أن يرادهما إلى الصواب ويبطلا ما وقع من تصرفاتهما مخالفا لطريقه الحق. قوله: "وتعتبر العدالة على الأصح". أقول: هذه الولاية على الوقف لا بد فيمن هي إليه من أن يكون ساعيا في جلب مصالحه ودفع المفاسد عنه ومن أعظم المفاسد أن يكون خائنا غير أمين ومعلوم أن من لم يتنزه عن محظورات الدين ويتساهل عن القيام بفرائضه لا يؤمن في الأموال فاعتبار العدالة فيمن أنيطت به هذه الولاية أمر لا بد منه وحق على الإمام والحاكم أن ينزعا يد من لم يكن كذلك فإنه وإن سعى في مصالح الوقف أبلغ سعى فإنه مظنة للخيانة لأن الأمور الدينية متساوية الأقدام ومن خان الله في بعضهما لا يؤمن في البعض الآخر.

قوله: "ومن اعتبرت فيه ففسق" الخ. أقول: هذا كلام يشمل جميع الولايات مع الفرق بين الولاية الأصلية والمستفادة ولا يخفاك أن حدوث أمر في العدل يوجب سلب العدالة عنه وإن لم يكن فسقا هو مانع من القبول المشروط بالعدالة ومن بقاء الولاية المشروطة بها فلا بد من تحقق عدمه على وجه يحصل به انثلاج القلوب واطمئنان الخواطر بأن ملكة العدالة قد عادت لذلك الشخص كما كانت قبل حدوث هذا المانع فإذا حصل هذا صار عدلا يجوز له أن يباشر ما كان يباشره قبل حدوث ذلك المانع ولا يحتاج إلى تجديد تولية لأن انعزاله وبطلان ولايته مشروطان باستمرار ذلك المانع وقد ذهب ولم يستمر وليس لمن إليه الولاية المستفادة منه أن يأبى من قبوله ويصمم على نزع يده إلا إذا لم ينشرح صدره بعدالته المتجددة لأمر بنبغي التوقف عنده لا لمجرد الشك والوسوسة. قوله: "وتبطل توليه أصلها الإمام بموته" الخ. أقول: هذه الولاية من الإمام الواقعة لشخص من الأشخاص في أمر من الأمور إن كانت مقيدة بمدة حياته كان وجه بطلانها هو انقضاء الوقت الذي هي مقيدة به وأما إذا كانت مطلقة غير مقيدة لبطلانها بموت الإمام لأنها ولاية واقعة من أهلها مصادفة لمحلها ولا دليل بيد من قال ببطلانها لا من رواية ولا من دراية والأصل عدم حدوث المانع كما أن الأصل عدم ارتفاع المقتضى ولو كان مجرد موت الإمام مؤثرا لبطلان ولاية من من جهته لكان موت من عقد الإمامة للإمام من رؤس المسلمين مؤثرا لبطلان ولاية الإمام وارتفاع إمامته واللازم باطل بإجماع المسلمين سابقهم ولاحقهم فالملزوم مثله. قوله: "ولمن صلح لشيء ولا إمام فعله" الخ أقول: جاء المصنف رحمه الله بهذه الكلية لما قدمه من الكلام في عموم الولايات وإن كان محل الجميع كتاب السير وينبغي أن تعلم أن نصيب الأئمة الثابت في هذه الشريعة ثبوتا لا ينكره من يعرفها من أقواله صلى الله عليه وسلم ثم وقوعه بالفعل بعد موته صلى الله عليه وسلم من الصحابة فمن بعدهم ليس فيه ما ينفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أفراد المسلمين وإن كان الأئمة هم المقدمون في ذلك والأحقون به لكن إذا فعلوا كان ذلك مسقطا لهذا الفرض المعلوم بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة والمجمع عليه من جميع الأمة وإن لم يفعلوا أو لم يطلعوا على ذلك فالخطاب باق على أفراد المسلمين لا سيما على العلماء فإن الله سبحانه قد أخذ عليهم البيان للناس فقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، وقال في الآية التي بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] ، فإذا كان البيان لا يتم إلا بإيقاع حكم الله بالحكم مع التمكن من ذلك فما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه. والحاصل أن الغرض المقصود للشارع من نصيب الأئمة هو أمر أولهما وأهمهما إقامة منار الدين وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه طوعا

وكرها وثانيهما تدبير المسلمين في جلب مصالحهم ودفع المفاسد عنهم وقسمة أموال الله فيهم وأخذها ممن هي عليه وردها فيمن هي له وتجنيد الجنود وإعداد العدة لدفع من أراد أن يسعى في الأرض فسادا من بغاة المسلمين وأهل الجسارة منهم من التسلط على ضعفاء الرعية ونهب أموالهم وهتك حرمتهم وقطع سبلهم ثم القيام في وجه عدوهم من الطوائف الكفرية إن قصدوا ديار الإسلام وغزوهم إلى ديار الكفر إن أطاق المسلمون ذلك ووجدوا من العدد والعدة ما يقوم به فهذا هو موضوع الإمام الذي ورد الشرع بنصبه وعلى المسلمين إخلاص الطاعة له في غير معصية الله وامتثال أوامره ونواهيه في المعروف غير المنكر وعدم منازعته وتحريم نزع أيديهم من طاعته إلا أن يروا كفرا بواحا كما وردت بذلك الأدلة المتواترة التي لا يشك في تواترها إلا من لا يعرف السنة المطهرة وإذا كان الأمر هكذا فليس ها هنا ما يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام ببيان حجج الله والإرشاد إلى فرائضه والزجر عن مناهيه ولا يصلح وجود الإمام مسقطا لذلك لكنه إذا قام بشيء منه وجب على المسلمين معاضدته ومناصرته وإن لم يقم به فالخطابات المقتضية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المسلمين على العموم باقية في أعناقهم معدودة في أهم تكليفاتهم لا خلوص لهم عنها إلا بالقيام بها على الوجه الذي أمر الله به وشرعه لعباده وهكذا العلماء فإنه بعد دخولهم في هذا التكليف دخولا أوليا مخاطبون بتكليف البيان على الوجه الذي ذكرناه وإذا تقرر لك مجموع ما ذكرناه عرفت الصواب ولم يبق بينك وبين دركه حجاب. [فصل وللمتولي البيع والشراء لمصلحة والبينة عليه إن نوزع فيها ومعاملة نفسه بلا عقد والصرف فيها وفي واحد أو أكثر ودفع الأرض ونحوها إلى المستحق للاستغلال إلا عن حق فيؤجرها منه ثم يقبض الأجرة ويرد بنيته قيل أو يبريه كالإمام يقف ويبريء من بيت المال وتأجيره دون ثلاث سنين والعمل بالظن فيما التبس مصرفه ولا يبيع بثمن المثل مع وقوع الطلب بالزيادة ولا يتبرع بالبذر حيث الغلة عن حق ولا يضمن إلا ما قبض إن فرط أو كان أجيرا مشتركا وتصرف غلة الوقف في إصلاحه ثم في مصرفه وكذلك الوقف عليه ثم في مصرف الأول ومن استعمله لا بإذن واليه فغاصب غالبا وعليه الأجرة وإليه صرفها إلا ما عن حق فإلى المنصوب] . قوله: "فصل: وللمتولي البيع والشراء لمصلحة". أقول: بل عليه ذلك مع تيقن المصلحة ولا يجوز له الإخلال به وإذا كان عدلا مرضيا فقد

نفذ تصرفه ولا يقبل منازعته وقد تقدم أن القول له في مصلحة وبيع سريع الفساد إلى آخر كلام المصنف وقد ذكرنا هنالك ما ينبغي الرجوع إليه من هنا ولا مانع له من معاملة نفسه ولا من الصرف إليها لأن عدالته تقتضي أنه لا يفعل ذلك إلا لوجه مطابق وكذا له الصرف في واحد أو أكثر على حسب ما تقتضيه المصلحة وهكذا دفع الأرض إلى المستحق إلى آخر كلام المصنف فإن هذا كله تقتضيه الولاية التي قام بها العدل المستحق لما وليه وهكذا الإبراء منه عن الحق الواجب فإن له ذلك. وأما قوله: "كالإمام يقف ويبريء من بيت المال" فلا يخفاك أن بيت المال هو بيت مال المسلمين وهم المستحقون له وليس له إلا تفريق ذلك بينهم ويأخذ لنفسه ما يستحقه من الأجرة فليس له أن يفعل فيه ما يحول بينه وبين المستحقين إلا أن يكون في ذلك مصلحة راجحة عائدة عليهم في الوقف والإبراء فهو الناظر في مصالح المسلمين. قوله: "وتأجيره دون ثلاث سنين". أقول: لا وجه لهذا التقدير بل إذا كانت المصلحة في استمرار التأجير وتطويل مدته كان ذلك هو الذي ينبغي فعله وإن اقتضى الحال تقليل مدة الإجارة لمصلحة عائدة على الوقف كان له ذلك وأما تعليل التقرير بهذه المدة بأنه يخشى على الوقف أن يدعي المستأجر له أنه ملكه فما أبعد هذا التجويز فإن الأوقاف تشتهر وتظهر حيث لا تلبيس بالأملاك بعد المدة الطويلة فإن كان هذا التجويز مما يحصل مثله لمن إليه الولاية فعل ما تقتضيه المصحلة وأما العمل بالظن فيما التبس مصرفه فذلك جائز للمتولي إذا لم يبق إلى اليقين سبيل وهكذا لا يبيع بثمن المثل مع وقوع الطلب بالزيادة لأن في الزيادة جلب مصلحة للوقف ما لم يعارضها مفسدة مقدمة عليها وهكذا ليس له أن يتبرع بالبذر حيث الغلة عن حق ولا وجه لتخصيص هذه الصورة بالتنصيص عليها جوازا أو منعا بل عليه أن يفعل ما فيه مصلحة خالصة غير معارضة بما هو أرجح منها كائنا ما كان يترك ما لا مصلحة فيه كائنا ما كان وأما كونه لا يضمن إلا بالتفريط فظاهر وهكذا يضمن ما جنى عليه ولا وجه لقوله أو كان أجيرا مشتركا وقد قدمنا الكلام على الأجير المشترك فليرجع إليه. وأما قوله: "ويصرف غلة الوقف في إصلاحه" فوجه ذلك ظاهر لأن الرقبة مقدمة على كل شيء إذ بصلاحها تدم الفائدة العائدة على المصرف والواقف ثم ما فاض عن ذلك صرف في مصرفه الذي عينه الواقف وحكم الوقف على الوقف حكم الوقف. وأما قوله: "ومن استعمله لا بإذن واليه فغاصب" فوجه ذلك أنه أقدم إلى استعمال ما لم يأذن له الشرع باستعماله فهو كما لو أقدم على استعمال ملك الغير وما لزمه بالغصب كان إلى والى الوقف يصرفه فيما فيه مصلحة وليس إلى هذا الغاصب صرف ولا غيره.

[فصل ورقبة الوقف النافذ وفروعه ملك لله حبسه للانتفاع فلا ينقض إلا بحكم ولا توطأ الأمة إلا بإنكاح وعلى بائعه استرجاعه كالغصب فإن تلف أو تعذر فعوضه لمصرفه وإن لم يقفه وما بطل نفعه في المقصود بيع لإعاضته وللواقف نقل المصرف فيما هو عن حق وفي غيره ونقل مصلحة إلى أصلح منها خلاف ويستقر للعبد ما وقف عليه بعتقه وقبله لسيده ومن وقف بعد موته فله الرجوع وينفذ في الصحة من رأس المال وفي المرض والوصية على الورثة كالتوريث وإلا فالثلث فقط ويبقى الثلثان لهم وفقا إن لم يجيزوا م ويصح فرارا من الدين ونحوه] قوله: "فصل: ورقبة الوقف النافذ وفروعه" الخ. أقول: قد قدمنا تقرير هذا والاستدلال عليه عند قوله ويعود إلى الواقف أو وارثه فلا نعيده ها هنا. وأما قوله: "فلا ينقص إلا بحكم حاكم" فوجهه أن الحاكم العارف بمواقع الصلاح ومواطن الفساد والموازن بين الأمور المتعارضة بما تقتضيه الأدلة وتوجبه قواعد الشريعة لا يحكم إلا بما هو مطابق للحق موافق للصواب فحكمه حجة وعليه أيضا الوجه وبيان المستند حتى يرجع إلى حكمه كل واقف عليه. وأما قوله: "ولا توطا الأمة إلا بإنكاح" فوجهه أن مجرد وقفها لا يحلل وطأها وهذا معلوم في الشريعة المطهرة لأن الوقف تحبيس لا تمليك ورقيمته ملك لله وأما كون على بائع الوقف استرجاعه فظاهر لأن باع ما لم يأذن له الشرع ببيعه بل ما حرم عليه. بيعه ومنعه منه فعليه استرجاعه إن كان قد ثبتت عليه يد المشتري وليس ها هنا ما يطلق عليه اسم البيع ولا ما يصدق عليه حكمه فلهذا كان في يد من هو في يده كالغصب. وأما قوله: "فإن تلف أو تعذر فعوضه لمصرفه وإن لم يفقه" فوجهه ظاهر لأن هذا العوض يصير كما كان عليه المعوض في كونه وقفا على المصرف المعين من الوقف وليس بغيره فيه حق. قوله: "وما بطل نفعه في المقصود بيع لإعاضته". أقول: إذا بطل نفع الوقف لم يبق فيه فائدة للواقف بالثواب الذي هو صائر إليه ولا للمصرف بالانتفاع به فإن ترك كذلك باطل النفع ذاهب الفائدة كان ذلك من أعظم التفريط من المتولى فواجب عليه أن يستدرك الأمر ببيعه بحسب الإمكان ويشتري بثمنه عوضا يكون وقفا كما كان وإن قل وتحقرت فائدته فإن الإعمال وإن قل خير من الإهمال وهذا وجه ظاهر لا يحتاج إلى الاستدلال عليه.

وأما قوله: "وللواقف نقل المصرف فيما هو عن حق" فوجهه أم أمر ذلك إليه كما يقتضيه جعله عن حق وله أن يصرف ما عليه من الحق إلا من اختاره من المصارف أو إلى هذا تارة وإلى هذا أخرى وأما فيما كان عن غير حق فقد صار للمصرف المعين بحكم الوقف عليه فلا ينقل إلا لسبب يقتضي ذل. قوله: "ونقل مصلحة إلى أصلح منها خلاف". أقول: قد تقرر أن الوقف ملك لله محبس للانتفاع به وما كان هكذا فلا ينظر فيه إلى جانب الواقف إلا من جهة العناية بمصير ثواب وقفه إليه على أكمل الوجوه وأتمها مهما كان ذلك ممكنا ومعلوم أن الاستبدال بالشيء إلى ما هو أصلح منه باعتبار الغرض المقصود من الوقف والفائدة المطلوبة من شرعيته حسن سائغ شرعا وعقلا لأنه جلب مصلحة خالصة عن المعارض وقد عرفناك غير مرة أن من عرف هذه الشريعة كما ينبغي وجدها مبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد وها هنا قد وجد المقتضى وهو جلب المصلحة بظهور الأرجحية وانتفاء المانع وهو وجود المفسدة فلم يبق شك ولا ريب في حسن الاستبدال. وأما قوله: "ويستقر للعبد ما وقف عليه بعتقه" فوجهه أن العبد لا يملك وهذا على قول من قال بذلك وأما من قال إنه يملك فيستقر عليه من عند وقوعه. قوله: "ومن وقف بعد موته فله قبله الرجوع". أقول: هذه الإضافة إلى بعد الموت لا تسوغ الرجوع لأن الوقف تصرف من الإنسان في ماله لقصد التقرب إلى الله به وإخراج لرقبته عن ملكه وتصييرها ملكا لله عزوجل وتحبيس للأصل وتسبيل للرقبة فمجرد الإضافة إلى بعد الموت لا تكون مسوغة للرجوع لأن الإيقاع بطيبة من النفس ورضا من القلب قد وقع فلا بد لمن قال بأن مجرد الإضافة إلى بعد الموت مسوغة للرجوع من دليل يدل على جواز إبطال هذا التصرف وإرجاعه إلى ما كان عليه من كونه ملكا لمن قد تصرف به والقول بأن ذلك وصية دعوى مجردة بل هذا وقف وقع من أهله مصادفا لمحله وغاية من توجبه الوصية على تسليم ما ذكروه في شأنها من أن ما كان مضافا منها إلى بعد الموت ينفذ من الثلث أن يكون هذا الوقف نافذا من الثلث وأما جعل الرجوع فيه جائزا على الإطلاق فلا هو موافق للدليل ولا لما بنوا عليه كثيرا من هذه التفريعات من القواعد التى نزلوها منزلة الأدلة خبطا وجزافا ومن هذا الخبط قوله وينفذ في الصحة من رأس المال الخ وسيأتي الكلام على هذه القاعدة في الوصايا إن شاء الله تعالى. قوله: "ويصح فرارا من الدين ونحوه". أقول: قد عرفناك فيما سبق أن الركن الأعظم والسبب الأكبر في صحة وقف الواقفين هو قصد القربة الصحيحة الخالصة عن الشوائب وما لا يوجد فيه ذلك فليس بوقف بل هو من التلاعب بأحكام الله ومن خلط الأحكام الشرعية بالأحكام الطاغوتية وكيف يصح وقف هذا الذي فر من الواجبات التي أوجبها الله عليه ما لم يوجبه عليه ولا طلبه منه بل ولا أذن له

به فإنه إنما أذن لعباده بالوقف الذي يكون سببا إلى التقرب إليه وطلب ما عنده من الخير وأين هذا من ذاك والحاصل أن القائل بجواز هذا الوقف مع تصريحه بأن الحامل عليه هو الفرار من قضاء الدين الذي هو على العبد من أهم الواجبات وأضيقها قد غلط أقبح الغلط وجوز ما تحرمه الشريعة تحريما لا شك فيه ولا شبهة.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة [فصل إنما تصح بين جائزى التصرف بالتراضي وهي أمانة فلا تضمن إلا لتعد كاستعمال ونحو إعارة وتحفظ فيما لا يحفظ مثلها في مثله أو معه وإيداع وسفر فلا عذر موجب فيهما ونقل لخيانة وترك التعهد والبيع لما يفسد والرد بعد الطلب وبجحدها والدلالة عليها ومتى زال التعدي في الحفظ صارت أمانة وإذا غاب مالكها بقيت حتى اليأس ثم للوارث ثم للفقراء وإن عين للتصدق بها وقتا جاز ما لم يتيقن موته وما أغفله الميت حكم بتلفه وما أجمله فدين وما عينه رد فورا وإلا ضمن كما يلقيه طائر أو ريح في ملك وإذا التبس من هي له لمن بين ثم لمن حلف ثم نصفان ويعطى الطالب حصته مما قسمته إفراز وإلا فبالحاكم والقول للوديع في ردها وعينها وتلفها وأن التالف وديعة لا قرض مطلقا ولا غصب إلا بعد أخذته وللمالك في ذلك إن جحدت فبين إلا العين وفي نفي الغلط والإذن بإعطاء الأجنبي] . قوله: "فصل: إنما تصح بين جائزي التصرف بالتراضي". أقول: مراده أنه لا تكون وديعة تثبت لها الأحكام التي سيذكرها إلا إذا كانت بين جائزي التصرف بالتراضي لأنه لو كان أحدهما غير جائز التصرف أو كلاهما كذلك لو يوجد حكم الوديعة لأنه إذا كان أحدهما صبيا أو مجنونا فإن كان الوديع كان المودع له واضعا ماله في مضيعة وإن كان المودع كان على الوديع أن يرد ما قبضه منه إلى وليه وإن كانا جميعا صبيين أو مجنونين كان الواجب على أوليائهما استدارك المال من أيديهما وحفظه وأما اشتراط أن يكون بالمراضاة فمعلوم أنهما لا تكون وديعة إلا بذلك وإلا كانت غصبا. قوله: "وهي أمانة" الخ.

أقول: الأصل الشرعي هو عدم الضمان لأن مال الوديع معصوم بعصمة الإسلام فلا يلزم منه شيء إلا بأمر الشرع ولا يحتاج مع هذا الأصل إلى الاستدلال على عدم الضمان بما لم يثبت كما روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضمان على مؤتمن"، وما رواه أيضا من طريق أخرى عنه: "ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المستودع غير المغل ضمان" فان في أسانيدهما من لا تقوم به الحجة وغاية ما يجب على الوديع هو التأدية لحديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" وحديث: "أد الأمانة إلى من ائتمنك" وقد قدمنا تخريجهما أما إذا جنى الوديع على الوديعة فهو ضامن ضمان الجناية كما لو جنى مال الغير وهكذا لو استعملها فتلفت بذلك فإنه أيضا جناية وهكذا لو أعارها أو أجرها أو فرط في حفظها بأن يتركها في أرض مسبعة أو نحو ذلك فإن هذا أيضا نوع من الجناية وقد قدمنا ما ينبغي الرجوع إليه مما له مزيد فائدة هنا ومن التفريط أن يردها مع من لا يحفظ مثلها مثله أو يودعها بغير إذن مالكها أو يسافر بها بلا عذر أو يترك تعهدها مع كونه يظن فسادها بترك التعهد لها لكن الظاهر أن هذا التعهد لا يجب عليه إلا إذا أخذ مالكها عليه ذلك وهكذا لا يجب بيع ما يخشى فساده إلا إذا اشترط عليه مالكها وأما وقوع الخيانة منه فإنه ينقلب بذلك غاصبا ويخرج به عن كونه أمينا وهكذا إذا جحدها فإنه يصير بذلك غاصبا وهكذا إذا ترك ردها بعد الطلب لغير عذر فإنه يصير بذلك مفرطا تفريطا يكون به جانبا. قوله: "ومتى زال التعدي في الحفظ صارت أمانة". أقول: إذا فعل الوديع فعلا يخرج به عن كونه أمينا لم يعد له حكم الأمانة إلا بإيداع جديد وذلك بأن يعلم المالك حصول ذلك منه ثم يرضى ببقائها لديه وديعة كما كانت وهكذا سائر ما تقدم من الأسباب المقتضية للضمان لأن عود حكم الأمانة بعد رفعها لا يحصل بمجرد السلامة من ذلك التعدي ولا بمجرد عزم الوديع على عدم التعدي لأن الملك ملك الغير فلا بد من رضائه واخياره وإلا فلا وهذا ظاهر لا يخفى وأما كونه إذا وقع اليأس من عود مالكها دفعها الوديع إلى الوارث فهذا هوالواجب عليه لأن الوارث هو المستحق لتلك العين بعد حصول اليأس كما يستحقها بموت المالك وأما صرفها إلى الفقراء أو غيرهم فليس ذلك إليه ولا ولاية له عليه بل أمر ذلك إلى الأمام والحاكم إذا لم يوجد من له ولاية في مال المالك أقدم من ولايتهما من وصاية أو نحوها وأما كونه إذا عين للتصدق بها وقتا جاز فهذا معلوم لأن له أن يفعل في ملكه ما شاء. وأما قوله: "ما لم يتيقن موته" فمبني على أنها قد صارت بالموت ملكا للورثة ولكن هذه المقالة قد أفادت أنه قد أخرجه عن ملكه إخراجا مؤقتا بوقت وذلك صحيح كما قدمنا غير مرة فلم يبق للوارث فيه حق وأما على قول من قال إن المضاف إلى بعد الموت وصية تنفذ من الثلث فإن كان مثل هذا يتسع له ثلث ماله فلا حق للوارث وإن كان لا يتسع له كان له المطالبة بما زاد على الثلث. قوله: "وما أغفله الميت حكم بتلفه". أقول: هذا الإغفال لا يقتضي هذا الإهمال حتى يقال إنه يحكم بتلفه بل غاية ما هنا أن

يقال إن القول قول الوارث للوديع في ردها كما كان القول قول الوديع في ذلك وهكذا يكون القول قوله في تلفها ويرجع بعد ذلك إلى طلب البينة من المالك أو اليمين من الوارث. وأما قوله: "وما أجمله فدين" فهذا مبني على عدم وجود الوديعة في تركته بمجرد هذا الإجمال وهذا غير مسلم بل يرجع فيما بين المالك الورثة إلى البينة أو اليمين وقد قدمنا في المضاربة نحوا من هذا وأما كون ما عينه يرد فورا فظاهر لكن ترتيب الضمان على عدم الرد فورا غير مسلم بل لا يتضيق الرد على وارث الوديع إلا بطلب المالك فإن لم يرد بعد الطلب ضمن وأما ما يلقيه طائر أو ريح في ملك فليس على من ألقياه في ملكه إلا إعلام المالك بذلك وليس عليه الرد لا على الفور ولا التراخي لا من رواية ولا من دراية. وأما قوله: "وإذا التبس من هي له" فوجهه ظاهر وهكذا قوله: "ويعطى الطالب الطالب حصته" الخ قوله: "والقول للوديع في ردها". أقول: وجه ذلك أنه أمين مقبول القول مع يمينه وإن كان الأصل عدم الرد لكن هذه اليد الأمينة تقتضي عدم ثبوت الضمانة المتسببة عن عدم قبول قوله وهكذا الكلام في التغيير والتلف وكون التالف هو الوديعة عملا لما تقتضيه اليد الأمينة ولا وجه لقوله إلا بعد أخذته وديعة لأن هذا القول إنما يدل على ثبوت الإيداع على كون اليد يد غصب أو نحوه. وأما قوله: "وللمالك في ذلك إن جحد" الخ فوجهه أن اليد الأمينة قد ارتفعت بالجحد وصارت اليد يد غصب والقول مع الغصب في تلك الأمور للمالك. وأما قوله: "وفي نفي الغلط" فوجهه الأصل عدم الغلط ولكن الأولى أن يكون القول قول الوديع لأن اليد الأمينة لم ترتفع بهذا الغلط وهكذا دعوى الإذن بإعطاء الأجنبي لأنه وإن كان الأصل عدم الإذن لكن حكم اليد الأمينة باق.

كتاب الغصب

كتاب الغصب [هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا وإن لم ينو] . قوله: "هو الاستيلاء على مال الغير عدوانا وإن لم ينو". أقول: اليد العدوانية لا يمكن أن تكون عدوانية على الحقيقة إلا بالنية لأنها المدار الذي تدور عليه أحكام العدوان والخطأ فلا وجه لقوله وإن لم ينو ومعلوم أن إثبات اليد بغير إذن الشرع قد يكون بعد العلم بأن بغير إذن الشرع وليس العدوان إلا ذلك وهذا العلم هو النية التي

هي قصد الثبوت على مال الغير بغير إذن الشرع وقد يكون قبل العلم بأنه بغير إذن الشرع وحينئذ فلا عدوان لفقدان النية التي تتأثر عنها الغصبية فإن قلت إذا صار ما هو مغصوب إلى يد من لا يعلم بغصبه بشراء أو نحوه ثم تبين له بعد ذلك أنه غصب ماذا يجب عليه قلت يجب عليه إرجاعه إلى مالكه فإن لم يفعل بعد العلم كان له حكم الغاصب لأنه حينئذ قد صار مستوليا على مال الغير عدوانا لارتفاع الشبهة التي كانت معه وحصول اليقين الماحي لها. [فصل فلا يضمن من غير المنقول إلا ما تلف تحت يده وإن أثم وسمي غاصبا ومن المنقول إلا ما انتقل بفعله ولا ينقل ذي اليد نقلا ظاهرا أو في حكمه بغير إذن الشرع م ما ثبتت يده عليه كذلك وما نقل لإباحة عرف أو خوف منه أو عليه أم من نحو طريق فأمانة غالبا غصب] . قوله: "فصل: ولا يضمن من غير المنقول إلا ما تلف تحت يده" الخ. أقول: الشارع قد سماه غاصبا في حديث: "من غصب شبرا من الأرض" وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث جماعة وقد اعترف المصنف بأنه يسمى غاصبا وموجب هذا أن تثبت عليه أحكام الغصب فيضمن ما تلف بعد الغصب وإن لم يتلف تحت يده ولا وجه للفرق بين المنقول وغيره فالاستيلاء على الشيء عدوانا وإثبات اليد عليه بغير أمر الشرع موجب للضمان في الجميع وأما اشتراط النقل الذي ذكره المصنف فلم يرد دليل ولا يتوقف عليه مفهوم الغصب لا شرعا ولا لغة. وأما قوله: "وما نقل لإباحة عرف" الخ فهذا ليس من الغصب في شيء لأنها قد جرت عادة الناس بذلك وهكذا جرت عاداتهم بنقل ما هو ملك للغير لأجل الخوف منه أو عليه وذلك معدود من الإحسان عندهم وهكذا نقل ما اعترض في طريق المسلمين فإن الشرع والعرف قاضيان بجواز ذلك وليس لذكر مثل هذا في كتاب الغصب كثير فائدة ولكنه لما اشترط النقل بمجرد الرأي احتاج إلى إخراج هذه الصور من النقل وأما ما ذكره من التعثر فإن كان فاعله مأذونا له بالدخول من طريق الشرع أو من طريق العرف فليس بغصب ولا يلزمه ضمانه وإن لم يكن مأذونا فهو بمجرد دخوله ملك للغير غاصب فيضمن ما تلف بتعثره. [فصل ويجب رد عينه ما لم تستهلك ويستفدي غير النقدين بما لا يجحف إلى يد المالك إلا

صبيا ونحوه محجورا فيها أو إلى من أخذ منه إلا غاصبا مكرها أو في حكمه ونحو راع ليلا ويبرأ بمصيرها إلى المالك بأي وجه وإن جهل وبالتخلية الصحيحة وإن لم يقبض إلا لخوف ظالم ونحوه ويجب الرد إلى موضع الغصب وإن بعد أو الطلب إن كانت فيه فيهدم ويكسر ويذبح لرد ما هي فيه حيث له ذلك وإلا فقيمة الحيلولة على الأصح كعبد أبق أو أي شيء تتوسخ فتعذر رده] . قوله: فصل: "ويجب رد عينه ما لم تستهلك". أقول: هذا معلوم لأن الخطاب برد نفس المغصوب ثابت بقطعيات الشرع فليس للغاصب أن يعدل إلى قيمته ولا أباح له الشرع ذلك إلا برضا المالك ثم الاستفداء واجب وإن أجحف به كل الإجحاف لأنه قد وقع في معصية الغصب باختياره عدوانا ومخالفة للشرع ووجب عليه التخلص من هذه المظلمة بردها ما دامت موجودة ووجد إليها سبيلا وعلينا الأخذ على يد الظالم حتى يرد مظلمته للمطلوب ولا تأخذ به رأفة فاستثناء الإجحاف من غرائب المقالات ويكون الرد كما ذكر المصنف إلى يد المالك أو يد ولي غير المكلف وهذا معلوم وهكذا الرد إلى يد من أخذ ذلك الشيء منه إذا كان غير غاصب لحديث على اليد ما أخذت حتى تؤديه أما إذا كان غاصبا فالرد إليه غصب على غصب وظلم فوق ظلم. وأما قوله: "ونحو راع ليلا" فالتعرض لذكره هذه الصورة النادرة لعل وجهه ثبوت عرف بين أهل قرية علم به المصنف أو من نقل هذا عنه ولكن بعد ثبوت معنى الغصب لا وجه لتخصيص بعض الصور إلا لمخصص مسوغ للرجوع إليه في صفة الرد وغيرها. قوله: "ويبرأ بمصيرها إلى المالك بأي وجه". أقول: الذي أوجبه الشرع على الغاصب أن يرد ما غصبه إلى مالكه ردا ظاهرا بحيث يعلم المغصوب عليه أن هذه العين هي التي غصبها عليه الغاصب وأنه قد تحلل من مظلمته له بردها إليه وأما جعل الرد بأي وجه محللا للغاصب من المظلمة مسقطا للضمان عنه وإن جهل المالك مجمود غير مرضي وخروج عن طريق الصواب. قوله: "ويجب إلى موضع الغصب وإن بعد". أقول: وجهه ظاهر ولا سيما إذا كان موضع الغصب هو الموضع المعتاد لاستقرار تلك العين المغصوبة فيه أو كان يلزم المالك مؤنة بردها إليه أو كان الرد إليه بعد الطلب من المالك فلا شك أن ذلك واجب على الغاصب وهكذا إذا طلب المالك ردها إليه إلى غير موضع الغصب وجب على الغاصب ذلك لأن التحلل من المظلمة لا يكون إلا على الوجه الذي يرضى به المالك وإن لم تكن تلك العين في الموضع الذي طلب المالك ردها إليه فلا وجه للتقييد بقوله إن كانت فيه. قوله: "ويهدم ويكسر ويذبح حيث له ذلك".

أقول: وجه هذا ظاهر لأن رد المظلمة واجب على الظالم وإن تلف عليه ما تلف وغرم بسبب الرد ما غرم ولو أجحف به كما قدمنا وأما إذا كانت العين المغصوبة قد صارت في شيء مملوك لغير الغاصب بغير اختياره كأن يزد رد الحيوان الجوهرة المغصوبة ولا يمكن خروجها منه إلا بذبحه أو يدخل في شيء مملوك للغير ولا يخرج إلا بكسره فها هنا لا وجه لإتلاف ملك غير الغاصب لرد العين المغصوبة بل الوجه المطابق لقواعد الشرع أن يضمن الغاصب لصاحب العين المغصوبة ولمالك العين الأخرى قيمتها إن رضي بذلك ويأخذها الغاصب أو يشتري أحد المالكين العين التي للمالك الآخر وإذا لم يمكن الفصل إلا بنقص فيهما أو في أحدهما كان مضمونا على الغاصب وأما دفع قيمة الحيلولة فلا بد من تقييد ذلك بحصول الرضا من المالك فإن لم يرضى واختار تعجيل القيمة ورضي بمصير العين للغاصب وإذا رجعت فله ذلك وإن اختار الانتظار حتى تخلص تلك العين مما وقعت فيه بوجه فله أن يطالب الغاصب بأجرة مثل تلك العين حتى تعود إليه إن كان لمثلها أجرة فهذه الوجوه الخيار فيما للمالك يختار منها ما شاء ولا حجر عليه وهكذا الكلام في العبد الذي أبق والشيء الذي تنوسخ. [فصل وإذا غيرها إلى غرض خير بينها وبين القيمة ولا أرش إلا في نحو الخصي وإن زادت به وإلى غير غرض ضمن أرش اليسير وخير في الكثير بين فيمتها صحيحة وعينها مع الأرش وفوائدها الأصلية أمانة فلا يضمن إلا ما نقله لنفسه أو جنى عليه أو لم يرد مع الإمكان] . قوله: "وإذا غيرها المالك إلى غرض" الخ. أقول: الحق أن المالك مخير بعد تغيير العين من غير فرق بين أن يكون التغيير إلى غرض أو إلى غير غرض فإن شاء اختار رجوع العين إليه مع أرش النقص وإن شاء تركها للغاصب وأخذ قيمتها ولا وجه للفرق بين الكثير واليسير كما أنه لا وجه للفرق بين التغيير إلى غرض وإلى غير غرض وليس بيد المصنف ولا بيد غيره ما يخالف ما ذكرنا إلا مجرد الرجوع إلى قواعد لهم ليس عليه أثارة من علم. قوله: "وفوائدها". أقول: فوائد العين المغصوبة تابعة لها فكما يجب رد العين المغصوبة إلى المالك كذلك يجب رد فوائدها إليه ومن خالف في هذا فليس بيده رواية ولا دراية وأما الاستدلال بحديث الخراج بالضمان فلا يخفاك أنه وارد في غير مقبوضة بإذن الشرع فكيف يصح الحاق العين المغصوبة بها ومعلوم أن الغاصب ضامن على كل حال فكيف يستحق عوضا وهو الخراج في

مقابلة ضمانه وبالجملة فهذا من وضع الدليل في غير موضعه وليس عمومه إلا بالنسبة إلى ما ورد فيه لا بالنسبة إلى ما هو ضد لذلك ولا فرق بين الفوائد الأصلية والفرعية بل الكل غصب بيد الغاصب حتى يرده إلى مالك العين التي هو نماء لها ودعوى الفرق بينهما لم يبن إلا على مجرد الخيال فيضمن الغاصب ما تلف منها ولو لم يجن عليها ولا نقلها لنفسه أو لم يتمكن من ردها ودعوى أن الأصلية أمانة دعوى مردودة فيالله العجب من مثل هذه المقالات التي يمجها السمع ويردها العقل والشرع. [فصل ولا يرجع بما غرم فيها وإن زادت به وله فصل ما ينفصل بغير ضرر وإلا خير المالك وعليه قلع الزرع وإن لم يحصد وأجره المثل وإن لم ينتفع فإن أجرا ونحوه فموقوف وأرش ما نقص ولو بمجرد زيادة من فعله كأن حفر بئرا ثم طمها إلا السعر قيل والهزال ونحوهما في الباقي] . قوله: "فصل: ولا يرجع بما غرم فيها وإن زادت به". أقول: لأن يده عدوان وما فعله في العين مما يوجب زيادتها عدوان على عدوان ولا يتخلص من مظلمته ويبرأ من غصبه إلا بارجاع تلك العين إلى مالكها وإن زادت لما فعله فيها أضعاف أضعاف قيمتها وما للغاصب وللمطالبة بذلك بل هو مطالب مع رد العين المغصوبة برد أجرة مثلها في مدة الغصب لأنه فوت على المالك هذه المنفعة تعديا وعدوانا وجرأة على الشرع وعلى أموال العباد المعصومة وأما كون له فصل ما ينفصل بغير ضرر فإن لم يكن ذلك من نماء العين كأن يضع عليها حلية لا ضرر في فصلها فله أن يأخذ ما وضعه وأما مع الضرر فيأخذها المالك بزيادتها ولا حرج عليه ومن استبعد هذا فليتهم عقله وقصوره عن إذراك المدارك الشرعية. قوله: "وقطع الزرع وإن لم يحصد". أقول: حديث: "ليس لعرق ظالم حق" أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وحسنه من حديث سعيد ابن زيد وقد روى من طرق قدمنا الكلام عليها في باب الإحياء وروى عن عروة بن الزبير مرفوعا أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود "3074"، والدارقطني وحسن ابن حجر في بلوغ المرام إسناده ومجموع طرقه تقوم بها الحجة وهو يدل على أن ما غرسه الغاصب أو زرعه في الأرض المغصوبة فهو لمالكها وليس للغاصب من ذلك شيء وقد روى ابن رشد الإجماع على هذا فقال في النهاية وأجمع العلماء على أن من غرس نخلا أو ثمرا وبالجملة نباتا في غير أرضه أنه يؤمر بالقطع انتهى وهذا أعنى عدم ثبوت الحق للغاصب بوجه هو المطابق لمعنى

كون يده غاصبة فإن اليد الغاصبة لا تستحق شيئا وما فعلته في الغصب فلا حق لها فيه وأما ما أخرجه أحمد "وأبو داود "3403"،والترمذي "1366"، وابن ماجه "2466"، من حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته"، وقد روى الترمذي "3/648"، عن البخاري تحسينه ونقل عن البخاري تضعيفه وضعفه أيضا البيهقي وهو من طريق عطاء بن أبي رباح عن رافع بن خديج قال أبو زرعة لم يسمع عطاء من رافع وكان موسى بن هارون يضعف هذا الحديث ويقول لم يروه عن شريك ولا رواه عن عطاء غير أبي إسحاق فهو مع كونه مخالفا لما هو أصل الغصب من عدم رجوع الغاصب الظالم على المغصوب عليه المظلوم بما أنفقه على ما تعدى به من إيقاع الرزع غصبا وعدوانا بغير إذن الشرع يمكن الجواب عنه من وجوه: الأول: ما ذكرناه فيه من المقال الذي لا ينتهض معه للاستدلال. الثاني: بما حكاه ابن المنذر عن أحمد بن حنبل أنه قال إن أبا إسحق زاد في هذا الحديث لفظ: "بغير إذنهم" وليس غيره بذكر هذا الحرف انتهى وإذا كان هذا اللفظ مزيدا لم يكن في الحديث دلالة على أن هذا الحكم يثبت للغاصب بل هو ثابت لمن زرع أرض قوم على غير وجه التعدي والعدوان فلا يبقى في الحديث إشكال ويؤيد هذا ما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى زرعا في أرض ظهير فأعجبه فقال: "ما أحسن زرع ظهير" فقالوا: إنه ليس لظهير لكنه لفلان, قال: "فخذوا زرعكم وردوا عليه نفقته" فدل على أن الزرع تابع للأرض فهذا قاله صلى الله عليه وسلم في أرض غير مغصوبة كما يدل عليه قولهم ولكنه لفلان ولو زرع تلك الأرض غصبا لم يقولوا إن الزرع له وإذا كان هذا حكم من زرع غير غاصبا ولا ظالم فحكم من زرع غاضبا ظالما مثل هذا الحكم. الوجه الثالث: بما أخرجه أبو داود والدارقطني من حديث عروة بن الزبير عن بعض الصحابة أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس أحدهما نخلا في أرض فقضى لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخلة منها قال: "فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس وإنها لنخل عم" وإذا كان هذا هو حكم الشرع في النخل الذي تعظم المؤنة عليه وتكثر الغرامة فيه فأمر النبي الغاصب بالقلع وإخراج نخله مع كونه قد صار نخلا عما فكيف لا يكون الزرع مثله مع حقارة المؤونة عليه وقصر المدة فيه وليس في كون البذر من الغاصب زيادة على كون أصول الغرس منه فلا يصح أن يكون أحدهما سببا لاستحقاق الغاصب للنفقة دون الآخر فما ذكره المصنف رحمه الله من قلع الزرع وإن لم يحصد ولزوم أجرة الأرض للغاصب وإن لم ينتفع صواب وهكذا قوله إن عليه أرش ما نقص. وأما قوله: "فإن أجر أو نحوه فموقوف" فالمعتبر إجارة المالك فإن أجاز كانت هذه الإجازة هي التي صح بها التأجير ونحوه وإن لم يجز كان ما فعله الغاصب وجوده كعدمه وأما قوله: "إلا نقصان السعر" فوجهه أن ذلك النقصان ليس من فعل الغاصب حتى يضمنه ولا يخفاك أن ارتفاع السعر يزيد قيمة ذلك المغصوب فوق ما كانت عليه حال الغصب ومن الجائز

أن يبيعها المالك وقت حصول زيادة السعر فكان في الغصب من هذه الحيثية تفويت لمنفعة للمالك متعلقة بالعين فيضمنها كما يضمن أرش النقص وصاحب اليد الظالمة الغاصب حقيق بالتشديد عليه لأنه اختار لنفسه التعدي ومخالفة ما يقتضيه الشرع ويوجبه العدل وهكذا الهزال يضمنه لأنه حصل النقص به والمغصوب في يده ولو كان بغير سبب منه إذ من الجائز أن تلك العين لو كانت باقية بيد مالكها لم تهزل. [فصل ويملك ما اشترى بها أو بثمنها نقدين ويتصدق بالربح وما استهلكه بخلطه أو إزالة اسمه ومعظم منافعه ويطيب له بعض المراضاة ويتصدق بما خشى فساده قبلها ويملك مشتريها الجاهل غلتها ويتصدق بما تعدى قيمة الرقبة وعليه الأجرة] . قوله: "فصل: ويملك ما اشترى بها أو بثمنها نقدين ويتصدق بالربح". أقول: العين المغصوبة باقية على ملك مالكها بالعصمة الشرعية ولا يخرج عن ملكه بالغصب المحرم بقطعيات الأدلة فالواجب على الغاصب إرجاعها سواء كانت عينا أو نقدا وأما الاعتلال بأن النقد لا يتعين فما أهون هذه المقالة في صدور علماء الشريعة العارفين بقواعدها فإن هذا ليس إلا مجرد رأي ليس عليه إثارة من علم فالواجب الشرعي على الغاصب أن يرد العين المغصوبة فإن تلفت أو تعذر استدراكها كما لو اختلف النقد بمثله من النقود فعلى الغاصب إرجاع قيمة العين موفرة وإرجاع مثل النقد من أعلى جنس من أجناسه ولا يطيب له ما شراه من عين أو بثمنها ولا يصير ملكا له ولم يأذن الشرع بذلك ولا سوغه وهكذا لا يطيب له الربح بل يجب عليه إرجاعله لمالكه كما قدمنا هكذا ينبغي أن يقال في مثل هذا البحث عملا لا تقتضيه القواعد الشرعية وللإمام أن يتصدق بما يخشى فساده من العين المغصوبة أو مما اشترى بثمنها أو من الربح عقوبة للغاصب والضمان عليه باق بحاله وعلى هذا يحمل ما أخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني عن عاصم بن كليب أن رجلا من الأنصار أخبره قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما رجعنا استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم أيديهم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال: "أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها" فقالت المرأة: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل بها إلي بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أطعميه الأسارى"، وعاصم بن كليب المذكور في الإسناد قال علي بن المديني لا يحتج به إذا انفرد وقال الإمام أحمد لا بأس به وقال أبو

حاتم الرازي صالح وقد أخرج له مسلم وأما جهالة الصحابي فغير قادحة ولكن لا يخفاك أن هذا الحديث ليس هو كالغصب في كل وجه فإن هذه المرأة لا تقصد الإستيلاء على مال الغير عدوانا بل وقع في ظنها أن إذن امرأة الرجل كإذنه ولما كان إذن المالك أمر لا بد منه صرفها صلى الله عليه وسلم في مصرفها. قوله: "وما أستهلكه بخلطه وإزالة معظم منافعه". أقول: أما الخلط فقد تعذر إرجاع العين معه فيجب على الغاصب إرجاع مثلها من أعلى جنس من أجناسها كما قدمنا لأن انتصاف المظلوم من ظالمه وإرجاع حقه إليه على طريقة العدل لا يكون إلا بذلك ولا وجه لجعل ذلك موجبا لملك الغاصب لما غصبه ولا دل على ذلك شرع ولا عقل وأما إذا فعل في العين المغصوبة ما أزال اسمها ومعظم منافعها فهذا أيضا لا يوجب أن تصير تلك العين بعد تغييرها ملكا للغاصب بل المالك بالخيار إن شاء رجعت له وأخذ أرش النقص وإن شاء تركها وأخذ قيمتها موفرة ولا تطيب للغاصب بعد تسليم الأرش أو القيمة بحال من الأحوال لأنه أخذها لا بإذن الشرع ولا بإذن المالك فإن طابت نفس المالك بأن تصير للغاصب بعد تسليم القيمة أو الأرش كان ذلك هو المسوغ لا مجرد الضمان. قوله: "ويملك مشتريها الجاهل غلتها" الخ. أقول: قد عرفناك غير مرة أن العين باقية على مالك مالكها وأن اليد الظالمة الغاصبة لا يثبت بها حق للغاصب ولا لغيره من غير فرق بين العالم والجاهل فما حصل من الغلة في يد مشتريها الجاهل كان لرب العين وهو المالك وهذا المشتري الجاهل يرجع بما غرمه للمالك على الغاصب لأنه غرم لحقه بسببه فهذا ما تقتضيه القواعد الشرعية القاضية بعصمة أملاك العباد وعدم خروجها عنهم إلا بالرضا كما يدل عليه قوله عزوجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، وقوله صلى الله عليه وأله وسلم: "لا يحل مال امريء مسلم إلا بطيبة من نفسه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام"، فمن زعم أن الغصب يقتضي خروج فوائد العين عن ملك مالكها إذا باعها الغاصب من جاهل لغصبها فعليه الدليل ولا دليل وما ذكره من التصدق بما تعدى قيمة الرقبة فمبني على هذا الخيال الفاسد وأما لزوم الأجرة له فإذا اختار المالك عدم أخذ فوائد العين من المشتري الجاهل وطالب بأجرة الأرض كان له ويرجع به المشتري الجاهل على الغاصب كما قدمنا وسيأتي للمصنف مثل هذا قريبا ولكنها تكررت عليه بعض المباحث في هذا الفصل والفصل الذي قبله والفصل الذي سيأتي بعده ووقع التخالف في بعضها وقد أوضحنا ما هو الحق في الجميع. [فصل وللمالك قلع الزرع وأجرته ولو مستقلا ولا يفسد إن تمكن بدونه والرجوع بالعين

والأجرة على كل ممن قبض والمغرور يغرم الغار ولو جاهلا كل ما غرم فيها أو بنى عليها إلا ما اعتاض منه والقرار على الآخر إن علم مطلقا أو جنى غالبا ويبرؤن ببرائته لا غيره وإذا صالح غيره المالك فبمعنى الإبراء يرجع بقدر ما دفع ويبرأ من الباقي لا هم وبمعنى البيع يملك فيرجع بالعين إن بقيت وإلا فالبدل] . قوله: "فصل: وللمالك قلع الزرع وأجرته". أقول: هذا صواب وقد قدمنا وجهه والدليل عليه ومعلوم أن هذا الزرع وقع في ملك الغير باليد العدوانية فلا حق للغاصب فيه وللمالك تفريغ أرضه عما فعلته فيها اليد العدوانية وإذا احتاج القلع إلى أجره رجع بها على الغاصب لأنه غرم لحقه بسببه وإذا لم يمكن القلع إلا بإفساد الزرع كان له ذلك وبعد هذا يأخذ العين المغصوبة ويأخذ أجرتها من الغاصب أو مما صيرها إليه الغاصب وقرار الضمان على الغاصب ولا فرق بين العالم والجاهل والمغرور يغرم الغار كما قال المصنف هنا وهو الحق. وأما قوله: "والقرار على الآخر إن علم مطلقا أو جنى غالبا" فوجهه أنه مع العلم يصير كالغاصب الأول وقد صارت العين في يده فيكون قرار الضمان عليه وهكذا مع الجناية قد صار ضامنا للعين المغصوبة بالجناية سواء حكم عليه بأنه غاصب أو لم يحكم عليه بالغصب وأما إذا لم يعلم ولا جنى فهو مغرور من جهة الغاصب فيرجع عليه. قوله: "ويبرؤن ببراءته لا غيره". أقول: إن أبرأ المالك من ضمان العين المغصوبة إبراء مطلقا برئوا جميعا وهكذا إذا أبرأ من قرار الضمان عليه لأنه هو الذي تعلق به الضمان للمالك في آخر الأمر فكأنه في هذه الصورة أبرأ من ضمان العين مطلقا لأن الخطاب على الغاصبين الآخرين فالضمان إنما هو من جهة من كان قرار الضمان عليه لا من جهة المالك فإنه لا يطلب إلا ضمان ما غصب عليه وقد أبرأ منه وعلى تقدير أن له يطالب غير من قرار الضمان عليه من الغاصبين فتلك المطالبة تنتهي آخر الأمر إلى من عليه القرار وأما ما ذكره من المصالحة بمعنى الإبراء بمعنى البيع فهذا آمر وقع برضاء المالك وهذا الرضا هو المناط المحلل لانتقال الأموال من مالك إلى مالك فيسقط الزائد من القيمة عنه وتصير العين ملكا له وأما كونه يبرأ من باقي القيمة وحده دون سائر الغاصبين فمبني على أن الرضا الواقع من المالك مقيد بهذا الغاصب وحده فكأنه خصه بذلك مع عزمه على طلب الباقين بما أسقطه لهذا وإلا فلا وجه لرجوع المالك عليهم. [فصل وفي تالف المثلي مثله إن وجد في ناحيته وإلا فقيمته يوم الطلب وصح للغاصب

تملكه وإلا فقيمته يوم الغصب ولم يصر بعد أو مع أحدهما قيميا وإلا اختار وفي القيمي قيمته يوم الغصب وإن تلف مع زيادة غير مضمونة وفي المضمونة يخير بين قيمته يوم الغصب ومكانه ويوم التلف ومكانه ويتعين الأخير لغير الغاصب وإن قل وما لا يتقوم وحده فمع أصله ويجب رد عين ما لا قيمة له لا عوض تالفه إلا مثليا لا يتسامح به أو إن تلف بعد تقومه والقول للغاصب في القيمة والعين وبينة المالك أولى] . قوله: "فصل: وفي تالف المثلي مثله" الخ. أقول: إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلي وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم ثم وقوع القطع والبيت منهم بأن المثلي يضمن بمثله والقيمي بقيمته هو أيضا مجرد رأي عملوا عليه وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه يضمن المثلي بقيمته كما في قوله في حديث المصراة: "ردها وصاعا من تمر" وهو في الصحيح كما تقدم وثبت عنه صلى الله عليه وسلم تضمين القيمي بمثله كما ثبت في الصحيح البخاري "2225"، وغيره من حديث أنس قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "طعام بطعام وإناء بإناء"، وهذا اللفظ للترمذي "1359"، وللبخاري "2481"، في هذا الحديث ألفاظ منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: "كلوا" ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة وأخرج نحو هذا الحديث أحمد "6/148"، وأبو داود "3568"، والنسائي "3957"، من حديث عائشة أنها قالت ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت يا رسول الله ما كفارته فقال: "إناء كإناء وطعام كطعام"، وفي إسناده أفلت بن خليفة قال أحمد ما أرى به بأسا وحسن ابن جحر في الفتح إسناده. إذا عرفت هذا فأعلم أن الواجب رد العين المغصوبة مثلية كانت أو قيمية فإن تلفت كان المالك مخيرا بين أخذ مثلها أو قيمتها على وجه يرضى به من غير فرق بين مثلي وقيمي ولكن إرجاع المثلى من أعلى أنواع الجنس وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح أقرب إلى دفع التشاجر وأقطع لمادة النزاع. وأما قوله: "فقيمته يوم الغصب" فوجهه أنه الوقت الذي تعلق فيه الضمان بالغاصب وقيل يوم التلف لأنه وقت وجوب الضمان والأولى أن يكون مضمونا بأوفر القيم من وقت الغصب إلى وقت التلف لأن هذه مظلمة فإذا زادت قيمة ذلك الشيء في بعض الأوقات فمن الجائز أنه لو كان باقيا بيد المالك لباعه بهذه الزيادة وقد قدمنا الكلام في هذا والعجب من المصنف ومن قال بمثل قوله حيث قالوا إن الرهن المقبوض بإذن مالكه مضمون على المرتهن بأوفر قيمة من القبض إلى التلف والغصب الذي هو ظلم بحت واستيلاء على جهة العدوان بغير إذن الشرع مضمون بقيمته وقت الغصب وقد أطال المصنف الكلام في هذا الفصل على القيمي والمثلي وقد عرفناك ها هنا

بما يتضح لك به الصواب في جميع هذه الأطراف التي ذكرها المصنف وقد قدمنا أن الزيادة مضمونة على كل حال فلا يتم ما ذكره من التخيير وأما الجزم بأنه يتعين الأخير لغير الغاصب الأول للغاصب فليس لهذه الدعوى وجه ولا عليها أثارة من علم. قوله: "والقول للغاصب في قدر القيمة". أقول: القول قول نافي الزيادة والبينة على مدعيها. وأما قوله: "والعين" فالصواب أن البينة على من سبق إلى التعيين والقول قول المنكر مع يمينه وأما كون بينة المالك أولى فوجهه أن يد الغاصب عدوانية فكانت بينته ضعيفة لضعف يده ولكن هذه العلة تقتضي أن لا يكون القول قوله في القيمة والعين كما ذكره المصنف لأن اليد العدوانية موجودة في الجميع وإذا اضعفت البينة أضعفت كون القول قوله. [فصل ويسقط عوض التالف حيث لا قيمة لحصصه لو قسم وتصير للمصالح تركة صارت لنقصانها كذلك وكذلك هو أو العين باليأس عن معرفة المالك أو انحصاره وحينئذ تعدد القيمة بتعدد المتصرف وإن بقيت العين وولاية الصرف إلى الغاصب ولا يصرف فيمن تلزمه نفقته إلا العين وفي نفسه خلاف ولا نجزيء القيمة عن العين ولا العرض عن النقد وتفتقر القيمة إلى النية لا العين وإذا غاب مالكها بقيت حتى اليأس ثم للوارث ثم للفقراء أو المصالح فإن عاد غرم التالف الدافع العوض إلى الفقراء لا إلى الإمام أو الحاكم فبيت المال وإن التبس منحصرا قسمت كما مر ولا يسقط بالإسلام بعد الردة ما يجامع الكفر ولا يضمن ما منع عنه مالكه بالزجر ما لم تثبت اليد ويضمن آمر الضعيف قويا فقط والقرار على المأمور] . قوله: "فصل: ويسقط عوض التالف" الخ. أقول: هذا كلام في غاية السقوط فإن الضمان قد وجب بالغصب وجوبا ثبت بيقين فكون مجرد قسمته بين الشركاء يصير بها نصيب كل واحد لا قيمة له يقتضي سقوط هذا الضمان المعلوم لا سقوط المالكين المتيقن بل يجب على الغاصب تسليم ذلك الشيء إليهم ويصنعون به ما أرادوا وإن بلغ في الحقارة إلى الغاية وتسامح الناس في المحقرات هي التي لا تكون مأخوذة على وجه الغصب أما المأخوذة على جهة الغصب فالتسامح بها أقل قليل وهكذا قوله وتصير للمصالح تركة صارت لنقصانها كذلك فإن هذا الحكم مجازفة عظيمة وجرأة على إخراج أموال العباد عن أملاكهم بغير برهان بل بمجرد وسوسة ناشئة عن خيالات مختلة.

وأما قوله: "وكذلك هو أو العين باليأس عن معرفة المالك أو انحصاره" فوجهه أنه إذا عرض هذا اليأس وتقرر تقررا صحيحا صار ذلك المال لا مالك له وإذا صار كذلك كان للمسلمين فيصرف في مصالحهم الذي يرجع الصرف إليها الإمام أو الحاكم. وأما قوله: "وحينئذ تعدد القيمة بتعدد المصرف وإن بقيت العين" فلا وجه له ولا سبب يقتضيه وقد عرفناك فيما سبق ما يكشف لك عن الصواب مع تعدد الغاصبين. قوله: "وولاية الصرف على الغاصب". أقول: هذا من غرائب المسائل وعجائب أهل الرأي فإن الغاصب ثبت على المغصوب بغير إذن الشرع بل عنادا له وتمردا ابتداء وانتهاء فمن أين يكون له ولاية الصرف بل واجب عليه عند التوبة وعدم وجود المالك أو عدم انحصاره أن يحمل تلك المظلمة إلى الإمام بعد أن يصرح له بالتوبة ويبين له أنه قد تعذر عليه التدارك وانسدت عليه أبواب التخلص وعلى الإمام أن يصرف ذلك فيما يراه من مصالح المسلمين وأما فرق المصنف بين العين وغيرها في الصرف فيمن يلزمه نفقته فهو أعجب وأغرب وليت شعري كيف صارت هذه الخرافات معدودة من أحكام الشرع وهكذا قوله وفي نفسه خلاف فالقائل بالجواز قد جاء بما يشبه المقامرة فجعل الولاية لليد الظالمة في الصرف ثم أقر المغصوب على اليد العدوانية زاعما أن هذا شرع الله فيالله وللمسلمين وأما عدم إجزاء القيمة عن العين فوجهه أن المظلمة متعينة فليس لمن إليه الصرف كما ذكرنا لا كما ذكره المصنف أن يصرف عنها القيمة إلا أن يرى في ذلك صلاحا وهكذا الكلام في صرف العرض على النقد ولا وجه الفرق بين القيمة والعين في النية ولكن ذلك من جملة هذه المسائل التي يضحك منها تارة ويبكي منها أخرى وأما إيجاب تسليم العين إلى الوارث مع اليأس عن رجوع المالك فذلك صواب لأن ذلك غاية ما يجب من الرجوع إلى ما يوجبه الشرع ويقتضيه العدل ومع عدم الوارث ولاية الصرف إلى الإمام يصرفها فيما يرجحه من مصالح المسلمين كما قدمنا. وأما قوله: "فإن عاد غرم التالف الدافع العوض إلى الفقراء" فوجهه أنه انكشف أن ذلك الصرف لخيال كاذب وأما إذا كان الصارف هو الإمام والحاكم فإن كان ذلك لتغرير عليهما من الغاصب بحصول اليأس الذي انكشف خلافة فالضمان على الغاصب وإلا كان الضمان عليهما من بيت المال مع عدم التغرير لأنهما أوقعا الصرف لخيال كاذب ولا يبعد أن يكون الضمان عليهما من أموالهما لم يتثبتا في الأمر كما ينبغي. وأما قوله: "وإن التبس منحصرا قسمت كما مر" فمبني على أن كل واحد من هؤلاء المنحصرين يدعى ملكها أو بعضها ما لو لم يكن الأمر كذلك فلا وجه لقسمتها بين من لا يطالب بها وتصير لمصالح المسلمين كما قدمنا. قوله: "ولا تسقط بالإسلام بعد الردة ما يجامع وجوبه الكفر". أقول: إن قام الدليل المقتضي لتخصيص ما ثبت من أن الإسلام يجب ما قبله كان المصير

إلى ذلك واجبا جمعا بين الخاص والعام وإن لم يثبت الدليل المقتضي لتخصيص ما ثبت كان الوقوف على العام هو الواجب والمسألة طويلة الذيل ولها مآخذ عدة. وأما قوله: "ولا يضمن ما منع عنه مالكه بالزجر" فجمود غير محمود فإن هذا غصب إذا خشي المالك نزول ضرر به من المتهدد له وثبوت اليد وصف طردي على على تقدير أنه أمر زائد على هذا المنع للمالك عن ملكه وأما كونه يضمن أمر الضعيف قويا فلكون الغصب لم يحصل إلا بأمره ولم يتم إلا بقوته والقرار عليه لا على المأمور فإنه لا تأثير له في ذلك.

كتاب العتق

كتاب العتق مدخل ... كتاب العتق [فصل يصح من كل مكلف ملك حاله لكل مملوك ولو كافرين ولا تلحق الإجازة إلا عقد ولا الخيار إلا الكتابة] . قوله: "فصل: ويصح من كل مكلف". أقول: وجهه ظاهر لأن تصرف الصبي والمجنون غير نافذ وأما اعتبار قيد الملك فمعلوم لأن عتق غير المالك وجوده كعدمه وأما كونه يصح لكل مملوك فلعدم المانع مع وجود المقتضي. وأما قوله: "ولو كافرين" فهذا مخالف لما قرروه في الأبواب التي هي قرب أنها لا تصح من الكافر ومعلوم أن المصنف هنا إنما يريد الصحة وأما ثبوت الثواب فلم يرد إلا في عتق المسلم للمسلم كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين [البخاري "5/146"، مسلم "22/1509"] ، وغيرهما [أحمد "2/420، 422، 429، 430، 431، 525"، الترمذي "1541"] ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه"، وكما في حديث أبي أمامة مرفوعا: "أيما أمريء مسلم أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزيء كل عضو منه عضوا منه"، أخرجه الترمذي "1547"، وصححه وأخرجه أيضا النسائي "8/163"، وابن ماجه 2522"، بإسناد صحيح وفي لفظ منه: "أيما امريء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانا فكاكه من النار يجزيء كل عضو منهما عضوا منه"، وأخرج أحمد "4/113، 386"، من حديث كعب بن مرة أو مرة بن كعب السلمي نحوه زاد فيه: "وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار يجزيء بكل عضو من أعضائها عضوا من أعضائها"، وفي الباب أحاديث فالكافر ليس له

من الأجر الحاصل بالعتق شيء إلا إذا أسلم من بعد كما في حديث: "أسلمت على ما أسلفت من خير" وهو في الصحيحين [البخاري "1436"، مسلم "194/120"، وغيرهما [أحمد "3/402"] ، من حديث حكيم بن حزام وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود قال قلنا يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال: "من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر"، ففيه أن الإساءة في الإسلام موجبة للمؤاخذة بأعمال الجاهلية كما أن حديث حكيم بن حزام يدل على أن الإسلام يوجب لصاحبه أن يكتب له ما عمل من أعمال الخير في الجاهلية. وأما قوله: "ولا تلحق الإجازة إلا عقده" فقد عرفناك غير مرة أنه لا اعتبار بما فعله الفضولي وأن الحكم ثبت بإجازة المالك وأما كونه لا يلحقه الخيار فلكون المالك مفوضا في ملكه فلا وجه لإثبات الخيار له إلا في عتق الكتابة لكونها معاوضة. [فصل وله ألفاظ وأسباب فصريح لفظه ما لا يحتمل غيره كالطلاق نحويا حر وأنت مولاي أو ولدي فإن أكذبه الشرع وثبت العتق لا النسب والعقل بطلا وكنايته ما احتمله غيره كأطلقتك وهو حر حذرا من القادر كالوقف إلا الطلاق وكنايته وبيعك لا يجوز وأنت لله وأسبابه موت السيد عن أم ولده ومدبريه مطلقا وعن أولادهما الحادثين بعد مصيرهما كذلك ولهم قبله حكم الرق غالبا ومثول المالك به بنحو لطم فيؤمر وإن لم يرافع فإن تمرد فالحاكم والولاء للسيد وملك ذي الرحم المحرم لجميعه أو بعضه فيضمن لشريكه إن اختار التملك موسرا بغير إذنه وإلا سعى العبد وانقضاء حيضتي أم ولد الذمي بعد إسلامها إن لم يسلم فيهما وتسعى ودخول عبد الكافر بغير أمان دارنا فأسلم قبل أن يؤخذ أو بأمان لا بإذن سيده أو أسلم وهاجر لا بإذن قبل إسلام سيده وبأمان وإذن بيع ورد ثمنه] . قوله: "فصل: وله ألفاظ" الخ. أقول: قد عرفناك غير مرة أن اعتبار ألفاظ خاصة وجعل بعضها صريحا وبعضها كناية كلام لا يوافق التحقيق وليس المراد إلا مجرد الدلالة على ما يريده المتكلم ويدل على أنه قد رضى بما أراده من معاوضة بينه وبين غيره أو مجرد صدور شيء عنه لا عن معاوضه ولو كان ذلك الدال إشارة من قادر على النطق ولا بد في المحتمل للعتق وغيره من الألفاظ أن يريد به العتق ويكون القول قوله إذ لا يعرف إلا من جهته فلا حاجة بنا إلى إطالة الكلام على ما ذكره المصنف من الألفاظ.

قوله: "وأسبابه موت السيد عن أم ولده ومدبره". أقول: مراده أن هذا السبب سبب نجاز العتق لأم الولد والمدبر وأما السبب الذي تعلق به العتق فهو الاستيلاد في أم الولد وإيقاع التدبير في المدبر وقد تقدم الكلام في بيع أم الولد مستوفى في كتاب البيع وسيأتي الكلام في جواز بيع المدبر مستوفى في باب التدبير. وأما قوله: "وعن أولادهما الحادثين بعد مصيرهما كذلك" فلا يخفاك أن هؤلاء الحادثين حدثوا بعد وجود سبب تعلق العتق بهما لا بعد وجود سبب نجاز العتق فالأولاد إذ ذاك أولاد من لم ينجز عتقه وينقذ تحريره فإذا مات السيد لم يكن نجاز عتقهما مقتضيا لعتق أولادهما لأنهم وجدوا قبل هذه الحالة ولم يرد ما يدل على هذا الحكم الذي ذكره المصنف بل لهم قبل الموت وبعده حكم الرق. قوله: "ومثول المالك به" الخ. أقول: إذا كانت المثلة بقطع شيء من أعضائه فقد ثبت الدليل الصحيح في العبد الذي جبّ سيده مذاكيره وجدع أنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اذهب فأنت حر" [أبو داود "4519", ابن ماجه "2680", أحمد "2/182"] وإن كانت المثلة باللطم أو الضرب فقد ثبت في صحيح مسلم ["30/1658"] وغيره [أبو داود "5168", أحمد "2/45, 61"] من حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه"، فدل هذا على أن تكفير ذلك اللطم أو الضرب يكون بالعتق وليس فيه دلالة على أن العتق حتم على السيد ولا أنه يعتق بنفس المثلة وقد قيد الضرب بما في صحيح مسلم بلفظ: "من ضرب غلاما له حدا لم يأته فإن كفارته أن يعتقه" فأفاد هذا أن الضرب الذي كفارته العتق هو ما بلغ حدا لما ورد من أنه لا يحل الجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ومما يؤيد عدم تحتم العتق في اللطم والضرب ما ثبت في صحيح مسلم "31/1658"، وغيره أبو داود "5167"، الترمذي "1542"، من حديث سويد من مقرن كنا بني مقرن على عهدرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أعتقوها"، وفي رواية أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا خادم لبني مقرن غيرها قال: "فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها"، فأفاد عدم تحتم العتق في الحال وأفاد أنه لا عذر منه عند الاستغناء ولكنه حكى النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض أنه قال أجمع العلماء أنه لا يجب إعتاق العبد بشيء مما يفعله سيده من مثل هذا الأمر الخفيف يعني الضرب الخفيف واللطم قال واختلفوا فيما كثر وشنع من ضرب مبرح منهك أو حرقه بنار أو قطع عضوا له أو أفسده أو نحو ذلك فذهب مالك والأوزاعي والليث إلى عتق العبد على سيده بذلك يكون له ولأولاده ويعاقبه السلطان على فعله وقال سائر العلماء لا يعتق عليه انتهى فإذا صح هذا الإجماع كان صارفا للأمر المذكور في حديث سويد بن مقرن من الوجوب إلى الندب فيكون الموجب للعتق من المثلة هو ما كان بقطع أو جدع أو تحريق وما عدا ذلك فإن شنع وأنهك فالأمر باق فيه على معناه الحقيقي ووقوع الإجماع على أنه لا يوجب العتق فلا صارف للأمر عن المعنى الحقيقي.

قوله: "وملك ذي الرحم المحرم". أقول: قد ورد من المرفوع بلفظ: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر"، [أبو داود "3949"، الترمذي "1365"، ابن ماجة "2524"، أحمد "5/20"] ، ما يشهد بعضه لبعض ويقوي بعضه بعضا وعلل ذلك بعلل لا تنافي التعاضد ولا سيما وقد صحح جماعة من الأئمة هذا اللفظ الذي ورد به الحديث فلم يبقى بعد ذلك معذرة عن العمل به فكان ملك ذي الرحم لرحمه أحد أسباب العتق الثابتة شرعا وما ذكره المصنف من ضمان الشريك لشريكه صحيح فإن كان معسرا أو ملكه بغير اختياره سعى العبد فقد ثبت أصل السعاية بالحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "5/132"، مسلم "3/1503"] ، وغيرهما [أبو داود "3938"، الترمذي "1348"، ابن ماجة "2527"، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق شقصا له من مملوك فعليه خلاصه في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدله ثم استسعي في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه". قوله: "وانقضاء حيضتي أم الولد" الخ. أقول: هذه المستولدة يسعها ما كان يسع من أسلم من العبيد والإماء في أيام النبؤة فإنهم كانوا يصيرون أحرارا بمجرد إسلامهم ولا يبقى لمن هم في ملكه عليهم يد ولا يخاطبون بسعاية ولا غيرها فكيف بهذه المستولدة التي حصل لها قبل إسلامها سبب من أسباب العتق فالعجب من إيجاب السعاية عليها لكافر بعد أن عصمها الله بالإسلام ذاتا ومالا وأطلقها من ريقة الرق. قوله: "ودخول عبد الكافر بغير أمان دارنا" الخ. أقول: وجه هذا أن أموال أهل الحرب على الإباحة من سبق إلى شيء منها ملكه فدخول العبد بغير أمان يكون به ملكا لمن سبق إليه فإذا أسلم قبل أن يؤخذ صار حرا بمجرد الإسلام لما قدمنا وأما إذا كان دخوله بأمان بإذن سيده فالأمان عصمة تمنع من أن يتملكه أحد لكنه إذا أسلم صار حرا بإسلامه وسيأتي تمام هذا البحث في كتاب السير إن شاء الله وكان على المصنف أن يجعل الإسلام سببا من أسباب العتق مطلقا. [فصل وإذا التبس بعد تعيينه في القصد عم الأشخاص فيسعون بحسب التحويل إن لم يفرط كحر بعبد إلا في الكفارة ويصح تعليق تعيينه في الذمة ويقع حين التعيين على الأصح فإن مات قبله عم وسعوا كما مرة وإن مات أو عتق أو استولد أو باع أحدهما تعين الآخر ويتقيد بالشرط والوقف ويقع بعدهما م حالهما والمعلل كالمطلق] . قوله: "فصل: وإذا التبس بعد تعيينه" الخ. أقول: هذه المسألة مبنية على محض الرأي وهو أن كل واحد قد صار محتملا لوقوع

العتق عليه فثبت له بذلك حق فمن هذه الحيثية عمهم العتق جميعا ويمكن معارضة هذا الرأي برأي أنهض منه فيقال الأصل عدم وقوع العتق فيتوقف على هذا الأصل ولا يثبت للواحد حق فيه إلا بيقين ولا يقين وهو مال الغيير معصوم بعصمة الإسلام فلا يخرج عن ملكه بمجرد الإحتمال وهذا أصل متفق عليه بخلاف من وقع العتق على جزء منه بيقين فإنه قد صار بعضه حرا وذلك حيث يعتق أحد الشريكين في العبد نصه وقد دلت الأحاديث على أن الشريك المعتق إذا كان موسار غرم قيمة نصيب شريكه وإن كان معسرا فقد اختلفت الأحاديث في ذلك ففي بعضها أنه يعتق من العبد ما قد عتق وهو نصيب الشريك ويبقى نصيب الآخر رقا وفي بعضها أن العبد يسعى فإن قلت إذا كانت هذه المسألة التي ذكرها المصنف هنا مبنية على الرأي وقد عارضته برأي أنهض منه فهل من مخلص عن هذين الرأيين بما فيه رائحة دليل يصلح للتمسلك به قلت قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته وليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق اثنين وأرق أربعة كما في حديث ابن عمر عند مسلم "56/1668"، وغيره أبو داود "3958"، الترمذي "1364"، النسائي "1958"، وابن ماجة "2345"، وكما في حديث أبي زيد الأنصاري عند أحمد "15/186"، وأبي داود "3960"، والنسائي "3804"، بإسناد رجاله رجال الصحيح فهذه القرعة فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستة أعبد قد وقع عتق المالك على كل واحد منهم ثم لما لم ينفذ إلا الثلث كان كل واحد منهم قد عتق ثلثه بيقين ثم حكم الصادق المصدوق بالقرعة فأرق من أرق وأعتق من أعتق على حسب ما اقتضاه الإقراع بينهم وهذا شرع واضح جاء به الذي جاءنا بما شرعه الله لنا وليس بيد من أنكر العمل بالقرعة إلا التشبث بالهباء وتأثير الآراء الرجال على الشريعة الواضحة التي ليلها كنهارها وكيف لا يثبت مثل هذا الحكم فيمن هو دون هؤلاء الستة الأعبد في استحقاق العتق وهو من كان واحدا من جماعة وقع عليه العتق ثم التبس بهم فلم يعرف من هو الذي وقع عليه العتق فإن كل واحد منهم ليس له إلا مجرد احتمال أن يكون العتق واقعا عليه فإن الرجوع إلى القرعة في مثل هذا ثابت بالفحوى ومن ترك العمل بمثل هذه السنة الواضحة زاعما بأنها مخالفة للأصول فليس لهذه الأصول وجود وليست إلا مجرد قواعد لم تدل عليها رواية ولا شهدت لها دراية على أن الرجوع إلى القرعة والعمل بها قد وقع من الشارع في مواضع أخرى ومن ذلك أنه كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ومن ذلك ما فعله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الجماعة المتنازعين في ولد الأمة المشتركة بينهم فقرره صلى الله عليه وسلم واستحسنه وقد تقدم فعرفت بهذا أن القرعة شرع ثابت واضح تنقطع به الشبه وتثبت به الحقوق وإذا تقرر لك هذا عرفت عدم صحة ما تفرع عن كلام المصنف من إيجاب السعاية وما بعدها. قوله: "ويصح تعليق تعيينه في الذمة" الخ. أقول: وجهه أنه أوقع العتق مجملا وعلق التعيين بوقت مستقبل فلا يعرف من وقع عليه العتق على التعيين إلا بالتعيين فهذا هو معنى كونه يقع حين التعيين وإن كان الإيقاع سابقا له ولكن لا حكم لهذا الإيقاع المجمل أي لا يترتب عليه شيء من أحكام الحرية.

وأما قوله: "فإن مات قبله عم" فلا وجه له بل الحق أنه يقرع ويعتق من عينته القرعة ولا سعاية. وأما قوله: "وإن مات" فوجهه أنه لم يبق محلا للتعيين إلا الحي وهكذا إذا أعتق أحدهما أو أستولده أو باعه فإن صدور أحد هذه الثلاثة الأمور تدل على اختياره لتعيين العتق فيمن لم يعتقه أو لم يبعه أو لم يستولده وأما كونه يتقيد بالشرط والوقت فظاهر لأن المالك محكم في ملكه ولا حجر عليه ولا يقع إلا بعد حصول الشرط أو حضور الوقت لأن ذلك هو نفاذ اللفظ وأما كون المعلل كالمطلق فظاهر لأنه لم يكن في التعليل ما يشعر بالتقييد. [فصل فمن قال اخدم أولادي في الضيعة عشرا ثم أنت حر بطل ببيعه أحدهما إلا الورثة وإلا عتق بمضي ما عرف تعليقه به من المدة أو خدمتهم قدرها ولو في غير الضيعة ومفرقة ومن مات فأولاده فقط وإن جهل قصده فبالمدة فيغرم أجره ما فوت وقيل بالخدمة فيعتق بهبة جميعها لا بعضها لكن يحاص في الباقي وحكم الرق باق للواهب حتى يستتم فإن مات قبله أخذ كسب حصته وإذا أعتقه منهم موسر غرم قيمته ومعسر سعى العبد والأيام للأسبوع وأكثرها لسنة وأياما لعشر وقليلة لثلاث وكثيرة لسنة وكل مملوك لمن لم ينفذ عتقه وأول من تلد لأول بطن وله نيته في كل لفظ احتملها بحقيقته أو مجازه] . قوله: فصل: "ومن قال أخدم أولادي في الضيعة عشرا ثم أنت حر" الخ. أقول: قد أوقع العتق مرتبا على فعل الخدمة ففي صحة بيعه منه نظر لأن هذا العبد قد صار له حكم المكاتب وسيأتي في الكتابة أن العوض يصح أن يكون مؤجلا ولا فرق بين تعليق العتق بتسليم مال أو بمنفعة لأن القصد قد تعلق في كل واحد من العتقين بعوض فالمكاتب لا يعتق إلا بتسليم مال الكتابة وهذا لا يعتق إلا بالخدمة ولا يصح أن يقال إن هذا من باب الوصية والرجوع عنها قبل الموت صحيح لأنا نقول هذا عتق معلق على حصول عوض فصار للعبد به حق وعلى تسليم أنه يقصر حكمه عن حكم الكتابة لإيقاع الكتابة في الحال فليس هذا بمنزلة دون منزلة المدبر فإنه علق عتقه بالموت وثبت له بذلك حق يمنع من بيعه إلا لفسق أو ضرورة كما سيأتي. وأما قوله: "لا الورثة" فوجهه أن ذلك التعليق قد نفذ بموت المالك كما تنفذ الوصية بموت الموصي بناء على أن لهذا العتق حكم الوصية وفيه ما قدمنا.

وأما قوله: "وإلا عتق بمضي ما عرف تعليقه من المدة" فلا وجه له لأن تلك المدة إنما هي ظرف للخدمة والمقصود هو الخدمة ولكن في ذلك الزمان وذلك المكان فلا يعتق إلا بإيقاع الخدمة عشر سنين في تلك الضيعة وليس هذا من الأوصاف الطردية فإنه ربما تعلق به غرض للمعتق يوجب اعتباره إلا أن يعرف من قصده أنه لا يريد إلا مجرد إيقاع الخدمة قدر تلك المدة في أي مكان وأما كون نصيب من مات من الأولاد لورثته فظاهر لأنهم يستحقون كل ما كان لمورثهم من الأموال والحقوق. وأما قوله: "فإن جهل قصده فبالمدة" فلا وجه له وكيف يجهل قصده بعد تصريحه بالخدمة في المدة المقررة في المكان المعين قصده وهو ما أفاده كلامه هذا فيجب الحمل عليه حتى يظهر من قصده ما يخالفه وهذا يغنيك عما ذكره المصنف إلى آخر البحث والأصل في هذا البحث حديث سفينة قال: "أعتقتني أم سلمة وشرطت علي أن أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عاش"، أخرجه أحمد "5/221"، والنسائي "4481"، وابن ماجه "2526"، وأبو داود "3832"] . قوله: "والأيام للأسبوع"، أقول: أفعال هو من مجموع القلة فيصدق بثلاثة أيام وتعريفه يدل على عهد ذهني أو خارجي فإن كان كذلك كان العمل على ما هو معهود للمتكلم وإن لم يكن كذلك فلا وجه لحمله على الأسبوع إلا إذا قصده المتكلم. وأما قوله: "أياما" فظاهر أنه يصدق على ثلاثة أيام لغة والظاهر عدم الزيادة كما هو شأن جموع القلة فلا وجه لقوله وقليله لثلاث لأن هذا هو مدلول اللفظ من غير وصف له بالقلة. وأما قوله: "وكثيره لسنة" فالظاهر أن هذا الوصف يصدق بمجرد وجود الزيادة على ثلاثة أيام الذي هو مدلول هذا الجميع فإن قصد المصنف رحمه الله ما تدل عليه لغة العرب فهو ما ذكرنا وإن كان بصدد بيان أعراف فإن ثبت للمتكلم عرف حمل كلامه عليه وإلا فلا. قوله: "وكل مملوك لمن لم ينفذ عتقه". أقول: هذا هو ظاهر هذا اللفظ العام لصدقه على كل من يصدق عليه أنه مملوك ولكن الظاهر أن القائل بهذه المقالة لا يقصد من قد حصل له سبب من أسباب عتقه. وأما قوله: "وأول من تلد لأول بطن" فالظاهر أنه لا يتناول إلا أول من وضعته إذا كان في بطنها أكثر من واحد فإن الثاني لا يصدق عليه لفظ أول إلا أن يكون له قصد فالعمل على القصد. وأما قوله: "وله نيته في كل لفظ" الخ فظاهر لأن النية هي التي تدور عليها الأحكام ولا بد مما ذكره المصنف من الاحتمال لأنه لو ادعى ما لا يحتمله لفظه لكان مدعيا خلاف الظاهر فلا يقبل بمجرد الدعوى.

[فصل ويصح بعوض مشروط فلا يقع إلا بحصوله ومعقود لا عن صبي ونحوه فيقع بالقبول أو ما في حكمه في المجلس قبل الإعراض فإن تعذر العوض وهو منفعة أو غرض فقيمة العبد أو حصة ما تعذر وبتمليكه جزءا من المال إن قبل لا عينا إلا نفسه أو بعضها وبالإيصاء له بذلك أوله وللغير منحصرا أو حصته وبشهادة أحد الشريكين على الآخر به قيل إن ادعاه ويصح في الصحة مجانا ولو علق بآخر جزء منها وله قبله الرجوع فعلا لا لفظا وينفذ من المريض ولو مستغرقا ومن غير المستغرق وصية ويسعى حسب الحال فيهما] . قوله: "فصل: ويصح بعوض مشروط" الخ. أقول: هذا مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف وقد كان السلف يعتقون مماليكهم على هذه الصفة فيقول أحدهم لعبده إن فعلت كذا فأنت حر إن أدركت كذا أنت حر إن لم يفتك كذا وبالجملة سواء كان العوض مالا أو منفعة فالأصل الصحة وأما الصبي ونحوه فقد عرفت أنه لا يصح تصرفهما ولا تصرف الولي عنهما إلا لمصلحة وإذا تعذر العوض المجعول في مقابلة العتق فإن عرف من القصد أن المراد تسليمه أو ما يماثله أو قيمته كان الرجوع إلى المثل أو القيمة هو الواجب وإن لم يعرف ذلك لم يقع العتق إلا بالعتق المعين ويبطل بتعذره. قوله: "وبتمليكه جزءا مشاعا من المال ". أقول: عتقه بهذا السبب ظاهر لأنه من المال فإذا ملكه جزءا منه فقد ملكه جزءا من نفسه وبتملكه جزءا من نفسه يصير مالكا لبعضه فيسري العتق إلى البعض الآخر منه كما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه وما ذكره من اعتبار القول لا بد منه لأنه لا ينتقل الملك من مالك إلى مالك إلا بوقوع التراضي منهما. وأما قوله: "لا عينا" فلا حاجة إليه إذا كانت العين غيره لأنه لا يكون ذلك عتقا ولا يقول به قائل ولا سبق إليه فهم وأما إذا كانت العين نفسه فلا حاجة إلى ذكر ذلك أيضا لأنه إذا عتق بتمليكه نفسه أو بعضها كان ذلك ثابتا بفحوى الخطاب وهكذا يعتق بالإيصاء له بالجزء المشاع أو بتمليكه نفسه أو بعضه كما لو دبره بعد موته ولكن لا بد أن يكون السيد عالما بأن هذا التمليك أو الإيصاء يحصل به العتق للعبد أما لو لم يكن عالما بذلك فلا يعتق أصلا لما عرفناك غير مرة من أن الرضا معتبر في كل معاملة ولا رضا ممن يجهل ما يستلزمه لفظه. قوله: "وبشهادة أحد الشريكين على الآخر به". أقول: هذا لا وجه له من شرع ولا عقل ولا رواية ولا دراية بل لا بد من كمال المناط

الشرعي وذلك بأن يشهد معه شاهد آخر أو يكمل المدعي للعتق بيمينه وكون الشريك شهد بما يضره لا يستلزم أن يقبل فيما يضر شريكه على أنه لا ضرر عليه ها هنا لأن القيمة ستلزم شريكه أو يسعى بها العبد وإلا فقد عتق من العبد ما عتق كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة والحاصل أنه لا وجه لجعل هذه الشهادة بمجردها سببا من أسباب العتق وكان على المصنف أن يذكر هذا السبب والذي قبله في أسباب العتق التي تعرض لذكرها في أول هذا الكتاب. قوله: "وينفذ في الصحة مجانا". أقول: وجهه ظاهر لأنه تصرف مالك في ملكه مع وجود المقتضى وعدم المانع وهذا من الظهور بمكان يغني عن تدوينه في المختصرات وهكذا يصح التعليق بآخر جزء من أجزاء صحته ولا وجه لصحة الرجوع لا فعلا ولا لفظا لأنه قد أوقع العتق ومجرد تعليقه لا يصلح مسوغا للرجوع عنه وليس هذا من باب الوصية حتى يقال فيه ما قيل فيما تقدم في فصل خدمة الأولاد وأما كونه ينفذ من المريض فظاهر لأن ملكه لم يخرج عنه فله أن يتصرف به كيف شاء ما لم يجاوز الثلث فإن جاوزه رد إلى الثلث كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق ستة أعبد لم يكن له من المال سواهم وقد تقدم ومعلوم أن هذا العبد المعتق حال المرض إذا كان يخرج كله من الثلث أو يخرج بعضه منه صار حرا بذلك وأما على تقير أن التركة مستغرقة بالدين فذلك مانع من تصرف المالك فيها بوجه من الوجوه لأنه بمثابة الحجر له إلا أن يرضى أهل الدين بالسعاية من العبد. [فصل ولا يتبعض غالبا فيسري وإلى الحمل لا الأم ويسعى لشريك المعتق إلا أن يعتقه موسر ضامن ومن أعتق أم حمل أوصى به ضمن قيمته يوم وضعه حيا فقط إلا للشريك في الأم فيتداخلان] . قوله: "فصل: ولا يتبعض". أقول: اختلفت الأحاديث في هذا ففي بعضها في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه العبد قيمة عدل فأعطى شركاه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق"، فهذا الحديث يدل على أن السراية إلى نصيب الشريك إنما تثبت مع وجود مال الشريك المعتق يمكن منه غرامة قيمة نصيب الشريك وإذا لم يكن له مال فلا سراية ويعتق نصيب المعتق ويبقى نصيب شريكه رقا وفي لفظ في الصحيحين [البخاري "5/150"، وغيرهما أبو داود "3947"، من هذا الحديث: "من أعتق عبدا بينه وبين آخر قوم عليه في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرا"، وفي الصحيحين ألفاظ مصرحة بتقييد وقوع العتق بكون الشريك موسرا

وهي تفيد أنه إذا كان معسرا فلا يعتق إلا نصيب الموقع للعتق وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق شقصا له من مملوك فعليه خلاصة في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعي في نصيب الذي لم يعتق غير مشقوق عليه"، فأفاد هذا الحديث أنه إذا كان الشريك الذي أوقع العتق معسرا عتق العبد كله وسعى العبد في نصيب الشريك الآخر فالجميع بين هذه الأحاديث الثابتة في الصحيحين وما ورد في معناها خارج الصحيحين أن الشريك الموقع للعتق إن كان موسرا ضمن قيمة نصيب الشريك من ماله وإن كان معسرا فإن كان العبد قادرا على السعاية واختار ذلك عتق جميعه وسعى وإن لم يكن قادرا على السعاية أو أبى أن يسعى فقد عتق منه ما عتق وهو نصيب الذي أعتقه ويبقى نصيب الآخر رقا وليس في هذا ما يقتضي المنع منه من شرع ولا عقل وإنما قلنا إنه يعتبر رضاء العبد بالسعاية جميعا بين حديث السعاية وبين حديث: "وإلا فقد عتق منه ما عتق"، فإذا رضي العبد ببقاء بعضه قنا ثم يجبر على خلاص نفسه بالسعاية عليه لأن ذلك أمر نفعه له فإذا اختار تركه لم يجبر عليه كما تدل عليه قواعد الشرع ولا سيما وهو يتمسك ها هنا بسنة صحيحة ثابتة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وإلا فقد عتق منه ما عتق"، ومن شك في ثبوتها فشكه مدفوع مرفوع بترجيح الأئمة من الرواة لثبوتها ورفعها وقد أوضحت الكلام فيما قاله الحفاظ في زيادة وإلا فقد عتق منه ما عتق وفي زيادة ذكر الاستسعاء للعبد في شرحي للمنتقي فليرجع إليه. قوله: "وإلى الحمل". أقول: لا دليل يدل على هذه السراية فإن كان الدليل القياس على سراية عتق الجزء المشاع إلى الباقي فليس هذا كذلك فإن هذا جزء منفصل وإن كان إيقاع العتق على الأم متصلا فاتصاله إنما هو الإيصال الكائن بين الظرف والمظروف وليس لذلك اعتبار وعلى هذا فلا حاجة إلى قوله ومن أعتق أم حملالخ.

باب والتدبير

[باب والتدبير يصح من الثلث بلفظه كدبرتك وبتقييد العتق بالموت مطلقا مفردا لا مع غيره إن تعقب الغير قيل فوصية تبطل بالاستغراق] . قوله: "باب: والتدبير يصح من الثلث". أقول: وجه هذا المدبر حر من الثلث ولكنه لم يثبت دفعه من طريق يقوم بها الحجة والحفاظ قد جزموا بأنه موقوف والموقوف لا حجة فيه ويمكن أن يقال إن التدبير لما كان مضافا إلى ما بعد الموت كان له حكم الوصية وهي في هذه الصورة نافذة من الثلث وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلث كثير"، [البخاري "1295"، مسلم "5/1628"، أبو داود "2864"، الترمذي

"2116"، النسائي "6/241، 242"، ابن ماجة "2708"، أحمد "1/179"] ، ويؤيد ذلك حديث الأعبد الستة المتقدم ذكره فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفذ عتق الثلث منهم بالقرعة حيث لم يكن للمعتق مال سواهم. قوله: "بلفظه كدبرتك أو أنت مدبر". أقول: هذا ظاهر وهكذا تقييد العتق بالموت مطلقا لأنه معنى التدبير فلا فرق بينه وبين قوله دبرتك وأما إذا قيده بموته وحصول شيء آخر معه وتأخر ذلك الآخر فجزم المصنف بأنه لا يصح ذلك لأنه قد صار ملكا للورثة بموته ولا وجه لهذا فإن هذا وصية بالعتق وله حكمها عند المصنف وغيره وكان عليه أن يقرر هذا ويختاره كما قرره فيما سبق وقد قدمنا ما يرشد إلى ما هو الصواب. [فصل ولا تبطله الكتابة وقتل مولاه ويحرم بيعه إلا لفسق أو ضرورة فيطيب للشريك حصته ولو موسرا فإن زالا وفسخ بحكم أو قبل التنفيذ حرم ويسري إلى من ولد بعده ويوجب الضمان فمن دبره اثنان ضمنه الأول إن ترتبا وإلا سعى لمن تأخر موته وله قبل الموت حكم الرق إلا في البيع] . قوله: "فصل: ولا تبطله الكتابة". أقول: قد صار العبد مستحقا للحرية بالتدبير وهو عتق مقيد بالموت فليس للسيد أن يجبره على الكتابة فإن اختار ذلك فمن نفسه لأنه رضي بحمل مؤنة مال الكتابة وقد كان عنها في سعة وحينئذ يعتقه بالسبب الأسبق وقد أخرج البخاري في التاريخ عن محمد بن قيس ابن الأحنف عن أبيه عن جده أنه أعتق غلاما له عن دبر وكاتبه فأدى بعضا وبقي بعض ومات مولاه فأتوا ابن مسعود فقال: ما أخذ فهو له وما بقي فلا شيء لكم. وأما قوله وقتل مولاه فوجهه ظاهر لأن القتل لا يرفع التدبير الذي وقع عليه واستحق الوفاء به والمعصية بالقتل لا تبطل ذلك كما لم تبطله سائر المعاصي والقياس على الميراث قياس مع الفارق. قوله: "ويحرم بيعه إلا لفسق أو ضرورة". أقول: استدل القائلون بتحريم بيعه بما أخرجه الشافعي والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا: "المدبر لا يباع ولا يوهب وهو حر من الثلث"، وفي إسناده عبيدة ابن حسان وهو منكر الحديث والحفاظ يقفونه على ابن عمر وقال الدارقطني في العلل الأصح وقفه وقال العقيلي لا يعرف إلا بعلي بن ظبيان وهو منكر الحديث وقال أبو زرعة الموقوف أصح وقال ابن القطان المرفوع ضعيف وقال البيهقي الصحيح موقوف وقد روى عن علي ونحوه موقوفا

عليه وعن أبي قلابة مرسلا أن رجلا أعتق عبدا له عن دبر فجعله النبي صلى الله عليه وسلم من الثلث ولا يخفاك أن مثل هذا لا ينتهض للاستدلال به على التحريم للبيع لأن المرفوع لم يصح والموقوف لا حجة فيه لكن لما كان السيد قد أوقع العتق للعبد مقيدا بموته كان هذا هو المانع من البيع لأنه قد أخرجه عن ملكه إخراجا مقيد بوقت فليس له أن ينقض ما أبرمه وأما تسويغ بيعه للفسق فليس في هذا إلا ما أخرجه الشافعي والحاكم والبيهقي عن عائشة أنها باعت مدبرتها التي سحرتها وهذا لا تقوم به حجة لأنه فعل صحابي وأيضا السحر كفر فتلك المدبرة قد صارت كافرة بما فعلته من السحر وأما جواز بيعه للضرورة فلما ثبت في الصحيحين [البخاري "2534"، مسلم "58/997"] ،وغيرهما [أبو داود "3955"، ابن ماجة "2513"، النسائي "5/69، 80"] ، من حديث جابر أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من يشتريه مني؟ "، فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه فهذا دليل على جواز البيع للحاجة ومما يدل على أن البيع لأجلها تولي النبي صلى الله عليه وسلم للبيع فإن ذلك يفيد أن المدبر للعبد قد أنهى الأمر إليه وشكا إليه حاجته إلى بيعه ولكنه شك في الجواز مع التدبير فأستفتي النبي صلى الله عليه وسلم فباعه ولولا ذلك لم يبلغ الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا ما وقع في رواية للنسائي من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم باعه بثمانمائة درهم فأعطاه فقال: "اقض دينك وأنفق على عيالك"، فإن هذا يدل على أن البيع لحاجة قضاء الدين والنفقة على العيال فلا يجوز إلحاق البيع لغير حاجة بالبيع لحاجة لوجود الفارق وقد ذهب إلى عدم جواز البيع مطلقا الجمهور كما قال النووي ونقله البيهقي في المعرفة عن أكثر الفقهاء والحديث يرد عليهم. وأما قوله: "وتطيب للشريك حصته ولو موسرا" ففيه نظر فإن تسويغ البيع للشريك المحتاج لا يستلزم تسويغه للشريك الموسر لكن لما كان عتق الشريك يسري إلى نصيب شريكه بالأدلة المتقدمة وكان ضمان السراية على الشريك إن كان موسرا وإلا سعى العبد كان الأمر هنا هكذا فلا يطيب له ما يدفعه المشتري بل يطيب له ما يغرمه الشريك أو سعى به العبد. وأما قوله: "فإن زالا" الخ فصحيح لأن العبد المدبر قد عدم المقتضي لبيعه ووجد المانع منه. وأما قوله: "ويسري إلى من ولد بعده" فليس على هذا دليل يدل عليه لا من رواية ولا من دراية كما قدمنا, أما قوله: "فمن دبره اثنان ... " فصحيح لأن السابق بالتدبير قد أوقع العتق مقيدا فيضمن للشريك إن كان موسرا ويسعى العبد إن كان معسرا إذا اختار العبد ذلك على ما تقدم تقريره وهكذا من دبره اثنان ضمنه الأول إن ترتبا وإلا سعى العبد لمن تأخر موته لأنه عتق بموت الأول لكن ينبغي أن يقال إن الأول موتا يضمن من تركته فإن كان فقيرا سعى العبد إن اختار ذلك وإلا فلا يعتق إلا نصيب من تقدم موته ويبقى نصيب الآخر رقا حتى يموت فيعتق جمعا بين الأدلة كما تقدم وأما كون للمدبر قبل الموت حكم الرق فوجهه ظاهر لأنه لم يجعل عتقه مقيدا بالموت إلا لأجل الانتفاع به قبل الموت وأما استثناء البيع فللدليل المتقدم وهكذا سائر التصرفات.

باب الكتابة

باب الكتابة قوله: "باب الكتابة" أقول: ذهب الجمهور إلى أنها غير واجبة وذهبت الظاهرية إلى أنها واجبة ونقله ابن حزم عن مسروق والضحاك وزاد القرطبي معهما عكرمة وهو قول للشافعي واختاره ابن جرير الطبري وحكاه المصنف في البحر عن عطاء وعمرو بن دينار وقال اسحق بن راهويه إنها واجبة إذا طلبها العبد. احتج القائلون بالوجوب بقوله سبحانه: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] ، وأجاب الجمهور عن الاستدلال على الوجوب بهذه الآية بأجوبة منها ما قاله الإصطخري إن القرينة الصارفة للأمر المذكور في الآية هو الشرط المذكور في آخرها وهو قوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} فإنه وكل الاجتهاد في ذلك إلى المولى ومقتضاه أنه إذا رأى عدمه لم يجبر عليه فدل على أنه غير واجب ومنها ما قال غيره إن الكتابة عقد غرر فكان الأصل أن لا يجوز فلما وقع الإذن فيها كان أمرا بعد منع والأمر بعد المنع للإباحة ومنها ما قاله القرطبي إنه لما ثبت أن رقبة العبد وكسبه ملك لسيده دل على أن الأمر بالكتابة غير واجب لأن قوله خذ كسبي وأعتقني يصير بمنزلة أعتقني بلا شيء وذلك غير واجب اتفاقا وقد أجيب بأجوبة غير هذه والحق أن الآية قد دلت على وجوب الكتابة مع علم السيد بالخير في عبده وقد عمل بهذه الآية عمر بن الخطاب كما في صحيح البخاري عن موسى بن أنس أن سيرين سأل أنس بن مالك المكاتبة وكان كثير المال فأبى فانطلق إلى عمر فقال كاتبه فأبى فضربه بالذرة وتلى عمر: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] . [فصل يشترط في المكاتب التكليف وملك في الرقبة والتصرف وفي المملوك التمييز وفيها لفظها والقبول في المجلس بالتراضي وذكر عوض له قيمة وإلا بطلت معلوم كالمهر يصح تملكه مؤجل منجم لفظا ولو عجل وإلا فسدت فيعرض للفسخ ويعتق بالأداء وتلزم القيمة] . قوله: "يشترط في المكاتب التكليف". أقول: وجه ذلك أنها عقد معاوضة والصبي والمجنون غير جائزي التصرف وهكذا يشترط كونه مالكا للرقبة لأن صحة العتق وقبض العوض غير مترتبه على صحة الملك. وأما قوله: "وفي المملوك التمييز" فلا وجه له بل لا بد أن يكون مكلفا جائز التصرف وأما ما ذكره من القبول في المجلس فالتراضي لا بد منه وهو المناط في ثبوت ذلك ولا يشترط

المجلس بل لو رضي أحدهما بعد مدة والآخر باق على الرضا كان ذلك معاملة صحيحة وتصرفا شرعيا وأما اشتراط ذكر عوض له قيمة فوجهه أنه لا يوجد معنى الكتابة إلا بذلك وإلا لم تكن مكاتبة وهو معنى ما ذكره المصنف من البطلان وهكذا لا بد أن يكون مال الكتابة مما يصح تملكه فإن كان لا يصح تملكه فوجوده كعدمه وحينئذ لا توجد معنى الكتابة. قوله: "مؤجل منجم لفظا". أقول: لم يثبت شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا وهو الحجة لا ما وقع من أفعال بعض الصحابة أو أقوالهم على أنهم يختلفون في ذلك فإنه أخرج الدارقطني عن أبي سعيد المقبري قال اشترتني امرأة من بني ليث بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم فأذهبت إليها عامة المال ثم حملت ما بقي إليها فقلت هذا مالك فاقبضيه فقالت: لا والله حتى أقبضه منك شهرا بشهر وسنة بسنة فخرجت به إلى عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له فقال عمر ارفعه إلى بيت المال ثم بعث إليها هذا مالك في بيت المال وقد عتق أبو سعيد فإن شئت فخذي شهرا بشهر وسنة بسنة قال فأرسلت فأخذته وأخرجه أيضا البيهقي وإذا عرفت عدم وجود دليل على لزوم النتجيم فلا يتم ما ذكره المصنف من الفساد ولا ما رتبه عليه. [فصل ويملك بها التصرف كالسفر والبيع وإن شرط تركه لا التبرع كالنكاح والعتق والوطء بالملك وله ولاء من كاتبه إن عتق بعده وإلا فلسيده ويرده في الرق اختياره ولا وفاء عنده ولو كسوبا وعجزه لا بفعل السيد عن الوفاء للأجل بعد أمهاله كالشفعة فيطيب ما قد سلم إلا ما أخذه عن حق فلأهله ويصح بيعه إلى من يعتقه برضاه وإن لم يفسخ وإذا أدخل معه غيره في عقد لم يعتقا إلا جميعا ولا يعتق ما اشتراه ممن يعتق عليه لا بعتقه ولو بعد الموت بأن خلف الوفاء أو أوفى عنه وله كسبه لا بيعه ومتى أسلم قسطا صار لقدره حكم الحرية فيما يتبعض من الأحكام حيا وميتا ويرد ما أخذ بالحرية إن رق ولا يستتم إن عتق ويسري كالتدبير وتوجب الضمان ويستبد به الضامن إن عجز وله قبل الوفاء حكم الحر موقوفا غالبا] . قوله: "فصل: ويملك بها التصرف كالسفر والبيع وإن شرط تركه". أقول: هذا يقتضيه عقد الكتابة فليس للسيد المنع منه وهكذا ليس له المنع من التبرع كالنكاح والعتق والوطء بالملك لأنه لم يبق للسيد إلا ما جعله عليه من المال فإن وفى به كان

حرا وإن عجز عنه عاد عبدا وقد وقع منه ما وقع في وقت ملكه للتصرف فلا يمنع من شيء من ذلك وإن انتهى الحال إلى دخول نقص على السيد بما فعله العبد من التبرعات فهو فعل ذلك بإذن سيده له بإيقاع به المكاتبة له ولا ينافي هذا حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد "2/184"، وأبي داود "3927"، والترمذي "1260"، وابن ماجه "2519"، والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأدها إلا عشر أوقيات فهو رقيق"، وفي لفظ لأبي داود "3926"، "المكاتب رقيق ما بقي عليه من مكاتبته درهم"، وقد أثبت المصنف أن للمكاتب ولاء من كاتبه أن عتق بعده وهذا يدل على جواز تصرفاته قبل الوفاء بمال الكتابة بمثل هذا. قوله: "ويرده في الرق اختياره". أقول: ليس ببعيد هذا بعد الدخول في الكتابة والتراضي عليها ولا وجه لقوله ولا وفاء عنده فإن الظاهر عد الجواز مطلقا لأنه تلاعب بما قد تحقق فيه المناط الشرعي وهو التراضي وأما عجزه فظاهر لحديث عمرو بن شعيب المتقدم ولكونه لم يحصل بعد العجز ما هو معنى الكتابة وأما كونه يطيب ما قد سلم فوجهه أن العبد لا يملك وأما من قال إنه يملك فلا يطيب للسيد. وأما قوله: "ويصح بيعه إلى من يعتقه برضاه" فهو أيضا نقض من جهة السيد لما وقع التراضي عليه فلا يحل ولا ينافي هذا حديث بريرة وإعانة عائشة لها على تسليم ما كوتبت عليه أن ذلك هو تسليم لمال الكتابة من الغير لا بيع من المكاتب للمكاتب إلى الغير لكنه ثبت في رواية في الصحيحين [البخاري "5097، 5279"، مسلم "173/1075، 14/1504"] ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق"، فأفاد هذا جواز بيع المكاتب. وأما قوله: "وإذا دخل المكاتب معه غيره لم يعتقا إلا جميعا" فوجهه ظاهر لأنه رضي لنفسه بذلك. وأما قوله: "ولا يعتق ما اشتراه ممن يعتق عليه إلا بعتقه" فوجهه أنه لا يملكه ملكا مستقرا إلا بذلك. قوله: "ومتى سلم قسطا صار له حكم الحرية" الخ. أقول: استدل القائلون بهذا التبعيض لما أخرجه أحمد "1/260، 292، 263"، وأبو داود "4581"، والنسائي "4809"، والترمذي "3/560"، بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤدي المكاتب بحصه ما أدى دية الحر وما بقي دية العبد"، وبما أخرجه أحمد "1/94"، وأبو داود "4/707"، ومن حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يؤدي المكاتب بقدر ما أدى"، وأخرجه البيهقي أيضا من طرق فقد أثبت الشارع للمكاتب التبعض في هذا الحكم فيلحق به غيره مما يمكن تبعضه ولا ينافي هذا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب رقيق ما بقي عليه درهم"، وقوله: "أيما عبد كوتب بمائة أوقية فأداها إلا عشر أوقيات فهو رقيق"، فإن هذا إنما

هو باعتبار أنه لا يصير حرا خالصا إلا بالوفاء وليس في حديثي التبعض إلا إثبات حكم الكتابة له قبل الوفاء لا إثبات أحكام الحر الخالص فلا معارضة بين الأحاديث. وأما قوله: "ويرد ما أخذ بالحرية إن رق" فوجهه ظاهر لأنه انكشف بطلان ذلك المقتضى ووجود المانع ولعن كان مقتضى هذا أنه سيتم إن عتق اعتبار بالانتهاء في الموضعين ولا وجه للحكم عليه بأنه يرد إن رق مع الحكم عليه بأنه لا يستتم إن رق لأنه تغليط عليه فيما هو عليه وتخفيف فيما هو له بلا فارق من رواية ولا دراية. وأما قوله: "ويسري ويوجب الضمان" فالكلام هنا كما قدمنا في التدبير فليرجع إليه. وأما قوله: "وله قبل الوفاء حكم الحر" فليس بصواب بل الحق ما قدمنا بأن له قبل الوفاء حكما بين حكمي الحر والعبد إلا في رجوعه في الرق إذا عجز فإن له في ذلك حكم العبد.

باب الولاء

[باب الولاء إنما يثبت ولاء الموالاة لمكلف ذكر حر مسلم على حربي أسلم على يده وإلا فلبيت المال حتى يكمل وولى العتاق يثبت للمعتق ولو بعوض أو سراية أصلا على من أعتقه وجرا على من أعتقه عتيقه أو ولده ولا أخص منه ولا يباع ولا يوهب ويلغو شرطه للبائع ولا يعصب فيه ذكر أنثى ويورث ويصح بين الملل المختلفة لا التوارث حتى يتفقوا وأن يكون كل مولى لصاحبه وأن يشترك فيه والأول على الرؤوس والآخر على الحصص ومن مات فنصيبه فى الأول لشريكه وفي الآخر للوارث غالبا] . قوله: "باب: الولاء إنما يثبت ولاء الموالاة لمكلف ذكر حر". أقول: استدل على إثبات التوارث بولاء الموالاة بما أخرجه أحمد "4/102"،وأبو داود "2918"، والترمذي "2112"، وابن ماجه "2752"، عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السنة في الرجل من أهل الشرك يسلم على يد رجل من المسلمين؟ قال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته"، قال الترمذي "4/727"،لا تعرفه إلا في حديث عبد الله بن وهب ويقال ابن موهب عن تميم الداري وقد أدخل بعضهم بين عبد الله بن موهب وبين تميم الداري قبيصة بن ذؤيب وهو عندي ليس بمتصل انتهى وقال الشافعي في هذا الحديث ليس بثابت إنما يرويه عبد العزيز بن عمر بن ابن وهب عن تميم الداري وابن موهب ليس بالمعروف عندنا ولا نعلمه لقي تميما ومثل هذا لا يثبت عندنا ولا عندك من قبل أنه مجهول ولا أعلمه متصلا وقال الخطابي ضعف أحمد بن حنبل حديث تميم الداري وقال عبد العزيز رواية ليس هو من أهل الحفظ والاتقان وقال البخاري في الصحيح

واختلفوا في صحة هذا الخبر وقال أبو مسهر عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ضعيف الحديث انتهى وأقول عبد العزيز من رجال الصحيحين وقد قال يحيى بن معين إنه ثقة وعبد الله بن وهب وثقه الفسوي وقال في التقريب ثقة ولكن لم يسمع من تميم فلا يتم ما قاله الشافعي من أنه مجهول ولكن علة الحديث أن قبيصة لم يلق تميما ولا يعارض هذا ما أخرجه أحمد "4/131"،وأبو داود "2899، 2901"، والنسائي "6354/1، 6357/4"، وابن ماجه "2738"، والحاكم وابن حبان وصححاه وحسنه أبو زرعة الرازي من حديث المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرث"، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت أنه وارث من لا وارث له ومولى الموالاة وارث بالحديث المتقدم عنه صلى الله عليه وسلم فهو أقدم من بيت المال وتؤيد هذا ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له"، ولا يعارض الحديث المذكور أيضا ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث عائشة أن مولى للنبي صلى الله عليه وسلم خر من عذق نخلة فمات فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل له من نسيب أو رحم؟ "، قالوا: لا قال: "أعطوا ميراثه بعض أهل قريته"، لأن هذا منه صلى الله عليه وسلم من باب الصرف لما هو أولى به وذلك جائز وهكذا يحمل على الصرف ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث بريدة قال توفي رجل من الأزد فلم يدع وارثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوه إلى أكبر خزاعة"، وفي إسناده جبريل بن أحمر قال النسائي منكر الحديث وقال أبو زرعة الرازي شيخ وقال يحيى بن معين كوفي ثقة وبهذا تعرف أنه لا معارضة بين هذه الأحاديث وإن زعم ذلك بعض أهل العلم ولا وجه لاشتراط الذكوره لأن المرأة من جملة من يتعلق به أحكام الشرع إلا ما خصها منه دليل ولا يصلح لذلك ما في حديث تميم من قوله: "ما السنة في الرجل من أهل الشرك يسلم على يد رجل من المسلمين" فإن ذكر الرجل خارج مخرج الغالب كما في سائر الخطابات الشرعية وأما اشتراط الحرية والإسلام فصحيح لأن الرق والكفر من موانع الأرث. وأما قوله: "وإلا فلبيت المال حتى يكمل" فمبني على أنه لا حق لغير المكلف في ولاء الموالاة وفيه نظر وعلى التسليم فلا وجه لانتظار حصول شرط لم يكن حاصلا في الحال سواء كان بلوغ الصبي أو حرية العبد أو إسلام الكافر. قوله: "وولاء العتاق يثبت للمعتق" الخ. أقول: هذا ثابت بالأدلة الصحيحة المتواترة وبالإجماع الصحيح ولم يقل أحد شيء يخالف ذلك وأما دعوى العتيق إذا لم يخلف سيده وارثا يرثه فمن أعجب ما يقرع الأسماع مع كونها مخالفة للإجماع وأما الاستدلال لهذه الدعوى الداحضة بمثل حديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب"، فقد بينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يباع ولا يوهب"، فإن هذا هو المراد بالتشبيه على أنه لا ملجيء للجواب على هذا لأن المراد به أن هذه الوصلة والوسيلة بالولاء لاحقة

بالنسب فيما أثبته الشرع لها ونفاه عنها فما الدليل على أن الميراث من جملة ذلك وبهذا تعرف أن الاستدلال بهذا الحديث مصادرة عن المطلوب وهكذا الاستدلال بحديث: "مولى القوم منهم" فإنه منهم فيما أثبته له الشرع من الأحكام وأما ما روى أن رجلا مات ولو يترك وارثا إلا غلاما كان أعتقه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه وابن ماجه من حديث ابن عباس وفي إسناده عوسجة مولى ابن عباس وفيه مقال فإن هذا ظاهر في أن الغلام هو الذي أعتق وعلى تقدير الاحتمال فلا حجة في المحتمل وعلى كل حال فللصرف في عتيق من لا وارث له مدخل في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان هو وارث من لا وارث له له نوع أخصية بصرف ميراثه أو بعضه فيه. وأما قوله: "ولو بعوض أو سراية" فظاهر وهكذا قوله: "أصلا على من أعتقه" الخ. وأما قوله: "لا يباع ولا يوهب" فللحديث المتقدم وهو في الصحيح ووجه قوله ويلغو شرطه للبائع أن ذلك يستلزم رفع موجب البيع وقد ثبت أن الولاء لمن أعتق ولا يكون العتق إلا من مالك. قوله: "ولا يعصب فيه ذكر أنثى". أقول: ينبغي أن ينظر في دليل هذه الكلية فإنه إذا قد ثبت الأرث به كان له أحكامه ومن أحكامه أنه يعصب فيه الذكر الأنثى ولم يثبت في ذلك ما تقوم به الحجة وأما قول بعض الصحابة فلا يصلح للاحتجاج به ولا يخصص ما تقتضيه الأدلة الواردة على ما تقتضيه قواعد الميراث. أما قوله: "ويورث به ولا يورث" فمعنى إثبات الإرث فيه ظاهر ومعنى كونه لا يورث أنه يستحقه الأعلى درجة كما لو خلف رجل ولدين وقد كان أعتق عبدا فمات أحد الولدين وخلف ولدا ثم مات العتيق فإن ميراثه لابن المعتق دون ابن ابنه الآخر وهذا لا مستند له إلا ما روى أحمد في المسند عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن مسعود أنهم قالوا الولاء للكبر ولكن الأولى الرجوع إلى ما ثبت مرفوعا فهو الحجة وهو ما أخرجه أحمد "1/241، 424"، وأبو داود "2917"، والنسائي "6348/6، 6349/4"، وابن ماجه "2732"، وصححه ابن المديني وابن عبد البر عن عمر بن الخطاب أنه تخاصم إليه جماعة في مثل هذا فقال أقضي بينكم بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان". وأما قوله: "ويصح بين الملل المختلفة" فهو مبني على ما تقدم من صحة إيقاع العتق من الكافر وقد قدمنا ما فيه وأما كونه لا توارث بهذا الولاء حتى يتفقوا في الملة فظاهر للأحاديث المصرحة بأنه لا توارث بين أهل ملتين مختلفتين وهكذا يصح أن يكون كل واحد مولى للآخر كما لو أعتق الرجل عبدا لم لحق الرجل بدار الحرب فسباه عبده الذي هو عتيق له فأعتقه وهكذا يصح أن يشترك فيه الجماعة وذلك بأن يشترك في عبد جماعة فيعتقونه أو يسلم الكافر

على يد جماعة ويكون ولاء العتاق على قدر الحصص وولاء الموالاة على الرؤوس لأن لكل واحد منهم حقا يساوي حق الآخر. وأما قوله: "ومن مات فنصيبه" الخ فالظاهر استؤ ولاء العتاق وولاء الموالاة في أن نصيب كل واحد منهم لورثته لا لشريكه كما تقتضيه أدلة الميراث على العموم ولا وجه للفرق بين الولائين إلا مجرد الرجوع إلى رأي وقد قدمنا الكلام على قوله: "ولا يورّث".

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان مدخل ... كتاب الإيمان [فصل إنما يوجب الكفارة الحلف من مكلف مختار مسلم غير أخرس بالله أو بصفة لذاته أو لفعله لا يكون على ضدها كالعهد والأمانة والذمة أو بالتحريم مصرحا بذلك قصد إيقاع اللفظ ولو أعجميا أو كانيا قصده والمعنى بالكتابة أو أخلف أو أعزم أو أقسم أو أشهد أو علي يمين أو أكبر الأيمان غير مريد للطلاق على أمر مستقبل ممكن ثم حنث بالمخالفة ولو ناسيا أو مكرها له فعل ولم يرتد بينهما وتنعقد على الغير في الأصح ولا يأثم بمجرد الحنث] قوله: "فصل: إنما يوجب الكفارة الحلف من مكلف". أقول: وجه اشتراط التكليف أن الصبي والمجنون غير مخاطبين بالأحكام الشرعية وهذا منها وقد دل الدليل على ذلك كما أوضحنا غير مرة وهكذا اشتراط الاختيار لأن المكره مرفوع عنه الخطاب بحكم الشرع وهو أيضا مع الإكراه غير معقد لليمين وقد قال تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] ، وقد رفع الله سبحانه الخطاب على من تكلم بكلمة الكفر مكرها قال: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] ، وأيضا خطاب لمكره بيمينه االتي أكره عليها هو من تكليف ما لا يطيقه العبد وقد رفعه الله عن عباده كما في الكتاب العزيز وفي السنة الصحيحة. وأما اشتراط أن يكون مسلما فلكون الكافر غير داخل في الخطابات الواردة في ذلك بتكفير الأيمان وحفظها وإن كان آثما بالحلف الباطل فإن ذلك الإثم هو باعتبار العقاب في الدار الآخرة.

وأما اشتراط أن يكون غير أخرس فوجهه أن لا يمكن منه الحلف فلا يثبت عليه حكمه. قوله: "بالله أو بصفة لذاته أو لفعله". أقول: أما الحلف بالله فهو الثابت في الشرع ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة حتى ثبت في الصحيحين [البخاري "6646"، مسلم "1646"] ، وغيرهما [أبو داود "3249"، الترمذي "1534"، النسائي "7/5"، أحمد "2/11، 17، 142"، ابن ماجة "2094"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"، وهكذا ثبت في رواية هذا الحديث عند مسلم "4/1646"، وغيره النسائي "3764"، بلفظ: "من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله"، وفي هذا المعنى أحاديث. وأما الحلف بالصفات فقد ثبت أنه كان أكثر حلفه صلى الله عليه وسلم أن يقول: "لا ومقلب القلوب"، [البخاري "6646"، مسلم "1646"، الترمذي "1540"، النسائي "7/2"، وثبت عنه أنه كان كثيرا ما يحلف فيقول والذي نفسي بيده وهكذا ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم فقال: "وأيم الذي نفس محمد بيده"، وثبت أيضا فيهما وغيرهما أنه قال في زيد بن حارثة: "وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة"، وثبت أيضا فيهما [البخاري "11/521"، مسلم "2426"] ، وغيرهما [الترمذي "1430" أبو داود "4373"، النسائي "8/73، 74"، أحمد 6/162"، ابن ماجة "2547"] ، أنه قال: "وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"، وثبت في الكتاب العزيز الأمر منه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف بالرب عزوجل فقال: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يوونس: 53] ، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 4] ، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سيأ: 3] . والحاصل أن ما ورد في الإذن بالأقسام به في الكتاب والسنة فهو القسم الذي تلزم فيه الكفارة وتثبت له أحكام اليمين وقد ألحقوا بذلك سائر صفات الذات والفعل التي لا يكون الله سبحانه على ضدها. وأما قوله: "كالعهد والأمانة والذمة" فهذه لا بد من ورود الإذن بها ولا سيما ورد النهي من بعضها كما في حديث بريدة عند أبي داود "3253"، بإسناد رجاله ثقات قال قال الله صلى الله عليه وأله وسلم: "ليس منا من حلف بالأمانة"، وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يحلف بالأمانة فقال: "ألست الذي تحلف بالأمانة؟ "، قال في النهاية يشبه أن تكون الكراهة فيه لأجل أنه أمر أن يحلف بأسماء الله وصفاته والأمانه أمر من أموره فنهوا عنها من أجل التسوية بينها وبين أسماء الله كما نهوا أن يحلفوا بآبائهم انتهى ولا يخفاك أن العهد والذمة مشاركان للأمانه في هذه العلة. قوله: "أو بالتحريم". أقول: لم يأذن الله لعباده بهذا الحلف وعاتب عليه رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ

مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] . ولا يدل قوله سبحانه: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ، على أن الحلف كان بالتحريم لاحتمال الآية فإن الحالف بالله أن لا يفعل الشيء يصدق عليه أنه قد حرمه على نفسه والروايات من الأحاديث الحاكية لهذه القصة التي سبب نزول هذه الآية مختلفة. والحاصل أن التحريم والتحليل هو إلى الله عزوجل لا إلى العبد فكل تحريم لما أحله الله يوجبه العبد على نفسه لا حكم له ولا اعتبار به ولا يصير به الحلال حراما ولا يكون يمينا لما قدمنا من الاحتمال وعلى كل تقدير فلا يجوز لأحد من العباد أن يفعل شيئا عاتب الله عليه ورسوله فإن فعل كان ذلك لغوا لا اعتداد به. قوله: "مصرحا بذلك". أقول: الاعتبار بما يصدق عليه أنه يمين شرعية على الصفة المتقدمة فما كان من الألفاظ لا يحتمل غير اليمين فهو يمين فإن أراد خلافه أو سبقه لسانه لا يلزمه اليمين من غير فرق بين الصريح والكناي. ة والحاصل أن الاعتبار بالقصد في كل لفظ فلا يتم قوله قصد إيقاع اللفظ لأنه لا اعتبار بمجرد قصد إيقاع اللفظ بل الأعمال بالنيات وقد تقدم الكلام على هذا في الطلاق وفي كثير من الأبواب. قوله: "أو حلف أو أعزم أو أقسم". أقول: أما لفظ أحلف أو أقسم فهو لا يراد بهما إلا اليمين وإن لم يحلف بالمقسم به فيكونا مع قصد الحلف يمينا وقد أخرج أحمد "6/114"، بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث عائشة أن امرأة أهدت إليها تمرا في طبق فأكلت بعضه وبقي بعضه فقالت أقسمت عليك إلا أكلت بقيته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبريها فإن الإثم على المحنث"، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قولها هذا يمينا وأمرها أن تبرها وأخرج أيضا أحمد وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن صفوان وكان صديقا للعباس أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايعه على الهجرة, فأبى وقال: "إنه لا هجرة" فانطلق إلى العباس فقام العباس معه فقال يا رسول الله قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة"، فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: "هات أبررت عمي ولا هجرة". وثبت في الصحيحين [البخاري "7046"، مسلم "2269"] ، وغيرهما [أبو داود "3268"، الترمذي "2494"، ابن ماجة "3918"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "لا تقسم"، لما قال له لتحدثني بالذي أخطأت فسمى صريح اليمين قسما. وأما قوله: "أو أعزم" فليس في هذا ما يفيد اليمين ولكنه كان كثير الوقوع من السلف لا سيما الأكابر منهم كانوا يقولون فيما يريدون وقوعه من غيرهم أو عدم وقوعه عزمت

عليك لتفعلن كذا أو عزمت عليك لتتركن كذا وكانوا يرون أن ذلك قسما ويسارعون إلى الامتثال. وأما قوله: "أو أشهد" فقد سمى الله سبحانه الأيمان شهادة في آية اللعان. وأما قوله: "علي يمين أو أكبر الأيمان" فظاهر أنه أراد بهذا اليمين. قوله: "على أمر مستقبل ممكن". أقول: وجهه أنه لا يتحقق الحنث الموجب للكفارة إلا في الأمور المستقبلة لأن الحلف على الأمر الماضي إن كان الحالف عالما بأنه على خلاف ما حلف عليه فهي اليمين الغموس وإن كان غير عالم فهو اليمين اللغو وسيأتي أنه لا كفارة فيهما. وأما قوله: "ولو ناسيا أو مكرها" فالظاهر أنهما لا حنث عليهما ولا تلزمهما الكفارة لرفع خطاب الشرع عنهما كما في حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث وظاهر الرفع يعم الأمور الدنيوية والأمور الأخروية إلا ما خصه الدليل وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه لما حكى عن القائلين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخر الآيات قال: "قد فعلت" فقد ثبت بهذا الدليل الصحيح رفع الخطأ والنسيان وعدم المؤاخذة بهما وكذلك ثبت به عدم المؤاخذة بما هو خارج عن طاقة العبد فتكليف المكره هو تكليف بما لا طاقة له به. وأما قوله: "ولم يرتد بينهما" فوجهه أن الإسلام يجب ما قبله كما ثبت ذلك بالدليل الصحيح. قوله: "وتنعقد على الغير على الأصح". أقول: هذا الإنعقاد يخالف ما تقدم له في قوله ممكن فإن المراد الإمكان للحالف وهو لا يتمكن من فعل غيره وقد عرفناك أن الخطاب بما لا يمكن هو من المؤاخذة للعبد بما لا طاقة له به وقد رفع الله سبحانه ذلك عن عباده. قوله: "ولا يأثم بمجرد الحنث". أقول: ينبغي أن يقال الحنث يختلف باختلاف المحلوف عليه فإن حلف على أن يفعل ما لا يجوز فعله كان الحنث واجبا عليه وإن حلف على شيء غيره خير منه كان الحنث مندوبا كما في الأحاديث الثابتة في الصحيحين [البخاري "6622"، مسلم "19/1652"] ، وغيرهما [أحمد "5/62ـ 63"، أبو داود "3278"، النسائي "7/10"] ، من طرق جماعة من الصحابة: "من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه"، بل ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لا أحلف على شيء فأرى خيرا منه إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني". ولا يبعد أن يكون الحنث من هذه الصورة واجبا لقوله: "فليأت الذي هو خير" وإن كان المحلوف على فعله مباحا فترك الحنث أفضل لأن الله سبحانه قد أمر بحفظ الأيمان ومعنى

حفظها هو عدم المخالفة لما يقتضيه وإن كان المحلوف على عدم فعله مما يجب فعله كان الحنث واجبا وإن كان مما يجب تركه كان الحنث حراما. وبهذا تعرف أن الحنث في بعض الصور يوجب الإثم على الحانث وفي بعضها يوجب الثواب للحانث فهذه الكلية التي جاء بها المصنف غير مسلمة. [فصل ولا تلزم في اللغو وهي ما ظن صدقها فانكشف خلافه والغموس وهي ما لم يعلم أو يظن صدقها ولا بالمركبة ولا بالحلف بغير الله ولا الإثم ما لم يسو في التعظيم أو تضمن كفرا أو فسقا. قوله: "فصل: ولا يلزم من اللغو وهي ما ظن صدقها فانكشف خلافه". أقول: قد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو على ثمانية أقوال ولا يخفى أن الواجب الرجوع إلى معنى اللغو لغة إذا لم يثبت له معنى في الشرع يخالف معناه اللغوي فإن ثبت فالرجوع إلى المعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي كما تقرر في الأصول. واللغو في اللغة الباطل ولكنه ثبت عن عائشة أن البخاري "4613"، وغيره أنها قالت نزلت هذه الآية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225، المائدة: 89] ، في قول الرجل لا والله وبلى والله والصحابة أعرف بمعاني القرآن فالرجوع إلى أقوالهم هو الواجب وقد روي عنها وعن جماعة من الصحابة تفاسير مختلفة لمعنى اللغو ولكنهم لم يذكروا أن ما قالوه هو ما نزل به القرآن مع عدم ثبوت ذلك من وجه تقوم به الحجة على أنه قد روى أبو داود "3254"، قول عائشة هذا مرفوعا بلفظ قالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله"، وهكذا أخرجه مرفوعا ابن حبان والبيهقي وصحح الدارقطني الوقف وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو مثل قول عائشة. وقد أوضحنا الكلام في هذه المسألة في شرح المنتقى وفي التفسير فليرجع إلى ذلك. قوله: "والغموس وهي ما لم يعلم أو يظن صدقها". أقول: هذه اليمين هي التي ورد الوعيد الشديد عليها وثبت في صحيح البخاري "11/555"، 12/191، 12/264"، وغيره أحمد "6/359، 360"، الترمذي "3021" من حديث ابن عمرو قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الكبائر فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وفيه قلت وما اليمين الغموس قال: "التي يقتطع بها مال أمريء مسلم فهو فيها كاذب". وأخرج أحمد "2/362"، وأبو الشيخ من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"خمس ليس لهن كفارة"، وذكر منها اليمين التي يقتطع بها مالا بغير حق فصرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن اليمين الغموس هي "التي يقتطع بها مال امريء مسلم هو فيها كاذب" وسماها غموسا فلم يبق بحاجة إلى البحث عن معنى الغموس لغة فإن هذا معنى شرعي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح فيه بلفظ الغموس وبين معناها ثم ذكرأنه ليس لها كفارة فأفاد بذلك عدم لزوم كفارة الحنث فيها فصح كلام المصنف بالدليل ولا يرد عليه شيء من التشكيكات التي هي دأب من لم يكن من المؤثرين للدليل على القال والقيل. قوله: "ولا بالمركبة". أقول: اليمين لغة وشرعا لا يصدق على مثل هذه المركبة فإنه ليس فيها لفظ القسم بالله أو بصفة لذاته فلا يصدق عليها أنها يمين حتى يحتاج إلى إخراجها عن اليمين التي تجب فيها الكفارة ولا مدخل لها في مباحث اليمين فإن وجد فيها ما يفيد النذر فالكلام فيها كالكلام في النذر وسيأتي وإن لم يكن فيها ما يفيد ذلك فلا يلزم فيها شيء لا وفاء ولا كفارة ومن ادعى غير هذا فعليه الدليل والأموال معصومة بعصمة الإسلام فلا يحل الحكم على شيء منها بإخراجه عن ملك مالكه إلا بنا قل شرعي تقوم به الحجة. قوله: "ولا بالحلف بغير الله". أقول: الكفارة إنما أوجبها الله سبحانه في الأيمان الشرعية والحلف بغير الله سبحانه ليس من الأيمان الشرعية بل من الأيمان التي ورد الوعيد عليها والزجر عنها وهذا النهي خاص بالعباد فليس لأحدهم أن يحلف بغير الله كائنا ما كان ولا يجوز الإقسام بما أقسم الله به من مخلوقاته فإنه سبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وله أن يقسم بما شاء كيف شاء من مخلوقاته وعلى العباد أن يمتثلوا ما شرعه لهم على لسان رسوله من ترك الحلف بغير الله سبحانه وهذا ظاهر واضح لا يخفى. قوله: "ولا الإثم ما لم يسو في التعظيم". أقول: أقل ما تقتضيه الأحاديث الكثيرة في النهي عن الحلف بغير الله والوعيد الشديد عليه أن يكون الفاعل لذلك آثما لأنه أقدم على فعل محرم والإثم لازم من لوازم الحرام وأما الاستدلال على عدم الإثم بما ورد في غاية الندرة والقلة كحديث: "أفلح وأبيه إن صدق"، فمن الغرائب والمغالظ وكيف تهمل المناهي والزواجر التي وردت موردا يقرب من التواتر بمثل هذا الذي تعرض العلماء لتأويله بوجوه من وجوه التأويل التي يجب استعمالها والمصير إليها فيما خالف السنن الظاهرة المشتهرة على أنه قد تقرر في الأصول أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم لما نهى عن الأمة يدل على اختصاصه به وأما التسوية في التعظيم فهي موجبة للإثم الشديد لمجردها ولو كانت في غير اليمين بل ذلك نوع من أنواع الإشراك بالله سبحانه وهكذا ما تضمن كفرا أو فسقا فإنه يأثم بمجرد ذلك وقد وردت الأدلة بأن الحالف بما يقتضي الكفر يلزمه ما حلف به ويكون كما قال وورد أنه يؤمر بأن يقول: "لا إله إلا الله" [البخاري "6650"، مسلم

"5/1647"] ، وذلك يدل على خروجه من الإسلام وهكذا إذا جاء بما يدل على ذلك من غير يمين فإنه يكون ردة. [فصل وللمحلف على حق بماله التحليف به نيته وإلا فللحالف إن كانت واحتملها اللفظ بحقيقته أو مجازه وإلا اتبع معناه من عرفه ثم عرف بلده ثم منشئه ثم الشرع ثم اللغة ثم حقيقتها ثم مجازها فالبيع والشراء لهما وللسلم والصرف صحيحا أو فاسدا معتادا ولما تولاه مطلقا أو أجازه أو أمر به إن لم يعتد توليه. ويحنث بالعتق ونحوه فيما حلف ليبيعنه والنكاح وتوابعه لما تولاه أو أقر به مطلقا لا البناء ونحوه فكالبيع والنكاح للعقد وسره لما حضره شاهدان والتسري للحجبة والوطء وإن عزل والهبة ونحوها للإيجاب بلا عوض ولا للصدقة والنذر والكفالة لتدرك المال أو الزوجة والخبز له وللفتيت كبارا والإدام لكل ما يؤكل به الطعام غالبا إلا الماء والملح للعرف واللحم لجسد الغنم والبقر والإبل وشحم ظهورها والشحم شحم الألية والبطن والرؤوس لرؤوس الغنم وغيرها إلا لعرف والفاكهة لكل ثمرة تؤكل وليست قوتا ولا دواء ولا إداما والعشاء لما يعتاد تعشيه والتعشي لما بعد العصر إلا نصف الليل وهذا الشيء لأجزأه المشار إليه على أي صفة كانت إلا الدار فما بقيت فإن التبس المعين المحلوف منه بغيره لم يحنث ما بقي قدره والحرام لما يحل حال فعله والحلي للذهب والفضة ونحوها إلا خاتم الفضة ويعتبر حال الحالف والسكون للبث محصوص يعد به ساكنا ودخول الدار لتواري حائطها ولو تسلقا إلى سطحها ومع اللبس والمساكنة والخروح والدخول على الشخص والمفارقة بحسب مقتضى الحال والوفاء يعم الحوالة والإبراء ورأس الشهر لأول ليلة منه والشهر إلى آخر جزء منه والعشاء إلى ثلث الليل إلا لقربى في آخره والظهر إلى بقية تسع خمسا والكلام لما عدا الذكر المحض منه والقراءة للتلفظ والصوم ليوم والصلاة لركعتين والحج للوقوف وتركها لترك الإحرام بها والمشي إلى ناحية لوصولها والخروج والذهاب للإبتداء بنيته وإلا بإذني للتكرار وليس من الإيذان والدرهم لما يتعامل به من الفضة ولو زائفا ورطل من كذا لقدره منه ولو مشاعا] . قوله: "فصل: وللمحلف على حق بماله التحليف به نيته".

أقول: هكذا ورد الدليل فأخرج أحمد "2/228، 331"، ومسلم "1653"، والترمذي "1354"، وابن ماجة "2121"،من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك"، وفي لفظ لمسلم "21/1653"، وابن ماجة "2120"، من هذا الحديث: "اليمين على نية المستحلف"، ومعنى هذا الحديث ظاهر واضح وإيراد الأبحاث المتضمنة للتشكيك فيه حاصلها الرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "فللحالف إن كانت" إلخ فقد حكى الإجماع على ذلك القاضي عياض والنووي ويدل عليه حديث سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتخرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي فخلي عنه فأتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "أنت كنت أبرهم وأصدقهم صدقت المسلم أخو المسلم"، أخرجه أحمد "13/134، 135"، وأبو داود "3256"، وابن ماجه 2119"، ورجاله ثقات وهو من رواية إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن سويد بن حنظلة وعزاه المنذري إلى مسلم فينظر في صحة ذلك. وقد أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم لسويد أن يمينه بارة صادقة وأوضح له أن لذلك وجها إن كان مقصودا له وإن لم يكن مقصودا له فقد صح حلفه وبر في يمينه لما حصل بها من تخليص رجل من المسلمين من يد ظالمة وما ذكره من تقديم ما يدل عليه العرف فوجهه ظاهر لأن الحالف إنما يقصد في يمينه ما يتعارف به أهل بلده. والحاصل أنه يحمل كلامه على ما هو الغالب على قصده السابق إلى إرادته وإن كان ممن يعرف لغة العرب أو يعرف ما نقله الشرع عنها صار بعد ذلك النقل معنى شرعيا فإنه لا يحمل على ذلك مع وجود العرف المستقر الشائع المتقرر عند الحالف وقومه فإن كان لا عرف في ذلك الذي تكلم به كان الرجوع في مثله إلى المعنى العربي أو الشرعي إن كان الحالف ممن يعرفهما ويتكلم بهما ويقدم المعنى الحقيقي على المعنى المجازي ويقدم الشرعي على اللغوي وهكذا اعتبار صحيح لا بد منه ولا وجه للاعتراض عليه للقطع بأن المقاصد والإرادات هي التي يحمل عليها الكلام وكل متكلم لا يريد إلا ما هو الغالب في لسانه ولسان قومه ولو حمل كلامه على غير ذلك لكان حملا للكلام على خلاف ما هو المراد منه والمقصود به وذلك غلط أو مغالطة. وقد أطال المصنف من ذكر هذه الأمثلة الحزبية إلى آخر الفصل وذلك ينافي ما هو المقصود له من الاختصار ولا يتعلق به كثير فائدة لأن غاية ما فيه بيان ما هو السابق إلى الفهم في هذه الأمور في عرف المصنف وأهل عصره من جهته والأعراف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن كان عرف الحالف مخالفا لشيء من هذه الصور التي ذكرها المصنف كان الاعتماد على عرفه لا على ما ذكره المصنف ها هنا مع أن ذكر هذه الصور مفسدة وهي أنه يظن المقصرون أن الرجوع إليها محتم وأن حمل كلام الحالف عليها متعين وإن

كان عرفه مخالفا لها وهذا ظن باطل وخيال مختل وتوهم فاسد وإن كان ما ذكره المصنف في بعض هذه الصور بيانا للمعنى اللغوي أو الشرعي فقد عرفت أنه لا يصار إلى ذلك إلا عند عدم العرف. [فصل ويحنث المطلق بتعذر الفعل بعد إمكانه والمؤقت بخروج آخره متمكنا من البر والحنث ولم يبر والحالف من الجنس ببعضه ولو منحصرا إلا في عدد منصوص وما لا يسمى كله ببعضه كالرغيف وإلا مثبت المنحصر والمحلوف عليه والمعطوف بالواو فبمجموعه لا مع لا أو باو فبواحد فينحل ويصح الاستثناء متصلا غير مستغرق وبالنية دينا فقط وإن لم يلفظ بعموم المخصوص إلا من عدد منصوص ولا تكرر الكفارة بتكرر اليمين أو القسم ما لم يتعدد الجزاء ولو مخاطبا بنحو لا كلمتك] . قوله: "فصل: ويحنث المطلق بتعذر الفعل بعد إمكانه". أقول: هذا كلام معقول المعنى واضح الوجه فإن المحلوف عليه إذا أمكن ثم تعذر بعد الإمكان فقد حصل الحنث بعدم إمكان الوفاء ولا فرق بين أن يكون واجبا أو حراما وأما وجوب فعل الواجب وتحريم فعل الحرام فأمره راجع إلى صفة الفعل فما كان يجب عليه فيه الفعل واجب وما كان يجب عليه فيه الترك ترك. وأما اعتبار الإمكان فوجهه أنه لو لم يتمكن بوجه من الوجوه ولا تراخى فيما يجب عليه فيه الفعل أو الترك فورا لكان التكليف به من تكليف ما لا يطاق وهو ممنوع. وما ذكره من أنه يحنث بانقضاء وقت المؤقت مع التمكن من البر والحنث فذلك صحيح لأن الحلف لما أضيف إلى الوقت كان معتبرا فلا يمكن البر بعد خروجه. قوله: "والحالف من الجنس ببعضه ولو منحصرا". أقول: قد تقرر أن دخول الألف واللام على الجموع يوجب هدم الجمعية ومصيرها للجنس فإذا حلف لا يلبس الثياب ولا يركب الدواب حنث بلبس ثوب واحد وركوب دابة واحدة وهكذا ولو قال لا لبس ثيابه ولا ركب دوابه فإن الإضافة تفيد مفاد اللام ولا ينبغي أن يقال في مثل هذا إن المعنى الحقيقي يشمل الجميع فلا يحنث إلا بلبس الجميع أو ركوب الجميع لأنا نقول ها هنا أمر هو قرينة قوية على عدم إرادة المعنى الحقيقي وهو ما ذكرنا من انهدام معنى الجمعية وأما المحصور بالعدد فلا شك أن الحنث أو البر لا يكون إلا بذلك العدد ولو قيل أنه يحنث بالبعض لكان معنى العدد ضائعا.

وأما كونه لا يحنث فيما لا يسمى كله ببعضه كالرغيف فظاهر لأن المعنى الحقيقي لا يتناول البعض وحده ولا قرينة تصرف المعنى إلى ذلك. وبقية ما ذكره المصنف في هذا الفصل أمرها واضح ظاهر معلوم من علم اللغة والإعراب فلا نطيل البحث بالكلام عليه وذكر وجهه وهكذا قوله إنها لا تتكرر الكفارة بتكرر اليمين أو القسم فإنه مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف والقسم هو اليمين كما في كتب اللغة فكان أحد الأمرين يغني عن ذكر الآخر. [فصل والمركبة من شرط وجزاء إن تضمنت حثا أو منعا أو تصديقا أو براءة فيمين مطلقا وإلا فحيث يتقدم الشرط لا غير ولا لغو فيها وإذا تعلقت أو القسم بالدخول ونحوه فعلا أو تركا فللاستئناف لا لما في الحال لا السكون ونحوه فللاستمرار بحسب الحال ومن حلف لا طلق لم يحنث بفعل بشرط ما تقدم إيقاعه] . قوله: "فصل: والمركبة" الخ. أقول: هذا التركيب لا يصدق عليه لغة ولا شرعا أنه يمين فإن أراد المتكلم به النذر كان له حكمه وإن لم يرد ذلك كان من التعليق للعتق أو الطلاق أو نحوهما بشرط نحو إن دخلت الدار فعبدي حر أو نحو ذلك وقد تقدم الكلام على مثل هذا في الطلاق والعتق وقدمنا أيضا الكلام على المركبة عند قول المصنف ولا بالمركبة ولا وجه لما ادعاه المصنف من الإجماع على أنها يمين فإن خلاف أهل العلم فيها محرر في كتب الخلاف وقد استوفى ذلك ابن رشد المالكي في نهايته وقد ذهب أهل الظاهر إلى أنها ليست بيمين ولا نذر ولا يتعلق بها حنث ولا يلزم الوفاء بها.

باب الكفارة

[باب الكفارة والكفارة تجب من رأس المال على من حنث في الصحة مسلما ولا يجزيء التعجيل وهي إما عتق يتناول كل الرقبة بلا سعي ويجزيء كل مملوك إلا الحمل والكافر وأم الولد ومكاتبا كره الفسخ فإن رضيه استرجع ما قد سلم من بيت المال أو كسوة عشرة مساكين مصرف للزكاة ما يعم البدن أو أكثر إلى الجديد أقرب ثوبا أو قميصا أو

إطعامهم ولو متفرقين عونتين بإدام ولو مفترقين فإن فاتوا بعد الأولى استأنف ويضمن الممتنع أو تمليك كل منهم صاعا من أي حب أو تمر يقتات أو نصفه برا أو دقيقا وللصغير كالكبير فيهما ويقسط عليه ولا يعتبر إذن الولي إلا في التمليك ويصح الترديد في العشرة مطلقا لا دونهم وإطعام بعض وتمليك بعض كالعونتين لا الكسوة والإطعام إلا أن يجعل أحدهما قيمته تتمة الآخر فالقيمة تجزيء عنهما في الأصح إلا دون المنصوص من غيره ومن لا يملك إلا ما استثني أو بينه وبين ماله مسافة ثلاث أو كان عبدا صام ثلاثا متوالية فإن وجد أو عتق ووجد خلالها استأنف ومن وجد لإحدى كفارتين قدم غير الصوم] . قوله: "باب: والكفارة تجب من رأس المال". أقول: قد ذكر الله سبحانه في الكتاب العزيز أن هذه الكفارة هي كفارة الأيمان فأفاد ذلك أنها واجبة على من حنث في يمينه وأما التفصيل بين كونها من رأس المال أو من الثلث فمبني على ما سيأتي في الوصايا وسيأتي الكلام عليه ويؤيد وجوب الكفارة ما قدمنا من الأحاديث المشتملة على الأمر بالتكفير كقوله صلى الله عليه وسلم: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". قوله: "ولا يجزيء التعجيل". أقول: يدل على هذا ما في الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما بلفظ فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وفي لفظ للنسائي وأبي داود من حديث عبد الرحمن ابن سمرة: "إذا حلفت على يمين فكفر عن يمنيك ثم أئت الذي هو خير"، وفي صحيح مسلم من حديث عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير". وفي هاتين الروايتين دليل على جواز إخراج الكفارة قبل الحنث ويجمع بينهما وبين سائر الروايات المصرحة بتأخير الكفارة عن الحنث بأن الكل جائز ويعكر على هذه الرواية المصرحة بالترتيب بلفظ نعم فإنها تدل على أن تقديم الكفارة على الحنث متحتم ولا يعارضها رواية تأخير الكفارة لأنها بالواو والواو لمطلق الجمع ولا تدل على الترتيب وهذه الروايات المصرحة بتأخير الكفارة معارضة بما ذكرنا من حديث عدي بن حاتم فإنه قدم الكفارة في هذه الرواية وأخر الحنث كما قدم الحنث في تلك الروايات وأخر الكفارة والكل بلفظ الواو التي لمطلق الجمع فتبقى رواية الترتيب بثم خالصة عن المعارض وقد صححها ابن حجر في بلوغ المرام وأخرج نحوها أبو عوانة في صحيحه وكذلك الحاكم أخرج نحوها عن عائشة وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة بلفظ: "فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير". فهذه الأحاديث متعاضدة على تقديم الكفارة على الحنث قال ابن المنذر رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي يعني الحنفية أن الكفارة تجزىء

قبل الحنث إلا أن الشافعي استثنى الصيام فقال لا يجزىء إلا بعد الحنث وقال وعن مالك روايتان ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري وخالف داود من أصحابه ابن حزم وذكر عياض أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة من الصحابة أربعة عشر صحابيا قال وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة وقد استوفيت هذا البحث في شرح المنتقى فليرجع إليه. قوله: "وهي إما عتق" الخ. أقول: كان على المصنف أن يقتدي بالكتاب العزيز فيقدم ما قدمه ويؤخر ما أخره وما يظن من أن العتق أفضل فهو مجرد دعوى فإن الأفضل هو ما بدأ الله به وإن كان غيره أكثر قيمة منه وقد ثبت مشروعية الابتداء بما بدأ الله سبحانه به كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "أبدأ بما بدأ الله به"، [مسلم "84/1780"،وهو الصحيح. قوله: "ويجزئ كل مملوك". أقول: هذا هو الأصل المرجوع إليه مع الإطلاق كما في الآية ومن اشترط الإيمان جعل هذه الآية المطلقة مقيدة بآية كفارة القتل والكلام في جواز هذا التقييد أو عدمه مستوفى في الأصول والظاهر أنه لا وجه للقول بالتقييد لأن ذنب كفارة القتل مغلظ وذنب كفارة اليمين مخفف ولا يقيد ما هو مخفف بما هو مغلظ فإنه اختلاف يوجب بقاء المطلق على إطلاقه ولا سيما مع اختلاف السبب فإنه بمجرده مانع من التقييد وأما استثناء الحمل فصحيح لأنه لا يصدق عليه وقت عتقه عن الكفارة أنه رقبة مملوكة. وأما استثناء الكافر فلا وجه له لأنه قد جاز تملكه فأجزأ عتقه عن الكفارة. وأما استثناء أم الولد والمكاتب فصحيح لأنهما قد صارا مستحقين للعتق بسبب آخر. قوله: "أو كسوة عشرة مساكين" الخ. أقول: لا وجه لقوله مصرف للزكاة بل المعتبر من صدق عليه معنى المسكنة وإن منع من صرف الزكاة فيه مانع آخر كالهاشمي ودعوى أن الكفارة لا تحل لهم محتاج إلى دليل والقول بأنها من أوساخ الناس وأنه لا يحل لهاشمي ما كان كذلك منقوض بصدقه النفل فإنها من أوساخ الناس ولعله قد تقدم لنا كلام على قول المصنف ويحل لهم ما عدا الزكاة والفطرة والكفارات فيرجع إليه والمراد ما يصدق عليه أنه كسوة لغة أو شرعا فإن كان الثوب الواحد يقال له كسوة كان وحده مجزيا وإن كان لا يصدق إلا على ثوبين أو أكثر فلا بد من ذلك ولكنه قد كثر في لسان العرب وفي عبارات أهل الإسلام قولهم ثوبا كساه كساه جبة كساه قميصا فأفاد ذلك أن الثوب الواحد يكفي وأما ما روي مرفوعا أن الكسوة عباءة لكل مسكين فلم يصح من وجه تقوم به الحجة. قوله: "أو إطعامهم" الخ. أقول: المعتبر ما يصدق عليه مسمى الإطعام ولا شك أن من صنع طعاما لعشرة وأطعمهم إياه يصدق عليه أنه قد أطعم عشرة مساكين ويكفي في ذلك مرة واحدة ليلا أو نهارا ولا دليل

على أنه يجب إطعامهم مرتين وأما كون ذلك الإطعام بإدام فلا يصح هذا الاشترط إلا على فرض أنه لا يصدق الإطعام إلا على مجموع الطعام والإدام وهو خلاف ما تدل عليه لغة العرب وعرف أهل الشرع كما يفيد ذلك واقعات كثيرة من أيام النبوة. وأما التمليك فإن ورد دليل يدل على أنه إطعام فذاك والعجب ممن قال إنه لا يجزيء إلا التمليك مع القطع بأن الإطعام يصدق على إطعامهم الطعام المصنوع صدقا مجمعا عليه لا خلاف فيه بين أهل اللغة وأهل الشرع وأما كونه الترديد في العشرة فظاهر لا يحتاج إلى النص عليه وهكذا إطعام بعض وتمليك بعض فإنه لا بأس بذلك إن صدق الإطعام على التمليك كما تقدم لا إطعام البعض وكسوة البعض فإنه غير ما أمر الله به شرعا لعباده لأن الفاعل لذلك لم يكفر بالإطعام ولا بالكسوة. وأما إجزاء القيمة فإن صدق عليه أنه إطعام فذاك وإلا فلا يجزئ. وأما إجزاء الصوم فهو المنصوص عليه في الآية: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} وظاهر الآية أنه يجزيء الصوم للثلاث متفرقا بعد التقييد بالتتابع لكنه قد قرأ ابن مسعود متتابعات فأفاد ذلك وجوب التتابع إذا صح إسناد هذه القراءة إليه.

باب النذر

باب النذر [فصل يشترط في لزومه التكليف والاختيار حال اللفظ واستمرار الإسلام إلى الحنث ولفظه صريحا كأوجبت أو تصدقت أو على أو مالي كذا أو نحوها أو كناية كالعدة والكتابة والشرط غير مقترن بصريح نافذ وفي المال المال كون مصرفه قربة أو مباحا يتملك. وإنما ينفذ من الثلث مطلقا ومقيدا يمينا أو لا مملوكا في الحال أو سببه أو في المال إن قيده بشرط فأضاف إلى ملكه وحنث بعده كما أرثه من فلان ومتى تعلق بالعين المملوكة اعتبر بقاؤها واستمرار الملك إلى الحنث ولا تدخل فروعها المتصلة والمنفصلة الحادثة قبل الحنث غالبا وتضمن بعده ضمان أمانة قبضت لا باختيار المالك. ولا تجزيء القيمة عن العين ويصح تعليق تعيينها في الذمة وإذا عين مصرفا تعين ولا يعتبر القبول باللفظ وتبطل بالرد والفقراء لغير ولده ومنفقه والمسجد للمشهور ثم

معتاد صلاته ثم حيث شاء وفي الفعل كونه مقدورا معلوم الجنس جنسه واجب وإلا فالكفارة إلا في المندوب والمباح فلا شيء. ومتى تعذر أوصى على نحو الحج والصوم كالفرض وعن غيرهما كغسل الميت لكفارة يمين كمن التزم ترك محظور أو واجب ثم فعله أو العكس أو نذرا ولم يسم. وإذا عين للصلاة والصوم والحج زمانا أثم للتأخير لم يجزه التقديم إلا في الصدقة ونحوها فيجزيه وفي المكان تفصيل وخلاف ومن نذر بإعتاق عبده فأعتق بر ولو بعوض أو عن كفارته] . قوله: "باب: النذر فصل ويشترط في لزومه التكليف والاختيار" الخ. أقول: أما اشتراط التكليف فلكون الصغير والمجنون لا يلزمهما ما أوجبه الله على عباده فضلا عن أن يلزمهما ما أوجباه على أنفسهما وأما اشتراط الاختيار فلكون المكره قد رفع عنه قلم التكليف بالأدلة الشرعية كما قدمنا ذلك في غير موضع. وها هنا بحث ينبغي التكلم عليه وهو أن النذر قد أجمع المسلمون على صحته ووجوب الوفاء به كما حكى هذا الإجماع النووي في شرح مسلم وحكاه غيره أيضا ومدح الله في كتابه العزيز من يفي بالنذر فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان: 7] ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث عائشة أنه قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"، وورد ما يدل على كراهته إذا لم يدل على تحريمه كحديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري "6608"، مسلم "2/1639"] ، وغيرهما [أبو داود "3288"، النسائي "3801"، ابن ماجة "2122"] ، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: "إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل" وفي الصحيحين وغيرهما أيضا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر فيستخرج الله فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني عليه من قبل"، أي يعطيني قال أبو عبيدة القاسم بن سلام النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما ولو كان كذلك ما أمر الله أن يوفى به ولا حمد فاعله ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به وذكر المازري أن وجه النهي أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه عليه ضربة لازب وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار. وذكر القاضي عياض أنه وقع الإخبار بذلك على سبيل الإعلام بأنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة وذكر ابن الأثير نحو هذا في النهاية. وهذا التأويل الثالث هو أظهر ما قيل فالنذر في طاعة الله مشروع والوفاء به واجب يثاب

عليه العبد ثواب الواجب والنذر في معصية حرام يأثم الفاعل له ويحرم عليه الوفاء وتجب عليه الكفارة كما في حديث عائشة عند أحمد "6/247"، وأهل السنن أبو داود "3290"، الترمذي "1524"، النسائي "7/26"، ابن ماجة "2125"، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين"، وفي إسناده مقال طويل ويعضده ما أخرجه أبو داود بإسناد حسن من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين"، ويعضده أيضا حديث عقبة بن عامر عند مسلم "13/1645"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة اليمين". قوله: "واستمرار الإسلام إلى الحنث". أقول: وجهه أنه قربة ولا قربة لكافر فلا يصح منه في حال كفره أن يفي بنذر نذره يتضمن القربة وأما إذا نذر بقربة في حال كفره ثم أسلم فقد قام الدليل الصحيح أنه يفي بنذره لما أخرجه ابن ماجة من حديث عمر بن الخطاب بإسناد رجاله رجال الصحيح قال نذرت نذرا في الجاهلية فسألت النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أسلمت فأمرني أن أفي بنذري. وثبت في الصحيحين [البخاري "2032، 2043، 4320، 6697، 3144"، مسلم "1656"] ، وغيرهما [أبو داود "3325"، الترمذي "1539"، النسائي "3820، 3821، 3822"، ابن ماجة "2129"، أحمد "1/37، 419"] ، عنه أنه قال قلت يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال: "أوف بنذرك" وزاد البخاري في رواية: "فاعتكف ليلة". وأخرج أحمد وابن ماجة عن ميمونة بنت كردم قال كنت ردف أبي فسمعته يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني نذرت أن أنحر ببوانة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبها وثن أو طاغية؟ "، قال: لا, قال: "أوف بنذرك"، ورجال إسناده في سنن ابن ماجة رجال الصحيح. وأخرجه أحمد "3/419"، أيضا من حديث كردم بن سفيان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله عن نذر نذره في الجاهلية فقال: "ألوثن أو لنصب؟ "، قال: لا ولكن لله, قال: "أوف لله ما جعلت له انحر على بوانة وأوف بنذرك". وأخرج أبو داود "3313"،من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أنحر بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية؟ قال: "لصنم أو لوثن؟ " قالت: لا, قال: "أوفي بنذرك" وهو شاهد للحديث الأول وإن لم يذكر فيه أنها نذرت في الجاهلية لأن الظاهر أنها لا تنذر هذا النذر إلا في الجاهلية لا في الإسلام. قوله: "صريحا كأوجبت" الخ. أقول: قد عرفناك غير مرة أنه لا تعويل على خصوص الألفاظ بل المعتبر ما يدل على المقصود بأي دلالة كانت والمشروط فيه يقع عند حصول شرطه ويلزم الوفاء به إن كان قربة

وإلا وجبت الكفارة لما تقدم من الأدلة والوفاء بالوعد وبالنذر واجب للأدلة الدالة على أن خلف الوعد من خصال النفاق. قوله: "وفي المال كون مصرفه قربة". أقول: وجه هذا الأدلة التي قدمناها في وجوب الوفاء بالنذر في طاعة الله ومن ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أحمد وأبي داود والطبراني والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله"، قال في مجمع الزوائد في إسناده عبد الله بن نافع المدني وهو ضعيف انتهى ولكن هذا المدني لم يكن في إسناد أبي داود لأنه أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب وفي رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المقال المشهور ولكنه لا يخرج حديثه بذلك عن كونه حسنا. وهذا الحديث وحديث: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" المتقدم يدلان على أنه لا يصح أن يكون مصرف النذر مباحا ومنطوقهما أرجح ومفهوم حديث: "لا نذر في معصية الله" وسيأتي مزيد كلام في المباح. وما قيل من أن كون الفعل قربة وصف عائد إلا الناذر لا إلى المصرف فهو مدفوع بأنها لا تتحقق القربة في فعل الناذر إلا مع ملاحظة كون الصرف في ذلك المصرف قربة فمن هذه الحيثية صح نسبة القربة إلى المصرف. قوله: "وإنما ينفذ من الثلث" إلخ, أقول: لما يدل على هذا دليل يخصه وفي القياس على الوصايا لقوله صلى الله عليه وسلم فيها: "الثلث والثلث كثير"، نظرا لأن الوصايا مضافة إلى ما بعد الموت وهذا منجز في حال الحياة فإن كان مضافا إلى ما بعد الموت كان له حكم الوصية. وقد استدل على هذا بما روي من رده صلى الله عليه وسلم لصدقة من تصدق بجميع ماله كصاحب الثوبين وصاحب البيضة الذهب وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وآله وسلم علل ذلك بأن الفاعل لذلك يتكفف الناس من بعد ذلك. وهكذا لا يصح قياس هذا على من أعتق الستة الأعبد مع كونه لا يملك غيرهم فأنفذ النبي صلى الله عليه وسلم اعتق اثنين وأرق أربعة لأن ذلك الذي أعتق هؤلاء كان عليه دين فباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأربعة في دينه. والظاهر أن النذر في حال الصحة نافذ من جميع المال كسائر التصرفات المالية وأما من ادعى تخصيص النذر بهذا الحكم فعليه الدليل. ويمكن الاستدلال لذلك بحديث كعب بن مالك الثابت في الصحيحين [البخاري "4418"، مسلم "2769"، أنه قال يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة فقال: "أمسك عليك بعض مالك"، وفي لفظ لأبي داود "3321"، قلت: فنصفه؟ قال: "لا"، قلت: فثلثه؟

قال: "نعم"، وفي لفظ لأبي داود "3319"،أنه قال له: "يجزيء عنك الثلث" وهكذا ما روي من حديث أبي لبابة عند أحمد "3/452، 453"، وأبي داود "3320". وأما ما ذكره من اشتراط كونه مملوكا أو سببه فصحيح لا يحتاج إلى ذكر وجهه وهكذا إذا نذر بما يرثه من مورثه فإنه صحيح لأنه قيد النذر بوصول ذلك إلى ملكه ولم ينذر بما لم يملك حتى يكون النذر بما لا يملك العبد الذي ورد النهي عنه. وهكذا اشتراط بقاء العين المنذور بها إلى حضور الوقت أو حصول الشرط الذي قيد النذر به فإنه لا بد من ذلك ومع التلف لا يلزمه شيء. وأما ما ذكره من أنها لا تدخل فروعها المتصلة الحادثة قبل الحنث فالظاهر في مثل هذا أنه يرجع إلى قصد الناذر فإن قصد النذر بالعين مجردة عن فروعها الحادثة لم تدخل الفروع وإن قصد أنها من جملة النذر دخلت وإن كان لا قصد له فالظاهر أن فروع العين المنذور بها لاحقة بها, قوله: "وتضمن العين بعده ضمان أمانة قبضت لا بإختيار المالك". أقول: لا ضمان عليه في هذا إلا لجنابة أو تفريط ولا يضمن بغير ذلك ولا وجه لذلك لا من رواية ولا من رأي صحيح فإن المنذور به هو قبل النذر ملك الناذر فمع الجناية أو التفريط قد تسبب للضمان ووجب عليه العوض ومع التلف بغير هذين السببين لا سبب لتضمينه أصلا. وأما ما ذكره من كونها لا تجزيء القيمة فذلك ظاهر لأن النذر تعلق بالعين فلا وفاء إلا بإخراجها فالعدول إلى قيمتها لا يجزيء عنها إلا بدليل. وما ذكره من كون الناذر إذا عين مصرفا تعين فوجهه ظاهر لأن له أن يصرف ما يقرب به إلى من شاء وكيف شاء مع وجود مطلق القربة وإن كان غيرها أعلى منها. وأما كونه لا يعتبر القبول بل يكفي عدم الرد فعدم الرد قبول تام وقد عرفناك غير مرة أن اعتبار الألفاظ إما مجرد جمود أو قصور عن إدراك حقائق الأمور. قوله: "والفقراء لغير ولده ومنفقه". أقول: المعتمد في مثل هذا العرف الشائع بين القوم الذين منهم الناذر فإن ثبت هذا العرف فهو المقدم على لغة العرب وغيرها لأن الناذر لا يقصد بكلامه إلا عرف أهل جهته فإن عرف من قصده أنه أراد المعنى اللغوي والشرعي وجب العمل بذلك وإن لم يقصد ولا وجد كان الظاهر دخول ولده ومنفقه في عموم الفقراء لأنهما من جملتهم ولا مانع من ذلك لا من شرع ولا عقل وأما دخول الناذر نفسه فعلى الخلاف في دخول المخاطب في خطاب نفسه. وهكذا الكلام في النذر على المسجد من غير تعيين فإن المعتبر ما يطلق عليه هذا الإسم في عرف الناذر وأهل بلده فإن لم يكن عرف رجع إلى مقصده فإن لم يكن له قصد فالظاهر أن مراده المسجد الذي يصلي فيه وإن كانت مساجد البلد كثيرة فصلاته في أحدها فيها وجه

وتخصيص وإن كان يصلي في جميع مساجد بلده أو يصلي في بيته كان الأولى بذلك أقرب مسجد إلى بيته فإذا استوت في القرب كان الأولى ما يكثر فيه المصلون وتقام فيه الجماعات لكثرة من الناس وإلا حصص المنذر به بينها لعدم المزية الموجبة للترجيح لبعضها على بعض. قوله: "وفي الفعل كونه مقدورا". أقول: وجه هذا الاشتراط معلوم عقلا وشرعا أما عقلا فلكون نذره بما لا يقدر عليه إذا كلف بالوفاء به كان ذلك من تكليف ما لا يطاق وأما شرعا فلكون ما لا يقدر عليه لا يملكه وقد ثبت في الصحيح: "أنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم" كما تقدم وأما اشتراط أن يكون النذر معلوم الجنس فوجهه أن إيجاب ما لا يعلم جنسه لغو فهو من باب من نذر نذرا لم يسمه. قوله: "جنسه واجب". أقول: هذا الاشتراط لم يدل عليه رواية ولا رأى صحيح والذي تقدم من الأدلة له مصرح بوجوب الوفاء بما هو طاعة وبما ابتغي به وجه الله والطاعة وابتغاء وجه الله لا تختصان بالواجب بل بما فيه قربة وهي كائنة في فعل الواجب وترك الحرام وفعل المندوب وترك المكروه ولا توجد في المباح إلا عند النافين للمباح وقد قوينا هذا القول برسالة بوجوه من المنقول والمعقول وسميناها رفع الجناح عن نافي المباح. قوله: "وإلا فالكفارة". أقول: أما وجوب الكفارة حيث كان المنذور به غير مقدور للناذر فيدل عليه ما أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن ينذر نذرا ولم يطقه فكفارته كفارة يمين"، قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه. ومما يدل على عدم لزوم ما فيه مشقة من النذر ما أخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم فقال النبي صلى الله عليه آله وسلم: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه"، فأمره بالوفاء بما هو طاعة وهو الصوم وأمر بترك ما فيه مشقة ولا قربة فيه. ومما ورد في عدم لزوم ما فيه مشقة وأنه يكفر كفارة يمين ما أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال: "إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها"، وفي رواية لأحمد من حديث عقبة بن عامر أنها نذرت أخته أن تمشي إلى الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لغني عن مشيها لتركب ولتهد بدنه"، وأصل الحديث في الصحيحين [البخاري "4/78"ن مسلم "11/1644"، بلفظ: "لتمش ولتركب".

وأما وجوب الكفارة في غير معلوم الجنس وهو الذي لم يسم فيدل عليه ما أخرجه ابن ماجه "2127"، والترمذي "1258"، وصححه من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين" ويدل على ذلك أيضا حديث ابن عباس المتقدم قريبا بلفظ: "من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين". وأما وجوب الكفارة في النذر الذي جنسه غير واجب فقد قدمنا أن الطاعة وابتغاء وجه الله لا يختصان بالواجب بل بما فيه قربة فلا يخرج عن ذلك إلا ما ليس بقربة ولا يبتغى به وجه الله وقد قدمنا حديث ابن عباس بلفظ: "من نذر نذرا ولم يطقه فكفارته كفارة يمين"، وقد قدمنا أيضا حديث عائشة بلفظ: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين"، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة اليمين"، وإنما احتاج المصنف أن يستثني المندوب والمباح لأجل قوله جنسه واجب وقد عرفناك أنه لا وجه للتقييد بالوجوب فلا احتياج إلى هذا الاستثناء بل الواجب الوفاء بما هو قربة وأما المباح فقد قدمنا الكلام عليه. قوله: "ومتى تعذر أوصى على نحو الحج" الخ. أقول: قد استدل على هذا بما أخرجه أبو داود "3307"، والنسائي "3818"،من حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقضه عنها"، ولا دلالة له على المطلوب وهو وجوب الوصية فإنه لا وصية من أم سعد وغايته أن يقضي الولد ما علمه من نذر على والده وإن لم يوص ووهم من زعم أن هذا الحديث في الصحيحين وهما فاحشا فإنه ليس فيهما ولا في أحدهما والذي فيهما بلفظ آخر وليس في هذا اللفظ إلا في أبي داود والنسائي. وأما وجوب الكفارة عن غيره نحو الحج والصوم كغسل الميت إذا تعذر بعد النذر فوجهه أنه إذا تعذر بلا تفريط صار غير مقدور للناذر وقد قدمنا الدليل على وجوب الكفارة بلفظ: "ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين". وأما وجوب الكفارة على من التزم ترك محظور أو واجب ثم فعله أو العكس فوجه ذلك فيما هو معصية ما قدمنا من حديث: "من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين"، وأما ما كان واجب الفعل أو الترك فالوفاء به واجب فإن ترك أثم ويدل على وجوب الكفارة عليه حديث عقبة بن عامر عند مسلم بلفظ: "كفارة النذر كفارة اليمين"، فإن هذا الجنس من النذر مندرج تحت هذا العموم ولا يصح لتخصيصه أو تقييده ما ورد في غيره بذكر المعصية أو عدم التسمية. قوله: "وإذا عين للصلاة والصوم والحج زمانا تعين". أقول: هذا صحيح لأن فعله في الزمان المخصوص قد صار قيدا له لا يحصل الوفاء إلا به فلا يجزيء التقديم وأما التأخير فالظاهر أيضا أنه لا يجزيء وتلزم الكفارة لأنه قد صار غير

مقدور للناذر لفوات وقته المقيد به وهكذا الصدقة الظاهر أنها لا تجزيء في غير الوقت المعين لها وتلزم الكفارة فلا وجه لاستثناء المصنف لها وهكذا المكان يتعين فلا يجزيء من غيره وتحمل الأحاديث الواردة في جواز فعل المندوب به في غير المكان المعين كحديث أمره صلى الله عليه وسلم لمن نذر أن يصلى في بيت المقدس أن يصلى في المسجد الحرام أو في مسجده على ما فيه من مشقة زائدة على الناذر وقد قدمنا أمره صلى الله عليه وسلم لمن نذر الذبح ببوانة بالوفاء بذلك. وأما ما ذكره من أن من نذر بإعتاق عبده بر بإعتاقه ولو لعوض أو عن كفارة فوجهه أنه قد وقع مطلق العتق فصدق على هذا الناذر بأنه قد أعتق كما نذر إلا أن يكون له قصد أنه العتق المقيد بكونه للنذر فقط.

باب الضالة واللقطة واللقيط

باب الضالة واللقطة واللقيط [فصل] إنما يلتقط مميز قيل حر أو مكاتب ما خشي قوته من موضع ذهاب جهله المالك بمجرد نية الرد وإلا ضمن للمالك أو لبيت المال ولا ضمان إن ترك ولا يلتقط لنفسه ما تردد في إباحية كما يجره السيل عما فيه ملك ولو مع مباح] . قوله: "باب: الضالة واللقطة واللقيط". قوله: "فصل: إنما يلتقط مميز" الخ. أقول: خطابات الشرع إنما تتوجه إلى المكلفين ولا تتوجه إلى غير المكلف وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل أو ليحفظ عفاصها ووكاءها فإن جاء صاحبها فلا يكتم فهو أحق بها وإن لم يجيء صاحبها فهي مال الله يؤتيه من يشاء"، أخرجه أحمد "4/266"، وأبو داود "1709"، والنسائي "5808/1"ن وابن ماجه "2505"، ابن حبان ومثله حديث زيد بن خالد في الصحيحين [البخاري "5/83"، مسلم ط5/1722"] ، وغيرهما [أبو داود "1704"] ، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب والورق فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة"، الحديث. والحاصل أن جميع ما ورد في الأحاديث في هذا الباب إنما يتوجه إلى من تتوجه إليه الخطابات الشرعية والصبي قبل بلوغه لا يتوجه إليه شيء من ذلك فإن وقع منه الالتقاط انتزع من يده فإن أتلفه ضمنه من ماله وخوطب بذلك وليه وأما العبد فإن التقط وأذن له سيده بذلك صح التقاطه وإن منعه من ذلك لم يجز له الالتقاط فإن فعل رفعها إلى الإمام أو الحاكم وإن أتلفها كان ذلك جناية تتعلق برقبته.

وأما قوله: "ما خشي قوته من موضع ذهاب جهله المالك" فوجهه أن اللقطة إنما تلتقط مع خشية القوت أما لو لم يخش القوت فهو متعد بالالتقاط وهكذا إذا لم يكن الموضع موضع ذهاب أو كان المالك عالما بأن اللقطة في ذلك المكان وتركها باختياره فليس لغيره أن يلتقطها ولا ينبغي أن يكون غير المالك أحرص على المال من مالكه وليس التقاطه هذا من باب التعاون على الخير ولا يتوجه إليه أوامر الشارع فالملتقط والحال وهكذا غاصب لاستيلائه على مال الغير عدوانا فيضمن ضمان الغاصب ولهذا قال المصنف: وإلا ضمن للمالك أو لبيت المال. قوله: "ولا ضمان إن ترك". أقول: استدلوا على عدم الضمان بعدم وجود دليل يدل عليه أو يدل على وجوب الالتقاط ولا يخفاك أن قوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل وليحفظ عفاصها ووكاءها"، وكذلك قوله: "اعرف عفاصها ووكاءها"، كما في الحديثين المتقدمين وكذلك قوله في ضالة الغنم: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب"، كما في الصحيحين [البخاري 2372، 2429"، مسلم "1722"] ، وغيرهما [أبو دتود "1705"] ، تدل على أن الملتقط مأمور بالتقاط ما وجده ولا يخرج عن ذلك إلا ضالة الإبل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لك ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يجدها ربها"، ولا ينافي هذا حديث: "لا يأوي الضالة إلا ضال"، كما أخرجه أحمد "4/116"، وأبو داود "1720"، والنسائي وابن ماجة "2503"، وأبو يعلى والطبراني في الكبير والضياء في المختارة من حديث جرير بن عبد الله البجلي لأن هذا في الضالة وهي خاصة بالحيوانات ويجمع بينه وبين ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، بحمل هذا على ضالة الإبل. وأقل أحوال هذه الأوامر أن يأثم التارك وأما أنه يضمن فلا لأن ماله معصوم بعصمة الإسلام فلا يلزمه إخراج شيء منه إلا بناقل شرعي عن هذه العصمة. وأما قوله: "ولا يلتقط لنفسه ما تردد في إباحته" فوجهه ظاهر لأن الأصل في الأمور التي تملك التحريم ولو مع مجرد الشك والتجويز ويدل على ذلك الأدلة الكلية الواردة في تحريم ملك الغير ولا يجوز الإقدام إلا على ما علم الإنسان أنه حلال مطلق مباح لم يملكه مالك وإذا اختلط ما تردد في إباحته بما هو مباح فالحق ما ذكره المصنف بقوله ولو مع مباح لأنه إذا لم يتميز المباح صار التردد فيه كالتردد في غيره. [فصل وهي كالوديعة إلا في جواز الوضع في المربد والإيداع بلا عذر ومطالبة الغاصب بالقيمة ويرجع بما أنفق بنيته ويجوز الحبس عمن لم يحكم له ببينته ويحلف له على

العلم ويجب التعريف بما لا يتسامح بمثله في مظان وجود المالك سنة ثم تصرف في فقير أو مصلحة بعد اليأس وإلا ضمن قيل وإن أيس بعده وبثمن ما خشي فساده إن ابتاع وإلا تصدق ويغرم المالك متى وجد لا الفقير إلا لشرط أو العين فإن ضلت فالتقطت انقطع حقه] . قوله: "فصل وهي كالوديعة إلا في جواز الوضع في المربد". أقول: هذا صحيح ووجهه أنه عاون على الخير وفعل ما أرشد إليه الشرع ولم يقصد الالتقاط لنفسه ومن كان هذا حاله فهو أمين أي أمين لا يضمن إلا لجناية أو تفريط وقد حكى المصنف في البحر الإجماع على هذا. وما ذكره من أن له الوضع في المربد الذي كان يفعله الخلفاء لضوال المسلمين فذلك صحيح لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل فإذا وجد مخرجا من معرة الإنفاق عليها والقيام عليها بما يحتاجه من وضعها في مثل هذا المكان الذي ينفق فيه على الضوال من بيت المال كان له ذلك وكذلك له الإيداع وله مطالبة غاصبها بالقيمة لأنها قد تثبت له ولاية وله أن يرجع على صاحبها بما أنفقه عليها لأنه بالإنفاق حفظ تلك العين من التلف بالجوع والعطش ونحوهما. قوله: "ويجوز الحبس عمن لم يحكم به ببينته". أقول: هذا مبني على أن صاحبها لم يصفها بالأوصاف الصحيحة الموافقة بل جاء بالبينة على أنها له فيجوز للملتقط أن يحبسها حتى يحكم الحاكم بذلك لأنه إذا دفعها إليه بدون ذلك كان معرضا لنفسه لضمانها ولا يجب عليه الدخول فيما يخشى من عاقبة التضمين لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل وهذا من أعظم السبيل عليه أما إذا وصفها صاحبها بالأوصاف الصحيحة الموافقة فقد وجب دفعها إليه لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد في الصحيحين [البخاري "2429، 6112"، مسلم "5/1722"] ، وغيرهما أبو داود "1704"، الترمذي "1372"، ابن ماجة "2503"] : "اعرف وكاءها وعفاصها"، وفيه: "فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه". وفي رواية لمسلم من هذا الحديث: "فإذا جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك"، وفي حديث أبي بن كعب عند مسلم "6/1723"، وغيره أحمد "5/126"، الترمذي "1374"، ابن ماجة "2506"، بلفظ: "فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه وإلا فاستمتع بها". فإن قلت: إذا كان يخش أن يكون هذا الواصف لها قد عرفها من مالكها وبلغه التقاطها أو أخبره مالكها بأوصافها فخشي من دفعها إليه أن يأتي مالكها فيضمنه إياه؟ قلت: يرفع أمره إلى الإمام أو الحاكم حتى يكون الوصف والرفع باطلاع أحدهما وليس عليه بعد ذلك ضمان لأنه فعل ما أمره به الشارع ولمالكها أن يرجع على ذلك المقرر الكاذب. قوله: "ويجب التعريف بما لا يتسامح بمثله في مظان وجود المالك سنة".

أقول: هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما: "ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه"، ولا يعارض هذا ما أخرجه البخاري من حديث أبي بن كعب وفيه وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "عرفها حولا"، فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته ثانيا فقال: "عرفها حولا"، فعرفتها فلم أجد ثم أتيته ثالثا فقال: "احفظ وعاءها ووكاءها وعددها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها"، فاستمتعت بها فلقيته بعد بمكة فقال سلمة بن كهيل الراوي لهذا الحديث لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا وقد جزم ابن حزم بأن الزيادة على الحول في حديث أبي بن كعب غلط قال ابن الجوزي والذي يظهر لي أن سلمة بن كهيل أخطأ فيها ثم تثبت واستمر على عام واحد ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه راويه قال المنذري لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام إلا شريح عن عمر وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال تعرف ثلاثة أحوال عاما واحدا ثلاثة أشهر ثلاثة أيام وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر. والحق أن مدة التعريف حول فقط ثم يستمتع بها الملتقط فإن جاء صاحبها ضمنها له كما تقدم في الحديث الصحيح ولكن هذا فيما كان لا يتسامح بمثله أما ما كان يتسامح بمثله فقد أخرج أحمد وأبو داود "1717"،من حديث جابر قال: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقط الرجل ينتفع به وفي إسناده المغيرة بن زياد وفيه مقال ولكنه صدوق وشهد له ما أخرجه البخاري "2431"، ومسلم "1071"، وغيرهما أبو داود "1651، 1652"، من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: "لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها"، وأما ما روي من تعريف المحقرات ثلاثة فلم يثبت من وجه تقوم به الحجة. وأما قول المصنف: "وتصرف في فقير أو مصلحة بعد اليأس" فالسنة قد قضت بها بأن استمتاع الملتقط بها وصرفها في نفسه مقدم على صرفها في غيره فإن أراد الصرف في الغير صرف في فقير أو مصلحة. وأما ما اشتراطه من حصول اليأس فلا وجه له بل الوجه التعريف حولا كما تقدم دليله وأما إيجابه للضمان إذا لم يصرف مع اليأس فليس على ذلك أثارة من علم لأن استمتاع الملتقط بها أو صرفها فيمن هو مصرف لها لم يكن على طريق الحتم بل الأمر فيه للإباحة كما في نظيره وبهذا تعرف عدم صحة ما ذكره المصنف بعد هذا. وأما قوله: "فإن ضلت فالتقطت انقطع حقه" فهذا الانقطاع مسلم إن كان بتقريط منه وإلا فلا وجه لإنقطاع حقه لحديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه"، فقد صار هذا الملتقط الأول مخاطبا بتأدية ما التقطه حتى يؤديه إلى مالكه.

[فصل واللقيط من دار الحرب عبد ومن دارنا حر أمانة هو وما في يده ينفق عليه بلا رجوع إن لم يكن له مال في الحال ويرد للواصف لا اللقطة فإن تعددوا واستووا ذكورا فابن لكل فرد ومجموعهم أب] . قوله: "فصل: واللقيط من دار الحرب عبد" الخ. أقول: لما ترجم الباب بقوله باب الضالة واللقطة واللقيط أراد بهذا الفصل استيفاء ما ترجم له ولا يخفى أن دار الحرب دار إباحة يملك كل فيها ما ثبتت يده عليه كما سيأتي في السير سواء كان الأخذ على جهة القسر أو الختل من غير فرق بين الأشخاص والأموال والرجال والنساء والأطفال وأما إذا كان من دار الإسلام أو دخلها بأمان فهو معصوم الدم والمال فلا وجه لقوله ومن دارنا حر أمانة هو وما في يده بل لا يجوز التقاطه إذا كان حافظا لنفسه ولماله لأن إثبات اليد عليه والحال هكذا مخالف لتأمينه وأما إذا دخل دارنا بغير أمان فهو وماله غنيمة لمن سبق إليه هكذا ينبغي أن يقال وبهذا تعرف أنه لا وجه لقوله ينفق عليه بلا رجوع إلخ لأنه إما غنيمة لمن سبق إليه أو لا يجوز التقاطه بحال كما بينا وإذا كان غنيمة وجب إنفاقه على القائم وإن كان مؤمنا لم يجب إنفاقه على أحد. وأما قوله: "ويرد للواصف" فمبني على جواز الالتقاط وقد عرفت ما فيه وما كان ينبغي أن يذكر المصنف مثل هذا في اللقطة لورود الأدلة بذلك كما تقدم فتركه في المحل الخليق به وذكره هنا بلا فائدة نعم إن كان اللقيط الذي كلام المصنف فيه في هذا الفصل هو المسلم الملتقط من دار الحرب والمسلم الملتقط من دار الإسلام كان لكلامه وجه ولكنه لم يقيده بهذا ويرد للواصف إذا كان لا يهتدي إلى الإعراب عن نفسه والعجب من قول المصنف لا اللقطة يعني أنها لا ترد للواصف فإن هذا دفع في وجه الأدلة ورد لما قد صح بلا خلاف. وأما قوله: "فإن تعددوا واستووا فإبن لكل فرد ومجموعهم أب" فقد تقدم الكلام عليه في كتاب الطلاب بما يغني عن الإعادة هنا وليس هذا المقام بمقام التعرض لكيفية ثبوت النسب وكان على المصنف أن يتعرض لذكر ضالة الإبل وأنها لا تلتقط لما تقدم من الأدلة ويتعرض لذكر ضالة الغنم ونحوها وأنها تلتقط لقوله: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، ويتعرض أيضا لذكر ضالة مكة لما ثبت في الصحيح من النهي عن لقطة الحاج وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لقطتها إلا لمعرف" [البخاري "2434"، مسلم "447/1355"] .

باب الصيد

باب الصيد [فصل إنما يحل من البحري ما أخذ حيا أو ميتا بسبب آدمي أو جزر الماء أو قذفه أو نضوبه فقط والأصل فيما التبس هل قذف حيا الحياة ومن غيره في غير الحرمين ما انفرد بقتله بخرق لا صدم ذو ناب يقبل التعليم أرسله مسلم مسم أو زجره وقد استرسل فانزجر ولحقه فورا وإن تعدد ما لم يتخلل إضراب ذي الناب أو هلك بقتل مسلم بمجرد ذي حد كالسهم وإن قصد به غيره ولم يشاركه كافر فيهما. والأصل في الملتبس الحظر وهو لمن أثر سهمه والمتأخر جان ويذكي ما أدرك حيا ويحلان من ملك الغير ما لم يعد له حائزا وبالآلة الغصب] . قوله: "باب الصيد". فصل: "إنما يحل من البحري ما أخذ حيا أو ميتا بسبب آدمي" الخ. أقول حديث: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته"، قد تقدم وقد ذكرنا طرقه مستوفاة في شرح المنتقى وهو مما تقوم به الحجة وظاهره أن ميتة البحر حلال على كل حال سواء مات بسبب آدمي أو بسبب من الماء أو مات لا بسبب ويؤيده حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: "أحل لنا ميتتان ودمان وأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" أخرجه أحمد ["2/97"] وابن ماجة ["3314"] والشافعي والدارقطني والبيهقي وقد أعل بالوقف وقيل الموقوف أصح ولكن له طرق يقوي بعضها بعضا على أن الموقوف له حكم الرفع لأن قول الصحابي: "أحل لنا" كالرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ التحليل لا يكون إلا منه. ويؤيده ما أخرجه الدارقطني عن أبي شريح من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم"، وذكره البخاري عن أبي شريح موقوفا وللوقف حكم الرفع في مثل هذا لما قدمنا. ويؤيد لجميع حديث الحوت المسمى بالعنبرة التي أكلها الصحابة فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوا رزقا أخرجه الله سبحانه لكم أطعمونا إن كان معكم"، فأتاه بعضهم بشيء فأكله وهو في الصحيحين [البخاري "8/77، 78"، مسلم "1935"] ، وغيرهما [أيو داود "3840"، النسائي "7/207، 209"، أحمد "3/304، 309، 311"] ، من حديث جابر ولم يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم بأي سبب كان موتها وترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في الأقوال.

فتقرر بمجموع هذه الأدلة أن ميتة البحر حلال بأي سبب كان ولا يصلح لتخصيص هذه العمومات ما أخرجه أبو داود "3815"، مرفوعا من رواية يحيى بن سليم عن جابر بلفظ: "ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه"، لأنه قد أعل بأن يحيى بن سليم ضعيف الحفظ وقد أعل بالوقف وهو الصواب وقد استوفينا كلام الحفاظ عليه في شرح المنتقى ومع أنه قد روي عن بعض الصحابة ما يعارض هذا الموقوف على جابر فأخرج البخاري "9/614"،عن أبي بكر الصديق أنه قال: "الطافي حلال" وأخرج البخاري "9/614"، أيضا عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: "طعامه ميتته". قوله: "ومن غيره في غير الحرمين ما انفرد بقتله بخرق لا صدم ذو ناب يقبل التعليم". أقول: أما الاصطياد بالكلاب المعلمة فالأحاديث الكثيرة الصحيحة قد وردت بجواز ذلك ومنها حديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين [البخاري "5478"، مسلم "1930"] ، وغيرهما [أبو داود "2856، 2857"، ابن ماجة "3207"، أحمد "14/193، 194"] ،بلفظ: "ما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل"، وفي معناه حديث عدي بن حاتم في الصحيحين البخاري "5475"، مسلم "1، 2، 3/1929"، وغيرهما أبو داود "2848"، الترمذي "1470، 1471"، النسائي "7/179، 180"، ابن ماجة "3214"، أحمد "4/256"] . وأما الصيد بالباز فلحديث أحمد وأبي داود والبيهقي من حديث عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك". وقد أعل بتفرد مجالد بن سعيد بذكر الباز قال البيهقي تفرد بذكر الباز فيه مجالد وخالفه الحفاظ انتهى ولا يخفى أن مجالدا من رجال مسلم وأهل السنن وأما ما ذكره بعض الشراح من أن الترمذي أخرجه من طريق أخرى فلا أصل لذلك بل لم يخرجه إلا من طريق مجالد وقال بعد إخراجه هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث مجالد عن الشعبي انتهى. والحاصل أن الله سبحانه قد قال في كتابه العزيز: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، فما صدق عليه أنه من الجوارح فالصيد به حلال فالبازي إذا كان من جملة الجوارح لم يحتج إلى الاستدلال عليه بغير الآية. وأما قوله: "مكلبين" المراد به معلمين لما تصيدون به وليس المراد الكلاب فقط فقد ذهب إلى حل صيد جميع الجوارح جمهور العلماء وأما التعليم فهو مجمع على اشتراطه كما حكى ذلك ابن رشد في نهايته. وأما اشتراط أن يكون الصيد في غير الحرمين فوجهه واضح وأدلته قد تقدمت في الحج وأما اشتراط أن يكون القتل بخرق لا صدم فيدل عليه اشتراط ذلك في الصيد الذي صيد بالرمي كما في حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين البخاري "9/604"، نممسلم "1/1929"، وغيرهما أبو داود "2827"، الترمذي "1465"، ابن ماجة "3215"، النسائي "4276"، أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا رميت

بالمعراض فخزق فكله وإن أصابت بعرضه فلا تأكله"، ولكنه قد ورد في صيد الكلاب المعلمة ما يدل على أن مجرد إمساكها ذكاة كما في حديث عدي أيضا في الصحيحين البخاري "5475"، مسلم "1929"، وغيرهما الترمذي "1471"، النسائي "4275"، ابن ماجة "4214"، بلفظ: "فإن أمسك عليك فأدركته فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة"، فلم يشترط صلى الله عليه وسلم في أحاديث صيد الكلب إلا التعلم والتسمية وألا يأكل منه ولم يذكر اشتراط القتل أو تحريم ما قتله الكلب بالصدم وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم كما تقرر في الأصول ولفظ الإمساك والقتل يصدق على ما كان بالصدم كما يصدق على ما كان بالخرق. قوله: "أرسله مسلم مسم". أقول: أما الإرسال فهو مصرح به في الأحاديث الصحيحة بلفظ إذا أرسلت كلبك المعلم فلا بد من الإرسال وإلا كان الكلب صائدا لنفسه لا لصاحبه وهكذا اشتراط التسمية قد صرحت به الأحاديث الصحيحة ومنها بلفظ: "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله". وأما اشتراط الإسلام فلم يقم على ذلك دليل تقوم به الحجة لكنه إذا لم يسم لم يحل صيده من هذه الحيثية ولعله يأتي إن شاء الله في باب الذبح مزيد كلام على هذا وقد قدمنا أن اشتراط التعليم مجمع عليه وأما اشتراط أن يلحقه فورا فلا دليل عليه بل المعتبر أن يعلم أنه ما أصابه الجارح الذي أرسله أو السهم الذي رمى به وفي لفظ في الصحيح مسلم 1931"، "إذا رميت بسهمك فغاب عنك فأدركته فكل ما لم ينتن" وفي لفظ الصحيح مسلم "7/1929"، أيضا: "كله إلا أن تجده في ماء". وأما قوله: "ما لم يتخلل إضراب ذي الناب" فالظاهر أنه لا وجه له لأن مجرد الإرسال في الابتداء بما يكفي والجارح إنما انبعث مرة أخرى بسبب ذلك الإرسال ولا يقال قد يكون انبعاثه بعد الإضراب ليمسك على نفسه لأنا نقول ذلك خلاف الظاهر فالكلب المعلم مرسل وهذا يكفي. قوله: "أو هلك بفتك مسلم بمجرد ذي حد". أقول: أما اشتراط الإسلام فقد تقدم ما فيه وأما قوله بمجرد ذي حد فليس في الأحاديث إلا مجرد الخرق وهو يحصل بغير ذي الحد ولا يخرج من ذلك إلا ما كان مقتولا بالصدم فإنه وقيذ كما يصيبه المعراض بعرضه ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البندقة الحديد التي نرمي بها بالبارود والرصاص فإن الرصاصة يحصل بها خرق زائد على خرق السهم والرمح والسيف ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشة أو نحوها فوق رماد دقيق أو تراب دقيق وغرزت فيه شيئا يسيرا من أصلها ثم ضربتها بالسيف المحدد أو نحوه من الآلات لم يقطعها وهي على هذه الحالة ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم لا من عقل ولا من نقل. وأما ما روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة كما في رواية من حديث عدي ابن حاتم

عند أحمد "17/148"، بلفظ: "ولاتأكل من البندقة إلا ما ذكيت"، فالمراد بالبندقة هنا هي التي تتخذ من طين يرمي بها بعد أن تيبس وفي صحيح البخاري "9/603"، قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة: "تلك الموقوذة" وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن. وهكذا ما صيد بحصى الخذف فقد ثبت في الصحيحين البخاري "6220"، مسلم "55/1954"، وغيرهما أبو داود "5270"، النسائي "7/47"، ابن ماجة "3226"، من حديث عبد الله بن المغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: "إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين"، ومثل هذا ما قتل بالرمي بالحجارة غير المحددة إذا لم تخرق فإنه وقيذ لا يحل وأما إذا خرقت حل. وأما قوله: "وإن قصد به غيره" فلا وجه له لأنه لا بد أن يكون الصائد صائدا لصيد معين مرسلا لسهمه عليه مسميا عند الرمي لكنه إذا أطلق التسمية بجعلها لصيد معين كمن يرمي إلى قطيع من الصيد فيسمى على ما أصابه السهم منها فهذا صيد حلال. وأما قوله: "لم يشاركه كافر فيهما" فقد عرفت أنه لا دليل على تحريم صيد الكافر فلا يضر مشاركته للمسلم إذا وقعت منه التسمية وأما كون الأصل في الملتبس الحظر فهو يستقيم فيما إذا وجد الصيد قد قتله الجارح ولم يدر هل ما أرسله هو الذي أصابه أو غيره وهكذا إذا شك هل السهم الذي فيه هو سهمه أو سهم غيره وأما إذا شك هل أمسكه الجارح على الصائد أم أمسكه لنفسه فالأصل عدم إمساكه لنفسه بعد تعليمه وإرساله والتسمية عليه كما تقدم وهكذا إذا شك هل أكل منه أم لا؟ فالأصل عدم أكله منه وأما إذا تيقن أنه أكل منه لم يحل صيده لما قدمنا في الحديث الصحيح من اشتراطه صلى الله عليه وسلم عدم أكل الجارح من الصيد. وأما ما أخرجه أبو داود "2857"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها فقال: "كل مما أمسك عليك وإن أكل منه" فهذا الحديث لا يعارض ما ثبت في الصحيح ولا سيما بعد تعليله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فإنما أمسك على نفسه"، وقد قيل أنه يجمع بين الأحاديث بأن النهي محمول على ما إذا قتله كلب ونحوه وخلاه ثم عاد وأكل منه ولا وجه لهذا الجمع ولا يقوي الحديث على معارضة الأحاديث الثابتة في الصحيحين من طرق ولا سيما بعد اشتمالها على النهي عن الأكل كما في حديث عدي بن حاتم في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل". وأما كونه لمن أثر سهمه فظاهر لأن الاصطياد وقع به ولا حكم للآخر وأما التذكية حيا فوجه وجوب ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث عدي بن حاتم بلفظ: "فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه" فإنه يدل على وجوب التذكية لما أدركه حيا.

باب الذبح

باب الذبح [فصل يشترط في الذابح الإسلام فقط وفري كل من الأوداج ذبحا أو نحرا وإن بقي من كل دون ثلثه أو من القفا إن فرأها قبل الموت وبحديد أو حجر حاد أو نحوهما غالبا والتسمية إن ذكرت ولو قلت أو تقدمت بيسير وتحرك شيء من شديد المرض بعده وندب الاستقبال ولا تغني تذكية السبع ولا ذات الجنين عنه وما تعذر ذبحه لند أو وقوع في بئر فبالرمح ونحوه ولو في غير موضع الذبح] قوله: "باب الذبح". قوله: "فصل: يشترط في الذابح الإسلام فقط". أقول: إذا ذبح الكافر ذاكرا لاسم الله عزوجل غير ذابح لغير الله وأنهر الدم وفرى الأوراج فليس في الأدلة ما يدل على تحريم هذه الذبيحة الواقعة على هذه الصفة ولا يصح الاستدلال بمثل قوله عزوجل: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، لكون الخطاب فيها للمسلمين لأنا نقول الخطاب فيها لكل من يصلح للخطاب فمن زعم أن الكافر خارج من ذلك بعد أن ذبح لله وسمى فالدليل عليه. وأما إذا ذبح الكافر لغير الله فهذه الذبيحة حرام ولو كانت من مسلم وهكذا إذا ذبح غير ذاكر لاسم الله عزوجل فإن إهمال التسمية منه كإهمال التسمية من المسلم حيث ذبحا جميعا لله عزوجل وسيأتي الكلام على التسمية. وإذا عرفت هذا لاح لك أن الدليل على من قال باشتراط إسلام الذابح لا على من قال إنه لا يشترط فلا حاجة إلى الاستدلال على عدم الاشتراط بما لا دلالة فيه على المطلوب كالاحتجاج بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذبائح المنافقين فإن المنافقين كان يعاملهم صلى الله عليه وسلم معاملة المسلمين في جميع الأحكام عملا بما أظهروه من الإسلام وجريا على الظاهر. وأما ما يقال من حكاية الإجماع على عدم حل ذبيحة الكافر فدعوى الإجماع غير مسلمة وعلى تقدير أن لها وجه صحة فلا بد من حملها على ذبيحة كافر ذبح لغير الله أو لم يذكر اسم الله. وأما ذبيحة أهل الذمة فقد دل على حلها القرآن الكريم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، ومن قال: إن اللحم لا يتناوله الطعام فقد قصر في البحث ولم ينظر في كتب اللغة ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكل ذبائح أهل الذمة كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سما والقصة أشهر من أن نحتاج إلى

التنبيه عليها ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع فإن قلت قد يذبحون لغير الله أو بغير تسمية أو على غير الصفة المشروعة في الذبح قلت إن صح شيء من هذا فالكلام في ذبيحتهم كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الذمى مانعا لا في كونه أخل بشرط معتبر. قوله: "وفري كل من الأوداج" الخ. أقول: لم يثبت في المرفوع ما يدل على اشتراط فرى الأوداج إلا ما أخرجه أبو داود "2826"، من حديث ابن عباس وأبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج وفي إسناده عمرو ابن عبد الله الصنعاني وقد تكلم فيه غير واحد والتفسير فيه مدرج كما صرح بذلك أبو داود في السنن ولكن هذا التفسير قد ثبت في كتب اللغة ما يوافقه فهو صحيح إنما الشأن في صحة الحديث وقيام الحجة به. وقد ثبت في الصحيحين البخاري "5543"، مسلم "20/1968"، وغيرهما أبو داود "2821"، الترمذي "1491"، النسائي "7/226"، ابن ماجة "3178"، أحمد "3/463، 464"، من حديث رافع بن خديج أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا"، فهذا يدل على أن التذكية بشيء يحصل به إنهار الدم حلال وإن لم يحصل فرى الأوداج. وأخرج أحمد "4/434"، وأهل السنن أبو داود "2825"، الترمذي "1481"، النسائي "4408"، ابن ماجة "3184"، من حديث أبي العشراء عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في اللبة والحلق قال: "لو طعنت في فخذها لأجزأك"، قال الترمذي بعد إخراجه حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث قال الخطابي: وضعفوا هذا الحديث لأن رواته مجهولون وأبو العشراء لا يدرى من أبوه ولم يروه عنه غير حماد بن سلمة وقال ابن حجر في التلخيص وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه يعني أبا العشراء على الصحيح وهو لا يعرف حاله انتهى قلت حماد بن سلمة إمام لا يضر تفرده ما لم يكن في المروي عنه ما يمنع من قبوله. وقد أخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: "ألا إن الذكاة في الحلق واللبة"، وفي إسناده سعيد بن سلام العطار قال أحمد: كذاب. والحاصل أنه قد دل الحديث الصحيح على أن المعتبر إنهار الدم فإذا طعن في الحلق واللبة حتى أنهر الدم ولم يفر الأوداج كلها كان الذبح صحيحا والذبيحة حلالا ويؤيد هذا حديث عدي بن حاتم عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة قلت يا رسول الله إنا نصيد الصيد فلا نجد سكينا إلا الظرار وشقة العصا فقال صلى الله عليه وسلم: "أمر الدم بما شئت واذكر اسم الله"، وأخرجه أيضا الحاكم وابن حبان ومداره

على سماك بن حرب عن مري بن قطري عنه وقد أخرج معناه أحمد والطبراني والبزار عن ابن عمر بإسناد صحيح ومعلوم أن شقة العصا لا تفري كل الأوداج. وهكذا ما روي من قصة الرجل الذي رأى لقحة في الموت فلم يجد ما ينحرها به فأخذ وتدا فوجأها به في لبتها حتى أهرق فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلها وهو في سنن أبي داود والنسائي. وبهذا نعرف أنه لا وجه تقوم به الحجة على اشتراط فرى الأوداج وأنها تصح التذكية بحديدة أو حجر أو بشقة عصا أو ما أنهر الدم كائنا ما كان ما لم يكن سنا أو ظفرا. قوله: "والتسمية إن ذكرت" الخ. أقول: وجهه ما قدمناه في الأحاديث الصحيحة من ترتيب جواز الأكل على إنهار الدم وذكر اسم الله فإن ذلك يقيد أن التسمية شرط لا تحل الذبيحة بدونها لكنه قد ورد ما يدل على أنه إذا التبس على الآكل هل ذكر اسم الله على الذبيحة أم لا فإنه يسمى عليها ويأكلها كما في البخاري وغيره من حديث عائشة أن قوما قالوا: يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سموا عليه أنتم وكلوا" قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر فهذا يدل دلالة بينة على أنه إذا التبس على الآكل هل وقعت التسمية من الذابح أم لا أنه يكتفي بالتسمية منه عند الأكل. فالحاصل أن التسمية فرض على الذابح وإعادتها فرض عند الأكل على المتردد وليس في هذا الحديث ما يدل على أن التسمية سنة فقط كما قاله جماعة. وأما قوله: "إن ذكرت" فليس في الأدلة ما يدل على أن النسيان يسقط هذه الفريضة إلا الأحاديث العامة الواردة برفع الخطأ والنسيان وقد قدمنا لك أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى عن الله عزوجل أنه قال عند الدعاء بقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، قد فعلت وذلك ثابت في الصحيح. وأما قوله: "وإن قلت أو تقدمت بيسير" فأقل تسمية أن يقول بسم الله وتقدمها لا يضر إذا كانت قبل ذلك بوقت لا ينافي أن تكون مفعوله للذبح. وأما قوله: "وتحرك شيء من شديد المرض بعده" فوجهه أنها لا تعلم الحياة إلا بذلك وإلا كانت التسمية واقعة على ميتة. قوله: "وندب الاستقبال". أقول: ليس على هذا دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من قياس وما قيل من أن القول بندب الاستقبال في الذبح قياس على الأضحية فليس بصحيح لأنه لا دليل على الأصل حتى يصلح للقياس عليه بل النزاع فيه كائن كما هو كائن في الفرع والندب حكم من أحكام الشرع فلا يجوز إثباته إلا بدليل تقوم به الحجة.

قوله: "ولا تغني تذكية السبع" أقول: هذا صحيح لأن ذلك مما لم يأذن الله سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وليس هذا السبع من جوارح الصيد المرسلة المعلمة حتى يكون إمساكه تذكية ولهذا يقول الله عزوجل: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ، وهذا دليل قرآني لا يحتاج إلى الاستدلال بغيره على فرض أن المانع محتاج إلى دليل وليس كذلك فإن قيامه مقام المنع يكفيه والدليل على من ادعى أن تذكية السبع تذكية محللة. قوله: "ولا تذكية ذات الجنين عنه". أقول: حديث: "ذكاة الجنين ذكاة أمه"، أخرجه أحمد "3/39"،وأبو داود "2827"،والترمذي "1476"، وابن ماجه "3199"، والدارقطني وابن حبان وصححه من حديث أبي سعيد الخدري وأما تضعيف عبد الحق له بأن في إسناده مجالدا فمدفوع بأنه لم يكن في الطريق التي أخرجه منها أبو داود والترمذي وأيضا قد أخرجه أحمد من طريق غيره وليس فيها ضعف وقد صححه مع ابن حبان ابن دقيق العيد وحسنه الترمذي وقد روى من طريق غيره من الصحابة منهم على وابن مسعود وأبو أيوب والبراء وابن عمر وابن عباس وكعب ابن مالك وقد ذكرنا في شرح المنتقى من أخرج هذه الأحاديث عن هؤلاء الصحابة فالحديث صحيح في نفسه فكيف وقد ورد من حديث سبعة من الصحابة غير أبي سعيد. وأما من قال إن قوله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة أمه"، منصوب بنزع الخافض وأن التقدير كذكاة أمه فهذا مع كونه خلاف الرواية هو أيضا خلاف الدراية فإن الشارع إنما أراد التعريف بأن ذكاة الأم ذكاة لما في بطنها ولم يرد أنه يذكى كما تذكى الأم فإن ذلك ليس فيه كثير فائدة مع أنه قد وقع في سؤال من سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يفيد المعنى المراد فإن لفظ الحديث عند أحمد "3/39"، وأبي داود "2827"، قال: قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكل؟ فقال: "كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه"، فإنهم لم يسألوه عن كيفية تذكيته إنما سألوه عن حل أكله أو تحريمه إذا وجدوه في بطنها فالرفع في وجه هذه السنة بما لا يسمن ولايغني من جوع خروج عن الإنصاف. قوله: "وما تعذر ذبحه". الخ. أقول: هكذا جاءت السنة الصحيحة بذلك كما في الصحيحين البخاري "9/633"، مسلم "20، 21/1968"، وغيرهما أحمد "3/463"، أبو داود "2821"، الترمذي "1492"، النسائي "7/228"، ابن ماجة "3183"، من حديث رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله صلى عليه وآله وسلم في سفر فند بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فأفعلوا به هكذا"، وظاهر هذا الحديث أنه إذا مات بهذه الرمية كان حلالا ولا يحتاج إلى تذكية وإليه ذهب الجمهور وقال مالك والليث وسعيد بن

المسيب وربيعة إنه لا يحل الأكل لما توحش إلا بتذكية في حلقه أو لبته والحديث يرد عليهم وأيضا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو طعنت في فخذها لأجزأك".

باب الأضحية

باب الأضحية [فصل والأضحية تسن لكل مكلف بدنة عن عشرة وبقرة عن سبعة وشاة عن ثلاثة وإنما يجزيء الأهلي ومن الضأن الجذع فصاعدا ومن غيره الثني فصاعدا إلا الشرقاء والمثقوبة والمقابلة والمدابرة والعمياء والعجفاء وبينة العور والعرج ومسلوبة القرن والأذن والذنب والألية ويعفى عن اليسير [. قوله: "باب الأضحية تسن لكل مكلف". أقول: لا خلاف في مشروعية الأضحية وأنها قربة عظيمة وسنة مؤكدة وقد ذهب الجمهور إلى أنها غير واجبة قال ابن جزم لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة وصح أنها غير واجبة عن الجمهور ولا خلاف في كونها من شرائع الدين انتهى وذهب الأقلون إلى وجوبها واستدلوا بما أخرجه أحمد وابن ماجة من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا"، وصححه الحاكم قال ابن حجر في الفتح رجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره. ووجه الاستدلال به لما نهى من كان ذا سعة قربان المصلي إذا لم يضح دل على أنه قد ترك واجبا فكأنه لا فائدة في التقرب بالصلاة للعبد مع ترك هذا الواجب. واستدلوا أيضا بما في الصحيحين البخاري "10/20"، مسلم "2/1960"، وغيرهما النسائي "4380"، ابن ماجة "3152"، من حديث جندب بن سفيان البجلي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله"، وبما في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث أنس في الصحيحين البخاري "10/6"، مسلم "10/1962"، وغيرهما النسائي "4408"، ابن ماجة "3151"، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد"، والأوامر ظاهرة في الوجوب لا سيما مع الأمر بالإعادة

وأجاب الجمهور بأنه هذه الأوامر مصروفة عن معناها الحقيقي وهو الوجوب لما ورد في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتضحية ولم تؤمر بها أمته وأنها عليه فريضة ولهم تطوع ولم يصح من الأحاديث شيء وفي أسانيدها من هم في الضعف في أسفل مراتبه وهكذا لا القول بصرف أحاديث الأوامر عن معانيها الحقيقية أنه ضحى عن أمته وفي حديث آخر ضحى عن محمد وآل محمد لأن تضحيته صلى الله عليه وسلم قد قامت مقام التضحية منهم وذلك مزية خصه الله سبحانه بها ومما يؤيد الوجوب حديث مخنف ابن سليم عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم قال بعرفات: "يا أيها الناس على أهل كل بيت أضحية في كل عام وعتيرة" ونسخ العتيرة لا يسلتزم نسخ الأضحية ومما يدل على الوجوب قوله عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، إن كان المراد معنى النحر الحقيقي وهو نحر الأضحية لا إن كان المراد وضع اليد على النحر كما ورد في رواية وبهذا ويعرف أن الحق ما قاله الأقلون من كونها واجبة ولكن هذا الوجوب مقيد بالسعة فمن لا سعة له لا أضحية عليه. قوله: "بدنة عن عشرة وبقرة عن سبعة". أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين مسلم "350/1318"، وغيرهما أبو داود "2809"، الترمذي "1502"، ابن ماجة "3132"، أحمد "3/353، 363"، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن نشترك في الهدي في الإبل كل سبعة في بدنة ولكنه يمكن أن تحمل هذه الأدلة على الهدى وتخص الأضحية بما أخرجه أحمد "2484"، والنسائي "7/222"، والترمذي "1501"، وحسنه وابن ماجة "3131"، من حديث ابن عباس قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر الأضحى فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عشرة ويشهد له ما في الصحيحين البخاري "2507"، مسلم "21/1968"، من حديث رافع بن خديج أنه صلى الله عليه وسلم قسم فعدل عشر من الغنم ببعير. قوله: "وشاة عن ثلاثة". أقول: قد ورد إجزاء الجذع من الضأن مطلقا ومقيدا فأما المطلق فكقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم الأضحية الجذع من الضأن"، أخرجه أحمد "2/445"،والترمذي "1499"، من حديث أبي هريرة وكقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الأضحية الكبش الأقرن"، أخرجه داود "3156"، وابن ماجة 1473"، والحاكم والبيهقي من حديث عبادة بن الصامت وأخرجه الترمذي "1517"، وأخرج ابن ماجة نحوه من حديث أبي أمامة وأخرج أبو داود وابن ماجة "3139"، من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجوز الجذع من الضأن ضحية"، وثبت في الصحيحين البخاري "10/4"، مسلم "16/1965"، وغيرهما الترمذي "1500"، النسائي "4392"، 4393"، من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالتضحية بالجذع من الضأن وفي الباب أحاديث وأما المقيد فكحديث أبي أيوب الأنصاري أنه سأله عطاء بن يسار كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته الحديث أخرجه في الموطأ وابن ماجة "3147"، والترمذي "1505"، وصححه وكحديث

أبي سريحة قال: حملني أهلي على الجفاء بعدما علمت من السنة كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين والآن يبجلنا جيراننا أخرجه ابن ماجة بإسناد صحيح ويدل عليه أحاديث واردة في هذا المعنى وجميع الأحاديث المطلقة والمقيدة تدل على أن أقل ما يجزيء في الأضحية الجذع من الضأن وأنها تجزيء أهل البيت كما تجزيء الواحد وحده وقد حكى الترمذي في سننه أن الشاة تجزيء عن أهل البيت قال والعمل على هذا عند أهل العلم وهو قول أحمد واسحاق واحتجا بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش فقال: "هذا عمن لم يضح من أمتي" وقال بعض أهل العلم لا تجزيء الشاة إلا عن نفس واحدة وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره من أهل العلم انتهى فعرفت بكلام الترمذي هذا عدم صحة ما زعمه النووي وابن رشد والمهدي في البحر من أن الشاة لا تجزيء إلا عن ثلاثة فالحق أنها تجزيء عن أهل البيت وإن كانوا مائة نفس. وأما قوله: "وإنما يجزيء الأهلي" فوجهه أنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بوحش ولا جوز التضحية به لأمته وهذا يكفي. وأما قوله: "والجذع من الضأن فصاعدا" فوجهه ما قدمنا من الأدلة وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقى عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ضح به أنت"، والعتود من ولد المعز ما أتى عليه حول فيجاب عنه بأنه أخرج هذا الحديث البيهقي بإسناد صحيح أنه قال له صلى الله عليه وسلم: "ضح به أنت ولا رخصة فيها لأحد بعدك". وأما قوله: "ومن غيره الثنى فصاعدا" فوجهه ما ثبت في صحيح مسلم "13/1963"، وغيره أ [وداود "2797"، النسائي "7/218"، ابن ماجة "3141"، أحمد "3/312، 327"، من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن"، فقيد إجزاء الجذعة بكونها من الضأن وعليه تدل الأحاديث المتقدمة فلا يجزيء من غيرها إلا المسن وهو الثني. قوله: "إلا الشرقاء والمثقوبة" الخ. أقول: وقد ورد عن الشارع ما لا يجزيء فينبغي العمل على ذلك ومن ذلك ما أخرجه أحمد "40/284، 289، 300، 301"، وأهل السنن أبو داود "2802"، الترمذي "1497"، النسائي "7/214، 215"، ابن ماجة " 3144"، وصححه الترمذي "4/86"، والنووي وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والكسيرة التي لا تنقي"، وأخرج أحمد "1/127"، وأهل السنن أبو داود "2805"، الترمذي "1504"، النسائي "7/217، 218"، ابن ماجة "3145"، وصححه الترمذي "4/90"، من حديث علي قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضحي بأعضب القرن والأذن وأخرج أحمد "13/78"، وأبو داود "2803"، والبخاري في تاريخه والحاكم من حديث عتبة ابن عبد السلمي قال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم

عن المصفرة والمستأصلة والبخقاء والمشيعة والكسراء فالمصفرة التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها والمستأصلة التي ذهب قرنها من أصله والبخقاء التي تبخق عينها والمشيعة التي لا تتبع الغنم عجفا وضعفا والكسراء التي لا تنقي وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وأخرجه أيضا البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث علي قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولاخرقاء. وأما قوله: "ومسلوبة الذنب والألية" فيرده ما أخرجه أحمد وابن ماجة والبيهقي من حديث أبي سعيد قال: اشتريت كبشا أضحي به فعوى الذئب فأخذ الألية فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ضح به"، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف جدا وفيه أيضا محمد بن قرظة وهو مجهول وعلى هذا فلا تقوم به حجة ولكن قد عرفناك أنه يقتصر في هذه العيوب على ما ورد عن الشارع لأن الأصل إجزاء ما جوز الشارع التضحية به ولا يخرج عن ذلك إلا ما استثناه. وأما قوله: "ويعفى عن اليسير" فيدل عليه ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "البين عورها والبين مرضها والبين ظلعها"، وقوله: "التي تستأصل أذنها حتى يبدو صماخها"، وقوله: "التي ذهب قرنها من أصله". [فصل ووقتها لمن لا تلزمه الصلاة من فجر النحر إلى آخر ثالثه ولمن تلزمه وفعل من عقيبها وإلا فمن الزوال فإن اختلف وقت الشريكين فآخرهما] . قوله: "فصل: ووقتها لمن لا تلزمه الصلاة" الخ. أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين أو أحدهما وفي غيرهما قاضية بأن وقتها من بعد الصلاة وفي بعضها التقييد بصلاة الإمام كما في حديث جندب بن سفيان البجلي في الصحيحين وغيرهما بلفظ: "ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله"، وفي بعضها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر من نحر قبل أن ينحر أن يعيد بنحر آخر وهو في صحيح مسلم وغيره فالصلاة مقيدة بكونها صلاة الإمام ومقيدة أيضا بنحر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون النحر إلا بعد صلاة الإمام ونحره. فمن ذبح قبل الصلاة لم تجزه وعليه الإعادة كما في حديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد"، وفي لفظ البخاري من هذا

الحديث: "من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين". ولا فرق في هذه الأحاديث بين من تلزمه الصلاة ومن لا تلزمه فلا ذبح قبل صلاة العيد الجامعة ولا وجه لما قاله المصنف من أن وقتها لمن لا تلزمه الصلاة من فجر النحر. وأما آخر وقت الذبح فحديث جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل أيام التشريق ذبح"، أخرجه أحمد "4/82"، وابن حبان في صحيحه والبيهقي وله طرق ويؤيده الحديث الصحيح في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث [البخاري "10/24"، مسلم "28/1971"، فمن زعم أنه لا يجزئ الذبح إلا يوم النحر أو أنه يجزيء بعد أيام التشريق فهذا الحديث وما يقويه يرد عليه. ووجه الرد أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أن أيام التشريق كلها ذبح فمن زعم أن غيرها وقت للذبح فعليه الدليل ولا دليل ينتهض للقول به والمراد هنا الذبح الخاص الذي يكون أضحية مجزية فدعوى أنه يجزيء الذبح عن الأضحية في غيرها غير مقبولة وفي هذه المسألة خمسة مذاهب قد استوفيتها واستوفيت ما استدل به عليها في شرح المنتقى. [فصل وتصير أضحية بالشراء بنيتها فلا ينتفع قبل النحر بها ولا بفوائدها ويتصدق بما خشي فساده فإن فاتت أو تعيبت بلا تفريط لم يلزمه البدل ولو أوجبها إن عين وإلا غرم قيمتها يوم التلف وإن نقصت عما يجزيء وله البيع لإبدال مثل أو أفضل ويتصدق بفضلة الثمن وما لم يشتره فبالنية حال الذبح وندب تولية وفعله في الجبانة وكونها كبشا موجوءا أقرن أملح وأن ينتفع ويتصدق ويكره البيع] . قوله: "فصل: وتصير أضحية بالشراء بنيتها". أقول: ليس في مصير الأضحية أضحية بمجرد الشراء بالنية ولا في ثبوت هذه الأحكام التي ذكرها المصنف من أنه لا ينتفع بها إلى آخر ما ذكره من ذلك دليل تقوم به حجة ويجب المصير إليه والعمل به فإن كان هذا قياسا للأضحية على الهدي إن كان الباب مختلفا فلا بأس بذلك فإنه قد ورد في الهدى أن الهدى إذا خشي عليها موتا فلينحرها ولا يطعمها هو ولا أحد من أهل رفقته كما في صحيح مسلم "378/ 1326"، وغيره ابن ماجة "3105"، أحمد "4/225"، من حديث أبي قبيصة. وأخرج أحمد "4/334"، وأبو داود "1772"، والترمذي "910"، وابن ماجه "3106"، من حديث ناجية الخزاعي وكان صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت كيف أصنع بما عطب من البدن قال: "انحره واغمس نعله في دمه واضرب صفحته وخل بينه وبين الناس

فليأكلوه"، قال الترمذي: حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم في هدى التطوع إلى آخر كلامه في سننه وأخرج نحوه مالك في الموطأ عن هشام ابن عروة عن أبيه. وورد في منع بيع الهدى ما أخرجه أحمد وأبو داود والبخاري في التاريخ وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال أهدى عمر نجيبا فأعطي بها ثلاثمائة دينار فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أهديت نجيبا فأعطيت بها ثلاثمائة دينار فأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: "لا انحرها إياها". فالحاصل أنه إن صح قياس الأضحية على الهدى فذاك وإلا فالأصل عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام ومما يدل على اختلاف البابين أنه قال في الضحايا: "كلوا وادخروا واتجروا". قوله: "فإن فاتت أو تعيبت بلا تفريط لم يلزمه البدل". أقول: قد قدمنا الأدلة على وجوب الأضحية فهذه التي اشتراها إذا تلفت أو تعيبت بقي الخطاب عليه في الوفاء بما هو واجب عليه إن كان قائلا بالوجوب أو بما هو سنة إن كان يرى أنها سنة فكون مجرد التلف أو التعيب مسقط للأضحية مسوغا لعدم إبدال ما تلف أو تعيب محتاج إلى دليل وكيف يصح هذا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن ذبح قبل الصلاة أن يذبح مكانها أخرى ويقول لمن نحر قبل نحره أن يعيد بنحر آخر ويقول: "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد"، وهذه الأحاديث قد تقدمت وهي ثابتة في الصحيح فينظر ما وجه كلام المصنف فإن هذا أيضا مع كونه خلاف الدليل بخالف حكم الهدي فيكون قادحا في القياس مع أنه لا وجه لثبوت ما ذكره من أحكام الأضحية إلا مجرد قياس على الهدي كما قدمناه وأيضا مما يقدح في ذلك القياس تجويز المصنف للبيع لإبدال مثل أو أفضل مع ما تقدم في الهدى من نهيه صلى الله عليه وسلم لعمر عن البيع وأمره بأن يذبح النجيبة. وأما قوله: "وما لم يشتره فبالنية حال الذبح" فالظاهر أنه لا فرق بين ما اشتراه وما لم يشتره إذ أنه إذا ذبحه بنية الأضحية وفى بما عليه وصار فاعلا لما شرعه الله لعباده من الضحايا. قوله: "وندب توليه بنفسه". أقول: وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذبح أضحيته بيده الشريفة كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة البخاري "10/18"، مسلم "17/1966"، فمن أراد القيام بحق هذه القربة المتواترة والشريعة الواضحة فليفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مانع من شرع ولا عقل من الاستنابة والمنع من ذلك مجرد قاعدة فقهية لا يعرف لها أصل ولا يحسن. والاستدلال على المنع بنحره صلى الله عليه وسلم لهديه بيده مرفوع بأن هذا الحديث بخصوصه يدل على جواز الاستنابة فإنه صلى الله عليه وسلم استناب عليا في نحر البعض كما ذلك ظاهر مشهور ثابت في الصحيح فهو حجة على المستدل به لا له. قوله: "وفعله في الجبانة". أقول: وجه هذا ما ثبت في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يذبح أضحيته في الجبانة فالاقتداء به

مندوب لأنه لم يرد ما يدل على أن ذلك خاص به ولا ورد ما يدل على أن ذلك عزيمة على الأمة فكان مندوبا وفي الذبح في الجبانة فوائد منها أن يعلم بذلك الفقراء فيقصدونه ويردون عليه ولا سيما في حق الإمام فإن الناس يعلمون بذبحه للأضحية حتى يذبحوا ضحاياهم فتكون ضحايا مجزئة لما قدمنا من أنه صلى الله عليه وسلم أمر من نحر قبل أن ينحر أن يعيد نحره وما ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت للأئمة بعده. قوله: "وكونها كبشا موجوءا أقرن أملح". أقول: وجه ذلك ما أخرجه ابن ماجة "3122"، من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين فذبح أحدهما عن أمته لمن شهد الله بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وذبح الآخر عن محمد وآل محمد. وهذا الحديث وإن كان في إسناده عيسى بن عبد الرحمن بن فروة وفيه ضعف فقد روى مثله من حديث عائشة. وروى أيضا أنه ضحى بكبشين موجوءين أقرنين من حديث عائشة عند أحمد والحاكم والبيهقي وفي إسناده ابن عقيل وفيه مقال خفيف وأخرج نحوه أحمد بإسناد حسن من حديث أبي رافع. وقوله في الحديث الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يضحي يدل على أن ذلك هو الغالب من أحواله كما يفيد لفظ كان وبهذا يثبت حكم الندب ولا ينافيه لمخالفة في بعض الأحوال كما في حديث أبي سعيد: قال ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبش أقرن فحيل أخرجه أهل السنن أبو داود "2796"، الترمذي "1496"، النسائي "7/321"، ابن ماجة "3128"، وصححه الترمذي 4/85"، وابن حبان وهو على شرط مسلم. فإن قلت ندبية التضحية بالكبش يدل على أنه أفضل من التضحية بالإبل والبقر مع العلم بأن التضحية بالناقة والبقرة الانتفاع بها لأهل البيت والفقراء أكثر ولهذا عدلت عشرا من الغنم أو سبعا كما تقدم. قلت: ملازمته صلى الله عليه وسلم للتضحية بالكبش أو الكبشين مع وجوج الإبل في عصره وكثرتها يدل على أفضليتها في الأضحية وإن كانت مفضولة من وجه آخر. قوله: "وينتفع ويتصدق". أقول: وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا وادخروا وائتجروا" كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: "كلوا وادخروا وتصدقوا" وذلك ثابت في الصحيحين وغيرهما. وقد كان صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدخروا ثلاثة أيام ثم يتصدقوا بما بقي ثم نسخ ذلك وبين لهم أنه إنما قصرهم على الثلاث لأجل الدافة التي دفت من محاويج العرب ومعنى قوله: "واتجروا"، أي اطلبوا الآجر بالصدقة كما بينه في الرواية الأخرى بقوله: "وتصدقوا"، وفي الباب أحاديث. وأما قوله: "ويكره البيع" فوجهه أن البيع ليس بأكل ولا ادخار ولا اتجار وهو أيضا

خلاف ما تفيده الأضحية من معنى التقرب وإذا كان قياس الضحايا على الهدايا صحيحا فقد ثبت عنه النهي عن أن يعطي الجازر من الهدايا شيئا فكيف يجوز بيع ما ألحق بها من الضحايا ولكن في صحة القياس ما قدمنا. [فصل والعقيقة ما تذبح في سابع المولود وهي سنة وتوابعها وفي وجوب الختان خلاف] . قوله: "فصل: والعقيقة ما تذبح في سابع المولود وهي سنة وتوابعها". أقول: ذهب الجمهور إلى أنها سنة فقط وذهب أهل الظاهر والحسن البصري إلى وجوبها استدل القائلون بالوجوب بما ورد من الأوامر كقوله صلى الله عليه وسلم: "مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى"، أخرجه البخاري "9/590"، وغيره أبو داود "2837"، 2838"، الترمذي "1522"، النسائي "4220"،/ ابن ماجة "3165"، من حديث سلمان بن عامر الضبي ومن أدلة الوجوب أيضا ما أخرجه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي والحاكم وعبد الحق من حديث سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل غلام رهينة بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه"، فإن قوله: "كلا غلام رهينة يعقيقة" يفيد أنها واجبة عليه وهذا الحديث وإن كان من رواية الحسن عن سمرة ولم يسمع منه فقد ذكر الحفاظ كالبخاري أنه سمع منه هذا الحديث بخصوصه فلا علة فيه وقال الجمهور إن الأحاديث المشتملة على ما يفيد الوجوب مصروفة عن المعنى الحقيقي لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحب منكم أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافأتان وعن الجارية شاة"، أخرجه أحمد "2/182، 194، أبوأبو داود 2842"، والنسائي "4212"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه لا يخرج عن الحسن وإن كان في روايته عن أبيه عن جده فقال وقد روى عن أبي حنيفة أن العقيقة ليست سنة والأحاديث ترد عليه. وكراهته صلى الله عليه وسلم للاسم لا يدل على كراهة المسمى كما روى عنه من حديث عمرو بن شعيب هذا أنه قال: "لا أحب العقوق"، لأنهم قالوا له إنما نسألك عن أحدنا يولد له فقال من أحب أن ينسك الحديث وقد زعم محمد بن الحسن أن العقيقة جاهلية نسخها الإسلام وهذا مدفوع بثبوتها في الإسلام بما يقوم به الحجة وفي الأحاديث ما يدل على أن العقيقة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة كما في حديث عمرو بن شعيب المتقدم وكما في حديث عائشة عند أحمد والترمذي وصححه قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عن الغلام شاثان مكافأتان وعن الجارية شاة"، وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي ومثله ما أخرجه أحمد "6/381، 422"ن والنسائي "7/165"، والترمذي "1516"، وابن حبان والحاكم

والدارقطني والبيهقي وصححه الترمذي من حديث أم كرز الكعبية أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: "نعم عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة"، ولا ينافى حديث سلمان بن عامر الضبي المتقدم فإن هذه الأحاديث مشتملة على زيادة يتعين قبولها وهكذا لا ينافي هذه الأحاديث ما رواه أبو داود "2841"، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا لما ذكرنا من أن الزيادة مرجحة على أن في رواية النسائي لحديث ابن عباس هذا بلفظ: "كبشين كبشين". فالحاصل أن العقيقة سنة من سنن الإسلام ولا يتم الوفاء بهذه السنة إلا بذبح شاتين عن الذكر وشاة عن الأنثى. وأما توابعها التي أشار إليها المصنف فهي ما وردت به الأدلة فمنها ما تقدم في حديث سلمان بن عامر الضبي من قوله: "أميطوا عنه الأذى"، وكذلك ما تقدم في حديث سمرة من قوله: "تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه"، ومنها ما أخرجه أحمد "5/355، 361"، وأبو داود "2843"، والنسائي "4213"، من حديث بريدة الأسلمي وإسناده صحيح كما قال في التلخيص وفيه نظر فإن في إسناده على بن الحسين بن واقد وفيه مقال ولفظه كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها فلما جاء الله بالإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران وفي لفظ من حديث عائشة عند ابن حبان وابن السكن وصححاه بلفظ: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوا مكان الدم خلوة فتوابع العقيقة هي ما اشتملت عليه هذه الأحاديث لا ما وقع في كثير من كتب الفروع من الخرافات التي تستسمجها العقول. ومن توابع العقيقة التصدق بوزن شعر رأس الصبي من الورق كما في حديث أبي رافع عند أحمد والبيهقي مرفوعا وفي إسناده ابن عقيل وفيه مقال وشهد له حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عند مالك وأبي داود في المراسيل والبيهقي أن فاطمة وزنت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بوزنه فضة. قوله: "وفي وجوب الختان خلاف". أقول: ثبوت مشروعية الختان في هذه الملة الإسلامية أوضح من شمس النهار فما سمع السامعون منذ كان الإسلام وإلى هذه الغاية أن مسلما من المسلمين تركه أو ترخص في تركه أو تعلل بما يحصل من مزيد الألم لا سيما للصبيان الذين لم يجر عليهم قلم التكليف ولا كانوا في عداد من يخاطب بالأمور الشرعية وقد صار مثل هذا الشعار علامة للمسلم تميزه عن الكفار إذا اختلط بهم فالقول بوجوبه هو الحق والاشتغال بالكلام على ما ورد فيه والقدح في بعض طرقه اشتغال بما لا يسمن ولا يغني من جوع فثبوته معلوم بالقطع الذي لا شك فيه ولا شبهة وقد كان يؤمر بذلك أهل الإسلام ويؤمر من أسلم بأن يختتن وفي هذا كفاية مستغنية عن المزيد وقد كان يفعله أنبياء الله عليهم السلام كما ثبت في الصحيحين البخاري "3356"، مسلم "2370"، وغيرهما أحمد "2/233"، من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعدما أتت عليه ثمانون سنة"، وقد كان ثابتا في الجاهلية ثبوتا لا ينكره أحد فقرره الإسلام ولا

يصح الاستدلال بحديث: "الختان سنة في الرجال ومكرمة في النساء"، [أحمد "5/75"] ، لأن السنة تشمل الثابت من سنته صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أعم من أن يكون واجبا أو مسنونا أو مندوبا على أن هذا الحديث في إسناده من لا يقوم به الحجة مع كونه مضطربا اضطرابا شديدا وقد ذكرت ذلك في شرح المنتقى وذكرت عدم انتهاض الأدلة على الوجوب ولكن الصواب ما هنا.

باب الأطعمة والأشربة

باب الأطعمة والأشربة [فصل يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير والخيل والبغال والحمير الأهلية وما لا دم له من البري غالبا وما وقعت فيه ميتة إن أنتن بها وما استوى طرفاه من البيض وما حوته الآية إلا الميتتين والدمين ومن البحري ما يحرم شبهه في البري كالجري والمار ما هي والسلحفاة] . قوله: "باب الأطعمة والأشربة". قوله: "فصل: يحرم كل ذي ناب من السبع وذي مخلب من الطير". أقول: هكذا جاءت السنة الصحيحة الثابتة من طريق جماعة من الصحابة بأنه يحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ولا خلاف في ثبوت ذلك وقيام الحجة به فلا يخرج من هذا العموم الشامل إلا ما خصصه الدليل الذي تقوم به الحجة فمن جاءنا بالخاص المقبول فبها ونعمت وجب علينا بناء العام على الخاص ومن لم يأت فهو محجوج بهذا العموم وكلامه رد عليه. ومما ينتهض لتخصيص عموم كل ذي ناب من السباع حديث عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي عمارة قال: قلت لجابر: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم قلت: آكلها؟ قال: نعم قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم, أخرجه الشافعي وأحمد "3/318، 322"، وأهل السنن أبوز داود "3801"، الترمذي "1791"، النسائي "7/200"، ابن ماجة "3236"، والبيهقي وصححه البخاري والترمذي "5/252"، وابن حبان وابن خزيمة وأما إعلال ابن عبد البر لهذا الحديث بعبد الرحمن المذكور فوهم فإنه ثقة مشهور وثقة جماعة من الحفاظ ولم يتكلم فيه أحد وهكذا لا وجه لإعلاله بالإرسال ولم يعارض بشيء يعتد به. قوله: "والخيل". أقول: لم يأت دليل يدل على تحريمها والأصل الحل لعموم قوله عزوجل: {قُلْ لا أَجِدُ

فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} ومع هذا فقد ورد في حل أكلها ما تقوم الحجة ببعضه فثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في لحوم الخيل وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه وفي لفظ لأحمد "6/346، 347": "فأكلناه نحن وأهل بيته". وقد أجمع الصحابة على حل الخيل ولم يخالف في ذلك أحد منهم وقد كانت الجاهلية تأكلها في الإسلام وقرر ذلك وما روى عن ابن عباس من أنه قال بكراهيتها فلم يثبت ذلك عنه من وجه صحيح وقد قال بالكراهة الحكم بن عتيبة ومالك وبعض الحنفية والحق الحل بلا كراهة. وأما الاستدلال على التحريم بقوله عزوجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] .فساقط لأن الامتنان بنعمة من النعم التي أنعم الله بها على عباده فيما خلقه من الحيوانات لا ينافي غيرهما من النعم هذا على تقدير عدم ورود الأدلة الدالة على الحل فكيف وقد وردت هذه الأدلة التي ذكرناها والبعض منها يكفي وأيضا لو نظرنا إلى الأدلة القرآنية فقط لكان قوله عزوجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] ، الآية وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] ، يدلان بعمومهما على الحل ولا يصلح مجرد الامتنان بنعمة الركوب والزينة لتخصيص عمومهما لعدم الملازمة بين الامتنان والتحريم وأيضا الآية أعني قوله: {لِتَرْكَبُوهَا} مكية بالاتفاق وتحليل الخيل كان بعد الهجرة فلو فرضنا أن فيها دلالة كما زعموا لكانت منسوخة بأدلة التحليل. قوله: "والبغال". أقول: قد ذهب الجمهور إلى تحريمها ولا بد من مخصص لها من عموم قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} وقد أخرج أحمد "3/361"، والترمذي "1793"، بإسناد لا بأس به من حديث جابر قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال وأخرج أحمد "4/89"، من حديث خالد بن الوليد بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادى وفيه: "وحرام عليكم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها" وقد ضعفه جماعة من أهل الحديث ولكنه معتضد بالحديث الأول وبعموم القرآن وأخرجه أيضا أبو داود "3790"، من حديثه بلفظ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه. قوله: "والحمر الأهلية". أقول: الأحاديث الثابتة في تحريم الحمر الأهلية متواترة فمنها في الصحيحين من حديث جابر البخاري "5524"، مسلم "36/1941"، وابن عمر البخاري "5521"، مسلم "24/561"، وابن عباس البخاري "4227"، مسلم "23/1939"، وأنس البخاري "5528"، مسلم "34/1940"، والبراء بن عازب

البخاري "2225، 5526"، مسلم "28/193"، بن الأكوع البخاري "2477"، مسلم "33/1802"، وأبي ثعلبة الخشني البخاري "5527"، مسلم "23/1936"، وعبد الله بن أبي أوفى البخاري "5525، 5526"، مسلم "26/1937" وهو أيضا في صحيح البخاري "7/451"، من حديث زاهر الأسلمي وهو في الترمذي من حديث أبي هريرة "1795"،والعرباض بن سارية "1474"، وهو أيضا عند أبي داود والنسائي من حديث خالد بن الوليد وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وعند أبي داود "3806"، والبيهقي من حديث المقدام بن معد يكرب فالقائل بحلها مخالف لما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول جابر بن زيد أنه أبى تحريم الحمر الأهلية البحر ابن عباس وقرأ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [المائدة: 139] ، الآية فيقال لجابر قد أبى هذا الإباء من البحر ابن عباس هذه البحار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من جملة رواتها والحجة في روايته لا في رأيه ولو كان بيده رواية لم تقو على مطاولة هذه الجبال الرواسي. وأما التمسك بعموم الآية فإذا لم يصلح لتخصيصها ما ثبت في السنة تواترا لم يصلح شيء من السنة للاستدلال به للقطع بأن المتواتر منها هو أرفع درجاتها وأعلى رتبها وما استلزم الباطل المجمع على بطلانه باطل بالإجماع. وأما ماأخرجه أبو داود "3809"، عن غالب بن أبجر قال أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية وقد أصابتنا سنة قال: "أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية"، فلا يقوم به الحجة لما في إسناده من الضعف وفي متنه من الشذوذ هذا على تقدير عدم المعارض له فكيف وهو خلاف ما تواتر من السنة. وأما الحمر الوحشية فالإجماع على حلها ثابت وقد صادها الصحابة وأكلوها وأكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر أواضح من أن يحتاج إلى التنبيه عليه. قوله: "وما لا دم له من البري". أقول: قد عرفت أن القرآن قد دل على أصالة الحل فلا يخرج عنه إلا ما دل الدليل الصحيح على تحريمه وأما استدلال من استدل على تحريم الأكل بكون الحيوان مأمورا بقتله منهيا عن قتله فهذا استدلال آخر وهو أن الأمر بالقتل أو هو النهي عن القتل يقتضيان تحريم المأمور بقتله أو المنهي عن قتله ولا دليل على ذلك. وأما الاستدلال على تحريم ما تستخبثه بقوله تعالى: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51] ، وبقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57، 172] ، فغاية ذلك الأمر بأكل ما طاب من دون تعرض للمنع من أكل ما لم يطب وهو المستخبث إلا على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده وهو هنا بعيد ولكن إذا ضم إلى ذلك قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، أفاد المطلوب من تحريم الخبائث.

وأما قوله: "وما وقعت فيه ميتة إن أنتن بها" فوجهه أنه قد صار مستخبثا. وأما قوله: "وما استوى طرفاه من البيض" فلعل وجه هذا الاستقراء ولا يستوي الطرفان إلا في بيض ما يحرم بيضه ولا فائدة لهذا التنصيص على هذا الجزئي بل ما كان حراما كان بيضه حراما وكذلك جميع أجزائه وجميع ما ينفصل عنه. وأما قوله وما حوته الآية فظاهر. وأما استثناء الميتتين والدمين فوجه ذلك ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلم: "أحل لكم ميتتان ودمان"، كما تقدم وهو يخصص عموم: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] . قوله: "ومن البحري ما يحرم شبهه في البري". أقول: هذه الكلية محتاجة إلى دليل فإن حيوانات البحر قد دخلت تحت قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} وما ورد في معناه واختصت بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، فلا وجه للقول بتحريم ما يشابه ما حرم من البري بل يقال الأصل حل كل حيوان بحري إلا ما أخرجه الدليل من هذا الأصل ومن عموم الأدلة أو كان مستخبثا لما تقدم. [فصل ولمن خشي التلف سد الرمق منها ويقدم الأخف فالأخف إلى بضعة منه وندب حبس الجلالة قبل الذبح وإلا وجب غسل المعاء كبيضة الميتة ويحرم شم المعضوب ونحوه كالقبس لا نوره ويكره التراب والطحال والضب والقنفذ والأرنب والوبر] . قوله: "فصل: ولمن خشي التلف سد الرمق منها". أقول: كان يحسن من المصنف أن يقتدي بعبارة القرآن الكريم في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ} [البقرة: 173] ، فمجرد حصول الضرورة إلى الأكل من الميتة مسوغ لأكلها وإن لم يخش التلف ويجوز له أن يأكل منها ما يكفيه ولا يلزمه الاقتصار على مجرد سد الرمق وحكم غير الميتة من المحرمات حكمها لأن تحريمها لا يزيد على تحريم الميتة ولهذا وقع الاستثناء في الكتاب العزيز بقوله: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، ولكنه ينبغي تقديم ميتة المأكول على غير المأكول لأن استخباث النفس لميتة المأكول دون استخباثها لميتة غير المأكول وهو معنى قول المصنف ويقدم الأخف فالأخف. وأما قوله: "إلى بضعة منه" فلا شك أن في هذا إضرار بالنفس فإن كان دون ضرر الجوع فعل وذلك بأن يخشى إن بقي على الجوع أن ينتهي إلى الموت ولا يخشى مثل ذلك في أكل بضعة من نفسه.

قوله: "وندب حبس الجلالة قبل الذبح". أقول: قد ثبت النهي عن أكل لحمها كما أخرجه أحمد وأبو داود "3785"، وابن ماجة "3189"، والترمذي 1824"، وحسنه بلفظ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها وأخرج أحمد "2/219"، وأبو داود "3811"، والنسائي "4447"، والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحومها وفي الباب عن أبي هريرة في النهي عن الجلالة قال ابن حجر وإسناده قوي وثبت أيضا النهي عن شرب لبنها من حديث ابن عباس عند أحمد "1/226، 321، 339"، وأبي داود "3786"، والترمذي "1825"، والنسائي "4448"، وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن دقيق العيد وظاهر هذه الأحاديث التحريم لأنه حقيقة النهي فلا يجوز ذبحها قبل الحبس فإن فعل كان أكلها حراما لا كما قال المصنف وإلا وجب غسل المعاء كبيضة الميتة فإنه لا دليل يدل على أن هذا الغسل محلل لذلك المحرم. قوله: "ويحرم شم المغضوب". أقول: المحرم هو أن يأتي إلى العين المغصوبة فيشتمها لا إذا فاحت رائحتها في الهواء فوصلت إلى محل الشم من الذي يقصد ذلك فإن هذا لا تحريم فيه والتكليف به تكليف بما لا يطاق وهو لم يشتم نفس المغصوب إنما كان ذلك بتموج الهواء وإيصال بعض أجزائه لتلك الرائحة إلى بعض. وأما قوله: "ونحوه كالقبس" فقد تقدمت الأدلة الدالة على الاشتراك في النار فلا بد من مخصص يخصص هذا من عموم أدلة الاشتراك. وأما قوله: "لا نوره" فكان على المصنف أن يجعله كالشم لأنها أعراض منفصلة من النار كانفصال أعراض الرائحة من الطيب ولا فرق بينهما إلا كون هذا العرض النوري من الأعراض المدركة بحاسة البصر ورائحة الطيب من الأعراض المدركة بحاسة الشم والحق ما عرفناك من أن ذات النار فضلا عن لهبها فضلا عن مجرد نورها مشتركة بين العباد. قوله: "ويكره التراب". أقول: وجهه أنه مما يضر بالبدن ويؤدي إلى التلف كما ذلك معلوم بالوجدان في كلم من حبب إليه أكل نوع من أنواع التراب وحفظ النفس واجب وقد قال الله عزوجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقد ثبت في السنة أن قاتل نفسه يخلد في النار ولا فرق بين سبب وسبب فهذا يدل على تحريم أكل التراب وأما إنكار مجرد الكراهة لعدم صحة الأدلة الواردة في النهي عن التراب فمن ضيق العطن. قوله: "والطحال".

أقول: ليس على هذه الكراهة أثاره من علم بل القول بها دفع لما ثبت في حديث: "أحل لنا ميتتان ودمان الكبد والطحال والسمك والجراد" وقد ادعى بعض أهل العلم الإجماع على عدم الكراهة ويقدح في دعوى هذا الإجماع حكاية الترمذي في سننه عن بعض أهل العلم أنه يقول بكراهته. قوله: "والضب". أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيح قد دلت على أنه حلال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي"، كما في صحيح مسلم [البخاري "7267"، مسلم "42/1944"، وغيره [أحمد "2/137"، وكما في الصحيحين [البخاري "5391"، مسلم "44/1946"] ، وغيرهما [أبو داود "3794"، النسائي "4326"، ابن ماجة "3241"] ، عن خالد بن الوليد أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: "لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه"، قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فهذا يدل دلالة بينة أنه حلال وأنه لم يترك أكله صلى الله عليه وسلم إلا لكونه ليس مما يؤكل في أرض قومه فعافه ومثل هذا لا تثبت به الكراهة. وقد ثبت عند مسلم "49/1950"، وغيره من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرمه. وأما ما روى من حديث أبي سعيد عند مسلم وغيره أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني في غائط مضبة وإنه عامة طعام أهلي فلم يجبه فقلنا: عاوده فعاوده فلم يجبه ثلاثا ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثالثة فقال: "يا أعرابي إن الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض ولا أدري لعل هذا منها فلست آكلها ولا أنهي عنها"، فينبغي أن يحمل على أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن الله سبحانه لم يجعل لممسوخ نسلا كما في صحيح مسلم "33/2663"، وغيره أحمد "4/258، 259"، فلا يصح أن يكون هذا التردد منه صلى الله عليه وسلم في كونه مما مسخ علة في الكراهة فقد تبين في قوله: "أنه لا نسل لممسوخ". وأما ما روي من النهي عن أكل الضب فقد ضعف الأئمة الحفاظ هذا الحديث فهو لا يصلح للحجة على فرض انفراده عن المعارض فكيف وقد عورض بما هو أوضح من شمس النهار وأما دعوى ابن حجر أن إسناده حسن فلا يصح ذلك ردا لما علله به الحفاظ من العلل القادحة ولو قدرنا أنه حسن لم ينتهض لمعارضة شيء من أدلة الحل قال النووي وأجمع المسلمون على أن الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا هو حرام وما أظنه يصح عن أحد فإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله انتهى. ولو قدرنا أنه ورد شيء على الكراهة كان حمله على أن ذلك قبل أن يتبين حال الضب أن ليس بممسوخ متعينا فليس في المقام ما يصلح للاحتجاج به على الكراهبة أصلا.

قوله: "والقنفذ". أقول: هو من حشرات الأرض وقد أخرج أبو داود "3798"، عن ملقام بن تلب عن أبيه قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما, قال البيهقي وإسناده غير قوي ولكنه أخرج أحمد "2/381"، وأبو داود "3799"، من حديث أبي عيسى ابن نميلة الفزاري عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] ، الآية فقال: شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خبيثة من الخبائث"، فقال ابن عمر إن كان قال رسول الله هذا فهو كما قال قال الخطابي ليس إسناده بذاك وقال البيهقي إسناده غير قوي ورواية شيخ مجهول وقال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده ضعيف فعلى هذا لا تقوم به الحجة في تحريم القنفذ ولا في كراهته وأما إسحاق بن نميلة فقد ذكره ابن حبان في الثقات. والحاصل أن القول بكراهته فقط غير صواب لأنه إن كان الدليل على ذلك حديث أبي عيسى بن نميلة فهو يدل على التحريم وإن كان الدليل على ذلك غيره فما هو والأصل الحل بدليل الكتاب العزيز كما قدمنا الإشارة إلى ذلك ومما يدل على هذه الأصالة ما أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث سلمان الفارسي قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا لكم عنه"، وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك. وأخرج البزار وقال سنده صالح والحاكم صححه من حديث أبي الدرداء رفعه بلفظ: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا"، وتلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] . وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته"، وفي الصحيحين [البخاري "البخاري "6858"، مسلم "1337"، أيضا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، وفي الباب أحاديث شاهدة لثبوت أصالة الحل في كل شيء ما لم ينقل عنه ناقل تقوم به الحجة. قوله: "والأرانب". أقول: استدلوا على الكراهة بما أخرجه وأحمد والنسائي بإسناد رجال ثقات من حديث أبي هريرة قال جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرنب فلم يأكل وأمر أصحابه أن

يأكلوا, ولا دليل في هذا على الكراهة لأن إمساك النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يكون لسبب من الأسباب كعدم الإلف لأكلها أو عدم انبعاث الشهية إليها. ومثل هذا الحديث من الدلالة على الحل وعدم الكراهة ما أخرجه أحمد "3/471"، وأبو داود "2822"، والنسائي 7/197"، والترمذي "1472"، وابن ماجه "3175"، 3244"، وابن حبان والحاكم من حديث محمد بن صفوان أنه صاد أرنبين فذبحهما بمروتين فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بأكلهما. وكذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها وأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله قال ابن حجر في الفتح: والقول بحل الأرنب هو قول العلماء كافة إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمرو بن العاص من الصحابة وعن عكرمة من التابعين وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء واحتجوا بحديث خزيمة بن جزء قال: قلت: يا رسول الله ما تقول في الأرنب؟ قال: "لا آكله ولا أحرمه" قلت: ولم يا رسول الله؟ قال: "نبئت أنها تدمى" قال ابن حجر: وسنده ضعيف ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة. [فصل ويحرم كل مائع وقعت فيه نجاسته لا جامد إلا ما باشرته والمسكر وإن قل إلا لعطش متلف أو إكراه والتداوي بالنجس وتمكينه غير المكلف وبيعه والانتفاع به إلا في الاستهلاك واستعمال آنية الذهب والفضة والمذهبة والمفضضة ونحوها وآلة الحرير إلا للنساء ويجوز ما عدا ذلك والتجمل بها] قوله: فصل: "ويحرم كل مائع وقعت فيه نجاسة لا جامد إلا ما باشرته". أقول: استدلوا على هذا بما أخرجه البخاري وغيره من حديث ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم" وفي لفظ من هذا الحديث لأبي داود "3843"، والنسائي "4260"، أنه صلى الله عليه وسلم عن الفأرة تقع في السمن فقال: "إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه"، وفيه التفرقة بين الجامد والمائع. وأخرج أحمد وأبو داود "3842"، عن حديث أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: "إن كان جامدا فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي وإن

كان مائعا فلا تقربوه"، فتعين حمل رواية ميمونة على السمن الجامد ودلت الرواية الأخرى منه وكذلك حديث أبي هريرة على أنه لا يحل قربانه إذا كان مائعا وهو معنى التحريم فما قاله المصنف هو مدلول ما ذكرناه من الحديثين ولم يعارض ذلك شيء تقوم به الحجة. قوله: "والمسكر إن قل". أقول: قد ثبت تحريم الخمر بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين أولهم وآخرهم لم يخالف في ذلك أحد منهم وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الثابت ثبوتا متواترا أنه قال: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"، [مسلم "74/2003"، أب داود "3679"، الترمذي "1861"، النسائي "5582"] ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث أنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام"، [أحمد "2*91"، ابن ماجة "3392"] ، فحصل على مجموع الأدلة أن كل مسكر من أي نوع خمر وتحريم الخمر ثابت بالضرورة الدينية وأن ما سكر كثيره فقليله حرام فلا يحل نوع من أنواع المسكر قليلا كان أو كثيرا وأما النبيذ فلا دخل له في الكلام على تحريم الخمر فإن الاتفاق كائن على أنه إذا أسكر كان حراما وأن الذي وقع فيه الخلاف منه هو ما ليس بمسكر والمسألة طويلة الذيول كثيرة النقول واسعة الأطراف رحبة الأكناف وقد أوضحنا الكلام فيها في شرحنا للمنتقى فمن أحب الوقوف على حقيقة الحال فليرجع إليه. وأما قوله: "إلا لعطش متلف" فللضرورة حكمها لا سيما إذا بلغت إلى حد خشية التلف وقد أباح الله للمضطر في كتابه العزيز ما حرمه على غيره واستثنى حالة الاضطرار للمضطرين فذلك حال مخالف لغيره من الأحوال وهكذا المكره فإنه سبحانه قد رفع عنه الخطاب كما قدمنا من الأدلة. قوله: "والتداوي بالنجس". أقول: ما حرم الله سبحانه فهو حرام في جميع أحواله ومن ادعى أنه يحل في حالة خاصة وهي حالة التداوي احتاج إلى دليل بخصوص هذا العموم وإلا فعموم الأدلة يرد عليه قوله ويدفع دعواه وهكذا النجس يحرم التلوث به وملابسته في جميع الأحوال فمن ادعى أنه يجوز في حالة التداوي فعليه الدليل المخصص لهذا العموم وإلا كان قوله ردا عليه. وإذا تقرر لك هذا علمت أن المدعي بجواز التداوي بالحرام والنجس هو المطالب بالدليل لا المانع من ذلك فإن مجرد قيامه مقام المنع يغنيه حتى يزحزحه الدليل فلا يطالب لشيء في قواعد المناظرة لأنه قائم مقام المنع ومتمسك بالأدلة العامة الشاملة لمحل النزاع. ومع هذا فقد ورد الدليل الدال على المنع من التداوي بالحرام فأخرج أبو داود من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام"، وما قيل من أن في إسناده إسماعيل بن عياش فهو إنما يضعف في روايته عن الحجازيين لا في روايته عن الشاميين وهو هنا روى هذا الحديث عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي وهو شامي ثقة.

ويؤيده ما أخرجه مسلم وأحمد "2/305"، والترمذي "2045"، وابن ماجه "2459"، من حديث أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث ومعلوم أن الحرام خبيث وأن النجس خبيث. وثبت عند مسلم "12/1984"، وأحمد "4/317"، وأبي داود "3873"، والترمذي "2046"، وصححه من حديث وائل بن حجر أن طارق بن سويد سأل النبي صلى الله عليه وسلم على الخير فنهاه عنها فقال إنما أصنعها للدواء فقال: "إنه ليس بدواء ولكنه داء". ولا يعارض هذه الأدلة إذنه صلى الله عليه وسلم للعرنين أن يشربوا من أبوال الإبل للتداوي بها فإن الخلاف في كونها نجسة أو محرمة معروف مقرر في مواطنه وعلى تقدير أنها نجسة أو محرمة فينبغي بناء العام على الخاص فيكون حديث العرنين مخصصا لتلك الأدلة العامة ولما ذكرناه بعدها. قوله: "وتمكينه غير المكلف" أقول: هذا نبأ وغريب وتكليف عجيب لا يرجع إلى عقل ولا نقل ولا رواية ولا دراية ولم نسمع من أيام النبوة إلى هذه الغاية أن منكرا أنكر على من ألقى إلى الكلاب الميتة التي نحرت من دوابه ولا روي عن فرد من أفراد المسلمين أنه تورع في ذلك فأي معروف في مثل هذا؟ وأي منكر يكون من غير بني آدم حتى يجب علينا أن نحول بينه وبينه فإنه لا خلاف أن هذه التكاليف الشرعية إنما هي على بني آدم وليس من تكليفهم أن يمنعوا من لا تكليف عليه مما لم يكلف به نعم علينا إذا رأينا سبعا قد صال على إنسان وعلى ماله أن ندفع عنه ذلك الصائل بحسب الإمكان ولكن دفعه ليس إلا الاحترام مال الآدمي ودمه كإنقاذ الغريق فما لنا والتحريم تمكينه من الميتة ونحوها. وأما قوله: "وبيعه" فوجهه الحديث الصحيح الذي تقدم في البيع إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه وهكذا قوله والانتفاع به لأن الملابسة للنجس غير جائزة على كل حال فلا بد أن يحمل قوله إلا في الاستهلاك على عدم المباشرة والتلوث وإلا فذاك حرام على كل حال. فإن قلت: قد أذن صلى الله عليه وسلم كما صح عنه في الانتفاغ بإهاب شاة ميمونة التي ماتت وقال لهم هلا انتفعتم بإهابها وقالوا: يا رسول الله إنها ميتة؟ قال: "أليس في القرظ ما يطهرها"، فقوله: "أليس في القرظ ما يطهرها"، يعني الذبح كما في حديث: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" يدل على أن الإهاب كان عند سلخه من الميتة نجسا وكذلك بعد سلخه ومعالجته بالدبغ هي من المباشرة للنجس لأنه لا يطهر حتى يصير مدبوغا فقد وقعت ها هنا المباشرة للنجس والملابسة له. قلت: يكون هذا خاصا بمثل هذه المنفعة فلا يجوز قربان شيء من النجس إلا ما أذن به الشرع على أنه قد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما حرم من الميتة أكلها"، [البخاري

"3/355"، مسلم "100/363"، هكذا بصيغة الحصر وقد تقدم الكلام على نجاسة الميتة في كتاب الطهارة. قوله: "واستعمال آنية الذهب والفضة" الخ. أقول: الأصل الحل كما يفيده قوله عزوجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29] ، وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، فلا ينقل عن هذا الأصل المدلول عليه بعموم الكتاب العزيز إلا ما خصه دليل ولم يخص الدليل إلا الأكل والشرب في آنية الذهب والتحلي بالذهب للرجال فالواجب الاقتصار على هذا الناقل وعدم القول بما لا دليل عليه بما هو خلاف الدليل ولم يرد غير هذا فتحريم الاستعمال على العموم قول بلا دليل وما كان ربك نسيا. وأما الآنية المذهبة والمفضضة فإن صدق عليها بذلك التذهيب والتفضيض أنها من آنية الذهب والفضة حرام الأكل والشرب فيها وإن لم يصدق عليها ذلك كما هو المعلوم لم تحرم وغاية ما هنا ألا يضع فمه على الموضع الذي فيه الذهب والفضة والعجب من مجاوزة محل التخصيص إلى أبعد مكان حتى قال المصنف ونحوها وفسره بالجواهر فليت شعري ما هذا التجري على التحريم على عباد الله سبحانه بما لم يأذن الله به وقد قرن ذلك بما قرنه في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} الأعراف:33] ، إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ومع هذا امتن الله سبحانه على عباده بلبس الجواهر البحرية فقال: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] ، ومن غيره فقال تلبسها نساؤكم فهو إنما عهد إلى القرآن الكريم فقيده بكلام من قلده وهذه غفلة عظيمة لا ينجو منها إلا من رزقه الله الفهم الصحيح والإنصاف الخالص. وهكذا لا وجه لقوله وآلة الحرير إلا للنساء فإنه لم يرد على تحريم آلة الحرير على الرجال قط وإنما ورد ما ورد في لبسه وسيأتي الكلام عليه في اللباس إن شاء الله. وأما قوله: "والتجمل بها" فوجهه أن ذلك مما أحله الله ولم يحرمه كما لم يحرم استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب والتحلي بالذهب فالكل حلال طلق أباحه الذي خلقه لعباده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. [فصل وندب من الولائم التسع وحضورها حيث عمت ولم تعد اليومين ولا منكر وإجابة المسلم وتقديم الأول ثم الأقرب نسبا ثم بابا وفي الأكل سننه العشر والمأثورات في الشرب وترك المكروهات فيهما]

قوله: فصل: "وندب من الولائم التسع" الخ. أقول: الوليمة في لسان أهل الشرع هي خاصة بالعرس لا تتناول غيره وقد وردت الأدلة بالترغيب فيها والأمر بها وكذلك وردت الأدلة بمشروعية الإجابة إليها وقد أوضحنا ذلك في شرح المنتقى ومن زعم أنه يقال لغير العرس وليمة فعليه الدليل ولا تلازم بين مشروعية الذبح وكونه يقال له وليمة وإلا لزم في أنواع الضيافات أن يقال لها ولائم لأنه قد ورد الترغيب في ذلك على العموم وهكذا يلزم من الضحايا والهدايا ولا وجه لذلك لا من شرع ولا من لغة. وإذا عرفت هذا فالعقيقة مثلا قد وردت الأدلة بمشروعيتها كما تقدم ولا يقال لها وليمة ولا تندرج تحت الأحاديث المصرحة بالترغيب في الوليمة والترغيب في الإجابة إليها ما ذكره المصنف لا دليل عليه ولا يثبت في مشروعيته شيء يصلح للاحتجاج به أصلا. وأما أمره صلى الله عليه وسلم بأن يصنع لآل جعفر طعام فذلك سببه اشتغالهم بما دهمهم من المصيبة عن أن يصنعوا لأنفسهم أو لمن يرد عليهم طعاما وهذا مأتم لا وليمة وترح لا فرح ومصيبة لا مسرة فجعله من الولائم من أعجب ما يسمع السامعون. قول: "وحضورها حيث عمت". أقول: لم يرد ما يدل على مشروعية الحضور إلا في العرس فقط فدعوى مندوبية الحضور إلى هذه التسع التي ذكرها كله هو من بناء الباطل على الباطل كما عرفناك ومعلوم أن مراد المصنف حضور من دعى إليها لا حضور من لم يدع فإن ذلك تطفل فترك التقييد بهذا للعلم به وأما اشتراط كونها تعم الغني والفقير فلم يرد ما يدل على تقييد ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "من دعي إلى الوليمة فليأتها" [البخاري "9/240" مسلم "96/1429"] ، بهذا الشرط ولا تلازم بين كون طعامها شر الطعام وبين ترك حضورها فإن هذه الشرية الكائنة في الطعام إنما جاءت من جهة صاحب الوليمة وكونه دعا إليها الأغنياء دون الفقراء وأما المدعو إليها فقد اتبع السنة بالإجابة. قوله: "ولم تعد اليومين". أقول: التقييد بالأيام ورد في الضيافة لا في الوليمة وقد قدم المصنف رحمه الله الكلام على الضيافة وذكر هنا الولائم وذلك يفيد أن هذه الولائم غير الضيافة عنده فتقييد أحدهما بما ورد في الآخر غير صواب ثم على تقدير أنه يصدق على هذه الولائم عنده أنها ضيافة فكان عليه أن يقول ولم يتعد الثلاث لما ثبت في الصحيحين [البخاري "6109، 6476"، مسلم "14/48"] ، وغيرهما [الترمذي "1767، 1768"، ابن ماجة "3675"] ، من حديث ابن شريح الخزاعي مرفوعا بلفظ: "والضيافة ثلاثة أيام فما كان كان وراء ذلك فهو صدقة ولا يحل أن يثوى عنده حتى يحرجه" وأما ما ورد "أن الوليمة في اليوم الأول حق وفي اليوم الثاني معروف ومن الثالث رياء وسمعة"، [أبو داود "3745"، أحمد "5/28"، فهو مما لا تقوم به الحجة وإن كان له طرق لا سيما مع معارضته لهذا الحديث الثابت في الصحيح.

ويمكن الجمع على تسليم انتهاض الحديث بأن اليوم الثالث وإن كان من أيام الضيافة لكنه ربما يصحبه الرياء والسمعة فيكون الاقتصار على اليومين أولى وربما لا يصحبه فيكون الثلاثة الأيام أولى لقوله صلى الله عليه وسلم: "والضيافة ثلاثة أيام". قوله: "ولا منكر". أقول: وجهه أن الضيافة التي شرعها الشارع من وليمة أو غيرها ليس المراد بها إلا ما كانت واقعة على وجه الشرع خالية عن معاصي الله فإن كانت على غير الصفة الشرعية فليست الضيافة ولا الوليمة التي ندب الشارع إليها وتوعد من لم يجب إليها فإنه عصى الله ورسوله كما صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم. وإذا عرفت هذا فلا حاجة إلى الاستدلال على اشتراط عدم وجود المنكر في مشروعية الحضور والإجابة ولا سيما إذا كان التبرع بالاستدلال على ذلك لا يسمن ولايغني من جوع. قوله: "وإجابة المسلم". أقول: قد اجتمع في إجابة دعوة العرس الأمر والوعيد وكل ذلك ثابت في الصحيح أما الأمر فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها"، وأما الوعيد فلوصفه صلى الله عليه وسلم: "من لم يجب فقد عصى الله ورسوله". وأما قوله والأول فبذلك وردت السنة وكذلك تقديم الأقرب جوارا هو الأقرب بابا وأما تقديم الأقرب نسبا فلم يرد ما دل عليه على الخصوص ودعوى تقديمه على الجار مخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما إليك بابا فإن أقربهما إليك بابا أقربهما جوارا وإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق"، [أحمد "5/408"، أبو داود "3756"] ، فإنه لا يعارض هذا الخاص الاستدلال بمثل قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ، فإنه على تقدير عموم هذه الأولوية وتناولها لما نحن بصدده هي مخصصة بهذا الحديث وهو صالح للاحتجاج به وقد عرفت أن دلالة العموم ظنية لا سيما إذا كان شمولها للمتنازع فيه بعيدا جدا كما هنا. قوله: "وفي الأكل سننه العشر". أقول: وقد ذكر المصنف في شرحه هذه العشر وأكثرها لا دليل عليه قط وقد ثبت في السنة المطهرة ما يغني عن اختراع السنن بمجرد الرأي وهي إذا تتبعت كانت أكثر من عشر وفي أدلة بعضها ما يدل على وجوب فعله وهكذا آداب الشرب وتعداد جميع ذلك ها هنا يحتاج إلى بسط وليس المراد لنا في هذه التعليقة على هذا الكتاب إلا بيان ما هو صواب من مسائله أو أخطأ وكذلك الإشارة إلى دفع ما اعترض به عليه إذا كان الاعتراض على خلاف الصواب كما قدمنا الإشارة إلى ذلك في الخطبة. وأعلم أن مكروهات الأكل والشرب هي ما كانت على خلاف ما علمنا الشارع من آدابهما

وقد يكون بعض هذه المكروهات كراهة حظرية وذلك فيما نهى عنه الشارع كالأكل بالشمال فإنه ثبت في الصحيحين [البخاري "9/521، 9/523"، مسلم "108، 109/2022"] ، وغيرهما أبو داود "3777"، الترمذي "1857"، ابن ماجة "2367"، أحمد "4/76"، المر بالأكل باليمين وثبت في مسلم وغيره النهي عن الأكل بالشمال. والحاصل أن آداب الأكل والشرب واجبها ومندوبها ومحظورها وها هو دونها في الكراهة مع إيضاح الكلام عن كل دليل في ذلك وبيان وجه دلالته وما يستفاد منها لا يفي به إلا مؤلف مستقل.

باب اللباس

باب اللباس [فصل يحرم على الذكر ويمنع الصغير من لبس الحلي وما فوق ثلاث أصابع من حرير خالص لا مشوب فالنصف فصاعدا ومن المشبع صفرة وحمرة إلا الإرهاب أو ضرورة أو فراش أو جبر سن أو أنف أو حلية سيف أو طوق درع أو نحوها ومن خضب غير الشيب] . قوله: "باب اللباس". قوله: فصل: "ويحرم على الذكر ويمنع الصغير من لبس الحلي". أقول: أما حلية الذهب فلا شك لورود الأدلة الدالة على تحريمه قليلها وكثيرها وأما حلية الفضة فالمانع يحتاج إلى الدليل لأن الأصل الحل وقد دل على هذا الأصل قوله عزوجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراق: 32] ، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29] ، مع ما ثبت من أن سيفه صلى الله عليه وسلم كان فيه فضة ومع قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم". [أبو داود "4236"، أحمد "2/378"] . وأما الاستدلال بأن في ذلك تشبها بالنساء فهو مصادرة على المطلوب لأن القائل بالجواز يقول إن التحلي بالفضة لا يختص بالنساء بل الرجال والنساء فيه سواء وإن كان استعمال كل واحد من النوعين لنوع خاص من حلية الفضة فلا يشبه أحدهما في ذلك النوع الخاص به لا في مطلق التحلي فلا مانع من أن يحلى الرجل سلاحه ومنطقته بالفضة. قوله: "وما فوق ثلاث أصابع من حرير خالص". أقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جوز أربع أصابع [البخاري"10/284"، مسلم

"12/2069"، أبو داود "4042"، الترمذي "1721"، النسائي "8/202"، ابن ماجة "3593"] ، ومنه مما زاد عليها فكان الأولى أن يقول المصنف وما فوق أربع أصابع. وأما الكلام على لبس مطلق الحرير فالأدلة الدالة على المنع منه هي أوضح من شمس النهار كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي هذا للمؤمنين"، البخاري "10/269"، وقوله: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"، البخاري "10/284"، مسلمك "11/2069"، وقوله: "إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة"، البخاري "10/285"، مسلم "7/2068"، ووردت أحاديث بصريح النهي ووردت أحاديث بصريح التحريم كما في حديث: "إن هذين حرام على ذكور أمتي" [أحمد "1/115"، أبو داود "4057"، النسائي "5145"، ابن ماجة "3595"] ، وحديث: "حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي"، [أحمد "4/394، 407"، النسائي "5148"، الترمذي "1720"] ، وقد أوضحت المقام في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره فليرجع إليه حتى يقف على الحقيقة قي خالصه ومشوبه وما يباح منه وما لا يباح وقد دارت بيني وبين شيخي السيد الإمام عبد القادر بن أحمد الكوكباني رحمه الله في الحرير رسائل تكاثر عددها وتزايد مددها وكان ذلك أيام قراءتي عليه. قوله: "والمشبع صفرة وحمرة" أقول: إنما ورد النهي عن الثوب المعصفر وهو المصبوغ المعصفر وصبغ العصفر يكون أحمر على نوع خاص من أنواع الحمرة فلا يعارض هذا ما ثبت من لبسه صلى الله عليه وسلم للحلة الحمراء لإمكان الجمع بأن تلك الحلة الحمراء كانت مصبوغة بغير العصفر ولم يرد في مطلق الصفرة أو الحمرة ما يقتضي التحريم ولا في نوع خاص من ذلك وهو المشبع فأعرف هذا وقد جمعت في هذا رسالة وجوب سؤال من بعض أهل العلم. قوله: "إلا الإرهاب". أقول: الإرهاب للعدو إنما يكون العدد والمدد والعدة والشدة والسلاح المعد للكفاح ولهذا يقول الله عزوجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، وأي إرهاب يحصل في صدر العدو لمن تظاهر له في الحلى والحلل فإن هذا اللابس إنما تشبه بريات الحجال وخرج من عديد الرجال وهل يقول عاقل إن ملابس النساء تؤثر شيئا من المهابة في صدر أحد من بني آدم وما أحسن قول أبي العتاهية في ابن معن بن زائدة. فما تصنع بالسيـ ... ـف إذا لم يك قتالا فكسر حلية السيـ ... ـف وصغ من ذاك خلخالا فإنه ها هنا أمره أن ينزع الحلية المختصة بالرجال ويجعل مكانها الحلية المختصة بالنساء لمشابهته لهن ومهانته عند الناس. والحاصل أن الترهيب على العدو هو مقصد من مقاصد الشرع ولكنه لا يكون إلا بما

عرفناك لا بما أراده المصنف فإن هذا لا يجري على شرع ولا عرف ولا رواية ولا دراية وإنما هو من صنيع النساء ومن يشابههن من المترفين. قوله: "أو ضرورة". أقول: هذه الضرورة إن كانت هي الضرورة للتداوي فقد ثبت في السنة المطهرة ما يدل على أن التفويض أفضل فلا ضرورة أيضا فلو قدرنا أن شيئا من ذلك يصلح للتداوي به لكان من التداوي بالحرام وقد تقدم الكلام عليه وإن كانت هذه الضرورة هي الحاجة الضرورية للبس الثوب الحرير أو الذهب أو نحوهما لمزيد برد ومخافة ضرر فقد سوغ الله سبحانه في كتابه العزيز للضرورة أكل الميتة ونحوها فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ} [البقرة: 173] ، وقال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] . قوله: "أو فراش". أقول: هذا دفع للسنة الصحيحة المتفق عليها من نهيه صلى الله عليه وسلم من افتراش الحرير والجلوس عليه فهذه السنة هادمة لكل رأي مخالف لها مبطلة لكل علة تنصب في مقابلتها، وقد أخرج الجماعة من حديث أنس أن النبي صلي الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت بهما ولفظ الترمذي "1722"، أن ذلك كان في غزاة لهما وهكذا في صحيح مسلم "26/2076"، فأفاد الحديث جواز التداوي بذلك وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقي. وأما قوله: "أو جبر سن أو أنف" فقد وقع الإذن منه صلى الله عليه وسلم باتخاذ أنف من ذهب أنفه في بعض الحروب وهو حديث حسن وجبر السن كجبر الأنف. قوله: "أو حلية سيف أو طوق درع أو نحوهما". أقول: إن كانت هذه الحلية لمثل هذه الآلات السلاحية من الفضة فقد قدمنا أن الأدلة دلت على جواز التحلي بها حتى قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم"، وأما التحلي بالذهب فقد دلت الأدلة على المنع من قليله وكثيره فمن زعم أنه يجوز التحلي بشيء منه من سيف أو درع أو نحوهما فالدليل عليه فإن نهض به وإلا كان الواجب البقاء على التحريم لأن أدلته ناقلة من الأصل الأول وهو الجواز. قوله: "ومن خضب غير الشيب". أقول: قد تقرر أن خضب اليدين والرجلين كان من صنيع النساء وكان من يتشبه بهن من الرجال يفعل ذلك كما هو معروف وقد ثبت النهي عن التشبه بالنساء والوعيد على ذلك ولم يرد في ذلك شيء أصلا وأما خضب الشيب فقد وردت به الأدلة الصحيحة وورد ما يدل على تأكيد مشروعيته كما في الصحيحين [البخاري "3462، 5899"، مسلم "2103"، وغيرهما [أبو داود "4203"، النسائي "8/137"، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"، وأخرج أحمد "5/147، 150"، وأهل السنن أبو داود " 4205"، الترمذي "1753"، النسائي "8/139"، ابن ماجة "3622"، وصححه الترمذي "4/232"، من حديث أبي ذر:

"إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم"، والأحاديث في الباب كثيرة وقد كانت هذه السنة مشتهرة بين السلف حتى كانوا يذكرون في ترجمة الرجل في الغالب أنه كان يخضب أو لا يخضب ولا ينافي مشروعية الخضب حديث: "لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم"، كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وصححه الترمذي وابن حبان فإن تعليل المنع بكونه نور المسلم على عدم جواز خضبه فإن نوره بعد خضبه زائد على نوره قبل خضبه. [فصل ويحرم على المكلف نظر الأجنبية الحرة غير الطفلة والقاعدة إلا الأربعة ومن المحرم المغلظ والبطن والظهر ولمسها ولو بحائل إلا لضرورة وعليها غض البصر كذلك والتستر ممن لا يعف ومن صبي يشتهى أو لا يشتهى ولو مملوكها ويحرم النمص والوشر والوشم والوصل بشعر غير المحرم وتشبه النساء بالرجال والعكس] . قوله: "فصل: ويحرم على المكلف نظر الأجنبية". أقول: حكى المصنف في البحر عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل أنهم يجوزون النظر إلى وجه الأجنبية وهذا النقل عنهم باطل فكتبهم على اختلافها مصرحة بخلاف ذلك فإن الرواة عنهم من أهل مذاهبهم في كتبهم المعتمدة منهم من صرح بأنهم لم يتكلموا إلا على العورة في الصلاة ولم يتكلموا على النظر ومنهم من صرح بأنهم قائلون بالمنع من النظر ومنهم من صرح بأن القائلين بالمنع المتأخرون من أتباعهم ولا يخفاك أن الأدلة الدالة على تحريم النظر إلى وجه الأجنبية ثابتة في الكتاب والسنة. فمن الكتاب: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] ، الآية وبعده {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] ، الآية وكلام المتكلمين في تفسير هذه الآية من الصحابة فمن بعدهم معروف منقول في كتب الحديث والتفسير ومن ذلك في الكتاب العزيز ما ورد في الحجاب عموما وخصوصا ومن ذلك قوله عزوجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ، وقوله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60] ، الآية فإن تخصيصهن يدل على أن حكم من عداهن بخلاف حكمهن كما سيأتي ومنها قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] ، ومن ذلك قوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [فقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت قالت عائشة رحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله وليضربن بخمرهم على جيوبهن شققن مروطهم فاختمرن بها أي وقعت منهن التغطية لوجوههم وما يتصل بها ومن ذلك قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] .

وفي هذه الآيات أعظم دلالة على وجوب التستر عليهن وتحريم النظر إليهن. وأما الأحاديث الواردة على تحريم النظر فهي كثيرة جدا ومنها التحذير من النظر والتنبيه على سوء عاقبته وعظيم مفسدته والتصريح بأن النظرة الأولى عفو والثانية على الناظر ونحو ذلك مما لا يتسع المقام لبسطه والتحريم على النساء في نظرهن إلى الرجال كالتحريم على الرجال في النظر إليهن لأمرهم بغض الأبصار كما أمروا بغضها ولحديث "أفعمياوان أنتما؟ " ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت بدليل صحيح لا بمجرد قول من لا تقوم به الحجة فما ثبت في تفسير الاستثناء بقوله عزوجل: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كان في حكم المستثنى من عمومات الكتاب والسنة ولا يصح الاستدلال على الجواز بأن المرأة تكشف وجهها في إحرامها أو حال صلاتها فإن ذلك ليس فيه شيء من الدلالة لأن المرأة قد سوغ لها الشارع كشف وجهها عند ذلك ولم يجوز للرجال النظر إليها في هذه الحالة بل هم مأمورون بغض البصر في هذه الحال وغيرها كما أنه لا يجب على الرجال أن يستروا وجوههم عند مخالطتهم للنساء بل عليهن أن لا ينظرن إليهم لأنهن مأمورات بغض أبصارهم فاعرف هذا ففيه ما يغني عن الاستدلال بما لا دلالة فيه على الجواز أو عدمه وبما هو عن الدلالة على المطلوب في أبعد مكان. قوله: "غير الطفلة والقاعدة إلا الأربعة". أقول: أما الطفلة فظاهر لخروجها عن الخطاب وعدم أن يتصور في مثلها الإيجاب وأما القاعدة فلقوله عزوجل: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} [النور: 60] ، وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز لهن أن يضعن ثيابهن عما عدا الوجه واليدين فرفع الجناح عنهن هو عن وضع الثياب التي على الوجه والكفين فكان ذلك دليلا على جواز النظر إليهم ودليلا أيضا على أن غير القواعد يحرم النظر إليهن فهذه الآية من جملة الآيات الدالة على تحريم النظر إلى الأجنبية كما تقدم. وأما استثناء الأربعة فقد جاءت السنة بجواز النظر من الخاطب إلى المخطوبة وأما الثلاثة الآخرون وهم الطبيب والشاهد والحاكم فقد ادعى الإجماع على ذلك ولا أدري كيف هذا النقل فإن صح فذاك مع أن نظر الثلاثة المذكورين إليها عند مندوحه وذلك بأن يأمر الشاهد أو الحاكم أو الطبيب النساء أن ينظرن إلى الموضع الذي تدعو الحاجة إلى النظر إليه ثم يصنف لهم فإن في ذلك ما يغني عن النظر المحرم مع كونه وقوفا على مقدار الحاجة وإن كان دون النظر منهم أنفسهم. قوله: "ومن المحرم المغلظ والبطن والظهر". أقول: أما المغلظ فظاهر وهو عند المصنف من السرة إلى تحت الركبة وهذه هي عورة الجنس مع جنسه والأدلة الدالة على تحريم النظر إلى العورة من الرجل إلى عورة الرجل والمرأة إلى عورة المرأة وأما مع اختلاف الجنس فقد تقدم تحريم النظر مطلقا وأما استثناء

البطن والظهر من المحرم وأنه لا يجوز نظر ذلك منها لمحرمها فليس لذلك وجه لا من رأي ولا من رواية ولم يعولوا إلا على دعوى الإجماع ولا أدري كيف هذه الدعوى فقد حصل التساهل البالغ في نقل الإجماعات وصار من لا بحث له عن مذاهب أهل العلم يظن أن ما اتفق عليه أهل مذهبه وأهل قطره هو إجماع وهذه مفسدة عظيمة فإن الجمهور قائلون بحجية الإجماع فيأتي هذا الناقل بمجرد الدعوى بما نعم به البلوى ذاهلا عن لزوم الخطر العظيم على عباد الله من النقل الذي لم يكن على طريق التثبت والورع وأما أهل المذاهب الأربعة فقد صاروا يعدون ما اتفق عليه بينهم مجمعا عليه ولا سيما المتأخر عصره منهم كالنووي ومن فعل كفعله وليس هذا هو الإجماع الذي تكلم العلماء في حجيته فإن خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا قبل ظهور هذه المذاهب ثم كان في عصر كل واحد من الأئمة الأربعة من أكابر أهل العلم الناهضين بالاجتهاد من لا يأتي عليه الحصر وهكذا جاء بعد عصرهم إلى هذه الغاية وهذا يعرفه كل عارف منصف ولكن الإنصاف عقبة كئود لا يجوزها إلا من فتح الله له أبواب الحق وسهل عليه الدخول منها. وأما قوله: "ولمسها ولو بحائل إلا لضرورة" فهذا مسلم فيما ورد الدليل بأنه عورة لا فيما هو مجرد دعوى منها. وأما قوله: "وعليها غض البصبر كذلك" فقد قدمنا الكلام عليه في أول الفصل وقد استدل الجواز نظر النساء إلى الرجال بما ثبت في الصحيح [البخاري "1/5469"، مسلم "17، 18، 20، 21/792"، من أنه صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة أن تنظر إلى لعب الحبشة في المسجد ويجاب عنه بأنه لا تلازم بين النظر إلى وجوههم والنظر إلى لعبهم فإن اللعب هو الحركات الصادرة منهم من تقليب حرابهم بأيديهم وحركة أبدانهم والمصير إلى هذا متحتم لإيجاب غض البصر عليهن كما نطق به الكتاب العزيز وأيضا ثبت في الصحيح [البخاري "5190"، مسلم "18/892"، عن عائشة في هذه القصة أنها قالت: وأنا جارية حديثة السن فاقدروا قدر الجارية حديثة السن. وأما قوله: "يجب التستر ممن لا يعف" فظاهر لأن ذلك منكر وإنكاره واجب وأقل أحوال الإنكار التستر. وأما قوله: "ومن صبي يشتهي ولو مملوكها" فوجهه أن العلة التي شرع الله لها التستر وحرم بسببها النظر هي مخافة الوقوع في المعصية ومن كان يشتهي أو يشتهى فوقوعه والوقوع معه في ذلك مجوز عقلا وعادة. وأما قوله: "ولو مملوكها" فظاهر قوله عزوجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] ، يدل على خلاف ذلك ويؤيد هذا الظاهر ما في سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: "إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك"، فقوله: "إنما هو أبوك وغلامك" يدل على أنه يجوز لمملوك المرأة أن ينظر إليها.

قوله: "والنمص والوشر والوشم والوصل بشعر غير المحرم". أقول: هذه الخصال الأربع قد ثبت في الصحيحين وغيرهما لعن الفاعلة الواحدة منها وذلك يدل على أنها من الكبائر ولي الباب أحاديث صحيحة وفي بعض ألفاظها في صحيح مسلم وغيره زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة أن تصل شعرها بشيء [مسلم "2126"، أحمد "3/296، 387] ، فلا وجه لقول المصنف بشعر غير المحرم فإن علة النهي ما في ذلك من التغرير على الزوج وهو يستوي شعر المحرم وغيره بل شعر بني آدم وغيرهم ومثل هذا ما في بعض ألفاظ الحديث: "أيما امرأة زادت في شعرها شعرا ليس منه فإنه زور" النسائي "8/144 - 145". قوله: "وتشبه النساء بالرجال والعكس". أقول: قد ثبت في الصحيح [البخاري "10/323"] ، لعن المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء واللعن يدل على تأكد التحريم والمراد بالمخنثين المتشبهين بالنساء من الرجال والمراد بالمترجلات المتشبهات بالرجال من النساء فمن تشبه من أي من النوعين بالنوع الآخر إما في كلامه أو في حركاته في ملبوسه فهو داخل تحت هذه اللعنة لأنه لم يخص صلى الله عليه وسلم نوعا من أنواع الشبه دون نوع. [فصل ويجب ستر المغلظ من غير من له الوطء إلا للضرورة وهي الركبة إلى تحت السرة وتجوز القبلة والعناق بين الجنسي ومقارنة الشهوة تحرم ما حل من ذلك غالبا] . قوله: "فصل ويجب ستر المغلظ" الخ. أقول: وجه ذلك ما ورد من الأدلة الدالة على تحريم كشف العورة ووجوب سترها كما في الحديث الصحيح أحمد "5/4"، أبو داود "4017"، ابن ماجة "1920"، الترمذي "2769"، بلفظ: يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد فافعل"، قال: فالرجل يكون خاليا؟ قال: "الله أحق أن يستحيا منه من الناس". وأما الكلام في تقديرها من الرجل والمرأة فقد تقدم مستوفى في كتاب الصلاة. قوله: "ويجوز القبلة والعناق بين الجنس". أقول: الأصل جواز هذا كما يجوز للجنس لمس غير العورة من جنسه والعناق والتقبيل هو من جملة اللمس لغير العورة فمن زعم أن هذا اللمس الخاص غير جائز فعليه الدليل ولا يحتاج القائل بالجواز إلى الاستدلال بل يكفيه التمسك بالبراءة الأصلية والقيام في مقام المنع فإن تبرع بالاستدلال فقد خالف قواعد المناظرة وكلف نفسه ما لا يعنيها وأما إذا كان شيء من ذلك سببا لمقارنة الشهوة فهو حرام من هذه الحيثية لا من حيثية كونه تقبيلا أو معانقة بل لو

قدرنا أن مجرد اللمس أو المكالمة أو النظر يؤدي إلى شيء من ذلك لكان محرما كائنا ما كان فلا وجه لتخصيص هذا المقام بالكلام على التقبيل والعناق. فإن قلت: إنما خصهما بالذكر لكون مظنة مقارنة الشهوة لا توجد في الغالب إلا فيهما. قلت: بل وجودها في الرشف والضم والغمز لبعض مواضع الزينة أكثر من وجودها فيهما فلا وجه للتخصيص. [فصل ولا يدخل على المحرم إلا بإذن وندب للزوج والسيد ويمنع الصغير عن مجتمع الزوجين فجرا وظهرا وعشاءا] . قوله: "فصل: ولا يدخل على المحرم إلا بإذن". أقول: كان ينبغي للمصنف أن يعنون الفصل هذا بوجوب مطلق الاستئذان الذي شرعه الله عزوجل في كتابه لعباده واستثني منه ما استثني فهو حكم من أحكام الدين وشريعة من شرائع الإسلام وقد تناساه الناس حتى كأنه لم يكن في كتاب الله كما وقع ذلك في كثير مما شرعه الله لعباده وأما الدخول على المحارم فهو نوع من الأنواع التي أوجب الله فيها الاستئذان ولا وجه لتخصيصه بالذكر وأما الاستئذان الزوج على زوجته والسيد على أمته فليس لذلك وجه ولا جاء به شرع وأما ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يطرق أهله طروقا فسبب ذلك ما في آخر الحديث من تعليله بقوله صلى الله عليه وسلم: "لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة"، وليست العلة في ذلك هي مشروعية الاستئذان كما لا يخفى. وأما قوله: "ويمنع الصغير" إلخ فوجه قول الله عزوجل: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] ، إلى آخر الآية.

كتاب الدعاوى

كتاب الدعاوى [فصل على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين] . قوله: "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين".

أقول: كون على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين هو أمر معلوم ثابت في السنة ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة فمن ذلك ما في الصحيحين البخاري "5/280"، مسلم "220/138"، وغيرهما أحمد "5/211"، أبو داود "3621"، الترمذي "2996"، ابن ماجة "2322"، من حديث الأشعث بن قيس قال كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "شاهداك أو يمينه"، ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم "223/139"،وغيره أبو داود "3623"، أحمد "4/317"، في قصة الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألك بينة؟ "، قال لا قال: "فلك يمينه"، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين البخاري "8/213"، مسلم "2/1711"، وغيرهما أبو داود "3619"، الترمذي "1342"، النسائي "8/248"، من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه وفي لفظ المسلم "1/1711"، وغيره: "ولكن اليمين على المدعى عليه"، وفي الباب أحاديث. وهذه الجملة: أعنى كون على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين معلومة في هذه الشريعة وعليها تدور رحى الخصومات فالاشتغال بما وقع لبعض أهل الحديث من الكلام على بعض الطرق اشتغال بما عنه سعة وفي غيره مندوحة ولا يعرف خلاف في كون على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين إلا ما يروى عن مالك أنها لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا وهذا قول باطل ورأي عن الدليل مائل. [فصل والمدعي من معه أخفى الأمرين وقيل من يخلى سكوته كمدعي تأجيل دين أو فساد عقد والمدعى عليه عكسه والمدعى فيه هو الحق وقد يكون له محضا ومشوبا لآدمي إما إسقاط إو إثبات إما لعين قائمة أو في الذمة حقيقة كالدين أو حكما كما يثبت فيها بشرط. وشروطها ثبوت يد المدعي عليه على الحق حقيقة أو حكما ولا يكفي إقراره إلا بجريها عليه بعارية أو نحوها وتعيين أعواض العقود بمثل ما عينها للعقد وكذا الغصب والهبة ونحوهما. ويكفي في النقد المتفق ونحوه إطلاق الاسم ويزيد في باقي القيمي الوصف وفي تالفه التقويم وفي الملتبس مجموعهما ولو بالشرط. ويحضر للبينة إن أمكن إلا للتحليف وما قبل كلية الجهالة كالنذر أو نوعها كالمهر

كفى دعواه كذلك وشمول الدعوى للمبين عليه وكون بينته غير مركبة فيبين مدعي الشراء ونحوه أنه لنفسه ومن مالكه بينة واحدة] . قوله: "فصل: والمدعي من معه أخفى الأمرين وقيل من يخلى وسكوته". أقول: المدعى من تخالف دعواه الظاهر وهو معنى قول المصنف من معه أخفى الأمرين وهذا التعريف هو الأشهر عند الفقهاء وبه قال أكثرهم وقال الأقلون إن المدعي هو من إذا سكت ترك وسكوته قال ابن حجر في الفتح والأول أشهر والثاني أسلم وقد أورد على الأول بأن المودع إذا ادعى الرد أو التلف فإن دعواه تخالف الظاهر مع أن القول قوله والمدعى عليه عكسه فهو ظاهر وكذلك ما ذكره بعده. قوله: "وشروطها ثبوت يد المدعي عليه على الحق". أقول: هذا الاشتراط يستلزم أن يتقدم على الخصومة خصومة وعى هذه الدعوى دعوى أخرى فإذا ادعى مدع آخر عينا احتاج قبل هذه الدعوى إلى تقرير بثبوت يده عليها حقيقة أو حكما فإذا تقرر ذلك ادعى استحقاقها ولا بد من هذا ولا سيما على قول المصنف ولا يكفي إقراره فإن كانت هذه الدعوى الأولى مقبولة من غير شرط وهي أن يدعي عليه ثبوت يدع على الحق قبل أن يدعي استحقاقه لم يتم قول المصنف وشروطها ثبوت يد المدعي عليه الخ لأنه قد وجدت دعوى مقبولة من غير هذا الاشتراط وإن كانت هذه الدعوى غير مقبولة احتاجت دعوى ثبوت اليد إلى دعوى قبلها وتسلسل الأمر والتسلسل باطل فهذا الاشتراط باطل. فالذي ينبغي التعويل عليه قبول مطلق الدعوى من غير اشتراط فإن أجاب المدعي عليه بأن العين لم تكن في يده لا حقيقة ولا حكما كانت الدعوى صحيحة والإجابة صحيحة ويرجع إلى التحالف والنكول وإن أجاب بالإنكار للاستحقاق كان الرجوع بينهما إلى التحالف والنكول. قوله: "وتعيين أعواض العقود" الخ. أقول: مراده أن الدعوى إذا تعلقت بشيء فلا بد من ذكر حد أو وصف أو لقب يتعين به ذلك الذي وقعت فيه الدعوى كما يشترط التعيين بمثل ذلك في العقود من بيع أو نحوه وهذا اشتراط صحيح لأن الدعوى إذا تعلقت بمجهول لم يكن لها فائدة يعتد بها ولا يترتب عليها ما يترتب على الدعوى المشتملة على التعيين من حكم الحاكم بعد قيام البينة أو اليمين لأن المجهول لا يمكن البينة فضلا عن أن يحكم به الحاكم فإن كان مراد المصنف بكلامه هذا هو ما ذكرناه فكلامه صحيح والاشتراط واقع في موقعه وإن كان يريد بتعيين أعواض العقود ما هو ظاهر عبارته فلا معنى له. قوله: "ويكفي في النقد المتفق ونحوه إطلاق الإسم". أقول: هذا صحيح لأنه إذا كان متفقا انصرف الكلام إليه ولم يسبق الفهم إلى غيره وهكذا حكم ما كان غالبا فإنه ينصرف الذهن إليه وإن وجد معه غيره ولا يكفي مجرد هذا

الإطلاق بل لا بد من ذكر القدر فيقول في التقدير كذا درهم أو دنانير وفي المثليات المتفقة كذا وزنا أو كذا كيلا أو كذا عددا ولا محيض من هذا وإن أهمله المصنف فإنه لو لم يذكر القدر لكانت الدعوى مجهولة لا يترتب عليها فائدة. وأما قوله: "ويزيد في باقي القيمي الوصف" يعني مع إطلاق الاسم فوجهه أنه لا يتعين إلا بذلك وهكذا قوله وفي تالفه التقويم لأنه لا يأتي الوصف له بعد تلفه بفائدة فيجب تعيين قيمته ويمكن أن يقال إن الوصف الذي يتعين به يغني عن ذكر القيمة ويرجع في ذلك إلى تقويم العدول لذلك التالف الموصوف لأن الصفات المعينة يستفاد منها قدر قيمة الشيء. قوله: "ويحضر للبينة إن أمكن لا للتحليف". أقول: وجهه أن الشهادة مضمونها إثبات كون هذه العين ملكا لفلان فاحتيج إلى إحضارها لأن الأوصاف لا تميز كما تميز المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة ولا سيما مع تشابه بعض الأعيان حتى لا يحصل من الأوصاف ما يميز أحدها عن الآخر كما في الحيوانات المتشابهة وقطع الأرض المتماثلة والأبنية المتقاربة وبهذا تعرف أن الأوصاف أفادت في بعض الأحوال كمعرفة قدر قيمة الشيء لا تفيد في كل الأحوال وأما اليمين فهي على رفع دعوى المدعي للعين التي قد ادعاها وعينها بما تتعين به وذلك يكفي. قوله: "وما قبل كلية الجهالة كالنذر" الخ. أقول: لا وجه لهذا وكون هذه الأشياء تقبل كلية الجهالة أو نوعها مجرد دعوى بل هذه الأمور تحتاج إلى ما يحتاج إليه غيرها مما يقع فيه التداعي فلا بد من تعيينه قدرا ووصفا وأما إذا تعذر التعيين من كل وجه فينبغي أن تتوقف الدعوى حتى يتبين للمدعي ما يصلح للتعيين إما بالكنه أو بالوجه. قوله: "وشمول الدعوى للمبين عليه"، أقول: الاقتصار في الدعوى على البعض لا يوجب إهمال ما شهد به الشهود من الزيادة فإن هذه الزيادة قد تثبت بالمستند الشرعي الذي جعله الله سببا لحكم الشرع كما في الكتاب والسنة فمن ادعى أن هذا السبب الشرعي للحكم لا يكون سببا إلا إذا طابق الدعوى فقد ادعى تقييد الكتاب والسنة بما ليس عليه أثارة من علم بل ليس عليه وجه من وجوه الرأي المستقيم عند من يعمل به فإذا أقام شاهدين شهدا له بألف على فلان وهو لم يدع من قبل شيئا أو أدعى بعض هذا المقدار فقد وجب الحكم له بالألف بحكم كتاب الله وسنة رسوله وإذا ادعى من شهدوا عليه بألف أنه قد سلم بعضه أو كله وبرهن على ذلك فله حكمه ولا يقدح في شهادة الشهود بالألف ولا بناقضها لاختلاف وقتي اللزوم والسقوط وهذا أمر معقول ظاهر واضح وهو الشريعة التي شرعها الله لعباده فدع عنك هذيان الرأي. قوله: "وكون بينته غير مركبة". أقول: هذا الاشتراط لا يرجع إلى نقل ولا عقل ولا رواية ولا دراية ويا لله العجب ما

المانع من قبول شهادة العدول على أطراف مما تعلقت به الخصومة مع كمال نصاب كل شهادة على كل طرف وما الموجب لاشتراط أن تكون الشهادة على مجموع تلك الأطراف شهادة واحدة وما المقتضى لهذا الإيجاب وما هو المانع من خلافه فإن لشهادة الشهود المختلفين على كل طرف من الأطراف مع كمال نصاب كل شهادة على كل طرف موقعا في النفس فوق موقع الشهادة الواحدة على مجموع الأطراف وهذا معلوم بالوجدان فما الوجه لإهمال ما هو أقوى وأدخل في تحصيل السبب الشرعي وليس هذا الأمر عكس قالب العمل بأحكام الله عزوجل وترجيح مرجوحها على راجحها. [فصل ومن ثبت عليه دين أو عين فادعى فيه حقا أو إسقاطا كأجل وإبراء وكونه لغير المدعي ذاكرا سبب يده لم تقبل إلا ببينة مطلقا إلا في كون الغصب والوديعة زيوفا ونحوه] . قوله: "فصل: ومن ثبت عليه دين أو عين" الخ. أقول: وجه هذا أن دليل الاستصحاب يقتضي بقاء هذا الثبوت وعدم ارتفاعه فلا يرفعه مجرد الدعوى لأن ذلك لا يصلح للنقل اتفاقا فلا بد من ناقل يقتضي ارتفاع ذلك الاستصحاب وهو البينة المتضمنة لكون ذلك الثبوت قد ارتفع كلا أو بعضا هذا إذا كان يدعي دعوى مقبولة وهي أن يدعي أن له في ذلك قد ثبت حقا أو قد سقط عليه بعضه وأما إذا ادعى أن ذلك الحق لغيره وإن كان له في هذه الدعوى فائدة يرجع إليه بأن يقول هذا قد ثبت فيه حق لفلان أو استأجرته منه أو استعرته أو نحو ذلك فهذه العلاقة مسوغة لهذه الدعوى من هذه الحيثية فإن نهض من ادعى له الحق فيه بالبرهان فذاك وإلا كانت الدعوى باطلة وما ترتب عليها من اليد كذلك. وأما قوله: "إلا في كون الغصب والوديعة زيوفا" فوجهه ما تقدم من أن القول قول الغاصب والوديع في تعيين العين المغصوبة والمودعة ولكنه ينبغي تقييد هذا بأن تكون هذه الدعوى مخالفة لما هو ظاهر في المعاملات فإن كانت مخالفة لذلك لم تقبل والظاهر مقدم على الأصل. [فصل ولا تسمع دعوى تقدم ما يكذبها محضا وعلى ملك كان ولغير مدع في حق آدمي

محضا والإقرار بفساد نكاح مع نفي غيره ويكفي مدعي الإرث دعوى موت مورثه مالكا] . قوله: "فصل: ولا تسمع دعوى تقدم ما يكذبها محضا". أقول: وجه هذه الدعوى التي قد علم كذبها بما تقدمها لا يحل قبولها ولا سماعها لأن ذلك إتعاب المدعى عليه بما قد اعترف المدعي بكذبه إذا كان ذلك الذي تقدم في إكذابها لا يمكن الجمع بينه وبين الدعوى اللاحقة له بوجه صحيح. فالحاصل أن مستند إبطال هذه الدعوى هو إقرار المدعي بأنها باطلة والإقرار سبب قوي من أسباب الحكم بل هو أقوى الأسباب التي ورد بها الشرع فإذا كلفنا من وقعت عليه الدعوى بإجابتها وأدخلناه في الخصومة كان ذلك ظلما بينا وخروجا عن العدل ومخالفة وهذا ظاهر لا يخفى. قوله: "وعلى ملك كان". أقول: لا وجه للمنع من قبول هذه الدعوى لجواز أن تكون اليد الثابتة على ذلك الشيء يد عدوان ولا يرتفع هذا التجويز إلا بظهور الناقل عن تلك اليد القديمة إلى هذه اليد الثابتة في الحال نعم إذا أنكر ثابت اليد أن ذلك الشيء كان ملكا لمن ادعى المدعي أنه كان مالكا له لم يكن عليه إلا اليمين على نفي العلم بذلك أما إذا حصل الاتفاق أنه كان في ملك من ادعى له المدعي فلا يجوز إهمال هذه الدعوى أصلا لأن ذلك خلاف ما أمر الله سبحانه به من الحكم بالعدل والحق فلا بد من ظهور وجه النقل عن ذلك الملك الذي كان وإلا كان وقع هذه الدعوى باديء بدء من الظلم البين للمدعى. قوله: "ولغير مدع في حق آدمي محض". أقول: قد أمر الله سبحانه بالتعاون على البر والتقوى وأوجب على عباده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعلوم أن من كان عليه حق لآدمي فعاون من له الحق بعض من له اطلاع على الحقيقة ولا سيما إذا كان من له الحق لا يطيق الدخول في الخصومات أو كان مؤثرا للسلامة على ذلك فمعلوم أن الأخذ على يد من عليه الحق حتى يرد ما عليه هو من جملة ما شرعه الله لعباده من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن جملة ما حثهم عليه بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، ولاشك أن إصدار الدعوى على من عليه الحق هي أقل رتب التناكر والتعاون وإذا كان هذا من هذا القبيل فما الوجه المخصص له والموجب لبطلان قبوله وسد الأذن عن سماعه ودعوى أنه لا يقبل في حق آدمي محض؟ وما هو المخرج لهذا النوع وهو حقوق بني آدم المحضة عن عموم ما شرعه الله لعباده فإنه من جملة ما يندرج تحت العموم بل من أهم ما يتناوله نعم إذا كان من له الحق راغبا عنه لم يقعده عن طلبه سبب من الأسباب الحاملة على الترك فليس لغيره أن يكون أحرص منه على ما هو له. قوله: "والإقرار بفساد نكاح إلا مع نفي غيره". أقول: التنصيص على هذه الصورة هو جمود لا أصل له ولا سبب يقتضيه ولو جاء بما

يدل على عدم قبول دعوى شيء مع وجود احتمال ما يخالف تلك الدعوى لكان أقوم بمقصوده وأتم لمراده ومع هذا فليس من شرط الدعوى أن يقطع المدعي كل شيء يحتمل خلافها وليس على هذا دليل من عقل ولا نقل والأصل عدم وجود ذلك المخالف فإن تقرر وجوده كان له حكمه في معارضة الدعوى. قوله: "ويكفي مدعي الإرث دعوى موت مورثه مالكا". أقول: هذه الدعوى هي في قوة أن هذا الشيء قد صار في يد الغير كان ملكا لمورث المدعي فلا وجه للفرق بين هذه المسألة وبين مسألة وعلى ملك كان لأن استصحاب الكون لا يقصر عن استصحاب اليد التي كانت لمورث المدعي وقد قدمنا أنه لا وجه لمنع الدعوى على ملك كان وها هنا كذلك وإنما أردنا التنبيه على أن مآل المسألتين واحد فلا وجه للمنع من إحداهما وقبول الأخرى. [فصل ولا تجب إجابة الدعوى فينصب عن الممتنع غائبا وإلا حكم عليه ولا يوقف خصم لمجيء بينة عليه غائبة إلا لمصلحة فيكفل عشرا في المال وشهرا في النكاح ولا يصادق مدعي الوصاية والإرسال للعين وإلا ضمنا والقرار على الأخذ إلا مصدقا لا لكونه الوارث وحده أو مرسلا للدين فيجبر الممتنع مصدقا ولا يثبت حق بيد] . قوله: "فصل: ولا تجب إجابة الدعوى" الخ. أقول: مراد المصنف أنه لا يجب على الحاكم أن يتوقف عن الحكم حتى تقع الإجابة من المدعى عليه إذ قد أمكن حصول السبب الشرعي للحكم بل يسمعه ويجب عليه العمل به وإيصال المدعي بما قضى له به الشرع وأوجبه له الحق لعدم انحصار أسباب الحكم في إقرار المدعى عليه على تقدير أنه قد يقر بما عليه ولا أرى لإيجاب هذا النصب الذي يذكرونه وجها بل الحكام أمناء الله في أرضه فإن ظهر لهم المستند الشرعي وجب عليهم الجزم بحكم الله وإيصال المدعي بما يستحقه فإن جوز الحاكم أن عند المدعي المتمرد عن الإجابة أو الغائب عن وقوف الحاكم ما يدفع ما جاء به المدعي استثبت فإن أمكن وقوفه على الحقيقة فذاك وإن لم يمكن فقد لزمه العمل بالسبب الذي يصلح للحكم ويجعل العين المحكوم بها في يد المدعي موقنة حتى يتبين ما عند المدعي عليه وسيأتي للمصنف في باب القضاء أن الحاكم يحكم على غائب مسافة قصر أو مجهول أو لا يبالي أو متغلب بعد الإعذار. قوله: "ولا يوقف خصم لمجيء بينة عليه غائبة" الخ. أقول: ليس هذا من العدل الذي قامت به السماوات والأرض ووجه ذلك أن الحاكم لا

يعرف كون الدعوى حقا أو باطلا إلا بالبينة أو الإقرار أو اليمين فعليه أن يوقف من عليه الدعوى لسماع بينة خصمه حتى يحكم له أو عليه ولكن إذا كانت المدة التي سيحضر فيها البينة لا يتضرر بمثلها المدعى عليه أما لو كانت كذلك لم يجز له التوقيف وإذا حصلت البينة بعد تلك المدة أعذر إلى المدعى عليه فإن وصل لسماعها فذاك وإلا سمعها الحاكم وعمل بها على ما قدمنا. وأما قوله: "إلا لمصلحة" فلا يخفى أن المصلحة كل المصلحة هي الجزم بحكم الله وإيصال المظلوم بظلامته والأخذ على يد الظالم حتى يخرج مما عليه فإذا كان بيد المدعي ما يكون سببا للحكم له وإنصافه بما يقوله كان التوقيت مصلحة على كل حال إلا أن يتضرر به كما قدمنا قريبا. وأما قوله: "فيكفل عشرا في المال وشهرا في النكاح" فتحديد ساقط وتقدير باطل لا يرجع إلى رواية ولا دراية وما هذا بأول هذيان والله المستعان وكان الأولى ربط ذلك بنظر الحاكم لأن الأحوال تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة والخصومات ومقادير ما تجري فيه. قوله: "ولا يصادق مدعي الوصاية والإرسال للعين". أقول: لا وجه لتخصيص العين بل لا يصادق مطلقا إلا لبرهان تقوم به الحجة لأن أملاك بني آدم لا يجوز فيها تحكيم ظنونهم على بعضهم بعضا فإن صادقه بلا برهان فقد جنى على نفسه وعرضها للضمان إذا انكشف عدم مطابقة ذلك التصديق للواقع ويرجع على من هي في يده أو من تلفت عنده سواء كان مدعي الوصاية أو الإرسال أو غيرهما ولا فرق بين دعوى الوصاية والرسالة وبين دعوى كونه الوارث وحده فالكل نمط واحد وجهة متحدة والتفريق بينهما خيال مختل وتعليل معتل كالتفريق بين العين والدين وسبحان الله ما يفعل الجمود على الرأي المبني على السراب من بناء مسائل الدين على شفى جرف هار نعم إذا حصل التصديق ممن ذلك في يده فقد شهد على نفسه بصدق الدعوى في وصاية ورسالة وميراث وجعل على نفسه حقا وإليها طريقا وأخذ بتصديقه في البداية ويعمل على ما قدمنا في النهاية. قوله: "ولا يثبت حق بيد". أقول: أقل أحوال ثبوت اليد على الحق أن يكون مفيدا لكون الظاهر مع ثابت اليد ثم يستصحب الحال ولا ينتقل عنها إلا بناقل أرجح منه كما أن ثبوت اليد علي العين توجب استصحاب الحال ولا ينتقل عنه إلا بناقل أرجح منه ولا يعارض هذا أن الأصل في منافع الأعيان أن تكون تابعة للعين فإن هذا الأصل قد عورض بما هو أرجح منه وهو ما أفاده ثبوت اليد من كون الظاهر من ثبوت اليد على الحق هو استحقاق الثابت له ويؤيد هذا ما يوجد في الخارج كثيرا من الأعيان التي تتعلق بها حقوق لغير مالكها. والحاصل أن مجرد نفس الأصالة أو الظهور إنما يستفاد بهما كون القول قول المتمسك بهما

والبينة على خصمه لما تقدم من أن المدعي هو من معه أخفى الأمرين فإذا عجز عن إيراد الناقل فمن نفسه أتي. [فصل ومتى كان المدعى في يد أحدهما أو مقر له ولما يحكم له بالملك المطلق فللمدعي إن بين أو حلف ردا أو نكل خصمه وإلا فلذي اليد فإن بينا فللخارج إلا لمانع فإن كان كل خارجا اعتبر الترجيح من تحقيق ونقل وغيرهما فإن لا قسم. ومتى كان في أيديهما أو مقر لهما أو لواحد منهما غير معين فلمن بين أو حلف أو نكل صاحبه دونه فإن فعلا قسم ما فيه التنازع بين متنازعيه على الرؤوس] . قوله: "فصل: ومتى كان المدعى في يد أحدهما". أقول: وجهه أن الحكم المطلق مستنده الاستصحاب الناشيء عن ثبوت اليد لمن هو في يده أو في يد من مقر له وقد ارتفع هذا الاستصحاب بالبينة التي أقامها المدعي أو يمين الرد منه أو نكول من هو في يده عن اليمين ومعلوم أن اليمين رافعة للاستصحاب لكونها أرجع منه بلا خلاف وهكذا يمين المدعي ردا لأن من هو في يده قد رضي لنفسه بتلك اليمين وهكذا نكول من هو في يده عن اليمين لأنه بمنزلة الإقرار كما سيأتي وإذا لم يحصل أحد هذه الأمور فهو باق على ملك المحكوم له بالملك المطلق بالاستصحاب الذي يستفاد منه الظاهر ويوجب كون القول قوله. قوله: "فإن بينا فللخارج". أقول: عللوا هذا بإن البينة الخارجة تستند إلى شيء أقوى مما تفيده بيته الداخل فإنها تستند إلى مجرد ثبوت اليد وهو لا يفيد إلا الاستصحاب ولا يخفاك أن هذا لا يتم إلا على تقدير إن الشهادة الخارجة مستندة إلي شيء هو أقوى مما يفيده بينة الداخل وحينئذ فليس المرجح لها مجرد كونها خارجة بل المرجح لها قوي مستندها فإنها لو شهدت بمستند مثل مستند بينه الداخل أو كانت بينة الداخل بمستند مساوي لبينة الخارج غير مجرد الثبوت لم يكن لهذا الترجيح وجه. وبهذا تعرف أنه لا وجه لجزم المصنف بترجيح بينة الخارج على الإطلاق وقد قلل مفسدة هذا الإطلاق قوله لا لمانع إذا حمل على مثل ما ذكرناه على ما هو مراده. وأقوى من هذه التعليل الذي عللوا به ما قيل إن الخارج هو المدعي والبينة على المدعي لا على المنكر كما ثبت ذلك بالأدلة الصحيحة.

ويجاب عنه بأنه قد ثبت بالأدلة المعمول بها أنها وقعت خصومة لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام كل واحد من الخصمين البينة فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما [أبو داود "3615"] ، فكون البينة على المدعي يدل على أنها عليه أصالة فإذا جاء خصمه ببينة كانت مقبولة وعلى الحاكم الرجوع إلى الترجيح فإن تساوت قسمة بينهما كما قسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "فإن كان كل خارجا اعتبر الترجيح". أقول: هذا صحيح لعدم وجود مزية لأحد الخصمين على الآخر بالنسبة إلى اليد المفيدة للظاهر ووجوه الترجيح كثيرة يعرفها من يعرف الموازنة بين الأدلة والمعادلة بين وجوه الترجيح وهو القاضي المجتهد وأما المقلد المسكين فهو عن درك راجح الأمور ومرجوحها في أبعد مسافة فإنه لا يفهم نفس الحجة فكيف يفهم أن هذه الحجة أرجح من هذه وهذا السبب للحكم أقوى من هذا السبب. وما قوله: "وإلا قسم" فصحيح قد دل عليه ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من قسمه ما تنوزع فيه بين متنازعية عند تعارض البيتين. وأما قوله: "ومتى كان المدعي في أيديهما" إلخ فوجهه واضح لأستوائهما بالنسبة إلى اليد فمن بين كان له وإذا لم يكن ثم بينه كان لمن حلف دون خصمه أو نكل خصمه عن اليمين فإن بينا أو حلفا أو نكلا قسم بينهما للدليل المتقدم قريبا. [فصل والقول لمنكر النسب وتلف المضمون وغيبته وأعواض المنافع والعتق والطلاق لا الإعيان إلا بعد التصادق على عقد يصح لغير عوض ويمينه على القطع ويحكم لكل من ثابتي اليد الحكمية بما يليق به حيث لا بينة والعكس في البينتين ثم بينهما ولمن في بيت غيره بما هو حامله مما مثله يحمله] . قوله: "فصل: والقول لمنكر النسب". أقوال: وجه ذلك أن الأصل عدم ثبوت النسب وعدم التلف وعدم الغيبة وعدم العوض في المنفعة وكذلك العوض في العتق والطلاق وأما الأعيان فلما كان الغالب فيها أنه لا يسمح بها من هو مالك لها إلا بعوض كان العمل على هذا الغالب هو المتوجه لأنه يثبت به الظاهر ومن كان معه الظاهر فالقول قوله وأما بعد التصادق على عقد يصح بغير عوض مال فوجهه أن هذا التصادق قد ارتفع به ما هو الظاهر فوجب الرجوع إلى الأصل وهو عدم العوض وأما كون يمين المنكر في هذه الأمور على القطع فلا وجه لذكره ها هنا لأنه سياتي بيان ما يكون فيه اليمين على القطع وما يكون فيه على العلم.

قوله: "ويحكم لكل ما ثابتي اليد الحكمية" الخ. أقول: الحكم بالقرائن القوية قد حكى ابن القيم أنه مجمع عليه واستشهد لذلك بقضايا منها إقامة الحد بمجرد الحبل وبمجرد وجود الرائحة في الخمر وبما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر للزبير بتعذيب أحد بني الحقيق ليدل على كنز حيي بن أخطب وقد أدعى ذهابه في النفقات فقال صلى الله عليه وسلم: "هو أكثر من ذلك والعهد قريب"، ومن ذلك قصة يوسف حيث استند الحكم إلى قد القميص من قبل أو من دبر وذلك غير هذه الامور لا من نظائرها. فهذا الحكم لكل من ثابتي اليد الحكمية بما يليق به هو من الحكم بالقرائن وأقل الأحوال أن يكون ذلك الشيء يليق بأحدهما دون الآخر يفيد لمن يليق به ظاهرا فيكون القول قوله مع يمينه كما تقدم من ان من معه الظاهر هو المنكر ومن معه أخفى الأمرين هو المدعي وإذا وجد ما هو أقوى من القرينة التي هي كونه يليق بأحدهما دون الاخر لم يجز العمل بالقرينة ولا التعويل عليها بل الواجب الرجوع إلى ما ثبت في الشرع أنه يجوز الحكم به من البينة والتبيين والإقرار ونحوهما. وأما قوله: "والعكس في البينتين" فمبني على ما تقدم من ترجيح البينة الخارجة وقد قد منا ما فيه. وأما قوله: "ثم بينهما" فصواب لأن القصمة بين المتنازعين قد ثبتث بالشرع عند التعارض وعدم إماكن الترجيح. وأما قوله: "ولمن في بيت غيره بما هو حامله مما مثله يحمله" فوجهه أن القرينة شاهدة له بأن ذلك له وأنه دخل به وأقل الأحوال أن يكون القول قوله كما قدمنا. [فصل واليمين على كل منكر يلزم بإقراره حق لآدمي غالبا ولو مشوبا أو كفا عن طلب ولا تسقط بوجود البينة في غير المجلس ويجب الحق بالنكول مطلقا إلا في الحد والنسب قيل ومع سكوته يحبس حتى يقر أو ينكر وتقبل اليمين بعد النكول والبينة بعدها ما لم يحكم فيهما ومتى ردت على المدعي أو طلب تأكيد بينته غير في حقه المحض بها وأمكنت لزمت ولا ترد المتممة والمؤكدة والمردودة ويمين التهمة والقسامة واللعان والقذق] . قوله: "فصل: واليمين على كل منكر يجب بإقراره حق لآدمي". أقول: وجهه أن إيصال من له الحق بما يستحقه هو مقصد من مقاصد الشرع وباب من

أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلو ادعى مدع بدعوى يلزم خصمه بإقرار لما تضمنته الدعوى دفع ما أقربه إلى المدعي له وعجز عن البينة ولم يوجب على المدعى عليه اليمين كان ذلك منكرا عظيما وتقريرا لظلم بين وإهمالا لحقوق العباد وفتحا لأبواب التظالم وترويحا لأهل الجسارة بأن يثبوا على الأموال فلا شك ولا ريب أن هذه الشريعة المطهرة بكلياتها وجزئياتها قاضية بوجوب هذه اليمين وقد جاءت السنة في خصوصة هذه الخصوصية أن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين فيكف لا تجب على المنكر الذي يلزم بإقرارة حق لآدمي ما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمين. وإذا تقرر هذا فيما هو حق لآدمي فاعلم أن حقوق الله عزوجل لاحقه بها لأن الزجز عنها وكف أيدي المتجرئين على معاصي الله تعدى حدوده هو من أعظم مقاصد الشرع ومن أكبر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد قدمنا أن الاحتساب في حق بني آدم ثابت فكيف بحقوق الله التي لا يكون المطالب بها إلا قائما في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب على الحاكم أن يسمع دعوى المحتسب بالدعوى محتسب إذا صح موجب الحد بالسبب الشرعي المرضي من بينه أو إقرار فاعرف هذا فإن اشتراط تقدم الدعاوى على ما تنتهي إليه الخصومات من إقامة البينة والإقرار لا دليل عليه وإنما هو باعتبار الغالب أعني أن أسباب الحكم لا يكون في غالب الحالات إلا بعد إيقاع دعوى من مدع وإجابة من مجيب لا باعتبار ما هو الشرع الثابت الذي لا شك فيه ولا شبهه فإن مجرد وجود السبب المقتضي للحد يكفي ويجب على القادر على إقامة حدود الله أن يقيمه على من وجب عليه وإذا استبعد ذهنك هذا فانظر أي دعوى وقعت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على ماعز والغامدية وإذا كان وجود السبب الشرعي مقتض للحد بمجردة فكيف لا يكون مقتضيا للحكم بعد احتساب محتسب بالدعوى. قوله: "أو كفا عن مطلب". أقول: وجه هذا أن المدعي لما يبطل الطلب قد أدعى ما يرفع عنه خصومة ويدفع عنه معره فكانت هذه الدعوى من جملة ما يندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين"، وإن لم يقع مثل هذا في زمن النبوة لكنه قد اندرج تحت مطلق قول الشارع ولابد من تقييد هذا بأن لا يظهر من مدعي بطلان الدعوى أنه قاصد للعنت وتطويل ذيل الخصومة وإتعاب غريمة فإن ظهر منه ذلك لم تسمع منه هذه الدعوى. قوله: "ولا يقسط بوجود البينة في غير المجلس". أقول: وجه أن اليمين حق للمدعي فإن طلبها وجوز انقطاع الخصومة بفعلها أو النكول عنها كان ذلك له ولا يجب عليه تركها حتى ينظر هل ثم بينة أم لا؟ لكنه إذا اختار اليمين لم يسمع منه البينة من بعد لأن السبب الشرعي المقتضي للحكم وهو اليمين قد وقع ووجب الحكم به وعلى الحاكم عند أن يسمع طلب المدعي ليمين المنكر أن يبين له أنه إذا كان له بينة قبل يمين خصمه وأنه إذا حلف خصمه لم تقبل البينة بعد ذلك وليس هذا من

التلقين للخصم بل هو مما يلزم ولهذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم للمدعي: "ألك بينه؟ "، كما في صحيح مسلم وغيره وإنما قلنا: إن البينة لا تقبل بعد اليمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شاهدك أو يمينه"، وهو في الصحيحين وغيرهما فجعل الحكم دائرا على إحدى السببين وقد قضي باليمين وحدها وسيأتي للمصنف قريبا أنها البينة بعد اليمين وليس على ذلك دليل تقوم به الحجة. قوله: "ويجب الحق بالنكول". أقول: الأسباب التي ورد بها الشرع الإقرار أو البينة أو اليمين فإذا حصل واحد من هذه على وجه الصحة فقد وجب به حكم الشرع ووجب عنده إلزام الخصم وأما النكول فهو إن كان من أقوى القرائن على صدق دعوى المدعي ولكن لما كان الحامل عليه قد يكون الترفع عن اليمين كما يفعله كثير من المتكبرين وقد يكون الحامل عليه مزيد الغباوة ممن توجهت عليه اليمين وعدم علمه بأن اليمين واجبه عليه وقد يكون الحامل عليه ما يعتقده كثير من العامة أن مجرد الحلف ولو على حق لا يجوز وأنه يأثم الفاعل له فلما كان الأمر هكذا لم يكن مجرد النكول سببا شرعيا للحكم. فإن قلت فإذا عجز المدعي عن البينة وامتنع خصمه عن اليمين ضاع الحق وترك العمل بما يوجبه الشرع من إيصال كل ذي حق بحقه وإنصاف المظلوم من الظالم؟ قلت لا يجوز تقرير الممتنع من اليمين على امتناعه فإن ذلك يؤدي إلى ضياع الحق كما ذكرت ويوجب ترك حكم الشيء وما يجب من الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة أحكام الله بل يجب على الأئمة وحكام الشرع أن يعرفوا الناكل بأن اليمين حق واجب عليه وأنه لا يجوز له الامتناع منها فإن أجاب فذاك وإن لم يجب أنزلوا به بعض ما ينزل بمن لم يقبل الحق ولم يجب إلى الشرع من الأخذ بيده وأطره على الحق أطرا ولو بأن يمسه سوط من العذاب فإن الحق لا يتم إلا بذلك والشرع لا يمضي إلا به وقد أوجب الله على عباده الحكم بالحق والعدل وكف يد الظالم عن المظلوم واستخراج المظلمة من يد الظالم وردها إلى المظلوم فيجب التوصل إلى ذلك بما يسوغه الشرع وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يعذب اليهودي حتى يقر بالمال لحيي بن أخطب ويدل على موضعه. وإذا تقرر لك هذا عرفت أنه لا حاجة لقول المصنف: "إلا في الحد والنسب". وأما قوله: "قيل: ومع سكوته يحبس حتى يقر أو ينكر" فصحيح ووجهه أنه إذا لم يكن للمدعي بينة وصمم خصمه على ترك إجابه الدعوى كان تقريره على ذلك إهمالا لتنفيذ أحكام الله وسد لباب العدل وفتحا لباب الجور وتخلية بين الظالم والمظلوم فحسبه هو أقل ما يستحقه ثم إذا لم يؤثر ذلك وجب على القاضي أن ينزل به سوطا من العقوبة كما قدمنا حتى يقر أو ينكر. وأما قوله: "ويقبل اليمين بعد النكول" فصحيح ووجهه ظاهرة لأنه امتنع من حق يجب عليه فإذا أجاب إليه وجب علينا قبوله ومجرد تلكئه عن يمين في الابتداء لا يصلح مستندا للحكم عليه كما قدمنا.

وأما قوله: "والبينة بعدها" فلا وجه له لأن السبب الشرعي قد ثبت باليمين فوجب الحكم به. وأما قوله: "ما لم يحكم فيهما" فهو باعتبار النكول غير صحيح لا باعتبار اليمين فهو صحيح بل وإن لم يحكم فإنه لا قبول للبينة بعد اليمين أصلا ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم للحضرمي: "ألك بينة؟ "، قال: لا, قال: "فلك يمينه"، قال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يحلف وليس يتورع من شئ, فقال: "ليس لك منه إلا ذلك"، والحديث في صحيح مسلم وغيره وقوله: "ليس لك منه إلا ذلك" يفيد الحصر. قوله: "ومتى ردت على المدعي". أقول: لم يصح بشيء في يمين الرد قط وما روي في ذلك فلا يقوم به حجة ولا ينتهض للدلالة على المطلوب والأسباب الشرعيه لا تثبت إلا بالشرع. وأما الاستدلال بيمين الرد بقوله سبحانه: {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] ، فغلظ ظاهر فإن معنى الآية غير هذا كما هو مبين في كتب التفسير ومع هذا فالجمهور على أنها منسوخه. فإن قلت: لا شك أن هذه اليمين لا تجب على المدعي إذا ردها عليه المنكر فلا يجوز إلزامه بها ولا يكون نكوله عنها نكولا يثبت به ما ثبت بالنكول ولا يحتاج إلى الاستدلال على عدم لزومها بما ورد التنصيص على الأسباب الشرعيه كقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه". وقوله: "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" لأن الدليل على من ادعى أنها سبب شرعي والأصل عدم ذلك والنافي لكونها سببا يكفيه قيامه مقام المنع إنما الشأن في شيء آخر غير إلزام من ردت عليه بها وأن المنكر لما طلبت منه اليمين التي عليه شرعا ولا يندفع عنه الحق إلا بفعلها قد رضي لنفسه بان يحلف المدعي بأن هذا الأمر الذي ادعاه ثابت على المنكر وقنع بذلك وزحزح اليمين المتوجهه عليه بهذا الرد فالحكم عليه بهذه اليمين إذا حلفها المدعي ليس لكونها سببا شرعيا بل لكون المنكر قد رضي بها عوضا عن اليمين التي عليه. قلت: هذا صحيح من هذه الحيثية وللإنسان أن يلزم نفسه ما شاء بما شاء فإن حلفها المدعي لزم المنكر ما أفاده وإن أبى أن يحلف فلا إكراه له ولا يكون تركه لفعلها حجة عليه مبطلة لدعواه فاعرف هذا وتأمله فإنه نفيس. قوله: "أو طلب تأكيد بينته غير المحققة" الخ. أقول: ليس على هذه اليمين أثاره من علم بل الواجب النظر في البينة التي أقامها المدعي فإن كانت شهادة مفيدة قد صحت للحاكم وجب عليه الحكم بها ولا يكون طلب المدعى عليه لها موجبا للتوقف في الحكم ولا يحل للحاكم أن يسمع منه ذلك وأما إذا كانت البينة غير صالحة لاستناد الحكم إليها بوجه من الوجوه فعلى المدعي أن يأتي بينته صحيحه معمولا بها

فإن نهض بذلك فذاك وإن عجز عنه فليس له إلا يمين المنكر لأن الشهادة التي أقامها قد تبين ليست سببا شرعيا للحكم. فإن قلت: إذا عرف الحاكم من طلب الطالب ليمين التاكيد أنه يعلم أن في شهادته خللا وإن كانت في الظاهر صحيحة صالحة للسببية للحكم فكأنه يقول أنا لا أنكر عدالة الشهود ولا أدعي أنهم تعمدو الكذب ولكني أدعي أن في شهادتهم علة توجب ردها والمدعي يعلم بذلك. قلت إذا كان الأمر هكذا لم يحل للحاكم أن يجزم بالحكم حتى يبحث عن تلك العلة التي يدعيها المنكر ويطالبه ببيانها فإن تعذر البيان من جهته فهو بهذه الدعوى قد صار مدعيا والمنكر لعلمه بخلل في الشهادة قد صار منكرا فلا يبعد أندراجهما بذلك تحت قوله صلى الله عليه وسلم: "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" فيكون إيجابها على المدعي ثابتا من هذه الحيثية لا من حيثية كونها مؤكدة. قوله: "ولا ترد المتممة". أقول: أعلم أن القضاء بشاهد واحد ويمين المدعي لما كانت الشهادة فيه غير كاملة وكانت اليمين غير يمين المنكر التي يجب بها الحق اختلف أهل العلم في جواز القضاء بذلك فالمانع يحتج بأن الأسباب الشرعية هي الإقرار أو الشهادة الكاملة أو اليمين من المنكر وهذه أعني شهادة الشاهد الواحد مع يمين المدعي ليست واحدا من هذه الأسباب. ويجاب عليهم بأن الأحاديث الواردة في القضاء بالشاهد واليمين قد جاوزت عشرين حديثا ومنها الصحيح ومنها الحسن ومنها ما هو دون ذلك وهذا العدد قد صار المروي عن مثله معدودا في الأحاديث المتواترة والحجة الشرعية تقوم بما هو دون ذلك فكيف بمثله فتقرر به أن الشاهد الواحد مع يمين المدعي سبب شرعي للحكم ولم يأت من أبى ذلك بشيء يعتد به. ولو قدرنا ورود صيغة تدل على انحصار الأسباب الشرعية في الإقرار والشهادة واليمين لكانت هذه الأحاديث المتواترة مخصصة لذلك المفهوم الذي أفاده الحصر وهذا ظاهر لا يخفى وقد تعرض المصنف هنا لعدم رد هذه اليمين التي يقال لها المتممة ووجهه أنها لا ثتم السببية للحكم إلا بمجموع الشاهد واليمين وإلا لم يكن سببا أصلا. وأما قوله: "والمؤكدة" فوجهه أن العلم بصحة الشاهدة أو عدم صحتها هو لا يكون إلا من جهة المدعي لا من جهة المنكر فلا وجه لردها عليه وهكذا يمين التهمة لأن المدعي ليس على يقين من دعواه ولذا القسامة هي مجرد تهمة وأما يمين اللعان فلا يكون لعانا ويتحقق مفهومه إلا بالحلف من كل منهما لا من أحدهما فلا يتحقق كونه لعانا ولا تثبت أحكامه وأما رد يمين القذف فلا يتعلق به فائدة لأن المدعي إذا قبل الرد وحلف لم يثبت بذلك ما هو مقصود

دعوى القذف وهو الحد وقد قدمنا في أصل رد مطلق اليمين ما يغني عن التنصيص على هذه الأفراد فارجع إليه. [فصل والتحليف إنما هو بالله ويؤكد بوصف صحيح يتميز به عند الحالف ولا تكرار إلا لطلب تغليظ أو تعدد حق أو مستحق عليه أو مستحق غالبا على القطع من المدعي مطلقا ومن المنكر إلا على فعل غيره فعلى العلم وفي المشتري ونحوه تردد ولا يلزم تعليقها إلا بمحل النزاع وهي حق للمدعي فينتظر طلبه ويصح الإبراء منها ولا يسقط به الحق ولا بفعلها إن بين بعدها إلا أن يبرئه إن حلف فحلف قيل يبين أو على أن يحلف فحلف أو قبل وله الرجوع إن أبى ولا يحلف منكر الشهادة ولا يضمن ولو صح كتمانه ولا منكر الوثيقة ما فيها وتحلف الرفيعة والمريض في دارهما] . قوله: "فصل: والتحليف إنما هو بالله". أقول: اليمين التي هي سبب من أسباب الحكم هي اليمين الشرعية لا ينصرف إلى غيرها أصلا فمن ادعى أنه يجوز إلزام المنكر بغير هذه اليمين فعليه الدليل وهو لا يجد دليلا على ذلك هذا على تقدير أنه لم يرد الأمر بالحلف بالله وحده والنهي عن الحلف بغيره كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة الكثيرة فمن زعم أنه يجوز للمدعي أن يحلف المنكر بغير الله من طلاق أو عتاق أو نحوهما فقد أوجب على الحالف ما لم يوجبه الله عليه وأثبت السببية للحكم بما لم يثبته الشرع وذلك هو من التقول على الله بما لم يقل. وأما قوله: "ويؤيد بوصف صحيح" إلخ فظاهر كلامه هذا أن ذلك على جهة اللزوم ولا وجه له ولا دليل عليه بل اليمين الشرعية تحصل بالإقسام بالله عزوجل أو بصفة من صفاته على الانفراد ولا يجب على من تجب عليه اليمين إلا هذا وقد أخرج ابن ماجه بإسناد رجال ثقات من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض بالله فليس من الله". وأما ما ورد من تحليفه صلى الله عليه وسلم لرجل فقال له: "احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء"، كما أخرجه أبو داود "3620"، من حديث ابن عباس بإسناد رجاله ثقات وكذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في تحليفه لليهود: "أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون وأقطعكم البحر وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل التوراة على موسى"، الحديث أخرجه أبو داود "2626"، فغاية ما في ذلك أنه يجوز للإمام التغليظ ببعض الأوصاف إذا رأى في

ذلك صلاحا وليس هذا محل النزاع بل محل النزاع وجوب التأكيد بالوصف. قوله: "ولا تكرار إلا لطلب تغليظ". أقول: قد عرفناك أن اليمين الشرعية تحصل بالحلف بالله عزوجل فإذا فعل ذلك فقد فعل ما يجب عليه قبول ما يطلبه من له اليمين من التكرار ولا فرق بين أن يكون الحق الذي ادعاه المدعي واحدا أو متعددا نعم إذا كان الحق لجماعة كان لكل واحد منهم أن يحلف من عليه الحق يمينا مستقلة وهكذا إذا كان الحق على جماعة كان على كل واحد منهم يمين مستقلة ولكن ليس هذا من التكرار في شيء. قوله: "ويكون على القطع" الخ. أقول: إن كان المحلوف عليه مما يمكن الحالف أن يقطع به جاز تحليفه على ذلك ومن هذا القبيل أن يحلف على أنه ما قتل أو غصب أو ما قال بكذا وهكذا اليمين على أنه ملكه تلقاه من مورثه أو اشتراه من بائعه ونحو ذلك وأما إذا كان لا سبيل إلى القطع وذلك بأن يحلف المنكر على نفي ملك المدعي فإنه لا سبيل إلى القطع في مثل هذا لجواز أن يكون تملكه في الأصل وأنه خرج عنه بما لا يصلح للنقل وخفى ذلك على المدعى عليه فهاهنا لا يحلف إلا على العلم ولا طريق إلى القطع وأما ما كان فعلا لغيره فلا سبيل إلى القطع على كل حال ولا يجب عليه أن يحلف إلا على العلم إذا تعلق بذلك فائدة فاعرف هذا فإن جعل اليمين على القطع تارة وعلى العلم تارة لا بد من تقييده بما ذكرناه وإلا كان الإلزام به ظلما والحلف به غير مطابق للواقع فيكون اليمين غموسا يشترك في إثمها الحالف والقاضي الذي ألزمه بها من غير فرق بين مدع ومنكر ومشتر ووراث. وأما قوله: "ولا يلزم تعليقها إلا بمحل النزاع" فصحيح إذ ليس على من عليه اليمين وهو المنكر إلا أن يحلف على نفي ما يدعيه المدعي فإن طلب منه زيادة على هذا النفي المطلق لم يجب عليه ذلك. قوله: "وهي حق للمدعي فينظر طلبه". أقول: هذا صحيح لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل اليمين على المنكر فإذا لم يكن للمدعي بينة انقطع حقه بيمين المنكر وكانت من هذه الحيثية حقا له لكن إذا حصل منه التراخي عن طلبها قاصدا لعدم نفاذ الحكم عليه واستمرار سبب الخصومة كان للمنكر أن يطلب من الحاكم إراحته من الخصومة بقبض خصمه لليمين التي أوجبها عليه الشرع ثم يحكم له ببراءته من الدعوى بيمينه. وأما قوله: "ويصح الإبراء منها" فوجهه أنها إذا كانت حقا للمدعي كان مخيرا بين استيفائها أو إسقاطها وهو معنى الإبراء. وأما قوله: "ولا يسقط الحق" يعني بالإبراء من اليمين فوجهه أن الإبراء منها لا يكون له حكم فعلها حتى يقال ليس له إلا ذلك ولا يقبل منه البينة لأنه لم يحلف.

وأما قوله: "ولا يفعلها" فلا وجه له بل قد انقطع الطلب بفعلها وذهبت الخصومة ولا يقبل بغيرها بينة كما قدمنا تحقيق ذلك فلا وجه لقوله: "إلا أن يبرئه إن حلف فحلف" إلخ وإنما هو مبني على أن البينة تقبل بعد اليمين كما يذهب إليه المصنف وموافقوه. قوله: "ولا يحلف منكر الشهادة". أقول: وجهه قول الله سبحانه: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 283] ، فإذا أنكر الشهادة فإن كان صادقا في إنكاره فليس عليه زيادة على ذلك وهو محسن بالشهادة وما على المحسنين من سبيل وإن كان كاذبا فقد حق عليه ما قاله الله عزوجل: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وكفى له بذلك عقوبة. وأما قوله ولا يضمن ولو صح كتمانه فوجهه أنه غير الغاصب لذلك المسلك أو المتسهلك له فلم يتوجه عليه ضمان وإنما يتوجه على المباشر ومال هذا الشاهد معصوم بعصمة الإسلام فلا يحل الأخذ بشيء منه إلا بما ينقل عن هذه العصمة. وأما كونه ألا يضمن منكر الوثيقة ما فيها فوجهه ظاهر لأنه لم يكن بمجرد إنكارها غاصبا لما اشتملت عليه ولا مباشرا لإتلافه. وأما كونها تحلف الرفيعة والمريض في دارهما فينبغي أن يقال إنه يحلف كل منكر في داره إذا طلب ذلك سواء كان رفيعا أو وضيعا لأن اليمين الواجبة عليه ليس عليه إلا إيقاعها ولا يجب عليه أن يخرج من منزله إلى منزل المدعي أو منزل الحاكم بل المدعي هو الذي يأتي لاستيفائها.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار [فصل إنما يصح من مكلف مختار لم يعلم هزله ولا كذبه عقلا أو شرعا في حق يتعلق به في الحال ويصح من الأخرس غالبا ومن الوكيل فيما وليه إلا القصاص ونحوه ودعواه غير إقرار للأصل] . قوله: "فصل: إنما يصح من مكلف". أقول: أما اشتراط كونه مكلفا فوجهه أن الصبي والمجنون ممنوعان من التصرف بما لهما بالعوض ومحجوران عن ذلك فكيف يصح إقرارهما بإخراج شي من مالهما لغير عوض وأما

كونه مختارا فوجهه أن إقرار المكره لا حكم له لحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وهو حديث صالح للاحتجاج به ولا سيما بعد تأييده بقوله عزوجل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، إلى آخر الآية وما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عزوجل قال: "قد فعلت"، كما قدمنا. وأما كونه لم يعلم هزله فوجهه أن ذلك ليس بإقرار إنما هو لقصد آخر وأما إذا لم يعلم هزله كان مؤاخذا بإقراره ودعوى كونه هازلا خلاف الظاهر وهكذا إذا علم كذبه لأن الإقرار الذي يلزم به الحق هو ما كان مطابقا للخارج وإذا لم يكن مطابقا له فليس هو الإقرار الذي تجب به الحقوق. وأما كونه في حق يتعلق به فوجهه أن الحق الذي أقر به لو كان متعلقا بغيره كان ذلك إقرارا على الغير وهو باطل. وأما كونه يصح الإقرار من الأخرس فوجهه أنه يمكنه أن يشير إشارة يفهم عندها مراده وذلك هو معنى الإقرار لأن اللفظ لا يشترط في هذا الباب كما يشترط في غيره ويصح أن يكون الإقرار في الزنا والقذف بالإشارة كما هو الحق من أن الإشارة المفهمة تكفي فيهما ولا وجه لاشتراط تكرر الإقرار في الزنا على أنه لو كان ذلك شرط لكان تكرير الإشارة المفهمة بمنزلة تكرير الإقرار. قوله: "ومن الوكيل فيما وليه". أقول: لا وجه لهذا فإن التوكيل في الأصل إنما هو لمطالبة الخصم أو لمدافعته ولا يدخل للإقرار على الموكل في هذا بل هو إضرار به لم يأذن له ولا جعله إليه فإن وكله وكالة مفوضة فهذا التفويض إنما ينصرف إلى ما ينفعه لا إلى ما يضره نعم إذا وكله بأن ينشيء الإقرار عنه أو يخبر به كان هذا التوكيل مقتضيا لصحة إقرار الوكيل ولا مانع من ذلك ولا وجه لاستثناء القصاص ونحوه بل يصح إقرار الوكيل بالإقرار بكل حق من مال أو قصاص أو حد إذا قد وجد المقتضى لصحة الإقرار والنفي المانع من صحته. وأما كون دعوى الوكيل غير إقرار للأصل فظاهر لأنه إنما ادعاه تعبيرا عن الموكل وخصومة من جهته فلا يلزم تسليمه إلى الموكل إذا صار إليه. [فصل ولا يصح من مأذون إلا فيما أذن فيه ولو أقر بإتلاف ومحجور إلا لبعد رفعه وعبد إلا فيما يتعلق بذمته ابتداء أو لإنكار سيده أو يضره كالقطع لا المال عند م ولا من الوصي ونحوه إلا بأنه قبض أو باع] .

قوله: "فصل: ولا يصح من مأذون إلا فيما أذن فيه". أقول: لما أذن له مالكه أو وليه بالتصرف في شيء من المال فكأنه التزم بما يقع منه مما فيه نقص عليه بالإقرار أو الخسر كما رضي بما يحصل من جهته من الفوائد فمن هذه الحيثية كان إقراره صحيحا ولو أقر بإتلاف وأما المحجور فهو بالحجر قد صار مكفوفا عن التصرف فيما فيه نفع فضلا عن إخراج جزء من المال بالإقرار فلا يصح منه الإقرار ما دام محجورا وهكذا العبد لا يصح إقراره إلا بما لا ضرر فيه على سيده لأنه لم يأذن له بذلك فإن أقر بما يلزمه ولم يوافقه السيد على ذلك فهو قد أقر بما لا ضرر فيه على السيد فيكون إقراره صحيحا يطالب به العبد إذا عتق هذا حيث لم يثبت ذلك عليه إلا بإقراره أما لو ثبت عليه ببرهان غير الإقرار لم يحتج إلى موافقة السيد بل يكون له حكم الأموال التي تلزم المماليك مع الفرق بين ما هو لازم عن جناية أو عن معاملة. والحاصل أن ما لزم العبد بغير إذن سيده فهو متعلق بالعبد يطالب به إذا عتق ولو كان ذلك مما يجب فيه القصاص فإنه لا يقام عليه إلا إذا عتق إلا أن يثبت عليه ببرهان غير الإقرار كان على السيد تسليمه لاستيفاء القصاص أو تسليم الدية كما سيأتي في الجنايات إن شاء الله تعالى وهكذا الإقرار من الوصي والولي لأنه إقرار بمال الغير وليس ذلك إليهما إلا إذا أقر بما توجبه الوصاية من التصرفات كان ذلك مقبولا لأنهما مأذونان من جهة الشرع بذلك. [فصل ولا يصح لمعين إلا لمصادقته ولو بعد التكذيب ما لم يصدق ويعتبر في النسب والسبب التصادق أيضا كسكوت المقر به حيث علم وله الإنكار وعدم الواسطة وإلا شاركه المقر في الإرث لا النسب ويصح بالعلوق ومن المرأة قبل الزواجة وحالها وبعدها مالم يستلزم لحوق الزوج ومن الزوج ولا يلحقها إن أنكرت ولا يصح من السبى في الرحامات والبينة على مدعي توليج المقربة] . قوله: "فصل: ولا يصح لمعين إلا بمصادقته". أقول: وجه هذا ظاهر فإنه لا يدخل في ملك الإنسان إلا ما يقبله ويرضى به ولا يصح إلزامه بتملك شيء وهو ينفي ملكه والمراد من المصادقة القبول وعدم الرد ولو كان التصديق بعد التكذيب لأنه قد يكذبه ثم يظهر له بعد ذلك أن الإقرار صحيح فالاعتبار بما ينتهي إليه الحال أما لو كان المقر قد صادقه في هذا التكذيب كان مبطلا لإقراره السابق فلا يؤاخذ به وهذا ظاهر لا يخفى فقد صار بالتكذيب أولا وتصديقه للمكذب ثانيا في حكم من لم يقع منه إقرار فلا وجه لمصيره لبيت المال بل يبقى في يده.

قوله: "وفي النسب والسبب التصادق" الخ. أقول: الإقرار هو أقوى الأسباب في ثبوت الحقوق والحدود والأنساب والأسباب فإذا وقع على وجه الصحة كان معمولا به إذا كان من جميع من له دخل في ذلك النسب أو السبب ولا ينافي هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش"، [البخاري "6818"، مسلم "37/1458"، أبو داود "2237"، أحمد "6/129، 200، 237"، النسائي "3484"، ابن ماجة "2004"] ، فإن هذا الحكم إنما هو مع الاختلاف كما شهد لذلك سبب الحديث وأما مع الاتفاق وحصول الإقرار فلا رجوع إلى الفراش لأنه قد وجد ما هو أقوى منه ولا شك أن السكوت من المقربة تقرير لمضمون الإقرار فهو تصديق ولا وجه للفرق بين الإقرار بالمال والإقرار بالنسب والسبب بل مجرد القبول ولو بالسكوت يكفي في الجميع. قوله: "وعدم الواسطة" الخ. أقول: لم يظهر لهذا الاشتراط وجه بل إذا كان الإقرار والتصادق بشيء لا يضر بالغير ولا يوجب إلزامه بما لا يلزمه فهو صحيح ثابت لا وجه لرده ولا مقتضى لعدم قبوله فيثبت النسب والإرث بذلك ويكفي في الأمرين جميعا ومن ادعى أن ثم مانعا مقبولا فعليه البيان. قوله: "ويصح بالعلوق". أقول: وجهه أنه أقر بما يوجبه الفراش ويقتضيه حكم الشرع فكان إقرارا صحيحا شرعيا لا يقبل منه بعد ذلك ما يخالفه وهكذا إقرار المرأة بالولد الصحيح فإن أضافته إلى أب معين فلا بد من مصادقته لها فإن خالفها كان الواجب الرجوع إلى ما يقتضيه حكم الفراش وهذه المسائل ظاهرة واضحة مأخوذة من كليات الشريعة وجزئياتها. قوله: "ولا يصح من السبى في الرحامات". أقول: وجه هذا أنه يتضمن الإضرار بالسيد إما بتحريم ما هو حلال قبل الإقرار أو بتقديم غيره في الميراث عليه وقد عرفت أن الإقرار لا يصح بما فيه إضرار بالغير بوجه من الوجوه وإنما يصح بما هو خاص بالمقر لا يتعداه إلى غيره كما تقدم تقريره أما لو كان ذلك الإقرار لا يضر بالسيد لا في الحال ولا في الاستقبال فهو صحيح وله حكمه في الأمور التي يوجبها النسب ولا يلحق ضررها بالغير فإذا أقر المملوك بما يوجب تحريم النكاح بينه وبين من أقر به يسبب القرابة المقتضية لذلك كان هذا الإقرار صحيحا ولا وجه لرده. قوله: "والبينة على مدعي توليج المقربه". أقول: وجهه أن الظاهر صحة الإقرار فدعوى التوليج خلاف الظاهر فيكلف مدعيه البينة المفيدة لكونه واقعا توليجا وهذا إذا لم يظهر من القرائن القوية أنه لقصد التوليج فإن ظهر ذلك كان الظاهر مع المدعي وعلى المقر أن ينهض لما يصحح إقراره وإلا كان المعمول به هو ما اقتضته القرائن القوية وقد قدمنا أن العمل بالقرائن القوية مع عدم ما هو أقوى منها مجمع عليه.

[فصل ويشترط في النكاح تصادقهما وارتفاع الموانع قيل وتصديق الولي وذات الزوج يوقف حتى تبين ولا حق لها قبله منهما وترث الخارج ويرثها الداخل ويصح بماض فيستصحب ولا يقران على باطل وفي الفاسد خلاف] . قوله: "فصل: ويشترط في النكاح تصادقهما وارتفاع الموانع". أقول: ارتفاع الموانع شرط في كل الإقرارات من غير فرق بين النسب والمال والسبب فلا بد أن يكون الإقرار غير معارض بمانع يمنع من العمل به كما هو شرط كل مقتض كائنا ما كان أن يتجرد عن المانع الذي يصلح للمانعية فلا وجه لتخصيص هذه الصورة بهذا الشرط ولا يصح إقرار كل واحد من الزوجين إلا بما لا ضرر فيه على الآخر وإلا كان العمل على البينة والحكم وبهذا تعرف ما هو الوجه فيما ذكره المصنف بعد هذا وما ذكره من صحة الإقرار بنكاح ماض وأنه يستصحب فيه الحال فوجهه أن الاستصحاب يقتضي عدم ارتفاعه فلا يرتفع إلا بما يصلح للنقل عن الاستصحاب وأما كونهما لا يقران على باطل فظاهر وأما الفاسد فقد عرفناك غير مرة أنه لا واسطة بين الصحيح والباطل فإن كان باطلا فله حكمه وإن كان صحيحا فله حكمه. [فصل ومن أقر بوارث له أو ابن عم ورثه إلا مع أشهر منه فالثلث فما دون إن استحقه لو صح نسبه وبأحد عبيده فمات قبل التعيين عتقوا وسعوا للورثة حسب الحال وثبت لهم نسب واحد وميراثه ونصيبه من مال السعاية وبدين على مورثه لزمت حصته في حصته وبما ليس في يده سلمه متى صار إليه بإرث أو غيره ولا يلزمه الاستفداء ويتثنى ضمانه ولزيد ثم قال بل لعمرو سلم لزيد العين ولعمرو قيمتها م إلا مع الحكم لزيد] . قوله: "فصل: ومن أقر بوارث له أوابن عم". أقول: هذا إقرار صحيح لأنه أقر بما لا يضر بالغير فيستحق ميراثه. وأما قوله: "إلا مع أشهر منه فالثلث فما دون" فلا وجه له لأن إقراره فيه إضرار بهذا الذي نسبه أشهر فلا يقبل ولا يصح ولا يستحق شيئا وليس هذا من باب الوصية حتى يقال إنه يعطي ذلك من باب الوصية لأن هذا الإقرار الباطل ليس هو وصية بل هو إقرار بنسب أو بثبوت ميراث وأين هذا من الوصية؟!

قوله: "وبأحد عبيده فمات قبل التعيين عتقوا" الخ. أقول: قد قررنا فيما سبق أن القرعة قد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن منها حديث الستة الأعبد ومنها الجماعة الذين ادعوا ابن الأمة أنه ابن لكل واحد منهم ومنها مع تعارض البينتين فأفاد ذلك أنها حكم شرعي عند عروض اللبس وعدم الاهتداء إلى حقيقة الحال وقد أوضحنا الكلام في هذا في كتاب العتق وفي كتاب النكاح وإذا عرفت هذا كان المتعين في هذا الإقرار بأحد العبيد إذا تعذر التعيين هو الإقراع بينهم فمن خرجت قرعته كان هو المستحق لما تضمنه الإقرار بلا سراية إلى غيره ولا سعاية ومن لم يسعه ما صح عن الشارع فهو المضيق على نفسه. قوله: "وبدين على مورثه لزمه حصته في حصته". أقول: هذا صحيح لأنه أقر بشيء يعود ضرره عليه إن كان هو الوارث وحده فيجب عليه تسليم ما أقر به من التركة وإن كان معه وارث آخر لم يلزم ذلك الآخر شيء وعلى المقر حصته من الدين من حصته من التركة وهكذا من أقر بشيء في يده أنه مملوك لغير من هو مالك له في الظاهر فإن هذا الإقرار لا يصح في الحال لأنه إضرار بالغير ومتى صار إلى هذا المقر ودخل في ملكه وجب عليه تسليمه إلى من أقر له به بموجب إقراره السابق سواء كان حال الإقرار في يده أو لم يكن في يده فإن مجرد الإقرار يكفي ويوجب التسليم إذ لا مزيد تأثير لثبوت اليد وهكذا من أقر بأن هذا الشيء لزيد ثم أقر إقرارا آخر بأنه لعمرو فقد صار إقراره الأول لازما له فيجب عليه تسليمه لمن أقر له به ولا حكم لإقراره الآخر لأنه رجوع عن الإقرار وهو لا يصح وهو أيضا إضرار بمن أقر له أولا وذلك مانع من صحة الإقرار ولا يجب عليه تسليم شيء إلى من أقر له آخرا لأنه إقرار باطل كما عرفت ولا يحرم بالإقرار الباطل شيء ولا يثبت له حكم. [فصل وعلي ونحوه للقصاص والدين وعندي ونحوه للقذف والعين وليس لي عليه حق يتعلق بالجراحة إسقاط للقصاص فيما دون النفس إلا للأرش وما دخل في البيع تبعا دخل فيه ولا يدخل الظرف في المظروف إلا لعرف ويجب الحق بالإقرار بفرع ثبوته أو طلبه أو نحوهما واليد في نحو هذا لي رده فلان للراد وتقييده بالشرط المستقبل أو بما في الدار ونحوها خالية يبطله غالبا لا بوقت أو عوض معين فيتقيد] . قوله: "فصل: وعلي أو نحوه للقصاص والدين" الخ. أقول: اعلم أن الإقرارات يجب حملها على الأعراف الغالبة لأنها المقصودة للمقر في

محاوراته كلها والخروج عن ذلك نادر والنادر لا يجوز الحمل عليه ولا الحكم به لأنه خلاف ما هو الظاهر المتبادر وإذا عرفت هذا نظرت في عرف المقر وأهل محله إن كان لهم عرف في هذه الألفاظ كان العمل على ذلك سواء كان ما هو عرف لهم موافقا لما ذكره المصنف أو مخالفا له فإن لم يكن في ذلك عرف أو كان العرف مختلفا ولا غالب وجب الرجوع إلا عرف الشرع إن وجد فإن لم يوجد كان العمل على ما تقتضيه لغة العرب إن كان المقر عربيا وإن كان غير عربي كان العمل على ما تقتضيه لغته. وبهذا تعرف أنه لا وجه لما ذكره المصنف في هذه الصور لأنا لو فرضنا أن هذه المعاني التي ذكرها هي المعاني الشرعية أو المعاني اللغوية لم يجز حمل من غلب عليه عرف بلده عليها لما هو معلوم من أنه يتكلم بما يقتضيه عرفه وعرف أهل بلده فحمل إقراره على معنى غير ذلك ظلم له أو لمن أقر له أو ظلم لهما. قوله: "وما دخل في المبيع تبعا دخل فيه". أقول: وجه هذا ظاهر لأن الإقرار بالعين يستلزم الإقرار بما لا بد لها منه في عرف المقر فلزمه ذلك وأما كونه لا يدخل الظرف في المظروف فقد أصاب بتقييده بقوله إلا لعرف وكان عليه أن يقيد ما ذكره في أول الفصل بهذا. قوله: "ويجب الحق بالإقرار بفرع ثبوته" الخ. أقول: وجه هذا أن الإقرار بما هو فرع لثبوت الشيء إقرار بثبوت ذلك الشيء فمن قال قد قضيتك ما كان لك علي من الدين أو قال لمن ادعى عليه عينا بعها منى أو نحو ذلك فهو بهذه الدعوى وهذا الطلب قد أقر بأن ذلك الشيء للمدعي فيجب استصحاب الحال والحكم عليه بثبوت ما أقر بثبوته حتى يأتي بما ينقل عن هذا الاستصحاب وهذا مسلك شرعي لا يمكن الحكم بالعدل إلا بأعماله لا بإهماله فإن ذلك جور وظلم ومن هذا القبيل قول المصنف وهذا لي رده فإن الإقرار لفلان بأنه رده إليه إقرار بفرع ثبوت يد فلان على ذلك الشيء فيستصحب الحال في ثبوت يده حتى ينقل عنها ناقل صحيح. قوله: "وتقييده بالشرط المستقبل أو بما في الدار ونحوها خالية يبطله". أقول: لا وجه لإبطال الإقرار المقيد بشرط مستقبل فإن لزوم الشيء في زمان مستقبل قد يكون لسبب حلول أجل أو وصية مقيدة بذلك أو عدة محالة على وقت مستقبل والاحتمالات في مثل هذا كثيرة وجعل الاستقبال مانعا هو مجرد دعوى لم ينتهض عليها دليل وأما بطلا الإقرار بما في الدار مع انكشافها خالية فهذا إقرار باطل وقد تقدم في أول الإقرار ما يدل على بطلان هذا الإقرار وإلزام المقر بشيء والحال هكذا إلزام له بما لا يلزمه شرعا ولا عقلا. وأما قوله: "لا لوقت أو عوض معين فيتقيد" فوجهه ظاهر لما قدمنا في الشرط وهكذا من أقر بشيء عليه مقيدا له بأنه من قيمة كذا فإن هذا القيد قد وجب حمل إقراره عليه فلا يجوز الحكم عليه ببعض كلامه دون بعض وأما ما يقال من أن الإقرار بالشيء قد لزم، وقوله

إنه من قيمة كذا دعوى فهذا جمود وظلم للمقر لأن له ما يقتضيه آخر كلامه كما كان عليه ما يقتضي أول كلامه. [فصل ويصح بالمجهول جنسا وقدرا فيفسره ويحلف ولو قسرا ويصدق وارثه فإن قال مال كثير أو نحوه فهو لنصاب جنس فسر به لا دونه وغنم كثيرة ونحوها لعشر والجمع لثلاثة وكذا درهم وأخواته لدرهم وشيء أو عشرة لما فسر إلا فهما من أدنى مال ولي ولزيد بينهما وأرباعا له ثلاثة ومن واحد إلى عشرة لثمانية ودرهم بل درهمان للدرهمين لا مدان فلثلاثة ويكفي تفسير المستثنى من الجنس متصلا غير مستغرق والعطف المشار له للأول في الثبوت في الذمة أو في العدد ويصرف في الفقراء ما جهل أو الوارث مستحقه] . قوله: "فصل: ويصح بالمجهول جنسا" الخ. أقول: وجه ذلك أنه قد لزمه بإقراره شيء مجهول الجنس أو النوع فثبت للمقر له ذلك فإن فسره بشيء فذاك وإن تعذر تفسيره لموت أو نحوه فالواجب الرجوع إلى الأعراف الغالبة فإن كانت موجودة فالرجوع إليها مقدم على كل شيء وإن لم تكن موجودة وجب الحمل على المعنى الشرعي إن وجد وإن لم يوجد فعلى المعنى اللغوي كما قدمنا تحقيق ذلك قريبا فهذه الصور التي ذكرها المصنف في هذا الفصل إن كان مراده أنها أعراف غالبة على أهل عصره أو بلده فلذلك لا يلزم غيره بل كل مقر مخاطب بالغالب من عرف قومه محمول إقراره عليه وإن أراد أنها مدلولات لغوية فذلك غير مسلم إلا في مثل قوله ولزيد بينهما نصفين وقوله ودرهم بل درهمان للدرهمين ونحو ذلك وإن أراد أنها معان شرعية فممنوع والواجب حمل ما لم يثبت فيه حقيقة شرعية على اللغة العربية إن لم يكن ثم عرف. فالحاصل أنه إذا لم يكن ثم عرف فإن كان المقر يعرف المدلولات اللغوية كان إقراره محمولا عليها وإن كان لا يعرفها فهو مع عدم العرف والشرع كمن أقر بشيء مجهول فيحمل إلى أقل ما يصدق به في لغة العرب والرجوع إلى لغة العرب في هذه الصورة اقتضته الضرورة لوجود مطلق الإقرار وتعلق الحق بالمقر للمقر له وهذا الذي ذكرناه يغنيك عن الكلام على كل صورة من الصور التي ذكرها المصنف في هذا الفصل. وأما قوله: "ويصرف في الفقراء ما جهل أو الوارث مستحقه" فوجهه أنه لم يبق مع الجهل

طريق إلى تبين مستحقه فكان الصرف في الفقراء مخلصا من المظلمة بحسب الإمكان وكان الأولى أن يكون مصرفه المصالح كما في سائر الأموال الملتبسة. [فصل ولا يصح الرجوع عنه إلا في حقه لله يسقط بالشبهة أو ما صودق فيه غالبا ومنه نحو سقت أو قتلت أو غصبت أنا وفلان بقرة فلان ونحوه لا أكلت أنا وهو ونحوه] قوله: "فصل: ولا يصح الرجوع عنه". أقول: وجه هذا أنه قد لزمه الحق بإقراره وهو بالغ عاقل فرجوعه عن الإقرار رجوع باطل يستلزم إبطال حق على من أقر له به وذلك ظلم والظلم حرام مخالف للعدل الذي أمر الله عباده بالحكم به. وأما قوله: "إلا في حق لله" إلخ فلا بد من أن يكون رجوعه محتملا للصدق حتى يكون شبهة له وإلا كان من دفع ما قد تكلم به لسانه وأقر به على نفسه بما لا يصح للدفع وليست الشبهة التي أمرنا بدرء الحدود عندها إلا ما كانت موجبة للاشتباه موقعة في بعض اللبس وإلا كان ذلك من إهمال الحدود التي ورد الوعيد الشديد على من لم يقمها. وأما قوله: "أو ما صودق فيه" فإن كان هذا الذي صادقه على الرجوع هو من له في الإقرار نفع أو دفع فذاك وإلا فلا حكم لهذه المصادقة ويؤخذ المقر بإقراره ولا وجه لما فرق به المصنف بين قول المقر سقت أو قتلت أو غصبت أنا وفلان وبين قوله أكلت أنا وهو ونحوه فإن الجميع إقرار على النفس ولا حكم لقوله وفلان في الفرق ولا يقتضي ذلك رواية ولا دراية.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات [فصل يعتبر في الزنا وإقراره أربعة رجال أصول وفي حق الله ولو مشوبا والقصاص رجلان أصلان غالبا وفيما يتعلق بعورات النساء عدله وفيما عدا ذلك رجلان أو رجل وامرأتان أو ويمين المدعي]

قوله: فصل: "ويعتبر في الزنا وإقراره أربعة رجال أصول". أقول: أما على الفعل فهو نص القرآن وإجماع السلف والخلف وأما الشهادة على الإقرار فسيأتي لنا في الحدود إن شاء الله أنه يكفي للإقرار مرة واحدة فلا وجه لإيجاب أربعة شهود على الإقرار وإنما يتوجه ذلك لو كان الإقرار أربع مرات كما هو اختيار المصنف ومن معه وأما اشتراط كونهم رجالا أصولا فوجهه الاحتياط والتحري في الحدود لما يستلزمه من الإضرار بالأبدان ولما ثبت فيها من أنها تدرأ بالشبهات ولكن هذه العلة قاصرة على إفادة المطلوب. والحاصل أنه لم يدل دليل على هذا الاشتراط ولا على اشتراط كون الشهادة في حق الله وفي القصاص من الرجال الأصول وظاهر القرآن أن الرجل والمرأتين يقومون مقام الرجلين في كل شيء فمن ادعى التخصيص فعليه البرهان ولا يصلح لذلك ما رواه ابن أبي شيبة من قول الزهري إنها مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود لأنه مع كونه مرسلا في إسناده ضعف فلا يصلح أن يكون شبهة في الحدود فضلا عن القصاص وسيأتي في فصل الادعاء ما فيه زيادة فائدة إن شاء الله. قوله: "وفيما يتعلق بعورات النساء عدلة". أقول: هذا إخبار لا شهادة وخبر العدل أو العدلة مقبولة فيما ورد قبوله فيه وأما كونه يصلح مستندا للحكم ففيه نظر لأن الله سبحانه شرع لنا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين ومما يقوي قبول خبر العدل أو العدلة فيما يترتب عليه عمل يتعلق بالغير ما ثبت في صحيح البخاري "13/185، 186"، وغيره أحمد "5/186"، أبو داود "3645"، الترمذي "2715"، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود وقال حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه ولكن ليس هنا خصومة حتى يكون مثل هذا دليلا على قبول الواحد فيها ولهذا قال الكرماني لا نزاع لأحد أنه يكفي ترجمان واحد عند الإخبار وأنه لا بد من اثنين عند الشهادة وقال ابن المنذر القياس يقتضي اشتراط العدد في الأحكام لأن كل شيء غاب عن الحاكم لا يقبل فيه إلا البينة الكاملة والواحد ليس ببينة كاملة حتى يضم إليه كمال النصاب غير أن الحديث إذا صح سقط النظر وفي الاكتفاء بزيد بن ثابت وحده حجة ظاهرة لا يجوز خلافها انتهى. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بزيد بن ثابت في خصومة بل في الإخبار عن كتاب اليهود وأما ما روى من قول الزهري مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادة النساء وغيرها فهذا مع كونه مرسلا قد أخرجه ابن أبي شيبة قال حدثنا عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن الزهري وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري أيضا وهو لأئمة أثبات. والحاصل أن الحاكم إذا أراد مزيد الاستثبات استكثر من العدلات حتى يغلب ظنه بصدق قولهن ولهذا روى عن الشافعي أنه لا بد من ثلاث وعن مالك والأوزاعي ثنتان.

وأما قوله: "وفيما عدا ذلك رجلان" إلخ فهو نص القرآن الكريم وهو يشتمل على كل خصومة إلا ما خص بدليل. وأما قوله: "أو يمين المدعي" فقد قدمنا الأدلة الدالة على وجوب العمل بالشاهد واليمين عند قول المصنف ولا ترد المتممة فلا نعيده. [فصل ويجب على متحملها الأداء لكل أحد حتى يصل إلى حقه في القطعي مطلقا وفي الظني إلى حاكم محق فقط وإن بعد إلا لشرط إلا لخشية فوت فيجب وإن لم يتحمل إلا لخوف وتطيب الأجرة فيهما] قوله: "فصل: ويجب على متحملها الأداء لكل أحد". أقول: وجه هذا قول الله عزوجل: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقر: 282] ، فإنه يدل على وجوب تحمل الشهادة على من دعي إليها وعلى وجوب تأديتها لمن طلب تأديتها إلى الحاكم ومما يدل على الوجوب قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وأيضا قد تقرر وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأدلة القطعية ووجب تأدية الشهادة من هذا القبيل لا سيما عند خشية فوت الحق وعلى هذا حمل حديث: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي تأتي شهادته قبل أن يسألها"، وهو في صحيح مسلم "19/1719"، وغيره أحمد "5/193"، أبو داود "3596"، الترمذي "2296"، من حديث زيد بن خالد الجهني ولا فرق بين أن يكون الحق قطعيا أو ظنيا لأن الشاهد عليه أن يؤدي شهادته إلى الحاكم وعلى الحاكم أن يحكم بما يصح لديه. وأما قوله: "إلى حاكم محق" فجمود ظاهر لا وجه له ولا دليل عليه بل يجب عليه أن يؤدي الشهادة إلى من يقيم الحق ويأخذ على يد من هو لديه حتى يرده على أي صفة كان ولو كان غير قاض إذا علم الشاهد أنه يقدر على إيصال من له الحق بحقه ووجه هذا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالسعي في إثباته بكل ممكن وهكذا الآية وهي قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فإن الشهود إذا دعاهم المشهود له إلى من يرجو منه إنفاذ الحق فقد وجب عليهم أن لا يأبوا من الإجابة وإلا كانوا واقعين في النهي القرآني وبهذا تعرف صحة قول المصنف وإن بعد وعدم صحة قوله إلا لشرط فإن اشتراط ما أمر الله بخلافه لا يجوز. وأما قوله: "وتطيب الأجرة" فهذه الأجرة على واجب وقد قدمنا الكلام على ذلك في الإجارات والقول بأن الواجب مجرد التأدية لا قطع المسافة غير صواب بل الواجب التأدية التي

ينتفع بها المشهود له وهي إذا احتاجت إلى قطع مسافة فلا يصدق على الشاهد أنه قد أدى الشهادة إلا بذلك وإلا كان داخلا في قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 182"، وفي قوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وتاركا لما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. [فصل ويشترط لفظها وحسن الأداء وإلا أعيدت وظن العدالة وإلا لم يصح وإن رضي الخصم وحضوره أو نائبه ويجوز للتهمة تحليفهم وتفريقهم إلا في شهادة زنا ولا يسألون عن سبب ملك شهدوا به] . قوله: "فصل: ويشترط لفظها". أقول: المراد بالشهادة الإخبار بما يعلمه الشاهد عند التحاكم إلى الحاكم بأي لفظ كان وعلى أي صفة وقع ولا يعتبر إلا أن يأتي بكلام مفهوم يفهمه سامعه فإذا قال مثلا رأيت كذا وكذا أو سمعت كذا وكذا فهذه شهادة شرعية وقد أحسن المحقق ابن القيم حيث قال في فوائده ليس مع اشتراط لفظ الشهادة فيها دليل لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح انتهى وقد قدمنا لك في كثير من الأبواب أن اشتراط الألفاظ إنما هو صنيع من لم يمعن النظر في حقائق الأشياء ولا وصل إلى الألفاظ غير مرادة لذاتها وإنما هي قوالب للمعاني تؤدى بها فإذا حصلت التأدية للمعنى المراد فاشتراط زيادة على ذلك لم تدل عليه رواية ولا دراية وهكذا قوله وحسن الأداء لا وجه له من عقل ولا نقل ولا ورد فيه شيء وليس المراد إلا انفهام المعنى المراد من كلامه وإن جاء بعبارة غير حسنة وألفاظ غير مأنوسة فليس المقام مقام بلاغة حتى يقال إنه يشترط حسن الأداء بل المقام مقام إخبار بما علمه الشاهد ولو بالرطانة واللغة المستعجمة إذا كان يفهم عنه ذلك ويصح بمجرد الإشارة المفهمة من القادر على النطق وبالكتابة. قوله: "وظن العدالة". أقول: عدالة الشهود هي الشرط الذي تبنى عليه القناطر ويترتب عليه القبول وهي الشرط الذي لم يشترط الله سبحانه في كتابه غيره ولا نبه على سواه بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، والمراد بهذه العدالة أن يعلم الحاكم أو يخبره من له اطلاع على حال الشهود أنهم حال تأدية الشهادة قائمين بما أوجبه الله عليهم تاركين لما نهاهم عنه ليسوا ممن يجتريء على الكذب ولا كانوا ممن شمله الحديث الذي أخرجه أحمد "2/204، 225، 226، وأبو داود "3600"، وابن ماجه "2366"، والبيهقي بسند

قوي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت" وهو الذي ينفق عليه أهل البيت وفي الباب أحاديث مقوية لهذا الحديث قد استوفيناها في شرح المنتقى وسيأتي للمصنف في الفصل الذي بعد هذا تعداد من لا تصح شهادتهم عنده وسنتكلم على ذلك إن شاء الله. فالحاصل أن أعظم أركان العدالة تحري الصدق وعدم التسامح في الكلام والتزيد فيه فمن كان هكذا فهو الشاهد العدل ولا يحتاج بعده إلا إلى أن يكون في الحال ظاهر العدالة التي هي ملكة تمنع النفس عن اقتراف الكبائر والرذائل ولا يحتاج إلى كثرة التفتيش عن حاله بزيادة على هذا كما يقول بعض أهل الأصول إن الفسق مانع فلا بد من تحقيق عدمه بل نقول الفسق وإن كان مانعا فالأصل عدم وجوده فيبنى على هذا الأصل حتى يقوم ما ينقل عنه. قوله: "وإلا لم يصح وإن رضي الخصم". أقول: أما مع رضا الخصم فهذا الرضا بالشهادة يدفع كل علة ترد عليها فكأنه قد رضي بإثبات ما شهدت عليه به إذا لم يكن الرضا لقصور في فهمه وإدراكه كمن يظن أن مجرد شهادة الشهود عليه على أي صفة كانت موجبة لثبوت الحق عليه. وأما قوله: "وحضوره أو نائبه" فهذا صحيح لأن هذه شهادة عليه يتعقبها إلزامه بما شهدوا به فقد يكون في حضوره التنبيه لهم على خلاف ما يعتقدونه لوهم عرض لهم وشبهة حصلت عليهم وأيضا له أن يجرحهم فيما شهدوا به فلا بد أن يعلم بكيفية شهادتهم عليه حتى ينفتح له باب الجرح إذا شهدوا بباطل عمدا أو سهوا. قوله: "ويجوز للتهمة تحليفهم". أقول: هذا التحليف للشهود مضارة لهم وقد قال الله عزوجل: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 182] ، وليس المعتبر فيهم إلا أن يكونوا عدولا مرضيين كما نطق به الكتاب العزيز فإن كانوا كذلك لم يتعلق بهم تهمة فلا يجوز تحليفهم وإن تعلقت بهم تهمة فليسوا بعدول مرضيين فشهادتهم مردودة من هذه الحيثية. وأما الاستدلال بقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] ، فهذه القصة منسوخة مع كونها واردة في أهل الذمة ودعوى فسح بعضها دون بعض تحكم يأباه الإنصاف. قوله: "وتفريقهم". أقول: أما إذا كانوا عدولا مرضيين فلا يجوز هذا التفريق لأنه يفت في أعضادهم وعضد من شهدوا له بغير سبب يوجب ذلك مع كونه لم يرد به شرع يجب اتباعه ويتعين المصير إليه وأما إذا كان حالهم عند الحاكم ملتبسا فأراد أن يختبر صدقهم واتفاقهم على ما شهدوا به فلا بأس بهذا فإنه مما يتوصل به إلى إثبات الحق ودفع الباطل وقد انتفعنا بهذا التفريق في غير قضية

ولا سيما إذا كان الشهود قد جاءوا في الشهادة بلفظ واحد من غير اختلاف فإن ذلك مما يؤذن بالريبة ويدعو إلى التهمة بأنهم قد تواطئوا أن يشهدوا بذلك اللفظ وتواصوا به بينهم والغالب في شهادة الصدق أن يؤدي كل شاهد معنى ما شهد به الآخر بألفاظ يعبر بها عند التأدية سواء وافقت لفظ من شهد معه أو خالفته مع الاتفاق على المعنى. ومما يوضح الصدق من الكذب مع الريبة أن يفرقهم الحاكم ثم يسألهم عن صفات تتعلق بالزمان أو المكان أو الحال وينوع لهم ذلك فإن الشهادة الكاذبة عند ذلك تتعثر غاية التعثر ويظهر خللها ويتبين صدقها. وأما قوله: "إلا في شهادة زنا" فلا وجه له وما عللوا به من أنهم يكونون قذفة تعليل باطل ليس عليه أثارة من علم بل ولو شهد كل واحد منهم في وقت غير الذي شهد به الآخر وإن تباعدت الأوقات كما وقع في شهادة الشهود على المغيرة فإن زيادا تأخر وشهد في وقت آخر وقد حضر ذلك أعيان الصحابة ولم ينكروه ولا قالوا إن المتأخر قاذف. قوله: "ولا يسألون عن سبب ملك شهدوا به". أقول: وجه هذا أنهم قد أدوا ما عليهم من الشهادة على الملك بما قد علموه من ثبوت يد المشهود له على ذلك الشيء وتصرفه به تصرف المالك في ملكه فالسؤال لهم عن سبب الملك سؤال لا يجب عليهم معرفته ولا تلازم بينه وبين صحة شهادتهم. [فصل ولا تصح من أخرس وصبي مطلقا وكافر تصريحا إلا مليا على مثله وفاسق جارحة وإن تاب إلا بعد سنة والعبرة بحال الأداء ومن له فيها نفع أودفع ضرر أو تقرير فعل أو قول ولا ذي سهو أو حقد أو كذب أو تهمة بمحاباة للرق ونحوه لا للقرابة والزوجية ونحوها ومن أعمي فيما يفتقر فيه إلى الرؤية عند الأداء] . قوله: "فصل: ولا تصح من أخرس". أقول: وجه عدم الصحة عنده ما تقدم له من اشتراط اللفظ وقد قدمنا ما يدل على أن ذلك الاشتراط ليس بشيء وأن الشهادة تصح بالإشارة المفهمة من قادر على النطق فضلا عن غير قادر وأما اشتراط أن يكون الشاهد غير صبي فظاهر لأن العدالة شرط كما تقدم والصبي لا يوصف بذلك فلا يصح أن يكون شاهدا ولكنه إذا اجتمع من خبر الصبيان ما يفيد الظن القوي كان العمل بذلك من العمل بالقرائن القوية وقد قدمنا نقل الإجماع عليه. قوله: "وكافر تصريحا". أقول: هذا مجمع عليه كما نقله المحققون من أهل المذاهب المختلفة ولم ينقل فيه

خلاف ومن زعم أن في المسألة خلافا فقد أخطأ والوجه في هذا ما صرح به القرآن الكريم من اشتراط أن يكون الشهود عدولا مرضيين والكافر ليس بعدل ولا مرضي فهو مسلوب الأهلية ومظنة للتهمة. وأما قوله عزوجل: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] ، فليس ذلك مما نحن بصدده بل هو في شيء آخر كما بينه محققو المفسرين وأيضا الآية منسوخة فلا حكم للاستدلال بشيء مما اشتملت عليه وقد قدمنا الإشارة إلى مثل هذا. والحاصل أن الأمر أوضح من كل واضح وأجلى من كل جلي ولكن من حبب إليه المجيء بما يخالف الناس وقع في مخالفة الكتاب والسنة والإجماع وهو لا يشعر. قوله: "إلا مليا على مثله". أقول: وجه هذا أنا مأمورون بتقريرهم على شرعهم ومن التقرير على شرعهم قبول شهادة بعضهم على بعض ولو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لكان ذلك مقتضيا لإهدار كثير من القضايا التي لا توجد فيها شاهد يشهد بينهم من المسلمين لأن المتاخمة والمداخلة إنما هي فيما بينهم والمسلمون متنزهون عنهم مسكنا ومخالطة. وهذا الدليل أعنى تقريرهم على شرعهم يغني عن الاستدلال بمثل ما أخرجه ابن ماجة من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم عن بعض فإن في إسناده مقالا. قوله: "وفاسق جارحه". أقول: قد أغنى عن هذا ما قدمه من اشتراط العدالة فإن العدل لا يطلق على مرتكب معاصي الله عزوجل وهكذا يغني اشتراط العدالة عن ذكر الكافر والصبي وليس في التنصيص على هذه بعد اشتراط العدالة إلا التطويل الذي لا يأتي بكثير فائدة مع أن الفسق في أصل اللغة هو أشد الكفر وعليه عبارات القرآن وإن ورد في قليل مرادا به عصاة المسلمين كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] ، وقد ورد في السنة ما يدل على رد شهادة من ليس بعدل كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي بإسناد قوي وقد رواه أبو داود بإسنادين لا مطعن فيهما وفي لفظ لأبي داود ["3601"] : "لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية" وشهد له ما أخرجه الترمذي ["2298"] والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة بلفظ: "لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة" الحديث وفي إسناده يزيد ابن أبي زياد وفيه مقال وقال الترمذي لا يصح عندنا إسناده وقال أبو زرعة منكر وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي ولكن في الباب من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب نحوه أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده ضعيفان وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ويغني عن الاستدلال بها ما قدمنا من أن الواقع في هذه المعاصي ليس بعدل.

وأما قوله: "وإن تاب إلا بعد سنة" فتوقيت لا يوافق رواية ولا دراية ومجرد وقوع التوبة وتحققها تمحو عنه ما اتصف به من سلب العدالة ويرده ويرده إلى الاتصاف بها. قوله: "ومن له فيها نفع". أقول: وجه هذا قد صار بهذا النفع العائد إليه مظنة للتهمة عند الحاكم فإن كان بمكان من العدالة بحيث لا يؤثر فيه مثل ذلك فهو عدل مرضي فلا وجه لرد شهادته لوجود الشرط المعتبر فيه وفي حديث عمرو بن شعيب المتقدم قريبا زيادة بلفظ: "ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت"، والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت والوجه في عدم قبول شهادته ما يتهم به بسبب ما له من المنفعة من المشهود لهم وهكذا الوجه في قوله أو دفع ضرر أو تقرير فعل أو قول فإن المانع من القبول في جميع هذه هو كونهم مظنة تهمة لما يجلبونه إلى أنفسهم من النفع أو يدفعون به عن أنفسهم من الضرر أو يقررون به قولهم أو فعلهم فإن انتفت التهمة وانتفت المظنة فلا عذر من القبول لوجود الشرط المعتبر كما قدمنا. وأما عدم قبول شهادة ذي السهو فوجهه واضح لأنه مع كثرة سهوه لا يوثق بشهادته لجواز أن يسهو عن بعض ما شهد به مما لا تتم الشهادة على وجه الصواب إلا به. وهكذا شهادة ذي الحقد لأنه قد صار بحقده على المشهود عليه مظنة تهمة توجب عدم قبوله وفي حديث عائشة المتقدم قريبا زيادة بلفظ: "ولا ذي غمر لأخيه ولا ظنين ولا قرابة" وفيه المقال المتقدم وروي من حديث عمر بلفظ: "لا تقبل شهادة ظنين ولا خصم" قال ابن حجر: ليس له إسناد صحيح ولكن له طرق يقوي بعضها بعضا ومن ذلك ما رواه أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله ابن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا أنه لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين وروى البيهقي أيضا من طريق الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة"، يعني الذي بينك وبينه عداوة وروى الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مثله وفي إسناده نظر وهكذا لا تقبل شهادة ذي الكذب وهو أقبح هؤلاء المعدودين حالا وأبعدهم عن العدالة التي لا شهادة بدونها. وأما قوله: "أو تهمة بمحاباة للرق ونحوه" فيدل على ذلك ما تقدم من نفي قبول شهادة ذي الظنة ومن نفي قبول شهادة القانع. وأما قوله: "لا للقرابة والزوجية أو نحوهما" فلا وجه للفرق بينه وبينهما قبله بل من كان من هؤلاء متهما بالمحاباة فشهادته غير مقبولة من ذوي الظنة ومن لم يكن كذلك فشهادته مقبولة من غير فرق بين رق وخادم وأجير وقريب وزوجة وغيرهم. وأما قوله: "ومن أعمى فيما يفتقر فيه إلى الرؤية عند الأداء" فوجهه واضح لأن الأعمى لا يشهد ما لا بد فيه من الرؤية فإن فعل كان مجازفا كاذبا بخلاف الشهادة على الصوت وعلى سائر ما لا يفتقر إلى الرؤية كما سيأتي للمصنف.

[فصل والجرح والتعديل خبر لا شهادة عند م بالله فيكفي عدل أو عدلة وهو عدل أو فاسق إلا بعد الحكم فيفصل بمفسق إجماعا ويعتبر عدلان قيل وفي تفصيل الجرح عدلان قيل ويبطله الإنكار ودعوى الإصلاح وكل فعل أو ترك محرمين في اعتقاد الفاعل التارك لا يتسامح بمثلها وقعا جرأة فجرح والجارح أولى وإن كثر المعدل] قوله: "فصل: والجرح والتعديل خبر لا شهادة" الخ. أقول: قد قدمنا أن اعتبار اللفظ في الشهادة جمود لا وجه له وقد قدمنا أن الشرط الذي لا بد منه هو أن يكون الشهود عدولا مرضيين كما نطق به القرآن الكريم فقال: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282"، فالمعتبر في الشهادة العدالة والعدد وأما الإخبار بأن فلانا عدل أو غير عدل أو يتصف بكذا ولا يتصف بكذا فهذا من باب الرواية فلا بد أن يحصل للحاكم ظن الصدق فإن حصل بالواحد كفى ذلك وإن لم يحصل بالواحد فلا بد من الزيادة ثم العمل بما يرجحه الحاكم الذي يقوم بمثل ترجيحه الحجة في الاكتفاء بمجرد الإجمال أو الفحص عن التفصيل وإذا غلب في ظن الحاكم صدق الجارح أو المعدل عمل على ذلك ولا فرق بين أن يكون الجرح قبل الحكم أو بعده أنه إذا غلب على ظن الحاكم صدق الجرح فت في عضد الحكم السابق ولا يشترط أن يكون بمفسق إجماعا كما قال المصنف ولا يبطله الإنكار كمل قيل إذا كان مجردا وأما دعوى الإصلاح فعلى الحاكم أن يبحث عن ذلك حتى يتبين له الحال ويعمل على ما ينتهي إليه. وأما قوله: "وكل فعل أو ترك محرمين" إلى آخر كلامه فهو كلام صحيح إذ لا يصدق مسمى الجرح إلا على ما اشتمل على هذه القيود. قوله: "والجارح أولى وإن كثر المعدل". أقول: وجه ذلك عند المصنف ومن قال بقوله أن المعدل غاية ما يقوله إنه لم يعلم بارتكاب ما يقدح في شهادة الشاهد وعدم العلم ليس علما بالعدم بخلاف الجارح فإنه يشهد على ارتكاب الشاهد لما يقدح في عدالته وهذا إثبات والإثبات مقدم على النفي وإنما يتم هذا إذا كان الجرح مفصلا أما لو كان مجملا بأن يقول الجارح هذا الشاهد غير عدل ويقول المعدل هذا الشاهد عدل فينبغي أن يكون المرجح من الوصفين ما يكون عليه الشاهد في حال الشهادة فإن كان متصفا بما يوجب العدالة متجنبا لما يقدح فيها كان التعديل أرجح ويحمل الجرح المجمل على أن الجارح استند في جرحه إلى فعل أو ترك فعله الشاهد قبل هذه الحالة التي صار عليها ومتصفا بها وإن كان الشاهد في حال الشهادة متصفا بما ينفي العدالة كان الجرح مقدما على التعديل ويحمل قول المعدل على أنه استند في تعديله إلى ما كان عليه حال الشاهد قبل

هذه الحالة التي هو عليها وقد استوفيت وجوه الترجيح في كتابي الذي سميته إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول بما لم أسبق إليه فمن رام شفاء النفس واندفاع اللبس فعليه ذلك. [فصل ويصح في غير الحد والقصاص أن يرعي عدلين ولو على كل من الأصلين لا كل فرد على فرد ويصح رجل وامرأتان ولو على مثلهم لا ذميين على مسلم ولو لذمي وإنما ينوبان عن ميت أو معذور أو غائب بريدا يقول الأصل اشهد على شهادتي أني أشهد بكذا والفرع أشهد أن فلانا أشهدني أو أمرني أن أشهد أنه شهد بكذا ويعينان الأصول ما تدارجوا ولهم تعديلهم] . قوله: "ويصح في غير الحد والقصاص أن يرعي عدلين". أقول: لم يأت في شيء من الأدلة ما يدل على أن الشاهد يجوز له أن يشهد على شهادته شاهدا آخر بل أوجب الله سبحانه على الشهود أن يأتوا بالشهادة التي تحملوها فقال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقر: 282] ، وقال: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، فلا يجوز هذا الادعاء بعدم وروده في الشرع فإن عرض للشاهد عذر يخشى معه فوته كالمرض أو عرض له سفر إلى مكان بعيد كان الإرعاء ها هنا جائزا لأنها قد اقتضته الضرورة وفي وتركه إضرار بمن له الشهادة وتفويت لحقه فوجب السعي في تلافي الأمر بحسب الإمكان وهذا غاية ما يمكن ومما يقوم مقام الإرعاء إذا لم يكن أقوى منه أن يكتب الشاهد شهادته بخطه إذا كان معروف الخط أو يكتبها بخط من يعرف خطه ويشهد على ذلك فإنها قد وردت الأدلة الصحيحة الدالة على العمل بالكتابة الصحيحة في مواضع من الكتاب والسنة وورد ما يدل على قبولها على العموم. وأما قوله: "في غير الحد والقصاص" فوجه عدم قبول الإرعاء في الحد أنه يسقط بالشبهة وقد يمكن أن يأتي الشاهد في شهادته إذا شهد بنفسه بما يفيد الشبهة وهذا وإن كان تجويزا بعيدا جدا لكن درء الحدود بالشبهات يقتضي مثل هذا وقد قدمنا أنه لا يشترط اجتماع الشهود على الحد فغاية ما هنا أن ينتظر الشاهد حتى يزول عذره ثم يحضر للشهادة فإن تعذر حضوره وانخرم به النصاب لم يثبت الحد. وأما القصاص فلا وجه لاستثنائه بل يجوز الارعاء مع العذر أو الشهادة بالكتابة الصحيحة ولكن المصنف بنى هنا على ما قدمه في أول كتاب الشهادة من اشتراط أن يكون شهود القصاص أصولا.

وأما قوله: "أن يرعى ولو على كل من الأصلين" إلخ فصحيح إذ ليس المقصود إلا تحمل الفروع لشهادة الأصول فيكفي أن يتحمل الواحد عن الواحد أو كل واحد من الفرعين عن كل واحد من الأصلين ولكن مع العذر المسوغ لذلك كما قدمنا وكما سيأتي للمصنف وإنما ينوبان عن ميت أو معذور أو غائب. وأما قوله: "لا ذميين عن مسلم" فقد أغنى عن هذا ما تقدم من عدم صحة شهادة الكافر على المسلم من غير فرق بين أصل وفرع. وأما ما ذكره من قوله اشهد على شهادتي إلخ فقد عرفناك أن اشتراط هذه الألفاظ في غالب الأبواب جمود لا دليل عليه فيكفي أن يأمره بأن يشهد على شهادته بأي لفظ كان وكذلك يكفي الفرع أن يؤدي هذه الشهادة بأي لفظ كان. وأما قوله: "ولهم تعديلهم" فظاهر لأن الفروع لم يشهدوا بالحق وإنما شهدوا على شهادة من شهد به. [فصل ويكفي شاهد أو رعيان على أصل مع امرأتين أو يمين المدعي ولو فاسقا في كل حق لآدمي محض غالبا لا رعي مع أصل ولو أرعاهما صاحبه ومتى صحت شهادة لم تؤثر مزية الأخرى] . قوله: "فصل: ويكفي شاهد أو رعيان على أصل مع امرأتين أو يمين المدعي". أقول: هذا صحيح أما كونه يكفي شاهد مع امرأتين فهو نص القرآن الكريم وأما كونه يقوم مقام الأصل رعيان فقد قدمنا الكلام عليه في الفصل الذي قبل هذا وقدمنا أيضا الأدلة الدالة على جواز الحكم بشاهد ويمين المدعي عند قول المصنف: "ولا ترد المتممة" فارجع إليه وهكذا قوله: ولو فاسقا فإن الدليل الصحيح قد دل على ذلك كما تقدم في قصة الحضرمي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: "شاهداك أو يمينه": يا رسول الله إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف فقال: "ليس لك إلا ذلك". وأما قوله: "في كل حق لآدمي محض" فقد قدمنا ما يعتبر من الشهادة في كل مشهود فيه فلا نعيده. قوله: "ومتى صحت شهادة لم تؤثر مزية الأخرى". أقول: هذا سد لباب الترجيح وردم لطريق هي أوسع الطرق ساحة ومعلوم أن ارتفاع إحدى الشهادتين المتعارضتين بأي مزية من المزايا تصيرها راجحة فتكون الأخرى مرجوحة والظن لصحة الراجحة أقوى كما أنه بصحة المرجوحة أنقص وقد تبلغ إلى مرتبة لا يبقى

للمرجوحة تأثير في تحصيل الظن المعتبر وليس اعتبار مجرد وجود النصاب مقتضيا إلا مع عدم المانع ووجود الشهادة الراجحة من جملة ما يصدق عليه وصف المانعية فاعرف هذا وسيأتي الكلام في تعارض البينات. [فصل واختلاف الشاهدين إما في زمان الإقرار أو الإنشاء أو مكانهما فلا يضر وأما في قدر المقربه فيصح ما اتفقا عليه لفظا ومعنى غالبا كألف مع ألف وخمسمائة لا ألفين وكطلقة وطلقة مع طلقة وأما في العقود ففي صفتها كالخيار ونحوه لا يكمل وفي قدر العوض لا تكمل إن جحد الأصل وإلا ثبتت بالأقل إن ادعى الأكثر وأما في مكان أو زمان أو صفة لفعل قيل أو عقد نكاح فقط أو في قول مختلف المعنى لا كحوالة وكفالة أو رسالة ووكالة بل كباع وهب أقر به أوصى عن بيع عن غصب أو في عين المدعي أو جنسه أو نوعه أو صفته أو قال قتل أو باع أو نحوهما والآخر أقر فيبطل ما خالف دعواه فيكمل المطابق وإلا بطلت] . قوله: "فصل: واختلاف الشاهدين" الخ. أقول: كل اختلاف يمكن حمله على تعدد الواقعة من غير مانع فلا يضر ومن هذا الاختلاف في زمن الإقرار أو الإنشاء أو مكانهما وأما الاختلاف في قدر المقربه فهو وإن أمكن حمله على تعدد الواقعة لكنه لا يلزم إلا ما اتفقا عليه لأنه الذي تم عليه نصاب الشهادة فإن أمكن تكميل النصاب على الزيادة بأن يشهد شاهد آخر على ما شهد به من شهد بالزيادة أويحلف المدعي كان الواجب العمل بذلك لوجود النصاب المعتبر في الحكم. وأما قوله: "ويصح ما اتفقا عليه لفظا ومعنى" فلا وجه لاعتبار الاتفاق في اللفظ ولا يتعلق به فائدة بل المعتبر الاتفاق في المعنى فقط فلا وجه لما مثل به المصنف مراعيا فيه الاتفاق لفظا ومعنى. وأما قوله: "وفي العقود" إلخ فلا يخفاك أن الإثبات مقدم على النفس لأن الشاهد به شاهد بعلم ونا فيه غاية ما تضمنته شهادته أنه لا يعلم وعدم العلم ليس علما بالعدم فإن كمل المدعي شهادة المثبت بيمينه أو شهد معه شاهد آخر وجب الحكم بذلك وهكذا الكلام في الاختلاف في قدر العوض وهكذا قوله وأما في زمان أو مكان أو صفة لفعل فإنه كما قدمنا إن أمكن الحمل على تعدد الواقعة فذاك ولا يضر الاختلاف وإن لم يمكن فإنه يكون قادحا في الشهادة حتى يتبين الحال.

والحاصل أن المعتبر في جميع هذا الفصل هو هذا ولا وجه للفرق بين بعض صوره دون بعض وقد طول المصنف المقال في غير طائل. [فصل ومن ادعى مالين فبين على كل منهما بينة كاملة ثبتا إن اختلفا سبا أو جنسا أو نوعا مطلقا أو صكا أو عددا ولم يتحد السبب أو مجلسا ولم يتحدا عددا وصكا ولا سببا وإلا فمال واحد ويدخل الأقل في الأكثر] . قوله: "فصل: ومن ادعى مالين فبين على كل منهما بينة كاملة ثبتا". أقول: هذا صحيح ولا يحتاج إلى التنصيص عليه وشغلة الحيز به لوضوحه وظهوره فإن هذا الاختلاف بين المالين في أي هذه الصور يقتضي عدم كونهما مالا واحدا فقد وجب هنا الحمل على التعدد مع عدم الاختلاف وجب حمل البينتين على مال واحد رجوعا إلى البراءة الأصلية مع عصمة أموال المسلمين بالشرع. [فصل وإذا تعارضت البينتان وأمكن استعمالهما لزم وترجح الخارجة ثم الأولى ثم المؤرخة حسب الحال ثم يتهاتران ولذي اليد ثم يقسم المدعى كما مر ويحكم للمطلقة بأقرب وقت في الأصح] . قوله: "فصل: وإذا تعارضت البينتان وأمكن استعمالهما لزم" الخ, أقول: وهذا أيضا مما لا يحتاج إلى تحريره وشغلة الحيز به لأنهما مع إمكان الاستعمال يجب حملهما على ذلك وإنما يكون التناقض مع عدم إمكان الاستعمال وهو حيث يتحد المتعلق مع عدم إمكان تعدد الواقعة. وأما قوله: "وترجح الخارجة" فوجهه أن صاحبها هو المدعي والبينة في الأصل عليه فكانت من هذه الحيثية أرجح وقد قدمنا ما في ذلك فلا نعيده وأما ما ذكره من ترجيح الأولى فلا بد من تقييده بكونها ترفع مضمون الأخرى كأن تشهد الشهادة الأولى بأن مالك هذه العين باعها من فلان ثم تشهد البينة الأخرى بأنه باعها من آخر مع أنه يمكن أن يكون البيع الأول قد عرض له ما يقتضي رده على بائعه بخيار من الخيارات الموجبة للرد وإن كان الأصل خلاف ذلك.

وأما ما ذكره من ترجيح المؤرخة فلا أرى له وجها صحيحا لأن المطلقة يمكن أن تكون قبلها ويمكن أن تكون بعدها فينبغي أن ينظر هل يمكن تعدد الواقعة أم لا؟ فإن لم يمكن فالقسمة كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون من قبيل قوله ثم يتهاتران وأما كونه يكون مع التهاتر لذي اليد فوجهه أنه عمل بالاستصحاب لعدم وجود الناقل الخالص عن المعارض وإن لم يكن لأحدهما عليه يد أو كان في أيديهما فالقسمة فإنها مدرك شرعي كما مر. وأما قوله: "ويحكم للمطلقة بأقرب وقت" فهذا فيه شبهة التحكم فإنها إذا كانت متحملة لأقرب وقت وأبعده وأوسطه كان حملها على أحد محتملاتها حملا بلا مرجح. [فصل ومن شهد عند عادل ثم رجع عنده أو عند مثله بطلت قبل الحكم مطلقا وبعده في الحد والقصاص قبل التنفيذ وإلا فلا فيعزمون لمن غرمته الشهادة أو نقصته أو أقرت عليه معرضا للسقوط ويتأرش ويقتص منهم عامدين بعد انتقاص نصابها وحسبه قيل في الحدود حتى يبقى واحد ثم على الرؤوس وفي المال على الرؤوس مطلقا والمتممة كواحد والنسوة الست كثلاثة ولا يضمن المزكي] . قوله: "فصل: ومن شهد عند عادل ثم رجع" الخ. أقول: لا وجه للتقييد بكون الشهادة عند عادل ولا يكون الرجوع عنده أو عند مثله بل المعتبر صحة الرجوع بوجه من الوجوه ومع الرجوع تبطل شهادته من غير فرق بين كونها قبل الحكم أو بعده وأي تأثير للحكم مع بطلان مستنده فإن هذا من أعجب ما يقرع سمع من يتعقل الحقائق فضلا عمن هو عالم بالأسباب الموجبة لثبوت أحكام الشرع ولا فرق بين الحد والقصاص وغيرهما فإن كان قد وقع التقييد فلا شك أن الحاكم مغرور من جهة الشهود وهم سبب الجناية على المشهود عليه فيغرمون لمن أصيب بشهادتهم في بدنه أو في ماله أما في البدن فظاهر لأنه قد حل به ما لم يمكن استدراكه إلا بتسليم ديته أو أرشه وأما في المال فلا يغرمون إلا إذا تعذر إرجاع ذلك المال إلى يد مالكه وتعذر الرجوع على من أتلفه بقيمته. وأما ما ذكره من الاقتصاص من الشهود فخبط لا ينبني على حقيقة وذهول عما سيأتي له في الجنايات وما ذكره بعد هذا فهو ظاهر لا يحتاج إلى الكلام عليه.

[فصل ويكمل النسب بالتدريج والمبيع بما يعنيه وكذلك الحق وكان له أو في يده بما أعلمه انتقل إن كان عليه يد في الحال والإرث من الجد بتوسط الأب إن لم يتقدم موته والبيع والوصية والوقف والهبة بفعله مالكا أو ذا يد ورزمة الثياب بالجنس والعدد والطول والعرض والرقة والغلظ والوصية وكتاب حاكم إلى مثله ونحوهما بالقراءة عليهم والبيع لا الإقرار به ولا من الشفيع بتسمية الثمن أو قبضه فإن جهل قبل القبض فسخ لا بعده والقول للمشتري وقتله يقينا أو نحوه نشهد وإلا بطلت في الكل] . قوله: "فصل: ويكمل النسب بالتدريج". أقول: سيأتي له أنه يكفي في الشهادة على النسب شهرة في المحلة فإن كان هذا التكميل لا بد منه بحيث لا يحكم الحاكم بالنسب إلا به لم يكن لقوله فيما سيأتي كثير فائدة وإن كان النسب يثبت بدون هذا التكميل لم يكن لتحريره ها هنا فائدة لأنه قد ثبت أصل النسب وهو المراد وقد فرق بين الموضعين بعض المشتغلين بهذا العلم فقالوا إن كفاية الشهادة بالشهرة باعتبار ثبوت الميراث وأما ثبوت النسب فلا يتم إلا بالتدرج ولا يخفى أن هذا فرق ممن لا يفرق بين حقائق الأمور وما يتسبب عنها فإن ثبوت الميراث متسبب عن ثبوت النسب فإذا لم يثبت السبب لم يثبت المسبب وثبوت المسببات بدون ثبوت أسبابها محال. وأما قوله: "والمبيع بما يعينه" فلا وجه له فإن الشهادة على الشيء بدون ما يعينه ليست شهادة على ذلك الشيء بل هي شهادة على ما يحتمله هو وغيره فإن جاء بما يعينه كانت شهادة عليه وإلا فليست بشهادة عليه وهكذا الشهادة على الحق لا فرق بينهما وبين الشهادة على الملك. وأما قوله: "وكان له أو في يده بما أعلمه انتقل" فلا وجه لهذه الزيادة بل الشهادة على أنه كان له أو في يده قد اقتضت استصحاب الحال فلا ينقل عن ذلك إلا ناقل صحيح ومع هذا فقد تقدم للمصنف أنها لا تصح الشهادة على ملك كان. وأما قوله: "والإرث من الجد بتوسيط الأب" فلا فائدة لهذا التكميل لأن إثبات كونه جدا قد اقتضى أن ابن ابنه يرثه ومن ادعى أن ثم مانعا من إرثه له فعليه بيان ذلك المانع. وأما قوله: "والبيع والوصية والوقف والهبة بفعله مالكا أو ذا يد" فلا أرى لهذا التكميل وجها لأنه قد ثبت بالشهادة صدور هذه الأشياء فيحكم على من صدرت عنه حكما مطلقا بأنه فعل ذلك وإذا نوزع المحكوم له كانت خصومة أخرى يرجع فيه إلى البينة من المدعي أو اليمين من المنكر وهكذا ما ذكره بعد هذا.

والحاصل أن مثل هذه التعريفات ظلمات بعضها فوق بعض وقد جعل الله لعباده عنها سعة فإنها لا تأتي إلا بمجرد التضييق عليهم وتعسير الشريعة الواضحة التي ليلها كنهارها. [فصل ولا تصح على نفي إلا أن يقتضي الإثبات ويتعلق به ومن وكيل خاصم ولا بعد العزل وعلى حاكم أكذبهم ومن تسقط عنهم حقا له كمالك غير مالكهم أو ذي اليد في ولائهم ولغير مدع في حق آدمي محض وعلى القذف قبل المرافعة ومن فرع اختل أصله ولا يحكم بما اختل أهلها قبل الحكم فإن فعل نقض ولو قبل العلم غالبا ولا بما وجد في ديوانه إن لم يذكر وتصح من كل من الشريكين للآخر في المشترك فيفوز كل بما حكم له ولا يتبعض ومن المنهي عن الأداء وممن كان أنكرها غير مصرح وعلى أن ذا الوارث وحده] . قوله: "فصل: ولا تصح على نفي" الخ. أقول: هذه الشهادة على النفي قد أفادت في الجملة انتفاء ذلك الشيء في علم الشاهد فإن عورض هذا النفي بالإثبات فهو أرجح منه وأقدم لأنه شهادة عن علم وإن لم يعارض هذا النفي فلا وجه للجزم بعدم صحة الشهادة عليه بدون معارض أنهض منه لأنه قد أفاد في الجملة فائدة معمولا بها مع عدم المعارض ولو لم يكن إلا كون هذه الشهادة عاضدة للأصل ومقوية له فإن العدم مقدم على الوجود ولا وجه لتقييد عدم الصحة بقوله: "إلا أن يقتضي الإثبات" فإن هذه الشهادة المقتضية للإثبات هي شهادة إثبات ولا اعتبار بدخول النفي في لفظها لما عرفناك غير مرة أنه لا اعتبار بمجرد الألفاظ وأن ذلك جمود لا يليق بأهل التحقيق. قوله: "ولا من وكيل خاصم" الخ. أقول: إن كان بهذه الخصومة قد صار متهما فقد تقدم عدم قبول شهادة المتهم بالأدلة التي ذكرنا وباشتراط القرآن الكريم أن يكون الشهود عدولا مرضيين والمتهم غير عدل ولا مرضي وإن كان هذا الوكيل بمكان من الثقة والعدالة بحيث لا تؤثر فيه الخصومة تهمة ولا عداوة فلا وجه لرد شهادته لأن نفس تولي الخصومة في حق للغير لا يصلح لكونه مانعا لعدم الدليل على ذلك ولا فرق بين أن يكون الوكيل قد عزل أم لا. قوله: "وعلى حاكم أكذبهم". أقول: مراد المصنف أنهم شهدوا عليه بأنه قد حكم فأكذبهم وعدم صحة هذه الشهادة أوضح من الشمس بحيث لا يفتقر إلى التنصيص عليه لأن الحاكم إذا أنكر الحكم لم يبق مستند

لإثبات ما اشتمل عليه أو نفيه ومع هذا فهو يمكن حمل الشهود على حالة سمعوها من الحاكم وتعقب ما يخالفها وعلى كل حال فمع إكذابهم لا يبقى لشهادتهم موضع من الصدق قط فضلا عن العمل بها. قوله: "ومن يسقط عنهم حقا كمالك غير مالكهم". أقول: هذه الشهادة وإن أسقطت عنهم حقا للأول فقد أثبتت عليهم حقا للآخر فمن حيث إسقاطها عنهم حقا للأول كأنهم شهدوا لأنفسهم والشهادة للنفس لا تصح وهكذا الكلام على قوله: "أو غير ذي اليد في ولائهم". قوله: "ولغير مدع". أقول: قد قدمنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما عمادان من أعمدة هذا الدين ولا يتوقف وجوب ذلك على مطالبة ذي الحق لأن الاستيلاء عليه وهو في ملكه غصب ومظلمة له ظاهرة فأقل أحوال من علم بحقيقة الحال أن يخبر من له الحق بذلك أو يخبر من يقدر على إنصافه ورفع مظلمته فالرجوع إلى هذين الأصلين العظيمين يغني عن الرجوع إلى ما تعارض من حديث: "خير الشهداء الذي يؤدي شهادته قبل أن يستشهد"، وحديث الذم للقوم الذين يشهدون ولا يستشهدون. وأما ما قيل من أن عدم صحة الشهادة لغير مدع مجمع عليه فما أكثر هذه الدعاوى على إجماع المسلمين مع تعسره بل تعذره كما أوضحنا ذلك في إرشاد الفحول وهكذا الكلام في قوله: "وفي حق آدمي محض". قوله: "ومن فرع اختل أصله". أقول: مثل هذا لا يحتاج إلى التنصيص عليه للعلم بأن شهادة الفرع إنما هي في حكم التأدية لشهادة الأصل فاختلال الأصل مستلزم لاختلال فرعه شرعا وعقلا وعادة وإذا حكم الحاكم بشهادة الفرع الذي اختل أصله فحكمه هباء وسراب بقيعة لا يحتاج فيه إلى أن يقال إنه ينقض فإنه لم ينعقد من الأصل. قوله: "ولا بما هو وجد في ديوانه إن لم يذكر". أقول: القاضي مأمور بأن يحكم بحكم الله عزوجل ولا يكون ذلك إلا بإقرار أو شهادة أو يمين فكيف يقع في ذهن من تعرض للتصنيف أنه قد يحكم بما وجد في ديوانه مع عدم الذكر لسبب ذلك الذي وجده وأي مدخل لهذا في الأسباب الشرعية وكيف يظن بقاض من المسلمين أن يحكم بمثل هذا حتى يقال له ولا يحكم بما وجد في ديوانه إن لم يذكر وأي فائدة لذكر مثل هذا ومع ذلك فهو من أحكام القضاء لا من أحكام الشهادات فكان تأخيره إلى باب القضاء أولى ولكن المصنف رحمه الله قد حبب الله إليه في كثير من مباحث هذا الكتاب التطويل والتكرير فإن غالب ما ذكره في هذا الفصل قد تقدم في فصل من لا تصح شهادتهم. وأما قوله: "ويصح من كل من الشريكين للآخر" إلخ فالوجه أنه لا مانع من هذه الصحة

لا من رواية ولا من دراية لأن الشريك لم يشهد لنفسه ولا بما له نفع فيه ولا سبب يقتضي اتهامه فكان له عن ذكر مثل هذا سعة وهكذا لا حاجة لقوله ومن المنهي عن الأداء فإن من المعلوم أن نهي المشهود عليه للشاهد أن يشهد عليه لا يقول أحد ممن يعلم بل ممن يفهم أنه لا يجوز للشاهد أن يشهد بعد هذا النهي حتى يحتاج إلى التنصيص على جواز شهادته. وأما كونها تصح الشهادة ممن كان أنكرها فوجهه أنه قد ينكر سهوا أو نسيانا ثم يذكر لكن إذا صرح بالإنكار وصمم عليه كان ذلك موجبا للريبة في شهادته وهكذا لا حاجة للتنصيص على صحة الشهادة بكون ذا الوارث وحده فإنه لم يقل أحد بعدم قبول هذه الشهادة حتى يحتاج إلى ذكر قبولها وليت شعري أي حامل للمصنف على ذكر هذه المسائل وشغلة الحيز بها وإتعاب الطلبة بالنظر فيها. [فصل ويكفي الشاهد في جواز الشهادة في الفعل الرؤية وفي القول الصوت معها أو ما في حكمها أو تعريف عدلين مشاهدين أو عدلتين بالاسم والنسب وفي النسب والنكاح والموت والوقف والولاء شهرة في المحلة تثمر علما أو ظنا وفي الملك التصرف والنسبة وعدم المنازع ما لم يغلب في الظن كونه للغير ويكفي الناسي فيما عرف جملته والتبس تفصيله الخط. قوله: "فصل: ويكفي الشاهد في جواز الشهادة في الفعل الرؤية". أقول: لما كانت الشهادة لا تكون إلا عن يقين ولا يكفي فيها ظن إن كانت المشاهدة في الشهادة على الأفعال متوقفة على الرؤية التي يحصل عندها العلم اليقين وهكذا الشهادة على الأقوال فإنه لا بد فيها من رؤية صاحب القول وسماع صوته إلا أن يكون الشاهد ممارسا لذلك القائل بحيث يعلم علما يقينا أن القول قوله ولا يمترى في ذلك لوجه فإنه لا يحتاج حينئذ إلى مشاهدة القائل. وأما قوله: "وتعريف عدلين" إلخ فهذا مما لا بد منه إذا كان الشاهد لا يعرف المشهود عليه معرفة تميزه عن غيره وإن كان يعرفه كان ذلك مغنيا عن التعريف. قوله: "وفي النسب والنكاح" الخ. أقول: ولا بد للشاهد بهذه الأمور من تصريحه بأن مستنده في شهادته هو مجرد الشهرة ووجه هذا أن الشهرة مستند ضعيف فإذا عورضت بما هو أقوى منها لم يبق حكم فكم من شهرة تنشأ عن مجرد كذب كاذب وهزل هازل وقد يحصل للسامع لها ظن لكثرتها فينكشف لخيال كاذب.

وأما قوله: "وفي الملك التصرف والنسبة وعدم المنازع" فهذه الثلاثة الأمور وإن كانت صالحة للشهادة لكن لا على جهة الإطلاق بل يقيد ذلك بأنه لا بد من تصريح الشاهد بأنها مستنده للقطع بأن الشهادة على أن ذلك الملك ملك لفلان علم الشاهد بأنه ورثه من أبيه أو اشتراه من فلان أو وهبه له فلان أقوى من الشهادة المستندة إلى تلك الأسباب ولهذا قال المصنف ما لم يغلب في الظن كونه للغير. قوله: "ويكفي الناسي فيما عرف جملته والتبس تفصيله الخط". أقول: هذا صحيح إذا كان الخط مما يصلح للعمل به كأن يكون خطا للشاهد الذي لا يحتمل عنده زيادة ولا نقصان أو كان بخط من هو معروف الخط بحيث لا يقبل الشك ولا التشكيك فإن كان هكذا فلا بأس بالرجوع في التفاصيل إليه وإن لم يكن هكذا شهد بالجملة وترك التعرض للتفصيل فإن التعرض لذلك تعرض لما هو محل شك والشهادة لا تحل على مثل ذلك.

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة [فصل لا تصح الاستنابة في إيجاب ويمين ولعان مطلقا وقربة بدنية إلا الحج لعذر ومحظور ومنه الظهار والطلاق البدعي ولا في إثبات حد وقصاص ولا استيفائهما إلا بحضرة الأصل وفي الشهادة إلا الإرعاء ولا في نحو الإحياء وما ليس للأصل توليه بنفسه في الحال غالبا] . قوله: "فصل: لا يصح الاستنابة في إيجاب" الخ. أقول: عللوا ذلك بأن القربة البدنية لا تصح إلا من المتقرب وهذه دعوة مجردة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"، وحديث الخثعمية حيث قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته؟ "، وحديث: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، وفي الباب واقعات مشعرة بأصل الجواز فلا يمتنع من ذلك إلا ما دل عليه دليل وهو أيضا الأصل الذي ينبغي الرجوع إليه عند عدم الدليل فإن من صح منه فعل شيء بنفسه جاز له أن يستنيب غيره إلا أن يرد ناقل ينقل عن هذا الأصل ثم المصنف ومن وافقه على المنع يقولون بجواز الاستنابة في تفريق الصدقة والزكاة مثلا وهذا التفريق هو نفس القربة لا مجرد إيقاع العزم عليه أو النذر به.

فالحاصل أن للناذر أن يستنيب من ينذر عنه وللواهب هبة لا عوض فيها أن يستنيب من يهب عنه وللمعتق أن يستنيب من يعتق عنه ونحو هذه الأمور فمن ادعى المنع من شيء من هذه الأمور فعليه الناقل عن الأصل ومما يدل على هذا الجواز دلالة واضحة بعث من ينوب في الجهاد وتجهيز من يجاهد ونحو ذلك وقد قدمنا في مواضع التنبيه على هذا. وأما قوله: "ويمين" فالوجه ظاهر لأن الاستنابة في ذلك لا تتيسر بوجه ولا يجري في مثلها حكم وهكذا قوله ولعان لأنه نوع من الأيمان. وأما قوله: "وقربة بدنية إلا الحج لعذر" فمبني على أن الأصل عدم جواز الاستنابة فيها وقد عرفت ما فيه. وأما قوله: "ومحظور" فوجهه أنه لا يحل للموكل أن يفعل ذلك بنفسه فكيف يحل له أن يوكل غيره. وأما إيقاع الظهار والطلاق فليس للمنع وجه وإن كان الظهار منكرا من القول وزورا والطلاق البدعي منهيا عنه لكنه يلزمه حكمه إذا فعله بنفسه فكذلك يلزمه حكمه إذا وكل من ينوب عنه فيه وهكذا لا مانع من التوكيل في إثبات الحد والقصاص ولا من التوكيل لاستيفائها سواء حضر الأصل أو غاب وكيف لا يصح هذا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث من يقتل المؤذين له من رؤساء الكفر في غير واقعة [البخاري "4037"، مسلم "1801"ي، وذلك استيفاء حد قد وجب عليهم وحلت به دماؤهم لأنهم كانوا من اليهود وهكذا بعث عليا يقتل الذي كان يدخ ل على أمهات المؤمنين فوجده مجبوبا وكذلك بعث أنيسا فقال: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، [البخاري "5/301، 12/136، 13/185، 13/249"، مسلم "24/1697، 1698"، أبو داود "4445"، النسائي "8/240، 241"، الترمذي "1433"، ابن ماجة "2549"، أحمد "4/115، 116"] . وأما المنع من الاستنابة في تأدية الشهادة إلا على طريقة الإرعاء فقد تقدم بيان الكلام فيه ولا وجه لمنع الاستنابة في الإحياء للفرق بين أن يباشر الشيء قاصدا تملكه وبين أن يباشره قاصدا أن يتملكه غيره. وأما قوله: "وفيما ليس للأصل توليه بنفسه" فصحيح ووجهه ظاهر لأن الاستنابة متفرعة عن ثبوت تولي الأصل لذلك الشيء وإذا كان ممنوعا منه فمنع التوكيل منه ثابت بفحوى الخطاب إلا ما احترز عنه من توكيل المرأة من يزوجها فإنه قد ورد الشرع بذلك كما تقدم. [فصل وتصح فيما عدا ذلك من كل أحد لكل مميز إلا امرأة ومحرما ومسلما أصله ذمي

في نكاح وكافرا أصله مسلم فيه أو في مضاربة وتصح معلقة ومشروطة ومؤقتة وبلفظها أو بلفظ الأمر أو الوصية في الحياة وتبطل بالرد ولا يعتبر القبول باللفظ] . قوله: "فصل: وتصح من كل أحد" الخ. أقول: كان يغني عن هذا التكثير أن يقول المصنف يصح من كل من يجوز له تولي الشيء لمن يجوز له توليه ومع كون هذا الاختصار يغني عن هذا التطويل فهو يغني أيضا عما تقدم من قوله ومحظور ومن قوله وفيما ليس للأصل توليه بنفسه. وأما قوله: "وتصح معلقة" فوجه ذلك عدم وجود مانع وهكذا قوله ومشروطة ومؤقتة. وأما قوله: "وبلفظها أو بلفظ الأمر أو الوصية في الحياة" فوجهه ظاهر بل ويصح بغير ذلك مما يفيد الاستنابة كائنا ما كان ولو بإشارة من قادر على النطق. وأما كونها تبطل بالرد فلكون الوكيل لا يجب عليه الدخول في ذلك فله عزل نفسه متى شاء وإذا انعزل فلا يعود وكيلا إلا بتراض آخر وهو معنى التجديد ولهذا لا يعتبر القبول باللفظ. [فصل ويملك بها الوكيل القابض جائز التصرف إن لم يضف كل حق في عقد البيع والإجارة والصلح بالمال فلا يتولاها الأصل إلا بإذنه وكذلك الوصي والولي غالبا لا ذو الولاية إلا لأجلها] . قوله: "فصل: ويملك بها الوكيل" الخ. أقول: قد عرفناك غير مرة أن الاعتبار بالمقاصد لا بالألفاظ فإنها ليست إلا لإفادة المعنى المراد فإذا كان البائع أو المشتري وكيلا لغيره قاصدا أنه للموكل فسواء وقعت منه الإضافة لفظا أو لم تقع لأنه قائم مقام غيره لا مقام نفسه وحينئذ فلا يتعلق به شيء من الحقوق ولا يتولى شيئا منها إلا ما كان داخلا في مطلق الإذن بتولي ذلك الشيء ولا فرق بين تصرف وتصرف وعقد وعقد وليس في هذا التعلق رواية ولا دراية وأما الوصي فقد لزمه مع كونه نائبا عن ميت أن يقوم لما تضمنته الوصاية وبما يتعلق بها حتى يخلص ماله وعليه وهكذا الولي لكونه نائبا عمن لا يصح تصرفه لنفسه وأما ذو الولاية فعليه أن يفعل ما يتعلق بولايته ولا يجاوزه إلى غيره ولا يلزمه سواه واعلم أن ذكر الوصي والولي وذي الولاية هاهنا خارج عن مباحث الوكالات.

[فصل وينقلب فضوليا بمخالفته المعتاد في الإطلاق وما عين مما يتعين عقدا أو قدرا أو أجلا أو جنسا أو نوعا أو غرضا إلا زيادة من جنس ثمن عين للمبيع أو رخص أو استنقاد إلا أن يأمره بنسيئة مفسدة وله الحط قبل القبض فيعزم ولو اشترى من يعتق عليه أو على الأصل المطلق عتق وفي الضمان تردد وما لزمه أو تلف في يده فعلى الأصل إلا ثمنا قبضه منه بعدما اشترى ولا يضمن إن جحد المشتري البيع والمبيع] . قوله: "فصل: وينقلب فضوليا بمخالفة المعتاد" الخ. أقول: هذا صحيح لأن الوكيل لم يفعل ما قصده الموكل فإن المعتاد في عرفهما هو المقصود في الوكالة مع الإطلاق فالمصير إلى غيره مخالفة ظاهرة لا يلزم وكيلا ولا موكلا أما الوكيل فظاهر لأنه لم يقصد التصرف لنفسه وأما الموكل فلكونه لم يرد ما فعله الوكيل. وأما مخالفته لما عينه الموكل من هذه الأمور فالأمر فيه أوضح إلا أن يخالف عادلا إلى شيء فيه مصلحة خالصة لا يتعلق بما يخالفها غرض للموكل كما قال المصنف: "إلا زيادة من جنس ثمن عين للمبيع" فإنه ها هنا قد فعل ما أمر به وزاد خيرا وهكذا قوله: "أو رخص" وقد فعل ذلك من أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يشتري له أضحية بدينار فاشترى كبشين بدينار وباع أحدهما بدينار ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والكبش وهو عروة البارقي فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم هذا الحديث وهكذا الاستنقاد إلا أن يتعلق للموكل غرض بالنسيئة كما ذكر المصنف فعلى الوكيل مطابقة غرضه لأنه متصرف عنه وليس للوكيل حط ولا إبراء ولا هو مأذون بذلك ففعله كا لعدم وهكذا لا يصلح منه شراء من يعتق على الموكل لأنه مأمور بما فيه نفع لا بما فيه ضرر على الموكل وأما شراء الوكيل من يعتق نفسه فهو لا يعتق عليه لأن الشراء لغيره والملك ملك غيره فالعجب من الجزم بأنه يعتق والذي أوقعهم في هذا أنهم قالوا إنه يدخل في ملك الوكيل لحظة مختطفة وهذه دعوى ليس عليها أثارة من علم وقد أوقعهم ذلك فيما تقدم من قولهم إنها تتعلق به الحقوق حتى فرعوا على ذلك ما يضحك منه وهو قولهم فلا يتولاه الأصل إلا بإذنه فسبحان الله وبحمده ما يفعل الرأي بأهله بل ما تفعله المجازفة بمن لم يتورع عنها. [فصل ولا يصح تصرفه قبل العلم عكس الوصي والمباح له ولا فيما رد عليه ولو بحكم ولا يلزم الأصل زيادة المشتري والقول للأصل في نفيها وفي القدر وإذا نوى الوكيل

لنفسه في مشترى ونحوه عينه الأصل فللأصل ما لم يخالفه الفرع لا المنكوح ونحوه ويشتري ما يليق بالأصل من عين له الجنس إن عين له النوع أو الثمن وإلا لم تصح ولا تكرار إلا بكلما م ومتى ويدخلها التحبيس والدور واقبض كل دين وغلة تتناول المستقبل عكس العتق والطلاق ويصدق في القبض والضياع] . قوله: "فصل: ولا يصح تصرفه قبل العلم". أقول: كان الأولى على مقتضى ما يقرره المصنف في سائر المسائل من اعتبار الانتهاء أن يصح تصرف الوكيل قبل العلم وأما ما قيل إنه يصح تصرفه فضوليا ويلحق الإجازة فهذا لا يرد على المصنف لأن مراده أنه لا يصح تصرفه قبل العلم بالوكالة تصرف الوكلاء وأما كونه تصرف فضولي وتلحقه الإجازة فهو بحث آخر وكان ينبغي للمصنف أن لا يفرق بين الوكيل والوصي والمباح له لأنه لا وجه لاعتبار الانتهاء في البعض دون البعض فإن الوصي متصرف بالنيابة عن الميت والوكيل متصرف بالنيابة عن الحي واختلاف اللوازم في بعض الحالات لا يدل على اختلاف الملزومات من كل وجه حتى يكون للوصي ولاية دون الوكيل. وأما كونه لا يصح تصرفه فيما رد عليه فوجهه أنه لا يوكل إلا لمجرد التصرف وقد فعل وانعزل بفعله ما وليه فالتصرف فيما رد عليه يحتاج إلى إذن آخر. قوله: "ولا يلزم الأصل زيادة المشترى". أقول: إن كان المشترى من الجنس الذي عينه الموكل للوكيل فقد حصل غرض الموكل بالقدر الذي عينه وإن كان في الزيادة مصلحة له لكنه قد يكون ثمنها أحب إليه من الزيادة على المعين فيأخذ ما عينه بقدر قيمته من الثمن المدفوع إلى الوكيل ويسترد الزيادة. وأما كون القول قول الموكل في نفي الوكالة فوجهه أن الأصل عدمها فالقول قول نافيها وهكذا يكون القول قوله في قدر ما وكله بشرائه وفي قدر ثمنه لأن نافي الزيادة منكر للإذن بها والأصل عدمها وعدم الإذن بها. قوله: "وإذا نوى الوكيل لنفسه فيما عينه الأصل فللأصل". أقول: هذا مبني على أن تعيين الأصل يقتضي أنه أحق به وليس ذلك بصحيح لأنه ليس بسبب من أسباب الملك ولا من أسباب كونه أحق به فإذا حصل التراضي بين البائع والوكيل بالبيع إلى الوكيل كان للوكيل ولا يلزم الوكيل امتثال أمر الموكل كما لا يلزم البائع أن يبيع من الموكل ففي جعل تعيين الأصل بهذه المنزلة التي ذكرها المصنف تسامح ولا فرق في هذا بين المنكوح وغيره ولا مستند للفرق إلا خواطر أوهام هي أضغاث أحلام. قوله: "ويشتري ما يليق بالأصل من عين له الجنس". أقول: إذا كان الوكيل عالما بما يليق اشترى له ما يليق به في الوكالة المطلقة وليس ذلك بلازم للموكل إلا إذا وجده موافقا لغرضه وأما اشتراط تعيين النوع أو الثمن وإلا لم

تصح الوكالة فليس لذلك وجه مع أنه تقدم للمصنف أنه يصح التبايع فيما علم جنسا ونصيبا والحاصل أن هذا الاشتراط هو من الخيال الذي قدمنا لك وما المانع من أن يوكله بأن يشتري له شاة من دون تعيين نوعها ولا ثمنها فإن جاء بها موافقة لغرض الأصل فذاك وإلا كانت ردا على صاحبها. وأما قوله: "ولا تكرار إلا بكلما" إلخ فقد قدمنا لك الكلام على هذا في الطلاق المشروط فارجع إليه وهكذا قدمنا الكلام في التحبيس والدور فلا نعيده لأن المتقضى والمانع في الموضعين لا يختلفان. وأما قوله: "واقبض كل دين وغلة يتناول المستقبل" فالظاهر أنه يتناول كل ما لم يقبضه الموكل من الديون والغلات عملا بما يفيده هذا العموم ومن ادعى التخصيص ببعض ما يفيده فعليه التخصيص بمخصص يحتمله كلام المتكلم وذلك كالعتق والطلاق فإن الظاهر أن الموكل لا يريد باللفظ العام إلا من يصح عتقه وطلاقه في الحال فإن كان ثم عرف للموكل يقتضي ما هو أوسع من ذلك كان العمل عليه وقد يقال إنه إنما لم يتناول العتق والطلاق لمن لم يكن من مماليك الموكل ولا من زوجاته في حال الوكالة لأنه لا يصح من الأصل أن يعتق من لم يكن في ملكه ولا يطلق من لم تكن قد دخلت في نكاحه وإذا لم يصح ذلك من الأصل لم يصح من الوكيل كما تقدم أنه لا يصح التوكيل فيما ليس للأصل توليه بنفسه. [فصل ويصح أن يتولى طرفي ما لا يتعلق به حقوقه مضيفا وإلا لزمه أو بطل والخصومة وإن كره الخصم أو لم يحضر الأصل وله تعديل بينة الخصم والإقرار مطلقا والقبض فيما تولى إثباته والنكول فيه كالإقرار لا الصلح والتوكيل والإبراء وتعدي الحفظ من وكيل المال إلا مفوضا في الجميع ولا ينفرد أحد الموكلين معا إلا فيما خشي قوته إن لم يشترط الإجتماع] . قوله: "فصل: ويصح أن يتولى طرفي ما لا يتعلق به حقوقه". أقول: قد قدمنا لك أن تعلق الحقوق بالوكيل لم يرد ما يقتضيه من رواية ولا دراية وحينئذ يصح من الوكيل أن يتولى الطرفين في كل شيء فإن كان قاصدا بذلك أنه لمن وكله كان له وإن كان قاصدا بذلك أنه لنفسه كان لنفسه ولا مانع يمنع من هذا لا من شرع ولا عقل كما قدمنا. وأما قوله: "والخصومة وإن كره الخصم أو لم يحضر الأصل" فليس للتنصيص على مثل هذا إلا توسيع الدائرة وتطويل المسافة فإن هذا معلوم ولم يقل أحد أنه يشترط أن يكون الخصم راضيا بالوكيل ولا قال أحد إن خصومة الوكيل لا تصح إلا مع حضور الموكل فأي

فائدة لذكر مثل هذه الأمور وما أظنه يصح عن أبي حنيفة ما روي عنه من الاشتراط فإن رأيه الذي يبني عليه كثيرا من مسائله هو أرفع قدرا من هذا. وأما كونه يصح من الوكيل تعديل بينة الخصم فظاهر لعدم المانع وأما كونه يصح منه الإقرار على الموكل فخطل من القول وزائف من الرأي فإنه إنما وكل بالخصومة والمدافعة لا بالإقرار على موكله ما لم يأذن له الموكل بذلك لا كما قالوا إنه يصح منه الإقرار ما لم يحجر وأعجب من هذا تنزيل المصنف للمنكول منه منزلة الإقرار فيالله العجب من إهدار أموال العباد بما لا تستحل به من الأسباب. وأما كون إليه القبض فيما تولى إثباته فالقبض أمر زائد على ما وكل به وهو الإثبات فلا يدخل تحته إلا لعرف أو لقرينة تفيد ذلك والعجب من المصنف حيث يصرح بمنع الوكيل من الصلح والتوكيل مع تجويزه لإقراره والحال أن الصلح فيه معارضة والتوكيل ليس فيه تفويت ملك الموكل كما يحصل تفويته بالإقرار من غير عوض وهل هذا إلا شبيه بالتشهي وتحرير مسائل الفقه كيفما اتفق وعلى ما يقود إليه الذهن ويجري به القلم. نعم لا يصح من الوكيل صلح ولا توكيل ولا إبراء لأنه لم يؤمر بذلك إلا إذا كان مفوضا تفويضا يشمل هذه الأمور شمولا ظاهرا لأن بعضها فيه إضرار بالموكل محض وهو الإبراء وبعضها فيه إضرار بالموكل دون إضراره بالإبراء وهو الصلح وبعضها مظنة لعدم صدور الخصومة على ما لا يريده الموكل وهو توكيل الوكيل ولكن الشأن في تصحيح الإقرار من الوكيل من غير شرط والظاهر أن تفويض الموكل ينصرف إلى ما فيه نفع له محض ومصلحة خالصة ولا ينصرف إلى غير ذلك ومثل هذا هو الذي يريده كل عاقل لما يفعله من التفويض. وأما قوله: "ولا ينفرد أحد الموكلين" إلخ فإن كان مقصد الموكل الاجتماع بقرينة حال أو مقال كان تصرف أحدهما منفردا غير صحيح ولو فيما يخشى فوته إلا أن يعرف أنه يأذن بالانفراد في مثل ذلك وإن لم يكن له مقصد بالاجتماع كان لكل واحد منهما أن يتصرف فيما أطلقه لهما أو عينه فإن اختلفا لم ينفذ تصرف أحدهما حتى يتفقا أو بأذن الموكل بما فعله أحدهما. [فصل ولا انعزال لوكيل مدافعة طلبه الخصم أو نصب بحضرته أولا وقد خاصم إلا في وجه الخصم وفي غير ذلك يعزل ولو في الغيبة ويعزل نفسه في وجه الأصل كفي كل عقد جائز من كلا الطرفين أو من أحدهما وينعزل أيضا بموت الأصل وتصرفه غير الاستعمال ونحوه وبردته مع اللحوق إلا في حق قد تعلق به ويكفي خبر الواحد وبفعله ما وليه ويلغو ما فعل بعد العزل والعلم به مطلقا وقبل العلم إلا فيما يتعلق به حقوقه أو

أعاره أو أباحه أو ما في حكمهما قيل وتعود بعود عقله وتصح بالأجرة ولوكيل الخصومة ونحوها حصة ما فعل في الفاسدة ومن المقصود في الصحيحة] . قوله: "فصل: ولا انعزال لوكيل مدافعة" الخ. أقول: لا تأثير لطلب الخصم ولا لنصبه في حضرته ولا لوقوع مجرد الخصومة في المنع من العزل إلا في وجه الخصم وليس على هذا أثارة من علم بل لا يصلح هذا التفريع على مجرد رأي بعقل واجتهاد يقبل وما ذكره من تعليل هذا الكلام من أن عزله يضر بالخصم ويؤدي إلى ألا تستقر خصومة فتعليل عليل وكلام قليل التحصيل فله أن يعزله متى شاء سواء كان قد خاصم أو لم يخاصم وسواء طلبه الخصم أو لم يطلبه وسواء نصب في حضرته أو في غيبته سبحان الله وبحمده ما لنا ولطلب الخصم وللنصب بحضرته وأي جدوى لتكليف عباد الله بهذه الخزعبلات. وهكذا ما ذكره من أن الوكيل لا يعزل نفسه إلا في وجه الأصل ليس له وجه بل يعزل نفسه متى شاء ويكفي توقفه عن المخاصمة باعثا للموكل على نصب وكيل آخر أو تولي الخصومة بنفسه وهذا الاستطراد بقوله كفي كل عقد إلخ مع كونه أجنبيا عن المقام لا يتعلق به كثير فائدة. قوله: "وينعزل بموت الأصل". أقول: هذا صحيح لأن الموكل إنما جعله نائبا عنه في حياته لا بعد موته وهكذا قوله وتصرفه لأنه قد تولاه الأصل بنفسه فلم يبق للفرع معه حكم وهكذا تبطل الوكالة برده الموكل لأنه قد صار مباح الدم والمال فكيف يخاصم الوكيل عمن قد صار كذلك. وأما قوله: "إلا في حق تعلق به" فقد قدمنا عدم تعلق الحقوق بالوكيل على كل حال وأما قوله: "ويكفي خبر الواحد" فالأمر في مثل هذا ظاهر فقد كفى خبر الواحد في التكاليف التي تعم بها البلوى فكيف لا يكفي في عزل وكيل عن الخصومة. وأما قوله: "وبفعله ما وليه" فوجهه أنه قد فرغ مما أمر به وليس للتنصيص على مثل هذا فائدة فإن الوكالة هي خاصة بهذا الأمر الذي قد فعله فلا يحتاج إلى بيان أنه قد انعزل بفعله وأما كونه يلغو ما فعله الوكيل بعد العزل فظاهر سواء علم به أو لم يعلم لأن الاعتبار بالانتهاء ولا وجه لما استثناه من قوله: "إلا فيما يتعلق به حقوقه" لما قدمنا وهكذا لا وجه لاستثنائه بقوله أو أعاره أو أباحه أو ما في حكمهما لأنه بالعزل قد بطل ما عمله وإذا كان قد استهلك المباح له ما وقعت فيه الإباحة واستعمل ما وقعت فيه الإعارة فلا ضمان عليهما لأنهما مغروران من جهة الوكيل ولا ضمان على الوكيل لأنه مغرور من جهة الموكل لكونه باقيا على استصحاب الوكالة وعدم ارتفاعها. وأما قوله: "قيل: وتعود بعود عقله" فلا وجه له لأن الشيء إذا ارتفع لم يعد إلا بتجديد وأما كون الوكالة تصح بالأجرة فظاهر لأنها ليست من القرب التي يقال فيها ما قيل في

أجرة القائمين بالقرب وما ذكره من أنه يستحق حصة ما قد فعله فذلك صحيح ولا فرق بين الصحيحة والفاسدة على فرض صحة اتصاف بعض وكالات الخصومة بالصحة وبعضها بالفساد ولا وجه لذلك بل يستحق حصة ما فعل من الأجرة المسماة ويستحق مع عدم التسمية أجرة مثله من الوكلاء في مثل تلك الخصومة.

باب الكفالة

باب الكفالة [فصل تجب إن طلبت ممن عليه حق لا في حد وقصاص إلا تبرعا ببدنه أو قدر المجلس في حد القذف كمن استحلف ثم ادعى بينة وتصح بالمال عينا مضمونة أو دينا وبالخصم ويكفي جزء منه مشاع أو يطلق على الكل وتبرعا ولو عن ميت معسر ولفظها تكفلت وأنا به زعيم ونحوهما وهو علي في المال وتصح معلقة ومؤقتة ومشروطة ولو بمجهول لا مؤجلة به إلا أن يتعلق به غرض كا لدياس ونحوه لا الرياح ونحوه فتصير حالة مسلسلة ومشتركة فيطلب من شاء] . قوله: "باب: والكفالة تجب إن طلبت ممن عليه حق". أقول: الواجب الأصلي هو قضاء ما لزم بوجه الشرع فصاحب الحق يطالب من هو عليه بتسليمه وليس عليه أن يقبل الضمين حتما بل يجب إنصافه بالتسليم فإن تعذر لإعسار وجب الإنظار كما حكم به الله عزوجل وإذا طلب أن يمهله صاحب الحق مدة وكان الوفاء متعذرا في الحال إما لبعد ماله أو لعدم نفاقه في الحال كان الإمهال متوجها لأنها اقتضته الضرورة ولصاحب الحق أن يتوثق من غريمه برهن أو ضمين إن طلب ذلك وهكذا إذا كان من عليه الحق متمكنا من التسليم في الحال بلا مانع ورضي من له الحق بإمهاله مدة مع التوثق بضمين كان هذا إليه لأن مالك المال له التضييق في التسليم مع الإمكان وله التنفيس على من عليه الحق بالتأجيل هكذا ينبغي أن يقال وأما الكفالة بالوجه فلا معنى لها إلا وجوب إحضار المكفول عليه عند الحاجة إلى إحضاره وسيأتي حكمه إذا تعذر الإحضار فيصح الكفالة بوجه من عليه حد أو قصاص بهذا المعنى فيطالب الكفيل بإحضاره وسيأتي أنه لا حبس إن تعذر إحضاره. وأما قوله: "كمن استحلف ثم ادعى بينة" فقد تقدم الكلام على هذا في قوله ولا يوقف خصم لمجيء بينة عليه غائبة إلخ وإنما ذكره هنا لبيان أن لصاحب الحق الذي زعم أن له بينة

أن يطلب من الحالف كفيلا في المجلس حتى يأتي ببينته وليس للتنصيص على هذا كثير فائدة وقد قدمنا أنه انقطع الحق باليمين فلا تقبل البينة بعدها. قوله: "ويصح بالمال عينا مضمونة أو دينا". أقول: أما صحتها بالمال فظاهر وأما اشتراط أن تكون العين مضمونة فينبغي أن يقال أن يكون ردها واجبا على من هي في يده وإن لم تكن مضمونة فإذا كان الرد واجبا كانت الكفالة صحيحة ويجب الرد على الكفيل كما يجب على المكفول عليه فإن تلفت كان لها حكم ما تلف من الأعيان التي لا تضمن ولاشك في صحة الضمانة بتسليم الدين وليس في ذلك نزاع. قوله: "وبالخصم". أقول: هذه الكفالة بالوجه مما يصدق عليها معنى مطلق الكفالة ويصدق على الكفيل أنه زعيم فيلزمه ما يلزم الزعيم إذا تعذر إحضار المكفول بوجهه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم"، كما أخرجه أبو داود "3565"، والترمذي "1265"، وابن ماجة 2405"، ولا وجه لتضعيف الحديث بإسماعيل بن عياش فهو إنما يضعف في روايته عن الحجازيين وهو في روايته عن الشاميين قوي وقد روى هنا عن شامي وهو شرحبيل بن مسلم وللحديث طرق وله في النسائي طريقان من رواية غير إسماعيل بن عياش وقد صحح أحدهما ابن حبان. فكفيل الوجه إذا تعذر عليه إحضار من تكفل بوجهه لزمه ضمان ما عليه بهذا الحديث إن كان الذي عليه مما يتعلق بالمال لا إذا كان مما يتعلق بالدين فعليه السعي في تحصيله حتى يتعذر ذلك لكل وجه وسيأتي تمام الكلام في ضمين الوجه لكنك قد عرفت بهذا أن كفالة الوجه تنول إلى ضمان المال وأن الحق قول من قال بذلك للدليل المذكور. وأما قوله: "ويكفي ذكر جزء منه مشاع أو يطلق على الكل" فظاهر. قوله: "وتبرعا ولو عن ميت معسر". أقول: وجهه أنه أدخل نفسه فيما يخشى من عاقبته التضمين فلزمه الضمان بقوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم"، وقد دل الدليل على صحة الكفالة عن الميت المعسر كما أخرجه البخاري وغيره من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة ليصلي عليها فقال: "هل على صاحبكم من دين؟ "، فقالوا: نعم ديناران, فقال: "صلوا على صاحبكم"، فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم, زاد أحمد والدارقطني والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما قضى دينه: "الآن بردت عليه جلدته"، وقد روي من طرق وفيها اختلاف في قدر الدين وقد تقرر بأصل الحديث صحة الضمانة. قوله: "ولفظها" الخ. أقول: قد عرفناك أن الاعتبار بما يفيد المعنى ولو بإشارة والمرجع في المدلولات إلى الأعراف لأن المتكلم يتكلم بما يقتضيه عرفة. وأما قوله: "وهو علي في المال" فإن كان هذا بيانا لعرف عرفه المصنف فلا حجة في

أعراف قوم على قوم آخرين وإن كان بيانا للمدلول اللغوي فالظاهر عدم الفرق بين المال والبدن لأن معنى هو على في المال تسليمه وهو علي في البدن تحصيله وإحضاره ومع هذا فلا يرجع إلى المدلولات اللغوية إلا إذا لم توجد الأعراف. وأما كونها تصح مؤقتة ومشروطة فوجهه ظاهر لأن الكفيل أن يشترط لنفسه ما شاء ولا وجه للفرق بين الوقت والشرط وبين الأجل في التعليق بالمجهول بل الكل سواء سواء تعلق به غرض كالدياس ونحوه أو لم يتعلق به غرض كا لرباح ونحوه ولا يرجع مثل هذا الفرق إلى رواية ولا دراية لأن تعلق الغرض وعدمه أمر خارج عن التعليق الذي يجوز للكفيل أن يجعله لنفسه ويقيد ما يلزمه من الضمان وصاحب الحق بالخيار إن شاء رضي لذلك وقبله وإن شاء امتنع منه. وأما قوله: "وتصح مسلسلة" فوجهه أن الكفيل قد صار عليه من الحق ما على المكفول عليه فتصح الكفالة عليه كما تصح على المكفول عليه الأول وهكذا الاشتراك في الكفالة لا مانع من صحته ولا من ثبوت الطلب للمكفول لمن شاء من الكفلاء لأن الحق متوجه على كل واحد منهم بموجب كفالته. [فصل ويحبس حتى يفي أو يغرم ولا يرجع كفيل الوجه بما غرم لكن له طلب التثبيت للتسليم ولا حبس إن تعذر قيل وأن يسترد العين إن سلم الأصل] . قوله: "فصل: ويحبس حتى يفي أو يغرم". أقول: إذا تقررت الكفالة كان للحاكم أن يقطع من ماله بقدر ما لزمه من غير حبس فإن لم يمكن الحاكم ذلك لبعد ماله أو تغلبه عليه كان له أن يحبسه أو يأمر غريمه بملازمته حتى يتخلص مما عليه ولا فرق في هذا بين كفيل الوجه إذا تعذر عليه إحضار المكفول بوجهه وبين كفيل المال كما قدمنا ولا وجه لقوله ولا يرجع كفيل الوجه بما غرم بل يرجع به لأنه غرم لحقه بسببه فيرجع كما يرجع كفيل المال. وأما قوله: "ولكن له طلب التثبيت للتسليم" يعني كفيل الوجه فوجهه ظاهر لأنه لا يجب عليه تسليم ما لم يتقرر بحكم الشرع. وأما قوله: "ولا حبس" فقد قدمنا أن حكمه حكم كفيل المال في الضمان والحكم عليه بالتسليم أو القطع من ماله أو الحبس أو الملازمة ووجه ذلك حديث: "الزعيم غارم" على التقرير الذي قررناه في معناه. وأما قوله: "قيل: ويسترد العين إن سلم الأصل" فهذا صواب لأنه بتسليم الأصل قد وفى

بما عليه فيرجع بما سلمه سواء كان عينا أو نقدا فإن تلف رجع به على من سلمه إليه فإن أعسر رجع به على المكفول عليه لأنه غرم لحقه بسببه. [فصل وتسقط في الوجه بموته أو تسليمه نفسه حيث يمكن الاستيفاء وفيهما بسقوط ما عليه وحصول شرط سقوطها وبالإبراء أو الصلح عنها ولا يبدأ الأصل إلا في الصلح إن لم يشترط بقاؤه وباتهابه ما ضمن وله الرجوع ويصح معها طلب الخصم ما لم يشترط براءته فتنقلب حوالة] . قوله: "فصل: وتسقط في الوجه بموته" أقول: وجه هذا أنه قد فات وتعذر الوفاء بأمر من جهة الله عزوجل لا بسبب من الكفيل ولا بسبب من المكفول عليه فلا يجب عليه ما لا يدخل تحت قدرته. وأما قوله: "وتسليمه نفسه" الخ فظاهر لأنه بذلك قد وفى بما كفل به وفعل ما عليه وهكذا إذا حصل شرط سقوطها لأنه قد خرج عن الكفالة بمجرد حصول هذا الشرط وهكذا الإبراء لأن ما على الكفيل في الوجه والمال قد سقط بإبرائهما وبقبول الصلح منهما ومثل هذه الأمور في غاية الوضوح ليس في التنصيص عليها كثير فائدة. وأما كونه يبرأ الأصل في الصلح إن لم يشترط بقاؤه فلا وجه لتخصيص هذه الصورة بل لا يبرأ الأصل إلا باشتراط الكفيل لبراءته وإلا كان لصاحب الحق مطالبته على القدر المصالح به وهكذا تسقط الكفالة باتهاب الكفيل لما ضمنه لأنه بهذه الهبة قد أسقط عنه الضمان وإذا كان الموهوب للكفيل باقيا عند المكفول عليه فللكفيل أن يأخذه منه لأنه قد صار في ملكه. قوله: "ويصح معها طلب الخصم". أقول: وجه هذا أن أصل الحق عليه وإسقاطه عن الكفيل لا يستلزم إسقاطه عن المكفول عليه لا شرعا ولا عقلا ولا عادة وأما الاستدلال على عدم المطالبة للأصل بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: "الآن بردت عليه جلدته"، ففرق بين الكفالة على ميت معسر قد تعذر الرجوع عليه وتعذرت عليه وجوه المكاسب وتعذر تعلق الضمان به وبين حي صحيح كاسب يتملك ويتعلق به الضمان وغيره. وأما اشتراط الكفيل براءة المكفول عليه فظاهر لأنه بريء بهذا الشرط لا أنه يبرأ من الأصل.

[فصل وصحيحها أن يضمن ما قد ثبت في ذمة معلومة ولو مجهولا ولا رجوع أو سيثبت فيها وله الرجوع قبله وفاسدها أن يضمن بغير ما قد ثبت كبعين قيمي قد تلف وما سوى ذلك فباطلة كالمصادرة وضمنت ما يغرق أو يسرق ونحوهما إلا لغرض" قوله: "فصل: وصحيحها أن يضمن بما قد ثبت في ذمة معلومة" الخ. أقول: اعلم أن دخول الكفيل في الكفالة باختيار نفسه هو إلزام لنفسه بما لزم للغير على معين والتزام بما ذهب على الغير وهذا أمر يصح من المكلف الدخول فيه لأنه رضي بما يتعقبه من الضمان وللإنسان أن يخرج من ماله ما شاء فيما شاء ولا فرق بين أن يخرج شيئا من ماله تمليكا للغير أو هبة له أو نذرا عليه وبين أن يلزم نفسه ما لزم فلانا أو بما ذهب على فلان والجهالة في الحال لا تؤثر فسادا في هذه الكفالة ولا بطلانا لأن الاعتبار في مثل هذا بما ينتهي إليه الحال وهو سينتهي إلى العلم بقدره جملة أو تفصيلا. وإذا عرفت هذا فالضمانة على المعين بالمعلوم وبالمجهول وبما قد ثبت وبما سيثبت وبما على المصادر وبما يسرق أو يغرق أو يتلف بوجه من وجوه التلف كلها متفقة في اختيار المكلف لنفسه بما يلزمه من الضمان وإلزام لها بذلك من غير إكراه ولا إجبار وله أن يتصرف في ماله بما شاء وكيف شاء من غير إضاعة ولا في أمر لا يبيحه الشرع وليس في شيء من هذه الصور إضاعة مال ولا تصرف به في غير حلال فإن التزامه بما على المصادر قربة عظيمة وتفريج كربة ودفع ظلامة وأما الضمانة بعين فيما قد تلف فمعلوم عند كل عاقل أنه لا يراد منها الضمان بعين التالف لأن ذلك لا يسوغه عقل عاقل فلا بد أن يحمل على ما يصح في العقل وهو الضمانة بمثل تلك العين أو بقيمتها ولا يصح أن تكون الكفالة لاغية في مثل هذا لأنه قد أدخل نفسه فيما أدخلها فيه والمفروض أنه كامل العقل صحيح التصرف ولا يصح الرجوع في جميع هذه الأنواع على جميع التقادير فاعرف هذا فإنه الذي ينبغي المصير إليه والتعويل عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم". [فصل ويرجع المأمور بالتسليم مطلقا أو بها في الصحيحة لا المتبرع مطلقا وفي الباطلة إلا على القابض وكذلك في الفاسدة إن سلم عما لزمه لا عن الأصل فمتبرع] . قوله: "فصل: ويرجع المأمور بالتسليم مطلقا". أقول: هذا وجهه ظاهر واضح لأنه غرم لحقه بسبب أمره بالكفالة وتسليم ما اشتملت

عليه ويكفي مجرد الأمر بالكفالة لأنها مستلزمة للضمان والأمر بالملزوم أمر يلازمه وأما مع عدم الأمر بل دخل فيها الكفيل تبرعا فليس له ها هنا طريق على المكفول عليه لأنه لم يأمره ولا غيره ولا تسبب لذلك بوجه من الوجوه حتى يقال إنه غرم لحقه بسببه ولا فرق بين الصحيحة والباطلة والفاسدة وللكفيل أن يرجع على من دفع إليه ماله إذا لم يلزم نفسه به إلزاما يجب عليه عنده الوفاء به فإن ألزم نفسه كان للمكفول له حق عليه بنفس هذا الإلزام ولا يصح رجوعه عليه لأنه جنى على نفسه.

باب الحوالة

باب الحوالة [فصل إنما تصح بلفظها أو ما في حكمه وقبول المحال ولو غائبا واستقرار الدين على المحال عليه معلوما مساويا لدين المحال جنسا وصفة يتصرف به قبل قبضه فيبدأ الغريم ما تدارج ولا خيار إلا لإعسار أو تأجيل أو تغلب جهلها حالها] قوله: "باب: الحوالة إنما تصح بلفظها أو ما في حكمه". أقول: تصح بما يفيدها ويدل عليها ولو بإشارة من قادر على النطق كما كررنا مثل هذا في الأبواب التي اعتبروا عليها الألفاظ وقد وسع المصنف الدائرة هنا بقوله أو ما في حكمه فأصاب وهكذا لا بد من قبول المحال للحوالة لأنها نقل ما هو له من ذمة إلى ذمة فلا ينتقل عن الذمة الأولى إلى الذمة الأخرى إلا باختياره ولكنه يأثم إذا أحيل على ملي فلم يقبل لأنه خالف الأمر النبوي وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا اتبع أحدكم على ملي فليتبع"، كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وفي لفظ لمسلم: "وإذا أحيل أحدكم على مليء" وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للندب وذهبت الظاهرية إلى أنه للوجوب. وأما قوله: "واستقرار الدين على المحال عليه" إلخ فلا أدري لهذا الاشتراط وجها لأن من عليه الدين إذا أحال على رجل يمتثل حوالته ويسلم ما أحال به كان ذلك هو المطلوب لأن به يحصل الوفاء بدين المحال ولو لم يكن في ذمة المحال عليه شيء من الدين. وأما قوله: "فيبرأ الغريم ما تدارج" فوجهه ظاهر لأن رضا من له الدين بنقل دينه من ذمة الغريم إلى ذمة المحال عليه يوجب عدم مطالبته للغريم وهو معنى البراءة لكن هذه البراءة مقيدة

بما ذكره المصنف بقوله ولا خيارا إلا لإعسار أو تأجيل أو تغلب جهلها حالها ووجه الرجوع عليه عند حصول هذه الأمور ظاهر لأن المحيل إذا أحال على معسر أو على من يعتل بالتأجيل أو يتغلب عن التسليم مع جهل المحال لهذه الأمور فقد غره بالحوالة وهو لم يرض بنقل دينه إلى ذمة المحال عليه إلا مع عدم المانع فلا حكم لذلك الرضا الواقع مع وجود المانع لأنه غرر وتدليس. [فصل ومن رد مشترى برؤية أو حكم أو رضا على بائع قد أحال بالثمن وقبض لم يرجع به إلا عليه وكذا لو استحق أو أنكر البيع بعدهما ولا يبرأ ولا يرجع محتال عليه فعلها أو امتثل تبرعا والقول للأصل في أن القابض وكيل لا محتال إن أنكر الدين وإلا فللقابض مع لفظها] . قوله: "فصل: ومن رد مشتري" الخ. أقول: وجه هذا ظاهر لأن البائع هو القابض للثمن فالطريق عليه ولا فرق بين الرد بالحكم أو بالتراضي وكذا الاستحقاق وأما إنكار البيع من أصله فلا بد أن يتقوى ما يدعيه المشتري من البيع قبل أن يرجع عليه بالثمن لأن لزومه فرع ثبوت التبايع. وأما قوله: "ولا يبرأ ولا يرجع محتال عليه فعلها أو امتثل تبرعا" فوجه عدم الرجوع في الفعل تبرعا عدم وجود المناط الموجب للضمان وأما الامتثال تبرعا فإن لم يبلغه أمر المحيل له بالتسليم فهو كالصورة الأولى وإن بلغه وسلم امتثالا لأمره فمجرد الأمر يوجب له الرجوع وإن لم يكن في ذمته دين لأن الأمر يكفي في ذلك ويخرج به عن التبرع كما قدمنا من عدم اشتراط استقرار دين في ذمة المحال عليه. وأما قوله: "والقول للأصل في أن القابض وكيل لا محال" فوجهه ظاهر لأن الأصل عدم ثبوت الدين وأما إذا أقر بالدين فقد صار الظاهر مع من أقر له بالدين أنه محال لا رسول ولا وكيل.

باب التفليس

باب التفليس [والمعسر من لا يملك شيئا غير ما استثني له والمفلس من لا يفي ماله بدينه ويقبل قول من ظهرا من حاله ويحلف كلما ادعي إيساره وأمكن ويحال بينه وبين

الغرماء ولا يؤجر الحر ولا يلزمه قبول الهبة ولا أخذ أرش العمد ولا المرأة التزوج ولا بمهر المثل فإن لم يظهر بين وحلف وإنما تسمعان بعد حبسه حتى غلب الظن بإفلاسه وله تحليف خصمه ما يعلمه] قوله: "باب: التفليس والمعسر من لا يملك شيئا غير ما استثني" الخ. أقول: هذا الفرق بين المعسر والمفلس وجعل كل واحد منهما له مفهوم مستقل لا يرجع إلى شرع ولا لغة فإن كان المصنف بصدد بيان عرف له ولأهل عصره فلا يخاطب أحد بعرف غيره على أنه لا فائدة في بيان الأعراف ها هنا لأن المراد الحكم على من صدق عليه الإعسار والإفلاس بحكم الشرع ولا شك أن معنى المعسر لغة هو من يتعسر عليه قضاء دينه والمفلس هو من أفلس عن قضاء دينه فهما من هذه الحيثية متحدان وليس المراد من هذا الباب إلا بيان ما يجب عليهما للغير لا بيان أنهما في أنفسهما متصفان بإعسار أو إفلاس فإن ذلك لا فائدة فيه ولا جدوى له قال في الصحاح أعسر الرجل أضاق وقال من القاموس أعسر افتقر وقال في الصحاح أفلس الرجل صار مفلسا كأنما صارت دراهمه فلوسه وزيوفا قال ويجوز أن يراد به أنه صار إلى حال يقال فيها ليس معه فلس وهكذا في القاموس. فالحاصل أن معناهما يرجع إلى شيء واحد وسيأتي الكلام على ما يستثنى لهما. قوله: "ويقبل قول من ظهرا من حاله". أقول: وجه ذلك أنه قد صار بظهورهما من حاله معه أظهر الأمرين فيكون القول قوله مع يمينه وغريمه معه أخفى الأمرين فكان عليه البينة. وأما قوله: "ويحلف كلما ادعى إيساره وأمكن" فوجهه أن لصاحب الدين أن يطالب بدينه في الوقت الذي يمكن فيه أن يحول حال من عليه الدين من الإعسار إلى اليسار ولا مانع من ذلك. وأما قوله: "ويحال بينه وبين الغرماء" فوجهه ظاهر لأن مطالبته مع ظهور الإعسار ظلم يخالف ما حكم الله به من قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . وأما قوله: "ولا يؤجر الحر" فوجهه ظاهر لأن الخطاب عليه بالقضاء إنما هو متوجه إلى ما يجده من المال ولا يكلف غير ذلك ومن لا مال له قد صدق عليه وصف العسرة فوجب إنظاره إلى ميسرة. وأما قوله: "ولا يلزم قبول الهبة" فلا وجه له لأنه قد تعلق بذمته حق لمسلم فعليه أن يقبل الهبة التي جاءت بغير طلب ولا سؤال والتعليل بالمنة عليل وهكذا أخذ أرش العمد فليس له أن يسقط على من هو عليه لأن هذا باب من المكارمة واصطناع المعروف وهو مخاطب بما هو أقدم من ذلك وهو تخليص ذمته من الدين وأما ولا المرأة التزوج فالكلام فيه كما قدمنا من قوله: "ولا يؤجر الحر". قوله: "فإن لم يظهرا بين".

أقول: هذا صحيح ووجهه ظاهر لأنه يدعي إسقاط حق عليه وأنه متصف بصفة الإعسار والأصل عدم ذلك فعليه بيان ما هو خلاف الأصل والبينة وإن كانت على نفي الغناء الشرعي فهي لا تقصر عن إثبات الظاهر كما قدمنا من قوله: "ولا تصح على نفي". وأما الجمع له بين البينة واليمين فخلاف ما تقرر من الشريعة المطهرة فخصمه يخير بين طلبه بالبينة أو القنوع بيمينه كما قال صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه"، ويمكن توجيه كلام المصنف بأن غاية ما تقتضيه البينة هو أن يكون الظاهر من حالة الإعسار فصار بهذه البينة القول قوله مع يمينه كما تقدم في الدعاوي. قوله: "وإنما يسمعان بعد حبسه متى غلب الظن بإفلاسه". أقول: هذا من أعجب ما يقرع الأسماع كيف يحبس رجل يعرض البينة على إعساره ويعرض عن بينته ويمينه ويجمع على نفسه بين المدركين الشرعيين والمستندين المرضيين ثم يقال له لا يقبل هذا منك حتى نعزرك بالحبس وينزل بك من الهوان ما ننزله باللصوص والقطاع للطريق والمنتهكين لمحارم الله فليت شعري أي شرع هذا بل أي طاغوت يسوغه ثم قوله: "حتى غلب الظن بإفلاسه" كلام ساقط وأن غاية ما يحصل ببنيته أو يمينه أو كليهما هو غلبة الظن بإفلاسه فكأن المصنف قال لا يسمع ما يفيد غلبة الظن بإفلاسه إلا بعد غلبة الظن بإفلاسه نعم إذا كان الذي عليه الدين غنيا متبين الغنى ظاهر الحال فصمم على المطل فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عمرو بن الشريد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، [البخاري "5/62"، أحمد "4/222، 388، 389"، أبو داود "3628"، النسائي "7/316"، ابن ماجة 2427"] ، ولكن أين حال هذا من حال من يعرض البينة واليمين على فقره وينادي بذلك بأعلى صوت! وأما قوله: "وله تحليف خصمه ما يعلمه معسرا" فوجهه ظاهر لأنه يندفع عند ذلك معرة البينية واليمين بل معرة التعزير بالحبس إذا وقف بين يدي قاض لا يدري بالمدارك الشرعية ولا يفهم حجج الله سبحانه. [فصل والبائع أولى بما تعذر ثمنه من مبيع لم يرهنه المشتري ولا استولده ولا أخرجه عن ملكه وببعض بقي منه أو تعذر ثمنه لإفلاس تجدد أو جهل حال البيع ولا أرش لما تعيب ولا لما غرم فيه للبقاء لا للنماء فيغرم وللمشتري كل الفوائد ولو متصلة وقيمة ما لا حد له وإبقاء ماله حد بلا أجرة وكل تصرف قبل الحجر ولايفرق بين ذوي الرحم وما قد شفع فيه استحق البائع ثمنه وما لم يطلبه فأسوة الغرماء] .

قوله: فصل: "والبائع أولى بما تعذر ثمنه". أقول: هذا الحكم ثبت بما صح في السنة من طريق جماعة من الصحابة ومن ذلك ما في الصحيحين [البخاري "2402"، مسلم "1559"] ، وغيرهما [أبو داود "3519"، 3522"، الترمذي "1262"، النسائي "4676، 4677"، ابن ماجة "2358، 2359"، أحمد "2/228، 525"] ، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره". وأما قوله: "من مبيع لم يرهنه المشترى" فلا وجه له لأن المال باق بعينة في يد المفلس فكان صاحبه أحق به لأنه قد أدرك ماله بعينه كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرتهن يرجع على المفلس ويكون من جملة غرمائه في قضاء وأسوة. وأما قوله: "ولا استولده" فوجهه أنه قد تعلق للمستولدة حق باستيلادها فهو شبيه بإخراج العبد عن الملك. وأما قوله ولا أخرجه عن ملكه فوجهه ظاهر لأنه قد صار في ملك مالك آخر دخل في ملكه قبل وجود المانع وهو الإفلاس وكما يكون أحق به فهو أحق ببعض بقي منه لأنه قد وجد عين ماله وإن نقص بعضها فإن هذا لا يخرج الباقي عن كونه عين مال مالكها ويقوم مقام إخراجه عن ملكه تفريقه فلا يكون صاحب المال أحق به بعد تفريق المفلس له قبل ظهور الإفلاس كما في صحيح مسلم والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يعدم: "إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه الذي باعه". وأما قوله: "أو تعذر ثمنه" أي هو أحق بالبعض الذي تعذر ثمنه فيرده ما في حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينة فهو أحق به"، أخرجه مالك في الموطأ وأبو داود "3520"، مرسلا ووصله أبو داود "3522"، عن أبي بكر المذكور عن أبي هريرة وضعفت هذه الطريق بأن في إسنادها إسماعيل بن عياش ولا وجه لهذا التضعيف فإن إسماعيل بن عياش إنما يضعف في الحجازيين لا في الشاميين وهو هنا روى عن الحارث الزبيدي وهو شامي ووصله أيضا عبد الرزاق في مصنفه وهكذا وصله ابن حبان والدارقطني من طريق أبي هريرة ولكن بلفظ حديث أبي هريرة المتقدم في الصحيحين وغيرهما. وأما قوله: "ولا أرش لما تعيب" فالظاهر أنه لا وجه لإهدار هذا الأرش اللازم بحكم الشرع فيأخذ العين ويكون في الأرش من جملة الغرماء. وأما قوله: "ولا لما غرم فيه للبقاء لا للنماء فيغرم" فوجهه أن الغرامة للبقاء واجبة على المالك ولم يحصل بها زيادة في المبيع فأما الغرامة للنماء فإن ظهر أثرها في المبيع كان له الرجوع بزيادة القيمة وإلا فلا لأن البائع وجد مبيعه ولا زيادة فيه. وأما قوله: "وللمشتري كل الفوائد ولو متصلة" فوجه ذلك أنها فوائد ملكه الذي استحقه

بعقد البيع فيستحق منها ما حدث بعد البيع إلى وقت الإفلاس ووجه قوله وقيمة مالا حد له وإبقاء ماله حد بالأجرة أن المشتري فعل ذلك في ملكه فوجب له ذلك. وأما قوله: "وكل تصرف قبل الحجر" فوجهه أنه مالك يتصرف في ملكه كيف شاء ما لم يحجر عن التصرف بظهور الإفلاس وهكذا لا يجوز التفريق بين ذوي الأرحام المحارم لورود النهي عن ذلك للمالك الواحد وهكذا إذا اختلف المالكون لحدوث حادث مثل هذا. وأما قوله: "وما قد شفع فيه استحق البائع ثمنه" فلا يخفاك أنه قد انتقل بالشفعة إلى ملك مالك آخر حال ثبوت ملك المشتري له فالبائع لم يجده بعينه عند المفلس بعد إفلاسه فلا وجه لكونه أولى بثمنه وهذا كله مع وقوع الطلب من البائع للسلعة وأما إذا لم يطلب ردها إليه فليس له إلا أسوة الغرماء كما قال المصنف وفيه نظر فإنه وجوده بعينة بعد ظهور الإفلاس يعود به إلى ملك بائعه والأصل عدم خروجه عن ملكه بعد عوده بحكم شرع ومن ادعى خلاف هذا فعليه الدليل وغاية ما هناك أن يوقف ما هو باق بعينه حتى يطلب البائع ويعرض عليه أنه الأحق به فإن رغب عنه بعد علمه أنه أولى به كان الرغوب مبطلا لأحقيته به. [فصل ويحجر الحاكم على مديون بحال إن طلبه خصومة ولو قبل التثبيت بثلاث أو أحدهم فيكون لكلهم ولو غيبا ويتناول الزائد والمستقبل ويدخله التعميم والتخصيص فلا ينفذ منه فيما تناوله تصرف ولا إقرار إلا بإجازة الحاكم أو الغرماء أو بعد الفك ولا يدخل دين لزم بعده ولو بجناية على وديعة معه من قبله لا قبله فيدخل ويسترد له إن انكشف بعد التخصيص ولا يكفر بالصوم] . قوله: "فصل: ويحجر الحاكم على مديون بحال". أقول: لما كان الدين ثابتا بذمة معلومة معينة وصاحب الدين مطالب به والغريم مماطل له مع تمكنه من القضاء من ماله كان مستحقا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: "لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته"، وعلى حكام الشرع القادرين على رفع الظلامات والأخذ على أيدي الظلمة أن يأخذوا لصاحب الدين دينه من ظالمه قسرا وقهرا وإذا لم يطلب من له الدين إلا مجرد الحجر على من عليه الدين كان هذا أقل ما يجب على حكام الشريعة وهذا الذي ذكرنا معلوم بكليات الأدلة وجزئياتها ومن ذلك أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ للمظلوم من الظالم وهي كثيرة جدا في الكتاب والسنة وهو يغني عن الاستدلال بحديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه أخرجه الدارقطني والبيهقي والحاكم وصححه وبحديث عبد الرحمن بن كعب قال: كان معاذ بن جبل شابا سخيا وكان لا يمسك

شيئا فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلو تركوه لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ماله حتى قام معاذ بغير شيء"، رواه سعيد بن منصور في سننه هكذا مرسلا وأخرجه أيضا أبو داود وعبد الرزاق قال عبد الحق المرسل أصح وقال ابن الطلاع في الأحكام هو حديث ثابت انتهى. ويدل على أنه يجوز حجر جميع مال المفلس وتفريقه كله بين أهل الدين ما ثبت في صحيح مسلم "18/1556"، وغيره أبو داود [3469"، الترمذي "655"، النسائي "4530"، ابن ماجة "2356"] ،من حديث أبي سعيد أن رجلا ابتاع ثمارا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتها جانحة فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا عليه"، فتصدق الناس فلم يبلغ وفاء دينيه فقال: "خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك" ومعلوم أنه إذا جاز تفريق مال المفلس جميعه بين أهل الدين كان جواز حجره حتى يفرق بين أهل الدين ثابتا بفحوى الخطاب وأما اشتراط أن يكون الدين حالا فوجهه أنه لا يتضيق عليه القضاء المسوغ لحبس ماله وحجره عنه إلا عند حلول الأجل. وأما قوله: "أن طلبه خصومه" فوجهه ظاهر لأنهم لو تركوا طلبه لكان ذلك موسعا من خناقه ومنفسا عنه. وأما قوله: "ولو قبل التثبيت بثلاث" فإذا رأى الحاكم في ذلك صلاحا من غير تقييد بالثلاث وذلك عند قيام القرائن الدالة على صدق المدعي أو على أن المدعى عليه سيتصرف في ماله ويخرجه عن ملكه وأما كون الحجر لواحد من الغرماء يكون حجرا لجميع الغرماء فغير مسلم لأن حجرجزء من المال بقدر دين الطالب يكفي وينتظر طلب الآخرين إلا أن يرى الحاكم في ذلك صلاحا لوجه من الوجوه فلا بأس بالحجر لجميع المال عن جميع الغرماء وإذا ساغ حجر جميع المال لطلب جميع الغرماء أو لطلب بعضهم ورأى الحاكم في جميع الحجر مصلحة تناول الحجر ما زاد من المال على قدر الدين وما دخل في ملكه في المستقبل بعد الحجر لأن المفروض أنه حجر الجميع والزائد والمستقبل من جملة ما يصدق عليه أنه من مال من عليه الدين فإن أمكن تعليق الحجر بما يفي الدين أهل الدين من غير تعميم إذا كان في ماله زيادة على قدر ما عليه من الدين فهذا هو الوجه العدل وإن لم يمكن إلا بحجر الكل كان ذلك سائغا لأنه لا يمكن حفظ مال الذي عليه الدين ليقضى منه غرماؤه إلا بذلك وهو معنى قول المصنف ويدخله التعميم والتخصيص. وأما قوله: "فلا ينفذ فيما تناوله تصرف" فهذا صحيح لأن معنى الحجر هو المنع للمالك من التصرفات به فلو نفذ له تصرف فيه لم يحصل ما هو المطلوب به ولتسارع الماطلون إلى إخراج أموالهم بأنواع الإقرارات والإنشاءات وأما إذا أجاز ذلك الغرماء فهم أهل الحق ولهم أن يأذنوا لما شاءوا وأما الحاكم فليس له أن يجيز إلا إذا عرف رضاء الغرماء بذلك لأنه لا حق له إنما هو قائم في مقام التعريف بأحكام الله عزوجل فليس له أن يفك الحجر من جهة نفسه لغير سبب يقتضي ذلك. وأما قوله: "أو بعد الفك" فلا بد من تقييده بكونه إما بقضاء الدين الذي كان الحجر لأجله

أو بإذن الغرماء بفك الحجر وأما الفك بلا سبب يقتضيه فلا حكم له وليس للحاكم أن يفعله. وأما قوله: "ولا يدخل دين لزم بعده" فوجهه أنه لما صار ماله محجورا وكان هذا الدين يعود على الغرماء الأولين بالنقص كان في حكم التصرف بجزء من المال المحجور الذي تناوله الحجر وهو لا يصح فهكذا لا يصح ما يؤول من التصرفات إلا إذهاب جزء من المال المحجور على تقدير بدخوله في جملة الديون التي وقع الحجر لأجلها وهكذا الوجه في قوله ولو بجنايته على وديعة معه من قبلهالخ. وأما قوله: "ويسترد له إن انكشف بعد التخصيص" فوجهه أنه من جملة أهل الدين السابق للحجر فلو لم يكن كأحدهم لكان ذلك ظلم له. وأما قوله: "ولا يكفر بالصوم" فوجهه أنه تعلق الدين به وحجر ماله لأجل قد لا يستغرق القضاء للغرماء جميعا وقد يقع الإبراء من بعضهم فلا يصدق عليه في حال الحجر أنه لم يجد ما يجب تقديمه على الصوم حتى يجزئه الصوم. [فصل ويبيع عليه بعد تمرده ويبقى لغير الكسوب والمتفضل ثوبه ومنزله وخادمه إلا زيادة النفيس وقوت يوم له ولطفله ولزوجته وخادمه وأبويه العاجزين وللمتفضل كفايته وعوله إلى الدخل إلا منزلا أو خادما يجد غيرهما بالأجرة وينجم عليه بلا إجحاف ولا يلزمه الإيصال ومن أسبابه الصغر والرق والمرض والجنون والرهن ولا يحل به المؤجل] . قوله: "فصل ويبيع عليه بعد تمرده". أقول: وجه هذا ما قدمنا من الأدلة في الفصل الذي قبل هذا وأما قوله: "ويبقى لغير الكسوب والمتفضل ثوبه" الخ فوجه هذا أن ما تدعو إليه الحاجة الضرورية من ملبوس ومسكن وما يحتاج إليه لوقاية البرد والحر في حكم المستثنى مما يجب فيها القضاء من ماله ولهذا لم ينقل إلينا أنه صلى الله عليه وسلم أخرج معاذا من مسكنه أو عراه من ثيابه وأخرج ما يحتاج إليه من متاع المنزل الذي لا بد منه وأما استثناء الخادم فلا يتم إلا إذا كان المفلس لا يقدر على خدمة نفسه وأهله وأما استثناء زيادة النفيس فوجهه ظاهر لأنه قد تعلق به حق لآدمي وأقدم على إتلافه فصاحب الدين أحق بالزيادة التي في ذلك النفيس وليس لمن عليه الدين إلا ما لا غنى له عنه وله غنى عن الشيء النفيس بالعدول عنه إلى ما دونه مما يقوم مقامه وإن كان خاليا عن صفة النفاسة وأما كون هذه الأشياء هي المستثناة لغير الكسوب والمتفضل وهو عند المصنف من يعود عليه غلات وقف أو نحوها فلا أرى لذلك وجها بل هذه الأمور مستثناة لكل أحد واستثناؤها لغير الكسوب والمتفضل وإن كان أولى لكونه أحوج منهما لكن معلوم أن مثل معاذ وأضرابه قد ترك

لهم ما تدعوا إليه الحاجة مع كونهم كاسبين بسيوفهم وأعمالهم وهكذا ينبغي أن يترك للمفلس على كل تقدير ما تدعو إليه حاجته من الطعام والإدام إلى وقت الدخل وهكذا يترك للمجاهد والمحتاج إلى المدافعة عن نفسه أو ماله سلاحه وللعالم ما يحتاج إليه من كتب التدريس والإفتاء والتصنيف وهكذا يترك لمن كان معاشه بالحرث مايحتاج إليه من الحرث من دابة وآلة حرث وهكذا يترك لمن كان كسبه بدابته بتأجيرها ونحو ذلك تلك الدابة. والوجه في استثناء هذه أن الحاجة إليها كالحاجة إلى تلك الأمور التي استثناها المصنف ولا شك أن الرجل الكسوب الساعي في وجوه الرزق وأبواب الدخل هو في حكم المستغنى عن استثناء القوت والإدام إذا كان يتحصل له من الكسب ما يقوم بذلك وإن كان كسبه يقصر عن الوفاء بما يحتاج إليه كان له حكم غيره في الحكم الذي تدعو الحاجة إليه. والحاصل أن تفويض مثل هذه الأمور إلى أنظار حكام العدل العارفين بالحكم بما أنزل الله هو الذي لا ينبغي غيره لاختلاف الأحوال والأشخاص والأمكنة والأزمنة. وأما قوله: "وينجم عليه بلا إجحاف" فالذي ينبغي اعتماده هو ما فضل عن الكفاية المعتبرة إن وجد ذلك وإلا كان الحكم هو قول الله عزوجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . وأما قوله: "ولا يلزمه الإيصال" فيرده حديث علي على اليد ما أخذت حتى تؤديه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث. قوله: "ومن أسبابه الصغر والرق والمرض والجنون والرهن". أقول: أما سببية الصغر للحجر والرق والجنون فالأمر في ذلك كذلك لأن لصغير لا يتصرف عنه وليه كما تقدم والعبد لا يملك شيئا ولا يتصرف في شيء إلا بإذن مولاه والمجنون يتصرف عنه وليه لأنه لا يعقل ما فيه النفع والضرر وقلم التكليف لم يجر عليه مادام مجنونا فجعل المصنف عدم صحة تصرف هؤلاء شرعا حجرا عليهم من جهة الشرع وأما المرض فلا وجه لجعله حجرا لأن تصرفاته نافذة شرعا ما دام ثابت العقل وسيأتي الفرق بين المرض المخوف وغيره وأما الرهن فوجه كونه بمنزلة الحجر ما دام رهنا ظاهر لأن الحق قد تعلق به للمرتهن فلا يخرج عن الرهنية إلا بما تقدم في كتاب الرهن. وأعلم أن من جملة أسباب الحجر السفه وسوء التصرف وعدم إدراك ما فيه مصلحة من مفسدة وما فيه ربح من خسر وقد قامت على ذلك الأدلة وقد استوفينا البحث في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. وأما قوله: "ولا يحل به المؤجل" فوجهه أن التأجيل قد صار حقا للمديون ولم يحصل بالحجر عليه ما يقتضي سقوط الحق الثابت له.

باب الصلح

باب الصلح [إنما يصح عن الدم والمال عينا أو دينا إما بمنفعة كالإجارة أو بمال فإما عن دين ببعضه من جنسه كالإبراء ويصحان في الأول مؤجلين ومعجلين ومختلفين إلا عن نقد بدين وفي الثاني يمتنع كاليء بكاليء وإذا اختلفا جنسا أو تقديرا أو كان الأصل قيميا باقيا جاز التفاضل وإلا فلا] قوله: "باب: الصلح إنما يصح عن الدم والمال". أقول: ظاهر هذا عدم صحة الصلح عن الحقوق ولا وجه لذلك فإنها داخلة تحت عموم حديث عمرو بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما"، أخرجه أبو داود والترمذي ["1352"ـ ابن ماجة "2353"] ، والحاكم وابن حبان وصححه الترمذي "3/635"، وهذا التصحيح من الترمذي هو مما انتقد عليه فإن في إسناده كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وقد قال الشافعي وأبو داود فيه إنه ركن من أركان الكذب واعتذر للترمذي بأنه صححه باعتبار كثرة طرقه وقد أخرجه أبو داود "3594"، من غير طريقه من حديث أبي هريرة وصححه ابن حبان والحاكم وحسنه الترمذي وأخرجه الحاكم من حديث أنس وأخرجه أيضا الحاكم والدارقطني من حديث عائشة وله طرق غير هذه وبعضها تقوم به الحجة في كل صلح إلا ما استثناه آخر الحديث. وبهذا الدليل يتقرر لك صحة الصلح بالمنفعة كما تصح بالمال وبالبعض كما تصلح بالكل وبالمؤجل والمعجل وتقييد الصحة في بعض هذه الصور بقيد لا بد من قيام دليل عليه فإن لم تقم عليه دليل كان كل صلح جائزا إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا. [فصل وما هو كالإبراء يقيد بالشرط وصح عن المجهول بمعلوم كعن المعلوم لا العكس ولكل فيه من الورثة المصالحة عن الميت مستقلا فيرجع بما دفع ولا تعلق به الحقوق وعكسها فيما هو كالبيع ولا يصح عن حد ونسب وإنكار وتحليل محرم وعكسه] . قوله: "فصل: وماهو كالإبراء يقيد بالشرط". أقول: لا وجه لتخصيص هذه الصورة بجواز التقييد بالشرط بل يصح تقييد كل صلح بما شاء المتصالحان من الشروط إلا لمانع والدليل على من ادعى وجوده وتأثيره في المنع.

وأما قوله: "ويصح عن المجهول بمعلوم" إلخ قأقول المعتبر في هذا حصول التراضي الذي هو المناط الشرعي في تحليل الأموال فإذ حصل ذلك جاز على كل حال مهما أمكن الوقوف على القدر جملة أو تفصيلا لأن ما لا يوقف على قدره بوجه لا يتحقق فيه ذلك المناط ويدل على جواز الصلح بالمجهول على المعلوم ما ثبت في الصحيح أن جابر بن عبد الله كان عليه تحر ليهودي فعرض عليه ثمر بستانه فأبى فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلم اليهودي فعرض صلى الله عليه وسلم ذلك على اليهودي فأبى فمشى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "جد له" فأوفى اليهودي وبقي لجابر قدر وهو سبعة عشر وسقا بعد أن أوفى اليهودي ما هو له وهو ثلاثون وسقا. وأما كون لكل وارث المصالحة فوجهه ظاهر لأن الدين قد صار متعلقا بتركة الميت ولكل واحد منهم فيها نصيب وإذا صالح الواحد منهم عن الجميع كان رجوعه على الباقين بما دفع من الصلح مما هو زائد على نصيبه ثابتا إن أجازوا ذلك ورضوا به وإلا نفذ الصلح في نصيبه. وأما كونه لا يصح الصلح عن حد فوجهه أنه صلح أحل حراما لأن إسقاط الحدود بعد ثبوتها حرام كما ثبت الوعيد على ذلك بالأدلة الصحيحة وهكذا لا يصح عن نسب لوروده الوعيد الشديد على من انتسب بغير نسبة أو أدخل على قوم من هو من غيرهم [أبو داود "2263"، النسائي "5/179، 180"، ابن ماجة "2743"] . قوله: "ولا يصح عن إنكار". أقول: هذا الصلح مندرج تحت عموم الحديث المتقدم وليس فيه تحليل حرام ولا تحريم حلال فلا وجه للمنع منه وهذا القدر يكفي في دفع المنع ومع هذا فقد وقع الصلح عن إنكار من رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة الرجلين المتنازعين في المسجد حتى ارتفعت أصواتهما فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى صاحب الدين بأن يضع الشطر من دينه فرضي بذلك والقصة ثابتة في الصحيح وكما أن مثل هذا الصلح عن إنكار داخل في عموم الحديث المذكور هو أيضا داخل تحت قوله عز وجل: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وقوله: [النساء: 128] ، {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] . وأما قوله: "وتحليل محرم وعكسه" فوجهه ظاهر لاستثنائهما في الحديث الدال على جواز الصلح بين المسلمين ولو اقتصر المصنف على هذا لكان فيه غنى عن التطويل في غير طائل.

باب الإبراء

باب الإبراء [باب والإبراء إسقاط للدين ولضمان العين وإباحة للأمانة بأبرأت أو أحللت أو هو بريء أو في حل ويتقيد بالشرط ولو مجهولا مطلقا وبعوض فيرجع لتعذره ولو عرضا وبموت البريء فيصير وصية] .

قوله: "باب: والإبراء إسقاط للدين ولضمان العين". أقول: مثل هذا أعني كون الإبراء إسقاط للدين لا تدعو إلى ذكره حاجة ولا يتعلق به فائدة يعتد بها فإن المراد من الإبراء أنه لم يبق لذي الدين على من هو عليه شيء مما كان عليه وهذا يكفي في تحقيق معنى الإبراء لأنه الإبراء المرتب عليه وأما مجرد الاختلاف في الاصطلاح هل يقال هذا الإبراء إسقاط أو تمليك فليس تدوين كتب الفقه لبيان الاصطلاحات المتواضع عليها بل لبيان أحكام الشرع والوضع وهكذا الكلام في الإبراء من العين فإن هذا الإبراء لمجرده يوجب مصير تلك العين ملكا لمن وقع له الإبراء عنه لما عرفناك غير مرة أن المناط الشرعي في انتقال الأملاك من مالك إلى مالك هو حصول التراضي وقد رضي المبريء عن العين بمصيرها إلى ملك من أبرأه عنها وكونها قد صارت ملكا له يستلزم أن لا يطالب بضمانها وهكذا الكلام في قوله وإباحة للأمانة فليس المراد إلا أنها تصير ملكا للمباح له يتصرف بها كيف شاء. وأما قوله: "بأبرأت أو أحللت" فقد عرفناك غير مرة أن المراد ما تحصل به الدلالة على المعنى كائنا ما كان وعلى أي صفة وقع ولو بغير لفظ من الدوال التي ليست بلفظية وأما كونه يتقيد بالشرط فوجهه واضح لأن المبريء محسن فله أن يقيد إحسانه هذا بما شاء من غير فرق بين الشرط المعلوم والمجهول وأما كونه يرجع لتعذره فهو الأثر المترتب على الشرط والفائدة الحاصلة منه وهذا يتقيد بالعوض الذي كان الإبراء لأجله فلم يتم إلا به ولهذا قال فيرجع لتعذره وهكذا يصح تقييده بموت المبريء فينفذ بالموت كسائر الوصايا. [فصل ويعمل بخبر العدل في إبراء الغائب لا أخذه ولا يصح مع التدليس بالفقر وحقارة الحق ولا يجب تعريف عكسهما بل صفة المسقط أو لفظ يعمه ويغني عن ذكر القيمي قيمته لا المثلي إلا قدره أو شيء قيمته كذا ولا يبرأ الميت بإبراء الورثة قبل الإتلاف ويبطل بالرد غالبا ولا يعتبر فيه القبول كالحقوق المحضة إلا في العقد] . قوله: "فصل: ويعمل بخبر العدل في إبراء الغائب". أقول: إن كان المراد بتخصيص هذا الباب بالتنصيص على قبول خبر العدل أنه يجوز لمن عليه الدين أن يصدق العدل إذا أخبره بذلك فلا شك في ذلك والاعتبار بما ينتهي إليه الحال ولكن هذا التصديق لخبر العدل لا يختص بهذا الباب بل هو بما ينتهي إليه الحال ولكن هذا التصديق لخبر العدل لا يختص بهذا الباب بل هو كائن في كل باب إلا أن يمنع من ذلك شرع أو عقل وإلا كان المراد بهذا العمل بخبر العدل أنه يعمل به في سقوط ما عليه من الدين ويكون ذلك لازما لمن له الدين فهذا لا يقول به أحد بل إذا أنكر صاحب الدين أو العين خبر العدل رجع الكلام بينهما إلى الخصومة ويكمل من عليه الدين خبر هذا المخبر بخبر

آخر أو بخبر امرأتين أو يمينه مع شاهده وقد قدمنا لك أن الشهادة على الإخبار بمضمونه ما يعلمه الشاهد وأنه لا يشترط فيها لفظ أشهد. وهكذا لا وجه لقوله: "لا أخذه" لأن الكلام فيه على ما ذكرناه من التفصيل. وأما قوله: "لا يصح الإبراء مع التدليس بالفقر وحقارة الحق" فالوجه في هذا أوضح من أن يبين لأن الإبراء لم يصدد عن رضا وطيبة نفس بل عن خديعة وتغرير فانكشاف ذلك يكشف عن عدم الرضا الذي هو المناط الشرعي. وأما قوله: "ولا يجب تعريف عكسهما" فلا بد أن يعلم المبريء بقدر ما أبرأ عنه جملة أو تفصيلا وذلك هو المطلوب ولا يجب على من عليه الحق بيان قدر ولا صفة وبهذا تعرف الكلام على ما ذكره المصنف هنا. وأما كونه لا يبرأ الميت بإبراء الورثة فوجهه أن الدين متعلق بالتركة لكن لا يخفى أن إبراء الورثة مشعر بالرضا بترك المطالبة وترك الرجوع على التركة وذلك موجب لسقوط الدين عن التركة فيستحقها الورثة فقد استلزم إبراؤهم سقوط الدين وعدم تعلقه بالتركة وذلك هو المطلوب وأما كونه يبطل بالرد فظاهر لأنه لا يدخل في ملك الإنسان شيء إلا باختياره. وأما قوله: "ولا يعتبر فيه القبول" فالمراد هنا عدم الرد ولا يعتبر زيادة على ذلك.

باب الإكراه

باب الإكراه [ويجوز بإكراه القادر بالوعيد بالقتل أو قطع عضو كل محظور إلا الزنا وإيلام أدهى وسبه ولكن يضمن المال ويتأول كلمة الكفر وما لم يبق له فيه فعل فكلا فعل وبالإضرار ترك الواجب وبه تبطل أحكام العقود وكالإكراه خشية الغرق ونحوه] . قوله: "باب: الإكراه ويجوز بإكراه القادر بالوعيد" الخ. أقول: أما الإكراه بالوعيد بالقتل أو قطع العضد فلا شك أن تكليف المكره بالترك من تكليف ما لا يطاق وقد قال الله عزوجل: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] ، وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل أنه قال: "قد فعلت" فجواز فعل ما أكره عليه في مثل هذا قد أذن به الشرع ورفع التكليف به ولا شك أن الكفر هو الغاية التي ليس وراءها غاية في معصية الله عزوجل وقد أباح الله التكلم بكلماته مع الإكراه بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] ، ولكن من شرح بالكفر صدرا الآية ومن هذا القبيل: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد تقدم الكلام على طرقه وأنه يشهد بعضها لبعض فيصلح للاحتجاج به وأما الإكراه بالإضرار فقط فالظاهر أنه يجوز به فعل

المحظور لأن غاية ما وقع في سبب نزول قوله عزوجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] ، هو أنهم كانوا يجعلونهم مبسوطين في حر الرمضاء ويضعون الصخرات على صدورهم وأيضا قد أباح الله أكل الميتة لمجرد الاضطرار إليها وأكلها من جملة المحظورات كما هو معلوم ومن جملة ما يدل على الجواز مع مطلق الضرر قوله عزوجل: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] . وأما استثناء الزنا فوجهه أنه الفاحشة الكبرى وهو أيضا لا يكون إلا بفعل المكره وداعيته ولكن هذا لا يكفي في استثنائه من المحظورات فإنه وإن كان من كبائر الذنوب فالحكم فيه لا يجاوزها. وأما استثناء إيلام الآدمي فوجهه أنه لا يدفع الضرر عن نفسه بإنزاله بغيره وأما استثناء سب الآدمي فلا وجه له بل يجوز عند الوعيد بمطلق الضرر للأدلة التي تقدم ذكرها. وأما قوله: "لكن يضمن المال" فلا وجه له لأنه لا حكم لمباشرته مع الإكراه بل يكون الضمان على فاعل الإكراه وقد تقدم للمصنف أنه يضمن أمر الضعيف قوما فكيف يثبت الضمان مع مجرد الأمر من القوي للضعيف ولا يثبت مع وقوع الإكراه له منه فإنه أمر بإجبار قد انضم إليه الوعيد بإضرار ولا أضعف من المكره. وأما قوله ويتأول كلمة الكفر فوجهه ظاهر لأنه يخلص مما يلي به من معرة الإكراه على الكفر بالله عزوجل. وقوله: "وما لم يبق له فيه فعل فكلا فعل" أقول: هذا من الوضوح والجلاء بحيث لا ينبغي أن يلتبس أو يتردد فإنه في هذه الحالة قد صار كالآلة لفاعل الإكراه فتكليفه بما فعله مما لم يبق له فعل تكليف بما لا يطاق وقد رفعه الله عن عباده بنصوص كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وبالإضرار ترك الواجب وبه تبطل أحكام العقود". أقول: إذا جاز بالإضرار فعل ما حرمه الله سبحانه كما قررنا فكيف لا يجوز به ترك الواجب وكيف لا تبطل به المعاملات فإن بطلانها مما لا ينبغي أن يتردد فيه متردد أو يشك فيه شاك وقد عرفناك غير مرة أن المناط الشرعي في جميع المعاملات هو التراضي كما قال عزوجل: {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، وأي رضا يوجد مع الإكراه وإذا لم تصح المعاملة بمجرد عدم وقوع الرضا المحقق وعدم وجود طيبة النفس الواضحة فكيف لا تبطل مع المجاوزة لهذا الحد إلى الإكراه على الفعل. وأما قوله: "وكالإكراه خشية الغرق ونحوه" فوجهه أن خشية الغرق ونحوه يتسبب عنها خشية التلف فضلا عن خشية الضرر.

باب القضاء

باب القضاء [يجب على من لا يغني عنه غيره ويحرم على كل مختل شرط ويندب ويكره ويباح ما بين ذلك حسب الحال وشروطه الذكورة والتكليف والسلامة من العمى والخرس والاجتهاد في الأصح والعدالة المحققة وولاية من إمام حق أو محتسب أما عموما فيحكم أين ومتى وفيم وبين من عرض أو خصوصا فلا يتعدى ما عين ولو في سمع شهادة وإن خالف مذهبه فإن لم يكن فالصلاحية كافية م مع نصب خمسة ذوي فضل ولا عبرة بشرطهم عليه] . قوله: باب القضاء: "يجب على من لا يغني عنه غيره". أقول: قد اتفق المسلمون أجمعون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد ذكرنا غير مرة أنهما العمادان الأعظمان من أعمدة هذا الدين وأنهما واجبان على كل فرد من المسلمين وجوبا مضيقا فالقاضي القادر على الحكم بالحق والعدل وبما أنزل الله إذا امتنع من الدخول في القضاء فقد أهمل ما أوجبه الله عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وترك أعظم ما أوجبه الله على عباده وأهم ما كلفهم به هذا على تقدير أنه يغني عنه غيره أما إذا كان لا يغني عنه غيره فأي واجب أوجب عليه من الدخول وأي تكليف شرعي يعدل هذا التكليف وأي فرار مما تعبد الله به عباده يساوي هذا الغرار ولا سيما من خشي من له حظ من العلم يبلغ به إلى الحكم بين عباد الله بما شرعه لهم أن يثبت على هذا المنصب الشريف الذي هو مقعد من مقاعد النبوة ومنصب من مناصبها من لا يتعقل حجج الله ولا يبلغ به علمه إلى معرفتها فإنه حينئذ يتضيق عليه الوجوب ويتعين عليه الدخول وإلا كان مشاركا في الإثم لمن أجرى أحكام الله على غير مجاريها وأوقعها في غير مواقعها. إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا شك في وجوب الدخول في القضاء على من لا يغنى عنه غيره ولا شك في تحريمه على من لا يصلح له إما لقصور في علمه أو في إدراكه أو في دينه لأنه تلبس بما لا يصلح له ودخل فيما ليس هو من شأنه وفي عدا هذين فهو متردد بين أحاديث الترغيب في الولايات والترهيب فيها. فمن أحاديث الترغيب ما ثبت في صحيح مسلم "1827"، وغيره [النسائي "8/221"، أحمد "2/160"] ، من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"، ومن ذلك حديث: "لا حسد إلا في اثنتين"، وفيه: "رجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها بين الناس"، وهو في صحيح البخاري "1409، 7141، 7316"، وغيره مسمل "816"، ابن ماجة "4208"، أحمد "1/358، 432"، وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة [البخاري "7352"، مسلم

"1716"، أبو داود "3574"، ابن ماجة "2314"، أحمد "4/198، 204، 205"] ، وعمرو بن العاص عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر إن اجتهد فأصاب فله أجران"، وفي هذا الحديث فضيلة للقاضي عظيمة لأنه صلى الله عليه وسلم ردده في حكمه بين أجر أو أجرين وجعله مأجورا على الخطأ بل أخرج الحاكم والدارقطني من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر هذا الحديث بلفظ: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله عشرة أجور" وفي إسناد فرج بن فضالة وتابعه ابن لهيعة وهما وإن كانا ضعيفين لكن إذا انضم الضعيف إلى الضعيف قوي الحديث ويشهد له ما أخرجه أحمد من حديث عمرو بن العاص بلفظ: "إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة" وفي إسناده ضعيف. وفي الترغيب في القضاء أحاديث قد ذكرناها في شرح المنتقى وفيما ذكرناه كفاية وقد أمر الله في كتابه بالحكم بالعدل وبالحق وبما أرى الله الحكام وقال عزوجل: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] . وأما أحاديث الترهيب فمنها ما في صحيح مسلم "1826"، وغيره أبو داود "2868"، النسائي "6/255"، من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم"، وفي صحيح مسلم أيضا من حديثه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي قال: "يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانه وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"، وهذان الحديثان مقيدان بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إني أراك ضعيفا"، وبقوله: "إنك ضعيف"، ولا نزاع في أن الدخول في الولاية لمن يضعف عنها لا يحل ولهذا استثنى في الحديث الثاني بقوله: "إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". ومن أحاديث الترهيب ما أخرجه أحمد "2/230، 365"، وأهل السنن أبو داود "3571"، 3572"، ابن ماجة "2308"، الترمذي "1325"، والحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين"، فهذا الحديث هو أشق ما ورد مطلقا عن التقييد من أحاديث الترهيب في الدخول في القضاء وقد أوله جماعة بما يدل على أنه من أحاديث الترغيب لا الترهيب وقد أجبت عنهم بما ذكرته في شرحي للمنتقى ولكن ها هنا جواب آخر عن هذا الحديث يوجب تأويله وهو أنا قد قدمنا حديث أنهم على منابر من نور عن يمين الرحمن وحديث أنه أحد الخصلتين اللتين لا حسد إلا فيهما وأنه متردد بين أجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ وما كان بهذه المنزلة وله هذه المزية فالدخول فيه من أعظم أسباب الفوز بالخير والأجر فيحمل حديث الذبح بغير سكين على أن الدخول في القضاء مصحوب بمانع يمنعه من النهوض به أما الضعف كما قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وأنه لا يقدر على أن يجتهد كما في الترديد بين الأجر والأجرين والجمع مهما أمكن فهو مقدم على الترجيح بالإجماع وقد أمكن هنا وعلى تقدير جواز المصير إلى الترجيح فالأحاديث الثابتة في الصحيحين من طريق جماعة من الصحابة

أرجح مما لم يثبت فيهما كما هو معلوم في وجوه الترجيح المذكورة في الأصول وفي علم اصطلاح أهل الحديث. وأما حديث: "القضاة ثلاثة" فلا شك أن القاضي إذا قضى بالجهل عامدا أو جاهلا للحق فهو مستحق لهذا الوعيد الوارد في هذا الحديث ولكن ليس محل النزاع إلا في قاض يعلم بالحق ويقضي به وقد جعله صلى الله عليه وسلم القاضي الذي في الجنة فهذا الحديث ينبغي أن يكون من أحاديث ترغيب المتأهلين للقضاء في الدخول فيه لا من ترهيبهم وهذا الحديث لفظه في سنن أبي داود وسنن ابن ماجة من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار"، وأخرجه أيضا الترمذي "1322"، والنسائي والحاكم وصححه. وأما سائر الأحاديث الواردة في الترهيب عن الدخول في القضاء فهي على ما فيها من الضعف محمولة على ما قدمنا في الجمع بين حديث: "فقد ذبح نفسه بغير سكين" وبين أحاديث الترغيب فتبين لك بهذا أن الدخول في القضاء إما واجب مضيق وهو على من لا يغني عنه غيره أو حرام بحت وهو على من لا يفي بما هو معتبر فيه ولم يستجمع فيه ما لا بد منه ومن عدا هذين فالدخول فيه قربة كما تدل عليه الأحاديث المتقدمة وقد يكون الدخول واجبا عليه إذا وثق من نفسه بالقيام بالحق وإجراء الأمور مجاريها والوقوف على الحدود التي حدها الله للقائمين بالأمر وإن كان يغني عنه غيره وأما من كان لا يثق بنفسه بما ذكرنا فهو لم يكمل في حقه المقتضي للدخول ولا وجه لما ذكره المصنف من قسم المكروه والمباح. وأما ما ورد من النهي عن سؤال الإمارة كما في البخاري "6622، 6722، 7146، 7147"، مسلم "1652"، وغيرهما النسائي "8/225"، أبو داود "2929"، الترمذي "1529"، أحمد "5/62، 63"، من حديث عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها"، فهو نهي عن سؤال الإمارة وهو غير محل النزاع لا عن قبولها من غير سؤال فإنه رغب فيه بقوله: "أعنت عليها"، وهكذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا حرص عليه"، فإنه يدل على عدو جواز توليه من أراد العمل أو حرص عليه وأما على عدم قبوله من غير سؤال ولا طلب ولا إرادة وهذا هو الذي كلامنا فيه ومثله في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة"، فإن هذا تنفير عن الحرص عليها وهو مسلم وهكذا ما ورد في هذا المعنى فإنه محمول على ما وقع فيه من التصريح منه صلى الله عليه وسلم وقد ورد "أنه إذا جلس الحاكم في مكانه هبط عليه ملكان يسدادنه ويوفقانه ويرشدانه ما لم يجر فإذا جار عرجا وتركاه"، أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس والطبراني من حديث ابن الأسقع والبزار من حديث أبي هريرة

وفي أسانيدها مقال لكنه يقوى بعضها بعضا ويشهد لها الحديث المتقدم بلفظ: "وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها" فإن هذا المذكور في أحاديث هبوط الملائكة هو نوع من الإعانة ومن هذا ما أخرجه أحمد "3/118، 220"، وأبو داود "3578"، والترمذي "1323"، وابن ماجة "2309"، من حديث أنس قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: "من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل ملك يسدده". قوله: "وشروطه الذكورة". أقول: قد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بأنهن ناقصات عقل ودين ومن كان بهذه المنزلة لا يصلح لتولي الحكم بين عباد الله وفصل خصوماتهم بما تقتضيه الشريعة المطهرة ويوجبه العدل فليس بعد نقصان العقل والدين شيء ولا يقاس القضاء على الرواية فإنها تروي ما بلغها وتحكي ما قيل لها وأما القضاء فهو يحتاج إلى اجتهاد أصحاب الرأي وكمال الإدراك والتبصر في الأمور والتفهم لحقائقها وليست المرأة في ورد ولا صدر من ذلك. ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح [البخاري "4425، 7099"] ، من قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" فليس بعد نفي الفلاح شيء من الوعيد الشديد ورأس الأمور هو القضاء بحكم الله عزوجل فدخوله فيها دخولا أوليا. قوله: "والتكليف". أقول: الصبي قد تقرر بالأدلة رفع قلم التكليف عنه ومن لازم القضاء أن يكلف العباد بما تقتضيه الشريعة المطهرة فكيف يصلح لذلك من لم يصلح لتكليف نفسه وكيف يقوم الظل والعود أعوج وكيف يصح اتصافه بالعدالة التي هي مع العلم رأس مال القاضي وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمارة الصبيان كما أخرجه أحمد "2/326"، من حديث أبي هريرة وتعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمارة السفهاء كما أخرجه أحمد أيضا بإسناد رجاله رجال الصحيح والصبي سفيه وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل من علامات القيامة: "إذا وسِّد الأمر إلى غير أهله" [البخاري "11/333"] ، والصبي ليس من أهله. قوله: "والسلامة من العمى والخرس". أقول: القاضي يحتاج إلى البصر لمشاهدة الخصوم ومعرفة أحوالهم ويحتاج إلى السمع لسماع كلامهم وما يوردونه لهم وعليهم فولاية الأعمى أو الأخرس بلاء مصبوب على الخصوم وتعذيب لهم مع عدم الركون على ما يفعلانه لهذا النقص الظاهر الواضح فهما مانعان من هذه الحيثية مع أنهما فاقدان لأعظم ما لا يتم المقتضي إلا به. قوله: "والاجتهاد في الأصح". أقول: القاضي مأمور بأن يحكم بالعدل والحق وبما أنزل الله وبما أراه الله عزوجل كما وقع النص على هذه الأمور في الكتاب العزيز والمقلد لا يقدر على تعقل حجج الله فضلا على أن يقدر على التمييز بين العدل والجور والحق والباطل وعلى الحكم بما أراه الله فإنه سبحانه

لم يره شيئا وفي الحديث الصحيح المتقدم: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران" وأين المقلد من أن يجتهد بمعنى يبلغ الجهد والطاقة في البحث عن حكم الله في الحادثة فإنه يقر على نفسه أنه إنما يطالب من قلده برأيه لا بروايته ويقر على نفسه أنه لا يطالبه بحجة ولا علم له إلا ما تلقاه عن إمامه بهذه الطريقة وعلى هذه الصفة. والحاصل أن نصب المقلد للحكم بين عباد الله إذن له بالحكم بالطاغوت لأنه لا يعرف الحق حتى يحكم به وما عدا الحق فهو طاغوت ولو قدرنا أنه طابق الحق في حكمه لكان قد حكم بالحق وهو لا يعلم به فهو أحد قاضي النار وإن حكم بغير الحق فهو القاضي الآخر من قضاة النار فيالله العجب كيف يولي الحكم بين الناس بالشرع الذي بعث به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من هو في كلتا حالتيه من أهل النار وكفاك من شر سماعه {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] ، {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] ، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من علامات القيامة أن يتخذ الناس رؤساء جهالا يفتون بغير علم فيضلون ويضلون ورأس الرياسات الدينية هو القضاء بلا شبهة. قوله: "والعدالة المحققة". أقول: قد قدمنا في الشهادات الكلام على العدالة وما يكفي فيها فلا نعيده هنا وإذا كانت العدالة شرطا فيمن يشهد لقضية فردة فكيف لا تكون شرطا فيمن يتولى القضاء في كل قضية ترد إليه. والحاصل أن من لا عدالة له لا يوثق بحكمه ولا يلزم الخصوم قبوله وبهذا يبطل الغرض من نصبه مع كونه مظنة للحكم بخلاف الحق زاعما أنه الحق لغرض من الأغراض الدنيوية فإن فاقد العدالة لا يتورع من شيء. قوله: "وولاية من إمام حق". أقول: وجه هذا أنه لم يتصدر أحد في زمن النبوة للقضاء إلا بأمره صلى الله عليه وسلم ولا تصدر أحد في أيام الخلفاء الراشدين للقضاء إلا بأمر من الخليفة وهذا أمر ظاهر لا ينبغي أن ينكر وأما التحكيم فهو باب آخر ليس من القضاء في شيء لأن الخصمين ألزما أنفسهما بقبول ما حكم به المحكم بينهما فكان هذا الإلزام هو سبب اللزوم وقد فتح الله باب التحكيم في كتابه العزيز وثبت في السنة المطهرة كما في جزاء الصيد وفي حكم سعد في قصة بني قريظة وغير ذلك وهكذا استمر الأمر بعد انقضاء عصر الخلفاء الراشدين فلم يسمع بقاض إلا بولاية من سلطان زمانه إلى هذه الغاية. وأما اشتراط أن يكون الإمام حق فقد ثبت وجوب الطاعة لمن بايعه المسلمون بالأحاديث المتواترة وثبت الأمر بالصبر على جور الجائرين وظلم الظالمين مع أمرهم بما هو معروف ونهيهم عما هو منكر ومن الطاعة الواجبة أن لا يتولى أحد بولاية إلا بإذن منهم وإلا كان ذلك من المنازعة في الأمر وقد ثبت تحريم ذلك ما أقاموا الصلاة ما لم يظهر منهم كفر

بواح [البخاري "13/5"، مسلم "42/1709"، والأحاديث الصحيحة في مثل هذا أكثر من أن تحصر وقد كان القضاة من التابعين وتابعيهم وهما القرنان اللذان هما خير القرون بعد قرن الصحابة يأخذون الولاية من الملوك المعاصرين لهم من الأموية والعباسية ثم هكذا من تولى القضاء من علماء الإسلام بعد عصرهم إلى الآن وهذا أمر من الجلاء والوضوح بحيث لا يحتاج إلى بيان ولعله يأتي إن شاء الله في كتاب السير زيادة بيان لهذا المطلب. قوله: "أو محتسب". أقول: من لم يبايعه المسلمون فلا ولاية له ولا يستحق أن يباشر ما يباشره الإمام كلا ولا جزءا لأن الولاية سببها البيعة وإلزام المسلمين أنفسهم بها بما يجب من الطاعة وهذا الذي قام يحتسب هو كأحد المسلمين في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولمن يصلح للقضاء أن يحتسب كاحتسابه ولا يحتاج إلا ولاية منه لأنه لا مزية له تميزه عن غيره إلا مجرد إظهار نفسه للتصدر لما يأتي إليه من أمور الدين أو يبلغه منها فالصالح للقضاء إذا أظهر نفسه كإظهاره كان مستغنيا عنه. وأما قوله: "إما عموما" إلخ فوجهه أن النصب من الإمام إذا كان أمرا لا بد منه كما قدمنا وجب على القاضي أن يتوقف على ما يرسمه له من عموم أو خصوص. قوله: "وإن خالف مذهبه". أقول: لا وجه لهذا ولا يحل للقاضي أن يعتمد عليه لأن الله سبحانه طلب منه أن يحكم بالحق والعدل وبما أراه الله وبما أنزل الله لا بما يراه الإمام ويأمر به فإن أمره الإمام بشيء يخالف ما يدين الله به أوضح له الحجة فإن قبلها فذاك وإن لم يقبلها فقد تخلص من معرة المخالفة لما أوجبه الله عليه ويحيل الحكم على الإمام أو على غيره من الحكام. قوله: "فإن لم يكن فالصلاحية كافية". أقول: هذا الذي ثبتت له الصلاحية له مزيد خصوصية في القيام بالمعروف والنهي عن المنكر ومن جملة ذلك القضاء وتنفيذ الأحكام الشرعية والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم من مظلمته وكل مسلم إذا قدر على ذلك فهو مكلف به وإنما اقتصر على من له الصلاحية لأن مدخليته في وجوب ذلك عليه أتم وهو به أليق وقد قدمنا في قوله ومن صلح لشيء ولا إمام فعليه بلا نصب على الأصح ما يغني عن إعادته هنا. قوله: "مع نصب خمسة" الخ. أقول: لا أصل لهذا في الشريعة بل هو مجرد استحسان وهؤلاء الخمسة يكون نصبهم له بمنزلة تحكيمهم له فيما توجه عليهم من الحكومات فيجب عليهم امتثال حكمه ولا يصير ذلك حجة على غيرهم إلا إذا فعل مثلما فعلوا وقد جعل الله من فيه صلاحية في غنى عن هذا بما أوجبه عليه من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قدمنا.

[فصل وعليه اتخاذ أعوان لإحضار الخصوم ودفع الزحام والأصوات وعدول ذوي خبرة يسألهم عن حال من جهل متكتمين والتسوية بين الخصمين إلا بين المسلم والذمي في المجلس وسمع الدعوى أولا ثم الإجابة والتثبت وطلب تعديل البينة والمجهولة ثم من المنكر درأها ويمهله ما رأى والحكم والأمر بالتسليم والحبس له إن طلبت والقيد لمصلحة إلا والدا لولد ويحبس لنفقة طفله لا دينه ونفقة المحبوس من ماله ثم بيت المال ثم من خصمه قرضا وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح ثم من ذي الحق كالمقتص. وندب الحث على الصلح وترتيب الواصلين وتمييز مجلس النساء وتقديم أضعف المدعيين والبادي والتنسم واستحضار العلماء إلا لتغير حاله. ويحرم تلقين أحد الخصمين وشاهده إلا تثبتا والخوض معه في قضيته والحكم بعد الفتوى وحال تأذ أو دهول ولنفسه وعبده وشريكه في التصرف بل يرافع إلى غيره وكذا الإمام قيل وتعمد المسجد وله القضاء بما علم إلا في حد غير القذف أو على غائب مسافة قصر أو مجهول أو لا ينال أو متغلب بعد الإعذار ومتى حضر فليس له إلا تعريف الشهود ولا يجرح إلا بمجمع عليه والإبقاء من مال الغائب ومما ثبت له في الغيبة بالإقرار أو النكول لا البينة وتنفيذ حكم غيره والحكم بعد دعوى قامت عند غيره إن كتب إليه وأشهد أنه كتابه وأمرهم بالشهادة ونسب الخصوم والحق إلى ما يتميز به وكانا باقيين وولايتهما إلا في الحد والقصاص والمنقول الموصوف وإقامة فاسق على معين حضره أو مأمونه وإيقاف المدعى حتى يتضح الأمر فيه] . قوله: "فصل: وعليه اتخاذ أعوان" الخ. أقول: قد عرفناك أن القضاء شعبة من شعب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو واجب على كل مكلف وعلى القادر أوجب لا سيما العلماء العارفين بالمدارك الشرعية والمفروض أن القاضي منهم كما قدمنا حينئذ فإذا لم يتم حكم الشرع إلا بأعوان تشتد بها وطأته على المرتكبين للمنكرات والمتساهلين في تأدية الواجبات والمتمردين عن امتثال ما يقضي به شرع الله كان اتخاذ من يحصل به التمام من الأعوان ونحوهم واجبا على القاضي وإذا لم يحصل امتثال الحق إلا بالتشديد وتغليظ الوعيد فذاك أيضا متعين على القاضي بما سيأتي في السير عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن مقتضيات اتخاذ الأعوان ما ذكره المصنف من إحضار الخصوم ودفع الزحام والأصوات لأن ذلك يشوش ذهن الحاكم

ويحول بينه وبين سماع الدعوى والإجابة على وجه الكمال والاستقصاء. وأما قوله: " واتخاذ عدول يسألهم عن حال من جهل متكتمين" فهذا من أحسن السياسة الشرعية وإن كان يغني عن ذلك فتح باب الجرح والتعديل لكن قد يحصل بإخبار هؤلاء للحاكم مالا يحصل بالجرح والتعديل لوثوق الحكم بهم وطمأنينة النفس إليهم زيادة على ما تطمئن بمن يأتي بهم الخصوم من شهود الجرح والتعديل وأيضا قد يعرفونه بحال الخصوم ومن هو منهم جميل الحال كثير الورع ومن هو سيء الحال متهافت على الطمع. قوله: "والتسوية بين الخصمين". أقول: هذا أول ما يتبين به عدل الحاكم من جوره فإنه إذا لم يسو بينهما فقد وقع في طريق الجور باديء بدء وهو مأمور بالحكم بالحق وبالعدل وليس هذا منهما وأخرج أحمد "4/4"، وأبو داود "3588"، والبيهقي والحاكم عن عبد الله بن الزبير قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم"، وفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وهو مختلف فيه وقد صحح هذا الحديث الحاكم وإذا كانت التسوية بينهما في نفس المجلس واجبة فما عداها من التسوية في الخطاب والجواب والتقريب والتبعيد بالأولى ومثل هذا حديث أم سلمة عند أبي يعلى والدارقطني والطبراني في الكبير بلفظ: "ومن ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر"، وفي إسناده عباد بن كثير وهو ضعيف. وأما قوله: "إلا بين المسلم والذمي" فوجهه ما أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى عن إبراهيم التيمي قال عرف علي بن أبي طالب درعا له مع يهودي فقال يا يهودي درعي سقطت مني وفيه أنه رافعه إلى القاضي شريح فجلس علي بجنب شريح وقال لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تساروهم في المجلس قال أبو أحمد وهو منكر وأورده ابن الجوزي في العلل وقال لا يصح تفرد به أبو سمية ورواه البيهقي من وجه آخر عن الشعبي عن علي وفي إسناده ضعيفان جدا وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط لم أجد له إسنادا يثبت وقال ابن عسكر في الكلام عن أحاديث المهذب إسناده مجهول. قوله: "وسمع الدعوى أولا ثم الإجابة". أقول: وجه هذا أن المدعي هو الطالب لحكم الشرع فلو سمع الحاكم من المدعى عليه قبل أن يسمع من المدعي لكان ذلك عكس قالب ما تقتضيه الخصومة عقلا وقد أخرج أحمد "1/111"، وأبو داود "3582"، والترمذي "1331"، وحسنه وابن حبان وصححه من حديث علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء"، وله طرق استوفيناها في شرح المنتقى.

قوله: "والتثبيت". أقول: وجهه أنه لا يتم الحكم بالحق كما ينبغي إلا بذلك وإلا كان إيقاع الحكم على غير الوجه الذي يقتضي به العدل والحق وقد أمر الله سبحانه بالحكم بالعدل والحق وبما أنزل وأيضا التثبيت هو من الاجتهاد المذكور في الحديث السابق بلفظ: "إذا اجتهد الحاكم" لأن المراد بالاجتهاد هذا بلاغ الجهد في تتبع وجوه الحكم والنظر في مشتبهات الأدلة والموازنة بين الحجج التي لها مدخل في تلك الحادثة. قوله: "وطلب تعديل البينة المجهولة". أقول: البينة ما لم تكن قد ثبت للحاكم ما يعتبر فيها من العدالة فليست ببينة ولا يترتب عليها حكم فإذا أتى الخصم ببينة لا يعرف الحاكم حالها فلا يقبلها حتى يأتي من جاء بما يصححها وأما طلب درئها من المنكر فليس هذا من وظيفة الحكم ولا الحاكم بل على الحاكم أن يخبر من عليه البينة بأنها قد شهدت بكذا وأنه لا قادح قد تبين له فيها فإن قال له ما يدفعها أمهله وإن لم يقل حكم عليه إلا أن يتبين له أن المشهود عليه لما يدر أن الجرح مسلك شرعي فله أن يعرفه بذلك ولا يكون تلقينا ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه"، ويقول: "ألك بينة؟ ". قوله: "والأمر بالتسليم". أقول: هذا هو الثمرة المستفادة من التخاصم إلى الحاكم فإذا استوفى طريق الحكم أمر من عليه الحق بتسليمه إلا من هو له فإن أبي فهو آب من حق أوجبه الله عليه وأمر قضى به شرعه عليه وقد نفى الإيمان عمن لم يقنع بحكم الله عزوجل فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65] ، فعلى الحاكم وعلى كل قادر أن يأخذ على يد هذا الذي لم يذعن لحكم الله ويأطره على الحق أطرا فإن كان لا يتخلص مما عليه إلا بالحبس ونحوه من أنواع التغليظ عليه فذاك واجب إذ لا يتم الواجب إلا به وما لا يتم الواجب إلا به واجب كوجوبه كما تقرر في الأصول. وأما إنكار كثير من الفضلاء لما يقع من الحاكم من حبس من امتنع من الخروج مما يجب عليه فهو من قصور الفهم عن إدراك المدارك الشرعية وقد بسطت القول في الحبس في شرح المنتقى فليرجع إليه. قوله: "إلا والد لولده". أقول: لا وجه لإطلاق هذا الاستثناء فإنه وإن استقام في المال لحديث: "أنت ومالك لأبيك" لم يستقم في سائر ما يصدق عليه أنه ظلم من الأب لابنه ليس فيه شبهة فإنه يجب على الحاكم أن يأمره بالكف عن ذلك لأن الظلم حرمه الله بين عباده ولم يستثنى والد ولا ولد فإذا لم ينزع الأب عن ذلك كان للحاكم أن يحبسه حتى يتخلص من ظلمه لولده وإن كان حق

الأبوين عظيما لكنهما لا يقران على ما هو ظلم منع منه الشرع. وأما قوله: "ويحبس لنفقة طفله لا دينه" فوجهه أنه أخل بواجب عليه وهكذا إذا أخل بما يجب عليه لولده الكبير مع تمكنه فإنه لا فرق بينه وبين الطفل. قوله: "ونفقة المحبوس من ماله". أقول: وجه ذلك محبوس في حق قد تبين لزومه له عند الحاكم فامتنع منه فهو الجاني على نفسه فلا يخاطب أحد بنفقته حال حبسه حتى يتخلص مما عليه فإذا بقي بعد ذلك كان إنفاقه على الحابس له لأنه ظالم له وما لزمه بسبب هذا الظلم رجع به على ظالمه وإذا كان المحبوس فقيرا ولم يمتثل للحق فهو أحد المحاويج إلى بيت مال المسلمين من جهة كونه فقيرا سواء كان محبوسا أو غير محبوس لا من جهة كونه متمردا عن حق واجب عليه وهذا إذا كان محبوسا في غير مال عليه من حد أو قصاص أو جسارة أو نحو ذلك وأما المحبوس في المال فإذا عجز عن نفقة نفسه فهو عن القضاء أعجز وكفى له بذلك سببا لإطلاقه. وأما قوله: "ثم من خصمه قرضا" فلا وجه له لأنه إيجاب ما لم يوجبه عليه الشرع والمفروض أنه مطالب بحق وأن المحبوس ممتنع منه ولم يظهر ما يوجب إطلاقه. قوله: "وأجرة السجان والأعوان من مال المصالح". أقول: هذا صحيح لأنه يحصل بهم إنفاذ حكم الشرع وتمام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن تعذر الأخذ لهم من مال المصالح كان لهم الأجرة ممن تمرد عن الحق فلم يمتثل لحضور مجلس الشرع إلا بإحضار الأعوان له ومن المحبوس بحق لأنهما الجانبان على أنفسهما بسبب الإخلال بما هو واجب عليهما. وأما قوله: "ثم من ذوي الحق" فلا وجه له لما قدمنا قبل هذا ولا وجه لقياسه على المقتص لأن المباشر للقصاص نيابة عمن هو إليه لا واجب عليه بخلاف الخصم الذي لم يمتثل للإجابة إلى الشرع أو صار في الحبس بسبب عدم تخلصه مما يجب عليه فإن الحق عليه ثابت وهو مخل بما يجب عليه شرعا فأين هذا ممن يتولى القصاص بالنيابة فإنه أجير كسائر الأجراء. قوله: "وندب الحث على الصلح". أقول: ينبغي للحاكم أن يذكر القوارع والزواجر عمن قضى له بباطل أو خاصم في خصومة باطلة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في الصحيحين وغيرهما من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، وكما في صحيح مسلم "223/139"، وغيره أبو داود "3623"، أحمد "4/317"،/ من حديث وائل بن حجر في قصة الحضرمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أدبر الرجل: "أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض"، وكما أخرجه أبو داود "3597"، بإسناد لا مطعن فيه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع"، وفي لفظ له: " من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله". فتعريف الغرماء بهذا قد يكون سببا لارتداع المبطل عن باطله من الأصل لأن في ترغيبه إلى الصلح باديء بدء تجرئة له على أن يأخذ البعض مما هو باطل بذريعة الصلح وقد يظن خصمه أن الحاكم إنما رغبهما إلى الصلح وسيلة بين يدي الحكم فيستفدي الحكم عليه بالكل بالبعض تخلصا من معرة الحكم بالباطل. قوله: "وترتيب الواصلين". أقول: هذه طريقة حسنة من طرائق العدل لأن الأحق بالوصول إلى مجلس المحاكمة هو أول الواصلين ثم من بعده وترتيبهم على خلاف هذا يخالف طريقة العدل وهكذا تمييز مجلس النساء لما في اجتماعهم مع الرجال من وسائل المنكر وذرائع الوقوع في المعصية. وأما قوله: "وتقديم أضعف المدعيين" فلا وجه له بل الواجب عليه التسوية بين القوي والضعيف على وجه لا يطمع القوي في جوره ولا ييئس الضعيف من عدله هذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض ولا يجوز تأثير الضعيف بشيء على القوي فيما يرجع إلى التسوية وإلا كان ذلك ظلما للقوي وجورا عليه. وأما تقديم البادي من المتخاصمين على الحاضر منهم فوجهه أنه يصحب البادي من المشقة ما لا يلحق الحاضر فهذا التقديم فيه ضرب من الصلاح وللحاكم أن يفعل ما يراه أوفق لمراد الله وأرفق بأهل الخصومات وهكذا التنسم لأنه مع اجتهاده لنفسه قد يوقع الحكم حال الفتوى المقتضي لعدم التثبت أو للحكم حال الغضب ففي هذا ضرب من الصلاح وهو لا يؤاخذ إلا بما يقدر عليه ويدخل تحت طاقته. قوله: "واستحضار العلماء" أقول: هذا الاستحضار قد يتسبب عنه تحفظ الحاكم وتحريه لما تقتضيه المسالك الشرعية وإن كان الحاكم العدل المتورع يفعل في تثبته مع الخلو ما يفعله مع الحضور ويراقب الله سبحانه في كل حالاته نعم أعظم فوائد حضور أهل العلم الذين هم أهله أن يستعين بهم في تقويمه إذا زاغ من الحق ويأذن لهم بذلك فإن هذه فائدة عظيمة وإن كان من الأئمة المجتهدين فإنه قد تتشعب طرائق الاجتهاد فيكون بعضها أوفق من بعض وأقرب إلى قطع الخصومة وطيبة نفس الخصوم والموافقة للحق. قوله: "ويحرم تلقين أحد الخصمين وشاهده إلا تثبتا". أقول: أما تعريف الخصم لما يجب له وعليه فهو واجب على الحاكم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ألك بينة؟ "، وقال: "فلك يمينه"، وقال: "شاهداك أو يمينه". والحاصل أن أحكام الشرع ليست بمقامرة ولا مخادعة ولا مماكرة بل هي الجادة الواضحة التي ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا جاحد فإذا أوضح الحاكم للخصمين أو أحدهما

يجب وما لا يجب في وجه الشرع فذلك من عهدته ومن تمام ما يتحصل به الحكم بالحق والعدل ومما أنزل الله وأما إذا كان التلقين بتنبيه أحد الخصمين على ما يدل على عدم إقراره بالحق واعترافه بما يجب عليه ونحو ذلك فهذا من أعظم المحرمات وليس الفاعل لهذا منزل نفسه منزلة الحكم بين الخصمين بل منزلة خصم ثالث أخرج نفسه من القضاء وأدخلها في الخصومة. قوله: "والخوض معه في قضيته". أقول: هذا من أقبح ما يفعله حكام الجور لأن التسوية بين الخصوم واجبة عليه فالخوض مع أحد الخصمين في قضيته مخالف لما هو واجب عليه من التسوية وعلى فرض أنه ما أراد إلا التحقيق فقد وقع في أمرين محظورين أحدهما إحراج صدر الخصم الآخر والثاني إدخال نفسه في التهمة فهذان الأمران منضمان إلى ما يحرم عليه من ترك التسوية. قوله: "والحكم بعد الفتوى". أقول: إن كان هذا الذي أفتى مظنة تهمة بتعصبه لما سبق به القول منه في فتواه كما يقع ذلك في كثير من طباع من سبق ذهنه إلى قول وتسارع فهمه إلى معنى فإنه بعد ذلك يجادل عنه ويناضل ويقوم ويقعد محاماة للناموس الطاغوتي وتقويما لصنم محبة الرفعة والغلبة والظهور فلا ينبغي تفويض أمر الحكم إليه بعد فتواه بل لا يحل تفويض شيء من أحكام الله إليه لأنه متعصب متعسف قد اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وإن لم يكن المفتي بهذه المنزلة فلا مانع من توليه للحكم لأن ورعه وعلمه يزجرانه عن مخالفة الحق لتقويم حظ النفس. قوله: "وحال تأذ". أقول: إن كان هذا التأذي بما أصيب به يقتضى أن يقصر في البحث عن مسالك الحق وطرائق الحكم أو عن استيفاء ما يورده الخصوم من الحجج التي لهم وعليهم فهو ممنوع من هذه الحيثية لأنه مأمور بالحكم بالعدل والحق وقد حدث له ما لا يتمكن معه منهما تمكنا كاملا فيؤخر الحكم إلى وقت آخر وليس عليه أن يحكم قبل أن يتمكن من المقتضي للحكم أو بعد إن وجد المانع منه وهكذا إذا انتهى ما عرض له من التأذي إلى أن يقع في الغضب فيحكم وهو غضبان فإن ذلك لا يحل له كما ثبت في الصحيحين [البخاري "8158"، مسلم "16/1717"] ، وغيرهما [أبو داود "3589"، الترمذي "1334"، النسائي "8/237"، ابن ماجة "2316" [، من حديث أبي بكرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضين الحاكم بين اثنين وهو غضبان"، ولا يصح الاستدلال للجواز بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الحكم للزبير في شراج الحرة [البخاري "2359، 2360"، مسلم "2357"، أبو داود "2637"، الترمذي "1363"، النسائي "5409"، ابن ماجة ط2480"] ، بعد أن أحفظه خصمه أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فلا يصح إلحاق غيره به وقد قيد حديث النهي عن الحكم حال الغضب بعض أهل العلم بما إذا كان الغضب لغير الله وأجيب عنه بأنه تأويل مخالف لظاهر الحديث بدون دليل يدل على التقييد.

قوله: "أو ذهول". أقول: لا شك ولا ريب أن الذهول مانع من البحث عن مستندات الحكم لأنه في تلك الحالة قد استغرق عقله بما طرأ عليه من الأمور التي اقتضت ذهوله وليس له أن يعرض نفسه للحكم في دماء العباد وأموالهم وأعراضهم ولا يجوز له ذلك بوجه من الوجوه لأنه لم يؤمر بالحكم كيفما اتفق وعلى أي صفة وقع بل أمر بأن يحكم بالحق والعدل وأنى له الوقوف على ذلك وهو ذاهل العقل مستغرق الفكر متشوش الفهم مبلبل البال. قوله: "ولنفسه" الخ. أقول: وجه هذا أن الحاكم مأمور بأن يحكم بين الناس وهو إن كان من الناس فهو خارج عنهم من هذه الحيثية لأن الحكم لا يصدق عليه هذا المعنى وهو أحد الخصمين وقد قدمنا في الشهادات الأدلة الدالة على المنع من شهادة المتهم وأي تهمة أقوى من أن يحكم الحاكم لنفسه وهو وإن كان من له وازع من الورع وزاجر من الدين لا يقدم على الحكم لنفسه بالباطل لكن الحكم للغالب ولا اعتبار بالنادر وهكذا الحكم لعبده لأنه حكم لنفسه لأن ماله لسيده عند من يقول بأن العبد لا يملك وهكذا الحكم لشريك فإنه حكم لنفسه فكان يغني عن التطويل الاقتصار على قوله ولنفسه وهو يتناول الحكم لها على استيلاء والحكم لها بواسطة والحكم لها ولغيرها ولا حاجة إلى قوله بل يرافع إلى غيره لأن منعه من الحكم لنفسه يستلزم أن يكون الحاكم غيره. وأما قوله: "وكذلك الإمام" فهو وإن كان صحيحا لكنه ينبغي أن يذكر في الأحكام المتعلقة بالأئمة وسيأتي في كتاب السير إن شاء الله. قوله: "قيل وتعمد المسجد". أقول: قد كان يقع القضاء في مسجده صلى الله عليه وسلم منه ومن خلفائه الراشدين ولم يرد ما يدل على المنع من ذلك ولا ثبت في النهي عنه شيء وأما ما روي من النهي عن رفع الأصوات في المساجد على فرض قيام الحجة به فغاية ما هناك أنه يزجر من رفع صوته من الخصوم ويعاقب فإن القاضي إذا فعل ذلك تجنب الخصوم ما يشوش على المصلين من أصوات وغيرها وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف المسجد وهم باقون على شركهم وأذن للحبشة بأن يلعبوا فيه بحرابهم وكانوا يتناشدون فيه الأشعار وفي هذه الأمور من التشويش على المصلين زيادة على ما يحصل من قعود خصمين أو أكثر بين يدي الحاكم في المسجد مع ما هو معلوم مع أن القضاء بالحق هو من العمل بالشريعة وتبليغها إلى العباد ونشر أحكامها بينهم وفي ذلك من المصالح ما لا يخفى. قوله: "وله القضاء بما علم". أقول: اعلم أن غاية ما يحصل للحاكم بشهادة الشهود أو يمين المنكر أو إقرار المقر هو مجرد الظن المختلف قوة وضعفا لأن الصدوق قد يكذب والمقر على نفسه قد يقر بالباطل

لغرض ولكن هذه لما كانت أسبابا شرعية وردت في الكتاب والسنة وأجمع عليها أهل الإسلام كان للقضاء بها حقا في ظاهر الشرع وجاز للقاضي الاستناد في حكمه إلى الظن لأن هذه الأدلة الواردة في أسباب الحكم هي من جملة مخصصات الأدلة الواردة في النهي عن العمل بالظن والوعيد عليه كما قيل في أخبار الآحاد ونحوها من الظنيات ومعلوم لكل عاقل أنه إذا كان الحاكم يعلم بالقضاء ويدري بالشيء على جليته وحقيقته فهذا مستند فوق ما يحصل له من تلك الأسباب لأنه علم والحاصل بتلك الأسباب ظن ولا خلاف في أن العلم أقوى من الظن وأن الاستناد إليه مقدم على الاستناد إلى الظن بل لا يبقى للظن تأثير مع وجود العلم أصلا فالحاكم الذي حكم بما يعلمه قد حكم بالعدل والحق والقسط بلا شك ولا شبهة ولم يكن من عمله مجوزا لكون حكمه باطلا وليس ذكر تلك الأسباب إلا لبيان ما هو ممكن في الواقع من التوصل إلى معرفة الحق مع عدم القطع والبت بمطابقة الحكم للواقع ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، هكذا لفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما فلا شك ولا ريب أن قضاء الحاكم بعلمه أسكن لخاطره وأقوى لقلبه وأقر لعينه من الحكم بالظن والعمل بما هو أولى هو مقبول لا يخالف فيه إلا من لا يتعقل الحقائق كما ينبغي كما تقرر في الأصول في الكلام على فحوى الخطاب. هذا لو قدرنا أن تلك الأسباب لم يرد ما يدل على سببية غيرها ومعلوم أن التنصيص على بعض الأسباب لا ينفي سببية غيرها وأما ما قيل من أنه قد ورد ما يدل على انحصار الأسباب فيها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وليس لك إلا ذلك"، بعد قوله: "شاهداك أو يمينه"، [البخاري "5004"، مسلم "1497"] ، فيجاب عنه بأن هذا إنما يكون دليلا لو علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بالواقع في تلك القضية وترك العمل بعلمه وعدل إلى طلب البينة واليمين ولم يثبت ذلك على أنه يرد على هذا الحصر إقرار من عليه الحق فإنه أقوى في السببية للحكم من البينة واليمين. فالحاصل أن الحاكم بعلمه حاكم بالعدل والحق والتعليل بالتهمة لا وجه له ولا التفات إليه فإنه التهمة عن الحكام العادلين العارفين بما شرعه الله المتعلقين لحجج الله سبحانه منتقية ولا يعود عليهم من ذلك غرض يصلح لجعله علة أصلا وليس محل النزاع هو الحاكم المتهم بل محل النزاع هو الحاكم الجامع لما قدمنا ذكره في شروط القضاء وهو أبعد عن الريب وأنزه من أن يزن بعيب. وأما استثناء الحدود فوجهه أنه إذا لم يحصل النصاب المعتبر فيها كان ذلك شبهة وهي تدرأ بالشبهات وأما ما استدل به على هذا الاستثناء من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها"، كما تقدم في قصة الملاعنة فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم بوقوع الفاحشة منها ولكنه استدل على ذلك بما ظهر من القرائن كما تضمنته القصة وليس ذلك من باب العلم ومع هذا

فالبينة هي ما يتبين به الشيء وتظهر عنده حقيقته والعلم من الحاكم من هذه الحيثية بينة بل هو أقوى بينة ولعله يأتي في الحدود ما يزيدك بصيرة إن شاء الله. قوله: "وعلى غائب" الخ. أقول: قد جعل الله لحكم الحاكم أسبابا معلومة يعرفها الحاكم وهي الإقرار أو البينة أو اليمين ويلحق بذلك مثل النكول والرد وقد تقدم تحقيق الكلام فيهما فالحاكم إذا قامت لديه الشهادة العادلة المرضية بثبوت الحق على الغائب أو الذي لا يعرف أين هو أو المتردد عن حضور مجلس الحكم فقد أوجب الله عليه إنصاف المحكوم له بحكم الله والقضاء بما شرعه الله ولا يتم ما أمر الله سبحانه من الحكم بالعدل والحق وبما أنزل إلا بهذا وهكذا لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بهذا ومن زعم أن غيبة الذي عليه الحق عذر للحاكم في مطل من له الحق وعدم إنصافه ورفع ظلامته فعليه الدليل وهذا إذا كان الدي عليه الحق في موضع لا يعرف فإن جواز الحكم عليه أظهر من جواز الحكم على من كان غائبا في مكان معروف وهكذا إذا كان من عليه الحق متمردا عن حضور مجلس الحاكم تاركا لما أوجبه الله عليه من الإجابة إلى شرعه فإن جواز الحكم عليه أظهر من الأمرين السابقين ولو تم للمتمردين عن الشرع تمردهم لم ينفذ الحق على غالب الناس وحينئذ تبطل الأحكام الشرعية المتعلقة بالمعاملة بين العباد ويبطل ما هو رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومثل قيام البينة عند الحاكم المتصفة بثبوت الحق عليه على ما تقدم تقريره ولكن على الحاكم أن يؤذن الغائب بأنه قد توجه الحكم عليه فإن بقي له ما يدفع به عن نفسه أورده إذا كان غائبا في مكان لا يلحق مشقة زائدة بالإعذار إليه وهكذا يعذر إلى المتمرد على أنه قد ورد في الحكم على من لم يحضر إلى مجلس الشرع دليل يخصه وكتبنا على ذلك رسالة مطولة وذكرنا فيها ما ينشرح له صدر المنصف وينثلج به قلبه فمن أحب الوقوف عليها فليقف عليها. ويحتاط الحاكم حيث لم يكن الإعذار إلى الغائب أو المتمرد بالتولف على المحكوم له بأن لا يتصرف فيما حكم به له حتى ينظر ما يقوله الغائب بعد حضوره والمتمرد بعد رجوعه عن تمرده وكذلك مجهول المكان حتى يظهر مكانه. فإن قلت إذا كان المطالب بالحكم فليس عليه إلا اليمين بأن يكون الظاهر معه قلت ينبغي أن يحكم له بيمينه المسندة إلى الظاهر الذي معه ويؤخذ عليه أن لا يتصرف فيه لجواز أن يكون مع خصمه الغائب أو المجهول أو المتمرد ما يترجح على يمينه وينقل عن الظاهر الذي معه فهكذا ينبغي أن يقال في هذا المقام وأما منع المانعين عن الحكم على هؤلاء فهو سد لباب حكم الشرع وإهمال لما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلم بحت لمن جاء يشكو ظلامته ويعرض المستند الذي أمر الحكام بالحكم به. وأما قدر مسافة الغيبة فينبغي تفويض النظر فيه إلى الحاكم المجتهد لاختلاف الأحوال باختلاف الأشخاص والأموال ومتى حضر هو أو المجهول أو المتمرد مجلس الحاكم عرض عليه

الحاكم المستند الذي حكم به عليه فإن جاء بما يخالفه ويترجح عليه عمل عليه وإلا أقنعه بما تقدم من الحكم عليه ولا وجه للاقتصار على قوله فليس إلا له تعريف الشهود لأن مستندات الحكم أكثر من ذلك. وأما قوله: "ولا يجرح إلا بمجمع عليه" فلا وجه له بل يثبت الجرح بما يوجب سلب العدالة المعتبرة في الشهود لأنها إذا سلبت ذهب المقتضي للحكم ووجد المانع فلا أثر للحكم بعد عدم المقتضي ووجود المانع. وأما ما ذكره من الإبقاء من مال الغائب فهو صحيح مع التوثق منه بألا يخرجه عن ملكه قبل معرفة ما ينتهي إليه الحال. وأما الفرق من المصنف بين ما ثبت للغائب بالإقرار والنكول بين ما يثبت له بالبينة فوجهه أن ما ثبت له بالاعتراف أو بما هو في حكمه قد ثبت بمستند لا يحتمل النقض بخلاف ما ثبت بالبينة ولكنه يمكن أن يقال أن الإقرار ونحوه إذا رده المقر له بطل كما تبطل البينة إذا أقر بعدم صحتها فالاحتمال كائن في الجميع والتجويز يدخل الكل ولا وجه لما علل به بعضهم من أن الحكم بالبينة حكم الغائب ولا يجوز إجماعا لأنا نقول وهكذا الحكم بالإقرار وما هو في حكمه حكم لغائب. قوله: "وتنفيذ حكم غيره" الخ. أقول: إذا كان المتولى للحكم بمكان مكين من العلم والدين فالظاهر أن حكمه حق وعدل وما كان كذلك فتنفيذه حق وعدل ولا سيما إذا كان لا ينفذ إلا بهذا التنفيذ فإنه واجب تنجيزا لحكم الله عزوجل وقياما بحق المظلوم وأخذا له من الظالم. وأما قوله: "والحكم بعد دعوى قامت عند غيره" فلا مانع من هذا وليس قيام الدعوى عند الغير مما يوجب أن لا يحكم فيها غيره من الحكام ولكن لا بد من أن يسمع الحاكم الآخر ما يقوله الخصمان للحديث الذي قدمناه في قوله ويسمع الدعوى أولا ثم الإجابة. وأما قوله: "إن كتب إليه وأشهد أنه كتابه وأمرهم بالشهادة" إلى آخر ما ذكره فإن كان يحصل للحاكم الأخر بهذه المكاتبة ما يحصل له بالسماع من الخصمين أغنى ذلك عن إعادة الدعوى وإلا فلا بد من إعادتها لديه ولا وجه لاستثناء الحدود والقصاص والمنقول الموصوف والتعليل الذي عللوا به لا ينتهض للمانعية. والحاصل أن العمل في هذا البحث راجع إلى مسألة العمل بالخط وقد ثبت العمل به الأدلة المتكاثرة كما بيناه في رسالة مستقلة فإذا كان خط الحاكم الأول معروفا لدى الحاكم الآخر بحيث لا يعتريه فيه شك ولا شبهة كان ذلك قائما مقام مشافهته وإلا فلا. قوله: "وإقامة فاسق" الخ. أقول: لا ملجيء ها هنا إلى إقامة من لا يؤتمن لا سيما مع اشتراط أن يحضر معه الحاكم أو مأمونه فإن حضور أحدهما يغنى عن حضور الفاسق فإن كان للفاسق مزيد خبرة وكمال

معرفة بذلك المعين وفرضنا أنه لا يوجد في العالم من له مثل حاله فللضرورة إلى إقامته حكمها. قوله: "وإيقاف المدعي حتى يتضح الأمر فيه". أقول: هذا إذا اقتضته المصلحة جائز للحاكم فقد يكون للحاكم في ذلك نظر يعين على تبين الحق واتضاح وجهه. [فصل وحكمه في الإيقاع والظنيات ينفذ ظاهرا وباطنا لا في الوقوع ففي الظاهر فقط إن خالف الباطن ويجوز امتثال ما حكم به من حد وغيره ويحب بأمر الإمام إلا في قطعي يخالف مذهب الممتثل أوالباطن ولا يلزمان الغير اجتهادهما قبل الحكم إلا فيما يقوى به أمر الإمام كالحقوق والشعار لا فيما يخص نفسه ولا في العبادات مطلقا ويجاب كل من المدعيين إلى من طلب والتقديم بالقرعة ويجيب المنكر إلى أي من في البريد ثم الخارج عنه إن عدم فيه] . قوله: "فصل: وحكمه في الإيقاع والظنيات" الخ. أقول: هذا التعرض للمحكوم فيه مع التعرض للفرق بين الإيقاع والوقوع وبين القطعية والظنية كلام قليل التحصيل فإن حكم الحاكم إنما يكون بالمستندات التي ورد الشرع بها وهي ظنية فالحكم بها لا يخرج عن كونه ظنيا ولكنه ورد التعبد بالعمل بهذا الظن وقبوله ووجوب امتثاله ولهذا يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، فتقرر بهذا أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني في إيقاع أو وقوع فلا ينفذ إلا ظاهرا لا باطنا فلا يحل الحرام به ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه ولكنه يجب امتثاله بحكم الشرع ويجبر من امتنع منه فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له به باطل لم يحل له ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق وما أظن المصنف ومن يوافقه يخالفون في هذا وإن استلزمه كلامهم ها هنا ولعل التعرض لمثل هذا شعبة من شعب مذهب الحنفية القائلين بأن حكم الحاكم يحلل الحرام ويحرم الحلال وإن كان في نفس الأمر وفي الواقع على غير الصفة التي وقع الحكم عليها وهذه مقالة باطلة وشبهتها ضاحضة وقد دفعها الله سبحانه في كتابه العزيز بقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] ، ودفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار"، هذا على تقدير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرها والذي في كتبهم تخصيص ذلك

بما عدا الأموال ولا يختلف في هذا من يقول بأن كل مجتهد مصيب ومن لا يقول بذلك لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر وما هو الحكم عند الله عزوجل وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران"، فجعله مصيبا تارة ومخطئا أخرى ولو كان مصيبا دائما لم يصح هذا التقسيم النبوي وبهذا تعرف أن المراد بقول من قال كلا مجتهد مصيب أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي تنافيه. قوله: "ويجوز امتثال ما أمر به" الخ. أقول: لا وجه لهذا بل يجب امتثال ما أمر به من حد أو غيره ولهذا يقول الله عزوجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65] ، فهذه الآية وإن كان الخطاب فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالحاكم الذي سيحكم بين المشتجرين بحكم الله يثبت له مثل هذا الحكم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكره الله في هذه الآية هو الحكم بالشريعة الموجودة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والكتاب والسنة موجودان والحكم بهما متيسر لكل من يفهم كلام الله وكلام رسوله ومن هذا قول الله عزوجل: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] ، والمراد إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله فقوله: {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} يدل على وجوب الامتثال لا على مجرد جوازه والمراد من الامتثال تسليمه نفسه لذلك والرضا به ولا وجه لتعليق الوجوب بأمر الإمام فإن الإمام لا يأمر إلا بما قضى به الشرع فإن خالفه أو أسقط ما أوجبه فليس بإمام بل هو ضال مضل. قوله: "إلا في قطعي يخالف مذهب الممتثل" الخ. أقول: وجه هذا ما ورد في الأدلة من أنه: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وورد: "إنما الطاعة في المعروف" [البخاري "7257"، مسلم "1840"، أحمد "1/94"، أبو داود "2625"، النسائي "7/109"، وورد: "من أمر أن يطيع الله فليطعه ومن أمر أن يعصيه فلا يعصه"، [أحمد "3/67"، ابن ماجة "2863"] ، ولكن لا وجه لاعتبار مذهب الممتثل بل المراد ما هو الحق في الواقع وفي نفس الأمر بدليل الكتاب والسنة وهذه التقييدات وردت مقيدة لطاعة أولي الأمر مع كون الأدلة قد دلت على وجوب طاعتهم كما وردت الأدلة بوجوب امتثال أحكام حكام الشرع فعلى المحكوم عليه بما يخالف ما هو الحق قطعا أو يخالف ما في الواقع وفي نفس الأمر أن يوضح ذلك بغاية ما يقدر عليه فإن أمكنه الفرار فعل ولا ترد عليه الأدلة القاضية بوجوب الامتثال لأنه على يقين بأن الحكم واقع على جهة الغلط ومن شرط عدم جواز الامتثال أن يكون للمحكوم عليه بصيرة يعرف بها الحقيقة لأن من عداه قد يظن الحق باطلا والصواب خطأ لقصور فهمه عن إدراك الحقائق. قوله: "ولا يلزمان الغير اجتهادهما قبل الحكم".

أقول: وجه هذا أن العمل في الخصومات على ما يحكم به الحاكم المترافع إليه إذا كان جامعا لتلك الشروط السابقة وأما العبادات وما يختلف فيه الناس من المعاملات فلهما أن يلزما الناس بالعمل بالراجح الذي دل عليه الدليل الصحيح وترك العمل بالرأي المجرد الذي لا يكون العمل به إلا عند عدم الدليل رخصه للمجتهد فقط لا يجوز تقليده فيه كما قد حققنا هذا البحث في مؤلفاتنا في غير موضع ومن ذلك ما قدمناه في مقدمة هذا الكتاب فإذا كان الإمام والحاكم من العلماء المجتهدين المؤثرين للدليل على القال والقيل والرواية على الرأي فلا شك أن العمل عندهما بالرأي مع وجود الدليل منكر عظيم فمن حق القيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين هما أعظم أعمدة الدين وأهم مهماته أن يأمر الناس بالعمل بالحق الذي أمر الله بالعمل به وشرعه لعباده ونهاهم عن العمل بالباطل الذي لم يأذن الله سبحانه بالعمل به ولا شرعه لعباده فالحاصل أن من أوجب ما يجب على الإمام ومن له قدره أن يحيى ما أحياه الكتاب والسنة ويميت ما أتاه ويدعو الناس إلا ما دعاهم الله ورسوله إليه ونهاهم عما ينهاهم الله ورسوله عنه وبهذا تعرف أن عدم الإلزام في مسائل الخلاف كما يقول كثير من أهل الفروع هو شعبة من محبة التقليد الذي نشأوا عليه ودبوا ودرجوا فيه وحنين منهم إلى الإلف المألوف فليكن هذا منك على ذكر ولعله يأتي له مزيد بيان إن شاء الله عند الكلام على قوله ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه وبهذا تعرف أنه لا وجه للفرق بين ما يقوى به أمر الإمام وبين ما لا يقوى به وبين ما فيه شعار وما لا شعار فيه وبين العبادات وبين المعاملات. قوله: "ويجاب كل من المدعيين إلى من طلب". أقول: وجهه أن المدعي طلب خصمه إلى حكم الله على يد الحاكم الذي طلب الحضور إليه فوجب على خصمه أن يقول سمعنا وأطعنا وهكذا هذا الخصم إذا كان له دعوى على المدعي وطلبه إلى حاكم آخر كان الكلام فيه كالكلام المتقدم لأنه له مثلما عليه ولكن إنما تجب الإجابة بشرطين. الأول: أن يكون الذي طلب إليه جامعا للشروط السابقة وإلا فهو ليس بحاكم بل متوثب على ما ليس له داخل فيما لا يحل له الدخول فيه قاعد في مقعد يجب من باب النهي عن المنكر إقامته منه. الشرط الثاني: أن لا يكون في طلب الوصول إلى الحاكم الذي طلب الوصول إليه بإضرار الخصم واتعاب له إذا كان يمكن وجود غيره بدون ذلك. وما ذكره من التقدم بالقرعة صواب مع الاختلاف وقد قدمنا أنها وردت بها الأحاديث الصحيحة فد دفع خصومات فضلا عن تقدم من تقدم من المدعيين. وأما قوله: "ويجيب المنكر إلى أي من في البريد" إلخ فلا بد من اعتبار الشرطين اللذين ذكرناهما ها هنا.

[فصل وينعزل بالجور وبظهور الارتشاء لا بالبينة عليه إلا من مدعيه فيلفو ما حكم بعده ولو حقا بموت إمامه لا الخمسة وعزله إياه وعزله نفسه من وجه من ولاه وبقيام إمام] . قوله: "فصل: وينعزل بالجور". أقول: وجه هذا الانعزال أنه قد صار بالجور غير عدل والعدالة شرط كما تقدم والشرط يؤثر عدمه في عدم الشروط وهكذا إذا وقع من الحاكم قبول الرشوة فإنه ينعزل لبطلان عدالته بصدور هذه المعصية الكبيرة منه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم"، أخرجه أحمد "2/386، 387، 388"، وأبو داود والترمذي "1336"، وحسنه وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد "2/164، 190، 194، 212"، وأبو داود "3580"، وابن ماجه "2313"، والترمذي "1337"، وصححه من حديث عبد الله بن عمرو وأخرجه أيضا ابن حبان والدارقطني والطبراني وأخرجه أيضا أحمد "5/279"، والحاكم من حديث ثوبان وفي إسناده كما قال ابن حجر ليث بن أبي سليم إنه تفرد به وقال البزار في مجمع الزاوائد إنه أخرجه أحمد "5/279"، والبزار والطبراني في الكبير وفي إسناده أبو الخطاب وهو مجهول انتهى. وأما قوله: "لا بالبينة عليه" الخ فلا وجه له فإن قيام البينة عليه يفيد ثبوت ارتشائه وسواء كان ذلك على جهة الشهادة أو الإخبار وسواء كان هناك من يدعي عليه أم لا وليس الوقوف عند هذه الاعتبارات إلا مجرد تقليد لا أصل له وأما كونه يلغو ما حكم به بعده فهو ثمرة انعزاله فإن العزل حجر له عن إيقاع الأحكام. قوله: "وبموت إمامه". أقول: قد قدمنا في الوقف عند قول المصنف: "وتبطل تولية أصلها الإمام بموته" ما يغني عن إعادته هنا فليرجع إليه. وأما قوله: "وبقيام إمام" فمبني على بطلان الولاية بموت الإمام الأول الذي ولاه وقد قدمنا دفعه فولاية الإمام الذي ولاه باقية لا موجب لبطلانها لا من شرع ولا من عقل. وأما قوله: "أو محتسب" فقد قدمنا الكلام عليه عند قوله: "وولاية من إمام حق أو محتسب". وأما قوله: "وعزله نفسه في وجه من ولاه" فوجهه أن القاضي إذا اختار التخلي عن القضاء والخلوص من تكاليفه كان له ذلك ولكنه إذا لم يأذن له الإمام بذلك كان آثما لوجوب طاعة الأئمة وإذا كان لا يغني عنه غيره كان إثما آثما آخر من هذه الجهة لأنه ترك ما أخذه الله عليه من البيان للناس الذي أوجبه على الذين أوتوا الكتاب وأخذ به ميثاقهم فهو قد ترك واجبين وباء بإثمين.

[فصل ولا ينتقص حكم حاكم إلا بدليل علمي كمخالفة الإجماع ولا بحكم خالفه إلا بمرافعة ومن حكم بخلاف مذهبه عمدا ضمن إن تعذر التدارك وخطأ نفذ في الظني وما جهل كونه قطعيا وتدارك في العكس فإن تعذر غرم من بيت المال وأجرته من مال المصالح ومنصوب الخمسة منه أو ممن في ولايته ولا يأخذ من الصدقة إلا لفقره] . قوله: "فصل: ولا ينتقص حكم حاكم إلا بدليل علمي" الخ. أقول: إذا كان الحاكم الذي حكم جامعا للشروط المتقدمة فقد صار حكمه لازما للمحكوم عليه يجب عليه أن يتلقاه بالسمع والطاعة وأن لا يجد في صدره حرجا من ذلك ويسلم تسليما كما ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز ولكن أهلية الحاكم ليست تعصمة ودين الله هو ما شرعه لعباده في كتابه وسنة رسوله فإن كان هذا الحاكم المتأهل قد أصاب الحق في حكمه فلا شك ولا ريب أنه لا يجوز لمسلم كائنا من كان أن يتعرض لنقض هذا الحكم بل لا يجوز لمسلم أن يترك الامتثال له فضلا عن أن يحاول نقضه ومخالفته ومعنى كونه قد أصاب في حكمه أن يوقعه موافقا لما في كتاب الله أو لما في سنة رسوله فإن لم يجد فيهما ما يقتضي ذلك عول على القياس عليهما بجامع مقبول كالنص على العلة أو عدم الفارق ووجه هذا ما في حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن للقضاء فأمره بالحكم بكتاب الله فإن لم يجد فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد اجتهد رأيه وهو حديث صالح للعمل به كما بيناه في غير هذا الموضع ولا يصلح لنقض حكم الحاكم المتأهل مع وجود دليل يعارض دليله إذا كان ما عمل به صالحا للاحتجاج به لأن ذلك هو فرضه عند تعارض الأدلة أما إذا تبين أن الحاكم المتأهل أخطأ في الحكم فلا يجوز إقرار حكمه بل يجب على الحاكم الآخر نقضه لما قدمنا لك أن مجرد تأهل الحاكم للقضاء ليس يعصمه ولهذا يقول الصادق المصدوق في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران"، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمه مترددا بين الصواب والخطأ فليست الأهلية بعصمة عن الخطأ كما في هذا القول النبوي وذلك بأن يستند في حكمه إلى رأي والدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة موجود فإن الحكم المبني على هذا الرأي منقوض بالدليل الصحيح الذي مضروب به وجه الحاكم لأن شرع الله سبحانه واحد لا يخرج بخطأ الحاكم عن كونه شرعا والتعبد به للعباد ثابت قبل الحكم وبعده في هذا القضية التي حكم فيه الحاكم وغيرها وعلى هذا المحكوم له أو عليه وعلى غيرهما أما إذا كان القاضي المتولي للحكم غير متأهل للقضاء فحكمه باطل من أصله لأنه صادر عن غير حاكم لكنه إذا وافق الحق فقبوله واجب من حيث كونه لا حقا من حيث كونه صادرا عن غير من يصلح للقضاء لأن الحق حق في

نفسه لا يخرج بحكم من ليس بمتأهل للقضاء عن كونه حقا وإن كان القاضي الذي ليس بمتأهل آثما لأنه قضى بالحق وهو لا يعلم به فهو أحد قاضيي النار كما تقدم في الحديث لأنه لا يعرف كون الحكم الذي حكم به حقا أو باطلا إذ هو لا يتعقل الحجة فضلا عن أن يحكم بها بين الناس. وإذا تقرر لك هذا عرفت أن مرجع لزوم حكم الحاكم ووجوب امتثاله وتحريم نقضه يرجع إلى كونه مطابقا للحق وعدم لزومه وجواز نقضه يرجع إلى كونه مخالفا للحق ومثل هذه الموافقة والمخالفة لا تخفى على المحققين من أهل العلم المشتغلين بأدلة الكتاب والسنة ولن يخلي الرب عزوجل عباده وبلاده عن وجود من يقوم بالبيان لما في الكتاب والسنة ويرشد العباد إلى ما اشتملا عليه مما عليه مما شرعه لهم وبهذا تعرف أن ما خالف الدليل القطعي أو خالف إجماع المسلمين من الأحكام كان أولى بالنقض وأحق بعدم وجوب الامتثال. وأما قوله: "ولا بحكم خالفه إلا بمرافعة" فقد قررنا لك فيما سبق أن التحكيم جار مجرى إلزام النفس بالقبول لما حكم به فلا يجوز الرجوع عنه ولا يحل لحاكم أن يتعرض لنقضه لكنه إذا وقع على خلاف الحق وخرج عن صوب الصواب فمعلوم أن من حكمه إنما حكمه أن يحكم له أو عليه بالشرع فالتزامه منصرف إلى هذا لا إلى مجرد ما حكم به على أي صفة وقع وإن خالف الشريعة الواضحة فالكلام ها هنا كالكلام في حكم الحاكم وقد عرفته. قوله: "ومن حكم بخلاف مذهبه عمدا ضمن". أقول: إذا حكم الحاكم بخلاف الحق فقد جار وبجوره تبطل ولايته كما تقدم ولا مذهب للمجتهد إلا ما بلغت إليه قدرته من النظر في الأدلة والجمع بينها أو ترجيح الراجح منها فإن حكم بغير ما يصح له اجتهادا عمدا فقد حكم بالباطل وهو يعلم بأنه باطل وكفى بهذه الجراءة والجسارة والمخالفة لما أمر الله به فإن تلف ما حكم به باطلا وتعذر الرجوع على من أتلفه ضمنه القاضي لأنه قد تسبب بسبب متعد فيه عامدا معاندا لشرع الله مضادا للحق. وأما غير المتأهل فليس حكمه بشيء إلا إذا وافق الحق لكن صحته إنما هي لكونه وافق الحق كما قدمنا وأما إذا حكم بخلاف الحق عامدا على فرض أنه قد اعتقد اعتقادا جهل أن الحق هو كذا فهذا يضمن من هذه الحيثية إذا تعذر رجوع العين المحكوم بها ورجوع قيمتها. وأما قوله: "وخطأ نفذ في الظنى وما جهل كونه قطعيا" فالكلام في هذا هو ما قدمنا تحريره وتقريره فلا نعيده. قوله: "فإن تعذر غرم من بيت المال". أقول: الحاكم معذور بالخطأ وقد قدمنا أن تأهله ليس يعصمه عن الخطأ فإذا حكم بخلاف الحق خطأ فلا ضمان عليه بل له أجر كما تقدم في الحديث الصحيح ولكنه ها هنا

قد كان حكمه هذا الواقع على جهة الخطأ سببا لذهاب مال المحكوم عليه فهو مظلوم ورفع ظلامته واجب وقد تعذر الرجوع بالعين والرجوع بقيمتها على المحكوم له ولم يتعلق بالحاكم الضمان ولا يجوز تضمينه مع الخطأ فلم يبق إلا جبر ما لحقه من الخسر من بيت المال فيكون له حكم الغارم وقد تكفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أيام النبوة بعد أن فتح الله على المسلمين بأن من ترك دينا أو ضياعا فهو عليه وإليه كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة فمال هذا المحكوم عليه بالخطأ هو دين على من استفرقه وقد تعذر الرجوع عليه فكان دينا على بيت مال المسلمين. قوله: "وأجرته من مال المصالح". أقول: قد ثبت ثبوتا لا شك فيه ولا شبهة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجعل لمن عمل عملا يرجع إلى مصالح المسلمين رزقا ومن ذلك أرزاق المصدقين والأمراء الذين يؤمرهم على البلاد وهكذا ثبت في أيام الخلفاء الراشدين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"، أنهم كانوا يجعلون للولاة والقضاة ومن يعمل في الصدقات رزقا من بيت مال المسلمين وكان يفرضون للأئمة رزقا يقوم بما يحتاجون إليه مع حاجتهم إلى ذلك وعدم وجود ما يقوم بمؤنتهم من خالص أموالهم ولا شك أن انتصاب القاضي المفتي للفتيا قيام بمصلحة عامة فله نصيب في بيت مال المسلمين من هذه الحيثية وليس ذلك بأجرة على واجب بل ثبوت حق له في بيت مال المسلمين وقد كان الصحابة يأخذون عطاءهم من بيت المال وإن لم يلوا عملا كما هو معلوم فكيف إذا قاموا مع ذلك بما لم يقم به سائر المسلمين وقد جعل الله سبحانه العاملين على الصدقة أحد الأصناف الثمانية المستحقين لها ولا سبب لذلك إلا ما فعلوه من العمل وهكذا منصوب الخمسة بل وكل ذي ولاية دينية راجعة إلى القيام بمصالح المسلمين. وأما قوله: "أو ممن بلد ولايته" فلا بد من حمله على أنهم يدفعون إليه من أموال الله التي بأيديهم لا أنهم يدفعون إليه من خالص أموالهم فإن ذلك لا مساغ له في الشرع. وأما كونه لا يأخذ من الصدقة إلا لفقره فقد قدمنا في الزكاة الكلام على الأصناف التي يشترط فيها الفقر والأصناف التي لا يشترط فيها الفقر فارجع إليه. وأما سائر الأموال التي هي معدودة في بيت مال المسلمين فلا يشترط بها فقر القاضي ولا غيره وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك"، [البخاري "3/337"، مسلم "1045"] ، بعد أن قال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطيه من هو أحوج إليه منه وقد كان الصحابة يأخذون من العطاء الألوف المؤلفة كما هو معلوم بل كان الحسنان وعبد الله بن جعفر وأمثالهم يأخذون المائة الألف وما هو أكثر منها.

كتاب الحدود

كتاب الحدود مدخل ... كتاب الحدود [فصل تجب إقامتها في غير المسجد على الإمام وواليه إن وقع سببها في زمن ومكان يليه وله إسقاطها وتأخيرها لمصلحة وفي القصاص نظر ويحد العبد حيث لا إمام سيده والبينة إلى الحاكم] . قوله: "يجب إقامتها في غير مسجد على الإمام وواليه". أقول: أما كونها تقام في غير مسجد فقد ثبت في الصحيح [مسلم "20/1694"] ، أنهم خرجوا بماعز إلى البقيع وأخرج أحمد "3/434"، وأبو داود "4490"، والحاكم وابن السكن والدا رقطني والبيهقي من حديث حكيم بن حزام النهي عن إقامة الحدود في المساجد قال ابن حجر ولا بأس بإسناده وأخرجه الترمذي "1401"، وابن ماجة "3599"، من حديث ابن عباس قال ابن حجر وفيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وأخرجه البزار من حديث جبير بن مطعم قال ابن حجر وفيه الواقدي ورواه ابن ماجة "2600"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ نهى أن يجلد الحد في المسجد قال ابن حجر وفيه ابن لهيعة انتهى. ولا يخفاك أن هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا فتقوم بها الحجة لا سيما مع تجنبه صلى الله عليه وسلم لإقامة الحدود في المسجد ولم يثبت عنه أنه أقام حدا في المسجد قط. وأما كونه يجب إقامة الحدود على الإمام وواليه فوجهه واضح ظاهر لأن الله سبحانه قد أمر عباده بإقامة الحدود وقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، وقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وقال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] ، الآية والتكليف في هذا وإن كان متوجها إلى جميع المسلمين ولكن الأئمة من يلي من جهتهم ومن له قدرة على تنفيذ حدود الله مع عدم وجود الإمام يدخلون في هذا التكليف دخولا أوليا ويتوجه إليهم الخطاب توجها كاملا. ومما يدل على تأكد الوجوب ما ثبت في صحيح مسلم "1688"، وغيره أحمد "6/162"، من حديث عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أسامة لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل"، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: "إنما أهلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت

فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"، فقطع يد المخزومية ومن هذا حديث: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله عزوجل في أمره"، أخرجه أحمد "3585، 5544"، وأبو داود "3597"، والحاكم وصححه من حديث ابن عمر ومن ذلك حديث: "ما بلغني من حد فقد وجب"، أخرجه أبو داود 4376"،والنسائي "4886"، من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص وفي الباب أحاديث دالة على عدم جواز إسقاط الحدود وعدم جواز الشفاعة فيها وأحاديث قاضية بالترغيب في إقامتها والترهيب عن إهمالها. قوله: "إن وقع سببها في زمن ومكان يليه". أقول: هذا مبني على أن الحدود إلى الأئمة وأنه لا يقيمها غيرهم على من وجبت عليه وليس على هذا أثارة من علم وما استدلوا به من المروي بلفظ: "أربعة إلى الأئمة" فلا أصل له ولا يثبت بوجه من الوجوه بل هو مروي من قول بعض السلف ولا شك أن الإمام ومن يلي من جهته هم أولى من غيرهم كما قدمنا. وأما أنه يقيمها إلا الأئمة وأنها ساقطة إذا وقعت في غير زمن إمام أو في غير مكان يليه فالباطل وإسقاط لما أوجبه الله من الحدود في كتابه والإسلام موجود والكتاب والسنة موجودان وأهل الصلاح والعلم موجودون فكيف تهمل حدود الشرع بمجرد عدم وجود واحد من المسلمين ومع هذا فلا يعدم من له ولاية من إمام أو سلطان أو متول من جهة أحدهما أو منتصب بالصلاحية في كل قطر من أقطار المسلمين وإن خلا عن ذلك بعض البادية لم تخل الحاضرة. قوله: "وله إسقاطها". أقول: الإمام عبد من عباد الله سبحانه أنعم عليه بأن جعل يده فوق أيديهم وجعل أمره نافذا عليهم وأهم ما يجب عليه العمل بما شرعه الله لعباده وحمل الناس عليه وتنجيز ما أمر الله به ومن أعظم ما شرعه لهم وعليهم إقامة الحدود فكيف يقال إن لهذا العبد المنعم عليه أن يبطل ما أمر الله به ويهمل ما الله لعباده وأمرهم بأن يفعلوه وورد عن نبيه صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد على من تسبب لإسقاط الحد بشفاعة أو نحوها. فالحاصل أن الإمام والسلطان لهم الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان يقيم الحدود على من وجبت عليه ولم يسمع عنه أنه أهمل حدا بعد وجوبه ورفعه إليه وليس الاستثبات بإسقاط ولا من أسبابه وهكذا ليس درء الحد بالشبهة من ذلك ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تركتموه"، في قصة ما عز فإنه مبني على أن الحد يدرأ بالشبهة وأما ما عزا لما قال: "إن قومه غروه وخدعوه" كان ذلك شبهة له وبهذا تعرف أنه ليس للإمام إسقاط ما أوجبه الله إلا ببرهان من الله لا من جهة نفسه فإنه لم يفوض إليه ذلك ولا من عهدته ولا مما له مدخل فيه فإن فعل فهو معاند لله ولرسوله مضاد له خارج عن طاعته

تارك للقيام بما أمره به وهكذا ليس له تأخير ما قد وجب ولا التثبيط عما قد ثبت فإنه عبد مكلف مأمور منهى ليس بمعصوم ولا شارع. وأما قوله: "وفي القصاص نظر" فهذا النظر لا وجه له بل الأمر أوضح من أن يحتاج النظر والحق لآدمي والإمام مأمور بإنصاف المظلوم وإيصاله بما ظلم به والأخذ على يد الظالم فالتأخير رجوع إلى نوع من أنواع المناسب المهلة كما هو معروف في كتب الأصول وهكذا ما تقدم من تجويز إسقاط الحد وتأخيره لمصلحة فله تأثير لذلك النوع من أنواع المناسب على ما في الكتاب والسنة وهكذا فليكن تأثير محض الرأي على الشرع الواضح. قوله: "ويحد العبد حيث لا إمام سيده". أقول: قد ثبت السنة الصحيحة بأن الأمة إذا زنت فليحدها سيدها كما في الصحيحين [البخاري "4/369، 4/421، 5/178، 12/162"، مسلم "1703"] ، وغيرهما [الترمذي "1440"، أبو داود "4469، 4470، 4471"، ابن ماجة 2565"] ، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد وأخرج مسلم في صحيحه "34/1705"، وأحمد "1/95"، وأبو داود "4473"، والحاكم والبيهقي من حديث علي مرفوعا: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"، فحد الأرقاء إلى المالكين لهم ليس إلى الأمام من ذلك شيء ولا فرق بين وجوده وعدمه ولا وجه لجعل البينة إلى الحاكم بل الأمر في ذلك إلى السيد ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها"، فإن المراد تبين للسيد أنها زنت ولا يكون ذلك إلا بمستند صالح لإقامة الحد وقد كانت إقامة الحدود على الأرقاء من المالكين لهم شائعة في الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح لا ينكر ذلك أحد منهم. [فصل والزنا وما في حكمه إيلاج فرج في فرج حي محرم قبل أو دبر بلا شبهة ولو بهيمة فيكره أكلها ومتى ثبت بإقراره مفصلا في أربعة من مجالسه عند من إليه الحد أو بشهادة أربعة عدول أو ذميين على ذمي ولو مفترقين واتفقوا على إقراره كما مر أو على حقيقته ومكانه ووقته وكيفيته جلد المكلف المختار غالبا ولو معقولا أوقع غير مكلف صالح للوطء أو قد تاب وقدم عهده الحر البكر مائة وينصف للعبد ويححص للمكاتب ويسقط الكسر والرجل قائما والمرأة اعدة مستترين بما هو بين الرقيق والغليظ بسوط أو عود بينهما وبين الحديد والعتيق خلي من العقود ويتوقى الوجه والمراق ويمهل حتى تزول شدة الحر والبرر والمرض والمرجو وإلا فبعثكول تباشره كل ذيوله ان احتملها وأشدها التعزير ثم حد الزنا ثم القذف ولا تغريب] .

قوله: "فصل: والزنا إيلاج فرج في فرج" الخ. أقول: هذا هو الزنا الشرعي الذي يجب به الحد وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن أقر بالزنا لديه: "أنكتها؟ "، قال: نعم قال: "كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ " قال: نعم, هكذا في حديث أخرجه النسائي "4/276، 277"، والدارقطني من حديث أبي هريرة. وقوله: "أو من دبر" يشمل عمل من عمل قوم لوط إذا وقع منه الإيلاج المذكور وجب عليه الحد البكر بجلد والمحصن يرجم ولكنه قد ورد ما يدل على قتل من عمل هذا العمل ومن عمل به فأخرج أحمد "1/300"، وأبو داود "4462"، وابن ماجة "2561"، والترمذي "1456"، والحاكم والبيهقي من حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به"، قال ابن حجر رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا وقال الترمذي إنما يعرف هذا الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الوجه وروى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو قال: "ملعون من عمل عمل قوم لوط" ولم يذكر القتل انتهى وقال يحيى بن معين عمرو بن أبي عمر مولى المطلب ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به"، انتهى وقد احتج البخاري ومسلم وغيرهما بأحاديث عمرو بن أبي عمرو. وفي الباب عن أبي هريرة عند ابن ماجة والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا"، وفي إسناده ضعيف قال ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى وفيه بشر بن الفضل البجلي وهو مجهول وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه وقد قتل اللوطي في زمن الخلفاء الراشدين وأجمعوا على ذلك ولا يضر اختلاف صفة القتل وذهب إلى ذلك جماعة من العلماء. قوله: "بلا شبهة". أقول: وجه هذا ما أخرجه ابن ماجة "2545"، من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا"، وفي إسناده إبراهيم ابن الفضل وهو ضعيف وأخرج الترمذي والحاكم والبيهقي من حديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطيء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة"، وفي إسناده يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف وقد روي الدرء بالشبهات من غير هاتين الطريقتين مرفوعا وموقوفا والجميع يصلح للاحتجاج به لا سيما والأصل في الدماء ونحوها العصمة فلا تستباح مع وجود ما يدل على سقوط الحد.

وأما الاستدلال بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو كنت راجما أحدا بغير بينة رجمت فلانة"، كما في الصحيحين [البخاري "5310"، مسلم "1497"، وغيرهما ابن ماجة "2560"، فليس فيه إلا اشتراط البينة وعدم جواز الحد بدونها كالقرائن القوية وليس هذا من درء الحد بالشبهة لأنه لم يكن قد حصل المقتضي للحد وهو البينة كما لا يخفى. قوله: "ولو في بهيمة فيكره أكلها". أقول: إيجاب الحد على الناكح للبهيمة وجهه أنه يصدق عليه الحد الذي ذكره في أول هذا الفصل ولكنه قد ورد ما يدل على أنه يقتل كما في حديث ابن عباس عند أحمد "1/269"، وأبي داود "4464"، والترمذي "1455"، والنسائي "4/322"، وابن ماجة "2564"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة"، قال الترمذي "4/57"، بعد إخراجه هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه سفيان الثوري عن عاصم بن أبي رزين عن ابن عباس أنه قال: "من أتى بهيمة فلا حد عليه"، حدثنا بذلك محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان وهو أصح من الحديث الأول والعمل على هذا عند أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق انتهى ولفظ ابن ماجة في هذا الحديث عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقع على ذات محرم فاقتلوه ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة"، وهو من غير طريق عمرو بن أبي عمرو وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل وفيه مقال ولكنه قد وثقه أحمد. ولا يخفاك أن عصمة الدم بالإسلام لا ينقل عنها إلا ناقل تطمئن به النفس وينشرح له الصدر بخلاف ما تقدم فيمن عمل عمل قوم لوط فإن عمل الخلفاء الراشدين عليه وعدم الاختلاف بينهم فيه قد عضد ما ورد من القتل على فاعله ودل أبلغ دلالة على أنه شرع ثابت وأما كراهة أكل البهيمة فلم يثبت ما يدل عليه والأمر بقتلها لا ينافي جواز أكلها إذا كانت مما تؤكل. قوله: "ومتى ثبت بإقراره مفصلا" الخ. أقول: الأصل في دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم أنها معصومة بعصمة الإسلام كما صرحت بذلك أدلة الكتاب والسنة المتواترة فإذا ثبت في الشريعة ما يوجب ذهاب هذه العصمة بحقه كما في الحديث الصحيح [البخاري "6878"، مسلم "25/1676"، أبو دالود "4352"، أحمد "1/382"، ابن ماجة "2534"، أنه: "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث"، كان الواجب الوقوف على ذلك الناقل ومن جملة ما ينقل عن هذه العصمة الاعتراف بالزنا من البكر والمحصن وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم في غير موضع بالإقرار مرة فلو كان الإقرار أربعا شرطا لا تحل تلك العصمة إلا به لم يقم صلى الله عليه وسلم حدا على من أقر مرة واحدة. وأما تثبته صلى الله عليه وسلم في أمر ماعز حتى أقر أربع مرات فقد شهدت قصته بأن النبي صلى الله عليه وسلم شك في صحة عقله وسأل قومه ومن ذلك ما أخرجه مسلم "23/1695"، وغيره من حديث عبد الله بن

بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني فرده فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت فرده الثانية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال: "هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟ " فقالوا ما نعلمه إلا وفي العقل من صالحينا فيما نرى فأتاه الثالثة فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله فلما كان الرابعة حفر له حفرة الحديث. ومما يدل على أن أمر ماعز ف تكرر حضوره وإقراره لم يكن إلا للتثبيت لا لما يقتضيه الشرع من تكرر الإقرار ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن بريدة أن الغامدية قالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وأنه ردها فلما كان من الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا الحديث واكتفى منها بالإقرار مرة واحدة فهذه امرأة محل النقص في عقلها ودينها فلو كان الإقرار أربعا لا بد منه لم يكثف منها بالإقرار ثم قولها لم تردني كما رددت ماعزا يفيد أن المألوف المعروف عندها وعند غيرها عدم اشتراط تكرر الإقرار ولو كان ذلك شرطا لم تستنكر ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من رد ماعز. إذا تقرر لك هذا علمت أنه يكفي في عدم اشتراط تكرر الإقرار أربعا ولم يكن في يد المشترط إلا ما وقع في قصة ماعز وقد عرفت سببه فمن زعم أنه يشترط أنه لا يقام الحد إلا بعد هذا الإقرار المكرر فعليه الدليل وهو لا يجد إلى ذلك سبيلا فإن تبرع بالدليل القائل بأنه يكفي الإقرار مرة واحدة فمن جملة ذلك ما ثبت في الصحيحين [البخاري "2696، 2696، 6827، 6828، 7193، 7278، 7279"، مسلم "1697، 1698] ، وغيرهما [ابو داود "4445"، النسائي "8/240، 241"، ابن ماجة "2549"، أحمد "4/115، 116"، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، فرتب الرجم على مطلق الاعتراف الواقع عند رسوله وفوضه في إقامة الحد عليها ومن ذلك ما ثبت عند مسلم وأهل السنن من حديث عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم امرأة من جهينة ولم تقر إلا مرة واحدة ومن ذلك ما تقدم من إقرار الغامدية مرة واحدة ومن ذلك حديث الذي أقر بأنه زنا بامرأة فجحدت فحده وتركها وهو في سنن أبي داود ومن ذلك حديث علي عند أحمد وغيره قال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد وليس في ذلك أنها أقرت أربع مرات وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال ومن ذلك ما في الصحيحين [البخاري "6839"، مسلم ط30/1703"، وغيرهما من أمره صلى الله عليه وسلم السيد أن يقيم الحد على أمته إذا زنت وليس فيه أنه لا يقيم الحد عليها إلا بعد إقرارها أربع مرات. وأما الاستدلال بالقياس على شهادة الزنا فهو قياس فاسد الاعتبار لمخالفته للأدلة وهو أيضا قياس مع الفارق وهو أن إقرار الإنسان على نفسه لا تبقى فيه شبهة ولا يخالج السامع عنده تهمة بخلاف قيام الشهادة عليه مع إنكاره ومن هذه الحيثية وقع الاكتفاء في الأموال بمجرد إقرار المقر مع أن الشهادة لا بد أن تكون من رجلين أو من يقوم مقامهما.

وبمجموع ما ذكرناه يتضح لك أن الإقرار بالزنا مرة واحدة يوجب الحد من غير فرق بين الرجم والجلد وأما إيجاب تكرر الأيمان في اللعان أربعا فوجهه أنها قائمة مقام الشهادة ولهذا سماها الله سبحانه شهادة وليست من الإقرار في شيء. قوله: "وشهادة أربعة عدول". أقول: أما اشتراط أن يكونوا أربعة فهو نص القرآن الكريم ونص السنة المتواترة وعليه أجمع أهل الإسلام. وأما قوله: "أو ذميين على ذمي" فوجهه أنا مأمورون إذا ترفعوا إلينا بإجراء حكم الله عزوجل بينهم ومن حكم الله قبول شهادة بعضهم على بعض وإقامة حد الله عليهم وقد أقامه صلى الله عليه وسلم على اليهودي واليهودية كما في القصة الثابتة في الصحيحين [البخاري ""6841"، مسلم "26/1699"] ، وغيرهما [أبو داود " 4446"، الترمذي "1436"] ، وفي رواية عند أبي داود "4452"، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالأربعة الشهود منهم فشهدوا فرجمهما. وأما قوله: "ولو مفترقين" فوجهه أنه لم يرد ما يدل على اشتراط الاجتماع. وأما قوله: "قد اتفقوا على إقراره أو على حقيقته" الخ فوجهه ظاهر وهو مجمع عليه. قوله: "جلد المكلف المختار". أقول: وجه اشتراط التكليف أن الصبي والمجنون لا يجري عليهما أحكام المكلفين كما تقدم تقريره ولهذا كرر صلى الله عليه وسلم الاستثبات في أمر ماعز وقال له: "أبك جنون؟ "، [البخاري "6815، 6825"، مسلم "16/1691"] ، وسأل قومه عن عقله وفي رواية [مسلم "22/1695"، أبو داود "4433"] ، أن استنكهه هل يجد به رائحة للخمر فأفاد ذلك أنه لا بد من كمال العقل وأن نقصانه ولو بسبب لا يجوز كالسكر يكون شبهة يدرأ بها عنه الحد ولا فرق بين أن يكون فاعلا أو مفعولا كما تقدم في الأحاديث من إقامة الحد على الرجال والنساء وعلى الفاعل والمفعول به في عمل قوم لوط وإذا كان المفعول به صالحا للوطء وجب الحد على الفاعل به وإن كان الحد ساقطا عن المفعول به لصغره فإنه لا يلزم مثلا من سقوط الحد على الصغيرة التي تصلح للوطء أن لا يقام الحد على الزاني بها المكلف لأنه قد فعل بها ما يصدق عليه الزنا وإن لم يصدق ذلك عليها. وأما قوله: "وإن تاب أو قدم عهده" فوجهه أن الحد بعد رفعه لا يسقط بالتوبة ولا يتقادم عهده لأنه قد وجب بسببه فلا يسقط بمسقط شرعي ولا مسقط هنا. قوله: "الحر البكر مائة". أقول: هذا هو الذي تطابقت عليه أدلة الكتاب والسنة ولم يختلف فيه المسلمون سابقهم ولا حقهم كما هو معلوم. وأما قوله: "وينصف للعبد" فقد ورد التنصيف في القرآن الكريم للإماء قال الله عزوجل: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] ، وإلحاق العبيد بالإماء بعدم الفارق

بين النوعين ويؤيد كون حد المماليك خمسين ما أخرجه أحمد في المسند "1/95"، عن علي قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد قال فوجدتها في دمها فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال لي: "إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين"، وأصل الحديث في صحيح مسلم بدون ذكر الخمسين وأخرج مالك في الموطأ عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا وروى ابن وهب عن ابن جريح عن عمرو بن دينار أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تجلد وليدتها إذا زنت خمسين. وأما ما روى عن ابن عباس أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكا بقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] ، فقد أجيب عنه بأن لفظ الإحصان محتمل للإسلام والبلوغ والتزوج ويرد عليه ما قدمنا من أمر السيد أن يجلد أمته وهو في الصحيحين وغيرهما وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا خطب فقال: يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن. وأما قوله: "ويحصص للمكاتب" فقد تقدم الكلام عليه في بابه. قوله: "الرجل قائما والمرأة قاعدة". أقول: لم يثبت ما يدل على هذا وإن كان القيام أقرب إلى أن يقع الجلد على جميع البدن وهكذا قعود المرأة هو أستر لها وأبعد من انكشاف شيء منها وأما الحفر للمرجوم فسيأتي الكلام فيه وأما كونهما مستترين بين الرقيق والغليظ فالمقصود أن المجلود يكون لابسا للثياب التي جرت عادة الناس بلبسها فلا يعدل إلى ما هو غاية في الغلظ ولا يكلف بما هو غاية في الرقة. وأما قوله: "بسوط أو عود بينهما" الخ فقد ورد في هذه الصفة مرسلات منها عن زيد بن أسلم عند مالك في الموطأ أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال: "فوق هذا"، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: "بين هذين" فأتي بسوط قد لان وركب وركب به فأمر فجلد وفي معناه مرسل آخر أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير ومرسل ثالث أخرجه ابن وهب من طريق كريب مولى ابن عباس. قوله: "ويتوقى الوجه والمراق". أقول: أما توقى الوجه فقد ورد الأمر به على العموم فيدخل الجلد في ذلك وهذا الأمر بالتوقي للوجه ثابت في الصحيحين [البخاري "2559"، مسلم "113/2612"، وغيرهما [أحمد "2/327، 337"] ، وأما توقي المراق فلم يرد في ذلك شيء بل من جملة ما ينبغي وقوع الضرب عليه إلا إذا كان يحصل بالضرب عليها زيادة تضرر وتألم. قوله: "ويمهل حتى تزول شدة الحر" الخ.

أقول: إذا كانت هذه الشدة في الحر والبرد قد بلغت إلى مبلغ يكون في تأثيرها مشابهة للمرض فهي نوع من المرض وإن لم تكن هكذا فلا وجه للإمهال فإن كثيرا من البلاد يتناوبها الشدتان شدة الحر وشدة البرد في جميع أيام السنة وأما الإمهال للمرض المرجو زواله فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره قصة الأمة التي زنت فأمر عليا أن يجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشي أن تموت إن جلدها فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركها حتى تتماثل وقد تقدم. وأما قوله: "وإلا فبعثكول تباشره كل ذيوله" فوجهه قول الله عز وجل لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاْضْرِبْ بِهِ} وقد فعل ذلك في زمن النبوة فأخرج الشافعي وأحمد "16/99"، وأبو داود "4472"، وابن ماجة 2574"، والبيهقي من حديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال: "اضربوه حده"، فقالوا يا رسول الله إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال: "خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه به ضربة واحدة"، ففعلوا وهو مرسل وقد رواه أبو أمامة بن سهل عن جماعة من الصحابة ولم يكن في هذا الحديث ما يدل على اشتراط مباشرة كل ذيل من ذيول العثكول فيكفي مطلق الضرب خروجا من واجب الحد ورفقا بالمحدود المبتلي بالمرض. وأما قوله إن احتمله فوجهه ظاهر لأنه إذا لم يحتمله كان ذلك عذرا في ترك الحد فإن عاش أقيم عليه. قوله: "وأشدها التعزير" الخ. أقول: الحدود على اختلاف أنواعها قد شرع الله فيها ما شرعه من جلد ورجم وقطع وقتل فينبغي أن يكون على الصفة الواردة من غير مخالفة فدعوى أن بعضها أشد من بعض لا دليل عليها ولا ورد ما يرشد إليها. قوله: "ولا تغريبت". أقول: هذا رد للسنة الصحيحة الثابتة في الصحيحين [البخاري "2695، 2696، 6827، 6828، 7193، 7194، 7278، 7279"، مسلم "25/1697، 1698"] ، [أبو داود "4445"، النسائي "8/240، 241"، الترمذي "1433"، ابن ماجة "2549"، أحمد 4/115، 116"] ، وغيرهما من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام"، وبهذا عمل الخلفاء الراشدون فالعجب من التمسك في مقابل هذا الدليل الذي هو كشمس النهار وكالجبال الراسية بقولهم إن التغريب لم يذكر في آية الجلد فيا لله العجب فإنه إذا لم يذكر فيها فقد ذكره من بعثه الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم ومثل هذا الاستدلال الفاسد استدلال من استدل بأنه لم يذكر في حديث جلد الإماء ونحوه.

[فصل ومن ثبت إحصانه بإقراره أو شهادة عدلين ولو رجل وامرأتين وهو جماع في قبل في نكاح صحيح من مكلف حر مع عاقل صالح للوطء ولو صغيرا رجم المكلف بعد الجلد حتى يموت ويقدم الشهود وفي الإقرار الإمام أو مأموره فإن تعذر من الشهود سقط ويترك من لجأ إلى الحرم ولا يطعم حتى يخرج فإن ارتكب فيه أخرج ولا إمهال لكن تستبريء كالأمة للوطء ويترك للرضاع إلى الفصال أو آخر الحضانة إن عدم مثلها. وندب تلقين ما يسقط الحد والحفرة إلى سرة الرجل وثدي المرأة وللمرء قتل من وجد مع زوجته وأمته وولده حال الفعل لا بعده فيقاد بالبكر] . قوله: "فصل: ومن ثبت إحصانه" الخ. أقول: المعتبر هو ثبوت الإحصان الشرعي بطريق شرعية ولا يكون إلا لمكلف لرفع القلم عن غيره ولا بد أن تكون المنكوحة صالحة للوطء فإذا حصل هذا فقد ثبت الإحصان وأما اشتراط كونه في نكاح صحيح لا فاسد ولا باطل فلا دليل على هذا الاشتراط وقد عرفناك أن كثير من هذه الأوصاف الراجعة إلى الصحة والبطلان والفساد مجرد دعاوى مبنية على الخيالات التي هي أوهن من بيت العنكبوت فالمراد وجود ما يصدق عليه مسمى الإحصان وهو حاصل بوجود النكاح الشرعي ولا يشترط أن يكون في حال الزنا مستمرا على النكاح بل المراد وقوع النكاح ولو مضت مدة طويلة بعد المفارقة للزوجة لأنه يصدق على هذا الذي نكح في زمان من عمره أنه محصن شرعا ولهذا اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد سؤال ماعز عن كونه قد أحصن فعال نعم فاكتفى بذلك ولم يقل له هل تحتك حال الزنا زوجة وقد عرفت أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يترتب عليه سفك دم امرىء مسلم. قوله: "رجم المكلف" الخ. أقول: ثبوت الرجم للزاني المحصن في هذه الشريعة ثابت بكتاب الله سبحانه وبمتواتر سنة رسوله وبإجماع المسلمين أجمعين سابقهم ولا حقهم ولم يسمع بمخالف خالف في ذلك من طوائف المسلمين إلا ما يروى عن الخوارج وهم كلاب النار وليسوا ممن يعتد بخلافهم ولا يلتفت إلى أقوالهم وقد وصفهم صلى الله عليه وسلم: "أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، [أبو داود "4765"] ، وقد شد ممن عضدهم في هذا البحث المحقق الجلال كما هي عادته في تصلبه بل تصلفه معهم ومع كل نزاع المخالفين للشريعة الواضحة الظاهرة التي ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها إلى جاحد كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الصحيحين [البخاري "6830"، مسلم "15/1691"] ، وغيرهما [أبو داود "4418"، التلرمذي "1432"، ابن ماجة "2553"] ، من طرق أن عمر بن الخطاب خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: إن الرجم ثابت بكتاب الله وأنه رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ورجموا بعده, وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف الثابتة في الصحيحين: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله"، ثم ذكر في القصة قوله لأنيس: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، فم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح [مسلم "12/1690"] ، أنه قال: "قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، ولا يخفاك أن نسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم بلا خلاف وهب أنه لم يثبت الرجم في الكتاب فكان ماذا فقد ثبت بالسنة المتواترة التي لا يشك فيها من له أدنى اطلاع وفعله رسول الله صلى الله غير مرة وفعله الخلفاء الراشدون فيا لله العجب من الإنتصار للمبتدعين على كتاب الله سبحانه وعلى سنة رسوله وعلى جميع الأمة المحمدية ودفع الأدلة الثابتة بالضرورة الشرعية لقول قاله مخذول من مخذولي كلاب النار الذين يمرقون من الدين ولا يجاوز إيمانهم ولا عبادتهم تراقيهم والأمر لله العلي الكبير. قوله: "بعد جلده". أقول: عدم ذكر الجلد مع الرجم في قصة ماعز لا يدل على العدم كما هو معلوم لكل عاقل وعلى تقدير أنه صلى الله عليه وسلم ترك الجلد في هذه القضية الفعلية فالمحامل لذلك كثيرة جدا ولا سيما مع ثبوت مشروعية الجمع بينهما للمحصن بالقول الذي هو أقوى دلالة وأعلى حجة كما أخرجه مسلم "12/1960"، وأهل السنن [أبو داود "4415"، ابن ماجة "2250"، الترمذي "1434"] ، من حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني, خذوا عني, قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم"، فهذا مقام قامه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس مبينا لهم ما نزل إليهم موضحا لهم ما شرعه الله لهم وقد وقع الجمع بين الجلد والرجم من الخلفاء الراشدين ولم ينكر ذلك أحد كما أخرجه أحمد "2/30" والنسائي "4/269، 270"، والحاكم عن الشعبي قال كان لشراحة زوج غائب بالشام وأنه حملت فجاء بها مولاها إلى علي بن أبي طالب وقال إن هذه زنت واعترفت فجلدها يوم الخميس مائة ورجمها يوم الجمعة وحفر لها إلى السرة إلى آخر الحديث وهو في صحيح البخاري بدون ذكر الحفر ومع هذا فالقرآن الكريم يدل على وجوب الجلد لكل زان وزانية قال الله عزوجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] ، ولم يذكر أن هذا الحكم مختص بالبكر بل ثبت في الكتاب والسنة أن على المحصن زيادة على الجلد وهي الرجم فالحق قول من يقول بالجمع بين الجلد والرجم. قوله: "وتقدم الشهود" الخ. أقول: استدلوا على ذلك بحديث الشعبي عن علي في رجم شراحة فإن فيه بعد قوله وحفر لها ثم قال يعني عليا إن الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت فأنا أول من رماها فرماها بحجر ثم رمى الناس وهذا يبعد أن يقوله على من جهة الرأي ولكن يغني عن رجم الإمام رجم من يبعثه من المسلمين كما في قصة ماعز وكما في قوله: "واغديا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، ولهذا قال المصنف أو مأموره.

وأما قوله: "وإن تعذر من الشهود سقط" فلا أرى هذا وجها لسقوط الحد الذي قد ثبت بما هو معتبر من الشهادة ولا يصح أن يجعل ذلك من الشبهة التي تدرأ بها الحدود. قوله: "ويترك من لجأ إلى الحرم" الخ. أقول: وجه هذا ما ثبت في الصحيح من حديث أبي شريح ولفظه في الصحيح البخاري "4/41"، "أن مكة حرمها الله تعالى ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس" وفيه ألفاظ نحو هذا وهو يدل بعمومه على تحريم سفك الدماء فيه ولو كانت بحد ولا يصح الاستدلال بما وقع منه صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة التي أحل الله سبحانه له الحزم فيها كما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث سعد قال لما كان يوم الفتح أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح" وذلك لأن هذا وقع منه صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة التي أحلها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وقد أخبرنا أن الله أذن له ولم يأذن لنا ومما يؤكد هذه الحرمة قول الله عزوجل: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] ، فإنه إخيار في معنى الأمر أي ومن دخله فأمنوه. وأما كونه لا يطعم حتى يخرج فوجهه أنه فار من حد أوجبه الله عليه فلا يعان على معصيته. وأما كون من ارتكب أخرج فوجهه أن قد فعل ما يخالف الحرمة وارتكب المعصية العظيمة في أكرم بلاد الله عليه وأحبها إليه ولكنه لا يقام عليه الحد حتى يفارق الحرم. وأما كونه لا إمهال في الرجم فوجهه ظاهر لأنه يراد من رجمه موته والإمهال في الجلد إنما هو لخشية الهلاك. وأما قوله: "لكن تستبرىء كالأمة للوطء" فليس له وجه لأن الأصل عدم العلوق ومع ذلك فهو قبل أن يتبين لا حرمة له لكونه لم ينفخ فيه الروح. قوله: "ويترك للرضاع إلى الفصال" الخ. أقول: وجه هذا ما أخرجه مسلم وغيره من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقالت: يا رسول الله طهرني, فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال: "وما ذاك؟ "، قالت: إنها حبلى من الزنا, قال: "آنت؟ "، قالت: نعم, فقال لها: "حتى تضعي ما في بطنك"، قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت الغامدية فقال: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه"، فقام رجل من الأنصار فقال إلي رضاعه يا نبي الله قال فرجمها وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لعلى في قصة الجارية الحديثة

العهد بالنفاس: "أتركها حتى تتماثل"، وفي رواية من حديث الغامدية أنها أرضعته ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم حين فطمته وفي يده كسرة خبز فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين [مسلم "23/1695"، فيجمع بين هذه الرواية والرواية الأولى بأنه قال رجل لما أتت به بعد الوضع أن إليه رضاعه ولم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم فرجعت به حتى فطمته فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين وأقيم عليها الحد وكلا الروايتين في صحيح مسلم وغيره وإذا لم يوجد من يكفل الصبي بعد الفطام كان إمهالها حتى يستغني بنفسه مما تقتضيه الضرورة. قوله: "وندب تلقين ما يسقط الحد". أقول: هذا التلقين المشروع هو أن يقول الحاكم أو الإمام كما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال للسارق: "ما إخالك سرقت؟ " [أبو داود "4380"، أحمد "5/293"، النسائي "4877"، ابن ماجة "2597"] ، وقال للزاني: "لعلك غمزت لعلك قبلت"، كما في صحيح البخاري وغيره في قصة ماعز وما يفيد هذا المعنى فلا وجه للتشكيك فيما ذكره المصنف والرجوع إلى محصن الرأي أن الزاني إن كان مما يرجى انزجاره لقن وإلا فلا ولا وجه أيضا للاستدلال على مشروعية التلقين بمثل حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"، [أحمد "6/181"، أبو داود "3275"، فإن هذا مخصوص بغير الحدود الواجبة ولو أخذ بعمومه لم يقم حد على أحد من ذوي الهيئات وهذا هو الذي نعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني إسرائيل لما أسقطوا الحدود على أشرافهم وأقاموها على ضعفائهم. قوله: "والحفر إلى سرة الرجل وثدي المرأة". أقول: أما ماعز فلم يحفر له بل رجم قائما كما في الحديث [مسلم "23/1695"] ، الحاكي لقصته وأما الغامدية فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره أنه حفر لها إلى صدرها فهذا يقتضي مشروعيته للمرأة كما أن ترك الحفر لماعز يقتضي عدم مشروعيته للرجل ووجه الفرق ظاهر فإن المرأة كلها عورة مع الرجال الراجمين لها وكان الأولى اقتصار المصنف على قوله وناب الحفر إلى ثدي المرأة. قوله: "وللمرء قتل من وجد مع زوجته أو أمته" الخ. أقول: هذه المسألة مبنية على غير أساس غير منظور فيها إلى كتاب ولا سنة ولا قياس فإن غاية ما يجب هنا على الزوج والسيد هو إنكار المنكر والسعي مع التفريق بين العاصيين بما تبلغ إليه الطاقة فإن أبى مرتكب المنكر أن ينزع عنه كان لكل منكر للمنكر أن يدافعه ولو بالقتل إذا لم يندفع بغيره من غير فرق بين أن يكون يكون الزاني زنا بزوجة المنكر أو أمته أو سائر قرابته أو بغير هؤلاء. والحاصل أن هذا باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس لتخصيصه بمن ذكره المصنف وجه وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم الإنكار على سعد بن عبادة لما قال النبي صلي الله عليه وسلم له: "أأدعه على بطن لكاع ثم أذهب فآتي بأربعة شهداء"، [أحمد "2/532"] ، ثم ذكر ما يفيد أنه إذا وجده كذلك قتله فقال صلى الله عليه وسلم منكرا عليه: "انظروا إلى ما يقول سيدكم"، فاعتذروا له بما فيه من شدة

الغيرة والحمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لله أغير منه"، كما في صحيح مسلم "16/1498"،وغيره أبو داود "45332"، ابن ماجة "2605"] ، وكان على المصنف أن يقول: وليس للمرء قتل من وجد مع زوجته وأمته حال الفعل. [فصل ويسقط بدعوى الشبهة المحتملة والإكراه وباختلال الشهادة قبل التنفيذ وقد مر حكم الرجوع وعلى شاهدي الإحصان ثلث الدية والثلثان إن كانا من الأربعة ولا شيء على المزكى وبإقراره بعدها دون أربع وبرجوعه عن الإقرار وبقول النساء هي رتقاء أو عذراء عنها وعنهم ولا شيء بعد التنفيذ وبخرسه وإسلامه ولو بعد الردة وعلى الإمام استفصال كل المسقطات فإن قصر ضمن إن تعمد وإلا فبيت المال] . قوله: "فصل: ويسقط بدعوى الشبهة المحتملة". أقول: هذا هو ما أرشد إليه الشارع من درء الحدود بالشبهات فإن الشبهة إذا كانت محتملة فهي التي توجب ذلك أما لو لم تكن محتملة فليست شبهة بل هي دلسة وقع بها التذرع إلى إسقاط ما شرعه الله من الحدود. وأما سقوطه بالإكراه فوجهه واضح والأدلة قائمة على رفع القلم عن المكره وعدم مؤاخذته بما أكره عليه وقد قدمنا بيان ذلك في غير موضع. وأما سقوطه باختلال الشهادة فلأنه لم يحصل المقتضي ها هنا حتى يثبت عليه الحد لأن وجود من اختل من الشهادة كعدمه فلم يثبت ما هو المناط الشرعي للحد ففي جعل هذا من جملة المسقطات تسامح. قوله: "وعلى شاهدي الإحصان ثلث الدية" الخ. أقول: الشهداء إذا رجعوا جميعا بعد التنفيذ فقد تسببوا لقتل من رجم سببا يوجب عليهم الضمان ولم يقتل إلا لمجموع شهادة الزنا والإحصان فكانت الدية عليهم جميعا يحملونها على عدد رؤوسهم إذا كان الشاهدان على الإحصان من جملة الشهود الأربعة على الزنا فعليهم الثلثان كما ذكره المصنف وأما كونه لا شيء على المزكي فوجهه ظاهر لأنه لم يشارك الشهود في إثبات السببين الموجبين للرجم وهما الزنا والإحصان وإنما أخبر بما يعرفه من ظاهر حال الشهود وهكذا لا خطاب على الإمام لأنه قام بتنفيذ ما كمل نصابه في الظاهر وهكذا القاضي لأنه حكم بمستند أثبته الشرع. قوله: "وبإقراره بعدها دون أربع". أقول: جعل هذا الإقرار الذي هو مؤكد لما شهد به الشهود ومصدق له مسقطا من أغرب ما

يقرع الأسماع من الأقوال الزائفة والشبهة الداحضة لأن المناط الشرعي وهو شهادة الأربعة باق على حاله ولم يزده الإقرار إلا تأكيدا فدعوى أنه قد بطل بالإقرار دون أربع ووجب الرجوع إلى مستند آخر وهو الإقرار ولما لم يكمل لم يجب الحد لا يناسب رواية ولا دراية ولا شرعا ولا عقلا بل حاصلها إسقاط حد من حدود الله من غير سبب ولا شبهة لا قوية ولا ضعيفة وقد عرفت ما جاء من الزجر على من أبطل حدود الله وأسقطها بعد وجوبها على ما قدمنا لك أن الحق ثبوت الحد بالإقرار مرة واحدة فلا يتم ما ذكره من قوله دون أربع. قوله: "وبرجوعه عن الإقرار". أقول: هذا الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله ولا يصح الاستدلال على سقوط الحد بالرجوع عن الإقرار بما أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وحسنه ورجال إسناده ثقات عن أبي هريرة أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا تركتموه"، لأنه لا يدل على أنه قد سقط عنه الحد بذلك بل على أنه إذا ترك ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يأتي بشبهة مقبولة وهكذا لا يصح الاستدلال بحديث جابر عند أبي داود والنسائي أن ماعزا صرخ بهم فقال يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ينزعوا عنه فلما أخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به"، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد رجوعه إليه الاستثبات إذا جاء بشبهة مقبولة على أنه قد روى في بعض طرق الحديث عند مسلم والنسائي وأبي وأبي داود واللفظ له من حديث أبي سعيد قال لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فولله ما أوسقناه ولا حفرنا له ولكنه قام لنا قال أبو كامل وهو الجحدري فرميناه بالعظام والمدر والخزف فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت. فدل هذا على أنه إنما فر إلى المحل الذي توجد فيه الحجارة التي تسرع في القتل. وهكذا لا يصح الاستدلال بما أخرجه أبو داود "4434"، عن بريدة قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما فإن رجمهما بعد الرابعة وعلى كل حال ليس هذا التحدث الواقع بينهم مما تقوم به الحجة لأنه مجرد حدس وبهذا تعرف أنه لا دليل يدل على الرجوع عن الإقرار يسقط به الحد وقد حصل المقتضي بالإقرار فلا يسقط إلا بدليل يدل على سقوطه دلالة بينة ظاهرة. قوله: "وبقول النساء هي رتقاء أو عذراء". أقول: وجه السقوط عنها وعنهم أنه لايمكن وحود حقيقة الزنى الموجبة للحد وهي إيلاج فرج في فرج كالرشا في البئر والميا في المكحاة، فوجدوها عذراء مانع من ثبوت الحق شرعا

وعقلا وإذا كان الحد يدرأ لمجرد الشبهة المحتلة فكيف بمثل هذا وأما كونه لا شيء على الإمام إذا أقام قبل العلم بأنها عذراء فوجهه ظاهر لأنه عمل بمستند شرعي لكن إذا كان هذا المستند هو شهادة الشهود فيضمنون كما تقدم لأنهم تساهلوا في الشهادة. قوله: "وبخرسه". أقول: الأخرس وإن كان النطق متعذرا منه فهو يمكنه أن يشير إلى الشبهة بعد أن يبينوا له بالإشارة أنه قد وجب عليه الحد بالمستند الشرعي نعم إذا بلغ خرسه إلى حد لا يفهم معه الإشارة ولا يتمكن منها وذلك بأن يكون من خرسه أعمى فإن هذا وإن كان الأصل عدم وجود الشبهة لكن احتمالها كائن وبمجرد هذا الاحتمال لا يكون حده على بصيرة ولم يكمل المقتضى الشرعي وإن كان الرجوع إلى الأصل كافيا في غير هذا الموضع لكن هذا موطن يقول فيه الشارع ادرأوا الحدود بالشبهات. وأما سقوط الحد عنه بإسلامه فهو ظاهر لأن الإسلام يجب ما قبله من الأمور التي لا تدرأ بالشبهات فكيف بما يدرأ بها. قوله: "وعلى الإمام استفصال كل المسقطات". أقول: وجه هذا ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مثل قوله: "ما إخالك سرقت؟ "، وقوله: "لعلك غمزت لعلك قبلت"، وقوله: "أبك جنون؟ " وإرجاعه لماعز مرة بعد مرة وسؤال قومه عنه مع ماورد عنه من درء الحدود بالشبهات فإذا قصر فقد أخل بواجب عليه وأقدم على إتلاف نفس أو الإضرار بها قبل أن يوجب ذلك الشرع فإذا ظهر بعد ذلك مسقط شرعي كان الضمان من ماله إن تعمد وإلا فمن بيت المال لأن تعمده محمول عليه وأما خطؤه فإن كان لا يجد في ماله ما يقوم بذلك كان من جملة الغارمين في صرف نصيب إليه من الزكاة ومن جملة المصالح التي يصرف إليها بيت مال المسلمين.

باب حد القذف

باب حد القذف [فصل ومتى ثبت بشهادة عدلين أو إقراره ولو مرة قذف حر مسلم غير أخرس عفيف في الظاهر من الزنا بزنا في حال يوجب الحد مصرحا أو كانيا مطلقا أو معرضا أقر بقصده ولم تكمل البينة عددا وحلف المقذوف إن طلب جلد القاذف المكلف غالبا ولو والدا الحر ثمانين وينصف للعبد ويحصص للمكاتب كما مر ويطلب للحي نفسه ولا يورث

وللميت الأقرب فالأقرب المسلم المكلف الذكر الحر قيل ثم العبد من عصبته إلا الولد أباه والعبد سيده ثم الإمام والحاكم ويتعدد بتعدد المقذوف كيا ابن الزواني ومنه النفي عن الأب ولو لمنفي بلعان إن لم يعن بالحكم كلست لفلان لا من العرب والنسية إلى غيره معينا كيا ابن الأعمى لابن السليم إلا إلى الجد والعم والخال وزوج الأم ولا يسقطه إلا العفو قبل الرفع أو شاهدان بالإقرار ويلزم من رجع من شهود الزنا قبل التنفيذ لا بعده إلا الأرش والقصاص] . قوله: "باب: حد القذف ومتى ثبت بشهادة عدلين" الخ. أقول: حد القذف ثابت بكتاب الله سبحانه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإجماع المسلمين والاكتفاء فيه بشهادة العدلين صحيح ويكتفى فيه أيضا بشهادة رجل وامرأتين وبشهادة واحد مع يمين المدعى لما عرفناك سابقا مع عدم وجود دليل ناهض يدل على اشتراط أن يكون الشهود رجالا وأنه لا يثبت هذا الحد إلا بشهادة رجلين فإنه حكم من أحكام الشرع وقد ثبت في الكتاب العزيز وفي السنة المطهرة أن مستندات أحكام الشرع أوسع من هذا ولم يخص من ذلك إلا شهادة الزنا فيبقى ما عداه داخلا في مطلقات الأدلة. وأما اشتراط أن يكون المقذوف حرا فلا وجه له لأن العبد والأمة قد صارا بدخولهما في الإسلام معصومي الدم والمال والعرض بما عصم به الأحرار فانتهاك الحرمة منهما بالرمي بالزنا كانتهاك الحرمة من الأحرار. وأما اشتراط الإسلام فوجهه واضح لعدم وجود العصمة. وأما اشتراط كونه غير أخرس فلا وجه له لأنه يمكنه أن يعبر عن مراده بالإشارة على فرض أنه لم يحضر ذلك من يعبر عنه ويقوم بحجته وليس من مسالك الرأي أن يجعل امتحان الله سبحانه له بالخرس موجبا لحلول محنة أخرى به وهي عدم احترام عرضه بإقامة حد الله على قاذفه. وأما اشتراط العفة فمبني على أن المحصنات في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] ، هن العفيفات وهو غير مسلم فإن من معاني الإحصان الحرية والإسلام والتزوج ثم هذا الذي ليس بعفيف داخل في العصمة الإسلامية لا يخرج عنها بمجرد ارتكابه لبعض معاصي الله سبحانه وأي دليل يدل على أنه يستحل منه ما حرمه الله بمجرد عدم عفته فإن الله سبحانه قد حرم الغيبة وشدد في أمرها وهي أن يذكر الغائب بما فيه ولم يجعل كونه مسوغا لذكره به فكيف بالقذف وقد أقام عمر بن الخطاب حد القذف على من شهد على المغيرة بالزنا مع اشتهار عدم عفته وكان ذلك بمحضر من الصحابة. وأما قوله: "بزنا" فظاهر أنه المراد بقوله: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} . وأما قوله: "في حال يوجب الحد" فلا أرى لهذا الاشتراط وجه لأنه قد انتهك الحرمة بالرمي بالزنا وإن اندفع عنه حد الزنا لشبهة من الشبه.

وأما قوله: "مصرحا مطلقا" فوجهه أن التصريح لا يقبل معه دعوى قصد غيره ولا يلتفت إلى ذلك. وأما الكناية فلكونه يحصل بها من هتك العرض المعصوم ما يحصل بالتصريح إذا كان المراد منها مفهوم للسامع والاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ وهكذا التعريض لأنه يحصل به ما يحصل بالتصريح وأما تقييد ذلك بقوله أقر بقصد فلا يشترط هذا الإقرار إلا إذا كان التعريض يحتمل عند السامع القذف وغيره أما إذا كان لا يحتمل إلا القذف فلا يشترط الإقرر. قوله: "ولم تكمل البينة عددا". أقول: لا وجه لاعتبار مجرد العدد بل لا بد من قيام البينة عددا وصفة فإن اختلفت الصفة مع كمال العدد فوجودها كعدمها ويؤيد هذا حد الشهود على المغيرة مع كمال عددهم ونقص صفة شهادة الرابع وهو زياد بن أبيه فإنه لما لم يصرح بأنه شاهد الإيلاج بل قال رأيت استا ينبو ونفسا يعلو ورجلين من ورائه كأنهما رجلا حمار ولا أدري ما وراء ذلك أقيم الحد على الثلاثة الشهود الذين شهدوا قبله وهم إخوته نفيع ونافع وشبل. قوله: "جلد القاذف ولو والدا" الخ. أقول: هذا الحد بهذا العدد قد نطق به القرآن الكريم وأجمع عليه المسلمون أولهم وآخرهم ولم يفرقوا بين قذف الرجل والمرأة وأن قاذف الرجل يحد كما يحد قاذف المرأة ولم يسمع عن فرد من أفراد المسلمين أنه قال لا حد على قاذف الرجل إلا ما وقع من الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضع وقد كتبنا على بحثه رسالة مستقلة وتكلمنا على كل ما جاء به في هذا البحث ودفعناه بما لا يبقى بعده ريب لمرتاب وإن كان فساده أوضح من أن يحتاج إلى البيان لكنه ربما تشوش به ذهن من في عرفانه قصور وفي إدراكه بعض فتور. وأما عدم سقوط الحد على الوالد إذا قذف ولده فلدخوله في عموم الأدلة وعدم ورود الدليل باستثنائه ولم يبح له الشرع استحلال ما حرمه الله من ولده. وأما التنصيف للعبد والتخصيص للمكاتب فوجهه ما تقدم في حد الزنا. قوله: "ويطلب للحي نفسه ولا يورث". أقول: لا وجه لجعل الموت مسقطا للحد الذي قد ثبت على قاذف من مات بعد قذفه وقبل إقامة الحد عليه فإن كانت العلة في ذلك تجويز أن يعفو لو عاش فهكذا قذف الأموات فإنه يجوز أن يعفو الميت لو كان حيا وإن كانت العلة هي ما يلحق الحي بقذف الميت فهكذا ينبغي أن يقال في وارث من مات بعد القذف إذا لحقه غضاضة بالقذف ولا وجه للفرق بينهما. وأما ترتيب المطالبين من قرابة الميت على هذا الترتيب الذي ذكرناه فإن كان وجهه أن الغضاضة تلحق الأقرب لحوقا زائدا على لحوقها ممن هو أبعد منه مع تسليم لحوق مطلق الغضاضة فلا وجه لهذا الترتيت بل إذا وقع الطلب من فرد من أفراد من يلحقه الغضاضة فإن كانت يسيرة وكان بعيدا عن الميت كان ذلك سائغا لأن دفع الغضاضة مطلقا مسوغ للطلب وإن كان سبب هذا

الترتيب غير هذا وكل سبب يفرضه حاملا على الطلب غير هذا لا يصح لسببه والحق أنه يجوز الاحتساب في مثل هذا وإن لم يكن ثم غضاضة على المحتسب لأن القذف من أشنع المنكرات وقد أوجب الله الحد على فاعله فالسعي في إقامته من جملة ما يندرج تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما قوله: "ثم الإمام والحاكم" فوجهه ما ذكرنا من كون هذا الطلب من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمام والحاكم هما القائمان مقام البيان للناس وحملهم على ما أوجب الله عليهم وزجرهم بحدود الله سبحانه عن الوقوع في معاصيه. وأما كونه يتعدد بتعدد المقذوف فوجهه ظاهر لأنه قد وقع القذف على كل واحد منهم فوجب له حد مستقل. وأما قوله: "ومنه النفي عن الأب" فوجهه أن ذلك يستلزم أن أمه زنت فكان ذلك قذفا لها وما ذكرها المصنف بعد هذا فظهوره يغني عن تدوينه. قوله: "ولا يسقطه إلا العفو قبل الرفع". أقول: وجهه أنه حق للمقذوف فإذا عفا عن قاذفه كان له ذلك وأما بعد رفعه إلى الإمام أو الحاكم فقد وجب بالرفع للدليل المتقدم ويمكن أن يقال إنه لا حكم للرفع إذا وقع العفو بعده لأن هذا حق من حقوق بني آدم يسقط بإسقاطهم فليس للإمام والحاكم أن يقيم الحد بعد العفو ودعوى أن حد القذف مشوب غير مسلمة بل هو حق محض للآدمي ولا ينافي هذا ما وقع في قصة السارق لرداء صفوان وقوله صلى الله عليه وسلم لما عفا: "ألا كان هذا قبل أن تأتيني به"، [أحمد "6/466"، أبو داود "4394"، ابن ماجة "3595"، النسائي "8/69"] ، للفرق الواضح بين القاذف والسارق. وأما قوله: "أو شاهدان بالإقرار" فلا وجه لهذا إلا على القول باشتراط العفة وقد قدمنا ما فيه. وأما كونه من رجع من شهود الزنا فوجهه ظاهر لأنه برجوعه صار كاذبا في شهادته وذلك قذف وأما الرجوع بعد التنفيذ فقد تقدم حكمه وهو يغني عن تكراره هنا.

باب حد الشرب

باب حد الشرب [فصل وكذلك من ثبت منه بشهادة عدلين أو إقراره مرتيت شرب مسكر عالما غير مضطر ولا مكره وإن قل وتقام بعد الصحو فإن فعل قبله لم يعد وتكفي الشهادة على الشم والقيء ولو كل فرد على فرد] .

قوله: "باب حد الشرب: وكذلك". أقول: هذا الحد قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا لا شك فيه ولا شبهة لكن لم يقع الاتفاق على مقدار معين بل حاصل ما روى أنه صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال كما في الصحيحين [البخاري "6773"، مسلم "37/1706"، وغيرهما أبو داود "4479"، الترمذي "1443"] ، من حديث أنس وفي رواية لمسلم "35/1706"، وغيره من حديثه أنه جلد بجريدتين نحو أربعين وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحارث أنه صلى الله عليه وسلم أمر من كان في البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد والنعال وفي البخاري أيضا من حديث السائب بن يزيد قال كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر وصدرا من إمرأة عمر فنقوم إليه فنضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين وفي البخاري أيضا وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن أتي به وقد شرب الخمر اضربوه قال أبو هريرة فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه وفي الباب أحاديث وليس فيها أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الشرب مقدار معين واختلف اجتهاد الصحابة في التقدير فكان الواجب هو مجرد الضرب بالجريد والنعال والثياب والأيدي والمرجع في ذلك إلى نظر الإمام فإذا رأى أن يجلده عددا معينا إلى حد الثمانين الجلدة فله بما وقع من الصحابة أسوة وإن رأى أن يأمر بمطلق الضرب له من غير تعيين فله برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وإن رأى زيادة الضرب إلى حد الثمانين على من استرسل في شربها وتخفيف الضرب إلى أربعين أو دونها على من لم يسترسل في شربها كان له ذلك اقتداء بما وقع من عمر في محضر الصحابة. فعرف بمجموع هذا أن حد الشرب ثابت مع تفويض مقداره إلى الإمام والحاكم وقد قيل إنه لم يقع الإجماع على وجوب هذا الحد كما وقع الإجماع على وجوب سائر الحدود كما حكى ابن جرير وابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا حد على شارب المسكر ولكن هذا مدفوع بمتواتر السنة وبإجماع الصحابة ومن بعدهم فلا التفات إليه ولا تعويل عليه والإجماع ثابت قبل وجود قائله وبعده. قوله: "ومن ثبت بشهادة عدلين أو إقراره مرتين" الخ. أقول: لا وجه للاقتصار على شهادة العدلين بل يكفي في ذلك شهادة رجل وامرأتين كما حكم الله به بين عباده في الشهود وقد قدمنا التنبيه على هذا في الباب الذي قبله وهكذا يجوز للحاكم أن يحكم في هذا الحد بعلمه وقد أوضحنا ذلك فيما سبق ومثله حد القذف والسرقة ولم يخص من الحدود بكون الشهود أربعة رجالا إلا حد الزنا فيبقى ما عداه داخلا في عموم ما جعله الله مستندا لحكم الشرع وهكذا لا وجه لا شتراط أن يكون الإقرار مرتين ولم يرد بهذا دليل لا صحيح ولا عليل وليس على تعبير الإنسان عن نفسه بإقراره زيادة في سكون النفس وطمأنينة القلب وقد قدمنا أنها تكفي المرة الواحدة في الإقرار بزنا يوجب الرجم فكيف بما هو دونه ولكنها كثرة الشكوك في الحدود الناشئة عن ضعف العزائم في تنفيذ حدود الله سبحانه.

وأما اشتراط أن يكون الشارب للمسكر عالما غير مضطر ولا مكره فهو أظهر من أن يحتاج إلى التنصيص عليه. قوله: "وإن قل". أقول: قد تقرر بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد من شرب الخمر وأمر بجلده ولم يسأل عن القدر الذي شربه ولا سأل عن بلوغه بالشرب إلى حد السكر فكان هذا بمجرده دليلا على أن مطلق الشرب موجب للحد ثم قد صح عنه صلى الله عليه وسلم في غير حديث أنه قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" [أحمد "3/343"، أبو داود "3681"، الترمذي "1865"، ابن ماجة "3393"] ، وهذا الدليل يلحق القليل بالكثير والقطرة الواحدة بالأرطال ثم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام"، وفي لفظ: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام"، [مسلم "2003"] ، فحكم صلى الله عليه وسلم في هذا باتحاد المسكرات وأنها كلها خمر فوجب الحد على شرب كل مسكر وقد أوضحت الكلام على هذا البحث في شرح المنتقى وأفردته برسالة مستقلة سميتها القول المسفر في تحريم كل مسكر ومفتر. فإن قال قائل: هل العلة في حد السكر هي التحريم أو كون المشروب مسكرا فأقول كما قال الشاعر: خذا بطن هرشى أوقفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق فإن تعليل الحد بالسكر يعم أنواع المسكرات وتعليله بالتحريم يعم أنواع المحرمات من المسكرات وقد ألحق الشارع قليلها بكثيرها فلا يعتبر وقوع السكر بالفعل بل بشرب ما هو من جنس المسكرات أو أكله. قوله: "بعد الصحو". أقول: وجه هذا أن أصل مشروعية الحد لإذاقة مرتكب موجب الحد وبال أمره ومعلوم أنه لا يذوق ذلك إلا صاحيا صحيح العقل سليم الحواس وأن وقوع الضرب عليه حال سكره لا يجد له من التألم ما يجده صاحيا لكنه لما ثبت ثبوتا لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بإقامة الحد على من وصلوا به إليه وقد شرب ومن الجائز أن يكون في تلك الحال باقيا على سكره ومن الجائز أن يكون قد صحا كان ترك الاستفصال دليلا على أن يقام عليه الحد على الحالة التي وفد عليها وأنه لا يجب انتظار حالة الصحو. قوله: "وتكفي شهادة على الشم والقيء ولو كل فرد على فرد". أقول: وجه هذا أنه لا تفوح رائحة الخمر من جوف رجل إلا وقد شرب الخمر ولا يتقيأ الخمر رجل إلا وقد شربها هذا معلوم عقلا وكانت الشهادة على هذين الأمرين كالشهادة على الشرب ولكن لا بد أن يكون من يشهد على الشم والقيء ممن له خبرة متقنة برائحة الخمر

ولونها مع انتقاء أن يوجد شيء من المأكولات أو المشروبات الحلال مشابهة للخمر لونا أو عرفا فإن وجد وادعاه الشارب كان ذلك شبهة يدرأ بها عنه الحد.

باب حد السارق

باب حد السارق [فصل إنما يقطع بالسرقة من ثبتت بشهادة عدلين إو إقراره مرتين أنه سرق مكلفا مختارا عشرة دراهم فضة خالصة الدرهم ثمان وأربعون شعيرة أو ما يساويها مما هو خالص لغيره رقبة أو منفعة وله تملكه ولو جماعة ولجماعة أو لذمي أو لغريمه بقدرها وأخرجه من حرز بفعله حملا أو رميا أو جرا أو إكراها أو تدليسا وإن رده أو لم ينفذ طرفه أو دفعتين لم يتخللهما علم المالك أو كور غيره وقرب إلا من خرق ما بلغته يده أو ثابتا من منبته أو حرا وما في يده أو غصبا أو غنيمة أو من بيت مال أو ما استخرجه بخارج بنفسه كنهر وريح ودابة لم يسقها ولو حملها لكن يؤدب كالمقرب] . قوله: باب حد السارق: "إنما يقطع من ثبت بشهادة عدلين أو إقراره مرتين". [فصل أقول: الكلام في اعتبار شهادة الرجلين في هذا الباب كالكلام الذي قدمناه في البابين الأولين فالحق أنه يثبت القطع بشهادة رجل وامرأتين لعدم وجود دليل يدل على هذا التخصيص ومع عدم وجوده يجب الرجوع إلى ما شرعه الله لعباده في الشهادات التي يجوز الحكم بها ولم يفرق بين حكم وحكم ولا بين محكوم فيه ومحكوم فيه ولا بين محكوم عليه ومحكوم عليه وهكذا لا وجه لاعتبار الإقرار مرتين بل مجرد شكوك ناشئة عن ضعف العزائم الشرعية كما قدمنا] . قوله: "أنه سرق مكلفا مختارا". أقول: أهمل قيد التكليف في باب الشرب كما أهمل قيد كونه عالما غير مضطر هنا كما أهمل هذه القيود كلها في باب القذف وكان عليه أن يجعل هذه الأبواب مستوية في القيود إذ من المعلوم أن اختلال واحد منها شبهة مسقطة للحد وقد عرفناك أن دعوى كون حد القذف مشوبا لا وجه لها. قوله: "عشرة دراهم فضة خالصة". أقول: اعلم أن القرآن الكريم يدل على مطلق قطع يد السارق بالسرقة قال الله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فلو لم يرد البيان من السنة لكان الواجب القطع في كل مسروق قليلا كان أو كثيرا ولكنه قد جاء البيان الشافي الكافي الوافي في السنة

المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله سبحانه ليبين للناس ما نزل إليهم فثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "12/91" مسلم "1/1684"،] ، وغيرهما [أبو داود "4393"، الترمذي "1445"، أحمد "6/36، 80، 163، 252"، من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا وهذه العبارة تدل على أنه كان يعتبر هذا المقدار في المسروق كما تقرر في الأصول وفي رواية من حديثها هذا لمسلم "1/1684"، وأحمد "6/63، 8، 163، 252" والنسائي "4929، 4930"، وابن ماجة "2585"] ، بلفظ: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا"، وهذا صريح في أنه لا يقطع فيما دون ذلك وقد رفعته عائشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ من حديثها هذا عند البخاري "6790"، والنسائي "4916"، وأبي داود 4384"، "تقطع يد السارق في ربع دينار"، وفي لفظ للبخاري "6790"، منه: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا"، وفي لفظ من هذا الحديث لأحمد "6/81"، "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك"، وأخرج النسائي "8/78"، من حديث عائشة أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن"، قيل لعائشة ما ثمن المجن قالت ربع دينار. فهذا الحديث قد تضمن البيان للكتاب العزيز فلا تقطع الأيدي إلا في ربع دينار فصاعدا ولا ينافيه ما وقع من الاختلاف في تقدير ثمن المجن الذي قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سارقه كما أخرجه البيهقي والطحاوي من حديث ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم عشرة دراهم وهذه الرواية وإن كان في إسنادها مقال فقد أخرج نحوها النسائي وأخرج أبو داود "4387"، أن ثمنه كان دينارا أو عشرة دراهم. ووجه عدم المنافاة أنه حكى الراوي قيمة المجن الذي قطع سارقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى تسليم أن تكون قيمته عشرة دراهم كما قدره بعض الصحابة وقد قدره البعض الآخر دينارا وليس في حديث القطع في المجن الذي في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر إلا: أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم فهذا المجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قيمته هذه القيمة وهي ثلاثة دراهم وربع الدينار صرفه ثلاثة دراهم ولا يعارض ذلك كون قيمة المجن قد تكون عشرة دراهم فإن المجان تختلف بزيادة القيمة ونقصانها وليس الحجة قائمة إلا فيما قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وافقت عائشة ابن عمر في تقويم المجن بثلاثة دراهم لأنها قالت: كما تقدم قيمته ربع دينار وصرف الربع الدينار ثلاثة دراهم وما في الصحيحين أقدم مما في غيرهما ومع هذا فلم يرد ما يدل على أنه لا قطع فيما دون ثمن المجن إلا في تلك الرواية المتقدمة عن عائشة وليست من رواية الصحيح وعلى تقدير أنها صحيحة فهي مقيدة بما قدرتها به وهو الربع الدينار فارتفع الإشكال واتفقت الأحاديث على القطع في ربع دينار ولم يرد ما يخالف ذلك من وجه تقوم به الحجة إلا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده"، فهذا

الحديث إن صح تأويله بما رواه في الصحيحين [البخاري "2/81"، مسلم "1687"، وغيرهما عن الأعمش أنه قال: كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوي دراهم فذاك وظاهر قوله كانوا يرون أنه يريد الصحابة وإن لم يصح هذا التأويل فتأويل من قال إنه أراد صلى الله عليه وسلم تحقير شأن السارق وخسارة ربحه أو تأويل من قال: إنه أراد التنفير عن السرقة وجعل ما لا قطع فيه بمنزلة ما فيه القطع وإن لم يصح هذا التأويل فاعلم أن القطع إقدام على قطع عضو معصوم بعصمة الإسلام فلا يحل إلا بما اشتباه فيه ولا احتمال فيجب الوقوف على ما ثبت من نفي القطع فيما دون الربع الدينار وفيما دون ثمن المجن ويكون ذلك كالشبهة فيما دونه وهذا المذهب الذي قررناه هو مذهب جمهور السلف والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة وفي المسألة أحد عشر مذهبا هذا مذهب أرجحها وقد استوفينا حججها في شرحنا للمنتقي وقد حكى ابن حجر في الفتح فيها عشرين مذهبا ولكن ما زاد على ما ذكرناه هنالك منها لا يصلح لجعله مذهبا مستقلا. قوله: "الدرهم ثمانية وأربعون شعيرة". أقول: الاعتبار بالدرهم الإسلامي المعامل به في أيام النبوة وإن كان من غير ضريبة الإسلام إذ لا ضربة في أيام النبوة ولا في أيام خلفاء الصحابة وأول من ضرب الدرهم عبد الملك بن مروان ثم إذا التبس قدر الدرهم فهو الذي يقابل الدينار فيه اثني عشر درهما. وأما قوله: "أو ما يساويهما" فظاهر ولهذا قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن وقطع في رداء صفوان. قوله: "ولو جماعة لجماعة". أقول: لا بد أن يسرق كل واحد من الجماعة نصابا من حرز لا لو كان مجموع ما أخذوه وأخرجوه من الحرز جميعا لا تأتي حصة كل واحد منهم قدر النصاب فلا قطع لأن الشارع جعل مطلق النصاب شرطا في مطلق القطع والدماء معصومة فلا تراق إلا بحقها وهو سرقة النصاب من كل فرد فرد ولا وجه لقياس هذا فعلي قتل الجماعة بالواحد فإن القصاص حق لآدمي وهذا حق لله وأيضا الحد يدرأ بالشبهة بخلاف القصاص وأيضا قام الدليل العقلي والنقلي هنالك ولا يصح اعتباره هنا. وأما قوله: "ولجماعة" فصحيح لأنه قد حصل الشرط وهو سرقة النصاب ولم يرد ما يدل على أن يكون المالك له واحدا. وأما قوله: "أو لذمي" فوجهه شمول أدلة السارق لكل مسروق ومال الذمي محترم معصوم بالذمة. وأما قوله: "أو لغريم" فوجهه أنه قد سرق النصاب من مال غيره فاستحق القطع وكونه له عليه دين لم يرد دليل يدل عن أنه مسقط للحد فوجب البقاء على عموم الأدلة. قوله: "وقد أخرجه من حرز".

أقول: قد استدل القائلون باشتراط الحرز بأدلة منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه أحمد "2/180، 203، 207، 2/186" وأبي داود "4390"، والنسائي "8/84"، والترمذي 1289"، وحسنه الحاكم وصححه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التمر المعلق فقال: "من أصاب منه بفية من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" وفي لفظ لأحمد والنسائي: "وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" وفي لفظ لهما من هذا الحديث في ذكر سرق الماشية التي تؤخذ من مراتعها: "فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذا من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" ومنها ما أخرجه أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه وصححه أيضا ابن حبان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع في ثمر ولا كثر"، ومنها ما أخرجه أحمد "3/380"، وأهل السنن أبو داود 4391، 4392، 4393"، الترمذي "1448"، النسائي "8/88، 89"، والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا مختلس قطع"، وأخرج نحوه ابن ماجه "2592"، بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف وأخرج نحوه ابن ماجه أيضا والطبراني في الأوسط من حديث أنس. وهذه الأحاديث قد دل مجموعها على أنه لا قطع على من سرق من غير حرز وعلى أنه يقطع من سرق من حرز كالجرين والعطن ويقويها أن دم المسلم معصوم بعصمة الإسلام فأقل أحوال هذه الأحاديث أن يكون شبهة لا يجب معها القطع على من سرق من غير حرز ولا يعارضها حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قطع المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتحجده كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عوانة في صحيحه وأخرجه أيضا مسلم وغيره من حديث عائشة لأنه قد وقع التصريح في رواية الصحيحين وغيرهما أنها سرقت وفي روايةل ابن ماجه والحاكم وصححه من حديث ابن مسعود أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج هذا الحديث أيضا أبو داود والترمذي فأفاد ذلك أنه قطعت لأجل السرق وذكر جحدها للمتاع للتعريف بها وكأنها قد كانت مشتهرة بهذا الوصف ولا مانع من أن يقع منها الأمران اجحد المتاع والسرق ولو فرضنا أنها قطعت بسبب جحدها للمتاع لكان ذلك في حكم التخصيص للأدلة القاضية باشتراط الحرز ولا معارضة بين عام وخاص. وأما حديث صفوان بن أمية الذي أخرجه أحمد "6/466"، وأبو داود "4394"، والنسائي "8/69"، وابن ماجه "2595"، في قصة السارق الذي سرق رداءه من المسجد فقطعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على أن المسجد حرز لما فيه كالجرين والعطن وليس فيه ما يعارض

أحاديث الحرز ومثله حديث ابن عمر عند أحمد "16/110"، وأبي داود "4386"، والنسائي "4909"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم فإن غاية ما فيه أن الصفة حرز لما سرق منها. قوله: "بفعله حملا أو رميا" الخ. أقول: هذا صحيح لأنه يصدق على من أخرج المتاع المسروق من الحرز على أي صفة من هذه الصفات أنه قد أخذه من حرز وأخرجه عنه وهكذا لو أخذ ذلك دفعتين أو دفعات وسواء علم المالك بعد بعض الدفعات أو لم يعلم لأنه قد صدق على السارق أنه سرق نصابا من حرز وهكذا يصدق على من أخرج المال من الحرز أنه قد سرق من حرزه وإن كوره له غيره أو قربه إليه. وأما قوله: "إلا من خرق ما بلغته يده" فلا وجه له فإن هذا الذي تناوله بيده قد سرق النصاب من حرزه. وأما أنه لا قطع على من سرق ثابتا من منبته فوجهه ما قدمنا من الأدلة المذكورة قريبا وأما قوله: "أو حرا وما في يده" فلا وجه له لأن السارق قد سرق النصاب من حرز وكونه على يد حر وصفة طردى لا تأثير له. وأما قوله: "أو غصبا" فوجهه أنه لا يصدق مسمى السرقة على الغصب فإن السرقة هي أخذ المال خفية والغصب أخذ المال علانية وقد علق الشارع القطع على وصف السارق وتعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية. وأما قوله: "أو غنيمة" فوجهه أن له نصيبا منها لأن المفروض أنه من الغانمين وهكذا قوله أو بيت مال المسلمين وهو من جملتهم. وأما قوله: "أو ما استخرجه بخارج بنفسه" إلخ فوجهه أنه لا يصدق عليه أنه أخرج المسروق من حرزه بل أخرجه الخارج بنفسه. وأما قوله: "لكن يؤدب كالمقرب" فهذا نوع من التعزير راجع إلى نظر الإمام والحاكم. [فصل والحرز ما وضع لمنع الداخل والخارج ألا يخرج ومنه الجرن والمربد والمراح محصنات وبيت غير ذي باب فيه مالكه والمدفن المعتاد والقبر للكفن والمسجد والكعبة لكسوتهما وآلتهما لا الكم والجوالق والخيم السماوية والأمكنة المنصوبة وما أذن للسارق بدخوله".

قوله: "فصل: والحرز ما وضع لمنع الداخل والخارج ألا يخرج". أقول: الحرز هو ما يحرز فيها المالك ملكه ومعلوم أنه لا يصدق عليه أنه حرز إلا إذا كان على صفة يكون بها المال المحرز فيها مفارقا لما هو موضوع على ظاهر الأرض منبوذ في جانب من جوانبها وهذا المعنى يوجد بوجود ما يحرز الناس به أموالهم من الأبينة ونحوها على كل شيء بحسبه فحرز الثمرة ما يعتاده الناس في الجرين وحرز الماشية ما يعتاده الناس في أعطان الإبل ومرابض الغنم ونحو ذلك وحرز النقد والعرض ما يعتاده الناس من جعلها في المنازل مع تغليق أبوابها أو مع بقاء أهلها فيها وهكذا المدافن حرز لما فيها والقبور حرز لما في داخلها إذا كانت قد أحرزت لما يعتاده الناس ولا سيما بعد ورود النص في قطع النباش وهكذا المسجد ونحوه لجري عادة الناس بأنه حرز لما يجعل فيه من فرشه وآلآته بل لما دخل فيه من غيرها كما يدل عليه حديث صفوان المتقدم. وبهذا تعرف أن المرجع الأعراف في إحراز الأموال فلا وجه لما استثناه المصنف من قوله لا الكم إلخ لأنهم إذا كانوا معتادين لإحراز الأموال في هذه الأمور كانت حرزا. وأما ما أذن للسارق بدخوله فإن كان قد ائتمنه على ما فيه أو أمره بحفطه فلا شك أنه خائن وقد تقدم أنه لا قطع على خائن وإن لم يأتمنه على ما فيه بل أذن له بمجرد الدخول كالضيف فهذا السارق قد أخذ المال خفية وأخرجه من حرزه. [فصل وإنما يقطع كف اليمنى من مفصله فإن ثنى غير ما قطع به أو كانت اليمنى باطلة فالرجل اليسرى غالبا ويحبس فقط إن عاد ويسقط بالمخالفة فيقتص العمد ويتأرش الخطأ وبعفو كل الخصوم أو تملكه قبل الرفع وبنقص قيمة المسروق عن عشرة وبدعواه إياه ولا يغرم بعده التالف ويسترد الباقي في يده أو في يد غيره بغير عوض ولا يقطع والد لولده وإن سفل ولا عبد لسيده وكذلك الزوجة والشريك لا عبداهما] . قوله: "فصل: وإنما يقطع كف اليد اليمنى من مفصله". أقول: قول الله عزوجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . قد دل على قطع اليد وهي حقيقة في جمعها ثم ورد البيان من السنة بأن القطع لليد هو قطع الكف من الكوع كما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يقطعون السارق من المفصل وأخرج البيهقي عن عمر مثله ويؤيده ما أخرجه أهل السنن [أبو داود "4411"، اىلترمذي "1447"، النسائي "8/92"، ابن ماجة "2587"] ، عن فضالة بن عبيد أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف

ولكنه حسنه الترمذي وأما كون الكف التي تقطع هي اليمنى فللبيان النبوي ولقراءة ابن مسعود {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قوله: "فان ثنى غير ما قطع به أو كانت اليمنى باطلة فالرجل اليسرى". أقول: ظاهر قوله سبحانه: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، أن القطع في السرقة للأيدي وأن اليد اليسار مقدمة على الرجل ولا وجهه للقياس على المحاربة ولم يرد ما تقوم به الحجة في تقديم قطع الرجل على اليد اليسرى ولا يصح أن يقال إنه قد روي بطرق يشهد بعضها لبعض فإن في طرقه كذابين ولا يشهد حديث الكاذب للكاذب ولا يعضده كما هو مقرر في اصطلاح أهل فن الحديث ولكنه أخرج أبو داود والنسائي من حديث كما هو مقرر في اصطلاح أهل فن الحديث ولكنه أخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فقال: "اقتلوه"، فقال يا رسول الله إنما سرق فقال: "اقطعوه" فقطعوه ثم عاد ثانية وثالثة ورابعة فيأتون به للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لهم كما قال أولا حتى أتوا به الخامسة وقد نفذت قوائمه الأربع فقال لهم: "اقتلوه" فهذا الحديث ليس فيه إلا ذكر القطع من غير تعيين رجل ولا يد وما ذكر في بعض طرقه من ذكر الرجل بعد اليد فلا أصل له على أن هذا الحديث نفسه قال فيه النسائي منكر لا أعلم فيه حديثا صحيحا وقال ابن عبد البر منكر لا أصل له وقال الشافعي منسوخ لا خلاف في ذلك مع أنه قد أخرجه النسائي والحاكم من حديث الحارث بن خاطب وأبو نعيم في الحلية من حديث عبد الله بن زيد الجهني وإذا كان المنسوخ هو مجرد القتل بعد قطع الأعضاء الأربعة فلا وجه لقول المصنف ثم يحبس فقط إن عاد وإن كان النسخ لجميع ما اشتمل عليه الحديث فلم يرد ما تقوم به الحجة في قطع الرجل اليسرى بل ولا في قطع اليد اليسرى ويكون الواجب قطع اليمنى على أي صفة كانت فإن كانت قد قطعت لسبب آخر سقط القطع هذا على تقدير أن حديث جابر هذا وما شهد له مما تقوم به الحجة وقد عرفت ما قيل في حديث جابر والمنكر لا يقوم به حجة فيكون الواجب هو قطع اليد اليمنى فقط ولا يجب قطع غيرها إذا سرق مرة أخرى لا رجل ولا يد. قوله: "ويسقط بالمخالفة". أقول: لم يرد شي يدل علي هذا السقوط قط والعضو الذي أمر الله بقطعه باق فالخطاب متوجه إليه وعلى الذي قطع غيره القصاص أو الدية وإن كان مخطئا وما قيل مما فيه مخالفة لهذا فهو خبط لسي عليه أثارة من علم والباعث عليه حور الطبيعة ومزيد الرحمة لمن قطعت يسرى يديه أن لا تقطع معها اليمنى فيضحى بلا يدين فما لنا ولهذا ما أدخله في الأحكام الشرعية فإن يده اليسرة قطعت بالجناية عليها على خلاف حكم الله ويده التي أمر الله بقطعها باقية فيقطع بحكم الله سبحانه وإذا صار إلى حالة ليس له فيها يدان فعلى نفسها براقش تجنى. قوله: "وبعفو كل الخصوم" الخ. أقول: العفو قبل الرفع مندوب لما أخرجه أبو داود "4376"، والنسائي "4889"، من

حديث عبد الله ابن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب"، وأخرجه أيضا الحاكم وصححه قال ابن حجر في الفتح وسنده إلى عمرو بن شعيب صحيح. وأخرج مالك ف الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال إن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال لا حتى أبلغ به السلطان فقال الزبير إذا بلغت به السلطان فلعن الله الشافع والمشفع وقد تقدم في حديث المخزومية الثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسامة: "أتشفع في حد من حدود الله؟ "، وفي لفظ: "لا أراك تشفع في حد من حدود الله"، وتقدم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لصفوان في السارق الذي سرق رداءه: "هلا كان قبل أن تأتيني به". وأما كونه يسقط عن السارق بتملكه للمسروق قبل الرفع ففي كون كون هذا شبهة يسقط بها لحد نظر لأن السرقة الموجبة للحد قد وقعت وهو في غير ملكه فلا يؤثر تملكه له من بعد. قوله: "وبنقص قيمة المسروق عن عشرة". أقول: إذا نقص قيمة المسروق على النصاب المعتبر على حسب ما قررناه سابقا فالحد لم يجب من الأصل حتى يقال إنه يسقط بذلك ففي العبارة تسامح وأما كونه يسقط بمجرد الدعوى أنه له وإن لم تصح الدعوى ففي كون هذه الدعوى الباطلة شبهة نظر وقد تقدم أنه لا بد أن تكون الشبهة محتملة. قوله: "ولا يغرم بعده التالف". أقول: الوجه في هذا أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الخلفاء الراشدين أنه أمر السارق بضمان ما سرقه بعد قطعه وهذا يكفي في الاستدلال وأما حديث عبد الرحمن بن عوف عند النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد"، فقد بين النسائي "4984"، بعد إخراجه له أنه منقطع وقال أبو حاتم إنه منكر وقال ابن عبد البر لا تقوم به حجة. وأما كونه يسترد الباقي في يده أو يد غيره بغير عوض فوجهه أنه باق على ملك مالكه لم يتحول بالسرقة عنه فله أن يرجع بالعين على من هي في يده أو على السارق ويجب على السارق أن يسترجع تلك العين ولو بعوض لا كما قال المصنف وقد قام الدليل على ذلك كما أخرجه النسائي من حديث أسيد بن حضير أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السرقة إذا وجدها ربها مع غير المتهم أنه إن شاء وأخذها منه بما اشتراها وإن شاء اتبع سارقه وقضى بذلك أبو بكر وعمر وأما رد هذا الحديث لدعوى كونه مشكلا فمن أغرب ما يقرع الأسماع فالأحكام النبوية هي الحجة على العباد {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، وإذا خالفها مجتهد برأيه فرأيه رد عليه مضروب به وجهه ولكن التجري على رد السنن يفعل بصاحبه مثل هذا.

قوله: "ولا يقطع والد لولده وإن سفل". أقول: لا شك أن حديث: "أنت ومالك لأبيك"، يكون شبهة أقل أحواله وهو حديث تقوم به الحجة وقد عضده حديث: "كلوا من كسب أولادكم"، وقد قدمنا الكلام على الحديثين جميعا. وأما الولد إذا سرق مال والده فلا شبهة له وهو مشمول بالأدلة الموجبة للحد على السارق ومن قال إن في قطعه قطع رحم أمر الله بعلتها فقد أسرف في الغفلة فإنه أوجب هذا الشرع الثابت بالكتاب والسنة وبإجماع المسلمين وليست صلة الرحم بإسقاط ما أوجبه الله وجعله شرعا لعباده ولو كان هذا صحيحا لم يثبت على قريب لقريبه حق لا في نفس ولا مال واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله. وأما كونه لا يقطع عبد لسيده فوجهه ظاهر ولا سيما عند من يقول إن العبد لا يملك. وأما قوله: "وكذا الزوجة" فلا وجه له إلا على ما قدمنا من الكلام على قوله وما أذن السارق بدخوله وأما الشريك لشريكه فهو في غاية الظهور إذا كان المال المسروق مشتركا بينهما وهكذا عبيد الشريكين لأنهم سرقوا مال سيدهم وقد أغنى عن ذكر هذا ما تقدم من قوله: ولا عبد لسيده فإن كل واحد من عبدي الشريكين سرقا مالا بعضه لسيده فكان هذا البعض شبهة في الباقي. [فصل والمحارب وهو من أخاف السبيل في غير المصر لأخذ المال يعزره الإمام أو ينفيه بالطرد ما لم يكن قد أحدث وإلا قطع يده ورجله من خلاف لأخذ نصاب السرقة وضرب عنقه وصلبه للقتل وقاص وأرش للجرح فإن جمعها قتل وصلب فقط ويقبل من وصله تائبا قبل الظفر به وتسقط عنه الحدود وما قد أتلف ولو قتلا لا بعده فلا عفو ويخير في المراسل] . قوله: "فصل: والمحارب هو من أخاف السبيل". الخ. أقول: هذا الحد من جملة ما شرعه الله من الحدود بين عباده وجاء في كلامه بالصيغة المنادية بالعموم بأعلى صوت وأوضح دلالة فهي من هذه الحيثية شرع عام لجميع الأمة أولهم وأخرهم أسودهم وأبيضهم وكون سبب نزولها في المشركين الذين أخذوا لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكوا إليه وباء المدينة فأمرهم بالخروج إلى حيث كانت إبله ليشربوا من ألبانها وأبوالها حتى يصحوا فقتلوا راعيها وساقوها لا يدل على اختصاص هذا الحد بهم فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في الأصول لا يخالف فيه أحد من الأئمة الفحول على أن

هؤلاء الذين كانوا سبب النزول قد كانوا تكلموا بكلمة الإسلام كما في الصحيحين [البخاري "683"، مسلم "1671"] ، وغيرهما [أبو داود "4364"، الترمذي "72"، النسائي "4029"، ابن ماجة "2578"] ، ومجرد هذا الواقع منهم لا يكون ردة ولو سلمنا أنهم صاروا بذلك كفارا مشركين فقد أنزل الله في كتابه العزيز الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا وأين يقفو فكان هذا الحكم العام مغنيا عن إدخالهم في زمرة الإسلام فيما شرعه لهم من الأحكام فالمشرك سواء حارب أو لم يحارب مباح الدم ما دام مشركا فليس في حمل الآية على المشركين وتخصيص حد المحاربة بهم إلا التعطيل لفائدتها والمخالفة لما يقتضيه الحق ويقود إليه الإنصاف وقد أقام هذا الحد على المحاربين الصحابة فمن بعدهم إلى هذا الغاية. وأما ما أبداه الجلال رحمه الله من الفوائد والمفاسد لما اختاره من اختصاص حد المحاربة بالمشركين فتلك الفوائد واندفاع المفاسد لا يقوم رقعها بالخرق على أنها زائفة داحضة ناشئة عن الوسوسة في زحلفة أحكام الله وتبديل ما شرعه. وأما اشتراط المصنف رحمه الله أن تكون إخافة السبيل في غير المصر فلا وجه له لأن الله سبحانه شرع لنا هذا الحد فأطلقه ولم يقيده ولا ثبت لنا عن رسوله المبين للناس ما نزل إليهم أنه قيده بهذا القيد فمن وجدت منه المحاربة وهي إخافة السبيل بالقتل ونهب المال فهو محارب سواء كان داخل المصر أو خارجه ثم هذا المحارب الذي وقعت منه المحاربة حده هو ما ذكره الله سبحانه من التخيير بين القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل أو نفيهم من الأرض فهذا حد الله الذي شرعه لعباده في كتابه بعبارة في غاية الوضوح والبيان بحيث لا يخفى على العامة فضلا عن أهل العلم فالتوزيع لهذه العقوبات المذكورة في الآية كما ذكره المصنف تقييد لكتاب الله بلا دليل بل بمجرد القال والقيل ولا يلزمنا اجتهاد لمجتهد من الصحابة أو أكثر ما لم يكن إجماعا منهم على أن المروي عن ابن عباس في توزيع العقوبات المذكورة في الآية على الصفة التي ذكرها المصنف لم تكن في شيء من دواوين الإسلام وإنما أخرجه الشافعي من طريق إبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى وهو ضعيف لا تقوم بمثله حجة كما هو معروف عند أهل الفن. قوله: "ويسقط عنه الحدود" الخ. أقول: ظاهر التقييد بقوله عزوجل: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ، أنها قيد لحد المحاربة كما يشعر به السياق فلا يجوز للإمام والسلطان وغيرهم أن يقيموا حدود المحاربة على محارب تاب قبل القدرة عليه وأما سائر الحدود فلا دليل على أنها تسقط بالتوبة ولا بالوصول إلى الإمام قبل القدرة بل هي باقية على أصلها لا يسقطها إلا بمسقط وإذا كان هذا في الحدود فكيف بالأموال التي في ذمة المحارب إلا ما كان متعلقا لما تاب عنه من المحاربة فإن ما سفكه فيها من الدماء وأتلفه من الأموال ظاهر التقييد أنه يسقط لأنه قد تاب من قبل أن يقدر عليه فاستحق عدم المؤاخذة بحد المحاربة ولا بما يتعلق به وأما إذا كان المحارب كافرا فهو وإن كان يجري عليه هذا الحد كما يجري على المسلمين لكن إذا تاب من

المحاربة مع البقاء على كفره فهي توبة مقبولة داخلة تحت عموم الآية وأما إذا أسلم فالإسلام يجب ما قبله. وأما قوله: "لا بعده فلا عفو" فهو كلام صحيح لما عرفناك فيما سبق من دفع ما قاله المصنف أن للإمام إسقاط الحدود وتأخيرها لمصلحة فقد أصاب هنا ولم يصب هنالك. وأما قوله: "ويخير في المراسل" فمناف لما يدل عليه قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} إذ لم يكن في هذه الآية إلا اعتبار مجرد حصول التوبة سواء كانت مع الوصول إلى الإمام أو لمجرد المراسلة. [فصل والقتل حد الحربي والمرتد بأي وجه كفر بعد استتابة ثلاثا فأبى والمحارب مطلقا والديوث والساحر بعد الاستتابة لا المعترف بالتمويه وبالإمام تأديبه] . قوله: "فصل: والقتل حد الحربى". أقول: هذا ثابت بالضرورة الدينية والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا ولا حاجة إلى بيان ما هو من ضروريات الدين وأجمع عليه جميع المسلمين وما قيل أن القتل لا يقال له حد لأنه المنع عن المعصية فيجاب عنه بأن في القتل للعاصي المنع التام له من معاودة المعاصي أيضا وأيضا قد قال صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربة بالسيف"، كما أخرجه الترمذي "1460"، وغيره. قوله: "والمرتد". أقول: قتل المرتد عن الإسلام متفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في تفاصيله والأدلة الدالة عليه أكثر من أن تحصر لو لم يكن منها إلا حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، وهو في الصحيح [البخاري "6/149"] ، وحديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث"، وهو كذلك في الصحيح [البخاري "12/201] ، ولا فرق بين المرتدين من الرجال والنساء وما ورد في النهي عن قتل النساء فذلك في نساء الكفار الباقيات على الكفر وأما النساء المسلمات إذا وقعت منهن الردة فقد فعلن بالخروج من الإسلام سببا من أسباب القتل فبين الكفارة الأصلية والمرأة المسلمة المرتدة عن الإسلام في الكفر فرق أوضح من كل واضح فلا يحتاج إلى الكلام على تعارض الأدلة الواردة في قتل المرتدين على العموم والأدلة الواردة في قتل النساء الكافرات على العموم بل يقر كل منهما في موضعه. وأما قوله: "بأي وجه كفر" فقد أراد المصنف إدخال كفار التأويل اصطلاحا في مسمى الردة وهذه زلة قدم يقال عندها لليدين وللفم وعثرة لا تقال وهفوة لا تغتفر ولو صح هذه لكان غالب من على ظهر البسيطة من المسلمين مرتدين لأن أهل المذاهب الأربعة أشعرية وما تريدية

وهم يكفرون المتعزلة ومن تابعهم والمعتزلة يكفرونهم وكل ذلك نزغة من نزغات الشيطان الرجيم ونبضة من نبضات التعصب البالغ والتعسف العظيم وقد أوضحنا فهذا في مؤلفاتنا بما لا يبقى بعده ريب لمرتاب. قوله: "بعد استتابته ثلاثا فأبى". أقول: الأدلة قد دلت على أن الردة سبب من أسباب القتل وأن هذا السبب مستقل بالسببية كما في حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، ونحوه ولم يصح في الاستتابة والانتظار به أياما شيء من المرفوع ولا تقوم الحجة بغيره فالواجب علينا عند ارتداد المرتد أن تأمره بالرجوع إلى الإسلام والسيف على رأسه فإن أبى ضربنا عنقه حكم الله ومن أحسن من الله حكما وهذا القول هو بمثابة تقديم الدعوى لأهل الكفر إلى الإسلام فإن ذلك يحصل بمجرد قول المسلمين لهم أسلموا أو أعطوا الجزية فإن أبوا عند جواب هذه الكلمة فالسيف هو الحكم العدل والفعل الفصل. وأما قوله: "والمحارب" فقد تقدم الكلام عليه. قوله: "والديوث". أقول: هذه معصية من أعظم المعاصي ورذيلة من أقبح الرذائل وأما أنها توجب سفك دم المسلم واستحلاله فلم يرد في ذلك شيء يصلح للاستدلال به ودماء المسلمين معصومة بعصمة الإسلام لا ينقل عن هذه العصمة إلا ناقل صحيح وليس ها هنا ناقل لا صحيح ولا حسن. قوله: "والساحر". أقول: أنص دليل على قتل الساحر حديث جندب عند الترمذي والدارقطني والحاكم والبيهقي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربة بالسيف"، وما قيل من أن في إسناده اسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف فيجاب عنه بأن وكيع بن الجراح قال هو ثقة ويؤيده عمل الصحابة واشتهار ذلك بينهم من غير نكير حتى وقع من حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فإنها قتلت جارية لها سحرتها كما رواه مالك في الموطأ وعبد الرزاق وأخرج أحمد وأبو داود وعبد الرزاق والبيهقي أن عمر بن الخطاب قبل موته بشهر كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ولا يصح الاحتجاج على عدم القتل بتركة صلى الله عليه وسلم للقتل لليهودي الذي سحره فإنه إنما ترك ذلك لئلا يثير على الناس شرا ولهذا ثبت في الصحيحين [البخاري "10/221"، مسلم "43/2189"] ، وغيرهما [أحمد "6/63، 96"، ابن ماجة "3545"، أن عائشة قالت له: "أفأخرجته" أي أخرجت السحر من البئر لما وصف لها أن الساحر الذي سحره اليهودي لبيد بن الأعصم في بئر ذروان فقال لها: "أما أنا فقد عافاني الله وشفاني وخشيت أن أثور على الناس منه شرا" فقد ترك صلى الله عليه وسلم إخراج السحر من البئر لئلا يثور على الناس الشر فبالأولى قتل ذلك الساحر ومما يؤيد القتل للساحر أن الساحر كافر كما تدل عليه الأدلة فقتله بسبب كفره مع ارتكابه لهذه العظيمة التي يفرق بها بين المرء وزوجه. وأما قوله: "لا المعترف بالتمويه" فلا وجه له لأنه إذا كان الذي فعله سحرا فلا يرفع عنه

الكفر والقتل إلا التوبة وإن لم يكن سحرا فلا وجه للاحتراز عنه. وأما كون للإمام تأديبه فنعم يؤدبه بضربة بالسيف يطير بها رأسه عن جسده وكان على المصنف أن يذكر في هذا الفصل من جملة من حده القتل الساب لله عزوجل أو لكتابه أو لرسوله أو للسنة المطهرة أو للإسلام فإن هذه كفر بواح لا يحل التثبط عن قتل من وقعت منه إلا أن يتوب توبة خالصة وهكذا الزنديق فإنه أحق أعداء الله بالقتل لأنه يتظاهر بالإسلام ويسعى في كيد الدين وزحلفة غير المتبصرين عنه وهذه وإن كانت قد دخلت تحت لفظ المرتد لأنها ردة قبيحة فقد وقع الخلاف في كون بعضها كفرا كما وقع الخلاف في الساحر فكان ينبغي أن يذكر كما ذكر. وهكذا كان ينبغي أن يذكر في هذا الفصل الزاني المحصن وإن كان قد ذكره فيما سبق لكنه أعاد ذكر المحارب هنا مع أنه قد ذكر هناك استيفاء للحصر. [فصل والتعزير إلى كل ذي ولاية وهو حبس أو إسقاط عمامة أو عتل أو ضرب دون حد لكل معصية لا توجبه كأكل وشتم محرم وإتيان دبر الحليلة وغير فرج غيرها ومضاجعة أجنبية وامرأة على امرأة وأخذ دون العشرة وفي كل وفي كل دون جنسه وكالنرد والشطرنج والغناء والقمار والإغراء بين الحيوان ومنه حبس الدعار وزيادة هتك الحرمة وما تعلق بالآدمي فحق له وإلا فلله] . قوله: "فصل: التعزير إلى كل ذي ولاية". الخ. أقول: المسلم وماله وعرضه تحت العصمة الإسلامية فلا يجوز في هذه الأمور المعصومة شيء إلا بحقه وقد دل حديث أبي بردة بن نيار في الصحيحين [البخاري "12/175"، مسلم "40/1708"، وغيرهما أبو داود "4492"] ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بقول: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى"، أنه يجوز هذا الجلد إلى هذا المقدار عقوبة للعصاة الذين فعلوا محرما ولم يرتكبو حدا ودل أيضا حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه كما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنة الحاكم وصححه أنه يجوز الحبس بالتهمة ولما هو أولى منها وهو ثبوت الحق بيقين من غير تهمة إذا لم يتخلص عنه من هو عليه وقد أخرج الحاكم لهذا الحديث شاهدا من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة. وقد ذكرنا فيما سبق كلاما في الحبس وأحلنا على ما ذكرنا في شرح المنتقى فليرجع إليه.

وأما ما ذكره من أنواع التعزير فليس إلا الضرب والحبس وقوفا على ما رود به الشرع من تخصيص تلك العصمة الإسلامية ولكنه ينبغي أن يزيد في الضرب إلى حد العشر في المنتهك للكبائر التي لا حد فيها ويقتصر فيما دونها على دون العشر وهكذا يكون الحبس فيغلظ في الممتنع من الحق الثابت عليه والمنتهك لمعاصي الله سبحانه التي لم يرد فيها حد ويخفف فيما دون ذلك كالتهمة لتجويز أن يظهر ما يدل على براءته. وأما قوله: "دون حد" فالذي قاله الصادق المصدوق: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله"، فإن هذه العبارة التي جاء بها المصنف من العبارة التي عبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فغاية ما يبلغ عليه التعزير هو عشرة أسواط وهي عشر حد الزنا وثمن حد القذف والشرب فكيف يستحل من المسلم أن يضرب مائة جلدة إلا واحدة أو ثمانين جلدة إلا واحدة مثلا وأي شرع دل على هذا أو قضى به نعم قضى بذلك شرع الوسوسة والخيال والعمل في أحكام الله على الرأي الذي هو شعبة من القيل والقال. وأما قوله: "لكل معصية" إلى قوله وأخذ دون العشرة فهذا تمثيل صحيح ومن هذا القبيل المربي والخائن والغاصب والمتنع من تخلصه مما يجب عليه التخلص منه إلى ما لا يحصى من المعاصي. وأما قوله: "في كل دون جد جنسه" فكان هذا يغنيه عن قوله: "دون حد" فيما تقدم. قوله: "كالنرد". أقول: قد ثبت في صحيح مسلم ["10/2260"، وغيره أبو داود "4939"، أحمد "5/352، 357، 361"، ابن ماجة "3763"] ، من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه"، وأخر احمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم والدا رقطني والبيهقي بإسناد رجاله ثقات من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالنرد فقد عصى الله وسوله"، وأخرجه أيضا مالك في الموطأ وأخرج أيضا احمد حديثا آخر عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لعب بالكعاب فقد عصى الله وسوله"، وفي إسناده علي بن زيد وهو ضعيف والكعاب المذكورة هنا هي فصوص النرد وأخرج أحمد أيضا عن عبد الرحمن الخطمي قال سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي". قال في مجمع الزوائد: فيه موسى ابن عبد الرحمن الخطمي ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. فهذه الأحاديث تدل على تحريم اللعب بالنرد دلالة واضحة بينة. قوله: "والشطرنج". أقول: لم يرد في هذا بخصوصه ما يصلح للعمل عليه والاحتجاج به إثباتا أو نفيا ولعل سبب ذلك تأخر ظهور هذه الآلة عن البعثة النبوية ولكنه ورد ورودا متكاثرا عن جماعة من

الصحابة والتابعين أنها مندرجة تحت قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] ، الآية وقد ذكرت ذلك في تفسيري الذي سميته فتح القدير فليرجع إليه ولا شك أن الشطرنج من أعظم ما ينشأ عنه العداوة وإحراج الصدور والخصومات. قوله: "والغناء". أقول: الكلام على هذا يطول ويتشعب إلى فصول وذيول لا يتسع لها المقام وقد أوضحت الكلام واستوفيت المرام في شرحي للمنتقي فمن أراد الوقوف على حقيقة البحث والنظر في جميع الأحاديث الواردة تارة بما يقتضي التحريم وتارة بما يقتضي الكراهة وتارة بما يقتضي الإباحة فليرجع إلى ذلك ثم بعد أن حررت فيها ما حررته في ذلك الشرح أفردتها برسالة مستقله. والحاصل أن الغناء إذا لم يكن من الحرام فهو من المشتبهات والمؤمنون وقافون عن الشبهات وأما استدلال المستدلين على الجواز بما كان يقع من مناشدة الأشعار في حضرته صلى الله عليه وسلم وفي مسجده فليس ذلك من الغناء في شيء وهكذا ما كان يقع في العرسات ونحوها من رفع الصوت بالشعر مع الضرب بالدفوف فإن ذلك غير هذا الغناء المذكور هنا ولو سلمنا أنه نوع منه لكان ذلك مخصوصا لما ورد من المخصصات للعرسات فلا نطيل الكلام في هذا المقام فإن الإحالة على ما أحلنا عليه فيها ارتفاع الإشكال وجلاء الريب ووضوح الصواب. قوله: "والقمار". أقول: يدل على تحريمه ما ثبت في الصحيحين [البخاري "11/536"، مسلم "5/1647"، وغيرهما أحمد "2/309"، الترمذي "1545"، ابن ماجة "2096"] ، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعالى أقامرك فليتصدق"، فإن هذه الصدقة هي كفارة لذنب القمار فأفاد ذلك أنه حرام وقد ذكرنا في تفسيرنا عند الكلام على الميسر ما يدل على أن القمار داخل في مسماه وقد قال الله عزوجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية. قوله: "والإغراء بين الحيوان"، أقول: إنما أجاز الله سبحانه لعباده صيد ما يصاد من الحيوانات والانتفاع بما ينتفع به من أهليها من أكل وغيره وجوز لهم قتل ما يقتل منها من الفواسق وما كان فيه إضرار بالعباد أو بأموالهم وأما الإغراء بينها فهو باب من أبواب اللعب والعبث وليس هو مما أباحه الله لأنه إيلام لحيوان بغير فائدة على غير الصفة التي أذن الله بها فهو حرام من هذه الحيثية وقد حرم الله العبث بالحيوان لغير فائدة كما أخرجه مسلم "1957"، وغيره أحمد "1/280، 285، 340، 345"، النسائي "7/238"، من حديث ابن عباس مرفوعا بلفظ: "لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا"، وهكذا حديث: "من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة"، [أحمد "2/166، 197، 4/389"، النسائي "7/239"] ، وهو حديث مروي من طرق قد صحح الأئمة بعضها,

ووجه الاستدلال بما ذكرنا وإن كان ليس بإغراء بين الحيوان أن صلى الله عليه وسلم قد نهى عن العبث الذي لا فائدة فيه والإغراء عبث لا فائدة فيه. وأما قوله: "ومنه حبس الدعار" فمراده أن هذا من نوع من أنواع التعزير. وهكذا قوله: "وزيادة هتك الحرمة" وهما وإن دخلا في قوله لكل معصية ففي ذكرها نكتة تصلح لإيراد الخاص بعد العام الشامل له. وأما قوله: "وما تعلق بالآدمي" إلخ فهو من الوضوح والجلاء بحيث يستغنى عن ذكره هنا.

كتاب الجنايات

كتاب الجنايات مدخل ... كتاب الجنايات [فصل إنما يجب القصاص في جناية مكلف عامد على نفس أو ذي مفصل أو موضحة قدرت طولا وعرضا أو معلوم القدر مأمون التعدي في الغلب كالأنف والأذن قيل واللسان والذكر من الأصل لا فيما عدا ذلك إلا اللطمة والضربة بالسوط ونحوه عند يحيى ويجب بالسراية إلى ما يجب فيها ويسقط بالعكس ولا يجب لفرع وعبد وكافر على ضدهم فلا يقتل أمه بأبيه ونحوه ولا أبوه أمه به ونحوه وعلى الأصل الدية والكفارة والعبرة في العبد والكافر بحال الفعل] . قوله: "فصل: إنما يجب القصاص في جناية مكلف عامدا". أقول: وجهه أن غير المكلف لا يجب عليه القصاص بالإجماع وإن وجب ضمان أرش الجناية من ماله لكون ذلك من أحكام الوضع كما هو مقرر في موضعه ولا بد من انضمام قيد العدوان إلى قيد العمد للقطع بأنه لا يجب القصاص ولا الأرش على المدافع عن نفسه وأهله وماله لأن ذلك مما أباحه له الشرع وأذن له به. قوله: "على نفس". أقول: القصاص في النفس عند كمال ما يعتبر فيه ثابت بالكتاب كقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ، وقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، [البقرة: 179] وثابت بالسنة كما في الصحيحين [البخاري "1/205"، مسلم "447/1355"] ، وغيرهما [الترمذي "1405"] ، من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين

إما أن يفتدي وإما أن يقتل"، وأخرج البخاري "4498"، وغيره [النسائي "4781"، عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ، الحديث ومن ذلك حديث ابن مسعود الثابت في الصحيحين [البخاري "6978"، مسلم "25/1676"] ، وغيرهما [أحمد "1/444"، أبو داود "4352"، الترمذي "1402"] : "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله إلا بإحدى ثلاث"، الحديث وهو في صحيح مسلم من حديث عائشة وقد اتفق المسلمون جميعا على ثبوت القصاص في الأنفس ولم يخالف في ذلك أحد. قوله: "أو ذي مفصل". أقول: القصاص في الأطراف ثابت بلا خلاف وثابت في الجروح لقوله عزوجل: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، ولما أخرجه أحمد "4/31"، وأبو داود "4496"، والنسائي وابن ماجه "2623"، عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه"، وفي إسناده سفيان بن أبي العوجاء السلمى قال أبو حاتم: ليس بالمشهور. والحاصل أن القصاص ثابت في الجروح وهي تشمل ما كان ذا مفصل وما كان غير ذي مفصل إذا أمكن الوقوف على مقداره بحيث يمكن المقتص أن يقتص من الجاني بمثل الجناية الواقعة منه وسواء كانت الجناية موضحة أو دونها أو فوقها ولا وجه لقوله او موضحة. وأما قوله: "مأمون التعدي" فالوجه في ذلك أن تلك الجراحة إذا كانت مظنة لحصول الموت بها كالجائفة والهاشمة فينبغي الانتظار حتى ينتهي حال الجنى عليه فإن انتهى إلى السلامة فليس له إلا الأرش لأن إقدامة على القصاص في مثل ذلك قد يفضي إلى زيادة على ما وقع من الجاني وهو الهلاك وقصاص إنما هو المساواة بدون زيادة وإذا انتهى حاله إلى الموت كان لوليه أن يقتل الجاني ويكون من القصاص في الأنفس لا في الجروح وقد أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي من حديث جابر أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح وأخرج أحمد "2/217"، والدارقطني أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقدني فقال: "حتى تبرأ"، الحديث. وأما قوله: "كالأنف والأذن" فقد دل على هذا القرآن حكاية عن بني إسرائيل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} وقرر ذلك شرعنا فكان شرعا لنا. وأما قوله: "قيل: واللسان والذكر من الأصل" فلا وجه لهذا لأن في الاقتصاص فيهما مظنة الهلاك فيكون الكلام هنا كما قدمنا في الجائفة والهاشمة. وأما قوله: "ولا قصاص فيما عدا ذلك" فقد عرفناك أنه لا وجه للتقييد بالموضحة بل

الدامية فما فوقها إلى الموضحة والموضحة فما فوقها إلى الهاشمة القصاص ثابت فيها جميعا مهما أمكن الوقوف على قدرها وجعل الأمن من مجاوزة المقدار ولا وجه للمنع لأن جميها من الجروح والله سبحانه يقول: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . قوله: "إلا اللطمة والضربة بالسوط ونحوه". أقول: قد أثبت القصاص في هذا الخلفاء الراشدون ولا يصح قوله من قال إنه مقتضى الكتاب والسنة فإن الذي في الكتاب وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ، مقيد بقوله: {فِي الْقَتْلَى} وكذلك الآية الحاكية لما كتبه الله سبحانه على بني إسرائيل فإنها في تلك الأمور المذكورة فيها وكذلك قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} فإن قوله: {حَيَاةٌ} يشعر بأن المراد بهذا القصاص في الأنفس وهكذا قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فإن اللطمة والضربة ليستا من الجروح فإن أفضت إلى الجرح كان لها حكم الجروح ولكن المفروض أنه لم تفض إلى الجرح. وأما السنة فإنه لم يرد في شيء منها إثبات القصاص في اللطمة والضربة بالسوط ونحوه وقد ادعى بعض أهل العلم الإجماع على عدم ثبوت القصاص في ذلك ورده ابن القيم بأن القصاص فيها ثابت عن الخلفاء الراشدين قال فهو أولى بأن يكون إجماعا. قوله: "ويجب بالسراية إلى ما يجب فيه" الخ. أقول: وجه ذلك أن سراية الجناية أثر فعل الجاني فهو في حكم ما لو كانت الجناية واقعة على ذي مفصل. وأما قوله: "ويسقط بالعكس" فوجهه أن الاعتبار بالانتهاء كما هو قاعدة المصنف ومن وافقه فالحاصل أن المصنف قد جرى في الطرد والعكس على القاعدة المقررة عنده والاعتبار هو قول راجح ولا سيما وقد دل عليه في خصوص الجنايات ما قدمنا من أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح. قوله: "ولا يجب لفرع". أقول: استدل على ذلك بما أخرجه الترمذي "1400"، من حديث عمر مرفوعا بلفظ: "لا يقتل الوالد بالولد"، قال ابن حجر في التلخيص وفي إسناده الحجاج بن أرطاة قال وله طرق أخرى عند أحمد "1/61"، والأخرى عند الدارقطني والبيهقي أصح منها وفيه قصة وصحح البيهقي سنده لأن رواته ثقات قال ورواه الترمذي "1399"، من حديث سراقة وإسناده ضعيف وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بي شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن عمرو وقيل عن سراقة وقيل بلا واسطة وهي عند أحمد "1/22"، وفيها أبو مسلم المكي وهو ضعيف لكن تابعه الحسن بن عبيد الله عن عمر وبن دينار قاله البيهقي وقال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شيء وقال الشافعي حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أنه لا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول انتهى.

ولا يخفاك أن مجموع ما ذكر يقوي بعضه بعضا فتقوم به الحجة وليس الإعلال إلا من طريق الانقطاع من بعضها وقد ثبتت الواسطة في بعض الروايات فاتصل. قوله: "وعبد". أقول: استدلوا بحديث عمر عند البيهقي وابن عدي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده"، وفي إسناده عمر ابن عيسى الأسلمي قال البخاري هو منكر الحديث واستدلوا أيضا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي مرفوعا: "لا يقتل حر بعبد" قال ابن حجر وفيه جويبر وغيره من المتروكين وبما أخرجه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به وأمره أن يعتق رقبة, وفي إسناده إسماعيل بن عياش ولكنه إنما يضعف إذا روى عن الحجازيين لا عن الشاميين وهو هنا روى عن الأوزاعي وهو شامي قال ابن حجر لكن من دونه محمد بن عبد العزيز الشامي قال أبو حاتم لم يكن عندهم بالمحمود وعنده غرائب انتهى وشهد له ما أخرجه البيهقي عن علي قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قتل عبده متعمدا فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به ومما يشهد له أيضا حديث الرجل الذي جب مذاكير عبده فاعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتص من السيد وله طرق عند أبي داود "4519"، وغيره ابن ماجة "2680"، وأخرج البيهقي عن علي أنه قال: من السنة أن لا يقتل حر بعبد, وفي إسناده جابر الجعفي وهو متروك. فهذه الأدلة الواردة في أن السيد لا يقتل بعبده وإليه ذهب الجمهور كما حكاه الترمذي وغيره وحكى المصنف في البحر الإجماع على ذلك إلا عن النخعي واستدل لمن قال إنه يقتل بما أخرجه أحمد ["5/10، 11، 12، 18، 19"، وأهل السنن أبو داود "4515، 4516"، الترمذي "1414"، النسائي "8/21"، ابن ماجة "2663"] ، من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه"، قال الترمذي "4/26"، حسن غريب وفي رواية لأبي داود "4519"، والنسائي "2742"، "ومن خصى عبده خصيناه"، وهذه الزيادة صححها الحاكم ولكن في سماع الحسن من سمرة الخلاف الذي قدمنا فلا يقوم بهذا الحديث الحجة ولا سيما وقد عورض بما تقدم مع كون الحكم هو سفك دم الحر السيد بالعبد ولا شك أن له مزيد خصوصية على سائر الأحرار. وأما قتل الحر بعبد غيره فحكى في البحر عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يقتل وحكاه الكشاف عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري وأبي حنيفة وأصحابه وحكى الترمذي عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وبعض أهل العلم أنه ليس بين العبد والحر قصاص لا في النفس ولا فيما دونها قال وهو قول أحمد وإسحاق وحكاه صاحب الكشاف عن عمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وعكرمة ومالك والشافعي وقد استوفيت الكلام على حجج القولين في شرحي للمنتقى فليرجع إليه والظاهر عدم ثبوت قتل الحر بالعبد لاسيما مع تعارض الأدلة ترجيما لجانب الحظر وعملا بأصالة عصمة النفوس حتى يرد ما

يدل على عدم العصمة بوجه يصلح بذلك وتقوم بن الحجة ولا سيما مع قوله سبحانه: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] ، فإنه يدل بمفهومه على أنه لا يقتل الحر بالعبد ولا يرد الإلزام بأنه كما يدل على أنه لا يقتل الحر بالعبد يدل على أنه لا يعقل العبد بالحر لأنا نقول قد وقع الإجماع على أنه يقتل العبد بالحر. قوله: "وكافر". أقول: الحديث الذي أخرجه أحمد "1/119"، والبخاري "1/204، 4/81، 6/273، 6/279، 6/167، 12/246، 12/260، 12/41، 13/275"، وأهل السنن أبو داود "4530"، النسائي "8/19، 20"، من حديث علي مرفوعا بلفظ: "لا يقتل مسلم بكافر"، من غير زيادة: "ولا ذو عهد في عهده"، وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بلفظ: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده"، وصححه الحاكم وأخرجه أحمد "2/191، 192، 211"، وابن ماجه "2659"، 2685"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بإسناد رجاله رجال الصحيح إلى عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن لا يقتل مسلم بكافر وفي لفظ من حديثه هذا عند أحمد "2/178، 192، 194، 211، 215"، وأبي داود "4531، 2751"، "لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده". وإذا عرفت هذا فالأمر في الحديث واضح والمعنى صحيح وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى تارة عن قتل المسلم بالكافر ضم إليه النهي عن قتل المعاهد من غير نظر إلى القصاص به ومنه وهذا معنى صحيح تام لا يحتاج إلى تقدير وقد تقرر أن الكلام إذا صح بدون تقدير كانت الزيادة عليه عبثا. ووجه ذكر النهي عن قتل بعد ذكر النهي عن قتل المسلم بالكافر أنه ربما سمع السامعون أنه لا يقتل مسلم بكافر فيكون ذلك سببا للجرأة على قتل كل كافر معاهد وغيره فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله لأنه معصوم بالذمة بخلاف الكافر الحربي فما جاء به القائلون بأنه يقتل المسلم بالذمى من التقديرات المتكلفة لم تدع إليه حاجة ولا قام عليه دليل ولا مثل هذا السراب المبنى على شقا جرف هار يصلح لقتل المسلمين بالكفار. قوله: "فلا يقتل أمه بأبيه" الخ. أقول: إنما يتم هذا لو كان الوارد في الاقتصاص من الوالد للولد يدل على أنه لا يثبت للولد على والده قصاص أصلا كأن يقول لا يقتص ولد من والده أو لا يقتص فرع من أصله ولم يرد ما يفيد هذا المفاد ولا ما يدل على هذا المعنى بل معنى ما ورد أنه لا يقتل الوالد بالولد وهذا لا يدل على أنه لا يثبت للفرع قصاص على الأصل على كل تقدير. وأما ما عللوا به من منع ثبوت القصاص للولد من والده مطلقا بأنه كان سبب وجوده فلا يكون الولد سببه إعدامه فما أبرد هذه العلة وما أقل فائدتها وليس مجرد ما يتخيله المتخيل من العلل العليلة مسوغا لبناء أحكام الشرع عليه.

وأما قوله: "والكفارة" فلا يخفاك أن الله سبحانه إنما شرع الكفارة في قتل الخطأ والمفروض هنا أن القتل وقع عمدا ولا كفارة في العمد إلا بدليل ولا دليل فلا وجه لإيجاب الكفارة ولكنها تجب الدية لأن سقوط القصاص لا يستلزم سقوطها. وأما قوله: "والعبرة في العبد والكافر بحال الفعل" فوجهه ظاهر لأن تغير الوصف بعد صدور السبب لا يوجب تغير الموصوف حتى يحصل الانتفال عن تلك السببية الكائنة مع تلك الصفة. [فصل وتقتل المرأة بالرجل ولا مزيد وفي عكسه يتوفى ورثته نصف ديته وجماعة بواحد وعلى كل منهم دية كاملة إن طلبت وذلك حيث مات بمجموع فعلهم مباشرة أو سراية أو بالانضمام ولو زاد فعل أحدهم فإن اختلفوا فعلى المباشر وحده إن علم وتقدمه أو التبس تقدمه فإن علم تأخره أو اتحاد الوقت لزمه القود والآخر أرش الجراحة فقط فإن جهل المباشر لزم المتقدم أرش الجراحة فقط إن علم وإلا فلا شيء عليهما إلا من باب الدعوى فإن كان القاتل أحد الجرايح فبالسراية يلزم القود والأرش في الأخرى وهو فيهما مع لبس صاحبهما وفي المباشرة كما مر وبعضهم يحول] . قوله: "فصل: وتقتل المرأة بالرجل ولا مزيد وفي عكسه يتوفى ورثته نصف دينه". أقول: أما قتل المرأة بالرجل فالأمر ظاهر وليس في ذاك خلاف وأما قتل الرجل بالمرأة فقد ذهب الجمهور حتى حكى ابن المنذر الإجماع عليه إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء ورواه البخاري "12/214"، عن أهل العلم وقد سقنا حجج المذهبين في شرحنا للمنتقى. والحاصل أن الاستدلال بالكتاب على قتل الرجل بالمرأة أو عدمه لا يخلو من إشكال يفت في عضد الاستدلال فالأولى التعويل على ما وردت به السنة وقد ثبت في الصحيحين [البخاري "6879"، مسلم "1672"، وغيرهما أبو داود "4528"، الترمذي "1394"، النسائي "8/22"، من حديث أنس أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء به فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بحجرين فهذا فيه قتل الرجل بالمرأة ولو لم يكن ثابتا لم يقتل بها الذمى ولا المسلم وفي كتاب عمرو بن حزم المشتمل على تفصيل الديات والأروش للجنايات "أن الرجل يقتل بالمرأة" وهو كتاب كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وأخرجه مالك في الموطأ والشافعي

وعبد الرزاق وأحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه جماعة من الأئمة منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي. والحاصل أن هذا الحديث قد كثرت طرقه وخرجت في بعضها من مخرج الصحيح وفي بعضها من مخرج الحسن فالحجة قائمة والعمل بما دل عليه متعين ولم يأت من أعله بما يقدح فيه وعلى تقدير تضعيف بعض طرقه فقد صح البعض الآخر قال الشافعي في رسالته لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة وقال يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم. إذا عرفت هذا فالعجب العجب ممن يدعي أنه من أهل الإنصاف ومن العاملين بالحق المؤثرين له على الرأي كيف يدفع هذا الحديث بمجرد دعواه مخالفته لقياس أوهن من بيت العنكبوت وأخفى من السها وأبعد من كل بعيد. وأما قوله: "ويتوفى ورثته نصف ديته" فلم يدل على هذا دليل يصلح لتقييد ما دل على أنه يقتل الرجل بالمرأة فالظاهر أنه يقتل بها كما تقتل به من غير شيء. قوله: "وجماعة بواحد". أقول: قد علمنا من الحكمة في مشروعية القصاص بين العباد أن فيه للناس حياة كما قال عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، ولو كان اجتماع جماعة على قتل واحد لا يقتضي ثبوت القصاص منهم لكان هذا سببا يتذرع به إلى قتل النفوس فإن الزاجر الأعظم إنما هو القتل لا الدية فإن ذلك يسهل على أهل الأموال ويسهل أيضا على الفقراء لأنهم يعذرون عن الدية بسبب فقرهم فإذا كان القتيل ثبت قتله بفعلهم جميعا كما سيذكره المصنف فالاقتصاص منهم هو الذي تقتضيه الحكمة الشرعية الثابتة في كتاب الله عزوجل ولهذا شبه الله سبحانه قاتل النفس بمن قتل الناس جميعا ورحم الله عمر بن الخطاب ورضي عنه ما كان أبصره بالمسالك الشرعية وأعرفه بما فيه المصلحة الدينية العائدة على العباد بأعظم الفائدة فقد ثبت عنه أنه قتل سبعة بواحد تمالوا على قتله وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا قال البخاري في الصحيح قال لي ابن بشار حدثنا يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن غلاما ما قتل غيلة فقال فيه عمر: "لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به" وهو في الموطأ بأطول من هذا ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه خالف عمر في ذلك والعجب ممن يعتمد في دفع هذه المسألة ويلزم سقوط القصاص لمسألة مقدور بين قادرين وهي أهون على المتشرع من شراك نعله.

وأما قوله: "وعلى كل منهم دية كاملة إن طلبت" فوجهه أن كل واحد منهم كأنه مستقل بقتل ذلك ذلك القتيل ولهذا ثبت عليه القصاص فإن كانت الدية عوضا عن دم المقتول فالأمر هكذا وإن كانت عوضا عن دم القاتل فقد صار كل واحد منهم مستحقا للقتل. وأما هذه التفاصيل التي ذكرها المصنف هنا إلى آخر الفصل فكلها معقولة حسنة فلا نطيل الكلام عليها. [فصل وما على قاتل جماعة إلا القتل ويحفظ نفسه حتى يجتمعوا لا قالع أعينهم فالقصاص وديات الباقيات وفي الأيمن الأيمن ونحو ذلك ولو زاد أحدهما أو نقص فإن تعذر فالدية ولا يؤخذ ما تحت الأنملة بها ولا ذكر صحيح بعنين أو خصي فإن خولف جاز الاستئناف قيل ولمن هشم أن يوضح وأرش الهشم ولا شيء فيمن مات بحد أو تعزير أو قصاص ولا قصاص في الفقء ويقدم قصاص الأطراف على القتل وينتظر فيها البرء ومن اقتص فتعذر على غيره استيفاء حقه أثم وللآخر الدية من الجاني إلا الشريك فمن المقتص] . قوله: "فصل: وما على قاتل الجماعة إلا القتل". أقول: قد تقدم حديث: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل"، وهو في الصحيحين [البخاري "112"، مسلم "447، 1355"] ، وغيرهما وفي حديث آخر عند أحمد "4/31"، وأبي داود "4496"، وابن ماجه "2623"، "فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذا العقل أو يعفو فإن أراد رابعة خذوا علي يديه" وفي هذا دلالة على أن الخيار إلى أولياء المقتولين فإن طلبوا القصاص فليس على القاتل إلا تسليم نفسه إليهم ولا يجب عليه غير ذلك وإن طلبوا الديات وجب عليه تسليمها من ماله إن كان له مال. ومما يؤيد هذا قوله عزوجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] ، إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} والعفو هو قبول الدية فعرفت أن قول المصنف وما على قاتل جماعة إلا القتل مبني على أنهم طلبوا القصاص. قوله: "لا قالع أعينهم فالقصاص" الخ. أقول: إن اجتمعوا على طلب القصاص فليس لهم إلا قلع عينه وإن طلبوا ديات ما قلعه من الأعين كان لهم ذلك من ماله إن كان له مال وليس له أن يقول لا أعطيكم إلا بالقصاص لما قدمنا من الأدلة على أن التخيير إلى ورثة المقتول ويستفاد منه بفحوى الخطاب

أن الخيار إلى المجني عليه بقلع عين أو نحوها مما يجب فيه القصاص وأيضا هو مصرح بهذا في حديث أبي شريح الخزاعي المتقدم فإنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث"، الحديث. وأما قوله: "وفي الأيمن الأيمن" إلخ فظاهر وهو مدلول عليه من معنى القصاص وهكذا قوله ولا يؤخذ ما تحت الأنملة بها لأنه أخذ غير ما وجب فيه القصاص. وأما قوله: "ولا ذكر صحيح بعنين" ففيه نظر لأنه عضو كالعضو لو كان زيادة أحدهما على الآخر بوصف من الأوصاف مسقطا للقصاص لكان تفاوت الأوصاف مسقطا للقصاص ولكان تفاوت الأوصاف كمالا ونقصا موجبا لسقوط القصاص في الأنفس واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله فالعنين قد قطع منه عضو فله أن يطالب الجاني عليه قصاصا وهكذا من بصره ضعيف له أن يطالب بالقصاص ممن بصره صحيح عملا بما أطلقته الأدلة ما لم يذهب نورها بالمرة فإنه سيأتي "أنه صلى الله عليه وسلم قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها"، أخرجه النسائي "484"، وغيره أبو داود "4567"، ويمكن إلحاق ذكر العين باليد الشلاء والعين العوراء السادة لمكانها وسيأتي الكلام في تفاوت ديات مثل هذه الأشياء وأروشها ولعلنا نتكلم هنالك إن شاء الله بما فيه مزيد إيضاح. قوله: "فإن خولف جاز الاستئناف". أقول: كل واحد منهما قد جنة على الآخر عمدا جناية توجب القصاص فالخيار في الاقتصاص أو التعافي إليهما ولذا قال المصنف جاز الاستئناف وأما قوله: "قيل: ولمن هشم أن يوضح وأرش الهشم" فلا وجه له لأن الذي أثبته الشرع للمجني عليه هو القصاص أو الأرش فليس له أن يجمع بينهما ولو جاز ذلك لما كان خاصا بهذه الجناية بل كان يلزم في كل جناية بعضها معلوم القدر مأمون التعدي أن يقتص ويأخذ أرش ما زاد. قوله: "ولاشيء فيمن مات بحد أو تعزير أو قصاص". أقول: الوجه في هذا واضح لأن الله سبحانه شرع هذا سوغ لعباده استيفاءه فإذا أفضى إلى الموت مع الاقتصار على ما شرعه الله سبحانه لم يكن في ذلك ضمان لأنه مات بشرع وجب عليه فهو قتيل الشرع وأما ما ثبت في الصحيحين [البخاري "12/66"، مسلم "39/1707"] ، عن علي قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه فهو رضي الله عنه أخبر عما يجده في نفسه تورعا منه وقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه على الصفة التي ذكرناها هنالك. وأما قوله: "ولا قصاص في الفقء" فوجهه أن المصنف قال فيما سبق معلوم القدر مأمون التعدي فإذا كان الفقء غير معلوم القدر أو غير مأمون التعدي كان ذلك عذرا في ترك

القصاص لكن لا يخفاك أنه إذا ذهب بالفقء نور العين حتى لم يبق من إدراكها شيء كان داخلا تحت قوله عزوجل: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] ، لأن الاعتبار في كونها عينا هو بالإدراك بها فإذا ذهب ذلك لم تكن عينا. قوله: "ويقدم قصاص الأطراف على القتل" الخ. أقول: وجه هذا أنه قد تعلق للمقتص من الأطراف حق بها سواء كان واحدا أو جماعة وتقدم الاقتصاص بالنفس عليها يبطل ما هو ثابت من القصاص فيها لأن الاقتصاص من الميت لا يقال له قصاص ولا يسقط به حق عنه كما لا يجب فيه أرش ولا قصاص فمن هذه الحيثية وجب تقديم القصاص في الأطراف على القصاص في النفس لأنه لا يفوت تقديم القصاص في الأطراف ما يجب من القصاص في النفس بخلاف العكس وأما انتظار البرء فيها فلا وجه له إلا مجرد خيال مختل وتعليل معتل فالحق أنه يقطع ما يجب القصاص فيه من الأطراف ثم يستوفي القصاص في النفس من غير انتظار أصلا ومن أورد ما روي من أمره صلى الله عليه وسلم للمجني عليه أن ينتظر البرء ثم يقتص فقد وضع الدليل في غير موضعه فإن المراد هنا الانتظار منه لبرء الجناية الواقعة عليه حتى يتبين هل يحصل فيها سراية أو لا ليكون القصاص بعد تبين ما ينتهي إليه الأمر وهذا مسلم في المجني عليه وأما في المقتص منه فهو غير ما ورد فيه الحديث لأن المفروض أن من له القصاص قد طالب به في وقت يجوز له طلبه. قوله: "ومن اقتص فتعذر على غيره استيفاء حقه" الخ. أقول: وجه هذا أن المقتص لم يأخذ إلا ما هو حق له أوجبه الشرع فإذا كان الجاني قد جنى على اثنين أو أكثر جنايات توجب لكل واحد منهم الاقتصاص منه فسبق أحدهم بالقصاص حتى فات على غيره أن يستوفي ما يجب له من القصاص كان له أرش الجناية الواقعة عليه من مال الجاني لأنه الذي فعل ما يوجبها وليس على من استوفى ما يجب له من القصاص شيء وأما الشريك في القصاص فهو لم يستحق إلا نصيبا يخصه فإذا أقدم بعض الورثة للمقتول إلى قتل الجاني من غير أمر له من شركائه فقد استهلك حقه وحقهم فكان الضمان عليه والفرق بين المسألتين واضح ظاهر معقول. [فصل ولولي الدم إن شاهد القتل أو تواتر أو أقر له أو حكم أن يعفو ويستحق الدية وإن كره الجاني كاملة ولو بعد قطع عضو وإن يصالح ولو بفوقها وأن يقتص بضرب العنق فإن تعذر فكيف أمكن بلا تعذيب ولا إمهال إلا لوصية أو حضور غائب أو طلب ساكت أو بلوغ صغير ولا يكفي أبوه فإن فعل ضمن حصة شريكه ومتى قتل

المعسر غير المستحق فللمستحق الدية إن لم يختر الوارث الاقتصاص] . قوله: "فصل ولولي الدم إن شاهد القتل" الخ. أقول: يدل على هذا قول الله عزوجل: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإراء "33] ، فإن المراد جعلنا له سلطانا على القاتل في دم المقتول إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا وقد قدمنا ذكر الأدلة الدالة على أن الولي بخير النظرين وأنه إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا وأوضحنا أن هذا التخيير أمر راجع إليه لكن إذا كان القاتل معترفا مسلما نفسه للقصاص فللولي الاستيفاء من غير مرافعة إلى حاكم ولا إلى إمام وأما إذا كان مخاصما منكرا للقتل أو مدعيا مرافعة أو شبهة مسوغة للدعوى فليس للولي أن يستقل بنفسه بالقصاص لأنه في هذه الحالة خصم فله حكم سائر الخصوم ولا يقطع الخصومة إلا حكم الحاكم وقد تقدم للمصنف أنه ليس لمن تعذر عليه استيفاء حقه حبس حق خصمه ولا استيفاؤه إلا بحكم فكان ينبغي أن يقول هاهنا هكذا أو هذا إنما هو في منعه من الاقتصاص مع المنازعة والخصومة وأما طلب الدية فذلك حق لا يحتاج إلى حاكم إلا أن يدعي القاتل المدافعة فإنها توجب سقوط القصاص والدية فليس للولي أن يجبره على تسليم الدية إلا بعد المرافعة إلى الحاكم وأما العفو فلا شك أن لا الاستقلال بذلك من دون مرافعة لأنه إحسان محض وتفضل خالص إن كان عفوا شاملا للقصاص والدية وأما إذا كان خاصا بالقصاص دون الدية فلا استقلال بذلك إذا كان القاتل غير منازع في وجوبها عليه كما يجوز للولي أن يختار الدية ابتداء وأما مع المنازعة فلا بد من المرافعة كما قدمنا. وأما قوله: "ولو بعد قطع عضو" فلا بد من اعتبار رضا الجاني بذلك وإلا كان الواجب على قاطع العضو أن يسلم نفسه للقصاص فيه أو يسلم ديته ثم يقتص من الجاني ولا وجه لما قيل إنه لا يلزمه في قطع هذا العضو شيء فإن ذلك ظلم بحت لعلة مختلة. وأما قوله: "وأن يصالح ولو بفوقها" فهذا مقيد برضا الجاني فإن رضي بذلك فله أن يفتدي نفسه ولو بأضعاف الدية وأما إذا لم يرض فليس للولي إلا طلب الدية فقط ولم يخيره الشارع إلا بين الدية الشرعية والقصاص والعفو ولا سبيل له إلى طلب زيادة على الدية كما أنه لا سبيل له لو طلب أن يقتل القاتل قتلة لم يبحها الشرع أو يمثل به أو نحو ذلك. قوله: "وأن يقتص بضرب العنق". أقول: وجه هذا أنه كان العمل به في أيام النبوة وعدم المجاوزة له إلى غيره فكان صلى الله عليه وسلم يأمر بضرب عنق من استحق القتل وكان الصحابة إذا رأوا رجلا يستحق القتل قال قائلهم دعني يا رسول الله أضرب عنقه حتى قيل إن القتل بغير ضرب العنق مثلة وقد ورد النهي عنها في عدة أحاديث حتى قال عمران بن حصين: ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة أخرجه أحمد "4/440"، والطبراني وأخرجه النسائي "4047"، بإسناد رجالها ثقات عن أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة"، ويؤيد هذا

ما عند مسلم "1955"، وأهل السنن أبو داود "2815"، الترمذي "1409"، النسائي "7/227"، ابن ماجة "1370"، من حديث شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"، وإحسان القتل لا يحصل بغير ضرب العنق بالسيف ومع هذا فقد ورد مرفوعا من حديث جماعة من الصحابة بلفظ: "لا قود إلا بالسيف"، [ابن ماجة "2667"، وهو وإن كان في طريق من طرقه مقال فقد شهد بعضها لبعض وقوى بعضها بعضا. وأما ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم رض رأس اليهودي الذي قتل الجارية بين حجرين كما في الصحيحين وغيرهما فغاية ما هناك أن يكون هذا مختصا لمن وقع منه القتل على هذه الصفة فإن اليهودي رض رأس الجارية بين حجرين ففعل به النبي صلى الله عليه وسلم كما فعل بها. وأما الاستدلال بمثل قوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] ، وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وما ورد في معنى هذه الآيات فهو الاستدلال بالعام مع وجود الخاص الصالح لتخصيصه ولو سلمنا لكان ذلك دالا على أنه يفعل بالقاتل كما فعل بالمقتول إلا أن يكون في القتل مثله فلا يجوز أن يقتص منه بمثل ما فعل لأن النهي عن المثلة أخص مطلقا من هذه الآيات وأما إذا تعذر الاقتصاص بضرب العنق فكيف أمكن بلا تعذيب كما قال المصنف لأن الضرورة اقتضت بذلك وله استيفاء حقه بحسب المكان. قوله: "ولا إمهال إلا لوصية" الخ. أقول: الوجه في لزوم الإمهال في هذه الأمور واضح وأما الوصية فلكون التخلص مما يجب على القاتل من الحقوق واجب وقد تكون منها حقوق للغير فلا يستوفي المقتص حقه بإبطال حق غيره. وأما الإمهال لحضور غائب من جملة المستحقين للقصاص فلكونه قد يعفو أو يختار الدية وأما الإمهال لطلب ساكت فلكونه قد ينطق بما يوجب سقوط القصاص وأما الإمهال لبلوغ صبي فوجهه أنه من جملة المستحقين للقصاص فالانتظار لبلوغه واجب بإيجاب الشرع لعدم صحة اختياره قبل بلوغه وله بعد بلوغه أن يختار ما شاء ومن جملة ما يجوز له اختياره العفو أو الدية ومع كون الانتظار حقا للصغير فهو أيضا حق للقاتل لجواز أن يسقط القصاص عنه عند بلوغه. وأما ما روي في قصة ابن ملجم فالمسألة من مطارح الاجتهاد ومسارح النظر ولم يكن ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه حتى يكون له حكم الرفع. وأما قوله: "فلا يكفي أبوه" إلخ فصواب. قوله: "ومتى قتل المعسر غير المستحق" الخ. أقول: وجه ذلك أنه بقتله لمن كان دمه مستحقا للغير قد فوت عليه حقه الثابت شرعا فكان له مطالبته بالدية عوضا عن الدم الذي فوته عليه وأما تقييد هذا بقوله إن

لم يختر الوارث الاقتصاص, فمناقض لما حكم به من أن دمه قد صار مستحقا لورثة من قتله المعسر فكيف يطالب ورثة المعسر بالقصاص بدم قد صار مستحقا لغيرهم فإن قلت إذا بذلوا تسليم الدية التي كانت على مورثهم قلت إذا فعلوا ذلك كان لهم الاقتصاص لأنه لم يجب على مورثهم إلا الدية وقد سلموها فصار دمه مستحقا لهم لا لورثة القتيل الأول. [فصل ويسقط بالعفو عنه ولو من أحد الشركاء وشهادته به عليهم وإن أنكروا والجاني ولا تسقط الدية ما لم يصرح بها أو يعف عن دم المقتول ولا في المرض إلا من الثلث ويكون أحدهم فرعا أو نحوه ويقول المجني عليه أخطأت وإن قال له تعمدت أو ما فعلت وإن بين الورثة وبانكشافه مستحقا وبإرثه بعض القصاص لا بالإكراه وتهدد المقتول أولا و! ومشاركة من يسقط عنه غالبا والإباحة والعفو من أحد القاتلين. قوله: "فصل: ويسقط بالعفو عنه ولو من أحد الشركاء". أقول: الوجه في هذا واضح لأنه صار بعض دمه بهذا العفو غير مستحق للغير فلا يجوز سفكه بغير حقه وإلا كان ذلك ظلما له وهذا مانع ظاهر واضح لا يحتاج إلى الاستدلال عليه وهكذا الوجه في قوله وبشهادته عليهم لأنه بالشهادة قد اعترف اعترافا مؤكدا أن المشهود عليهم من الشركاء قد عفوا وذلك يوجب سقوط حقه من القصاص لأنه يسقط بالعفو من أحد الشركاء كما تقدم. وأما قوله: "ولا تسقط الدية" فوجهه أن العفو عن القصاص لا يستلزم العفو عن الدية وقد قدمنا الكلام على الأحاديث المتضمنة لكون الولي مخيرا بين القصاص والدية والعفو فعفوه عن القصاص لا يسقط به ما يجب له من الدية. وأما قوله: "ما لم يصرح بها أو يعفو عن دم المقتول" فالوجه في ذلك واضح أما التصريح بها فليس بعد أن يقول عفوت عن القصاص والدية وزيادة في اقتضاء السقوط. وأما قوله: "أو يعفو عن دم المقتول" فلكون القصاص أو الدية عوضا عنه فإذا أسقطه سقط ما هو عوض عنه وهكذا إذا قال عفوت عنه وأطلق فإن ظاهره أنه عفا عن الفعل الصادر منه فليس له بعد ذلك أن يطالب بالدية ولا بالقصاص وقوله ولا في المرض إلا من الثلث فوجهه ما سيأتي في الوصايا إن شاء الله تعالى. قوله: "ولا يكون أحدهم فرعا ونحوه". أقول: المراد إذا كان أحد المستحقين للقصاص لا يجب له القصاص عن القائل إما بكونه

فرعا له أو بغير ذلك فإنه قد يسقط نصيبه فلم يكن من عداه من الشركاء مستحقا لسفك دمه لأنه لا يستحق إلا بعضه وإلا كان ذلك ظلما للقاتل وأخذا له بما لا يوجبه الشرع ولا يسوغه. قوله: "ويقول المجني عليه أخطأت". أقول: لا شك أن الخطأ في الشرع لا يوجب القصاص لا في النفس ولا في الأطراف وأما عند أهل اللغة فقد قيل إنه يقال أخطأ إذا جاء بما يخالف الصواب وإن كان عمدا ويقال أخطأ إذا لم يتعمد ولكن قد عرفناك غير مرة أن الواجب الحمل على الأعراف الغالبة في مدلولات من هو من أهلها لأن كل متكلم يتكلم بعرفه في كل ما أطلقه من كلامه ولا يجوز أن نفسر كلامه بغير عرفه إلا بقرينة تقتضي ذلك فإذا كان الخطأ في عرفه لا ينافي العمد لم يسقط القصاص بقوله أخطأت وإن كان ينافي العمد سقط لأنه لم يكمل المقتضي للقصاص باعترافه وإن قال الجاني تعمدت فلا اعتبار بذلك لأن المستحق للدم قد عبر عن نفسه بما ينافي ما أقر به الجاني فلم يثبت له عليه قصاص وهكذا قول المجني عليه ما فعلت فإنه اعتراف ببراءة سراحة الجاني من الفعل فلم يثبت القصاص عليه باعتراف من هو له ولا حكم لبينة الوارثة بما يخالف ذلك لأن مورثهم قد اعترف بما يدفع الشهادة وينافيها. قوله: "وبانكشافه مستحقا". أقول: وجهه أن القاتل استوفى حقه من المقتول فلم يتعلق به شيء وهكذا إذا ثبت أنه وارث لبعض القصاص فإنه قد استحق بعض ما يوجب القصاص عليه فلا يجوز أن يستوفي منه القصاص بعد سقوط بعضه وهذا ظاهر. وأما قوله: "وبالإكراه" فوجهه واضح إذا بلغ الحد الذي يصير به الفعل منه كلافعل وأما لو بقي له فعل فلا يجوز كما تقدم في باب الإكراه. وأما قوله: "ولا تهدد المقتول" فوجهه أن لا يثبت له حكم المرافعة بمجرد هذا التهدد لأنه هذيان باللسان لا يستلزم وقوع مدلوله في الخارج. وأما قوله: "ولا لمشاركة من يسقط عنه" فالوجه في هذا أنه تقدم ثبوت قتل الجماعة بالواحد فسقوط القصاص عن أحدهم لا يستلزم سقوطه عن المشاركين له في القتل وهذا من الوضوح بمكان يستغنى عن ذكره وقد قدمنا في تقرير قتل الجماعة بالواحد ما فيه كفاية ومثل هذا العفو عن أحد القاتلين فإنه قد صار دم كل واحد منهم مستحقا على انفراده فلا يستلزم اسقاط القصاص عن أحدهم إسقاطه عن المشاركين له. وأما قوله: "ولا بالإباحة" فلكون هذا لا يستباح بالإباحة لكن لا بد من تقييد هذا بكون القاتل قد علم أن هذا لا يستباح بالإباحة أما لو لم يعلم فإنه ينتفي لعدم علمه قيد العدوان وهو معتبر في سقوط القصاص.

[فصل ولا شيء في راقي نخلة مات بالرؤية غالبا أو بالزجر إن لم ينزجر بدونه ولا على الممسك والصابر إلا الأدب بل المعري والحابس حتى مات جوعا أو بردا وفي المكره خلاف والعبرة في عبد وكافر رميا فاختلف حالهما بالمسقط لا بالأنتهاء] . قوله: "فصل ولا شيء في راقي نخلة" الخ. أقول: وجه هذا أن التعدي من الراقي لكونه ملكا للغير لم يأذن له الشرع بدخوله ولا بالصعود على النابت فيه فإذا فزع برؤية المالك فسقط فهلك فهو الجاني على نفسه لم يحصل من المالك سبب يوجب الضمان لأنه دخل ملكه ونظره فصادف النظر من دخل إليه تعديا وهكذا له أن يزجره عن دخوله إلى ملكه وصعوده إلى شجره لأن للمالك أن يذب عن ملكه بما يدفع به المتعدي ولو فعل من الزجر ما يندفع بدونه وما المانع له من ذلك فهو زجر من يستحق الزجر وصاح على سارق ورفع صوته على من لم يمتثل لما شرعه الله وعلى من تعدى حدوده. قوله: "ولا على الممسك والصابر إلا الأدب". أقول: كل واحد منهما قد فعل عظيما واقترف إثما كبيرا ولكن لما كان ذهاب حياته بفعل القاتل كان هو الجاني على الحقيقة ويرجع في عقوبة الممسك والصابر إلى ما يراه الإمام أو الحاكم من الحبس لما أخرجه الدارقطني والبيهقي بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك"، وصححه ابن القطان. وأما المعري والحابس حتى مات جوعا أو بردا فلا يخفى أنهما قاتلان عمدا عدوانا ولا اعتبار باختلاف الأسباب التي كان بها ذهاب الحياة ومفارقة الروح للجسد وليسا بمسببين بل هما مباشران بالتعرية أو الحبس فإن ذلك لا فرق بينه وبين القتل بالسيف والطعن بالرمح لأن كل واحد منهما قد أفضى إلى الموت كما أفضى إليه الضرب والطعن ومن يعقل الحقائق كما ينبغي لم يخف عليه مثل هذا. قوله: "وفي المكره خلاف". أقول: المسلم معصوم بعصمة الإسلام فلا يجوز الإقدام على سفك دمه لمجرد الإكراه بل على من طلب منه ذلك أن يمتنع ولو خشي على نفسه القتل فضلا عما دونه فليس له أن يطلب حياة نفسه بموت غيره ويجعل نفس المسلم فداء لنفسه فإذا أقدم على قتله مع تمكنه من الكف فقد أقدم إقداما يخالف الشرع فاستحق أن يقتص منه وأما إذا لم يتمكن من الكف بوجه من الوجوه كأن يضع المكره له سيفا في يده ثم يأخذ بيده فيضرب بها عنق رجل فلا شك ولا ريب أن القصاص هاهنا على المكره له لأنه صار كالآبة له وليس على من وقع عليه الإكراه

لا قود ولا دية وقد تقدم للمصنف في باب الإكراه أنه يجوز بالإكراه بقتل أو قطع عضو كل محظور إلا الزنا وإيلام الآدمي وسبه وتقدم أيضا أنه يضمن أمر الضعيف قويا وقدمنا في الموضعين ما ينبغي الرجوع إليه حتى يجري الكلام على نمط واحد. قوله: "والعبرة في عبد وكافر إلخ". أقول: المصنف قد اعتبر في المفعول بالمسقط كما هنا وفي الفاعل بحال الفعل كما تقدم ولا مقتضى بالفرق من عقل ولا نقل فينبغي أن يكون الكلام في الموضعين متحدا ويتنزل على الخلاف في اعتبار الابتداء والانتهاء وقد ذكرنا في مواضع أن اعتبار الانتهاء أقرب من الحق وأوفق بقواعد الشرع. [فصل والخطأ ما وقع بسبب أو من غير مكلف أو غير قاصد للمقتول ونحوه أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة وإلا فعمد وإن ظن الاستحقاق غالبا وما سببه منه فهدر ومنه تعديه في الموقف فوقع ليه غير متعد فيه خطأ والعكس] . قوله: "فصل: والخطأ ما وقع بسبب". أقول: لا وجه لهذا الإطلاق فإن الأسباب تختلف فما كان منها مفضيا إلى الموت من غير مشارك فهو مباشرة لا تسبيب ويجب على فاعله القصاص كما قدمنا في المعري والحابس وكما تقدم للمصنف في شهادة الزور في الحدود والقصاص وإن لم يكن السبب مفضيا إلى الموت بنفسه كالممسك والصابر حتى قتله غيرهما وكما سيأتي للمصنف في الفصل الذي بين فيه صور الأسباب فلا يجب على فاعل هذا السبب القصاص. وأما قوله: "أو من غير مكلف" فالوجه فيه ظاهر وهكذا قوله أو غير قاصد للمقتول فإن عدم القصد ينافي وصف العمد ووصف العدوان. قوله: "أو غير قاصد للمقتول ونحوه بما مثله لا يقتل في العادة". أقول: هذا قد جاء به النص فأخرج أحمد 16/51"، وأبو داود "4547"، والنسائي "8/41"، وابن ماجه "2627"، والبخاري في التاريخ والدارقطني من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل الصوت والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها"، وفي الحديث اختلاف ولكنه قد صححه ابن حبان وابن القطان ويؤيده ما أخرجه أبو داود "4549"، من حديث عبد الله بن عمر بمثله ومثله ما أخرجه أحمد "2/11، 36"، وأبو داود "4549"، والنسائي "8/42"، وابن ماجه "2628"، والبخاري في تاريخه والدارقطني.

فهذه الأحاديث قد أفادت أن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل الصوت والعصا كما هو مصرح به في كل واحد منهما مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهرها ولو كان القاتل متعمدا فإن مجرد كون الآلة على هذه الصفة يكفي في كون القتل خطأ وأنه لا يجب فيه إلا الدية المذكورة. ومن الخطأ الذي هو شبه العمد ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل السلاح"، وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الدمشقي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه غير واحد وهذه الصورة تدل على قول المصنف أو غير قاصد للمقتول وعلى قوله أو للقتل لما مثله لا يقتل في العادة فإن ثوران الفتنة بين الناس الغالب فيها أنه لا يقصد القتل ولا شخصا معينا ولهذا قال رسول الله: "في غير ضغينة ولا حمل سلاح" وأما إذا كانت الآلة مثلها يقتل في العادة وإن لم يكن من المحدد فإن القصاص فيها واجب كما تقدم في رض رأس اليهودي الذي رض رأس الجارية وكما أخرجه أحمد "13/136"، وأبو داود "4572"، والنسائي "4820"، وابن ماجه "2641"، من حديث حمل بن مالك قال" كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل بها وقد ذهب إلى وجوب القصاص في مثل هذا الجمهور وهو الحق وأدلة الكتاب والسنة المثبتة للقصاص تشمله وليس بيد من قال إنه لا قصاص في القتل بغير المحدد مطلقا دليل تقوم به الحجة ولا حجة فيما ورد من طريق الكذابين والوضاعين وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ الذي هو شبه العمد بيانا شافيا فلنقتصر عليه ونرد ما عداه إلى ما شرعه الله لعباده من القصاص في العمد العدوان وقد أصاب المصنف باقتصاره في بيان قتل الخطأ على هذه الصور الأربع وحكمه على ما عداها بأنه عمد وهكذا أصاب في قوله وإن ظن الاستحقاق لأن العمل بالظن في سفك الدماء المعصومة لا تبطل حقا وإن كان دون القتل فضلا عن القتل. قوله: "وما سببه منه فهدر" الخ. أقول: قد حكم في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين [البخاري "6892"، مسلم "1673"، وغيرهما الترمذي "1416"، النسائي "8/28، 29"] ، من حديث عمران بن حصين أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك"، وفي الصحيحين [البخاري "6893"، مسلم "1674"، وغيرهما أبو داود "4584"، النسائي "8/29، 30"] ، من حديث يعلى بن أمية قال كان لي أجير فقاتل إنسانا فعض أحدهما صاحبه فانتزع أصبعه فأندر ثنيته فسقطت فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته وقال: "أيدع يده في فيك لتقضمها كما يقضم الفحل".

[فصل والخطأ ما لزم به فعلى العاقلة بشروط ستأتي كمتجاذبي حبلهما فانقطع فيضمن كلا عاقلة الآخر ولو كان أحدهما عبدا لزمت عاقلة الحر قيمته ويصير لورثتيه ومثلهما الغارسان والفلكان اصطدما خطأ وكحافر بئر تعديا فتضمن عاقلته الوقوع فيها لا على من تضمن جنايته أو ما وضعه من ماء أو غيره فيشتركان فإن تعدد الواقعون متجاذبين أولا متصادمين أولا عمل بمتضي! الحال من خطأ وعمد وتحصيص وإهدار وكطبيب سلم غير المطلوب جاهلين فإن علم قتل إن جهل المتسلم وانتول من يده ولو طلبه وكمن أسقطت بشراب أو عرك ولو عمدا وفيما خرج حيا الدية وميتا الغرة] . قوله: "فصل: والخطأ ما لزم به فعلى العاقلة" الخ. أقول: أراد المصنف أن يذكر هاهنا بعض صور الخطأ ويذكر كيفية الضمان فيها وسيأتي له استيفاء صور الخطأ في قوله فصل والمسبب المضمون. وأما وجه لزوم دية الخطأ على العاقل فسيأتي بيانه في الفصل الذي عقده المصنف لذلك. وقوله: "كمتجاذبي حبلهما" إلخ وجهه أن الحبل حيث كان لهما لا يتصف أحدهما بالتعدي لأنه جذب ما يملك بعضه ولو كان الحبل لأحدهما لكان الآخر متعديا. وأما قوله: "ولو كان أحدهما عبدا" إلخ فالظاهر أنه يلزم سيده أن يغرم لورثة الحر قدر قيمته وكغرم عاقلة الحر للسيد قدر قيمة العبد فإذا اتفقا تساقطا وهكذا الكلام في اصطدام الغارسين والفلكين خطأ. قوله: "وكحافر بئر تعديا" الخ. أقول: مجرد الحفر تعديا يصلح سببا للضمان إذا كان وقوع الواقع فيها لا عن تعمد منه كأن يمشي ليلا فيقع فيها أو يكون بصره ضعيفا فهذا من الأسباب التي تضمنها العاقلة. وأما قوله: "لا بالوقوع على من تضمن جنايته" فإن كان الواقف في الحفيرة غير متعد فلا وجه لمشاركته في الضمان أصلا لأنه ورد عليه ما لم يتسبب لوقوعه ولا يطيق دفعه والعجب من الجزم بمثل هذه الأحكام بلا عقل ولا نقل وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين [البخاري "6912"، مسلم "1710"، وغيرهما الترمذي "642، 1377"] ، أنه قال: "البئر جبار"، وإنما أثبتنا الضمان على الحافر تعديا لتعديه فقط ولو لم يكن متعديا لم يلزمه ضمان ألبتة لهذا الحديث وبهذا تعرف أن قوله: "فإن تعدد الواقعون" إلخ مبني على التعدي من الحافر وإلا فلا يلزمه شيء من الضمان والأولى العمل في المتجاذبين بما أخرجه أحمد والبزار والبيهقي من حديث حنش بن المعتمر عن علي أن ناسا باليمن حفروا زبية للأسد فوقع الأسد فيها فازدحم الناس فتردى فيها واحد فتعلق بواحد فجذبه وجذب الثاني ثالثا

والثالث رابعا فرفع ذلك إلى علي فقال للأول ربع الدية وللثاني الثلث وللثالث النصف وللربع الجميع فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمضى قضاءه قال ابن حجر في التلخيص قال البزار لا نعلمه يروى إلا عن علي ولا نعلم له إلا هذا الطريق وحنش ضعيف انتهى قلت ليس فيه من الجرح ما يوجب عدم الاعتبار بحديثه فإن غاية ما قيل فيه ما قاله البخاري إنهم يتكلمون فيه وما قاله النسائي إنهم يتكلمون فيه وهذا لا يوجب جرحا يوجب ترك العمل بالحديث وتأثير الرأي عليه مع أن أبا داود وثقه وبين ابن حجر في التقريب وجه الجرح فقال صدوق له أوهام ويرسل انتهى وهذا القدح ليس بشيء فالوهم في أحاديثه قد بينه الحفاظ وكذلك الإرسال فلم يبق في بقية أحاديثه علة قادحة وأخرج الدارقطني والبيهقي عن علي بن رباح أن أعمى كان يقود بصيرا فوقع في بئر فوقع الأعمى على البصير فمات البصير فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى وفيه انقطاع. قوله: "وكطبيب سلم غير المطلوب جاهلين". أقول: هذا لا شك في أنه من قتل الخطأ للجهل الحاصل لهما ولا شك أنه من القتل بالمباشرة كقتل السيف والرمح إذا علم الطبيب وجهل المسلم فيجب فيه القصاص إن اختاره الورثة. وأما قوله: "كمن أسقطت بشراب أو عرك ولو عمدا" فلا وجه له لأن العرك مباشرة وكذلك الذي سقاها الشراب إذا كان موت الجنين بالشراب ويجب فيه بعد أن صار ذا روح الغرة إن خرج ميتا وإن خرج حيا وحصل اليقين بأن الموت بسبب العرك أو الشراب كان فيه الدية وقد وقع في حديث إيجاب الغرة في الجنين ما يدل على أنه خرج ميتا كما في الصحيحين [البخاري "12/252"، مسلم ط35/1681"، وغيرهما الترمذي "أبو داود "4577"، الترمذي "2111"، النسائي "4832"] ، من حديث أبي هريرة قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة وقد اختلفت الأحاديث في تعيين الغرة ما هي ولكن هذا الحديث أرجح من الأحاديث المخالفة له ولا سيما بعد موافقة حديث المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة الثابت في الصحيحين [البخاري "2905، 6906"، مسلم "39/1689"، وغيرهما أبو داود "4570"، ابن ماجة "2640"، له فإنه روى المغيرة بن شعبة عن عمر أنه استشارهم في إملاص المرأة فقال المغيرة قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالغرة عبد أو أمة فشهد محمد ابن مسلمة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى به. [فصل والمباشر مضمون وإن لم يتعد فيضمن غريقا من أمسكه فأرسله لخشية تلفهما لا المسبب إلا لتعد في السبب أو سببه] .

قوله: "فصل: والمباشر مضمون وإن لم يتعد فيه فيضمن غريقا من أمسكه فأرسله". أقول: لا شك أن إنقاذ الغريق من أهم الواجبات على كل قادر على إنقاذه فإذا أخذ في إنقاذه فتعلق به حتى خشي على نفسه أن يغرق مثله فليس عليه في هذه الحالة وجوب لا شرعا ولا عقلا فيخلص نفسه منه ويدعه سواء كان قد أشرف على النجاة أم لا بل ظاهر قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، أنه يجب عليه تخليص نفسه والآية هذه وإن كانت واردة على سبب خاص كما في سنن أبي داود وغيرهما فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول وهو الحق فالعجب من حكم المصنف على من أرسله لخشية التلف بالضمان فإن هذا لا يطابق شيئا من الشرع وإنما هو رجوع إلى مجرد رأي قد تقرر في الأذهان التي تقبل هذا وأمثاله من دون أن تزنه بميزان الشرع. وأما قوله: "لا المسبب إلا لتعد في السبب أو سببه" فهكذا ينبغي أن يقال وملاك الأمر في ضمان المسببات عن الأسباب هو التعدي. [فصل والمسبب المضمون جناية ما وضع بتعد في حق عام أو ملك الغير من حجر وماء وبئر ونار أينما بلغت وحيوان كعقرب لم ينتقل أو عقور مطلقا ومنه ظاهر الميزاب والقرار على آمر المحجور مطلقا وغيره إن جهل وإلا فعليه وجناية المائل إلى غير الملك وهي على عاقلة المالك العالم متمكن الإصلاح حسب حصته وشبكة نصبت في غير الملك ولم يزل التغرير ووضع صبي مع من لا يحفظ مثله أو في موضع خطير أو أمره بغير المعتاد أو إفزاعه وأما تأديب أو ضم غير معتاد فمباشرة مضمون قيل والمعتاد خطأ وجناية دابة طردت في حق عام أو ملك الغير أو فرط في حفظها حيث يجب فأما رفسها فعلى السائق والقائد والراكب مطلقا والكفارة فإن اتفقوا كفر الراكب فأما بولها وروثها وشمسها فهدر غالبا وكذلك نفحتها وكبحها ونسخها المعتادة وإلا فمضمونة هي وما تولد منها حيث يجب التحفظ] . قوله: "فصل: والمسبب المضمون" الخ. أقول: ذكر في هذا الفصل صورا من جنايات الخطأ بالتسبب ليتقرر معناه في ذهن الطالب ويرتسم الفرق بين الخطأ مباشرة والخطأ تسبيبا لما في ذلك من الالتباس في بعض الصور فقال جناية ما وضع بتعد في حق عام أو ملك الغير.

أما ملك الغير فوجه التعدي فيه واضح وأما في الحق العام فلكونه لا يجوز له ذلك إلا بإذن من له ذلك إن كانوا منحصرين أو بإذن الإمام إن كانوا غير منحصرين. وأما قوله: "من حجر" إلخ فالظاهر لزوم الضمان فيما كان من الجنايات ناسيا من أثر فعله من غير فرق بين الانتقال وعدمه إلا إذا رجع مثلا العقرب والعقور إلى المحل الذي أخذه منه وجنى بعد ذلك فإن الجناية حينئذ ليست من أثر فعل الناقل. وهكذا قوله: "ومنه ظاهر الميزاب" فإنه من جناية الخطأ تسبيبا لأنه إذا سقط على مارة الطريق فهو لعدم إحكامه ولا وجه للتقييد بالظاهر بل يضمن جنايتهما جميعا إذا سقط وأما إذا وقعت الجناية وهو ثابت في محله ولم يحصل التعدي بوضعه فلا ضمان من غير فرق بين الظاهر وبين ما هو ملصق بالبناء. قوله: "وعلى آمر المحجور" الخ. أقول: قد تقرر أن جناية الصبي والمجنون مضمونة من مالهما لأن ذلك من أحكام الوضع لا من أحكام التكليف وقد تقدم له أنه يضمن آمر الضعيف قويا من غير فرق بين المحجور وغيره ويكون قرار الضمان مع الجهل من المحجور ومن غيره على الآمر لأنه حصل منه التغرير والمغرور. يغرم الغار وأما قوله: "وجناية المائل إلى غير الملك" إلخ فوجهه أن ترك إصلاحه مع كونه يخشى سقوطه إلى غير ملكه هو من التعدي في الأسباب وقد تقدم أنه هو الموجب للضمان ولا يتم التعدي إلا إذا كان قادرا على الإصلاح فإن كان لا يقدر عليه وأمكنه الهدم أو البيع إلى غيره ولم يفعل فهو أيضا ضامن وإن لم يتمكن بوجه من الوجوه فلا ضمان عليه. وأما قوله: "وهي على عاقلة المالك العالم" فلا وجه لذكره هنا لأنه سيأتي الكلام له في ضمان العاقلة لما يشمل هذا أو غيره. ومن الأسباب أيضا قوله وشبكة نصبت في غير الملك إلخ وهذا وإن كان قد أفاده ما تقدم في أول هذا الفصل من قوله من حجر إلخ لكن مقصود المصنف مزيد الإيضاح بتعداد الصور كما قدمنا. وهكذا قوله: "ووضع صبي" إلخ لظهور التعدي الذي هو المناط في ضمان فاعل السبب. وأما الإفزاع فإن كان بصوت أو نحوه من المباشرة لا من التسبيب كالتأديب والضم الذي لم تجر به عادة. ومن الأسباب جناية دابة طردت في حق عام أو في ملك الغير لأنه بهذا الطرد إلى مكان لا يجوز له التصرف فيه مستقلا بنفسه قد صار متعديا فلزمه الضمان وقد سوى المصنف بين الطرد والتفريط في الحفظ وهو صواب لكن ينبغي تقييد ذلك بأن يكون طردها أو التفريط في حفظها كائنا في الليل لما أخرجه أحمد "5/435، 436"، وأبو داود "3570"، والنسائي "5784/1"، وابن ماجه "2332"،، ومالك في الموطأ والشافعي والدارقطني وابن حبان

وصححه والحاكم والبيهقي من حديث حرام بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها وقد ذكر ابن حجر الاختلاف الواقع في هذا الحديث وهو لا يقدح في الاحتجاج به لأن غايته أنه روي من طرق وذلك مما يزيده قوة فلا ضمان على أهل المواشي فيما أفسدت نهارا ويؤيد هذا حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جرحها جبار"، ويلحق بالجرح سائر ما أفسدت لعدم الفارق ويخص من ذلك ما تقدم في الحديث أن ما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها فبقي ما أفسدت في النهار داخلا تحت العموم ويخص أيضا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين أو في سوق من أسواقهم فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن"، ولكنه ضعفه البيهقي فينظر في وجه التضعيف. وهذا الحديث هو الوجه لقول المصنف: "فأما رفسها فعلى السائق والقائد والراكب مطلقا" وأما التعرض لذكر الكفارة هنا فلا وجه له فإنه سيأتي له الكلام في ذلك مفصلا. وأما قوله: "فإن اتفقوا كفر الراكب" فكلام لا يصح وفرق غير متضح فإنه إذا كان الركوب مؤثرا للزوم الكفارة عليه وحده كان مؤثرا للزوم أرش الجناية له لعدم الفرق ودعوى اتصافه بالمباشرة دون السائق والقائد غير معقولة بل تأثير السوق والقود في حركة الدابة أكثر من تأثير الركوب. وأما قوله: "فأما بولها" إلخ فوجهه عدم التعدي من مالكها فلم يحصل الضمان مع كون هذه الأمور داخلة تحت عموم حديث العجماء جبار فإن المراد بالجبار الهدر كما فسره بذلك أهل اللغة. وأما نفجها وكبحها أو نخسها فإن لم يفعل إلا ما يعتاده الناس في ذلك فلا ضمان عليه لأنه فعل في ملكه ما أباحه له الشرع وإن فعل غير المعتاد كان بذلك متعديا فيلزم الضمان ولا سيما إذا كان في سبيل من سبل المسلمين وفي سوق من أسواقهم كما تقدم في الحديث. [فصل والكفارة على بالغ عاقل مسلم قتل أو نائما مسلما أو معاهدا غير جنين خطأ مباشرة أو في حكمها أن يكفر برقبة مكلفة مؤمنة سليمة ولو قبل الموت بعد الجرح فإن لم يجد أو كان عبدا فيصوم شهرين ولاء وتعدد على جماعة لا الدية] . قوله: "فصل: والكفارة على بالغ عاقل" الخ. أقول: اعلم أن إيجاب الكفارة في هذا الباب وفي غيره تكفير ذنب من وجبت عليه

بما فعله من الفعل المقتضي للإثم فإن كان وجوبها في القتل لهذا المعنى فكيف لزمت من هو قاتل خطأ لا عمد فيه ولا عدوان فإن ذلك مغفور من الأصل كما في قوله سبحانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عن الله سبحانه أنه قال قد فعلت ومن ذلك حديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وقد قدمنا لك أن طرقه قد عضد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض فصلح للاحتجاج به وإن كان وجوبها تعبدا لحكمة خفيت على العباد فسمعا وطاعة لما أوجبه الله على عباده وهو ظاهر قوله عزوجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] , ولكنه ينبغي الاقتصار على مورد النص وهو أن يكون القاتل خطأ مؤمنا والمقتول مؤمنا فإذا انتفى وصف الإيمان من أحدهما فلا كفارة وكذلك قوله عزوجل: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة} وقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية لتكون الكفارة واجبة حيث كان المقتول من قوم بيننا وبينهم ميثاق أو من قوم هم عدو لنا وكان المقتول مؤمنا وسقط القصاص بوجه من الوجوه ولم يجب إلا الدية. وإذا تقرر لك هذا فما هو الواجب للكفارة على كل قاتل خطأ فإن قيل إنه حديث وائلة بن الأسقع عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حبان والحاكم قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار"، فيقال هذا الحديث يدل على أن من استوجب العذاب بفعل معصية كائنة ما كانت من قتل أو غيره كان التكفير مشروعا له ومعلوم أن قاتل لخطأ لا إثم عليه ألبتة كما قدمنا فهو لم يستوجب العذاب فهو مؤكد للسؤال الذي ذكرناه ومؤيد له. وأما ما روي في هذا الحديث بزيادة: "قد استوجب النار بالقتل" فهو لم يثبت عند أحد من هؤلاء الذين خرجوه من أهل الحديث وعلى فرض ثبوته فهو خاص لمن استوجب النار بالقتل وهو القاتل عمدا عدوانا إذا سقط عنه القصاص بعفو أو نحوه ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم في المعرفة من حديث خزيمة بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "القتل كفارة"، قال ابن حجر وفيه ابن لهيعة لكنه من حديث ابن وهب عنه فكان حسنا قال ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه والأصل فيه حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم: "من أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو كفارة" الحديث وهو في البخاري بلفظ: "كفارته" انتهى فعرفت بهذا أن القاتل إذا قتل قصاصا لم يجب عليه كفارة وفيه دليل على أنه إذا لم يقتل قصاصا فعليه الكفارة. فحاصل ما دلت عليه الأدلة أن الكفارة تجب في قتل المؤمن للمؤمنين خطأ لا إذا كانا مسلمين غير مؤمنين أو أحدهما ويجب في الفعل من قوم بيننا وبينهم ميثاق ومن قوم هم عدو لنا والمقتول مؤمن وسقط القصاص عن القاتل بوجه من الوجوه ويجب على قاتل العمد إذا سقط عنه القصاص بوجه ولا دليل على إيجابها على كل قاتل خطأ لما عرفناك من أنه لا ذنب

عليه سواء قتل بالتسبب أو المباشرة وإذا تبين لك هذا عرفت الكلام على ما ذكره المصنف من الشروط في هذا الفصل. وأما كون الرقبة مؤمنة فلتصريح الكتاب العزيز بذلك وأما اشتراط سلامتها من العيوب فليس في أدلة الكتاب والسنة ما يفيد ذلك وقد دلت الآية على أن من لم يجد رقبة صام وأما تعددها على الجماعة فهو الظاهر لكن في الصور الثلاث التي ذكرناها لا مطلقا والوجه في ذلك ما قدمنا في قتل الجماعة بالواحد فارجع إليه. [فصل وفي العبد ولو قتله جماعة قيمته ما لم تعد دية الحر وأرشه وجنينه بحسبها وأما المقبوض فما بلغت وجناية المغصوب على الغاصب إلى قيمته ثم في رقبته وله أن يقتص منه ويضمنها وكذا لو جنى على المالك أو غيره ومثله مستأجر ومستعير فرطا] . قوله: "فصل: وفي العبد ولو قتله جماعة قيمته". أقول: القاتل للعبد قد أتلف مالا من مال مالك العبد وقد وقع الاتفاق على أنه يجب على من أتلف مالا لغيره أن يضمن قيمته قليلة كانت أو كثيرة فما بال متلف هذا المال أنه لا يضمن من قيمته إلا قدر دية الحر وما الوجه في هذا فإنه لا يطابق رواية ولا دراية ولا يوافق عقلا ولا نقلا ومع هذا فالمروي عن الصحابة يقتضي بأنه يضمن قيمته بالغة ما بلغت كما أخرجه البيهقي عن عمر وعلي أنهما قالا في الحر يقتل العبد ثمنه بالغا ما بلغ. وأما قوله: "وأرشه وجنينه بحسبها" فالوجه فيه ظاهر فيكون أرشه مقدار أرش الجناية منسوبة من قيمته وهكذا يجب في جنينه ما يقدره العدول من القيمة لا كما قيل إنه يجب فيه نصف عشر قيمة أبيه فإنه لا دليل على ذلك وقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح إلى الزهري عن عمر أنه قال جراح العبد من ثمنه كجراح الحر من ديته قال الزهري وكان رجال سواه يقولون يقوم سلعة وإذا عرفت أن الواجب في العبد قيمته بالغة ما بلغت فلا فرق بين المغصوب وغيره. وأما كون جناية العبد المغصوب على غاصبه فوجهه أنه إذا أثبت يده عليه عدوانا وحال بينه وبين مالكه وربما كان عند مالكه لا يقدم على الغير ولا يجني فكان تسبب الغاصب لمثل هذا مقتضيا لضمانه لما جناه كما يضمن نقص العين المغصوبة إذا نقصت عنده ومعلوم أنه لو تعلقت جناية العبد برقبته وهو عند الغاصب لكان ذلك أعظم نقص يلحقها. وإذا تقرر لك هذا عرفت أنه لا يجوز للغاصب أن يقتص من العبد المغصوب إذا جنى عليه لأنه يضمن الجناية الواقعة منه على الغير فتكون الجناية الواقعة من العبد على الغاصب

هدرا. وأما الجناية الواقعة من العبد المغصوب على الغير إذا كانت توجب القصاص واختار المجني عليه القصاص فله ذلك وعلى الغاصب ضمان ما نقص من العبد إذا كان القصاص فيما عدا النفس أو ضمان قيمته بالغة ما بلغت إن كان القصاص على النفس وأما المستأجر والمستعير إذا فرطا في حفظ العبد الذي استأجراه أو استعاراه فالوجه في ذلك أن الجناية منه إذا كانت بسبب تفريطهما في حفظه كان هذا السبب بمجرده مقتضيا للضمان عليهما. [فصل وفي عين الدابة ونحوها نقص القيمة وفي جنينها نصف عشر قيمته وتضمن بنقلها تعديا وبازالة مانعها من الذهاب أو السبع ومانع الطير والعبد إن تلفت فورا والسفينة ووكإ السمن ولو متراخيا أو جامدا ذاب بالشمس ونحوها ولا يقتل من الحيوان إلا الحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة والعقور بعد تمرد المالك وما ضر من غير ذلك] . قوله: "فصل: وفي عين الدابة ونحوها نقص القيمة". أقول: هذا غاية ما يمكن ولا طريق غيره وأما كون في جنينها نصف عشر قيمتها فلا وجه له لا من عقل ولا من نقل بل إن خرج حيا فمات قدر العدول قيمته وإن خرج ميتا قدروه على فرض أنه خرج حيا. وأما قوله: "ويضمن بنقلها تعديا" الخ فوجه ذلك أنه صار بهذا النقل غاصبا فتثبت له أحكام الغصب المتقدمة ولا فرق بين النقل وإزالة المانع وبين الحيوان وغيره كالسفينة والأدهان ونحوها. قوله: "ولا يقتل من الحيوان إلا الحية" الخ. أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة قد دلت على مشروعية قتل هذه الخمس [البخاري "4/34"، مسلم "71/1198"] ، الحية والعقرب والفأرة والغراب والحدأة وأقل أحوال الأمر بقتلها أن يكون مندوبا فكان على المصنف أن يقول ويندب أو يشرع قتل الحية إلخ وأما العقور فقتله من باب دفع الصائل وهو جائز ولو كان آدميا فضلا عن غيره وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره بلفظ: "والكلب العقور" ويلحق بالعقور كل ما يصول على بني آدم أو على ما يملكونه من الحيوانات والأموال كالأسد والذئب والنمر فإن قتلها كلها من باب دفع الصائل وقد شمل ذلك المصنف رحمه الله وما ضر من غير ذلك ومنه الوزغ والعناكب فإنه ورد الأمر بقتلهما على الخصوص. والحاصل أن كل ما كان ضارا للأبدان أو الأموال أو المساكن فقتله جائز كائنا ما كان

ولا يخرج من ذلك إلا ما نهى الشارع عن قتله نهيا خاصا لكنه إذا تعاظم ضرره كان قتله من باب دفع الصائل. [فصل ويخير مالك عبد جنى ما لا قصاص فيه بين تسليمه للرق أوكل الأرش وفي الصقاص يسلمه ويخير المقتص فإن تفردوا سلمه أو بعضه بحصة من لم يعف إلا أم الولد ومدبر الموسر فلا يسترقان فيتعين الأرش لسقوط القصاص وهو على سيدهما إلى قيمتهما ثم في رقبته وذمتها فإن أعسر بيع وسعت في القيمة فقط ولا تتعدد بتعدد الجنايات ما لم يتخلل التسليم ويبرآن بإبراء العبد لا السيد وحده ولا يقتص من المكاتب إلا حر أو مثله فصاعدا ويتأرش من كسبه ويقدم ما طلب فإن اتفقت فالجناية فإن أعسر بيع لها والوقف يقتص منه ويتأرش من كسبه وأمر الجناية عليه إلى مصرفه] . قوله: "فصل: ويخير مالك عبد جنى مالا قصاص فيه" الخ. أقول: قد تقرر أن الجناية من الحيوانات التي يملكها مالكها إذا كانت مضمونة على المالك كان ضمانها عليه بالغا ما بلغ والعبد من جملة ما يملكه فالمناسب لضمان جناية الملك أن تكون جناية العبد كجناية سائر الحيوانات المملوكة إلا أن يرد دليل يوجب المخالفة لهذا كان العمل عليه ولم يرد ما يخالف ذلك من المرفوع وما روي عن الصحابة مختلف ولا حجة في ذلك ويؤيد ضمان السيد لجناية عبده بالغة ما بلغت أنه يأخذ أرش جنايته من الجاني عليه بالغا ما بلغ فيكون عليه مثل ماله ولكن لما كان العبد عاقلا مكلفا كان القصاص واجبا عليه في الجناية التي يثبت فيها القصاص في النفس وما دونها إذا اختار المجني عليه أو وارثه ذلك فهكذا ينبغي أن يقال رجوعا إلى القواعد الشرعية المأخوذة من كليات الأدلة ولا مخصص لها حتى يصار إليه ويجب العمل به. قوله: "إلا أم الولد ومدبر الموسر" الخ. أقول: الوجه في هذا أنه قد وجد تسبب عتقهما فلا يسلك بهما مسلك المماليك ولا وجه لإيجاب الأرش على سيدهما بل إذا انتهى الحال إلى العتق طولبا بأرش الجناية كما يطالب الأحرار وقد قدمنا أن الراجح اعتبار الانتهاء في العبد الكافر فليكن الكلام هنا هكذا لا سيما وقد حصل السبب الذي يخرجان به من الرق إلى الحرية فإن تضرر من له الأرش بطول المهلة كان له أن يستسعيهما بقدر أرش الجناية وليس له أن يطالب سيدهما بشيء وهذا يغنيك عما ذكره المصنف هاهنا.

وأما قوله: "ولا يقتص من المكاتب إلا حر أو مثله فصاعدا" فصواب أما الحر فظاهر وأما المكاتب المماثل له أو الذي قد سلم من كتابته زيادة على ما سلمه الجاني فلعدم المزية للجاني على المجني عليه. وأما كونه يتأرش من كسبه فهو الصواب وكان عليه أن يجري في المكاتب وأم الولد والمدبر على نمط واحد لأن كل واحد منهم قد تعلق بسبب يقتضي خروجه من الرق بعد أن يحصل ما يقتضي التنجيز في الجميع وهو موت السيد في المدبر وتنجيز عتق أم الولد من سيدها أو موته ووفاء المكاتب لما كوتب عليه مع أنه قن ما بقي عليه درهم كما تقدم فلا وجه للفرق بين هؤلاء الثلاثة بلا رواية ولا دراية وما ذكره من أنها إذا اتفقت قدم أرش الجناية فلا وجه لهذا التأثير إلا ما يظن أنه بالجناية تسبب للضمان ولكنه قد تسبب بالمكاتبة عن نفسه لضمان مال الكتابة وقد تقدم أنه يرده في الرق اختياره وعجزه عن الوفاء بمال الكتابة. وأما قوله: "فإن أعسر بيع لها" فينبغي أن يقال إنه يقدم استسعاؤه لئلا يفوت حق مالكه الذي كاتبه ومهما أمكن الوفاء بالحقين فهو الواجب. وأما قوله: "والوقف يقتص منه ويتأرش من كسبه وأمر الجناية عليه إلى مصرفه" فهو صواب وقد اضطرب كلام المصنف في هذا الفصل فاشدد يديك على ما ذكرناه. [فصل والعبد بالعبد وأطرافهما ولو تفاضلا أو لمالك واحد لا والد بولده ويهدر مالا قصاص فيه على مالكه وغاصبه] . قوله: "فصل والعبد بالعبد" الخ. أقول: هكذا حكم الله سبحانه في كتابه العزيز وللأطراف التي يجب فيها القصاص حكم النفس إما بشمول الآية لها أو بالقياس على النفس وهكذا قوله لا والد بولده وأما كونه يهدر مالا قصاص فيه على مالكه فلكون العبد من جملة ماله وكون أرش جنايته على سيده كما قدمنا فلا يثبت للسيد على نفسه دين وأما قوله: "وغاصبه" فهذا هو الصواب لما قدمنا على قول المصنف: "وجناية المغصوب على الغاصب".

[فصل وعلى مطلق البهيمة ما جنت فورا مطلقا وعلى متولي الحفظ جناية غير الكلب ليلا والعقور مفرطا مطلقا ولو في ملكه على الداخل بإذنه وإنما يثبت عقورا بعد عقره أو حمله] . قوله: "فصل: وعلى مطلق البهيمة" الخ. أقول: السنة الصحيحة كما قدمنا قد اقتضت أنه لا يضمن ما جنته على ملك الغير نهارا من غير فرق بين المالك والمتولي للحفظ وتخصيص الكلب بعدم ضمان جنايته ليلا يحتاج إلى دليل يقتضي ذلك وأما العقور من الحيوانات فالواجب على المالك حفظه عن أن يجني على الغير في كل وقت أو قتله فإذا لم يفعل ذلك فقد عرض نفسه للضمان لأنه فرط في الحفظ أو في دفع ذلك الصائل بالقتل ولكنه إذا حفظه في ملكه ثم دخل إليه داخل بغير إذنه فقد تعدى بالدخول بغير إذن فهدرت جناية العقور عليه وأما كونه يثبت عقورا بعد عقره أو حمله فوجه هذا أنه قد فعل ما يوجب الحفظ له عن الإقدام على الأبدان والأموال فتركه بعد وقوع ذلك منه تفريط ولا وجه لاعتبار المرتين بل المرة الواحدة منذرة بأخواتها موحية لقوة الظن بعوده إلى مثلها والمقام مقام يجب فيه قطع كل ذريعة معلومة أو مظنونة يتوصل بها إليه لأنه معصوم بعصمة الشرع فإما حفظه مالكه حفظ مثله بعد المرة أو قتله حتى يريح نفسه من تبعته ويريح غيره من أذاه.

باب الديات

باب الديات [فصل هي مائة من الإبل بين جذع وحقة وبنت لبون وبنت مخاض أرباعا وتنوع فيما دونها ولو كسرا ومن البقر مائتان ومن الشاء ألفان ومن الذهب ألف مثقال ومن الفضة عشرة آلاف ويخير الجاني فيما بينها] . قوله: "فصل: هي مائة من الإبل" الخ. أقول: قد اختلفت المذاهب في تنويع المائة من الإبل ومنهم من تمسك بشيء من المرفوع ومنهم من تمسك بما روي عن بعض الصحابة ولا يخفاك أن الحجة إنما تقوم بما صح

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يوجد في كتاب الله عزوجل والمروي في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلف فروي مائة من الإبل من غير تنويع كما أخرجه أبو داود "4543، 4544"، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وقد رواه أبو داود مسندا عن عطاء عن جابر ورواه عن عطاء مرسلا بدون ذكر جابر فهذا الحديث يدل على أن الدية هي مائة من الإبل من غير تنويع من كل نوع مقدار معين. وورد ما يدل على التنويع فأخرج أحمد "6/219"، وأبو داود "4541"، والنسائي "8/42، 43"، وابن ماجه "2630"، عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرة بني لبون ذكر. وأخرج أحمد ["1/450" وأهل السنن أبو داود "4545"ن الترمذي "4541"، النسائي "8/43"، ابن ماجة "2631"] ،البزار والبيهقي والدارقطني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض" وفي لفظ البزار والدارقطني والبيهقي مكان قوله: "عشرون ابن مخاض": "عشرون بنو لبون" وفي إسناده الحجاج بن أرطأة وقال أبو حاتم الرازي: الحجاج يدلس عن الضعفاء فإذا قال حدثنا فلان فلا يرتاب به انتهى وهو هنا قد صرح بالتحديث كما في سنن ابن ماجه فإنه قال حدثنا زيد بن جبير. فهذان الحديثان قد وقع التصريح فيهما بأن هذا التنويع في دية الخطأ فيقيد بهما ما ورد من إطلاق المائة من الإبل ويكون التنويع على التخيير إما على الحديث الأول أو على الحديث الثاني فالكل سنة ولا ينافي ما في هذين الحديثين ما ورد من تغليظ دية الخطأ شبه العمد كما تقدم في حديث عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون من ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة"، والخلفة الحامل وورد بلفظ: "أربعون في بطونها أولادها"، فهذا جمع بين الأحاديث ودفع للعمل ببعضها وإهمال بعض بدون موجب ولا مرجع. وأما المصنف فقد جعلها أربعة أنواع كما ترى فخالف ما ورد في الحديثين جميعا وعمل بما أخرجه أبو داود "4553"، عن عاصم بن ضمرة قال قال علي في الخطأ أرباعا خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون بنات مخاض مع أنه قد روي عنه ما يخالفه. وأما دية القتل عمدا إذا لم يختر الوارث القصاص فقد أخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ: "من قتل عمدا سلم إلى أولياء المقتول فإن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة في بطونها أولادها"، فيجب المصير في تنويع دية العمد إلى هذا الحديث كما وجب المصير

في تنويع الخطأ إلى الحديثين السابقين وكما وجب المصير في تعيين دية الخطأ شبه العمد إلى الحديث المتقدم. قوله: "ومن البقر مائتان ومن الشاء ألفان". أقول: يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال فرض النبي صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وفيه علتان إحداهما أن في إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو ضعيف إذا عنعن الثانية أن أبا داود رواه تارة عن عطاء عن جابر مسندا وتارة عن عطاء مرسلا ولكنه يشهد له ما أخرجه أحمد ["16/32"، وأبو داود "45441"، والنسائي "8/42،43"، وابن ماجه "2630"] ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة، وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الدمشقي ولكنه قد وثقه جماعة كما قدمنا. قوله: "ومن الذهب ألف مثقال". أقول: يدل على هذا ما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي وعبد الرزاق وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي وصححه جماعة من الأئمة منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي من حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه مرفوعا وفيه: "أن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار" وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث. قوله: "ومن الفضة عشرة آلاف درهم". أقول: المروي عنه صلى الله عليه وسلم أنها اثنا عشر ألف درهم كما أخرجه أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ديته اثني عشر ألفا قال أبو داود رواه ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ابن عباس وأخرجه الترمذي "1388، 1389"، مرفوعا مرسلا وأخرجه النسائي "4803"، وابن ماجه "2629"، مرفوعا قال الترمذي ولا نعلم أحدا يذكر في هذا الحديث عن ابن عباس غير محمد بن مسلم انتهى ومحمد بن مسلم هذا هو الطائفي وقد أخرج البخاري له في المتابعات ومسلم في الاستشهاد ووثقه يحيى بن معين وقد أخرجه النسائي عن محمد بن ميمون عن ابن عيينة وقال فيه سمعناه مرة يقول عن ابن عباس وأخرجه الدارقطني في سننه عن أبي محمد بن صاعد عن محمد بن ميمون وقال فيه عن ابن عباس. وقد تقرر أن الرفع زيادة ولم تكن له هاهنا علة قادحة فصلح للاحتجاج به على أن مقدار الدية من الدراهم اثنا عشر ألف درهم ولا ينافي هذا هذا ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه في بعض ألفاظهم أنها كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم وأن عمر قال قد غلت الإبل ففرضها على أهل

الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنا عشر ألفا لأن من علم حجة على من لم يعلم وقد قدمنا أن الذي فرضها من الذهب ألف دينار ومن الفضة اثنى عشر ألف درهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "ويخير الجاني فيما بينها". أقول: هذا هو الحق لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض كل نوع من أنواعها ولم يبين لنا أن هذا أصل وهذا يدل عنه وإنما كثر ذكر الإبل لأنها غالب أموال العرب فما شاء الجاني من الأنواع المنصوص عليها سلمه وعلى المجني عليه أو وارثه قبول ذلك لأن الشارع أوجب له نوعا من أنواع ولم يوجب له شيئا معينا. [فصل وتلزم في نفس المسلم والذمي والمجوسي والمعاهد وفي كل حاسة كاملة والعقل والقول وسلس البول والغائط وانقطاع الولد وفي الأنف واللسان والذكر من الأصل وفي كل زوج في البدن بطل نفعه بالكلية كالأنثيين والبيضتين ونحوهما غالبا وفي أحدهما النصف وفي كل جفن ربع وفي كل سن نصف عشر وهي اثنتان وثلاثون وفي كل أصبع عشر وفي مفصلها منه ثلته! إلا الإبهام فنصفه وفيما دون حصته وفي الجائفة والآمة ثلث الدية وفي المنقلة خمس عشرة ناقة وفي الهاشمة عشر وفي الموضحة خمس وفي السمحاق ربع ولا يحكم حتى يتبين الحال فيلزم في الميت ديته وفي الحي حسب ما ذهب وإن تعدد كالمتواثبين] . قوله: "فصل: وتلزم في نفس المسلم". أقول: ليس في هذا خلاف بين أهل العلم وقد دلت عليه الأدلة الكثيرة المتقدم ذكر بعضها وأما المرأة فقد وقع الإجماع إلا عمن لا يعتد به أنها نصف دية الرجل وإنما اختلفوا في أرش الجناية عليها فذهب الجمهور إلى أن ارش الجناية عليها مثل أرش الجناية على الرجل إلى قدر ثلث دية الرجل ثم تستحق بعد ذلك النصف من أرش الرجل لما أخرجه النسائي والدارقطني وابن خزيمة وصححه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديته"، ويؤيده ما أخرجه في الموطأ والبيهقي عن سعيد بن المسيب أنه سئل: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل, فقيل له: فكم في أصبعين؟ قال: عشرون من الإبل, فقيل له: فكم في ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون من الإبل, فقيل له: فكم في أربع أصابع؟ قال: عشرون من الإبل, فقال له السائل حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال له سعيد: أعراقي أنت؟ قال: بل عالم متثبت أو

جاهل متعلم, قال: هي السنة يا ابن أخي, وقد حققنا الكلام عن هذا في شرحنا للمنتقي وليس المراد هنا إلا الاستدلال على أن ديتها على النصف من دية الرجل. قوله: "والذمي". أقول: قد اختلفت مذاهب العلماء في قدر دية الذمي والحق أنها على النصف من دية المسلم من غير فرق بين ذمي وذمي لما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وابن ماجه وصححه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل الكافر نصف دية المسلم"، وفي لفظ من هذا الحديث عن أبي داود كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم ولم يثبت ما يخالف هذا الحديث لأن المروي عن بعض الصحابة لا تقوم به الحجة والمرفوع لم يصح وما ورد مطلقا كقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، فهو مطلق مقيد بالسنة وقد أوضحنا الكلام في هذا في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه. وأما قوله: "والمجوسي والمعاهد" فلعله إشارة إلى الخلاف في ذلك وإلا فقد دخلا تحت الذمي لأن المجوسي ذمي والمعاهد ذمي واليهودي والنصراني ذميان وقد شمل الجميع قوله صلى الله عليه وسلم: "عقل الكافر نصف دية المسلم"، فإنه يدخل تحت هذا كل كافر إلا من كان مباح الدم وهو الحربي الذي لا ذمة له ولا عهد. قوله: "وفي كل حاسة كاملة". أقول: الحواس الخمس الظاهرة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس لم يرد ما تقوم به الحجة في أن في كل واحدة منها الدية ولكنه قال ابن حجر في التلخيص إنه وجد من حديث معاذ: "في السمع الدية" قال وهو موجود في حديث عمرو بن حزم الذي اشار إليه وقد رواه البيهقي من طريق قتادة عن ابن المسيب عن علي انتهى. ولا ندري كيف حديث معاذ وقد روي عن البيهقي أنه قال إسناده لا يثبت مثله وأما حديث عمرو بن حزم الذي أشار إليه فقد ساقه هو أيضا في بلوغ المرام وليس فيه ذكر السمع وهكذا ساقه صاحب المنتقى ولم يذكر السمع وقد أخرج أحمد بن حنبل وابن أبي شيبة عن خالد عن عوف: سمعت شيخا في زمن الحاكم وهو ابن المهلب عم أبي قلابة قال رمى رجل رجلا بحجر في رأسه في زمن عمر فذهب سمعه وبصره وعقله ونكاحه فقضى فيه بأربع ديات وهو حي فهذا غاية ما في الباب جميعه ولا تقوم به الحجة فينبغي الرجوع في ذلك إلى اجتهاد الإمام والحاكم العارفين بالمسالك الشرعية وفي قضاء عمر لهما أسوة إن لم تجدا ما هو أنهض من ذلك. قوله: "وفي العقل".

أقول: لم يرد في هذا ما تقوم به الحجة وقضاء الصحابي لا يثبت شرعا عاما وغاية ما فيه ما تقدم عن عمر وقد عرفت أن أموال العباد معصومة بعصمة الإسلام فلا يحل إخراج شيء منها عن أملاكهم إلا ببرهان من الله سبحانه ولا حجة في ضعيف يقال إنه مرفوع فإنه ليس مجرد ذكر الرفع مما تقوم به الحجة حتى يثبت فإذا ثبت فسمعا وطاعة. وهكذا الكلام في قوله والقول وسلس البول وانقطاع الولد أما الأولان فلم يرد في ذلك شيء وأما الثالث فليس فيه إلا الأثر السابق عن عمر وليس مراد المصنف هنا إلا ذهاب هذه القوى بدون ذهاب الآلة التي هي فيها ولهذا أنه ذكرها بعد ذكر هذه. وقوله: "وفي الذكر من الأصل". أقول: الدليل على هذا وعلى كثير مما سيأتي ما أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي وأخرجه أيضا أبو داود في المراسيل وصححه جماعة من أئمة الحديث منهم أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي من حديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه: " أن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول وأن في النفس الدية مائة من الإبل وأن في الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل وأن الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار"، وهذا الحديث قد تلقته الأئمة بالقبول وقد صرح فيه بأن في الذكر الدية وهو اسم لجميعه فلا يتناول بعضه إلا مجازا وبهذا يظهر صحة قول المصنف وفي الذكر من الأصل. قوله: "وفي الأنف". أقول: مراده في الأنف من الأصل كما قال في الذكر ويدل على ذلك ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ: "وإن في الأنف إذا أوعب جدعة الدية"، ومعنى أو عن جدعة أنه قطع جميعه فلا ينافي هذا ما أخرجه البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قضى النبي صلى الله عليه وسلم إذا قطعت ثندوة الأنف بنصف العقل خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب والورق فإنه أراد بالثندوة هنا روثة الأنف وهي طرفه ومقدمه كما قال صاحب النهاية ولا ينافيه أيضا ما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه قال عندي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: "وفي الأنف إذا قطع مارنه مائة من الإبل"، وذكره الشافعي تعليقا وأخرجه البيهقي من طريق عكرمة بن خالد عن رجل من آل عمر فإن المارن يطلق على الأنف كما يطلق على طرفه والمراد هنا الأنف جميعه قال في القاموس المارن الأنف أو طرفه أو ما لان منه وفي حديث عمرو بن شعيب عند أحمد ["16/53"، وأبي داود "4564"، والنسائي

"8/42، 43"، وابن ماجه "2630"، بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل كاملا وإذا جدعت أرنبته نصف العقل وهكذا يحمل ما أخرجه البيهقي عن كتاب عمرو بن حزم بلفظ: "وفي الأنف إذا استؤصل المارن الدية كاملة". قوله: "وفي اللسان". أقول: وجهه ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ وفي اللسان الدية فظاهره أنه لا بد من قطعه جميعه لأنه حقيقة في ذلك ولا يتناول البعض إلا مجازا والواجب الحمل على الحقيقة وإذا قطع منه ما أبطل الكلام جميعه فقد قام ذلك مقام قطعه جميعه لأن الانتفاع به قد ذهب بذهاب الكلام. قوله: "وفي كل زوج من البدن". الخ. أقول: يدل على هذا ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ: " وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي العينين الدية" وقد ذهب إلى إيجاب الدية في الشفتين جمهور أهل العلم وهكذا إيجابها في البيضتين وقيل إنه مجمع عليه وورد في رواية من هذا الحديث وفي الأنثيين الدية والمراد بهما البيضتان كما صرح به أهل اللغة لا الجلدتان المحيطتان بالبيضتين كما زعم المصنف ولا خلاف في أن الواجب في العينين الدية وهكذا في الرجلين الدية كما يدل على ذلك قوله في حديث عمرو بن حزم المتقدم: "وفي الرجل الواحدة نصف الدية" وهكذا اليدان كما يدل على ذلك من أخرجه مالك في الموطأ من حديث عمرو بن حزم بلفظ: "في اليد خمسون وفي الرجل خمسون" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب بلفظ: "وفي اليد إذا قطعت نصف العقل وفي الرجل نصف العقل وفي العين نصف العقل" وقد قدمنا أن في إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي ولكنه قد وثقه جماعة. ومما يعد زوجا في البدن الأذنان وقد روى الدارقطني والبيهقي في كتاب عمرو ابن حزم ما يفيد أن فيهما الدية واعلم أنه لم يرد في السنة ما يدل على لزوم الدية في مثل الحاجبين والثديين وإن شمل ذلك كلام المصنف حيث قال: "وفي كل زوج في البدن" فلا يلزم فيما لم يرد به النص إلا ما يرجحه الحاكم العالم بالأدلة وكيف يستدل وهكذا لا يلزم في جفن العين ولا في الجفنين إلا ما يقدره الحاكم من الأرش لا كما قال المصنف. قوله: "وفي كل سن نصف عشر الدية". أقول: يدل على هذا ما تقدم في حديث عمرو بن حزم المتلقي بالقبول بلفظ: "وفي السن خمس من الإبل" وهكذا وقع في حديث عمرو بن شعيب المتقدم بلفظ: "وفي كل سن خمس من الإبل" وهو في مسند أحمد وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وإسناده إلى عمرو بن شعيب ثقات والخمس من الإبل هي نصف عشر الدية كما قال المصنف هاهنا وظاهر الحديثين أنه لا فرق بين الثنايا والأنياب والضروس لأنه يصدق على كل واحد منها أنه سن

وإلى هذا ذهب الجمهور ولا يعارض ما في الحديثين الصحيحين ما وقع من اجتهاد بعض الصحابة فإنها لا تقوم بذلك حجة إذا انفرد فكيف إذا عارض المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخرج أبو داود "4559"، وابن ماجه "1650"، والبزار وابن حبان بإسناد رجاله رجال الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأسنان سواء الثنية والضرس سواء"، فلم يبق بعد هذا وجه للمفاضلة بين الأسنان. قوله: "وفي كل أصبع عشر من الدية". أقول: يدل على هذا ما تقدم في حديث عمرو بن حزم بلفظ: "وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل" والعشر من الإبل هي عشر الدية وفي لفظ من حديث ابن عباس: "دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع"، أخرجه الترمذي وصححه "1391"، وأخرج أبو داود "4557"، وابن ماجه "4654"، وابن حبان عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قضى في الأصابع بعشر من الإبل"، وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب بلفظ: "والأصابع سواء والأسنان سواء"، وأخرج أحمد ["1/227، 229، 345"، والبخاري "12/225"، وأهل السنن أبو داود "4558"، النسائي "8/56، 57"، الترمذي "1392"، ابن ماجة "2652"] ،من حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هذه وهذه سواء"، يعني الخنصر والإبهام وبعض هذا يدفع اجتهاد من فاضل بين الأصابع وقد ذهب إلى ما دلت عليه هذه الأدلة جمهور أهل العلم. وأما قوله: "وفي مفصلها ثلثه إلا الإبهام فنصفه" فصواب لأن ذلك أحسن ما يقال وإن اختلف النفع فيها واختلف مقدارها فإن من المعلوم أن ما تحت البراجم من المفاصل أكبر منها وهكذا قوله: "وفيما دونه حصته "فيجعل فيه بمقدار نسبته من ذلك المفصل. قوله: "وفي الجائفة ثلث الدية". أقول: يدل على هذا ما تقدم في حديث عمرو بن حزم المتلقي بالقبول بلفظ: "وفي الجائفة ثلث الدية" وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحكى صاحب نهاية المجتهد الإجماع عليه وأخرج نحوه البزار من حديث عمر مرفوعا بإسناد ضعيف وأخرجه البيهقي من وجه آخر عنه بإسناد أضعف منه وفي حديث عمرو بن حزم ما يغني عن غيره وهكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المأمومة بثلث الدية كما في حديث عمرو بن حزم بلفظ: "وفي المأمومة ثلث الدية"، وهكذا في حديث عمرو بن شعيب بلفظ: "والمأمومة ثلث العقل". قوله: "وفي المنقلة خمس عشرة ناقة". أقول: هكذا في حديث عمرو بن حزم بلفظ: "وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل"، وفي حديث عمرو بن شعيب بمثل هذا اللفظ وفي حديث عمر الذي أخرجه البزار بلفظ: "وفي المنقلة خمس عشرة"، وقد قدمنا الإشارة إلى ضعفه كما قدمنا تصحيح الحديثين اللذين قبله. قوله: "وفي الهاشمة عشر".

أقول: لم تذكر الهاشمة في حديث عمرو بن حزم ولا في حديث عمرو بن شعيب ولا في سائر الأحاديث المعمول بها وإنما روى ذلك عبد الرزاق والدارقطني والبيهقي عن زيد بن ثابت موقوفا عليه قال ابن حجر في التلخيص لا يصح مرفوعا وحينئذ فينبغي الرجوع في ذلك إلى تقدير الحاكم فيجعل فيها أرش الموضحة الذي سيأتي مع زيادة أرش هشم العظم بحسب ما يقتضيه اجتهاده. قوله: "في الموضحة خمس". أقول: يدل على ذلك ما في حديث عمرو بن حزم المتقدم بلفظ: "وفي الموضحة خمس من الإبل"، وأخرج أحمد ["2/189"، وأهل السنن أبو اود "4566"، النسائي "8/57"، الترمذي "1390"، ابن ماجة "2655"] ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في المواضح خمس من الإبل"، ورجال إسناده إلى عمرو بن شعيب ثقات وأخرج البزار من حديث عمر بلفظ: "وفي الموضحة خمس"، وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الموضحة خمسا من الإبل ولم يؤقت فيما دون شيئا وهو مرسل وروى عبد الرزاق عن شيخ له عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشيء وهو مرسل وهكذا رواه البيهقي عن الزهري وربيعة وأبي الزناد وإسحاق بن أبي طلحة مرسلا. وبهذا تعرف أن قوله وفي السمحاق أربع لا مستند له بل مجرد اجتهاد وليس بحجة على الغير فكان ينبغي إدخال ذلك في الفصل الذي بعد هذا. وأما قوله: "ولا يحكم حتى يتبين الحال" فصواب ويكون العمل في ذلك بالانتهاء لأنه الذي يقرر عليه مقدار الجناية فيلزم في الميت ديته وفي الحي حس. بما ذهب منه [فصل وفيما عدا ذلك حكومة وهي ما رآه الحاكم مقربا إلى ما مر كعضو زائد وسن صبي لم يثغر وفي الشعر وما انجبر وما لا نفع فيه وما ذهب جماله فقط وفي مجرد عضد وساعد وكف بلا أصابع وإلا تتبعها لا الساعد وكذلك الرجل وفي جناية الرأس والرجل ضعف ما على مثلها في غيرهما قدر في حارصة رأس الرجل خمسة مثاقيل وفي الدامية اثنا عشر ونصف وفي الباضعة عشرون وفي المتلاحمة ثلاثون لأن في السمحاق أربعين وفي حلمة الثدي ربع الدية وفي درور الدمعة ثلث دية العين وفي دونه الخمس وفيما كسر فانجبر ونحوه ثلث ما فيه لو لم ينجبر والغرة عبد أو أمة بخمسمائة درهم ولا شيء فيمن مات بقتل أمه إن لم ينفصل] .

قوله: "فصل وفيما عدا ذلك حكومة" الخ. أقول: قد تقرر عصمة الدماء وأنه لا يحل إراقة شيء منها بغير حقه ولا الجناية على معصوم من غير فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة ورد في الشرع تقديرها أو لم يرد فمن جنى على غيره جناية ظاهرة الأثر ولم يرد في الشرع لها تقدير كما في دون الموضحة وسائر ما أشار إليه المصنف فلا يكون عدم ورود الشرع بتقديرها مقتضيا لإهدارها وعدم لزوم أرشها بلا خلاف وإلا لزم إهدار ما هو معصوم بعصمة الشرع واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله فالجناية التي لم يرد الشرع بتقديرها لا بد من الرجوع في التقدير إلى شيء يكون على طريقة العدل التي لا حيف فيها على الجاني ولا على المجني عليه فينظر مثلا في قدر اللحم الذي ذهب بالجناية وقدر ما بقي إلى ما ورد فيه التقدير من الشرع فيلزم فيه بنسبته إلى ذلك الذي ورد فيه التقدير فإذا كان المأخوذ نصف اللحم والباقي فوق العظم نصفه كان أرشها نصف أرش الموضحة وإذا كان المأخوذ ثلثا كان أرشها ثلث أرش الموضحة ثم كذلك ويكون المرجع في هذا التقدير إلى أهل الاختبار بالجنايات فإذا أخبروا الحاكم بأن المأخوذ كذا قربه الحاكم إلى أرش ما ورد به الشرع بحسب نسبته إليه وهكذا في العضو الزائد وسن الصبي وذهاب الشعر والجمال ومالا نفع فيه وقد قدمنا ما يدل على أنه لم يثبت في الشرع تقدير ما دون الموضحة فما ذكره المصنف هنا من تقدير أرش الدامية والباضعة والسمحاق هو من هذا القبيل الذي ذكرناه فإن وافق نظر الحاكم الخبير بما ورد قرره وإلا فعل ما يترجح له فليس في ذلك حجر ولا يكون تقدير المتقدم حجة على المتأخر إذا كان الصواب عنده في مخالفته وهكذا الكلام في أرش الدامية والمتلاحمة والحارصة والوارمة. قوله: "وفي جناية الرأس والرجل ضعف ما على مثلها في غيرهما". أقول: التقديرات الثابتة عن الشارع في الجنايات مطلقة غير مقيدة بكونها في الرأس ولم يرد ما يصلح للتقييد فالواجب البقاء على الإطلاق ويكون اللازم مثلا في الموضحة ما قدره الشارع من غير فرق بين أن يكون في الرأس أو في سائر البدن وهكذا غيرها من الجنايات المقدرة وهكذا تكون الحكومات فيما لم يرد فيه تقدير. وأما كون جناية المرأة على النصف من جناية الرجل فقد قدمنا عند قوله ويلزم في نفس المسلم ما ورد في أن أرشها إلى قدر الثلث كأرش الرجل وما زاد على ذلك كان أرشها على النصف من أرش الرجل وقد ورد في ذلك ما تقوم به الحجة ويصلح للاعتبار وإذا ثبت الشرع طاحت الأقيسة وبطلت الاجتهادات العاطلة عن الدليل. قوله: "وفي حلمة الثدي ربع الدية". أقول: قد عرفناك أنه لا وجه لقول المصنف أنها تلزم الدية في كل زوج في البدن بل الواجب التوقف في ذلك على موارد النص كما بيناه سابقا وما لم يرد فيه النص كان المرجع فيه إلى حاكم الشرع فلا وجه لتقدير المصنف بقوله وفي حلمة الثدي ربع الدية.

وأما قوله: "وفي درور الدمعة" إلخ فهذا اجتهاد لا يلزم من بعده من المجتهدين الأخذ به بل كل واحد متعبد بما يؤدي إليه اجتهاده بعد إمعان النظر في التقريب إلى ما ورد به النص. وأما قوله: "والغرة عبد أو أمة" فقد قدمنا الأدلة الواردة في ذلك. وأما قوله: "ولا شيء فيمن مات بقتل أمه إن لم ينفصل" فهذا مبني على أنها لم تعلم حياته بوجه من الوجوه أما إذا علمت وجب فيه الغرة كما تقدم. [فصل ويعقل عن الحر الجاني على آدمي غير رهن خطأ لم تثبت بصلح ولا اعتراف بالفعل موضحة فصاعدا الأقرب فالأقرب الذكر الحر المكلف من عصبته الذين على ملته ثم سببه كذلك على كل واحد دون عشرة دراهم ولو فقيرا ثم في ماله ثم في بيت المال ثم المسلمون ولا شيء عليه إن كفت العاقلة وتبرأ بإبرائه قبل الحكم عليها لا العكس وعن ابن العبد والملاعنة والزنا عاقلة أمه والإمام ولي مسلم قتل ولا وارث له ولا عفو] . قوله: "فصل: ويعقل عن الحر الجاني" الخ. أقول: اعلم أنه قد أجمع أهل العلم على ثبوت العقل كما حكى ذلك ابن حجر في فتح الباري وعليه دلت الأحاديث الصحيحة كما في الصحيحين وغيرهما: أن امرأتين من هذيل اقتتلتا ولكل واحدة منهما زوج فبرأ الزوج والولد ثم ماتت القاتلة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنيها والعقل على العصبة, وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله ثم كتب إنه لا يجل أن يتولى مولى رجل مسلم بغير إذنه, وأخرج أحمد في المسند عن عبادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين المقتول بغرة عبد أو أمة, قال: فورثها بعلها وبنوها وكان من امرأتيه كلتيهما ولد, قال: فقال أبو القاتلة المقضي عليه: يا رسول الله كيف أغرم من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل فمثل ذلك بطل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا من الكهان"، وأخرج أبو داود "4575"، وابن ماجه 2648"، وصححه النووي من حديث جابر: أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ الزوج والولد فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ميراثها لزوجها وولدها"، وأخرج الطبراني من طريق أبي المليح بن أسامة بن عمير الهذلي عن أبيه قال: كان فينا رجل يقال له حمل بن مالك له امرأتان إحداهما هذلية والأخرى عامرية وذكر نحو ما تقدم وأخرج الحاكم من حديث ابن إسحاق قال: حدثني عمر بن عثمان بن محمد بن الأخنس بن شريق قال: أخذت من آل عمر هذا الكتاب وفيه المهاجرون

من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم والأنصار على ربعتهم يتعاقلون, الحديث. فهذه الأحاديث وما ورد في معناها قد دلت على ثبوت العقل في الجملة ولا يعارضها مثل قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164 [، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجني جان إلا على نفسه"، [أحمد "3/498، 499"، الترمذي "3087"، ابن ماجة "2669، 3055"] ، وما ورد في معنى ذلك لأنها عمومات مخصصة بأحاديث العقل وليس في هذه الأحاديث التي ذكرناها ما يدل على أن الجنايات التي أثبت الشرع فيها العقل هي جنايات الخطأ بل في هذه الأحاديث ما يشعر بالعمد كما تراه ولكنه أخرج الدارقطني والبيهقي عن عمر أنه قال العمد والعبد والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة قال ابن حجر وهو منقطع وفي إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف قال البيهقي والمحفوظ أنه عن عامر الشعبي من قوله ولا يخفاك أن مثل هذا لا يصلح لتقييد تلك الأحاديث المطلقة على تقدير أنه صحيح فكيف يصلح لذلك مع ضعفه وقد أخرج أحمد عن ابن عباس لا تحمل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما جنى المملوك وأخرجه أيضا البيهقي وهذا أيضا قول صحابي لا يصلح لتقييد ما أطلقته السنة وأخرج مالك في الموطأ عن الزهري أنه قال قضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد وأخرج معناه البيهقي عن أبي الزناد عن الفقهاء من أهل المدينة فإن أراد بهذه السنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مخالف لما تقدم في الأحاديث السابقة ولو سلمنا عدم مخالفته لها لاحتمل أن يريدوا سنة الصحابة أو الخلفاء أو عمل أهل المدينة أو نحو ذلك ولا حجة في شيء من ذلك. وأما ما أخرجه الدارقطني والطبراني عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئا" ففي إسناده الكذاب المشهور المصلوب في الزندقة محمد بن سعيد وفي إسناده أيضا الحارث بن نبهان وهو منكر الحديث وبهذا تعرف أنه لم يكن في الباب ما يصلح لتقييد ما أطلقته السنة. فإن قلت: قد أخرج أحمد "16/60"، وأبو داود "4590"،والنسائي "8/26"، وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عمران بن حصين أن غلاما لأناس فقراء قطع اذن غلام لأناس أغنياء فأتى أهله إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئا قلت: ليس فيه إلا إسقاط ضمان جناية الجاني إذا كانت عاقلته فقراء فيخص بهذه الصورة وظاهر قوله إن غلاما لأناس فقراء أنه كان عبدا ويحتمل أن يكون حرا فقيرا كما كان أهله فقراء. قوله: "الأقرب فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبته". أقول: إخراج الولد من هذا العموم لما تقدم من: أن النبي صلى الله عليه وسلم برأ الزوج والولد، ويشكل على تقييد من يعقل بكونه عصبة ما أخرجه أحمد وابو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وحسنه أبو زرعة من حديث المقدام بن معد يكرب أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه"، وله شواهد.

وأما تقدير ما يلزم العاقلة بدون عشرة دراهم فلا وجه له من رواية ولا دراية فالأولى الرجوع إلى ما في الأحاديث من إطلاق العقل فتغرم العاقلة الدية وتحصص بينهم وإن بلغ نصيب الواحد ألف درهم. وأما قوله: "ولو فقيرا" فقد قدمنا حديث عمران بن حصين وهو نص في محل النزاع فلا وجه لإلزام من كان فقيرا من العاقلة ولا يقال إنه ينظر إلى ميسرة كسائر ما يلزمه من الديون لأنا نقول هذا أخص من ذاك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل على الجاني شيئا حتى تضمنه العاقلة وتحمله عنه والعلة في ذلك فقرهم فكان الفقر مسقطا. قوله: "ثم في ماله". أقول: الأدلة قد دلت على أن هذه الدية على العاقلة كما دلت الأحاديث الكثيرة على أن الدية على القاتل فإن جعلنا العقل خاصا بالخطأ فلا معارضة بين الأحاديث وإن جعلناه على العموم فلا بد من الجمع بينها بوجه مقبول وهذا الذي ذكره المصنف من جملة ما يصلح للجمع لأنه يقتضي حمل أحاديث ضمان العاقلة على الإمكان فإن كانوا لا وجود لهم كانت الدية من مال القاتل رجوعا إلى الأصل لئلا يهدر دم امرئ مسلم وأما إذا كانوا فقراء فقد تقدم الدليل على أنهم لا يضمنون وهكذا إذا لم تف أموالهم بالعقل. قوله: "ثم في بيت المال". أقول: يدل على هذا ما ثبت في الصحيح [البخاري "12/9"] ، من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى بكل مسلم فمن ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا أو ضياعا فإلي وعلي"، ويدل عليه أيضا حديث المقدام بن معد يكرب المتقدم قريبا والدية هي دين ثابت في ذمة الجاني فإذا كان فقيرا كانت من بيت المال كما يكون قضاء دينه من بيت المال وسيأتي في القسامة إن شاء الله أنه صلى الله عليه وسلم أعان من وجبت عليه بتسليم الدية من بيت المال. وأما قوله: "ثم المسلمون" فلا وجه له من دراية ولا رواية وأموال المسلمين تحت العصمة الشرعية فلا يحل شيء منها إلا بناقل صحيح عن تلك العصمة. وأما قوله: "ولا شيء عليه إن كفت العاقلة" فوجهه ظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب ذلك عليها. وأما كونها تبرأ ببراءته قبل الحكم عليها فوجه ذلك أن أصل الوجوب عليه. وأما قوله: "لا العكس" فلا وجه له بل يبرأ ببراءة العاقلة كما برئت هي ببراءته. قوله: "ويعقل عن ابن العبد وابن الزنا عاقلة أمه". أقول: الأولى أن يعقل عن ابن العبد موالي أبيه وقد عرفت أنه لم يرد ما يقيد أحاديث العقل المطلقة وأما ابن الزنا فلا قرابة له إلا من جهة أمه وقد تقدم أن الخال يعقل عمن لا وارث له سواه وهو من عصبة الأم وأرحام ابنها. قوله: "والإمام ولي مسلم قتل ولا وارث له ولا عفو".

أقول: يدل على ذلك الأدلة المتقدمة التي ذكرناها قريبا ويدل على ذلك أيضا غيرها من العمومات وهو أيضا ولي أموات المسلمين كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فله المطالبة بما يجب لهم وعليهم ولا وجه لقوله ولا عفو بل إليه العفو كما تكون إليه العقوبة لعموم ولايته إذا كان في ذلك مصلحة عائدة على المسلمين أو خصوصا.

باب القسامة

باب القسامة [فصل تجب في الموضحة فصاعدا إن طلبها الوارث ولو نساء ولا يستبد الطالب بالدية] . قوله: "تجب في الموضحة فصاعدا" الخ. أقول: القسامة قد ثبتت في هذه الشريعة في الجملة ولا ينكر ذلك منكر ولا يدفعه دافع وقد أخذ بها الجمهور وعملوا عليها وهي شرع مستقل لا يضرها مخالفتها لبعض ما قد تقرر اعتباره على جهة العموم فإن بناء العام على الخاص واجب وقد قال قوم من السلف إنها غير ثابتة مع اعترافهم بورودها ووقوعها في زمن النبوة وفي أيام الخلفاء الراشدين والقائلون بأنها غير ثابتة هم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز ومن أهل البيت الناصر وعدلوا على مجرد الاستبعاد لثبوتها مع اشتمالها على أحكام تخالف ما هو المتقرر في غالب الأبواب. وعندي أنه لا وجه لهذا الاستبعاد ولا مقتضى للجزم بعدم ثبوتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "أقرها على ما كانت عليه في الجاهلية"، كما في صحيح مسلم "7/1670"، وغيره النسائي "8/2، 4"، وكانت أول قسامة وقعت في الجاهلية القسامة التي ادعاها أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم على فخذ من أفخاذ قريش والقصة مستوفاة في صحيح البخاري وغيره وفيها أن أبا طالب قال للذي اتهم بقتل الفتى من بني هاشم اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك إنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبروهم فقالوا نحلف فاقسامة المشروعة هي هذه التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم وهي أن يدفع المتهمون بالقتل الدية أو يحلفوا ولا دية عليهم. وأما ما ثبت في الصحيحين [البخاري "6898"، مسلم ط1669"، وغيرهما أبو داود "4520"، الترمذي "1422"، النسائي "8/5، 6، 7"، ابنماجة "2677"] ، في قصة عبد الله بن سهل الذي قتلته يهود خيبر وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على ورثته أنهم يحلفون ويستحقون فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا" فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من

عنده, فينبغي أن يكون هذا على طريق الصلح لأن القسامة التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي قسامة أبي طالب فيحمل ما خالفها كهذه القصة على ما ينبغي أن يحمل عليه ما خالف ما هو الأصل وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف لورثة عبد الله بن سهل ليريهم كيف بطلانها ولهذا أسلم الدية من عنده لئلا يهدر دم المقتول. وأما الجمع للمتهمين بين الإيمان والدية فمخالف لما وقع في قسامة أبي طالب التي قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك إلا ما يروى عن عمر ولا يجوز العمل به لمخالفته لما صح عنه صلى الله عليه وسلم. وإذا عرفت ما ذكرناه من وجوب تأويل ما خالف قسامة أبي طالب فمن جملة ما خالفها في قصة عبد الله بن سهل أنه يحلف من قرابته خمسون ويستحقون فإن اليمين إنما تكون على يقين ولهذا قالوا كيف نحلف ولم نشهد وهذا يقوي ما قدمنا من قول من قال إنه تلطف لورثة عبد الله بن سهل ليريهم كيف بطلانها. فالحاصل أن القسامة ثابتة في هذه الشريعة فمن ادعاها على قوم فيقال لهم يحلف منهم خمسون فإن حلفوا فليس عليهم شيء من الدية وإن نكلوا فعليهم الدية وإن التبس الأمر كانت من بيت المال كما فعله صلى الله عليه وسلم في قصة عبد الله بن سهل وليس غير هذا ولكن في قصة أبي طالب أن الدعوى وقعت على معين فيدل ذلك على أن التعيين لا يبطل القسامة بل يتوجه على قوم ذلك المعين ما يتوجه على قوم وقعت الدعوى على واحد منهم غير المعين وعلى جماعة منهم غير المعينين. وأما قوله: "تجب في الموضحة فصاعدا" فمبني على صحة إلحاق ما دون النفس بالنفس ولكنه يقال مقتضى قواعدهم أنه لا يقاس على ما ورد مخالفا للقياس بل يقر في موضعه وإن كان الحق ما قدمنا أن كل الشريعة المطهرة واردة على القياس المطابق للحكمة التي ينتفع بها العباد عاجلا وآجلا. وأما قوله: "إن طلبها الوارث" إلخ فوجهه ظاهر لأن هذا شأن حقوق الآدميين لا تجب إلا بعد الطلب كما تقدم في الدعوى وقد قدمنا هنالك ما ينبغي الرجوع إليه وهكذا لا يبطل حق من لم يعف من عفا وليس في هذا نزاع. وأما كونه لا يستبعد بالدية الطالب فوجهه أنها عوض عن دم المقتول وهم يستحقونه جميعا ولا يبطل حق الساكت بسكوته. [فصل فمن قتل أو جرح أو وجد أكثره في أي موضع يختص بمحصورين غيره ولو بين قريتين استويا فيه أو سفينة أو دار أو مزرعة أو نهر أو لم يدع الوارث على غيرهم

أو معينين فله أن يختار من مستوطنيها الحاضرين وقت القتل خمسين ذكورا مكلفين أحرارا وقت القتل إلا هرما أو مدنفا يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتله ويحبس الناكل حتى يحلف ويكرر على ما شاء إن نقصوا ويبدل من مات ولا تكرار مع وجود الخمسين ولو تراضوا وتعدد بتعدده ثم تلزم الدية عواقلهم ثم في أموالهم ثم في بيت المال فإن كانوا صغارا أو نساء منفردين فالدية والقسامة على عواقلهم وإن وحد بين صفين فعلى الأقرب إليه من ذوي جراحته من رماة وغيرهم] . قوله: "فصل فمن قتل أو جرح" الخ. أقول: وجوده على هذه الصفة مقتض لتعلق التهمة بأهل المحل فكان ذلك سببا لثبوت القسامة وجعلوا هذا قائما مقام اللوث الذي اعتبره بعض أهل العلم. وأما اشتراط أن يختص المحل بمحصورين فلكونها لا تصح الدعوى على من لم ينحصر كالمدن الكبار وقوله غيره يفيد أنه لو كان المحل مختصا بالمتهم كانت القسامة عليه وحده وقد قيل إن ذلك إجماع وفيه نظر فإن قسامة أبي طالب كانت على فرد معين ولم يكن ذلك قادحا في القسامة فهكذا لا يقدح فيها إذا كان القتيل موجودا في مكان يختص بالمتهم. قوله: "ولو بين قريتين استويا فيه". أقول: وجه ذلك أن التهمة قد تعلقت بأهل القريتين جميعا مع الاستواء بينهما بالنسبة إلى الموضع الذي وجد فيه القتيل وأما إذا كان موضع القتيل أقرب إلى أحدهما فالتهمة متعلقة به تعلقا أقوى من صاحب المكان الأبعد ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد "16/46"، والبيهقي من حديث أبي سعيد قال وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذرع ما بينهما زاد البيهقي فوجد إلى أحد الحيين أقرب بشبر فألقى ديته عليهم قال البيهقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال العقيلي هذا الحديث ليس له أصل وروى الشافعي عن عمر أنه كتب في قتيل وجد بين خيوان ووادعة أن يقاس ما بين القريتين قال الشافعي ليس بثابت إنما رواه الشعبي من الحارث الأعور وقال البيهقي روي عن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر ومجالد غير محتج به قال وقد روي عن مطرف عن أبي إسحاق عن الحارث بن الأزمع عن عمر قال ابن حجر لكن لم يسمعه أبو إسحاق من الحارث فقد روى علي بن المديني عن أبي زيد عن شعبة سمعت أبا إسحق يحدث حديث الحارث بن الأزمع يعني هذا قال فقلت يا أبا إسحق من حدثك قال حدثني مجالد عن الشعبي عن الحارث بن الأزمع فعادت رواية أبي إسحق إلى حديث مجالد ومجالد غير محتج به انتهى. وأما قوله: "أو سفينة أو دار أو مزرعة أو نهر" فالأمر كذلك.

وأما قوله: "ما لم يدع الوارث على غيرهم" فوجهه ظاهر لعدم وجود ما هو المناط وهو التهمة. وأما قوله: "أو معينين" فقد قدمنا الكلام عليه في أول الباب. قوله: "فله أن يختار" إلخ أقول: الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن أبي حثمة ورافع ابن خديج وغيرهما بألفاظ ليس فيها إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا"، [البخاري "3173"، مسلم "1/1669"] ، وفي بعضها: "فيحلفون"، [البخاري "12/229"] ، وليس في هذا ما يدل على أن لمدعي القسامة أن يختار لليمين من أراد وهكذا في قسامة أبي طالب ليس فيها أنه اختار الخمسين بل طلب أيمان خمسين فالظاهر أن المتهمين يحلف منهم خمسون يعينونهم من أنفسهم وليس للمدعي إلا ذلك. وأما اشتراط أن يكون الحالفون من مستوطنيها الحاضرين وقت القتل فوجهه أن مناط القسامة التهمة ولا تهمة على من لم يحضر وقت القتل. وأما اشتراط كونهم أحرارا فوجهه أنهم يدفعون عن أنفسهم باليمين لزوم الدية ولا يلزم العبيد من ذلك شيء فلا يمين عليهم. وهكذا اشتراط كونهم ذكورا لأن التهمة لا تتعلق بالنساء وأما استثناء المريض والمدنف فوجهه أن التهمة غير متعلقة به فهو كمن لم يحضر. قوله: "يحلفون ما قتلناه ولا علمنا قاتله". أقول: قد ثبت في صحيح البخاري "7/155"، في قسامة أبي طالب التي أقرها الشرع بلفظ: "وإن شئت حلف خمسون من قومك بأنك لم تقتله" فهذا يدل على أنه لا بد أن يحلف الخمسون على أن المعين لم يقتله أو على أنهم لا يعلمون له قاتلا حيث لم يكن معينا وهذا من جملة ما ورد خاصا بالقسامة فإن اليمين على أن المعين لم يقتله وبعد وقوع الدعوى عليه لا يكون إلا باعتبار الرجوع إلى الأصل وهو عدم صدور الفعل من المدعي عليه وفيه ما فيه. قوله: "ويحبس الناكل حتى يحلف". أقول: قد قدمنا أن إيجاب اليمين عليهم لأجل إسقاط الدية على ما قررناه من أنه لا دية عليهم بعد حلفهم فمن نكل منهم خوطب بتسليم نصيبه من الدية كما يخاطب من نكل عن اليمين في سائر الحقوق ولا وجه للحبس لأنه قد يكون فيه إكراه عن اليمين الفاجرة. قوله: "ويكرر على من شاء إن نقصوا". أقول: قد تقرر أن أيمان القسامة خمسون فحيث لا يتم إلا بالتكرار على بعض من حلف كان ذلك حقا للمدعي لأنه سيترتب على كمال القسامة وهي الخمسون اليمين سقوط الدية ولكن ليس له أن يختار من تكرر عليه اليمين كما قدمنا لأنه ليس له أن يختار من يحلف بل لهم أن يعينوا من يكون التكرار عليه.

وأما كونه يبدل من مات فوجهه انه لا بد من الخمسين اليمين لكن يكون البدل ممن تتعلق به التهمة لا مطلقا. وأما كونه لا تكرار مع وجود الخمسين فظاهر لأنها ألجأت الضرورة إلى التكرار فلا تكرار مع السعة. وأما كونها تتعدد القسامة بتعدد ما تجب فيه فظاهر لأنها واجبة لكل قتيل كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: "وتلزم الدية عواقلهم". أقول: قد عرفناك ما هو الصواب في أول الباب فلا نعيده فلا يجب عليهم إذا حلفوا ولا على عواقلهم ويجب في بيت المال مع اللبس كما تقدم. وأما قوله: "فإن كانوا صغارا أو نساء منفردين" إلخ فالذي ينبغي اعتماده أن التهمة إذا تعلقت بالنساء والصغار حلف من تعلقت به التهمة من النساء وينتظر بلوغ الصغار ثم يحلفون فإن حلفوا أو حلفن فلا ديه عليهن ولا عليهم ولا على عواقلهم وإن لم يحلفوا كانت الدية عليهم وعليهن وأما العواقل فقد تقدم في فصل ضمان العاقلة ما لا يحتاج معه إلى إعادته هنا. قوله: "فإن وجد بين صفين" الخ. أقول: قد ثبتت القسامة في وجوده بين قريتين فثبوتها في وجوده بين صفين أولى لأن التهمة أقوى والسبب أظهر فإن كان أحد الصفين أقرب من الآخر كان تعلق التهمة به أقوى إلا أن لا يكون في سلاحهم ما هو المؤثر في الجناية عليه ووجد ذلك في سلاح الصف الأبعد فإن التهمة تنصرف عن الأقربين إلى الأبعدين فما ذكره المصنف هاهنا صواب لأن قوله فعلى الأقرب إليه من ذوي جراحته تدل على أنهم إذا لم يكونوا من ذوي جراحته كانت على ذوي جراحته وإن كان صفهم بعيدا منه. [فصل فإن لم يختص أو لم ينحصروا ففي بيت المال ولا تقبل شهادة أحد من بلد القسامة وهي خلاف القياس وتسقط عن الحاملين في تابوت ونحوه وبتعيينه الخصم قبل موته والقول للوارث في إنكار وقوعها ويحلف] . قوله: "فصل: فإن لم يختص" الخ. أقول هذا وجه من وجوه الالتباس وقد قدمنا أنها تكون معه على بيت المال وأيضا لا يهدر دم امرئ مسلم. وأما قوله: "ولا تقبل شهادة أحد من بلد القسامة" فوجهه ما تقدم في الشهادات من أنها

لا تقبل شهادة من له فيها جلب نفع أو دفع ضرر وقد حققنا ذلك هنالك فأرجع إليه. وأما قوله: "وهي جارية على خلاف القياس" فمرادهم عند إطلاق مثل هذا أن ما أطلقوه عليه مخالف لغالب ما ثبت في القواعد الشرعية وقد قدمنا الإشارة إلى شيء من هذا. وأما قوله: "ويسقط عن الحاملين" إلخ فيجاب عنه بأن مثل هذا الفعل لا يستلزم انتفاء التهمة التي عللوا بها لا عقلا ولا شرعا ولا عادة فكيف يكون موجبا لسقوط القسامة عليهم. وأما قوله: "وبتعيينه الخصم قبل موته" فقد قدمنا أن قسامة أبي طالب التي قررها الشرع كانت على معين عينه المقتول قبل موته. وأما قوله: "والقول للوارث في إنكار وقوعها" فوجهه أن الأصل عدم ذلك فيكون القول قوله مع يمينه وعليه البينة أنها قد وقعت. [فصل وإنما تؤخذ الدية وما يلزم العاقلة في ثلاث سنين تقسيطا] . قوله: "فصل: وإنما تؤخذ الدية" الخ. أقول: غاية ما روي في هذا ما أخرجه البيهقي من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين ويقويه ما حكاه الشافعي من الإجماع على ذلك وكذا ما حكاه الترمذي في جامعه وابن المنذر وقد روي التنجيم في ثلاث سنين عن جماعة من الصحابة وقد حكى الرافعي إجماع الصحابة على ذلك.

كتاب الوصايا

كتاب الوصايا [فصل إنما تصح من مكلف مختار حالها بلفظها أو لفظ الأمر لبعد الموت وإن لم يذكر وصيا] . قوله: "فصل: إنما تصح من مكلف". أقول: الوصية تكليف من التكاليف الشرعية ورد الأمر بها والترغيب إلى فعلها والترهيب

في تركها وهي أيضا تتضمن إخراج جزء من المال لفلان أو للقربة الفلانية أو عند فلان كذا أو يفعل الوارث كذا أو يترك كذا وهذه أمور لا تصح إلا من المكلف لا من الصغير الذي لم يبلغ التكليف وهذا يكفي في الإستدلال على اشتراط التكليف من فاعلها ولا يصلح لمعارضة هذا ما أورده ابن حجر في التلخيص أن غلاما من غسان حضرته الوفاة وله عشر سنين فأوصى لبنت عم له وارث فرفعت القصة إلى عمر فأجاز وصيته وعزاه إلى مالك من حديث عمرو بن سليم الزرقي أنه قيل لعمر بن الخطاب إن ها هنا غلاما يفاعا لم يحتلم من غسان ووارثه بالشام وهو ذو مال وليس له هاهنا إلا ابنة عم له فقال عمر فليوص لها الحديث ورواه أيضا من وجه آخر وفيه أن الغلام كان ابن اثنتي عشرة سنة أو عشر سنين وقال البيهقي علق الشافعي القول بجواز وصية الصبي وتدبيره بثبوت الخبر عن عمر لأنه منقطع وعمرو بن سليم لم يدرك عمر قال ابن حجر ذكر ابن حبان في ثقاته أنه كان يوم قتل عمر جاوز الحلم وكأنه أخذ من قوله الواقدي إنه كان حين قتل عمر راهق الإحتلام انتهى. وإنما قلنا إنه لا يعارض ما ذكرنا لأنه اجتهاد يخالف ما جرت عليه قواعد هذه الشريعة وأدلتها من اشتراط التكليف وقد أمر الله الأولياء بحفظ أموال اليتامى وقال: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، وهكذا يقال فيما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الزهري أن عثمان أجاز وصية غلام ابن إحدى عشرة سنة. وأما اشتراط الإختيار فلعدم صحة تصرف المكره لا بوصية ولا بغيرها كما تقدم. وأما قوله: "بلفظها أو لفظ الأمر" فقد عرفناك غير مرة أن المعتبر ما يدل على المقصود ويشعر بالمراد ولو بغير لفظ فضلا عن أن يكون لفظ معين. وأما إضافة الوصية إلى ما بعد الموت فلأجل تفرق الحال بين الوصية والوكالة. وأما قوله: "وإن لم يذكر وصيا" فوجهه أن ذلك الذي أمره بأن يفعل بعد موته كذا قد صار وصيا بمجرد هذا الأمر كما سيأتي للمصنف في قوله ويعم وإن سمي معينا إلخ وإذا لم يقع المر لمعين كان التنفيذ واجبا علي الوارث ثم علي حكام الشريعة. [فصل وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف فمن رأس المال وإلا فمن الثلث ولا رجوع فيهما] . قوله: "فصل: وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف فمن رأس المال وإلا فمن الثلث". أقول: المال ما دام لصاحبه عين تطرف فهو ملكه وله التصرف فيه بما شاء كيف شاء لكنه لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد بن أبي وقاص: "الثلث والثلث كثير - أو كبير - إنك أن تذر

ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس"، بعد أن قال له سعد: إنه يريد أن يتصدق بثلثي ماله قال: "لا" قال: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا" قال: فالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كبير" والحديث في الصحيحين [البخاري "1295"، مسلم "5/1628"، وغيرهما أبو داود "2864"، الترمذي "2116"، النسائي "6/241"، 242"، ابن ماجة "2708"، أحمد "1/179"] ، كان ذلك دليلا على عدم جواز مجاوزة الثلث لمن له وارث لأنه علل المنع بذلك. وأما من لا وارث له فلا يدخل تحت هذا النهي ولا يصح الإستدلال على وجوب الإقتصار على الثلث بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها زيادة لكم في أعمالكم"، أخرجه أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف وأخرجه الدارقطني والبيهقي بنحوه من حديث أبي أمامة وفي إسناده مقال ورواه العقيلي في الضعفاء عن أبي بكر الصديق وفي إسناده متروك لأن الحديث لا تقوم به حجة كما ترى وعلى فرض قيام الحجة به فالتصدق منه تعالى عليهم بالثلث لا ينافي تصدقهم بزيادة عليه لأنه تعالى قد جعل كل مالك مفوض في ملكه فلا يخرج عن ذلك إلا ما ورد المنع منه بما لا يجوز مخالفته. وأما رده صلى الله عليه وسلم لبيضة الذهب لمن تصدق بها وكذلك رده لمن تصدق بأحد ثوبيه فالوجه في ذلك ما هو مذكور في الحديثين من أنه "يقعد يتكفف الناس" فهذا هو الموجب لرد هذه الصدقة وقد قدمنا الكلام على نحو هذا في الهبة وفي النذر فارجع إليه. والحاصل أنه من له وارث لم يصح تصرفه في زيادة على الثلث ومن لا وارث له يصح تصرفه في جميع ماله إذا لم يخش عليه الحاجة إلى الناس والوقوع في المسأ المحرمة ولا فرق بين المرض والصحة ولم يرد ما يدل على هذا الفرق الذي ذكره المصنف وكونه صلى الله عليه وسلم قال ذلك لسعد في حال مرضه فقد علله بعلة يستوي فيها المرض وغيره حيث قال: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء" إلخ وهذا الحديث يقيد به ما ورد في الكتاب العزيز من قوله عزوجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، ويؤيده النهي عن وصية الضرار ويؤيده أيضا حديث الرجل الذي أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم اثنين وأرق أربعة أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ورجال إسناده رجال الصحيح وقد قدمنا الكلام عليه في العتق وفي آخر هذا الحديث أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لو شهدته قبل أن يدفن في مقابر المسلمين". قوله: "ولا رجوع فيها". أقول: ما صدر عن طيبة نفسه بنفوذه في الحال قد حصل المناط الشرعي المقتضي لخروج الملك من مالكه إلى غيهر وأما إذا كانت نفس لا تطيب بالنفوذ ما دام حيا فلا ينفذ ذلك إلا بالموت وله الرجوع قبله لأن المناط الشرعي لم يوجد ها هنا.

[فصل وتجب والإشهاد على من له مال بكل حق لآدمي أو لله مالي أو يتعلق به ابتداء أو انتهاء فالثلاثة الأول من رأس المال وإن لم يوص ويقسط الناقص بينها ولا ترتيب والرابع من ثلث الباقي كذلك إن أوصى ويشاركه التطوع] . قوله: "فصل: تجب والإشهاد على من له مال". أقول: وجه الوجوب قول الله عزوجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 180] ، لا يستلزم نسخ وجوبها لغيرهم ويؤيد الوجوب الحديث الثابت في الصحيحين [البخاري "2738"، مسلم ط1/1627"، وغيرهما أبو داود "2862"، النسائي "6/238، 239"، الترمذي "2118"، ابن ماجة "2702"، أحمد "2/10، 50، 57، 80، 113"] ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه"، وفي هذه العبارة ما يقتضي الإيجاب على طريق المبالغة ولم يأت من أراد دفع دلالة هذا الحديث على الوجوب بطائل وقد حققنا هذا المبحث في شرحنا للمنتقي فليرجع إليه. والحاصل أن وجوب تخلص العبد من الحقوق اللازمة له لله ولعباده معلوم بأدلته فإذا لم يكن التخلص عنه في حال الحياة كان التخلص عنه بالوصية واجبا والجمهور وإن قالوا بأنها مندوبة فهم لا يخالفون في مثل هذا لأنهم يوافقون على وجوب التخلص من الواجبات بكل ممكن فإذا لم يمكن إلا بالوصية فهم لا ينكرون الوجوب. وأما الوصية بما يريد الإنسان أن يتقرب به من القرب فمعلوم أن ذلك إليه وراجع إلى اختياره لأنه لا يجب عليه غير ما هو واجب عليه وأصل التقربات التي لم يوجبها الشرع الندب فلا يزيد عليها ما هو متفرع عليها وهو الوصية. وأما وجوب الإشهاد فإذا علم الموصي أن وصيته لا تتم إلا بذلك كان واجبا عليه وإلا فلا وجه للوجوب. وأما قوله: "على من له مال" فوجه ذلك أن من لا مال له قد تعذر عليه التخلص عن الواجب والتقرب بالمندوب فلا فائدة في وصيته ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "وله شيء يريد أن يوصي فيه"، لكن إذا علم أنه إذا أوصى حصل تخليص ما عليه من بيت المال أو من إخوانه المسلمين كان ذلك واجبا عليه لأنه نوع من التخلص وقوله لكل حق لآدمي أو لله وجهه ظاهر كما قدمنا. وأما قوله: "أو يتعلق به ابتداء أو انتهاء" فليس المراد إلا ثبوت ذلك عليه قبل موته فإذا تقرر ثبوته كان له حكم الدين فيخرج من الرأس لقوله عزوجل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وإن كان ثبوته قبل موته غير متقرر كالنذر والهبة ووصايا القربة مع إضافة ذلك

إلى ما بعد الموت فمخرجه من الثلث لما قدمنا ومعي وقفة في لزوم الوصية بالحج لمن مات وقد لزمه الحج وقد أوضحت ذلك في حاشيتي على الشفاء بل في كونه يقع عن الميت الموصي به نظر إذا لم يكن الذي يحج عن الميت قريبا له فكيف يقال يجب التحجيج وإن لم يوص الميت به ويخرج من رأس ماله؟. [فصل ولا ينفذ في ملك تصرف غير عتق ونكاح ومعاوضة معتادة من ذي مرض مخوف أو مبارز أو مقود أو حامل في السابع وله وارث إلا بزوالها وإلا فالثلث فقط إن لم يستفرق وما أجازه وارث غير مغرور ولو مريضا أو محجورا ويصح إقرارهم ويبين مدعى التوليج] . قوله: "فصل: ولا ينفذ في ملك تصرف" الخ. أقول: ما ذكره المصنف ها هنا إلى قوله فالثلث فقط صواب وجهه ما قدمنا عند قوله وما نفذ في الصحة وأوائل المرض غير المخوف. وأما قوله: "وما أجازه وارث غير مقرور" إلخ فوجهه واصح لأنه بذلك أسقط حقه فزال المانع مع وجود المقتضي ولا شك في صحة الإجازة من المريض والمحجور كما يصح الإقرار لأنه مكلف وإقراره حجة عليه فكذا إجازته. وأما قوله: "ويبين مدعي التوليج" فوجهه أن الأصل عدمه فالقول قدل نافيه والبينة على مدعيه إلا أن توجد شواهد التوليج وقرائنه وثبت بذلك الظاهر والظاهر مقدم على الأصل كما هو المعلوم بالوجدان. [فصل ويجب امتثال ما ذكره وعرف من قصده ما لم يكن محظورا ويصح بين أهل الذمة فيما يملكون ولو لكنيسة أو بيعة وتصح للذمي ولقاتل العمد إن تأخرت وللحمل والعبد وبهما وبالرقبة دون المنفعة والفرع دون الأصل والنابت دون المنبت ومؤبدة وعكس ذلك ولذي الخدمة الفرعية والكسب وعليه النفقة والفطرة ولذي الرقبة الأصلية والجناية وهي عليه وأعواض المنافع إن استهلكه بغير القتل للحيلولة إلى موت الموصى

له أو العبد ولا تسقط بالبيع وهي عيب ويصح إسقاطها] . قوله: "فصل: ويجب امتثال ما ذكره" الخ. أقول: وجه هذا أن الميت إن كانت وصيته تتضمن تخليصه من شيء واجب عليه فقد فعل بالوصية ما يجب عليه وكان تنجيزها واجبا على وصيه أو على وارثه أو على سائر المسلمين إن لم يكن ثم وصي ولا وارث والإمام والحاكم أولى المسلمين بالقيام بذلك والإلزام به لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان الذي أوصى به الموصى من القرب التي ليست بواجبه عليه فقد فعل ذلك في ماله الذي أذن الله سبحانه له بالتصرف فيه كيف يشاء وإنفاذ ذلك واجب على الوصي أو على الوارث أو على الإمام والحاكم لأن في إهماله إهمالا لحق امرىء مسلم وهو منكر يجب إنكاره وما عرف من القصد فله حكم اللفظ إذ ليس المراد باللفظ إلا مجرد الدلالة على المعنى الذي يريده اللافظ وقد حصلت هذه الدلالة بالقصد. وأما قوله: "ما لم يكن محظورا" فوجهه ظاهر لأن ذلك منكر وهو يجب دفعه على كل مسلم ومن دفعه ترك تنفيذه وعدم امتثال أمر الموصي بذلك. قوله: "ويصح بين أهل الذمة" الخ. أقول: وجه ذلك أنهم مقرون على شريعتهم فليس لنا تغييره ما فعلوه ولا التعرض لإبطاله إلا أن يترافعوا إلينا ويطلبوا منا حكم الإسلام بينهم في ذلك كان علينا الحكم بينهم بحكم الإسلام كما صرح الله سبحانه به في كتابه العزيز: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] ، وهكذا تصح الوصية من المسلم للذمي لعدم وجود مانع شرعي من ذلك إذا كان الذي أوصى له به مما يجوز لنا معاملة أهل الذمة به فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في كل كبد رطبة أجر"، [البخاري "2363"، مسلم "2244"، أبو داود "2550"] ، وهو أيضا يشمله الإذن العام بقوله عزوجل: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] ، الآية. قوله: "وتصح لقاتل العمد إن تأخرت". أقول: لا وجه للتقييد بقوله إن تأخرت بل تصح مطلقا لأن المقتول تصرف بماله الذي أباح له الشرع التصرف فيه ولا مانع من ذلك وكونه قد عصى بالجناية لا يستلزم عدم الصحة الإحسان إليه بل الإحسان إليه قد يكون الثواب فيه أكثر من غيره لأنه من مقابلة الإساءة بالإحسان وهو منزلة عظيمة عند الله وقد ندب الله إلى ذلك بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: [34 – 35] ، أي ما يلقى هذه الخصلة وهي الدفع بالتي هي أحسن إلا من كان كذلك نعم إذا رجع الموصي عن الوصية بعد الجناية أو عرف من قصده ما يقتضي الرجوع عن الوصية كان ذلك مبطلا لها لعدم وجود المناط الشرعي وهوالرضا وطيبة النفس.

وأما قوله: "وتصح للحمل والعبد" إلى آخر ما ذكره المصنف فوجهه واضح والتفريع على ذلك قد عرف في مواطنه فلا حاجة إلى الكلام منا عليه هنا. [فصل وتصح بالمجهول جنسا وقدرا ويستفسر ولو قسرا وثلث المال للمنقول وغيره ولو دينا فإن كان لمعين شارك في الكل وإلا فإلى الورثة تعيينه وثلث كذا لقدره من جنسه ولو شراء ومسمى الجنس كشاة لجنسه ولو شراء والمعين لعينه إن بقيت وشيء ونحوه لما شاءوا والنصيب والسهم لمثل أقلهم ولا يتعد بالسهم السدس والرغيف لما كان ينفق فإن جهل فالأدون وأفضل أنواع البر الجهاد وأعقل الناس أزهدهم ولكذا وكذا ينصفان وإذا ثبت على كذا لثبوته عليه ولو ساعة وأعطوه ما ادعى وصية والفقراء والأولاد والقرابة والأقارب والوارث كما مر] . قوله: "فصل: وتصح بالمجهول" الخ. أقول: وجه هذه الصحة أنه قد وجد المقتضي وفقد المانع وليس مجرد الجهالة ابتداء مما يصلح للمانعية لأنها ترتفع بالتفسير أو بالرجوع إلى أقل ما يصدق ذلك اللفظ لا يقال إن قسره على التفسير إكراه والإكراه مانع لأنا نقول هو إنما أكره على تفسير ما قاله حال اختياره وقد ثبت عليه الحق بمجرد الوصية بالمجهول فامتناعه من تفسيره كامتناع من تقرر عليه حق معلوم من تسليمه وللحاكم أن يجبر المتمرد كما تقدم. قوله: "وثلث المال للمنقول وغيره". أقول: هذا ظاهر ما يقتضيه لفظ المال إلا أن يمنع من الجري على هذا ظاهر عرف للموصي وأهل محله فإنه مقدم على ما تقتضيه اللغة لا فرق بين المعين وغيره في استحقاق المقاسمة للورثة ولا وجه يقتضي تخصيص المعين بذلك لا من رواية ولا من دراية لأن التعيين مع ذكر لفظ الثلث مشعر أتم إشعار بأن المراد أن هذا الموصى له يأخذ ثلث هذا المعين رضي الوارث أم كره وهكذا له أن يأخذ ثلث ما قال فيه لفلان ثلث كذا ولا وجه للإنتقال إلى جنسه إلا أن يعرف ذلك من قصد الموصي وإنما يعدل إلى الجنس في مسمى الجنس كما قال المصنف ومسمى الجنس لجنسه والمعين لعينه ومن المعين قوله ثلث كذا كما لا يخفى فكلام المصنف متدافع. وأما قوله: "وشيء ونحوه لما شاءوا" فوجهه أنه يصدق على كل ما شاءه أنه شيء إلا أن يعرف من قصد الموصي ما يخالف ذلك.

قوله: "والنصيب والسهم لمثل أقلهم". أقول: وجه هذا أنه لا يريد إلا نصيبا من أنصباء التركة أو سهما من سهامها فإن كان في ذلك عرف معلوم وجب الرجوع إليه وإلا كان المتيقن هو أقل ما يصدق عليه أنه سهم من سهام التركة ونصيب من أنصابها ولا وجه لقول المصنف ولا يتعدى بالسهم السدس فإن الوقوف على السدس تحكم محض لا يدل عليه شرع ولا عقل ولا لغة ولا وجه للفرق بين النصيب والسهم إلا أن يكون المصنف قد بنى ذلك على عرف قد عرفه ولكنه لا يفيد شيئا لأن الإعتبار يعرف المتكلم حال التكلم ولا يلزمه عرف غيره من أهل عصره فضلا عن عرف من عصره قبل عصره. وأما قوله: "والرغيف لما ينفق منه" فوجهه أن المتبادر ما هو كذلك فإن كان مجهولا رجع إلى عرف أهل بلده فإن لم يكن لهم عرف أو كان العرف مختلفا فالأقل لأنه المتيقن. قوله: "وأفضل: أنواع البر الجهاد". أقول: أما أفضل أنواع البر من غير نظر إلى خصوص الوصية فقد اختلفت الأدلة في أفضل الأعمال فتارة يذكر الجهاد وتارة الصلاة لأول وقتها وتارة ذكر الله وتارة بر الوالدين وتارة الصدقة وما ورد في هذا المعنى. وينبغي الجمع بين هذه الأحاديث المختلفة بأن يقال إن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان مثلا قوي القلب مستعدا للجهاد فالجهاد أفضل أعماله ومن كان غير قادر على الجهاد أو يقدر عليه مع ضعف يلحقه وعدم فائدة تحصل منه فأفضل أعماله المحافظة على صلواته وأذكاره أو على بر والديه وإن كان كثير المال فأفضل أعماله الصدقة على ذوي الحاجة والحاصل أن أفضل أعمال كل رجل ما هو أكثر نفعا لغيره وأجود ثمرة وأتم فائدة. وأما الوصية إذا أوصى بجزء من ماله تصرف في أفضل أعمال البر فذلك يختلف باختلاف الأوقات فأفضل أنواع البر في سني الشدة وأيام المجاعة هو الصدقة وأفضل أنواع البر في أيام المثاغرة للكفار ومدافعتهم عن بلاد الإسلام هو الجهاد وأفضل أنواع البر في غير هاتين الحالتين هو الصرف في العلماء والمتعلمين وتحشيدهم لنشر العلم والإستكثار من التعدريس وتخريج الطلبة وترقيتهم في العلوم فإنه بذلك يحصل تكاثر العلم وتكاثر أهله فيزداد الدين جمالا والإسلام رونقا لأن حملة العلم هم نجومه الذين يستضاء بأنوارهم ويهتدون بهديهم. والحاصل أن العالم العارف بالموازنة بين الأعمال بين الأعمال مع اختلاف الأوقات لا يخفى عليه راجحها من مرجوحها وفاضلها من مفضولها. قوله: "وأعقل الناس أزهدهم". أقول: إن عرف من مقصد الموصي بجزء من ماله لأعقل الناس أنه يريد أعقلهم من حيث ما يقتضيه الشرع فلا شك ولا ريب أن من رغب عن عرض الدنيا الفاني وطلب عرض الآخرة الباقي هو الذي يستحق اسم العقل الكامل والإدراك الصحيح والنظر المطابق لمراد الله سبحانه وإن عرف من مقصد الموصي لأنه يريد أعقلهم باعتبار أمر غير هذا الأمر كالتبصر بإصدار الأمور

وإيرادها ومداخر الصلاح والنظر في عواقب الأمور وإصابة الرأي والفكر فيما تئول إليه مبادىء الأمور وتنتهي إليه الحوادث كان الصرف إلى من كان هو المقصود للموصى ولا حجر في ذلك فله أن جعل ما شاء من ماله حيث شاء ما لم يكن معصية لله عزوجل. قوله: "وبكذا وكذا نصفان". أقول: هذا هو الظاهر من حيث اللغة إلا أن يخالفه عرف للموصي فهو مقدم لأنه لا يتكلم المتكلم في الغالب إلا بما يقتضيه عرفه وما يعتاده أهل بلده وهكذا قوله وإذا ثبت على كذا لثبوته عليه ولو ساعة فإنه قد حصل الثبوت على ذلك الشيء بما يصدق عليه مسمى الثبوت إلا أن يجزي عرف بخلاف ذلك. وأما قوله: "وأعطوه ما ادعى وصية" فغير مسلم فإن هذا إقرار منه بأنه يستحق من تركته ما يدعي به وحمله على الوصية خلاف الظاهر. وأما قوله: "الفقراء والأولاد والقرابة والأقارب والوارث كما مر" فقد قدمنا الكلام على ذلك في الوقف فليرجع إليه. [فصل ولو قال أرض كذا للفقراء وتباع لهم فلهم الغلة قبل البيع إن لم يقصد ثمنها وثلاثة مضاعفة لستة وأضعافها ثمانية عشر ومطلق الغلة والثمرة والنتاج للموجودة وإلا فمؤبدة كمطلق الخدمة والسكنى وينفذ من سكنى دار لا يملك غيرها سكنى ثلثها ومن أوصى ولا يملك شيئا أو ثم تلف أو نقص فالعبرة بحال الموت فإن زاد فبالأقل] . قوله: "فصل: ومن قال أرض كذا للفقراء" الخ. أقول: وجه هذا التمليك قد دل على أنها لهم من وقت التلفظ بما يدل عليه فستحقون ما حصل فيها من الغلة لأنها غلة ملكهم إلا أن يعرف من قوله وتباع لهم أن مراده أن الذي يصير إليهم هو ثمنها فقط فإن الغلة تكون قبل البيع للورثة وهو معنى قوله إن لم يقصد ثمنها واحتاج إلى هذا الإحتراز لاحتمال قوله أو تباع لهم لأمرين. قوله: "وثلاثة مضاعفة ستة". أقول: ضعف الشيء ومضاعفته وتضعيفه أني جعل فوقه مثلاه فإن أطلق على مثله فقط فهو مجاز وليس من باب الإشتراك وإذا كان الضعف يطلق على مثلي الأصل كما عرفت فالجمع يدل على أن هذين المثلين مضاعفة ثلاث مرات فيكون ثمانية عشر لأن ذلك أقل الجموع إلا أن يظهر له قصد أو عرف يخالف ذلك فكلام المصنف رحمه الله صحيح لا إشكال فيه ولا غبار عليه.

قوله: "ومطلق الغلة والثمرة والنتاج للموجود". أقول: وجه ذلك أن اللفظ ينصرف إلى ما هو موجود في الحال فلا يتناول غيره إلا لقرينة وأما إذا قال ذلك الشيء غير موجود فالظاهر أنه أراد ما يحصل من بعد ومع عدم التقييد بالمرة أو المرات يحمل على الأقل وهو ما يحصل أول مرة وليس في ذلك ما يدل على التأبيد لأن التأبيد أمر زائد على مجرد الإطلاق فلا يصار إليه إلا لقرينة. قوله: "وينفذ من سكنى دار لا يملك غيرها سكنى ثلثها". أقول: هذا يخالف ما تقدم للمصنف من التفصيل في قوله وما نفذ في الصحة إلخ وقوله ولا ينفذ في ملك تصرف إلخ والأولى أن يقال إن الوصية بسكنى الدار تنفذ في جميع الدار إذا لم يكن وارث على حسب ما قدرناه فيما تقدم. وأما قوله: "ومن أوصى لا يملك شيئا" إلخ فوجهه أو وقت الموت هو وقت النفوذ فالإعتبار به وجودا أو عدما وزيادة ونقصا ولا وجه لقوله: "فإن زاد فبالأقل". [فصل وتبطل برد الموصى له وموته وانكشافه ميتا قبل الموصي وبقتله المصي عمدا وإن عفا وانقضاء وقت المؤقتة وبرجوعه أو المجيز في حياته عمالا يستقر إلا بموته فيعمل بناقضة الأولى] . قوله: "فصل: وتبطل برد الموصى له". أقول: وجهه أنه لا يلزم الإنسان حتما إدخال شيء في ملكه بل ذلك مفوض إلى اختياره فإن رضي صار ملكا وإن رده لم يصر ملكا له وأما اعتبار القبول لفظا فلا يوافق رواية ولا دراية بل المعتبر في القبول هو القبض والتصرف وفي عدم القبول هو الرد. وأما قوله: "وموته" فوجهه أنه لم يوجد من قصد الموصي الإيصاء له فلم تصح الوصية وهكذا انكشافه ميتا قبل الموصي إن كانت الوصية مضافة إلى ما بعد الموت. قوله: "وبقتل الموصي عمدا". أقول: لا وجه لإطلاق هذا فإن القتل عمدا إنما هو مبطل للميراث لا مبطل لإحسان المقتول إلى القاتل بوصية ونحوها ولا سيما إذا وقع منه العفو فإنه قد سمح بنفسه فكيف لا يسمح بجزء من ماله وقد قدمنا عند قوله ولقاتل العمد إن تأخرت ما ينبغي الرجوع إليه. وأما قوله: "وانقضاء وقت المؤقت" فظاهر لا يحتاج إلى ذكره لأن الوصية قد انقطعت بانقطاع وقتها.

وأما قوله: "وبرجوعه" فوجهه ظاهر لأنه رجع قبل الوقت الذي تنفذ فيه الوصية ويستحقها من هي له وهو قوت الموت. وأما قوله: "أو المجيز في حياته" فوجهه أن إسقاط حقه إنما يستقر بموت الموصي لأنه وقت النفوذ فإذا رجع قبله كان الرجوع صحيحا وإذا رجع بعده لم يصح لأنه مكلف مختار رضي لنفسه فلا يبطل ذلك الرضا بعد وقت الإستقرار وإلا استلزم هذا الرجوع عن الرضا جواز الرجوع عن سائر ما يرضى به الإنسان فلا تستقر معاملة وقد عرفناك أن الرضا هو المعتبر في جميع المعاملات. وأما قوله: "فيعمل بناقضة الأولى" فوجهه أنه وقع نقض الأولى في الوقت الذي يجوز له فيه أن يرجع لأنه رجوع قبل وقت الإستقرار فكان العمل على ما ثبت الموصي عليه إلى وقت الإستقرار وهو موته. [فصل وإنما يتعين وصيا من عينه الميت وقبل وهو حر مكلف عدل ولو متعددا أو إلى من قبل فيجب قبولها كفاية ويغني عن القبول الشروع وتبطل بالرد ولا تعود بالقبول بعده في الحياة إلا بتجديد ولا بعدها إن رد في وجهه ولا يرد بعد الموت من قبل بعده أو قبله إلا في وجهه وتعم وإن سمى معينا ما لم يحجر عن غيره والمشارف والرقيب والمشروط علمه وصي لا المشروط حضوره ولكل منهما أن ينفرد بالتصرف ولو في حضرة الآخر إن لم يشرط الإجتماع ولا تشاجرا] . قوله: "فصل: وإنما يتعين وصيا من عينه الميت" الخ. أقول: أما اشتراط القبول فلا بد منه إذ لا يلزم الإنسان الدخول في شيء حتما وأما اشتراط الحرية فلا وجه له بل العبد كالحر إذا أذن له سيده وإذا مات السيد ولم يأذن له المالك الآخر كان ذلك في حكم موت الوصي الحر حيث لم يوص فتكون الولاية للوارث أو للإمام والحاكم على ما سيأتي. وأما اشتراط التكليف فقد قدمنا في أول كتاب الوصايا وجه ذلك وأما اشتراط أن يكون عدلا فلم يرد ما يدل على اعتبار العدالة في الوصي كما لم يرد اعتبار العدالة في الوكيل والرسول والشريك ونحوهم وقد رضيه الميت لنفسه وأقامه مقامه بعد موته فوجب امتثال ذلك وإذا تصرف تصرفا يخالف الحق فسيأتي أنها تبطل وصايته. وأما قوله: "ولو متعددا" فليس في هذا نزاع فللموصي أن يوصي إلى الواحد والإثنين والجماعة.

وأما قوله: "وإلى من قبل فيجب قبولها كفاية" فلا وجه لهذا الإيجاب بل لكل أحد أن يمتنع من قبولها إذا لم يرد ما يدل على أنه يجب على الإنسان واجب بإيجاب إنسان آخر عليه فإذا لم يقبلها أحد كان ذلك لعدم الوصي من الأصل وسيأتي الكلام فيه. وأما كونه يغني عن القبول الشروع فوجهه ظاهر لأنه لا يشرع إلا وقد رضي. وأما كونها تبطل بالرد فوجهه أنه لا يجب على الإنسان أن يدخل نفسه في أعمال لم يوجبها عليه الشرع بل ذلك مفوض إلى اختياره. وأما قوله: "ولا يعود بالقبول في الحياة إلا بتجديد" فوجهه أن كونه وصيا قد بطل بالرد فلا يعود وصيا إلا بتجديد الوصاية إليه من الموصي وإلا كان ذلك تصرفا في مال الغير بغير مقتض وهو ممنوع لثبوت العصمة لأموال العباد إلا بإذن من الله سبحانه أو من أربابها. وأما قوله: "ولا بعدها إن رد في وجهه" فقد عرفناك أن الوصاية قد بطلت بالرد ولا فرق بين الرد في وجه الموصي أو في غير وجهه. وأما قوله: "ولا يرد بعد الموت من قبل بعده" إلخ فلا وجه له لأن استمراره على ذلك لم يجب عليه بإيجاب الشرع ومجرد قبوله لا يستلزم استمراره حتى يقال إنه أوجب ذلك على نفسه فله أن يعزل نفسه متى شاء وكأنه لا وصي من الأصل فيكون لكل وارث ولاية كاملة إن وجد وإلا فللإمام والحاكم كما سيأتي. قوله: "وتعم وإن سمى معينا". أقول: لا وجه لهذا لأن التعيين يقتضي قصر إقامته مقام نفسه على ذلك المعين فتصرفه في غيره تصرف في مال الغير بغير إذنه ولا بإذن الشرع إلا أن يفهم ذلك من قصده كان التعميم من حيث القصد لا من حيث تسمية المعين. قوله: "والمشارف والرقيب والمشروط علمه وصي". أقول: ليس ها هنا ما يقتضي أن يكون وصيا لا من لفظ ولا قصد وإثبات أحد هذه الأمور لشخص لا يستلزم إثبات ما هو زائد عليها وهو الوصاية المقتضية لما سيأتي من التصرف وغاية ما هنا أنه يكون إلى المشارف المشارفة على التصرفات الواقعة من الوصي فيشير على الموصي بما يستحسنه ويراه صوابا وهكذا الرقيب يكون مراقبا للوصي فيخبر بما وقع منه وليس إليه غير ذلك وأما المشروط علمه فغاية ما هناك أنه لا ينفذ تصرف الوصي حتى يعلم به وإذا علم نفذ وليس له حل ولا عقد ولا إمضاء ولا إبطال إلا أن يظهر من قصد الموصي زيادة على ما تدل عليه هذه الألفاظ كان الإعتبار بالقصد فإذا قصد إثبات الوصاية لكل واحد من هؤلاء كان المؤثر في ذلك هو هذا القصد لا تلك الألفاظ وأما إذا كان الأوصياء اثنين أو أكثر فالأمر كما ذكره المصنف من أن لكل

واحد منهم أن ينفرد بالتصرف ولو في حضرة الآخر إلا أن يشرط الموصي الإجتماع فهو كالحجر لكل واحد منهما أن يتصرف منفردا وهكذا إذا حصل التشاجر بينهم فإن ذلك يوجب التوقف عليهم حتى يجتمع رأيهم. [فصل وإليه تنفيذ الوصايا وقضاء الديون واستيفاؤها والوارث أولى بالمبيع بالقيمة ما لم تنقص عن الدين فبالثمن ولا عقد فيهما وينقض البالغ ما لم يأذن أو يرض وإن تراخى والصغير بعد بلوغه كذلك إن كان له وقت البيع مصلحة ومال فلا] . قوله: "فصل: وإليه وحده تنفيذ الوصايا وقضاء الديون". أقول: وجهه أنه أقامه مقام نفسه بعد موته فكان إليه تنفيذ الوصايا لأن هذا هو أعظم المقاصد التي قصدها الموصي وقضاء الديون هو من تنفيذ الوصايا بل من أهمها ومن ذلك استيفاء الديون التي للميت على الغير إذا كان لها مدخل في تنفيذ الوصايا وإلا كان أمرها إلى الوارث لأنها قد صارت ملكا له فلا يحل التصرف في ملكه وقد انقطع حق الميت عن التركة فلم يبق إلى وصية إلا ماله تعلق بوصاياه. قوله: "والوارث أولى بالمبيع" الخ. أقول: الوجه في هذه الأولوية أن المبيع إنما هو لقصد قضاء ما على الميت أو ما يحتاج إليه في تجهيزه فإذا بذل الوارث ما يبذله المشتري كان أحق به لأن التركة انتقلت من ملك الميت إلى ملكه فلا يخرج عن ملكه مع بذل القيمة ويكون بين الورثة على التوريت وكأنه من جملة الميراث لا يحتاج إلى تجديد عقد ولكن لا وجه لقول المصنف بالأقل من القيمة أو الثمن بل هو أحق بقيمته التي سيباع بها من الغير فيسلمها موفرة حتى تبقى العين في ملكه وإذا وقع البيع من غير اطلاع الوارث كان له النقض لما وقع من البيع وأخذ المبيع بما كان قد دفعه المشتري فيه ما لم يأذن أو يرض وللوصي أو المشتري أن يطالباه بذلك فيأخذ أوي ترك وليس له أن يتراخى بعد العلم لا كما قال المصنف. وأما الصغير فإن كان له في المبيع مصلحة ومعه مال كان وليه مفرطا في ترك الطلب فله أن يطلب عند بلوغه وإن لم يكن له مصلحة ومال فليس في الإمكان أبدع مما كان وقد نفذ تصرف الولي والوصي.

[فصل وله أن يستقل بقضاء المجمع عليه والمختلف فيه بعد الحكم مطلقا وقبله حيث تيقنه والوارث صغير أو موافق وإلا فلا وللموافق المرافعة إلى المخالف وما علمه وحده قضاه سرا فإن منع أو ضمن ضمن ويعمل باجتهاده ويصح الإيصاء منه لا النصب] . قوله: "فصل: وله أن يستقل بقضاء المجمع عليه" الخ. أقول: وجه هذا أن الوصية من الموصي ليست بحكم على الغير يلزمه امتثاله فوصية كذلك لأنه مأمور من جهته فما كان مما لا نزاع فيه ولا خلاف ولا ضرار ولا مخالفة للشرع بوجه من الوجوه كان للوصي الإستقلال بفعله وما لم يكن كذلك لم يكن له إلا بحكم الحاكم لقطع الخلاف ودفع معرة النقض من بعد وليس كل مختلف فيه يحتاج إلى حكم الحاكم بل إذا كان مذهب الموصي والوصي هو وجوب التخلص من ذلك ولم يكن ثم منازع من وارث أو غيره كان له الإستقلال فهكذا ينبغي أن يقال وإذا كان الوارث صغيرا كان الأمر إلى وليه فإن لم يكن له ولي كان له عند بلوغه الدعوى على الوصي بماله فيه حق شرعي. وأما كون للموافق المرافعة إلى المخالف فلا بد أن يكون على بصيرة بأن عند المخالف الصواب وبيده الحق وإن فعل ذلك كان الواجب علينا الأخذ على يده ومنعه من ذلك. وأما قوله: "وما علمه وحده قضاه سرا" فوجهه أنه على بصيرة وقد أمره الوصي بالنيابة وأقامه مقامه فكان عليه أن يقضي ديونه الثابتة عليه بالشرع وأثبتها وأحقها بالقضاء ما كان الوصي يعلم به ويتيقنه وإذا نوزع رافع إلى الحاكم ليقطع عنه اللجج. ولا وجه لقوله فإن منع أو ضمن ضمن بل ليس لأحد من الورثة منعه ولا تضمينه فيما هو معلوم لديه ومتيقن عنده وغاية ما يستحقه المخاصم له هو المرافعة إلى الحاكم فيحكم في ذلك بوجه الشرع ويقطع ما عرض بينهم من الخصومة. قوله: "ويعمل باجتهاده". أقول: إذا عرف للموصي قصد كان العمل عليه ووجب على الوصي امتثاله لأن التنجيز والتقييد هو عائد إلى أمره للوصي بالنيابة فليس له أن يفعل غير ما رسمه له الموصي إلا أن يأمره بما لا يحل فليس له الإمتثال كما تقدم ومع التباس الأمر عليه ووقوع الخلاف في الحادثة ترافع إلى حاكم الشرع فما قضى به عمل عليه وقد قدمنا ما يغني عن التكرار ها هنا. وأما قوله: "ويصح الإيصاء منه" فوجهه أنه قد ثبت له التصرف فيما أقامه الموصي فيه مقامه فله أني جعله إلى الغير في حال حياته ويكون له بمنزلة الوكيل وله أيضا أن يوصي به بعد

موته إلى وصيه وليس في الشرع ما يمنع من هذا فالأصل الجواز وبهذا تعرف أن له أن ينصب معه من يعينه على التنفيذ لأن الأمر قد صار إليه والتنفيذ قد تعين عليه وليس بهذا بأس ولا عنه مانع من رواية ولا دراية. [فصل ويضمن بالتعدي والتراخي تفريطا حتى تلف المال فإن بقي أخرج الصغير متى بلغ وعمل باجتهاد الوصي وبمخالفته ما عين من مصرف ونحوه ولو خالف مذهبه قيل إلا في وقت صرف أو في مصرف واجب أو شراء رقبتين بألف لعتق والمذكور واحدة به وبكونه أجيرا مشتركا وإنما يستحقها إن شرطها أو اعتادها أو عمل للورثة فقط وهي من رأس المال مطلقا ومقدمة على ما هو منه] . قوله: "فصل: ويضمن بالتعدي". أقول: التعدي سبب مستقل للضمان لأنه أمر بأمر فليس له أن يتعداه ولا يخالفه فإن فعل فقد اختار لنفسه ضمان ما تلف بسبب تعديه وهكذا إذا تراخى تفريطا لا لسبب من الأسباب فإن تراخيه تساهل منه ومخالفة لأمر الموصي يوجب عليه الضمان لأن التنجيز قد صار واجبا عليه وإن أراد الخلوص من الوصايا فعل قبل أن يفرط بالتراخي فيتلف مال الغير بسببه. وأما قوله: "فإن فعل أخرج الصغير متى بلغ" فالذي ينبغي في هذا أن يقال قد بطلت وصايته بتعديه أو تفريطه فإن لم يتلف المال كان الأمر إلى الوارث كما سيأتي أن لكل وارث ولاية كاملة مع عدم الوصي فإن كان الوارث صغيرا كان الأمر إلى وليه وإلا ناب عنه الإمام أو الحاكم ولا وجه لانتظار لبلوغه ولا العمل باجتهاد الوصي وهكذا يضمن الوصي بمخالفة ما عين الموصي إذا تسبب عن ذلك تلف شيء من المال لأنه مأمور بأمر فمخالفته له سبب لضمانه. وأما قوله: "وبكونه أجيرا مشتركا" فوجهه أنه قد صار بالأجرة أجيرا مع كونه وصيا فيضمن ضمان الأجير وقد قدمنا الكلام على ما صرح به المصنف من تقسيم الأجير إلى خاص ومشترك وإثبات أحكام لكل واحد منهما فليرجع إليه. وأما كونه لا يستحق الأجرة إلا مع الشرط أو الإعتبار فذلك ظاهر أما مع الشرط فلكون الموصي قد رضي بذلك فكان عليه القدر المشروط من الأجرة وأما مع الإعتياد فلكون معاملته محمولة على ما جرت به عادته ولكن إذا لم يعلم بذلك الوصي لم يجب عليه ولا على وارثه دفع ما يعتاده من الأجرة بل يدفع إليه أجرة المثل. وأما قوله: "أو عمل للورثة" فلا وجه له بل لا بد من الشرط عليهم أو الإعتياد للأجرة

في مثل ذلك وإلا فالأصل عندهم في المنافع عدم العوض فكان عليهم هنا أن لا يجعلوا مجرد العمل للورثة سببا لاستحقاق الأجرة. وأما دعوى أن أجرة الوصي من رأس المال ومقدمة على ما هو منه فكلام لم يربط بدليل ولا اقتضاه رأي صحيح وغاية ما هناك أن تكون أجرته من مخرج ما يباشر إخراجه وتنفيذه فما كان من الرأس كانت أجرته فيه من الرأس وما كان من الثلث كانت أجرته فيه من الثلث تنزيلا له منزلة المستحقين لشيء من التركة من دين لهم أو صرف إليهم. [فصل فإن لم يكن فلكل وارث ولاية كاملة في التنفيذ وفي القضاء والإقتضاء من جنس الواجب فقط ولا يستبد أحد بما قبض ولو قدر حصته ويملك ما شرى به ويرجعون عليه لا على أي الغريمين فإن لم يكونوا فالإمام ونحوه] . قوله: "فصل: فإن لم يكن فلكل وارث ولاية كاملة". أقول: القرابة لها زيادة اختصاص والورثة لهم أيضا مزيد خصوصية على سائر القرابة الذين لا يرثون ويدل على هذا ما أخرجه أحمد "4/136، 5/7"، وابن ماجه "2433"، وابن سعد وعبد بن حميد وابن نافع والباوردي والطبراني في الكبير والضياء في المختارة بإسناد رجاله ثقات عن سعد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال فأردت أن أنفقها على عياله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه"، فقال: يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة, قال: "فأعطها فإنها محقة". وأما تقييد القضاء والإقتضاء والتنفيذ بكونه من جنس الواجب فوجهه ظاهر لأن في العدول عن الجنس مخالفة لقصد الموصي وقد يكون فيه مخالفة لغرض سائر الورثة. وأما كونه لا يستبد أحد من الورثة بما قبض فوجهه واضح لأنه مشترك بين جميعهم ولا وجه لقوله ويملك ما شرى به ولكنه بنى على عدم تعين النقد فيملك ويغرم لهم مثله والظاهر أن لهم المطالبة بإرجاع عين النقد الذي قبضه لأنه فيما عدا نصيبه غاصب وقد قدمنا في الغصب ما قدمنا. وأما قوله: "فإن لم يكونوا فالإمام والحاكم" فوجهه شمول ولايتهما بمثل هذا فإن تنفيذ وصايا الموصي بما يجب عليه التخلص عنه وبما يتقرب به من القرب حق عليهما لأن إهمال ذلك منكر والقيام به أمر بمعروف وهما أحق الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

[فصل وندب ممن له مال غير مستغرق بثلثه في القرب ولو لوارث ومن المعدم بأن يبره الإخوان] . قوله: "فصل: وندب ممن له مال غير مستغرق بثلثه في القرب". أقول: التقرب إلى الله عزوجل بطاعاته مشروع لعباده في كل وقت وإليه وقع الترغيب بالآيات والأحاديث الكثيرة وحالة الوصية من جملة الأوقات التي تدخل تحت تلك الأدلة ولا سيما والموصى أحوج ما كان إلى التقرب بالبر والإحسان ومثل هذا لا يحتاج إلى الإستدلال عليه بمثل قوله: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" الحديث المتقدم. وأما اشتراط أن يكون ماله غير مستغرق بالدين فوجهه أن قضاء ما يجب قضاؤه أهم من التقرب بما لا يجب وألزم وأحق. وأما التقييد بالثلث فإن كان له وارث فهو صحيح وإن لم يكن له وارث فله أن يجاوزه كما قدمنا تحقيقه. قوله: "ولو لوارث". أقول: إن كان الدليل على جواز الوصية للوارث هو ما ورد في القرآن من الوصية للوالدين والأقربين فقد وقع الإتفاق على أنه منسوخ غير ثابت الحكم والقول بأنه نسخ الوجوب وبقي الندب غير مسلم ولو سلمنا لكان ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أنه: "لا وصية لوارث"، رافعا لهذا الندب ودافعا له فإنه قد ثبت ذلك من طرق منها ما أخرجه أحمد "4/182"، والنسائي "6/247"، والترمذي "2121"، وصححه وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها وإن لغامها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"، ومنها ما أخرجه أحمد "5/267"، وأبو داود "2870"، والترمذي "2120"، وابن ماجه "2713"، وحسنه الترمذي من حديث أبي أمامة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"، وما قيل من أن في إسناده إسماعيل بن عياش فقد تقرر عند الأئمة الحفاظ أنه قوي إذا روى عن الشاميين وهذا من روايته عن الشاميين لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وقد صرح في روايته بالتحديث فلم يبق للحديث علة يعل بها ومنها ما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة"، وقد حسنه ابن حجر في التلخيص وقال في الفتح رجاله ثقات قال لكنه معلول فقد قيل أن عطاء الذي رواه عن ابن عباس هو الخراساني وأخرج نحوه البخاري "5/372"، من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا قال: إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع انتهى. وقد تقرر أن الرفع

زيادة غير منافية والعمل بها واجب فلا علة حينئذ للحديث ومنها ما أخرجه الدارقطني أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة"، وفي إسناده مقال وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه "2714"، وعن جابر عند الدارقطني وعن علي عنده أيضا وإسناده ضعيف وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وقد حكى ابن حجر عن الشافعي أنه قال وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث"، ويؤثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد انتهى. ولا يخفاك أن هذا حكم على الحديث بأنه متواتر فلم يبق ما يوجب الإشتغال بالكلام على طرقه والعمل بالمتواتر واجب وهو ينسخ الكتاب العزيز إذا تأخر فلو قدرنا أن آية الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخها آية المواريث لكان هذا الحديث يكفي في نسخها وقد قدمنا لك أن الإتفاق كائن على أنها منسوخة إما بآية المواريق أو بالحديث وأيضا هذا الحديث يقيد ما ورد مطلقا في القرآن لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وما ورد في السنة كالحديث الذي تقدم من قوله: "ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه"، وهكذا يقيد قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم"، وهكذا سائرها ورد في مشروعية الوصية مطلقا فلم يبق في المقام ما يقتضي التوقف عن إبطال الوصية للوارث وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة وكتبنا فيه أبحاثا مطولة في جوابات أسئلة وذكرت في تفسيري ما ينبغي المراجعة له. قوله: "ومن المعدم بأن يبره الإخوان". أقول: وجه هذا أن ذلك قد يكون منشطا لهم إلى صلته بالدعاء وغيره وأيضا إذا قد وقعت منه الوصية لحقه ما وصل به لأن الوصية سعي فيدخل تحت قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وقد وردت الأدلة الكثيرة بأنه يلحق الإنسان أنواع من القرب وإن لم يوص وقد ذكرنا هذه الأنواع التي وردت بها الأدلة في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه.

كتاب السير

كتاب السير [فصل ويجب على المسلمين شرعا نصب إمام مكلف ذكر حر علوي فاطمي ولو عتيقا لا مدعي سليم الحواس والأطراف مجتهد عدل سخي بوضع الحقوق في مواضعها مدبر

أكثر رأيه الإصابة مقدام حيث يجوز السلامة لم يتقدمه مجاب وطريقها الدعوة ولا يصح إمامان] . قوله: "فصل: يجب على المسلمين نصب إمام". أقول: قد أطال أهل العلم الكلام على هذه المسألة في الأصول والفروع واختلفوا في وجوب نصب الإمام هل هو قطعي أو ظني؟ وهل هو شرعي فقط؟ أو شرعي وعقلي؟ وجاءوا بحجج ساقطة وأدلة خارجة عن محل النزاع والحاصل أنهم أطالوا في غير طائل ويغني عن هذا كله أن هذه الإمامة قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإرشاد إليها والإشارة إلى منصبها كما في قوله: "الأئمة من قريش" وثبت كتابا وسنة الأمر بطاعة الأئمة ثم أرشد صلى الله عليه وسلم الإستينان بسنة الخلفاء الراشدين فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين"، وهو حديث صحيح وكذلك قوله: "الخلافة بعدي ثلاثون عاما" [أحمد "5/221"، الترمذي "2226"، أبو داود "4647"، ووقعت منه الإشارة إلى من سيقوم بعده ثم إن الصحابة لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قدموا أمر الإمامة ومبايعة الإمام على كل شيء حتى إنهم اشتغلوا بذلك عن تجهيزه صلى الله عليه وسلم ثم لما مات أبو بكر عهد إلى عمر ثم عهد عمر إلى النفر المعروفين ثم لما قتل عثمان بايعوا عليا وبعده الحسن ثم استمر المسلمون على هذه الطريقة حيث كان السلطان واحدا وأمر الأمة مجتمعا ثم لما اتسعت أقطار الإسلام ووقع الإختلاف بين أهله واستولى على كل قطر من الأقطار سلطان اتفق أهله على أنه إذا مات بادروا بنصب من يقوم مقامه وهذا معلوم لا يخالف فيه أحد بل هو إجماع المسلمين أجمعين منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية فما هو مرتبط بالسلطان من مصالح الدين والدنيا ولو لم يكن منها إلا جمعهم على جهاد عدوهم وتأمين سبلهم وإنصاف مظلومهم من ظالمه وأمرهم بما أمرهم الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه ونشر السنن وإماتة البدع وإقامة حدود الله فمشروعية نصب السلطان هي من هذه الحيثية ودع عنك ما وقع في المسألة من الخبط والخلط والدعاوي الطويلة العريضة التي لا مستند لها إلا مجرد القيل والقال أو الإتكال على الخيال الذي هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ثم من أعظم الأدلة على وجوب نصب الأئمة وبذل البيعة لهم ما أخرجه أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه من حديث الحارث الأشعري بلفظ: "من مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية"، ورواه الحاكم من حديث ابن عمر ومن حديث معاوية ورواه البزار من حديث ابن عباس. وأما اشتراط أن يكون مكلفا فوجهه واضح لأن الصغير لا يصلح لتدبير أمور المسلمين بل لم يصلح لتدبير أمر نفسه فكيف يصلح لتدبير أمر غيره؟! وأما كونه ذكرا فوجهه أن النساء ناقصات عقل ودين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان كذلك لا يصلح لتدبير أمر الأمة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

قوله: "حر". أقول: أما الإمارة والسلطنة فلا مانع من ذلك ولا ورد في الشرع ما يدفعه بل ورد ما يقويه ويؤيده كما في الأحاديث الصحيحة المصرحة بطاعة السلطان كان عبدا حبشيا وقد أمر صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة وكذلك ولده أسامة بن زيد على أكابر المهاجرين والأنصار كما ذلك معروف في كتب الحديث والسير وأما الإمامة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم منصبها وصرح بما يصلح لها كما سيأتي. قوله: "علوي فاطمي". أقول: العلوي الفاطمي هو خيرة الخيرة من قريش وأعلاها شرفا وبيتا ولا ينفي ذلك صحتها في سائر بطون قريش كما تدل عليه الأحاديث المصرحة بأن: "الأئمة من قريش" وهي كثيرة جدا وإن لم تكن في الصحيحين بل عددها في كل مرتبة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم زيادة على عدد المتواتر والمتواتر قطعي ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين [مسلم 1819"، وغيرهما أحمد "3/383، 379، 383"] ، من طرق أن الناس تبع لقريش في الشر والخير وقد بين هذا الخير والشر بقوله صلى الله عليه وسلم: "قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة"، كما في حديث عمرو بن العاص عند الترمذي "2227"، والنسائي وكما في حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري "2195، 7140"، مسلم "1820"، وغيرهما أحمد "2/29، 2/93، 128"] ، بلفظ: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان"، وهو مروي من طريق غيره في الصحيح [البخاري "13/113، 114"] ، أيضا. فهذه الألفاظ تدل على أن المراد الإمامة الإسلامية وأما أمر الجاهلية فقد انقرض ومن جملة ما يدل على هذا أحاديث: "الأئمة من قريش"، كما ذكرنا ومن جملة ما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون عاما ثم ملك بعد ذلك"، وهو حديث حسن ومعنى الخلافة معنى الإمامة في عرف الشرع وهؤلاء الذين نص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافتهم هم الخلفاء الأربعة وليس المراد بالإمامة هنا هو المعنى اللغوي الشامل لكل من يأتم به الناس ويتبعونه على أي صفة كان بل المراد الإمامة الشرعية ومن هذا قول أبي بكر يوم السقيفة محتجا على الأنصار إن العرب لا تعرف هذا الأمر لغير هذا الحي من قريش [البخاري "7/19، 20"، أحمد "1/55، 56"] ، وقد حكى القاضي عياض والنووي الإجماع على أن الخلافة مختصة بقريش لا تجوز في غيرهم. قوله: "سليم الحواس والأطراف". أقول: وجهه أن المقصود بالولاية العامة هو تدبير أمور الناس على العموم والخصوص وإجراء الأمور مجاريها ووضعها مواضعها وهذا لا يتيسر ممن في حواسه خلل لأنها تقتضي نقص التدبير إما مطلقا أو بالنسبة إلى تلك الحاسة. وأما سلامة الأطراف فلا وجه لاشتراطها فإن الأعرج والأشل لا ينقص من تدبيره شيء

ويقوم بما يقوم به من ليس كذلك ومعلوم أنه لا يراد من مثل الإمام السباق على الأقدام ولا ضرب الصولجان ولا حمل الأثقال. قوله: "مجتهد". أقول: المقصود من نصب الأئمة هو تنفيذ أحكام الله عزوجل وجهاد أعداء الإسلام وحفظ البيضة الإسلامية ودفع من أرادها بمكر والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم وتأمين السبل وأخذ الحقوق الواجبة على اما اقتضاه الشرع ووضعها في مواضعها الشرعية فمن بايعه المسلمون وقام بهذه الأمور فقد تحمل أعباء الإمامة فإن انضم له إلى هذه الإمامة كونه إماما في العلم مجتهدا مطلقا في مسائله فلا شك ولا ريب أنه أنهض من الإمام الذي لم يبلغ رتبة الإجتهاد لأنه يورد الأمور ويصدرها عن علو ولكن لا دليل على أنه لا يولي الأمر إلا من كان بهذه المنزلة من الكمال وفي هذه الغاية القصوى من محاسن الخصال وليس النزاع في الأكمل ولا في الأفضل بل المراد فيمن يصلح لتولي هذا المنصب ومن قام بتلك الأمور ونهض بها فهو المراد من الإمامة والمراد بالإمام وعليه أن ينتخب من العلماء المبرزين المجتهدين المحققين من يشاوره في الأمور ويجريها على ما ورد به الشرع ويجعل الخصومات إلى أهل هذه الطبقة فما حكموا به كان عليه إنفاذه وما أمروا به فعله ومعرفة أهل هذه الطبقة لا يخفى على العقلاء الذين لا نصيب لهم في العلم فإنه لا بد أن يرفع الله لهم من الصيت والشهرة ما يعرف به الناس أنهم الطبقة العالية من جنس أهل العلم وليس للإمام إذا لم يكن مجتهدا أن يستبد بما يتعلق بأمور الدين ولا يدخل نفسه في فصل الخصومات والحكم بين الناس فيما ينوبهم لأن ذلك لا يكون إلا من مجتهد كما قدمنا من القضاء. والحاصل أنه لا دليل في المقام يوجب علينا اشتراط اجتهاد الأئمة حتى يجب المصير إليه ولا إجماع حتى يكوت التعويل عليه وليس في المقام إلا مجرد المجادلة بمباحث راجعة إلى الرأي البحت كما يعرف ذلك من يعرفه وما أهون مثلها على المحققين من علماء الدين المتقيدين بالدليل المحكمين للشرع. قوله: "عدل". أقول: العدالة ملاك الأمور وعليها تدور الدوائر ولا ينهض بتلك الأمور التي ذكرنا أنها المقصودة من الإمامة إلا العدل الذي تجري أفعاله وأقواله وتدبيراته على مراضي الرب سبحانه فإن من لا عدالة له لا يؤمن على نفسه فضلا عن أن يؤمن على عباد الله ويوثق به في تدبير دينهم ودنياهم ومعلوم أن وازع الدين وعزيمة الورع لا تتم أمور الدين والدنيا إلا بها ومن لم يكن كذلك خبط في الضلالة وخلط في الجهالة واتبع شهوات نفسه وآثرها على مراضي الله ومراضي عباده لأنه مع عدم تلبسه بالعدالة وخلوه من صفات الورع لا يبالي بزواجر الكتاب والسنة ولا يبالي أيضا بالناس لأنه قد صار متوليا عليهم نافذ الأمر والنهي فيهم فليس لأهل الحل والعقد أن يبايعوا من لم يكن عدلا إذا قد اشتهر بذلك إلا أن يتوب ويتعذر عليهم العدول إلى غيره فعليهم أن يأخذوا عليه بأعمال العادلين والسلوك في مسالك

المتقين ثم إذا لم يثبت على ذلك كان عليهم أمره بما هو معروف ونهيه عما هو منكر ولا يجوز لهم أن يطيعوه في معصية الله ولا يجوز لهم أيضا الخروج عليه ومحاكمته إلى السيف فإن الأحاديث المتواترة قد دلت على ذلك دلالة أوضح من شمس النهار ومن له اطلاع على ما جاءت به السنة المطهرة انشره صدره لهذا فإذا به يجتمع شمل الأحاديث الواردة في الطاعة مع ما يشهد لها من الآيات القرآنية وشمل الأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشمل الأدلة الواردة في أنه لا طاعة في معصية الله وهي كثيرة جدا لا تيسع لها إلا مولف بسيط. قوله: "سخي بوضع الحقوق في مواضعها". أقول: قد عرفناك أن هذا من مقاصد الإمامة ومن الأمور التي تراد بها ومثل هذا أن لا يأخذها إلا من مواضعها الشرعية ولا فائدة للتنصيص على جزئيات ما توحيه العدالة وتقتضيه فإنه إذا أخذ الشيء من غير موضعه كان ظالما والظالم ليس بعدل وإذا شح عن وضعه في موضعه كان أيضا ظالما لمن هو له والظالم ليس بعدل. قوله: "مدبر أكثر رأيه الإصابة". أقول: وجهه أن من لم يكن أكثر رأيه الإصابة هو في عداد الحمقى الذين لا يصلحون لتدبير أنفسهم فضلا عن تدبير سائر المسلمين. والحاصل أنه إذا كان عاقلا متأنيا في الأمور متجنبا للعجل والحرد ومباشرة الأمور حال الغضب كان غالب تدبيره الإصابة ولا سيما إذا اقتدى بكتاب الله وسنة رسوله في المشاورة لأهل الرأي فإن الله سبحانه قد ندب إلى ذلك رسوله المعصوم فكيف لا يقتدي به غيره ويمتثل أمر الله سبحانه وثبت في الصحيح [مسلم "12/124"] ، "أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور الصحابة حين بلغه إقبال أبي سفيان"، وقد أطبق العقلاء حسن الإستشارة في الأمور ومعلوم أن اجتماع الرأي من رجلين أحزم من رأي الواحد نفسه فكيف إذا طابق على ذلك الرأي جماعة كما قال القائل: ورأيان أحزم من واحد ... ورأي الثلاثة لا ينقض وما أحسن قول القائل في المشورة: إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أونصيحة حازم ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي قوة للقوادم قوله: "مقدام حيث تجوز السلامة". أقول: لا بد أن يكون مع الإمام من قوة القلب وشدة البأس ما يحمله على مناجزة الأعداء ومثاغرة الخارجين على الإسلام فإن كان من الجبن بمكان يمنعه عن ذلك فقد أصيب بسبب هذه الغريزة التي يبغضها الله بفقدان أعظم المقاصد من إمامته لأنه يتنكب عن مواطن

القتال ويضعف عن مصابرة النزال فيسري جبنه إلى غيره وتعم بذلك البلوى ويتسلط على المسلمين الأعداء ومع هذا فقد يحمله جبنه وضعف قلبه على عدم إقامة الحدود والقصاص والتنكيل بمن سعى في الأرض فسادا وضرب أعناق من أوجب الشرع ذلك عليه وإن كانوا عددا جما فمن كان معروفا بهذه الغريزة لا يجوز لأهل الحل والعقد أن يبايعوه وإذا ابتلوا بمبايعته فلا يجوز لهم أن يتابعوه في فشله وجبنه بل يقيمونه يوقومون معه فإن قعوده عن الحرب في الوقت الذي تحق فيه الحرب يفضي بالمسلمين إلى الضرر العظيم في أبدانهم وأموالهم وحرمهم. قوله: "لم يتقدمه مجاب". أقول: وجه هذا أنه إذا قد تقدمه من أجابه الناس وبايعوه فالثاني باغ خارج على الإمام وقد قدمنا أنها قد تواترت الأحاديث في النهي عن الخروج على الأئمة ما لم يظهر منهم الكفر البواح أو يتركوا الصلاة فإذا لم يظهر من الإمام الأول أحد الأمرين لم يجز الخروج عليه وإن بلغ في الظلم أي مبلغ لكنه يجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بحسب الإستطاعة وتجب طاعته إلا في معصية الله سبحانه وقد ثبت في الصحيح [مسلم "46/1844"، عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الإمام الآخر الذي جاء ينازع الإمام الأول وكفى بهذا زاجرا وواعظا. قوله: "وطريقها الدعوة". أقول: طريقها أن يجتمع جماعة من أهل الحل والعقد فيعقدون له البيعة ويقبل ذلك سواء تقدم منه الطلب لذلك أم لا لكنه إذا تقدم منه الطلب فقد وقع النهي [البخاري "6622، 6722، 7146، 7147"، مسلم "1652"] ، الثابت عنه صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة فإذا بويع بعد هذا الطلب انعقدت ولايته وإن أثم بالطلب هكذا ينبغي أن يقال على مقتضى ما تدل عليه السنة المطهرة ومن طريقها أيضا أن يعهد الخليفة الأول إلى الخليفة الآخر كما وقع من أبي بكر لعمر ولم ينكر ذلك الصحابة ومن طرقها أيضا أن ينص الإمام الأول على واحد من جماعة يتوالون عليه ويبايعونه كما فعل عمر إلى أولئك النفر من الصحابة ولم ينكر ذلك عليه. والحاصل أن المعتبر هو وقع البيعة له من أهل الحل والعقد فإنها هي الأمر الذي يجب بعده الطاعة ويثبت به الولاية وتحرم معه المخالفة وقد قامت على ذلك الأدلة وثبتت به الحجة. قوله: "ولا يصح إمامان". أقول: إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في

أحدهما فإن استمرا على الخلاف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك. وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وف يالقطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدرى من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمين وهكذا العكس فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها. [فصل وعلى من تواترت له دعوته دون كماله أن ينهض فيبحثه عما يعرفه وغيره عما لا يعرفه وبعد الصحة تجب طاعته ونصيحته أو بيعته إن طلبها وتسقط عدالة من أباها ونصيبه من الفيء ويؤدب من يثبط عنه أو ينفى ومن عاداه فبقلبه مخطىء وبلسانه فاسق وبيده محارب وله نصيبه من الفيء إن نصر. والجهاد فرض كفاية ويخرج له ولكل واجب أو مندوب غالبا وإن كره الوالدان ما لم يتضررا] . قوله: "فصل: وعلى من تواترت له دعوته" الخ. أقول: قد أغنى الله عن هذا النهوض وتجشم السفر وقطع المغاوز ببيعة من بايع الإمام من أهل الحل والعقد فإنها قد ثبتت إمامته بذلك ووجبت على المسلمين طاعته وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين فإن هذا الإشتراط في الأمرين مردود بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم سابقهم

ولاحقهم ولكن التحكم في مسائل الدين وإيقاعها على ما يطابق الرأي المبني على غير أساس يفعل مثل هذا. وإذا تقرر لك ما ذكرناه فهذا الذي قد بايعه أهل الحل والعقد قد وجبت على أهل القطر الذي تنفذ فيه أوامره ونواهيه طاعته بالأدلة المتواترة ووجبت عليهم نصيحته كما صرحت به أحاديث النصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وأما قوله: "وبيعته" فقد عرفناك أنها السبب الذي ثبتت به الولاية ووجبت عنده الطاعة ولكن على كل مسلم في ذلك القطر أن يقبل إمامته بعد وقوع البيعة له ويطيعه في الطاعة ويعصيه في المعصية ولا ينازعه ولا ينصر من ينازعه فإن لم يفعل هكذا فقد خالف ما تواتر من الأدلة وصار باغيا ذاهب العدالة مخالفا لما شرعه الله ووصى به عباده في كتابه من طاعة أولي الأمر ومخالفا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيجاب الطاعة وتحريم المخالفة كما عرفناك. وأما كونه يسقط نصيبه من الفيء فلم يرد ما يرد على هذا لأنه رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم. وأما قوله: "ويؤدب من يثبط عنه" فالواجب دفعه عن هذا التثبيط فإن كف وإلا كان مستحقا لتغليظ العقوبة والحيلولة بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بحبس أو غيره لأنه مرتكب لمحرم عظيم وساع في إثارة فتنة تراق بسببها الدماء وتهتك عندها الحرم وفي هذا التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نزع يده من طاعة الإمام فإنه يجيء يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت موتة جاهلية"، [مسلم "1851"، أحمد "2/70، 82، 123، 133، 154"] . وأما قوله: "ومن عاداه" إلخ فلا يخفاك أن الممنوع منه إنما هو المعصية له وترك الطاعة في غير المعصية والخروج عليه لما تواتر من الأحاديث كما عرفت ومن مقدمات الخروج عليه ما تقدم ذكره من التثبيط وتهييج الشر وإذكاء ناره وفتح أبوابه. وأما كون له نصيبه من الفيء إن نصر فالظاهر أنه لا يسقط نصيبه وإن أثم بمجرد عدم النصرة وترك الطاعة كما تقدم. قوله: "والجهاد فرض كفاية". أقول: الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة أكثر من أن تكتب ها هنا ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عيني على كل مكلف وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله سبحانه من لم ينفر مع رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39] . وعاتبهم لما تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] ، إلى آخر الآية وعلى استنفار الإمام يحمل قوله

سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] ، ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله عزوجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ، فتحمل هذه الآية على أنه قام بالجهاد من المسلمين من يكفي وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ. وأما قوله: "ولكل واجب" فوجه ذكره ها هنا استيفاء ما يجب الخروج له أو يندب وإن كره الولدان ما لم يتضررا ولا يخفاك أن الواجبات مختلفة فمنها ما لا يتم القيام به إلا بالخروج إليه كالجهاد والحج والهجرة ونحو ذلك وكل واحد من هذه وجوب الخورج له مقيد بقيود مشروطة بشروط هي مقررة في مواطنها وأما ضم الخروج للمندوبات إلى الخروج إلى الواجبات مع كراهة الأبوين فغير صواب لأن تجنب ما يكرهانه واجب فكيف يخرج للمندوب مع كراهتهما لخروجه وكيف يجوز ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في صحيح [البخاري "3004"، وغيره مسلم "2549"، أحمد "2/188، 2/193، 197، 221"، النسائي "6/10"، الترمذي "1671"] ، من حديث عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك؟ "، قال: نعم قال: "ففيهما فجاهد"، وأخرج أحمد "2/160، 194، 204"، وأبو داود 2528"، والنسائي "7/143"،وابن حبان من حديثه أيضا أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان, قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما"، وأخرج أبو داود "2530"،وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال: "هل لك أحد باليمن؟ "، فقال: أبواي فقال: "أذنا لك"، قال: لا, قال: "ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما"، وأخرج أحمد "3/429"، والبيهقي والنسائي "6/11"، من حديث معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجيئتك أستشيرك, فقال: "هل لك من أم؟ "، قال: نعم فقال: "الزمها فإن الجنة عند رجليها". وإذا كان هذا في الجهاد الذي هو سنام الدين وأساسه فما بالك بما عداه من الواجبات فضلا عن المندوبات وقد ذهب الجمهور إلى وجوب استئذان الوالدين للجهاد وجزموا بتحريمه إذا منعا منه أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية. [فصل وإليه وحده إقامة الحدود والجمع ونصب الحكام وتنفيذ الأحكام وإلزام من عليه حق الخروج منه والحمل على الواجب ونصب ولاة المصالح والأيتام وغزو الكفار والبغاة إلى ديارهم وأخذ الحقوق كرها وله الإستعانة من خالص المال بما هو فاضل عن

كفاية السنة حيث لا بيت مال ولا تمكن من شيء يستحقه أو استعجال الحقوق أو قرض يجد قضاءه في المستقبل وخشي استئصال قطر من أقطار المسلمين والإستعانة بالكفار والفساق حيث معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام وقتل جاسوس وأسير كافرين أو باغيين قتلا أو بسببهما والحرب قائمة وإلا حبس الباغي وقيد وأن يعاقب بأخذ المال وإفساده وعليه القيام بما إليه أمره وتسهيل الحجاب إلا في وقت أهله وخاصة أمره وتقريب أهل الفضل وتعظيمهم واستشارتهم وتهد الضعفاء والمصالح ولا يتنحى ما وجد ناصرا إلا لأنهض منه وأن يؤمر على السرية أميرا صالحا لها ولو فاسقا وتقديم دعاء الكفار إلى الإسلام غالبا والبغاة إلى الطاعة وندب أن يكرره عليهم ثلاثا وتنشر فيها الصحف وترتب الصفوف] . قوله: "فصل: وإليه وحده إقامة الحدود". أقول: لا شك أنه الأولى بذلك من غيره لعموم ولايته ولما كان عليه الأمر في أيام النبوة وأيام الخلفاء الراشدين وأما كونها إليه وحده لا يجوز لغيره إقامتها فغير مسلم وقد قدمنا في الحدود ما فيه كفاية وكذلك قدمنا في القضاء ما يغني عن الإعادة هنا. وأما تنفيذ الأحكام فإن كان القاضي قادرا على إنفاذ ما حكم به فذلك إليه وإلا كان على الإمام بل وعلى كل قادر تنفيذ ما حكم به إذا كان جاريا على الحق موافقا للصواب لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهكذا إلزام من عليه حق الخروج منه هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمام أولى الناس بذلك ولكنه إذا تقاعد لم يسقط الوجوب على غيره من أهل القدرة على الإلزام. قوله: "والحمل على الواجب". أقول: أدلة الكتاب والسنة الكثيرة المتواترة قد دلت على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم وهذا هو أعظم أعمدة الدين وأقوى أساساته وأرفع مقاماته ولا شك أن الحمل على فعل الواجب يدخل تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا قام بذلك الإمام فهو رأس الأمة وصاحب الولاية العامة وكان قيامه مسقطا للوجوب على غيره وإن لم يقم فالخطاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باق على كل مكلف يقدر على ذلك والعلماء والرؤساء لهم مزيد خصوصيته في هذا لأنهم رءوس الناس والمميزون بينهم بعلو القدر ورفعة الشأن وقد جاء الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضع بما هو سراب بقيعة وتعرض للكلام على ما كان له عنه مندوحة فإنه وقع في خلاف إجماع المسلمين وضرورة الدين. وأما قوله: "ونصب ولاة المصالح والأيتام" فمثل هذا يكون إلى الحاكم كما يكون إلى الإمام بل يكون إلى كل صالح له من المسلمين ولم يرد ما يوجب اختصاصه بالإمام لا من دراية ولا رواية.

قوله: "وغزو الكفار والبغاة إلى ديارهم". أقول: أما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله رسله وأنزل كتبه ومازال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا لهذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شئونه وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم. وأما غزو البغاة إلى ديارهم فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل الإسلام إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم فذلك واجب دفعا لضررهم وإن كان لا يتعدى فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام والدخول فيما دخل سائر المسلمين ولا شك أن ذلك معصية عظيمة لكن إذا كانوا مع هذا مسلمين للواجبات غير ممتنعين من تأدية ما يجب عليهم تركوا وشأنهم مع تكرير الموعظة لهم وإقامة الحجة عليهم وأما إذا امتنعوا من ذلك فقد تظاهروا بالبغي وجاهدوا بالمعصية وقد قال الله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده المصنف لذلك. وأما قوله: "وأخذ الحقوق كرها" فوجهه ظاهر واضح بل يجب عليه مقاتلتهم إذا لم يسلموها كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" إلخ وقد دخل أخذ الحقوق كرها تحت ما تقدم من قوله وإلزام من عليه حق الخروج منه والحمل على الواجب لأنها أهم الحقوق الواجبة ومنعها ظلم لمن جعلهم الله مصرفا لها من الثمانية الأصناف. قوله: "والإستعانة من خالص المال" الخ. أقول: وجه هذا أن مع خشية استئصال الكفار لقطر من أقطار المسلمين مع وجود بيت مال المسلمين وعدم التمكن من الإقتراض واستعجال الحقوق قد صار الدفع عن هذا القطر الذي خشي استئصاله واجب على كل مسلم ومتحتم على كل من له قدرة على الجهاد أن يجاهدهم بماله ونفسه ومن الإستعداد له للجهاد كالباعة في الأسواق والحراثين تجب عليهم الإعانة للمجاهدين بما فضل من أموالهم فإن هذا من أهم ما أوجبه الله على عباده والأدلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة تدل عليه وعلى الإمام أن لا يدع في بيت المال صفراء ولا بيضاء ويعين بفاضل ماله الخالص ولكن الواجب أن يأخذ ذلك على جهة الإقتران ويقضيه من بيت مال المسلمين عند حصول ما يمكن القضاء منه لأن دفع ما ينوب المسلمين من النوائب يتعين إخراجه من بيت مالهم وهو مقدم على أخذ فاضل أموال الناس لأن أموالهم خاصة بهم

وبيت المال مشتركا بينهم فإن كان لا يمكن القضاء من بيت المال في المستقبل فقد حق الوجوب على المسلمين كما قدمنا. وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن هذه الإستعانة المقيدة بهذه القيود المشروطة باستئصال قطر من أقطار المسلمين هي غير ما يفعله الملوك في زمانك من أخذ أموال الرعايا زاعمين أن ذلك معونة لجهاد مؤلف قد منعوه ما هو مؤلف به من بيت مال المسلمين أو جهاد من أبي من الرعايا أن يسلم ما يطلبونه منه من الظلم البحت الذي لم يوجبه الشرع أو جهاد من يعارضهم في الإمامة وينازعهم في الزعامة فاعرف هذا فإن هذه المسألة قد صارت ذريعة لعلماء السوء يفتون بها من قربهم من الملوك وأعطاهم نصيبهم من الحطام ومع هذا ينسون أو يتناسون هذه القيود التي قيدها المصنف بها وفاء بأغراض من يرجون منه الأغراض والأمر لله العلي الكبير. قوله: "والإستعانة بالكفار والفساق". أقول: أما الإستعانة بالفساق فلا مانع منها لأنهم من جملة المسلمين ولم يرد ما يدل على أنه لا يستعان إلا بمن كان مؤمنا صحيح الإيمان غير ملابس للمعاصي وقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين في كثير من حروبه وهم في الظاهر أشر من فساق المسلمين وفي البطان أضر من المعلنين بالشرك ولهذا كانوا في الدرك الأسفل من النار. وأما الإستعانة بالكفار فلا تجوز على قتال المسلمين لأنه من تعاضد الكفر والإسلام على الإسلام وقبح ذلك معلوم ودفعه بأدلة الشرع لا يخفى وأما الإستعانة بالكفار على الكفار فقد وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في غير موطن ووقع منه الرد لمن أراد إعانته من المشركين على قتال المشركين وقال لهم: "إنه لا يستعين بمشرك"، [مسلم "15/1817"، أحمد "14/41"] ، ويمكن الجمع بأن الجواز مع الحاجة ورجاء النفع والرد مع عدمهما أو أحدهما فيكون ذلك مفوضا إلى نظر الإمام. وأما قوله: "حيث معه مسلمون" إلخ فوجهه أنه صلى الله عليه وسلم ما استعان بأحد من المشركين أو المنافقين إلا ومعه طائفة من خلص المسلمين. قوله: "وقتل جاسوس وأسير كافرين أو باغيين". أقول: أما الكفار فدماؤهم على الأصل الإباحة كما في آية السيف فكيف إذا نصبوا الحرب فظفر المسلمون بأسير أو جاسوس منهم فإنه يجوز للإمام قتلهما كما قتل صلى الله عليه وسلم من قتل من أسرى بدر وكما فعل في بني قريظة [البخاري "7/411"] ، وحكما قال الله عزوجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] ، وله المن أو الفداء كما قال الله عزوجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، فعرضت بهذا أنه لا وجه لقوله قتلا أو بسببهما فإنه لم يرد في الشرع ما يدل على هذا الإشتراط في حق الكفار أبدا وأما البغاة فدماؤهم معصومة بعصمة الإسلام لا يجوز قتلهم إلا دفاعا إذا صالوا على المسلمين وبغوا عليهم ولم يرد في الشريعة ما يدل على قتل أسيرهم ولا قتل جاسوسهم سواء كانت الحرب قائمة أم لا بل ورد ما يدل

على أنه لا يقتل أسير البغاة كما سيأتي في الفصل الذي أفرده المصنف لذكر أحكام البغاة فإن كان الأسير أو الجاسوس من البغاة قد قتلا قتلا يوجب عليهما القصاص كان قتلهما قصاصا وهو باب آخر غير باب البغي. وأما قوله: "أو بسببهما" فلا وجه له لأن التسبب للقتل لا يوجب القصاص كما تقدم في الجنايات. والحاصل أن هذه المسألة مبنية على غير أساس من طرفيها جميعا والصواب ما ذكرناه فاعرفه. وأما قوله: "وإلا حبس الباغي وقيد" فهذا إن رآه الإمام صلاحا كان ذلك جائزا لأنه قد استحق ببغيه ما يستحقه العصاة من التعزير ولو لم يكن إلا كفه عن البغي بحبسه حتى يصلح ويتوب. قوله: "وأن يعاقب بأخذ المال أو فساده". أقول: قد تقرر بالأدلة الثابتة في الكتاب العزيز وفي السنة المطهرة عصمة مال المسلم وتحريم أكله بالباطل وأنه لا يحل بطيبة من نفسه وأن أصل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم الحرمة فالواجب العمل على هذا الأصل والثبوت عليه وعدم الخروج عنه إلا بدليل ناهض يصلح للنقل فما ورد على وجه الصحة مما فيه العقوبة بأخذ المال أو إفساده كان مقصورا على محله لا يتعداه كما هو شأن ما ورد على خلاف القياس فضلا عن خلاف ما هو قطعي من قطعيات الشريعة هذا على فرض أنها لم تنسخ العقوبة بالمال وأنها ثابتة في تلك المواضع التي كان ورودها فيها وأما إذا كانت منسوخة فقد انقطع عرق مفسدتها وانهدمت ذريعتها وبطل حكمها وأراحنا الله من الإشتغال بها فإن هذه المسألة صارت ذريعة يتوصل بها إلى نهب أموال الرعايا ويصولون بها على من أنكر عليهم وقد تكررت مني الأبحاث فيها وأفردتها برسالة مستقلة فاشدد يديك على ما ذكرناه ولا تقبل إلا حجة صحيحة ثابتة عمن تقوم به الحجة فإنه لا يحجة فيما ورد عن بعض الصحابة ولا يجوز العمل به فيما لم يرد فيه دليل فكيف والدليل القطعي قائم بعصمة مال المسلم. قوله: "وعليه القيام بما أمره إليه". أقول: لما فرغ المصنف رحمه الله من ذكر ما هو للإعلام من الرعية ذكر ما هو عليه ومن جملة ذلك القيام بما أمره إليه وقد تقدم ذكره مفصلا لأن ذلك هو الغرض المقصود من نصبه إماما. وأما قوله: "وتسهيل الحجاب" فوجهه أنها لما كانت حوائج المسلمين متعلقة به وهم محتاجون إليه لدفع ما ينوبهم ورفع ما نزل بهم كان احتجابه إضرارا بهم وإهمالا لحوائجهم وهذا خلاف ما هو المقصود من إمامته والمطلوب من زعماته فلو لم يرد في النهي عن الإحتجاب شيء لكان هذا كافيا فكيف وقد وردت الأدلة المصرحة بأشد الوعيد عليه إذا احتجب

عنهم كما في حديث أبي مريم الأزدي عند أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتج دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة"، وأخرجه أيضا أحمد "4/231"، والترمذي "1332"، والحاكم من حديث عمرو بن مرة الجهني وهذا الوعيد عن الإحتجاب لا يختص بالإمام بل يعم كل من ولي شيئا من أمور المسلمين ولا يجب عليه استغراق الأوقات لأنه يحتاج إلى النظر في أمور المسلمين خاليا وتدبير ما يتعلق بهم ومفاوضة وقت طعامه وشرابه ونومه وما يمس حاجته إليه وقد أشار المصنف إلى بعض هذا بقوله: إلا في وقت حاجته وخاصة أمره. قوله: "وتقريب أهل الفضل وتعظيمهم". أقول: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجالس أكابر الصحابة ويشاورهم في أموره ويأذن لهم في أوقات لا يأذن لغيرهم فيها كما هو معروف بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط نفسه بكثير من الصحابة ويجلس إلى أصل الصفة وهم فقراء المسلمين الذي لا أهل لهم ولا مسكن والأمر في هذا معلوم وفي تقريب أهل الفضل فوائد جليلة فيها أن الإمام يجري الأمور على ما عندهم من النظر فيما فيه صلاة المسلمين فإن فضلهم يقتضي ذلك وأما تعظيمهم فهو أيضا من حق المسلم على المسلم ومن تنزيل الناس منازلهم كما ورد بذلك الدليل الصحيح وأما استشارتهم فقد قدمنا الكلام على ذلك عند قوله أكثر رأيه الإصابة. قوله: "وتعهد الضعفاء". أقول: هذا من أهم الواجبات على الأئمة وأعظم معين عليه تسهيل الحجاب والبحث عن أحوالهم بثقات يرفعون حوائج المحتاجين إليه ويوصلون أغراضهم إلى مقامه وقد كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدور بالليل لمثل هذا المقصد فيأتي منازل الضعفاء والمحتاجين ويسألهم عن حالهم. قوله: "ولا يتنحى ما وجد ناصرا إلا لأنهض منه". أقول: الأنهضية هي باعتبار ما هو معظم المقصود من نصب الأئمة ومن ذلك حياطة المسلمين ودفع عدوهم والأخذ على يد ظالمهم وإنصاف مظلومهم وتأمين سبلهم وتفريق بيت مالهم فيهم على ما أوجبه الشرع فمن كان ناهضا بهذه الأمور ونحوها فيه يحصل مقصود الإمامة وينتفع الناس بولايته ويشملهم الأمن والدعة ويطيب عيشهم ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وإن كان غيره أكثر علما منع أو أوسع عبادة أو أعظم ورعا فإنه إذا كان غير ناهض بهذه الأمور فلا يعود على المسلمين من علمه وعبادته وورعه فائدة ولا ينفعهم كونه مريدا للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه. قوله: "وأن يؤمر على السرية أميرا صالحا لها". أقول: صلاح أمير السرية أن يكون عارفا بقيادة الجيش بصيرا بترتيب المحاربين في مواطن

الحرب ثابت القدم عند ملاحمة القتال قوي القلب واسع الصدر حسن التدبير خبيرا بالكيفية التي يكون بها رجاء انتصار الجيش يقدم إذا وجد الإقدام مغنما يحجم إذا رأى الإحجام حزما وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبعث سرية قليلة ولا كثيرة إلا وجعل عليها أميرا كما هو معلوم من كتب الحديث والسير. وأما قوله: "ولو فاسقا" فإن اقتضت ذلك الضرورة ودفعت إليه الحاجة فلا بأس ويأخذ عليه الإمام ما يخشى على الجيش من جهة فسقه ويأخذ على الجيش أن لا يطيعوه في معصية الله وفي الصحيحين [البخاري "8/58"، مسلم "1840"، وغيرهما أبو داود "2625"، النسائي "4205"، أحمد "1/82، 94، 124"] ، من حديث علي قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له وييطعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى قال: فادخلوها, فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار, فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: "لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا"، وقال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف". قوله: "وتقديم دعاء الكفار إلى الإسلام". أقول: كان على المصنف أن يزيد على هذا فيذكر أنهم إذا أبوا دعاهم إلى الجزية والأحاديث الواردة في توصيته صلى الله عليه وسلم لأمراء الجيش أن يقدموا الدعوة على الحرب كثيرة جدا حتى أخرج أحمد "1/231، 236"، وأبو يعلى والحاكم والطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما قط إلا دعاهم وأخرج أحمد وأبو داود "3988"، والترمذي "3222"، وحسنه من حديث فروة ابن مسيك قال: قلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي ومدبرهم؟ قال: "نعم"، فلما وليت دعاني فقال: "لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام". وإذا رأى الإمام في ترك الدعوة صلاحا فعل فقد ثبت في الصحيحين [البخاري "2541"، مسلم "1/1730"، وغيرهما أبو داود "2633"] ، من طريق نافع لما كتب إليه ابن عون يسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إليه إنما كان ذلك في أول الإسلام وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث ثم قال نافع حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش وأخرج البخاري "4038، 4039، 4040"، وغيره عن البراء بن عازب قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عبد الله بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم وفي الصحيحين [البخاري "3012"، مسلم "26/1745"، وغيرهما أحمد "4/38، 71، 72، 73"ن أبو داود "2672"، الترمذي "1570"، ابن ماجة "3839"] ، من حديث الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال:

"هم منهم"، وقد جمع بين هذه الأحاديث وما ورد في معناها بأنه يجب تقديم الدعوة لمن لم يبلغهم الدعوة ولا يجب إن كانت قد بلغتهم ولكنها تستحب فقط قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم. وهكذا تقديم الإمام دعاء البغاة عليه إلى الرجوع إلى طاعته لأنهم بغوا بسبب الخروج من طاعته فإن لم يرجعوا إلى الطاعة التي أوجبها الشرع للأئمة فقد بغوا وقد قال الله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] . وأما كون الدعاء يندب أن يكون عليهم ثلاثا فلا دليل على ذلك وإن كان التكرير أبلغ في المعذرة وأدخل في الإنذار. قوله: "وتنشر فيها الصحف". أقول: هذه بدعة لم يرد بها الشرع ولكنه إذا رأى الإمام أن في ذلك مزيد تأثير من بغي وارعواء من فارق الحق فلا بأس به لأنها قد ترتبت عليه مصلحة. وأما ما ذكره من ترتيب الصفوف فذلك أمر يرجع إلى الممارسين للحرب العارفين بما فيه رجاء الغلب وتمام النصرة فإن كان ترتيب المجاهدين صفوفا هو الذي يقتضيه التدبير أمر الإمام بذلك وإن كان الأنفع جعلهم كراديس أو تفريقهم في الجوانب أو خروج بعضهم إلى القتال ووقوف البعض الآخر ردءا له فعل ذلك. [فصل فإن أبوا وجب الحر بإن ظن الغلب فيفسق من فر إلا متحيزا إلى فئة ردءا أو منعة وإن بعدت أو لخشية الإستئصال أو نقص عام للإسلام. ولا يقتل فان ومتخل وأعمى ومقعد وصبي وامرأة وعبد إلا مقاتلا أو ذا رأي أو متقي به للضرورة لا بمسلم إلا لخشية الإستئصال وفيه الدية والكفارة ولا يقتل ذو رحم رحمه إلا مدافعة عن نفسه أو غيره أو لئلا يحقد من قتله] . قوله: "فصل: فإن أبوا وجب الحرب إن ظن الغلب". أقول: هذا هو الذي ثبت في الأدلة الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أمراء الجيش بالدعوة إلى الإسلام أو الجزية فإن أبوا قاتلوهم وأما تقييد ذلك بظن الغلب فلم يرد ما يدل عليه بل يجب القتال مع تجويز أن يكونوا غالبين أو مغلوبين والحرب سجال: ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظن عجزا وأما إذا علموا بالقرائن القوية أن الكفار غالبون لهم مستظهرون عليهم فعليهم أن يتنكبوا

عن قتالهم ويستكثروا من المجاهدين ويستصرخوا أهل الإسلام وقد استدل على ذلك بقوله عزوجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وهي تقتضي ذلك بعموم لفظها وإن كان السبب خاصا فإن سبب نزولها أن الأنصار لما قاموا على زرائعهم وإصلاح أموالهم وتركوا الجهاد أنزل الله في شأنهم هذه الآية كما أخرجه أبو داود "2512"،والنسائي والترمذي "2972"، وصححه والحاكم أيضا وقد تقرر في الأصول أن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومعلوم أن من أقدم وهو يرى أنه مقتول أو مأسور أو مغلوب فقد ألقى بيده إلى التهلكة. قوله: "فيفسق من فر" الخ. أقول: قد ثبت أن الفرار من موبقات الذنوب كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، [البخاري "2766، 5764، 6857"، مسلم "89"، أبو داود "2874"] ، ثم عد منهن "التولي يوم الزحف"، وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال:65] ، وناهيك بمعصية يبوء صاحبها بغضب الله عليه ولكن لا بد أن يكونوا كما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] ، فكتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم نزلت الآية: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [النفال 66] ، الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين فإذا كان المسلمون مثل نصف المشركين حرم عليهم الفرار وإلا كان جائزا وقد استثنى الله سبحانه المتحرف للقتال والمتحيز إلى فئة فليس هذا من الفرار المحرم والفئة تكون ردءا وتكون منعة كما قال المصنف ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للطائفة التي فرت إليه: "أنا فئتكم" كما في حديث ابن عمر عند أحمد "2/58، 70، 99، 100"، وأبي داود "2647"،وابن ماجه والترمذي "1716"، وحسنه وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وفيه مقال معروف. وأما قوله: "أو لخشية الإستئصال أو نقص عام" فوجهه أن المصابرة والإقدام على القتال مع أحد الأمرين يعود على المسلمين بالوهن والضعف وقد وقع الفرار في أيام النبوة في غير موطن وعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا قد خشوا مثل ذلك بل سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوع خالد بن الوليد واستخراجهم من ملاحمة المشركين فتحا والقصة معروفة في كتب السير والحديث وكان ذلك بعد أن قتل أمير الجيش وهو زيد بن حارثة ثم الأمير الذي بعده وهو عبد الله بن رواحة ثم أخذ الراية خالد ورجع بالمسلمين. قوله: "ولا يقتل فان" الخ. أقول: وجهه ما أخرجه أبو داود "2614"، من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة"، وفي إسناده خالد بن الفرز وفيه مقال وأخرج أحمد "14/65" من حديث ابن عباس بلفظ: "ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع"، وفي إسناده إبارهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة

وهو ضعيف ووثقه أحمد وفي الصحيحين [البخاري "6/148"، مسلم "24، 25/1744"، وغيرهما الترمذي "1569"، أبو داود "2668"، ابن ماجة "2741"، أحمد "2/122، 123"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان وأخرج [أحمد "3/488"، وأبو داود "2669"، والنسائي وابن ماجه "2842"] ، وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح بن ربيع عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا"، وأخرج أحمد "3/435"، بإسناد رجاله رجال الصحيح عن ابن كعب بن مالك عن عمه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان وأخرج أحمد 5/12، 20"، أيضا بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا الذرية في الحرب"، وأخرج أحمد "والترمذي وصححه من حديث سمرة بلفظ: "لا تقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم". وأخرج البيهقي من حديث علي نحو حديث ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جرير نحوه أيضا. فهذه الأحاديث قد دلت على المنع من قتل الشيخ الفاني والمتخلي للعبادة والنساء والصبيان والعسيف وهو الأجير ولا بد أن يكون الشيخ فانيا لا إذا بقي له قوة بحيث يقدر على القتال فإنه يقتل وإن لم يقاتل كما يدل عليه حديث سمرة المذكور ولكن هذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة وقد مر غير مرة أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وأيضا في إسناده الحجاج بن أرطاة وفيه مقال مشهور والأولى أن يقال إن وصف الشيخ بكونه فانيا مقيد بما أطلق فيه ذكر الشيخ فيحمل المطلق على المقيد ولا يحرم إلا قتل الشيخ الفاني ولم يرد ما يدل على عدم جواز قتل الأعمى والمقعد إلا أنهما بمنزلة الشيخ في عدم القدرة على القتال فيجوز إلحاقهما به. وأما العبد فلم يرد ما يدل على عدم جواز قتله وقد كان المسلمون يقتلون من قاتل من المشركين من أحرارهم وعبيدهم وقد يكون للعبد مزيد تأثير في القتال على الأحرار كما كان من وحشي يوم أحد ولا يصح قياسه على العسيف لأن العسيف لايقاتل وإنما هو لحفظ المتاع والدواب وإن قاتل جاز قتله ولهذا قال المصنف: "إلا مقاتلا" فمن قاتل من هؤلاء جاز قتله. وأما جواز قتل ذي الرأي فلم يرد ما يدل عليه بعد اتصافه بوصف ما يوجب عدم جواز قتله من كونه شيخا أو متخليا للعبادة أو امرأة إلا أن يقال إن لحوق الضرر بالمسلمين بما يصدر عنه من الرأي فقد يكون أشد من مقاتلة المقاتل ولكن هذا رأي مجرد والتخصيص للأدلة بمجرد الرأي لا يصح عند المنصفين. قوله: "أو متقى به للضرورة". أقول: الوجه في قتل الترس ما يلحق المسلمين من الضرر بتركه فإن الكفار لو جعلوا من لا يبيح الشرع قتله منهم تروسا لهم ليحصنوا أنفسهم من سهام المسلمين ورماحهم وكان يخشى من مخالطتهم للمسلمين بالقتال أن يكثر القتل في المسلمين أو يغلبوا جاز قتل الترس دفعا للمفسدة العظيمة بمفسدة دونها بمراحل وأدلة الشريعة الكلية تقتضي هذا وأما إذا كان الترس

مسلما وخشي استئصال المسلمين لمخالطة الكفار لهم بالقتال وملاحمتهم لهم فلا شك أن قتل واحد أو جماعة أهون من استئصال جيش المسلمين وإدخال الوهن على كل مسلم في الأقطار الإسلامية فهذا أهون من دفع المفسدة الكبيرة بمفسدة صغيرة وفي الشر خيار ولكن لا يكتفى في ذلك بمجرد الظنون الكاذبة والخيالات المختلة فإن خطر قتل المسلم عظيم بل لا بد أن يكون خشية الاستئصال مما تتفق عليه عقول أهل الرأي والتجارب. وأما لزوم الدية فوجهه واضح لأن المقتول مسلم لا يهدر دمه وهكذا لزوم الكفارة على ما قد مر تحقيقه في موطنه. قوله: "ولا يقتل ذو رحم رحمه". أقول: الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة قد دلت دلالة أوضح من الشمس على قتل المشركين ولم يثبت في المنع من قتل ذي الرحم لرحمه ما تثبت به الحجة قط حتى يصلح لتخصيص الأدلة الصحيحة ومع هذا فهو معارض بمثله فيجب الرجوع إلى ما ثبت في القرآن والسنة فاعرف هذا فليس ها هنا ما يوجب التخصيص ولا التقييد. [فصل ويحرق ويغرق ويخنق أن تعذر السيف وخلوا عمن لا يقتل وإلا فلا إلا للضرورة ويستعين بالعبيد للضرورة ولا ضمان عليه لا غيرهم من الأموال فيضمن وترد النساء مع الغنية] . قوله: "فصل ويحرق إلخ". أقول: قد أمر الله بقتل المشركين ولم يعين لنا الصفة التي يكون عليها ولا أخذ علينا أن لا نفعل إلا كذا دون كذا فلا مانع من قتلهم بكل سبب للقتل من رمي أو طعن أو تغريق أو هدم أو دفع من شاهق أو نحو ذلك ولم يرد المنع إلا من التحريق فقد ثبت في صحيح البخاري ["6/149"، وغيره أبو داود "2674"، الترمذي "1571"، أحمد "2/307، 338، 453"،] ، من حديث أبي هريرة قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين - فأحرقوهما بالنار"، ثم قال حين أردنا الخروج: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما"، فهذا الحديث قد دل على منع التحريق على كل حال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد الأمر بإحراق رجلين مشركين قد بالغا في الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستحقا القتل ثم علل ذلك بهذه العلة التي تفيد أنه لا يجوز التحريق بالنار لأحد من عباد الله سواء كان مشركا أو غير مشرك وإن بلغ في العصيان والتمرد على الله أي مبلغ فما وقع من بعض الصحابة محمول على أنه لم يبلغه الدليل.

وبما ذكرناه تعرف أنه لا وجه لقول المصنف إن تعذر السيف ومن جملة ما لا يجوز أن يكون القتل به المثلة لثبوت النهي عنها في الأحاديث الكثيرة فيكون ذلك مخصصا لأدلة قتل المشركين على كل حال وبكل سبب من أسباب القتل وأما حديث: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" فالمراد بالإحسان ترك التعذيب وتعجيل ما يحصل به الموت وليس ذلك مختصا بقتل السيف. وأما قوله: "وخلوا عمن لا يقتل" فوجهه ما تقدم من النهي عن قتلهم فإذا لم تدع الضرورة إلى ما يعم من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله كان الواجب اجتناب قتل من لا يجوز قتله وترك السبب الذي لا يمكن فيه تخصيص من يجوز قتله ومن لا يجوز كالرمي بالمنجنيق والمدافع وما يشابه ذلك وقد قدمنا ما يدل على جواز تبييت الكفار وهو سبب يعم من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله وبهذا تعرف صحة قول المصنف من التقييد بقوله إلا للضرو. قوله: "ويستعين بالعبيد للضرورة". أقول: إذا دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم وجب على المالكين لهم أن يأذنوا لهم بذلك ولا يجوز لهم أن يمتنعوا من الإذن فإن العبيد من جملة أموال المسلمين وقد تقدم في الاستعانة من خالص المال ما تقدم وليس للإمام أن يستعين بهم من غير إذن المالكين لهم وعلى هذا يحمل رد من رده رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم. وأما قوله: "ولا ضمان عليه" فظاهر وقوله: "لا غيرهم من الأموال" فقد أغنى عنه ما تقدم في الاستعانة بخالص المال بتلك الشروط. قوله: "وترد النساء مع الغنية". أقول: أخرج البخاري "6/80"، وغيره أحمد "6/358"، من حديث الربيع بنت معوذ قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة وأخرج مسلم "142/1812"، وغيره ابن ماجة "2856"، من حديث أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على الزمني وأخرج مسلم أيضا وغيره عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى. فهذه الأحاديث تدل على جواز خروجهن مع الغزاة لا سيما إذا كان لهن حاجة في ذلك ولا ينافي هذا ما أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة أنها قالت: قلت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" فإنه إنما يدل على أن أفصل الجهاد الحج المبرور وهو غير محل النزاع.

[فصل ويغنم من الكفار نفوسهم إلا المكلف من مرتد ولو أنثى وعربي ذكر غير كتابي فالإسلام أو السيف وأموالهم ولا يستبد غانم بما غنم ولو طليعة أو سرية بقوة ردئهم إلا بشرط الإمام أو تنفليهم فلا يعتق الرحم ونحوه ومن وطيء ردها وعقرها وولدها ولا حد عليه ولا نسب وللإمام قيل ولو غائبا الصفي وهو شيء واحد ثم يقسم الباقي بعد التخميس والتنفيل بين ذكرو مكلفين أحرار مسلمين قاتلوا وكانوا ردءا ولم يفروا قبل إحرازها للراجل سهم ولذي الفرس لا غيرها سهمان إن حضر بها ولو قاتل راجلا ومن مات أو أسر أو ارتد بعد الإحراز فلورثته ويرضخ وجوبا لمن حضر من غيرهم ولا يطهر بالاستيلاء إلا ما ينجس بتذكيتهم أو رطوبتهم ومن وجد ما كان له فهو أولى به بلا شيء قبل القسمة وبعدها بالقيمة إلا العبد الآبق] . قوله: "فصل: ويغنم من الكفار نفوسهم". أقول: هذا معلوم من أدلة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين سابقهم ولاحقهم وأما استثناء المرتد فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، وقوله: " لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث"، والحديثان صحيحان مشهوران وإنما لم يجز استرقاقه لأنه لما خرج من دين الإسلام كان علينا إرجاعه إليه أو قتله ولهذا يقول الله عزوجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، فإذا ابتغى أن يبقى على الكفر الذي خرج عليه بعد أسره ويصير عبدا لمن أسره لم يقبل منه ذلك. قوله: "وعربي ذكر غير كتابي". أقول: الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرفاق الكفار من غير فرق بين عربي وعجمي وذكر وأنثى ولم يقم دليل يصلح للتمسك به فقط في تخصيص أسراء العرب بعدم جواز استرقاقهم بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين وقد سبى صلى الله عليه وسلم جماعة من بني تميم وأمر عائشة أن تعتق منهم وبالغ صلى الله عليه وسلم فقال: "من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل"، وقال لأهل مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". والحاصل أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة من التخيير في كل مشرك بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى تخصيص نوع منهم أو فرد من أفرادهم فهو مطالب بالدليل وأما ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "لو كان الاسترقاق على العرب جائزا لكان اليوم وإنما هو أسر"، فلم يصح هذا من وجه بل في إسناده من هو غاية في الضعف". وأما أسر نساء العرب فالأمر أظهر من أن يذكر الوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث

الصحيحين [البخاري "5/170"، مسلم "1/1730"، وغيرهما وفي كتب السير جميعها ولهذا قيد المصنف العربي بكون ذكرا ولا وجه لقوله غير كتابي لأنه إذا كان استرقاق العربي الذي ليس بكتابي غير جائز عنده فكيف يجوز استرقاق من له مزية مع كونه عربيا لا توجد في سائر من ليس بكتابي من العرب وهو كونه متبعا شريعة مقتديا بنبيه فإنه أولى بالاحترام من عابد الوثن. قوله: "وأموالهم". أقول: ليس في هذا خلاف وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بذلك. وأما قوله: "ولا يستبد غانم" بما غنم فوجهه أن الغنيمة جعلها الله للغانمين وفوض قسمتها إلى نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده إلى أئمة المسلمين فاستبداد أحد القائمين بما غنمه خلاف ما شرعه الله لعباده وخيانة المسلمين وغلول للغنيمة وكل ذلك قبيح قد دلت الأدلة على منعه وتحريمه وإثم صاحبه ويخرج من ذلك ما ورد الترخيص فيه كما في حديث ابن عمر عند البخاري "6/255"، وغيره أبو داود "2701"، قال كنا نصيب فيمغازينا العسل والعنب فناكله ولا نرفعه وما أخرجه مسلم [البخاري "7/481"، مسلم "72/1772"، وغيره أبو داود "2702"، أحمد "4/86، 5/65"، النسائي "4440"] ، من حديث عبد الله بن المغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمه فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما وفي الباب أحاديث. وإذا عرفت هذا أن ما غنمه الجيش مشترك بينهم جميعا من غير فرق بين أن يكونوا هم الغانمين له بأنفسهم أو غنمته طليعتهم أو سريتهم التي لم تغنم تلك الغنيمة إلا بقوة الجيش الذي أرسلها أما لو لم يكن الأمر كذلك فإن الطليعة والسرية تصير كالجيش المستقل وتستحق ما انفردت به. قوله: "إلا بشرط الإمام". أقول: وجهه ما ثبت في الصحيحين [البخاري "3142"، مسلم "1751"، بوغيرهما أبو داود "2717"، الترمذي "1562"، ابن ماجة "2837"] ، من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه"، وفي الحديث قصة وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من قتل رجلا فله سلبه" فقتل أبو طلحة عشرين رجلا وأخذ أسلابهم، وأخرج مسلم ["1753"، وغيره أبو داود "2719"] ، أن عوف بن مالك قال لخالد بن الوليد أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل قال: بلى وفي الصحيحين [البخاري "6/168"، مسلم "45/1754"، وغيرهما أبو داود "2654"] ، من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة قتله للرجل صاحب الجمل الأحمر: "من قتل الرجل؟ " قالوا: سلمة بن الأكوع, قال: "له سلبه أجمع" وفي الصحيحين [البخاري "3141"، مسلم "1752"] ، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بسلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح لكونه

الذي قتله وقد ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق سلب من قتله سواء كان أمير الجيش قال قبل ذلك: "من قتل قتيلا فله سلبه" أم لا, وذهب من عداهم أنه لايستحقه القاتل إلا أن يشرط الإمام له ذلك ويدل على ما ذهب إليه الجمهور أن الأمر كان مشتهرا عند الصحابة في حياته صلى الله عليه وسلم أن السلب للقاتل وإن لم يقل الإمام ذلك كما في حديث عوف بن مالك المذكور. قوله: "أو تنفيله". أقول: وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته أخرجه أحمد "4/160"، وأبو داود "2748، 2749، 2750"، وابن ماجه "2853"، من حديث حبيب بن مسلمة وصححه ابن حبان وابن الجارود والحاكم وأخرج أحمد "3/470"، وابن ماجه "2753"، وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة والربع وفي الرجعة الثلث وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس"، وفي الصحيحين [البخاري "6/237"، مسلم "40/1750"، وغيرهما أبو داود "2746"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك كله واجب وفي الصحيحين [البخاري "6/237"، مسلم "35/1749"، وغيرهما أبو داود "2744"، أحمد "2/62، 112"] ، من حديث ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد فخرجت فيها فبلغت سهماننا أثنى عشر بعيرا ونفلنا صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا وفي الباب أحاديث كثيرة. وأما قوله: "فلا يعتق الرحم" فوجهه أن ملك الغانم في الغنيمة غير مستقر حتى يتعين له سهمه فيها وذو الرحم إنما يعتق على رحمه إذا ملكه ملكا مستقرا لا سيما مع تجويز أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء من الغنيمة على جهة التنفيل أو يرضخ لمن حضر من غير القائمين. وأما كون من وطىء المسبية وجب عليه ردها وعقرها وولدها فوجهه أنه وطىء ما لم يستقر ملكه عليه لا في كله ولا في بعضه وأما كونه لا يحد فوجهه أن مجرد كون له نصيب في الغنيمة في الجملة شبهة والحدود تدرأ بالشبهات. قوله: "وللإمام – قيل: ولو غائبا - الصفي". أقول: وجهه ما أخرجه أبو داود "2999"، والنسائي "4146"، ورجاله رجال الصحيح عن يزيد بن عبد الله قال كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها: "من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير بن أقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله"، فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو داود "2994"، بإسناد رجاله رجال الصحيح وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عائشة قالت وكانت صفية من الصفي ولكنه يعارض هذا ما ثبت في الصحيحين بالبخاري "4/419"، مسلم "87/1365"،

وغيرهما من حديث أنس بن مالك قال صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وله طرق في الصحيحين وما فيهما مرجح على ما هو خارج عنهما كما هو معلوم. ومما يدل على ثبوت الصفي للأئمة ما أخرجه أحمد "17/221"، والترمذي "4/130"، وحسنه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تنقل سيفه ذا الفقار يوم بدر وأخرج أبو داود "2991"، والنسائي "4145"، عن عامر الشعبي مرسلا قال "كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس"، وأخرج أبو داود "2992"، بإسناد رجاله ثقات عن ابن عون قال سألت محمد بن سيرين عن سهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي قال كان يضرب له سهم مع المسلمين وإن لم يشهد والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء وهو مرسل ومجموع ما ذكرنا يدل على ثبوت الصفي للإمام بعد أن يضرب له بسهم حضر أو غاب. قوله: "بعد التخميس والتنفيل". أقول: أما كون القسمة تكون بعد التخميس فذلك بنص القرآن قال الله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، الآية ولا خلاف في ذلك وأما كون القسمة تكون بعد التنفيل فوجه ذلك ما قدمنا ذكره قريبا. وأما قوله بين ذكور فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لمن كان يحضر من النساء سهما كسهم الرجال كما في صحيح مسلم "137/1812"، وغيره من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن". وأما ما أخرجه أحمد "5/271"، وأبو داود "2729"، من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لها ولمن معها من النساء كما أسهم للرجال عند فتح خيبر"، فحشرج هذا مجهول وفي بقية إسناده ضعيف فلا تقوم به حجة فضلا عن أن يعارض ما في الصحيح وقد حمل ذلك على الرضخ. قوله: "مكلفين". أقول: وجه اشتراط كونهم مكلفين أن الغنيمة جعلها الله للمقاتلين من الرجال وليس الصبيان ممن يقاتل ولهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأذن في الغزو إلا لمن قد صار مكلفا كما في كتب الحديث والسير ولا تقوم الحجة بما أخرجه الترمذي عن الأوزاعي قال أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر لا سيما مع إرساله ومخالفته للأحاديث الصحيحة وقد حمل هذا الإسهام على الرضح. قوله: "أحرارا". أقول: وجهه أن العبيد ليسوا من أهل الغزو وكما تقدم وإنما يستحق الغنيمة الغانمون لها وقد أخرج مسلم وغيره عن ابن عباس أنه سئل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم قال: إنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم وأخرج أحمد

"1/319"، وأبو داود "2727"، والترمذي "4/137"، وصححه من حديث ابن عباس أيضا قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المرأة والعبد والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش وهذا محمول على الرضخ ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث عمير مولى آبي اللحم قال شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بي فقلدت سيفا فإذا أنا أجره وأخبر أني مملوك فأمر لي بشيء من خرثي المتاع. قوله: "قاتلوا أو كانوا ردءا". أقول: وجهه ما قدمنا لك من أن الغنيمة إنما هي لمن غنمها من الغزاة والردء له حكم الجيش المقاتل لأنه يزيدهم قوة ورغبة في القتال ويزيد العدو ضعفا وفشلا ورهبة للإقدام على من قابلهم من جيش المسلمين وما ورد من إعطائه صلى الله عليه وسلم لمن حضر عند القسمة ولم يكن مقاتلا ولا ردءا فهو محمول على الرضخ لا على الإسهام لهم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى أنه قدم هو وجعفر بن أبي طالب ومن كان معهم في السفينة التي رجعوا فيها من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانه كان قدومهم عليه صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال فأعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتينا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم. وأما قوله: "إن لم يفروا قبل إحرازها" فوجهه أن هؤلاء مع الفرار لم يكن لهم أثر في تحصيل الغنيمة بل ما حصل بسبب فرارهم من الوهن الداخل على الغزاة المقاتلين أكثر مما حصل من التقوية بحضورهم قبل إحراز الغنيمة. قوله: "للراجل سهم ولذي الفرس لا غير سهمان". أقول: الحق ما ذهب إليه الجمهور من أنه يعطي الفارس مع فرسه ثلاثة أسهم والراجل سهما واحدا وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة الكثيرة ولم يرد دليل صحيح ولا حسن يدل على ما قاله المصنف من أن لذي الفرس مع فرسه سهمين فقط وغاية ما استدل به المصنف ومن قال بقوله حديث مجمع بن جارية الأنصاري قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما أخرجه أحمد وأبو داود وقد صرح الحفاظ بضعف إسناد هذا الحديث مع توهيم راويه حيث قال فيهم ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس ومع هذا فهو يمكن تأويل قوله فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما أنه أعطى الفارس سهم فرسه وذلك سهمان وله سهم ثالث مع سائر الرجال ويدل على أن هذا هو المراد أن ابن أبي شيبة روى هذا الحديث في مصنفه بهذا الإسناد فقال للفرس وأخرجه أيضا أحمد "14/79"، عن أبي أسامة وابن نمير معا بلفظ أسهم للفرس. والحاصل أنه يجب على كل حال تأويل ذلك اللفظ المذكور في حديث مجمع بن جارية

لأن الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه. وأما قوله: "إن حضر الوقعة بها ولو قاتل راجلا" فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لكل فارس وفرسه ثلاثة أسهم ولم يسأل هل قاتل عليها أم لا وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم. وأما قوله: "ومن مات" إلخ فلا حاجة إلى ذكره لأن ما صار إلى الميت يورث عنه من غير فرق بين الغنائم وغيرها. قوله: "ويرضخ وجوبا لمن حضر من غيرهم". أقول: لا دليل على مشروعية هذا الرضخ إلا ما تقدم في النساء والصبيان والعبيد وأما ممن عداهم فيجوز للإمام أن يخصص بعض من له قدم في الإسلام بشيء من الغنيمة كما في حديث أبي موسى المتقدم قريبا وأما ما يروى بلفظ: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" فلم يصح رفعه فلا تقوم به حجة. والحاصل أن الغنيمة قد صارت مستحقة للغانمين فإيجاب شيء فيها لغيرهم بل ندبه يحتاج إلى دليل بل لا يجوز أن يقال إن الرضح مباح لأنه تصرف في ملك الغير بغير أمره ولايجوز قياس غير النبي صلى الله عليه وسلم عليه لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. قوله: "ولا يطهر باستيلاء إلا ما ينجس بتذكيتهم أو رطوبتهم". أقول: وجه هذا ما أخرجه احمد وأبود اود من حديث جابر بن عبد الله قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولايعيب ذلك عليهم فالمصنف رحمه الله لما اعتقد نجاسة رطوبة الكفار ووقف على مثل هذا الحديث ظن أن الاستيلاء بمجرده يوجب الطهارة وليس الأمر كذلك وقد تقدم أنه لا وجه للقول بنجاسة الرطوبة وكذلك ما ينجس بالتذكية لا نفس المذكي فقد تقدم الكلام عليه في الذبائح. فإن قلت: حديث أبي ثعلبة الثابت في الصحيحين [البخاري "5496"، مسلم "1930"، وغيرهما قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل من آنيتهم؟ قال: "إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها"، يدل على وجوب غسلها قلت قد ثبت في رواية أحمد وأبي داود أنه قال في السؤال وأنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فالأمر بالغسل هو لهذا لا لمجرد الرطوبة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ في مزادة مشركة [البخاري "1/447، 448"، مسلم "682"، كما تقدم وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر وأجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة [مسلم "8/1641"] . قوله: "ومن وجد ما كان له" الخ. أقول: لم يثبت ما يدل على أنه يخرج من ملكه حتى يقال هو أولى به قبل القسمة وبعدها بالقيمة بل هو باق على ملك مالكه وأخذه منه على غير ما أذن به الشرع لا يترتب عليه حكم الملك أصلا فيأخذه قبل القسمة وبعدها ولا يلزمه شيء ويرجع من قد صار في نصيبه

بالقسمة على الغنيمة فيعطى منها بقدر ما استحق ولا فرق بين العبد وغيره وقد ثبت في الصحيح [مسلم "8/1641"، أن المشركين أخذوا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء فأخذتها امرأة من الأنصار كانت في أسرهم ورجعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت في الصحيح [البخاري "6/182"، أنه ذهب فرس لابن عمر فأخذه المشركون فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم فظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذه التكاليف إنما وقع المصنف فيها لما سيأتي من أنهم يملكون علينا وأن دار الحرب دار إباحة وسيأتي الكلام على ذلك. [فصل وما تعذر حمله أحرق والحيوان بعد الذبح ويقتل من كان يجوز قتله والسلاح يدفن أو يكسر ولا يملكون علينا ما لم يدخل دارهم قهرا ولا البغاة وغير ذي الشوكة من الكفار مطلقا] . قوله: "فصل: وما تعذر حمله أحرق". أقول: قد ثبت الإحراق والقطع في نخل بني النضير كما في الصحيحين [البخاري "7/329"، مسلم "29، 3/1746"، وغيرهما أبو داود "2615"، ابن ماجة "2845"، أحمد "2/8، 52، 80، 123، 140"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق ونزل في ذلك قوله عزوجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] ، الآية وثبت في الصحيحين [البخاري "3036، 6090"، مسلم "135، 2475"، وغيرهما ابن ماجة "159] ، أن جرير بن عبد الله حرق ذا الخلصة بالنار فبرك صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرية يقال لها ابنى فقال: "ائتها صباحا ثم حرق"، وفي إسناده ضعيف وقد ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور وليس معهم على المنع دليل ولا يصح التمسك بما في الموطأ عن أبي بكر أنه قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام "ولا تعقرن نخلا ولا تحرقه" فإن قول الصحابي لا تقوم به الحجة منفردا فكيف إذا خالف ما صح عن الشارع وقد تقدم في قوله: "ويحرق ويغرق ويخنق"، قيام الدليل على عدم جواز إحراق من استحق القتل من كافر وغيره وهكذا الحيوان لا يجوز تحريقه إلا بعد الذبح لورود النهي عن التعذيب بالنار وعن تعذيب خلق الله. وأما قوله: "ويقتل من يجوز قتله" فذلك ثابت بأدلة الكتاب والسنة وبإجماع المسلمين.

وأما قوله: "والسلاح يدفن أو يكسر" فإذا تعذر حمله عن بلاد العدو كان على الإمام أن يأمر المسلمين بإتلافه ونحوه من آلات الحرب بأي سبب من الأسباب المقتضية للتلف. قوله: "ويملكون علينا ما لم ندخل دارهم قهرا". أقول: التعرض لمثل هذا من فضول العلم التي لا تدعو إليها حاجة فإن كون الكافر يملك ما أخذه على المسلم ويخرج بذلك عن ملك المسلم لم يرد في كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع وإنما قال ما لم يدخل دارهم لأنه سيأتي أن دار الحرب دار إباحة فعلى هذا أنهم لا يملكون علينا إلا ما أخذوه ولم يجوزوه إلى دار الحرب وهذا من عجائب الأحكام وغرائب التفريع. وأما الاستدلال بما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "هل ترك لنا عقيل من رباع؟ " فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قد ملكها وغاية ما هنالك أنه صلى الله عليه وسلم ترك المطالبة للمشتري لها من عقيل ولا سيما وقد صاروا مسلمين عند أن قال صلى الله عليه وسلم هذه المقالة. وأما قوله: "ولا البغاة وغير ذي الشوكة" فظاهر ويجب أن يجعل الكفار وأرباب الشوكة مثل هؤلاء لا يملكون علينا. [فصل ودار الحرب دار إباحة يملك كل فيها ما ثبتت يده عليه ولنا شراؤه ولو والدا من ولد إلا حرا قد أسلم ولو ارتد ولا قصاص فيها مطلقا ولا تأرش إلا بين المسلمين وأمانهم لمسلم أمان لهم منه فلا يغنم عليهم ويرد ما اشتراه ممن غنمه بعد الأمان ولا يف بمحظور شرطه من لبث أو غيره وله استرجاع العبد الآبق ولغير المستأمن أخذ ما ظفر به ولا خمس عليه] . قوله: "فصل ودار الحرب دار إباحة" الخ. أقول: وجه هذا أن الله سبحانه أمرنا بقتال أهل الشرك وأباح لنا دماءهم وأموالهم ونساءهم فكانوا من هذه الحيثية على أصل الإباحة سواء وجدناهم في دارهم أو في غير دارهم وينبغي تقييد هذا الإطلاق بأن المسلم وماله إذا كان فيهما فعصمة دمه وماله باقية لا يجوز لأحد من المسلمين أن يخالف تلك العصمة لأن كون دار الحرب دار إباحة هي من تلك الحيثية التي ذكرناها لا مطلقا وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله: "إلا حرا قد أسلم". وأما جواز شراء ما أخذ من دار الحرب ممن هو في يده فذلك ظاهر لأن الآخذ له قد ملكه فإن كان الآخذ مسلما لم يصح قوله ولو والدا من ولد لأن المسلم مخاطب بأحكام الإسلام ومن جملتها عتق رحمه عليه وإن كان كافرا فلا بأس بشراء رحمه منه لأنه وإن كان

مخاطبا بالشرعيات فذلك باعتبار إثمه على تركها وأما صحتها منه في حال كفره فلا لأن الإسلام شرط. وأما قوله: "ولو ارتد" فوجهه ما تقدم من أن المرتد لا يسترق بل يطالب بالإسلام فإن فعل وإلا قتل. قوله: "ولا قصاص فيها مطلقا". أقول: هذا لا وجه له لا من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها فما أوجبه الله على المسلمين من القصاص ثابت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا ولا فرق بين القصاص وثبوت الأرش إلا مجرد الخيال المبني على الهباء فإن كل واحد منهما حق لآدمي محض يجب الحكم له به على خصمه وهو مفوض إلى اختياره وغاية ما ثبت في هذا ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من وضع الدماء التي وقعت في أيام الجاهلية وليس في هذا تعرض لدماء المسلمين فهي على ما ورد فيها من أحكام الإسلام ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص ولزوم الأرش. قوله: "وأمانهم لمسلم أمان لهم منه". أقول: لا ملازمة بين الأمانين لا شرعا ولا عقلا ولا عادة فيجوز للمسلم الداخل دارالحرب بأمان أهلها أن يأخذ ما قدر عليه من أموالهم ويسفك ما تمكن منه من دمائهم فلا يتم قوله فلا يغنم عليهم ولا قوله ويرد ما اشتراه ممن غنمه بعد الأمان. وأما قوله: "ولا يف بمحظور" إلخ فوجهه ظاهر لأن هذا الأمان هو في حكم المصالحة في قدر موته ولا يجوز الدخول في الصلح الذي يحل حراما أو يحرم حلالا كما ورد بذلك الدليل الصحيح وأيضا المحظور محظور بحكم الشرع فيكف يجوز شرطه للكفار فضلا عن إن يجوز الوفاء به لهم. وأما قوله: "وله استرجاع العبد الآبق" فقد قدمنا أنه يجوز له أن يأخذ من أموالهم ما قدر عليه فجواز أخذ عبد المسلم الذي أبق منه ثابت بفحوى الخطاب. وأما قوله: "ولغير المستأمن ما فظر به" فقد أغنى عنه ما تقدم من أنه يغنم من الكفار نفوسهم وأموالهم وما تقدم في أول هذا الفصل من قوله ودار الحرب دار إباحة. وأما قوله: "ولا خمس عليه" فلا يخفاك أنه إذا صدق على ما أخذه أنه غنيمة فقد دخل تحت قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] ، فلا بد من دليل يخصص هذه الصورة ولا دليل.

[فصل ومن أسلم في دارنا لم يحصن في دارهم إلا طفله لا في دارهم فطفله وماله المنقول إلا ما عند حربي غيره وأم ولد المسلم فيردها بالفداء ولو بقي دينا والمدبر بالفداء ويعتقان بموت الأول والمكاتب بالوفاء للآخر ولأوهم للأول] . قوله: "فصل: ومن أسلم في دارنا لم يحصن في دارهم" الخ. أقول: الإسلام عصمة لمال الرجل ولأولاده الذين لم يبلغوا فمن زعم أنه يحل شيء من مال من أسلم لكون المال في دار الحرب لم يقبل منه ذلك إلا بدليل يدل على النقل من عصمة الإسلام ولا دليل وقد قدمنا الإشارة إلى هذا في الكلام على دار الحرب. وإذا عرفت هذا علمت أنه لا حاجة إلى الاستدلال على هذا بما لا تقوم به الحجة فإن الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الكفار إذا تكلموا بكلمة الإسلام عصموا بها دماءهم وأموالهم يغني عن غيرها ومن غرائب الرأي المبني على غير صواب الفرق بين إسلام الكفار في دارنا وبين إسلامهم في دارهم وبين المال المنقول وغير المنقول فإن هذا ليس عليه أثارة من علم ويرد هذا الفرق ما أخرجه أحمد "4/210"، وأبو داود "3067"، بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على بني سليم أرضهم وقال: "إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله"، وأخرج سعيد بن منصور بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد بن سعيد فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار وفي الباب أحاديث. وكما أنه لا وجه لهذا كله لا وجه لقوله إلا ماله عند حربي فإن الإسلام يحصن جميع أمواله سواء كان في دار الإسلام أو في دار الحرب وسواء كانت عند مسلم أو عند حربي. وأما قوله: "وأم ولد المسلم فيردها بالفداء" فقد قدمنا لك أن مال المسلم يعود إليه على أي صفة كان ومماليكه الذين لم ينجز عتقهم من جملة أمواله فتخصيص أم الولد والمدبر والمكاتب بالذكر من عجائب الرأي المبني على الخيال وإيجاب الفداء على السيد ليس هو إلا بمجرد المحافظة على ما تقدم من أن الكفار يملكون علينا وقد عرفت ما فيه. وإذا تقرر لك هذا فلا حاجة لنا إلى الكلام على ما ذكره من التفصيل في العتق. [فصل والباغي من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو عزم أو منع منه أو منعه واجبا أو قام بما أمره إليه وله منعه وحكمهم جميع ما مر إلا أنهم لا يسبون ولا يقتل جريحهم ولا مدبرهم إلا ذا فئة أو لخشية العود كلكل مبغي عليه ولا يغنم من أموالهم

إلا الإمام ما أجلبوا به من مال وآله حرب ولو مستعارا لذلك إلا غصبا ولا يجوز ما عدا ذلك لكن للإمام فقط تضمينهم وأعوانهم حتى يستوفي الحقوق ولا ينقض له ما وصفوه من أموالهم في قربة أو مباح مطلقا أو محظور وقد تلف وللمسلم أخذ ما ظفر به من مال لله معهم لنفسه مستحقا أو ليصرف] . قوله: "فصل: والباغي من يظهر أنه محق" الخ. أقول: قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا فقال الله عزوجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ، وثبت في الصحيح أن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية فالباغي هو من خرج من طاعة الإمام التى أوجبها الله على عباده ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين ودفع مفاسدهم من غير بصيرة ولا على وجه المناصحة فإن انضم إلى ذلك المحاربة له والقيام في وجهه فقد تم البغي وبلغ إلى غايته وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته لقوله سبحانه: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات: 9] ، الآية وليس القعود عن نصرة المحق من الورع بعد قول الله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} . والحاصل أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس ولا دخل في الصلح كان القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به وأما مع اللبس فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريقا مخالفة لما يقتضيه الدليل فإنه ما زال المجتهدون هكذا ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله وقد قدمنا في أول كتاب السير هذا أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأما قوله: "أو منع منه" فوجهه أن المأمور إذا لم يدفع إلى الإمام ما يجب دفعه إليه فهو باغ من هذه الحيثية وهكذا إذا لم يطعه في واجب أوجبه الله عليه للإمام من جهاد أو ولاية بالحق أو نصيحة وهكذا إذا قام بما أمره إلى الإمام فإنه أقعد نفسه في المقعد الذي لا يصلح له إلا من ثبتت له الإمامة بمبايعة المسلمين فيكون من هذه الحيثية باغيا. قوله: "وحكمهم جميع ما مر". أقول: هذه الإحالة غير حسنة فإنه إذا لم يغنم من أهل البغي نفوسهم ولا أموالهم ولا يجوز فيهم الأحكام التي سيتذكرها كان غالب أحكامهم المخالفة لما مر في أحكام الكفار فلم يكن لهذه الكلية وجه لأنه لم يبق تحتها بعد الاستثناء إلا النادر من الأحكام.

وأما قوله: "إلا أنهم لا يسبون" فهذا معلوم لا يخالف فيه أحد من المسلمين أجمعين. وأما قوله: "ولا يقتل جريحهم ولا مدبرهم" فقد أخرج الحاكم وصححه البيهقي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "يا ابن أم عبد: ما حكم من بغى من أمتي؟ " قال: الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم"، وفي إسناده كوثر بن حكيم وهو ضعيف قال البيهقي هذا الحديث ضعيف انتهى ولكنه يقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ نادى منادي علي يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن قال ابن حجر قد صح عن علي من طرق وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وأخرج أيضا عن أبي فاختة أن عليا أتي بأسير يوم صفين فقال: لا تقتلني صبرا فقال: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين ثم خلى سبيله وفي الباب آثار كثيرة عن علي لأنه ابتلي بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم. قوله: "إلا ذا فئة أو لخشية العود". أقول: ظاهر الحديث المتقدم قريبا والآثار عن علي أنه لا يتبع مدبرهم ولم يثبت التقييد بأن لا يكون ذا فئة أو يخشى عوده فالواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة وإن كان الباغي هاربا إلى فئة أو خشي عوده وتخصيص الدليل بمجرد الرأي غير مقبول على أنه لا يحتاج إلى الاستدلال على عدم جواز قتل الهارب من البغاة بما ذكرناه بل يكفي في ذلك العصمة الإسلامية الثابتة بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" والباغي مسلم معصوم الدم والمال وإنما جاز قتاله ما دام باغيا مقاتلا لقوله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ، فلا يجوز قتال الباغي ولا مقاتلته إلا حال الحرب لا بعد الهرب رجوعا إلى العصمة الإسلامية. قوله: "كلكل مبغي عليه". أقول: ليس معنى البغي مختصا بنوع منه دون نوع أو بطائفة دون طائفة بل يشمل كل من حصل منه البغي سواء كان البغي منه على الإمام أو على طائفة من المسلمين أو على فرد من أفرادهم فإن ذلك يندرج تحت قوله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} . قوله: "ولا يغنم من أموالهم" الخ. أقول: البغاة مسلمون فاموالهم من غير فرق بين ما حضروا به معهم في القتال وما لم يحضروا به معصومة بالعصمة الإسلامية فمن ادعى أن شيئا منها قد خرج عن العصمة

الإسلامية فعليه الدليل على أنه قد تقدم عن أبي أمامة أنه قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريحهم ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وأما ما روي عن علي أنه قال يوم الجمل وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم فقد قال البيهقي إنه منقطع قال: والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا انتهى وأخرج البيهقي أيضا عن علي أنه كان لا يأخذ سلبا وبهذا تعرف أنه لا فرق بين ما أجلبوا به وما لم يجلبوا به وبين آلة الحرب وغيرها وبين المغصوب وغيره. قوله: "ولكن للإمام فقط تضمينهم وأعوانهم" الخ. أقول: هذا صواب لأنهم أخذوا هذه الأموال من غير حلها فجاز للإمام أن يأخذها منهم أو مثلها لأنه مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم وهذا منه ولا فرق بين أن يكون الذي أخذوه من أموال بني آدم أو من الأموال التي لبيت مال المسلمين لأن الكل مظلمة ومن استشكل مثل هذا وأورد في تأييد بحثه فيه ما لا يسمن ولا يغني من جوع فلم يصب. قوله: "ولا ينقض له ما وضعوه من أموالهم" الخ. أقول: قد قدمنا أن تضمينهم لما أخذوه ظلما وعدوانا حق ولكن ما تقربوا به من أملاكهم وأخرجوه عنهم قد وقع موقعه فليس للإمام أن ينقضه ويجعله عوضا عما أتلفوه لأن ذلك قد خرج عن أملاكهم وصار لمصرفه فلا يحل نقضه بحال وهكذا ما أخرجوه عن أملاكهم في مباح أو محظور لأن الذي أخرجوه لم يبق لهم فيه ملك وصار ملكا لمن قد صار في يده والخطاب عليهم في الضمان إنما هو في أملاكهم الباقية تحت أيديهم. وأما قوله: "وللمسلم أخذ ما ظفر به من مال الله معهم لنفسه" فلا وجه له بل يأخذه ويرده إلى بيت مال المسلمين ليصرفه الإمام في مصارفه وليس له أن يصرف في نفسه مع وجوده وإن كان مستحقا. [فصل ومن أرسل أو أمنه قبل نهي الإمام مكلف مسلم متمنع منهم دون سنة ولو بإشارة أو تعال لم يجز خرمه فإن اختل قيد رد مأمنه غالبا ويحرم للغدر ولا يمكن المستأمن من شراء آلة الحرب إلا بأفضل والبينة على المؤمن بعد الفتح إلا الإمام فالقول له] . قوله: "فصل: ومن أرسل" الخ. أقول: وجهه أن تأمين الرسل ثابت في الشريعة الإسلامية ثبوتا معلوما فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إليه الرسل من الكفار فلا يتعرض لهم أحد من أصحابه وكان ذلك طريقة مستمرة وسنة ظاهرة

وهكذا كان الأمر عند غير أهل الإسلام من ملوك الكفر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراسلهم من غير تقدم أمان منهم لرسله فلا يتعرض لهم متعرض. والحاصل أنه لو قال قائل: إن تأمين الرسل قد اتفقت عليه الشرائع لم يكن ذلك بعيدا وقد كان أيضا معلوما ذلك عند المشركين أهل الجاهلية عبدة الأوثان ولهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقهما"، قاله لرسولي مسيلمة أخرجه أحمد "3/487"، وأبو داود "2761"، فقوله: "لولا أن الرسل لا تقتل"، فيه التصريح بأن شأن الرسل أنهم لا يقتلون في الإسلام وقبله ومثل هذا ما ثبت في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال لرسولي مسيلمة: "لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما"، أخرجه أحمد "1/384"، وأبو داود "2762"، والنسائي والحاكم وفيه ابن مسعود قال فمضت السنة أن الرسل لا تقتل. وقوله: "أو أمته قبل نهي الإمام مكلف مسلم". أقول: الأدلة في هذا كثيرة جدا فمن ذلك حديث علي عند أحمد "1/122"، وأبي داود "4530"، والنسائي "8/24"، والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"، ومن ذلك ما أخرجه أحمد "2/191، 192، 211"، وأبو داود "2751"، وابن ماجه 2685، 2659"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ: "يد المسلمين على من عداهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم"، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا وأخرجه أيضا مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو أيضا متفق عليه من حديث علي بأول من هذا وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد دخل في قوله: "أدناهم" العبد والمرأة والصبي لكنه حكى ابن المنذر الإجماع على أن أمان الصبي غير جائز فكان هذا الإجماع مخرجا له من الدخول تحت ذلك اللفظ وأما المرأة فقال ابن المنذر أيضا أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة لتأخذ للقوم يعني تجير على المسلمين"، وأخرج أبو داود 2764"، والنسائي عن عائشة قالت إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز وثبت في الصحيحين [البخاري "357"، مسلم "336"، وغيرهما أبو داود "2763"، الترمذي "2735"، النسائي "1/126"، أحمد "6/343، 423، 425"، من حديث أم هانىء وأنها أجارت رجلا يقال له فلان بن هبيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانى". وأما العبد فهو داخل أيضا في قوله: "يسعى بذمتهم أدناهم" وقد أجاز أمانة الجمهور وقال أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانة وإلا فلا وأما اشتراط الإسلام فلكون الأدلة إنما دلت على

الأمان الصادر من المسلمين أو أحدهم وهكذا اشتراط أن يكون ممتنع منهم لأنه لو كان تحت حكمهم لم يجز أمانة لأنه في حكم أن المكره ولا بد في صحة الأمان من الاختيار. قوله: "دون سنة". أقول: لا دليل على هذا التوقيف بل المتعين الرجوع إلى ما في الأدلة من الإطلاق وقد جاءت بتصحيح الأمان ولم يقيد بوقت لكن يجوز للمسلمين أذا كان الأمان الواقع من أحدهم مطلقا أن يوقتوه وإن كان لمدة طويلة أن يجعلوه للمدة التي تقتضيها المصلحة فإن رضي من وقع له التأمين بذلك وإلا رد إلى مأمنه. وأما قوله: "ولو بإشارة" أو تعال فظاهر لأن المراد الإشعار بالتأمين بكل شيء يحصل به الشعور. وأما قوله: "لم يجز خرمه" فليس في هذا خلاف بين أهل الإسلام بل هو من ضروريات الدين وقد تكرر الأمر بالوفاء به والنهي عن عدم الوفاء به في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة وصح الذم للغادر والوعيد له في غير حديث. وأما قوله: "فإن اختل قيد رد مأمنه" فوجهه أن الأمان لم يصح والذي قد وقع الأمان له قد اعتقد صحته ولولا ذلك لم يأت إلينا فوجب على المسلمين إرجاعه إلى مأمنه ولا يحل لهم استحلال شيء من دمه أو ماله ولو كان التأمين له بعد نهي الإمام عن التأمين إذا كان من وقع له التأمين جاهلا للنهي. وأما قوله: "ويحرم للغدر" فقد أغنى عنه قوله لم يجز خرمه والوجه في هذا التحريم هو ما قدمنا. وأما قوله: "ولا يمكن المستأمن من شراء آلة الحرب" فوجه ذلك أنه يعود بها إلى دار الحرب فتكون قوة للكافرين على المسلمين إلا بأفضل فلا بأس لأن المصلحة في مثل ذلك كائنة وأما بما كان مماثلا له فالظاهر أنه لا بأس بذلك لأنها قد اندفعت المفسدة. قوله: "والبينة على المؤمن". أقول: أي على الذي وقع له التأمين ووجه ذلك أن الأصل عدم الأمان فالقول قول المنكر والبينة على المدعي ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الفتح أو بعده إلا أن يظهر من القرائن ما يثبت به الظاهر لمن وقع له التأمين فإن الظاهر مقدم على الأصل فيكون القول قوله كما تقدم. وأما قوله: "إلا الإمام فالقول له" فوجهه أن له أن ينشيء الأمان متى شاء فيكون القول قوله في تأمين من قد أمنه على كل حال.

[فصل وللإمام عقد الصلح لمصلحة مدة معلومة فيفي بما وضع ولو على رد من جاءنا مسلما ذكرا تخلية لا مباشرة أو بذل رهائن او أمال منا أو منهم ولا يرتهن مسلم وتملك رهائن الكفار بالنكث ويرد ما أخذ السارق وجاهل الصلح وبدي من قتل فيه ويؤذن في دارنا أنه إن تعدى السنة منع الخروج وصار ذميا فإن تعداها جاهلا خير الإمام] . قوله: "فصل: ويجوز للإمام عقد الصلح لمصلحة" الخ. أقول: وجه هذا أن الله سبحانه قال في كتابه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ، فدل ذلك على جواز المصالحة إذا طلبها الكفار وجنحوا إليها وقيل لا يحوز ذلك لقوله سبحانه: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} ولا يخفاك أنه لا معارضة بين الآيتين فإن الآية الأولى دلت على أن الكفار إذا جنحوا للسلم جنحنا لها والآية الأخرى دلت على عدم جواز الدعاء من المسلمين إلى السلم فالجمع بينهما بأنه يجوز عقد الصلح إذا طلب ذلك الكفار ولا يجوز طلبه من المسلمين إذا كانوا واثقين بالنصر وقد أوضحنا الكلام على الآيتين في تفسيرنا فليرجع إليه وقيل لا يجوز المصالحة أصلا وأن ما ورد في جوازها منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، ونحوها ولا وجه لدعوى النسخ وأيضا الجمع ممكن بأنهم يقتلون ويقاتلون ما لم يجنحوا إلى السلم. وأما كون المدة معلومة فوجهه أنه لو كان الصلح مطلقا أو مربدا لكان ذلك مبطلا للجهاد الذي هو من أعظم فرائض الإسلام فلا بد من أن يكون مدة معلومة على ما يرى الإمام من الصلاح فإذا كان الكفار مستظهرين وأمرهم مستعلنا جاز له أن يعقده على مدة طويلة ولو فوق عشر سنين وليس في ذلك مخالفة لعقدة صلى الله عليهو آله وسلم للصلح الوقع مع قريش عشر سنين فإنه ليس في هذا ما يدل على أنه لا يجوز أن تكون المدة أكثر من عشر سنين إذا اقتضت ذلك المصلحة. وأما قوله: "فيفي بما وضع" فهذا معلوم لا خلاف فيه والآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في هذا المعنى أكثر من أن تحصر. قوله: "ولو على رد من جاءنا مسلما". أقول: وجهه ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية مع قريش فإنهم شرطوا عليه أن يرد من جاء منهم مسلما فوفى لهم بذلك ووصل إليه بعد عقد الصلح وهو في الحديبية أبو جندل وأبو بصير فردهما كما هو في الصحيح وثبت أيضا في هذا الحديث أنهم أجازوا للنبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل فلم يرده إليهم وثبت في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد غليهم النساء لقوله عزوجل: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتجنة: 10] ، إلى آخر الآية وهكذا لم يرد إليهم العبيد كما أخرجه أبو داود "2700"،والترمذي "10/217، 218"، وقال حسن صحيح من حديث

علي قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا"، وأبى أن يردهم وقال: "هم عتقاء الله عز وجل" فقوله صلى الله عليه وسلم: "هم عتقاء الله"، يدل على أنهم يصيرون حرارا بفرارهم إلى المسلمين وهكذا لم يرد صلى الله عليه وسلم من هرب إليه من عبيد المشركين يوم الطائف ومنهم أبو بكرة كما في صحيح البخاري "8/45"، ومسند أحمد 14/112"، وغيرهما. وأما قوله: "تخلية لا مباشرة" فوجهه ظاهر لأن في المباشرة إعانة على منكر سوغته الضرورة فيجب التوقف على مجرد التخلية. واعلم أن إرجاع من فر من المشركين إلى المسلمين وأراد الدخول في الإسلام فيه من المخالفة لما تقتضيه الشريعة وتوجبه العزة الإسلامية ما لا يخفى فلا يجوز ذلك إلا عند أن يغلب على ظن الإمام أنه إذا لم يفعل ذلك وقع بالمسلمين من ضرر الكفار ما هو أعظم من ذلك واشد إضعافا للشوكة الإسلامية قواها الله سبحانه. وأما قوله: "أو على بذل رهائن أو مال" إلخ فإذا رأى الإمام في ذلك صلاحا فعله. وأما قوله: "ويرد ما أخذه السارق" إلخ فهذا ظاهر لأن مقتضى الصلح أن لا يقع شيء من ذلك. وأما قوله: "ويؤذن من في دارنا" إلخ فلا وجه للتوقيف بالسنة بل يجوز للإمام أن يصالحه على ما يرى فيه صلاحا وإن طالت المدة وغذا انقضت المدة رد إلى مأمنه وإذا تعدى المدة عامدا كان الإمام مخيرا في شأنه إذا تعداها جاهلا فإن جهله عذر له فيرد إلى مأمنه هكذا ينبغي أن يقال. [فصل ويجوز فك أسراهم بأسرانا ط لا بالمال ورد الجسد مجانا ويكره حمل الرؤوس وتحرم المثلة قيل ورد الأسير حربيا] . قوله: "فصل: ويجوز فك أسراهم بأسرانا". أقول: قد قال الله عزوجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، والفداء أعم من أن يكون بالمال أو بفك الأسرى منهم بالأسرى منا فإن ذلك كله فداء وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم فك أسير من بني عقيل بأسيرين من أصحابه كانا عند ثقيف كما في صحيح مسلم "1641"، وغيره الترمذي.

وأما قوله: "لا بالمال" فهذا مدفوع بما وقع منه صلى الله عليه وسلم في يوم بدر من أخذا لفداء من أسراء المشركين وهو أيضا مدفوع بالقرآن {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، ولا يعارضه قوله عزوجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] ، فإن غاية ما في هذه الآية تقديم الإثخان على الفداء وليس فيها أنه لا يجوز الفداء. وأما قوله: "ويجوز رد الجسد مجانا" فلا وجه للتقييد بقوله مجانا لأن أموال الكفار يجوز التسلف لها بكل ممكن وليس هذا من باب المبايعة حتى تدخل في بيع الميتة وبيع النجس. قوله: "ويكره حمل الرؤوس". أقول: إذا كان في حملها تقوية لقلوب المسلمين أو إضعاف لشوكة الكافرين فلا مانع من ذلك بل هو فعل حسن وتدبير صحيح ولا وجه للتعليل بكونها نجسة فإن ذلك ممكن بدون التلوث بها والمباشرة لها ولا يتوقف جواز هذا على ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن تقوية جيش الإسلام وترهيب جيش الكفار مقصد من مقاصد الشرع ومطلب من مطالبه لا شك في ذلك وقد وقع في حمل الرؤوس في أيام الصحابة وأما ما روي من حملها في أيام النبوة فلم يثبت شيء من ذلك. قوله: "وتحرم المثلة". أقول: الأحاديث في النهي عنها كثيرة جدا وقد قدمنا طرفا من ذلك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي من يبعثه من جيوش المسلمين للجهاد بالوصايا المشهورة ومنها أن لا تمثلوا. وأما قوله: "قيل: ويحرم رد الأسير حربيا" فلا وجه له فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى بدر وهم باقون على كفرهم وقد خير الله عباده بين المن والفداء كما في قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، ومقتضى جواز أخذ الفداء أن يرجعوا على دينهم الذي كانوا عليه لأنهم لو أسلموا لم يؤخذ منهم الفداء بل يجوز للإمام أن يرد الأسير حربيا بدون فداء إذا رأى في ذلك صلاحا وهو مقتضى التخيير بين المن والفداء فإن المن هو أن يمن عليه بفك أسره وإرجاعه إلى قومه إلى ما كان عليه وقد وقع ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم في غير موطن. [فصل ويصح تأبيد صلح العجمي والكتابي بالجزية ولا يردون حربيين ويلزمون زيا يتميزون به فيه صغار من زنار ولبس غيار وجز وسط الناجية ولا يركبون على الأكف إلا عرضا ولا يظهرون شعارهم إلا في الكنائس ولا يحدثون بيعة ولهم تجد يد ما

خرب ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة ولا يظهرون الصلبان في أعيادهم إلا في البيع ولا يركبون الخيل ولا يرفعون دورهم على دور المسلمين ويبيعون رقا مسلما شروه ويعتق بإدخالهم إياه دار الحرب قهرا] . قوله: "فصل: ويصح تأبيد صلح العجمي والكتابي بالجزية". أقول: ظاهر الأدلة يقتضي أن بذل الجزية من أي كافر يوجب الكف عن مقاتلته وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الأمراء من أصحابه بالجيش على الطوائف المختلفة فيذكر في جملة ما يوصيهم به أنهم إذا بذلوا الجزية قبل منهم ذلك كما في حديث بريدة عند مسلم وغيره قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أميرا على جيش أو سرية ثم ذكر فيه: "فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، فإن قوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امر أميرا على جيش أو سرية يدل عى أن هذا كان شأنه في كل جيش يبعثه ولا ينافي هذا قوله تعالى في أهل الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فإن أهل الكتاب هم نوع من أنواع الكفار الذين يجب الكف عن قتالهم إذا أعطوا الجزية ولا ينافي ذلك أيضا ما ورد من الأمر بقتال المشركين في آية السيف وغيرها فإن قتالهم واجب إلا أن يعطوا الجزية فإنه يجب الكف عنهم كما يجب الكف عنهم إذا أسلموا ولا ينافي هذا التعميم ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب لأن غايته أنها لا تجوز مصالحتهم بالجزية في جزيرة العرب وذلك لا ينافي جواز المصالحة لهم بضرب الجزية عليهم إذا كانوا في غير جزيرة العرب. والحاصل أن من ادعى أن طائفة من طوائف الكفار لا يجوز ضرب الجزية عليهم بل يخيرون بين الإسلام والسيف فعليه الدليل ولا دليل تقوم به الحجة إلا ما ورد في المرتد كما قدمنا وكما سيأتي إن شاء الله. وأما قوله: "ولا يردون حربيين" فقد تقدم قريبا أن التخيير بين المن والفداء يفيد أنه يجوز ردهم حربيين بعد المن عليهم أو بعد أخذ الفداء منهم ولم يرد ما يدل على المنع من هذا وغاية ما هنا أنهم عند تسليم الجزية في أمان أهل الإسلام بتسليم ما يستحقون به عصمة دمائهم وأموالهم وهو الجزية وقد تقدم أن المؤمن يرد إلى مأمنه فإذا أراد الإمام ردهم إلى دار الحرب كان له ذلك لمصلحة يراها كما كان له أن يرد الأسرى حربيين. قوله: "ويلزمون زيا يتميزون به فيه صغار" الخ. أقول: وجهه أن الله سبحانه قد قال في كتابه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فهذه الجملة الحالية قد أفادت أنه ينزل بهم ما فيه صفار في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك من شؤونهم ويمنعون مما يخالف الصغار وهو التشبه بالمسلمين في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك وقد أخذ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهدا ذكر فيه ما يعتمدون عليه في حالهم ومالهم وكنائسهم ومن جملته أنهم لا يتشبهون بالمسلمين في ملبوساتهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر وفيه أنهم يجزون

مقاديم رؤوسهم وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهرون صليبا ولا شيئا من كتبهم في طريق المسلمين وفيه أنهم لا يضربون ناقوسا إلا ضربا خفيفا ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة في شيء من حضرة المسلمين وهذا العهد العمري أخرجه ابن حزم عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها ديرا ولا كنيسة وفيه أنهم لا يجدون ما خرب منها. والحاصل أن إلزامهم بما ذكره المصنف وما ذكره غيره من الفقهاء قد دلت عليه الآية القرآنية المتقدمة وكفى بها. قوله: "ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة". أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما [البخاري "6/170"، 8/132"، مسلم "20/1637"، أبو داود "3030"، الترمذي "1607"] ، عن جماعة من الصحابة قد تضمنت الأمر للأمة بإخراج اليهود من جزيرة العرب فلا وجه لمنعهم من سكون غيرها وإلزامهم أن يسكنوا في خططهم فإنهم قد صاروا بتسليم الجزية والتزام الصغار أهل ذمة ووجب على المسلمين رعايتهم وحفظ دمائهم وأموالهم وتركهم يسكنون حيث أرادوا في غير جزيرة العرب ولا ينافي الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب ما ورد في حديث آخر من الأخر بإخراجهم من الحجاز كما أخرجه أحمد "1/195"، من حديث أبي عبيدة بلفظ: "أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب"، فإن ذلك هو من التنصيص لعى بعض أفراد العام وقد تقرر في الأصول أنه لا يصلح للتخصيص وهو الحق وغاية ما فيه الدلالة على تأكيد الأمر في ذلك الخاص لتخصيصه بالنص عليه وحده ومثل هذا لا يوجب إهمال دلالة الدليل على ما عداه. وأما قوله: "إلا لمصلحة" فهو من التخصيص للدليل الصحيح بنوع من أنواع المناسب المذكورة في علم الأصول ولا يصلح لذلك فقد قرر أهل الأصول أنفسهم أن من شرط العمل به أن لا يصادم دليلا وهو هنا قد صادم الدليل. وأما قوله: "ولا يظهرون الصلبان في أعيادهم إلا في البيع" فقد تقدم في العهد العمري أنهم لا يظهرون صليبا ولا شيئا من كتبهم في طريق المسلمين ولا منع من إظهار ذلك كنائسهم حيث لم يحضرهم أحد من المسلمين. وأما قوله: "ولا يركبون الخيل" فوجهه أنه يخالف الصغار وفي العهد العمري أنهم لا يركبون سراجا ولا يتقلدون سيفا ولا يتخذون شيئا من السلاح. وأما قوله: "ولا يرفعون دورهم على دور المسلمين" فوجهه أيضا أن ذلك يخالف الصغار. واما قوله: "ويبيعون رقا مسلما شروه" فوجهه أيضا أن ثبوت ملكهم للعبد المسلم يخالف الصغار أيضا لأنه واحد من المسلمين وللمالك على ملكه من العزة والعلو ما هو عكس معنى

الصغار وأيضا هو من سبيل على المؤمنين وقد قال عزوجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ، وأما قوله: "ويعتق بإدخالهم إياه دار الحرب قهرا" فوجهه ما تقدم من أن دار الحرب دار إباحة يملك كل فيها ما تثبت يده عليه فإذا ثبتت يده على نفسه صار حرا ووجه التقييد بقوله قهرا أنه إذا دخلها راضيا مختارا كان ذلك قادحا في إسلامه مبطلا لحرمته. [فصل وينتقض عهدهم بالنكث من جميعهم أو بعضهم إن لم يبايتهم الباقون قولا وفعلا وعهد من امتنع من الجزية إن تعذر إكراهه قيل أو نكح مسلمة أو زنا بها أو قتل مسلما أو فتنة أو دل] .على عورته أو قطع طريقا قوله: "فصل: وينتقض عهدهم بالنكث" الخ. أقول: ثبوت الذمة لهم مشروط بتسليم الجزية والتزام ما ألزمهم به المسلمون من الشروط فإذا لم يحصل الوفاء بما شرط عليهم عادوا إلى ما كانوا عليه من إباحة الدماء والأموال وهذا معلوم ليس فيه خلاف وفي آخر العهد العمري فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل العناد والشقاق انتهى وهذا الانتقاض لعهدهم إذا كان من جميعهم فأمره واضح وأما إذا كان من بعضهم فليس على الآخرين إلا مباينتهم كما قال المصنف فإن لم يفعلوا لم تكن مجرد المخالطة نقضا لعهد من لم ينكث إلا أن يظهر منهم الرضا بذلك النكث والموافقة للناكثين. وأما قوله: "وعهد من امتنع من الجزية" فوجهه ظاهر فإنها هي السبب الأكبر في حقن دمائهم وعصمة أموالهم ولا وجهه للتقييد بقوله إن تعذر إكراهه لأنه قد صار بالامتناع من الجزية غير ذمي فيحل منه ما يحل من الحربي وهو قد صار بهذا الامتناع كما قال الشاعر: فكنت كالساعي إلى متعب ... موائلا من سبل الراعد قوله: "قيل أو نكح مسلمة" الخ. أقول: إذا فعل الذمي ما يستباح به دم المسلم كان دمه حلالا بفحوى الخطاب وذلك كأن يطعن في الإسلام أو يسب نبينا صلى الله عليه وسلم وأما هذه الأمور التي ذكرها المصنف حاكيا لها عن الغير فإن كان قد أخذت على الذمي في عهده فقد حل دمه بمجرد المخالفة للعهد المأخوذ عليه وإن لم يؤخذ عليه في عهده كان مستحقا لما يوجبه عليه الشرع في ذلك الفعل فيقتل إن قتل مسلما ويحد إن زنا بمسلمة ويحد حد المحارب إن قطع طريقا ويفرق بينه وبين المسلمة التي نكحها

مع التعزير له ولها إن كانا معتقدين صحة ذلك وكذلك يعزر إن فتن مسلما إذا لم تكن الفتنة له بشيء مما يرجع إلى الطعن في الدين فهكذا ينبغي أن يقال. [فصل ودار الإسلام ما ظهرت فيه الشهادتان والصلاة ولم تظهر فيها خصلة كفرية ولو تأويلا إلا بجوار وإلا فدار كفر وإن ظهرتا فيها خلاف م وتجب الهجرة عنها وعن دار الفسق إلى خلي عما هاجر لأجله أو ما فيه دونه بنفسه وأهله إلا لمصلحة أو عذر ويتضيق بأمر الإمام] . قوله: "فصل ودار الإسلام" الخ. أقول: الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية وإذا كان الأمر العكس فالدار بالعكس. وأما قوله: "ولو تأويلا" فباطل من القول وخطل من الرأي فإن هذه المسائل التي اختلف فيها أهل الإسلام وكفر بعضهم بعضا تعصبا وجرأة على الدين وتأثيرا للأهوية لو كان ظهورها في الدار مقتضيا لكونها دار الكفر لكانت الديار الإسلامية بأسرها ديار كفر فإنها لا تخلوا مدينة من المدائن ولا قرية من القرى من ذاهب إلى ما تذهب إليه الأشعرية أو المعتزلة أو الماتريدية وقد اعتقدت كل طائفة من هذه الطوائف ما هو كفر تأويل عند الطائفة الأخرى وكفاك من شر سماعه والحق أنه لا كفر تأويل أصلا وليس هذا موضع البسط لهذه المسألة فخذها كلية تنج بها من موبقات لا تحصى ومهلكات لا تحصر وسيأتي عند الكلام على قوله والمتأول كالمرتد ما ينبغي أن يضم إلى ما هنا لتكمل الفائدة. واعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر قليل الفائدة جدا لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب وأن الكافر الحربي مباح الدم والمال على كل حال ما لم يؤمن من المسلمين وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الإسلام في دار الحرب وغيرها وإن كانت الفائدة هي ما تقدم من كونهم يملكون علينا ما دخل دراهم قهرا فقد أوضحنا لك هنالك أنهم لا يملكون علينا شيئا وإن كانت الفائدة وجوب الهجرة عن دار الكفر فليس هذا الوجوب مختصا بدار الكفر بل هو شريعة قائمة وسنة ثابتة عند استعلان المنكر وعدم الاستطاعة للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم وجود من يأخذ على أيدي المنتهكين لمحارم الله فحق على العبد

المؤمن أن ينجو بنفسه ويفر بدينه إن تمكن من ذلك ووجد أرضا خالية عن التظاهر لمعاصي الله وعدم التناكر على فاعلها فإن لم يجد فليس في الإمكان أحسن مما كان وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه كما أرشد إلى ذلك الصادق المصدوق فيما صح عنه وإذا قدر على أن يغلق على نفسه بابه ويضرب بينه وبين العصاة حجابه كان ذلك من أقل ما يجب عليه وقد أوضحت أمر الهجرة وما هو باق منها وما قد نسخ في شرحي للمنتقى فليرجع إليه. وأما ما ذكره المصنف من إثبات دار الفسق تقليدا لمن شذ من المعتزلة فلا وجه لذلك أصلا ولا تتعلق به فائدة قط وإن زعم ذلك من لم يكن مستبصرا. واما قوله: "إلا خلى عما هاجر لأجله" فوجهه ظاهر لأن الانتقال من شر إلى شر ومن دار عصاة إلى دار عصاة ليس فيه إلا إتعاب النفس بقطع المفاوز فإن كان التظاهر بالمعاصي في غير بلده أقل مما هو ببلده كان ذلك وجها للهجرة وفي الشر خيار. وأما قوله: "إلا لمصلحة" فوجهه ظاهر فإنها إن كانت المصلحة العائدة على طائفة من المسلمين ببقائه ظاهرة كأن يكون له مدخل في بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في تعليمه معالم الخير بحيث يكون ذلك راجحا على هجرته وفراره بدينه فإنه يجب عليه ترك الهجرة رعاية لهذه المصلحة الراجحة لأن هذه المصلحة الحاصله له بالهجرة على الخصوص تصير مفسدة بالنسبة إلى المصلحة المرجوة بتركه للهجرة. وأما كون الهجرة تتضيق بأمر الإمام بها فوجهه ما قدمنا من وجوب طاعة الأئمة فيما يأمرون به من الطاعة والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جدا. [فصل والردة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كفري وإن لم يعتقد معناه إلا حاكيا أو مكرها ومنها السجود لغير الله وبها تبين الزوجة وإن تاب لكن ترثه إن مات أو لحق في العدة وباللحوق في تعتق أم ولده ومن الثلث مدبرة ويرثه ورثته المسلمون فإن عاد رد له ما لم يستهلك حسا أو حكما. وحكمهم أن يقتل مكلفهم إن لم يسلم ولا تغنم أموالهم ولا يملكون علينا إلا ذوي شوكة وعقودهم قبل اللحوق لغو في القرب وصحيحة في غيرها موقوفة وتلغو بعده إلا الاستيلاد ولا تسقط بها الحقوق ويحكم لمن حمل به في الإسلام به وفي الكفر به ويسترق ولد الولد وفي الولد تردد والصبي مسلم بإسلام أحد أبويه وبكونه

في دارنا دونهما ويحكم للملتبس بالدار والمتأول كالمرتد وقيل كالذمي وقيل كالمسلم] . قوله: "فصل: والردة باعتقاد" الخ. أقول: اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" هكذا في الصحيح [البخاري "10/514"] ، وفي لفظ آخر في الصحيحين [البخاري "6045"، مسلم "61"] ، وغيرهما: "من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"، أي رجع وفي لفظ في الصحيح: "فقد كفر أحدهما"، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله عزوجل: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] ، فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، [البخاري "3/573"] ، ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر؟ قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر فهو كما قال ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا فهذا يقود إليه العقل فضلا عن الشرع ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب وقد أمكن هنا بما ذكرناه فتعين المصير إليه فحتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح بالكفر صدرا ويقصر ما ورد مما تقدم على موارده وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق: يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح وأما قوله: "إلا حاكيا أو مكرها" فالأمر فيه واضح ووجهه بين وكيف يحكم بالكفر على من حكى قولا كفريا صدر من كافر فإن القرآن الكريم قد اشتمل على ما لا يأتي عليه الحصر من حكاية ما هو كفر بواح من أقوال الكفار وهكذا لا يحكم بكفر من كفر مكرها فقد

استثناه القرآن الكريم بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] ، وكفى به. وأما قوله: "ومنها السجود لغير الله" فلا بد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصدا لربوبية من سجد له فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عزوجل وأثبت معه آلاها آخر وأما إذا لم يقصد إلا مجرد التعظيم كما يقع كثيرا لمن دخل على ملوك الأعاجم أنه يقبل الأرض تعظيما له فليس هذا من الكفر في شيء وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام فمن أراد المخاطرة بدينه فعلى نفسه تجنى براقش. قوله: "وبها تبين الزوجة". أقول: وجه ذلك اختلاف الملتين وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة بما يدل على ذلك على تفصيل في ذلك قد تقدم في النكاح عند قول المصنف وينفسخ بتجدد اختلاف الملتين فليرجع إليه. وأما قوله: "لكن يرثه صاحبه إن مات أو لحق" فالظاهر أن مال المرتد باق على ملكه ولم يرد ما يدل على أنه يخرج عن ملكه بمجرد الردة فإن مات كان ماله لمن يستحق ميراثه في حال كفره وإن لحق بدار الحرب صار له مال كأموال أهل دار أهل الحرب في الإباحة ومن زعم أن ماله يخرج عن ملكه بمجرد الردة من غير لحوق فعليه الدليل. وأما كونها تعتق أم ولده ومدبرة فوجهه ظاهر لأنه قد أوقع سبب عتقها في حال إسلامه فاستحاق تنجيز ذلك. وأما كونه يرثه ورثته المسلمون فلا أعرف لهذا وجها ولا أجد عليه دليلا والأدلة مصرحة بأنه لا توارث بين مسلم وكافر على العموم ولا يصلح للتخصيص إلا دليل تقوم به الحجة ولا حجة فيما يروى عن بعض الصحابة فإن ذلك محمول على الاجتهاد واجتهاد الصحابي لا يخصص ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين. وأما قوله: "فإن عاد رد ما لم يستهلك حسا أو حكما" فلا وجه لهذا الرد فقد خرج المال عن ملكه باللحوق فإن كان قد ثبتت عليه يد أحد المسلمين فقد استحقه وصار ملكا له فلا ينزع عنه إلا بوجه يوجب رفع ما دخل به في ملكه وأما إذا عاد المرتد إلى الإسلام قبل لحوقه فقد عرفناك أن ماله باق على ملكه فمن أتلف شيئا منه ضمنه وما كان باقيا فهو باق على ملكه. قوله: "وحكمهم أن يقتل مكلفهم إن لم يسلم". أقول: وجهه ما أخرجه البخاري "6/149"، وأحمد "1/217، 282"، وأهل السنن أبو داود "4351"، الترمذي "1458"، النسائي "7/104"، ابن ماجة "2535"، من حديث ابن عباس بلفظ: "من بدل دينه فاقتلوه"، وما في الصحيحين [البخاري "12/268"، مسلم "1733"] ، من حديث أبي موسى في بعض المرتدين أنه قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ومن أدلة قتل المرتد حديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث"، وقد تقدم وفي الباب أحاديث وقتل المرتد إن لم يرجع إلى الإسلام مجمع عليه ويؤيد هذا قوله عزوجل: {وَمَنْ

يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلا عمران: 58] ، فإن مقتضى هذه الآية أنه لا يقبل منه إلا الإسلام فإن لم يفعل قتل لأنه لو ترك مرتدا لكان قبل قبل منه غير دين الإسلام ولا فرق بين الذكر والأنثى لعموم قوله ومن يبتغ وقوله من بدل دينه ولم يثبت ما يدل على تخصيص الإناث. واما قوله: "ولا تغنم أموالهم" فقد عرفناك مما قدمنا أنها قبل اللحوق باقية في ملكهم وبعد اللحوق يصير فيئا لمن يسبق إليهم. وأما قوله: "ولا يملكون علينا" إلخ فقد قدمنا أن أهل الحرب لا يملكون علينا والمرتدون مع اللحوق حكمهم حكمهم. وأما قوله: "وعقودهم قبل اللحوق لغو في القرب" فوجه ذلك أنه صار بالردة كافرا قبل لحوقه ولا قربة لكافر. وأما قوله: "صحيحة في غيرها موقوفة" فلا وجه لقوله موقوفة لأن ماله باق على ملكه قبل لحوقه فيصح منه كل تصرف فيه. وأما قوله: "فيلغو بعده" فصحيح لأن ماله قد خرج عن ملكه باللحوق. وأما قوله: "إلا الاستيلاد" فمراد المصنف أنه إذا كان قد استولد أمة له قبل أن يرتد فإن هذا لا يلغي لأنه قد فعل السبب مسلما فلا وجه لإلغائه وقد أغنى عنه ما تقدم من قوله: "وباللحوق تعتق أم ولد". قوله: "ولا يسقط بها الحقوق". أقول: الحقوق الثابتة عن المرتد من دين أو نحوه باقية في ذمته وهي باقية في ملك مالكها فلا يجوز الحكم عليه بأنها قد خرجت عن ملكه بارتداد من هي عليه لأن المرتد وإن فارق دينه فهو لم يتخلص مما هو عليه بوجه يقتضي السقوط فيدفع ذلك من ماله الذي تركه ببلاد الإسلام فإن لم يكن له مال كان لمن له الحق مطالبته به متى ظفر به. قوله: "ويحكم لمن حمل به في الإسلام به" الخ. أقول: لا فرق بين من حمل به في الإسلام ومن حمل به في الكفر أنهما يولدان على الإسلام لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية فالمولود من الكفار مطلقا يولد على الفطرة الإسلامية حتى يعرب عنه لسانه فإن كفر فأبواه هما اللذان كفراه وقد أخرج أحمد عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإن أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا". وأما قوله: "ويسترق ولد الولد" الخ فلا وجه له بل هذاالولد الذي حمل به في الإسلام

أو الكفر إذا اختار الكفر جاز استرقاقه فضلا عن استرقاق ولده ولا وجه للتردد وقد قدمنا البحث عن هذا في استرقاق كل كافر من غير فرق بين عربي وعجمي. قوله: "والصبي مسلم بإسلام أحد أبويه". أقول: إذا كان مولودا على الفطرة الإسلامية وكان ذلك كافيا في الحكم له بالإسلام فإسلامه مع إسلام أحد أبويه أظهر وأظهر ولا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص هذه الصورة وهكذا لا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص قوله وبكونه في دارنا دونهما لأنه قد اجتمع له الولادة على الفطرة والكون في دار الإسلام فكان من جملة من يحكم له بالإسلام بالسببين المذكورين كما استحق من أسلم أحد أبويه أن يحكم له بالإسلام بالسبيين وهما الولادة على الإسلام مع إسلام أحد أبويه وقد كان أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فمع إسلام أحدهما قد صار داعيا إلى الإسلام كما صار بدعوة الآخر إلى الكفر وداعي الإسلام أرجح وأقدم لأن الإسلام يعلو ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. وأما قوله: "وللملتبس بالدار" فلا وجه له بل ينبغي الحكم للملتبس بالإسلام لأنه مولود على الفطرة كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم. قوله: "والمتأول كالمرتد" الخ. أقول: ها هنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنة ولا لقرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان بل لما غلت مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب البقيعة فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزىء بمثلها سبيل المؤمنين وأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عزوجل وحصة من الغيرة الإسلامية قد علمت وعلم كل من له علم بهذا الدين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام [مسلم "1/8"] ، قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه: "أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وشهادة أن لا إله إلا الله"، والأحاديث بهذا المعنى متواترة فمن جاء بهذه الأركان الخمسة وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائنا من كان فمن جاءك بما يخالف هذا من ساقط القول وزائف العلم بل الجهل فاضرب به في وجهه وقل له قد تقدم هذيانك هذا برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه: دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر وكما أنه قد تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام فقد حكم لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره بالإيمان وهذا منقول عنه نقلا متواترا فمن كان هكذا فهو المؤمن حقا وقد قدمنا قريبا ما ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه

يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح فكيف إخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية فإن هذه جناية لا تعدلها جناية وجرأة لا تماثلها جرأة وأين هذا المجترىء على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وهو ثابت في الصحيح [البخاري "13"، مسلم "45"] ، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح [مسلم "32/2564"، أيضا: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضا: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"، وهو أيضا في الصحيح وكم يعاد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية والهداية بيد الله عزوجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] . [فصل وعلى كل مكلف مسلم الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا ولو بالقتل إن ظن التأثير والتضيق ولم يؤد إلى مثله أو أنكر منه أو تلفه أو عضو منه أو مال مجحف فيقبح غالبا ولا يخشن إن كفى اللين ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه ولا غير ولي على صغير بالإضرار إلا عن إضرار] . قوله: "فصل: ويجب على كل مكلف الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا". أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين والركنان الكبيران من أركانه ولا يتسع لما ورد في ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية إلا مؤلف مستقل وهو مجمع على وجوبهما إحماعا من سابق هذه الأمة ولاحقها لا يعلم في ذلك خلاف وإنما وقع الخلاف بينهم في قيود قيدوا بها هذا الوجوب وسيأتي الكلام عليها. وإذا عرفت هذا كان كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكرا أن يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور كون هذا الشيء منكرا يحصل بكونه مخالفا لكتاب الله سبحانه أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو لإجماع المسلمين ثم إذا كان قادرا على تغييره بيده كان ذلك فرضا عليه ولو بالمقاتلة وهو إن قتل فشهيد وإن قتل فاعل المنكر فبالحق والشرع قتله ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها فإن كان غير قادر على الإنكار باليد أنكر باللسان فقط وذلك فرضه فإن لم يستطع الإنكار باللسان

أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف الإيمان كما قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وبهذا تعرف أن اشتراط ظن التأثير إنما هو في الإنكار باليد ثم في الإنكار باللسان وأما الإنكار بالقلب فهو فرض على كل مسلم ولا يحتاج إلى تقييده بظن التأثير لأنه أمر كائن في القلب لا يظهر في الخارج ولا يحصل به تأثير. وأما قوله: "والتضيق" إلخ فوجه ذلك أنه لا يكون الشيء منكرا من فاعله إلا عند فعله أو عند الشروع في مقدماته ولكنه إذا ظن أن المنكر لا محالة واقع من فاعله ولو بعد حين كان عليه أن ينكر وإن لم يحضر وقت فعله لأن الكف عنه قبل الشروع فيه أو الانتهاء لفعله أقطع لعرقه وأحسم لمادته. قوله: "إن لم يؤد إلى مثله أو أنكر منه". أقول: اعتبار هذا الشرط منه فإنه إذا كان القيام في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تجريء من وقع الأمر أو النهي له كما يفعل ذلك كثير من الظلمة الذين لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا ينزجرون بزواجر الله بل يجاوزون ما هم فيه إلى ما هو أشد منه قمعا لمن ينكر عليهم وسدا لباب إقامة حجة الله عليهم وحسما لمادة موعظة الواعظين لهم وقطعا لذريعة المناصحة من الناصحين وتأييسا للمظلومين على الفرج فلا يطمعون بعدها في الالتجاء إلى أهل العلم والفضل فها هنا يحق السكوت والرجوع إلى الإنكار بالقلب لأن التعرض للإنكار باليد واللسان ينشأ عنه اتساع دائرة المنكر على المظلومين ويحل بهم زيادة على ما هم فيه من المصيبة النازلة بهم وفي الشر خيار وقد ارتفع الوجوب بل ارتفع الجواز لأنه يوجب حدوث مظلمة مع تلك المظلمة ومنكمع ذلك المنكر ومن أعظم ما يؤدي إليه الإنكار أن يفضي إلى تلف نفس المنكر أو عضو منه أو يذهب بماله مع عدم حصول التأثير الذي هو المطلوب بالإنكار وأي تأثير وقد تضاعف بسببه الشر وتزايد لأجله الظلم وانتهكت حرمة مع الحرمة وانضمت مصيبة إلى مصيبة بخلاف ما قدمنا من أنه يجب عليه المقاتلة إذا لم يمكن التقيد إلا بها فإنه هنالك على ثقة من التأثير وتمام ما تصدى له وأقل الأحوال أن يحصل معه الاحتمال وأما هنا فقد انقطع طمعه وارتفع رجاؤه مع ما انضم إلى ذلك من التأدية إلى ما هو أنكر منه. قوله: "ولا يخشن إن كفى اللين". أقول: وجه هذا أنه يجب التوقف في الإنكار على قدر الحاجة وقد حصل المطلوب هنا بدون التخشين فالانتقال إلى التخشين مع تأثير التليين انتقال لم يأذن الله به ولا اقتضته الضرورة وقد أشار إلى سلوك هذا المسلك قول الله عزوجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، فإذا كان الله سبحانه قد أرشد رسله إلى التأدب بهذا الأدب مع أكفر الكفرة وأعظم العتاة المتمردين عليه فسلوكه مع القائمين مقام الإنكار الذين هم غير رسل مع بعض العصاة أو الظلمة من المسلمين أولى وأحق وأقدم وألزم.

قوله: "ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه". أقول: هذه المقالة قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما بالمثابة التي عرفناك والمنزلة التي بيناها لك وقد وجب بإيجاب الله عزوجل وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع والنهي عما هو منكر من منكراته ومعيار ذلك الكتاب والسنة فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفا وينهي عما هو فيهما أو في أحدهما منكرا وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاثم على العامل به ثانيا وهذه الشريعة الشريفة التي أمرنا بالأمر بمعروفها والنهي عن منكرها هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة وأما ما حدث من المذاهب فليست بشرائع مستجدة ولا هي شرائع ناسخة لما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وإنما هي بدع ابتدعت وحوادل في الإسلام حدثت فما كان فيها موافقا للشرع الثابت في الكتاب والسنة فقد سبق إليه الكتاب والسنة وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة فهو رد على قائله مضروب به في وجهه كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة التي منها: "كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد" فالواجب على من علم بهذه الشريعة ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفا وينهى عما علمه منكرا فالحق لا يتغير حكمه ولا يسقط وجوب العمل به والأمر بفعله والإنكار على من خالفه بمجرد قول قائل أو اجتهاد مجتهد أو ابتداع مبتدع. فإن قال تارك الواجب أو فاعل المنكر قد قال بهذا فلان أو ذهب إليه فلان أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلانك بل قال لنا في كتابه العزيز: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمرنا الله سبحانه في كتابه بالرد إليهما عند التنازع. قوله: "ولا غير ولي على صغير بالإضرار إلا لإضرار". أقول: وجه هذا أن قلم التكليف مرفوع عن الصغير فإذا رآه يعمل معصية من المعاصي فتلك إنما هي معصية بالنسبة إلى المكلفين لا إلى من لا تكليف عليه لكنه يحول بينه وبينها لأنه إذا اعتاد الإقدام عليها قبل التكليف هان عليه مقارنتها بعد التكليف والولي أقدم من غيره ثم أهل الولايات ثم سائر الناس وأما إذا أقدم الصغير والمجنون على بدن الغير أو على ماله وجب علينا الدفع عنه لأن بدنه وماله معصومان بعصمة الإسلام وترك الصبي أو المجنون يفعلان ذلك منكر لا بالنسبة إليهما بل بالنسبة إلينا ونحن مأمورون بإنكار المنكر بل يجب ذلك علينا ولو كان فاعله من غير بني آدم فإن الدابة إذا أقدمت على بدن المسلم أو ماله كان حقا علينا أن ندفعها عنه ونحول بينها وبينه حفظا لحرمته وحرمة ماله وقياما بما أوجب الله له علينا فإن لم يندفع الصبي أو المجنون أو الدابة إلا بالإضرار بهم كان ذلك واجبا علينا.

[فصل ويدخل الغصب للإنكار ويهجم من غلب في ظنه المنكر ويريق عصيرا ظنه خمرا ويضمن إن أخطأ وخمرا رآها له أو لمسلم ولو بنية الخل وخلا عولج من خمر ويزال لحن غير المعنى في كتب الهداية وتحرق دفاتر الكفر إن تعذر تسويدها وردها وتضمن وتمزق وتكسر آلات الملاهي اللاتي لا توضع في العادة إلا لها وإن نفعت في مباح ويرد من المكسور ماله قيمة إلا عقوبة وبغير تمثال حيوان كامل مستقل مطلقا أو منسوج أو ملحم إلا فراشا أو غير مستعمل لا المطبوع مطلقا وينكر غيبة من ظاهره الستر وهي أن تذكر الغائب بما فيه لنقصه بما لا ينقص دينه قيل أو ينقصه إلا إشارة أو جرحا أو شكا ويعتذر المغتاب إليه إن علم ويؤذن من علمها بالتوبة ككل معصية] . قوله: "فصل: ويدخل الغصب للإنكار". أقول: وجه هذا أن النهي عن المنكر فرض وإذا لم يم إلا بدخول المنزل وجب ذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه وهذا المنزل الذي فيه المنكر إن كان لفاعلي المنكر فلا حرج في دخوله قط وإن كان لغيرهم فليس في دخوله من المعصية ما يوازن بعض ما في ترك إنكار المنكر من المعصية ولا شك ولا ريب أن مفسدة ترك إنكار المنكر يجب تقديمها على مفسدة دخول المكان الغصب لإجماع أهل العلم على تأثير أعظم المفسدتين على اخفهما فالقول بأن إنكار المنكر بالدخول معارض بمثله من دخول الغصب جمود وغفلة. قوله: "ويهجم من غلب في ظنه المنكر". أقول: أما مجرد الظن فلا يكفي في مثل هذا بل لا بد من العلم على ما فيه من التجسس المنهي عنه بنص القرآن الكريم ولكن لمصلحة إنكار المنكر أرجح من مصلحة ترك التجسس ومفسدة ترك إنكار المنكر أشد من مفسدة التجسس وأيضا يمكن الجمع بأن تحريم التجسس مقيد بعدم العلم بوقوع المنكر لأنه لا يسمى تجسسا إلا إذا كان فاعله على غير بصيرة من أمره وقد دخل صلى الله عليه وسلم على حمزة لما جب أسنمة شارفي علي بن أبي طالب وقعد في بيته يشرب وتغنيه القينات كما هو ثابت في الصحيح. قوله: "ويريق عصير ظنه خمرا". أقول: وجهه كون ذلك مظنة للمنكر ولكن مجرد الظن لا يغني في مثل هذا بل لا يجوز الإقدام على الإراقة إلا بعلم فإذا علم بذلك وجبت عليه الإراقة لأن بقاء الخمر مع وجود من يجوز عليه شربها من الفسقة واجب وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمور [البخاري "5582، 5583"] ، عند نزول تحريمها وفعل ذلك كل من عنده شيء منها فهذه سنة قائمة وشريعة ثابتة والقول بأن المحرم إنما هو شربها لا عينها كلام لا حاصل له ولا يدل عليه رواية ولا دراية

وهذا القول بأن إراقتها عند نزول تحريمها إنما كان لقطع ذريعة شربها فإن هذا بعينه كائن في غير زمن الصحابة الذين هم خير القرون وهم أتقى لله من أن يكونوا مظنة لعدم امتثال ما قد نزل تحريمه عليهم من جهة الله سبحانه بل مثل هذه المظنة حاصل فيمن بعدهم من الفسقة المتمرئين على محارم الله عزوجل. واما قوله: "وخمرا رآها أو لمسلم" فوجهه ظاهر إذا كان على بصيرة ولم يكن ذلك بمجرد الظن. واما قوله: "ولو بنية الخل" فلا وجه له لأن هذا العصير لم يقصد به المعصية بل قصد به ما هو حلال جائز كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أن الخل خير الإدام [مسلم: "167/2052"، أبو داود "2821"، النسائي "3805"] ، وهكذا قوله: "وخلا عولج من خمر"، فإنه لا وجه له لما ذكرناه والأمر في هذا ظاهر. قوله: "ويزال لحن غير المعنى في كتب الهداية". أقول: وجه هذا أن بقاءه لا سيما مع مظنة أن يعمل به عامل ممن ليس له بصيرة كاملة منكر يجب على الواقف عليه أن يغيره بحسب الإمكان ومثل هذا داخل تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه لم يخص صورة دون صورة ومن هذا قوله ويحرف دفاتر الكفر لأن بقاءها منكر لتجويز أن يقف عليها من يميل إلى شيء مما فيها وإذا أمكن تسويدها فقد حصل المطلوب ولم يبق فيها ما يجب قطع ذريعته وحسم مادته فإرجاعها لمالكها بعد التسويد متوجه لأنها باقية في ملكه وقد زال ما كان فيها من المنكر. قوله: "وتمزق وتكسر آلات الملاهي" الخ. أقول: وجه هذا هو ما قدمناه في إراقة الخمر وقد أخرج أحمد "5/257، 268"، وغيره من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات - يعني البرابط - والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية"، ولا يخفاك أن محقها تكسيرها وتمزيقها وإذا كان هناك في مثل آلات هذه الملاهي التي هي أقل مفسدة من عين الخمر فإراقة الخمر ثابتة بالأولى كما قدمنا وفي إسناد هذا الحديث علي بن زيد الشامي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم بما لا يوجب طرح روايته وترك العمل بما جاء من طريقه وأما كونه يرد من الكسور ماله قيمة فلا بد من تقييده بكونه لا يصلح لتجديد آلة أخرى لا كلا ولا بعضا. قوله: "وبغير تمثال حيوان كامل" الخ. أقول: الأدلة في تحريم التصوير كثيرة جدا وورد ما يدل على تغييرها على العموم سواء كانت تمثال حيوان أو غيره كما في حديث عائشة عند البخاري "10/385"، وغيره قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيها تصاليب إلا نقضه والتصاليب صور الصليب وفي لفظ في البخاري وغيره [أحمد "17/285"] : "لم يكن يدع في بيته ثوبا فيه

تصليب إلا نقضه"، وفي الصحيحين [البخاري "5954، 5957، 5961"، مسلم "2105"] ، وغيرهما من حديث عائشة أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه قالت فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما وورد ما يدل على عدم تحريم تصوير غير الحيوان ومن ذلك ما أخرجه أحمد "2/305، 478"، وأبو داود "4158"،والترمذي 2806"، وصححه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل الليلة فقال: إني كنت أتيتك الليلة البارحة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في بابا لبيع يقطع حتى يصير كهيئة الشجرة"، الحديث فإن قوله: "حتى يصير كهيئة الشجرة"، يدل على جواز تصوير ما عدا الحيوان ومن ذلك ما في الصحيحين [البخاري "2225، 5963"، مسلم "2110"، وغيرهما من حديث ابن عباس وجاءه رجل فقال إني أصور هذه التصاوير فأفتني فيها؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل بكل صورة صورها نفسا يعذبه في جهنم فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له"، ولا يخفاك أن قوله: "يجعل له بكل صورة صورها نفسا" يدل على أن هذا الوعيد هو في تصوير حيوان وأما قول ابن عباس فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له فليس هو من الرواية بل من قوله واقتصاره صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية على الوعيد على تصوير ما له نفس لا ينافي وجوب تقييد ما كان على غير صور الحيوانات من سائر المخلوقات كما يفيد ذلك ما تقدم من حديثي عائشة لكن حديث أبي هريرة المذكور قد دل على جواز تصوير الشجر فيمكن الجمع بأن التصالب فيها صورة حيوان وهكذا التصاوير المذكورة في حديث عائشة الآخر فيكون المنع متوجها إلى تصوير الحيوان فقط. وأما قوله: "أو منسوج أو ملحم" فوجهه أنه يصدق على ذلك أنه تصوير ولا يصلح لتخصيص بعض صور التصوير ما ورد عن بعض الصحابة من قوله إلا رقما من ثوب كما يصلح قول ابن عباس لتخصيص التحريم بما هو من الحيوانات. وأما قوله: "إلا فراشا" فوجهه ما تقدم في حديث عائشة أنها جعلت من الستر الذي نزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسادتين وكان رسول الله يرتفع عليهما وفي لفظ لأحمد ["6/103"] : "فلقد رأيته متكئا على أحدهما وفيه صورة". قوله: "وينكر غيبة من ظاهره الستر" الخ. أقول: الغيبة قد تطابق على تحريمها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله عزوجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات: 12] ، فهذا نهي عام لكل ما يطلق عليه اسم الغيبة ثم ذكر الله سبحانه لذلك مثالا يؤكد تحريمها ويشدد إثمها فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات: 12] ، فإن لحم الإنسان مستكره من حيث الطبع للنوعية الواقعة بين الأفراد الإنسانية ولو كان لحم عدو فكيف وهو لحم أخ فكيف إذا كان ميتا. وأما السنة فإن الإحاديث الصحيحة القاضية بتحريم الغيبة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ومن ألفاظهما الثابتة في الصحيح [مسلم "2589"] ، أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: "الغيبة ذكرك

أخاك بما يكره"، فقال السائل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وأم لم يكن فقد بهته". وأما الإجماع على التحريم فقد نقله الثقات وإذا تقرر لك هذا فقد علمت أنها من أشد المنكرات وأعظم المحرمات فإنكارها على فاعلها واجب على كل مسلم وقد صحت أحاديث تحريم الأعراض كتحريم الدماء والأموال كما في حديث خطبة حجة الوداع [البخاري "105، 1741، 3197، 4406، 4662، 5550، 7078، 7447"، مسلم 1679"، أبو داود 1948"، ابن ماجة "233"، أحمد "5/37، 39، 49" وغيره مسلم "2564"، الترمذي ط1927"] ، وما لا يجوز من الغيبة وتكلمنا على كل صورة من الصور الست التي استثناها العلماء بما يشفي ويكفي مما لم يسبق إليه أحد فليرجع إلى ذلك إن شاء الله. وأما قوله: "لنقصه بما لا ينقص دينه" فلا يخفاك أن الأدلة قد دلت على تحريم ذكره بما يكره من غير فرق بين ما ينقص دينه وما لا ينقصه وما يزعمونه من أنه ورد حديث بجواز ذكر الفاسق بما فيه فليس لذلك أصل واستثناء بعض أهل العلم المجاهر بالمعاصي وعموم الأدلة وإطلاقاتها ترد عليه. وأما ما استدل به البعض وهو ما أخرجه الطبراني بلفظ: "حتى متى تورعون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يحذره الناس" فأين يقع هذا الحديث على فرض أن له إسنادا يثبت وكيف يخصص به الجبال الرواسي من الكتاب والسنة والإجماع على أنه لم يكن في لفظه ما يشابه ألفاظ النبوة التي أعطي صاحبها جوامع الكلم فلا يبعد أن يكون موضوعا ومن استروح إلى مثل هذا الدليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع فقد استجره الشيطان إلى الوقوع في هذه المعصية العظيمة المعادلة لظلم الظالمين بسفك الدماء ونهب الأموال فهذا المغتاب قد صار في عداد الظالمين وفي المنزلة التي هم بها من الإثم والعقوبة بلا فائدة له ولا عائدة إلى غضب الله عليه وعقوبته له وأما الظلمة بسفك الدماء وأخذ الأموال فقد انتفعوا بظلمهم بالدنيا بالتشفي والانتفاع بالأموال وهذا البائس صار كما قال الشاعر: وتركت حظ النفس في الدنيا وفي ... الأخرى ورحت عن الجميع بمعزل قوله: "الإشارة". أقول: وجه جواز ذلك أنه قد ثبت مشروعية المشاورة ثم مشروعية المناصحة وهي من جملة حقوق المسلم على المسلم كما ثبت ذلك في الصحيح ولكن ليس ها هنا ما يضطر هذا المشير إلى الغيبة فإنه يمكن القيام بذلك بدونها كأن يقول للمستشير لا أشير عليك بهذا أو لا تفعل كذا أو نحو ذلك وليس عليه زيادة على هذا فإن الدخول في اغتياب من وقعت فيه المشاورة فضول من المشير لم يوجبه الله عليه ولا تعبده به ولا ألجأته إليه الضرورة. قوله: "أو جرحا".

أقول: وجه هذا إجماع المسلمين سابقهم ولاحقهم على جرح من يستحق الجرح من الرواة والشهود ولولا ذلك لوجد الكذابون إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالا واسعا وقالوا ما شاؤوا ووجد شهود الزور إلى أخذ أموال العباد طريقا قريبة ولكنه يجب التوقف من ذلك على قدر الحاجة فإن كفى الإجمال لم يجز للجارح أن يتعرض للتفصيل وإن لم يكف الإجمال كان له أن يأتيم أن التفصيل بما لا بد منه. قوله: "أو شكا". أقول: إن كان المشكو عليه ممن لا ينتفع به الشاكي ولا يرجو منه فائدة فليس ذلك بمسوغ للغيبة وإن كان ينتفع به ويرجو منه إراحته مما وقع فيه فهذا جائز وقد استثنى الله سبحانه ذلك في كتابه بقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] . قوله: "ويعتذر المغتاب إليه إن علم". أقول: وجهه أن الغيبة مظلمة وجناية على عرض مسلم معصوم فالتوبة منها واجبة ولا يكون ذلك إلا بالتحلل من المظلوم والتضرع إليه بأن يعفو ولا وجه لقوله إن علم لأن المظلمة قد وقعت سواء علم أو لم يعلم فلا مخلص عنها إلا عفوه عنه. قوله: "ويؤذن من علمها بالتوبة ككل معصية". أقول: وجه ذلك أنه يدفع عن نفسه استمرار اعتقاد من علم منه ذلك بأنه ممن يجترىء على ما حرمه الله سبحانه من الغيبة تخليصا لهم من الاستمرار على اعتقاد قد زال سببه وتخليصا لنفسه من أن يكون محلا كذلك مخيرا عليه عاصيا لله بسببه وهكذا سائر المعاصي ومما يرشد إلى هذا ما ثبت ثبت في الصحيح [البخاري "2035، 2038، 3101"، مسلم "24/2175"، أبو داود "2470"] ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجلين رأياه وهو يمشي مع بعض نسائه فقال لهما: "إنها فلانة"، فاستنكرا هذه المقالة منه صلى الله عليه وسلم لأنه المعصوم عن كل ذنب المبرأ من كل شين فقال لهما: "خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما"، يعني فتظنان ظن السوء. [فصل ويجب إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر والأقل ظلما على إزالة الأكثر مهما وقف على الرأي ولم يود إلى قوة ظلمه ويجوز إطعام الفاسق وأكل طعامه والنزول عليه وإنزاله وإعانته وإيناسه ومحبته لخصال خير فيه أو لرحمة لا لما هو عليه وتعظيمه والسرور بمسرته في حال والعكس في حال لمصلحة دينية. وتحرم الموالاة وهي أن تحب له كل ما تحب وتكره له كل ما تكره فيكون

كفرا أو فسقا بحسب الحال "ص بالله" أو يحالفه ويناصره انتهى. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين] . قوله: "فصل: ويجب إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر". أقول: قد قررنا فيما سبق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الفرائض الإسلامية وأهم الواجبات الدينية والظالم إذا قام بذلك فقد قام بحق وإذا احتاج إلى من يعينه على ذلك كانت إعانته واجبة لأنها إعانة على حق وقيام لأجل الحق لا لأجل الظالم نفسه ومعلوم أن الحق لا يخفى فهذا المعين للظالم على الحق قد دخل تحت قول المصنف فيما سبق فصل ويجب على كل مكلف الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا لأنه مع حاجة الظالم القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى إعانته قد صار مكلفا بذلك لتكليفه به ابتداء فلا حاجة إلى ذكر هذه الصورة بخصوصها ها هنا ومن هذا القبيل إعانة الأقل ظلما من الفسقة على الأكثر ظلما إذا كان يندفع بهذه الإعانة ظلم الأكثر ظلما أو بعضه فإن هذا داخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما قوله: "مهما وقف على الرأي" فوجهه أنه إذا لم يقف على رأي المعينين له من المؤمنين خبط في الضلالة لكن ليس المطلوب إلا توقفه على رأيهم في نفس دفع ظلم الأكثر ظلما إلا في جميع أموره فإن المفروض أنه ظالم وعليهم الإنكار عليه في ظلمه الخاص به بما يجب عليهم وما يستطيعونه. وأما قوله: "ما لم يؤد إلى قوة ظلمه" فليس له كثير فائدة لأن المفروض أنه أقل ظلما وأنه يندفع بقيامه وإعانة المعينين له ظلم الأكثر ظلما أو بعضه فلو كانت هذه الإعانة مؤدية إلى قوة ظلمه بحيث يصير مثل الظالم الآخر أو أكثر ظلما منه كان في إعانته إنشاء ظلم لم يكن وإحداث منكر لم يقع وترك التعرض لذكر مثل هذا أقوم من التعرض لدفع منكر هو واقع لا بسبب إعانتهم لفاعله لأنهم مشاركون في هذا الظلم من التعرض لدفع منكر هو واقع لا بسبب إعانتهم لفاعله لأنهم مشاركون في هذا الظلم لا في ذاك. قوله: "ويجوز إطعام الفاسق وأكل طعامه". أقول: هذا الجواز معلوم لا شك فيه وقد جاز في الكفار قال الله عزوجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعام الكفار كما في الشاة التي أهدتها له اليهودية بعد أن طبختها لكن إذا كانت مؤاكلة الفاسق تؤدي إلى فتور المؤمن عن القيام بما يجب عليه إنكاره على الفاسق أو تؤدي إلى تجريء الفاسق على فسقه كان هذا وجها للمنع من هذه الحيثية لا من حيثية كونه فاسقا. قوله: "والنزول عليه" الخ. أقول: الدليل على من زعم أنه لا يجوز النزول على الفاسق ولا إنزاله ولا محبته فإنه رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم وما هو فيه من الفسق يجب إنكاره عليه بما

يقتضيه الشرع باليد ثم باللسان ثم بالقلب وليس الممنوع إلا أن يحبه لأجل فسقه ومعصيته لا لأجل كونه رجلا من المسلمين ولا لأجل كونه رحما له وإذا كان مجرد الأخوة الإسلامية كافيا في جواز المحبة كان جوازها لخصال الخير والرحامة مما لا ينبغي أن يتردد فيه ولا يحتاج إلى النص عليه وقد قال الله سبحانه في الكفار: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحمة: 8] ، الآية. قوله: "وتعظيمه والسرور بمسرته" الخ. أقول: هذا يكفي في جواز كون الفاسق رجلا من المسلمين كما قدمنا ومعلوم وجود الأخوة الإسلامية بين المطيع والعاصي من المسلمين وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وقال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، [البخاري "2442"، مسلم ط2580"، أبو داود "4893"، الترمذي "1426"] ، والأحاديث [البخاري "6076"، مسلم ط2559"، أبو داود "4910"، الترمذي "1935"] ، في هذا الباب كثيرة وكذلك العمومات القرآنية. وبهذا تعرف أنه لا وجه لتقييد الجواز بقوله: "لمصلحة دينية" وإنما الممنوع أن يعظمه لمعصيته وفسقه أو يسر بما يسر من خصال الشر التي هي من معاصي الله سبحانه. قوله: "وتحرم الموالاة". أقول: هذه الموالاة للفاسق هي واجبة من حيث كونه رجلا من المسلمين ومن حيث كونه أخا للمؤمنين كما يدل على هذا الحديث المتقدم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وهو في الصحيح ومعناه ثابت في الكتاب والسنة ثبوتا لا يخفى ولا يتحقق عدم جواز الموالاة إلا في موالاته لأجل ما هو عليه من الفسق والفجور. وأما قول المصنف: "فيكون كفرا أو فسقا فتسرع إلى التكفير والتفسيق على غير بصيرة وهكذا لا تحرم محالفة الفاسق على حق ومناصرته حيث تحق المناصرة وذلك بأن يكون محقا فيما حولف به أو نوصر عليه وإنما الممنوع محالفته في باطل ومناصرته على ما هو عليه من الفسق, وبهذا تعرف أنه لا بد من التفصيل في جميع ما ذكره المصنف ها هنا فإن قلت: إذا التبس علينا ما هو المقصود من هذه المداخلة للفسقة والمحبة والموالاة والمحالفة والمناصرة؟ قلت: يجب علينا حمل ذلك على المحمل الحسن والمقصد الصالح فإن هذا مع كونه الواجب علينا بأدلة الكتاب والسنة هو أيضا من أسباب الفوز بخير الدنيا والآخرة. [وإلي هنا انتهي هذا المؤلف المسمي بالسيل الجرار المتدفق علي حدائق الأزهار بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله له وكان الفراغ منه في ضحوة يوم الجمعة لعله سلخ شهر محرم من شهور سنة خمس وثلثين بعد المئتين والألف من الهجرة النبوية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على رسوله خاتم المرسلين وعلي آله وصحبه الطاهرين] .

[وكان فراغي من رقمه بعناية مؤلفه حماه الله تعالى وجزاه ثواب ما ابتغاه في آخر نهار الجمعة المبارك لعله تاسع شهر حمادي الآخرة من شهور سنة خمس وثلاثين. وأنا الفقير إلي رحمة الله الغني الرزاق، أحمد بن محسن إسحاق غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين. آمين] .

§1/1